الكتاب: التعليق على رسالة حقيقة الصيام وكتاب الصيام من الفروع ومسائل مختارة منه المؤلف: محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421هـ) عدد الأجزاء: 1   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] ---------- التعليق على رسالة حقيقة الصيام وكتاب الصيام من الفروع ومسائل مختارة منه ابن عثيمين الكتاب: التعليق على رسالة حقيقة الصيام وكتاب الصيام من الفروع ومسائل مختارة منه المؤلف: محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421هـ) عدد الأجزاء: 1   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] بسم الله الرحمن الرحيم تقديم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فإن من توفيق الله تعالى - وله الحمد والشكر - أن يسَّر لصاحب الفضيلة شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى التعليق على رسالة «حقيقة الصيام» (1) لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم عبد السلام ابن تيمية الحراني المتوفي عام 728 هـ رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً. ولقد كان من منهج صاحب الفضيلة شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله أن يستقبل مواسم الخيرات بتدريس ما يخصها من أحكام، وما يتعلق بها من مسائل، حرصاً على اغتنام أوقاتها الفاضلة، وتقريراً لمعرفة آدابها، وتطبيق سنتها، إخلاصاً لوجه الله تعالى وإتباعاً لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فجاء هذا التعليق في شهر شعبان عام 1417هـ ضمن الدروس العلمية التي كان يعقدها فضيلته رحمه الله تعالى في جامعه بمدينة عنيزة. ثم إنه - رحمه الله تعالى - تناول في دروسه العلمية التي عقدها في شهر شعبان عام 1419هـ التعليق على كتاب الصيام من الفروع للعلامة الفقيه المحدث شمس الدين محمد بن مفلح المقدسي المتوفي عام 763 هـ رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً.   (1) [النسخة التي قرئت في الدرس هي المطبوعة في «مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية» , جمع ابن قاسم, وكان مع الشيخ النسخة المطبوعة في المكتب الإسلامي, وينبه رحمه الله على موضع الاختلاف بينهما إن وجد, والمتن المعتمد في هذه الطبعة هو الأول, وتم وضع الزيادات من نسخة المكتب الإسلامي بين معكوفتين] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 وإنفاذاً للقواعد والتوجيهات التي قررها فضيلة شيخنا العلامة رحمه الله لإخراج مؤلفاته ودروسه، شرع القسم العلمي في مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية بإعداد تلك الدروس التي تضمنت التعليق على رسالة حقيقة الصيام وكتاب الصيام من الفروع وتجهزها للطباعة والنشر، ثم تفضل الشيخ الدكتور سامي بن محمد الصقير - أثابه الله - بالمراجعة. كما يتضمن هذا الكتاب مسائل مختاره من الفروع محررة بقلم فضيلة شيخنا العلامة رحمه الله تعالى أثناء قراءته كتاب الصيام في شهر شعبان عام 1391 هـ مع زيادات عليها وتدوين مسائل الخلاف في المفطرات من الفروع. نسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، موافقا لمرضاته، نافعاً لعباده، وأن يجزي صاحب الفضيلة شيخنا عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء ويسكنه فسيح جناته ويجزل له الثواب، ويضاعف له الأجر يُوم الحساب، إنه سميع مجيب. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، خاتم النبيين، وإمام المتبعين، وسيد الأولين والآخرين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. اللجنة العلمية في مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية 10/8/1428 هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً. فصل فيما يفطر الصائم وما لا يفطره وهذا نوعان: منه ما يفطر بالنص والإجماع، وهو الأكل والشرب والجماع، قال تعالى: {فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل} فأذن في المباشرة، فعقل من ذلك أن المراد الصيام من المباشرة، والأكل، والشرب، ولما قال أولا: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} كان معقولا عندهم أن الصيام هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع، ولفظ «الصيام» كانوا يعرفونه قبل الإسلام ويستعملونه، كما في «الصحيحين» عن عائشة -رضي الله عنها- أن يوم عاشوراء كان يوماً تصومه قريش في الجاهلية (1) .   (1) قوله: «الصيام هو الإمساك عن الأكل والشرب..» لكن لابد أن يضاف إلى هذا التعبد لله بالإمساك عن المفطرات، حتى يكون عبادة؛ لأن الإمساك عن المفطرات له أسباب متعددة، فإذا كان ذلك لغرض التعبد لله كان صياما شرعا، وكما قال الشيخ -رحمه الله-: الأشياء المفطرة بالنص والإجماع هي هذه الثلاثة: الأكل، والشرب، والجماع، وما عدا ذلك فإما ثابت بأقيسة، وإما ثابت بنص مختلف في صحته، أو في دلالته، لكن هذه الثلاثة مجمع عليها. والصيام كان معروفا في الجاهلية، وفي الشرائع الأخرى، كما قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} [البقرة: 183] . وكما قالت عائشة -رضي الله عنها-: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية [أخرجه البخاري في الصوم/باب صيام يوم عاشوراء (2002) ] . فلم تأت الشريعة الإسلامية بجديد إلا في بيان الحكمة من الصوم، وهي أنه ليس الحكمة من الصوم أن يمنع الإنسان من فضل الله -عز وجل- من شراب وطعام ونكاح، ولكن الحكمة شيء فوق ذلك، وهو تقوى الله -عز وجل-، كما قال الله تعالى حين ذكر فرض الصيام: {لعلكم تتقون} ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» [أخرجه البخاري في الصيام/باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم (1903) ] . فالحاجة هنا: بمعنى الإرادة، يعني أنه ليس لله إرادة أن يدع الإنسان طعامه وشرابه بدون أن يدع قول الزور والعمل به والجهل، وإن قوما يمسكون عن ملاذهم، ويتقون الله -عز وجل- شهرا كاملا، لابد أن تتغير مناهجهم؛ ولهذا كان شهر الصيام -لمن وفق- تربية عظيمة للنفس، بالصبر، والتحمل، والتقوى، وكثرة الطاعات. وفي قوله عز وجل: {فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم} الإشارة إلى معنى نفيس، وهو أن لا يريد الإنسان بالجماع مجرد نيل الشهوة، بل ابتغاء ما كتب الله له، يعني من الذرية، وهو إذا نوى هذا حصل له هذا وهذا، فلا يفوته إذا نوى ابتغاء ما كتبه الله له أن لا يكون له ذرية، بل يحصل على هذا وعلى هذا، ولهذا قال بعض المفسرين في قوله: {ما كتب الله} أي: بطلب الولد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وقد ثبت عن غير واحد أنه قبل أن يفرض شهر رمضان أمر بصوم يوم عاشوراء، وأرسل منادياً ينادي بصومه، فعلم أن مسمى هذا الاسم كان معروفاً عندهم. وكذلك ثبت بالسنة واتفاق المسلمين أن دم الحيض ينافي الصوم، فلا تصوم الحائض لكن تقضي الصيام. وثبت بالسنة أيضا من حديث لقيط بن صبرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما» فدل على أن إنزال الماء من الأنف يفطر الصائم، وهو قول جماهير العلماء (1) . وفي «السنن» حديثان: أحدهما: حديث هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ذرعه قيء وهو صائم فليس عليه قضاء، وإن استقاء فليقض» .   (1) يعني: إذا أدخل الإنسان الشراب من غير الفم ففيه خلاف بين العلماء، ولكن ما دل عليه الحديث يجب أن يكون معتبرا، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إلا أن تكون صائما» [أخرجه أبو داود في الطهارة /باب في الاستنثار (142) ؛ والنسائي في الطهارة/باب المبالغة في الاستنشاق (1/66) ؛ والترمذي في الصوم/باب ما جاء في كراهية مبالغة الاستنشاق للصائم (788) ؛ وصححه ابن خزيمة (150) ؛ وابن حبان (1087) ] . ولا نعلم فائدة لهذا الاستثناء إلا خوف أن ينزل الماء من الأنف إلى المعدة، وإلا لا يكون للاستثناء فائدة، فالصواب ما دل عليه الحديث. لكن لو جاء مجادل وقال: المسألة ليست إجماعية، وأنا لا أعتبر إلا ما ثبت بالنص والإجماع فقط، ولا أعترف بما ثبت قياسا. قلنا له: الحمد لله، هذا ثابت بالنص؛ لأننا لا نعلم فائدة لاستثناء الصائم إلا خوف أن ينزل الماء من أنفه إلى معدته فيفطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 وهذا الحديث لم يثبت عند طائفة من أهل العلم، بل قالوا: هو من قول أبي هريرة، قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل قال: ليس من ذا شيء. قال الخطابي: يريد أن الحديث غير محفوظ. وقال الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عنه، فلم يعرفه إلا عن عيسى بن يونس، قال: وما أُراه محفوظاً. قال: وروى يحيى بن [أبي] كثير، عن عمر بن الحكم: أن أبا هريرة كان لا يرى القيء يفطر الصائم (1) .   (1) المؤلف -رحمه الله- سيبين ثبوت هذا الحديث أو عدم ثبوته، لكن في قوله «وإن استقاء فليقض» [أخرجه أحمد (2/498) ؛ وأبو داود في الصيام/باب الصائم يتقيء عمدا (2380) ؛ والترمذي في الصوم/باب ما جاء فيمن استقاء عمدا (720) ؛ والنسائي في «الكبرى» (3117) ؛ وابن ماجه في الصيام/باب ما جاء في الصائم يقيء (1676) ؛ وصححه ابن خزيمة (1960) ؛ وابن حبان (3518) ؛ والحاكم (1/427) ] فائدة، وهي: أن الإنسان إذا أفطر متعمدا فعليه القضاء، خلافا لما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، حيث قال: إن من تعمد الإفطار فلا يقضي، والصواب: أنه يقضي، بخلاف من لم يصم اليوم من أوله، فهذا لا يقضي، والفرق بينهما ظاهر؛ لأن الأول شرع في العبادة فلزمته بشروعه فيها، والتزمها في أول نهاره، والثاني لم يلتزمها إطلاقا، فإذا قضاها بعد فوات الوقت فقد فعل فعلا ليس عليه أمر الله ورسوله، وقد تعدى حدود الله؛ لأن الله تعالى حد الصوم بشهر معين، وفي زمن معين من هذا الشهر، فإذا لم يقم بالصوم في هذا فقد تعدى حدود الله، وقد قال الله تعالى: {ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون} [البقرة: 229] ، والله لا يقبل من ظالم. فهذه المسألة فيها ثلاثة أقوال: القول الأول: قول الجمهور أنه يقضي، سواء صام ثم أفطر عمدا، أو أنه ترك الصيام من الأصل. القول الثاني: أنه لا يقضي، سواء ترك الصيام من الأصل، أو تعمد الإفطار. القول الثالث: التفصيل، بأنه إن ترك الصيام ثم صامه بعد رمضان فإنه لا يقضيه؛ لأنه لن ينتفع به، وأما إذا صام ثم أفطر عمدا وجب عليه القضاء، وهذا هو الراجح، لحديث أبي هريرة: «وإن استقاء فليقض» يعني: من استقاء عمدا فليقض. مسألة: لو أن الإنسان أحس بالقيء، فهل يجب عليه أن يمنعه؟ الجواب: لا يجب، كما لو فكر وأحس بانتقال المني، فإنه لا يلزمه أن يحجزه؛ لما في ذلك من الضرر؛ ولأنه لم يتعمد. مسألة أخرى: لو أنه أحس بهيجان المعدة ثم استقاء، أيفطر أو لا؟ الجواب: نعم يفطر؛ لأنه تعمد القيء، والمعدة قد تهيج أحيانا، ويتهيأ الإنسان للقيء، ولكن تسكن ولا يحصل شيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 قال الخطابي: وذكر أبو داود: أن حفص بن غياث رواه عن هشام، كما رواه عيسى بن يونس. قال: ولا أعلم خلافا بين أهل العلم في أن من ذرعه القيء فإنه لا قضاء عليه، ولا في أن من استقاء عامداً فعليه القضاء، ولكن اختلفوا في الكفارة، فقال عامة أهل العلم: ليس عليه غير القضاء، وقال عطاء: عليه القضاء والكفارة، وحكي عن الأوزاعي، وهو قول أبي ثور. قلت: وهو مقتضى إحدى الروايتين عن أحمد في إيجابه الكفارة على المحتجم، فإنه إذا أوجبها على المحتجم فعلى المستقيء أولى، لكن ظاهر مذهبه أن الكفارة لا تجب بغير الجماع، كقول الشافعي (1) . والذين لم يثبتوا هذا الحديث لم يبلغهم من وجه يعتمدونه، وقد أشاروا إلى علته، وهو انفراد عيسى بن يونس، وقد ثبت أنه لم ينفرد به، بل وافقه عليه حفص بن غياث. والحديث [الآخر] يشهد له، وهو: ما رواه أحمد، وأهل السنن - كالترمذي- عن أبي الدرداء: أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر، فذكرت ذلك لثوبان، فقال: صدق، أنا صببت له وضوءاً. لكن لفظ أحمد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ. رواه أحمد عن حسين المعلم. قال الأثرم: قلت لأحمد: قد اضطربوا في هذا الحديث، فقال: حسين المعلم يجوده. وقال الترمذي: حديث حسين أرجح شيء في هذا الباب.   (1) وهذا هو الصحيح أنه لا كفارة إلا بالجماع، وذلك أن الأصل براءة الذمة، ولا يمكن أن نلزم عباد الله بشيء دون دليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع؛ لأننا مسئولون عن إيجاب ما لا يجب، كما أننا مسئولون عن تحريم ما لم يحرم، فالصواب: أن الإنسان إذا تعمد الفطر في رمضان، يعني: صام ثم أفطر عمدا أنه آثم، ويلزمه الإمساك بقية اليوم، وعليه القضاء، وأما الكفارة فلا تجب إلا بالجماع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وهذا قد استدل به على وجوب الوضوء من القيء، ولا يدل على ذلك، فإنه إذا أراد بالوضوء الوضوء الشرعي (1) فليس فيه إلا أنه توضأ، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، بل يدل على أن الوضوء من ذلك مشروع، فإذا قيل: إنه مستحب كان فيه عمل بالحديث. وكذلك ما روي عن بعض الصحابة من الوضوء من الدم الخارج، ليس في شيء منه دليل على الوجوب، بل يدل على الاستحباب. وليس في الأدلة الشرعية ما يدل على وجوب ذلك، كما قد بسط في موضعه، بل قد روى الدارقطني وغيره عن حميد عن أنس قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتوضأ، ولم يزد على غسل محاجمه. ورواه ابن الجوزي في حجة المخالف ولم يضعفه، وعادته الجرح بما يمكن. وأما الحديث الذي يروى: «ثلاث لا تفطر: القيء، والحجامة، والاحتلام» . وفي لفظ: «لا يفطرن، لا من قاء، ولا من احتلم، ولا من احتجم» ، فهذا إسناده الثابت: ما رواه الثوري وغيره، عن زيد بن أسلم، عن رجل من أصحابه، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا، رواه أبو داود، وهذا الرجل لا يعرف، وقد رواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن عبد الرحمن ضعيف عند أهل العلم بالرجال. قلت: روايته عن زيد من وجهين مرفوعا لا يخالف روايته المرسلة، بل يقويها، والحديث ثابت عن زيد بن أسلم؛ لكن هذا فيه: «إذا ذرعه القيء» .   (1) قول المؤلف: «إذا أراد بالوضوء الوضوء الشرعي» : أفاد بأن هناك وضوءا ليس شرعيا، وهو الوضوء اللغوي، وهو النظافة، ولكن لدينا قاعدة مهمة، وهي أن ألفاظ الشرع تحمل على الحقائق الشرعية، والحقيقة الشرعية للوضوء أنه التطهر المعروف، ولكن يمنع القول بوجوب الوضوء من القيء ما ذكره الشيخ -رحمه الله- أن هذا فعل مجرد، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 [ورواه غير واحد عن زيد بن أسلم مرسلا، وقال يحيى بن معين: حديث زيد بن أسلم ليس بشيء، ولو قدر صحته لكان المراد من ذرعه القيء، فإنه قرنه بالاحتلام، ومن احتلم بغير اختياره كالنائم لم يفطر باتفاق الناس، وأما من استمنى فأنزل فإنه يفطر، ولفظ الاحتلام إنما يطلق على من احتلم في منامه] . وأما حديث الحجامة، فإما أن يكون منسوخا، وإما أن يكون ناسخا لحديث ابن عباس أنه احتجم وهو محرم صائم أيضا، ولعل فيه القيء إن كان متناولا للاستقاءة هو أيضا منسوخ، وهذا يؤيد أن النهي عن الحجامة هو المتأخر، فإنه إذا تعارض نصان ناقل وباق على الاستصحاب، فالناقل هو الراجح في أنه الناسخ، ونسخ أحدهما يقوي نسخ قرينه. وقد ظن طائفة، أن القياس أن لا يفطر شيء من الخارج، وأن المستقيء إنما أفطر؛ لأنه مظنة رجوع بعض الطعام، وقالوا: إن فطر الحائض على خلاف القياس (1) . وقد بسطنا في الأصول أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس الصحيح. فإن قيل: فقد ذكرتم أن من أفطر عامداً بغير عذر كان فطره من الكبائر، وكذلك من فوت صلاة النهار إلى الليل عامداً من غير عذر كان تفويته لها من الكبائر، وأنها ما بقيت تقبل منه على أظهر قولي العلماء، كمن فوت الجمعة، ورمي الجمار، وغير ذلك من العبادات المؤقتة، وهذا قد أمره بالقضاء، وقد روي في حديث المجامع في رمضان أنه أمره بالقضاء؟   (1) ولهذا عندهم قاعدة، يقولون: لا وضوء مما دخل، بل مما خرج، ولا فطر مما خرج، بل مما دخل، لكن لا أصل لهذه القاعدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 قيل: هذا إنما أمره بالقضاء لأن الإنسان إنما يتقيأ لعذر، كالمريض يتداوى بالقيء، أو يتقيأ لأنه أكل ما فيه شبهة، كما تقيأ أبو بكر من كسب المتكهن (1) ، وإذا كان المتقيئ معذورا كان ما فعله جائزا، وصار من جملة المرضى الذين يقضون، ولم يكن من أهل الكبائر (2) الذين أفطروا بغير عذر.   (1) كلام الشيخ -رحمه الله- فيه نظر، فحصره التقيؤ بكونه دواءا، أو أكل ما فيه شبهة فيه نظر، فقد يتقيأ الإنسان - مثلا - لثقل بطنه، أو للتداوي بالتقيؤ بدون ضرورة، لكن ما قلنا أقرب للأصول، أنه إذا أفسد صومه بالقيء أو غيره، وجب عليه القضاء؛ لأنه بشروعه فيه صار كالناذر له؛ ولهذا سمى الله تعالى مناسك الحج نذورا، ومدح الذين يوفون بنذورهم، وليس هذا النذر الذي امتدح الله فاعله هو النذر المعروف، كما توهمه بعض الناس، بل إن قوله- تعالى-: {يوفون بالنذر} [الإنسان: 7] ، يعني بالعبادات الواجبة، وكذلك قوله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج: 29] المراد: المناسك. (2) الشيخ رحمه الله يريد أن يدفع الأحاديث التي وردت في قضاء من تقيأ عمدا بأنه إنما يتقيأ غالبا للتداوي أو لوجود شبهة، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه، مع أن أبا بكر رضي الله عنه لا نعلم أنه كان صائما صوما واجبا، لكن هل استمر في صومه أو أفطر؟ لا ندري، الله أعلم عنه، ثم أتى بحديث آخر أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر المجامع أن يقضي فأجاب عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وأما أمره للمجامع بالقضاء فضعيف، ضعفه غير واحد من الحفاظ، وقد ثبت هذا الحديث من غير وجه في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة، ومن حديث عائشة، ولم يذكر أحد أمره بالقضاء، ولو كان أمره بذلك لما أهمله هؤلاء كلهم وهو حكم شرعي يجب بيانه، ولما لم يأمره به، دل على أن القضاء لم يبق مقبولا منه، وهذا يدل على أنه كان متعمداً للفطر، لم يكن ناسياً ولا جاهلا (1) . والمجامع الناسي فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره، ويذكر ثلاث روايات عنه: إحداها: لا قضاء عليه ولا كفارة، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة، والأكثرين. والثانية: عليه القضاء بلا كفارة، وهو قول مالك. والثالثة: عليه الأمران، وهو المشهور عن أحمد.   (1) أما كونه لم يكن ناسيا أو جاهلا فظاهر من قوله: «هلكت» فإن هذا يدل على أنه ليس بجاهل ولا ناس، وأما كونه لم يأمره بالقضاء فقد تعقبه الشيخ الألباني في قوله: «ولم يذكر أحد أنه أمره بالقضاء» فقال: (فيه نظر، فقد ذكره أكثر من واحد، وأصل الحديث في «الصحيحين» ... ثم ساقه، ثم قال: ورواه البيهقي من طريق أبي مروان، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، قال: أخبرنا الليث بن سعد، عن الزهري بإسناده هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اقض يوما مكانه» . قال البيهقي: وكذلك روي عن عبد العزيز الدراوردي ... إلى أن قال: ولهذه الروايات شاهد من مرسل سعيد بن المسيب عند مالك، ومن مرسل نافع بن جبير ومحمد بن كعب، ذكرهما الحافظ في «الفتح» ، ثم قال: «وبمجموع هذه الطرق تعرف أن لهذه الزيادة أصلا» ) ا. هـ كلام الشيخ الألباني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 والأول أظهر كما قد بسط في موضعه، فإنه قد ثبت بدلالة الكتاب والسنة أن من فعل محظوراً مخطئاً أو ناسياً لم يؤاخذه الله بذلك، وحينئذ يكون بمنزلة من لم يفعله، فلا يكون عليه إثم (1) ،، ومن لا إثم عليه، لم يكن عاصيا، ولا مرتكبا لما نهي عنه، وحينئذ فيكون قد فعل ما أمر به، ولم يفعل ما نهي عنه، ومثل هذا لا يبطل عبادته، إنما يبطل العبادات إذا لم يفعل ما أمر به، أو فعل ما حظر عليه.   (1) الحقيقة أن هذا هو الفقه العظيم، إذا كان الله لم يؤاخذه فمعناه أنه بمنزلة من لم يفعله، فما دام معفوا عنه فكأنه لم يفعله، وإذا لم يفعله هل يجب عليه قضاء أو كفارة؟ قلنا: لا يجب قضاء ولا كفارة، وكذلك يقال في جميع المحظورات في العبادات، ففي الصلاة إذا تكلم جاهلا أو ناسيا لم يؤاخذ، فيكون بمنزلة من لم يتكلم، وفي الصيام إذا أكل أو شرب ناسيا لم يؤاخذ، فيكون بمنزلة من لم يأكل ويشرب، وفي الحج إذا فعل محظورا ناسيا أو جاهلا فيكون غير مؤاخذ، فهو بمنزلة من لم يفعله، وهذا الفقه من شيخ الإسلام - رحمه الله - عظيم، فكل ما لم تؤاخذ عليه فكأنه معدوم، إلا في شيء واحد وهو المأمورات، وذلك إذا تركت شيئا مأمورا فالعبادة ناقصة، وما أتيت بها، فلابد أن تأتي بها على ما أمرت؛ ولهذا لم يعذر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الجاهل الذي كان يصلي بلا طمأنينة، بل قال له: «ارجع فصل فإنك لم تصل» [أخرجه البخاري في صفة الصلاة/باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر وما يجهر فيها وما يخافت (724) ؛ ومسلم في الصلاة/باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وإنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها (397) ] ؛ لأنه ترك واجبا، لكن لم يأمره بقضاء ما سبق من الصلوات؛ لأنه لم تبلغه الشريعة، ولا تلزم الشرائع إلا بعد العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وطرد هذا أن الحج لا يبطل بفعل شيء من المحظورات، لا ناسياً، ولا مخطئاً، لا الجماعِ ولا غيرِه، وهو أظهر قولي الشافعي. وأما الكفارة والفدية فتلك وجبت؛ لأنها بدل المتلف من جنس ما يجب ضمان المتلف بمثله، كما لو أتلفه صبي، أو مجنون، أو نائم ضمنه بذلك، وجزاء الصيد إذا وجب على الناسي والمخطئ فهو من هذا الباب، بمنزلة دية المقتول خطأ، والكفارة الواجبة بقتله خطأ بنص القرآن (1) وإجماع المسلمين.   (1) قوله: «المقتول» يعني: الإنسان، فإن القرآن نص نصا صريحا بوجوب الكفارة في قتل الخطأ، وكلامه هنا يظهر منه أنه يرى وجوب الجزاء في قتل الصيد على الجاهل والناسي، لكن كلام الفقهاء عنه، ولاسيما تلميذه ابن مفلح - رحمه الله - فإنه نقل عنه في «الفروع» أنه يقول: إنه لا يجب في قتل الصيد خطأ أو نسيانا جزاء، وهذا القول هو الراجح، وهو نص القرآن، قال الله تعالى: {ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم} [المائدة: 95] ، ومتعمدا مشتق، وهو وصف مناسب للحكم، فوجب أن يختلف الحكم بفقده، وأنه إذا قتله غير متعمد فليس عليه جزاء، وهذا هو الصواب، وهو أيضا مقتضى طرد القاعدة أن جميع المحظورات إذا فعلها جاهلا أو ناسيا فليس فيها شيء، ولا يصح قياس هذا على إتلاف الصبي لأموال بني آدم، ولا على إتلاف الجاهل والناسي لأموال بني آدم؛ لأن الصيد في الإحرام، إنما حرم لحق الله عز وجل وليس لحق الإنسان، أو لأنه ملك لفلان أو فلان، وعلى هذا فإذا قتل المحرم صيدا ناسيا أو جاهلا وهو مملوك لفلان، فعليه مثله إن أمكن أو قيمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وأما سائر المحظورات فليست من هذا الباب، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، والترفه المنافي للتفث، كالطيب واللباس، ولهذا كانت فديتها من جنس فدية المحظورات، ليست بمنزلة الصيد المضمون بالبدل (1) . فأظهر الأقوال في الناسي والمخطئ إذا فعل محظورا أن لا يضمن من ذلك إلا الصيد. وللناس فيه أقوال: هذا أحدها، وهو قول أهل الظاهر. والثاني: يضمن الجميع مع النسيان، كقول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد، واختاره القاضي وأصحابه. والثالث: يفرق بين ما فيه إتلاف كقتل الصيد والحلق والتقليم، وما ليس فيه إتلاف كالطيب واللباس، وهذا قول الشافعي وأحمد في الرواية الثانية، واختارها طائفة من أصحابه، وهذا القول أجود من غيره؛ لكن إزالة الشعر والظفر ملحق باللباس والطيب، لا بقتل الصيد، هذا أجود. والرابع: أن قتل الصيد خطأ لا يضمنه، وهو رواية عن أحمد، فخرجوا عليه الشعر والظفر بطريق الأولى. وكذلك طرد هذا أن الصائم إذا أكل أو شرب أو جامع ناسيا أو مخطئا فلا قضاء عليه، وهو قول طائفة من السلف والخلف. ومنهم من يفطر الناسي والمخطئ كمالك. وقال أبو حنيفة: هذا هو القياس، لكن خالفه لحديث أبي هريرة في الناسي. ومنهم من قال: لا يُفْطِر الناسي، ويُفْطِر المخطئ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد، فأبو حنيفة جعل الناسي موضع استحسان، وأما أصحاب الشافعي وأحمد فقالوا: النسيان لا يفطر؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه، بخلاف الخطأ فإنه يمكنه أن لا يفطر حتى يتيقن غروب الشمس، وأن يمسك إذا شك في طلوع الفجر.   (1) خلافا للمذهب في هذه المسألة: أن تقليم الأظفار وقص الشارب كالصيد، يعني: لا يسقط بالنسيان والجهل، والصواب خلاف ذلك، وأنها ليست من باب المتلفات؛ لأنه لا قيمة للظفر أو الشعر إذا قصه المحرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وهذا التفريق ضعيف، والأمر بالعكس، فإن السنة للصائم أن يعجل الفطر ويؤخر السحور، ومع الغيم المطبق لا يمكن اليقين الذي لا يقبل الشك إلا بعد أن يذهب وقت طويل جداً يُفَوِّت المغرب، ويفوت معه تعجيل الفطور، والمصلي مأمور بصلاة المغرب وتعجيلها، فإذا غلب على ظنه غروب الشمس أمر (1) بتأخير المغرب إلى حد اليقين، فربما يؤخرها حتى يغيب الشفق وهو لا يستيقن غروب الشمس، وقد جاء عن إبراهيم النخعي وغيره من السلف - وهو مذهب أبي حنيفة - أنهم كانوا يستحبون في الغيم تأخير المغرب وتعجيل العشاء، وتأخير الظهر وتقديم العصر، وقد نص على ذلك أحمد وغيره، وقد علل ذلك بعض أصحابه بالاحتياط لدخول الوقت، وليس كذلك؛ فإن هذا خلاف الاحتياط في وقت العصر والعشاء، وإنما سُنَّ ذلك لأن هاتين الصلاتين يجمع بينهما للعذر، وحال الغيم حال عذر، فأخرت الأولى من صلاتي الجمع، وقدمت الثانية لمصلحتين: إحداهما: التخفيف عن الناس حتى يصلوها مرة واحدة؛ لأجل خوف المطر، كالجمع بينهما مع المطر. والثانية: أن يتيقن دخول وقت المغرب، وكذلك يجمع بين الظهر والعصر على أظهر القولين، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ويجمع بينهما للوحل الشديد والريح الشديدة الباردة ونحو ذلك في أظهر قولي العلماء، وهو قول مالك، وأظهر القولين في مذهب أحمد. الثاني: أن الخطأ في تقديم العصر والعشاء أولى من الخطأ في تقديم الظهر والمغرب، فإن فعل هاتين قبل الوقت لا يجوز بحال، بخلاف تينك فإنه يجوز فعلهما في وقت الظهر والمغرب؛ لأن ذلك وقت لهما حال العذر، وحالُ الاشتباه حالُ عذرٍ، فكان الجمع بين الصلاتين مع الاشتباه أولى من الصلاة مع الشك.   (1) لعلها: (وأُمر) أي: وقلنا بأمره بذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وهذا فيه ما ذكره أصحاب المأخذ الأول من الاحتياط؛ لكنه احتياط مع تيقن الصلاة في الوقت المشترك، ألا ترى أن الفجر لم يذكروا فيها هذا الاستحباب، ولا في العشاء والعصر؟ ولو كان لعلم خوف الصلاة قبل الوقت لطرد هذا في الفجر، ثم يطرد في العصر والعشاء. وقد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالتبكير بالعصر في يوم الغيم، فقال: «بكروا بالصلاة في يوم الغيم، فإنه من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله» . فإن قيل: فإذا كان يستحب أن يؤخر المغرب مع الغيم فكذلك يؤخر الفطور. قيل: إنما يستحب تأخيرها مع تقديم العشاء، بحيث يصليهما قبل مغيب الشفق، فأما تأخيرها إلى أن يخاف مغيب الشفق فلا يستحب، ولا يستحب تأخير الفُطور إلى هذه الغاية، ولهذا كان الجمع المشروع مع المطر هو جمع التقديم في وقت المغرب، ولا يستحب أن يؤخر بالناس المغرب إلى مغيب الشفق، بل هذا حرج عظيم على الناس، وإنما شرع الجمع لئلا يحرج المسلمون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وأيضاً فليس التأخير والتقديم المستحب أن يفعلهما مقترنتين؛ بل أن يؤخر الظهر ويقدم العصر ولو كان بينهما فصل في الزمان، وكذلك في المغرب والعشاء بحيث يصلون الواحدة وينتظرون الأخرى، لا يحتاجون إلى ذهاب إلى البيوت ثم رجوع، وكذلك جواز الجمع لا يشترط له الموالاة في أصح القولين، كما قد ذكرناه في غير هذا الموضع (1) . وأيضاً فقد ثبت في «صحيح البخاري» عن أسماء بنت أبي بكر قالت: أفطرنا يوما من رمضان في غيم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم طلعت الشمس.   (1) الموالاة والترتيب في الجمع، فالترتيب هو أن يبدأ بالأولى قبل الثانية، والموالاة أن لا يفصل بينهما بفاصل كثير، فشيخ الإسلام -رحمه الله- يرى أن الجمع معناه ضم أحد الوقتين إلى الآخر، وأنه لا تشترط الموالاة، لا في جمع التقديم، ولا في جمع التأخير، والمشهور من المذهب أنه تشترط الموالاة إذا كان الجمع تقديما، وأما التأخير فلا، والاحتياط بلا شك أن يوالي بينهما في التقديم والتأخير، لكن كون ذلك شرطا في جمع التقديم فيه شيء من القلق، فلا يطمئن إليه الإنسان كثيرا، أما الترتيب فلا بد منه بأن يبدأ بالأولى قبل الثانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وهذا يدل على شيئين: على أنه لا يستحب مع الغيم التأخير إلى أن يتيقن الغروب؛ فإنهم لم يفعلوا ذلك ولم يأمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة مع نبيهم أعلم وأطوع لله ولرسوله ممن جاء بعدهم؛ والثاني: أنه لا يجب القضاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لو أمرهم بالقضاء لشاع ذلك، كما نقل فطرهم، فلما لم ينقل ذلك دل على أنه لم يأمرهم به (1) . فإن قيل: فقد قيل لهشام بن عروة: أمروا بالقضاء؟ قال: أو بد من القضاء؟   (1) وعلى هذا فإذا كان يوم غيم فلا نقول للناس: انتظروا حتى تتيقنوا الغروب؛ لأنه لو كان الانتظار حتى يتيقنوا الغروب واجبا لتأخر الصحابة رضي الله عنهم حتى يتيقنوا الغروب، وهذا قد يكون أمرا يستدعي وقتا طويلا، خصوصا مع كثافة الغيم، فإنه قد لا يتفرق إلا بعد مدة طويلة، فيفوت تعجيل الفطر الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر» [أخرجه البخاري في الصوم/باب تعجيل الإفطار (1957) ؛ ومسلم في الصيام/باب فضل السحور (1098) ] ، هذا إذا لم يكن مع الإنسان ساعات، أما الآن -وقد جاءت الساعات- فالانتظار إن قلنا به مع الغيم فلن يعدو أن يكون دقيقتين أو ثلاث دقائق، يعني: لا يتأخر كثيرا، لكن في عهد المؤلف وما حوله ليس هناك ساعات تحدد الوقت. وأما الأمر الثاني - وهو المهم-: أنه لا يجب القضاء بناءا على القاعدة، وهي: العذر بالجهل والنسيان والإكراه، والإنسان مأمور بأن يفطر ويعجل الفطر، فإذا فعل ما أمر به ثم تبين الأمر بخلاف ذلك، فإنه لا يُلزم بالقضاء، وكيف يُلزم بالقضاء من أطاع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 قيل: هشام قال ذلك برأيه، لم يرو ذلك في الحديث، ويدل على أنه لم يكن عنده بذلك علم: أن معمرا روى عنه قال: سمعت هشاما قال: لا أدري أقضوا أم لا؟ ذكر هذا وهذا عنه البخاري، والحديث رواه عن أمه فاطمة بنت المنذر عن أسماء (1) .   (1) ومعلوم أنه حتى اللفظ الأول لا يدل على أنه رفع الحديث، بل على أنه قاله تفقها لقوله «أو بد من القضاء؟» [أخرجه البخاري في الصوم/باب إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس (1959) ] كأنه يقول: لابد من القضاء، وهذا قاله تفقها من عنده -رحمه الله-، لكن اللفظ الثاني: «لا أدري أقضى أم لا؟» [نفس الموضع السابق] أوضح من اللفظ الأول، مع أن الأول عند التأمل يدل على أنه قاله تفقها من عنده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وقد نقل هشام عن أبيه عروة أنهم لم يؤمروا بالقضاء، وعروة أعلم من ابنه (1) ، وهذا قول إسحاق بن راهويه، وهو قرين أحمد بن حنبل، ويوافقه في المذهب: أصولِه وفروعِه، وقولهما كثيرا ما يجمع بينه، والكوسج سأل مسائله لأحمد وإسحاق، وكذلك حرب الكرماني سأل مسائله لأحمد وإسحاق، وكذلك غيرهما؛ ولهذا يجمع الترمذي قول أحمد وإسحاق، فإنه روى قولهما من مسائل الكوسج، وكذلك أبو زرعة وأبو حاتم وابن قتيبة، وغير هؤلاء من أئمة السلف والسنة والحديث، كانوا يتفقهون على مذهب أحمد وإسحاق، يقدمون قولهما على أقوال غيرهما، وأئمة الحديث كالبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم هم أيضا من أتباعهما، وممن يأخذ العلم والفقه عنهما، وداود من أصحاب إسحاق. وقد كان أحمد بن حنبل إذا سئل عن إسحاق يقول: أنا أسأل عن إسحاق؟! إسحاق يسأل عني (2) . والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور ومحمد بن نصر المروزي وداود بن علي ونحو هؤلاء كلهم فقهاء الحديث رضي الله عنهم أجمعين.   (1) إذن يكون أبو هشام - وهو: عروة بن الزبير، أحد الفقهاء السبعة التابعي- قال: إنه لم يأمر بالقضاء، وعلى هذا فيكون المعتمد عدم أمرهم بالقضاء، ولو كان القضاء واجبا لأمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم بلا شك، إذ لا يمكن أن يؤخر البلاغ مع حاجة الناس إليه، ثم لو أمرهم بالقضاء لنقل إلينا؛ لأنه إذا أمرهم بالقضاء صار القضاء من شريعة الله، ولا بد أن تبقى إلى أن يأذن الله تعالى بفناء أهل الأرض، فكلما تأملت الحديث وجدت أنه كالمُتَيْقَن أنهم لم يقضوا. (2) هذا تواضع عظيم منه رحمه الله, ومن عرف قدر نفسه, عرف غيره قدره, والله المستعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وأيضاً فإن الله قال في كتابه: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} وهذه الآية مع الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين أنه مأمور بالأكل إلى أن يظهر الفجر، فهو مع الشك في طلوعه مأمور بالأكل، كما قد بسط في موضعه (1) .   (1) وعند المتعمقين يقولون إذا شككت في الفجر وجب عليك الإمساك، ولهذا عندهم مدفع إمساك ومدفع فجر، وهذا لاشك أنه من التعمق المذموم؛ لأن الرب عز وجل هو الذي يتعبد عباده، وقد قال سبحانه: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} [البقرة: 187] ، ولم يقل: حتى يطلع، بل حتى يتبين، فأنت مأمور أن تأكل وتشرب ما دمت شاكا في طلوع الفجر حتى يتبين لك، فإذا تبين أمسك. مسألة: لو أنه تبين للإنسان الفجر، وهو يجامع زوجته ماذا يفعل؟ الجواب: قال الفقهاء: إن بقي فعليه الكفارة، وإن نزع فعليه الكفارة؛ لأن النزع جماع عندهم، فماذا يصنع؟! نقول: بل ينزع فورا ولا شيء عليه؛ لأن هذا عمل للتخلص من الإثم، وفرق بين الإنسان الذي يتخلص من الإثم، والذي يريد الوقوع في الإثم، ونظير ذلك لو أن المحرم أصابه طيب في ثوبه أو في بدنه، فإن مس المحرم للطيب محرم، لكن لو أراد أن يغسله فلا نقول له: حرام عليك أن تغسله؛ لأن هذا للتخلص منه، ونظير ذلك أيضا الرجل يستنجي بالماء ويباشر النجاسة - البول أو الغائط- بيده، ومباشرة النجاسة منهي عنها، فلا نقول: لا تفعل، بل افعل؛ لأنه يريد التخلص، ونظير ذلك الرجل يغصب أرضا، ثم يمن الله عليه بالتوبة وهو فيها، ويجمع متاعه وما يتعلق به؛ ليخرج منها فلا نقول: إنه آثم؛ لأنه من التخلص، ويجب التنبه لهذه الفائدة، وهو أن من باشر المحرم للتخلص منه، فإن ذلك أمر واجب عليه، ولا يدخل في الحرام. وفهمنا من كلام الشيخ رحمه الله أنه يأكل ويشرب حتى مع الشك في طلوع الفجر، وأنه لا أثم عليه، وأن هذا مقتضى قوله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم} ، وأنه متى غلب على ظنه أن الشمس غربت فله أن يفطر؛ لفعل الصحابة رضوان الله عليهم في عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم، لكن مع الشك في غروب الشمس لا يجوز الفطر، بخلاف الشك في طلوع الفجر، والفرق ظاهر؛ لأن الشك في طلوع الفجر يعارضه أن الأصل بقاء الليل، والشك في غروب الشمس يعارضه أن الأصل بقاء النهار، لكن مع غلبة الظن يعمل بغلبة ظنه، ويأكل ويشرب فإن تبين له بعد أن الشمس لم تغرب أمسك، وصح صومه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 فصل في الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله ومداواة المأمومة والجائفة وأما الكحل، والحقنة، وما يقطر في إحليله، ومداواة المأمومة، والجائفة، فهذه مما تنازع فيه أهل العلم: فمنهم من لم يفطر بشيء من ذلك، ومنهم من فطر بالجميع لا بالكحل، ومنهم من فطر بالجميع لا بالتقطير، ومنهم من لم (1) يفطر بالكحل، ولا بالتقطير، ويفطر بما سوى ذلك. والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك، فإن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثا صحيحا ولا ضعيفا، ولا مسنداً ولا مرسلا، علم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك (2) .   (1) نسخة: «ومن لا يفطر» . (2) وإذا لم يذكر شيء من ذلك فالأصل براءة الذمة وصحة الصوم، وعدم فساده إلا بدليل، والذي ورد به النص ثلاثة أشياء: الأكل، والشرب، والجماع، وأما القيء والحجامة ففيهما خلاف معروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 والحديث المروي في الكحل ضعيف رواه أبو داود في «السنن» ولم يروه غيره، ولا هو في «مسند أحمد» ولا سائر الكتب المعتمدة (1) . قال أبو داود: حدثنا النفيلي ثنا علي بن ثابت حدثني عبد الرحمن بن النعمان ثنا معبد بن هوذة عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالإثمد المُرَوَّح عند النوم، وقال: «ليتقه الصائم» . قال أبو داود: وقال يحيى بن معين: هذا حديث منكر. قال المنذري: وعبد الرحمن قال يحيى بن معين: ضعيف، وقال أبو حاتم الرازي: هو صدوق، لكن من الذي يعرف أباه وعدالته وحفظه؟! وكذلك حديث معبد قد عورض بحديث ضعيف، وهو ما رواه الترمذي بسنده عن أنس بن مالك قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اشتكيت عيني، أفأكتحل وأنا صائم؟ قال: «نعم» .   (1) هذه مسألة مهمة في علم الحديث، وهي: أن الحديث إذا أعرض عنه أصحاب الصحيح، وأصحاب السنن، والكتب المعتمدة فلا تثق به، حتى وإن رواه بعض الحفاظ؛ خلافا لما يفعله بعض الناس الآن، يتمسك بسنن لم تشتهر بين المسلمين، ولم يعتمدوها وهي إذا لم تخالف الكتب المعتمدة الأصيلة لا بأس بها، لكن المشكلة أنها أحيانا تخالف، ومع ذلك يتمسك بها الناس، وشيخ الإسلام يرى أن من المهم النظر إلى الكتب المعتمدة التي اعتمدها المسلمون، وبنوا عليها دينهم، وتلقوا دينهم منها، فالبقية التي قد يكون مثلا من أسندها غير معروف، أو قد يكون غير ثقة، وقد تكون أيضا هي من الكتب التي لم يمحصها المسلمون؛ لأنها غير مشهورة بينهم، فمثل هذا يجب التفطن له؛ لأن هذه المسائل مسائل دين، وليست مسألة نظر فقط، هل رأى فلان كذا؟ أو رأى فلان كذا؟ بل هي مسألة دين يدين الله بها، ولهذا قال بعض السلف: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 قال الترمذي: ليس بالقوي، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء. وفيه أبو عاتكة. قال البخاري: منكر الحديث (1) .   (1) إذا الكحل لم يثبت فيه شيء، لا أنه يتقيه الصائم، ولا أنه لا يفطر الصائم، فيبقى على الأصل، والأصل الجواز، ومثله القطرة التي تقطر في العين، وغير ذلك مما يوضع في العين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 والذين قالوا: إن هذه الأمور تفطر - كالحقنة ومداواة المأمومة والجائفة (1) - لم يكن معهم حجة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكروا ذلك بما رأوه من القياس، وأقوى ما احتجوا به قوله: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما» . قالوا: فدل ذلك على أن ما وصل إلى الدماغ (2)   (1) الحقنة الشرجية التي تحقن في الشرج من أسفل، يوضع فيها أدوية أو ما أشبهها وكثيرا ما تحقن من أجل اليبوسة، وأما المأمومة والجائفة: فالمأمومة هو الجرح في الرأس يصل إلى أم الدماغ فيداوى، فبعض العلماء يقول: إنك إذا داويت المأمومة فسد الصوم؛ لأن المأمومة جوف، إذ أنها في وسط الرأس، والجائفة: هي التي تصل إلى الجوف، فهذا إنسان جرح حتى انفتح بطنه، فداووه، فهذه مداواة جائفة، فعند بعض العلماء أنها تفطر أيضا؛ لأن هذا الدواء وصل إلى الجوف، لكن شيخ الإسلام يقول: ليس معهم حجة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكروا ذلك بما رأوه من القياس، ولم يقل: لما ثبت من القياس، يعني: هذا القياس غير صحيح، لكن هذا رأيهم، وعلى هذا فالتحاميل التي تسمى تحاميل يحملها الإنسان عند شدة الحمى أو غير ذلك من الأسباب لا تفطر، فالذي يفطر الأكل والشرب وما كان بمعناه في التغذية فله حكمه , على أنه قد يعارض معارض في الإبر المغذية - مثلا- بأنها تختلف عن الأكل والشرب؛ لأن الأكل والشرب له لذة وطعم, ولهذا كان الذي يتغذى بهذه الإبر يشتاق اشتياقا كبيرا إلى الأكل والشرب, لكننا عارضنا هذا بحديث لقيط بن صبرة: «وبالغ بالاستنشاق إلا أن تكون صائما» [سبق تخريجه.] ، فإن المستنشق للماء لا يتلذذ به. (2) الظاهر أن الإنسان إذا استنشق الماء لا يصل إلى دماغه لكن يصل إلى جوفه، ولذلك النَّفَس يخرج من الرئتين بلا شك، ويخرج عن طريق الأنف، ولا يذهب للدماغ ثم ينزل، فالظاهر أن قوله: «يصل إلى الدماغ» فيه نظر من حيث الطب.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 يفطر الصائم إذا كان بفعله، وعلى القياس كل ما وصل إلى جوفه بفعله من حقنة وغيرها، سواء كان ذلك في موضع الطعام والغذاء أو غيره من حشو جوفه. والذين استثنوا التقطير قالوا: التقطير لا ينزل إلى جوفه وإنما يرشح (1) رشحاً، فالداخل إلى إحليله كالداخل إلى فمه وأنفه (2) . والذين استثنوا الكحل قالوا: العين ليست كالقبل والدبر، ولكن هي تشرب الكحل كما يشرب الجسم الدهن والماء (3) . والذين قالوا الكحل يفطر قالوا: إنه ينفذ إلى داخله حتى يتنخمه الصائم؛ لأن في داخل العين منفذا إلى داخل الحلق (4) . وإذا كان عمدتهم هذه الأقيسة ونحوها لم يجز إفساد الصوم بمثل هذه الأقيسة لوجوه:   (1) قوله: «إنما يرشح» يعني: البول، أي: أن البول بإذن الله يرشح فينزل من الكلى رشحا، ويجتمع في هذه الحاصلة، ثم بإذن الله عز وجل إذا أراد الإنسان أن يخرجها أخرجها، فلذلك لو قطر في إحليله - يعني: في ذكره- دهنا أو دواءا أو غيره لم يفطر بذلك؛ لأنه إنما يرشح رشحا، يعني: البول. (2) قوله: «فالداخل إلى إحليله كالداخل إلى فمه وأنفه» هذا القياس خطأ؛ لأن الأنف والفم في حكم الظاهر، ولهذا وجبت المضمضة والاستنشاق في الوضوء تبعا لغسل الوجه، فالفرق واضح، وكلامهم هذا يدل على أن الذي يفطر هو الذي يصل إلى المعدة، وأما ما وصل إلى باطن الجوف من غير طريق المعدة فإنه لا يفطر، وهذا هو القول الراجح، أنه لا يفطر إلا ما يصل إلى المعدة دون ما يصل إلى الحلق، ودون ما يصل إلى البطن أو إلى الرئة أو غير ذلك. (3) ومعلوم أن الإنسان إذا اغتسل وتشرب جلده الماء فإنه لا يفطر بالاتفاق، وكذلك أيضا لو تدهن بدهن وهو صائم، فإنه لا يفطر بالاتفاق. (4) ليست العين منفذا معتادا للأكل والشرب، لكن في الأنف ربما يعطى الإنسان سعوطا أو نحوه ويصل إلى جوفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 أحدها: أن القياس وإن كان حجة إذا اعتبرت شروط صحته فقد قلنا في الأصول: إن الأحكام الشرعية كلها بينتها النصوص أيضا، وإن دل القياس الصحيح على مثل ما دل عليه النص دلالة خفية، فإذا علمنا بأن الرسول لم يحرم الشيء ولم يوجبه علمنا أنه ليس بحرام ولا واجب، وأن القياس المثبت لوجوبه وتحريمه فاسد، ونحن نعلم أنه ليس في الكتاب والسنة ما يدل على الإفطار بهذه الأشياء التي ذكرها بعض أهل الفقه، فعلمنا أنها ليست مفطرة. الثاني: أن الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لا بد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بيانا عاما، ولا بد أن تنقلها الأمة، فإذا انتفى هذا علم أن هذا ليس من دينه، وهذا كما يعلم أنه لم يفرض صيام شهر غير رمضان، ولا حج بيت غير البيت الحرام، ولا صلاة مكتوبة غير الخمس، ولم يوجب الغسل في مباشرة المرأة بلا إنزال، ولا أوجب الوضوء من الفزع العظيم (1) ، وإن كان في مظنة خروج الخارج، ولا سن الركعتين بعد الطواف بين الصفا والمروة كما سن الركعتين بعد الطواف بالبيت (2) ، وبهذا يعلم أن المني ليس بنجس؛ لأنه لم ينقل عن أحد بإسناد يحتج به أنه أمر المسلمين بغسل أبدانهم وثيابهم من المني مع عموم البلوى بذلك، بل أمر الحائض أن تغسل قميصها من دم الحيض مع قلة الحاجة إلى ذلك، ولم يأمر المسلمين بغسل أبدانهم وثيابهم من المني.   (1) الفزع العظيم مظنة خروج الخارج، سواء كان بولا أم غائطا أم ريحا، ولهذا ذكر بعض الفقهاء: أنه لو صاح بإنسان ففزع ثم أحدث فعليه ثلث الدية، وهذه غير مسلمة، ولكن قصدنا أن الإنسان إذا فزع فربما يحصل منه حدث. (2) وكذلك نعلم أنه لم يشرع السعي بين الصفا والمروة في غير حج أو عمرة، خلافا لما يظن بعض الناس، فتجد بعض العوام يسعى وهو مرتد ثيابه، فتقول له: لماذا؟ فيقول: إن الله عز وجل يقول: {ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم} [البقرة: 158] . فيظن التطوع حتى في السعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 والحديث الذي يرويه بعض الفقهاء: «يغسل الثوب من البول والغائط والمني والمذي والدم» ، ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في شيء من كتب الحديث التي يعتمد عليها (1) ، ولا رواه أحد من أهل العلم بالحديث بإسناد يحتج به، وإنما روي عن عمار وعائشة من قولهما. وغسل عائشة للمني من ثوبه وفركُها إياه لا يدل على وجوب ذلك، فإن الثياب تغسل من الوسخ والمخاط والبصاق، والوجوب إنما يكون بأمره، لاسيما ولم يأمر هو سائر المسلمين بغسل ثيابهم من ذلك، ولا نقل أنه أمر عائشة بذلك، بل أقرها على ذلك، فدل على جوازه أو حسنه واستحبابه، وأما الوجوب فلا بد له من دليل.   (1) هذا القيد مهم في قول المؤلف: «كتب الحديث التي يعتمد عليها» يعني: ليس كل كتاب مسند نأخذ به ونعتبره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وبهذه الطرق يعلم أيضاً أنه لم يوجب الوضوء من لمس النساء، ولا من النجاسات الخارجة من غير السبيلين، فإنه لم ينقل أحد عنه بإسناد يثبت مثله أنه أمر بذلك، مع العلم بأن الناس كانوا لا يزالون يحتجمون ويتقيئون ويجرحون في الجهاد وغير ذلك، وقد قطع عرق بعض أصحابه ليخرج منه الدم وهو الفصاد، ولم ينقل عنه مسلم أنه أمر أصحابه بالتوضؤ من ذلك (1) . وكذلك الناس لا يزال أحدهم يلمس امرأته بشهوة وبغير شهوة، ولم ينقل عنه مسلم أنه أمر الناس بالتوضؤ من ذلك، والقرآن لا يدل على ذلك؛ بل المراد بالملامسة الجماع كما بسط في موضعه (2) .   (1) وهكذا لو قيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدا من الجرحى أن يغسل ثيابه أو بدنه من الدم، وكذلك أيضا لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه غسل محل الحجامة، وما أشبه ذلك، وهذا يدل على أن دم الآدمي ليس بنجس، لكن الجمهور على نجاسته، والاحتياط طيب، لكن الجزم بنجاسته، وأن الإنسان لو صلى في ثوبه وفيه دم فصلاته باطله، هذا يحتاج إلى دليل، فالمسألة ليست هينة، والقاعدة في ذلك: «ما أبين من حي فهو كميتته» ، واليد إذا قطعت من إنسان فهي طاهرة، مع أنها مملوءة دما، فإذا كانت اليد -وهي جرم مملوء بالدم- تكون طاهرة إذا انفصلت عن الإنسان، فالدم من باب أولى، ولا يرد على هذا دم الحيض؛ لأن دم الحيض ليس دم عرق، وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين دم العرق، حيث قال للمستحاضة: «إنما ذلك دم عرق» [أخرجه البخاري في الوضوء/باب غسل الدم (228) ؛ ومسلم في الحيض/ باب المستحاضة وغسلها وصلاتها (333) ] . (2) بعض العلماء يرون أن مس المرأة مطلقا ينقض الوضوء، ولهذا تجد بعض الرجال كما نقل لي يلبس قفازين وهو يطوف؛ لئلا تمس يده جسم امرأة، ولبس القفازين محرم على المحرم، فأرادوا أن يتحرزوا من شيء فوقعوا في شيء محرم. والصحيح كما قال شيخ الإسلام أن المراد بالملامسة الجماع، كما فسرها بذلك ابن عباس رضي الله عنه، وكما أنه مقتضى الفصاحة والبلاغة؛ لأنه لو كان المراد بالملامسة هنا لمس اليد أو ما أشبهه؛ لكان في الآية تكرار في شيء لا حاجة إليه، وحذف لشيء لا بد أن يذكر، فقوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء} [النساء: 43] إذا جعلنا الملامسة اللمس باليد صار كلا الأمرين يدل على الحدث الأصغر، ولا ذكر للحدث الأكبر، وإذا قلنا الملامسة: الجماع، لم يكن في الآية تكرار، ودلت على فائدة أخرى وهي: الحدث الأكبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وأمره بالوضوء من مس الذكر إنما هو استحباب إما مطلقا وإما إذا حرك الشهوة (1) ،   (1) هذا أيضا من الأمور التي اختلف فيها الناس اختلافا كثيرا، والأقرب عندي أنه يجب الوضوء إذا كان بشهوة، ولا يجب إذا كان بغير شهوة، والفقهاء -رحمهم الله- يشددون في هذا، ويقولون ينقض مس الذكر ولو بلا قصد، وعلى هذا لو أراد الإنسان أن يستدني سرواله لربطه فمست يده ذكره بغير قصد؛ لأنتقض وضوءه، لكن هذا لا دليل عليه، والصواب أن مس الذكر لا يوجب الوضوء إلا إذا كان لشهوة، وبهذا يجتمع الحديثان: حديث بسرة، وحديث طلق بن علي؛ لأن طلق بن علي لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يمس ذكره أو قال يمس ذكره في الصلاة أعليه الوضوء؟ قال: «لا» . ثم قال «إنما هو بضعة منك» [أخرجه أحمد (4/23) ؛ وأبو داود في الطهارة/باب الرخصة في ذلك (182) ؛ والترمذي في الطهارة/باب ما جاء في ترك الوضوء من مس الذكر (85) ؛ والنسائي في الطهارة/باب ترك الوضوء من ذلك (165) ؛ وابن ماجه في الطهارة/باب الرخصة في ذلك (483) .] ..ومعنى بضعة أي: جزء منك، فكما أنك لو لمست اليد، أو لمست الفخذ، أو لمست الساق لا ينتقض وضوءك، فكذلك لو لمست الذكر فهو بضعة، وحديث بسرة: «من مس ذكره فليتوضأ» [أخرجه أحمد (6/406) ؛ وأبو داود في الطهارة/باب الوضوء من مس الذكر (181) ؛ والترمذي في الطهارة/باب الوضوء من مس الذكر (82) ؛ والنسائي في الطهارة/باب الوضوء من مس الذكر (163) ؛ وابن ماجه في الطهارة/باب الوضوء من مس الذكر (479) ] هذا عام، واللام للأمر، فيحمل على أن المراد من مسه مسا ليس كمس بقية الأعضاء، واللمس الذي يختص بالذكر ولا يكون كبقية الأعضاء هو ما كان لشهوة، ولهذا تجد الإنسان يمس ذكره لشهوة، وربما يستمني بيده، فالقول الراجح: أنك إذا مسست الذكر المس الخاص به، وهو الذي يكون لشهوة؛ وجب عليك الوضوء؛ لأن هذا مظنة خروج شيء، ولاسيما في الرجل المذَّاء، فقد يخرج مذي وهو لا يدري، وأما إذا كان بغير شهوة فلا ينقض الوضوء، ومن العلماء من قال: يستحب الوضوء احتياطا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وكذلك يستحب لمن لمس النساء فتحركت شهوته أن يتوضأ، وكذلك من تفكر فتحركت شهوته فانتشر، وكذلك من مس الأمرد أو غيره فانتشر (1) . فالتوضؤ عند تحرك الشهوة من جنس التوضؤ عند الغضب، وهذا مستحب لما في «السنن» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ» ، وكذلك الشهوة الغالبة هي من الشيطان والنار، والوضوء يطفئها، فهو يطفئ حرارة الغضب، والوضوء من هذا مستحب. وكذلك أمره بالوضوء مما مسته النار أمر استحباب؛ لأن ما مسته النار يخالط البدن، فليتوضأ فإن النار تطفأ بالماء، وليس في النصوص ما يدل على أنه منسوخ، بل النصوص تدل على أنه ليس بواجب، واستحباب الوضوء منه أعدل الأقوال، من قول من يوجبه، وقول من يراه منسوخا، وهذا أحد القولين في مذهب أحمد وغيره (2) .   (1) معنى قول المؤلف: «انتشر» أي: انتصب ذكره. (2) قوله: «مما مسته النار» أي: كل ما طبخ بالنار، فالأفضل أن يتوضأ منه، وقد ورد فيه حديثان أحدهما: الأمر بالوضوء منه [أخرجه أبو داود في الطهارة/باب التشديد في ذلك (166) ؛ والترمذي في الطهارة/ باب ما جاء في الوضوء مما غيرت النار (74) ؛ والنسائي في الطهارة/باب الوضوء مما غيرت النار (171) ؛ وابن ماجه في الطهارة/ باب الوضوء مما غيرت النار (478) ] . والثاني: «كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار» [أخرجه أبو داود في الطهارة/باب في ترك الوضوء مما مست النار (164) ؛ والنسائي في الطهارة/باب ترك الوضوء مما غيرت النار (185) .] . فمنهم من قال: إن هذا الحديث يدل على نسخ الحديث الأول، وأنه لا يعمل به إطلاقا، ولا يتوضأ لذلك. ومنهم من قال: إن الحديث الثاني يدل على أن الأمر بالوضوء مما مست النار ليس على سبيل الوجوب، وهذا يستعمله العلماء كثيرا، فيقولون: إن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الأمر يدل على عدم الوجوب، وأن فعله بعد النهي يدل على عدم التحريم، وهذا الذي ذكره المؤلف هو أعدل الأقوال، وأنه يسن له أن يتوضأ مما مست النار كما نص على ذلك فقهاء الحنابلة رحمهم الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وكذلك بهذه الطريق (1) يعلم أن بول ما يؤكل لحمه وروثه ليس بنجس، فإن هذا مما تعم به البلوى، والقوم كانوا أصحاب إبل وغنم، يقعدون ويصلون في أمكنتها، وهي مملوءة من أبعارها، فلو كانت بمنزلة المراحيض كانت تكون حشوشاً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم باجتنابها، وأن لا يلوثوا أبدانهم وثيابهم بها، ولا يصلون فيها (2) .   (1) يعني: كون الشيء مما تعم به البلوى، ويكثر وقوعه بين الناس، ولم يبين الشارع حكمه، يدل على أنه ليس فيه وجوب ولا تحريم؛ لأنه لو كان فيه وجوب لأمر به، ولو كان فيه تحريم لنهي عنه. (2) فإن قال قائل: أليسوا أيضا أهل حمير وأهل بغال؟ وهل نجعل أبوال الحمير والبغال طاهرة؟ نقول: لا نجعلها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحمر: «إنها رجس» [أخرجه البخاري في الذبائح والصيد/باب لحوم الحمر الإنسية (5102) ؛ ومسلم في كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان/باب تحريم أكل لحم الحمر الإنسية (1940) .] فهي نجسة، لكن لم يقل في الإبل والبقر والغنم وما أشبهها: إنها رجس، بل هي مما يؤكل، ويدخلها الناس في بطونهم، فضلا عن ظواهر أبدانهم، فالحاصل أن الذي عمت به البلوى في الحمير والبغال عورض بدليل خاص، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم بأنها نجسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 فكيف وقد ثبتت الأحاديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون في مرابض الغنم، وأمر بالصلاة في مرابض الغنم، ونهى عن الصلاة في معاطن الإبل؟! فعلم أن ذلك ليس لنجاسة الأبعار، بل كما أمر بالتوضؤ من لحوم الإبل، وقال في الغنم: «إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ» ، وقال: «إن الإبل خلقت من جن، وإن على ذروة كل بعير شيطانا» . وقال: «الفخر والخيلاء في الفدادين أصحاب الإبل، والسكينة في أهل الغنم» (1) .   (1) ولهذا إذا نفرت البعير أو عشَّرت وحملت فلا أحد يستطيع عليها، وتكون كالمجنونة، وهي لولا أن الله ذللها لنا لم نستطع أن نتحكم فيها، فالله ذللها لنا، حتى إن الصبي يقودها إلى منحرها وتنقاد معه، لكن إذا نفرت فلا أحد يستطيع عليها؛ لذلك كانت الشياطين تحملها، فهي خلقت من الجن، وكذلك على ظهر كل واحد منها شيطان كما جاء في الحديث [أخرجه أحمد (3/494) ؛ والطبراني في «الكبير» (3/160) ؛ وصححه ابن خزيمة (2546) ؛ وابن حبان (2694) ؛ وقال المنذري: إسناد أحمد والطبراني جيد ا. هـ.] وهذه أمور في الواقع تخفى علينا، وتخفى أيضا حتى على أهل الطب؛ لأن هذه أمور غيبية وليست أمورا محسوسة تدرك بالطب وشبهه، ومن ثَمَّ نهي عن الصلاة في أعطانها؛ لأنها مأوى الشياطين. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الفخر والخيلاء في الفدادين أصحاب الإبل» [أخرجه مسلم في الإيمان/باب تفاضل أهل الإيمان فيه، ورجحان أهل اليمن فيه (52) .] هذا صحيح ومشاهد حتى الآن، تجد البدوي الذي عنده الإبل شامخ الرأس، شامخ الأنف، وتجد صاحب الغنم هادئا ساكنا، ولهذا اختار الله للرسل عليهم الصلاة والسلام أن يكونوا رعاة للغنم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم» [أخرجه البخاري في الإجارة/باب رعي الغنم على قراريط (2143) .] من أجل أن يعرف كيف يختار المواقع؟ وكيف يوجهها مع السكينة والهدوء؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 فلما كانت الإبل فيها من الشيطنة ما لا يحبه الله ورسوله أمر بالتوضؤ من لحمها، فإن ذلك يطفئ تلك الشيطنة، ونهي عن الصلاة في أعطانها؛ لأنها مأوى الشياطين، كما نهي عن الصلاة في الحمَّام لأنها مأوى الشياطين، فإن مأوى الأرواح الخبيثة أحق بأن تجتنب الصلاة فيه، وفي موضع الأجسام الخبيثة، بل الأرواح الخبيثة تحب الأجسام الخبيثة. ولهذا كانت الحشوش محتضرة تحضرها الشياطين، والصلاة فيها أولى بالنهي من الصلاة في الحمَّام ومعاطن الإبل والصلاة على الأرض النجسة، ولم يرد في الحشوش نص خاص؛ لأن الأمر فيها كان أظهر عند المسلمين أن يحتاج إلى بيان؛ ولهذا لم يكن أحد من المسلمين يقعد في الحشوش (1) ولا يصلي فيها، وكانوا ينتابون البرية لقضاء حوائجهم قبل أن تتخذ الكنف (2) في بيوتهم.   (1) لكن الخبثاء يقعدون فيها أو فيما يشابهها، ويذكر أن الكفار يتخذون المقاعد التي تسمي عندنا: «حمامات إفرنجية» ؛ لأنه إذا دخل الحمام وجلس على هذا الكرسي أخذ معه الصحيفة أو الجريدة، وجلس يقرأها حتى يكمل جميع الأخبار التي فيها، وهذه من حكمة الله عز وجل: {الخبيثات للخبيثين} [النور: 26] ، ولهذا كانوا يحبون الكلاب، والكلاب أنجس البهائم، ولا يطهر الإناء الذي ولغ فيه الكلب إلا بسبع غسلات إحداها بالتراب، لكن أولئك القوم يألفونها؛ لأن النفوس الخبيثة تألف الأشياء الخبيثة. (2) «الكنف» : هي أماكن لقضاء الحاجة فقط، وهي عبارة عن أحواض مبنية لها سقوف، ويقضي الإنسان فيها حاجته، ثم يستنجي في محل آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وإذا سمعوا نهيه عن الصلاة في الحمَّام أو أعطان الإبل علموا أن النهي عن الصلاة في الحشوش أولى وأحرى، مع أنه قد روي الحديث الذي فيه: النهي عن الصلاة في المقبرة، والمجزرة، والمزبلة، والحشوش، وقارعة الطريق، ومعاطن الإبل، وظهر بيت الله الحرام، وأصحاب الحديث متنازعون فيه، وأصحاب أحمد فيه على قولين: منهم من يرى هذه من مواضع النهي، ومنهم من يقول: لم [يثبت] هذا الحديث (1) ،   (1) الصواب أن الحديث في ذلك ضعيف، ولا تقوم به حجة، ولا يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» [أخرجه البخاري في التيمم/وقول الله تعالى {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} (323) ؛ ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (521) .] لكن معاطن الإبل صح عن النبي (النهي عن الصلاة فيها [أخرجه أحمد (2/451, 491, 509) ؛ والترمذي في أبواب الصلاة/باب ما جاء في الصلاة في مرابض الغنم (348) ؛ وابن ماجه في المساجد/باب الصلاة في أعطان الإبل (768) من حديث أبي هريرة وله شواهد، وقال الترمذي: حسن صحيح. وجاء في صحيح مسلم في الحيض/باب الوضوء من لحوم الإبل (360) من حديث جابر بن سمرة أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصلي في مبارك الإبل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا» .] ، وكذلك صح النهي عن الصلاة في المقبرة والحمام [أخرجه أحمد (3/83) ؛ وأبو داود في الصلاة, باب في المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة (492) ؛ والترمذي في أبواب الصلاة, باب ما جاء أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام (317) ؛ وابن ماجه في المساجد/باب المواضع التي تكره فيها الصلاة (745) ؛ وصححه ابن خزيمة (791) ؛ وابن حبان (1699) ؛ والحاكم (1/251) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في «اقتضاء الصراط» (ص: 677) : أسانيده جيدة, ومن تكلم فيه ما استوفى طرقه ا. هـ.] ، وأما قارعة الطريق والمجزرة والمزبلة وفوق ظهر بيت الله فالحديث فيها لا يصح [أخرجه الترمذي في أبواب الصلاة/باب ما جاء في كراهية ما يصلي إليه وفيه (346) ، وقال الترمذي: إسناده ليس بذاك القوي، وقد تكلم في زيد بن جبيرة من قبل حفظه ا. هـ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 ولم أجد في كلام أحمد في ذلك إذنا ولا منعا، مع أنه قد كره الصلاة في مواضع العذاب، نقله عنه ابنه عبد الله؛ للحديث المسند في ذلك عن علي الذي رواه أبو داود، وإنما نص على الحشوش وأعطان الإبل والحمَّام، وهذه الثلاثة هي التي ذكرها الخرقي (1) وغيره، والحكم في ذلك عند من يقول به قد يثبته بالقياس على موارد النص، وقد يثبته بالحديث، ومن فرق يحتاج إلى الطعن في الحديث وبيان الفارق (2) ، وأيضا المنع قد يكون منع كراهة وقد يكون منع تحريم. وإذا كانت الأحكام التي تعم بها البلوى لا بد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بيانا عاما، ولا بد أن تنقل الأمة ذلك، فمعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب، فلو كان هذا مما يفطر لبينه النبي صلى الله عليه وسلم كما بين الإفطار بغيره، فلما لم يبين ذلك علم أنه من جنس الطيب والبخور والدهن.   (1) الخرقي رحمه الله من أكابر الأصحاب رحمهم الله، وله كتاب مشهور، وهو «مختصر الخرقي» ، والذي شرحه أمم عظيمة من العلماء، وأحسن شرح رأيناه عليه هو «المغني» لابن قدامة رحمه الله. (2) قوله: «يحتاج إلى الطعن في الحديث» أي: إن اعتمد على الحديث، وقوله: «وبيان الفارق» أي: إن اعتمد على القياس، وشيخ الإسلام رحمه الله يقول: «والحكم في ذلك عند من يقول به قد يثبته بالقياس على موارد النص، وقد يثبته بالحديث» أي: من يقول بهذا الحكم - وهو المنع من الصلوات في هذه الأماكن السبعة - يحكم به إما بالحديث وإما بالقياس، فمن طعن في هذا الحكم فإنه يحتاج إلى الطعن في الحديث، أو إلى بيان الفارق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 والبخور قد يتصاعد إلى الأنف ويدخل في الدماغ وينعقد أجساما، والدهن يشربه البدن ويدخل إلى داخله ويتقوى به الإنسان، وكذلك يتقوى بالطيب قوة جيدة، فلما لم ينه الصائم عن ذلك دل على جواز [تطيبه وتبخره] (1) وادهانه، وكذلك اكتحاله. وقد كان المسلمون في عهده صلى الله عليه وسلم يجرح أحدهم - إما في الجهاد، وإما في غيره- مأمومة وجائفة، فلو كان هذا يفطر لبين لهم ذلك، فلما لم ينه الصائم عن ذلك علم أنه لم يجعله مفطراً. الوجه الثالث: إثبات التفطير بالقياس يحتاج إلى أن يكون القياس صحيحا، وذلك إما قياس علة بإثبات الجامع، وإما بإلغاء الفارق، فإما أن يدل دليل على العلة في الأصل فيعدى بها إلى الفرع، وإما أن يعلم أن لا فارق بينهما من الأوصاف المعتبرة في الشرع، وهذا القياس هنا منتف. وذلك أنه ليس في الأدلة ما يقتضي أن المفطر الذي جعله الله ورسوله مفطراً هو ما كان واصلا إلى دماغ أو بدن، أو ما كان داخلا من منفذ أو واصلا إلى الجوف، ونحو ذلك من المعاني التي يجعلها أصحاب هذه الأقاويل هي مناط الحكم عند الله ورسوله، ويقولون: إن الله ورسوله إنما جعل الطعام والشراب مفطراً لهذا المعنى المشترك من الطعام والشراب، ومما يصل إلى الدماغ والجوف من دواء المأمومة والجائفة، وما يصل إلى الجوف من الكحل، ومن الحقنة والتقطير في الإحليل، ونحو ذلك.   (1) في نسخة: (تطييبه وتبخيره) ، و (تطيبه وتبخره) أقرب للصحة؛ لأن تطييبه وتبخيره فعل غيره به, وتطيبه وتبخره فعله هو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وإذا لم يكن على تعليق الله ورسوله للحكم بهذا الوصف دليل، كان قول القائل: إن الله ورسوله إنما جعلا هذا مفطراً لهذا قولا بلا علم، وكان قوله: إن الله حرم على الصائم أن يفعل هذا قولا بأن هذا حلال وهذا حرام بلا علم، وذلك يتضمن القول على الله بما لا يعلم، وهذا لا يجوز (1) .   (1) يقول رحمه الله: «ليس في الأدلة ما يقتضي أن المفطر الذي جعله الله ورسوله مفطرا هو ما كان واصلا إلى دماغ أو بدن» خلافا لمن قال: إن ما وصل إلى الدماغ، أو وصل إلى الجوف بأي طريق فهو مفسد للصوم، «أو ما كان داخلا من منفذ» كالعين مثلا أو الأذن تنفذ إلى الحلق، «أو واصلا إلى الجوف كالجائفة ... هي مناط الحكم» يعني: أنه ليس في الأدلة ما يقتضي أن ذلك مناط الحكم عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، «ويقولون: إن الله ورسوله إنما جعلا الطعام والشراب مفطرا لهذا المعنى المشترك من الطعام والشراب» الذين يقولون بهذا هم الذين يفطرون بهذه الأشياء «وبين ما يصل إلى الدماغ والجوف من دواء المأمومة والجائفة، وما يصل إلى الجوف من الكحل ومن الحقنة والتقطير في الإحليل ونحو ذلك» هم يقولون بهذا وهم يتناقضون؛ لأنهم نصوا على أن الإنسان لو وطئ حنظلة برجله، والحنظلة من أشد النبات مرارة، ثم وجد طعمها في حلقه، فإنه لا يفطر، مع أن طعمها وصل إلى الحلق، لكن يقولون: إن الرجل ليست منفذا معتادا، فيقال لهم: والعين أيضا ليست منفذا معتادا، ولا اعتاد الناس أن يأكلوا بأعينهم، ولا أن يأكلوا بآذانهم، فلا فرق، ثم ذكر قاعدة مهمة، قال رحمه الله: «وإذا لم يكن على تعليق الله ورسوله للحكم بهذا الوصف دليل كان قول القائل أن الله ورسوله إنما جعلا هذا مفطرا بهذا قولا بلا علم» يعني: مثلا يقولون: إن الله جعل الطعام والشراب مفطرا؛ لأنه يصل إلى الجوف..قيل لهم: من قال لكم إن مناط الحكم وصول شيء إلى الجوف؟! بل لأنه شهوة يتلذذ به الإنسان ويتغذى بها، «وكان قوله: إن الله حرم على الصائم أن يفعل هذا، قولا بأن هذا حلال وهذا حرام بلا علم» ومعلوم أن الله تعالى قال: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 ومن اعتقد من العلماء أن هذا المشترك مناط الحكم (1) ، فهو بمنزلة من اعتقد صحة مذهب لم يكن صحيحا، أو دلالة لفظ على معنى لم يرده الرسول، وهذا اجتهاد يثابون عليه، ولا يلزم أن يكون قولا بحجة شرعية يجب على المسلم اتباعها (2) .   (1) مناط الحكم هو: الوصف الذي يعلق به الحكم. (2) شيخ الإسلام رحمه الله أعظم من رأيته إنصافا من العلماء، يقول: «هذا اجتهاد يثابون عليه» بينما لو يحصل خطأ من بعض طلبة العلم في عصرنا هذا مع اجتهاده قالوا: هذا ضال، هذا مبتدع، هذا فيه كذا ... وجعلوا يغتابونه ويسبونه، وشيخ الإسلام رحمه الله مع أن كلامه قوي، ويقول: هذا كلام لا يجوز، وهذا قول على الله بغير علم، وهذا حرام، بهذا الأسلوب القوي الشديد، يقول: إن هذا اجتهاد يثابون عليه، وهكذا يجب على الإنسان أن ينظر إلى غيره كما ينظر إلى نفسه، أليس هو يجتهد ويخطئ ويصيب؟ إذا غيره أيضا يجتهد ويخطئ ويصيب، فكيف تكون من المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون؟! فالواجب أن تنظر إلى غيرك كما تنظر إلى نفسك، فكما أن غيرك يخطئ في ظنك، فكذلك أنت تخطىء في ظنه. والحاصل أن مثل هذا المسلك الذي يسلكه شيخ الإسلام رحمه الله بهذا العدل والإنصاف هو الذي يؤلف القلوب عليه، ويوجب أن يؤخذ بقوله، وأن يعرف أنه لا يريد إلا الوصول إلى الحق، فاللهم اغفر له وارحمه. ويقول أيضا: «ولا يلزم أن يكون قولا بحجة شرعية يجب على المسلم إتباعها» وهذا صحيح، فإذا كان لم يبن قوله على حجة شرعية يجب إتباعها، فإننا نسأل الله له الرحمة، ونقول هو مجتهد ولكنه لم يصب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الوجه الرابع: أن القياس إنما يصح - إذا لم يدل كلام الشارع على علة الحكم - إذا سبرنا أوصاف الأصل فلم يكن فيها ما يصلح للعلة إلا الوصف المعين، وحيث أثبتنا علة الأصل بالمناسبة أو الدوران أو الشبه المطرد - عند من يقول به - فلا بد من السبر، فإذا كان في الأصل وصفان مناسبان لم يجز أن يقول الحكم بهذا دون هذا. ومعلوم أن النص والإجماع أثبتا الفطر بالأكل والشرب والجماع والحيض، والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى المتوضئ عن المبالغة في الاستنشاق إذا كان صائما، وقياسهم على الاستنشاق أقوى حججهم كما تقدم، وهو قياس ضعيف، وذلك لأن من نشق الماء بمنخريه ينزل الماء إلى حلقه وإلى جوفه، فحصل له بذلك ما يحصل للشارب بفمه، ويغذي بدنه من ذلك الماء، ويزول العطش، ويطبخ الطعام في معدته، كما يحصل بشرب الماء (1) .   (1) لأن الماء إذا نزل فلا شك أن الطعام الذي في المعدة يكون رقيقا ولينا، وهذا بمنزلة الطبخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 فلو لم يرد النص بذلك لعلم بالعقل أن هذا من جنس الشرب، فإنهما لا يفترقان إلا في دخول الماء من الفم، وذلك غير معتبر، بل دخول الماء إلى الفم وحده لا يفطر، فليس هو مفطراً ولا جزءاً من المفطر؛ لعدم تأثيره، بل هو طريق إلى الفطر، وليس كذلك الكحل والحقنة ومداواة الجائفة والمأمومة؛ فإن الكحل لا يغذي البتة، ولا يدخل أحد كحلا إلى جوفه، لا من أنفه ولا فمه، وكذلك الحقنة لا تغذي، بل تستفرغ ما في البدن كما لو شم شيئا من المسهلات، أو فزع فزعا أوجب استطلاق جوفه، وهي لا تصل إلى المعدة، والدواء الذي يصل إلى المعدة في مداواة الجائفة والمأمومة لا يشبه ما يصل إليها من غذائه، والله سبحانه قال: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} (1) ،   (1) الجائفة هي: الجرح يصل إلى باطن الجوف، والشيخ رحمه الله يقول: إن القياس -قياس الكحل والاحتقان وما أشبهها - على الأكل والشرب غير وارد أصلا، فلو قال قائل: هل يقاس على الاستنشاق؟ يقول الشيخ رحمه الله: لا؛ لأن مستنشق الماء يتغذى به، ويصل إلى معدته، لكن هل المكتحل يتغذى بالكحل؟ الجواب: لا، حتى ولو وصل إلى المعدة - فرضا- فإنه لا يتغذى به، فلا يمكن أن يقاس هذا على هذا. وهذا هو مضمون كلامه، وهو واضح، والحقنة لا شك أنها تصل إلى الأمعاء، ولكن هل الأمعاء تتغذى بها، أو يستخرج ما كان ماكثا في الأمعاء؟ الجواب: الثاني بلا شك، فكيف يقاس هذا على هذا؟! وهناك تعليق لمحمد رشيد رضا رحمه الله، يقول: (قال في «المصباح» : وحقنت المريض: إذا أوصلت الدواء إلى باطنه من مخرجه بالمحقنة - بالكسر - واحتقن هو، والاسم الحقنة، مثل الفرقة من الافتراق، ثم أُطلقت على ما يتداوى به، والجمع حقن، مثل غرفة وغرف. فهذه هي الحقنة التي يقول شيخ الإسلام: إنها لا تفطر الصائم، وقوله حق، ولكن يوجد في هذا الزمان حقن أخر، وهي إيصال بعض المواد المغذية إلى الأمعاء، يقصد بها تغذية بعض المرضى، والأمعاء من الجهاز الهضمي كالمعدة، وقد تغني عنها، فهذا النوع من الحقنة يفطر الصائم، فهو لا يباح له إلا في المرض المبيح للفطر) ا. هـ كلام الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وقال صلى الله عليه وسلم: «الصوم جنة» ، وقال: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع بالصوم» ، فالصائم نهي عن الأكل والشرب؛ لأن ذلك سبب التقوي، فترك الأكل والشرب الذي يولد الدم الكثير الذي يجري فيه الشيطان إنما يتولد من الغذاء، لا عن حقنة، ولا كحل، ولا ما يقطر في الذكر، ولا ما يداوى به المأمومة والجائفة، وهو متولد عما استنشق من الماء (1) ؛ لأن الماء مما يتولد منه الدم، فكان المنع منه من تمام الصوم. فإذا كانت هذه المعاني وغيرها موجودة في الأصل الثابت بالنص والإجماع، فدعواهم أن الشارع علق الحكم بما ذكروه من الأوصاف معارض بهذه الأوصاف، والمعارضة [في الأصل] تبطل كل نوع من الأقيسة، إن لم يتبين أن الوصف الذي ادعوه هو العلة دون هذا، (2) .   (1) كأن في العبارة سقط. (2) و «المعارضة في الأصل» يعني: العلة التي من أجلها ثبت الحكم، فإذا عارض الخصم فقال: هذه ليس بعلة، يقول المؤلف: «إنها تبطل كل نوع من أنواع الأقيسة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 الوجه الخامس: أنه ثبت بالنص والإجماع منع الصائم من الأكل والشرب والجماع، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» ، ولا ريب أن الدم يتولد من الطعام والشراب، وإذا أكل أو شرب اتسعت مجاري الشياطين؛ ولهذا قال: «فضيقوا مجاريه بالجوع» ، وبعضهم يذكر هذا اللفظ مرفوعا، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين» ، فإن مجاري الشياطين الذي هو (1) الدم ضاقت، وإذا ضاقت انبعثت القلوب إلى فعل الخيرات التي بها تفتح أبواب الجنة، وإلى ترك المنكرات التي بها تفتح أبواب النار، وصفدت الشياطين فضعفت قوتهم وعملهم بتصفيدهم (2) ، فلم يستطيعوا أن يفعلوا في شهر رمضان ما كانوا يفعلونه في غيره، ولم يقل: إنهم قتلوا، ولا ماتوا، بل قال: «صفدت» ، والمصفد من الشياطين قد يؤذي، لكن هذا أقل وأضعف مما يكون في غير رمضان، فهو بحسب كمال الصوم ونقصه، فمن كان صومه كاملا دفع الشيطان دفعاً لا يدفعه [] الصوم الناقص، فهذه المناسبة ظاهرة في منع الصائم من الأكل والشرب، والحكم ثابت على وفقه، وكلام الشارع قد دل على اعتبار هذا الوصف وتأثيره، وهذا [المعنى] (3)   (1) لعل الأصح: التي هي. (2) ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم الصوم وجاء لشهوة النكاح، فقال: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» [أخرجه البخاري في النكاح/باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من استطاع منكم الباءة فليتزوج» (4778) .] ؛ لأن الصوم يضيق المجاري، ويقلل نشوة الإنسان وفرحه وطربه وما أشبه ذلك، فتضعف شهوة النكاح في حقه، وهذا ظاهر، يعني: هذا مما يدل على كلام شيخ الإسلام رحمه الله أن الأكل والشرب إنما منع منهما لهذا السبب. (3) في نسخة: «وهذا المنع» ، وقوله: «وهذا المعنى» أظهر.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 منتف في الحقنة والكحل وغير ذلك. فإن قيل: بل الكحل قد ينزل إلى الجوف ويستحيل دما. قيل: هذا كما قد يقال في البخار الذي يصعد من الأنف إلى الدماغ، فيستحيل دما، وكالدهن الذي يشربه الجسم، والممنوع منه إنما هو ما يصل إلى المعدة فيستحيل دما ويتوزع على البدن. ونجعل هذا وجها سادسا: فنقيس الكحل والحقنة ونحو ذلك على البخور والدهن ونحو ذلك؛ لجامع ما يشتركان فيه من أن ذلك ليس مما يتغذى به البدن، ويستحيل في المعدة دما (1) ، وهذا الوصف هو الذي أوجب أن لا تكون هذه الأمور مفطرة، وهذا موجود في محل النزاع، والفرع قد يتجاذبه أصلان، فيلحق كلا منهما بما يشبهه من الصفات [المعتبرة في الشرع، وقد ذكرنا الصفة المعتبرة في الشرع. فإن قيل: فلو أكل ترابا أو حصى أو غير ذلك مما لا يغذي غذاء نافعا. قيل] : هذا تطبخه المعدة ويستحيل دما ينمي عنه البدن، لكنه غذاء ناقص، فهو كما لو أكل سما أو نحوه مما يضره، وهو بمنزلة من أكل أكلا كثيراً أورثه تخمة ومرضاً، فكان منعه في الصوم عن هذا أوكد؛ لأنه ممنوع عنه في الإفطار، [ففي] الصوم أوكد، وهذا كمنعه من الزنا (2) ، فإنه إذا منع من الوطء المباح فالمحظور أولى (3) .   (1) أي: ليس مما يتغذى به البدن، وليس مما يستحيل. (2) أي: منع الصائم. (3) وهنا إيراد ثان على هذه المسألة، فإن قيل: لو أكل خرزة أو حديدة أو ما أشبه ذلك مما لا يغذي إطلاقا، وليس فيه تغذية، فهل يفطر؟ المسألة فيها خلاف: فبعض العلماء يقول: إنه لا يفطر؛ لأنه لا غذاء في ذلك، وبعضهم يقول: إنه يفطر، وذلك لأنه أكل، يعني: صدق عليه أنه أكل، والآية عامة: {وكلوا واشربوا حتى يتبين} فإذا أكل ولو ما لاغذاء فيه أصلا فإنه يفطر بذلك، على أنه قد يقال: هذا الذي لايغذي أصلا لا بد أن تمتلئ به المعدة، فيغني عن الجوع، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يربط على بطنه الحجر من الجوع [أخرجه مسلم في الأشربة/ باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك وبتحققه تحققا تاما واستحباب الاجتماع على الطعام (2040) , عن أنس بن مالك, ولفظه: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فوجدته جالسا مع أصحابه يحدثهم، وقد عصب بطنه بعصابة، قال أسامة -أحد رواة الحديث-: وأنا أشك: على حجر، فقلت لبعض أصحابه: لم عصب رسول الله صلى الله عليه وسلم بطنه؟ فقالوا: من الجوع.] ؛ لأن المعدة تتلاءم فلا تتسع وتحتاج إلى طعام، فهنا نقول: إنه-أي: أكل ما لايغذي- لا يرد علينا؛ لسببين: السبب الأول: أنه داخل في العموم، فيسمى أكلا أو شربا. والسبب الثاني: أنه يملأ المعدة، فيحصل به تلاءم المعدة، فيمنعه من الجوع. والخرز ليس مثل الحصى، فالحصى يتفتت مهما كان، والمعدات-أي: معدات الحيوان- تختلف، فالنعامة تأكل الزجاج وهو يجرح الجلد، ومع ذلك تأكله وتهضمه، ويخرج منها، وأخبرني بعض الناس أنه وضع ساعة من الساعات الكبار التي توضع في الجيب أمام النعامة فتناولتها وأدخلتها، ورآها تجري في رقبتها وهي حديد! وأيضا القطا معروف بأنه يأكل المرو، والمرو حجر قوي جدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 فإن قيل: فالجماع مفطر، [ودم الحيض مفطر] ، وهذه العلة منتفية فيهما؟ قيل: تلك أحكام ثابتة بالنص والإجماع، فلا يحتاج إثباتها إلى القياس، بل يجوز أن تكون العلل مختلفة، فيكون تحريم الطعام والشراب والفطر بذلك لحكمة، وتحريم الجماع والفطر به لحكمة، والفطر بالحيض لحكمة، فإن الحيض لا يقال فيه: إنه يحرم، وهذا لأن المفطرات بالنص والإجماع لما انقسمت إلى أمور اختيارية تحرم على العبد كالأكل والجماع، وإلى أمور لا اختيار له فيها كدم الحيض، كذلك تنقسم عللها. فنقول: أما الجماع فإنه باعتبار أنه سبب إنزال المني يجري مجرى الاستقاءة والحيض والاحتجام -كما سنبينه إن شاء الله تعالى-، فإنه من نوع الاستفراغ، لا الامتلاء كالأكل والشرب. ومن جهة أنه إحدى الشهوتين فجرى مجرى الأكل والشرب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن الله تعالى: «قال: الصوم لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي» (1) ، فترك الإنسان ما يشتهيه لله هو عبادة مقصودة يثاب عليها، كما يثاب المحرم على ترك ما اعتاده من اللباس والطيب ونحو ذلك من نعيم البدن (2) .   (1) فصار على كلام الشيخ رحمه الله الجماع تتجاذبه علتان: العلة الأولى: الاستفراغ، والعلة الثانية: الشهوة، فالاستفراغ يكون مقيسا على الحجامة والقيء، والشهوة تكون مقيسة على الأكل والشرب، لكن العلة الأخيرة أوضح وأظهر وأعم، وأنه من أجل الشهوة، بدليل أنه قد يحصل جماع بلا إنزال، فتنخرم علة الاستفراغ. (2) لأن العبادات فعل وكف ولا بد منها، وإنما كان كذلك لأن من الناس من يسهل عليه الفعل دون الكف، ومن الناس من يسهل عليه الكف دون الفعل، فجمع الله تعالى في العبادات بين الفعل والكف، حتى يتبين أن الإنسان عابد لله حقيقة، لا عابد لهواه، إذا ترك الإنسان ما يشتهيه من الجماع وهو صائم فهذا عبادة، وإن كان لا يتغذى بالجماع، لكن نقول إن مجرد كونه يترك شهوته لله هو عبادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 والجماع من أعظم نعيم البدن وسرور النفس وانبساطها، وهو يحرك الشهوة والدم والبدن أكثر من الأكل، فإذا كان الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، والغذاء يبسط الدم الذي هو مجاريه، فإذا أكل أو شرب انبسطت نفسه إلى الشهوات، وضعفت إرادتها ومحبتها للعبادات، فهذا المعنى في الجماع أبلغ، فإنه يبسط إرادة النفس للشهوات، ويضعف إرادتها عن العبادات أعظم (1) ؛ بل الجماع هو غاية الشهوات، وشهوته أعظم من شهوة الطعام والشراب، ولهذا أوجب على المجامع كفارة الظهار، فوجب عليه العتق أو ما يقوم مقامه بالسنة والإجماع؛ لأن هذا أغلظ، وداعيه أقوى، والمفسدة به أشد، فهذا أعظم الحكمتين في تحريم الجماع (2) ،   (1) قوله رحمه الله: «ويضعف إرادتها عن العبادات» هذا باعتبار جنس بني آدم، لكن من بني آدم من يجعل جماعه عبادة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وفي بضع أحدكم صدقة» . قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟» قالوا: نعم. قال: «كذلك إذا وضعها في حلال، كان له أجر» [أخرجه مسلم في الزكاة/باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (1006) ] ، فيعتبر أن جماعه عبادة، ولا يصده عن عبادة الله عز وجل، وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه جميعا بغسل واحد [أخرجه مسلم في الحيض, باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له وغسل الفرج إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يجامع (309) .] ، ومع ذلك نعلم علم اليقين أنه أشد الناس عبادة لله عز وجل، لكن في الغالب أن الإنسان إذا انغمس في الشهوات غفل عن العبادات، قال الله تعالى: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات} [مريم 59] . (2) هذا ما أشرنا إليه فيما سبق، وهو أن حكمة كونه شهوة كالطعام والشراب أبلغ وأشمل من أن يكون الحكمة فيه أنه استفراغ.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وأما كونه يضعف البدن كالاستفراغ فذاك حكمة أخرى، فصار فيهما كالأكل والحيض، وهو في ذلك أبلغ منهما، فكان إفساده الصوم أعظم من إفساد الأكل والحيض. فنذكر حكمة الحيض وجريان ذلك على وفق القياس، فنقول: إن الشرع جاء بالعدل في كل شيء، والإسراف في العبادات من الجور الذي نهى عنه الشارع، وأمر بالاقتصاد في العبادات؛ ولهذا أمر بتعجيل الفطر وتأخير السحور، ونهى عن الوصال، وقال: «أفضل الصيام وأعدل الصيام صيام داود عليه السلام، كان يصوم يوما ويفطر يوما، ولا يفر إذا لاقى» (1) ، فالعدل في العبادات من أكبر مقاصد الشارع؛ ولهذا قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} الآية، فجعل تحريم الحلال من الاعتداء المخالف للعدل، وقال تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه} ، فلما كانوا ظالمين عوقبوا بأن حرمت عليهم الطيبات؛ بخلاف الأمة الوسط العدل فإنه أحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث (2) .   (1) الحكمة في قوله: «ولا يفر إذا لاقى» هي: أن كونه يصوم يوما ويفطر يوما لا يضعفه عن الصبر عند لقاء العدو، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يشير إلى أن الإنسان لو صام مواصلا لأضعفه عن الصبر عند ملاقاة العدو. (2) فإذا قال قائل: هذا الآن مفقود في الشريعة الإسلامية، بمعنى أن الحلال حلال، والحرام حرام، فلو ظلم الإنسان نفسه فهل يمكن أن يعاقب بتحريم الحلال والطيبات؟ قلنا: شرعا لا يمكن، وأما قدرا فيمكن، بأن يصاب بفقر، أو يصاب بمرض ويمنع من بعض الأطعمة، أو ما أشبه ذلك، فالتحريم الشرعي انتهى وقته، لكن التحريم القدري لم ينته وقته، فربما يحرم الإنسان الرزق من الطيبات بظلم نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وإذا كان كذلك فالصائم قد نهي عن أخذ ما يقويه ويغذيه من الطعام والشراب، فينهى عن إخراج ما يضعفه ويخرج مادته التي بها يتغذى، وإلا فإذا مكن من هذا ضره، وكان متعديا في عبادته لا عادلا. والخارجات نوعان: نوع يخرج لا يقدر على الاحتراز منه، أو على وجه لا يضره، فهذا لا يمنع منه كالأخبثين، فإن خروجهما لا يضره، ولا يمكنه الاحتراز منه أيضا، ولو استدعى خروجهما فإن خروجهما لا يضره، بل ينفعه، وكذلك إذا ذرعه القيء لا يمكنه الاحتراز منه، وكذلك الاحتلام في المنام لا يمكنه الاحتراز منه. وأما إذا استقاء، فالقيء يُخرج ما يتغذى به من الطعام والشراب المستحيل في المعدة، وكذلك الاستمناء مع ما فيه من الشهوة، فهو يخرج المني الذي هو مستحيل في المعدة عن الدم، فهو يخرج الدم الذي يتغذى به، ولهذا كان خروج المني إذا أفرط فيه يضر الإنسان ويخرج أحمر. والدم الذي يخرج بالحيض فيه خروج الدم، والحائض يمكنها أن تصوم في غير أوقات الدم في حال لا يخرج فيها دمها، فكان صومها في تلك الحال صوما معتدلا لا يخرج فيه الدم الذي يقوي البدن الذي هو مادته، وصومها في الحيض يوجب أن يخرج فيه دمها الذي هو مادتها، ويوجب نقصان بدنها وضعفها، وخروج صومها عن الاعتدال، فأمرت أن تصوم في غير أوقات الحيض، بخلاف المستحاضة؛ فإن الاستحاضة تعم أوقات الزمان، وليس لها وقت تؤمر فيه بالصوم، وكان ذلك لا يمكن الاحتراز منه، كذرع القيء وخروج الدم بالجراح والدمامل والاحتلام، ونحو ذلك مما ليس له وقت محدد يمكن الاحتراز منه، فلم يُجعل هذا منافيا للصوم كدم الحيض (1) .   (1) يفهم من هذا أن المستحاضة تصوم، مع أنه يلحقها ضعف بخروج الدم منها، فإذا كانت لا تحتمل الصيام من أجل ضعفها، فالغالب أن المستحاضة لا يرجى زوال مرضها، فتطعم عن كل يوم مسكينا، كغيرها من ذوي المرض الذي لا يرجى برؤه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وطرد هذا إخراج الدم بالحجامة والفصاد ونحو ذلك، فإن العلماء متنازعون في الحجامة هل تفطر الصائم أم لا؟ والأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «أفطر الحاجم والمحجوم» كثيرة قد بينها الأئمة الحفاظ، وقد كره غير واحد من الصحابة الحجامة للصائم، وكان منهم من لا يحتجم إلا بالليل، وكان أهل البصرة إذا دخل شهر رمضان أغلقوا حوانيت الحجامين، والقول بأن الحجامة تفطر مذهب أكثر فقهاء الحديث كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهم، وأهل الحديث الفقهاء فيه العاملون به أخص الناس باتباع محمد صلى الله عليه وسلم (1) . والذين لم يروا إفطار المحجوم احتجوا بما ثبت في «الصحيح» : أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم. وأحمد وغيره طعنوا في هذه الزيادة، وهي قوله: (وهو صائم) ، وقالوا: الثابت أنه احتجم وهو محرم. قال أحمد: قال يحيى بن سعيد: قال شعبة: لم يسمع الحكم حديث مِقْسم في الحجامة للصائم. يعني: حديث شعبة عن الحكم عن مِقْسم عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم.   (1) المؤلف - رحمه الله - اشترط ثلاثة شروط: الأول: أهل الحديث، والثاني: الفقهاء فيه، والثالث: العاملون به، فهؤلاء أخص الناس بالرسول صلى الله عليه وسلم. وهناك أهل حديث ينقلونه رواية لكن ليس لهم به دراية وفقها، فهؤلاء يدخلون في قول الرسول: صلى الله عليه وسلم «رب مبلغ أوعى من سامع» [أخرجه البخاري في الحج/باب الخطبة أيام منى (1741) .] ، ولا شك أنهم مثابون ومأجورون على عملهم وعلى اجتهادهم، لكن إذا اجتمع أهل حديث وفقهاء وعاملون به، كالإمام أحمد رحمه الله مثلا، تمت الشروط، أي: شروط تحقيق وتحقق المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 قال مهنا: سألت أحمد عن حديث حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم، فقال: ليس بصحيح، وقد أنكره يحيى بن سعيد الأنصاري. قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله رد هذا الحديث فضعفه، وقال: كانت كتب الأنصاري ذهبت في أيام المنتصر، فكان بعد يحدث من كتب غلامه، وكان هذا من تلك. وقال مهنا: سألت أحمد عن حديث قبيصة عن سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ... إلخ، فقال: هو خطأ من قبل قبيصة. وسألت يحيى عن قبيصة، فقال: رجل صدق، والحديث الذي يحدث به عن سفيان عن سعيد خطأ من قبله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 قال مهنا: سألت أحمد عن حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم صائم، فقال: ليس فيه «صائم» إنما هو محرم، ذكره سفيان عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم على رأسه وهو محرم (1) . وعن طاوس وعطاء مثله عن ابن عباس، وعن عبد الرزاق عن معمر عن ابن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله، وهؤلاء أصحاب ابن عباس لا يذكرون صائما. قلت: وهذا الذي ذكره الإمام أحمد هو الذي اتفق عليه الشيخان البخاري ومسلم، ولهذا أعرض مسلم عن الحديث الذي ذكر حجامة الصائم، ولم يثبت إلا حجامة المحرم.   (1) قوله رضي الله عنه: «احتجم النبي (على رأسه وهو محرم» من المعلوم أن الحجامة تحتاج إلى حلق؛ لأنه لا يمكن أن يحتجم الإنسان وعليه شعر - ولا سيما مثل شعر النبي صلى الله عليه وسلم - إلا بحلق، فقد حلق النبي صلى الله عليه وسلم موضع الحجامة بلا شك، ولم يُذكر أنه فدى، ولما احتاج كعب بن عجرة رضي الله عنه إلى حلق رأسه كله أُمر بالفدية [أخرجه البخاري في المحصر/باب الإطعام في الفدية نصف صاع (1816) ؛ ومسلم في الحج/باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى ووجوب الفدية لحلقه وبيان قدرها (1201) .] ، فما الفرق؟ يقال: الفرق أن الحجامة لا تستوعب كل الرأس، وإنما تستوعب جزءا يسيرا منه، فيؤخذ من ذلك أن ما ذكره بعض الفقهاء أن الإنسان إذا أخذ ثلاث شعرات من رأسه وجبت عليه الفدية، وبعضهم يقول: إذا أخذ ربع الرأس وجبت عليه الفدية، والربع قد يكون غير معارض لهذا الحديث، لكن ثلاث شعرات قطعا معارض لهذا الحديث، ولهذا كان الصحيح في هذه المسألة أنه لا يفدي من حلق شيئا من رأسه إلا إذا أزال منه ما يزول به الأذى، أي: ما يماط به الأذى، وأما الشيء اليسير فإنه يحرم عليه، لكن ليس فيه الفدية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وتأولوا أحاديث الحجامة بتأويلات ضعيفة، كقولهم: كانا يغتابان، وقولهم أفطرا لسبب آخر (1) .   (1) قولهم رحمهم الله: «أفطرا لسبب آخر» هذا في الحقيقة من التحريف البالغ، فإذا قال -مثلا-: كانا يغتابان، يعني مر بهما النبي صلى الله عليه وسلم وكانا يغتابان، فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم» ، هذا غلط عظيم؛ لأنه لا يمكن أن يذكر وصفا هو مناط الحكم، ثم يلغي الوصف الذي هو مناط الحكم؛ لأنه لو كان إفطارهما من أجل الغيبة لقال: أفطرا المغتابان، ولا يقول: أفطر الحاجم والمحجوم، فيكف يمكن أن نثبت معنى علق عليه الحكم في الحديث، ونلغي ما ذكر في الحديث؟! هذا من التحريف الذي فيه الخطأ من وجهين: الوجه الأول: إثبات علة لم يذكرها الشارع. والوجه الثاني: نفي علة ذكرها الشارع، فهذا غير مستقيم. وكذلك قولهم: إنهما أفطرا لسبب آخر، فأين السبب الآخر؟ ثم إن الحاجم اسم فاعل، والمحجوم اسم مفعول، فهما وصفان مشتقان، فيفيدان العلية، كما لو قلت: أكرم المجتهد، يعني لاجتهاده، وهذا الذي يدل عليه المشتق: «أفطر الحاجم» أي: لكونه حَجم. و «أفطر المحجوم» يعني: لكونه حُجم، والمهم أن هذه تأويلات باردة في الواقع، وهذه كما توجد أيضا في الأحكام الفقهية توجد أيضا في الأحكام العلمية العقدية، كما فعل أهل التحريف المعطلة الذين قالوا: المراد بعين الله كذا، المراد بيده كذا، المراد بقدمه كذا، فهم جنوا على النصوص من وجهين: الوجه الأول: نفي ما دلت عليه. والوجه الثاني: إثبات ما لم تدل عليه. ولهذا نكرر دائما ونقول: استدلوا قبل أن تحكموا؛ لأن الشرع هو البينة، ولا يمكن أن يحكم الإنسان إلا بوجود البينة، أما أن تحكموا أولا ثم تستدلوا فثقوا أنكم سوف تنجرفون؛ لأن الإنسان لابد مع الهوى أن يتجانب، فالواجب على الإنسان أن يستدل أولا ثم يحكم ثانيا، سواء كان ذلك في العقيدة، أو في الأحكام الفقهية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وأجود ما قيل ما ذكره الشافعي وغيره: أن هذا منسوخ، فإن هذا القول كان في رمضان، واحتجامه وهو محرم كان بعد ذلك؛ لأن الإحرام بعد رمضان. وهذا أيضا ضعيف، بل هو صلوات الله عليه أحرم سنة ست عام الحديبية بعمرة في ذي القعدة، وأحرم من العام القابل بعمرة القضية في ذي القعدة، وأحرم من العام الثالث سنة الفتح من الجعرانة في ذي القعدة بعمرة، وأحرم سنة عشر بحجة الوداع في ذي القعدة، فاحتجامه صلى الله عليه وسلم وهو محرم صائم لم يبين في أي الإحرامات كان؟ [وإنما يمكن دعوى النسخ بشرطين: أحدهما: أن يكون ذلك في حجته، أو في عمرة الجعرانة؛ فإن قوله: «أفطر الحاجم والمحجوم» فيه أنه كان في غزوة الفتح، فلعل احتجامه كان في عمرته قبل هذا، إما عمرة القضية، وإما عمرة الحديبية. الثاني: أن يعلم أنه لمَّا احتجم لم يفطر، وليس في هذا الحديث ما يدل على هذا، وذلك الصوم لم يكن شهر رمضان، فإنه لم يحرم في شهر رمضان، وإنما كان في السفر، والصوم في السفر لم يكن واجباً؛ بل الذي ثبت عنه في الصحيح: أن الفطر في السفر كان آخر الأمرين منه، وأنه خرج عام الفتح حتى إذا بلغ كديد أفطر، والناس ينظرون إليه، ولم يعرف بعد هذا أنه صام في سفر، ولا علمنا أنه صام في إحرامه بالحج] . والذي يقوي أن إحرامه الذي احتجم فيه كان قبل فتح مكة: قوله: «أفطر الحاجم والمحجوم» فإنه كان عام الفتح بلا ريب، هكذا في أجود الأحاديث، وروى أحمد بإسناده عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على رجل يحتجم في رمضان، قال: «أفطر الحاجم والمحجوم» . وقال أحمد: أنبأنا إسماعيل عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن [أبي] الأشعث عن شداد بن أوس أنه مر مع النبي صلى الله عليه وسلم زمن الفتح على رجل محتجم بالبقيع، لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان، فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 [وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا إسماعيل قال: ثنا هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على رجلٍ يحتجم في رمضان، فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم» . وقال: حدثنا أبو الجواب، عن عمار بن زريق، عن عطاء بن السائب قال: حدثني الحسن، عن معقل بن سنان الأشجعي أنه قال: مرَّ عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أحتجم في ثمان عشرة خلت من رمضان، فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم» . وذكر الترمذي عن علي بن المديني أنه قال: أصح شيءٍ في هذا الباب حديث ثوبان، وحديث شداد بن أوس] . وقال الترمذي: سألت البخاري، فقال: ليس في هذا الباب أصح من حديث شداد بن أوس، وحديث ثوبان. فقلت: وما فيه من الاضطراب؟ فقال: كلاهما عندي صحيح؛ لأن يحيى بن سعيد روى عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان، [و] عن أبي الأشعث عن شداد الحديثين جميعاً. قلت: وهذا الذي ذكره البخاري من أظهر الأدلة على صحة كلا الحديثين اللذين رواهما أبو قلابة ... [فإن الذي قال: مضطرب، إنما هو لأنه روي عن أبي قلابة بإسنادين، فبين أن يحيى بن سعيد الإمام روى عن أبي قلابة بهذا الإسناد، وهذا الإسناد، ومثل هذا كان يكون عنده الحديث بطرق، والزهري روى الحديث بإسناده عن سعيد عن أبي هريرة، وتارة عن غيره عن أبي هريرة. فيكون هذا هو الناسخ، ولو لم يعلم التاريخ، فإذا تعارض خبران أحدهما ناقلٌ عن الأصل والآخر مبقٍ على الأصل كان الناقل هو الذي ينبغي أن يجعل ناسخاً، لئلا يلزم تغير الحكم مرتين، فإذا قدر احتجامه قبل نهيه الصائم عن الحجامة لم يغير الحكم الأمر، وإن قدر بعد ذلك لزم تغييره مرتين. وأيضاً فإذا لم يكن الصوم واجباً فقد يكون أفطر بالحجامة للحاجة، فقد كان يفطر في صوم التطوع لما هو دون ذلك؛ يدخل إلى بيته، فإن قالوا: عندنا طعام، قال: «قربوه؛ فإني أصبحت صائماً» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وابن عباس وإن لم يعلم ما في نفسه، غايته أنه رآه أو أخبره من رآه أنه أصبح صائماً واحتجم، وهذا لا يقتضي أنهم علموا من نفسه أنه استمر صومه، وكأن من ادعى عليه النسخ تغْلُبُ عليه هذه الحجة من وجهين: أحدهما: أنه لا حجة فيه؛ والثاني: أنه منسوخ. وقد روي ما يدل على أن الفطر هو الناسخ، ومما احتج به على النسخ: ما رواه الدارقطني: حدثنا البغوي قال: ثنا عثمان بن أبي شيبة قال: ثنا خالد بن مخلد، عن عبد الله بن المثنى، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: أولُ ما كرهنا الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمرَّ به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أفطر هذان» . ثم رخَّص النبي صلى الله عليه وسلم بالحجامة للصائم. وكان أنس يحتجم وهو صائم. قال الدارقطني: كلهم ثقات، ولا أعلم له علة. قال أبو الفرج ابن الجوزي: قال أحمد بن حنبل: خالد بن مخلد له أحاديث مناكير. قلت: ومما يدل على أن هذا من مناكيره: أنه لم يروه أحد من أهل الكتب المعتمدة، مع أنه في الظاهر على شرط البخاري، والمشهور عن البصريين أن الحجامة تفطر، وأيضاً: فجعفر بن أبي طالب إنما قدم من الحبشة عامَ خيبر في آخر سنة ست، أو أول سنة سبع، فإن خيبر كانت في هذه المدة في سنة سبع، وقيل: عام مؤتة قبل الفتح، ولم يشهد فتح مكة، فصام مع النبي صلى الله عليه وسلم واحداً سنة سبع، وإذا كان هذا الحكم قد شرع في ذلك العام فإنه ينشر ويظهر، والحديث المتقدم كان سنة ثمانٍ بعد هذا، فإن كان هذا محفوظاً فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك في عام بعد عام، ولم ينقل عنه أحد لفظاً ثابتاً أنه رخص في الحجامة بعد ذلك، فلعل هذا مدرج عن أنس لم يقله هو، ولعل أنساً بلغه أنه أرخص ولم يسمع ذلك منه، ولعل بعض التابعين حدثه بذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 ومما يبين أن هذا ليس بمحفوظٍ عن أنس ولا عن ثابت: ما رواه البخاري في «صحيحه» عن ثابت قال: سئل أنس بن مالك: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا، إلا من أجل الضعف. وفي رواية: على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا ثابت يذكر عن أنس أمر الحجامة، وليس فيها إلا أنهم كانوا يكرهونها من أجل الضعف، ليس فيها أنه فطر الحاجم، ولا أنه رخص فيها بعد ذلك، وكلاهما يناقض قوله: لم يكونوا يكرهونها إلا من أجل الضعف، فإنه لو كان علم أنه فطر بها لم يقل هذا، ولو علم أنه رخص فيها لم يكره ما أرخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم فعلم أن أنساً إنما كان عنده علم بما رآه من الصحابة من كراهة الحجامة لأجل الضعف، وهذا معنى صحيح، وهو العلة في إفطار الصائم كما يفطر بالاستقاءة، وتفطر المرأة بدم الحيض] . ومما يقوي أن الناسخ هو الفطر بالحجامة أن ذلك رواه عنه خواص أصحابه الذين كانوا يباشرونه حضرا وسفرا، ويطلعون على باطن أمره، مثل بلال وعائشة، ومثل أسامة وثوبان مولياه، ورواه عنه الأنصار الذين هم بطانته، مثل: رافع بن خديج وشداد بن أوس. وفي «مسند أحمد» : [ثنا عبد الرزاق، قال: ثنا معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن قارظ، عن السائب بن يزيد] عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفطر الحاجم والمحجوم» . قال أحمد: أصح شيء في هذا الباب حديث رافع. [وقال أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، عن أشعث الحراني، عن أسامة بن زيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفطر الحاجم والمحجوم» . وقال أحمد: حدثنا يزيد بن هارون قال: ثنا أبو العلاء، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن بلال قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفطر الحاجم والمحجوم» . وقال أحمد: حدثنا علي بن عبد الله قال: ثنا عبد الوهاب الثقفي قال: ثنا يونس بن عبيد، عن الحسن، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أفطر الحاجم والمحجوم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وقال أحمد: حدثنا أبو النضر قال: ثنا أبو معاوية، عن سفيان، عن ليث، عن عطاء، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفطر الحاجم والمحجوم» . والحسن البصري وإن قيل: إنه لم يسمع من أسامة وأبي هريرة، فقد كان عنده من هذا الباب عدة أحاديث عن الصحابة يفتي بها، عن معقل بن سنان وأسامة وأبي هريرة، قال البخاري: وكان الحسن ... وكانت البصرة إذا دخل شهر رمضان يغلقون حوانيت الحجامين، ذكره أحمد وغيره، وأنس بن مالك كان آخر من مات بالبصرة، والبصريون كلهم يأخذون عنه، فلو كان عند أنس سنة من النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخص فيها بعد النهي، لكان هذا مما يعرفه البصريون منه، وكانوا يأخذون به الحسن وأصحابه، لاسيما وقد ذكر أن ثابتاً سمع هذا من أنس، وثابت من مشايخها المشهورين، من أخص أصحاب الحسن، فكيف يكون أنس عنده هذه السنة وأهل البصرة قد اشتهر بينهم السنة المنسوخة، وهذه الناسخة عند أنس، وهم يأخذون (1) ليلاً ونهاراً، ولا يعرفون هذه السنة، ولا تحفظ عن علمائهم الذين اشتهر عنهم أمر الفطر؟! ويؤيد ذلك أن أبا قلابة هو أيضاً من أخص أصحاب أنس، وهو الذي يروي قوله: «أفطر الحاجم والمحجوم» من طريقين. ثم القائلون بأن الحجامة تفطر] اختلفوا [على أربعة] أقوال [في مذهب أحمد وغيره] : أحدها: يفطر المحجوم دون الحاجم، [فإن الحاجم لم يوجد منه ما يفطر] ، وهذا الذي ذكره الخرقي؛ فإنه ذكر في المفطرات: «إذا احتجم» ، ولم يذكر: إذا حجم, لكن المنصوص عن أحمد وجمهور أصحابه الإفطار بالأمرين، والنص دال على ذلك، فلا سبيل إلى تركه، [ولو لم نعقل علته] .   (1) لعلها: «يأخذون عنه» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 والثاني: أنه يفطر المحجوم الذي يحتجم ويخرج منه الدم، ولا يفطر بالافتصاد ونحوه؛ لأنه لا يسمى احتجاما، وهذا قول القاضي وأصحابه، فالتشريط في الآذان هل هو داخل في مسمى الحجامة؟ تنازع فيه المتأخرون، فبعضهم يقول: التشريط كالحجامة (1) كما يقوله شيخنا أبو محمد المقدسي، وعليه يدل كلام العلماء قاطبة، فليس منهم من خص التشريط بذكر، ولو كان عندهم لا يدخل في الحجامة لذكروه كما ذكروا الفصاد، فعلم أن التشريط عندهم من نوع الحجامة، وقال شيخنا أبو محمد: هذا هو الصواب. [ومنهم من قال: التشريط ليس من الحجامة؛ بل هو أضعف من الفصاد، فإذا قيل: الفصاد لا يفطر، احتمل التشريط وجهين، وهذا قول أبي عبد الله بن حمدان. والأول أصح، فإن التشريط نوع من الحجامة أو مثلها من كل وجه، إذ الحجامة لا تختص بالساق؛ بل تكون في الرأس والعنق والقفا وغير ذلك، ومن فرَّق بينهما قال: الشارط لا يمتص من قارورة الدم كما يمتص الحاجم، فلا يدخل في لفظ «الحاجم» ، وكذلك لا يدخل في لفظ «المحجوم» ، فيقال: بل هو داخل في لفظ «المحجوم» ، وإن لم يدخل في لفظ «الحاجم» ، أو إن لم يدخل في اللفظ فهو مثله من كل وجه، وليس بينهما فرق أصلاً، وقد يقال: الشارط حاجم أيضاً، لكن لا يفطر، لأن لفظ الرسول (يتناول الحاجم المعروف المعتاد، ولم يكونوا يشرطون، وأما لفظ «المحجوم» فإنه يتناول ما كان يعرفه وما لا يعرفه؛ لأن المعنى المدلول عليه بلفظ «المحجوم» يتناول ذلك كله، بخلاف المعنى المقصود بلفظ «الحاجم» ، أو يقال: وإن شمله لفظ «الحاجم» لكن الحاجم الممتص أقوى؛ لأنه ذريعة إلى وصول الدم إلى حلقه، هذا على ما نصرناه. ومنهم من يقول: بل الشارط يفطر أيضاً، وهو قول من يجعل اللفظ يتناولهما، ويجعل الحكم تعبداً. وهؤلاء الذين قالوا: يفطر بالحجم دون الفصاد، قالوا: هذا الحكم تعبد لا يعقل معناه، فلا يقاس عليه.   (1) في نسخة: «من الحجامة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وقال لهذا (1) بعض هؤلاء قولاً تالفا (2) ، قاله ابن عقيل، وهو: أنه يفطر المحجوم بنفس شرط الجلد، وإن لم يخرج الدم، قال: لأن هذا يسمى حجامة. وهذا أضعف الأقوال] . والرابع: وهو الصواب واختاره أبو المظفر ابن هبيرة الوزير العالم العادل وغيره، أنه يفطر بالحجامة والفصاد ونحوهما، وذلك لأن المعنى الموجود في الحجامة موجود في الفصاد شرعا وطبعا، وحيث حض النبي صلى الله عليه وسلم على الحجامة وأمر بها فهو حض على ما في معناها من الفصاد وغيره؛ لكن الأرض الحارة تجتذب الحرارة فيها دم البدن فيصعد إلى سطح الجلد فيخرج بالحجامة، والأرض الباردة يغور الدم فيها إلى العروق هربا من البرد، فإن شبه الشيء منجذب إليه، كما تسخن الأجواف في الشتاء، وتبرد في الصيف، فأهل البلاد الباردة لهم الفصاد وقطع العروق، كما للبلاد الحارة الحجامة، لا فرق بينهما في شرع ولا عقل. وقد بينا أن الفطر بالحجامة على وفق الأصول والقياس، وأنه من جنس الفطر بدم الحيض والاستقاءة وبالاستمناء، وإذا كان كذلك فبأي وجه أراد إخراج الدم أفطر، كما أنه بأي وجه أخرج القيء أفطر، سواء جذب القيء بإدخال يده، أو بشم ما يقيئه، أو وضع يده تحت بطنه واستخرج القيء، فتلك طرق لإخراج القيء، وهذه طرق لإخراج الدم، ولهذا كان خروج الدم بهذا وهذا سواء في باب الطهارة، فتبين بذلك كمال الشرع واعتداله وتناسبه، وأن ما ورد من النصوص ومعانيها فإن بعضه يصدق بعضا ويوافقه، {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً} .   (1) أي: لأجل هذا التعليل؛ لكونه تعبدا. (2) لعلها: «ثالثا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وأما الحاجم فإنه يجتذب الهواء الذي في القارورة بامتصاصه، والهواء يجتذب ما فيها من الدم، فربما صعد مع الهواء شيء من الدم ودخل في حلقه وهو لا يشعر، والحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم بالمظنة، كما أن النائم الذي تخرج منه الريح ولا يدري يؤمر بالوضوء، فكذلك الحاجم يدخل شيء من الدم مع ريقه إلى بطنه وهو لا يدري، والدم من أعظم المفطرات، فإنه حرام في نفسه لما فيه من طغيان الشهوة، والخروج عن العدل، والصائم أمر بحسم مادته، فالدم يزيد الدم فهو من جنس المحظور، فيفطر الحاجم لهذا، كما ينتقض وضوء النائم، وإن لم يستيقن خروج الريح منه؛ لأنه يخرج ولا يدري، وكذلك الحاجم قد يدخل الدم في حلقه وهو لا يدري. وأما الشارط فليس بحاجم، وهذا المعنى منتف فيه، فلا يفطر الشارط، وكذلك لو قدر حاجم لا يمص القارورة، بل يمتص غيرها، أو يأخذ الدم بطريق أخرى لم يفطر، والنبي صلى الله عليه وسلم كلامه خرج على الحاجم المعروف المعتاد، وإذا كان اللفظ عاما وإن كان قصده شخصا بعينه فيشترك في الحكم سائر النوع؛ للعادة الشرعية من أن ما ثبت في حق الواحد من الأمة ثبت في حق الجميع، فهذا أبلغ، فلا يثبت بلفظه ما يظهر لفظا ومعنى أنه لم يدخل فيه مع بعده عن الشرع والعقل (1) ،   (1) المؤلف رحمه الله ذكر ثلاثة أشياء: الحجامة, والشرط, والفصد, فأما الحجامة: فمعروفة, والشرط: أن يشق العرق طولا ويخرج الدم, وأما الفصد: فأن يجرح العرق عرضا فيخرج الدم. وما قاله الشيخ رحمه الله هو الصواب, وعلى هذا فإذا قدر حجامة بالآلات الحديثة لا يمتص فيها الحاجم قارورة الدم فإنه لا يفطر بذلك, كما أن الفاصد لا يفطر, والشارط لا يفطر أيضا, والله أعلم. نسأل الله تعالى أن يبارك لنا ولكم في شهرنا, وأن يعيننا وإياكم على طاعته, وأن يجعلنا ممن يصومه ويقومه إيمانا واحتسابا إنه على كل شيء قدير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 والله أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم تسليما كثيراً. أسئلة وأجوبة والتعليق عليها سئل شيخ الإسلام رحمه الله: عن صوم يوم الغيم هل هو واجب أم لا؟ وهل هو يوم شك منهي عنه أم لا؟ فأجاب: وأما صوم يوم الغيم إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو قتر، فللعلماء فيه عدة أقوال، وهي في مذهب أحمد وغيره: أحدها: أن صومه منهي عنه، ثم هل هو نهي تحريم؟ أو تنزيه؟ على قولين، وهذا هو المشهور في مذهب مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه، واختار ذلك طائفة من أصحابه، كأبي الخطاب، وابن عقيل، وأبي القاسم بن منده الأصفهاني، وغيرهم. والقول الثاني: أن صيامه واجب، كاختيار القاضي والخرقي وغيرهما من أصحاب أحمد، وهذا يقال: إنه أشهر الروايات عن أحمد، لكن الثابت عن أحمد لمن عرف نصوصه وألفاظه أنه كان يستحب صيام يوم الغيم اتباعا لعبد الله بن عمر وغيره من الصحابة، ولم يكن عبد الله بن عمر يوجبه على الناس، بل كان يفعله احتياطا، وكان الصحابة فيهم من يصومه احتياطا، ونقل ذلك عن عمر وعلي ومعاوية وأبي هريرة وابن عمر وعائشة وأسماء وغيرهم، ومنهم من كان لا يصومه، مثل كثير من الصحابة، ومنهم من كان ينهى عنه، كعمار بن ياسر وغيره، فأحمد رضي الله عنه كان يصومه احتياطا، وأما إيجاب صومه فلا أصل له في كلام أحمد ولا كلام أحد من أصحابه؛ لكن كثيرا من أصحابه اعتقدوا أن مذهبه إيجاب صومه، ونصروا ذلك القول. والقول الثالث: إنه يجوز صومه ويجوز فطره، وهذا مذهب أبي حنيفة وغيره، وهو مذهب أحمد المنصوص الصريح عنه، وهو مذهب كثير من الصحابة والتابعين أو أكثرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وهذا كما أن الإمساك عند الحائل عن رؤية الفجر جائز، فإن شاء أمسك، وإن شاء أكل حتى يتيقن طلوع الفجر، وكذلك إذا شك هل أحدث؟ أم لا؟ إن شاء توضأ، وإن شاء لم يتوضأ، وكذلك إذا شك هل حال حول الزكاة؟ أو لم يحل؟ وإذا شك هل الزكاة الواجبة عليه مائة؟ أو مائة وعشرون؟ فأدى الزيادة (1) .   (1) هذه المسائل متعددة، منها: إذا شك في طلوع الفجر أو لا؟ فله أن يأكل وله أن يمسك؛ لأن الله تعالى قال: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} ، فإن من أمسك فقد بنى على الأصل، وهو أن الأصل بقاء الليل، وإن أكل فهو الموافق لقوله تعالى: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} ، لكن أحيانا يغلب على ظنه أنه طلع الفجر، فيحتاط بالإمساك. وكذلك أيضا إذا شك هل أحدث أو لا؟ فالأصل أنه لا يتوضأ، لكن لو توضأ فلا بأس، إلا إذا خاف أن ينفتح عليه باب الوسواس فإنه لا يلتفت لهذا الشك، ولا يعمل به، ولا يحتاط له. وإذا شك هل حال حول الزكاة، أو لم يحل؟ فهذا أيضا إن شاء أخرج الزكاة، وإن شاء لم يخرج؛ لأن الأصل عدم تمام الحول، فله أن يؤخر إخراج الزكاة حتى يتيقن، وذلك لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، لكن قد يقوى في ظن الإنسان أنه انتقل عن الأصل، وقد يقوى أنه بقي على الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وأصول الشريعة كلها مستقرة على أن الاحتياط ليس بواجب ولا محرم (1) ، ثم إذا صامه بنية مطلقة أو بنية معلقة بأن ينوي إن كان من شهر رمضان كان عن رمضان وإلا فلا (2) ، فإن ذلك يجزيه في مذهب أبي حنيفة وأحمد في أصح الروايتين عنه، وهي التي نقلها المروذي وغيره، وهذا اختيار الخرقي في «شرحه للمختصر» ، واختيار أبي البركات وغيرهما. والقول الثاني: أنه لا يجزئه إلا بنية أنه من رمضان كإحدى الروايتين عن أحمد، اختارها القاضي وجماعة من أصحابه (3) . * * * وسئل رحمه الله: عن المسافر في رمضان، ومن يصوم ينكر عليه، وينسب إلى الجهل، ويقال له: الفطر أفضل.   (1) قوله: «ليس بواجب» في باب ما يفعل «ولا محرم» في باب ما يترك، وعلى هذا فإذا رأيت مثلا في كلام الإمام أحمد - رحمه الله - أو غيره من العلماء: «هذا أحوط» فلا يعنون أنه واجب فيما يفعل، ولا أنه حرام فيما يترك، بل هذا أرجح. (2) فيه قول لم يشر إليه المؤلف -رحمه الله-، لكنه أشار إليه غيره، وهو أن الناس يتبعون الإمام في يوم الغيم والشك، إن صام صاموا، وإلا فلا، فإذا كانوا تحت ولاية يرى السلطان الأعظم -يعني الرئيس الأعلى في الدولة-أنه يجب صوم يوم الغيم وجب على الناس أن يتبعوه؛ لئلا يختلفوا، وإلا فلا يصومون، وهذا رواية عن الإمام أحمد -رحمه الله-، والمسألة فيها سبعة أقوال، لكن ذكر المؤلف -رحمه الله- الأقوال المشهورة، وسكت عن الأقوال التي ليست بمشهورة، ومسألة أنهم يتبعون الإمام قول مشهور معروف. (3) والصحيح القول الأول، وعلى هذا فإذا نام الإنسان ليلة الثلاثين من شعبان بنية أنه إن كان من رمضان فهو صائم، وإلا فهو مفطر، ثم لم يستيقظ إلا بعد طلوع الفجر، وقيل له: إن الناس قد صاموا، فإنه يستمر في صومه، ويجزئه عن صوم رمضان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وما هو مسافة القصر؟ وهل إذا أنشأ السفر من يومه يفطر؟ وهل يفطر السفار من المكارية والتجار والجمال والملاح وراكب البحر؟ وما الفرق بين سفر الطاعة وسفر المعصية؟ فأجاب: الحمد لله، الفطر للمسافر جائز باتفاق المسلمين، سواء كان سفر حج، أو جهاد، أو تجارة، أو نحو ذلك من الأسفار التي لا يكرهها الله ورسوله. وتنازعوا في سفر المعصية، كالذي يسافر ليقطع الطريق ونحو ذلك، على قولين مشهورين، كما تنازعوا في قصر الصلاة. فأما السفر الذي تقصر فيه الصلاة فإنه يجوز فيه الفطر مع القضاء باتفاق الأئمة، ويجوز الفطر للمسافر باتفاق الأئمة، سواء كان قادرا على الصيام أو عاجزا، وسواء شق عليه الصوم أو لم يشق، بحيث لو كان مسافرا في الظل والماء، ومعه من يخدمه، جاز له الفطر والقصر. ومن قال: إن الفطر لا يجوز إلا لمن عجز عن الصيام، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل (1) . وكذلك من أنكر على المفطر فإنه يستتاب من ذلك. ومن قال: إن المفطر عليه إثم فإنه يستتاب من ذلك فإن هذه الأحوال خلاف كتاب الله، وخلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلاف إجماع الأمة. وهكذا السنة للمسافر أنه يصلي الرباعية ركعتين والقصر أفضل له من التربيع عند الأئمة الأربعة: كمذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد والشافعي في أصح قوليه.   (1) قوله: «ومن قال: إن الفطر لا يجوز، إلا لمن عجز عن الصيام فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل» وذلك لإظهار هذه البدعة المنكرة التي تصادم النص؛ لأن النص صريح: {ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} ، وكذلك من أنكر على المفطر فإنه يستتاب من ذلك، فإن تاب وإلا قتل، وذلك لدرء مفسدة ودحض قوله الباطل، لكن هل يقتل كفرا أو يقتل تعزيرا؟ يحتمل كلام المؤلف - رحمه الله - أنه يقتل كفرا أو تعزيرا، لكن المهم أن يعدم حتى لا يشيع رأيه الفاسد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ولم تتنازع الأمة في جواز الفطر للمسافر؛ بل تنازعوا في جواز الصيام للمسافر فذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن الصائم في السفر كالمفطر في الحضر، وأنه إذا صام لم يجزه بل عليه أن يقضي، ويروى هذا عن عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وغيرهما من السلف، وهو مذهب أهل الظاهر، وفي «الصحيحين» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس من البر الصوم في السفر» ، لكن مذهب الأئمة الأربعة أنه يجوز للمسافر أن يصوم وأن يفطر، كما في «الصحيحين» عن أنس أنه قال: كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان، فمنا الصائم، ومنا المفطر، فلا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم. وقد قال الله تعالى: {ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} ، وفي «المسند» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته» ، وفي «الصحيح» : أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني رجل أكثر الصوم، أفأصوم في السفر؟ فقال: «إن أفطرت فحسن، وإن صمت فلا بأس» . وفي حديث آخر: «خياركم الذين في السفر يقصرون ويفطرون» . وأما مقدار السفر الذي يقصر فيه ويفطر: فمذهب مالك والشافعي وأحمد أنه مسيرة يومين قاصدين بسير الإبل والأقدام، وهو ستة عشر فرسخا، كما بين مكة وعسفان، ومكة وجدة (1) .   (1) قوله رحمه الله: «مكة وجدة» هذا في عهد المؤلف، وأما الآن فبينهما أقل بكثير من مسافة قصر، لكن الصحيح أنه لا يتحدد بمسافة - أعني: السفر-، وإنما يتحدد بالعرف، فما قال الناس إنه سفر فهو سفر، وقد قال شيخ الإسلام - رحمه الله - في موضع من كلامه: قد تكون المدة القصيرة سفرا لطول المسافة، وقد تكون المدة الطويلة سفرا مع قصر المسافة [انظر: «الفتاوى» (19/243؛ 24/48) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وقال أبو حنيفة: مسيرة ثلاثة أيام، وقال طائفة من السلف والخلف: بل يقصر ويفطر في أقل من يومين، وهذا قول قوي فإنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعرفة ومزدلفة ومنى يقصر الصلاة وخلفه أهل مكة وغيرهم يصلون بصلاته، لم يأمر أحدا منهم بإتمام الصلاة. وإذا سافر في أثناء يوم فهل يجوز له الفطر؟ على قولين مشهورين للعلماء، هما روايتان عن أحمد، أظهرهما: أنه يجوز ذلك، كما ثبت في «السنن» أن من الصحابة من كان يفطر إذا خرج من يومه، ويذكر أن ذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في «الصحيح» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نوى الصوم في السفر، ثم إنه دعا بماء فأفطر، والناس ينظرون إليه. وأما اليوم الثاني: فيفطر فيه بلا ريب، وإن كان مقدار سفره يومين في مذهب جمهور الأئمة والأمة. وأما إذا قدم المسافر في أثناء يوم ففي وجوب الإمساك عليه نزاع مشهور بين العلماء؛ لكن عليه القضاء سواء أمسك أو لم يمسك (1) .   (1) والصحيح أنه لايلزمه الإمساك إذا قدم مفطرا - يعني: إذا قدم إلى بلده - فإنه يبقى على فطره، وكذلك لو طهرت المرأة الحائض في أثناء النهار، فإنه لا يلزمها أن تمسك؛ لأنه لا فائدة في هذا الإمساك، ولم يوجب الله تعالى على عباده عملا لا فائدة منه، وأما قولهم: «إن الزمن محترم؛ لأنه نهار رمضان» ، فنقول: لكن هذا الزمن في حق هذا الرجل أصبح غير محترم؛ لأن الله تعالى أباح له أن يأكل ويشرب في أوله، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: من أكل أول النهار فليأكل آخره. وهذا فيمن أفطر لعذر، وأما من تعمد الفطر بلا عذر فإنه لا يحل له أن يستمر فيه، وبهذا تبطل حيلة المحتالين الذين قالوا: إذا أردت أن تجامع امرأتك ولا يلزمك الكفارة في نهار رمضان فكل تمرا أولا، ثم جامع ثانيا، من أجل أن يصادف جماعك وأنت -على زعمه- مفطر. فنقول: هو وإن أفطر لكنه حكما يلزمه الإمساك، فالصواب أن كل من كان مفطرا في أول النهار لعذر فإنه لا يلزمه الإمساك، بشرط أن يكون هذا العذر وجود مانع، أما إذا كان أكله لعدم وجود الموجب فهذا إذا وجد الموجب وجب الإمساك، ويثاب عليه، فيفرق بين زوال المانع ووجود الموجب، فزوال المانع مثاله ما سبق في المسافر إذا قدم مفطرا، فنقول: هذا زال المانع في حقه، يعني: مانع الوجوب وهو السفر، وكذلك الحائض إذا طهرت فهذه أيضا زال المانع في حقها، أي: مانع الوجوب وهو الحيض، وكذلك الكافر إذا أسلم يلزمه الإمساك على القول الراجح؛ لأن هذا تجدد الوجوب في حقه، فهو كما لو قامت البينة في أثناء النهار فيلزمه الإمساك، وهل يلزمه القضاء؟ على قولين، والصحيح أنه لا يلزمه القضاء؛ لأنه كان في أول النهار ليس من أهل الوجوب، وكذلك صبي بلغ في أثناء النهار فإنه يلزمه الإمساك، ولا يلزمه القضاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 ويفطر من عادته السفر إذا كان له بلد يأوي إليه، كالتاجر الجلاب الذي يجلب الطعام وغيره من السلع، وكالمكاري الذي يكري دوابه من الجلاب وغيرهم، وكالبريد الذي يسافر في مصالح المسلمين ونحوهم، وكذلك الملاح الذي له مكان في البر يسكنه. فأما من كان معه في السفينة امرأته، وجميع مصالحه، ولا يزال مسافرا فهذا لا يقصر ولا يفطر. وأهل البادية - كأعراب العرب والأكراد والترك وغيرهم، الذين يشتون في مكان ويصيفون في مكان - إذا كانوا في حال ظعنهم من المشتى إلى المصيف ومن المصيف إلى المشتى: فإنهم يقصرون، وأما إذا نزلوا بمشتاهم ومصيفهم لم يفطروا ولم يقصروا، وإن كانوا يتتبعون المراعي، والله أعلم (1) . * * * وسئل رحمه الله: عمن يكون مسافرا في رمضان ولم يصبه جوع ولا عطش ولا تعب، فما الأفضل له: الصيام، أم الإفطار؟   (1) هذه المسألة مفيدة، فبعض الناس الآن يكون له رحلة في الشتاء والصيف، فمثلا في أيام الصيف يذهب إلى البلاد الباردة، وفي أيام الشتاء يذهب إلى البلاد الحارة، فلا نقول: إنه مسافر في البلدين، نقول: هو مقيم في البلدين، لكن المسافة التي بينهما يكون فيها مسافرا، ويوجد عندنا هنا أناس في أيام الصيف يذهبون إلى جنوب المملكة؛ لأنها أبرد، ويبقون فيها أربعة أشهر أو ست أشهر، حسب أحوالهم، فهؤلاء نقول: لا يقصرون ولا يفطرون في رمضان، ويرجعون في أيام الشتاء إلى أماكنهم، لكن في المسافة بينهما كما قال الشيخ - رحمه الله -: يفطرون ويقصرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 فأجاب: أما المسافر: فيفطر باتفاق المسلمين، وإن لم يكن عليه مشقة (1) ، والفطر له أفضل، وإن صام جاز عند أكثر العلماء، ومنهم من يقول: لا يجزئه (2) . * * * وسئل: عن إمام جماعة بمسجد مذهبه حنفي، ذكر لجماعته أن عنده كتابا فيه أن الصيام في شهر رمضان إذا لم ينو بالصيام قبل عشاء الآخرة أو بعدها أو وقت السحور، وإلا فماله في صيامه أجر، فهل هذا صحيح؟ أم لا؟ فأجاب: الحمد لله، على كل مسلم يعتقد أن الصوم واجب عليه وهو يريد أن يصوم شهر رمضان النية، فإذا كان يعلم أن غدا من رمضان فلا بد أن ينوي الصوم، فإن النية محلها القلب، وكل من علم ما يريد فلا بد أن ينويه، سواء تلفظ بالنية أو لم يتلفظ (3) . وإن التكلم بالنية ليس واجبا بإجماع المسلمين، فعامة المسلمين إنما يصومون بالنية، وصومهم صحيح بلا نزاع بين العلماء. إن تعيين النية لشهر رمضان هل هو واجب؟ وفيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد: أحدها: أنه لا يجزئه إلا أن ينوي رمضان، فإن صام بنية مطلقة أو معلقة أو بنية النفل أو النذر لم يجزئه ذلك، كالمشهور من مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايات.   (1) فمن قال: لا يفطر إلا إذا وجد مشقة فيستتاب، فإن تاب وإلا قتل. (2) والحاصل الآن أن الفطر للمسافر جائز باتفاق المسلمين، والصوم للمسافر فيه خلاف: فأهل الظاهر وجماعة من الصحابة قالوا: إنه لا يصوم، لكن الصواب أنه يجوز هذا وهذا، والصواب أيضا أن الصوم أفضل إذا تساوى عنده الأمران، فإن كان الفطر أيسر فهو أفضل، وهذا هو مذهب الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأبي حنيفة، وقد سبق تحرير القول في هذه المسألة، وذكرنا أن الأفضل أن يصوم إلا مع وجود مشقة ولو يسيرة فالفطر أفضل. (3) هذه قاعدة مفيدة: «كل من علم ما يريد وهو مختار فلا بد أن ينويه بمجرد فعله» ، ولا يحتاج إلى التكلف في النية، حتى قال بعض العلماء: لو كلفنا الله عملا بلا نية لكان من تكليف ما لا يطاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 والثاني: يجزئه مطلقا، كمذهب أبي حنيفة. والثالث: أن يجزئه بنية مطلقة لا بنية تعيين غير رمضان، وهذه الرواية الثالثة عن أحمد، وهي اختيار الخرقي وأبي البركات (1) . وتحقيق هذه المسألة: أن النية تتبع العلم، فإن علم أن غدا من رمضان فلا بد من التعيين في هذه الصورة، فإن نوى نفلا أو صوما مطلقا لم يجزه؛ لأن الله أمره أن يقصد أداء الواجب عليه، وهو شهر رمضان الذي علم وجوبه، فإذا لم يفعل الواجب لم تبرأ ذمته.   (1) قوله: «فإن صام بنية مطلقة» بأن نوى الصيام ولا طرأ على باله أنه عن رمضان أو غير رمضان «أو معلقة» بأن قال: إن كان غدا من رمضان فأنا صائم «أو بنية النفل أو النذر» فعندنا ثلاث نيات في رمضان: معينة ومطلقة ومعلقة، أما إذا نوى غيره فلا شك أنه لا يجزئه ولا يجزئه عن الغير الذي نواه أيضا، لو صامه عن نذر لم يجزئه، ولو صام عن قضاء رمضان الماضي لم يجزئه؛ لأن هذا الوقت تعين لرمضان، فلو نوى غيره فيه لم يصح. والقول الثاني يقول: يجزئه مطلقا، ولعل هذا القول مأخذه أن الزمن يعين العمل، وأنه لو نوى غيره ما صح؛ لأن هذا مكان خاص للزمن، فلا ينعقد فيه إلا ما كان مخصوصا له. والثالث - وهو أوسطها وأعدلها -: أنه يجزئ بنية مطلقة، يعني: ينوي الصيام ولا حاجة للتعيين؛ لأنه نوى الصيام في رمضان، ولو سألت أي شخص: أي صيام أردت؟ لقال: رمضان، وقريب منها لو أن الإنسان مثلا دخل لصلاة الظهر وغاب عن ذهنه أنها صلاة الظهر، لكن في ذهنه أنها الصلاة المفروضة في هذا الوقت، فهل يجزئه؟ المذهب لا يجزئه، وهذه تقع كثيرا، خصوصا إذا جاء الإنسان والإمام راكع، فمع العجلة يغيب عن ذهنه أنها الظهر أو العصر أو ما أشبه ذلك، لكن لا شك أنه ما جاء يصلي إلا على أنها فريضة هذا الوقت، وعن أحمد رواية ثانية: أن الصلاة تجزئ بنية الفريضة المطلقة، ويعينها الوقت، وهذا هو الذي لا يسع الناس غيره في كثير من الأحيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وأما إذا كان لا يعلم أن غدا من شهر رمضان، فهنا لا يجب عليه التعيين، ومن أوجب التعيين مع عدم العلم فقد أوجب الجمع بين الضدين. فإذا قيل: إنه يجوز صومه، وصام في هذه الصورة بنية مطلقة أو معلقة أجزأه، وأما إذا قصد صوم ذلك تطوعا، ثم تبين أنه كان من شهر رمضان فالأشبه أنه يجزئه أيضا، كمن كان لرجل عنده وديعة ولم يعلم ذلك، فأعطاه ذلك على طريق التبرع، ثم تبين أنه حقه، فإنه لا يحتاج إلى إعطائه ثانيا، بل يقول: ذلك الذي وصل إليك هو حق كان لك عندي، والله يعلم حقائق الأمور، والرواية التي تروى عن أحمد: أن الناس فيه تبع للإمام في نيته، على أن الصوم والفطر بحسب ما يعلمه الناس، كما في «السنن» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون» (1) . * * *   (1) قوله رحمه الله: «إذا قصد صوم ذلك تطوعا، ثم تبين أنه كان من شهر رمضان، فالأشبه أنه يجزئه أيضا» فيه نظر؛ لأن ظاهر الحديث يخالفه: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» [أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي/باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ؛ ومسلم في كتاب الإمارة/باب قوله: «إنما الأعمال بالنيات» (1907) .] ، لكنه ينطبق على القول الثاني - وهو رأي أبي حنيفة رحمه الله -: أنه لا يجب التعيين، فعلى رأيه يصح؛ لأنه يقول هذا الصوم وقع في وقت لا يصح فيه إلا صوم الفرض، فكان فرضا، لكن الذي يظهر أنه إذا نوى تطوعا وتبين أنه من رمضان فإنه لا يجزئه، لكن هل يستمر في صومه بنية التطوع أو لا؟ الجواب: لا يستمر، بل نقول: يجب عليه أن يفسخ النية إلى أنه من رمضان، ثم هل يجزئه عن رمضان أم لا؟ نقول: أما على قول من يقول: إنه إذا لم يعلم بالهلال إلا في أثناء النهار فإنه يمسك ويصح صومه، فهذا لا شك من باب أولى، وإذا قلنا: لا يصح صومه، فلا بد من القضاء، والقضاء أحوط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وسئل شيخ الإسلام: ما يقول سيدنا في صائم رمضان هل يفتقر كل يوم إلى نية؟ أم لا؟ فأجاب: كل من علم أن غدا من رمضان، وهو يريد صومه فقد نوى صومه، سواء تلفظ بالنية أو لم يتلفظ، وهذا فعل عامة المسلمين كلهم ينوي الصيام. * * * وسئل: عن غروب الشمس، هل يجوز للصائم أن يفطر بمجرد غروبها؟ فأجاب: إذا غاب جميع القرص أفطر الصائم، ولا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية في الأفق. وإذا غاب جميع القرص ظهر السواد من المشرق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم» (1) . * * * وسئل: عما إذا أكل بعد أذان الصبح في رمضان، ماذا يكون؟ فأجاب: الحمد لله، أما إذا كان المؤذن يؤذن قبل طلوع الفجر، كما كان بلال يؤذن قبل طلوع الفجر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكما يؤذن المؤذنون في دمشق وغيرها قبل طلوع الفجر (2) ، فلا بأس بالأكل والشرب بعد ذلك بزمن يسير.   (1) أما الحمرة في المشرق فتظهر قبل أن يغيب القرص، لكن إذا غاب القرص ظهر السواد في المشرق، كما قال الشيخ رحمه الله. (2) وهناك بعض الناس يكتبون إمساكية ويلزمون الناس بالإمساك قبل طلوع الفجر بخمس دقائق، ثم يقولون: أذان الفجر فيكتبون جدولين: واحدا للإمساك، وواحدا لطلوع الفجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وإن شك هل طلع الفجر؟ أو لم يطلع؟ فله أن يأكل ويشرب حتى يتبين الطلوع، ولو علم بعد ذلك أنه أكل بعد طلوع الفجر، ففي وجوب القضاء نزاع، والأظهر: أنه لا قضاء عليه، وهو الثابت عن عمر، وقال به طائفة من السلف والخلف، والقضاء هو المشهور في مذهب الفقهاء الأربعة، والله أعلم (1) . * * * وسئل: عن رجل كلما أراد أن يصوم أغمي عليه، ويزبد ويخبط، فيبقى أياما لا يفيق حتى يتهم أنه جنون، ولم يتحقق ذلك منه؟ فأجاب: الحمد لله، إن كان الصوم يوجب له مثل هذا المرض فإنه يفطر ويقضي، فإن كان هذا يصيبه في أي وقت صام، كان عاجزا عن الصيام، فيطعم عن كل يوم مسكينا، والله أعلم. * * * وسئل رحمه الله: عن امرأة حامل رأت شيئا شبه الحيض والدم مواظبها، وذكر القوابل أن المرأة تفطر لأجل منفعة الجنين، ولم يكن بالمرأة ألم، فهل يجوز لها الفطر؟ أم لا؟ فأجاب: إن كانت الحامل تخاف على جنينها فإنها تفطر وتقضي عن كل يوم يوما، وتطعم عن كل يوم مسكينا، رطلا من خبز بأدمه (2) .   (1) الشيخ رحمه الله في الفتاوى جوابه جواب عام، يعني ليس فيه ذاك التحقيق والتحرير، وإلا فلا شك أنه ثبت عن غير عمر، ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنهم أفطروا في يوم غيم، ثم طلعت الشمس، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء [أخرجه البخاري في الصوم/باب إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس (1959) .] . وهذا أشد مما إذا أكلوا ثم تبين أنه بعد طلوع الفجر. (2) والصحيح أنه لا يلزمها الإطعام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 التعليق على كتاب الصيام من الفروع لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين قال العلامة الفقيه المحدث شمس الدين محمد بن مفلح المقدسي-رحمه الله تعالى- في كتابه «الفروع» : كتاب الصيام   قال فضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتاب الصيام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 الصومُ لغةً؛ الإمساك، ومنه: {إني نذرت للرحمن صوماً} [مريم: 26] (1) ، ويقال للْفَرس: صائم؛ لإمساكِه عن الصَّهيلِ في موضعه، وكذا عن العلَفِ. وشرعاً: إمساك ٌ مخصوصٌ. قيل: سُمِّي رمضان؛ لحرِّ جوف الصائم فيه، ورَمضِه. والرَّمْضاء: شدَّةُ الحرِّ، وقيل: لما نقلوا أسماء الشهورِ عن اللغة القديمةِ، سمَّوها بالأزمنةِ التي وقعت فيها (2) ، فوافق هذا الشهرُ أيام شدةِ الحرِّ ورَمَضِه، وقيل: لأنه يُحرِق الذنوبَ، وقيل: موضوعٌ لغير معنىً، كسائرِ الشهور. كذا قيل، وقيل في الشهور معانٍ أيضاً، وقيل غيرُ ذلك. وجمعه: رَمَضانات، وأرْمِضَة، ورَماضين، وأرْمُض، وِرِماض، ورَمَاضى، وأرامِيض.   (1) قول الله - تعالى - عن مريم - عليها السلام -: {صوماً} يعني: إمساكاً عن الكلام، بدليل قولها: {فلن أكلم اليوم إنسيا} [مريم: 26] . (2) قوله - رحمه الله -: «إمساك مخصوص» فيه نظر، فلو ألحق فيه «معلوم» لكان أولى، ولكن نقول: الصيام شرعا: التعبد لله - تعالى - بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، كما قال - تعالى -: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة: 187] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 والمستحبُّ قولُ: شهرُ رمضانَ، كما قال الله تعالى: {شهر رمضان} [البقرة: 185] ، ولا يُكرهُ قولُ: رمضان، بإسقاط الشهر (وهـ) (1) وأكثرِ العلماء، وذكر الشيخُ: يُكره، إلا مع قرينة الشهر، وفاقاً لأكثر الشافعيَّة، وذكر شيخُنا وجهاً: يُكرهُ، وفاقاً للمالكية، وقاله مجاهدٌ وعطاءٌ، وقالا: لعله اسمٌ من أسماء الله تعالى. وفي «المنتخب» : لا يجوز. وروى ابنُ عدي، والبيهقي، وغيرهما من رواية أبي مَعْشَرٍ - وهو ضعيف عندهم - عن المَقْبُريِّ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: «لا تقولوا: رمضان؛ فإنه اسم من أسماء الله، ولكن قولوا: شهر رمضان» . قال ابن الجوزي: موضوع، ولم يذكره أحد من أسمائه تعالى، ولا يجوز أن يُسَمَّى به (ع) . وقال صاحب «المحرر» : لو صح من أسمائه، لم يُمنَعِ استعماله في غيره، كالأسماء التي وقعت فيها المشاركة (2) .   (1) هنا الواو إشارة إلى وفاق، والهاء لأبي حنيفة أي: وفاقاً لأبي حنيفة. (2) صاحب المحرر هو جد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله تعالى، وأراد بذلك أن يبين ضعف هذا الحديث، وأنه لو صح أنه من أسماء الله لم يمنع أن يسمى به غيره، كغيره من الأسماء التي وقعت فيها المشاركة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وعن أبي هريرة مرفوعاً: «مَنْ قام رمضان إيمانا واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه» (1) . متفق عليه، زاد أحمد في رواية عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: «وما تأخَّر» ، وحماد له أوهام، ومحمد تُكُلِّم فيه (2) . وعن أبي هريرة مرفوعاً: «إذا جاء رمضان، فُتِّحتْ أبواب الجنة، وغُلِّقَتْ أبواب النار، وصفدت الشياطين» . وفي لفظ: «فتحت أبواب الرحمة، وغُلِّقَتْ أبواب جهنم، وسُلْسِلت الشياطين» . متفق عليه. وللبخاري أيضاً: «فتحت أبواب السماء» .   (1) وهذا نطق به الرسول صلى الله عليه وسلم فلو كان يكره أن يقال: رمضان، لاقتضى أن النبي صلى الله عليه وسلم نطق بما هو مكروه، أو محرم على قول بعض العلماء، والصواب أنه: لا بأس أن يُقال: دخل رمضان، وخرج رمضان، وما أشبه ذلك، وأيضاً هو ليس من أسماء الله قطعاً، ولا يجوز أن يسمى به الله. (2) والصواب أنه ليس بصحيح، وكل حديث فيه: «وما تأخر» فهو غير صحيح؛ لأن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم أن الله غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أما غيره فلن يحصل له هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 يحتمل أنه على ظاهره (1) ، ويحتمل أن المراد كثرة الخير، وكثرة أسبابه، ومعنى «صُفِّدَتْ» : غلت، والصفد: الغل، وهو معنى سُلْسِلَت، والمراد: المَرَدَةُ، فليس فيه إعدام الشر، بل قلَّتُه؛ لضعفهم؛ ولهذا روى الترمذي، وابن ماجه من حديث أبي هريرة: «صفِّدَت الشياطين، ومَرَدةُ الجن» . وللنسائي من حديثه: «وتُغَلُّ فيه مَرَدَةُ الشياطين» . فلا يرد قول القائل: إن المجنون يصرع فيه، وقد قال عبد الله لأبيه هذا، فقال: هكذا الحديث، ولا تَكلَّمْ في ذا (2) .   (1) قوله: «على ظاهره» يعني: أنها تفتح أبواب السماء حقيقة، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم في الوضوء: «من قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فتحت له أبواب الجنة الثمانية» [أخرجه مسلم في الطهارة/ باب الذكر المستحب عقب الوضوء (234) , ولفظه: «ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبد الله ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء» .] ، يحتمل: أن المعنى على ظاهره، وأنها تفتح له أبواب الجنة، ويحتمل أن المراد تفتح له الأسباب التي تكون سبباً لدخول الجنة. (2) وهكذا ينبغي للإنسان ألا يتكلم في مثل هذه الأمور؛ ولهذا نهى الإمام أحمد ابنه أن يتكلم في هذا، وقال له: «لا تَكلَّمْ في ذا» ، وهذا كقول بعض الناس: لماذا قال الله - عز وجل - في قصة الخضر: {فأردت} ، {فأردنا} ، {فأراد ربك} . لماذا نَوّعَ؟ فنقول: لله - تعالى - أن يتكلم بما شاء، كيف شاء، وهذا الجواب مُسْكت، لا يمكن لأحد أن يرد عليه، وكوننا نعلم كل شيء - أي: كل أسرار الشريعة - هذا أمر لا أظنه يكون، والإمام أحمد - رحمه الله - نهى ابنه أن يتكلم في هذا، قال: «لا تتكلم في هذا» ؛ لأن ابنه أورد عليه، فقال: إن الإنسان يصرع في رمضان، فكيف تغلُّ الشياطين؟ والصرع من الشياطين..قال له: «لا تكلم في هذا، هكذا جاء في الحديث» وهذا هو كمال الأدب مع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما ما يفعله بعض طلبة العلم المبتدئين الآن، حيث يُنَقِّبون عن أشياء ما تكلم بها السلف، فهذا من الغلط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وروى أحمد: حدثنا يزيد، أنبأنا هشام بن أبي هشام، عن محمد بن محمد بن الأسود، عن أبي سَلمَةَ بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان، لم تُعْطَه أمَّةٌ قبلهم: خُلُوفُ فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر له الملائكة حتى يفطر، ويُزيِّنُ الله كل يوم جنته، ثم يقول: يوشك عبادي الصالحون أن يُلْقُوا عنهم المُؤْنةَ والأذى، ويصيروا إليك، وتُصفَّدُ فيه مردة الشياطين، فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، ويغفر لهم في آخر ليلة» ، قيل: يا رسول الله، أهي ليلة القدر؟ قال: «لا، ولكن العامل إنما يُوفَّى أجْرَه إذا قضى عمله» . قال ابن ناصر الحافظ: حديث حسن، إسناده عدول. فصل: صوم رمضان فرض صوم رمضان فَرْضٌ (ع) ، فُرِضَ في السنة الثانية من الهجرة (ع) ، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات (ع) (1) . ويجب صومه برؤية هلاله، فإن لم ير مع الصحو ليلة الثلاثين من شعبان، أكملوه ثلاثين، ثم صاموا، وصلوا التراويح (و) كما لو رأوه. وإن حال دون مطلعه غيم، أو قَتَرٌ أو غيرهما ليلة الثلاثين من شعبان، وجب صومه بنية رمضان، اختاره الأصحاب، وذكروه ظاهر المذهب، وأن نصوص أحمد عليه.   (1) هنا ثلاث إجماعات. الأول: أن صوم رمضان فرض. الثاني: أنه فُرض في السنة الثانية. الثالث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام تسع رمضانات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 كذا قالوا، ولم أجد عن أحمد أنه صرَّحَ بالوجوب، ولا أمَرَ به، فلا تتوجه إضافته إليه (1) ؛ ولهذا قال شيخنا: لا أصل للوجوب في كلام أحمد، ولا في كلام أحد من الصحابة - رضي الله عنهم -. واحتج الأصحاب بحديث ابن عمر وفعله، وليس بظاهر في الوجوب (2) ،   (1) قوله: «فإن لم ير مع الصحو ليلة الثلاثين» إذا كانت ليلة الثلاثين من شعبان صحواً فإنهم لا يصومون، وإن حال دون رؤية الهلال غيمٌ أو قترٌ فإنهم يصومون، ويقول - رحمه الله -: «وجب صومه بنية رمضان، اختاره الأصحاب» أي أصحاب الإمام أحمد «وذكروه ظاهر المذهب، وأن نصوص أحمد تدل عليه» فنقول: هنا لا يتوجه أن نقول: إن مذهب الإمام أحمد إذا حال دون رؤية الهلال ليلة الثلاثين غيم أو قتر هو وجوب الصوم، مع أن الأصحاب - رحمهم الله - نصروا هذا القول نصراً عظيماً، وقالوا: نصوص أحمد تدل عليه. (2) بدأ المؤلف - رحمه الله - بذكر الحجج، فالأصحاب - رحمهم الله - احتجوا بحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - وفعله، فحديث ابن عمر رضي الله عنه «فإن غم عليكم فاقدروا له» [أخرجه البخاري في الصوم/باب هل يقال: رمضان, أو شهر رمضان؟ ومن رأى كله واسعا (1900) ؛ ومسلم في الصوم/باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال, والفطر لرؤية الهلال, وأنه إذا غم أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يوما (1080) (8) .] قالوا: معنى «اقدروا له» أي: ضيقوا عليه، فاجعلوا شعبان تسعةً وعشرين، وقالوا: «القدر» هنا بمعنى: التضييق، كقوله - تعالى -: {ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله} [الطلاق: 7] . أما فعله فابن عمر رضي الله عنه كان إذا كانت ليلة الثلاثين من شعبان أرسل من يتحرى الهلال، فإن كانت السماء صحواً ولم يره لم يصم، وإن كانت السماء غائمةً صام [أخرجه أحمد (2/5, 13) ؛ وأبو داود في الصيام/باب الشهر يكون تسعا وعشرين (2320) ؛ والدارقطني (2/161) ؛ والبيهقي (4/204) .] ، لكن ابن عمر فعله على سبيل الاحتياط؛ لأنه لم يَأمر به ولا أهل بيته، فحتى أهل بيته لم يأمرهم أن يصوموا، مما يدل على أنه فعله على سبيل الاحتياط، أما النص النبوي: «فاقدروا له» فلا يدل على الوجوب، بل ولا على الاستحباب. فإذا قال قائل: معناه: ضيقوا عليه. قلنا: يصح أن نقلب المسألة، ونقول: اقدروا له أي: ضيقوا رمضان، فلا تصوموا، ثم إن حديث النبي صلى الله عليه وسلم يفسر بعضه بعضاً، وقد جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: «فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» [أخرجه البخاري في الصوم/باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الهلال فصوموا, وإذا رأيتموه فأفطروا» (1909) .] . وهذا يدل على أن معنى: «اقدروا له» أي: أكملوا ثلاثين؛ لأن الحديث يفسر بعضه بعضاً، وقال بعض المتأخرين: معنى «اقدروا له» أي: اعملوا بما يقتضيه الحساب، فيكون هذا من باب التقدير، فـ «اقدروا له» أي: قدروا هل هلَّ أو لم يهل؟ وهذا ليس ببعيد، وهو متمشٍ على القواعد، أنه إذا تعذر اليقين عملنا بغلبة الظن، ولا شك أن الحساب يوجب غلبة الظن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وإنما هو احتياط قد عورض بنهيٍ (1) ، واحتجوا بأقيسة تدل على أن العبادات يحتاط لها، واستشهدوا بمسائل، وهي إنما تدل على الاحتياط، فيما ثبت وجوبه، أو كان الأصل، كثلاثين رمضان، وفي مسألتنا لم يثبت الوجوب، والأصل بقاء الشهر (2) . ومما ذكروه: الشكُّ في انقضاء مدَّةِ المسح يمنع المسح، وإنما كان؛ لأن الأصل الغسل، فمع الشك يُعْمَلُ به، ويأتي: هل يتسَحَّر مع الشك في طلوع الفجر (3) ؟   (1) النهي هو: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم الشك، فقال: «لا تقدموا رمضان بصوم يومٍ ولا يومين» [أخرجه البخاري في الصوم/باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين (1914) ؛ ومسلم في الصيام/باب «لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين» (1082) .] ، ومعلوم أن من صام قبل أن يرى الهلال فقد تقدمه. (2) أي: شهر شعبان. (3) والصواب: أن له أن يتسحر مع الشك في طلوع الفجر، فلكَ أن تأكل وتشرب؛ لقول الله - تعالى -: {حتى يتبين لكم} [البقرة: 187] ، فما دام عندك واحد في المائة أن الفجر لم يطلع فكل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 قال القاضي وغيره: وإنما لم تجب الطهارة مع الشك احتياطا للعبادة؛ لأنه حقٌّ لآدمي، فلا يبطله بالشك، فيقال: وجواز الأكل والجماع حق لآدمي، فلا يحرمه بالشك (1) .   (1) هذا الذي ذكره المؤلف رد على القاضي واضح جداً، وهو أن الأكل والشرب حق للآدمي أباحه الله له، فيتمتع به، فلا نحرمه ونقول: صم يوم الثلاثين من رمضان مع الشك؛ لأننا إذا قلنا ذلك حرمناه مما أحل الله له، ومن ذلك - أيضاً - أذان الفجر الآن، فإن كثيراً من الإخوة في بلادنا ألحوا علينا بأن هذا الأذان متقدم على الوقت، فبعضهم يقول: بربع ساعة، وبعضهم يقول: بعشر دقائق، وبعضهم يقول: بثلث ساعة، وهذا فرق عظيم، وأقرب شيء أنه متقدم خمس دقائق، كما حرره بعض الفلكيين، وعلى هذا فلا يحل لنا أن نحرم الناس ما أحل الله لهم في مدة خمس دقائق، بل ولا دقيقة واحدة؛ لأن الأصل بقاء الليل، وفيه - أيضاً - من الخطر - وهو الأذان قبل الوقت، وصلاة الفجر- وهذا أعظم من أكل الإنسان الذي يريد أن يصوم؛ فإن كثيراً من الناس يرتقب الأذان، فإذا أذن صلى، إما لكونه مريضاً في بيته، أو امرأة، أو ما أشبه ذلك، فهذه المسائل ينبغي للإنسان أن يعرف حدود الله فيها، حتى لا يحرم الناس ما أحل الله - عز وجل - لهم، ولا يحل لهم ما حرم الله عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وقال القاضي وابن شهاب وغيرهما: لأن الطهارة غير مقصودة في نفسها، وقد قال القاضي وغيره في أنه لا يلزم النفل بالشروع: الطهارة مقصودة في نفسها (1) ، ولهذا يستحب تجديدها، بخلاف إزالة النجاسة، وتأتي فيما يُفعَلُ عن الميت. وقيل لمن نظر من الأصحاب في كتب الخلاف: صوم يوم الغيم يلزم عليه نذر صوم رجب أو شعبان، فإنه إذا غُمَّ أوَّلُه، لم يلزم، فقال: كذلك قال أصحابنا، والنُّذورُ لا تبنى إلا على أصولها من الفروض. كذا قال، ويتوجه: يلزم؛ لأنه فرض شرعي عندهم، فعلى هذا: يصومه، حكماً ظنياً بوجوبه احتياطاً، ويجزئه. وقيل للقاضي: لا يصح إلا بالنية، ومع الشك فيها لا يحرم بها. فقال: لا يمنع التردُّدُ فيها؛ للحاجة، كالأسير، وصلاةٍ من خمس. كذا قال. وذكر في «الانتصار» : أنه يجزئه إن لم تُعتبَرْ نيَّةُ التعيين، وإلا فلا. كذا قال (2) . وتصلى التراويح ليلتئذ في اختيار ابن حامد، والقاضي، وجماعة، قال صاحب «المحرر» : وهو أشبه بكلام أحمد - في رواية الفضل -: القيام قبل الصيام؛ احتياطا لسُنَّةِ قيامه، ولا يتضمن محذورا، والصوم نهي عن تقدمه. واختار أبو حفص العكبري، والتميميون وغيرهم: لا تُصلَّى اقتصاراً على النص.   (1) وهذا تناقض، فكونه يقول: «الطهارة غير مقصودة بنفسها» ، وهو في موضع آخر قال: «الطهارة مقصودة في نفسها» ، فيكون هذا منه تناقضاً، ومع ذلك لا نسلم أن الطهارة غير مقصودة، بل الطهارة مقصودة بنفسها، تحط الخطايا، وإذا انتهى الإنسان وشهد بالتوحيد فتحت له أبواب الجنة، فهي مقصودة بنفسها بلا شك، والإنسان - دائماً - ينبغي له أن يكون على طهارة. (2) إذا قال - رحمه الله -: «كذا قال» يعني: أنه لم يرتضه، فهو نَظَّر في كلام القاضي، وكذلك في «الانتصار» له أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 ولا تثبت (1) بقية الأحكام من حلول الآجال، ووقوع المعلقات، وانقضاء العدة، ومدة الإيلاء، وغير ذلك، وذكر القاضي احتمالاً: تثبت كما يثبت الصوم وتوابعه، من النية، وتبييتها، ووجوب الكفارة بالوطء فيه، ونحو ذلك، والأوَّلُ أشهَرٌ؛ عملاً بالأصل، وخولف للنص، واحتياطاً لعبادةٍ عامَّةٍ. وعنه: ينويه حكماً جازماً بوجوبه، وذكره ابن أبي موسى عن بعض أصحابنا، فيصلي التراويح إذن، وقيل: لا (2) . وعنه: لا يجب صومه قبل رؤية هلاله، أو إكمال شعبان، اختاره صاحب «التبصرة» وشيخنا، وقال: هو مذهب أحمد المنصوص الصريح عنه (وهـ) ، وأوجب طلب الهلال ليلتَئذٍ (3) .   (1) هنا فُهِمَ أن الصوم يجب احتياطاً، والتراويح فيها خلاف هل يصليها أو لا؟ وبقية الأشياء المتعلقة بالشهر - كالعدة، وحلول آجال الديون، وغيرها - لا يحكم فيها بهذا الحكم؛ ولهذا قال: «لا تثبت» . (2) المذهب: إذا كانت ليلة الثلاثين غيم أو قتر فإن الإنسان ينوي الصوم حكماً ظنياً احتياطاً، وقيل: إنه ينوي حكماً جازماً بوجوبه، وهذا غريب، إذ كيف يجزم بوجوبه؟ لكن يقولون: يجزم بوجوبه لا بكونه من رمضان، فالجزم عندهم بالوجوب لا بكونه من رمضان، والخلاف قريب من اللفظي، وكل هذه الأقوال ضعيفة لا أصل لها. (3) إذن هذا القول هو المختار: وهو أن صومه لا يجب، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد رحمه الله، إلاَّ إذا رئي الهلال أو أكمل شعبان ثلاثين، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا هو اصطلاحه رحمه الله، وهو إذا قال: «شيخنا» فهو ابن تيمية، وإذا قال: «الشيخ» فهو الموفق صاحب «المغني» ، بخلاف ما يقوله صاحب «الإقناع» والمتأخرون، فإذا قالوا: «الشيخ» فيعنون به شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وعنه: الناس تبَعٌ للإمام، فإن صام، وجب الصوم وإلا فلا، فيتَحرَّى في كثرة كمال الشهور قبله ونقصها، وإخبارِهِ بمن لا يكتفى به، وغير ذلك من القرائن (1) ، ويعمَلُ بظنه، ويأتي: المنفرد برؤيته هل يصومه؟ وعنه: صومه منهي عنه، اختاره أبو القاسم بن مَنْدةَ الأصفهاني، وأبو الخطاب، وابن عقيل، وغيرهم، فقيل: يكره، وذكره ابن عقيل رواية. وعمِلَ أيضا في موضع من «الفنون» بعادة غالبة، كمُضيِّ شهرين كاملين، فالثالث ناقص، وأنه معنى التقدير (2) ، وقال أيضاً: البُعدُ مانعٌ كالغيم، فيجب على كل حنبلي يصوم مع الغيم، أن يصوم مع البعد، لاحتماله، والشهور كلها مع رمضان في حق المطمور، كاليوم الذي يُشكُّ فيه من الشهر في التحرُّزِ، وطلَبِ التحقيق، ولا أحد قال بوجوب الصوم عليه، بل بالتأخير؛ ليقع أداءً، أو قضاءً، كذا لا يجوز تقديم يوم لا يَتحقَّقُ من رمضان. وقال في مكانٍ آخر: أو يظُنُّه؛ لقبولنا شهادة واحدٍ. وقيل: النهي عنه للتحريم، ونقله حنبل، ذكره القاضي (وم ش) . وأوجب (م) الصوم على من شكت في انقطاع حيضها قبل الفجر، وإذا لم يجب صومه، وجب بأداء الشهادة بالرؤية، وإن لم يسأل عنها. ومن نواه احتياطاً بلا مستند شرعي، فبان منه، فعنه: لا يجزئه (وم ش) ، وعنه: بلى (وهـ) ، وعنه: يجزئه، ولو اعتبرت نية التعيين، وقيل: في الإجزاء وجهان، وتأتي المسألة.   (1) هذا القول هو الذي عليه عمل الناس الآن في الغالب، فالإمام يتحرى الهلال، ثم يَأمر بالصوم، فإذا أمر وجب، فيكون الناس تبعاً للإمام، حتى من يرى أنه لا يصام إلا برؤية الهلال، فإذا أمر الإمام بالصوم وجب أن يصوم من أجل اتحاد كلمة الناس وعدم الاختلاف. (2) قوله - رحمه الله -: «معنى التقدير» يعني: في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «اقدروا له» يعني: إذا تم شهران فالثالث ناقص، هذا في الغالب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 ويدخل فيها قوله في «الرعاية» : مَنْ صام بنجوم، أو حساب، لم يجزئه وإن أصاب، ولا يحكم بطلوع الهلال بهما، ولو كثُرَتْ إصابتهما. وهذا معنى كلامه في «منتهى الغاية» قال: لأنه ليس بمستندٍ شرعي (1) .   (1) قوله - رحمه الله -: «لأنه ليس بمستند شرعي» مثل: أن يكون يوم الثلاثين ليس فيه غيم ولا قتر، فقال: لعله رئي في مكان آخر، فصام احتياطاً، ثم تبين أنه من رمضان فإنه لا يجزئُه؛ لأنه ليس له مستند شرعي؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فإن غُم عليكم» وهذا لم يغم علينا فيه، فلو صام احتياطاً، ثم ثبت أنه من رمضان فإنه لا يجزئه، وهذا واضح؛ لأنه ليس على مستند شرعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 فصل: وإن رئي الهلال نهارا وإن رئي الهلال نهاراً، قبل الزَّوالِ أو بعده، أول الشهر أو آخره، فهو لليلة المقبلة (و) هذا المشهور، فلا يجب به صوم، ولا يباح به فطر (1) ، وعنه: بعد الزوال للمقبلة، اختاره أبو بكر، والقاضي، وعنه: بعد الزوال آخر الشهر، للمقبلة، وعنه: آخر الشهر قبل الزوال وبعده، للمقبلة (2) . ويقال: من الصباح إلى الزوال: رأيت الليلة، كما في قوله عليه السلام في حديث الرؤيا: «رأيت الليلة» . وبعد الزوال يقال: رأيت البارحة. قاله ثعلب وغيره. قالوا: وهي مشتقَّةٌ من: بَرِح، إذا زال (3) ، وفي «الصحيحين» عن سَمْرةَ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الصُّبحَ قال: «هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا؟» ، فيكون مراد ثعلب وغيره الحقيقة، وإلا فالمنع مطلقاً باطل. وبعض العوام يحذف الهاء من: البارحة، واللغة إثباتها.   (1) يعني: إذا كان في العيد. (2) القول الراجح في هذه المسألة: أنه إذا رئي الهلال في النهار، فإن كان خلف الشمس فهو للّيلة المقبلة إن كان قريباً من الشمس قطعاً؛ لأنه ليس للماضية، وإن كان قبل الشمس فهو - قطعا - ليس للماضية، ويحتمل - إذا كان قريباً من الشمس - أن تسبقه الشمس، فيتأخر ويُرى، فإن كان بعيداً عن الشمس فليس لليلة الماضية أو المقبلة؛ لأن الهلال في آخر الشهر يُرى خلف الشمس، فإذا كان بعيداً علمنا أنه لن يهل، والآن - والحمد لله - وجدت المراصد، واستعين بها في الرؤية. (3) يعني: هل يقال: الليلة زارني فلان، أو البارحة؟ إذا كان قبل الزوال يقال: الليلة، وإن كان بعده فيقال: البارحة، وهذا ما ذكره العلماء عن أئمة اللغة، لكن عُرفُنَا بالعكس، ففي العرف إذا طلعت الشمس قالوا: البارحة، ولو قبل الزوال، وإذا كان قبل طلوع الشمس قالوا: الليلة؛ هذا العرف، ففي الأيمان، وفي آجال الديون، وما أشبه ذلك يُتَّبَعُ العرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 فصل: وإن ثبتت رؤيته بمكان قريب أو بعيد وإن ثبتت رؤيته بمكان قريب أو بعيد، لزم جميع البلاد الصوم، وحُكْمُ من لم يره كمن رآه، ولو اختلفت المطالع، نص عليه (و) ذكره جماعة؛ للعموم، واحتج القاضي والأصحاب وصاحب «المغني» و «المحرر» بثبوت جميع الأحكام، فكذا الصوم. كذا ذكروه، ومن يخالف في الصوم مع الاحتياط للعبادة لا أظنه يُسلِّمُ هذا (1) ، ولهذا -على المَذْهب- يجب مع الغيم، ولا تثبت الأحكام، واحتج بعضهم بأن ضابط اختلاف المطالع من جهة المُنَجِّمينَ. كذا قال (2) .   (1) وهذا - أيضاً - صحيح، لأنه إذا قلنا: إنه يلزم جميع الناس الصوم فإنه لا يلزم أن نقول: يلزمهم بقية الأحكام. والخلاصة في كلام المؤلف: أن هذا القول يقول: إنه إذا ثبتت رؤية الهلال ثبوتاً شرعياً، في أي مكان من الأرض، شرقاً أو غرباً، شمالاً أو جنوباً، لزم الصوم جميع الناس، وهذا هو المذهب، وهو الذي نص عليه الإمام أحمد رحمه الله، مع أن هذا القول في عصرنا الآن لا يكاد يعرف، فأكثر الناس اليوم يظنون أن المسألة مبنية على اختلاف المطالع، أو على اختلاف الدول، لكن المذهب في هذه المسألة أنه متى ثبت رؤيته في المغرب لزم أهل المشرق، يعني يلزم جميع الناس؛ للعموم، وهو: «إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا» . (2) قوله: «كذا قال» هذا صحيح؛ لأن اختلاف المطالع محسوس، وليس الاختلاف من جهة المنجمين، والمنجم قوله مبني على الظن والتخمين، أما اختلاف المطالع فهذا أمر محسوس، فكما يختلف بالجهات طلوع الشمس وغروبها، كذلك يختلف طلوع الهلال وغروبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وأجاب القاضي عن قول المخالف: الهلال يجري مجرى طلوع الشمس وغروبها، وقد ثبت أن لكل بلد حكم نفسه، كذا الهلال؟ فقال: يتكرر مراعاتها في كل يوم، فتَلحَقُ المشقة في اعتبار طلوعها وغروبها؛ فيؤدي إلى قضاء العبادات، والهلال في السنة مرَّةٌ، فليس كبير مشقَّةٍ في قضاء يوم. ودليل المسألة من العموم يقتضي التسوية (1) ، وسبق قول أحمد أول المواقيت: الزوال في الدنيا واحد. لعله أراد هذا، وإلا فالواقع خلافه (2) . وقال شيخنا: تختلف المطالع باتفاق أهل المعرفة بهذا. قال: فإن اتفقَتْ، لزم الصوم، وإلا فلا. وفاقا للأصح للشافعية. واختار صاحب «الرعاية» البعد مسافة قصر، فلا يلزم الصوم (3) ، وفي «شرح مسلم» : أنه الأصح للشافعية، واختار بعض الشافعية: البعد اختلاف الإقليم.   (1) هذا رد على الذين قالوا: دليل المسألة في العموم يقتضي التسوية؛ لأن الله تعالى قال: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة: 187] ، فهو كقوله صلى الله عليه وسلم: «وإذا رأيتموه فأفطروا» ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم» [أخرجه البخاري في الصوم/باب متى يحل فطر الصائم (1954) ؛ ومسلم في الصيام/باب بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار (1100) .] ، ومن المعلوم: أنه لا يفطر أهل المغرب بفطر أهل المشرق، فلا فرق. (2) معنى كلام الإمام أحمد - رحمه الله -: «الزوال في الدنيا واحد» يعني: الشمس إذا مالت من الجانب الشرقي في الأفق إلى الجانب الغربي في الأفق، فهذا الزوال في أي مكان، وليس المعنى إذا زالت في المشرق فقد زالت في المغرب، أو العكس، فالإمام أحمد أعلم وأفقه من أن يريد هذا. (3) قوله: «مسافة قصر» يعني: أن أهل الرياض - مثلاً - يصومون، ونحن في القصيم لا نصوم إلا إن رأيناه، وهذا قول ضعيف، من أضعف الأقوال، أن يكون المعتبر مسافة القصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وعن (م) وقاله المغيرة وابن الماجشون: يَلزمُ بلد الرؤية وعمَلَه فقط، إلا أن يحمل الإمام الناس على ذلك (1) . وذكر ابن عبد البر (ع) : أن الرؤية لا تراعى مع البعد، كالأندلس من خراسان. كذا قال (2) . قال في «الرعاية» - تفريعا على المَذْهب واختياره -: لو سافر من بلد الرؤية ليلة الجمعة، إلى بلد الرؤية ليلة السبت، فبَعُدَ، وتَمَّ شهره، ولم يروا الهلال، صام معهم. وعلى المذهب: يفطر، فإن شهد به، وقُبلَ قوله، أفطروا معه على المذهب. وإن سافر إلى بلد الرؤية ليلة الجمعة، من بلد الرؤية ليلة السبت، وبَعُدَ، أفطر معهم، وقضى يوماً، على المذهب، ولم يفطر على الثاني. ولو عَيَّدَ، ببلد بمقتضى الرؤية ليلة الجمعة في أوله، وسارت به سفينة أو غيرها سريعا في يومه إلى بلد الرؤية في أول ليلة السبت، وبَعُدَ، أمسك معهم بقية يومه، لا على المذهب.   (1) هذا قول جيد، وهو الذي عليه العمل، أنه يلزم أهل بلد الرؤية وعمله، أي: التابع له في الولاية، فعمل الناس اليوم هكذا، ورأينا من بعض الدول عجباً عُجابا، إذا صلحت العلاقات بين الدولتين فالرؤية واحدة، وإن ساءت العلاقات اختلفت المطالع، فالله المستعان. (2) هنا تعُقبه قد يبدو جيداً، فقوله: «كذا قال» يحتمل أن يكون عائدا على مسألة أنه لا تعتبر مع الأندلس وخراسان، ويحتمل أن النظر في حكاية الإجماع، وكلاهما صحيح، فمثلاً نحن نعلم أنه إذا رئي الهلال في خراسان فسيرى في الأندلس، وإن رئي في الأندلس فلا يلزم أن يرى في خراسان؛ لأن خراسان في الشرق، والأندلس في المغرب، فإذا كانت الشمس قد سبقت القمر في خراسان لزم أن تسبقه في الأندلس ولابد، وأما العكس فلا، فقد يرى في الأندلس ولا يرى في خراسان؛ لأن هذه المسافة يمكن أن تسبق الشمسُ القمرَ، وإذا سبقته رئي الهلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 كذا قال، وما ذكره على المذهب واضح، وعلى اختياره فيه نظر؛ لأنه في الأُوْلى اعتبر حُكْمَ البلد المنتقل إليه؛ لأنه صار من جُملتِهم، وفي الثانية اعتبر حُكْمَ المتنقل منه؛ لأنه التزم حُكْمَه، والأصح للشافعية: اعتبار ما انتقل إليه، والثاني: ما انتقل منه. قال صاحب «المحرر» - فيما إذا أفطر على المذهب -: وليكن خفية (1) .   (1) هذه المسألة تقع كثيراً، خصوصاً في وقتنا، وهي ما لو صام شخص - مثلاً - في المغرب ليلة السبت، ثم قدم إلى المشرق ولم يروا الهلال، أكمل ثلاثين وهم لم يروه، فهل يفطر سراً؛ لأن الشهر لا يمكن أن يزيد عن ثلاثين، أو يصوم معهم؟ الجواب: يصوم معهم ولو زاد على الثلاثين، فهو كما لو سافر في أثناء النهار وامتد النهار، مثل أن يسافر من المملكة العربية السعودية إلى جهة الغرب، كأوروبا مثلاً، فالشمس ستبقى معه طويلاً، فنقول له: لا تفطر حتى تغرب الشمس، ولو زاد اليوم إلى يومٍ ونصف، لكن إن شاء أفطر؛ لأنه مسافر، وهكذا - أيضاً - لو زاد على الثلاثين يوماً. وأما العكس كما لو أنه سافر من المشرق إلى المغرب، وأفطروا وهو لم يتم تسعة وعشرين يوماً، فإنه يفطر معهم ولا بد، حتى وإن لم يصم إلا ثمانيةً وعشرين يوماً فإنه يفطر ويقضي يوماً؛ لأن الشهر لا يمكن أن ينقص عن تسعة وعشرين يوماً، وعلى هذا فلا نقول: إنه يعتبر البلد المنتقل منه، ولا البلد المنتقل إليه على سبيل الإطلاق، بل في ذلك تفصيل، وإذا سافر على أنه صائم من بلد، ثم وصل إلى البلد الثاني وهم مفطرون، على أنه يوم عيد فهنا يفطر معهم، لكنه يقضي يوماً؛ لأنه لم يتم الشهر، هذا على ما اخترنا من اعتبار اختلاف المطالع. أما إذا قلنا: متى ثبتت الرؤية في أي بلد إسلامي فإنه يجب على المسلمين عموماً فيختلف الحكم، فمثلاً: إذا صام ليلة السبت، ثم سافر إلى بلد لم يروه إلاَّ ليلة الأحد، وأتموا ثلاثين، فهنا يكون له واحداً وثلاثين، فيجب عليه أن يفطر سراً؛ لأن الشهر تم ثلاثين في حكمه وحكمهم؛ إذ الواجب على هؤلاء أن يكونوا تبعاً للبلد الذي ثبت فيه الهلال، وإذا شهد عند البلد الذين لم يثبت عندهم الهلال إلا متأخراً، فإن قبلوا شهادته أفطروا بشهادته، وإن لم يصوموا إلا ثمانية وعشرين يوما، ً وإن لم يقبلوها استمروا، وإذا صاموا ثمانية وعشرين يوماً، وجب عليهم قضاء يوم، هذا بناءً على أنه متى ثبتت رؤيته في بلد لزم جميع الناس، فيكون هؤلاء الذين تأخروا عن بلد الرؤية أفطروا يوماً من رمضان؛ لأن الشهر في حقهم ثابت بناءاً على أنه يلزم الجميع، فيكونون قد أفطروا يوماً من رمضان، فيفطرون إذا أتموا الثلاثين يوماً برؤية البلد الآخر، ويقضون يوماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 فصل: ويقبل في هلال رمضان قول عدل واحد ويقبل في هلال رمضان قول عدل واحد. نص عليه (وش) ، وحكاه الترمذي عن أكثر العلماء؛ لحديثي ابن عباس وابن عمر؛ ولأنه خبر ديني، وهو أحوط، ولا تهمة فيه، بخلاف آخر الشهر؛ ولاختلاف أحوال الرائي والمرئي، ولهذا لو حكم حاكم بشهادة واحد، وجب العمل بها (وهـ) . وفي «الرعاية» : وقيل: حتى مع غيم وقترة. فيفهم منه: أن المقدم خلافه، والمذهب: التسوية. وقال أبو بكر: إن جاء من خارج المِصْرِ، أو رآه فيه لا في جماعة، قُبِلَ واحد، وإلا اثنان، وحكي رواية. وفي «الرعاية» هذه الرواية، إلا أنه قال: لا في جمع كثير، ولم يقل: وإلا اثنان لا في جمع كثير قبل، وإلا فلا. ومذهب (هـ) يُقْبَلُ واحد في غيم، أو رآه خارجه، أو أعلى مكان منه كالمنارة، ومع الصحو التواتر. وعن أحمد - رحمه الله -: يعتبر عَدْلانِ (وم ق) فعلى الأول - وهو المَذْهب -: هو خبر، فتُقبَلُ المرأة والعبد، ولا يختص بحاكم، فيلزم الصوم من سمعه من عدل. زاد بعضهم: ولو رد الحاكم قوله. ولا يُعتبَرُ لفظ الشهادة، وذكر القاضي فيه في شهادة القاذف: أنه شهادة لا خبر. وذكر بعضهم وجهين، فتنعكس الأحكام، وهذا أصح للشافعية، ويتوجه في المستور، والمُمَيِّز الخلاف، وجزم في «المستوعب» وغيره: لا يقبل صبي. وفي «الكافي» : يُقبَلُ العبد؛ لأنه خبر، وفي المرأة وجهان: أحدهما: يُقبَلُ؛ لأنه خبر. والثاني: لا؛ لأن طريقه الشهادة، ولهذا لا يُقبَلُ فيه شاهد الفَرْعِ، مع إمكان شاهد الأصل (1) ، ويطَّلعُ عليه الرجال، كهلال شوال. كذا قال.   (1) قوله: «شاهد الفرع مع إمكان شاهد الأصل» يعني: الذي يشهد على شهادة الواحد هذه تسمى شهادة الفرع، والأصل هو الشاهد الأول، فيأتي إنسان ويقول: أشهد أن فلاناً شهد بكذا وكذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وإذا ثبت بقول الواحد، ثبتت بقيَّةُ الأحكام، جزم به صاحب «المحرر» في مسألة الغيم. وقال القاضي في مسألة الغيم - مفرِّقاً بين الصوم وبين غيره -: قد يثبت الصوم بما لا يثبت الطلاق والعتق، ويحل الدَّيْن وهو شهادة عدل. ويأتي: إذا علَّقَ طلاقها بالحمل، فشهد به امرأة، هل تطلُقُ؟ ولا يقبل في بقية الشهور إلا رجلان (وم ش) لا واحد، حكاه الترمذي (ع) خلافا لأبي ثور وغيره، وفي «الرعاية» : وعنه: يُقبَلُ في هلال شوَّالٍ قول عَدْلٍ واحد، بموضع ليس فيه غيره، لا رجل وامرأتان (هـ) ؛ لأنه يقبل ذلك في غير العقوبات، ولا يعتبر التواتر في العيدين مع الغيم (هـ) . فصل: ومن صام بشاهدين ثلاثين يوما ً ومن صام بشاهدين ثلاثين يوماً، ولم يره إذَنْ أحد، أفطر، وقيل: لا مع صحو. واختاره في «المستوعب» ، وأبو محمدٍ ابن الجوزي لأن عدم الهلال يقين، فيُقدَّم على الظن، وهي الشهادة. وعلى الأول فيمن صام بقول واحد وجهان، وقيل: روايتان، وقيل: لا فطر مع الغيم، اختاره صاحب «المحرر» (وهـ) والأصح للشافعية (1) . وإن صاموا لأجل الغيم، لم يفطروا؛ لأن الصوم إنما كان احتياطا، فمع موافقته للأصل - وهو بقاء رمضان - أوْلى وقيل: بلى. قال صاحبُ «الرعاية» : إن صاموا جزماً مع الغيم، أفطروا، وإلا فلا، فعلى الأول: إن غُمَّ هلال شعبان، وهلال رمضان، فقد نصوم اثنين وثلاثين يوماً، حيث نقصنا رجباً وشعبان، وكانا كاملين، وكذا الزيادة إن غم هلال رمضان وشوال، وأكملنا شعبان ورمضان وكانا ناقصين. وفي «المستوعب» : وعلى هذا فَقِسْ. وليس مراده مطلقا.   (1) هذه المسألة مهمة، وهي: إذا صاموا بشهادة اثنين، ثم تم الشهر ثلاثين ولم ير الهلال، فهل نفطر أو لا نفطر؟ هنا ذكر القولين، وقال: إذا لم يُر فشهادة الشاهدين عن ظن؛ لأن عدم الرؤية يقين، وشهادة الشاهدين ظن، لكن الأصح أنه إذا صاموا بشهادة اثنين أفطروا، سواء كانت غيماً أم صحواً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 قال في «شرح مسلم» : قالوا - يعني العلماء -: لا يقع النقص متواليا في أكثر من أربعة أشهر، وفي «الصحيحين» من حديث أبي بكرة: «شَهْرا عيد لا يَنْقصان: ِ رمضان وذو الحجة» (1) . نقل عبد الله، والأثرم، وغيرهما: لا يجتمع نقصانهما في سنة واحدة. ولعل المراد: غالباً، وأنكر أحمد تأويل من تأوله على السنة التي قال النبُّي صلى الله عليه وسلم ذلك فيها. ونقل أبو داود: لا أدري ما هذا؟ قد رأيناهما ينقصان. وقال إبراهيم الحربي: معناه: ثواب العامل فيهما على عهد أبي بكر الصديق واليومِ واحد. ويتوجه احتمال: لا يَنقُص ثوابهما إن نقَصَ العدد، وفاقاً لإسحاق، وجماعة من العلماء. وقاله ابن هبيرة، قال: ويزيدهما فضلا إن كانا كاملين. قال القاضي: الأشبه الأول؛ لأن فيه دلالة على معجزة النبوة؛ لأنه أخبر بما يكون في الثاني، وما ذهبوا إليه فإنما هو إثبات حكم. كذا قال (2) . وإن صاموا ثمانية وعشرين ثم رأوا هلال شوال، قضوا يوما فقط. نقله حنبل، واحتج بقول علي رضي الله عنه، ولبُعْدِ الغلط بيومين. ويتوجه: تخريج واحتمال.   (1) يعني لا ينقصان في سنة واحدة، والمراد غالباً، إذ أنهما قد ينقصان، ولهذا أنكر الإمام أحمد على من فسَّر الحديث بأنهما لا ينقصان في تلك السنة التي قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، ثم إنه توقف رحمه الله، كما قال: «نقل أبو داود قال: لا أدري ما هذا؟» وهذا من احترام كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العلماء؛ لأن الواقع يدل على خلاف هذا الحديث؛ إذ أنهما قد ينقصان في سنة واحدة، وهناك تأويل سيذكره المؤلف، هو أصح ما قيل في ذلك. (2) هنا كلام القاضي - رحمه الله - تعقبه ابن مفلح - رحمه الله - بأن هذا معجزة للرسول (، وأنه لا يمكن أن ينقص في سنة واحدة، لكن يقال: إن هذا واقع، وأنهما ينقصان في سنةٍ واحدة، فيكون أصحّ ما يقال: إنهما لا ينقصان في الثواب، وإن نقصا في العدد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 ومن رأى هلال رمضان وحده، ورُدَّت شهادته، لزمه الصوم (و) وحكمُه (و) ؛ للعموم، وكعِلْم فاسقٍ بنجاسة ماء، أو دَيْن على موروثه؛ ولأنه يلزمه إمساكه لو أفطر فيه، ويقع طلاقه وعتقه المُعلَّق بهلال رمضان، وغير ذلك من خصائص الرمضانية، ولهذا فارق غيره من الناس، وليست الكفَّارةُ عقوبة مَحْضةً، بل هي عبادة، أو فيها شائبة العبادة، بخلاف الحد، ويأتي في صوم المسافر: أن الخلاف ليس شبهة في إسقاطها. ذكر ذلك في «منتهى الغاية» ، وفي «المستوعب» وغيره - على رواية حنبل -: لا يلزمه صوم، لا يلزمه شيء من أحكامه. وحديث أبي هريرة: «صومكم يوم تصومون» . رواه الترمذيُّ، وقال: حسن غريب، وفيه عبد الله بن جعفر، وهو ثقة عندهم، وتكلم فيه ابن حبان، وقد رواه أبو داود، وابن ماجة، والإسناد جيد، فذكر الفطر والأضحى فقط، ومذهب (هـ) إن وطئ فيه فلا كفارة عليه، وذكره ابن عبد البر قول أكثر العلماء. كذا قال. ونقل حنبل: لا يلزمه الصوم، اختاره شيخنا (1) . قال: ولا غيره. وعلى الأول هل يفطر يوم الثلاثين من صيام الناس؟ فيه وجهان، ذكرهما أبو الخطاب، ويتوجه عليهما: وقوع طلاقه، وحل دَيْنِهِ المُعلَّقَين به، واختارَ صاحب «الرعاية» يقع ويَحِلُّ. وإن رأى هلال شوال وحده، لم يفطر. نقله الجماعة (وهـ م) ؛ للخبر السابق، وقاله عمر وعائشة؛ ولاحتمال خطئه وتهمته، فوجب الاحتياط.   (1) قوله: «لا يلزم الصوم اختاره شيخنا» حتى مع رؤية الهلال، فإذا رأى الهلال، وتيقن رؤيته مثل الشمس، ولكنه لم يثبت عند الناس، فإنه لا يصوم، هذا اختيار شيخ الإسلام رحمه الله؛ لئلا يفرِّق الجماعة؛ لأنه لو صام ثم أتم ثلاثين يوماً والناس صائمون لزم أن يفطر والناس صائمون، ولزمه أن يصلي العيد، وهذا خلاف الجماعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 قال شيخنا: وكما لا يعرف وحده، ولا يُضحِّى وحدَه، قال: والنزاعُ مبني على أصل، وهو أن الهلال هل هو اسم لما يطلع في السماء، وإن لم يشتَهِرْ ولم يظهر، أو أنه لا يسمى هلالاً إلاّ بالظهور والاشتهار، كما يدل عليه الكتاب والسنة، والاعتبار؟ فيه قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد. وقال أبو حكيم: يتخرج أن يفطر. واختاره أبو بكر. قال ابن عقيل: يجب أن يُفطرَ سرًّا (وش) ؛ لأنه يتيقنه يوم العيد، وعلل ابن عقيل بما فيه من المفسدة، كتركه بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، وقَتْلَ المنافقين. قال: ولأن الحقوق يُحكَمُ بها عليه فيما يخصه، كذا الفطر. ولما احتج على القاضي بثبوت الحقوق التي عليه، أجاب بأنا لا نعرف الرواية في ذلك، ثم فرق بأنها عليه، والفطر حقٌّ له، كاللقيط إذا أقر بأنه عبد، يقبل فيما عليه وهو الرِّقُّ، ولم يُقبلَ فيما له من إبطال العقود. قيل لابن عقيل: فيجب منع مسافر، ومريض، وحائض من الفطر ظاهراً؛ لئلاَّ يُتَّهم؟ فقال: إن كانت أعذارا خفيَّةً، مُنِعَ من إظهاره، كمرض لا أمَارةَ له، ومسافر لا علامة عليه. وذكر القاضي أنه يُنكر على مَنْ أكل في رمضان ظاهراً، وإن جاز هناك عذر، فظاهره المنع مطلقا. وقد قال أحمد - رحمه الله -: أكره المدخل السوء (1) . وفي «الرعاية» - فيمن رأى هلال شوال -: وعنه: يفطر، وقيل: سرًّا، كذا قال. وقال صاحب «المحرر» : لا يجوز إظهار الفطر (ع) .   (1) قوله: «المدخل السوء» معناه: ما يدخل عليه ويساء به الظن من أجله، فالإمام أحمد - رحمه الله - يكرهه؛ لأن الإنسان ينبغي له أن يدرأ الغيبة عن نفسه ما استطاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 قال: والمُنفردُ بمفَازةٍ ليس بقربه بلد، يبني على يقين رؤيته؛ لأنه لا يتيقن مخالفة الجماعة، بل الظاهر الرؤية بمكان آخر. وإن رآه عَدْلانِ، ولم يشهد عند الحاكم، أو شهدا فرَدَّهما؛ لجهله بحالهما، لم يجُزْ لأحدهما، ولا لمن عرف عدالتهما الفطر بقولهما، في قياس المذهب. قاله صاحب «المحرر» ؛ لما سبق، ولما فيه من الاختلاف، وتشتيت الكلمة، وجَعْلِ مرتبة الحاكم لكل إنسان، وجزم الشيخ بالجواز؛ لقوله عليه السلام: «فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا» . رواه أحمد، والنسائي (1) . فصل: وإذا اشتبهت الأشهُرُ على الأسير والمطمور ومن بمفَازَةٍ ونحوهم وإذا اشتبهت الأشهُرُ على الأسير، والمطمور، ومن بمفَازَةٍ ونحوهم، تحرى وصام، فإن وافق الشهر أو ما بعده، أجزأه (و) ، فلو وافق رمضان السنة القابلة، فقال صاحب «المحرر» : قياس المَذْهب لا يُجزئه عن واحدٍٍٍٍٍٍٍٍ منهما إن اعتبرنا نية التعيين، وإلا وقع عن الثاني، وقضى الأول، وإن وافق قبله، لم يجزئه. نص عليه. (و) ؛ لا أنه إن تكرر قبله، يقضي السنة الأخيرة فقط، (هـ) ، ولو صام شعبان ثلاث سنين متوالية، ثم عَلِمَ، صام ثلاث أشهر، شهراً على إثر شهر، كالصلاة إذا فاتته، نقله مهنا، وذكره أبو بكر في «التنبيه» . ومرادهم - والله أعلم - أن هذه المسألة كالشك في دخول وقت الصلاة، على ما سبق، وسبق في باب النية: تصح نيَّة القضاء بنيَّةِ الأداء، وعكسه، إذا بان خلاف ظنه للعجز عنها، وإن تحرى وشك، وقع قبله أو بعده، أجزأه، كمن تحرى في الغيم وصلى.   (1) هذا بشرط أن يعلم عدالتهما، وأما إذا لم يعلم فإنه لا يجوز أن يفطر بشهادتيهما حتى يثبته الحاكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 صوم رمضان فرض على كل مسلم، بالغ، عاقل، قادر، مقيم (1) (ع) ، وسبق حكم الكافر أول كتاب الصلاة، ولا يجب على صبي (و) ، وعنه: بلى إن أطاقه، اختاره أبو بكر، وابن أبي موسى، وقاله عطاء، والأوزاعي، وعبد الملك بن الماجشون المالكي، وأطلق في «الترغيب» وجهين، وأطلق ابن عقيل الروايتين، والمراد: المُمَيِّزُ، كما ذكره جماعة. وحَدَّ ابن أبي موسى طاقته بصوم ثلاثة أيام متوالية، ولا يضره؛ لخبر مرسل، وعنه: يلزم مَنْ بلغ عشر سنين وأطاقه. وقد قال الخِرقيُّ: يؤخذ به إذَنْ. قال الأكثر: يؤمر به الصبي إذا أطاقه (م) ويضرب عليه؛ ليعتاده، أي: يجب على الولي ذلك. ذكره جماعة. وذكر الشيخ قول الخِرقيِّ، وقال: اعتباره بالعشر أولى؛ لأمره عليه السلام بالضرب على الصلاة عندها. وقال صاحب «المحرر» : لا يُؤخَذُ به، ويضرب عليه فيما دون العشر كالصلاة. وإن أسلم الكافر الأصلي في أثناء الشهر، لم يلزمه قضاء ما سبق منه، خلافا لعطاء وعكرمة (2) .   (1) وهنا يزاد شرط سادس: وهو أن لا يكون ثمةَ مانع، فإن كان هناك مانع كالحيض، والنفاس، لم يجب. (2) الخلاصة أن البلوغ ضده الصغر، فلا يلزم الصغير، لكن يلزم وليه أن يأمره به إذا أطاقه؛ لفعل الصحابة رضي الله عنهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وإن أسلم الكافر، أو بلَغَ الصبي، أو أفاق المجنون في النهار، لزمه إمساك ذلك اليوم (م ش) وقضاؤه (خ) في ظاهر المذهب؛ لأمره عليه السلام بإمساك يوم عاشوراء، ولحرمة الوقت (وهـ) ، وكقيام بينة فيه بالرؤية، كما تجب الصلاة بآخر وقتها، وكالمحرم يلزمه صوم يوم عن بعض مد في الفدية، وعنه: لا يجبان، ويأتي الكلام في المجنون: هل يقضي؟ وإن قلنا: يجب الصوم على الصبي، عصى بالفطر وأمسك، ويقضي كالبالغ (1) . وإن نوى المُمَيِّزُ الصوم، ثم بلغ في النهار بسن أو احتلام وقلنا: يقضي لو بلَغَ مفطراً، فلا قضاء عليه عند القاضي، كنذره إتمام نفل، وعند أبي الخطاب: يلزمه القضاء، كقيام البينة يوم الثلاثين، وهو في نفل معتاد. وسبق الوجوب في أحدهما، وتجدُّدُه في الآخر مُلْغىً بما لو كانا مفطرين، وكبلوغه في صلاة وحج، فعلى هذا: هو كمسافر قدم صائما، يلزمه الإمساك، وحُكِيَ قول هنا، وعلى الأول: هو كبُلوغِه مفطراً (2) .   (1) الصحيح أنه يلزمهما الإمساك دون القضاء، فإذا بلغ الصبي في أثناء النهار، إما بتمام خمس عشرة سنة، أو بإنزال المني، فنقول: أمسك؛ لأنه الآن خوطب مخاطبة البالغ، فيمسك ولا يقضي؛ لأنه في أول النهار كان ممن لا يلزمه الصوم، فلا يلزمه القضاء، وكذلك يقال في المجنون إذا أفاق، فنقول له: أمسك ولا قضاء عليك، وكذلك إذا أسلم الكافر في أثناء النهار، نقول: أمسك ولا قضاء عليك، فتكون الأقوال ثلاثةً: القول الأول: وجوب الإمساك والقضاء، وهو المذهب. القول الثاني: وجوب الإمساك دون القضاء. القول الثالث: عدم الوجوب، لا في الإمساك ولا في القضاء. والصواب وجوب الإمساك دون القضاء. (2) والصواب أنه لا قضاء عليه، فإذا بلغ الصبي في أثناء النهار وهو صائم فلا قضاء عليه؛ لأنه قد شرع فيه، وإذا كان لا يلزمه القضاء لو كان مفطراً فهذا من باب أولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وإن طَهُرت حائض أو نفساء، أو قدِمَ مسافراً، أو أقام مفطراً، أو بَرِىء مريض مفطراً، لزمهم الإمساك على الأصح (وهـ) كالقضاء (ع) ، وكمقيم تعمد الفطر (و) سافر، أو حاضت المرأة أوْ لا. نقله ابن القاسم، وحنبل، ويعايى بها. ويتوجه: لا إمساك مع حيض، ومع السفر خلاف. وفي «المستوعب» رواية في صائم أفطر عمداً، أو لم ينو الصوم حتى أصبح: لا إمساك عليه. كذا قال. وأطلق جماعة الروايتين في الإمساك. وقال في «الفصول» : يمسك من لم يفطر، وإلا فروايتان، وذكر الحُلْوانيُّ: إذا قال المسافر: أُفِطرُ غدا، كقدومه مفطراً. وجعله القاضي محل وفاقٍ. وإذا لم يجب الإمساك فقَدِمَ مسافر مفطراً، فوجد امرأته طهرت من حيضها، له أن يطأها. وإن برِىءَ مريض صائماً، أو قدِمَ مسافر، أو أقام صائماً، لزمه الإتمام (و) وأجزأ (و) ، كمقيم صائم مرِضَ، ثم لم يفطر حتى عُوفيَ (و) ولو وطئا فيه، كَفَّرا. نصَّ عليه (هـ) كمقيم وطِئَ ثم سافر (1) . وإن علِمَ مسافر أنه يقدم غداً، لزمه الصوم.   (1) هذه المسألة الصحيح فيها: أنه لا يلزمهما الإمساك، يعني إذا قدم المسافر مفطراً، فإنه لا إمساك عليه، وله أن يأكل بقية النهار، وإذا طهرت المرأة من الحيض فإنه لا يلزمها الإمساك، وتأكل بقية النهار، لكن يلزمهم القضاء، على عكس الصغير يبلغ، والكافر يسلم، والمجنون يفيق، والفرق أن هذا فيه زوال مانع، وذاك فيه قيام سبب الوجوب، فافترقا، ففيمن وجد في حقه سبب الوجوب في أثناء النهار نقول له: أمسك ولا قضاء، وفيمن زال المانع في أثناء النهار نقول: اقض، ولا إمساك، ولو قدم المسافر مفطراً، ووجد امرأته قد طهرت من الحيض ومفطرة، فيجوز أن يجامعها على هذا القول، فيلغز بها ويقال: إنسان بالغ عاقل مقيم، جامع في نهار رمضان ولم يلزمه شيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 نقله أبو طالب، وأبو داود، كمن نذر صوم يوم يقدَمُ فلان، وعلِمَ قدومه في غدٍ، بخلاف الصبي يعلم أنه يبلغ في غدٍ؛ لأنه غير مكلَّفٍ، وقيل: يُستحبُّ (و) لوجود سبب الرُّخصةِ. قال صاحب «المحرر» : وهو أقيَسُ؛ لأنَّ المختار: أن من سافر في أثناء يوم له الفطر، وإن قامت بَيَّنةٌ بالرؤية في يوم منه، أمسك (و) وقضى (و) وذكر أبو الخطاب رواية: لا يلزمه الإمساك. وقاله عطاء. وخرج في «المغني» على قول عطاء من ظن أن الفجر لم يطلُعْ، وقد طلَعَ، ونحو ذلك (1) .   (1) هذا القول ضعيف جداً، وهو أنه إذا قامت البينة في أثناء النهار لا يمسك، هذا ضعيف، وكذلك إذا أكل يظن أن الفجر لم يطلع ثم تبين طلوعه، يقول: لا يجب عليه الإمساك، وهذا - أيضاً - أشد ضعفاً، فالصواب: أنه يلزمه الإمساك إذا قامت البينة في أثناء النهار، يعني: إذا جاء الشهود إلى القاضي في الضحى، وشهدوا بأنهم رأوا الهلال البارحة، فإنه يلزم الإمساك؛ لأنه تبين أن اليوم من رمضان، وكذلك إذا أكل يظن أن الفجر لم يطلع، ثم تبين طلوعه يجب عليه الإمساك؛ لأنه تبين أن اليوم يوم صوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وقال شيخنا: يُمسِكُ ولا يقضي، وإنه لو لم يعلم بالرؤية إلا بعد الغروب، لم يقض (1) . والرِّدَّةُ تمنع صحة الصوم (ع) فلو ارتد في يوم، ثم أسلم فيه أو بعده، أو ارتد في ليلته، ثم أسلم فيه، فجزم الشيخ وغيره بقضائه. وقال صاحب «المحرر» : ينبني على الروايتين فيما إذا وُجِدَ المُوجبُ في بعض اليوم، فإن قلنا: يجب، وجب هنا، وإلا فلا، ومذهب (هـ) لا يقضي؛ لوجوب المُسْقِط، ومذهبُ (ش) يقضي؛ لأن الرِّدَّةَ لا تمنع الوجوب عنده.   (1) شيخ الإسلام - رحمه الله - توسع في هذا، فيقول: إذا قامت البينة في أثناء النهار وجب الإمساك، ولا يلزمه القضاء؛ لأنه أكل في أول النهار جاهلاً، كما لو أكل بعد طلوع الفجر جاهلاً ثم تبين له، فإنه يلزمه الإمساك ولا يقضي، فيقول: هذا مثله، ولكن يقال: الفرق بينهما أن هذا لم يلتزم الصوم أصلاً؛ لعدم ثبوت الشهر عنده، أما ذاك فكان ملتزماً بالصوم، لكن جهل أن الفجر طلع، فقياسه هذه على هذه فيه نظر، صحيح أن المسألتين اتفقتا في أنه أكل جاهلاً بالوقت، لكن الفرق ظاهر؛ فإن من أكل بعد طلوع الفجر قد التزم في الأول أنه صائم اليوم، ولكن أكل ظاناً أنه لم يدخل اليوم، بخلاف الثاني، فإنه لم يأكل على أنه ملتزم أن يصوم هذا اليوم، حتى لو قال: إنه يصوم هذا اليوم، قلنا: لا يمكن؛ لأنه لم تقم البينة حتى الآن. والشيخ يقول - أيضاً -: لو لم يعلم الناس بالهلال إلاّ بعد غروب الشمس لم يلزمهم القضاء، وعلى هذا لو لم يعلموا بأول يوم من الشهر أن الشهر قد دخل حتى غابت الشمس، ورأوا الهلال بعد تسع وعشرين من رؤيتهم البارحة، فيصومون - على رأي الشيخ - ثمانيةً وعشرين يوماً، ويقول: إنه سقط عنهم القضاء في اليوم الأول؛ لأنهم كانوا جاهلين، لكن الصواب وجوب القضاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وإن حاضت المرأة في يوم، فقال أحمد: تُمسِك، كمسافر قَدم، وجعلها القاضي كعكسها، تغليبا للموجب، ذكره ابن عقيل في «المنثور» وذكر في «الفصول» فيما إذا طرأ المانع، روايتين، وذكر صاحب «المحرر» - ويُؤخَذ من كلام غيره -: إن طرأ جنون، وقلنا: يمنع الصحة، وأنه لا يقضي، أنه هل يقضي؟ على الروايتين في إفاقته في أثناء يومٍ، بجامع أنه أدرك جُزْءاً من الوقت. وظاهر كلامهم لا إمساك مع المانع، وهو أظهر (1) ، ولا يلزم الإمساك من أفطر في صوم واجب غير رمضان. ذكره جماعة، وذكر صاحب «المحرر» ما ذكره جماعة أنه يمسك إذا نذر صوم يوم قدوم زيد، وأنه يدل على وجوبه، فإنهم إذا قالوه في هذا المعذور فغير المعذور أولى. قال: ولا وجه له عندي في الموضعين؛ لأن الحرمة هنا للعبادة خاصة، وقد فقدت. كذا قال. ولا يلزم التعيين زمن العبادة في النذر المعين، كرمضان، بخلاف غيره، وقال فيها في «الخلاف» (2) : وفي صوم النذر لا يلزم الإمساك. قال: لأنه لا يلزمه لو أفطر عمداً بلا عذرٍ؛ لأنه لا يلحقه تهمة، بخلاف رمضان. كذا قال. ومَنْ نوى الصوم ليلا ثم جُنَّ أو أغمي عليه جميع النهار، لم يصح صومه (هـ) ؛ لأن الصوم الإمساك مع النية.   (1) قوله: «وهو أظهر» لاشك أنه أظهر، يعني: إذا حاضت المرأة في أثناء النهار نقول: يلزمها الإمساك، هذا ضعيف، وإن حاضت المرأة في يوم فقال الإمام أحمد - رحمه الله -: تُمسك، كمسافر قدم، ولكن الصحيح خلاف هذا، وهو أنها لا تمسك، كما أن المقيس عليه - وهو المسافر إذا قدم إلى بلده - على القول الراجح أنه لا يمسك. (2) قوله: «وقال فيها في «الخلاف» » يعني في كتاب يسمى «الخلاف» ، وليس يريد خلاف العلماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وفي «المستوعب» خرج بعض أصحابنا من رواية صحة صوم رمضان بنية واحدة في أوله أنه لا يقضي من أغمي عليه أياما بعد نيَّتِه المذكورة، وإن أفاق المغمى عليه في جزء من النهار، صح صومه، لدخولِهِ في قوله عليه السلام: «يدع طعامه وشرابه من أجلي» . ومذهب (م ق) إن كان مفيقًا أول اليوم صح، وإلا فلا؛ لأن الإمساك أحد ركني الصوم، فاعتبر لأوله كالنية، واعتبر بعض المالكية إفاقته أكثر اليوم، ولا يُفِسد قليل الإغماء الصوم (ق) . والجنون كالإغماء (و) ، وقيل: يَفسُد الصوم بقليله، اختاره ابن البناء، وصاحب «المحرر» ، (وق) الجديد، كالحيض، بل أولى؛ لعدم تكليفه. وقال في «الواضح» : هل من شرطه إفاقته جميع يومه، أو يكفي بعضه؟ فيه روايتان (1) . وإن نام جميع النهار، صح صَوْمُهُ (و) خلافاً للإصطخري الشافعي؛ ولأنه إجماع قَبْلَه، ولأنه معتاد إذا نُبِّه انتبه، فهو كذاهلٍ وساهٍ. وإذا لم يصح الصوم مع الإغماء، لزمه القضاء في الأصح (و) لأنه مرض، ولأنه يغطي العقل، ولا يرفع التكليف، ولا تطول مدَّتُه، ولا ولاية على صاحبه، ويدخل على الأنبياء؛ بخلاف الجنون. ولا يلزم المجنون القضاء سواء فات بالجنون الشهر أو بعضه (وش) ، وعنه: يقضي (وم) ، وعنه: إن أفاق في الشهر، قضى، وإن أفاق بعده، لم يقضِ (وهـ) ؛ لعِظَمِ مشقه القضاء.   (1) والصحيح أنه لا قضاء على المغمى عليه، وإن أفاق جزءاً من النهار صح فيما بقي، وهذا يقع فيما إذا حصل حادث على الإنسان قبل الفجر، ثم أغمي عليه حتى غابت الشمس، فعلى المذهب يلزمه القضاء، وعلى القول الراجح لا يلزمه القضاء، وحتى في الصلاة لو أغمي عليه، ومضى عليه يوم وليلة فلا يلزمه القضاء، أما من أغمي عليه بفعله كالبنج (التخدير) فهذا عليه قضاء الصلاة، وعليه قضاء الصوم؛ لأنه بفعله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 ومن جن في صوم قضاء وكفارة، ونحو ذلك، قضاه بالوجوب السابق (1) . فصل: يكره الصوم وإتمامه لمريض يخاف زيادة مرضه أو طوله يكره الصوم وإتمامه لمريض يخاف زيادة مرضه أو طوله، ولصحيح مرض في يومه، أو خاف مرضا بعطش أو غيره (ع) ، ويجزئه (و) (2) ، كمريض يباح له ترك القيام، أو الجمعة، أو يباح له التيمم. قال صاحب «المحرر» : وقياس قول من قال: إن صوم المسافر لا يُعتدُّ به، أن المريض كذلك وأولى. ومن لم يمكنه التداوي في مرضه وتَرْكُه يضر به، فله التداوي، نقله حنبل في من به رمد يخاف الضرر بترك الاكتحال؛ لتضرره بالصوم كتضرره بمجرد الصوم (3) .   (1) الصحيح أن المجنون لا يقضي؛ لأنه رُفع عنه القلم، حتى لو جن يوماً أو يومين فلا قضاء. (2) هنا في الأول قال: «يكره الصوم إجماعاً» ، وفي الثاني قال: «يجزئه وفاقاً» فالوفاق للأئمة الثلاثة فقط، والإجماع لكل العلماء، وذلك أن بعض أهل العلم - رحمهم الله - يقول: لو صام المريض لم يجزئه، ولو صام المسافر لم يجزئه؛ لقوله - تعالى -: {ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة: 185] ، فهو كما لو صام رمضان في شعبان، يعني: أنه صام قبل وقته، لكن هذا القول ضعيف؛ لأن الله - تعالى - إنما أباح الفطر للرخصة، لا لعدم دخول الوقت، بخلاف من صام رمضان في شعبان، فإنه لا يجزئه. (3) هنا التمثيل بمن به رمد ويترك الاكتحال بناءاً على أن الاكتحال يفطر، والقول الراجح أن الكحل لا يفطر، حتى لو وجد طعمه في حلقه، فإنه لا يفطر في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ولا يفطر مريض لا يتضرر بالصوم (و) (1) ، وجزم به في «الرعاية» في وجع رأس وحُمّى، ثم قال: قلت: إلا أن يتضرر. كذا قال، وقيل لأحمد: متى يفطر المريض؟ قال: إذا لم يستطع الصوم. قيل: مِثْلُ الحُمَّى؟ قال: وأي مرض أشد من الحمى؟!   (1) قوله: «ولا يفطر مريض لا يتضرر بالصوم (و) » دليل على أن المسألة ليست إجماعية، ولكن لا شك أن هذا هو الصواب، وهو أنه لا يفطر المريض إلا إذا تضرر، أو خاف المشقة، وأما مرض ليس فيه مشقة، ولا يخاف الضرر فلا يجوز أن يفطر؛ لأننا نعلم أن الله رخص في ذلك من أجل الحاجة والمشقة، فإذا لم توجد حاجة ولا مشقة حرم الفطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 ومن خاف تلفا (1) بصومِهِ، كره وأجزأه، وقال في «عيون المسائل» ، و «الانتصار» ، و «الرعاية» وغيرها: يحرم (وم) ، ولم أجد ذكروا في الإجزاء خلافاً، وذكر جماعة في صوم الظهار أنه يجب فطره بمرض مَخُوفٍ، وقيل للقاضي في «الخلاف» : يوم العيد يحرم صومه بخلاف سائر الأيام؟ فقال: هذا لا يمنع صحته، يدل عليه لو نذر صيام يوم هو مريض فيه مرضاً مَخُوفاً، فإنه يفطر، وعليه القضاء، وإن كان معصية، وقال الآجريُّ: من صنعته شاقَّةٌ، فإن خاف تلفاً (2) ، أفطر وقضى، وإن لم يضره تَرْكُها، أثم، وإلا فلا، قال: هذا قول الفقهاء، رحمهم الله تعالى، وسبق هذا المعنى في ترتيب الصلوات.   (1) إذا خاف الإنسان التلف إذا صام وهو مريض، فذكر المؤلف - رحمه الله - أنه يكره، وذكر قولاً آخر أنه يحرم، وهذا هو الصواب أنه يحرم؛ لأنه إذا خاف التلف بترك الأكل وجب الأكل، فإذا خاف التلف بالأكل حرم الأكل، وهذا واضح، فإذا قال له الأطباء - مثلاً -: إن لم تأكل هذه الحبوب وأنت صائم هلكت، فحينئذٍ يجب عليه أن يأكلها؛ لأن حفظ النفس واجب، وبناءاً على القياس؛ فإن المضطر إلى الأكل إذا خاف التلف وجب عليه أن يأكل، فهذا إذا خاف التلف بالأكل حرم عليه الأكل، ولكن يقول: «ولم أجد ذكروا في الإجزاء خلافاً» يعني: على القول بالتحريم لو أنه لم يتلف بترك الأكل، وأعانه الله عز وجل، فإنه يجزئ، مع أننا قلنا: إنه حرام. (2) قوله: «خاف تلفاً» يعني: في ترك الصنعة إذا صام فإنه يفطر، وأما إذا لم يخف تلفاً فإنه يترك الصنعة، ويبقى على صيامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وإن خاف بالصوم ذهاب ماله، فسبق أنَّهُ عذر في تَرْكِ الجمعة والجماعة، وفي صلاة الخوف، وإن أحاط العدو ببلد والصوم يضعفهم، فهل يجوز الفطر (وم) ؟ ذكر الخلال روايتين، ويعايا بها (1) .   (1) قوله: «يعايا بها» يعني: يلغز بها، فيقال: أُناس مقيمون ليسوا مسافرين، وليسوا مرضى، وجاز لهم الفطر، فيقال: هذا فيما إذا حصر بلدهم العدو على القول بجواز الفطر، وهو الصحيح بلا شك، وقد أفتى شيخ الإسلام - رحمه الله - بجواز الفطر في رمضان، حين حاصر التتار دمشق، وأبى أهل العلم الآخرون ذلك، ولكن شيخ الإسلام - رحمه الله - استدل بأن النبي صلى الله عليه وسلم ألزم الناس في غزوة الفتح، حين دنوا من مكة، فقال لهم: «إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا» [أخرجه مسلم في الصيام/باب أجر المفطر في السفر إذا تولى العمل (1120) .] فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الفطر إذا كان أقوى في القتال فهو أولى، وأمر به، وظاهر الأمر الوجوب، وكان شيخ الإسلام - رحمه الله - يمشي بين الجنود، ومعه كسرة خبز يأكلها، حتى تطمئن قلوبهم للقول بالفطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وقال ابن عقيل: إن حصر العدو بلداً، أو قصدوا عدوًّا بمسافة قريبة، لم يجز الفطر، والقصر على الأصح، ونقل حنبل: إذا كانوا بأرض العدو وهم بالقرب، أفطروا عند القتال، وذكر جماعة فيمن هو في الغزو، وتحضر الصلاة، والماء إلى جنبه، يخاف إن ذهب إليه على نفسه، أو فوت مطلوبه، فعنه: يتيمم ويصلي. اختاره أبو بكر، وعنه: لا يتيمم ويؤخر الصلاة، وعنه: إن لم يخف على نفسه، توضأ وصلى، وسبق في التيمم. ومن به شبق يخاف تنشق مثانته، جامَعَ وقضى ولا يكفر، نقله الشالنجي. قال الأصحاب: هذا إن لم تندفع شهوته بدونه، وإلا لم يجز، وكذا إن أمكنه أن لا يفسد صوم زوجته، لم يَجُزْ، وإلا جاز للضرورة، ومع الضرورة إلى وَطْءِ حائض وصائمة، فقيل: الصائمة أولى؛ لتحريم الحائض بالكتاب، وقيل: يتخير لإفساد صومها، وإن تعذر قضاؤه، لدوام شبقه، فكالشيخ الهرم على ما يأتي (1) .   (1) والشبق - نسأل الله العافية - هو عبارة عن شدة الشهوة، فإذا تحركت الشهوة نزل الماء إلى الأنثيين، وقوله - رحمه الله -: «خاف تشقق المثانة» أنا لا أعرف هذا، والمعروف: خاف تشقق أنثييه؛ لأنه بمجرد ما يشتهي ينزل الماء إلى الأنثيين، ثم تنتفخ وتشقق، إلا إذا أنزل، ولاشك أن هذا مرض شديد، فإذا أصيب الإنسان به فلا بأس أن يفطر، بل قد نقول: بوجوب الفطر في هذه الحال. وهنا انتهى الكلام عن المريض، وقد بين - رحمه الله - بياناً واضحاً في حكم المريض، والخلاصة في ذلك: أن المريض إذا لم يشقَّ عليه الصوم فالفطر حرام، وإن شق عليه بدون خوف ضرر فالصوم مكروه، وإن شق عليه مع خوف الضرر فالصحيح أن الصوم حرام، أما مع خوف التلف فيكون أشد تحريماً، وهذه الخلاصة على القول الراجح، وبناءاً على ذلك نعرف أن ما يفعله بعض العوام من كونه يمتنع عن الفطر مع المشقة في المرض، فهذا غلط، وهذا عدول عن رخصة الله تبارك وتعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 فصل: للمسافر الفطر للمسافر الفطر (ع) ، وهو مَنْ له القصر (و) ، وإن صام أجزأه، نقله الجماعة (و) ونقل حنبلٌ: لا يعجبني، واحتج بقوله عليه السلام: «ليس من البر الصوم في السفر» . وعمر وأبو هريرة يأمرانه بالإعادة، وقاله الظاهرية، ويروى عن عبد الرحمن بن عوف، وابن عمر، وابن عباس، والسنة الصحيحة ترد هذا القول (1) ، ورواية حنبل تحتمل عدم الإجزاء، ويُؤيِّده كثرة تفرُّدِ حنبلٍ، وحَمْلُها على رواية الجماعة أولى، ولهذا نقل حرب: لا يصوم. قال حرب: يقوله بتوكيد. ونقل أيضاً: إن صام أجزأه. ولكن ذلك يدل على أنه يُكرَه. وسأله إسحاق بن إبراهيم عن الصوم فيه لمن قوي؟ فقال: لا يصوم. وحكاه صاحب «المحرر» عن الأصحاب، قال: وعندي لا يكره إذا قوي عليه، واختاره الآجري، وظاهر كلام ابن عقيل في «مفرداته» وغيره: لا يُكرَه، بل تَرْكُه أفضلُ، وليس الفطر أفضل45 (2)   (1) قوله: «والسنة الصحيحة ترد هذا القول» لاشك أنها ترده، فقول الظاهرية - رحمهم الله - وكذلك من وافقهم: بأن صوم المسافر لا يجزئه؛ لأنه حرام، هو على القاعدة بلا شك، فإذا كان حراماً فلا يجزئ، لكن من يقول: إن صوم المسافر يجزئ أجابوا عن ذلك، وقالوا: لأن الله - تعالى - قال: {ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة: 185] فأوجب عليه عدةً من أيام أخر، فيقال لهم: المعنى على حذف: من كان مريضاً أو على سفر فأفطر، والدليل على وجوب هذا التقدير فعل النبي صلى الله عليه وسلم في السفر، فإنه كان يسافر ويصوم ويفطر، وأصحابه يصومون ويفطرون. (2) وفي نسخة «وليس الصوم أفضل» وهذا هو الظاهر [قال المرداوي - رحمه الله - في «تصحيح الفروع» (4/441) : (تنبيه: قوله «وليس الفطر أفضل» صوابه: وليس الصوم أفضل) ا. هـ.] بأن الصوم أفضل؛ لأن الأئمة الثلاثة - رحمهم الله - يرون: أن الصوم أفضل، وقولهم هو الصحيح، أن الصوم أفضل، بشرط أن لا يكون هناك مشقة.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 (خ) ، وفرق بينه وبين رخصة القصر، أنها مجمع عليها، تبرأ بها الذمة. ورُدَّ بصوم المريض، وبتأخير المغرب ليلة المزدلفة، وسبق في القصر حكم من سافر ليفطر (1) . ولا يجوز للمريض والمسافر أن يصوما في رمضان عن غيره (وم ش) كالمقيم الصحيح (و) ؛ لأنه لو قَبِل صوما من المعذور قَبِلَه من غيره، كسائر الزمان المتضيق لعبادة، ولأن العزيمة تتعين برد الرخصة، كترْكِ الجمعة، لعذر لا يجوز صرْفُ ذلك الوقت في غيره، فعلى هذا: هل يقع صومه باطلاً؟ (وم ش) أم يقع ما نواه؟ هي مسألة تعيين النية، ومذهب (هـ) يجوز عن واجب للمسافر، ولأصحابه خلاف في المريض؛ لأنه لا يُخيَّر، بل إن تضرر، لزمه الفطر، وإلا لزمه الصوم، والأصح عن (هـ) لا يصح النفل، ولنا قول: للمسافر صوم النفل فيه، وعلى المذهب: لو قلب صوم رمضان إلى نفلٍ، لم يصح له النفل، ويبطل فرضه إلا على رواية عدم التعيين.   (1) من سافر ليفطر حرم السفر، وحرم الفطر؛ لأن ذلك حيلة لإسقاط واجب والحيلة لإسقاط واجب لا تسقطه، كما أن الحيلة لفعل محرم لا تبيحه، فبناءاً على ذلك نقول: إنه لا يقصر الصلاة؛ لأنه في سفر محرم. ولا يمسح ثلاثة أيام، ولا يترخص بأي رخصةٍ من رخص السفر، إذا قلنا: إنه يشترط للرخص أن يكون السفر مباحاً، أما إذا قلنا: بأن الرخص تفعل حتى في السفر المحرم فإنه يترخص بالرخص، لكن مع الإثم؛ لأن المسألة فيها قولان: هل يشترط لجواز الترخص برخص السفر: أن يكون السفر مباحاً، فيشمل الواجب، والمسنون، والمباح، أو أنه لا يشترط؟ المشهور من المذهب: أنه يشترط أن يكون مباحاً، وأن السفر المكروه والسفر المحرم لا رخصة فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 ومن نوى الصوم في سفره، فله الفطر (و) بما شاء (وهـ ش) لفطره عليه السلام، في الأخبار الصحيحة، ولأن من له الأكل له الجماع، كمن لم ينو، وذكر جماعة منهم الشيخ: أنه يفطر بنية الفِطْرِ، فيقع الجماع بعد الفطر، فعلى هذا: لا كفارة بالجماع (وهـ ش) اختاره القاضي وأكثر أصحابنا، قاله صاحب «المحرَّر» ، وذكر بعضهم رواية: يُكفِّر، وجزم به على هذا، وهو أظهر، وعنه: لا يجوز بالجماع (وم) ؛ لأنه لا يقوي على السفر، فعلى هذا: إن جامع كفر (وم ر) . وعنه: لا؛ لأن الدليل يقتضي جوازه، فلا أقل من العمل به في إسقاط الكفارة (وم ر) لكن له الجماع بعد فطره بغيره، كفطره بسبب مباح، ومذهب (م) الأكل والشرب كالجماع (1) .   (1) والصواب أن المسافر يفطر بما شاء، بأكلٍ، أو شربٍ، أو جماع، وقولهم: إنه «لا يقوي على السفر» إن سُلِّم ذلك فإنه قد تكون شهوة الجماع عند المسافر أشد من شهوة الأكل والشرب، كشاب تزوج حديثاً، وسافر مع أهله، فإنه قد لا يخطر بباله الأكل والشرب إطلاقاً، وإنما يخطر بباله الاستمتاع بالزوجة، فيجامع، فنقول له: لا كفارة عليه، ولا إثم عليه؛ لأن الله - تعالى - أباح له الفطر بأي سبب يفطر به..وأما القول: بأنه إذا نوى الجماع أفطر فهذا فيه نظر؛ لأن الإنسان إذا نوى أن يفعل محظوراً ولم يفعله لم يؤثر، كما لو نوى أن يتكلم وهو يصلي، ثم لم يتكلم، فإنه لا تبطل صلاته، وكذلك لو نوى أن يأكل ولكن لم يأكل، فإن صومه لا يبطل، وكذلك لو تردد في نية الفطر، فقال: أُفطر أَو لا أُفطر؟ فلاشيء عليه، ولا يبطل صومه، ولا يفطر، إلا إذا قصد أنه أبطل الصوم وقطعه، فهذا يبطل، والحاصل: أن كل من نوى محظوراً في عبادةٍ فإن عبادته لا تفسد بهذه النية حتى يفعله، والحديث في هذا واضح، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم» [أخرجه البخاري في العتق/باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه (2528) ؛ ومسلم في الأيمان/باب إذا هم العبد بحسنة (127) .] ، ولو نوى أن يحدث في الصلاة، ولم يحدث، فصلاته صحيحة، أما لو نوى قطع العبادة فإنها تبطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 والمريض الذي يباح له الفطر، كالمسافر، ذكره الشيخ، وصاحب «المحرَّر» ، وغيرهما، وجعله القاضي، وأصحابه، وابن شهاب في كتب الخلاف أصلا للكفارة على المسافر، بجامع الإباحة، وجزم جماعة بالإباحة على النفل، ونقل مهنا في المريض يفطر بأكل، فقلت: يجامع؟ قال: لا أدري، فأعدت عليه، فحول وجهه عني (1) . والمريض الذي ينتفع به بالجماع، كمن يخاف تشقق أنثييه لا يكفر (2) .   (1) هكذا العلماء رحمهم الله، فالإمام أحمد - رحمه الله - قال: لا أدري، فلما أعاد عليه صرف وجهه؛ لأن الكلام لا يحتاج إلى تكرار، وقوله: «لا أدري» يعني متوقف، فإذا أعاد عليه السؤال لم يستحق الجواب؛ ولهذا صرف وجهه، والقول الراجح: أنه لا بأس، فإذا قال قائل: المريض قد اشتغل بنفسه، فكيف يجامع، فالمسافر لا إشكال فيه، فلا يؤثر السفر على محبة الجماع؟ فالجواب: أن المريض قد يقع منه الجماع، وكون المريض غالباً لا يشتهي النكاح لا يدل على أنه ممتنع، فإذا اشتهى المريض - وهو صائم - أن يجامع زوجته فلا نقول له: لا تجامعها، أو كُل أولاً ثم جامع، بل نقول له: لك أن تجامع، وربما يكون هذا شفاءاً لك. (2) هذا استثناء مما سبق، فإذا تحققنا أنه ينتفع بالجماع فهو أشبه بما لو تحققنا أنه ينتفع بالأكل والشرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 ومن نوى الصوم، ثم سافر في أثناء اليوم طوعاً أو كرهاً، فالأفضل أن لا يفطر، ذكره القاضي، وابن عقيل، وابن الزاغوني، وغيرهم، ويعايا بها، وله الفطر؛ لظاهر الآية، والأخبار الصريحة، وكالمرض الطارئ ولو بفعله، والصلاة لا يشق إتمامها وهي آكد؛ لأنها متى وجب إتمامها، لم تقصر بحال (1) ، وكما يفطر بعد يوم سفره (و) خلافاً لعبيدة، وسويد بن غَفَلَة، وأبي مِجْلَز، فعلى هذا: لا يفطر قبل خروجه؛ لأنه ليس بمسافر، خلافا للحسن وإسحاق، وعطاء، وزاد: ويقصر، وعنه: لا يجوز (و) : لا يجوز بجماع، فعلى المنع: يُكفِّر من وطئ (هـ م ر) ، وجعلها بعضهم كمن نوى الصوم في سفره، ثم جامع، ودعوى أن الخلاف شبهة في إسقاط الكفارة ممنوع، ولا دليل عليه، وأبطله صاحب «المحرَّر» بالوطء بعد الفجر قبل طلوع الشمس، فإنه زمن مختلف في وجوب صومه، فإن الأعمش وغيره لم يوجبوه، ويبطل عند الحنفي بوطئه   (1) وهذا رد لقول من يقول: إذا نوى الصوم ثم سافر لزمه الصوم، قالوا: كما لو شرع في الصلاة ثم سافر في أثناء الصلاة، وهذا يقع في السفينة - مثلاً - أو في المركب، يكون - مثلاً - في الميناء، ثم يشرع في الصلاة فتمشي، فهنا يلزمه الإتمام وليس له القصر؛ لأنه شرع فيها على أنها كاملة، والشروع في الشيء يبقي الشيء على ما هو عليه، ولهذا قلنا فيما إذا ائتم قادر على القيام بإمام قادر على القيام ثم اعتل في أثناء الصلاة فنقول إنه يلزم المأمومين الإئتمام قياماً، بخلاف ما لو ابتدأ بهم الصلاة قاعداً فإنهم يصلون قعوداً. فإذا قال قائل: الصلاة إذا سافر في أثنائها فإنه يتمها فكذلك الصائم إذا سافر في أثناء اليوم فإنه يصوم ويبقى على صومه؟ أجاب المؤلف رحمه الله بأن هذا يختلف عن الصلاة، فالصلاة آكد، وهي تتكرر، وأما الصوم فهو دون الصلاة في الآكدية ولا يتكرر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 في مسيرة يومين، ويبطل عند الحنفية، وأكثر المالكية بالوطء قبل خروجه عند إرادة سفره، وبعض المالكية، قال: لا كفارة، وبعضهم قال: وإن لم يسافر (1) .   (1) يعني: على هذا القول يجوز أن تفعل جميع المفطرات قبل أن تركب للسفر، حتى ولو تركت السفر، وهذا يفتح باب التحايل، فيقول الإنسان: نويت أن أسافر، ثم يجامع زوجته، ثم يقول: تراجعت عن سفري، وعلى كل حال فلا يجوز للإنسان أن يترخص بأي رخصة من رخص السفر حتى يغادر البلد، ولا يشترط أن يبعد عنها حتى لا يراها، بل لو خرج عنها ذراعاً فقط فله أن يترخص برخص السفر، ولكن إذا لم يتيسر له السفر كما لو خرج من بلده قاصداً المطار على أنه سيسافر فأفطر، ثم لم يحصل له ركوب الطائرة فرجع للبلد، فهنا هل يبقى على فطره، أو يلزمه الصوم؟ هذا ينبني على الخلاف في المسافر إذا قدم مفطراً، هل يلزمه الصوم؟ والصحيح أنه لا يلزمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 فصل: من عجز عن الصوم لكبر من عجز عن الصوم لكبر وهو الهم والهِمَّةُ، أو مرض لا يرجى برؤه، فله الفطر (ع) ويطعم عن كل يوم مسكيناً (م) ، ما يجزئ في الكفارة؛ لقول ابن عباس في قوله: {وعلى الذين يطيقونه فدية} [البقرة: 184] ليست بمنسوخة، هي للكبير لا يستطيع الصوم. رواه البخاري، ومعناه عن ابن أبي ليلى عن معاذ - ولم يدركه ابن أبي ليلي - رواه أحمد، وكذا أبو داود، ورواه أيضا - بإسناد جيد - عن ابن أبي ليلى: حدثنا أصحابنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره (1) .   (1) وهذا القول هو الصحيح أنها منسوخة أعني قوله تعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} [البقرة: 184] ؛ لأنه ثبت في «الصحيحين» عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن الصيام أول ما فرض كان الناس يخيرون فيه، ثم نسخ التخيير وبقي الصيام [أخرجه البخاري في التفسير/سورة البقرة/باب من شهد منكم الشهر فليصمه (4237) ؛ ومسلم في الصيام/باب بيان نسخ قوله تعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية} بقوله: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} (1145) ] . لكن كلام ابن عباس رضي الله عنهما يحمل على أن الله سبحانه وتعالى لما جعل الفدية معادلة للصوم عند التخيير بينهما صارت هي الواجبة عند عدم القدرة على الصوم؛ لأنها عديلته، وعلى هذا فقول ابن عباس: ليست منسوخة، يعني: أن الحكم باق، لكن على وجه آخر، والعجب أن صاحب «الجلاليين» رحمه الله قال في الآية: {وعلى الذين يطيقونه فدية} [البقرة: 184] فزاد: «لا» ، وهذا غلط فاحش؛ لأنه كيف يفسر المثبت بالمنفي، والله تعالى يقول: {وعلى الذين يطيقونه} [البقرة: 184] ، وهو يقول: «لا يطيقونه» ؟ ثم إن قوله: {وأن تصوموا خير لكم} [البقرة: 184] يدل على أن الآية فيمن يستطيع أن يصوم، وإلا لكانت لغواً لا فائدة منها. والخلاصة: أن الكبير الذي لا يستطيع الصوم يلزمه فدية طعام مسكين وكذلك المريض مرضاً لا يرجى برؤه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وإن كان كالكبير مسافراً أو مريضاً، فلا فدية لفطره بعذر معتاد، ذكره في «الخلاف» ، ولا قضاء للعجز عنه، ويعايا بها (1) . وإن أطعم، ثم قدر على القضاء فكمعضوب حج، ثم عوفي، جزم به صاحب «المحرَّر» (2) ، وذكر بعضهم احتمالين: أحدهما: هذا. والثاني: يقضي، كمن ارتفع حيضها لا تدري ما رفَعَه، تعتد بالشهور، ثم تحيض، وفيها أيضا وجهان (3) . ويكره صوم الحامل والمرضع مع خوف الضرر على أنفسهما، أو على الولد، ويجزئ (و) ، فإن أفطرتا قضتا (و) ؛ لقدرتهما عليه، بخلاف الكبير. قال أحمد: أقول بقول أبي هريرة. يعني: لا أقول بقول ابن عمر وابن عباس في منع القضاء. وخبر أنس بن مالك الكعبي: «إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحبلى والمرضع الصوم» . أي: زمن عُذرِهما.   (1) قوله: «يعايا بها» أي: يلغز بها، فيقال: مسلم بالغ عاقل ليس عليه صيام ولا إطعام، لكن هذا القول في الحقيقة لا يكفي أن نقول إنه ضعيف، بل إنه باطل؛ لأننا نقول: هذا المسافر يخير بين الصوم والفطر، وهو الآن عاجز عنه، فإذا كان عاجزاً عنه تعين الإطعام، وهي الفدية، والفدية لا يمنعها السفر، فالصواب أنه إذا سافر الكبير أو المريض الذي لا يرجى برؤه أنه يلزمهما الفدية؛ لأنهما عاجزين عن الصوم، فوجب الشيء الثاني وهو الفدية، والفدية لا علاقة للسفر بهم. (2) وعليه يكون الحكم فيمن حج عن معضوب ثم عوفي فإنه يصح الحج، فالإنسان الذي لا يستطيع الحج لمرض لا يرجى برؤه يجب عليه أن يقيم من يحج عنه، فإن فعل وأقام من يحج عنه ثم عافاه الله فإنه لا حج عليه؛ لأنه أدى الواجب بنائبه. (3) والصحيح في هذا أنه إذا فدى لكونه مريضاً لا يرجى برؤه، ثم عافاه الله أنه لا يلزمه شيء؛ لأن واجب الصوم سقط عنه بالفدية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وذكر ابن عقيل في «النسخ» : إن خافت حامل أو مرضع على حمل وولد حال الرضاع، لم يحل الصوم وعليهما الفدية، وإن لم تخف لم يحل الفطر، ولا إطعامَ إن خافتا على أنفسهما (و) كالمريض، وذكر بعضهم رواية: إن خافتا على ولديهما، أطعمتا عن كل يوم مسكيناً ما يجزئ في الكفارة؛ لظاهر قوله: {وعلى الذين يطيقونه فدية} [البقرة: 184] ؛ ولأنه قول أبي هريرة، وابن عمر، وابن عباس، ولا يعرف لهم مخالف، ولأنه إفطار بسبب نفس عاجزة عن الصوم من طريق الخلقة كالشيخ الهِمِّ (وش) ، وله قول: لا إطعام (وهـ م ر) ، وقول ثالث: لا تطعم الحامل (وم ر) ، وخيرهما إسحاق بين القضاء والإطعام؛ لشبههما بمريضٍ وكبيرٍ (1) . ويجوز الفطر للظئر التي ترضع ولد غيرها، ذكره الأصحاب؛ لأن السبب المبيح يسوى فيه، كالسفر لحاجتِهِ ولحاجة غيره، وفي «الرعاية» قول: لا تفطر الظئر إذا خافت على رضيعها، وحكاه في «الفنون» عن قوم.   (1) والذي يظهر أن عليهما القضاء، وهذا لا إشكال فيه؛ لأنهما ملحقان بالمريض، أما الإطعام فمن رأى أن قول الصحابي حجة قال: تطعمان، ولكن هل قول هؤلاء الثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم على سبيل الوجوب، أو على سبيل الاستحباب؟ الجواب: أنه يحتمل هذا وهذا، ولذلك الذي تطمئن إليه النفس أنه يجب القضاء بلا إشكال، وأما الإطعام فعلى سبيل الورع، وإذا لم تطعما فلا شيء عليهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وإن قبل ولد المرضعة غيرها، وقدرت تستأجر له، أو له ما يستأجر منه، فَلْتَفْعَل ولتصم، وإلا كان لها الفطر. ذكره صاحب «المحرر» ، والإطعام على من يمونه (1) ، وقال في «الفنون» : يحتمل أنه على الأم، وهو أشبَهُ؛ لأنه تبع لها، ولهذا وجب كفارة واحدة، ويحتمل أنه بينها وبين من تلزمه نفقته من قريب، أو من ماله؛ لأن الإرفاق لهما، وكذلك الظئر (2) ، فإن لم تفطر، فتغير لبنها أو نقص، خُيِّرَ المستأجر، فإن قصدت الإضرار، أثمت، وكان للحاكم إلزامها الفطر بطلب المستأجر، وذكره ابن الزاغوني. وقال أبو الخطاب: إن تأذى الصبي بنقصِهِ أو تغييره، لزمها الفطر، فإن أبت، فلأهله الفسخ. ويؤخذ من هذا أن يلزم الحاكم إلزامها بما يلزمها، وإن لم تقصد الضرر بلا طلب قبل الفسخ، وهذا متجه. ويجوز صرف الإطعام إلى مسكين واحد جملة واحدة، وظاهر كلامهم إخراج الإطعام على الفور؛ لوجوبه، وهذا أقيس، وذكر صاحب «المحرر» : إن أتي به مع القضاء جاز؛ لأنه كالتكملة له.   (1) هذا القول ضعيف بلا شك، فنقول: ترضعه أمه وتفطر ولو كانت تستطيع أن تستأجر له؛ لأن هذه رخصة خاصة بها، فكيف نقول: لا تكون رخصة إلا إذا لم تجد من يرضعه، أو لم تجد أجرة للمرضعة، بل نقول: لها أن ترضعه وتفطر، سواء قدرت على الأجرة ووجدت من تستأجرها أو لا؛ لأن هذه رخصة متعلقة بالأم، ثم إن لبن غير الأم ليس كلبن الأم، وحنو الأم ليس كحنو غير الأم، وهذا غريب من صاحب «المحرر» مع أنه رحمه الله غالب اختياراته جيدة. (2) إذن هذه ثلاثة أقوال، نفقة المرضع هل تكون على الأم؟ أو الأب؟ أو بينهما؟ إذا لم يكن للطفل مال، فإن كان له مال ورثه وما أشبه ذلك فعليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 ولا يسقط الإطعام بالعجز (1) ، ذكره في «المستوعب» ، وهو ظاهر كلام أحمد، واختاره صاحب «المحرَّر» كالدين، وذكر ابن عقيل، والشيخ: يسقط (2) . وذكر القاضي وأصحابه، وجزم به في «المحرَّر» : يسقط في الحامل والمرضع، ككفارة الوطء، بل أولى؛ للعذر هنا، ولا يسقط عن الكبير والمأيوس؛ لأنها بدل عن نفس الصوم الواجب الذي لا يسقط بالعجز، فكذا بدله (3) ، وكذا إطعام من أخر قضاء رمضان وغيره، غير كفارة الجماع (4) .   (1) يعني: إذا قلنا بوجوب القضاء والإطعام فتطعم فوراً، وهناك قول أنها تأخر مع القضاء. (2) قوله: «والشيخ» هو: ابن قدامة رحمه الله، وهذا القول هو الصحيح بلا شك، فإذا عجز عن الإطعام سقط، فكل الواجبات إذا عجز عنها الإنسان سقطت، فإن كان لها بدل أتى ببدلها، وإن لم يكن لها بدل سقطت، والمؤلف رحمه الله في قوله: «ولايسقط الإطعام بالعجز» قاس ذلك على الدَّين، وهذا القياس غير صحيح؛ لأن الدين حق لآدمي، وحق الآدمي لا يسقط بالعجز عنه، وأما الكفارة فهي حق لله عز وجل، وقد عفا عنها سبحانه فقال: {لايكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286] ، وهذا لا يستطيع فيكون غير مكلف بها. (3) والصواب أنه يسقط بناءاً على القاعدة أنه لا واجب مع العجز. (4) والصواب أن كفارة الجماع تسقط بالعجز، يعني: لو جامع شخص في نهار رمضان وجب عليه أولاً عتق رقبة، ثم إن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فإن لم يجد سقطت كسائر الواجبات، وقيل: تجب في ذمته، والصواب أنها تسقط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال للرجل: «أطعمه أهلك» [أخرجه البخاري في الصوم/باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فيكفر (1936) ؛ ومسلم في الصيام/باب تحريم الجماع في شهر رمضان (1111) .] لم يقل له: ومتى قدرت فَكَفِّر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 ومن وجد آدميّاً معصوما في مَهْلكةٍ، كغريق، ونحوه، ففي «فتاوى ابن الزاغوني» : يلزمه إنقاذه ولو أفطر، ويأتي في الديات - إن شاء الله تعالى -: أن بعضهم ذكر في وجوبه وجهين، وذكر بعضهم هنا وجهين (1) ، وهل تلزمه الكفارة كالمرضع؟ يحتمل وجهين، وهل يرجع بها على المنقذ؟ قال صاحب «الرعاية» : يحتمل وجهين، ويتوجه أنه كإنقاذِهِ من الكُفَّار، ونفقتهِ على الآبق (2) . باب نية الصوم وما يتعلق بها لا يصح صوم إلا بنِيةٍ، ذكره بعضهم (ع) كالصَّلاةِ والزَّكاةِ والحج، وخالف زفر في صوم رمضان في حق المقيم الصحيح (3) . ومَنْ نسي النية أو أغمي عليه حتى طلع الفجر، لم يصح. وتعتبر النية من الليل لكل صوم واجب (وم ش) ؛ لقوله عليه السلام: «لا صيام لمن لم يُجْمِع الصيام من الليل» . رواه الخمسة.   (1) والصواب بلا شك أنه يلزمه إنقاذه، وإذا توقف إنقاذه على الفطر وجب الفطر، فهنا إنسان غريق أو حرق والنار تلتهم ما حوله، وقال المنقذ: لا أستطيع أن أنقذه إلا إذا أفطرت، فنقول له: أفطر، وهذا يقع كثيراً في أصحاب الدفاع المدني، فأحياناً يكون حريق في نهار رمضان، ولا يستطيعون أن يقربوا حول النار إلا إذا أفطروا، خصوصاً في أيام الصيف، فنقول: أفطروا وجوباً، وأنقذوا الأحياء. (2) والصحيح أنه لا كفارة عليه فكيف نلزمه أن ينقذ ويتعب ثم بعد ذلك نقول له عليك كفارة، فالصحيح أنه لا كفارة عليه وكما عُلِم في مسألة الحامل والمرضع أن في وجوب الكفارة عليهما خلاف والخلاصة: أنه يجب الفطر لإنقاذ المعصوم إذا لم يمكن إنقاذه إلا بالفطر والصحيح أنه لا يلزم مع القضاء الكفارة. (3) يعني: عند زفر رحمه الله أن رمضان لا يحتاج إلى نية؛ لأن الناس كلهم قد نووا الصوم، وينبني على هذا لو نام الإنسان ولم يستيقظ إلا بعد طلوع الفجر، وثبت هذا من رمضان، فإنه يجزئه وإن لم ينوِ في الليل أنه غداً صائم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 قال الدارقطني، والخطابي، والبيهقي: رفعه عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، وهو من الثقات، ولم يُثبتْ أحمد رَفْعَه بل عن حفصة وابن عمر، وصحح الترمذي وَقْفَه على ابن عمر. وللدارقطني عن أبي بكر أحمد بن محمد، حدثنا رَوْحٌ بن الفَرَجِ أبو الزنباع، حدثنا عبد الله بن عباد، حدثنا المفضل بن فضالة، حدثني يحيى بن أيوب، عن يحيى بن سعيدٍ، عن عمرة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ لم يُبَيِّتِ الصِّيامَ قبل طلوع الفجر، فلا صيام له» . قال الدارقطني: تفرد به عبد الله بن عباد عن المفضل بهذا الإسناد، وكلهم ثقات. وذكر بعضهم أنه ضعيف، ثُمَّ قال: قال ابن حِبَّانَ: روى عنه أبو الزِّنباعِ رَوْحٌ نُسخَةً موضوعة. ورواه مالك والنسائي عنها موقوفاً، وعن حفصة، وعن ابن عمر، والله أعلم. ولأن النية عند ابتداء العبادة كالصلاة والحج. وعند بعض الشافعية تُجْزِئُ النية مَعَ طلوع الفجر، وأَبْطَلَه صاحب «المحرَّر» بالخبر، وبأن الشرط يَسْبِقُ المشروط. قال: وكذا القول في الصلاة وغيرها؛ لا بُدَّ أن توجد النية قبل دُخُولِهِ فيها. كذا قال، وسبق كلامه وكلام غيره: الأفضل مقارنة النية للتكبير (1) .   (1) وهذا يقتضي أن لا تسبق النية العمل، وقال رحمه الله: الأفضل أن تكون مقارنة، والصواب أن النية لا بد منها قبل الفجر؛ لأنه إذا لم ينوِ إلا بعد طلوع الفجر فإنه لا يقال: إنه صام يوماً، وإنما صام أكثر اليوم، وإذا كان كذلك فالواجب صوم يوم، فلا يصح الواجب إلا بنية قبل طلوع الفجر، ولكن من نام في ليلة الثلاثين من شعبان، وقال: إن كان غدا من رمضان فهو فرضي، ثم لم يستيقظ إلا بعد طلوع الفجر، وتبين أنه من رمضان، فالصحيح أنه يجزئه؛ لأن هذا لا يستطيع سواه، إذ أنه نام قبل أن يثبت الشهر، ولا يستطيع إلا أن يقول: إن كان غدا من رمضان فهو فرضي، فنقول: إن تبين أنه من رمضان فهو فرضه ويجزئه. وأما لو نام قبل ثبوت الشهر بلا نية للصيام، وثبت بعد نومه أن غداً رمضان، واستيقظ بعد طلوع الفجر، فهذا عند شيخ الإسلام رحمه الله أنه لا يلزمه القضاء؛ لأن النية تتبع العلم، وهذا لم يعلم، وعند الجمهور: يلزمه القضاء، وهو أحوط بلا شك. والصحيح أن رمضان لا يشترط له نية إلا أول ليلة فقط، والباقي يتبعه، إلا أن ينوي قطعها، بأن وجد ما يبيح الفطر فأفطر، ثم استأنف الصوم في أثناء الشهر، فيلزمه أن يجدد النية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 ومذهب أبي حنيفة، وصاحبَيْهِ: يجزئ رمضان، والنذر المعين بنية قبل الزوال. وعند الأوزاعي: يجزئ كل صوم بنية قبل الزوال وبعده. وحكي عن ابن المسيب. وإن أتى بعد النية بما يبطل الصَّوْمَ، لم يبطل، نص عليه (و) ، خلافا لابن حامد وبعض الشافعية؛ لظاهر الخَبَرِ؛ ولأن الله أباح الأَكْلَ إلى آخر الليل، فلو بطلت به النية، فات محلها. وإن نوت الحائض صوم الغد، وقد عرفت الطهر لَيْلاً؛ فقيل: يصح لمشقة المقارنة، وقيل: لا؛ لأنها ليست أَهْلاً للصوم. ولا تَصِحُّ النية في يوم لصوم الغد (و) للخبر، وكنِيّتِهِ من الليل صَوْمَ بعد غد. وعنه: يصح، نَقَلَها ابن منصور، وفيها: لم ينوه من الليل، فبَطَلَ به تأويل القاضي، وهي في قضاء رمضان، فَيَبْطُل به تأويل ابن عقيل، على أنه يكفي لرمضان نية في أوَّلهِ، وأقرها أبو الحسين على ظاهرها (1) .   (1) يعني: لو نوى أن يصوم بعد غد، أما في رمضان فإذا قلنا: أنه في رمضان تكفي نية واحدة في أوله فالأمر ظاهر، لكن في قضاء رمضان يقول: إن الأصحاب اختلفوا في تخريج الرواية عن الإمام أحمد رحمه الله، ولكن الأظهر أنها تحمل على ظاهرها، وأنه لا بأس أن ينوي أن يصوم بعد غد قضاءاً، مثاله: رجل يصوم القضاء، ويعرف أنه غداً الأربعاء سيأتيه ضيوف، وأنه سيفطر، ولكنه نوى أن يصوم بعد غدٍ فلا مانع من هذا، و «الأعمال بالنيات» [أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي/باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ؛ ومسلم في كتاب الإمارة/باب قوله: «إنما الأعمال بالنيات» (1907) .] كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، أما في رمضان فلاشك أنه يجزئ؛ لأن رمضان على القول الراجح يكفي فيه نية من أوله، فإذا نوى من أول رمضان أنه صائم فإنها تكفي، إلا إذا قطع الصوم لعذر، فإنه عند استئنافه لابد من تجديد النية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وتعتبر لكل يوم نية مفردة؛ لأنها عبادات؛ لأنه لا يَفْسُدُ يوم بفَسَادِ آخر، وكالقضاء. وعنه: يُجْزئُ في أول رمضان نية واحدة لكله (1) (وم) ، نصرها أبو يعلى الصغير، وعلى قياسه النَّذْرُ المعين ونحوه. فعليها: لو أفطر يوما بعذر أو غيره، لم يصح صيام الباقي بتلك النية، جزم به في «المستوعب» وغيره، وقيل: يصح (وم) مع بقاء التتابع، وقدمه في «الرعاية» ؛ فقال: وقيل: ما لم يفسخها أو يُفْطِر فيه يوماً.   (1) والقول أن النية في أول رمضان تكفي هو الأقرب الموافق للقياس، كما أن الإنسان في صلاته ينوي الصلاة في أول ركعة، ويستمر إلى الركعات الباقية، وإن كان بين المسألتين فرق؛ لأن الصلاة لا يحول بين أجزائها شيء يقطعها، أما الصوم فيحول الفطر، لكن يقال: لا فرق من حيث النية، إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، إلا إذا قطع الصوم لعذر فلا بد من تجديد النية، ومثل ذلك: الحج، فإذا نوى الحج فهل يشترط لكل ركن أن ينويه؟ هذه محل خلاف: فبعضهم يقول: لا يشترط، فيقف بعرفة ولا حاجة إلى نية؛ لأنه نوى حجاً من الأصل، والحج يشتمل على كل أجزائه، وكذلك الطواف لو أن الإنسان مثلاً دخل في يوم العيد، ومع شدة الزحام غابت عنه نية أن هذا طواف الإفاضة، لكن عنده نية أن هذا طواف حج، فهنا الصحيح أنه يجزئه وإن لم ينوِ، وكذلك يقال في السعي والرمي؛ لأن منزلة أجزاء الحج كمنزلة أجزاء الصلاة، فكما أنه لا يحتاج أن ينوي الركوع والسجود والقيام والقعود، فكذلك أجزاء الحج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 ويجب تعيين النية في كل صوم واجب (وم ش) ، وهو أن يعتقد أنه يصوم من رمضان أو من قَضَائهِ، أو نذره، أو كفارته. نص عليه. قال في «الخلاف» : اختارها أصحابنا؛ أبو بكر، وأبو حفص، وغيرهما، واختاره القاضي أيضا والأصحاب، منهم صاحب «المغني» ؛ لقوله: «وإنما لامرئ ما نَوَى» ، وكالقضاء والكفارة، والتعيين مقصود في نفسه؛ لاعتباره لصلاة يضيق وقتها كغيرها، ومن عليه صلاة فاتته، فنوى مطلق الصلاة الفائتة، ولم يعين، لم يجزئه، والحج يخالف العبادات. وعنه: لا يجب تعيين النية لرمضان (وهـ) ؛ لأن التعيين يراد للتمييز، وهذا الزمان متعين، كالحج. فعليها؛ يصح بنية مطلقة، ونية نفل (وهـ) ليلاً، ونيةِ فرض تردد فيها، واختار صاحب «المحرر» : يصح بنية مطلقة؛ لتعذر صرفه إلى غير نية رَمَضَانَ، فصرف إليه؛ لئلا يَبْطُلَ قصده وعمله، لا بنية مقيدة بنفل أو نذر أو غيره؛ لأنه ناو تَرْكَه؛ فكيف يجعل كنية الفعل؟ وهذا اختيار الخرقي في «شرحه» لـ «المختصر» ، واختاره شيخنا إن كان جاهلاً، وإن كان عالماً، فلا، قال: كمن دفع وديعة رجل إليه على طريق التَّبَرُّعِ، ثم تبين أنه كان حقه، فإنه لا يحتاج إلى إعطاء ثان، بل يقول له: الذي وصل إليك هو حق كان لك عندي. وقال صاحب «الرعاية» فيما وجب من الصوم في حج أو عمرة: يتخرج أن لا تجب نية التعيين. وقولهم: نية فرض تردد فيها؛ بأن نوى ليلة الشك: إن كان غدا من رمضان، فهو فرضي، وإن لم يكن فهو نفل، لا يجزئه، على الرواية الأولى، حتى يَجْزمَ بأنه صائم غدا من رمضان (وم ش) ، وعلى الثانية: يجزئه (وهـ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 قال صاحب «المحرَّر» : ونقل صالح عن أحمد رواية ثالثة بصحة النية المترددة والمطلقة مع الغيم دون الصحو؛ لوجوب صومه، وإن نَوَى: إن كان غداً من رمضان، فصومي عنه، وإلا فهو عن واجب عيَّنه بنيته، لم يجزئه عن ذلك الواجب، وفي إجزائه عن رمضان إن بان منه الروايتان. وإن قال: وإلا فأنا مُفْطِرٌ، لم يصح، وفيه ليلة الثلاثين من رمضان وجهان؛ للشك والبناء على الأصل (وش) . وإن لم يردِّدْ نيّتَه بل نوى ليلة الثلاثين من شَعْبَانَ، أنه صائم غدا من رمضان بلا مستَنَدٍ شرعي - كصحو أو غيم -، ولم نوجب الصوم به، فبان منه، فعلى الروايتين فيمن تردد أو نوى مُطْلقاً (و) ، وظاهر رواية صالح والأثرم: تجزئه، مع اعتبار التعيين لوجودها، وإن نوى الرمضانية عن مستَنَدٍ شرعي، أجزأه، كالمجتهد في الوقت. ومن قال: أنا صائم غداً إن شاء الله، فإن قصد بالمشيئة الشك والتردُّدَ في العزم والقصد، فسدت نيته، وإلا لم تفسد. ذكره في «التعليق» و «الفنون» ؛ لأنه إنما قصد أن فِعْلَه للصوم بمشيئة الله تعالى وتوفيقه وتيسيره، كما لا يفسُدُ الإيمان بقوله: أنا مؤمن إن شاء الله؛ غير متردد في الحال. وللشافعية وجهان. ثم قال القاضي: وكذا نقول: سائر العبادات لا تفسد بذكر المشيئة في نيتها (1) .   (1) يعني: إذا قال شخص: أنا صائم إن شاء الله، فإن كان متردداً فلا نية له؛ لأنه لم يجزم بها، وإن كان متبركاً فهذا لا بأس به، يعني: تصح النية على هذا الوجه؛ لأنه غير متردد، بل قال: إن شاء الله ليتحقق له مطلوبه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في قصة سليمان عليه السلام «لو قال: إن شاء الله لم يحنث» [أخرجه البخاري في كتاب النكاح/باب قول الرجل: «لأطوفن الليلة على نسائي» (5242) ؛ ومسلم في الأيمان/باب الاستثناء في اليمين وغيرها (1654) (23) .] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ومن خطر بقلبه ليلاً أنه صائم غداً، فقد نوى. قال في «الروضة» - ومعناه لغيره -: الأكل والشرب بنية الصوم نية عندنا، وكذا قال شيخنا: هو حين يتعشى عَشَاءَ من يريد الصوم، ولهذا يُفرَّقُ بين عشاء ليلة العيد وعشاء ليالي رمضان. ولا يعتبر مع نية التعيين نية الفرضية في فرضه، والوجوب في واجبه، خلافا لابن حامد، وللشافعية وجهان (1) . وإن نَوَى خارج رمضان قضاءً ونفلاً أو كفارة ظهار، فنفل إلغاء لهما بالتعارض، فتبقى نية أصل الصوم، وجزم به صاحب «المحرَّر» . وقيل: عن أيهما يقع؟ فيه وجهان، وأوقعه أبو يوسف عن القضاء لتَعْيينِه وتأكده؛ لاستقراره في الذمة، ووافق لو نوى قضاء وكفارة قتل، أو كفارة قتل وظهار، أنه يقع نفلاً.   (1) والصحيح أنه لا يحتاج إلى نية الفرض؛ لأن التعيين يكفي، فلو نوى صيام رمضان فهو فريضة، ولو نوى الصيام عن كفارة فهو واجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 ويصح صوم النفل بنية من النهار قبل الزوال وبعده. نص عليه، اختاره الأكثر؛ منهم القاضي في أكثر كُتُبِه؛ لفعله عليه السلام، وأقوال الصحابة، وفعلهم رضي الله عَنْهُم. وعنه: لا يجوز بنية بعد الزوال. اختاره في «المجرَّدِ» وابنُ عقيل (وهـ ق) ؛ لأن فعله عليه السلام إنما هو في الغَدَاءِ، وهو قبل الزوال. ومذهب (م) وداود هو كالفرض؛ تسوية بينهما، كالصلاة والحج (1) .   (1) والصحيح أنه يجوز، بشرط أن لا يكون قد فعل مفطراً قبل النية، فإن كان قد فعل مفطراً فلا يصح؛ لأن الصيام الشرعي من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ولكن إذا كان اليوم معيناً فإنه لا يناله ثواب ذلك اليوم المعين إذا نوى الصوم من أثناء النهار، فمثلاً: شخص صام يوم الاثنين، ونوى من أثناء النهار، فهنا لا يحصل على ثواب صوم يوم الاثنين؛ لأنه لا يقال: إنه صام ذلك اليوم، وإنما يقال: صام بعض اليوم، وكذلك صيام الأيام البيض، لو نوى من أثناء اليوم فإنه لا يحصل له بالصيام الثواب المعين، وإن كان يصح على ما فيه من الخلاف الذي سبق، والصواب أنه يصح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أهله ذات يوم فقال: «هل عندكم من شيء؟» . قالوا: لا. فقال: «فإني إذاً صائم» [أخرجه مسلم في كتاب الصيام/باب جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال (1154) (170) .] . فعقد النية من الحال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 ويحكم بالصوم الشرعي المثاب عليه من وَقْتِ النية، نقله أبو طالب. وقال صاحب «المحرَّر» : وهو قول جماعة من أصحابنا؛ منهم القاضي في المناسك من «تعليقه» واختاره الشيخ وغيره، وهو أظهر، وفي «المجرّد» و «الهداية» : من أول النهار، واختاره صاحب «المحرَّر» وفاقا للحنفية، وأكثر الشافعية. وقال حماد وإسحاق: إن نواه قبل الزوال. فعلى الأول يصح تطوُّعُ حائض طَهُرَتْ، وكافر أسْلمَ في يومٍ، ولم يَأْكُلاَ، بصوم بقية اليوم، وعلى الثاني لا؛ لامتناع تبعيض صوم اليوم، وتعذر تكْمِيلِه، بفقد الأهلية في بعضه. ويتوجه: يحتمل أن لا يصح عليهما؛ لأنه لا يصح منهما صوم، كمن أَكَلَ، ثُمَّ نوى صوم بقية يومِهِ (و) . وخالف فيه أبو زيد الشافعي. وإنما لم يصح؛ لعَدَم حُصُولِ حِكْمِة الصَّومِ، ولأن عادة المفطر الأكل بعض النهار، وإمساك بعضه، وقوله عليه السَّلامُ في عاشوراء: «من كان أكل فليصم بقية يومه» . أي: لِيُمْسِكْ، لقوله في لفظ آخر: «فَلْيُمْسِكْ» وإمساكه واجب إن كان صومه واجباً، وإلا استُحِبَّ لمن أَكَلَ ثُمَّ علم به، إمساكه؛ للخبر، ذكره القاضي، وتبعه صاحبه «المحرر» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ومَنْ نوى الإفطار أفطر. نص عليه (وش ر م) ، وزاد في روايةٍ: يكفِّرُ إن تعمده؛ لاقتضاء الدليل اعتبار استدامة حقيقة النية، وإنما اكتفى بدوامه حكماً للمشقة ولا مشقة هنا، والحج آكد. وعند ابن حامدٍ، وبعض المالكية، وبعض الشافعية: لا يبطل صومه كالحج، مع بطلان الصلاة عندهم، ومذهب (هـ) لا يبطل سواء قطع النية قبل الزوال وبعده؛ لقوة الدوام (1) . وقولنا: أفطر، أي: صار كمن لم ينو، لا كمَنْ أكل، فلو كان في نفل ثم عاد نواه جاز. نص عليه (وش) ، وكذا لو كان في نذرٍ أو كفارةٍ أو قضاءٍ، فقطع نيته، ثُمَّ نوى نفلاً، جاز، ولو قلب نية نذرٍ وقضاءٍ إلى النفل، فكمَنْ انتقل من فرض صلاةٍ إلى نفلها، وعلى المذهب: لو تردد في الفطر، أو نوى أنه سيفطر ساعةً أخرى، أو إن وجدت طعاماً، أكلت وإلا أتممت، فكالخلاف في الصلاة. قيل: يبطل؛ لأنه يجزم بالنية، ولهذا لا يصح ابتداء الصوم بمثل هذه النية، وكمَنْ تردد في الكفر، نقل الأثرم: لا يجزئه من الواجب حتى يكون عازماً على الصوم، يومه كله، وقيل: لا يبطل؛ لأنه لم يجزم بنية الفطر. والنية لا يصح تعليقُهاَ (2) .   (1) والصحيح أنه يفطر، يعني: إذا نوى الإفطار انقطع صومه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» [سبق تخريجه.] ، والصوم إنما يكون بالنية؛ لأنه ليس عملا لكي يشاهد وينظر، وإنما هو إمساك، ولكن من نوى أن يأكل ويشرب ولم يأكل ويشرب فهذا لا ينقطع صومه، وهكذا جميع المحظورات لا تبطل بها العبادات، إلا إذا وقعت فعلاً. (2) لكن الصواب: أنه إذا تردد في النية بعد أن شرع في الصوم فلا يبطل؛ لأن الأصل بقاؤه على ما كان عليه حتى يجزم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 باب ما يفسد الصوم، ويوجب الكفارة وما يحرم فيه أو يكره أو يجب أو يسن أو يباح من أكل أو شرب أفطر (ع) ، خلافاً للحسن بن صالح فيما ليس بطعام ولا شراب، مثل أن يستف تراباً، وخلافاً لبعض المالكية فيما لا يُغذِّي ولا ينماع في الجوف كالحصاة (1) ، وإن استعط بدهن أو غيره فوصل إلى حلقه (و) ، أو دماغه (م) ، أفطر. وقال في «الكافي» : إلى خياشيمه؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم الصائم عن المبالغة في الاستنشاق. وعن علي: الصائم لا يستَعِط. وكالواصل إلى الحلق، وعند الحسن بن صالح وداود: لا يفطر بواصل من غير الفم؛ لأن النص إنما حرم الأكل، والشرب، والجماع (2) .   (1) بعض العلماء يقول - وهي أقوال شاذة -: إذا كان لا يغذي مثل أن يشتف تراباً ويأكله فيقول: لا يفطر، ولكن هذا قول شاذ بلا شك، لأن هذا يسمى أكلاً وشرباً شرعاً وعرفاً، كذلك إذا أكل شيئاً لا يموع ولا يغذي، كمن أكل خرزة - مثلاً - فهذا بعض المالكية يقول: إنه لا يفطر، وهذا أيضاً قول شاذ، والصواب أنه يفطر، وأن ما وصل إلى المعدة فهو مفسد للصوم. (2) هذا المذهب أوسع المذاهب، فالحسن بن صالح وداود الظاهري يقولان: أنه لا يفطر بواصل من غير الفم، فعليه لو استعط ووصل إلى حلقه أو إلى معدته فإنه لا يفطر، لكن هذا القول يخالفه ظاهر حديث لقيط بن صبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً» [أخرجه أبو داود في الطهارة /باب في الاستنثار (142) ؛ والنسائي في الطهارة/باب المبالغة في الاستنشاق (1/66) ؛ والترمذي في الصوم/باب ما جاء في كراهية مبالغة الاستنشاق للصائم (788) ؛ وصححه ابن خزيمة (150) ؛ وابن حبان (1087) .] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وإن اكتحل بكُحْل أو صبر، أو قَطُور، أو ذَرُور إثمد مطيب، فعلم وصول شيء من ذلك إلى حلقه، أفطر. نص عليه، وهو المعروف، وجزم في «منتهى الغاية» : إن وصل يقيناً أو ظاهراً أفطر، كالواصل من الأنف؛ لأن العين منفذ، بخلاف المسام، كدهن رأسه، ولذلك يجد طعمه في حلقه ويَتَنخَّعُه على صفته، ولا أثَرَ كون العين ليست منفذاً معتاداً، كواصلٍ بحقنه وجائفة. ولأبي داود عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالإثمد المروح عند النوم، وقال: «ليتقه الصائم» . قال أحمد وابن معين: حديث منكر، واختار شيخنا: لا يفطر (وم ش) (1) . وإن قطر في أذنه شيئاً فدخل دماغه أفطر، خلافاً للأوزاعي، والليث، والحسن بن صالحٍ، وداود، ومذهب (م) إن دخل حلقه أفطر، وإلا فلا.   (1) وهذا هو الصواب، وهو ما اختاره الشيخ، أنه إذا قَطَرَ في عينه أو اكتحل في عينه ووجد طعمه ولونه في حلقه فإنه لا يفطر؛ لأن هذا ليس أكلاً ولا شرباً، لا في الحقيقة الشرعية، ولا في الحقيقة العرفية ولم نَرَ أحداً إذا أراد أن يأكل يدخل اللقمة في عينه، ولا أن يصب الماء في عينه، لكن السعوط في الأنف يستعمله الناس فيوصلون الشراب أو المائع من غير الشراب إلى المعدة عن طريق الأنف، ولا يزال الناس يستعملون ذلك إلى الآن، فهو منفذ، وأما العين والأذن فليستا بمنفذ، فالواصل من طريقهما لا يفطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وإن داوى جُرحَه، أو جائفته، فوصل الدواء إلى جوفه (م) وأبي يوسف ومحمد، أو داوى مأمومته، فوصل إلى دماغه (م) وأبي يوسف ومحمد، أو أدخل إلى مجوَّفٍ فيه قوة تحيل الغذاء أو الدواء شيئاً من أي موضع كان، ولو كان خيطاً ابتلعه كله (وهـ ش) أو بعضه (هـ) أو طعن نفسه، أو طعنه غيره بإذنه بشيء في جوفه، فغاب هو (وهـ ش) أو بعضه (هـ) فيه، أو احتقن بشيء (م ر) ، أفطر؛ لوصولِهِ إلى جوفِهِ باختيارِهِ، كغيره؛ ولأن غير المعتاد كالمعتاد في الواصل، فكذا في المنفذ، وفساد الصوم متعلق بهما، ويعتبر العلم بالواصل (1) ، وجزم في «منتهى الغاية» بأنه يكفي الظن، كما سبق. كذا قال. واختار شيخنا: لا يفطر بمداواة جائفة ومأمومة ونحو ذلك، ولا بحقنه. وعند أبي ثور: يفطر بالسعوط فقط.   (1) وقوله: «ويعتبر العلم بالواصل» أي: يعتبر أن يعلم أنه وصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وإن حجم أو احتجم أفطر. نص عليه (خ) ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أفطر الحاجم والمحجوم» . قال أحمد: فيه غير حديث ثابت، وقال إسحاق: ثبت هذا من خمسة أوجه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وحديث شداد صحيح تقوم به الحجة، وصحح الترمذي حديث رافعٍ، وذكر عن البخاري أنه صحح حديث ثوبان وشداد، وصححهما أحمد. وعنه: إن علما النهي (1) . وله نظائر سبقَتْ، ولم يذكر الخرقي «حجم» ، وذكر «احتجم» . كذا قال، ولعل مراده: ما اختاره شيخنا أنه يفطر الحاجم إن مص القارورة، وإلا لا، وظاهر كلام أحمد والأصحاب: لا فطر إن لم يظهر دم، وهو متجه، واختاره شيخنا، وضعف خلافه، وذكر ابن عقيل أنه يفطر وإن لم يظهر دم، وجزم به في «المستوعب» ، و «الرعاية» (2) .   (1) وهذه الرواية هي الموافقة للقاعدة التي سبقت، وهي: أنه يشترط في المفطرات العلم، فإذا لم يعلم فصومه صحيح. (2) قول ابن عقيل رحمه الله: «إنه يفطر» لعموم الحديث: «أفطر الحاجم والمحجوم» [أخرجه أحمد (4/123) ؛ وأبو داود في الصيام/باب في الصائم يحتجم (2368) ؛ والنسائي في «الكبرى» (3126) , وابن ماجه في الصيام/باب ما جاء في الحجامة للصائم (1681) ؛ وصححه ابن خزيمة (1962) , وابن حبان (3533) ، والحاكم (1/428) . وانظر: «نصب الراية» (2/472) , و «التلخيص الحبير» (2/193) .] ، ومن نظر إلى المعنى قال لابد أن يظهر دم، ثم الحاجم إذا لم يمص القارورة فالمذهب أنه يفطر لعموم: «أفطر الحاجم والمحجوم» ، ومن نظر إلى المعنى قال: إنه لا يفطر إلا إذا مص القارورة؛ لأنه إذا مصها فإنه سوف يمصها بشدة، ولا يأمن مع ذلك أن يتسرب الدم إلى جوفه من حيث لا يشعر، وهذا اختيار شيخ الإسلام رحمه الله، وهو يرى النظر إلى المعنى سواء في الحاجم أو المحجوم، ويقول: لو فرض أنه حجم بدون مص القارورة فالحاجم لا يفطر، ويقول: لو حجم ولم يخرج دم فلا فطر، لا على الحاجم، ولا على المحجوم، فعليه لو حجم بآلات جديدة بدون مص فالحاجم لا يفطر؛ لأنه لا معنى لإفطاره، والمحجوم يفطر إن خرج دم، وظاهر كلامهم إن خرج الدم ولو كان قليلاً لا يضعف المحجوم فإنه يفطر به؛ لعموم الحديث، ووجه ذلك أن يقال: إن القليل في الحجامة نادر، والأكثر أنه يكون كثيراً يضعف الصائم، فمن رحمة الله بالصائم أن أحلّ له الأكل والشرب، يعني: إذا حجم لحاجة وهو صائم قلنا له: كُلْ واشرب هنيئاً مريئاً؛ لأنه كالمريض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ومَنْ جرح نفسه لا للتداوي، بدل الحجامة، لم يفطر؛ لأن النهي لا يختص الصيام، وكخروج الدم يفطر على وجه القيء، لا على غير وجه القيء، ذكره في «الخلاف» (1) ،   (1) يعني: إذا جرح الإنسان نفسه من غير حاجة لم يفطر؛ لأن الجرح حرام، فيحرم على الإنسان أن يجرح نفسه بلا حاجة، والتحريم عام، فإنه لا يؤثر على الصوم؛ لأن الذي يفسد العبادة هو الذي يحرم لأجل العبادة، وما يختص تحريمه بها، وهذا مبني على أن الجرح إذا خرج منه دم كثير فهو كالحجامة يفطر به، وأما من قال: إنه لا يفطر إلا الحجامة تعبداً، ولا يلحق بها خروج الدم الكثير بغير طريق الحجامة، فالأمر فيه ظاهر أنه لا يفطر، لكن إذا قلنا بالقول الراجح أن إخراج الدم الكثير الذي يلحق البدن فتوراً وضعفاً كالحجامة يفسد الصوم، وهذا هو القول الراجح، وظاهر كلام المؤلف لا يفطر، والصحيح أنه يفطر، كما لو زنا رجل بامرأة وهو صائم فسد صومه، وإذا كان في رمضان وجبت عليه الكفارة، ولا نقول: إن هذا الوطء حرام في الصيام وغيره فلا يؤثر في الصيام، وإذا قلنا بهذا لم يكن صحيحاً، وعلى هذا فنقول: إذا جرح الصائم نفسه وخرج منه دم كثير يوجب فتور البدن وهبوط قوته كما تفعل الحجامة فإنه يفطر مع الإثم، حتى ولو كان الصوم نفلاً؛ لأن جرح الإنسان نفسه محرم، ومن هنا نعرف أن تبرع الإنسان بالكلى أو أي عضو من أعضائه محرم عليه؛ لأنه لا يجوز أن يجرح نفسه، وقد نص على هذا فقهاؤنا رحمهم الله في كتاب الجنائز، وقالوا: لا يصح أن يقطع من الميت عضو ولو أوصى به لأحد من الناس، وما يفعله بعض الناس اليوم من التبرع بالكلى غلط عظيم؛ لأنه تصرف لم يؤذن به، ثم إنه لا شك أن الله (خلق الثنتين من أجل أن يتساعدا ويتعاونا على تصفية الفضلات، فإذا كان الإنسان على واحدة فلا بد أن ينقص، حتى لو بقي الإنسان حياً لابد أن يتأثر، وستنصرف كل الفضلات على كلية واحدة، هذا إن تيسر أن العروق والمجاري المتجهة إلى الكلية التي قطعت تنصرف إلى الجهة الأخرى السليمة، ثم إذا عطبت الموجودة الآن فسيهلك، ولو كانت الثانية باقية لقامت مقامها، وقول بعض الناس: هذا من البر إذا كان أبوه هو الذي أصيب بهذا الفشل الكلوي، فنقول له: إن البر واجب، لكن إذا تضمن محرماً صار حراماً، ولهذا لو قال له أبوه: إنه يشتهي كأسا من الخمر، فهل من البر أن يذهب ويشتري له كأساً من الخمر؟! الجواب: لا، وليس من البر أن يشتري له دخانا، بل البر أن يتمادى ويقول: إن شاء الله حتى ينسى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ولا يفطر بالفصد، جزم به القاضي، وصاحب «المستوعب» ، و «المحرَّر» فيه وغيرهم؛ لأن القياس لا يقتضيه. وذكر في «التلخيص» أن هذا أصح الوجهين، والثاني: يفطر، جزم به ابن هبيرة عن أحمد. وذكر شيخنا أنه أصح في مذهب أحمد، فعلى هذا: قال صاحب «الرعاية» : يحتمل التشريط وجهين، وقال: الأولى إفطار المفصود والمشروط دون الفاصد والشارط (1) ، وظاهر كلامهم: لا فطر بغير ذلك. واختار شيخنا أنه يفطر من أخرج دمه برعاف وغيره، وقاله الأوزاعي في الرعاف، ومعنى الرعاف: السبق، تقول العرب: فرس راعف، إذا تقدم الخيل، ورعف فلان الخيل، إذا تقدَّمَها، فسمي الدمُ رُعافاً؛ لسبقه الأنف، وهو بفتح العين في الماضي، وفتحها وضمها في المستقبل، وضمها فيهما شاذ (2) ، ويقال: رماح رواعف: لما يقطر منها من الدم، أو لتقدمها في الطعن، والراعف: طرف الأرنبة (3) .   (1) الفرق بين الفصد والشرط أن الفصد قطع العرق عرضاً، والشرط طولاً. (2) قوله: «وهو بفتح العين في الماضي وفتحها وضمها في المستقبل» فيقال: رَعَفَ يَرعُفُ أو يَرعَفُ. والمستقبل يعني: المضارع، وقوله: «وضمها فيهما شاذ» فيقال: رَعُفَ يَرعُفُ، هذا شاذ لكنه لغة. (3) قوله: «الأرنبة» هي: أرنبة الأنف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وإن استقاء فقاء (و) أي شيءٍ كان (وم ش) أفطر؛ لخبر أبي هريرة: «مَنْ ذرعَهُ القيء، فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمداً، فليقض» . وهو ضعيف عند أحمد، والبخاري، والترمذي، والدارقطني، وغيرهم. ويتوجه احتمال: لا يفطر. وذكره البخاري عن أبي هريرة، ويروى عن ابن مسعودٍ، وابن عباسٍ، وعكرمة، وقاله بعض المالكية، وعنه: يفطر بملء الفم، اختاره ابن عقيل (وهـ) ، وعنه: أو نصفهِ، كنقض الوضوء، وعنه: إن فَحُشَ أفطر، وقاله القاضي، وذكر ابن هبيرة أنه الأشهر، وذكر الشيخ وغيره الأول ظاهر المذهب، وذكره صاحب «المحرر» وغيره أصح الروايات، كسائر المفطرات. واحتج القاضي بأنه لو تجشَّأ لم يُفطر، وإن كان لا يخلو أن يخرج معه أجزاء نجسة؛ لأنه يسير، كذا هنا. كذا قال، ويتوجه ظاهر كلام غيرِهِ: إن خرج معه نَجَس، فإن قصد به القيء، فقد استقاء، فيفطر، وإن لم يقصد، لم يَسْتقِئ، فلم يفطر، وإن نقض الوضوء، وذكر ابن عقيل في «مفرداته» أنه إذا قاء بنظره إلى ما يُغْثيه يفطر، كالنظر والفكر (1) . وإن قبل أو لمس، أو باشر دون الفرج، فإن لم يخرج منه شيء، فيأتي فيما يُكرَه للصائم، وإن أمنى أفطر (و) ؛ للإيماء في أخبار التقبيل، كذا ذكره الشيخ وغيره، وهي دعوى، ثُمَّ إنما فيها أنها قد تكون وسيلةً وذريعةً إلى الجماع، واحتج صاحب «المحرر» بأن إباحة الله تعالى مطلق مباشرة النساء ليالي الصوم يدل على التحريم نهاراً، والأصل في التحريم الفساد، خرج منه المباشرة بلا إنزال؛ لدليل. كذا قال.   (1) والصحيح ما دل عليه الحديث أنه إن استقاء عمداً أفطر وإلا فلا، وهو المطابق للقياس الصحيح على الحجامة، وإن كان أقل منها تأثيراً، لكنه يشبهها؛ لأن القيء: إخراج ما يغذي، والحجامة إخراج ما تغذى به، فيشابهها، وأما قولهم: «الوضوء مما خرج والفطر مما دخل» فهذه كلمة ليست صحيحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 والمراد بالمباشرة الجماع (1) ، كما روي عن ابن عباس وغيره، يؤيده أنه هو الذي كان محرَّماً، ثم نُسِخَ، لا ما دونه، مع أن الأشهر لا يحرم ما دونه (2) ، ويتوجه احتمال: لا يفطر بذلك، وقاله داود، وإن صح إجماع قبله - كما قد ادعي - تعين القول به (3) ، وعن أبي يزيد الضِّنِّي عن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل قبَّلَ امرأته - وهما صائمان - قال: «قد أفطر» .   (1) يعني: في قوله تعالى: {باشروهن} [البقرة: 187] . (2) ابن مفلح - رحمه الله - يميل إلى أنه لا يفطر إذا باشر الرجل وأنزل، أو قَبّلَ وأنزل، أو ضم وأنزل، ولهذا رد عليهم في تعليل الشيخ الموفق رحمه الله للإيماء في أخبار التقبيل، فقال: «وهي دعوى» ثم استطرد إلى أن قال: «والمراد بالمباشرة الجماع» ، لكن عندنا فيه أنه يفطر بذلك؛ لأنه في الحديث القدسي أن الله عز وجل يقول: «يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي» [أخرجه البخاري في الصوم/باب فضل الصوم (1894) ؛ ومسلم في الصيام/باب حفظ اللسان للصائم (1151) (164) .] ، ومعلوم أن خروج المني من أقوى الشهوات، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وفي بضع أحدكم صدقة» ، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم إن وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إن وضعها في حلال، كان له أجر» [أخرجه مسلم في الزكاة/باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (1006) .] ، والشهوة التي توضع هي المني، فالصحيح أن الإنسان إذا باشر بتقبيل أو ضم أو لمس وأنزل أن صومه يفسد. (3) قوله: «وإن صح إجماع قبله كما قد ادعى تعين القول به» لأن بعضهم قال: إنه يفطر إذا أنزل بالإجماع، فيقول ابن مفلح رحمه الله: من باب العدل: وإن صح إجماع قبله كما قد ادعى تعين القول به؛ لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة، لكن قوله: «إن صح» يدل على أنه متردد في صحة دعوى الإجماع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 رواه أحمد، وابن ماجه، والدارقطني، وقال: لا يثبت هذا، وأبو يزيد الضني ليس بمعروف. وكذا قال البخاري وغيره: حديث منكر، وأبو يزيد مجهول. وإن مَذَى بذلك، أفطر أيضاً. نص عليه (وم) ، واختار الآجريُّ، وأبو محمدٍ الجوزي - وأظن وشيخنا - لا يفطر، وهو أظهر (وهـ ش) ، عملاً بالأصل، وقياسه على المني لا يصح؛ لظهور الفرق. وفي «الرعاية» قول: يبطل بالمباشرة دون الفرج فقط. كذا قال (1) .   (1) إذن ابن مفلح رجح أن الإمذاء بذلك لا يفطر، وهو الصحيح، وعسى أن نسلم من الشك فيما إذا أمنى، أما إذا أمذى فلا شك أنه لا يفطر بذلك، ولو قَبّل عدة مرات، وقوله رحمه الله: «وقياسه على المني لا يصح لظهور الفرق» ، والفرق واضح، لا في تأثيرهما على البدن، ولا في أحكامهما، ومنه نعرف أن المسائل إذا اختلفت أنه لا يصح القياس، ومن ذلك: جواز جمع العصر مع الجمعة قياساً على الظهر، وهذا القياس لا يصح؛ لأن أكثر الأحكام تختلف، فكيف تلحق، وهذه قاعدة في الاستدلال والمناظرة، أنه إذا حصل الفرق بين المسألتين فإنه لا قياس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وإن استمنى فأمنى أو مذى، فكذلك على الخلاف وفاقاً، وإن كرَّرَ النظر فأمنى أفطر (هـ ش) خلافاً للآجري، وإن مذى لم يفطر في ظاهر المذهب (م) ، والقول بالفطر أقيس على المذهب، كاللَّمْس؛ لأن الضعيف إذا تكرر قوي، كتكرار الضرب بصغير في القود، وإن لم يكرر النظر لم يفطر (وهـ ش) ؛ لعدم إمكان التحرز. وقيل: يفطر (وم) ، ونص أحمد: يفطر بالمني لا بالمَذْي. وكذا الأقوال إن فكَّرَ، فأنزل أو مذى؛ فلهذا قال ابن عقيلٍ: مذهب أحمد، ومالك سواء؛ لدخول الفكر تحت النهي، وظاهر كلامه: لا يفطر (م) وهو أشهر؛ لأنه دون المباشرة وتكرار النظر؛ بخلاف ذلك في التحريم، إن تعلق بأجنبية، زاد صاحب «المغني» : أو الكراهة إن كان في زوجة. كذا قالوا، ولا أظن من قال: يفطر به - وهو أبو حفص البرمكي، وابن عقيل - يسلِّمُ ذلك، وقد نقل أبو طالب عن أحمد: لا ينبغي فعله، وسيأتي إن شاء الله فيما يُكرَه للصائم، وفي الكفارة عن مالك روايتان، والمراد النية المجردة، والله أعلم. وقد ذكر ابن عقيل: أنه لو استحضر عند جماع زوجته صورة أجنبية محرمة أو ذَكَرٍ، أنه يأثم، وذكره في «الرعاية» أول كتاب النكاح. ولا فطر ولا إثم بفكر غالب (و) ، وفي «الإرشاد» احتمال فيمن هاجَتْ شهوته فأمنى أو مذى: أفطر. وذكر صاحب «المحرر» قول أبي حفصٍ المذكور، ثُمَّ قال: وذكَرهُ ابن أبي موسى احتمالاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ويفطر بالموت، فيطعم من تركته في نذرٍ وكفارةٍ (1) . فصل: وإنما يفطر بجميع ما سبق إذا فعله عامداً ذاكراً لصومِهِ مختاراً وإنما يفطر بجميع ما سبق إذا فعله عامداً ذاكراً لصومِهِ مختاراً، فلا يفطر ناس (م) ، نقله الجماعة، ونقله الفضل في الحجامة، وذكره ابن عقيلٍ في مقدمات الجماع، وذكره الخرقي في الإمناء بقلبهٍ أو تكرار نظرٍ، وأنه يفطر بوطئه دون الفرج ناسياً.   (1) قوله: «فيطعم من تركته» يعني: يطعم عن يوم موته، وكأنه رحمه الله أخذ هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته ناقته يوم عرفة: «إنه يبعث يوم القيامة ملبياً» [أخرجه البخاري في الجنائز/باب الكفن في ثوبين (1206) ؛ ومسلم في الحج/باب ما يفعل بالمحرم إذا مات (1206) .] وأبقى أحكام الإحرام عليه، وقال: «لا تخمروا رأسه ولا تحنطوه» ، فقد يكون في ذلك إيماء إلى أن بقية العبادات تبطل بالموت، ولكن إذا قال قائل: ما الفائدة من قولنا: إنها تبطل بالموت؟ يقول: الفائدة أنها إذا كان فيه كفارة أو نذر فإنه يطعم عنه، وأما إذا كان في الواجب فلا، والذي يظهر لي أنه لا يجب الإطعام ولا الصوم عنه إذا مات في أثناء النهار، حتى لو كان كفارة أو قضاء، فإنه لا يطعم عنه؛ لأنه قدم على ربه، ونحن نقول: المفطرات الثابتة إذا جاءت بغير قصد لم تضر، ولا يفطر الإنسان بها، فكيف بالموت؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وفي «المستوعب» : المساحقة كالوطء دون الفرج، وكذا من استمنى، فأنزل المني، وذكر أبو الخطاب أنه كالأكل في النسيان، لخبر أبي هريرة: «مَنْ نسي وهو صائم، فأكل أو شرب، فليتمم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه» . متفق عليه. وللدارقطني معناه، وزاد: «ولا قضاء عليه» . وفي لفظٍ «من أفطر يوماً من رمضان ناسياً، فلا قضاء عليه ولا كفارة» . رواه الدارقطني، وقال: تفرد به ابن مرزوق - وهو ثقة - عن الأنصاري، وللحاكم - وقال: على شرط مسلم -: «من أكل في رمضان ناسياً، فلا قضاء عليه ولا كفارة» . ولأنه يختص النهي بالعبادة لا حد في جنسه، فلا يؤثر بلا قصد، كطيران الذباب إلى حلقه، بخلاف الردة والجماع، وكصوم النفل (وم) ، وفي «الرعاية» : لا قضاء في الأصح، وعنه: يفطر بحجامة ناس، اختاره في «التذكرة» ؛ لظاهر الخبر، وندرة النسيان فيها، وقيل: واستمناء ناس، والمراد: ومقدمات الجماع. وذكر في «الرعاية» الفطر بمباشرة دون الفرج. قال: وقيل: عامداً، وكذا إن أمنى بغيرها مطلقاً، وقيل: عامداً، أو مذى بغيرها عامداً، وقيل: أو ساهياً. ولا يفطر مُكرَه، سواء أُكرِه على الفطر حتى فعله، أو فُعلَ به، بأن صُبَّ في حلقه الماء مكرهاً أو نائماً، أو دخل فيه ماء المطر. نص عليه، كالناسي بل أولى؛ بدليل الإتلاف. وفي «الرعاية» : لا قضاء، في الأصح، وقيل: يفطر إن فعل بنفسه، كالمريض. ومذهب الحنفية: يفطر؛ لندرة الإكراه، فلا تعم البلوى، بخلاف النسيان، والنص فيه، ومذهب (م) يفطر، كالناسي عنده، ومذهب (ش) لا يفطر إن فُعلَ به، وإن فَعَلَ بنفسه، فقولان. ويفطر الجاهل بالتحريم (و) نص عليه في الحجامة؛ لأنه عليه السلام مر برجل يحجم رجلاً، فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم» ، وكالجهل بالوقت، والنسيان يكثر. وفي «الهداية» و «التبصرة» : لا يفطر؛ لأنه لم يتعمد المفسد، كالناسي، وجمع بينهما في «الكافي» بعدم التأثيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وإن أُوجِرَ المغمى عليه معالجةً، لم يفطر، وقيل: يفطر؛ لرضاه به ظاهراً، فكأنه قصده. وللشافعية وجهان. ومَنْ أراد الفطر فيه بأكلٍ أو شربٍ، وهو ناس أو جاهل، فهل يجب إعلامه؟ فيه وجهان. ويتوجه ثالث: إعلام جاهلٍ لا ناسٍ. ويتوجه مثله: إعلام مصل أتى بمناف لا يبطل، وهو ناس أو جاهل، وسبق أنه يجب على المأموم تنبيه الإمام فيما يُبطلُ؛ لئلا يكون مفسداً لصلاته مع قدرته (1) .   (1) هنا ذكر المؤلف - رحمه الله تعالى - خلافاً وتفصيلاً طويلاً، الذي يقضي عليه قول الله عز وجل: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286] ، فقال الله: «قد فعلت» [أخرجه مسلم في الإيمان/ باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق (126) ] ، فهذا النص يحكم على كل الخلافات، وعلى هذا فمن كان جاهلاً بالوقت أو بالحكم أو كان ناسياً أنه صائم أو ناسياً أن هذا يُفطر فصومه صحيح، لكن يجب متى زال العذر أن يتوقف، كذلك المكره الذي لم يختر لا يفطر؛ لقول الله تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم} [الأحزاب: 5] . وكذلك أيضاً ذكر المؤلف - رحمه الله - في الإنسان المغمى عليه إذا أوجر - يعني صب في فمه ماء - فهل يفطر أو لا؟ ومعلوم أن المغمى عليه إذا صب الماء في فمه أنه يجذبه، كالصبي يجذب اللبن، فهل نقول: إن هذا يفطر لرضاه به ظاهراً، لأن هذا المريض الصائم يرضى أن يصب الناس في فمه ماءاً من أجل أن يصحو؟ فهل نقول: هذا ليس كالمكره؛ لرضاه به ظاهراً، أو نقول إنه كالمكره؛ لأنه لا إرادة له؟ هنا فيه احتمال، والاحتياط عندي أن يقضي؛ لأن هذا وإن كان لا يشعر بذلك لكنه راضٍ به قطعاً. بقي مسألة ثانية مهمة، وهي: هل إذا رأيت أحداً صائماً يأكل أو يشرب هل تنبهه؟ الجواب: نعم، قال المؤلف: «ومن أراد الفطر فيه بأكل أو شرب وهو ناس أو جاهل، فهل يجب إعلامه؟ فيه وجهان، ويتوجه ثالث: إعلام جاهل، لا ناس» ، وهذه المسألة فيها خلاف على ثلاثة أقوال: القول الأول: يجب تنبيهه. والقول الثاني: لا يجب. والقول الثالث: يجب تنبيه الجاهل دون الناسي؛ لأن تنبيه الجاهل من باب التعيين، وليس من باب التذكير، فيجب إعلام الجاهل دون الناسي، والصواب: أنه يجب إعلام الجميع، ولا يقال: هذا رزق رزقه الله، ولكن ينبهه، وهذا من التعاون على البر والتقوى، كما قال الله عز وجل: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة: 2] . وقول المؤلف: «يجب على المأموم تنبيه الإمام فيما يبطل؛ لئلا يكون مفسدا لصلاته مع قدرته» فالمأموم لاشك أنه يجب عليه أن ينبه الإمام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا نسيت فذكروني» [أخرجه البخاري في الصلاة/باب التوجه نحو القبلة حيث كان (393) ؛ ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة/باب السهو في الصلاة والسجود له (572) .] ، ولأن صلاة المأموم مرتبطة بصلاة الإمام، فإذا أتى الإمام بمناف للصلاة ناسياً فهو معذور، لكن المأموم غير معذور، فلا بد من تنبيهه، ولا يصح قياس هذه المسألة - أعنى مسألة من رأيته يأكل ويشرب وهو صائم - على مسألة تنبيه المأموم لإمامه، ووجه الفرق: أن صلاة المأموم مرتبطة بصلاة الإمام، فإذا فسدت وهو يعلم أنها فسدت، وتابعه مع فسادها، بطلت صلاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 فصل: ولا كفارة بغير جماع ومباشرة ولا كفارة بغير جماع ومباشرة، على ما يأتي. نص عليه (1) (وش) عملاً بالأصل، ولا دليل (2) ، والجماع آكد (3) ، ونقل حنبل: يقضي، ويكفِّرُ للحقنة، ونقل محمد بن عبدك: يقضي، ويكفِّرُ من احتجم في رمضان، وقد بلغه الخبر، وإن لم يبلُغْه، قضى. قال صاحب «المحرَّر» : فالمفطرات المجمع عليها أولى، وقال: قال ابن البناء على هذه الرواية: يكفر بكل ما فطَّرَه بفعلِهِ، كبلع حصاةٍ، وقيءٍ، وردة، وغير ذلك. وفي «الرعاية» - بعد رواية محمد بن عبدك-: وعنه: يكفر من أفطر بأكلٍ أو شربٍ أو استمناءٍ، اقتصر على هذا، وخص الحلواني رواية الحجامة بالمحجوم، وذكر ابن الزاغوني على رواية الحجامة، كما ذكره ابن البناء؛ لأنه أتى بمحظور الصوم، كالجماع، وفاقاً لعطاء وأبي ثورٍ، وهذا ظاهر اختيار أبي بكرٍ الآجري، وصرح به في أكلٍ أو شربٍ، وقيل: يكفر للحجامة، كحامل ومرضع، ومذهب (م) يكفِّرُ من أكلٍ أو شربٍ، وحُكِيَ عنه أيضاً في القيءِ وبلع الحصاة: التكفير، وعدمه، ومذهبه أن الكُفْرَ يمنع وجوب الكفَّارةِ والقضاء، ومذهب (هـ) يكفِّرُ للأكل والشرب إن كان مما يُتَغَّذَى به أو يتداوى به (4) .   (1) قوله: «نص عليه» أي: الإمام أحمد. (2) هنا ذكر المؤلف - رحمه الله تعالى - أدلة: أولاً: عملاً بالأصل، وثانياً: لا دليل على وجوب الكفارة، والثالث: «ولا إجماع» يعني: ولا دليل من النص ولا الإجماع. (3) المؤلف - رحمه الله - يتكلم الآن على القياس، ولعل قائلا أن يقول: العلة هي التفطير، وهذا تعمد الفطر، فتجب عليه الكفارة، كما لو تعمد الجماع. قال المؤلف - رحمه الله -: إن الجماع آكد، وهو كذلك آكد وأشد حرمة، والنفس تدعو إليه أكثر، لاسيما من شاب تزوج حديثاً. (4) والصحيح ما قدمه - رحمه الله- أنه لا كفارة بغير الجماع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 فصل: وإن طار إلى حلقِهِ غبار طريقٍ أو دقيقٍ أو دخان لم يفطر وإن طار إلى حلقِهِ غبار طريقٍ، أو دقيقٍ، أو دخان، لم يفطر (و) كالنائم يدخل حلقَهُ شيء. وفي «الرعاية» في الصورة الأولى: وقيل: في حق الماشي، وفي الثانية: وقيل: في حق النَّخالِ. وفي الثالثة: وقيل: في حق الوقَّاد. كذا قال، ووجه لندرتِهِ، فلا يفرد بحكمٍ، وله نظائر. وكذا إن طار إلى حلقِهِ ذباب، لم يفطر (و) خلافاً للحسن بن صالحٍ. وإن احتلم أو أمنى من وطء ليل (و) ، أو أمنى ليلاً من مباشرته نهاراً (و) ، لم يفطر (و) ، وظاهره: ولو وطئ رجل قرب الفجر، ويشبهُهُ من اكتحل إذاً (1) . ولا يفطر من ذرعه القيء (و) ، ولو عاد إلى جوفِهِ بغير اختيارِهِ (هـ) خلافاً لأبي يوسف، ولو أعاده عمداً ولم يملأ الفم، أو قاء ما لا يفطر به، ثم أعاده عمداً، أفطر به (هـ ر) خلافاً لأبي يوسف، كبلعه بعد انفصاله عن الفم (و) ، وإن أصبح وفي فيه طعام فرماه، أو شق رميه، فبلعه مع ريقه بغير قصدٍ، أو جرى ريقه ببقية طعام تعذَّرَ رمية، أو بلع ريقه عادة، لم يُفِطر (و) ، وإن أمكنه لفظه؛ بأن تميز عن ريقه، فبلعه عمداً، أفطر، نص عليه، ولو كان دون الحمصة (هـ م) ، قال أحمد رحمه الله فيمن تنخع دماً كثيراً في رمضان: أجبن عنه، ومن غير الجوف أهون. وإن بصق نُخامةً بلا قصدٍ من مخرج الحاء المهملة، ففي فطرِهِ وجهان، مع أنه في حكم الظاهر، كذا قيل، وجزم به في «الرعاية» .   (1) قوله: «ويشبهه من اكتحل إذن» لأنه اكتحل قبل الفجر، ووجد طعم الكحل في حلقه بعد الفجر، فهل يفطر أو لا يفطر؟ فيه خلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وإن قَطَر في ذكره دُهناً، لم يفطر. نص عليه (هـ ر وش) وأبي يوسف؛ لعدم المنفذ، وإنما يخرج البول رشحاً، كمداواة جرح عميق لم ينفُذْ إلى الجوف، وقيل: بينهما منفذ، كمن وضع في فيه ماءً لم يتحقق نزوله في حلقه، وقيل: يفطر إن وصل مثانته - وهي العضو الذي يجتمع فيه البول داخل الجوف -، فإذا كان لا يستمسك بوله، قيل: مثِن الرجل، بكسر الثاء، فهو أمثن، والمرأة مثناء، وقال الكسائي: يقال: رجل مثن وممثون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 ومن أصبح جنباً، ثم اغتسل، صح صومه (و) ، مع أنه يسن قبل الفجر، وعليه يحمل نهيه عليه السلام في «الصحيحين» ، أو أنه منسوخ؛ لأن الله تعالى أباح الجماع وغيره إلى طلوع الفجر، احتج به ربيعة والشافعي وجماعة، ولفعله عليه السلام، متفق عليه (1) . وكذا إن أخره يوماً، صح وأثم (و) ، وفي «المستوعب» : يجيء على الرواية التي تقول: يكفر بترك صلاةٍ إذا تضايق وقت التي بعدها، أن يبطل إذا تضايق وقت الظهر قبل غُسلِهِ وصلاة الفجر. كذا قال. وسبق في ترك الصلاة، ومراده ما ذكره في «الرعاية» : إن فاته شيء من الصلوات، وقلنا: يكفر بتركها بشرطِهِ، بطل صومه، وكذا الحائض تؤخره، وسبق في الحيض. ونقل صالح في الحائض تؤخره بعد الفجر: تقضي (2) .   (1) وجه الدلالة من الآية، وهي قوله تعالى: {فالئن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} [البقرة: 187] أن الله تعالى أباح الجماع إلى طلوع الفجر، ويلزم من هذا أن يكون الاغتسال بعد طلوع الفجر، وهذا هو المقصود، فيجوز أن يصبح الإنسان جنباً ويغتسل بعد طلوع الفجر، وأما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم: فكذلك صح عنه أنه صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من أهله وهو صائم [أخرجه البخاري في الصيام/باب الصائم يصبح جنبا (1925؛ 1926) ؛ ومسلم في الصوم/باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب (1109) .] . (2) يعني: الحائض إذا أخرته بعد الفجر قضت، هذا معنى الرواية، والصواب أنها لا تقضي مادامت تحققت الطهر قبل الفجر، فإن صومها يصح، ولو لم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وإن تمضمض، أو استنشق، فدخل الماء حلقه بلا قصدٍ، لم يفطر (هـ م) ، وإن زاد على الثلاث في أحدهما، أو بالغ فيه، فوجهان، واختار صاحب «المحررِ» يبطل بالمبالغة؛ للنهي الخاص، وعدم ندرة الوصول فيها، بخلاف المجاوزة، وأنه ظاهر كلام أحمد في المجاوزة: يعجبني أن يعيد. وإن تمضمض أو استنشق لغير طهارةٍ، فإن كان لنجاسةٍ ونحوها، فكالوضوء، وإن كان عبثاً أو لحَرٍّ أو عطشٍ، كره. نص عليه (م) ، وفي الفطر به الخلاف في الزائد على الثلاث، وكذا إن غاص في الماء في غير غسل مشروعٍ، أو أسرف، أو كان عابثاً، وقال صاحب «المحررِ» : إن فعله لغرضٍ صحيح، فكالمضمضة المشروعة، وإن كان عبثاً فكمجاوزة الثلاث. ونقل صالح: يتمضمض إذا أجهد (1) .   (1) يعني: إذا شق عليه، وهذا يقع في أيام الصيف، يكون الإنسان في أثناء النهار ييبس ريقه، ويشق عليه، فله أن يتمضمض من أجل بَلِّ الريق، ولا يضر، وفي هذه الحال لو نزل الماء إلى جوفه لا يفسد صومه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 ولا يكرهُ للصائم أن يغتسل (هـ) للخبر. قال صاحب «المحرر» : ولأن فيه إزالة الضجر من العبادة، كالجلوس في الظلال الباردة (1) ،   (1) فُهِمَ من هذا التعليل - وهو تعليل صحيح - أنه يجوز للإنسان أن يفعل ما يزيل عنه الضجر في العبادة، كأن يغتسل بالماء لينشط، أو يبقى عند المكيف، أو ما أشبه ذلك، وأما الإشقاق على النفس مع إمكان التسهيل فهذا من التنطع، ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم الذين حاولوا أن يواصلوا في الصوم جعلهم متعمقين، فأنت مادام الله عز وجل قد جعل لك التيسير في العبادة فخذ به، ومن ذلك الوضوء بالماء الساخن في أيام الشتاء أفضل من الماء البارد، لكن إذا لم يكن ماء ساخن وتوضأت بالبارد فهذا لاشك أنه أعظم أجراً؛ لأنه فعل ما فيه إيلام لعدم وجود ما ليس فيه إيلام، ولهذا لو قال قائل: أيهما أفضل: أن أسافر للحج على الطائرة، أو على السيارة، أو على عربية تجرها الحمير، أو على حمار، أو راجلاً؟ فنقول: سافر على الطائرة؛ لأنها أريح، أما لو تعذر الأسهل فحينئذ تحمل المشقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «إن أجرك على قدر نصبك» . [أخرجه مسلم في الحج/ باب بيان وجوه الإحرام (1211) .] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 بخلاف قول المُخالفِ: إن فيه إظهار التضجر بالعبادة، وقوله: إن الصوم مستحق فعله على ضربٍ من المشقة، فإذا زال ذلك بما لا ضرورة إليه، كُرِهَ، كما لو استند المصلي في قيامِهِ إلى شيءٍ (1) ، واختار صاحب «المحررِ» أن غوصه في الماء كصب الماء عليه (وش) ، ونقل حنبل: لا بأس به إذا لم يخف أن يدخل الماء حلقه أو مَسامِعَه، وكرهَهُ الحسن، والشعبي ومالك، وجزم به بعضهم. وفي «الرعاية» : يُكرَه، في الأصح، فإن دخل حلقه، ففي فطرِهِ وجهان، وقيل: له ذلك ولا يفطر، ونقل ابن منصورٍ، وأبو داود، وغيرهما: يدخل الحمام، ما لم يَخَفْ ضَعفاً. ورواه أبو بكر عن ابن عباسٍ وغيرِهِ.   (1) لاشك أن بينهما فرقاً، فالمستند في قيامه إلى شيء يكون معتمداً على هذا الشيء، كأنه مستلقٍ عليه؛ لأن المزيل أصل وجود المشقة في الصيام، هذا إذا سلمنا أن الاستناد إلى شيء على وجه يسقط به لو أزيل هذا الشيء أنه مبطل للصلاة، والمسألة فيها خلاف، لكن على القول أن الإنسان إذا استند إلى عمود أو إلى الجدار وهو قادر أن يقف بدون استناد فإن الفريضة تبطل، وتكون نافلة، على هذا القول نقول: الفرق بين هذا وهذا ظاهر؛ لأنه إذا اعتمد على الجدار صار كأنه غير قائم، فكأنه مستلقٍ على الجدار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 قال في «الخلاف» : ما يجري به الريق لا يمكنه التحرز منه، وكذا ما يبقى من أجزاء الماء بعد المضمضة، كالذباب والغبار، ونحو ذلك، فإن قيل: يمكنه التحرز من أجزاء الماء من المضمضة؛ بأن يبزق أبداً حتى يعلم أنه لم يبق منها شيء، قيل: هذا يشق، وليس في لَفْظِ ما يمكن لَفْظُه مشقة (1) ، يعني: ما يبقى في فيه، ولم يجر به الريق. وهذا معنى كلام صاحب «المحرر» هنا، وقال في ذوق الطعام: لا يفطر إن بصق، واستقصى، كالمضمضة. ويأتي كلام الشيخ أول الفصل بعده. فصل: يكره للصائم أن يجمع ريقه ويبلعه يكره للصائم أن يجمع ريقه ويبلعه، فإن جمعه ثُمَّ بلعه قصداً، لم يفطر (و) ، كما لو بلعه قصداً ولم يجمَعْه؛ بخلاف غبار الطريق، وقيل: يفطر، فيحرم ذلك، كعودِهِ وبلعه من بين شفتيه، وفي «منتهى الغاية» : ظاهر شفتيه؛ لإمكان التحرز منه عادةً، كغير الريق، وإن أخرج من فيه حصاةً أو درهماً أو خيطاً، ثم أعاده، فإن كان ما عليه كثيراً فبلعه أفطر، وإن قل لم يفطر، في الأصح (ش) ؛ لأنه لا يتحقق انفصاله ودخوله حلقه، كالمضمضة، ولو كان لسانه، لم يفطر. أطلقه الأصحاب (و) ؛ لأن الريق لم يفارق محله، وقال ابن عقيل: يفطر. وإن تنجس فمه، أو خرج إليه قيء أو قلس، فبلعه، أفطر. نص عليه، وإن قل؛ لإمكان التحرز منه، وإن بصقه، وبقي فمه نجساً، فبلع ريقه، فإن تحقَّقَ أنه بلع شيئاً نجساً أفطر، وإلا فلا، وصفة غسل فمه، سبق في الفصل الثاني من إزالة النجاسة.   (1) بعض الناس إذا تمضمض بقي يتفل لمدة، ويقول: أخشى أن يبقى طعم الماء في فمي، وينزل إلى بطني، وهذا من التنطع والتعمق في الدين، فالصحابة رضي الله عنهم، بل ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم يتمضمض ولم يفعل ذلك، وأما هذا التشدد فإنه لا ينبغي، أما ما يبقى في الأسنان من آثار الطعام فهذا يستطيع الإنسان أن يخرجه دون مشقة والتحرز منه، فهو سهل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وهل يفطر ببلع النخامة (وش) كالتي من جوفِهِ؛ لأنها من غير الفم كالقيء، أم لا؛ لاعتبارها في الفم كالريق؟ فيه روايتان، وعليهما ينبني التحريم، وفي «المستوعب» : أن القاضي وغيره ذكروا في النخامة روايتين، ولم يفرقوا، وذكر ابن أبي موسى: يفطر بالتي من دماغه، وفي التي من صدرِهِ روايتان (1) . ويكره ذوق الطعام، ذكره جماعة وأطلقوا (وم) ، وقد قال أحمد: أحب أن يَجتنبَ ذوق الطعام، فإن فعل فلا بأس، وذكر صاحب «المحرر» أن المنصوص عنه: لا بأس به؛ لحاجةٍ ومصلحةٍ، واختاره في «التنبيه» ، وابن عقيلٍ (وهـ ش) وحكاه أحمد والبخاري عن ابن عباسٍ، وكالمضمضة المسنونة، فعلى هذا: عليه أن يستقصي في البصق، ثُمَّ إن وجد طعمه في حلقه لم يُفطِر، كالمضمضة، وإن لم يستقص في البصق أفطر؛ لتفريطِهِ، وعلى الأول: يفطر مطلقاً؛ لإطلاق الكراهة. ذكره صاحب «المحررِ» ، وجزم جماعة بفطرِهِ مطلقاً، ويتوجه الخلاف في مجاوزة الثلاث.   (1) كلامه - رحمه الله - يدل على أن مسألة بلع النخامة فيها خلاف، وأنه ليس بحرام، ولكن الفقهاء - رحمهم الله - صرحوا أن بلع النخامة حرام على الصائم وغيره؛ لأنها مستقذرة، ولأنها قد تحمل جراثيم من الرئة أو من الدماغ، أو غير ذلك، فيؤدي إلى أضرار في المعدة، لكن الجزم بالتحريم فيه نظر، لا في الصيام، ولا في الإفطار؛ لأنها تشبه الريق، وكثيراً ما يأتي بها الريق بلا إحساس، ولا يلزم الإنسان إذا أحس في حلقه بنخامة أن يتكلف بإخراجها، كما يفعله بعض العوام، بل يتركها إن نزلت إلى الجوف فهي نازلة، وإن خرجت فهي خارجة، أما أن يتكلف جذبها حتى لا يبتلعها فهذا غلط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 ويكرَهُ مضغ العلك الذي لا يتحلل منه أجزاء. نص عليه (و) ؛ لأنه يحلب الفم، ويجمع الريق، ويورث العطش، ويتوجه احتمال (1) ؛ لأنه يروى عن عائشة، وعطاء (2) ، وكوضع الحصاة في فيه، قال أحمد فيمن وضع في فيه درهماً أو ديناراً: لا بأس به ما لم يجد طعمه في حلقه، وما يجد طعمه فلا يعجبني. وقال في الصائم يفتل الخيط (3) : يعجبني أن يبزق.   (1) أي: أنه لا يكره. (2) ما ذكره المؤلف من الكراهة أو احتمال عدم الكراهة، هذا فيمن يفعله وحده، إما في بيته، أو في مكتبته، أو ما أشبه ذلك، أما من يفعله أمام الناس فهذا أقل أحواله الكراهة، إن لم نقل بالتحريم؛ لأنه يساء به الظن من وجه، ويقتدي به الجاهل من وجه آخر، فلو فرضنا أن رجلاً طالب علم يمضغ العلك أمام الناس، وأمام الجهال من النساء والصغار، وما أشبه ذلك، فيظن الناس أنه يأكل، ويقولون: لا بأس بالأكل، ويحلفون بالله أنهم رأوا فلانا يأكل، وهذا مضرة عظيمة، فالمهم أنه ينبغي أن يقيد كلامه - رحمه الله - بما إذا كان الإنسان وحده، وأما بحضور الناس فلا، والعلك الذي يتحلل إلى حبات صغيرة وله طعم هذا لا يجوز إن بلع ريقه، وأما القوي الذي ليس له طعم، ولا يتحلل فهذا الصحيح أنه ليس بمكروه، ولكن كما سبق لا يمضغه أمام الناس. (3) قوله: «يفتل الخيط» كان الناس في الأول يخيطون بالإبر، فإذا أراد الخياط أن يدخل الخيط في سم الإبرة، فإنه يبله، ويمر به على شفتيه، هذا مراده رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 فعلى الأول: هل يفطر إن وجد طعمه في حلقه أو لا؛ لأن مجرد الطعم لا يفطر، كمن لطخ باطن قدمه بحنظل (1) (ع) بخلاف الكُحلِ؛ فإنه تصل أجزاؤُه إلى الحلق؟ على وجهين، فدل أنه يفطر بأجزائه، وقيل: في تحريم مالا يتحلل غالباً، وفطره بوصوله أو طعمه إلى حلقه، وجهان، وقيل: يكره بلا حاجة. ويحرم مضغ العلك الذي تتحلل منه أجزاء (ع) ، وفي «المقنع» : إلا أن لا يَبلعَ ريقه، وفَرضَ بعضهم المسألة في ذوقِهِ، وإن وجد طعمه في حلقِهِ أفطر، وسبق السواك في بابِهِ، قال في «المستوعب» وغيره: ويكره أن يدع بقايا الطعام بين أسنانِهِ، وشم ما لا يأمن أن يجذبه نفَسُه إلى حلقِةِ، كسحيق مسْكٍ، وكافورٍ ودهنٍ ونحوِهِ (2) .   (1) قول المؤلف: «كمن لطخ باطن قدمه بحنظل» الحنظل: نبات مُرٌّ جداً، ويسمى في القصيم: «الشري» ، وهو إذا لطخ به القدم أحس الإنسان بطعمه في حلقه، مع أن القدم بعيدة عن الحلق، ويُذكر أنه إذا شوي على النار، ثم داس عليه الإنسان حتى انفجر، فإنه يسهل البطن، يعني: ينفع من كان عنده يُبس في بطنه، ومع ذلك نقول: لو أن الإنسان وطء حنظلة، وأحس بطعمها في حلقه، فإنه لا يفطر؛ لأن القدم لم تجر العادة أن تكون مجرى للطعام، وليست منفذا معتاداً. (2) وعلى هذا: فينبغي أن يتخلى الإنسان إذا انتهى من السحور، فيخلل أسنانه لئلا يبقى فيها شيء، فإن هذا الشيء إما أن يكون كبيراً فيجد طعمه، وإما أن يكون صغيراً فيخشى أن يخرج ويبتلعه الإنسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وتكره القبلة لمن تحرك شهوته فقط (وهـ) ؛ لقول عمر بن أبي سلمة: يا رسول الله، أيقبل الصائم؟ فقال له: «سَلْ هذه» لأم سلمة، فأخبرته أنه يفعل ذلك، فقال: يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال: «أما والله إني لأتقاكم لله، وأخشاكم له» . رواه مسلم (1) . ونهى النبي صلى الله عليه وسلم شابّا، ورخص لشيخ. حديث حسن، رواه أبو داود من حديث أبي هريرة، ورواه سعيد عن أبي هريرة، وأبي الدرداء، وكذا عن ابن عباس (2) .   (1) وهذا يدل على جواز القبلة للصائم بدون تفصيل، وفي هذا الإيماء إلى التعليم بالفعل، وأنه قد يكون أقوى تأثيراً من التعليم بالقول؛ لقوله: «سل هذه» [أخرجه مسلم في الصيام/باب بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته (1108) .] ، يعني: هل أنا أفعله أو لا؟ وفيه دليل على أن الأصل التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما دل الدليل على أنه خاص به، فإن دل الدليل على أنه خاص به عمل به، وإلا فالأصل التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يفيده عموم قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21] ، وعلى هذا: فإذا رأيت من بعض أهل العلم أنه إذا عجز عن الجمع قال: هذا خاص به صلى الله عليه وسلم، فهذا خلاف الأصل. (2) قوله: «عن أبي هريرة وأبي الدرداء وكذا عن ابن عباس» الظاهر أنه موقوف؛ لأنه حديث متكلم فيه، وضعفه كثير من علماء الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 بإسناد صحيحٍ، وعنه: تُكرَه لمن تُحرِّكُ شهوته، ولغيره (وم ر) ؛ لاحتمال حدوث الشهوة، وكالإحرام، وعنه: تحرم على مَنْ تحرك شهوته، وجزم به في «المستوعب» وغيره (وم ش) ، كما لو ظن الإنزال معها، وذكره صاحب «المحرر» بلا خلافٍ، ثم إن خرج منه مني أو مذي، فقد سبق أول الباب، وإن لم يخرج منه شيء لم يفطر، ذكره ابن عبد البر (ع) لما سبق، وحكى ابن المنذر عن ابن مسعودٍ: يفطر، وحكاه الخطابي عنه وعن ابن المسيب، وحكاه الطحاوي عن ابن شبرمة، وقاله ابن القاسم المالكي، ويأتي في الغيبة، هل يفطر بها، وبكل محرمٍ؟ ومراد من اقتصر من الأصحاب على ذكر القبلة دواعي الجماع؛ ولهذا قاسوه على الإحرام، وقالوا: عبادة تمنع الوطء، فمنعت دواعيه كالإحرام. وفي «الكافي» : واللمس، وتكرار النظر، كالقبلة؛ لأنهما في معناها. وفي «الرعاية» - بعد أن ذكر الخلاف في مسألة القبلة -: وكذا الخلاف في تكرار النظر، والفكر في الجماع، فإن أنزل أثم وأفطر، والتلذذ باللمس، والنظر، والمعانقة، والتقبيل سواء. هذا كلامه، وهو معنى «المستوعب» ، واللَّمسُ لغير شهوة، كلمس اليد؛ ليعرف مرضها ونحوه، لا يُكرَه (و) ، كالإحرام. فصل: قال أحمد رحمه الله تعالى ينبغي للصائم أن يتعاهد صومه من لسانه قال أحمد رحمه الله تعالى: ينبغي للصائم أن يتعاهد صومه من لسانه ولا يماري، ويصون صومه؛ كانوا إذا صاموا، قعدوا في المساجد، وقالوا: نحفظ صومنا، ولا نغتاب أحداً ولا يعمل عملاً يجرح به صومه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 قال الأصحاب رحمهم الله: يسن له كثرة القراءة والذكر والصدقة، وكف لسانه عما يُكرَهُ، ويجب كفه عما يحرم من الكذب، والغيبة، والنميمة، والشتم، والفحش، ونحو ذلك (ع) ، وذكر بعض أصحابنا وغيرهم قول النخعي: تسبيحة في رمضان خير من ألف تسبيحة في غيره، وذكره الآجري وجماعة عن الزهري (1) . ولا يفطر بالغيبة ونحوها، نقله الجماعة (و) ، وقال أحمد أيضاً: لو كانت الغيبة تفطر، ما كان لنا صوم. وذكره الشيخ (ع) (2) ؛ لأن فرض الصوم بظاهر القرآن الإمساك عن الأكل والشرب والجماع. وظاهره: صحته إلا ما خصَّهُ دليل. ذكره صاحب «المحرر» ، وقال عما رواه الإمام أحمد، والبخاري من حديث أبي هريرة: «مَنْ لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» : معناه: الزجر والتحذير، لم يأمر من اغتاب بترك صيامه. قال: والنَّهْي عَنْهُ؛ ليسلم من نقص الأجر، ومراده: أنه قد يكثر فيزيد على أجر الصوم، وقد يقل، وقد يتساويان. قال شيخنا: هذا مما لا نزاع فيه بين الأئمة، وأسقط أبو الفرج ثوابه بالغيبة ونحوها.   (1) لكن هذا غير صحيح، حتى يقوله المعصوم عليه الصلاة والسلام، أن التسبيح في رمضان خير من ألف تسبيحة في غيره، فيحتاج إلى دليل عن المعصوم صلى الله عليه وسلم. وقوله - رحمه الله - يجب اجتناب هذه الأشياء يدل على أن الصيام تربية في الحقيقة، وأن الإنسان إذا صام شهراً كاملاً وقد حجز نفسه عن هذه المحرمات فسوف يتأثر، ويتأقلم، وتختلف حاله، أما حال الكثير من الناس اليوم فالغالب أنه لا يؤثر؛ لأنهم في النهار في أكثره نائمون، وفي الليل ساهرون. (2) وهذا من تواضع الإمام أحمد - رحمه الله -، فقوله: «لو كانت تُفَطِّر ما كان لنا صوم» ، والذي يظن به رحمه الله أنه بعيد عن الغيبة، لكن هذا من باب التواضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ومراده ما سبق، وإلا فضعيف (1) ، وقيل لأحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم عن قوله في تأويل حديث الحجامة: «كانا يغتابان» ، فقال: الغِيبةُ أيضاً أشد للصائم بفطره أجدر أن تفطره الغيبة (2) .   (1) قوله: «ومراده ما سبق وإلا فضعيف» أي: من الموازنة، يعني: لو قلنا إنه بمجرد ما يغتاب تتسع الغيبة أجر الصيام، لكان هذا قولاً ضعيفاً، ولكن المعادلة هي الحق. (2) وهذا من التأويل المكروه، الذي يلجأ إليه بعض الناس، إذا كان يعتقد شيئاً فيذهب ويحرف النصوص، ويلوي أعناقها، فالذين قالوا: إن هذين الرجلين الذين كانا يحتجمان إنهما قد اغتابا، فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم» ، كأنه يقول: أفطر اللذان يغتابان الناس؟ فنقول: سبحان الله! النبي صلى الله عليه وسلم يعلق الحكم على شيء، ونحن نعلقه على شيء آخر، فنكون قد جنينا على النصوص من وجهين: الوجه الأول: صرفها عما يراد بها. والوجه الثاني: إثبات معنى لها، ولماذا لا نقول بدل: «إنهما يغتابان» «إنهما قد أكلا وشربا» ؟ إذ لا فرق، بل تأويله إلى أنهما أكلا وشربا أقرب إلى الصواب؛ لأن الغيبة لا تفطر، وكما قال الإمام أحمد - رحمه الله -: إفطارهما بالغيبة أشد من قولنا أنهما يفطران بالحجامة. وكذلك من قال في كفر تارك الصلاة حيث قال النبي عليه الصلاة والسلام: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» [أخرجه مسلم في الإيمان/باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة (82) .] قال: المراد جحد وجوبها. فيقال لهم: سبحان الله العظيم، تلغون ما علق الشارع الحكم عليه، وتأتون بشيء آخر لم يشر إليه ولا إشارة، لكن هذا كله سببه التعصب لما يراه الإنسان، سواءاً تقليداً، أو رأياً رآه وتعصب له، والواجب على الإنسان أن يكون مع الكتاب والسنة، فإن المؤمن إذا قال الله ورسوله أمراً لا يكون له خيرة منه، بل يقول: سمعنا وأطعنا، وهذه آفة وقع فيها علماء أجلاء، بل أحيانا يستدلون بالحديث الواحد على حكمين مختلفين، مثل: نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل الرجل بفضل المرأة، والمرأة بفضل الرجل» [أخرجه أبو داود في الطهارة/باب النهي عن ذلك (81) ؛ والنسائي في الطهارة/ باب ذكر النهي عن الاغتسال بفضل الجنب (1/130) . وقال الحافظ ابن حجر في «البلوغ» (5) : (إسناده صحيح) ا. هـ.] ، فأخذوا بالجزء الأول وتركوا الجزء الثاني، وقالوا: للمرأة أن تتوضأ بفضل الرجل، وليس للرجل أن يتوضأ بفضل المرأة، مع أن توضأ الرجل بفضل المرأة قد جاءت به السنة، وتوضأ المرأة بفضل الرجل لم تأت به السنة، وهذا مما يدلك على أن الإنسان كما وصفه الله عز وجل: {إنه كان ظلوماً جهولاً} [الأحزاب: 72] ، تحمل الأمانة لظلمه وجهله، فالواجب علينا أن نتبع النصوص في كل شيء، ولكن لاشك أن النصوص يقيد بعضها بعضاً، ويبين بعضها بعضاً، فنرجع إلى كل نصوص الشريعة قدر المستطاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وذكر شيخنا أن بعض أصحابنا ذكر روايةً ثالثةً: يفطر بسماع الغيبة. وذكر أيضاً وجهاً في الفطر بغيبةٍ، ونميمةٍ، ونحوهما. فيتوجه منه احتمال: يفطر بكل محرم، ويتوجه احتمال تخريج من بطلان الأذان بكل محرم، وفي «الصحيحين» ، من حديث أبي هريرة: «إذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفُثْ يومئذٍ ولا يَصْخَبْ، فإن شاتمه أحد أو قاتله، فليَقُلْ: إني امرؤ صائم» . واختار ابن حزم: يفطر بكل معصيةٍ، واحتج بأشياء منها: وقال حماد بن سلمة، عن سليمان التيمي، عن عبيدٍ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على امرأتين صائمتين تغتابان الناس، فقال لهما: «قيآ» . فقاءتا قيحاً ودماً ولحماً عبيطاً، ثُمَّ قال: «إن هاتين صامتا عن الحلال، وأفطرتا على الحرام» . ورواه أحمد في «مسنده» ، عن يزيد، عن سليمان التيمي، حدثني رجل في مجلس أبي عثمان النهدي، عن عبيدٍ، فذكره. وقال وكيع، عن حماد البَكَّاء، عن ثابت البناني، عن أنس: إذا اغتاب الصائم، أفطر. وعن إبراهيم قال: كانوا يقولون: الكذب يفطِّرُ الصائم. وذكر صاحب «المحرر» أن صاحب «الحلية» ذكر عن الأوزاعي: أن من شاتم، فسد صومه؛ لظاهر النهي. قال الأصحاب: ويسن لمَنْ شُتم أن يقول: إني صائم. قال في «الرعاية» : يقوله مع نفسه، يعني: يزجر نفسه. ولا يطلع الناس عليه؛ للرياء. واختاره صاحب «المحرر» إن كان في غير رمضان، وإلا جهر به؛ للأمن من الرياء، وفيه زجر من يشاتمه بتنبيهه على حرمة الوقت المانعة من ذلك. وذكر شيخنا لنا ثلاثة أوجه: هذين، والثالث - وهو اختياره -: يجهر به مطلقاً؛ لأن القول المطلق باللسان، والله سبحانه أعلم (1) .   (1) والصواب ما قاله الشيخ - رحمه الله -، فالأقوال ثلاثة: القول الأول: إذا قاتلك أحد أو سابك وأنت صائم، فقل في نفسك مطلقاً في الفريضة والنافلة: إني صائم، يعني: تردع نفسك أن ترد عليه. والقول الثاني: التفريق بين الفرض والنفل، فإن كان في فرض فقله بلسانك لا في نفسك؛ لبعد الرياء فيه، وإن كان في نفل فقله في نفسك. والقول الثالث: أنه يجهر به مطلقاً، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وهو الصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فليقل» ، والقول إذا أطلق فهو قول اللسان، ثم إن المعنى في كونه يجهر به أقوى وأوضح؛ لأنك إذا قلته في نفسك أو بلسانك سراً، فإن الذي سابك يرى نفسه قد تغلب عليك، فإذا قلت: «إني صائم» عرف أن المانع من مقابلتك إياه هو الصوم، فعرف أن لديك قدرة على مقابلته، لكن يمنعك الصوم، هذه من جهة، ومن جهة أخرى: أن فيه توبيخاً له إن كان يعلم أن صاحبه قد صام، كأنه يقول: كيف تسابني وأنت تعلم أني صائم؟! فالحاصل أن الإنسان إذا سابه أحد أو قاتله وهو صائم فليقل بلسانه حتى يسمع صاحبه: «إني صائم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 فصل: يسن تعجيل الإفطار إذا تحقق غروب الشمس يسن تعجيل الإفطار إذا تحقق غروب الشمس (ع) (1) ، وتأخير السحور (ع) ، ما لم يَخْشَ طلوع الفجر (و) ، ذكره أبو الخطاب، والأصحاب؛ للأخبار؛ ولأنه أقوى على الصوم، وللتحفظ من الخطأ والخروج من الخلاف، وظاهر كلام الشيخ: يستحب السحور مع الشك في الفجر، وذكر أيضا قول أبي داود: قال أبو عبد الله: إذا شك في الفجر، يأكل حتى يستيقن طلوعه. وأنه قول ابن عباس، وعطاء، والأوزاعي. قال أحمد: يقول الله تعالى: {وكلوا واشربوا} الآية [البقرة: 187] ، وذكر الشيخ أيضاً قول رجل لابن عباس: إني أتسحر فإذا شككت، أمسكت، فقال ابن عباس: كُلْ ما شككت حتى لا تشك. وقول أبي قلابة: قال الصدِّيقُ رضي الله عنه، وهو يتسحر: يا غلام أجِفْ حتى لا يفجأنا الفجر، رواه سعيد، ولا يعرف لهما مخالف، ولعل مراد غير الشيخ: الجواز، وعدم المنع بالشك، وكذا جزم ابن الجوزي وغيره أنه يأكل حتى يستيقن، وأنه ظاهر كلام أحمد، وكذا خص الأصحاب المنع بالمتيقن، كشكه في نجاسة طاهرٍ. وقال الآجري وغيره: لو قال لعالمَيْن: ارقبا الفجر، فقال أحدهما: طلع.   (1) قوله رحمه الله: «إذا تحقق غروب الشمس إجماعا» فينبغي للإنسان أن يبادر حين تسقط الشمس، ويسقط حاجبها الأعلى، فيفطر، سواء أَذَّنَ أم لم يُؤَذِن، لكن إذا ظن غروب الشمس، فهل يفطر أو لا يفطر؟ نقول: يفطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أفطروا في يوم غيم ظانين غروب الشمس، ثم طلعت الشمس بعد إفطارهم، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء [أخرجه البخاري في الصوم/باب إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس (1959) .] . وهذا يدل على جواز الإفطار إذا غلب على ظنه، لكن لابد من قرائن: كظلمة الجو، ووجود مانع يمنع من رؤية الشمس، أما مجرد أن يكون مثلاً في الغرفة، أو في الحوش، فيظن أن الشمس غربت، فهذا ليس مبنياً على أصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وقال الآخر: لا، أكل حتى يتفقا، وأنه قول أبي بكر، وعمر، وابن عباسٍ، وغيرهم (1) ، واحتج من لم ير صوم يوم ليلة الغيم بالأكل مع الشك في الفجر، وأجاب القاضي وغيره؛ بأن البناء على الأصل هنا لا يسقط العبادة، والبناء على الأصل في مسألة الغيم يسقط الصوم، وللمشقة هنا؛ لتكراره، والغيم نادر (2) ، واقتصر صاحب «المحرر» في الجواب على المشقة مع ما في الغيم من الخبر (3) ، وذكر ابن عقيل في «الفصول» : إذا خاف طلوع الفجر، وجب عليه أن يمسك جزءاً من الليل؛ ليتحقق له صوم جميع اليوم، وجعله أصلاً لوجوب صوم يوم ليلة الغيم، وقال: لا فرق. ثم ذكر هذه المسألة في موضعها، وأنه لا يحرم الأكل مع الشك في الفجر، وزاد: بل يستحب. كذا قال (4) . وفي «المستوعب» و «الرعاية» : الأولى أن لا يأكل مع شكه في طلوعه. وكذا جزم صاحب «المحرر» مع جزمه بأنه لا يُكرَه.   (1) هذا القول هو الراجح، وهو: أنه لا يحرم الأكل والشرب مع الشك في طلوع الفجر، وأن للإنسان أن يأكل حتى يتيقن، كذلك أيضاً إذا قال لشخصين عالمين عارفين بالفجر: أرقبا لي الفجر، فقال أحدهما: طلع، وقال الآخر: لم يطلع، فله أن يأكل ويشرب حتى يتفقا، وبناءاً على ذلك فاختلاف التقاويم الآن لنا أن نأخذ بالأخير؛ لأنهما لم يتفقا إلا على آخِر واحد، والعجيب أنه يقول: «وأنه قول أبي بكر وعمر وابن عباس وغيرهم» . (2) هذا جواب للتعصب فقط، وجواب القاضي ضعيف جداً، إذ لا فرق؛ لأن الأصل بقاء شعبان، فإذا حال دون رؤية الهلال غيم أو نحوه فالأصل أن نبني على أن شعبان باق ولم يدخل رمضان، وكذلك في الفجر، فإذا شككنا فإننا نأكل حتى نتيقن. (3) الخبر سبق أنه لا دليل فيه، ومعنى: «اقدروا له» فسرته السنة نفسها، أي: «أكملوا عدة شعبان ثلاثين» . (4) هذا اختلاف قولين، والعالم المجتهد ربما يكون له قولان متناقضان، كان في الأول يقول: يجب عليه أن يمسك، وفي الثاني يقول: لا يحرم الأكل، وعليه فلا يجب الإمساك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 ولا يستحب تأخير الجماع (و) ؛ لأنه لا يتقوى به، ويُكرَه مع الشك في الفجر، ولا يُكرَه الأكل والشرب مع الشك فيه. نص على المسألتين (1) . ولا يجب إمساك جزء من الليل في أوله وآخره، في ظاهر كلام جماعة، وهو ظاهر ما سبق أو صريحه (2) ، وذكر ابن الجوزي أنه أصح الوجهين (م ر) ، وقطع جماعة بوجوبه في أصول الفقه وفروعه، وأنه مما لا يتم الواجب إلا به، وذكره في «الفنون» وأبو يعلى الصغير وفاقاً في صوم ليلة الغيم، وهذا يناقض ما ذكروه هنا، وذكره القاضي في «الخلاف» في النية من الليل ظاهر كلام أحمد، وأنه مذهبنا؛ لئلا يفوت بعض النهار عن النية، والصوم يدخل فيه بغير فعله، فلا يمكنه مقارنة النية حال الدخول فيه، بخلاف الصلاة. كذا قال، وسبق في النية من الليل.   (1) والصحيح أنهما سواء، وأن له أن يجامع مع الشك في طلوع الفجر؛ لأن الله عز وجل قال: {فالئن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} [البقرة: 187] ، فكيف نفرق بين ثلاث مسائل قد جمع الله بينها؟ فالصواب أنه لا فرق، وأنه لو جامع شاكا في طلوع الفجر، ثم تبين له أثناء الجماع طلوع الفجر، فإنه ينزع في الحال، ولا شيء عليه. (2) لا شك أنه لا يجب إمساك جزء من الليل قبل طلوع الفجر؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {حتى يتبين لكم} [البقرة: 187] ، ومعناه: أن الليل كله أكل وشرب، وكذلك بالنسبة للغروب، فإذا رأينا أن الشمس قد غربت وسقط قرصها فنأكل ونشرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 والمراد بالفجر الصادق، وهو البياض المعترض، فيحرم الأكل وغيره بطلوعه (و) في قول عامة العلماء؛ لحديث عدي بن حاتمٍ في قوله تعالى: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض} [البقرة: 187] «إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار» . ولحديث ابن عمر وعائشة: «إن بِلالاً يؤذن بلَيْل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أُمِّ مكتومٍ فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر» . متفق عليهما. ولأحمد، ومسلمٍ، وأبي داود عن عائشة، أن رجلاً قال: يا رسول الله، تدركني الصلاة، وأنا جنب فأصوم؟ فقال: «وأنا تدركني الصلاة، وأنا جنب، فأصوم» ، فقال: لست مثلنا يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: «والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي» ، يدل على أن وقت صلاة الفجر من وقت الصوم، وذكر أحمد في رواية عبد الله قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يمنعنكم من السحور أذان بلال والفجر المستطيل» . وقال عن قيس بن طلق، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس الفجر الأبيض المُعْتَرِضَ، ولكنه الأحمر» . كذا وجدته، ولفظه في «مسنده» : «ليس الفجر بالمستطيل في الأفق، ولكنه المعترض الأحمر» . ولأبي داود، والترمذي - وقال: حسن غريب: - «كلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر» . فيحتمل أن أحمد قال به، وأنه رواية عنه، ولكن قيس عنده ضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وعن عاصم عَنْ زر: قلت لحُذيفةَ: أي ساعة تسحرت مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: «هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع» . رواه ابن ماجه، ورواه النسائي أيضاً من حديث شعبة عن عدي بن ثابتٍ عن زر، وعن أبي يعفور عن إبراهيم عن صلة ولم يرفعاه، وقال: لا نعلم أحداً رفعه غير عاصم، فإن كان رفعه صحيحاً، فمعناه: أنه قرب النهار، ولفظ أحمد: قلت: أبعد الصبح؟ قال: نعم، هو الصبح غير أن لم تطلع الشمس. وعاصم في حديثه اضطراب ونكارة، فرواية الإثبات أولى، وقال ابن عمر: إن ابن أم مكتوم كان لا يؤذِّنُ حتى يقال له: أصبحْتَ أصبحْتَ. متفق عليه، ومعناه: قَرُبَ الصُّبحُ، وعن أبي هريرة مرفوعاً: «إذا سمع أحدكم النداء، والإناء على يده، فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه» رواه أبو داود، فمعناه: أنه لم يتحقق طلوع الفجر، وقال: مسروق. لم يكونوا يعدون الفجر فجركم، إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق. ذكره ابن المنذر وغيره، فإن صح، فهو رأي طائفة، مع احتمال معناه تحقق طلوع الفجر (1) .   (1) الصواب أن له أن يأكل ويشرب حتى يتبين الفجر، وإذا تبين الفجر وجب الإمساك؛ لقوله تعالى: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} [البقرة: 187] ، هذا كلام الله تعالى، ولا قول لأحد بعد هذا، وهؤلاء الذين اجتهدوا وقالوا: إن له أن يأكل حتى يملأ الفجر البيوت، أو ما لم تطلع الشمس، وما أشبه ذلك، يكون رأياً اجتهادياً مردوداً، فإن الآية صريحة في هذا، وكيف نقول: لك أن تأكل حتى يملأ الفجر البيوت، والله يقول: {حتى يتبين لكم} [البقرة: 187] ؟! فالصواب أنه لا يأكل. بقي مسألة، وهي: «إذا سمع أحدكم النداء والإناء في يده، فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه» [أخرجه أبو داود في الصوم/باب في الرجل يسمع الأذان والإناء على يده (2350) ] ، فهل نقول: بأن المؤذن قد تعجل وأذن قبل الوقت فرخص في الشرب؟ وهل مثل ذلك لو أذن واللقمة في فمه، فهل له أن يبتلعها؟ الظاهر: نعم، وأنها مثل الشرب أو أولى مادامت في فمه، وهذا أبلغ من كون الإناء في يده في مسألة الشرب، ولعل هذا - والله أعلم - لأن الفجر خفي، يعني: ليس كالشمس إذا غربت، فالشمس إذا غربت تُرى وتُعرف أنها غابت أو لم تغب، أما الفجر فيطلع شيئا فشيئا، ولا يمكن إدراكه بالتأكيد، فلهذا رخص للإنسان إذا كان الإناء في يده أن يشرب حتى يروى، وإذا كانت اللقمة في فيه أن يأكلها، هذا إذا كان المؤذن يؤذن على طلوع الفجر، أما إذا كان يؤذن على التقويم الذي قد يخالفه من يخالفه ممن شاهدوا الفجر، كما شهد عندنا جماعة أنهم يقولون: إننا شاهدنا الفجر في جميع فصول السنة، ووجدنا أن التقويم متقدم، فبعضهم يبالغ حتى ثلث ساعة -ولكن هذه مبالغة-، وبعضهم ربع ساعة، أو عشر دقائق، فالمهم أن الأمر - والحمد لله - واسع، فإذا كان أذان المؤذن على حسب التقويم فلنا أن نأكل ونشرب حتى يتم الأذان، ولكن بعض المؤذنين جزاهم الله خيراً يتأخرون خمس دقائق عن التقويم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 والمذهب: له الفطر بالظن (و) ؛ لأن الناس أفطروا في عهده صلى الله عليه وسلم، ثم طلعت الشمس، وكذا أفطر عمر، والناس في عهده كذلك، ولأن ما عليه أمارة يدخله التحري، ويُقبلُ فيه قول الواحد، كالوقت والقِبْلةِ، بخلاف الصلاة. وقال في «التلخيص» : يجوز الأكل بالاجتهاد في أول اليوم، ولا يجوز في آخره إلا بيقين، ولو أكل ولم يتيقَّنْ، لزمه القضاء في الآخر، ولم يلزمْهُ في الأول، وقاله بعض الشافعية (1) . وإذا غاب حاجب الشمس الأعلى، أفطر الصائم حكماً وإن لم يَطعَمْ، ذكره في «المستوعب» وغيره، وقوله عليه السلام: «إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النهار من ها هنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم» (2) ، أي: أفطر شرعا، فلا يثاب على الوصال، كما هو ظاهر «المستوعب» ، وقد يحتمل: أنه يجوز له الفطر. والعلامات الثلاث (3)   (1) وهذه الخلافات لا قول لها مع وجود السُنة، والسُنة مقدمة على كل شيء، وهو أنه يجوز أن يفطر بغلبة الظن، ثم إن تبين أنه أخطأ فهو جاهل، فلا قضاء عليه. (2) هنا الحديث: «فقد أفطر الصائم» فهل المعنى: فقد حلّ له الفطر، أو المعنى فقد أفطر حكماً ولا ثواب له بعد ذلك؟ المسألة خلافية وهذا يدل على أن العمل قد يكون جائزاً وليس بمستحب ولا مشروع، ووجه الجواز أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز لهم الوصال إلى السحر، ولو كان الوصال حراماً لم يواصل بهم، ولم يأذن لهم في الاستمرار. (3) «العلامات الثلاث» هي: الأولى: إقبال الليل من المشرق، والثانية: إدبار النهار من المغرب، والثالثة: غروب الشمس. وقوله: «متلازمة» أي: ليس معناه أن الشمس تغيب من انقضاء الليل من المشرق، ولكن - كما هو مشاهد - ترى الليل أسود من جهة المشرق، والشمس لا تزال باقية، ولهذا قال: «وغربت الشمس» لئلا يظن الظان أنه بمجرد إقبال الليل، وإدبار النهار يفطر الصائم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 متلازمة، ذكره في «شرح مسلم» عن العلماء، وإنما جمع بينها؛ لئلا يشاهد غروب الشمس، فيعتمد على غيرها، كذا قال، ورأيت بعض أصحابنا يتوقف في هذا، ويقول: يقبل الليل مع بقاء الشمس؟ ولعله ظاهر «المستوعب» ، والله أعلم (1) . والفطر قبل الصلاة أفضل (و) ؛ لفعله عليه السلام، وكان عمر وعثمان رضي الله عنهما لا يفطران حتى يصليا المغرب، وينظرا إلى الليل الأسود (2) . رواه مالك. ولا يجب السحور، حكاه ابن المنذر وغيره (ع) (3) .   (1) هذا شيء مشاهد، وليس فيه إشكال، فيقال: إذا أقبل الليل من المشرق، وأدبر النهار من المغرب، فتحر الغروب. (2) وفعل عمر وعثمان رضي الله عنهما اجتهاد، أو لسبب لا نعلمه، يعني: قضية عين، والمرجع في هذا إلى السُنة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر» [أخرجه البخاري في الصوم/باب تعجيل الإفطار (1957) ؛ ومسلم في الصيام/باب فضل السحور (1098) .] فعليه نقول: الأفضل للإنسان المبادرة بالإفطار إذا تحقق غروب الشمس، إن شاهدها، أو غلب على ظنه فيما إذا حال دون رؤيتها غيم أو نحوه. (3) وهذا الإجماع يمنع القول بالوجوب المستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: «تسحروا فإن في السحور بركة» [أخرجه البخاري في الصوم/باب بركة السحور من غير إيجاب (1923) ؛ ومسلم في الصيام/ باب فضل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر (1095) .] ، وقوله: «فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر» [أخرجه مسلم في الصيام/ باب فضل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر (1096) .] يعني: في الصيام، وهذا ظاهره أن السحور واجب، لكن مادام الإجماع على أنه ليس بواجب، فلا يمكن مخالفة الإجماع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وتحصل فضيلة السحور بأكلٍ أو شربٍ لحديث أبي سعيدٍ: «ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماءٍ» . وفيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف، رواه أحمد وغيره، ورواه ابن أبي عاصمٍ وغيره من حديث أنس من رواية عبد الرحمن بن ثابتٍ، قال العقيلي: لا يُتابَعُ عليه. فيتوجه: أن يخرج القول بهذا على العمل بالحديث الضعيف في الفضائل، وقد سبق في صلاة التطوع، ولأحمد من حديث جابرٍ: «مَنْ أراد أن يصوم، فليتسحَّرْ ولو بشيءٍ» . قال صاحب «المحرر» - والظاهر: أنه مراد غيره -: وكمال فضيلتِهِ بالأكل؛ لحديث عمرو بن العاص: «إن فصْلَ ما بين صيامنا، وصيام أهل الكتاب أكلة السحر» رواه أحمد ومسلم وغيرهما. ويسن أن يفطر على الرُّطَبِ، فإن لم يجِدْ، فعلى التمر، فإن لم يجد، فعلى الماء، لفعلِهِ صلى الله عليه وسلم، رواه أحمد وأبو داود، والترمذي وحسنه، من حديث أنسٍ، ورواه أيضاً وصحَّحَه الترمذي، من حديث سلمان الضبي: «إذا أفطر أحدكم، فليُفْطِر على تمرٍ، فإن لم يجِدْ، فعلى ماءٍ، فإنه طهور» (1) .   (1) قوله صلى الله عليه وسلم: «فعلى ماء فإنه طهور» فإذا عُدم الرطب والتمر ووجد حلوى وماءاً فيقدم الماء، هكذا رتبها النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يجد ماءاً ووجد حلوى وخبزاً، فيقدم الحلوى، وإذا لم يجد شيئاً فينوي الإنسان الفطر، والعوام من الناس يقولون: يمص الأصبع، وبعضهم يقول: تَبِل الثوب أو الغترة ثم تمصه، وهذا من فقه العوام، وليس من فقه العلماء، وهذا لا أصل له، ولا صحة له، بل يقال: تنوي أنك أفطرت، ومتى يسر الله لك الأكل والشرب فكل واشرب. وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم الرطب أولاً، ثم التمر؛ لأن الرطب لين وسريع الهضم، وسريع الامتصاص، فيمتصه الدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وأن يدعو عند فطرِهِ، روى ابن ماجه، والترمذي وحسَّنَه، من حديث أبي هريرة: «ثلاث لا تُردُّ دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم» . ولابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو: «للصائم عند فطره دعوة لا تُرَدُّ» . واقتصر جماعة على قول: «اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، سبحانك وبحمدك، اللهم تقبل مني إنك أنت السميع العليم» . رواه الدارقطني، من حديث أنسٍ، ومن حديث ابن عباسٍ، وفيهما: «تقبل منا» . وذكره أبو الخطاب وغيره، وهو أولى، وذكر بعضهم أيضاً قول ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا أفطر: «ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله» . رواه أبو داود، والنسائي، والدارقطني، وقال: إسناده حسن. والحاكم، وقال: على شرط البخاري. والعمل بهذا الخبر أولى (1) . «ومن فطَّرَ صائماً، فله مثل أجره من غير أن يَنقُص من أجره شيء» . صحَّحَه الترمذي من حديث زيد بن خالد، وظاهر كلامهم: مِنْ أي شيء كان، كما هو ظاهر الخبر، وكذا رواه ابن خزيمة من حديث سلمان الفارسي، وذكر فيه ثواباً عظيماً إن أشبعه، وقال شيخنا: مراده بتفطيره أن يشبعه (2) .   (1) وهذا الخبر الأخير لا يقال إلا في أيام الحر؛ لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ذهب الظمأ» يدل على أن هناك ظمأً، وكذلك قوله «وابتلت العروق» يدل أيضا على أن العروق ناشفة، ولا تنشف إلا في أيام الصيف، أما «وثبت الأجر» فهذا يقال في الصيف والشتاء، ويدعو الإنسان بما يحب من الدعاء من أمور الدين والدنيا؛ لأنه يرجى الإجابة في هذا الوقت، ولاسيما أنه في آخر النهار، ولاسيما إذا كان في نهار الجمعة وهو ينتظر أذان المغرب. (2) لكن كلام الشيخ هنا خلاف ظاهر النص؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: «من فطر صائماً» يقتضي: ولو بشربة ماء، ولاسيما أنه في الحديث الثاني ذكر ثواباً عظيماً إن أشبعه، فالصواب أنه يحصل هذا بأدنى ما يحصل به الفطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 فصل: من أكل شاكا في غروب الشمس من أكل شاكا في غروب الشمس (1) ودام شكه، أو أكَلَ يظن بقاء النهار، قضى (ع) (2) ، وإن بان ليلاً، لم يقض، وعبارة بعضهم: صح صومه. وإن أكل يظن الغروب، ثم شك ودام شكه، لم يقض. وإن أكل شاكّاً في طلوع الفجر. ودام شكه، لم يقض (م) ، وزاد: ولو طَرَأ شكه؛ لما سبق في الفصل قبله، ولأن الأصل بقاء الليل، فيكون زمان الشك منه، وإن أكل يظن طلوع الفجر، فبان ليلاً، ولم يجدد نية صومه الواجب، قضى، كذا جزم به بعضهم، وما سبق من أن له الأكل حتى يتيقن طلوعه، يدل على أنه لا يمنع نية الصوم وقصده غير اليقين، والمراد - والله أعلم - اعتقاد طلوعِهِ، ولهذا فرض صاحب «المحرر» هذه المسألة فيمن اعتقده نهاراً، فبان ليلاً؛ لأن الظَّانَّ شاك، ولهذا خصوا المنع باليقين، واعتبروه بالشك في نجاسة طاهر، ولا أثر للظن فيه، وقد يحتمل أن الظن والاعتقاد واحد، وأنه يأكل مع الشك والتردُّدِ ما لم يظن ويعتقد النهار.   (1) قوله: «من أكل شاكاً في غروب الشمس» هنا يقضي بالإجماع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أقبل الليل من هاهنا» وأشار إلى المشرق، «وأدبر النهار من هاهنا» وأشار إلى المغرب، «وغربت الشمس» [سبق تخريجه] ، أما قبل غروبها فلا يجوز مع الشك، والظن درجة فوق الشك. (2) قوله: «أو أكل يظن بقاء النهار» هنا يقضي، وفيه مسائل: من أكل وهو يظن بقاء النهار، فهذا لاشك أنه يقضي، ومن أكل وهو يجزم ببقاء النهار، فهذا يقضي، وإذا أكل شاكاً في بقاء النهار أيضاً يقضي، وإذا أكل جازماً بزوال النهار لا يقضي، وإذا أكل ظاناً زوال النهار، لا يقضي على القول الراجح، حتى وإن تبين له أنه في النهار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وإن أكل يظن أو يعتقد أنه ليل، فبان نهاراً في أوله أو آخره، فعليه القضاء (و) ؛ لأن الله أمر بإتمام الصيام، ولم يتمه، وقالت أسماء: أفطرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم غيم، ثم طلعت الشمس. قيل لهشام بن عروة - وهو راوي الخبر -: أمروا بالقضاء؟ قال: لا بُدَّ من قضاء. رواه أحمد والبخاري، ولأنه جهل وقت الصوم فهو كالجَهْلِ بأول رمضان (1) ، وصوم المطمور ليلاً بالتحري، بل أولى؛ لأن إمكان التحرز من الخطأ هنا أظهر، والنسيان لا يمكنه التحرُّزُ منه، وكذا سهو المصلي بالسلام عن نَقْصٍ، ولا علامة ظاهرة، ولا أمارة سوى عِلمِ المصلي، وهنا علامات، ويمكن الاحتياط والتحفُّظُ، وتأتي رواية (2) : لا قضاء على من جامع جاهلاً بالوقت، واختاره شيخنا، وقال: هو قياس أصول أحمد وغيره.   (1) قوله: «بد من قضاء» أي: لا بد من القضاء، هذا رأي هشام بن عروة، وأبوه أعلم منه؛ لأن أباه عروة أحد الفقهاء السبعة في المدينة، قال: إنهم لم يقضوا، وقول هشام رحمه الله: «بد من قضاء» واضح أنه قاله تفقهاً من عنده، ولكن الصحيح أنهم لم يأمروا بالقضاء، وأن صيامهم صحيح؛ لأنه داخل في عموم قوله سبحانه وتعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286] ، فقال الله تعالى: «قد فعلت» [سبق تخريجه] . (2) وهذه رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله -، وهو أنه لا قضاء على من جامع جاهلاً بالوقت، مع أن الجماع هو أشد أنواع المفطرات، وهذه الرواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - هي الصواب بلا شك، الموافقة لظاهر الكتاب والسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وسبق قوله فيمن أفْطَرَ، فبان رمضان، واختار صاحب «الرعاية» : إن أكل يظن بقاء الليل، فأخطأ، لم يقض؛ لجهلِهِ، وإن ظن دخوله، فأخطأ، قَضَى، وصح عن عمر - رضي الله عنه - في الصورة الثانية روايتان، إحداهما: القضاء والأمر به. والثانية: لا نقضي ما تجانَفْنا لإثمٍ. وقال: قد كنا جاهلين. فعلى هذا: لا قضاء في الصورة الأولى. وقاله فيهما الحسن، وإسحاق، والظاهرية. وقاله في الأولى مجاهد، وعطاء، وبعض الشافعية، والله أعلم. ولو أكل ناسياً، فظن أنه قد أفطر، فأكل عمداً، فيتوجه أنها مسألة الجاهل بالحكم، فيه الخلاف السابق. وقال صاحب «الرعايةِ» : يصح صومه، ويحتمل ضِدُّه، كذا قال (1) .   (1) هذه المسألة تقع، وهي: من أكل ناسياً فظن أنه فسد صومه، فاستمر في الأكل، في الصورة الأولى ليس عليه القضاء، بنص الحديث: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه» [أخرجه البخاري في الصوم/باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيا (1933) ؛ ومسلم في الصيام/باب أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر (1155) .] ، لكن من أكل وهو يظن أنه أفطر فهنا لا يفسد صومه بالأكل الثاني، وتأتي مسألة الجهل بالحكم، والصواب أنه لا فطر مع الجهل بالحكم، وعلى هذا فلا فطر عليه، وحكى لنا أُناس صورة شبه هذه في زمن سبق، وهي: أن شخصاً اشترى عنباً لأهله في رمضان، وحمله على رأسه وهو صائم، وجعل يأكل ويأكل، فانتهت العناقيد، فلما بقي حبة واحدة، قال: إن كنت أفطرت بما سبق فهذه تكمل الفطر، وإن كنت لم أفطر فهذه لن تضر بالصيام، فأكلها! فهذا حكمه أنه جاهل، جاهل, فعلى القول بأن الجهل بالحكم لا يكون به فطر نقول: إن هذا صيامه صحيح، لكن قد يقال: إن هذا أخطأ من وجه، وفرط، ويجب عليه أن يسأل، فيكون هذا الاجتهاد في غير موضعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 فصل: من جامَعَ في صوم رمضان بلا عذر من جامَعَ في صوم رمضان بلا عذرٍ، لزمه القضاء والكفارة (و) ، ومرادهم: ما صرَّحَ به غير واحدٍ بذَكَرٍ أصلي (1) ، في قُبُلٍ أصلي، أنْزَلَ أم لا؛ لأنه مَظنَّةُ الإنزال، أو لأنه باطن كالدُّبرِ، كما سبق في الاستنجاء، وأنه لو أولج خنثى مشكِلٌ ذَكَرَه في قُبُلِ خنثى مثله، أو قُبُل امرأة، أو أولج رجل ذكَرَه في قبل خنثى مشكل، لم يَفْسُدْ صوم واحد منهما إلا أن ينزل، كالغسل، وأن الخَصِيَّ كغيره إن أولَجَ، وللشافعي قول: لا يقضي مَنْ جامع كجماع زائد، أو به بلا إنزال. وعن سعيد بن جبير، والنخعي: لا كفارة أيضاً. وقال الأوزاعي: إن كفر بالصوم لم يقض، وإلا قضى. ويأتي قول شيخنا في فصل القضاء. والناسي كالعامد، نقله الجماعة، واختاره الأصحاب (وم) والظاهرية، وعنه: لا يكفِّرُ، اختاره ابن بطة (وم ر) . وعنه: لا يقضى. اختاره الآجري، وأبو محمد الجوزي، وشيخنا (وهـ ش) ، وذكره في «شرح مسلم» قول جمهور العلماء (2) . وكذا من جامَعَ يعتقده ليلاً، فبان نهاراً، يقضي، جزم به الأكثر، وجعله جماعة أصلاً للكفارة. وفي «الرعاية» رواية: لا يقضي. واختاره شيخنا، وتأتي رواية ابن القاسم، وهل يكفِّرُ - كما اختاره أصحابنا - قاله صاحب «المحررِ» ، وأنه قياس من أوجبها على الناسي وأولى، أم لا يكفِّرُ (و) ؟ فيه روايتان، وعلى الثانية: إن علم في الجماع أنه نهاراً، ودام عالماً بالتحريم، لزمته الكفارة؛ بناء على من وطئ بعد إفساد صومه، على ما يأتي.   (1) قوله: «ذَكَرٌ أَصلِي» احترازاً من ذكر الخنثى؛ لأن الخنثى لا يعلم أذكر هو أم أنثى؟ فإن كان رجلاً فذكره أصلي، وإن كان أنثى فذكره غير أصلي؛ لأن الذكر غير الأصلي مثل الأصبع، والأصبع إذا أدخله الإنسان في فرج امرأته لم يجب عليه الغسل، ولم يفسد الصوم. (2) وهذا هو الصحيح، أنه ليس عليه قضاء ولا كفارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وإن أكل ناسياً، واعتقَدَ الفطر به، ثم جامع، فكالناسي والمخطئ، إلا أن يعتقد وجوب الإمساك، فيكفر في الأشهر، كما يأتي (1) . وكذا من أتى بما لا يفطر به، فاعتقد الفطر، وجامع (وم ش) خلافاً للحنفية في الاحتلام، وذرع القيء، لا يكفِّرُ؛ للاشتباه بنظيرهما، وهو إخراج القيء والمني عمداً. والمُكرَهُ كالمختار (وم) في ظاهر المذهب، ونقل ابن القاسم: كل أمر غُلبَ عليه الصائم، فليس عليه قضاء ولا كفارة. قال الأصحاب: وهذا يدل على إسقاط القضاء مع الإكراه والنسيان. قال ابن عقيلٍ في «مفرداته» : الصحيح في الأكل والوطء إذا غُلبَ عليهما، لا يفسدان، فأنا أخرِّجُ في الوطء روايةً من الأكل، وفي الأكل روايةً من الوطء. وقيل: يقضي من فعل، لا من فعل به من نائمٍ وغيره (وق) . وقيل: لا قضاء مع النوم فقط، وذكره بعضهم نص أحمد فيه؛ لعدم حصول مقصوده. وإن فسد الصوم بذلك؛ فهو في الكفارة كالناسي (وش) . وقيل: يرجِعُ بالكفارة على من أكْرهه، وقيل: يكفِّرُ من فعل بالوعيد. والمرأة المطاوعة يفسُدُ صومها، وتكفِّرُ (وهـ م ق) كالرجل، وعنه: لا كفارة عليها (وش) ؛ لأن الشارع لم يأمرها بها، ولفطرها بتغييب بعض الحشفة، فقد سبق جماعها المعتبر، ومنع هذا صاحب «المحرر» ؛ لأنه ليس لهذا القدر حكم الجوف والباطن، ولذلك يجب، أو يستحب غسله من حيض وجنابة ونجاسة، وعنه: تلزمه كفارة واحدة عنهما (وق) ، خرجهما أبو الخطاب من الحج، وضعفه غير واحد؛ لأن الأصل عدم التداخل.   (1) هذه مسألة نادرة، ولكنها مفيدة جداً، وهي: إذا أكل الإنسان ناسياً واعتقد الفطر به، ثم جامع، فليس عليه شيء؛ لأنه إنما جامع جهلاً منه أن صومه فسد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وإن طاوعته أم ولده، صامَتْ، وقيل: يكفِّرُ عنها، ويفسُدُ صوم المكرهة على الوطء. نص عليه (وهـ م) . وعنه: لا (وق) . وقيل: يفسد، إن فعَلَتْ، لا المقهورة والنائمة (وق) . وأفسد ابن أبي موسى صوم غير النائمة؛ لحصول مقصود الوطء لها، ولا كفارة في حق المكرهة إن فسد صومها، في ظاهر المذهب. نص عليه (و) ، وذكر القاضي روايةً: تكفِّرُ، وذكر أيضاً أنها مخرَّجةٌ من الحج (وم) في المستيقظة، وعنه: ترجع بها على الزوج؛ لأنه الملجِئُ لها إلى ذلك. وقال ابن عقيلٍ: إن أُكرِهَتْ حتى مكَّنَتْ، لزمَتْها الكفارة، وإن غُصِبَتْ، أو كانت نائمةً، فلا. وإن جامَعَتْ ناسيةً، فكالرجل (و) ذكره القاضي؛ لأن عُذْرَها بالإكراه أقوى. وقال أبو الخطاب وجماعة: لا كفارة عليها، وهو أشْهَرُ (و) ؛ لقوة جَنَبَةِ الرجل. ويتخرَّجُ: أن لا يفسُدَ صومها مع النِّسيانِ، وإن فسَدَ صومه؛ لأنه مُفْسِدٌ لا يوجب كفارةً، كالأكل. وكذا الجاهلة ونحوها، وعنه: يكفَّرُ عن المعذورة بإكراهٍ، أو نسيانٍ، وجَهْلٍ، ونحوها، كأم ولده إذا أكْرَهها. والمراد: وقلنا: تلزمها الكفارة. ولو أكره الزوجة على الوطء دفَعَتْهُ بالأسهل فالأسهل، ولو أفضى إلى نَفْسِهِ، كالمار بين يدي المصلي، كذا ذكَرَه في «الفنون» . والوطء في الدبر كالقُبُلِ، يقضي، ويكفِّرُ (و) ، ويتوجه فيه تخريج من الغُسْلِ، ومن الحَدِّ، وقد قاس جماعة عليهما، لكن يفسُدُ صومه، إن أنزَلَ (و) ، وعن أبي حنيفة رواية: لا كفارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وإن أولَجَ في بهيمة فكالآدمية. نص عليه، احتج الأصحاب بوجوب الغسل، وسواء وجب الحد كالزنا، أو لا، كالزوجة والأمة، وخرَّجَ أبو الخطاب في الكفارة وجهين، بناءً على الحد، وكذا خرجه القاضي رواية، بناءً على الحد، ويأتي قول ابن شهابٍ: لا يجب بمجرَّدِ الإيلاج فيه غُسْلٌ (وهـ) ، ولا فطْرٌ (وهـ) ، ولا كفَّارةٌ (وهـ) . كذا قال، وإن أولَجَ في ميت، فكالحي، وسبق وجه في الغُسْل، وقيل هنا: في آدمي حي، أو ميت، أو بهيمٍ حي، وقيل: أو ميت، كذا قيل. وفي «المستوعب» : إن أولَجَ في بهيمة، أو آدمي ميت، ففي الكفارة وجهان (1) .   (1) هذه المسالة محل خلاف بين العلماء، ولكن لو قال قائل: المرأة ليس عليها كفارة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل للذي جامع: وعلى زوجتك الكفارة. فالجواب عن هذا: أن يقال: إن المرأة لم تقر بأنها جامعت حتى يلزمها النبي صلى الله عليه وسلم بالكفارة، أو يقال: لعله أكرهها؛ لأن في بعض ألفاظ الحديث: «هلكت وأهلكت» [رواه الدارقطني (2/209) ؛ والبيهقي (4/227) .] ، يعني: هلك هو وأَهلَكَ امرأته، فالمهم أن هذا لا يستدل به على عدم وجوب الكفارة على المرأة، ثم يقال: لا فرق بين الرجال والنساء في انتهاك الحرمة، فإذا جامع في نهار رمضان، والمراد: من يجب عليه الصوم، وأما من لا يجب عليه الصوم فلا بأس أن يجامع، وسبق هذا، فالمسافر - مثلاً - لو كان مسافراً هو وأهله وكانا صائمين في رمضان، وأراد منها ما يريد الرجل من امرأته، فلا حرج؛ لأن الصوم في هذه الحال ليس بلازم، إذ أنه يجوز للمسافر أن يفطر، وهذا قد يحتاج الإنسان إليه فيما إذا ذهب إلى عمرة ومعه أهله، ثم أراد منها بعد التحلل ما يريد الرجل من امرأته فلا حرج، ولو كانا صائمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 ومن طَلَعَ عليه الفجر وهو مجامع، فاستدام، فعليه القضاء (و) ، والكفارة (هـ) ؛ لأنه مَنَعَ صحة الصوم بجماع أثم فيه؛ لحرمة الصوم، كمن وَطئَ في أثناء النهار، ولأنه لو جامع في النهار ناسياً، ثم ذكَرَ، واستدام، قضى، وكفَّرَ، وإنما أفسد صومه بالاستدامة دون الابتداء عند الحنفية، ولم يوجبوا عليه كفارة، وأما الحد على مجامع طلَّقَ ثلاثاً ودام فإنه يَجبُ في وجه، ثم الحد عقوبة محضة يسقط بالشبهة، بخلاف الكفارة، وقاس غير واحد على من استدام الوطء حال الإحرام، وإن نزع في الحال مع أول طلوع الفجر، فكذلك عند ابن حامد، والقاضي؛ لأن النَزْعَ جماع يلتذ به كالإيلاج، بخلاف مجامع حلف لا يجامع، فنزع؛ لتعلق اليمين بالمستقبل، أول أوقات الإمكان، وقال أبو حفص: لا قضاء عليه، ولا كفارة (وهـ ش) . وذكر القاضي: أن أصل ذلك اختلاف الروايتين في جواز وطء من قال لزوجته: إن وطِئْتُك، فأنت علي كظَهْر أُمِّي، قبل كفارة الظهار، فإن جاز، فالنَّزْعُ ليس بجماع، وإلا كان جماعاً. وقال ابن أبي موسى: يقضي قولاً واحداً، وفي الكفارة عنه خلاف. قال صاحب «المحررِ» : وهذا يقتضي روايتين: إحداهما: يقضي فقط، قال: وهو أصح عندي (وم) ؛ لحصوله مجامعاً أول جزء من اليوم أُمرَ بالكَفِّ عنه بسبب سابق من الليل، فهو كمَنْ ظنه ليلاً، فبان نهاراً، لكن لما كان ذلك على وجه فيه عذر، صار كوطء الناسي، ومن ظنه ليلاً (1) ، وفي الكفارة بذلك روايتان، كذا هذا.   (1) والصواب: أنه إذا نزع في الحال فلا قضاء عليه ولا كفارة؛ لقول الله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16] ، وهذا الرجل امتثل أمر الله (لما علم أن الفجر لم يطلع، ثم شرع في الجماع، ثم طلع الفجر، فينزع في الحال، ولا شيء عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 ومن جامَعَ وهو صحيح، ثم مرض، لم تَسْقُط الكفارة عنه. نص عليه (هـ ق) ، أو جُنَّ (هـ ق) ، أو حاضت المرأة (هـ ق) ، أو نَفسَتْ (هـ ق) ؛ لأمره عليه السلام الأعرابي بالكفارة، ولم يسأله، وكما لو سافر (و) ، وقولهم: لأنه لا يبيح الفطر ممنوع، ويؤثِّرُ عندهم في منع الكفارة، ولا يُسقطُها بعد وجوبها، تفرقةً بين كونه مقارناً وطارئاً، ولا يقال: تبينا أن الصوم غير مستحق عند الجماع؛ لأن الصادق لو أخبره أنه سيمرض، أو يموت، لم يَجُزْ الفطر، والصوم لا تتحرى صحته، بل لزومه، كصائم صح، أو أقام. وفي «الانتصار» وجه: تسقط بحيض ونفاس (وق) ؛ لمنعهما الصحة، ومثلهما موت، وكذا جنون إن منع طَرَآنُه الصحة، وأشهر أقوال الشافعي كقولنا (وم) (1) .   (1) والصحيح الأول: أنه إذا جامع وهو معافى أو مقيم، ثم حصل ما يبيح الفطر، فإنه يجب عليه الكفارة اعتباراً لحال المخالفة، فإنه في حال المخالفة يجب عليه الصوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 ومن وطئ ثم كفر ثم عاد فوطئ في يومه، فعليه كفارة ثانية. نص عليه، لما سبق فيمن استدامه وقت طلوع الفجر، كالحج، وذكر الحلواني روايةً: لا كفارة عليه (و) . وخرَّجَه ابن عقيل (1) من أن الشهر عبادة واحدة، وذكره ابن عبد البَرِّ (ع) بما يقتضي دخول أحمد فيه، وإن لم يكفر عن الأول، فكفارة واحدة على الأصح، وذكره الشيخ بغير خلاف، فعلى الأول: تعدد الواجب وتداخل موجبه، ذكره صاحب «الفصول» و «المحرر» وغيرهما، وعلى الثاني: لم يجب بغير الوطء الأول شيء، وكذا كُلُّ واطئٍ يلزمه الإمساك (و) ، ونص أحمد في مسافر قدم مُفْطراً، ثم جاَمَع، لا كفارة عليه. قال القاضي، وأبو الخطاب: هذا على رواية أنه لا يلزمه الإمساك. واختار صاحب «المحرر» حمله على ظاهره، وهو وجه في كتاب «المُذْهب» ؛ لضعف هذا الإمساك؛ لأنه سنة عند أكثر العلماء، وفي «تعليق القاضي» وجه فيمَنْ لم ينو الصوم: لا كفارة عليه؛ لأنه لم يلتزمه. وألزمه مالك بالكفارة بمجرد ترك نية الصوم عمداً، بلا أكل، ولا جماع، وإن أكَلَ ثم جامع، فالخلاف (2) ، وسبق: هل تجب الكفارة بأكلٍ؟   (1) ابن عقيل رحمه الله من الذين يتساهلون بنقل الإجماع، فيستغرب أن ينقل الإجماع مع أن مذهب الإمام احمد - رحمه الله - خلافه، لكن لعله لبعده عن مناطق المتبعين للإمام أحمد أو المقلدين له صار يجهله أحيانا ويحكي الإجماع، وعلى كلٍّ فهو من الذين يتهاونون بنقل الإجماع، غفر الله له، وتتبعنا هذا في مواضع كثيرة من كلامه. (2) قول الإمام أحمد - رحمه الله - فيمن قَدِمَ مفطراً ثم جامع أنه لا كفارة عليه، تبين أن له مأخذين: المأخذ الأول: أنه على رواية أنه لا يلزمه الإمساك، فيكون جامع مفطراً ولا إشكال. والمأخذ الثاني: حتى على القول بالإمساك، فالقول بالإمساك ضعيف؛ لأن أكثر العلماء على خلافه، فلذلك ضعف القول بإيجاب الكفارة، أما المذهب فتلزمه الكفارة في كل يوم يلزمه الإمساك، فإذا جامع فإنه تلزمه الكفارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وإن جامَعَ في يومين، فإن كفَّرَ عن الأول، كفَّرَ عن الثاني (و) ، وذكره ابن عبد البر (ع) ، وفيه رواية عن (هـ) ، وكذا إن لم يكفِّرَ عن الأول في اختيار ابن حامدٍ، والقاضي وغيرهما، وحكاه ابن عبد البر عن أحمد (وم ش) ؛ لأن كل يوم عبادة، وكيومين من رمضانين، وفيه رواية عن (هـ) ، وظاهر كلام الخرقي كفارة واحدة، واختاره أبو بكرٍ، وابن أبي موسى (و) كالحدود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 قال صاحب «المحررِ» : فعلى قولنا بالتَّداخلِ، لو كفَّرَ بالعِتْقِ في اليوم الأول عنه، ثم في اليوم الثاني عنه، ثم استُحِقَّت الرَّقبةُ الأولى، لم يلزمه بدلها وأجزأتْهُ الثانية عنهما، ولو استُحِقَّت الثانية وحدها، لزمه بدلها، ولو استحِقّتا جميعاً، أجزأه بدلهما رقبة واحدة؛ لأن محل التداخل وجود السبب الثاني قبل أداء موجِبِ الأول، ونية التعيين لا تعتبر، فتلغو، أوتصير كنيةٍ مطلقةٍ، هذا قياس مذهبنا، وقاله الحنفية، وهو مذهب المالكية في نظيره، وهو: كُلُّ موضعٍ قُضِيَ فيه بتداخل الأسباب في الكفارة، إذا نوى التكفير عن بعضها، فإنه يقع عن جميعها، مثل من قال لزوجاته: أنتُنَّ علي كظهر أُمِّي، ثم وطئ واحدةً، وكفَّرَ عنها، أجزأه عن الكُلِّ ونحو ذلك (1) ،   (1) هذه المسألة مهمة، وهي: إذا كرر الجماع في يومين، فإن كفر عن الأول لزمته كفارة ثانية عن الثاني بلا إشكال؛ لأن التداخل ممتنع، وإن لم يكفر فإن عليه كفارة ثانية على المذهب؛ لأن كل يوم عبادة مستقلة، ولهذا لا يفسد صوم اليوم الأول بفساد صوم اليوم الثاني، ولا العكس، فلزمه لكل يوم كفارة، وعلى هذا فلو جامع في كل يوم، والشهر ثلاثون يوماً، لزمه ثلاثون كفارة، وقيل: إذا لم يكفر عن الأول كفاه كفارة واحدة، بناءاً على التداخل في الحدود؛ لأنه لو زنى بامرأتين لزمه حد واحد مثلاً، وعلى التداخل في الأيمان، ولها نظائر، فقالوا: مادام لم يكفر عن الأول كفاه كفارة عن الجميع، لاسيما إذا قلنا: إن شهر رمضان عبادة واحدة، وأن أيامه كأجزاء العبادة، فهذا القول من حيث النظر قوي، ولكن من حيث التربية ضعيف؛ لأن بإمكان كل واحد - لاسيما الشاب حديث العهد بالزواج - أن يجامع كل يوم ويدع الكفارة لآخر يوم، ويأتي بكفارة واحدة، وهذا يؤدي إلى الفوضى والتلاعب بحدود الله وأحكام الله، فإبقاء الناس على المشهور من المذهب من أن يلزمه كفارة لكل يوم هو الموافق من حيث التربية، وعدم التهاون بالإفطار في نهار رمضان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 ووجدت أنا في كلام الحنفية: لو أطْعَمَ إلا فقيراً، فوطِئَ، أطْعَمَه فقط عنهما، كحد القذف عندهم. وإن جامَعَ دون الفرج، فأمْنَى - وعبارة بعضهم: فأفْطَرَ، وفيها نظر - فعنه: يكفِّرُ. اختاره الخرقي، وأبو بكرٍ، وابن أبي موسى، والأكثر (وم) ، كالوطء في الفرج. والفرق واضح، وعنه: لا كفارة عليه (وهـ ش) ، اختاره جماعة، منهم صاحب «النصيحة» ، و «المغني» ، و «المحرر» ، وهي أظهر. وعلى الأول: الناسي كالعامد، ذكره في «التبصرة» . ويدل عليه اعتباره بالفَرْجِ. وقال صاحب «المغني» ، و «الروضةِ» ، وغيرهما: عامداً. وكذا إذا أنزَلَ المجبوب بالمساحقة، وكذا امرأتان إن قلنا: يلزم المطاوعة كفارة، وإلا فلا كفارة، والقُبلةُ، واللمس ونحوهما، كالوطء دون الفرج، في روايةٍ اختارها القاضي (وم) . وفي رواية: لا كفارة، اختارها الأصحاب (و) . ونص أحمد: إن قبَّلَ فمذى، لا يكفِّرُ، وإن كرَّرَ النظر فأمنى، فلا كفارة (م) ، كما لو لم يُكَرِّرْهُ (و) . وعنه: بلى، كاللَّمْس. وأطلق في «الهداية» وغيرهما الروايتين، وقيل: إن أمنى بفكره، أو نَظْرة واحدة عمداً، أفطَرَ، وفي الكفارة وجهان. وسبق حكم من جامع في يوم رأى الهلال في ليلته، وردَّتْ شهادته، وجماع المسافر، والمريض (1) . ويختص وجوب الكفارة برمضان (و) ؛ لأن غيره لا يساويه، خلافاً لقتادة في قضائه فقط. وفي «الرعاية» قول: يكفِّرُ إن أفسَدَ قضاء رمضان. وسبق أول الباب هل تختص بالجماع؟ والكفارة على الترتيب، فيجب عتق رقبةٍ، فإن لم يجد، صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطِعْ أطعم ستين مسكيناً، مثل كفارة الظهار، في ظاهر المذهب (وهـ ش) ، ويأتي فيها اعتبار سلامة الرقبة، وكونها مؤمنةً.   (1) الصحيح أنه لا كفارة إلا بالجماع، وعلى هذا فإن كل هذه التفريعات لا داعي لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 ولا يحرم هنا الوطء قبل التكفير، ولا في ليالي صوم الكفارة، ذكره في «الرعاية» وأظنه في «التلخيص» وغيره، ككفارة القتل، ذكره فيها القاضي وأصحابه، وحرَّمَه ابن الحنبلي في كتابه «أسباب النزول» عقوبةً، وعنه: إنها على التخيير بين العتق، والصيام، والإطعام، فبأيها كفَّرَ، أجزأه (وم) ؛ لأن في «الصحيحين» ، من حديث مالك، عن الزُهريِّ، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أن رجلاً أفطَرَ في رمضان، فأمَرَه النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفر بعتق رقبة. وفيهما من حديث ابن جُريجٍ، عن ابن شهاب، عن حميد، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً أفطَرَ في رمضان أن يُعتقَ رقبةً، أو يصوم شهرين متتابعين، أو يُطعمَ ستين مسكيناً، وتابعهما أكثر من عشرة. وخالفهم أكثر من ثلاثين، فرووه عن الزهري بهذا الإسناد: أن إفطار ذلك الرَّجلِ كان بجماعٍ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «هل تجد ما تُعْتقُ رقبةً؟» قال: لا، قال: «هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟» قال: لا، قال: «هل تجد ما تُطْعِمُ ستين مسكيناً؟» قال: لا. ثم جلس فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعَرَق فيه تمر، فقال: «تصدَّقْ بهذا» قال: على أفقر منا؟ قال: «اذهب فأطِعمْهُ أهلك» وفي أوله: هلَكْتُ يا رسول الله، قال: «وما أهلكَكَ؟» قال: وقعت على امرأتي في رمضان. متفق عليه. وهو أولى؛ لأنه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ومشتمل على زيادة، ورواه الأكثر. وللدارقطني: هلكت وأهلَكْتُ. وضعَّفَ هذه الزيادة البيهقي، وصنف الحاكم ثلاثة أجزاء في إبطالها، ولأبي داود بإسناد جيد من حديث هشام بن سعد، عن الزهري، عن أبي سلمة عنه: «وصُمْ يوما مكانه» . وقال: فأتي بعَرَق فيه تمر قدْرَ خمسة عشر صاعاً. وله من حديث عائشة: فيه عشرون صاعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وهشام تُكُلِّمَ فيه، وروى له مسلم، وتابعه عبد الجبار بن عمر في الصوم، وهو ضعيف، رواه ابن ماجه، وتابعه أبو أُويسٍ، عن الزهري، عن حميد، وفيه كلام، وروى ذلك الدارقطني. وتابعه إبراهيم بن سعدٍ، عن الليث، عن الزهري، وبَحْرُ بن كنيز، عن الزهري، ذكرَهُ البيهقي، وأشار هو وغيره إلى صحة هذه الزيادة، والله أعلم. وعن ابن عباسٍ: عتق رقبة، أو صوم شهرٍ، أو إطعام ثلاثين مسكيناً. وعن الحسن: عتق رقبة، أو إهداء بدنه، أو إطعام عشرين صاعاً أربعين مسكيناً. وعن عطاء نحوه، ولمالكٍ في «الموطأ» عن عطاء الخراساني، عن ابن المسيب مرسلاً نحوه، ولم يذكر عدد المساكين، وفيه: «وصُمْ يوماً» . ومذهب (م) : هذه الكفارة إطعام فقط، كذا قال، والإطعام كما يأتي في كفارة الظهار إن شاء الله تعالى. وإن قدَرَ على العتق في الصيام، لم يلزمه الانتقال. نص عليه، ويلزم من قدَرَ قبله، ويأتي ما يتعلَّقُ بذلك في الظهار (1) . وتسقط هذه الكفارة بالعجز، في ظاهر المذهب. نص عليه (وق) ، زاد بعضهم: بالمال، وقيل: والصوم، كذا قال؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر الأعرابي بها أخيراً، ولم يذكر له بقاءها في ذمتِهِ، وكصدقة الفطر، وعنه: لا تسقط (وهـ ش) ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بها الأعرابي لما جاءه العَرَقُ بعد ما أخبَرَه بعُسْرتِهِ، ولعل هذه الرواية أظهر.   (1) والصواب ما في «الصحيحين» في هذه المسألة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يطعم ستين مسكيناً إذا لم يستطع أن يصوم شهرين متتابعين [سبق تخريجه.] ، وما سواهما فشاذ أو ضعيف، فلا يعتد به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 قال بعضهم: فلو كفَّرَ غيره عنه بإذنه - وقيل: أو دونها - فله أخذها، وعنه: لا يأخذها. وأطلق ابن أبي موسى: هل يجوز له أكلها، أم كان خاصا بذاك الأعرابي؟ على روايتين، ويتوجه احتمال أنه صلى الله عليه وسلم رخَّصَ للأعرابي فيه لحاجته، ولم تكن كفارةً (1) .   (1) والصواب أن الرسول صلى الله عليه وسلم أسقطها؛ لأنه لما قال له: «أطعم ستين مسكينا» قال: لا أجد. جلس، ولما يَسَّر الله له هذا التمر أمكنه أن يكفر به؛ لأنه صار واجداً في حينه، ثم لما ذكر أنه محتاج، قال: أطعمه أهلك، ولم يقل: ومتى استطعت فكفر، والفرق: أنه إذا أعطي ما يكفر به في حينه صار واجداً، فيلزمه أن يكفر به، فلما بين للنبي صلى الله عليه وسلم أنه محتاج، قال له: «أطعمه أهلك» ، ولم يقل: ومتى وجدت فأطعم، فالصواب أنها تسقط بالعجز، وأن بقية الكفارات تسقط بالعجز؛ لعموم قول الله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16] ، وقوله: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286] ، والقاعدة الأصولية أنه لا واجب مع العجز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 ولا تسقُطُ غير هذه الكفارة بالعجز، مثل كفارة الظهار، واليمين، وكفارات الحج، ونحو ذلك. نص عليه. قال صاحب «المحررِ» وغيره: وعليه أصحابنا؛ لعموم أدلَّتِها حالة الإعسار (1) ، ولحديث سلمة بن صخرٍ في الظهار، ولأنه القياس، خُولِفَ في رمضان؛ للنص - كذا قالوا: للنص - وفيه نظر، ولأنها لم تجب بسبب الصوم، قال القاضي وغيره: وليس الصوم سبباً للكفارة، وإن لم تجب إلا بالصوم والجماع؛ لأنه لا يجوز اجتماعهما، وعنه: تسقط (2) . ومذهب (ش) : هي كرمضان، إلا جزاء الصيد؛ لأن فيه معنى العقوبة والغرامة. وذكر غير واحدٍ أنه تسقط كفارة وطء الحائض بالعَجزِ، على الأصح، وعنه: بالعجز عن كلها؛ لأنه لا بَدَل فيها. وقال ابن حامدٍ: تسقط مطلقاً، كرمضان.   (1) يعني: أن أدلتها تعم حال الإعسار، ولكن أجابوا عن هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين الكفارة بقطع النظر عن الإلزام بها، والاستدلال أنها تجب مع العجز من أجل أن الأحاديث تعم، فيه نظر؛ لأن الأحاديث في بيان الكفارة، ثم تُنَزَّلُ كل حال على ما يقتضيه صاحبها. (2) قوله: «عنه» يعني: الإمام أحمد رحمه الله، وقوله: «تسقط» أي: جميع الكفارات تسقط بالعجز، وهذا هو الصواب، فإذا قال قائل: أليس الرجل إذا أعسر بالدين للآدمي يبقى في ذمته ولا يسقط؟ فالجواب: بلى، لكن هذا حق آدمي، أما الله عز وجل فقد عفا عن حقه عليه السلام، فقال: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286] ، وقال: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16] ، فالصواب أن جميع الكفارات تسقط بالعجز، وأن جميع الواجبات تسقط بالعجز أيضاً، إذا لم يكن لها بدل، وبناءاً على ذلك لو ولد للإنسان ولد، وكان فقيراً ولم يعق عنه، ثم أغناه الله فهل نقول عُق عنه؟ الجواب: في هذا نظر، فقد يقال: إنه يعق عنه؛ لأن العقيقة ليس لها وقت، وقد يقال: لا يعق عنه؛ لأنه وقت سبب مشروعية العقيقة كان غير واجد، فلا يطالب بها، وهذا أقرب إلى القياس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وأكله الكفارات بتكفير غيره عنه كرمضان، وعنه: تختص بالوطء في رمضان. اختاره أبو بكر (1) . وإن ملكه ما يكفر به، وقلنا: له أخذه هناك، فله هنا أكله، وإلا أخرَجَه عن نفسِهِ، وقيل: هل له أكله، أو يلزمه التكفير به؟ على روايتين.   (1) معناه: لو كفر شخص عنه وهو في حاجة، فهل يجوز أن يأكل كفارة نفسه؟ هذه المسألة من العلماء من قال: إنه يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى المجامع التمر ليكفر به، فلما بين له حاجته قال: «أطعمه أهلك» ، وهذا قد يقال: إنه ظاهر النص، لكن يعارضه أن الواجب إطعام ستين مسكيناً، ولم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل، أي: لم يقل له: هل أهلك ستون مسكيناً؟ فأطعمهم، والظاهر أن أهله لا يبلغون ستين مسكيناً، فلذلك نقول: إن أَكْلَ المُجامعِ كفارةَ جماعه ليس لأنه مَحَلٌ تُصرف الكفارة إليه، ولكن لأنها سقطت بالعجز، وهو في حاجة، فرخص النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 باب حكم قضاء الصوم وغيره وما يتعلق بذلك يستحب التتابع في قضاء رمضان (و) ، قال البخاري: قال ابن عباسٍ: لا بأس أن يفرَّقَ؛ لقول الله تعالى: {فعدة من أيام أخر} [البقرة: 184] . وعن ابن عمر مرفوعاً: «قضاء رمضان؛ إن شاء، فرَّقَ، وإن شاء، تابَعَ» . رواه الدارقطني، وقال: لم يسنِدْه غير سفيان بن بشر. قال صاحب «المحرر» : لا نعلم أحداً طعن فيه، والزيادة من الثقة مقبولة. وللدارقطني من رواية الواقدي - وهو ضعيف - عن عبد الله بن عمروٍ: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قضاء رمضان، قال: «يقضيه تِباعاً، وإن فرَّقَه، أجزأ» . وله أيضاً، وقال: إسناد حسن عن ابن المنكدر مرسلاً قال: «ذلك إليك، أرأيت لو كان على أحدهم دَينٌ فقضى الدرهم والدرهمين، ألم يكن قضاءً؟ فالله أحق أن يعفو، ويغفر» . وخبر أبي هريرة: «فليَسرُدْهُ ولا يَقْطعْهُ» . رواه ابن المنذر، والدارقطني من رواية عبد الرحمن بن إبراهيم القاص، ضعَّفَه ابن معينٍ والدارقطني، وقواه أحمد وغيره، فإن صح فللاستحباب. وقول عائشة: نزلت: (فعدة من أيام أخر متتابعات) ، فسقَطَتْ «متتابعات» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 رواه الدارقطني، وقال: إسناد صحيح يصلُحُ لسقوط الحكم والتلاوة، فيحمل عليهما، ولأنه وقت موسَّعٌ له كصوم المسافر أداءً، وإنما لزم التتابع فيه صوم مقيم، لا عذر له؛ للفور وتعيّنِ الوقت، لا لوجوب التتابع في نفسِهِ، فنظيره: لو لم يبق من شعبان إلا ما يتَّسِعُ له، وفي التتابع خروج من الخلاف، وهو أنجز لبراءة الذِّمةِ، وأشبه بالأداء، فكان أولى (1) . وذكر القاضي في «الخلافِ» في الزكاة على الفور: أن قضاء رمضان على الفور، واحتج بنصه في الكفارة، ويجوز أن يُقالَ: القضاء على التراخي، واحتج بنصه فيه. كذا ذكر، وقال صاحب «المحرر» : يجوز تأخير قضاء رمضان بلا عذرٍ ما لم يُدرِكْ رمضان ثانٍ، ولا نعلم فيه خلافاً. وعند أكثر الشافعية: إن أفطر بسببٍ محرم، حَرُمَ التأخير. قال في «التهذيبِ» لهم: حتى بعذْرِ السفر، وأوجب داود المبادرة في أول يومٍ بعد العيد، وهل يجب العزم على فِعلِهِ؟ يتوجه الخلاف في الصلاة، ولهذا قال ابن عقيلٍ في «الفصولِ» في الصلاة: لا ينتفي إلا بشرط العزم على الفعل في ثاني الوقت.   (1) خلاصة هذا الكلام: أنه يستحب التتابع في قضاء رمضان؛ لأنه أسرع في إبراء الذمة، ولئلا يحدث ما يمنعه من القضاء في المستقبل، ولأنه أشبه بالأداء، والأداء - يعني: رمضان - كان متتابعاً، فيكون أقرب إلى المشابهة، ولا شك أن هذا أولى - أعني: التتابع في قضاء رمضان - ولكنه ليس بواجب، فها هي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم لا تقضي إلا في شعبان، قالت: «كان يكون علي الصوم فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان» [أخرجه البخاري في الصوم/ باب متى يقضى قضاء رمضان (1950) ؛ ومسلم في الصوم/باب قضاء رمضان في شعبان (1146) .] ، وإذا جاز تأخير الجميع جاز تأخير البعض، فالصواب أن التتابع في قضاء رمضان أفضل، فيبادر به بعد العيد، فهذا أحسن له وأفضل، ولأجل أن يدرك صيام ست أيام من شوال إن كان عليه دون الشهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 قال: وكذا كل عبادةٍ متراخيةٍ. قال في «شرح مسلم» : الصحيح عند محققي الفقهاء، وأهل الأصول فيه، وفي كل واجبٍ موسَّعٍ، إنما يجوز تأخيره بشرط العزم على فعلِه. وعن علي، وابن عمر، وعروة، والحسن، والشعبي، والنخعي: يجب التتابع، وكذا قال داود، والظاهرية: يجب، ولا يشترط للصِّحِة، كأدائه، وأجاز جماعة من الصحابة وغيرهم الأمرين. قال الطحاوي: لا فضل للتتابع على التفريق؛ لأنه لو أفطر يوماً من رمضان، يقضيه بيومٍ، ولا يستحب له قضاء شهرٍ. ومن فاته رمضان تامّاً أو ناقصاً؛ لعذرٍ أو غيره، قضى عدد أيامه مطلقاً، اختاره جماعة منهم: صاحب «المحررِ» ، و «المغني» ، و «المستوعب» (وهـ ش) كأعداد الصلوات، وعند القاضي: إن قَضَى شهراً هلالياً، أجزأه مطلقاً، وإلا تمَّمَ ثلاثين يوماً. وهو ظاهر الخرقي، وذكره صاحب «المحررِ» ظاهر كلام أحمد. وقاله الحسن بن صالحٍ، وبعض الشافعية، وحكي عن مالكٍ (1) . فعلى الأول: من صام من أول شهرٍ كاملٍٍٍ، أو من أثناء شهرٍ، تسعةً وعشرين يوماً، وكان رمضان الفائت ناقصاً، أجزأه عنه؛ اعتباراً بعدد الأيام. وعلى الثاني: يقضي يوماً تكميلاً للشهر بالهلال، أو العدد ثلاثين يوماً.   (1) ولكن هذا القول ضعيف، ومعارض لظاهر القرآن؛ لأن الله تعالى قال: {فعدة من أيام أخر} [البقرة: 184] ، ولم يقل: فشهر عوضٌ عنه مثلاً، فلو قال ذلك لكان هذا الخلاف متوجهاً، وأما أن القرآن نصه: {فعدة من أيام أخر} فلا يتوجه هذا الخلاف، فالصواب أن عليه عدة الأيام التي أفطرها، إن كان الشهر تسعة وعشرين فتسعة وعشرون، وإن كان ثلاثين فثلاثون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 ويحرم تأخير رمضان إلى رمضان آخر بلا عذرٍ (و) نص عليه، واحتج بقول عائشة رضي الله عنها: ما كنت أقضي ما علي من رمضان إلا في شعبان؛ لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما لا تُؤخَّرُ الصلاة الأولى إلى الثانية، فإن فعل أطْعَمَ عن كل يوم مسكيناً (وم ش) ، رواه سعيد بإسنادٍ جيدٍ عن ابن عباسٍ. ورواه الدارقطني عن أبي هريرة، وقال: إسناد صحيح، ورواه مرفوعاً بإسنادٍ ضعيفٍ، وذكره غيره عن جماعةٍ من الصحابة، ولا أحسبه يصح عنهم. ويتوجه احتمال: لا يلزمه إطعام (وهـ) ؛ لظاهر قوله تعالى: {فعدة من أيام أخر} [البقرة: 184] ، وكتأخير أداء رمضان عن وقتِهِ عمداً، وذكر الطحاوي من رواية عبد الله العمري - وفيه ضعف - عن عبد الله بن عمر: يُطعِمُ بلا قضاءٍ (1) .   (1) فالأقوال في مسألة: إذا أخر قضاء رمضان حتى دخل رمضان الثاني، ثلاثة: القول الأول: يلزمه القضاء مع الإطعام. والثاني: القضاء بلا إطعام. والثالث: الإطعام بلا قضاء. فهذا نزاع، والمرجع في النزاع إلى الكتاب والسنة، فنجد أن الله تعالى لم يوجب على من أفطر بعذر إلا القضاء: {فعدة من أيام أخر} ، وهذا الذي ذكره المؤلف احتمالاً أنه لا يلزمه إلا القضاء هو الصواب؛ لأنه لا يمكن أن نوجب الأصل والبدل، فالإطعام بدل عن الصيام، فإذا تعذر فيمن مرضه غير مرجو الزوال، فكيف نلزمه بالأصل والبدل، فالصواب أنه لا يلزمه إلا القضاء، لكنه يأثم بالتأخير، وأما القول بالإطعام بلا قضاء فهذا ضعيف جداً، وكأن هؤلاء مأخذهم: أن هذه عبادة خرج وقتها، فلو صامها في غير وقتها لكان أتى بما لم يؤمر به، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» [أخرجه البخاري تعليقا بصيغة الجزم في كتاب البيوع/ باب النجش , ووصله مسلم في الأقضية/ باب الأحكام الباطلة (1718) .] وإذا لم يقبل الصوم رجعنا إلى بدله، وهو الإطعام، لكن الصواب أنه يصوم بلا إطعام، ولكنه يأثم فعليه أن يتوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 ويطعِمُ ما يجزئ كفارةً (و) ، ويجوز قبل القضاء، ومعه وبعده؛ لقول ابن عباس: فإذا قضى أطْعَمَ. رواه سعيد بإسناد جيد. قال صاحب «المحررِ» : الأفضل تقديمه عندنا، مسارعةً إلى الخير، وتخلُّصاً من آفات التأخير، ومذهب (م) : الأفضل معه. وإن أخره بعد رمضان ثان فأكثر، لم يلزمه لكل سنة فدية؛ لأنه إنما لزمه؛ لتأخيره عن وقته، وقول الصحابة، وللشافعية وجهان. ومن دام عذره بين الرمضانين فلم يقض، ثم زال، صام الشهر الذي أدركه، ثم قضى ما فاته، ولا يطعم. نص عليه (و) . وعن ابن عباس، وأبي هريرة، وسعيد بن جبير، وقتادة: يطعم بلا قضاء. فعلى قولنا: إن كان أمْكَنَه قضاء البعض، قضى الكل، وأطْعَمَ عما أمْكَنَه صومه، وإن أخر القضاء حتى مات، فإن كان لعذر، فلا شيء عليه. نص عليه (و) ؛ لعدم الدليل. وفي «التلخيص» رواية: يُطْعَمَ عنه، كالشيخ الهِم. والفرق أنه يجوز ابتداء الوجوب عليه، بخلاف الميت، وقال في «الانتصارِ» : يحتمل أن يجب الصوم عنه، أو التكفير، كمن نذر صوما. وقال في «الرعاية» : إن أخره الناذر لعذر حتى مات، فلا فدية، على الأصح. ذكره عقب الحج، وإنما مراده - والله أعلم - الصوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وإن كان تأخير قضاء رمضان لغير عذر، فإن مات قبل أن أدْرَكَه رمضان آخر أُطْعِمَ عنه، لكل يوم مسكين (و) ، رواه الترمذي عن ابن عمر مرفوعا بإسناد ضعيف، وقال: الصحيح عن ابن عمر موقوف. وسئلت عائشة عن القضاء، فقالت: لا، بل يطعم. رواه سعيد بإسناد جيد. وكذا قال ابن عباس، وأنه إن نذر قضى عنه وليه، فالراوي أعلم بما روى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 قال الأصحاب: ولأنه لا تدخله النيابة في الحياة، فكذا بعد الموت، كالصلاة، وقال في «الانتصار» في مسألة صحة الإستنابة في الحج عند طريان العضب والكبر على من وجب عليه: وأنه إذا حج النائب، وقع الحج عن المستنيب (وم ش) ، ومذهب (هـ) يقع الحج عن الحاج تطوعا، ولا يقع عن المستنيب إلا ثواب النفقة، فنحن نقول: أقيم حج نائبه مُقام حجة، ففِعْلُ الغير للحج بدل عن فِعْلِهِ فيما يُبْدَلُ، إلا المؤدي وهو الفاعل، وعندهم: البدل هو سعيه بماله في تحصيل حج الغير، فالبدل عنده متبدل، ليس هو فعل الحج، وإنما هو بذل المال لتحصيل حج النائب، حتى لو تبرع أجنبي وحج عنه بإذنه، لم يجز عنه؛ لأن السعي ببذل المال مفقود، فالواجب المؤدى هو المُبْتَذَلُ، واحتج لهم بأن سائر العبادات لا تصح النيابة فيها، وقال: فأما سائر العبادات، فلنا رواية: أن الوراث ينوب عنه في جميعها من الصوم والصلاة، ولا يختلف المذهب في نيابة الوارث في الزكاة، ثم الصوم يقابل فائته عند العجز بالموت بالإطعام، والصلاة لا يتصور العجز فيها عندنا، بخلاف الحج، ولأن الزكاة مقصودها تحصيل المال للفقراء مواساة، وتعاطي التكليف مقصود للامتحان، فعند العجز يستقل بأحد المقصودين، ويلتحق بالدَّيْنِ، والحج الامتحان فيه مقصود، وفيه مقصود آخر سوى الفعل، فإنه وُضِعَ على مثال حضره الملوك وحُرَمِهم، وقد يقصد الملك أن تكون عتبته مخدومة بأصحابه، فإن عجزوا فبِنُوَّابِهم؛ لإقامة الخدمة، والصلاة لا مقصود فيها إلا محض التكليف بالفعل، امتحاناً، فإذا فعل غيره ذلك، فات كل المقصود، فلم يكن في معنى الدين. يصحح ما ذكرنا أن الخصم أقام للحج بدلاً، وإن خالفنا في صفته، ولم يُقِمْ للصلاة بدلاً، واحتج لهم أيضاً بالقياس على الصلاة والصيام، وقال: قد تقدم الجواب بالمنع والتسليم، ثم هناك لا يلزم أن ينوي عن غيره، ولا يؤمر ببذل المال لتحصيل الصوم والصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 ثم ذكر بعدها من بلغ معضوباً تلزمه الإستبانة، واحتج للمخالف بالصلاة، وأجاب بأن الصلاة لا نسلمها، ونقول: يصلى عنه بعد الموت، ثم الصلاة لا يتصور عجزه عنها إلا أن يموت، أو يزول عقله، بخلاف الحج، ولو وصى بها لم تصل عنه؛ بخلاف الحج عندهم (1) ،   (1) المريض إذا أخر الصوم - يعني: القضاء -: فإن كان في وقت رمضان مريضاً بمرض يرجى زواله فالواجب عليه القضاء، لكن إذا عجز واستمر به المرض حتى مات فهذا لا يُقضى عنه، ولا يطعم عنه؛ لأن الواجب هو القضاء، وقد عجز عنه. والثاني: إذا كان مريضاً مرضاً لا يرجى زواله، فالواجب الإطعام، فإذا أطعم ثم برئ بعد ذلك فلا قضاء عليه، وإذا مات لم يُقْضَ عنه. الثالث: مريض مرضاً يرجى زواله، عوفي بعد رمضان، وتمكن من القضاء، ثم عاد إليه المرض فمات، فهذا هو الذي فيه الخلاف: هل يقضى عنه أو لا يقضى؟ فجمهور العلماء على أنه لا يقضى، وهو المذهب، وحملوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» [أخرجه البخاري في الصوم/باب من مات وعليه صوم (1952) ؛ ومسلم في الصيام/باب قضاء الصوم عن الميت (1147) .] على صيام النذر، ولكن هذا قول ضعيف، ولكنه وسط بين قول من يقول: لا يصام عن الميت مطلقاً، لا نذر ولا فرض، ومن يقول: يصام عنه النذر دون الفرض، والصواب أنه يصام عنه النذر والفرض؛ لأنه لما قدم على القضاء ولم يفعله ثبت في ذمته، فإذا ثبت في ذمته ومات صام عنه وليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وَحَمْلُ الحديث على النذر ضعيف جداً؛ لأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم كلام معصوم يعلم ما يقول، ويعلم الحال التي يتنزل عليها هذا القول، فهل يمكن أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد النذر، وهو نادر، ويترك قضاء رمضان، وهو الكثير؟ لا يمكن هذا أبدا، ولذلك القول الراجح في هذه المسألة أن الميت يقضى عنه صوم النذر، والصوم الواجب بأصل الشرع؛ لعموم هذا الحديث: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» ، وفي النذر ورد ذلك بخصوصه في المرأة التي ذكرت أن أمها نذرت أن تصوم، فلم تصم حتى ماتت، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تقضي الصوم عن الميت [أخرجه أحمد (1/224) .] . فكل التفريعات والامتناعات التي ذكرها المؤلف - رحمه الله - مبنية على أنه لا يصوم أحد عن أحد، لا في الفريضة ولا في النذر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 ولا مدخل للمال في جبرانها، والبدل جبران، بخلاف الحج، ثم هو قياس يعارض النصوص. ثم ذكر بعدها: لا يصير مستطيعاً ببذل غيره، كسائر العبادات. فقيل له: لا تدخلها النيابة بخلاف الحج، فقال: لا نسلم، بل النيابة تدخل الصلاة والصيام إذا وجبت وعجز عنها بعد الموت. فذكر في هاتين المسألتين النيابة في الصلاة والصيام بعد الموت، وكلامه في المسألة الأولى، والرواية المذكورة يقتضي: وفي الحياة أيضا كالحج، فعلى هذا: يتوجه إن عجز أن يكبر للصلاة، كبر عنه رجل. وقاله إسحاق، ونقله عن إبراهيم والحَكَمِ، والله أعلم (1) .   (1) ولا شك أن هذا القول ضعيف جداً، وهو أن ينوب الإنسان عن غيره إذا عجز عن العبادة، وعلى طرد هذه القاعدة: إذا عجز عن الوضوء فإنه يتوضأ واحد، ويصلي المحدث، فلا يتصور أحد أن يقال هذا القول، فالصواب أن الإنسان إذا عجز عن العبادة سقطت عنه، ولا يمكن أن يقوم بها أحد، لكن إن كان لها بدل أتى ببدلها، وإن لم يكن لها بدل، أو عجز حتى عن بدلها سقطت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وذكر في «عيون المسائل» ما ذكره غيره من قياس النيابة في الحج على الزكاة، ثم قال: ولا يلزم الصلاة والصيام، فإنا إن قلنا: تدخلهما النيابة، فإنهما كمسألتنا، وإن قلنا: لا تدخلهما النيابة، قلنا هناك: لم يؤمر أن ينويهما عن غيره، بخلاف مسألتنا، ومال صاحب «النظم» إلى صوم رمضان عنه بعد موته، فقال: لو قيل: لم أُبعِدْ، فعلى هذا: الظاهر أن المراد: ولا يطعم، كقول طاوس، وقتادة، ورواية عن الحسن، والزهري، والشافعي في القديم، وأبي ثور، وداود؛ لقوله عليه السلام: «من مات وعليه صيام، صام عنه وليه» . متفق عليه من حديث عائشة، ومعناه من حديث ابن عباس، وقد يتوجه احتمال: إن المراد التخيير، قال في «شرح مسلم» : من يقول بالصيام، يجوز عنده الإطعام، وقد قال شيخنا: إن تبرع بصومه عمن لا يطيقه لكبر ونحوه، أو عن ميت وهما معسران، يتوجه جوازه؛ لأنه أقرب إلى المماثلة من المال (1) . وكذا عن الأوزاعي والثوري رواية: يصومه عن الميت إذا لم يجد ما يُطعِمُ عنه. وكذا ذكر القاضي في صوم النذر نحو قول شيخنا، فذكر ما ذكره الأصحاب: أن صوم النذر لا يفعل عن عاجز في حياته، بل يطعم، ثم جعل هذا حجة للمخالف في عدم فعله بعد الموت. قال: والجواب أنه لا يمتنع أن نقول: يصح الصوم عنه، كما نقول في الحج إذا عجز عنه في مجال الحياة: يحج عنه. وحكى القاضي عن داود: لا يصام عنه، ولا يُطعَمُ، خلاف ما سبق عنه.   (1) مسألة: إذا قال الولي لن أصوم فماذا نصنع؟ الجواب: نرجع إلى بدل الصيام، وهو الإطعام، إذا كان في تركته شيء، وإن لم يكن فإن تبرع أحد بالإطعام عنه كفى، وإلا سقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وذكر القاضي عياض والشافعية الإجماع أنه لا يصام عن أحدٍ في حياته، والله أعلم (1) ، والإطعام من رأس ماله أوصى، أو لا (وش) ، لا أنه إنما يجب من الثلث إن أوصى (هـ م) ، كالزكاة على أصلهما (2) . وإن مات بعد أن أدركه رمضان آخر فأكثر، أجزأه إطعام مسكين لكل يوم. نص عليه، وقيل: لكل يوم فقيران؛ لاجتماع التأخير والموت بعد التفريط. قال أحمد رحمه الله فيما رواه أبو هريرة مرفوعاً: «مَنْ أفطر يوماً من رمضان من غير عذرٍ، لم يجزئه صيام الدهر، ولو صامه» : لا يصح، وإنما يريد نفس يوم من رمضان لا يكون. وكذا ضعفه غير واحد.   (1) وهذا هو الصواب، أنه لا يصام، واختيار شيخ الإسلام - رحمه الله - في هذا ضعيف، أنه إذا تبرع بالصيام عمن لا يطيقه يجزئ، ضعيف جداً، فيقال: من لا يطيقه إن كان عجزه مستمراً فعليه الإطعام، وإلا فينتظر حتى يعافيه الله. (2) قوله: «من الثلث إن أوصى به ... » أي: إن أوصى به فمن الثلث، وإن لم يوص به فمن رأس المال، والصواب أنه من رأس المال، سواء أوصى أم لم يوصِ، فيطعم عنه، ثم الباقي بعد الإطعام يخرج ثلثه بالوصية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ولا يلزمه عن يوم سوى يوم (و) ، وعند شيخنا: لا يقضى متعمد بلا عُذْرٍ (خ) صوماً، ولا صلاة، قال: ولا يصح منه، وأنه ليس في الأدلة ما يخالف هذا، بل يوافقه، وضُعِّفَ أمره عليه السلام المجامع بالقضاء؛ لعدول البخاري ومسلم عنه (1) .   (1) كلام شيخ الإسلام هو الصواب بلا شك، وأن من أخر صوم يوم من رمضان بلا عذر فإنه لا يقضي عنه صوم الدهر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» ، لكن عليه أن يتوب إلى الله ويستغفر، ويكثر من الأعمال الصالحة، والحسنات يذهبن السيئات، وظاهر كلام الشيخ - رحمه الله - أنه لو تعمد الفطر في أثناء النهار لم يقضِ؛ لأنه تعمد إفساد الصوم فهو كالذي تعمد تأخيره إلى ما بعد رمضان، وفي هذا نظر، والصواب أنه إذا تعمد الفطر في رمضان فهو آثم، وعليه القضاء وليس كالذي لم يصم أصلاً، والفرق: أن الذي شرع في الصوم التزمه، فصار في حقه كالنذر، وهو صوم واجب، فيجب عليه القضاء، وأما الذي لم يشرع فيه أصلاً فقد اعتمد أن لا يصوم، فلا ينفعه القضاء، والمذهب أنه يلزمه القضاء، ولو تعمد الفطر، لكنه يكون آثما، والأدلة تدل على أنه لا ينفعه القضاء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» [سبق تخريجه] . وأما قوله رحمه الله: «ليس في الأدلة ما يخالف هذا، بل يوافقه» وضعف أمره صلى الله عليه وسلم المجامع بالقضاء، وعلل هذا التضعيف بعدول البخاري ومسلم عنه، فهل نأخذ من هذا قاعدة أن كل شيء لم يكن في البخاري ومسلم فهو ضعيف؟ الجواب: لا، فالشيخ رحمه الله لا يريد هذا، لكن الحديث ورد في البخاري ومسلم وغيرهما، وجاءت الزيادة في غير ما رواه البخاري ومسلم، فتكون هذه الزيادة في غير ما رواه البخاري ومسلم شاذة، والشاذ من قسم الضعيف، هذا وجه كلام الشيخ رحمه الله. فإن قال قائل: الزيادة لا تكون شاذة إلا إذا لم يمكن الجمع؟ فالجواب: أن يقال: لما عدل البخاري ومسلم عن ذكر القضاء مع أنه من تمام القصة، ومما تتوافر الدواعي على نقله لو صح، دل على أنه لم يصح عندهما، فهذا وجه التضعيف في هذه المسألة خاصة، ولا يؤخذ من الكلام أن شيخ الإسلام - رحمه الله - يرى أن كل ما عدل عنه البخاري ومسلم فهو ضعيف، بل في هذه المسألة بخصوصها وأشباهها؛ لأن القصة واحدة، والمقام مقام بيان الواجب، فلو كانت هذه الزيادة صحيحة ما تركها البخاري ومسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ولا يجزئ صوم كفارة عن ميت، وإن أوصى به. نص عليه (و) ، خلافاً لأبي ثور، وعلله القاضي بأنه يجب على طريق العقوبة؛ لارتكاب مأثم، فهي كالحدود، فإن كان موته بعد قدرته عليه - وقلنا: الاعتبار بحالة الوجوب - أُطْعِمَ عنه ثلاثة مساكين، لكل يوم مسكين ذكره القاضي (1) . ولو مات وعليه صوم شهر من كفارة، أُطعِمَ عنه أيضاً، نقله حنبل، ففيه جواز الإطعام عن بعض صوم الكفارة؛ لأن الإطعام هنا ليس هو بالمأمور به في الكفارة، لكنه بدل الصوم. ولو مات وعليه صوم المُتْعَةِ يُطْعَمُ عنه أيضاً. نص عليه (2) . قال القاضي: لأن هذا الصوم وجَبَ بأصل الشرع، كقضاء رمضان. وصوم النذر عن الميت كقضاء رمضان، على ما سبق عند الكل (و) ، واختاره ابن عقيل، ونص أحمد - وعليه الأصحاب -: يفعله الولي عنه، بخلاف رمضان، وفاقا لليث، وأبي عبيد، وإسحاق. وسبق قول ابن عباس.   (1) قوله رحمه الله: «ولا يجزئ صوم كفارة عن ميت وإن أوصى به» كونه أوصى به هذه لا أثر له، لكن الصواب أنه يصح لعموم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» [سبق تخريجه] . وأما قول القاضي - رحمه الله -: إن هذا عقوبة، والعقوبة لا ينبغي أن تكون على غير فاعل، ففيه نظر؛ لأنه يعارض قوله صلى الله عليه وسلم: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» ، والصواب أن كل صوم واجب يموت عنه الإنسان فوليه مأمور أن يصوم عنه، ووليه هو وارثه، فإن لم يفعل أُطعم عن كل يوم مسكين. (2) هذه المسألة في النفس منها شيء، أنه إذا مات الإنسان وعليه صوم كفارة أنه يطعم عنه؛ لأنه إذا كان حياً وعجز عن الصوم فلا إطعام إلا في الظهار والجماع في نهار رمضان، أما في القتل فليس فيه إطعام، ولعله أراد هذا فيما إذا كانت الكفارة عن ظهار أو جماع في نهار رمضان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 ويجوز أن يصوم غير الولي بإذنِهِ وبدونِهِ. جزم به القاضي والأكثر؛ لأنه عليه السلام شبهه بالدَّيْنِ، وقيل: لا يصح إلا بإذنِهِ (وش) ؛ لأنه خلاف القياس، فلا يتعدى النص، وذكر صاحب «المحررِ» أنه ظاهر نقل حرب، يصوم أقرب الناس إليه ابنه أو غيره، فيتوجه: يلزم من الاقتصار على النص: لا يصوم بإذنِهِ، وكذا الوجهان في الحج، واختار عدم الصحة فيه في «الانتصار» ، كحال الحياة، واختار صاحب «الفصول» ، و «المحرَّرِ» الصحة؛ لعدم استفصاله عليه السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وهل يجوز صوم جماعة عنه في يوم واحد، وبجزئ عن عِدَّتِهم من الأيام؟ نقل أبو طالب: يصوم واحد. قال في «الخلاف» : فمَنْعُ الاشتراك، كالحجة المنذورة، تصح النيابة فيها من واحد لا من جماعة. وحكى أحمد عن طاووس الجواز، وحكاه البخاري عن الحسن، وهو أظهر، واختاره صاحب «شرح المهذب» من الشافعية، وقال: لم يذكر المسألة، أصحابهم. واختاره صاحب «المحرر» ، وحمل ما سبق على صوم شرطه التتابع، وتعليل القاضي يدل عليه، فإن ما جاز تفريقه، كُلُّ يوم كحجة مفردة، فدل ذلك أن من أوصى بثلاث حِجَجٍ، جاز صرفها إلى ثلاثة يحجون عنه في سنة واحدة، وجزم ابن عقيل بأنه لا يجوز، لأن نائبه مثله، وليس له أن يحج ثلاث حجات في عام واحد، وذكره في «الرعاية» قولا، ولم يذكر قبله ما يخالفه، ذكره في فصل استنابة المعضوب من باب الإحرام، وهو قياس ما ذكره القاضي في الصوم، وهو لم يفرق بينهما ولا فَرْقَ، ويأتي في تفريق الاعتكاف (1) .   (1) الصحيح أنه يجوز أن يصوم جماعة عن الأيام ولو في يوم واحد، إلا ما شرطه التتابع فإن ذلك لا يمكن؛ لأن كل واحد منهم لم يصم شهريين متتابعين، فعلى هذا إذا كان على شخص خمسة أيام من رمضان، وله خمسة أبناء، فصاموها في يوم واحد أجزأ؛ لأنهم أدوا ما يجب عليه، وهو واجب عليه بغير تتابع، وأما إذا كان عليه صيام كفارة يمين وصام عنه ثلاثة في يوم واحد لم يجزئ؛ لأنه يشترط في صيام الثلاثة أيام في كفارة اليمين التتابع، وكذلك في صيام شهرين متتابعين في كفارة القتل والظهار والجماع في نهار رمضان، والمهم أنه يجوز أن يصوم جماعة عن شخص أياماً، إلا ما يشترط فيه التتابع فلا يصح، وعلى هذا فالذي يشترط فيه التتابع لا يمكن إلا من شخص واحد، والحج يصح أن يحج عنه ثلاثة في سنة واحدة، بل يصح أن يحج عنه اثنان في سنة واحدة، أحدهما في الفرض، والثاني في النفل، ويكون السابق بالإحرام هو الفريضة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 ويستحب للولي فعله عنه، ولا يجب (و) ، خلافاً للظاهرية، كالدَّيْنِ، لا يلزمه إذا لم تكن له تَرِكةٌ، وله أن يصوم، وله أن يدفع إلى من يصوم عنه من تَرِكتِه عن كُلِّ يوم مسكينا (1) ، فإن لم تكن له تركة، لم يلزمه شيء. قال القاضي، وغيره: كالحج، الوارث بالخيار بين الحج بنفسه، وبين دَفْعِ نفقة إلى من يحج عنه (2) . وقال صاحب «المحرر» : إن القاضي في «المجرد» لم يذكر أن الورثة إذا امتنعوا يلزمهم استنابة، ولا إطعام. وذكر في «المستوعب» وغيره أن مع عدم صوم الورثة يجب إطعام مسكين من ماله عن كل يوم، ومع صوم الورثة لا يجب. وجزم الشيخ في مسألة من نذر صوماً فعجز عنه، أن صوم النذر لا إطعام فيه بعد الموت، بخلاف رمضان ولم أجد في كلامه خلافه.   (1) هذه المسألة فيها نظر، وهي أن له أن يدفع إلى من يصوم؛ لأنه إذا فعل ذلك صار كأنه أجير، والأجرة لا تصح على فعل الطاعات. (2) الفرق بينهما أن الحج تجوز فيه النيابة، ودفع أجرة للنائب خلاف الصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 ولا كفارة مع الصوم عنه، أو الإطعام، واختار شيخنا أن الصوم عنه بدل مجزئ بلا كفارة، ويأتي كلامهم في الصلاة المنذورة، وسبق كلامه في «الانتصار» في تأخير قضاء رمضان لعذر، وأوجبها في «المستوعب» ، قال: كما لو عيَّنَ بنذْرِهِ صوم شهر فلم يصمه، فإنه يجب القضاء والكفارة. وفي «الرعاية» كـ «المستوعب» ، فإنه قال: إن لم يقضه عنه ورثته أو غيرهم، أُطعم عنه من تركته، لكل يوم فقير مع كفارة يمين، وإن قضى كَفَتْهُ كفارة يمين، وعنه: مع العذر المتصل بالموت، وهذه الرواية - والله أعلم - هي رواية حنبل، فإنه نقل: إذا نذر صوم شهر، فحال بينه وبينه مرض، أو علة حتى مات، صام عنه وليه، وأطعم لكل يوم مسكينا؛ لتفريطه. هذا كله فيمن أمكنه صوم ما نذره، فلم يصمه ومات، ولو أمكنه صوم بعض ما نذره، قضى عنه ما أمكنه صومه فقط (وم) ، ذكره القاضي وبعض أصحابنا، ذكره صاحب «المحرر» ، وذكره ابن عقيل أيضا؛ لأن رمضان يعتبر فيه إمكان الأداء، والنَّذْرُ يحمل على أصله في الفرض، وأجاب القاضي بأنا لا نسلم أن النذر المطلق يثبت في ذمته مطلقا، بل بشرط الإمكان، كالنذر المعلق بشرط، والنذر في حال المرض، وقضاء رمضان، ومذهب (هـ ش) : يلزم أن يقضى عنه كله؛ لثبوته في ذمةٍ صحيحةٍ في الحال، كالكفارة، بخلاف من دام مرضه حتى مات؛ لأنه لا ذمة له يثبت فيها الصوم، وذكر القاضي في مسألة الصوم عن الميت، أن من نذر صوم شهر وهو مريض، ومات قبل القدرة عليه، يثبت الصيام في ذمته، ولا يعتبر إمكان الأداء، ويخير وليه بين أن يصوم عنه، أو يُنِفقَ على من يصوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وفرق بينهما بأن النذر محله الذمة، فلا يعتبر فيه إمكان الأداء كالكفارة، وذكَرَ نص أحمد في رواية عبد الله في رجل مرض في رمضان: إن استمر به المرض حتى مات، ليس عليه شيء (1) ، وإن كان نذرا صام عنه وليه إذا هو مات. قال: وأومأ إليه في رواية الميموني، والفضل، وابن منصور. واختار صاحب «المحرر» أنه يقضى عن الميت ما تعذر فعله بالمرض دون المعتذر بالموت؛ لأن النذر وإن تعلق بالذمة، يتعلق بالأيام الآتية بعد النذر، فإذا مات قبل مضي المدة المقدرة، تبينا أن قدر ما بقي منها صادف نذره حالة موته، وهو يمنع الثبوت في ذمته، كما لو نذر صوم شهر معين، فمات قبله، أو جن ودام جنونه حتى انقضى، بخلاف القدر الذي أدركه حيا، وهو مريض؛ لأن المرض لا ينافي ثبوت الصوم في الذمة، بدليل أنه يقضي رمضان، ويقضي من نذر صوم شهر بعينه فلم يصمه لمرض، وإذا ثبت في ذمة المريض - والنيابة تدخله بعد الموت - فلا معنى لسقوطه به، وإنما سقط قضاء رمضان؛ لأن النيابة لا تدخله، ولم يجب الإطعام؛ لأنه وجب عقوبة للتفريط ولم يوجد. قال: ويؤيد ذلك أمره عليه السلام بقضائه عن الميت، ولم يستفصل هل تَرَكَه لمرض، أو غيره، هذا كله في النذر في الذمة، فأما إن نذر صوم شهر بعينه، فمات قبل دخولِهِ، لم يُصَمْ ولم يُقْضَ عنه. قال صاحب «المحرر» : وهو مذهب سائر الأئمة، ولا أعلم فيه خلافا.   (1) بشرط أن يكون المرض مما يرجى برؤه، فإذا مرض في رمضان مرضاً يرجى برؤه، ولكنه استمر به المرض حتى تضاعف ومات، فإنه ليس عليه شيء، أما لو كان في رمضان مريضاً مرضاً لا يرجى برؤه فالواجب الإطعام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وإن مات في أثنائه، سقط باقيه، فإن لم يَصُمْه لمرض حتى انقضى، ثم مات في مرضه، فعلى الخلاف السابق فيما إذا كان في الذمة، وسبق كلامه في «الانتصار» ، و «الرعاية» فيما إذا أخر قضاء رمضان لعذر حتى مات، والله أعلم (1) .   (1) الصواب أنه إذا نذر شهراً معيناً ومات قبله فلا شيء عليه، وإن بقي لكنه كان مريضاً لا يرجى برؤه فإنه يطعم عن كل يوم مسكيناً؛ لأن الواجب بالنذر يحذى به حذو الواجب بأصل الشرع، وأما إذا كان مريضاً مرضاً يرجى برؤه، ثم استمر به المرض حتى مات، فلا شيء عليه، يعني: أننا نحكم على النذر حكم الصوم الواجب بأصل الشرع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وإن مات وعليه حج منذور، فُعِلَ عنه. نص عليه (وش) ، لصريح خبر ابن عباس، رواه البخاري وغيره من غير وجه، ومن اعتذر عن ترك القول بذلك هنا، أو في الصوم باضطراب الأخبار، فهو عذر باطل؛ لصحة ذلك عند أئمة الحديث، ومذهب (هـ م) : كقولهما في الزكاة، وحج الفرض، وفي «الرعاية» قول: لا يصح. كذا قال، ولا يعتبر تمكنه من الحج في حياته؛ لظاهر الخبر، وكنذر الصدقة والعتق، وهذا مذهب (هـ) ، لكن الواجب عنده الإيصاء بقضائه، وقيل: يعتبر (وش) كحجة الإسلام. قال صاحب «المحرر» : هذه المسألة شبيهة بمسألة أمن الطريق، وسعة الوقت، هل هو في حجة الفرض شرط للوجوب، أو للزوم الأداء (1) ؟ والله أعلم، وكذا العمرة، وإن مات وعليه اعتكاف منذور، فُعِلَ عنه، نقله الجماعة (وق) ، ونقل ابن إبراهيم وغيره: ينبغي لأهله أن يعتكفوا عنه. قال سعد بن عبادة للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي ماتت وعليها نَذْرٌ لم تقضه، فقال: «اقضه عنها» .   (1) الصحيح أنه شرط للوجوب؛ لقوله تعالى: {من استطاع إليه سبيلاً} [آل عمران: 97] ، وهذا لم يستطع والآية عامة، سواء لم يستطع هو بنفسه، أو لم يستطع لخوف الطريق، أو لغير هذه الأسباب، فهو شرط للوجوب، ولو مات في هذه الحال لم يلزم القضاء عنه؛ لأنه كان يستطيع ببدنه وماله لكن الطريق مخوف، فلا يلزم القضاء عنه؛ لأن هذا لم يستطع إليه السبيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 حديث صحيح، رواه أبو داود والنسائي، من حديث ابن عباس، ومعناه متفق عليه، ولأنه يروى عن عائشة وابن عمر وابن عباس ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة، وقاسه جماعة على الصوم، فلهذا في «الرعاية» قول: لا يصح (و) ، فيتوجه على هذا أن يُخْرَجَ عنه كفارة يمين، ويحتمل أن يُطعَمَ عنه لكل يوم مسكينا (و) ، ولو لم يوصِ به (هـ م) ، ويكون من ثلثه (هـ م) ، واعتبر بعض الشافعية اليوم بليلته، واستشكله بعضهم، فإن كل لحظة عبادة، وما قاله محتمل، وعلى الأول: إن لم يمكنه فعله حتى مات، فالخلاف كالصوم، قيل: يقضي، وقيل: لا، ويسقط إلى غير بدل (و) ، فيسقط عندهم الإطعام الواجب مع التفريط، والله أعلم (1) .   (1) والصحيح أن نذر الاعتكاف لا يقضى؛ لأن مراده بالاعتكاف هو التفرغ لطاعة الله عز وجل، والميت انتهى وذهب، فكيف يقضى عنه؟! وقياسه على الصوم فيه نظر من وجيهن: الوجه الأول: أنه لا قياس في العبادات. والوجه الثاني: أن النوع هنا يختلف، فإن المقصود من الاعتكاف حبس النفس على التزام المسجد لطاعة الله عز وجل، لكن لو قيل: يكفر عنه كفارة يمين، فهو جيد، كما ذكره هنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وإن مات وعليه صلاة منذورة، فنقل الجماعة: لا تفعل عنه (و) ؛ لأنها عبادة بدنية محضة لا يخلُفُها مال، ولا يجب بإفسادها، ونقل حَرْبٌ تفعل عنه، اختاره الأكثر، قال القاضي: اختارها أبو بكر، والخرقي، وهي الصحيحة. رواه أحمد عن ابن عباس، وذكره البخاري عنه، وعن ابن عمر، وقال الأوزاعي: وعلى هذا تصح وصيته بها. وحيث جاز فِعْلُ غير الصوم، فلا كفارة مع فعله؛ لظاهر النصوص، ولأنه قائم مقام فاعله شرعاً، فكأنه أداه بنفسه، وإلا أخْرَجَ عنه كفارة يمين، لترك النذر، زاد صاحب «المحرر» : إن كان قد فرط، وإلا ففي الكفارة الروايتان فيمن نذر صوم شهر بعينه فلم يصمه؛ لأن فوات أيام الحياة فيما إذا أطلق كفوات الوقت المعين إذا عين، والله أعلم، ومذهب (هـ) : يلزمه أن يوصي بأن يُطعَمَ عنه إن أمكنه فعلها، وقال البغوي الشافعي: لا يبعد تخريج الإطعام من الاعتكاف إلى الصلاة، فيطعم عن كل صلاة مُدّاً. أما صلاة الفرض، فلا تفعل، وسبق الكلام فيها في قضاء رمضان، وقد قال القاضي عياض: والشافعية أجمعوا أنه لا يصلي عنه صلاة فائتة، والله أعلم. قال في «الإيضاح» : من نذر طاعة فمات، فعلت. وكذا في «المستوعب» : يصح أن يفعل عنه كل ما كان عليه من نذر طاعة، إلا الصلاة فإنها على روايتين. وقال في «منتهى الغاية» : إن قصة سعد بن عبادة المذكورة تدل على أن كل نذر يقضى. وكذا ترجم عليها أيضا في «المنتقى» بقضاء كل المنذورات عن الميت. وقال ابن عقيل وغيره: لا تفعل طهارة منذورة عنه مع لزومها بالنذر، ويتوجه في فعلها عن الميت ولزومها بالنذر ما سبق في صوم يوم الغيم، هل هي مقصودة في نفسها أم لا؟ مع أن قياس عدم فعل الولي لها، أن لا تلزم بالنذر، وإن لزمت، لزم فعل صلاة ونحوها بها، كنذر المشي إلى مسجد تلزم تحيته، صلاة ركعتين، كما يأتي في النذر. وهل يُفعَلُ طواف منذور؟ ظاهر كلامهم أنه كصلاة. وفي «الموطأ» ، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عَمَّتِهِ أنها حدَّثَتْه: أنها كانت جعَلَتْ على نفسها مشيا إلى مسجد قباء، ولم تقضه، فأفتى عبد الله بن عباس ابنتها أن تمشي عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 باب صوم التطوع وذكر ليلة القدر وما يتعلق بذلك أفضل صوم التطوع صيام داود. نص عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو: «صم يوما وأفطر يوما، فذلك داود، فذلك صيام داود - صلى الله عليه وسلم - وهو أفضل الصيام» . قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك. فقال: «لا أفضل من ذلك» . متفق عليه. ويستحب صوم ثلاث أيام من كل شهر (و) ، وأيام البيض أفضل (وش) ، نص على ذلك؛ للأخبار الصحيحة في ذلك، وأنه «صوم الدهر» ، وفي بعضها: «كصوم الدهر» ، قال شيخنا وغيره: مراده أن من فعل هذا، حصل له أجر صيام الدهر، بتضعيف الأجر من غير حصول المفسدة، والله أعلم. وأيام البيض: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة (1) ، سُمِّيَتْ بذلك لابيضاض ليلها. وذكر أبو الحسن التميمي أن الله تاب فيها على آدم، وبيض صحيفته. وعن مالك: يكره صومها (2) . ويستحب صوم الاثنين والخميس. نص عليه.   (1) أفضل الصيام: صوم يوم وإفطار يوم، وصيام ثلاثة أيام من الشهر، وهي تعدل صوم الدهر، لكن الأفضل أن تكون في الأيام البيض، وإن صامها في أول الشهر، أو في وسطه، أو في آخره، حصل المقصود، كما نقول - مثلاً - في الصلاة: صَلِّ الصلاة في كل الوقت، لكن تقديمها أفضل، فيكون فضل صيام الأيام البيض فضل الزمن فقط، وأما الأجر وأنه يحصل له صيام الدهر كله فحاصل سواء صام الثلاثة في الأيام البيض، أو في غيرها، وسواء صامها متتابعة، أم متفرقة، فلو صام في العشر الأول يوماً، وفي العشر الأوسط يوماً، وفي العشر الثالث يوماً، حصل المقصود؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط التتابع، ولو كان التتابع شرطاً لبينه. (2) قول الإمام مالك - رحمه الله - ضعيف؛ لأن ذلك جاءت به السنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 ويستحب إتباع رمضان بست من شوال، ولمسلم وغيره، من رواية سعد بن سعيد أخي يحيى بن سعيد، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب مرفوعا: «من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال، فذلك صيام الدهر» . سعد مُختَلفٌ فيه، وضعفه أحمد، ورواه أبو داود، عن النفيلي، عن عبد العزيز - وهو الداروردي - عن صفوان بن سليم، وسعد بن سعيد عن عمر. فذكره، وهو إسناد صحيح، وكذا رواه النسائي عن خلاد بن أسلم، عن الداروردي. ورواه أيضا من حديث يحيى بن سعيد عن عمر، لكن فيه عتبة بن أبي حكيم، مُخْتَلفٌ فيه، ورواه أحمد أيضا من حديث جابر مرفوعا، وكذا من حديث ثوبان، وفيه: «وستة أيام بعد الفطر» . فلذلك استحب أحمد، والأصحاب رحمهم الله، لمن صام رمضان أن يُتبِعَه بصوم ستة أيام من شوال. قال جماعة منهم صاحب «المغني» ، و «المحرر» : وإنما كُرِهَ صوم الدهر؛ لما فيه من الضَّعْفِ والتشبه بالتَّبَتُّلِ، ولولا ذلك لكان فيه فضل عظيم؛ لاستغراق الزمان بالطاعة والعِبَادةِ، والمراد بالخبر: التشبيه به في حصول العبادة به على وجه لا مشقة فيه، كما قال عليه السلام في أيام البيض، وهي مستحبة، قال في «المغني» : بغير خلاف. قال: ولذا نُهِيَ عبد الله بن عمرو عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث، وقال: «من قرأ: {قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1] فكأنما قرأ ثلث القرآن» ، أراد التشبيه بثلث القرآن في الفضل، لا في كراهة الزيادة عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وتحصل فضيلتها متتابعة ومتفرقة، ذكره جماعة، وهو ظاهر كلام أحمد، وقال: في أول الشهر وآخره، واستحب بعضهم تتابعها، وهو ظاهر الخرقي وغيره، وبعضهم: عقب العيد، واستحبهما ابن المبارك والشافعي وإسحاق، وهذا أظهر (1) ، ولعله مراد أحمد والأصحاب؛ لما فيه من المسارعة إلى الخير، وإن حصلت الفضيلة بغيره، وسمى بعض الناس الثامن عيد الأبرار، واختار شيخنا الأول؛ لظاهر الخبر، وذكره قول الجمهور، وقال: ولا يجوز اعتقاد ثامن شوال عيدا، فإنه ليس بعيد، إجماعا، ولا شعائره شعائر العيد، والله أعلم (2) . ويتوجه احتمال: تحصل الفضيلة بصومها في غير شوال، وفاقاً لبعض العلماء، ذكره القرطبي؛ لأن فضيلتها كون الحسنة بعشر أمثالها، كما في خبر ثوبان، ويكون تقييده بشوال لسهولة الصوم لاعتباره رخصة، والرخصة أولى، ويتوجه تحصيل فضيلتها لمن صامها وقضاء رمضان، وقد أفطره لعذر، ولعله مراد الأصحاب، وما ظاهره خلافه خُرِّجَ على الغالب المعتاد، والله أعلم (3) .   (1) وهذا هو الصحيح أنه يبادر بها ويتابعها، أي: الست من شوال؛ لأنه أسبق إلى الخير وأسرع في فعله فكان أولى، ولكن لو أخرها إلى آخر الشهر فلا بأس، أو فرقها في أيام فلا بأس. (2) هذا أدركناه، يسمون اليوم الثامن: عيد الأبرار؛ لأن يوم الثامن يصادف يوم العيد، وهذا غير صحيح؛ لأن مفهوم هذا الكلام لو أخذناه بظاهره أن من لم يصم ستة أيام من شوال غير بار، وهذا كذب. (3) وعلى هذا فنقول: إن صامها في غير شوال لعذر حصل له الأجر، وإن صامها في غير شوال لغير عذر كما لو أخرها، فإنه لا تحصل له فضيلة صيام الستة. مثال الأول: لو صادف أنه بعد الانتهاء من رمضان مرض، وطال به المرض حتى خرج الشهر، ثم شُفي وصامها، فإنه يحصل له ذلك، وكذلك يحصل ثوابها إذا كان على الإنسان شهر رمضان كاملاً، فإنه يلزم من ذلك أن لا يصوم الست إلا في ذي القعدة، فيحصل له الأجر؛ لأنه أخرها لعذر. ومثال الثاني: لو فَرَّط وتهاون، وقال: هذا الشهر شهر نزهة وسفر، وسوف أصوم في ذي القعدة، فإنه لا يحصل له ثوابها، ونعلم مما سبق أنه لو صامها قبل أن يتم رمضان فإنها لا تنفعه، حتى لو قلنا بجواز صوم النفل قبل القضاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان» ، ومن عليه قضاء لا يقال: إنه صام رمضان، بل صام بعضه. مثاله: إنسان عليه سبعة أيام من رمضان، وانتهى الشهر، فقال: أصوم الست؛ لئلا يفوت الشهر، فصام الست، ثم صام الأيام الباقية في ذي القعدة، فإنه لا يحصل له ثوابها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط شرطين: الأول: أن يصوم رمضان؛ لقوله: «من صام رمضان ثم أتبعه» . والثاني: أن يكون من شوال. ولأن صيامها بعد شوال بمنزلة الراتبة بعد الفريضة، ولو قدم الراتبة على الفريضة لم يحصل له ثوابها، كما لو قدم راتبة المغرب مثلاً، أو راتبة العشاء، أو الراتبة التي بعد صلاة الظهر، فإنه لا يحصل له ذلك الأجر، أما صوم التطوع غير الست فهل يجوز أو لا يجوز، كما لو صام يوم عرفة مثلاً، أو يوم عاشوراء، أو صام تطوعا قبل أن يقضي ما عليه من رمضان؟ فيه خلاف، فالمشهور من المذهب أن ذلك لا يصح، والقول الثاني: أنه يصح ما دام الوقت واسعاً للقضاء، فإن ضاق الوقت بحيث لم يبق عليه إلا مقدار ما عليه من الأيام، فإن النافلة لا تصح، وهذا أقيس، بدليل أن صلاة الفريضة موسع وقتها، ويجوز للإنسان أن يتنفل بما شاء قبل أن يصليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وكره أبو حنيفة ومالك صوم ستة أيام من شوال، وذكر مالك أن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته، وأن يلحق برمضان ما ليس منه. قال أصحابنا وغيرهم: يوم الفطر فاصل، بخلاف يوم الشك (1) .   (1) لاوجه للكراهة، وكما قال الأصحاب وأجابوا عن اشتباه الفرض بالنفل بأنه يفصل بينهما بيوم فطر واجب، وهو يوم العيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 ويستحب صوم عشر ذي الحجة (1) . وآكده التاسع - وهو يوم عرفة - إجماعا، قيل: سمي بذلك للوقوف بعرفة فيه. وقيل: لأن جبريل حج بإبراهيم - عليهما السلام -، فلما أتى عرفة قال: قد عرفت؟ قال: قد عرفت. وقيل: لتعارف آدم وحواء بها.   (1) قوله: «ويستحب صوم عشر ذي الحجة» هذا هو الصواب بلا شك، وأما قول عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يصومها [أخرجه مسلم في الصيام/باب في صوم عشر ذي الحجة (1176) .] . فقد عورض بحديث حفصة رضي الله عنها وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصومها [أخرجه أبو داود في الصيام/باب في صوم العشر (2437) ؛ والنسائي في الصيام/باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر (4/220) .] ، ثم يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر» [أخرجه البخاري في العيدين/باب فضل العمل في أيام التشريق (969) .] ، وكونه لا يصومها - على تسليم أنه لا يصومها - قد يكون تركها لعذر أو خاف أن لا يشق على أمته، وإلا فمن يستطيع أن يقول: ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر إلا الصوم؟ لا أحد يستطيع أن يقول هذا، والرسول صلى الله عليه وسلم عَمَّمَ، والصواب: أن صومها مستحب بلا شك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ثم الثامن، وهو يوم التروية، قيل: سمي بذلك لأن عرفة لم يكن بها ماء، فكانوا يتروون من الماء إليها، وقيل: لأن إبراهيم عليه السلام رأى ليلة التروية الأمر بذبح ولده، فأصبح يتروى؛ هل هو من الله، أو حُلْمٌ؟ فلما رآه الليلة الثانية عرف أنه من الله (1) . ولا وجه لقول بعضهم: آكده الثامن ثم التاسع، ولعله أخذه من قوله في «الهداية» وغيرها: آكده يوم التروية وعرفة.   (1) الصواب أن عرفة سميت بذلك؛ لأنها مرتفعة، وكل شيء مرتفع يسمى: عرف، ومنه الأعراف وهو المكان المرتفع بين الجنة والنار، وقيل: لأن الناس يتعارفون فيها، وهذا يحتمل، أما قوله: «وقيل: لأن جبريل حج بإبراهيم - عليهما السلام -، فلما أتى عرفة قال: قد عرفت؟ قال: قد عرفت» فهذا لا أصل له، أما التروية فصحيح؛ لأنهم كانوا يتروون الماء لأن عرفة ومنى ليس فيهما ماء، فكان يتزودون بالماء قبل أن يقدم الحجاج إليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 ولا يستحب للحاج بعرفة صوم يوم عرفة (وم ش) ، وفطره أفضل، وكرهه جماعة؛ لفطره صلى الله عليه وسلم بعرفة، وهو يخطب الناس. متفق عليه. ولأحمد وابن ماجه النهي عنه من حديث أبي هريرة، من رواية مهدي الهجري - وفيه جهالة، ووثقه ابن حبان -، وليتقوى على الدعاء. وعن عقبة مرفوعا: «يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق، عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب» . رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي وصححه. قال صاحب «المحرر» : والمراد به؛ كراهة صومه في حق الحاج، واستحبه أبو حنيفة، وإسحاق، إلا أن يضعفه عن الدعاء، واختاره الآجري، قال صاحب «المحرر» : وحكى الخطابي عن إمامنا نحوه، وجزم في «الرعاية» بما ذكره بعضهم؛ أن الأفضل للحاج الفطر يوم التروية، ويوم عرفة بهما (1) . ويستحب صوم المحرم، قال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصلاة بعد المكتوبة جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم» . رواه مسلم وغيره، من حديث أبي هريرة. ولعله عليه السلام لم يكثر الصيام فيه لعذرٍ، أو لم يعلم فضله إلا أخيراً.   (1) الصواب أنه لا يستحب صوم يوم عرفة للحاج، ولو قيل بالكراهة استئناساً بالحديث الذي فيه ضعف، واحتجاجاً بكون الرسول صلى الله عليه وسلم: دعا بالإناء ضحى يوم عرفة وشرب والناس ينظرون [أخرجه البخاري في الصوم/باب صوم يوم عرفة (1988) ؛ ومسلم في الصيام/باب استحباب الفطر للحاج بعرفات يوم عرفة (1123) .] ، مما يجعل ذلك تأكيداً في فطره، أقول: لو قيل بالكراهة لكان له وجه، وإذا قلنا بالكراهة فإنه لا يثاب على صوم هذا اليوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 قال ابن الأثير: إضافته إلى الله تعظيما وتفخيما، كقولهم: بيت الله، وآل الله، لقريش. قال: والشهر: الهلال، سُمِّيَ به؛ لشهرته وظهوره. وأفضله عاشوراء، وهو العاشر، وفاقا لأكثر العلماء، ثم تاسوعاء، وهو التاسع - ممدودان، وحُكِيَ قصرهما -، وعن ابن عمر: يكره صوم عاشوراء، وعن بعض السلف: فرض، وهما آكده، ثم العشر، روى مسلم عن أبي قتادة مرفوعا، في صيام يوم عرفة: «إني لأحتسب على الله أن يُكَفِّرَ السنة التي قبله والسنة التي بعده» . وقال في صيام عاشوراء: «إني أحتسب على الله أن يُكَفِّر السنة التي قبله» . والمراد به الصغائر، حكاه في «شرح مسلم» عن العلماء، فإن لم تكن صغائر، رُجِيَ التخفيف من الكبائر (1) ، فإن لم تكن رفعت درجات، وعن الحسن، عن ابن عباس قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم عاشوراء، يوم العاشر، من المحرم. إسناده ثقات، رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح. وقال ابن المديني: لم يسمع الحسن من ابن عباس، وقال: مرسلات الحسن التي رواها عنه الثقات صحاح. وعن معقل بن يسار، وغيره: يوم عاشوراء هو اليوم التاسع؛ لأن الحكم بن عبد الله الأعرج سأل ابن عباس عن صومه: أي يوم؟ قال: إذا رأيت هلال المحرم، فاعدد، فإذا أصبحت من تاسعه، فأصبح منها صائما، قلت: أكذلك كان يصومه محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. رواه مسلم.   (1) قوله: «فإن لم تكن له صغائر» هذا بعيد جداً أن يكون إنسان ليس له كبائر ولا صغائر، ولكن على فرض أنه حصل فإنه يرفع درجاته، ويمكن أن يحصل بما إذا وجدت الأسباب في كفارة الذنوب، ثم تعددت هذه الأسباب، فما زاد يكون رفعة في الدرجات، مثل: الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما، والصلوات الخمس كفارة لما بينهما، فهذا يكون زيادة في رفعة الدرجات، لكن من يجزم أن صلاته تكفر ما بينها وبين الصلاة الأخرى؟! لأن أكثر الناس الآن صلواتهم تجزئ فقط، بسبب كثرة الوساوس وانشغال القلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 ومعناه: أهكذا كان يأمر بصيامه أو يحث عليه؟ جمعا بينه وبين غيره، ذكره صاحب «المحررِ» ، وعن ابن عباس القولان، واختارت طائفة صوم اليومين، صح عن ابن عباس. وقال: خالفوا اليهود. وعن أبي رافع - صاحب أبي هريرة - وابن سيرين، وقاله الشافعي، وأحمد وإسحاق، وقول ابن عباس: لما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى - وفي لفظ أبي داود: تصومه اليهود والنصارى - فقال: «فإذا كان العام المقبل - إن شاء الله - صمنا اليوم التاسع» . فلم يأت العام المقبل حتى توفي. رواه مسلم وأبو داود. وهو يدل على أنه لم يكن يصوم التاسع بل العاشر، وأنه عاشوراء، وقصد صوم التاسع مع العاشر؛ مخالفة لليهود، وليس يدل على اقتصاره على التاسع. وقد روى الخلال في «العلل» : حدثنا محمد بن إسماعيل، أنبأنا وكيع، عن ابن أبي ذئب، عن القاسم بن عباس، عن عبد الله بن عمير مولى ابن عباس، عن ابن عباس مرفوعا: «لئن بقيت إلى قابل، لأصومن التاسع والعاشر» . إسناده جيد. واحتج به أحمد في رواية الأثرم، وبقول ابن عباس: صوموا التاسع والعاشر. ولا يكره إفراد العاشر بالصوم، وقد أمر أحمد بصومهما، ووافق شيخنا المذهب أنه لا يكره. وقال: مقتضى كلام أحمد: يكره، وهو قول ابن عباس (وهـ) ، ولم يجب صوم عاشوراء، اختاره الأكثر، منهم القاضي، قال صاحب «المحررِ» : وهو الأصح من قول أصحابنا (وش) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وعن أحمد: وجب ثم نُسِخَ، اختاره شيخنا، ومال إليه الشيخ (وهـ) ؛ للأمر به، وقد روى أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم أَمَرَ من أكل بالقضاء، ثم لا يلزم من عدم القضاء عدم وجوبه، بدليل الخلاف فيمن صار أهلا للوجوب في أثناء يوم من رمضان، وحديث معاوية: «لم يكتب عليكم صيامه» ، فمعاوية أسلم عام الفتح، وقيل: في عمرة القضية، وقيل: زمن الحديبية، فإنما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك بعد هذا، وعاشوراء إنما وجب في العام الثاني للهجرة، فوجب يوما ثم نُسِخَ برمضان ذلك العام، والأخبار في ذلك مشهورة، ومن اختار الأول حمل الأمر قبل رمضان على تأكيده وكراهة تركه، فلما فُرِضَ رمضان بقي أصل الاستحباب، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 سأل ابن منصور أحمد: هل سمعت في الحديث أن: «من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر السنة» ؟ فقال: نعم، رواه سفيان بن عيينة، عن جعفر الأحمر، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر - وكان من أفضل أهل زمانه - أنه بلغه: أن من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته. قال ابن عيينة: قد جربناه منذ خمسين أو ستين فما رأينا إلا خيرا. وذكره ابن الجوزي في «العلل المتناهية» من حديث ابن عمر، قال الدارقطني: منكر، ومن حديث أبي هريرة، والإسناد ضعيف، وعن جابر مرفوعا مثله، وفيه: «على نفسه وأهله» . ذكره ابن عبد البر في «الاستذكار» : قال جابر: جربناه فوجدناه كذلك. وقال أبو الزبير مثله، وقال شعبة مثله. وعن الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مثله، ولفظه: «من وسع على أهله» . قال يحيى بن سعيد: جربنا ذلك فوجدناه حقا. وكره شيخنا ذلك وغيره سوى صومه، قال: وقول إبراهيم بن محمد بن المنتشر أنه بلغه، لم يذكر عمن بلغه، وبعض الجهال والنواصب ونحوهم، وضع في ذلك قبالة الرافضة. قال: ولم يستحب أحد من الأئمة فيه غسلا ولا كحلا ولا خضابا، ونحو ذلك، والخبر بذلك كذب اتفاقا، وغلط من صحح إسناده، واستحب ذلك صاحب «التلخيص» في كتابه «الخطب» ، والله أعلم (1) .   (1) والصواب ما قاله شيخ الإسلام - رحمه الله - أنه يوم كالأيام، لا يسن فيه التوسعة، وإنما يسن فيه الصيام، أما غيره فلا، ولكن هذا الذي حصل؛ حصل مصادفة - إن صح الخبر - فهؤلاء الذين قالوا: جربناه فوجدنا خيراً، أو فوجدناه كذلك، حصل مصادفة، ثم من فعله أراد بذلك مقابلة الرافضة؛ لأن الروافض في يوم عاشوراء يجعلونه يوم أحزان وهموم وغموم، ويعذبون أنفسهم في ذلك اليوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 فصل: يُكْرَهُ صوم الدهر يُكْرَهُ صوم الدهر إذا أدخل فيه يومي العيدين، وأيام التشريق، ذكره القاضي وأصحابه، والكراهة كراهة تحريم. ذكره صاحب «المغني» ، و «المحررِ» ، وغيرهُما، وهو واضح (1) .، وإن أفطر أيام النهي جاز، خلافاً للظاهرية، وسبق كلام ابن عقيل في إعادة الصلاة، ولم يكره، والمراد ما ذكره صاحب «المحررِ» وغيره، إذا لم يترك به حقا، ولا خاف منه ضررا. نقل حنبل: إذا أفطر أيام النهي فليس ذلك صوم الدهر. ونقل صالح: إذا أفطرها رجوت أن لا بأس به. وهذا اختيار القاضي وأصحابه، وصاحب «المحررِ» والأكثر (وم ش) ، وذكر مالك أنه سمع أهل العلم يقولونه؛ لقول حمزة بن عمرو: يا رسول الله، إني أسرد الصوم، أفأصوم في السفر؟ قال: «إن شئت فصم» . متفق عليه؛ ولأن أبا طلحة، وغيره من الصحابة، وغيرهم فعلوه، ولأن الصوم مطلوب للشارع إلا ما استثناه، وأجابوا عن حديث عبد الله بن عمرو، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا صام من صام الدهر» . رواه البخاري؛ بأنه عليه السلام خشي عليه ما سبق، ولذلك قال: ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعدما كَبِرَ. واختار صاحب «المغني» : يكره، وهو ظاهر رواية الأثرم، وللحنفية قولان. وقال شيخنا: الصواب قول من جعله تركا للأولى، أو كرهه، فعلى الأول: صوم يوم وفطر يوم أفضل منه، خلافا لطائفة من الفقهاء والعباد. ذكره شيخنا، وهو ظاهر حال من سرده، ومنهم أبو بكر النجاد من أصحابنا؛ حملا لخبر عبد الله بن عمرو عليه، وعلى من في معناه؛ لأنه - عليه السلام - لم يرشد حمزة بن عمرو إلى يوم ويوم. قال أحمد: ويعجبني أن يفطر منه أياما.   (1) والصواب كما قال المؤلف: أنه يكره صوم الدهر كراهة تحريم إن دخل فيه الأيام التي يحرم صيامها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 يعني: أنه أولى؛ للخروج من الخلاف، وجزم به جماعة، وقاله إسحاق، وليس المراد الكراهة، فلا تعارض (1) .   (1) والذي يظهر من ذلك أنه مكروه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر عن قوم اجتمعوا، فقال بعضهم: أنا أصوم ولا أفطر، والثاني: أنا أقوم ولا أنام، والثالث قال: لا أتزوج النساء، فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا رغبة عن سنته، فقال: «من رغب عن سنتي فليس مني» [أخرجه البخاري في النكاح/باب الترغيب في النكاح (4776) ؛ ومسلم في النكاح/باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنه واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم (1401) .] ، فالصواب أنه مكروه على الأقل، ولأنه في الغالب إذا صام الدهر كله لابد أن يحصل منه تقصير فيما يجب أو يستحب، وحينئذ لا يوظف البدن في الوظائف الدينية المتعددة، فمثلاً: قد يكسل عن طلب العلم، وقد يكسل عن إعانة المحتاج، وقد يكسل عن طلب الرزق لأهله، وما أشبه هذا، فالصواب أن نقول: خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم: كان يصوم حتى يقال: لا يفطر، وكان يفطر حتى يقال لا يصوم [أخرجه البخاري في الصيام/باب صوم شعبان (1969) ؛ ومسلم في الصوم/باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان واستحباب أن لا يخلي شهرا عن صوم (1156) .] . تبعاً للمصلحة، أو يقال: صم يوماً، وأفطر يوماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 فصل: يكره الوصال يكره الوصال، وهو أن لا يفطر بين اليومين؛ لأن النهي رفقٌ ورحمةٌ؛ ولهذا واصل صلى الله عليه وسلم بهم، وواصلوا بعده، وقيل: يحرم، واختاره ابن البناء، وحكاه ابن عبد البر عن الأئمة الثلاثة وغيرهم، وللشافعية وجهان. قال أحمد: لا يعجبني. وأومأ أحمد أيضا إلى إباحته لمن يطيقه، روي عن عبد الله بن الزبير، وابنه عامر، وغيرهما، فنقل حنبل أنه واصل بالعسكر ثمانية أيام ما رآه طعم فيها، ولا شَرِبَ حتى كلمه في ذلك فشرب سويقا، قال أبو بكر: يحتمل أنه فعله حيث لا يراه، لأنه لا يخالف النبي صلى الله عليه وسلم، كذا قال، قال صاحب «المحررِ» : لا خلاف أن الوصال لا يبطل الصوم؛ لأن النهي ما تناول وقت العبادة؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر الذين واصلوا بالقضاء، وتزول الكراهة بأكل تمرة ونحوها؛ لأن الأكل مظنة القوة، وكذا بمجرد الشرب، على ظاهر ما رواه المروذي عنه أنه كان إذا واصل شرب شربة ماء، خلافاً للشافعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 ولا يكره الوصال إلى السحر. نص عليه، وقاله إسحاق؛ لقوله عليه السلام في حديث أبي سعيد: «فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر» . رواه البخاري. لكن تَرَكَ الأولى؛ لتعجيل الفطر، وذكر القاضي عياض المالكي أن أكثر العلماء كرهه (1) .   (1) الوصال إذا لزم منه إضاعة الواجب فهو حرام؛ لأن كل ما يبطل الواجب حرام، كما أن ما يوقع في المحرم يكون حراماً، أما إذا كان الإنسان نشيطاً وسيقوم بكل وظائف العبادة الواجبة عليه فأقل أحواله الكراهة، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه، ولما قالوا: يا رسول الله، إنك تواصل؟ قال: «إني لست كهيئتكم» . فواصلوا، ثم واصل بهم الرسول صلى الله عليه وسلم حتى هَلّ هلال شوال، فقال: «لو تأخر الهلال لزدتكم» . كالمنكل لهم [أخرجه البخاري في الصوم/باب التنكيل لمن أكثر الوصال (1965) ؛ ومسلم في الصيام/باب النهي عن الوصال (1103) .] . وهذا يدل على أن أقل أحواله الكراهة، لكن إذا تضمن إسقاط واجب أو فعل محرم صار حراماً، والوصال من الأمثلة التي تدل على أن الشيء من العبادات قد يكون مباحاً وليس بمسنون؛ لأنهم سيبقون إلى الفجر مثلاً، أو إلى السحر، تعبداً لله، فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لم يعجبه ذلك، وهناك أمثلة كثيرة، وأما من فعله من الصحابة رضي الله عنهم كعبد الله بن الزبير وغيره فهم تأولوا النهي على أن المقصود بذلك الرفق، وأنه لا يشق عليهم، ففعلوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 فصل: يُكْرَهُ استقبال رمضان بيوم أو يومين يُكْرَهُ استقبال رمضان بيوم أو يومين، ذكره الترمذي عن أهل العلم، وجزم به الأصحاب، مع ذكرهم في يوم الشك ما يأتي، وقد قال أحمد - رحمه الله تعالى - في رواية أبي داود وغيره: إنه إذا دخل لم يَحُلْ دونه سحاب أو قتر يوم شك، ولا يصام. وكذا نقل الأثرم: ليس ينبغي أن يصوم إذا لم يَحُلْ دون الهلال شيء من سحاب، ولا غيره، فهذا من أحمد للتحريم، على ما سبق في خطبة الكتاب (وش) ، ولم أجد عن أحدٍ خلافه، إلا ما حكاه الترمذي في يوم الشك عن أكثر أهل العلم - منهم أحمد - الكراهة، والأظهر أنه لا تعارض، وأن قوله في رواية أبي داود يوم شك، فيه نظر، إلا أن يكون المراد: لم يَحُلْ دونه شيء، وتقاعدوا عن الرؤية، وفيه نظر، فإن كان أراده، فيوم الشك محرم عنده؛ لقول عمار: «من صام اليوم الذي يشك فيه، فقد عصى أبا القاسم» . فتَقَدُّمُه باليوم واليومين أولى عنده بالتحريم؛ لصحة النهي فيه، ولا معارض، ووجه تحريم يوم الشك فقط أن قول عمار صريح، والنهي يحتمل الكراهة، ووجه تحريم استقباله فقط النهي، وفيه زيادة على المشروع، وصوم الشك احتياط للعبادة، وقول عمار في إسناده أبو إسحاق، وهو مدلس، وروي من غير طريقه، بإسنادٍ أثبت منه موقوف. والله أعلم (1) .. ولا يكره التقديم بأكثر من يومين. نص عليه؛ لظاهر حديث أبي هريرة: «لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه» . وقيل: يكره بعد نصف شعبان، وحرمه الشافعية؛ لحديث أبي هريرة: «إذا انتصف شعبان، فلا تصوموا» . رواه الخمسة، وضعفه أحمد وغيره من الأئمة، وصححه الشيخ، وحمله على نفي الفضيلة، وحمل غيره على الجواز.   (1) والصحيح أن يوم الشك هو يوم الغيم إذا حال دون الهلال غيم أو قتر، فصباح تلك الليلة هو يوم الشك، وأما إذا كانت السماء صحواً فأين الشك؟ لأن الناس سوف ينظرون ولا يجدون الهلال، فالصواب أن يوم الشك يوم ليلة الثلاثين إذا حال دون رؤية الهلال الغيم أو القتر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 قال في «المستوعب» : آكده يوم النصف. قال شيخنا: وليلة النصف لها فضيلة في المنقول عن أحمد، وقد روى أحمد وجماعة من أصحابنا وغيرهم في فضلها أشياء مشهورة في كتب الحديث (1) .   (1) الصحيح أن ما بعد النصف من شعبان لا يكره صومه؛ لأن الحديث أولاً: ضعيف، وهو النهي عن الصوم بعد النصف من شعبان، والثاني: أنه مخالف لحديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في «الصحيحين» : «لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم ولا يومين» [أخرجه البخاري في الصوم/باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين (1914) ؛ ومسلم في الصيام/باب «لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين» (1082) .] فإن صح الحديث فإنه محمول على الكراهة، ويكون النهي في قوله: «لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم ولا يومين» محمولاً على من فعل ذلك احتياطاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 فصل: يكره إفراد رجب بالصوم يكره إفراد رجب بالصوم (خ) ، نقل حنبل: أنه يكره، رواه عن عمر وابنه، وأبي بكرة. قال أحمد: يروى فيه عن عمر أنه كان يضرب على صومه، وابن عباس قال: يصومه إلا يوما أو أياماً. وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام رجب. رواه ابن ماجه، وأبو بكر من أصحابنا من رواية داود بن عطاء، ضعفه أحمد وغيره؛ ولأن فيه إحياء لشعار الجاهلية بتعظيمه؛ ولهذا صح عن عمر أنه كان يضرب فيه، ويقول: كلوا، فإنما هو شهر كانت تعظمه الجاهلية. وتزول الكراهة بالفطر، أو بصوم شهر آخر من السنة. قال صاحب «المحررِ» : وإن لم يَلِهِ. قال شيخنا: من نذر صومه كل سنة، أفطر بعضه وقضاه، وفي الكفارة الخلاف. قال: ومن صامه معتقدا أنه أفضل من غيره من الأشهر أثم وعُزِّرَ، وحَمَلَ عليه فعل عمر. وقال أيضا: في تحريم إفراده وجهان. ولعله أخذه من كراهة أحمد، وفي «فتاوى ابن الصلاح» الشافعي: لم يؤثمه أحد من العلماء فيما نعلمه (1) . ولا يكره إفراد شهر غير رجب، قال صاحب «المحرر» : لا نعلم فيه خلافا؛ للأخبار، منها أنه كان صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان ورمضان. وأن معناه: أحيانا، ولم يداوم كاملا على غير رمضان.   (1) وهذا لا يعارض ما ذكره الشيخ تقي الدين - رحمه الله -؛ لأن شيخ الإسلام إنما أثَّمَهُ إذا اعتقد أنه أفضل من غيره، وأما مجرد صومه فابن الصلاح -رحمه الله- يقول: لم يؤثمه أحد من العلماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 ولم يذكر الأكثر استحباب صوم رجب وشعبان، واستحبه في «الإرشاد» . وقال شيخنا: في مذهب أحمد وغيره نزاع، قيل: يستحب، وقيل: يكره، فيفطر ناذرهما بعض رجب. واستحب الآجري صوم شعبان، ولم يذكر غيره. وسبق كلام صاحب «المحررِ» ، وكذا قال ابن الجوزي في كتاب «أسباب الهداية» : يستحب صومُ الأشهر الحرم وشعبان كله، وهو ظاهر ما ذكره صاحب «المحررِ» في الأشهر الحُرُمِ وشعبان كله، وقد روى أحمد وأبو داود وغيرهما من رواية مجيبة الباهلي - ولا يعرف - عن رجل من باهلة أنه عليه السلام أمره بصوم الأشهر الحرم. وفي الخبر اختلاف، وضعفه بعضهم، ولهذا - والله أعلم - لم يذكر استحبابه الأكثر، وصومُ شعبان كلهِ إلا قليلا في «الصحيحين» عن عائشة. وقيل: قولها: كله، قيل: غالبه، وقيل: يصومه كله في وقت، وقيل: يُفرِّقُ صومه كله في سنتين، ولأحمد، ومسلم، وأبي داود، والنسائي، عن عائشة: لا أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة، ولا قام ليلة حتى أصبح، ولا صام شهرا كاملا غير رمضان. قال في «شرح مسلم» : قال العلماء: إنما لم يستكمل غيره؛ لئلا يظن وجوبه. وعنها أيضا: والله إن صام (1) شهرا معلوما سوى رمضان حتى مضى لوجهه، ولا أفطره حتى يصيب منه. ولمسلم: منذ قدم المدينة. وعن ابن عباس: ما صام شهرا كاملا قط غير رمضان. ولمسلم: منذ قدم المدينة. متفق عليهما. وصوم شعبان كله في «السنن» عن أم سلمة، ورواهما أحمد. ولعل ظاهر ما ذكره الآجري أنه أفضل من المحرم وغيره؛ ووجهه قول أسامة بن زيد: لم يكن صلى الله عليه وسلم يصوم من شهر ما يصوم من شعبان، وقال: «ذلك شهر يغفل الناس عنه» . رواه أبوبكر البزار، وأبو بكر بن أبي شيبة. وفي لفظة: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «ترفع فيه أعمال الناس، فأحب أن لا يرفع عملي إلا وأنا صائم» . وروى اللفظين أحمد والنسائي، والإسناد جيد.   (1) قوله: «والله إن صام» إن: هنا نافية، يعني: والله ما صام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وروى سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، قال: أظنه عن محمد بن إبراهيم التيمي، أن أسامة بن زيد كان يصوم شهر المحرم، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيام شوال، فما زال أسامة يصومه حتى لقي الله. إسناده جيد، إلا أنه قال: أظنه. ورواه ابن ماجه، عن محمد بن الصباح عنه، ولم يشك، وفيه أنه كان يصوم الأشهر الحرم، فقال له: «صم شوالا» . فتركه؛ ولم يزل يصومه حتى مات. وللترمذي - وقال: غريب - وأبي يعلى الموصلي، وابن حبان، من رواية صدقة الدقيقي - وهو ضعيف - عن ثابت عن أنس، سئل صلى الله عليه وسلم عن أفضل الصيام، قال: «شعبان تعظيما لرمضان» . أي الصدقة أفضل؟ قال: «صدقة في رمضان» . وذكرت امرأة لعائشة أنها تصوم رجباً، فقالت: إن كنت صائمة شهرا لا محالة، فعليك بشعبان، فإن فيه الفضل. رواه حميد بن زنجويه الحافظ وأبو زرعة الرازي. وسأل رجل عائشة عن الصيام، فقالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان كله. رواه أحمد في «مسنده» . وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان كله، فقلت: أرأيت أحب الشهور إليك الصوم في شعبان؟ فقال: «إن الله يكتب في شعبان حين يقسم، من يميته تلك السنة، فأحب أن يأتي أجلي وأنا صائم» . رواه أبو الشيخ الأصبهاني من رواية مسلم بن خالد الزنجي عن طريف، قال العقيلي في طريف: لا يتابع على حديثه. وروى يحيى بن صاعد، وابن البناء من أصحابنا هذا المعنى من حديث عائشة. والله أعلم. وقد قال ابن هبيرة في كون أكثر صومه - عليه السلام - في شعبان قال: ما أرى هذا إلا من طريق الرياضة؛ لأن الإنسان إذا هجم بنفسه على أمر لم يتعوده صعب ذلك عليها، فدرجها بالصوم في شعبان لأجل شهر رمضان. كذا قال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وذكر في «الغنية» أنه يستحب صوم أول يوم من رجب، وأول خميس منه والسابع والعشرين، وآخر السنة وأولها، وصوم أيام الأسبوع، وصلاة في لياليها، وذكر أشياء، واحتج بأخبار ليست بحجة، واعتمد على ما جمعه أبو الحسن المذكور عن أبيه، وذكر ابن الجوزي ذلك أو بعضه في بعض كتبه - ككتابه «أنس المستأنس في ترتيب المجالس» - وذكر أخبارا وآثاراً واهية، وكثير منها موضوع، والعجب أنه يذكر في كتابه «الموضوعات» ما هو أمثل منها، ويذكرها بصيغة الجزم، فيقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا، وقال فلان الصحابي كذا!! والموضوع لا يحتج به بالإجماع، ولهذا لم يذكر الأصحاب شيئا من ذلك، وقال في كتابه هذا: إنه يثاب على صوم عاشوراء ثواب صوم سنة ليس فيها صوم عاشوراء، والله أعلم (1) .   (1) الصحيح أنه لا يُخص شهر بصوم، وأن الصيام جائز في كل وقت، ولكن بدون تخصيص، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر الصيام في شعبان، حتى كان يصومه إلا قليلاً [أخرجه مسلم في الصوم/باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان واستحباب أن لا يخلي شهرا عن صوم (1156) .] . فمنهم من قال: الحكمة في هذا من أجل أن يمرن نفسه على الصيام، فإذا دخل رمضان فإذا هو قد تمرن، فيسهل عليه، ومنهم من قال: إن هذا بمنزلة الراتبة القبلية للصلاة، وصيام ستة أيام من شوال بمنزلة الراتبة البعدية، والأولى أن يقال: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم فهو حق، سواء علمنا حكمته أم لا، وأنه ينبغي الإكثار من الصيام في شهر شعبان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 فصل: يكره أن يتعمد إفراد يوم الجمعة بصوم يكره أن يتعمد إفراد يوم الجمعة بصوم. نص عليه؛ لحديث أبي هريرة: «لا تصوموا يوم الجمعة، إلا وقبله يوم، أو بعده يوم» . متفق عليه، ولمسلم: «لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم» . قال الدراووردي المالكي: لم يَبْلُغْ (م) الحديث. قال في «شرح مسلم» : فيه النهي عن تخصيص ليلة الجمعة بصلاة، وهو متفق على كراهته. قال: واحتج به العلماء على كراهة صلاة الرغائب. وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن ينفرد بصوم. ودخل - عليه السلام - على جويرية في يوم جمعة، وهي صائمة، فقال لها: «أصُمْتِ أمسِ؟» قالت: لا، قال: «تصومين غدا» قالت: لا، قال: «فأفطري» . رواهما البخاري، ويحمل ما روي من صومه والترغيبِ فيه، على صومه مع غيره، فلا تعارض (1) . فصل: وكذا إفراد يوم السبت بالصوم   (1) وهذا إذا تَقَصَّد يوم الجمعة، أما إذا كان يصوم صوماً فليصمه ولو يوم جمعة، فلو كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وصادف يوم جمعة يوم صومه فلا بأس، وكذلك لو صادف يوم صومه يوم عاشوراء، أو صادف يوم عرفة فلا بأس، والذي ينهى عنه هو أن يتقصده، ويقول: صمت؛ لأنه يوم الجمعة، وكذلك ليلة الجمعة لا تخص بقيام، لكن لو فرض أن الرجل كان تلك الليلة نشيطاً، وقام يصلي لا لأنها ليلة الجمعة، ولكن لأنه نشيط، فقيل له: أنت قمت لأنها ليلة الجمعة؟ قال: لا، قمت لأني نشيط، فهذا لا يكره، فيفرق بين ما قصد إفراده، وبين ما كان لشيء آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وكذا إفراد يوم السبت بالصوم، عند أصحابنا (م) ؛ لحديث عبد الله بن بُسر، عن أخته، واسمها الصَّمَّاءُ: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم» . رواه أحمد: حدثنا أبو عاصم، حدثنا ثور، عن خالد بن معدان، عن عبد الله. فذكره، إسناده جيد. ورواه أبو داود، وقال: هذا منسوخ. وقال: قال مالك: هذا كَذِبٌ. والترمذي وحسنه، والنسائي، وقال: هذه أحاديث مضطربة، والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري. وقال صاحب «شرح مسلم» : صححه الأئمة. ولأنه يوم تعظمه اليهود، ففي إفراده تشبه بهم. قال الأثرم: قال أبو عبد الله: قد جاء فيه حديث الصماء، وكان يحيى بن سعيد يتَّقِيِه، وأبى أن يحدثني به. قال الأثرم: وحجة أبي عبد الله في الرخصة في صوم يوم السبت، أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبد الله بن بسر، منها: حديث أم سلمة. يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم السبت والأحد، ويقول: «هما عيدان للمشركين، فأنا أحب أن أخالفهما» . رواه أحمد، والنسائي، وصححه جماعة، وإسناده جيد، واختار شيخنا أنه لا يُكْرَهُ، وأنه قول أكثر العلماء، وأنه الذي فهمه الأثرم من روايته، وأنه لو أريد إفراده، لما دخل الصوم المفروض ليستثنى. فالحديث شاذ أو منسوخ، وأن هذه طريقة قدماء أصحاب أحمد الذين صحبوه، كالأثرم وأبي داود، وأن أكثر أصحابنا فهم من كلام أحمد الأخذ بالحديث. ولم يذكر الآجري غير صوم يوم الجمعة، فظاهره: لا يُكْرَهُ غيره. ويأتي كلام القاضي في الوليمة (1) .   (1) إذن الحديث فيه ثلاثة أشياء: أولاً: أن بعضهم ضعفه، والثاني: أن بعضهم قال: إنه شاذ، والثالث: أن بعضهم قالوا: إنه منسوخ، هذا إذا أفرده، أما إذا صامه مع غيره فلا شك أنه ليس فيه شيء، وأما من حرمه حتى لو صام معه غيره فهذا غير صحيح، وأقرب الأقوال - والله أعلم - أن صومه مباح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 فصل: وكذا يكره إفراد يوم النيروز وكذا يكره إفراد يوم النيروز، والمهرجان، بالصوم عند أصحابنا (خ) ؛ لما فيه من موافقة الكفار في تعظيمها، واختار صاحب «المحرر» : لا يكره؛ لأنهم لا يعظمونهما بالصوم؛ ولحديث أم سلمة، وكالأحد. قال صاحب «المحرر» : لم نعلم أحدا ذكر صومه بكراهة، وعلى قياس كراهة صومهما، كلُ عيد للكفار، أو يوم يفردونه بالتعظيم. ذكره صاحب «المغني» ، و «المحرر» . فصل: ولا يحرم صوم ما سبق من الأيام ولا يحرم صوم ما سبق من الأيام، نص عليه الشافعي، وأحمد في الجمعة، قال صاحب «المحررِ» : ولا نعلم قائلا بخلافهما. وذكر ابن حزم في صحته خلافا، وحَرَّمَ الآجري صومه، ونقل حنبل: ما أحب أن يتعمده. وذكر في «الرعاية» ما سبق من الصوم المكروه، ومنه إفراد ما سبق، ثم قال: وقيل في صحة صومها بدون عادة، أو نذر، وجهان. وقال شيخنا: لا يجوز تخصيص صوم أعيادهم، ولا صوم يوم الجمعة، ولا قيام ليلتها. ويأتي كلامه في الوليمة، وكلام القاضي أيضا، أما مع عادة، أو نذر مطلق، فلا كراهة، والله أعلم. فصل: قال إسحاق بن إبراهيم قال إسحاق بن إبراهيم: رأيت أبا عبد الله أعطى ابنه درهماً يوم النيروز، وقال: اذهب به إلى المعلم، ذكره القاضي، ونقله صاحب «المحررِ» من خَطِّهِ. فصل: يوم الشك إذا لم يكن في السماء علة، ولم يتراءى الناس الهلال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 يوم الشك إذا لم يكن في السماء علة، ولم يتراءى الناس الهلال، قال القاضي وغيره: أو شهد به من رد الحاكم شهادته، قال: أو كان في السماء علة وقلنا: لا يجب صومه، فإن صامه بنية الرمضانية احتياطاً، كره على ما سبق، ذكره صاحب «المحررِ» ، وإن صامه تطوعاً، كره إفراده، ويصح، وذكر صاحب «المحررِ» أنه ظاهر كلام أحمد، وذكر رواية الأثرم السابقة في تقدم رمضان، وقال: هذا الكلام لا يعطي أكثر من مجرد الكراهة. كذا قال، وقيل: يحرم ولا يصح، اختاره ابن البناء، وأبو الخطاب في «العبادات» ، وصاحب «المحررِ» وغيرهم، وجزم به ابن الزاغوني وغيره، وفاقاً لأكثر الشافعية، وقال في «الرعاية» : وقيل: يحرم بدون عادة أو نذر مطلق، ويبطل على الأصح بدونهما، وحكى الخطابي عن أحمد: لا يُكرَهُ (وهـ م) ؛ حملا للنهي على صومه من رمضان. ولا يكره مع عادة (و) ، أو صلته بما قبله النصف (و) ، وبعده الخلاف السابق، ولا يكره عن واجب؛ لجواز النفل المعتاد فيه كغيره، والشك مع البناء على الأصل لا يمنع سقوط الفرض، وعنه: يُكْرَهُ صومه قضاء جزم به في «الإيضاح» ، و «الوسيلة» ، و «الإفصاح» ، فيتوجه طرده في كل واجب (وهـ ش) ؛ للشك في براءة الذمة، ولهذا قال بعض الحنفية: لا يجزئه عنه، كما لو بان من رمضان عندهم. وفي «لُقْطَةِ العجلان» : لا يجوز صيام يوم الشك، سواء صامه نفلا، أو عن نذر، أو قضاء، فإن صامه لم يصح، والله أعلم (1) .   (1) والصحيح أنه إذا كان قضاءاً فلا بأس إذ أنه ضرورة، ولا يجوز تأخير القضاء إلى ما بعد شهر رمضان، وكذلك إذا كان له عادة؛ للحديث: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 فصل: يحرم صوم يومي العيدين يحرم صوم يومي العيدين إجماعاً؛ للنهي المتفق عليه، من حديثي عمر وأبي هريرة، ولا يصح فرضاً (وم ش) ، ولا نفلاً (وم ش) ، وعنه: يصح فرضا. نقله مهنا في قضاء رمضان؛ لأنه إنما نُهِيَ عنه؛ لأن الناس أضياف الله وقد دعاهم، فالصوم ترك إجابة الداعي. ومثل هذا لا يمنع الصحة، ولم يصح النفل؛ لأن الغرض به الثواب، فنافته المعصية، ولذلك لم يصح النفل في غصب، وإن صح الفرض، كذا ذكر صاحب «المحررِ» ، وقد سبق في الصلاة في ستر العورة، وفي «الواضح» رواية: يصح عن نذره المعين. وسبق مذهب أبي حنيفة، وصاحبيه: لا يصح عن واجب في الذمة، ويصح عن نذره المعين، والتطوع به مع التحريم، ولا يلزم بالشروع، ولا يقضى عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف: يلزم ويقضى، وعن محمد كقولهما. ووجه انعقاده أن النهي لا يرجع إلى ذات المنهي عنه؛ ولأنه دليل التصور؛ لأن ما لا يتصور لا ينهى عنه، والتصور الحسي غير منهي عنه إجماعاً، ووجه الأول النهي، ولمسلم من حديث أبي سعيد: «لا يصلح الصيام في يومين» . وللبخاري: «لا صوم في يومين» . والنهي دليل التصور حسا، كما في عقود الربا، وبيع الغرر، ونكاح المحارم، وهو متحقق هنا، فإن من أمسك فيه مع النية عاصٍ إجماعاً، ورد قولهم: لا يتأدى الكامل بالناقص بقضاء المكتوبة في الغصب، وفيه نظر على ما سبق؛ لأن المحرم هناك التصرف في ملك الغير، وترك تنجية الغريق، لا خصوص الصوم، وبقضائها في حال القدرة على تنجية الغريق، فإنه يصح، وبأنه لو نذر صوم يوم عيد بعينه فقضاه في يوم عيد آخر، لم يصح، ولا نسلم أن النهي لم يرجع إلى عين المنهي عنه؛ لأن النص أضافه إلى صوم هذا اليوم كإضافة النهي إلى الصلاة من حائض ومحدث (1) .   (1) الصواب أنه حرام ولا يصح؛ لأن النهي عنه بعينه، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يومي العيدين [أخرجه البخاري في الصوم/باب صوم يوم النحر (1993) ؛ ومسلم في الصيام/باب تحريم صوم يومي العيدين (1138) .] ..كما نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس قيد رمح [أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها/باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيه (825) ، وله شواهد متعددة في «الصحيحين» وغيرهما.] ، فلو صلى لكان عاصياً، ولا تصح صلاته، فهذا مثله ولا فرق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 فصل: وكذا صوم أيام التشريق نفلا وكذا صوم أيام التشريق نفلا (و) ؛ لما روى مسلم، عن كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه وأوس بن الحدثان أيام التشريق، فناديا: «إنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وأيام منى أيام أكل وشرب» . ولمسلم، من حديث نُبَيْشَةَ الهذلي: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكرٍ لله» . ولأحمد النهي عن صومها من حديث أبي هريرة، وسعد، بإسنادين ضعيفين، ورواه أيضا عن يونس بن شداد مرفوعا. قال ابن الجوزي: يونس شبيه بالمجهول. وروى الشافعي وأحمد النهي من حديث علي بإسناد جيد، وهو في «الموطأ» عن أبي النضر، عن سليمان بن يسار مرسلا، ومن صامها أو رخص فيه، فلم يبلغه النهي، قال صاحب «المحررِ» : أو تأوله على إفرادها، فهذا يسوغ لهم؛ تشبيها بيوم الشك، ولا يصح فرضا في رواية (وهـ ش) ، لكن صحح أبو حنيفة صومها عن نذرها خاصة؛ كقوله في العيد، ويصح في رواية؛ لقول ابن عمر وعائشة: لم يرخص في أيام التشريق أن يُصَمْنَ، إلا لمن لم يجد الهدي. رواه البخاري. وذكر الترمذي عن أحمد: يجوز صومها عن دم المتعة خاصة، وكذا ظاهر كلام ابن عقيل، تخصيص الرواية بصوم المتعة، وهو ظاهر «العمدة» ، واختار صاحب «المحررِ» . وفاقا لمالك، والأوزاعي، وإسحاق، وقول للشافعي (1) .   (1) وهذا هو الصحيح، أنه يحرم صومها إلا لمن لم يجد الهدي في تمتع أو قران، ووجه الاستثناء قوله تعالى: {فصيام ثلاثة أيام في الحج} [البقرة: 196] ، وآخر أيام الحج أيام التشريق، فإذا لم يتيسر له قبل يوم عرفة فليصم هذه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 فصل: وهل يجوز لمن عليه صوم فرض أن يتطوع بالصوم؟ وهل يجوز لمن عليه صوم فرض أن يتطوع بالصوم؟ فيه روايتان: إحداهما: لا يجوز، ولا يصح؛ لحديث أبي هريرة: «من أدرك رمضان، وعليه من رمضان شيء لم يقضه، لم يُتَقَبَّل منه، ومن صام تطوعاً، وعليه من رمضان شيء لم يقضه، لم يتقبل منه حتى يصومه» . رواه أحمد من رواية ابن لهيعة. قال صاحب «المحررِ» : ثم يحمل على ما إذا ضاق وقت القضاء عنه. وقال في «المغني» : في سياقه ما هو متروك، يعني: «من أدرك رمضان، وعليه من رمضان شيء لم يتقبل منه» . وكالحج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 والثانية: يجوز. (و) ؛ للعموم، وكالتطوع بصلاة في وقت فرض متسع قبل فعله، وكذا يُخَرَّجُ في التطوع بالصلاة ممن عليه القضاء، واختار جماعة منهم صاحب «المغني» ، و «المحررِ» عدم الصحة؛ لوجوبها على الفور، وسبق في قضاء الفوائت، ويبدأ بفرض الصوم قبل نذر لا يخالف فوته، نقل حنبل وأبو الحارث، فيمن نذر صيام أيام، وعليه من صوم رمضان أيام: يبدأ بالنذر، وهو محمول على أنه كان النذر معينا بوقت يخاف فوته، وقضاء رمضان مُوسَّعُ الوقت، كمن نذر ركعتين عقب الزوال، يبدأ بهما قبل الظهر؛ لسعة وقتها، وتعيينِ النذر بذلك الوقت ويبدأ بالقضاء إن كان النذر مطلقا، وقد صرح أحمد في موضع بتقديم قضاء رمضان على النذر والنفل، فيجمع بين الروايتين تلك على ضيق الوقت، وهذه على سعة الوقت، ذكره القاضي وابن عقيل، فإن قلنا بالرواية الأولى إنه لا يجوز التطوع بالصوم قبل فرضه لم يكره قضاء رمضان في عشر ذي الحجة، بل يستحب إذا لم يكن قضاه قبله، وإن قلنا الجواز فعنه يكره، كقول الحسن والزهري، وروي عن علي ولا يصح عنه، لينال فضيلتها، وعنه: لا يكره (و) ، روي عن عمر لظاهر الآية، وكعشر المحرم، والمبادرة إلى إبراء الذمة من أكبر العمل الصالح، وقيل: يكره القضاء على الثانية، ولا يكره على الأولى، بل يستحب، والطريقة الأولى أصح؛ لأنا إذا حرمنا التطوع قبل الفرض كان أبلغ من الكراهة، فلا يصح تفريعها عليه، والله أعلم (1) .   (1) والصحيح أنه يجوز التطوع ما لم يضق الوقت، فمثلاً: إذا كان عليه عشرة أيام من رمضان، وأراد أن يتطوع حين بقي عشرة أيام من شعبان من السنة الثانية، فإنه لا يجوز؛ لأن الوقت مضيق، أما لو أراد التطوع بنفل قبل ذلك فلا بأس، كما لو أراد أن يتنفل في وقت الصلاة المتسع وقتها - كالظهر مثلاً - بغير الراتبة فنقول: هذا جائز ولا بأس به؛ لأن الوقت موسع، فإذا ضاق وقت الفريضة تعين الوقت لها، ولم يصح أن يتطوع، وهذا في غير الست من شوال، فإن الست من شوال لابد أن تكون بعد القضاء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان ثم اتبعه ستا من شوال» [سبق تخريجه.] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 فصل: من دخل في صوم تطوعٍ استحب له إتمامه، ولم يجب، وإن أفسده لم يلزمه قضاء من دخل في صوم تطوعٍ استحب له إتمامه، ولم يجب، وإن أفسده لم يلزمه قضاء، نص عليه، وهو المذهب (وش) ؛ لقول عائشة: يا رسول الله، أهدي لنا حيس. قال: «أرينيه فلقد أصبحت صائما» . وفي أوله أنه دخل عليها يوما، فقال: «هل عندكم شيء؟» قلنا: لا. قال: «فإني إذا صائم» رواه مسلم والخمسة، وزاد النسائي بإسناد جيد، ثم قال: «إنما مثل صوم التطوع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة، فإن شاء أمضاها، وإن شاء حبسها» وله أيضا بإسناد حسن: «إنما منزلة من صام في غير رمضان أو في التطوع بمنزلة رجل أخرج صدقة ماله، فجاد منها بما شاء، فأمضاه، وبخل منها بما شاء، فأمسكه» ، وسبق في الجمعة حديث جويرية، وعن أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بشراب فشرب، ثم ناولها فشربت، فقالت: أما إني كنت صائمة، فقال: «الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 له طرق، فيه كلام يطول، رواه أحمد - وصححه - وأبو داود والنسائي - وضعفه - والترمذي، وقال: في إسناده مقال، وضعفه أيضا البخاري، وكصوم مسافر رمضان له الخروج؛ لكونه كان مخيرا حالة دخوله فيه، وكفعل الوضوء والاعتكاف سلمه أبو حنيفة على الأصح عنه، وكشروعه في أربع بتسليمةٍ له أن يسلم من ركعتين (و) خلافاً لأبي يوسف وغيره، وكدخوله فيه ظاناً أنه عليه، فلم يكن، سلمه أبو حنيفة وصاحباه وأشهب (1) ،   (1) يُفهم من هذا أن الإنسان إذا دخل في صوم تطوع فله أن يخرج منه؛ للأحاديث التي ذكرها المؤلف - رحمه الله-، ولكن لا ينبغي أن يخرج إلا لغرض صحيح، كما لو حضر مأدبة وأفطر تطييباً لقلب صاحبها وما أشبه ذلك، أو قدم عليه ضيوف وكان من العادة أن إكرامهم يكون بأكل صاحب البيت معهم، وإلا فالأولى أن يبقى على صيامه؛ لأن هذه طاعة شرع فيها لله عز وجل، فلا ينبغي أن يدعها، وأما المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم فهو يدل على أن الإنسان لو عزل مالاً على أنه سيتصدق به، ثم بدا له أن لا يتصدق فله ذلك، سواء كان دراهمَ، أم دنانير، أم طعاماً، أم لباساً، أو غير ذلك، فإنه مخير: إن شاء أمضاه، وإن شاء رده.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وعن أحمد: يجب إتمام الصوم، ويلزم القضاء، ذكره ابن البناء وفي «الكافي» : (وهـ م) ؛ لقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد 33] ، ولقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة وحفصة وقد أفطرتا: «لا عليكما، صوما يوما مكانه» رواه أبو داود وغيره وضعفوه، ثم هو للاستحباب؛ لقوله: «لا عليكما» ، وعن شداد مرفوعا: «أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية» ، وفيه: «والشهوة الخفية: أن يصبح أحدهم صائما، فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه» رواه أحمد من رواية عبد الواحد بن زيد، وهو شيخ الصوفية متروك بالاتفاق، وكالحج والعمرة، وسبق ما يبين الفرق (1) ،   (1) ذكر المؤلف - رحمه الله - عن الإمام أحمد رحمه الله رواية أنه يجب، وذكر ما استدلوا به، وهو قوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد: 33] ، وهذه الآية ليست نصاً صريحاً في أنه لا يجوز أن يخرج الإنسان مما بدأه من عمل، ولهذا قال بعض أهل العلم: ولا تبطلوا أعمالكم بالردة؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد: 33] ، وإذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال، فلا يتعين أن يكون المراد بها: ولا تبطلوا أعمالكم أي: لا تخرجوا مما شرعتم فيه من الأعمال، وأما الحديث: «لا عليكما صُومَا يوماً مكانه» [أخرجه أبو داود في الصوم/باب من رأى عليه القضاء (2457) ؛ والترمذي في الصوم/ باب ما جاء في إيجاب القضاء عليه (735) ؛ والنسائي في «الكبرى» في الصيام/ باب ما يجب على الصائم المتطوع إذا أفطر (3291) . وقال الحافظ ابن حجر في «الفتح» (4/212) : (وتوارد الحفاظ على الحكم بضعف حديث عائشة هذا) ا. هـ] ، فقصد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أن يطيب قلوبهما، وأنهما إذا صاما يوماً مكانه لم يفتهما فضيلة النفل، وليس المراد أنه ألزمهما بذلك حتى يقال: يلزم القضاء، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: «هو للاستحباب لقوله: «لا عليكما» » ، وأما حديث شداد رضي الله عنه فهو كما ذكر من رواية عبد الواحد بن زيد، وهو شيخ الصوفية، وهو متروك، فليس بشيء. وقوله: «كالحج والعمرة» يعني: كما أنه لو شرع في حج تطوع، أو عمرة تطوع، لزمه الإتمام، لكن هناك فرق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 ولأن نفل الحج كفرضه في الكفارة، وتقرير المهر بالخلوة معه بخلاف الصوم، ونقل حنبل: إن أوجبه على نفسه فأفطر بلا عذر أعاد. قال القاضي: أي: نذره وخالفه ابن عقيل، وذكره أبو بكر في النفل، وقال: تفرد به، وجميع أصحابه: لا يقضي، وعند أبي حنيفة: يقضي المعذور، وهو رواية في «الرعاية» وغيرها، وعند مالك: لا يقضي، وعن مالك فيمن أفطر لسفر روايتان، ولو أكل ناسياً لم يلزمه شيء عندهما؛ لصحة صومه عند أبي حنيفة وعذره عند مالك، وذكر ابن عبد البر: لا يقضي معذور إجماعاً، ولعل مراده عذر لا صنع له فيه كالحيض ونحوه، فإن غيره حكاه إجماعا، وعلى المذهب: هل يكره خروجه؟ يتوجه: لا يكره لعذر وإلا كره في الأصح، وفاقاً للشافعية. وهل يفطر لضيفه؟ يتوجه: كصائم دعي، وعند الشافعية: يفطر، وصرح أصحابنا في الاعتكاف: يكره تركه بلا عذر، وصلاة التطوع كصوم التطوع (و) (1) ، وعنه: يلزم بخلاف الصوم. قال في «الكافي» : ومال إليه أبو إسحاق الجوزجاني، وقال: الصلاة ذات إحرام وإحلال كالحج. قال صاحب «المحرر» : والرواية التي حكاها ابن البناء في الصوم تدل على عكس هذا القول؛ لأنه خصه. وعلل رواية لزومه بأنه عبادة تجب بإفسادها الكفارة العظمى كالحج (2) ، والمذهب التسوية بينهما، ولم يذكر أكثر الأصحاب سوى الصلاة والصوم.   (1) الصحيح في مسألة الفطر للضيف أنه بحسب الحال، فإن كان الضيف يرى أن من عدم إكرامه أن لا يفطر أفطر؛ لأن إكرام الضيف واجب، وإن كان الضيف يعرف الحال والواقع ويعذره إذا قال: إنه صائم، فالأفضل أن لا يفطر، فالحكم بحسب الحال. (2) قوله: «تجب بإفسادها الكفارة العظمى كالحج» هذا فيه نظر؛ لأنه لو أكل أو شرب في الصوم لا كفارة عليه، وإنما تجب بالجماع فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وقيل: الاعتكاف كالصوم على الخلاف، يعني: أنه إذا دخل في الاعتكاف وقد نواه مدة لزمته ويقضيها (وم) ، وذكره ابن عبد البر إجماعا لا بالنية، وإن لم يدخل خلافاً لبعض العلماء، ذكره ابن عبد البر، نقل ابن منصور: المعتكف يجامع يبطل، وعليه الاعتكاف من قابل (1) . ولعله في النذر، والأصح عند أبي حنيفة كقولنا وقول الشافعي: لا يلزمه، وعنه أيضا: يلزمه أقل الاعتكاف عنده يوم، ورد صاحب «المحرر» و «المغني» على كلام ابن عبد البر، وصلى صلى الله عليه وسلم الصبح مريدا للاعتكاف في المسجد، وكله موضع له، ثم قطعه لما رأى أخبية نسائه قد ضربت فيه، ولم يقضين، ومجرد قضائه لا يدل على وجوبه، بدليل قطعه، وما في «السنن» : أنه كان إذا ترك الاعتكاف لسفر اعتكف من العام المقبل عشرين، ولو نوى الصدقة بمال مقدر، وشرع في الصدقة فأخرج بعضه، لم تلزمه الصدقة بباقيه إجماعا، قاله الشيخ وغيره، قال: وهو نظير الاعتكاف (2) ،   (1) قوله: «وعليه الاعتكاف من قابل» هذا فيه نظر أيضاً؛ لأننا نقول لو بطل الاعتكاف بالجماع فإنه يقضيه في شوال، كما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الاعتكاف في شوال حين تركه، وقوله رحمه الله عليه: «الاعتكاف من قابل» فيقال: من قابل له حكم خاص، ولكن إذا كان منذوراً فعليه كفارة يمين لفوات الوقت. (2) الذي يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف وترك الاعتكاف من الأصل لعذر فإنه لا يقضيه، ولذلك لم ينقل الاعتكاف في فتح مكة، مع أنه لم يعتكف قطعاً ولم يقضه، لكن لما شرع في الاعتكاف ورأى زوجاته تتسابقن في ضرب الأخبية ويعتكفن ترك ذلك وقضاه في شوال، والفرق واضح بين من دخل ومن لم يدخل.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 قالوا: وما مضى من اعتكافه لا يبطل بترك اعتكاف المستقبل، وقال في «الكافي» : وسائر التطوعات من الصلاة والاعتكاف وغيرهما كالصوم إلا الحج والعمرة، ثم ذكر ما سبق في الصلاة، والله أعلم (1) .   (1) ولكن التطوع الذي ينبني بعضه على بعض لو تركه لا يثاب على أوله، كالصلاة -مثلا-، فلو قطع صلاة النفل فإننا نقول: لا يؤجر على ما صلى منها؛ لأن بعضها مرتبط ببعض، بخلاف الاعتكاف، فلو اعتكف الخمسة الأولى من العشر الأواخر، ثم قطعها، فله أجرها، لكن لا يحصل له الأجر الكامل الذي جاءت به السنة، نعم لو فرض أنه قطع صلاة النافلة لعذر، فهنا يتوجه أن يقال: إنه يثاب على ما صلى منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 ولو شرع في صلاة تطوع قائما لم يلزمه إتمامها قائما بلا خلاف في المذهب (و) ، خلافا لأبي يوسف ومحمد والحسن بن صالح، وذكر القاضي وجماعة: أن الطواف كالصلاة في الأحكام إلا ما خصه الدليل، فظاهره: أنه كالصلاة هنا (وم) ، وهو ظاهر كلام الحنفية، ويتوجه على كل حال أن في طواف شوط أو شوطين أجرا، وليس من شرطه تمام الأسبوع كالصلاة (1) ، ولهذا قال عبد الرزاق: رأيت سفيان يفر من أصحاب الحديث إذا كثروا عليه دخل الطواف، فطاف شوطا أو شوطين ثم يخرج ويدعهم (2) ، ولا تلزم الصدقة والقراءة والأذكار بالشروع وفاقا، وقال ابن الجوزي في قوله: {ورهبانية ابتدعوها} الآية [الحديد: 27] ، قال القاضي أبو يعلى: والابتداع قد يكون بالقول وبما ينذره، ويوجه على نفسه، وقد يكون بالفعل بالدخول فيه، وعموم الآية يقتضي الأمرين، فاقتضى ذلك أن كل من ابتدع قربة قولا أو فعلا فعليه رعايتها وإتمامها. كذا قال (3) ،   (1) قوله: «أن في طواف شوط أو شوطين أجراً، وليس من شرطه تمام الأسبوع» هذا فيه نظر، والصواب أن الطواف عبادة واحدة كالصلاة تماماً، فإذا لم يتمه فإنه لا يثاب عليه، اللهم إلا إن قطعه لعذر كالصلاة، فلو صلى ركعة ثم قال: أريد قطعها، فنقول: إذاً لا تثاب، إلا إذا قطعها لعذر فيثاب على ما صلى. (2) وفي فعل سفيان - رحمه الله - دليل على أن الإنسان إذا اشتغل بالطواف فلا ينبغي أن يشتغل بالحديث ولا بالفتوى إلا الشيء اليسير الذي لا يشغله عن الطواف، أما أن يطوف ويبقى الناس خلفه وعن يمينه وشماله يسألونه، فهذا نقول: إذا كان الأمر لابد منه فاترك الطواف واجلس للناس، أما مسألة أو مسألتان فهذه أرجو أن لا يكون فيها بأس. (3) هذا القول في غاية ما يكون من السقوط، بل نقول كل من ابتدع عبادة قولاً أو فعلاً فعليه الإقلاع منها وأن يتوب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل بدعة ضلالة» [أخرجه مسلم في كتاب الجمعة/باب تخفيف الصلاة والخطبة (867) .] ،. وأما ما ذكر عن النصارى والرهبانية فإنه لا يدل على الإقرار، قال الله تعالى: {ابتدعوها ما كتبنها عليهم إلا ابتغاء رضوان} [الحديد: 27] يعني: ما فعلوها إلا ابتغاء وجه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 ويلزم إتمام نفل الحج والعمرة (و) ؛ لانعقاد الإحرام لازما؛ لظاهر آية الإحصار (1) ، فإن أفسدهما أو فسدا لزمه القضاء (و) ، قال صاحب «المحرر» : لا أعلم أحدا قال بخلافهم، وفي «الهداية» و «الانتصار» و «عيون المسائل» لابن شهاب رواية: لا يلزم القضاء، قال صاحب «المحرر» : لا أحسبها إلا سهوا ويأتي في الحج. فصل: هل يثاب على العبادة على وجه محرم أو مكروه؟ سبق في الصلاة في المغصوب: هل يثاب على العبادة على وجه محرم أو مكروه؟ وسبق كلام شيخنا في صلاة التطوع، وسبق هناك: هل يعمل بالخبر الضعيف في هذا؟ وذلك مبسوط في آداب القراءة والدعاء من «الآداب الشرعية» نحو نصف الكتاب، والكلام على الأخبار في ذلك كحديث أبي هريرة: «ما جاءكم عني من خير قلته أو لم أقله فأنا أقوله، وما أتاكم من شر، فأنا لا أقول الشر» رواه أحمد والبزار من رواية أبي معشر واسمه نجيح، وفيه لين مع أنه صدوق حافظ، وكحديث جابر: «من بلغه من الله شيء له فيه فضيلة، فأخذه إيمانا به، ورجاء ثوابه، أعطاه الله عز وجل ذلك، وإن لم يكن كذلك» رواه الحسن بن عرفة في «جزئه» ، ويتوجه: أن إسناده حسن، وذكره ابن الجوزي في «الموضوعات» من طرق، ولم يذكره من الطريق التي ذكرها ابن عرفة، والله أعلم (2) .   (1) ولصريح آية: {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث} . (2) هذا المتن - أي: متن الحديثين - فيه نظر؛ لأننا إذا قلنا: خير وشر، فالخير والشر يوزنان بالكتاب والسنة، ونرجع إلى الكتاب والسنة؛ لأن الأذواق تختلف، فمثلاً: نجد بعض المبتدعة يقولون: إن هذا حديث كله خير، فليكن صحيحاً، ولاسيما الصوفية، أو يقولون: هذا الحديث كله شر، فلا نقبله، ولهذا ينبغي أن يقال: إن في صحة هذين الحديثين نظر، ولاسيما وأن رواتهما فيهم هذا المقال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 أما إذا قطع الصلاة أو الصوم فهل انعقد الجزء المؤدى وحصل به قربة أم لا؟ وعلى الأول: هل بطل حكما لا أنه أبطله كمريض صلى جمعة بعد ظهره أو لا يبطل؟ اختلف كلام أبي الخطاب في «الانتصار» وكلام غيره في ذلك، وفي كلام جماعة بطلانه وعدم صحته، وحمل أبو المعالي وغيره حديث عبادة فيمن ترك من الصلاة شيئا على من ترك واجبا كخشوع وتسبيح، فلم يذكروا ترك ركن وشرط، وذكر الأصحاب: أن ترك ركن وشرط كتركها كلها، قال جماعة: لأن الصلاة مع ذلك وجودها كعدمها، ومرادهم بالنسبة إلى الصلاة، لا أنه لا يثاب على قراءة وذكر ونحو ذلك (1) ، وقال شيخنا في «رده على الرافضي» : جاءت السنة بثوابه على ما فعله، وعقابه على ما تركه، ولو كان باطلا كعدمه، ولا ثواب فيه، لم يجبر بالنوافل شيء، والباطل في عرف الفقهاء ضد الصحيح في عرفهم، وهو: ما أبرأ الذمة، فقولهم: بطلت صلاته وصومه وحجه لمن ترك ركنا بمعنى وجب القضاء، لا بمعنى أنه لا يثاب عليها بشيء في الآخرة. إلى أن قال: فنفي الشارع الإيمان عمن ترك واجبا منه، أو فعل محرما (2)   (1) وهذا هو الظاهر، أننا إذا قلنا: إذا قطع الصلاة بطل ما فعله منها، يعني: بطل على أنها صلاة، لا على أنه لا يؤجر على ما حصل منه من قراءة وذكر وتسبيح، فإنه يؤجر على هذا، لكن لا يؤجر على أنها صلاة، وهذا واضح. (2) البحث هذا مفيد وجيد، لكن الصواب أن نقول: من قطع عبادة فإن كانت واجبة لزمه إعادتها، وهذا لا إشكال فيه، وإن كانت نافلة نظرنا هل قطعها لعذر - كالعجز عن إتمامها - فإنه يثاب على ما فعل منها، وإن قطعها لغير عذر، نظرنا: هل ينبني بعضها على بعض؟ فإن كان كذلك، فإبطال آخرها يوجب إبطال أولها، لكن يثاب على ما فعل فيها من ذكر وقرآن وما أشبه ذلك، وإن كان لا ينبني آخرها على أولها، كما لو عزل ألف ريال ليتصدق بها، فتصدق بخمسمائة، ثم أبطل الصدقة، فإن ما تصدق به يثاب عليه ثواب صدقة؛ لأن آخرها لا ينبني على أولها، هذا هو التفصيل.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 فيه، كنفي غيره، كقوله: «لا صلاة إلا بأم القرآن» ، وقوله للمسيء: «فإنك لم تصل» ، و: «لا صلاة لفذ» ، وقال شيخنا أيضا في قوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد: 33] : البطلان هو: بطلان الثواب، ولا نسلم بطلان جميعه، بل قد يثاب على ما فعله، فلا يكون مبطلا لعمله، والله أعلم (1) . فصل: من دخل في واجب موسع من دخل في واجب موسع كقضاء رمضان كله قبل رمضان، والمكتوبة في أول وقتها، وغير ذلك، كنذر مطلق وكفارة (2) ، إن قلنا: يجوز تأخيرهما حرم خروجه منه بلا عذر (و) ، قال الشيخ: بغير خلاف، وقال صاحب «المحرر» : لا نعلم فيه خلافا؛ لأن الخروج من عهدة الواجب متعين، ودخلت التوسعة في وقته رفقا ومظنة الحاجة، فإذا شرع تعينت المصلحة في إتمامه، وجاز للصائم في السفر الفطر؛ لقيام المبيح، وهو السفر كالمرض، وخالف جماعة شافعية في الصوم، ووافقوا على المكتوبة أول وقتها (3) ، وإذا بطل فلا كفارة، ولا يلزمه غير ما كان عليه قبل شروعه فيه، قال في «الرعاية» : وقيل: يكفر إن أفسد قضاء رمضان (4) .   (1) بل قد يثاب وقد لا يثاب، ولا شك أن الإبطال قد يراد به إبطال الثواب، كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} [البقرة: 264] ، فإن الصدقة قد مضت وسلمها، لكن المن والأذى يبطل ثوابها. (2) يعني: النذر المطلق والكفارة، هل يجوز تأخيرهما أو لا؟ فمن العلماء من يقول: تجب الكفارة على الفور، وكذلك النذر المطلق يجب وفاؤه على الفور، وهذا هو الأقرب؛ لأنه دين يجب وفاؤه فوراً بلا مماطلة، وأما النذر المؤقت فمتى جاء وقته أوفاه. (3) والصواب ما قاله المؤلف أولاً، أن الواجب لابد أن ينظر فيه، ولا يرد على ذلك أنه يصوم في رمضان في السفر، ثم له أن يبطل صومه؛ لأن المبيح موجود وهو السفر، والسفر مبيح لترك الصوم ابتداءً، ولترك إتمامه أيضا. (4) الصواب أن عليه أن يتوب، وأن يبادر بالقضاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 فصل: ليلة القدر شريفة معظمة ليلة القدر شريفة معظمة، زاد في «المستوعب» وغيره: والدعاء فيها مستجاب، قيل: سورتها مكية، قال الماوردي: هو قول الأكثرين، وقيل: مدنية، قال الثعلبي: هو قول الأكثرين، قال مجاهد والمفسرون في قوله: {خير من ألف شهر} [القدر: 3] أي: قيامها والعمل فيها خير من العمل في ألف شهر خالية منها، وفي «الصحيحين» من حديث أبي هريرة: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه» وسميت ليلة القدر: لأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة، روي عن ابن عباس، قال صاحب «المحرر» : وهو قول أكثر المفسرين؛ لقوله: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم} [الدخان: 3-4] ؛ فإن المراد بذلك ليلة القدر عند ابن عباس، قال ابن الجوزي: وعليه المفسرون؛ لقوله: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} [القدر: 1] ، وما روي عن عكرمة وغيره: أنها ليلة النصف من شعبان ضعيف (1) ،   (1) هذا ضعيف وباطل؛ لأن الآية صريحة: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} [القدر: 1] ، وقال في الآية الثانية: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} [الدخان: 3] ، فيتعين أن تكون الليلة المباركة هي ليلة القدر.