الكتاب: مناظرات ابن تيمية لأهل الملل والنحل المؤلف: جمع وتعليق: د. عبد العزيز بن محمد بن علي آل عبد اللطيف الناشر: مطابع أضواء المنتدى الطبعة: الأولى، 1426 هـ - 2005 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- مناظرات ابن تيمية لأهل الملل والنحل عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف الكتاب: مناظرات ابن تيمية لأهل الملل والنحل المؤلف: جمع وتعليق: د. عبد العزيز بن محمد بن علي آل عبد اللطيف الناشر: مطابع أضواء المنتدى الطبعة: الأولى، 1426 هـ - 2005 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] مناظرات ابن تيمية لأهل الملل والنحل جمع وتعليق عبد العزيز بن محمد بن علي آل عبد اللطيف أستاذ مساعد، قسم العقيدة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الرياض، المملكة العربية السعودية ملخص البحث. يتحدث البحث في المقدمة: عن براعة ابن تيمية في المناظرات، وتقريره مشروعية المناظرات، وأن للمناظرات أحوالاً متنوعة. ثم ساق الباحث أربع مناظرات لابن تيمية تجاه النصارى، في شركهم وتأليههم المسيح وقولهم بظهور اللاهوت في الناسوت. ثم أتبع ذلك بمناظرات ابن تيمية لأهل الاتحاد ووحدة الوجود، والتي تتميّز بكثرتها وتنوّع مسائلها، وعثر الباحث على مناظرتين لابن تيمية مع القبوريين، إحداهما في شأن تعظيمهم الأحجار، والأخرى في غلوهم في قبور العبيديين، ثم أوجز الباحث مناظرات ابن تيمية للرفاعية نظراً لطولها وشهرتها، ثم أعقب ذلك بمناظرتين للرافضة في مسائل الإمامة، وأما مناظراته نفاة الصفات فقد وقف الباحث على أربع مناظرات، وتضمّنت الخاتمة أهم نتائج البحث.. تقديم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فلا يزال تراث ابن تيمية (1) محل اهتمام الباحثين في مختلف الدراسات الإسلامية، فما أكثر الأبحاث والرسائل العلمية التي كتبتْ عن منهجية هذا الإمام في العلوم الشرعية، وجهوده العلمية، والعملية المتعددة، ومع ذلك فلا تزال جوانب مهمة في هذا الشأن - مجالاً رحباً للباحثين، ومن ذلك: مناظرات (2) ابن تيمية لأهل الملل والنحل، فهو موضوع لم يسبق بحثه، حسب اطلاعي، وأحسب أنه من الموضوعات المهمة، والجديرة بالبحث والدراسة، فهذه المناظرات مبثوتة في بطون   (1) . هو أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، ابن تيمية النميري الحراني، الإمام الفقيه، المجتهد، المحدث، الحافظ، المفسّر، الأصولي، الزاهد، شيخ الإسلام، وعلم الأعلام، أفتى ودرّس وهو دون العشرين، وله مئات التصانيف، توفي سنة 728هـ. انظر: ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/387، والعقود الدرية لابن عبد الهادي، والجامع لسيرة ابن تيمية. (2) . عرّف جمع من العلماء المناظرة فقالوا: هي النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة بين الشيئين إظهاراً للصواب. انظر الكليات للكفوي ص 849، منهج الجدل والمناظرة في تقرير مسائل الاعتقاد لعثمان علي حسن 1/30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 كتب ورسائل شيخ الإسلام ابن تيمية، وكذا في كتب التاريخ والتراجم، فتحتاج إلى استخراج وترتيب، مع شيء من الدراسة والتعليق. وإذا كان من المهم أن ينتفع بمناظرات الأئمة السابقين، وتجاربهم في مجادلة ومناظرة المخالفين، فإن مناظرات ابن تيمية لمخالفيه أكثر أهمية وأعظم نفعاً - كما سيظهر إن شاء الله تعالى -. لا سيما مع هذا الانفتاح الهائل، والتواصل الدائم الذي يعيشه العالم الآن، فقد أظهر ذلك انتشاراً لمختلف العقائد والأفكار، وأوقع الكثير في المناظرات والمحاورات، فإبراز هذه المناظرات يعطي نماذج متميزة، وتطبيقات عملية محكمة في هذا المقام. لقد قمت - ولله الحمد والمنة- باستقراء وتتبع مؤلفات شيخ الإسلام، واستخراج وجمع هذه المناظرات ثم تصنيفها، وقد تعذر ترتيب أكثرها حسب وقوعها لعدم تمكني من معرفة تاريخها، واخترت هذا العنوان "مناظرات ابن تيمية لأهل الملل والنحل " باعتبار أن الملل هي سائر الأديان، وأن النحل سائر طوائف أهل القبلة، كما استعمل ذلك شيخ الإسلام في غير موضع، كقوله: "وهذه الفرقة الناجية أهل السنة، وهم وسط في النحل، كما أن ملة الإسلام وسط في الملل " (1) . فيتضمن البحث مناظرات ابن تيمية للنصارى، ومناظراته لطوائف   (1) . مجموع الفتاوى 3/370، وانظر: مجموع الفتاوى 4/23، 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 متعددة من أهل القبلة، ومن ينتسب إلى الإسلام، كأهل الاتحاد ووحدة الوجود (1) ، والقبوريين، والأحمدية (2) ، والرافضة (3) ، ونفاة الصفات. وما كان من هذه المناظرات مطولاً فقد أوردته مختصراً، كما في مناظرة ابن تيمية للأحمدية، ومناظرته بشأن العقيدة الواسطية. وأسوق - بعد إيراد مناظرة كل طائفة - جملة من التحريرات والتقريرات المستفادة ومن كلام شيخ الإسلام، لما يتحقق فيها مالا يحصل في غيرها، من تجلية لتلك المناظرات واستكمالها، وبيان ملابسات وقوعها، وما تحويه من قواعد المناظرات وآدابها.   (1) . أهل الاتحاد ووحدة الوجود القائلون: أن الله تعالى عين وجود الكائنات. انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية 2/ 172، والكليات للكفوي ص 36. (2) . الأحمدية: طريقة صوفية تنسب إلى أحمد الرفاعي (ت 512هـ) ، وتعرف بالطريقة الرفاعية، وتسمى أيضاً الطائفة البطائحية لأن الرفاعي سكن في قرى البطائح بالعراق، وهذه الطريقة لا تنفك عن محدثات متنوعة، كاتخاذ الخرقة والأذكار المحدثة، وخوارق شيطانية. انظر: سير أعلام النبلاء 21/72، والطرق الصوفية للنجار ص 156. (3) . الرافضة من أكبر طوائف الشيعة، وهم أرباب انحراف في الصفات، وشرك في توحيد العبادة، وغلو في الأئمة، وتضليل للصحابة - رضي الله عنهم - وزعموا أن الإمامة أهم منازل الدين. انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري 2/88، والملل والنحل للشهرستاني 2/162. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ونشير في مطلع هذا البحث إلى ما تحلّى به شيخ الإسلام من براعة في المناظرات، وتقريره مشروعية المناظرات، وبيانه أحوالها، وذلك على النسق التالي: أ) براعة ابن تيمية في المناظرات: تميّز شيخ الإسلام ابن تيمية بدراية فائقة في المناظرات، وقوة حجة، وسرعة بديهة، كما شهد بذلك الأئمة، حتى قال عنه ابن الزملكاني: (1) - " لا يُعرف أنه ناظر أحداً فانقطع معه " (2) . وقال عنه الحافظ الذهبي (3) : - "ما رأيت أحداً أسرع انتزاعاً للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه، ولا أشد استحضاراً لمتون الأحاديث، وعزوها إلى الصحيح أو إلى المسند، أو إلى السنن منه، كأن الكتاب والسنن نصب عينيه، وعلى طرف لسانه، بعبارة رشيقة، وعين مفتوحة، وإفحام للمخالف " (4)   (1) . هو محمد بن علي الأنصاري الشافعي، شيخ الشافعية بالشام، كان معجباً بابن تيمية، ثم تغير عليه، توفي سنة 727هـ. انظر: البداية لابن كثير 14/131، وشذرات الذهب لابن العماد 6/78. (2) . العقود الدرية ابن عبد الهادي ص 7، وانظر ص 67. (3) . هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، الإمام، الحافظ، المؤرخ، ولد سنة 673هـ، بدمشق، له رحلات في طلب العلم، وصاحب مؤلفات كثيرة، توفي بدمشق سنة 748هـ. انظر: طبقات الشافعية 9/100، والبدر الطالع ص 2/110 (4) . ذيل تاريخ الإسلام للذهبي، نقلاً عن الجامع لسيرة شيخ الإٍسلام ابن تيمية ص 206. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وقال أيضاً: "لقد نصر السنة المحضة، والطريقة السلفية، واحتج لها ببراهين، ومقدمات وأمور لم يسبق إليها.. وقام عليه خلق من علماء مصر والشام، قياماً لا مزيد عليه، وبدّعوه، وناظروه، وكابروه، وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق المر الذي أداه إليه اجتهاده، وحدة ذهنه " (1) . وقال ابن عبد الهادي (2) " ثم انفتح له بعد ذلك من الردّ على الفلاسفة والجهمية وسائر أهل الأهواء والبدع، وما لا يوصف ولا يعبر عنه، وجرى له من المناظرات العجيبة والمباحث الدقيقة، في كتبه وغير كتبه، مع أقرانه وغيرهم، في سائر أنواع العلوم ما تضيق العبارة عنه " (3) . ب) مشروعية المناظرة وأهميتها عند ابن تيمية: قرر شيخ الإسلام مشروعية المناظرة وأهميتها، وبيّن أن ذلك