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وقيل: سميت ليلة القدر؛ لعظم قدرها عند الله، وقيل: القدر بمعنى الضيق؛ لضيق الأرض عن الملائكة التي تنزل فيها، فروى أحمد عن أبي هريرة مرفوعا: «إن الملائكة تلك الليلة أكثر من عدد الحصى» ، ولم ترفع (و) (1) للأخبار بطلبها وقيامها، وعن بعض العلماء: رفعت، وحكي روايةً عن أبي حنيفة (2) ، وهي في رمضان (و) لا في كل السنة خلافا لابن مسعود، وعن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد كقوله، وجزم به ابن هبيرة عن أبي حنيفة، وذكر صاحب «المحرر» : أن الأول أشهر عنه وعن أصحابه، وهي مختصة بالعشر الأخير منه عند أحمد، وأكثر العلماء من الصحابة وغيرهم (وم ش) ، وليالي وتره آكد وأرجاها ليلة سبع وعشرين.   (1) هذا - إن صح الحديث - فقد يقال: إنه من القدر، وهو الضيق؛ لقول الله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه} [الطلاق: 7] أي: ضيق، لكن المعنيان الأولان هما الصحيحان، أنها من التقدير، والقدر الذي هو الشرف فهي ليلة قدر؛ لأنه مقدر فيها ما يكون في تلك السنة، وليلة القدر لأنها شريفة، كما يقول قائل: لك عندي قدر عظيم، أي: منزلة وشرف، فتكون قد سميت بهذا للمعنيين جميعاً، أما الضيق - إن صح الحديث - فإننا لا نعرف عن أجسام الملائكة، هل هي أكبر من الحصى فتضيق عليهم، أو دون؟ فالله أعلم. (2) والصواب - بلا شك - أنها لم ترفع، وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ثم رفعت» أي: علمها في تلك السنة؛ لأنه خرج صلى الله عليه وسلم ليخبر أصحابه بها، فتلاحى رجلان من الصحابة، فرفعت [أخرجه البخاري في فضل ليلة القدر/باب رفع معرفة ليلة القدر لتلاحي الناس (2023) .] ، والمعنى: رفعت، أي: رفع علمها في تلك السنة، هذا هو المعنى، ولو قدر أنها رفعت في تلك السنة لم ترفع فيما بعد، وكيف نقول: إنها رفعت والنبي صلى الله عليه وسلم يحث ويرغب أمته في قيامها إلى يوم القيامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 نص عليه، لا ليلةُ إحدى وعشرين (ش) ، واختار صاحب «المحرر» : كلُ العشر سواء (1)   (1) ما اختاره صاحب «المحرر» هو المتعين، أنها ترجى في كل ليالي العشر؛ لأنه لا يمكن أن تجتمع الأحاديث إلا على هذا القول، ودليل هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في العشر الأول والأوسط، ثم قيل له: إنها في العشر الأواخر، ورأى أنه يسجد في صبيحتها في ماء وطين، فأمطرت السماء ليلة إحدى وعشرين، ووكف المسجد، ونزل المطر في الأرض، وسجد النبي صلى الله عليه وسلم صبيحتها في ماء وطين، ورئي بعد انصرافه من الصلاة وعلى جبهته أثر الماء والطين صلوات الله وسلامه عليه [أخرجه البخاري في الأذان/باب هل يصلي الإمام بمن حضر (669) ؛ ومسلم في الصيام/باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها (1167) .] ، إذن نجزم أنها في تلك السنة ليلة واحد وعشرين، لا إشكال، ورآها نفر من أصحابه في السبع الأواخر، وأخبروه (، فقال صلى الله عليه وسلم: «أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر» [أخرجه البخاري في فضل ليلة القدر/باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر (2015) ؛ ومسلم في الصيام/باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها (1165) .] يعني: في تلك السنة خاصة، وإلا فهي في العشر كلها، لكن من الجائز أن تكون ليلة إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، أو سبع وعشرين، أو تسع وعشرين، أو ليلة أربع وعشرين، أوست وعشرين، أوثمان وعشرين، أوثلاثين، كل هذا ممكن. مسألة: لو قال قائل: إن الصيام يختلف من مكان إلى آخر، فيكون الصيام متقدماً في مكان ومتأخراً في مكان آخر، فكيف تكون ليلة القدر عندهم؟ نقول: الواجب علينا أن نتبع ما جاءت به النصوص، ولا نتعمق في السؤال عن هذه المسائل، ونقول ليلة القدر - مثلاً - عندنا في السعودية هي نهار، وفي جانب آخر من الأرض ليل، لكن إذا مرت بهم تكون ليلة القدر عندهم، وهذه المسائل لا نتعمق فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 (وم) ، ومذهب (م) أرجاها في تسع بقين أو سبع أو خمس، وقال أبو يوسف ومحمد: هي في النصف الثاني من رمضان، وعن العلماء فيها أقوال كثيرة، وقال ابن الجوزي في «تفسيره» : قال الجمهور: تختص برمضان، وقال الجمهور منهم: تختص بالعشر الأخير منه، وأكثر الأحاديث الصحاح تدل عليه، وقال الجمهور منهم: تختص بليالي الوتر منه، والأحاديث الصحاح تدل عليه. كذا قال (1) ، والمذهب: لا تختص، بل المذهب أنها آكد، وأبلغ من ليالي الشفع، وعلى اختيار صاحب «المحرر» كلها سواء (2) ، وقال في «المغني» و «الكافي» : تطلب في جميع رمضان، قال في «الكافي» : وأرجاه الوتر من ليالي العشر الأخير. كذا قال (3) ، قال: وتنتقل فيها، وقال غيره: تنتقل ليلة القدر في العشر الأخير، قاله أبو قلابة التابعي، وحكاه ابن عبد البر وغيره عن مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وقاله أبو حنيفة، وظاهر رواية حنبل: أنها ليلة متعينة، ذكره صاحب «المحرر» وقاله أبو يوسف ومحمد والشافعية (4) ،   (1) قوله: «كذا قال» يعني: أنه تعقبه، وهو جدير بالتعقب؛ لأن الأحاديث تأتي هنا وهنا. (2) الصواب أنها ليست كلها سواء، فهي في العشر الأواخر، وأرجاها الأوتار، وأرجى الأوتار ليلة سبع وعشرين. (3) قوله: «كذا قال» هنا تعقب قوله: «تطلب في جميع رمضان» لا أن أرجاها الوتر من العشر الأواخر. (4) هذا ضعيف بلاشك؛ لأنه لو كانت ليلة معينة لكان القيام والاعتكاف في ليلة معينة.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 فعلى هذا لو قال: أنت طالق ليلة القدر قبل مضي ليلة العشر، وقع في الليلة الأخيرة، ومع مضي ليلة منه يقع في السنة الثانية ليلة قوله فيها، وعلى أصل أبي يوسف ومحمد: النصف الثاني من رمضان كالعشر عندنا، وحكى صاحب «الوسيط» الشافعي عن الشافعي: إن قال في نصف رمضان: أنت طالق ليلة القدر لم تطلق ما لم تنقضِ سنة؛ لاحتمال كونها في جميع الشهر، فلا تقع بالشك، وهذا معنى قول أبي حنيفة: إلا في كونها تنتقل، وعلى قولنا الأول: إنها في العشر، وتتنقل إن كان قبل مضي ليلة منه، وقع في الليلة الأخيرة، ومع مضي ليلة منه يقع في الليلة الأخيرة من العام المقبل، واختاره صاحب «المحرر» ، وهو أظهر للأخبار أنها في العشر، وأنها في ليال معينة منه، قال صاحب «المحرر» : ويتخرج حكم العتق واليمين على مسألة الطلاق (1) ، ومن نذر قيام ليلة القدر قام العشر، ونذره في أثناء العشر كطلاق على ما سبق، ذكره القاضي في «تعليقه» في النذور، وقال شيخنا: الوتر يكون باعتبار الماضي، فتطلب ليلة القدر ليلة إحدى وليلة ثلاث إلى آخره، ويكون باعتبار الباقي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لتاسعة تبقى» الحديث، فإذا كان الشهر ثلاثين يكون ذلك لياليَ الأشفاع، فليلة الثانية تاسعة تبقى، وليلة أربع سابعة تبقى، كما فسره أبو سعيد الخدري، وإن كان تسعا وعشرين كان التاريخ بالباقي كالتاريخ بالماضي (2) ،   (1) كونهم رحمهم الله يقولون: «يقع في الليلة الأخيرة من العام المقبل» قد يقال: في هذا نظر؛ لأن الظاهر من المتكلم أنه يريد عامه هذا، وهذا هو الظاهر، لكن يقال: يبعد هذا الظاهر أنه قال ذلك بعد تمام العشر، وبعد تمام العشر لا يوجد ليلة قدر، وكل هذه المسائل التي يذكرها العلماء في مثل هذه الصور يقصدون بها تمرين طالب العلم، وإلا فإن هذا لا يقال. (2) يعني: يكون التاريخ في الماضي، فالأوتار: إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 ويستحب أن يدعو فيها؛ لقول عائشة: يا رسول الله، إن وافقتها ما أقول؟ قال: «قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه، وعنها: يا رسول الله، إن علمت ليلة القدر ما أقوله؟ قال: «قولي ... » وذكره، قال أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم: «وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها» رواه مسلم وغيره، وصححه الترمذي، ولأحمد من رواية ابن عقيل عن عمر بن عبد الرحمن - والظاهر: أنه لم يروِ عنه غيره، وحديثه في أهل الحجاز - عن عبادة مرفوعا: «من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» ، وله أيضا من رواية خالد بن معدان عن عبادة ولم يدركه، وقال فيه: «واحتسابا، ثم وقعت له» ، وذكره، وفيه: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أمارة ليلة القدر أنها صافية بلجة، كأن فيها قمرا ساطعا، ساكنة ساجية، لا برد فيها ولا حر، ولا يحل لكوكب أن يرمى به فيها حتى تصبح، وإن أمارتها أن الشمس صبيحتها تخرج مستوية ليس فيها شعاع، مثلَ القمر ليلة البدر، لا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ (1) » .   (1) إذا قال قائل: هذه العلامة متأخرة، فما الفائدة من ذكرها؟ يقال: الفائدة من ذكرها قوة الرجاء، إذا كان الإنسان قد قام في تلك الليلة، فيكون قوي الرجاء أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه؛ لأن العلامات التي في نفس الليلة تبعث الرجل على العمل وتقوي همته، أما التي بعدها فإنها تقوي أمل الإنسان ورجاءه بأن يكون قد أصابها. وهنا لو قال قائل: إذا عرف الأمارات ووقعت، فهل يترك القيام بقية الليالي؟ قد يقول قائل هكذا، فمادام أنه كان يقوم من أجل تحري ليلة القدر فقد حصلت وانتهت، فيقال: لعله لا يصيب أجرها وثوابها إلا إذا ضم إليها بقية الأيام العشر، فتكون بقية ليالي العشر كأنها الراتبة لصلاة الفريضة، ولهذا علم النبي صلى الله عليه وسلم بأماراتها ليلة إحدى وعشرين، ومع ذلك أتم اعتكافه وقيامه عليه الصلاة والسلام، ثم إن في رواية الإمام أحمد - رحمه الله - إشارة إلى أن الحكمة من ذلك أن الشيطان لا يحل له أن يطلع معها، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشمس تطلع بين قرني شيطان [أخرجه البخاري في بدء الخلق/باب صفة إبليس وجنوده (3099) ؛ وله شواهد متعددة.] فكأنها في تلك الليلة لا يخرج معها الشيطان، فتكون صافية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 قال بعضهم: ويسن أن ينام متربعا، مستندا إلى شيء. نص عليه أحمد، ويأتي في المعتكف (1) .   (1) هذا إن أراد أن ينام، فينام متربعاً مستنداً إلى شيء؛ لأجل أن لا يستغرق في النوم، أما إذا كان لا يريد النوم فلا، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل، كان إذا دخل العشر أيقظ أهله وأحيا ليله وشد المئزر [أخرجه البخاري في فضل ليلة القدر, باب العمل في العشر الأواخر من رمضان (2024) ، ومسلم في الإعتكاف/باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان (1174) .] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 فصل: وليلة القدر أفضل الليالي وليلة القدر أفضل الليالي، وهي أفضل من ليلة الجمعة للآية، وذكره الخطابي إجماعا، وذكر ابن عقيل روايتين: إحداهما هذا، والثانية: ليلة الجمعة أفضل، وعلله: بأنها تابعة لما هو أفضل الأيام، وهو يوم الجمعة، قال صاحب «المحرر» : وهي اختيار ابن بطة وأبي الحسن الخرزي وأبي حفص البرمكي، واحتجوا بأن الليلة تابعة ليومها، وفيه ما لم يذكر في فضل يوم ليلة القدر، ولبقاء فضلها في الجنة؛ لأن في قدر يومها تقع الزيارة إلى الحق سبحانه، كما رواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة وإسناده حسن، وقال أبو الحسن التميمي: ليلة القدر التي أنزل فيها القرآن أفضل من ليلة الجمعة، فأما أمثالها من ليالي القدر فليلة الجمعة أفضل، وذكر أبو بكر بن العربي المالكي في «العارضة» ، وذكره غيره: أن يوم الجمعة أفضل الأيام، وقال شيخنا: هو أفضل أيام الأسبوع إجماعا، وقال يوم النحر: أفضل أيام العام، وكذا ذكره جده صاحب «المحرر» في صلاة العيد من شرحه «منتهى الغاية» أن يوم النحر أفضل، وظاهر ما ذكره أبو حكيم: أن يوم عرفة أفضل، وهذا أظهر، وقاله أكثر الشافعية وبعضهم: يوم الجمعة (1) ، وظهر مما سبق أن هذه الأيام أفضل من غيرها، ويتوجه على اختيار شيخنا بعد يوم النحر يوم القر الذي يليه؛ لأنه احتج بقوله صلى الله عليه وسلم: «أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر» ، قال في «الغنية» : إن الله اختار من الأيام أربعة: الفطر، والأضحى، وعرفة، ويوم عاشوراء، واختار منها يوم عرفة، وقال أيضا: إن الله اختار للحسين الشهادة في أشرف الأيام وأعظمها وأجلها وأرفعها عنده منزلة، والله أعلم (2) .   (1) وقد يقال: إن يوم عرفة أفضل الأيام باعتبار الحجاج الواقفين، ويوم الجمعة أفضل باعتبار عموم الناس؛ لأن يوم الجمعة بالنسبة لعموم الناس هو أفضل أيام الأسبوع، ويوم عرفة بالنسبة للحجاج أفضل من غيره. (2) وهنا أسقط يوم الجمعة، إما سهواً أو غلطاً، ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وعشر ذي الحجة أفضل على ظاهر ما في «العمدة» وغيرها، وسبق كلام شيخنا في صلاة التطوع، وقال أيضا: قد يقال ذلك، وقد يقال: ليالي عشر رمضان الأخير، وأيام ذلك أفضل، قال: والأول أظهر؛ لوجوه وذكرها، ورمضان أفضل، ذكره جماعة، وذكره ابن شهاب فيمن زال عذره، وذكروا أن الصدقة فيه أفضل، وعللوا ذلك. قال شيخنا: ويكفر من فضل رجباً عليه (1) ، وقال في «الغنية» : إن الله اختار من الشهور أربعة: رجباً، وشعبان، ورمضان، والمحرم، واختار منها شعبان، وجعله شهر النبي صلى الله عليه وسلم، فكما أنه أفضل الأنبياء، فشهره أفضل الشهور. كذا قال (2) ،   (1) هذا كلام قوي للشيخ، يعني: من قال: إن رجب أفضل من رمضان كفر؛ لأن رمضان أفضل الشهور، وله ميزات كثيرة لم تحصل في رجب، ولكن لعل شيخ الإسلام - رحمه الله - يوجد في زمنه من يفضل رجب على رمضان، وقوله: «إن الصدقة فيه أفضل» هي أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أجود ما يكون في رمضان [أخرجه البخاري في بدء الوحي/كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (6) ؛ ومسلم في الفضائل/باب كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير من الريح المرسلة (2308) .] لكن إذا حصل مسغبة صارت الصدقة في المسغبة أفضل من الصدقة في رمضان؛ لقول الله تعالى: {وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة} [البلد: 12-16] . (2) لا يكفي أن يقال: كذا قال، بل ينبغي أن يقال: هذا باطل؛ لأنه لا دليل عليه، وقوله: «قال في «الغنية» : إن الله اختار من الشهور أربعة» هنا أسقط ذي الحجة، وهو من أفضل الشهور؛ لأنه يجتمع فيه أنه شهر حج وشهر محرم، يعني: من الشهور المحرمة، وكذلك قوله: «واختار شعبان، وجعله شهر النبي عليه الصلاة والسلام» هذا غير صحيح.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وقال ابن الجوزي: قال القاضي أبو يعلى في قوله تعالى: {منها أربعة حرم} [التوبة: 36] ، إنما سماها حرما؛ لتحريم القتال فيها، ولتعظيم انتهاك المحارم فيها أشدَ من تعظيمه في غيرها، وكذلك تعظيم الطاعات، ثم ذكر ابن الجوزي أحد القولين في قوله تعالى: {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} [التوبة: 36] أي: في الأربعة، وأن أحد الأقوال أن الظلم المعاصي، قال: فتكون فائدة تخصيص بها أن شأن تعظيم المعاصي فيها أشد من تعظيمه في غيرها، وذلك لفضلها على ما سواها، كتخصيص جبريل وميكائيل وقوله: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} [البقرة: 197] ، وكما أمر بالمحافظة على الصلاة الوسطى، وقال: وهذا قول الأكثرين، والله أعلم. باب الاعتكاف الاعتكاف لغة: لزوم الشيء، ومنه: {يعكفون على أصنام لهم} [الأعراف: 137] ، يقال: عكف -بفتح الكاف- يعكف -بضمها وكسرها قراءتان-، وشرعا: لزوم المسجد بصفة مخصوصة (1) ، قال ابن هبيرة: وهذا الاعتكاف لايحل أن يسمى خلوة، ولم يزد على هذا، ولعل الكراهة أولى، ويسمى جوارا؛ لقول عائشة رضي الله عنها عنه عليه السلام: وهو مجاور في المسجد. متفق عليه، وفيهما من حديث أبي سعيد قال: «كنت أجاور هذه العشر يعني: الأوسط، ثم قد بدا لي أجاور هذا العشر الآخر، فمن كان اعتكف معي فليثبت في معتكفه» .   (1) قوله رحمه الله: «بصفة مخصوصة» هذا الكلام لم يُفِدْ شيئاً؛ لأنه غير مانع، لأنه يشمل حتى من لزم المسجد مضطجعاً مثلاً، أو لزم المسجد قائماً، أو ما أشبه ذلك، والصواب أن التعريف الصحيح: لزوم مسجد لطاعة الله، هذا هو الاعتكاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 وهو سنة (ع) ، ويجب بنذره (ع) ، وإن علقه أو غيره بشرط فله شرطه، نحو: لله علي أن أعتكف شهر رمضان إن كنت مقيما أو معافى، فكان فيه مريضا أو مسافرا، لم يلزمه شيء، وهل يلزم بالشروع أو بالنية؟ سبق آخر الباب قبله، ولا يختص بزمان إلا ما نهي عن صيامه؛ للاختلاف في جوازه بغير صوم، وآكده رمضان (1) (ع) ، وآكده العشر الأخير (ع) ، ولم يفرق الأصحاب بين الثغر وغيره، وهو واضح، ونقل أبو طالب: لا يعتكف بالثغر؛ لئلا يشغله نفير، ولا يصح إلا بالنية (و) ، ويجب تعيين المنذور بالنية؛ ليتميز، وإن نوى الخروج منه فقيل: يبطل؛ لأنه يخرج منه بالفساد كالصلاة، وقيل: لا؛ لتعلقه بمكان كالحج، وللشافعية وجهان، وإن خرج لما لا يبطل، ولم يكن نوى مدة مقدرة ابتدأ النية، وإلا فلا. ذكره في «الترغيب» وغيره، وظاهر كلام جماعة: لا يبتدئها. ولا يصح من كافر ومجنون وطفل كصلاة وصوم، قال صاحب «المحرر» : لا أعلم فيه خلافا، وكذا ذكر غيره لخروجه بالجنون عن كونه من أهل المسجد على ما سبق في باب الغسل، لكن يتوجه: هل يبني أو يبتدئ الخلاف في بطلان الصوم؟ ولا يبطل بإغماء جزم به في «الرعاية» وغيرها، ويأتي في النذر نذر الكافر، والله أعلم.   (1) لأن بعض أهل العلم يقول: لا يصح الاعتكاف إلا بصوم، واختار هذا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وعلى هذا فلا يمكن أن يعتكف في يوم العيد، أو أيام التشريق؛ لأنه لا صوم فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 فصل: ولا يجوز أن يعتكف العبد بلا إذن سيده، ولا المرأة بلا إذن زوجها ولا يجوز أن يعتكف العبد بلا إذن سيده، ولا المرأة بلا إذن زوجها (و) ؛ لتفويت منافعهما المملوكة لهما، فإن شرعا في نذر أو نفل بلا إذن فلهما تحليلهما (و) ؛ لحديث أبي هريرة: «لا تصوم المرأة وزوجها شاهد يوما من غير رمضان إلا بإذنه» ، إسناده جيد رواه الخمسة، وحسنه الترمذي، وضرر الاعتكاف أعظم، والحج آكد، وخرج في «منتهى الغاية» : لا يمنعان من اعتكاف منذور كرواية في المرأة في صوم وحج منذورين، ذكرها في «المجرد» و «التعليق» ، ونصرها في غير موضع، والعبد يصوم النذر، ويأتي هذا الوجه في «الواضح» في النفقات، قال: ويتخرج وجه ثالث: منعهما وتحليلهما من نذر مطلق فقط؛ لأنه على التراخي كوجه لأصحابنا في صوم وحج منذورين، قال: ويتخرج وجه رابع: منعهما وتحليلهما إلا من منذور معين قبل النكاح والملك، كوجه لأصحابنا في سقوط نفقتها، ويتوجه: إن لزم بالشروع فيه فكالمنذور، وقاله الأوزاعي، فعلى الأول: إن لم يحللاهما صح وأجزأ (و) ، وقال في «منتهى الغاية» : قال جماعة من أصحابنا - منهم ابن البنا -: يقع باطلا؛ لتحريمه كصلاة في مغصوب، وجزم به في «المستوعب» ، وكذا في «الرعاية» ، وذكره نصَّ أحمدَ في العبد، وإن أذنا لهما، ثم أراد تحليلهما فلهما ذلك إن كان تطوعا، وإلا فلا (وش) ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة وحفصة وزينب في الاعتكاف، ثم منعهن منه بعد أن دخلن، ولأن حقهما واجب، والتطوع لا يلزم بالشروع على ما سبق، فهي هبة منافع تتجدد، ولا يلزم منها ما لم يقبض على ما يأتي في العارية، ومذهب (م) منع تحليلهما مطلقا؛ للزومه بالشروع عنده، ومذهب (هـ) له تحليل العبد فيهما؛ لأنه لا يملك بالتمليك، ويكره لإخلافه الوعد، ولا يملك تحليل الزوجة فيهما؛ لملكها بالتمليك، ولو رجعا بعد الإذن قبل الشروع جاز (ع) ، بخلاف حق الشفعة والقصاص، فإنه إسقاط لأمر مضى لا يتجدد، واختار صاحب «المحرر» في النذر المطلق الذي يجوز تفريقه كنذر عشرة أيام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 متفرقة أو متتابعة إذا اختار فِعله متتابعا، وأذن لهما في ذلك يجوز له تحليلهما منه عند منتهى كل يوم؛ لجواز الخروج له منه إذن كالتطوع. قال: وتعليل أصحابنا يدل عليه، وهذا متوجه، وظاهر كلامهم المنع كغيره، وفي «الرعاية» لهما تحليلهما في غير نذر، وقيل: في وقت معين، وللشافعية وجهان، والإذن في عقد النذر إذن في فعله إن نذرا زمنا معينا بالإذن وإلا فلا (وش) ؛ لأن زمن الشروع لم يقتضه الإذن السابق، وقدم الشيخ منع تحليلهما أيضا كالإذن في الشروع، وللمكاتب أن يعتكف بلا إذن نص عليه؛ لملكه منافعه كحر مدين بخلاف أم الولد والمدبر، قال جماعة: ما لم يحل نجم، وله أن يحج بلا إذن نص عليه كالاعتكاف، وأولى؛ لإمكان التكسب معه، ولا يمنع من إنفاقه للمال فيه كالاعتكاف، وكتركه التكسب مدة، وينفق فيها عليه مما قد جمعه، واختار الشيخ: يجوز إن لم يحتج أن ينفق فيه مما قد جمعه ما لم يحل نجم، ونقل الميموني: له الحج من المال الذي جمعه ما لم يأت نجمه، وحمله القاضي وابن عقيل والشيخ على إذنه له، ويجوز بإذنه أطلقه جماعة، وقالوا: نص عليه، ولعل المراد ما لم يحل نجم، وصرح به بعضهم، وعنه: المنع مطلقا (وق) ، ومن بعضه حر إن كان بينه وبين السيد مهايأة (1) فله أن يعتكف، ويحج في نوبته بلا إذنه؛ لأن منافعه له فيها، وإلا فلسيده منعه، والله أعلم.   (1) المهايأة يعني: أن له شهراً، وللسيد شهراً، أو له يوم، وللسيد يوم، فيومه الذي له هو فيه حرُّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 فصل: ولا يصح من رجل تلزمه الصلاة جماعة في مدة اعتكافه إلا في مسجد تقام فيه الجماعة ولا يصح من رجل تلزمه الصلاة جماعة في مدة اعتكافه إلا في مسجد تقام فيه الجماعة (وهـ) ، ولو من رجلين معتكفين، وإلا صح منه في مسجد غيره، وفي «الانتصار» : لا يصح من الرجل مطلقا إلا في مسجد تقام فيه الجماعة، قال صاحب «المحرر» : وهو ظاهر رواية ابن منصور، وظاهر قول الخرقي، ووجه المذهب ما رواه سعيد: حدثنا سفيان عن جامع بن أبي راشد عن شقيق بن سلمة عن حذيفة أنه قال لابن مسعود: لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لااعتكاف إلا في المساجد الثلاثة» ، أو قال: «في مسجد جماعة» حديث صحيح، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع. رواه أبو داود، وقال: غير عبد الرحمن بن إسحاق لا يقول فيه: «قالت: السنة» . يعني: أنه موقوف، وعبد الرحمن مختلف فيه، وروى له مسلم، ورواه الدارقطني بإسناد جيد من حديث الزهري عن عروة وابن المسيب عن عائشة في حديث عنها، وفيه: وأن السنة وذكره، وفي آخره: ويأمر من اعتكف أن يصوم، وقال: يقال: أن السنة ... إلى آخره من قول الزهري، ومن أدرجه في الحديث فقد وهم، ورواه أبو بكر النجاد وغيره، عن علي وغيره، ولأن الجماعة واجبة فيحرم تركها (1) ،   (1) قوله: «ولأن الجماعة واجبة فيحرم تركها» هذا التعليل تابع للقول، يعني: الجماعة واجبة، فإما أن يتركها باعتكافه، وإما أن يتكرر خروجه، وتكرار الخروج يفسد الاعتكاف.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 ويفسد الاعتكاف بتكرار الخروج، وظهر من هذا إن قلنا: لا تجب الجماعة صح في كل مسجد (وم ش) لظاهر الآية، ولا يصح إلا في مسجد (ع) ، حكاه ابن عبد البر، وجوزه بعض المالكية وبعض الشافعية في مسجد بيته، ويصح في المساجد الثلاثة (ع) حكاه ابن المنذر، وعن حذيفة وابن المسيب: لا اعتكاف إلا فيها، والله أعلم (1) ، ورحبة المسجد ليست منه في رواية وهي ظاهر كلام الخرقي، وعنه: بلى جزم به بعضهم (و) ، وجزم به القاضي في موضع، وجمع بين الروايتين في موضع، فقال: إن كانت محوطة فهي منه، وإلا فلا، قال صاحب «المحرر» : ونقل محمد بن الحكم ما يدل على صحته، فقال: إذا سمع أذان العصر في رحبة مسجد الجامع انصرف ولم يصل، ليس هو بمنزلة المسجد، حد المسجد: هو الذي عليه حائط وباب، وقدم هذا في «المستوعب» وصححه أيضا، وقال: ومن أصحابنا من جعل المسألة على روايتين، وفي كلام الشافعية: الرحبة المتصلة به منه، والله أعلم (2) .   (1) والصواب جواز الاعتكاف في كل مسجد، لكن الاعتكاف الكامل في المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى. (2) لا شك أن الرحبة المحوطة من المسجد، وأما الرحبة التي لم تحوط ولكنها جعلت لحاجة المسجد إن احتاج إلى زيادة، فهذه ليست منه، وينبني على ذلك جواز خروج المعتكف إلى الرحبة، فإن خرج إلى الرحبة التي منه فلا بأس، وإن خرج إلى الرحبة التي ليست منه لم يصح، ومن ذلك في المسجد الحرام فالمسعى ليس من المسجد، فإذا خرج المعتكف إلى المسعى حرم عليه ذلك، ومن باب أولى الساحة المحاطة من وراء المسعى، فهذه ليست من المسجد، فمن خرج إليها في اعتكافه حرم عليه الخروج، وبطل اعتكافه إلا إذا كان لعذر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 وظهر المسجد منه (وهـ ش) ، ومذهب (م) لا يعتكف فيه، ولا في بيت قناديله (1) ، وقال (م) أيضا: يكره، والله أعلم، والمنارة التي للمسجد إن كانت فيه أو بابُها فيه فهي منه بدليل منع جنب، والأشهر عن مالك: يكره، وقاله الليث: وإن كان بابها خارجا منه بحيث لا يستطرق إليها إلا خارج المسجد أو كانت خارج المسجد، والمراد والله أعلم، وهي قريبة منه كما جزم به بعضهم، فخرج للأذان بطل اعتكافه؛ لأنه مشى حيث يمشي جنب؛ لأمر منه بد كخروجه إليها لغير الأذان، وقيل: لا يبطل، واختاره ابن البنا وصاحب «المحرر» ، وقال القاضي: لأنها بنيت له فكأنها منه، وقال أبو الخطاب: لأنها كالمتصلة به، وقال صاحب «المحرر» : لأنها بنيت للمسجد؛ لمصلحة الأذان فكأنها منه فيما بنيت له، ولا يلزم ثبوت بقية أحكام المسجد؛ لأنها لم تبن له، وللشافعية وجهان، وثالث: إن ألف الناس صوت المؤذن جاز للحاجة وإلا فلا، وإن كانت في الرحبة فهي منها وإلا فلا، والله أعلم (2) ،   (1) بيت القناديل الآن يعتبر مثل بيت مفاتيح الكهرباء، ولكن الصحيح أنه إذا كانت الحجرة داخلة في المسجد فهي من المسجد، حتى وإن كانت للمفاتيح أو كانت للقناديل. (2) قوله: «وإن كان بابها خارجا منه» هذا مأخذ جيد، في القول بأنه إذا كانت المنارة خارج المسجد، كما يفعل الآن في بعض المساجد تجد المنارة خارج المسجد، فلا يخرج المؤذن إليها، فإذا خرج بطل اعتكافه، ولكن بعض الأصحاب يقول: إذا كانت قريبة فلا بأس أن يخرج؛ لأنه إنما خرج لمصلحة تتعلق بالمسجد وهو الأذان، وهذا القول وجيه.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 والأفضل اعتكاف الرجل في الجامع إذا كان اعتكافه تتخلله جمعة، ولا يلزم وفاقا لأكثر العلماء منهم أبو حنيفة، وظاهر مذهب الشافعي، وحكاه في «شرح مسلم» عن مالك لما سبق، ولأنه خرج لما لا بد منه، وكأنه استثنى الجمعة، ولا تتكرر بخلاف الجماعة، وفي «الانتصار» وجه: يلزم فإن اعتكف في غيره بطل بخروجه إليها (وم) ؛ لأنه أمكنه أن يحترز منه كالخارج من صوم الشهرين المتتابعين إلى صوم رمضان، ونحن نمنعه على ما يأتي، فأما إن عين بنذره المسجد الجامع تعين موضع الجمعة، وإن عين غير موضعها لم يتعين موضعها، ولا يصح إن وجبت الجماعة بالاعتكاف فيما تقام فيه الجمعة وحدها، ويصح عند مالك والشافعي، ولمن لا تلزمه الجمعة أن يعتكف في غير الجامع، ويبطل بخروجه إليها إلا أن يشترطه كعيادة المريض، ويصح من المرأة في كل مسجد للآية، والجماعة لا تلزمها، وفي «الانتصار» : في مسجد تقام فيه الجماعة، وهو ظاهر رواية ابن منصور، وظاهر رواية الخرقي؛ لما رواه حرب وغيره بإسناد جيد، عن ابن عباس أنه سئل عن امرأة جعلت عليها أن تعتكف في مسجد نفسها في بيتها، فقال: بدعة، وأبغض الأعمال إلى الله البدع، فلا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الجماعة، ولا يصح في مسجد بيتها، وهو ما اتخذته لصلاتها لما سبق، وهذا ليس بمسجد حقيقة ولا حكما، ويصح عند أبي حنيفة، وأنه أفضل، وفي كتبهم كـ «المختار» : المرأة تعتكف في بيتها، قال الأصحاب: فلم ينبه أزواجه على ذلك إنما خاف عليهن التنافس في الكون معه، وترك المستحاضة فيه، والطست تحتها، قال صاحب «المحرر» : إنما نكرهه لها إذا لم تتحفظ بخباء ونحوه، واستحبه غيره، وأن لا يكون بموضع الرجال، نقل أبو داود وغيره: يعتكفن في المساجد، ويضربن لهن فيها الخيم، قال الشيخ وغيره: ولا بأس أن يستتر الرجل أيضا؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، ولأنه أخفى لعمله، ونقل ابن إبراهيم وغيره: لا إلا لبرد شديد، ونقل صالح وابن منصور: لبرد (1) .   (1) وقولهم -رحمهم الله-: إن له أن يضرب لنفسه خيمة وما أشبه ذلك ينافي العرف في وقتنا، ولا يمكن أن يضرب المعتكف له خباءاً في المسجد، لما في ذلك من التضييق والتنافس والتفاخر أيضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 فصل: ويصح بغير صوم ويصح بغير صوم هذا المذهب (وش) ؛ لأن عمر سأله صلى الله عليه وسلم: إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة، وفي لفظ لمسلم: يوما في المسجد الحرام، قال: «أوف بنذرك» زاد البخاري: فاعتكف ليلة، ولحديث ابن عباس: «ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه» رواه الدارقطني، وقال: رفعه السوسي أبو بكر وغيره لا يرفعه. قال صاحب «المحرر» : هو ثقة فيقبل رفعه وزيادته، قال الخطيب: دخل بغداد، وحدث أحاديث مستقيمة. ولأنه لا دليل، وتفرد عبد الله بن بديل - وله مناكير - بقوله صلى الله عليه وسلم لعمر: «اعتكف وصم» . رواه أبو داود وضعفه وزيادته أبو بكر النيسابوري والدارقطني وغيرهما، ثم أمرُه استحبابا أو نذره مع الاعتكاف، بدليل قوله: إنه نذر أن يعتكف في الشرك ويصوم، قال الدارقطني: إسناد حسن تفرد به سعيد بن بشير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 وأقوال الصحابة مختلفة، فعلى هذا: أقله تطوعا أو نذر اعتكافا وأطلق ما يسمى به معتكفا لابثا، فظاهره: ولو لحظة وفاقا للأصح للشافعية، وأقله عندهم مكث يزيد على طمأنينة الركوع أدنى زيادة، وفي كلام جماعة: أقله ساعة لا لحظة، ولا يكفي عبوره خلافا لبعض الشافعية، ويصح الاعتكاف في أيام النهي التي لا يصح صومها، ولو صام ثم أفطر عمدا لم يبطل اعتكافه، وعنه: لا يصح الاعتكاف بغير صوم (وهـ م) ، فعلى هذا: لا يصح ليلة مفردة، وفي أقله وجهان - قاله في «منتهى الغاية» -: أحدهما: يوم، اختاره أبو الخطاب (وهـ ر) ؛ لأنه أقل ما يتأتى فيه الصوم، والثاني: أقله ما يقع عليه الاسم إذا وجد في الصوم؛ لوجود اللبث بشرطه، وجزم بهذا غير واحد، وهو أصح عن أبي حنيفة، وجزم في «المستوعب» و «الرعاية» وغيرهما: إن نذر اعتكافا وأطلق يلزمه يوم، ومرادهم: إذا لم يكن صائما، كما ذكره في «المستوعب» فيما إذا نذر اعتكاف يوم يقدم فلان أجزأه بقية النهار إن كان صائما، وجزموا في النذر على الأول بأن يوما وليلة أولى لا يوما (ش) ؛ ليخرج من الخلاف، ومذهب (م) : يوم وليلة، وعنه أيضا: ثلاثة، ولا يصح في أيام النهي التي لا يصح صومها (1)   (1) الاعتكاف المسنون العشر كلها؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، ومن اعتكف ليلة واحدة من العشر فهنا نقول: يثاب عليه، ولكن لم يأت بالسنة.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 (وهـ م) واعتكافها نذرا ونفلا كصومها نذرا ونفلا، فإن أتى عليه يوم العيد في أثناء اعتكاف متتابع، فإن قلنا: يجوز الاعتكاف فيه، فالأولى: أن يثبت مكانه، ويجوز خروجه؛ لصلاة العيد ولا يفسد اعتكافه، خلافا للشافعي وعبد الملك المالكي، وإن قلنا: لا يجوز خرج إلى المصلى إن شاء، وإلى أهله وعليه حرمة العكوف، ثم يعود قبل غروب الشمس من يومه لتمام أيامه، هذا قول مالك، قاله صاحب «المحرر» ، ولا يشترط أن يصوم للاعتكاف ما لم ينذر له الصوم لظاهر الآية والخبر، وكما يصح أن يعتكف في رمضان تطوعا أو بنذر عينه به (و) ، وشرطه الحنفية للاعتكاف الواجب في الذمة، فلو نذر اعتكاف رجبٍ فتركه واعتكف رمضان، أو نذر اعتكاف رمضان فتركه واعتكف رمضان المقبل لم يجزئه، وكذا عندهم الاعتكاف المطلق إذا فعله في رمضان؛ لوجوب صوم في ذمته، فلا يتأدى برمضان كنذر الصوم المفرد، وأجيب بالمنع، وأن الواجب أن يعتكف في أي صوم كان، كمن نذر صلاة وهو محدث، ثم تطهر لمس المصحف له أن يصليها به، ولأنه لو نذر أن يعتكف رمضان فأفطره لعذر فقضاه، واعتكف مع القضاء أجزأه (و) ، وإن نذر أن يعتكف رمضان ففاته لزمه شهر غيره (و) ، خلافا لأبي يوسف وزفر؛ لأن كل قربة معلقة بزمن لا تسقط بفواته، كنذر صلاة في يوم معين أو الصدقة، وكنذر اعتكاف مدة معينة غير رمضان، وخالف فيه بعض الشافعية؛ لفوات الملتزم، ويبطل هذا بالصوم المعين (ع) ، والله أعلم. ثم إذا لزم شهر غيره فقدم بعضهم لا يلزمه صوم؛ لأنه لم يلتزمه، وقيل: يلزمه، قال في «الرعاية» : وهو أولى، ثم قال: وقيل: إن شرطناه فيه لزمه، وإلا فلا. وهذا هو الذي في «المستوعب» و «منتهى الغاية» تحقيقا لشرط الصحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 ويجزي مع شرط الصوم رمضان آخر، وذكر القاضي وجها: لا يجزئه، وهو كقول الحنفية السابق، وأطلق بعضهم وجهين، ولم يذكر القاضي خلافا في نذر الاعتكاف المطلق أنه يجزئه صوم رمضان وغيره، وهذا خلاف نص أحمد ومتناقض؛ لأن المطلق أقرب إلى التزام الصوم، فهو أولى، ذكره صاحب «المحرر» ، ولم يرد القاضي هذا وإن دل عليه كلامه، والقول به في المطلق متعين، وعلل في «المستوعب» الإجزاء بأنه لم يلزمه بالنذر صيام، وإنما وجب ذلك عن شهر رمضان، وعلل عدمه بأنه لما فاته؛ لزمه اعتكاف شهر بصوم، فلم يقع صيامه عنه، والله أعلم. وإن نذر اعتكاف عشره الأخير فنقص أجزأه وفاقا بخلاف نذر عشرة أيام من آخر الشهر فنقص يقضي يوما (و) ، وإن فاته العشر فقضاه خارج رمضان جاز، ذكره القاضي وفاقا لقضائه صلى الله عليه وسلم في العشر الأول من شوال متفق عليه، وكقضاء نذره صوم عرفة أو عاشوراء في غيره، وقال ابن أبي موسى: يلزمه مثله من قابل، وهو ظاهر رواية حنبل وابن منصور في المعتكف يقع على امرأته عليه الاعتكاف من قابل؛ لاشتماله على ليلة القدر، وسبق أن من نذر قيامها لزمه، فكذا اعتكافها ذكره صاحب «المحرر» ، وقال في «الرعاية» : يلزمه مثله في رمضان الآتي في الأشهر، قال مِن عِنده: ويحتمل أن يجزئه مثله من شهر غيره، ويتوجه من تعيين العشر تعيين رمضان في التي قبلها، ولهذا لما ذكر في «المستوعب» المسألة الأولى قال: وقد ذكر ابن أبي موسى، فذكر قوله ولم يزد، ولعل الثانيَ أظهر؛ لأن فعله صلى الله عليه وسلم تطوع، والصوم يجزيء المفضول فيه عن الفاضل بدليل أيام الأسبوع والأشهر، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 فصل: من قال لله علي أن اعتكف صائم من قال: لله علي أن اعتكف صائما أو بصوم لزماه معا، فلو فرقهما أو اعتكف وصام فرض رمضان ونحوه، لم يجزئه؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه» ، ولأن الصوم صفة مقصودة فيه كالتتابع وكالقيام في صلاة التطوع، وذكر صاحب «المحرر» عن بعض أصحابنا: يلزمه الجميع لا الجمع، فله فعل كل منهما منفردا، وقاله بعض الشافعية: كما لو نذر أن يصلي صائما أو بالعكس، قال صاحب «المحرر» : لا نسلمه، ونقول: يلزمه الجمع كما قال، ثم سلمه، وهذا هو المعروف؛ لكون كل منهما ليس بمقصود في الآخر، ولا سنته، وإن نذر أن يصوم معتكفا فالوجهان لنا وللشافعية في التي قبلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 قاله صاحب «المحرر» ، وفرق في «التلخيص» بينهما: بأن الصوم ليس من شعاره الاعتكاف، واختاره بعض الشافعية، وإن نذر أن يعتكف مصليا فالوجهان في المذهبين، وفيهما وجه ثالث: لا يلزمه الجمع هنا؛ لتباعد ما بين العبادتين، وكل واحد من الصوم والاعتكاف كف معتبر بالزمان، فلزم الجمع بينهما بالنذر كالحج والعمرة، ولا يلزمه أن يصلي جميع الزمان، ذكر ذلك صاحب «المحرر» ، والمراد: ركعة أو ركعتان، ولم يذكر هذه الصورة في «التلخيص» و «الرعاية» ، وذكر أن يصلي معتكفا، وأنه لا يلزم ولا فرق بينهما، وإن نذر أن يصلي صلاة ويقرأ فيها سورة بعينها لزمه الجمع، فلو قرأها خارج الصلاة لم يجزئه، ذكره في «الانتصار» ، وللشافعي قولان: أحدهما: يجوز التفريق، قال صاحب «المحرر» : ويتخرج لنا مثله، وقالت الحنفية: لا يلزم حال الناذر في جميع هذه المسائل إذا كانت عبادة مفردة، فإذا نذر أن يصلي معتكفا أو بالعكس، أو نذر أن يصوم مصليا أو بالعكس، أو نذر أن يحج معتكفا أو بالعكس ونحوه، لزمه الأول لا الثاني، لا منفردا ولا مع الأول؛ لأنه لم يلتزمه منفردا، وليس بصفة مقصودة ليلزم بالنذر، وإن نذر أن يعتكف صائما لزمه الصوم؛ لكونه شرطا فيه على أصلهم، وإن نذر أن يصوم معتكفا، فلهم وجهان: أحدهما: لا يلزمه سوى الأول كما سبق، والثاني: يلزمه الاعتكاف؛ لأنه ليس عبادة مستقلة، فجاز جعله شرطا في العبادة التي جعلت شرطا له، ونصر صاحب «المحرر» وجوب الجمع في ذلك كله؛ لأنه التزمه كذلك، فيدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «من نذر نذرا أطاقه فليف به» ، ولأنه طاعة لاستباقه إلى الخيرات؛ لكونه أشق، قال: وما علل به المخالف يبطل بالتتابع في الصوم يلزم بالنذر، وكل يوم عبادة مستقلة، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 مسائل مختارة من كتاب الصيام من الفروع الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين، وبعد، فهذه مسائل اخترناها من الفروع، وزدنا عليها ما شاء الله، وذلك أثناء قراءتنا كتاب الصيام في شعبان سنة 1391هـ نسأل الله التوفيق في الدنيا والآخرة. المسألة الأولى: إذا غم الهلال ليلة الثلاثين من شعبان ففي صيام يوم الإغماء أقوال: القول الأول: وجوب صومه، اختاره الأصحاب وجعلوه المذهب عندهم، وقالوا: نصوص أحمد تدل عليه، قال المؤلف: كذا قالوا، ولم أجد عن أحمد أنه صرح بالوجوب، ولا أمر به، فلا تتوجه إضافته إليه، ثم رد جميع ما احتج به الأصحاب للوجوب. القول الثاني: أن صومه مباح، وأنه لا يجب صيام رمضان إلا برؤية هلاله، أو إكمال شعبان ثلاثين يوماً، وهو رواية عن أحمد، اختارها شيخ الإسلام، وقال: هو مذهب أحمد المنصوص الصريح عنه. القول الثالث: يستحب صومه. القول الرابع: يكره صومه، ذكره ابن عقيل رواية. القول الخامس: يحرم صومه، ونقله حنبل عن أحمد، وهو مذهب مالك والشافعي. القول السادس: الناس تبع للإمام إن صام صاموا، وإلا فلا، وهو رواية عن الإمام أحمد. القول السابع: العمل بالعادة الغالبة: كمضي شهرين كاملين فيكون الثالث ناقصاً، عمل بذلك ابن عقيل في موضع من الفنون، وجعله معنى التقدير في قوله: «فإن غم عليكم فاقدروا له» . وأصح الأقوال أن صومه محرم، لقول عمار بن ياسر: «من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم» . ذكره البخاري تعليقاً، ووصله الخمسة، وصححه ابن خزيمة وابن حبان، وهذا اختيار صاحب تصحيح الفروع، حيث قال: ظاهر النهي التحريم، إلا أن يصرفه عن ذلك دليل أهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 المسألة الثانية: إذا ثبت الهلال ببلد فهل يشمل الحكم جميع الناس في ذلك أقوال: القول الأول: يشمل الحكم جميع الناس، فيلزمهم الصيام في هلال رمضان، والفطر في هلال شوال، وهو المشهور من المذهب، وكأن صاحب الفروع يميل إلى تضعيفه، حيث تعقب في معرض سياق أدلته جميع ما احتجوا به، وقال: دليل المسألة من العموم يقتضي التسوية. يعني بين اختلاف الأحكام بالغروب والطلوع والزوال، حيث كان لكل بلد حكمه وبين اختلافها في مطالع القمر. القول الثاني: يشمل الحكم ما اتفقت مطالعه من البلاد دون ما اختلفت، وهو الأصح للشافعية، وذكره صاحب الفروع والاختيارات اختيار الشيخ تقي الدين، لكن نقل ابن القاسم في مجموع الفتاوى عن الشيخ (ص 105 ج 25) : أنه متى شهد شاهد ليلة الثلاثين من شعبان أنه رآه بمكان من الأمكنة قريب أو بعيد لزم الصوم. وفي (ص 107 من المجلد المذكور) : والضابط أن مدار هذا الأمر على البلوغ لقوله: «صوموا لرؤيته» ، فمن بلغه أنه رؤي ثبت في حقه من غير تحديد بمسافة أصلاً، وفي (ص 109 منه) : ولو قيل: إذا بلغهم الخبر في أثناء الشهر لم يبنوا إلا على رؤيتهم، بخلاف ما إذا بلغهم في اليوم الأول لكان له وجه. وفي (ص 111 منه) : فتلخص أن من بلغه رؤية الهلال في الوقت الذي يؤدى بتلك الرؤية الصوم، أو الفطر، أو النسك وجب اعتبار ذلك بلا شك. والنصوص وآثار السلف تدل على ذلك. ومن لم يبلغه إلا بعد الأداء وهو مما لا يقضى كالعيد المفعول، والنسك، فهذا لا تأثير له، وأما إذا بلغه في أثناء المدة فهل يؤثر في وجوب القضاء، وفي بناء الفطر عليه، وبقية الأحكام والقضاء؟ يظهر لي أنه لا يجب، وفي بناء الفطر عليه نظر. أهـ كلام الشيخ رحمه الله. وهذا القول أعني القول بأن الحكم يختلف باختلاف المطالع هو الراجح أثراً ونظراً. القول الثالث: يشمل الحكم من دون المسافة، فإن كان بين البلدين مسافة قصر لم يثبت لأحدهما حكم الآخر. اختاره في الرعاية، وذكره في شرح مسلم أنه الأصح للشافعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 القول الرابع: إن كان الإقليم واحداً شمل الحكم الجميع وإلا فلا، اختاره بعض الشافعية. القول الخامس: يشمل الحكم بلد الرؤية وما كان تابعاً له في العمل دون غيره، إلا أن يحمل الإمام الناس على ذلك. القول السادس: يختص الحكم ببلد الرؤية فقط، حكاه النووي في المجموع نقلاً عن ابن المنذر عن عكرمة، والقاسم، وسالم، وإسحاق بن راهويه. القول السابع: انه إذا كان البلدان يشتركان في جزء من الليل اشتركا في حكم الهلال وإلا فلا. قاله محمد إسماعيل إبراهيم، ويتفرع على ذلك: ما لو سافر من بلد إلى بلد خالفه في ثبوت الشهر، فالمشهور من مذهب أحمد أنه يبنى على أسبق البلدين، لأنه متى ثبت بمكان شمل الحكم جميع الناس، فإذا سافر من بلد ثبت فيه الشهر ليلة الجمعة إلى بلد ثبت فيه ليلة السبت وتم شهر ولم ير الهلال لزمه الفطر. وإن سافر من بلد ثبت فيه ليلة السبت إلى بلد ثبت فيه ليلة الجمعة فأفطروا أفطر معهم وقضى يوماً. وأما الشافعية فعندهم في ذلك وجهان: أحدهما: اعتبار البلد المنتقل إليه فيفطر معهم وإن لم يكمل، ويقضي يوماً، وكذلك إن أكمل الثلاثين ولم يفطروا فيصوم معهم. والثاني: اعتبار البلد المنتقل منه، فيلزمه الصوم في المسألة الأولى وإن كانوا مفطرين، والفطر في الثانية وإن كانوا صائمين. المسألة الثالثة: إذا ثبتت الرؤية في أثناء النهار فماذا يلزم؟ في هذا خلاف على أقوال: القول الأول: يلزمه الإمساك والقضاء، وهذا مذهب الأئمة الأربعة. القول الثاني: يلزمه القضاء دون الإمساك، قاله عطاء، وحكاه أبو الخطاب رواية. القول الثالث: يلزمه الإمساك دون القضاء، قاله الشيخ تقي الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وهذا القول أرجح الأقوال، لأنه لا تكليف إلا بعد العلم، وقد أفطر الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ظانين غروب الشمس، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء فإذا لم يؤمروا بالقضاء في هذه الحال التي الأصل فيها بقاء اليوم وعدم الغروب، فكذلك إذا أكلوا في يوم الأصل فيه بقاء شعبان بل هذا أولى. المسألة الرابعة: إذا طرأ شرط التكليف بالصوم في أثناء اليوم كإسلام كافر وبلوغ صبي، وإفاقة مجنون، ففي حكم ذلك اليوم أقوال: القول الأول: وجوب الإمساك والقضاء وهو المشهور من مذهب أحمد. القول الثاني: وجوب الإمساك دون القضاء، وهو مذهب أبي حنيفة. قال الزركشي: وحكاه أبو العباس رواية فيما أظن، واختارها أهـ وهذا هو القول الوسط وأقرب إلى الصحة. القول الثالث: لا يجب الإمساك ولا القضاء، وهو مذهب الشافعي، ومالك، ورواية عن أحمد. المسألة الخامسة: إذا زال مانع الوجوب في أثناء اليوم وهو مفطر: كقدوم المسافر وطهارة الحائض وبرء المريض، ففي حكم ذلك قولان: القول الأول: وجوب الإمساك والقضاء، وهو المشهور من المذهب ومذهب أبي حنيفة. القول الثاني: وجوب القضاء دون الإمساك، وهو رواية عن أحمد، ومذهب مالك والشافعي، وهذا القول أصح، لأن الإمساك لا يستفيدون به شيئاً. ووقت الوجوب كانوا فيه غير أهل له، وعلى هذا فلو قدم المسافر مفطراً ووجد امرأته طاهراً من الحيض يوم قدومه فله وطؤها. أما إذا زال مانع الوجوب وهو صائم كقدوم المسافر صائماً، وبرء المريض فيلزمهم الإتمام قولاً واحداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 المسألة السادسة: إذا طرأ مانع الوجوب أو الصحة في أثناء اليوم، وفي ذلك عدة مسائل: 1 ـ إذا ارتد في أثناء اليوم بطل صومه ولزمه القضاء، وقال أبو حنيفة: لا يقضي، وقال صاحب المحرر: ينبني على الروايتين فيما إذا وجد الموجب في بعض اليوم، فإن قلنا: يجب وجب هنا، وإلا فلا أهـ. والأصح وجوب القضاء عليه، لأنه من أهل الوجوب حين تعين الإمساك. 2 ـ إذا حاضت المرأة في أثناء اليوم فقال الإمام أحمد: تمسك، قال في الفروع: وظاهر كلامهم لا إمساك مع المانع، وهو أظهر. قلت: وهذا هو المذهب وهو المقطوع به، ويلزمها القضاء. 3 ـ إذا جنّ في أثناء النهار فهل يلزمه القضاء؟ ينبني على الروايتين في إفاقته في أثناء النهار بجامع أنه أدرك جزءاً من الوقت، وسبق في المسألة الرابعة، والذي يظهر هنا أنه يقضي، لأنه كان حين تعين الإمساك من أهل الوجوب. هذا إذا قلنا بأن الجنون مبطل للصوم قليلة وكثيرة، كما هو اختيار المجد وابن البناء، ولكن قال في الفروع: الجنون كالإغماء، فعلى هذا القول لا يبطل الصوم بالجنون، وهو المذهب. 4 ـ إذا سافر في أثناء النهار جاز له الفطر، والأفضل عدمه، وهذا هو المذهب، لكن لا يفطر قبل خروجه من البلد، خلافاً للحسن وإسحاق وعطاء، وعن أحمد رواية ثانية: لا يجوز له الفطر إذا سافر في أثناء النهار، فالأقوال ثلاثة. 5 ـ إذا مرض في أثناء النهار، أو خاف المرض بعطش ونحوه فله الفطر بالإجماع، قاله في الفروع ص 21 ج 2. المسألة السابعة في النية: النية إما أن تكون في صوم واجب، أو في صوم تطوع. فإن كانت في صوم واجب، ففيها أقوال: الأول: أنها تجب من الليل، وفاقاً لمالك والشافعي. الثاني: إن كان الصوم في رمضان، أو نذر معين أجزأت قبل الزوال لا بعده. ومذهب أبي حنفية. الثالث: أن النية تجزيء في كل صوم من الليل وفي النهار قبل الزوال أو بعده، قاله الأوزاعي، وحكي عن ابن المسيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 ولا تصح نية صوم يوم قبل ليلته، فلا تصح في نهار يوم لصوم الغد وفاقاً للأئمة الثلاثة، وعن أحمد تصح. وعن أحمد أيضاً تصح في أول رمضان نية واحدة لجميعه، فإن أفطر منه يوماً لعذر أو غيره لم يصح صيام الباقي إلا بنية مجددة، وقيل: يصح. وأما إن كانت النية في صوم تطوع فإنها تصح قبل الزوال وبعده، وعنه لا تصح بعده، ومذهب مالك وداود هو كالفرض تسوية بينهما. واختلف القائلون بصحة النية في النهار هل يثاب على الصوم من النية، أو من أول النهار، على ثلاثة أقوال: أحدها: من النية، اختاره الموفق وغيره، وهو أظهر. الثاني: من أول النهار، اختاره صاحب المحرر. الثالث: إن نوى قبل الزوال فالثواب من أول النهار، وإلا فمن النية. المسألة الثامنة: هل يشترط في النية التعيين، أو يكفي نية الصوم، في هذه المسألة ثلاثة أقوال: الأول: اشتراط التعيين، وفاقاً لمالك والشافعي، وهو المشهور من المذهب. الثاني: لا يشترط التعيين في رمضان خاصة وفاقاً لأبي حنيفة، وعلى هذا يصح بنية مطلقة ونية نفل ونحوه، وبنية فرض تردد فيها بأن نوى ليلة الشك إن كان من رمضان فهو فرضي وإلا فهو نفل، فيجزئ إن تبين منه، وهذه رواية عن أحمد، وعنه رواية ثالثة تصح نية فرض تردد فيها مع الغيم لا مع الصحو. الثالث: لا يشترط التعيين إن كان جاهلاً، وإن كان عالماً فهو شرط، اختاره الشيخ تقي الدين. المسألة التاسعة: المفطرات: المفطرات هي: 1 ـ الأكل والشرب بالإجماع، أي ما وصل إلى الجوف من طريق الفم، سواء كان يغذي أو لا. وقال الحسن بن صالح: لا يفطر فيما ليس بطعام ولا شراب مثل أن يستف تراباً. وقال بعض المالكية: لا يفطر فيما لا يغذي ولا يماع في الجوف كالحصاة ونحوها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 2 ـ الاستعاط بدهن أو غيره إن وصل إلى حلقه أو دماغه، وقال مالك: لا يفطر فيما وصل إلى الدماغ، وقال في الكافي: يفطر بما وصل من ذلك إلى خياشيمه. وقال الحسن بن صالح وداود: لا يفطر بواصل من غير الفم؛ لأن النص إنما حرم الأكل والشرب والجماع. وقال الشيخ تقي الدين في رسالته «حقيقة الصيام» : ليس في الأدلة ما يقتضي أن المفطر الذي جعله الله ورسوله مفطراً هو ما كان واصلاً إلى دماغ، أو بدن، أو ما كان داخلاً من منفذ، أو واصلاً إلى الجوف، ونحو ذلك من المعاني التي يجعلها أصحاب هذه الأقاويل هي مناط الحكم عند الله وعند رسوله أهـ. 3 ـ الاكتحال بكحل يعلم وصوله إلى حلقه، ومذهب مالك والشافعي: لا يفطر بذلك، واختاره الشيخ تقي الدين، وقال: فإن قيل: بل الكحل قد ينزل إلى الجوف ويستحيل دماً. قيل: هذا كما يقال في البخار الذي يصعد من الأنف إلى الدماغ فيستحيل دماً. وكالدهن الذي يشربه الجسم، والممنوع منه إنما هو ما يصل إلى المعدة فيستحيل دماً ويتوزع على البدن. 4 ـ التقطير في الأذن إن دخل دماغه، وقال مالك: إن دخل حلقه أفطر وإلا فلا، وقال الأوزاعي، والليث، والحسن بن صالح وداود: لا يفطر إن وصل إلى دماغه. 5 ـ الحقنة، وقاله الشافعي، وعن مالك خلاف، واختار الشيخ تقي الدين: أنه لا فطر بالحقنة، وقال به الحسن بن صالح وداود. قال الشيخ محمد رشيد رضا عن قول الشيخ تقي الدين: إن قوله حق، ولكن يوجد في هذا الزمان حقن أخر، وهو إيصال بعض المواد المغذية إلى الأمعاء، يقصد بها تغذية بعض المرضى، والأمعاء من الجهاز الهضمي كالمعدة، وقد تغني عنها، فهذا النوع من الحقن يفطر الصائم فهو لا يباح له إلا في المرض المبيح للفطر. أهـ 6 ـ وصول الدواء إلى جوفه، أو دماغه من دواء جرح، أو جائفة، أو مأمومة. ومذهب مالك: لا فطر بذلك، وهو قول أبي يوسف ومحمد، واختاره الشيخ تقي الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 ومثل ذلك لو طعنه أحد بأمره، أو طعن نفسه بما يعلم وصوله إلى جوفه أو دماغه، إلا أن مالكاً لم يذكر عنه أنه خالف في ذلك. 7 ـ الجماع بذكر أصلي في فرج أصلي. 8 ـ الحجامة إن ظهر دم فيفطر الحاجم والمحجوم، وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: لا فطر بذلك، وقال الشيخ تقي الدين: لا يفطر الحاجم إلا أن يمص القارورة. وقال ابن عقيل: يحصل الفطر بالحجامة وإن لم يخرج دم، وجزم به في المستوعب والرعاية. ولا فطر بخروج الدم في غير الحجامة، سواء خرج بنفسه، أو بمحاولة، وقال الشيخ تقي الدين: يفطر من أخرج دمه برعاف أو غيره، وقاله الأوزاعي في الرعاف، وذكر في التلخيص وجهين في الفطر بالفصد، وأن أصحهما عدم الفطر، وقال في الرعاية: يحتمل التشريط وجهين. وقال: الأولى إفطار المفصود والمشروط، دون الفاصد والشارط. أهـ. 9 ـ القيء إذا استقاء فقاء أي شيء كان. وقال به مالك والشافعي وعن أحمد: يفطر بملء الفم، وقال به أبو حنيفة، واختاره ابن عقيل، وقال القاضي: إن فحش أفطر. قال في الفروع: ويتوجه احتمال لا يفطر بالقيء، وذكره البخاري عن أبي هريرة، ويروى عن ابن مسعود، وابن عباس، وعكرمة، وقاله بعض المالكية. وقال ابن عقيل في مفرداته: إنه إذا قاء بنظره إلى ما يغثيه يفطر كالنظر والفكر. 10 ـ الإمناء بالمباشرة ونحوها كالاستمناء، وقال به أبو حنيفة ومالك والشافعي، وقد نقض في الفروع ما احتج به على الفطر، ثم قال: ويتوجه احتمال لا يفطر بذلك. وقاله داود، وإن صح إجماع قبله كما قد ادعى تعين القول به. أهـ 11 ـ الإمذاء بالمباشرة ونحوها كالاستمناء، وقاله مالك، ومذهب أبي حنيفة والشافعي: لا فطر به اختاره الآجري، وأبو محمد الجوزي، والشيخ تقي الدين. قال في الفروع: وهو أظهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 12 ـ الإمناء بتكرار النظر خلافاً لأبي حنيفة والشافعي والآجري وإن أمذى بذلك لم يفطر خلافاً لمالك. وإن لم يكرر النظر لم يفطر وفاقاً لمالك والشافعي. وقيل: يفطر وفاقاً لمالك، ونص أحمد يفطر بالمني دون المذي. 13 ـ الإمناء بالتفكير وظاهر كلامه: لا يفطر، خلافاً لمالك، وابن عقيل، وأبي حفص البرمكي، وهو أشهر، لأنه دون المباشرة وتكرار النظر. 14 ـ الموت فيطعم من تركته في نذر وكفارة، كذا في الفروع ولم يذكر خلافاً، والصواب: أنه لا يجب الإطعام، لأن هذا قام بالواجب ما استطاع. 15 ـ المباشرة بتقبيل، أو نحوه لمن تحرك شهوته، حكاه ابن المنذر عن ابن مسعود، وحكاه الخطابي عنه وعن المسيب، وجمهور العلماء: لا يفطر، وحكاه ابن عبد البر إجماعاً. شروط الفطر بما ذكر: يشترط للفطر بهذه المفطرات شروط: الأول: أن يكون ذاكراً، فلا يفطر الناسي، خلافاً لمالك، إلا في الجماع فيفطر، وعنه لا، وفاقاً لأبي حنيفة والشافعي، اختاره الآجرى وأبو محمد الجوزي، والشيخ تقي الدين، وذكره في شرح مسلم قول جمهور العلماء، وقيل: يفطر الناسي بالوطء دون الفرج، والاستمناء ومقدمات الجماع، والحجامة. الثاني: أن يكون مختاراً، فإن كان مكرهاً فلا فطر، خلافاً لأبي حنيفة ومالك، وسواء أكره على الفعل حتى فعل، أو فعل به بأن صب في حلقه الماء مكرهاً، وإن أوجر المغمى عليه معالجة لم يفطر، وقيل: يفطر لرضاه به ظاهراً، فكأنه قصده. وإن أكره الصائم على الوطء أفطر، فاعلاً كان أو مفعولاً به في ظاهر المذهب. وعن أحمد ما يدل على أنه لا فطر، حيث قال: كل أمر غلب عليه الصائم فليس عليه قضاء ولا كفارة، وقيل: يفطر من فعل، لا من فعل به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 ولا يشترط أن يكون عالماً فيفطر الجاهل بالتحريم وفاقاً للأئمة الثلاثة. وقيل: لا يفطر، لأنه لم يتعمد المفسد كالناسي، فلو أكل ناسياً فظن أنه أفطر بذلك فأكل عمداً، فيتوجه أنها مسألة الجاهل بالحكم فيها الخلاف، قاله في الفروع. وهذا هو الصواب. ويفطر الجاهل بالوقت فلو أكل يظن بقاء الليل، أو غروب الشمس، فتبين أنه في النهار لزمه القضاء وفاقاً للأئمة الثلاثة، وقيل: لا يلزمه القضاء، قاله الحسن، وإسحاق، والظاهرية، واختاره الشيخ تقي الدين. وقيل: يلزمه في الثانية، وهي إذا ظن الغروب دون الأولى، وهي إذا ظن بقاء الليل، قاله مجاهد، وعطاء، واختاره صاحب الرعاية، وبعض الشافعية. الموجب للكفارة من هذه المفطرات: الموجب للكفارة من هذه المفطرات هو الجماع إذا كان في نهار رمضان وأفطر به بدون عذر، والمرأة المطاوعة كالرجل، وعنه لا كفارة عليها وفاقاً للشافعي، وعنه يلزمه كفارة واحدة عنهما، وأما المكرهة فلا كفارة عليها، وذكر القاضي رواية: تكفر، وعنه ترجع بها على الزوج، وكذا المعذورة بجهل أو نسيان، وعنه يكفر الواطىء عن المعذورة بإكراه، أو جهل، أو نسيان، أو نحوها. وجماع البهيمة كالآدمية، وقيل: لا فطر ولا كفارة، وفاقاً لأبي حنيفة، ولا كفارة بغير الجماع المذكور وفاقاً للشافعي، وعن أحمد: يكفر للفطر بالحقنة، وبالاحتجام إن بلغه الخبر، وقيل عنه: يكفر للفطر بأكل، وشرب، واستمناء. ومذهب مالك: يكفر من أكل وشرب، ومذهب أبي حنيفة يكفر منهما إن كان مما يتغذى به، أو يتداوى به. ذكر أشياء في الفطر بها خلاف: 1 ـ إذا أصبح في فيه طعام يمكنه لفظه بأن يتميز عن ريقه، وهو أقل من الحمصة أفطر، خلافاً لأبي حنيفة ومالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 2 ـ إذا زاد على الثلاث في مضمضة، أو استنشاق، أو بالغ فدخل الماء حلقه بلا قصد لم يفطر، وقيل: يفطر، واختار صاحب المحرر يفطر بالمبالغة للنهي الخاص وعدم ندرة الوصول فيها، بخلاف المجاوزة، وأنه ظاهر كلام أحمد في المجاوزة، يعني أنه يعيد. 3 ـ إذا جمع ريقه فابتلعه لم يفطر، وفاقاً للأئمة الثلاثة، وقيل: يفطر. 4 ـ إذا مضغ علكاً لا يتحلل منه أجزاء كره، وفاقاً للأئمة الثلاثة ويتوجه احتمال لا، لأنه روي عن عائشة، وعطاء، وعلى الأول لو وجد طعمه في حلقه فهل يفطر أم لا؟ على وجهين، وعلة عدم الفطر أن مجرد الطعم لا يفطر، كمن لطخ باطن قدمه بحنظل إجماعاً، بخلاف الكحل فإنه تصل أجزاؤه إلى الحلق. 5 ـ الغيبة لا يفطر بها، قال أحمد: لو كانت الغيبة تفطر ما كان لنا صوم، قال في الفروع: وذكر شيخنا وجهاً في الفطر بغيبة ونميمة ونحوها، فيتوجه منه احتمال يفطر بكل محرم، ويتوجه احتمال تخريج من بطلان الأذان بكل محرم، واختار ابن حزم يفطر بكل معصية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 الخلاف في المفطرات (من الفروع) المسألة الأولى: الأكل والشرب مفطران إجماعاً، إلا عند الحسن بن صالح فيما ليس بطعام ولا شراب، مثل: أن يستف تراباً، وبعض المالكية فيما لا يماع ولا يغذي، كالحصاة. المسألة الثانية: ما وصل إلى الجوف من غير أكل وشرب، وعند الحسن بن صالح وداود: لا يفطر بواصل من غير الفم، وعند الشيخ تقي الدين لا يفطر بمداواة جائفة ومأمومة ونحو ذلك، ولا بحقنة وهو إحدى الروايتين عن مالك في الاحتقان بشيء، وأما في الجائفة والمأمومة فرواية واحدة لا يفطر. المسألة الثالثة: الجماع مفطر. المسألة الرابعة: الإنزال بالاستمناء وبالمباشرة كالتقبيل ونحوه، وقاله الأئمة الثلاثة يفطر، قال في «الفروع» : ويتوجه احتمال لا يفطر بذلك، وقاله داود، وإن صح إجماع قبله كما قد ادعي تعين القول به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 المسألة الخامسة: الإنزال بتكرار النظر، وقال الآجري: لا يفطر وفاقاً لأبي حنيفة والشافعي. المسألة السادسة: الإنزال بالتفكير لا يفطر، خلافاً لمالك. المسألة السابعة: الإمذاء بالمباشرة والاستمناء مفطر، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا، قال في «الفروع» : اختاره الآجري وأبو محمد الجوزي، وأظن: وشيخنا، وهو أظهر. المسألة الثامنة: الإمذاء بتكرار النظر لا يفطّر، خلافاً لمالك، قال في «الفروع» : والقول بالفطر أقيس على المذهب؛ لأن الضعيف إذا تكرر قوي. المسألة التاسعة: الحجامة تفطر الحاجم والمحجوم إن ظهر الدم، وقال الأئمة الثلاثة: لا تفطر، وقيل: إن علما النهي أفطرا وإلا فلا، وقال الشيخ تقي الدين: إن مص الحاجم القارورة أفطر وإلا فلا، وذكر ابن عقيل: يفطر وإن لم يظهر دم. المسألة العاشرة: الفصد لا يفطر، وفيه وجه يفطر، وذكر شيخنا أنه أصح في مذهب أحمد، واختار أنه يفطر من أخرج دمه برعاف أو غيره. المسألة الحادية عشر: القيء إذا استقاء فقاء، لخبر أبي هريرة، قال في «الفروع» : وهو ضعيف عند أحمد والبخاري والترمذي والدارقطني وغيرهم، ويتوجه احتمال: لا يفطر، وذكره البخاري عن أبي هريرة، ويروى عن ابن مسعود وابن عباس وعكرمة، وقاله بعض المالكية ا. هـ. وعلى القول بالفطر هل يفطر بالقليل والكثير أو بملء الفم أو نصفه أو بالفاحش؟ على أقوال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 المسألة الثانية عشر: فعل المفطرات لا يفطر إلا إذا كان عامداً، ذاكراً لصومه، مختاراً، فلو كان ناسياً لم يفطر، خلافاً لمالك، وعنه في الحجامة يفطر لندرة النسيان فيها، وقيل: ومقدمات الجماع، ولو فعله مكرها لم يفطر، سواء فعل به، أو أكره عليه ففعله، ومذهب الحنفية: يفطر؛ لندرة الإكراه، وكذا مالك ومذهب الشافعي: إن فعل به لم يفطر، وإن فعله بنفسه فقولان، وإن أوجر المغمى عليه معالجة لم يفطر لعدم إرادته، وقيل: يفطر لرضاه به ظاهراً، وللشافعية وجهان، ولو فعل المفطرات جاهلاً بالتحريم أفطر، وفي «الهداية» و «التبصرة» : لا يفطر؛ لأنه لم يتعمد المفسد كالناسي، وجمع بينهما في «الكافي» بعدم التأثيم، وإن فعلها جاهلاً بالوقت، كمن أفطر يظن أو يعتقد أنه ليل فبان نهاراً في أوله أو آخره فسد صومه ويقضي، قال في «الفروع» : وتأتي رواية لا قضاء على من جامع جاهلاً بالوقت، واختاره شيخنا، وقال: هو قياس أصول أحمد وغيره، واختار صاحب «الرعاية» إن أكل يظن بقاء الليل فأخطأ لم يقض لجهله، وإن ظن دخوله فأخطأ قضى، وصح عن عمر في الصورة الثانية روايتان: إحداهما القضاء، والأمر به، والثانية: لا نقضي ما تجانفنا لإثم، وقال: قد كنا جاهلين، فعلى هذا لا قضاء في الصورة الأولى، وقاله فيهما الحسن وإسحق والظاهرية، وقاله في الأولى مجاهد وعطاء وبعض الشافعية، والله أعلم. كتبه الفقير إلى الله محمد الصالح العثيمين في 28/8/1387هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282