حال السلف السابقين، فقال: "وأما جنس المناظرة بالحق فقد تكون واجبة تارة، ومستحبة أخرى". (4) وقال في موطن آخر: " حضّ الله على المناظرة والمشاورة،   (1) . العقود الدرية ص 82 = بتصرف يسير. (2) . أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي، مقرئي، فقيه، أصولي، محدث، له مؤلفات، توفي بدمشق سنة 744هـ. انظر: الدرر الكامنة 3/421، البدر الطالع 2/108. (3) . العقود الدرية ص 67. (4) . الدرء 7/174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 لاستخراج الصواب في الدنيا والآخرة، حيث يقول لمن رضي دينهم: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) كما أمرهم بالمجادلة والمقاتلة، لمن عدل عن السبيل العادلة، حيث يقول آمراً وناهياً لنبيه والمؤمنين، لبيان ما يرضاه منه ومنهم: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} سورة العنكبوت (العنكبوت: 46) . فكان أئمة الإسلام ممتثلين لأمر المليك العلاّم، ويجادلون أهل الأهواء المضلة، حتى يردّوهم إلى سواء الملة، كمجادلة ابن عباس - رضي الله عنهما - للخوارج المارقين، حتى رجع كثير منهم إلى ما خرج عنه من الدين، ومن في قلبه ريب يخالف اليقين " (1) وذكر أن المناظرة المحمودة نوعان، ثم فصّل ذلك قائلاً: "وذلك لأن المناظر إما أن يكون عالماً بالحق، وإما أن يكون طالباً له، فمن كان عالماً بالحق فمناظرته المحمودة أن يبيّن لغيره الحجة التي تهديه إن كان مسترشداً طالباً للحق إذا تبيّن له، أو يقطعه ويكف عدوانه إن كان معانداً غير متبع للحق إذا تبيّن له.. وذلك لان المخالف بالمناظرة إذا ناظره العالم المبيّن للحجة، إما أن يكون ممن يفهم الحق ويقبله، وإما أن يكون ممن لا يقبله إذا فهمه، أو ليس   (1) . تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل 1/3، 4 = بتصرف يسير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 له غرض في فهمه، بل قصده مجرد الردّ له، فهذا إذا نوظر بالحجة انقطع وانكف شرّه عن الناس. وإما أن يكون الحق قد التبس عليه، وأصل قصده الحق، لكن يصعب عليه معرفته لضعف علمه بأدلة الحق، مثل من يكون قليل العلم بالآثار النبوية الدالة على ما أخبر به من الحق، أو لضعف عقله، لكونه لا يمكن أن يفهم دقيق العلم، أو لا يفهمه إلا بعد عسر، أو قد سمع من حجج الباطل ما اعتقد موجبه، وظن أنه لا جواب عنه، فهذا إذا نوظر بالحجة أفاده ذلك، إما معرفة بالحق، وإما شكاً وتوقفاً في اعتقاده بالباطل، وبقيت همته على النظر في الحق وطلبه.." (1) . وأكّد على الجمع بين جدال الكفار وقتالهم، وأنه لا منافاة في حقهم بين الجدال المأمور به، وبين القتال المأمور به (2) ، فكان مما قاله: "وأما مجاهدة الكفار باللسان، فما زال مشروعاً من أول الأمر إلى آخره، فإنه إذا شرع جهادهم باليد، فباللسان أولى، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " جاهدوا المشركين بأيديكم وألسنتكم وأموالكم " (3) وكان ينصب لحسّان منبراً في مسجده، يجاهد فيه المشركين بلسانه جهاد هجو، وهذا كان بعد نزول   (1) . الدرء 7/ 167، 168 = باختصار (2) . انظر الجواب الصحيح 1/67 (3) . أخرجه أبو داود، ك الجهاد ح (2504، وأحمد 3/124، والحاكم 2/81، وصحح النووي إسناده في رياض الصالحين ح (1349) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 آيات القتال، وأين منفعة الهجو من منفعة إقامة الدلائل والبراهين على حجة الإسلام، وإبطال حجج الكفار من المشركين وأهل الكتاب؟ (1) . وعظّم شأن مناظرة المخالفين ودحض شبهاتهم فقال: " كل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه، ولا وفى بموجب العلم والإيمان، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور، وطمأنينة النفوس " (2) خلاصة ما سبق أن المناظرة مشروعة (3) ، كما هو حال السلف الصالح، وقد تكون مناظرة الكفار ومجاهدتهم باللسان أولى من الجهاد باليد، كما أن القيام بها وإظهار الحجة فيها من حقوق الإسلام وموجباته، لا سيما إذا كان المناظر عالماً بالحق. جـ) أحوال المناظرات عند ابن تيمية: بيّن شيخ الإسلام أن للمناظرات أحوالاً وأطواراً منها: - " إن كان الإنسان في مقام دفع من يلزمه ويأمره ببدعة، ويدعوه   (1) . الجواب الصحيح 1/74 (2) . الدرء 1/ 357، وانظر: التسعينية 1/ 232 (3) . ومما يحسن ذكره هاهنا أن نورد تقرير مشروعية المناظرة كما سطّره ابن القيم ضمن فوائد قصة وفد نجران بقوله: "جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم، بل استحباب ذلك، بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته من إسلام من يُرجى إسلامه منهم، وإقامة الحجة عليهم، ولا يهرب عن مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة، فليولّ ذلك إلى أهله.." زاد المعاد 3/639. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 إليها، أمكن الاعتصام بالكتاب والسنة، وأن يقول لا أجيبك إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله، بل هذا هو الواجب مطلقاً. " (1) . - " وإما إذا كان الإنسان في مقام الدعوة لغيره والبيان له، وفي مقام النظر أيضاً، فعليه أن يعتصم أيضاً بالكتاب والسنة ويدعو إلى ذلك، وله أن يتكلم مع ذلك، ويبيّن الحق الذي جاء به الرسول بالأقيسة العقلية والأمثال المضروبة، فهذه طريقة الكتاب والسنة وسلف الأمة. " (2) - " وإذا كان المتكلم في مقام الإجابة لمن عارضه بالعقل، وادعّى أن العقل يعارض النصوص، فإنه قد يحتاج إلى حل شبهته وبيان بطلانها، فإذا أخذ النافي يذكر ألفاظاً مجملة.. فهنا يستفصل السائل ويقول له: ماذا تريد بهذه الألفاظ المجملة؟ فإن أراد بها حقاً وباطلاً، قُبِل لحق ورُدّ الباطل. " (3) وبيّن شيخ الإسلام أن من امتنع عن التكلم بالألفاظ المجملة نفياً واثباتاً في هذا المقام قد ينسب إلى العجز والانقطاع، وإن تكلم بها دون تفصيل، نسبوه إلى أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقاً وباطلاً (4) . ولما قرر شيخ الإسلام مشروعية المناظرة وأحوالها، ذكر جملة من   (1) . الدرء 1/234. (2) . الدرء 1/ 235، 236. (3) . الدرء 1/ 238. (4) . انظر الدرء 1/ 229. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الأحوال التي ينهى السلف فيها عن المناظرة فقال: " وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة، إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجة وجواب الشبهة، فيُخاف عليه أن يفسده ذلك المضلّ، كما يُنهى الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجاً قوياً من علوج الكفار، فإن ذلك يضرّه ويضر المسلمين بلا منفعة، وقد ينهى عنه إذا كان المناظر معانداً يظهر له الحق فلا يقبله - وهو السوفسطائي - فإن الأمم كلهم متفقون على أن المناظرة إذا انتهت إلى مقدمات معروفة، بيّنة بنفسها، ضرورية، وجحدها الخصم كان سوفسطائياً، ولم يؤمر بمناظرته بعد ذلك، بل إن كان فاسد العقل داووه، وإن كان عاجزاً عن معرفة تركوه، وإن كان مستحقاً للعقاب عاقبوه مع القدرة " (1) وبهذا يتبين أن المناظرة المشروعة لها أحوال، منها: إن كان في مقام دفع من يلزمه ببدعة فعليه أن لا يجيب إلا إلى نصوص الوحيين، كما في مناظرة الإمام أحمد للجهمية (2) . وإن كان في مقام الدعوة لغيره، فعليه أن يعتصم بالكتاب والسنة، وما يبيّن ذلك من الأقيسة العقلية، كما نلحظ في مناظرة ابن تيمية لأهل الاتحاد ووحدة الوجود - كما سيأتي إن شاء الله - وإن كان في مقام الإجابة لمن عارضه بالعقل، فيحتاج إلى حلّ شبهته وبيان بطلانها، كما   (1) . الدرء 7/173. (2) . انظر الدرء 1/230. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 فعل ابن تيمية في مناظرته لنفاة الرؤية - كما هو مبسوط في موضعه من هذا البحث - وقد يُنهى عن المناظرة إن كان المناظر ضعيف العلم، أو كان معانداً مكابراً.. وسنورد مناظرات ابن تيمية لأهل الملل والنحل على النسق التالي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 1 - مناظرات ابن تيمية للنصارى: المناظرة الأولى: حكى شيخ الإسلام مناظرته للنصارى في القاهرة فقال: "لما قدمت القاهرة اجتمع بي بعض معظميهم من الرهبان، وناظرني في المسيح ودين النصارى، حتى بيّنت له فساد ذلك، وأجبته عما يدعيه من الحجة. وكان من أواخر ما خاطبت به النصراني أن قلت له: أنتم مشركون، وبيّنت من شركهم ما هم عليه من العكوف على التماثيل والقبور، وعبادتها، والاستغاثة بها. قال لي: نحن ما نشرك بهم ولا نعبد هم، وإنما نتوسل بهم، كما يفعل المسلمون إذا جاءوا إلى قبر الرجل الصالح، فيتعلقون بالشباك الذي عليه ونحو ذلك. فقلت له: وهذا أيضاً من الشرك، ليس هذا من دين المسلمين، وإن فعله الجهال، فأقر أنه شرك، حتى إن قسيساً كان حاضراً في هذه المسألة، فلما سمعها قال: نعم، على هذا التقدير نحن مشركون " (1) . المناظرة الثانية - وقال - أثناء حديثه عمن تلبّس بالشرك: - " وهؤلاء   (1) . مجموع الفتاوى 27/ 461، 462 - باختصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 يجعلون الرسل والمشايخ يدبرون العالم بالخلق والرزق، وقضاء الحاجات وكشف الكربات، وهذا ليس من دين المسلمين، بل النصارى تقول هذا في المسيح وحده لشبهة الاتحاد والحلول، ولهذا لم يقولوا ذلك في إبراهيم وموسى وغيرهما من الرسل، مع أنهم في غاية الجهل في ذلك، فإن الآيات التي بعث بها موسى أعظم، ولو كان الحلول ممكناً لم يكن للمسيح خاصية توجب اختصاصه بذلك، بل موسى أحق بذلك، ولهذا خاطبتُ من خاطبتُ من علماء النصارى، وكنتُ أتنزّل معهم إلى أن أطالبهم بالفرق بين المسيح وغيره من جهة الإلهية، فلم يجدوا فرقاً، بل أبيّن لهم أن ما جاء به موسى من الآيات أعظم، فإن كان هذا حجة في دعوى الإلهية فهو أحق" (1) . المناظرة الثالثة: ولما سجن شيخ الإسلام بمصر سنة 707هـ، حصلت له مناظرة مع رهبان النصارى كما أوردها تلميذه إبراهيم بن أحمد الغياني (2) قائلاً: " ولما كان الشيخ في قاعة الترسيم (3) ، دخل عنده ثلاثة رهبان من الصعيد، فناظرهم وأقام عليهم الحجة بأنهم كفار، وما هم على الدين الذي كان عليه إبراهيم والمسيح، فقالوا له: نحن نعمل مثل ما   (1) . الرد على البكري ص 327، وانظر مجموع الفتاوى 15/ 228 (2) . لم أعثر له على ترجمة. (3) . الترسيم نوع من الحبس انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 35 / 399، 15/136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 تعملون، أنتم تقولون بالسيدة نفيسة (1) ، ونحن نقول بالسيدة مريم، قد أجمعنا نحن وأنتم على أن المسيح ومريم أفضل من الحسين ومن نفيسة، وأنتم تستغيثون بالصالحين الذي قبلكم، ونحن كذلك. فقال لهم: وإن من فعل ذلك ففيه شبه منكم، وهذا ما هو دين إبراهيم الذي كان عليه، فإن الدين الذي كان إبراهيم عليه أن لا نعبد إلا الله وحده، لا شريك له، ولا ندّ له، ولا صاحبة له، ولا ولد له، ولا نشرك معه ملكاً، ولا نبياً، ولا صالحاً، وإن الأمور التي لا يقدر عليها غير الله لا تطلب من غيره مثل تفريج الكربات، وغفران الذنوب. والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - نؤمن بهم ونعظمهم، ونصدّقهم في جميع ما جاءوا به ونطيعهم كما قال نوح وصالح وهود وشعيب: أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون، فجعلوا العبادة والتقوى لله وحده، والطاعة لهم، فإن طاعتهم من طاعة الله، فلو كفر أحد بنبيّ من الأنبياء وآمن بالجميع ما نفعه إيمانه حتى يؤمن بذلك النبي.   (1) . هي نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنهما، وهي من الصالحات العابدات، كانت في المدينة ثم تحولت إلى مصر، وتوفيت بها سنة 208 هـ. انظر سير أعلام النبلاء 10/106، البداية والنهاية 10/262، شذرات الذهب 2/21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 فلما سمعوا ذلك منه قالوا: الدين الذي ذكرته خير من الدين الذي نحن وهؤلاء عليه" (1) المناظرة الرابعة: وردّ على النصارى تشبيههم ظهور اللاهوت في الناسوت بظهور الروح في البدن، وأنه إذا كان البدن يتألم بما يصيب الروح من الألم، فيلزم النصارى أن يكون الناسوت لما صلب وتوجّع أن يكون أيضاً اللاهوت متوجعاً، ثم ساق هذه المناظرة: "وقد خاطبت بهذا بعض النصارى، فقال لي: الروح بسيطة، أي لا يلحقها ألم، فقلت له: فما تقول في أرواح الكفار بعد الموت أمنعّمة، أو معذبة؟ فقال: هي في العذاب، فقلت: فعلم أن الروح المفارقة تنعم وتعذّب، فإذا شبهتم اللاهوت في الناسوت، بالروح في البدن، لزم أن تتألم إذا تألم الناسوت، كما تتألم الروح إذا تألم البدن. فاعترف هو وغيره بلزوم بذلك (2) ". وبالنظر في تلك المناظرات وما يجليها من تقريرات لشيخ الإسلام، نسوق الأمور التالية: 1 - لا يخفى الأثر السلبي لانحراف المنتسبين إلى الإسلام، وكيف احتج به النصارى هاهنا في تسويغ شركهم، فالنصارى يشركون المسيح   (1) . الجامع لسيرة ابن تيمية ص 89، 90 = باختصار، وانظر مجموع الفتاوى 1/ 370، 371 (2) . الجواب الصحيح 2/ 172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 ومريم، كما أن من المسلمين من يشرك الحسين - رضي الله عنه - ونفيسة. ورحم الله ابن القيم (1) إذ يقول: " ولقد دعونا نحن وغيرنا كثيراً من أهل الكتاب إلى الإسلام، فأخبروا أن المانع لهم ما يرون عليه المنتسبين إلى الإسلام، ممن يعظّمهم الجهال من البدع والظلم والفجور والمكر والاحتيال، ونسبة ذلك إلى الشرع، ولمن جاء به، فساء ظنهم بالشرع وبمن جاء به. فالله طليب قطّاع طريق الله وحسيبهم. " (2) ومع هذا الانحراف في واقع المسلمين، إلا أن ابن تيمية كان صاحب استعلاء في إيمانه، ورسوخ في حجته، فقد أقام عليهم الحجة، فاعترفوا بشركهم، وصحة دين الإسلام، بل إن بعض النصارى أسلم على يد ابن تيمية وحسن إسلامه، كداود المتطبب (3) ، والذي صار من علماء أهل السنة، وصنّف كتاباً في الطب النبوي.   (1) . هو الشيخ العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي، برع في علوم متعددة، كان جريئ الجنان، واسع العلم، عارفاً بالخلاف، ومذهب السلف، له تصانيف كثيرة، توفي بدمشق سنة 751هـ. انظر: البداية والنهاية 14/ 234، الدرر الكامنة 4/21. (2) . إغاثة اللهفان 2/416. (3) . هو داود بن أبي الفرج الدمشقي، أسلم على يد بن تيمية سنة 701هـ، وصنف كتاب الطب النبوي وحكى فيه نصوصاً عن أحمد، توفي داود سنة 737هـ. انظر الجوهر المنضّد لابن عبد الهادي (ابن المبرد) ص 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 2 - بيّن ابن تيمية من خلال مناظرته في السجن - مناقضة النصارى لدين الإسلام الذي بعث الله به جميع المرسلين، وقد عُني ابن تيمية في مواطن كثيرة بتقرير هذا الإسلام العام وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له (1) . ومن ذلك قوله: " والذي أنزله الله هو دين واحد اتفقت عليه الكتب والرسل، وهم متفقون في أصول الدين وقواعد الشريعة، وإن تنوّعوا في الشريعة والمنهاج. - إلى إن قال- فإن المسلمين واليهود والنصارى متفقون على أن في الكتب الإلهية الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وأنه أرسل إلى الخلق رسلاً من البشر، وأنه أوجب العدل وحرّم الظلم والفواحش والشرك، وأمثال ذلك من الشرائع الكلية (2) " 3 - لم يتردد شيخ الإسلام في الحكم على تلك الأعمال التي تلبّس بها من يدّعى الإسلام، فبيّن أن طلب الشفاعة شرك سواءً فعله نصراني أو من ينتسب إلى الإسلام (3) .   (1) . انظر: الجواب الصحيح 1/ 11، 376، والتدمرية ص 168، اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 831، مجموع الفتاوى 19/ 106. (2) . الجواب الصحيح 1/ 376، 377 = باختصار (3) . ومما يلحق بذلك ما حكاه ابن حزم من تحريف النصارى والإنجيل، واحتجاجهم على أهل الإسلام بمقالة الرافضة بتبديل القرآن.. فأجاب ابن حزم قائلاً: الروافض ليسوا من المسلمين، وأنها طائفة تجري مجرى اليهود والنصارى في الكذب والكفر. " الفصل 2/213. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ونظير ذلك أنه لما ساق اعتراض بعضهم بأن الغلو والشرك والبدع في الرافضة موجودٌ في كثير من المنتسبين إلى السنة، أجاب قائلاً: "هذا كله مما نهى الله عنه ورسوله، وكل ما نهى الله عنه ورسوله فهو مذموم منهي عنه، سواءً كان فاعله منتسباً إلى السنة أو إلى التشيع.." (1) . 4 - فرّق ابن تيمية - اتباعاً للنصوص الشرعية - بين ما كان حقاً لله تعالى وحده كالعبادة والتقوى، وما كان حقاً لرسوله كالطاعة، فإن من يطع الرسول فقد أطاع الله، وقد قرر ذلك في مواضع كثيرة (2) . ومن ذلك قوله: "والله سبحانه له حقوق لا يشركه فيها غيره، وللرسل حقوق لا يشركهم فيها غيرهم، وللمؤمنين بعضهم على بعض حقوق مشتركة، فالله تعالى مستحق أن نعبده ولا نشرك به شيئاً، وهذا أصل التوحيد الذي بعثت به الرسل. ويدخل في ذلك أن لا نخاف إلا إياه، ولا نتقي إلا إياه، كما قال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (النور: 52) فعجل الطاعة لله وللرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده " (3) .   (1) . منهاج السنة النبوية 1/ 483 (2) . انظر: منهاج السنة النبوية 2/ 446، والتدمرية ص 199، واقتضاء الصراط المستقيم 2/ 826، مجموع الفتاوى 1/181، 10/36 (3) . اقتضاء الصراط المستقيم 2/825، 826 = باختصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 5 - ذكر ابن تيمية: بعد إحدى المناظرات السابقة - أن " النصارى يفرحون بما يفعله أهل البدع والجهل من المسلمين مما يوافق دينهم، ويشابهونهم فيه، ويحبون أن يجعلوا رهبانهم مثل عبّاد المسلمين، وقسيسيهم مثل علماء المسلمين، فإن عقلاءهم لا ينكرون صحة دين الإسلام، بل يقولون: هذا طريق إلى الله، وهذا طريق إلى الله (1) . " كما حذّر شيخ الإسلام وغلّظ من تسويغ اتباع النصرانية أو اليهودية، كما عليه أكثر اليهود والنصارى، والذين يرون دين المسلمين واليهود والنصارى بمنزلة المذاهب الأربعة في دين المسلمين، فتحدّث عن هذه المسألة في غير موضع (2) ، فقال: "ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين باتفاق جميع المسلمين أن من سوّغ غير دين الإسلام، أو اتباع شريعة غير شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر، وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب، وكفر ببعض الكتاب " (3) . 6- أظهر شيخ الإٍسلام - في المناظرة الرابعة - تهافت قول النصارى في تشبيههم ظهور اللاهوت في الناسوت بظهور الروح في البدن، وما يلزمهم من التنقص لله عز وجل.   (1) . مجموع فتاوى 17/ 462 = باختصار (2) . انظر: الرد على المنطقيين ص 282، مجموع الفتاوى 17/ 463، 28/ 523. (3) . مجموع الفتاوى 28/524 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 كما كشف ابن تيمية ذاك التناقض الصريح عند النصراني عند ما زعم أن الروح لا يلحقها ألم، مع أنه مقرّ بأن أرواح الكفار في ألم وعذاب، كما هو عند النصارى (1) . وهذه المناظرة غيض من فيض في تناقض النصارى واضطرابهم. ورحم الله ابن حزم (2) إذ يقول في وصفهم: " ولولا أن الله تعالى وصف قولهم في كتابه إذ يقول: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} (سورة المائدة: 73) لما انطلق لسان مؤمن بحكاية هذا القول العظيم الشنيع.. وتالله لولا أننا شاهدنا النصارى، ما صدقنا أن في العالم عقلاً يسع هذا الجنون " (3) . وقال ابن تيمية في هذا الشأن: " قال طائفة من العقلاء: إن عامة مقالات الناس يمكن تصورها إلا مقالة النصارى، وذلك أن الذين وضعوها لم يتصوروا ما قالوا، بل تكلموا بجهل، وجمعوا في كلامهم بين النقيضين، ولهذا قال بعضهم: لو اجتمع عشرة نصارى لتفرقوا عن أحد عشر قولاً (4) "   (1) . انظر: اليوم الآخر بين اليهودية والمسيحية والإسلام لفرج الله عبد الباري ص 97 (2) . هو أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الظاهري الأندلسي، فقيه حافظ، وأديب، وزير، صاحب التصانيف المشهورة، توفي سنة 456 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 18/184، وشذرات الذهب 3/ 299. (3) . الفصل 1/111، 112 = باختصار (4) . الجواب الصحيح 2/ 155، وانظر: إغاثة اللهفان لابن القيم 2/ 400، 414 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 2- مناظرات ابن تيمية لأهل الاتحاد ووحدة الوجود: عني شيخ الإسلام بمناظرات أهل الاتحاد ووحدة الوجود عناية ظاهرة، كما امتحن وأوذي بسببهم، فحكى مناظراته المتعددة لهم، وأوردها مختصرة في مواطن، وبسطها في مواطن أخرى، وسنورد - بعد التتبع والاستقراء - جملة من تلك المناظرات كما صاغها شيخ الإسلام، وذلك على النحو الآتي: أ) المناظرة الأولى: يقول شيخ الإسلام: "وقد كان عندنا بدمشق الشيخ المشهور الذي يقال له ابن هود، وكان من أعظم من رأيناه من هؤلاء الاتحادية زهداً ومعرفة، وكان أصحابه يعتقدون فيه أنه الله، وأنه - أعنى ابن هود (1) - هو المسيح بن مريم، ويقولون: إن أمه كان اسمها مريم، وكانت نصرانية، ويعتقدون أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "ينزل فيكم ابن مريم " (2) هو هذا وأن روحانية عيسى تنزل عليه. وقد ناظرني في ذلك من كان أفضل الناس إذ ذاك معرفة بالعلوم   (1) . ابن هود هو حسن بن علي المغربي الأندلسي، متصوف فيلسوف، له صلة باليهود، صاحب شطح وذهول، هلك سنة 699هـ. انظر، شذرات الذهب 5/446، والأعلام 2/203. (2) . أخرجه البخاري ك الأنبياء ح (3448، ومسلم ك الإيمان ح (242) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الفلسفية وغيرها، مع دخوله في الزهد والتصوف، وجرى لهم في ذلك مخاطبات ومناظرات يطول ذكرها جرت بيني وبينهم، حتى بيّنت لهم فساد دعواهم بالأحاديث الصحيحة الواردة في نزول عيسى بن مريم، وأن ذلك الوصف لا ينطبق على هذا، وبيّنت فساد ما دخلوا فيه من القرمطة، حتى ظهرت مباهلتهم وحلفت لهم أن ما ينتظرونه من هذه لا يكون ولا يتم، وأن الله لا يتم أمر هذا الشيخ، فأبر الله تلك الأقسام، والحمد لله رب العالمين، هذا مع تعظيمهم لي بمعرفتي عندهم، وإلا فهم يعتقدون أن سائر الناس محجوبون جهال بحقيقتهم وغوامضهم، حتى قال لي شيخ مشهور من شيوخهم لما بيّنت له حقيقة قولهم، فأخذ يستحسن ويعظم معرفتي بقولهم، وقال: هؤلاء الفقهاء صم بكم عمي فهم لا يعقلون، فقلت له: هب أن الفقهاء كذلك أبالله أهذا القول موافق لدين الإسلام؟ وقال لي بعض من كان يصدق هؤلاء الاتحادية ثم رجع عن ذلك، فكان من أفضل الناس وأكابرهم، ما المانع من أن يظهر الله في صورة بشر؟ والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في الدجال " إنه أعور (1) ، وإن ربكم ليس بأعور " فلولا جواز ظهوره في هذه الصورة لما احتاج إلى هذا في كلام له.. فبيّنت له امتناع ذلك من وجوه، وتكلمت معه في ذلك بكلام طال عهدي به، لستُ أضبطه الآن، حتى تبيّن له بطلان ذلك، وذكرتُ له أن هذا الحديث   (1) . أخرجه البخاري ك الفتن ح (7127) ، ومسلم ك الإيمان ح (2933) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 لا حجة فيه، والله سبحانه قد بيّن عبودية المسيح وكفر من ادعى فيه الإلهية (1) . ب) المناظرة الثانية: وسطّر شيخ الإسلام مناظرة أخرى مع أهل وحدة الوجود فقال: "ولما اجتمع بي بعض حذّاقهم، وعنده أن هذا المذهب هو غاية التحقيق الذي ينتهي إليه الأكملون من الخلق، ولا يفهمه إلا خواصهم، وذكر أن الإحاطة هو الوجود المطلق. قلت له: فأنتم تثبتون أمركم على القوانين المنطقية، ومن المعروف في قوانين المنطق أن المطلق لا يوجد في الخارج مطلقاً، بل لا يوجد إلا معيناً، فلا يكون الوجود المطلق موجوداً في الخارج، فبُهت، ثم أخذ يفتش لعلّه يظفر بجواب، فقال: نستثني الوجود المطلق من الكليات، فقلت له: غُلبت، وضحكتُ لظهور فساد كلامه. وذلك أن القانون المذكور لو فرّق فيه بين مطلق ومطلق لفسد القانون، ولأن هذا فرق بمجرد الدعوى والتحكم، ولأن ما في القانون صحيح في نفسه وإن لم يقولوه، وهو يعم كل مطلق (2) . "وقال لي رجل من أعيانهم: بلغنا أنك ترد على الشيخ عبد الحق (3) ، نحن نقول إن الناس ما يفهمون كلامه، فإن كنت تشرحه   (1) . السبعينية (بغية المرتاد) ص 520، 521 = باختصار (2) . الصفدية 1/296. (3) . وهو ابن سبعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 لنا وبيّن فساده قبلناه وإلا فلا. فقلت له: نعم، أنا أبيّن لك مراده من كتبه كالبُد والإحاطة والفقرية (1) وغير ذلك. فقال: عندنا الكتاب الخاص الذي يسمى "لوح الأصالة" وهو سر السر، وهو الذي نطلب بيانه، ولم أكن رأيته، فذهب وجاء به، ففسرته له حتى تبين مراده، وكتب أسئلة سألني عنها تكلمت فيها على أصل قولهم، وقول ابن عربي وابن سيناء ومن ضاهى هؤلاء، وبينت له أن أصل قولهم يرجع إلى الوجود المطلق، ثم بيّنت له أن المطلق لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان، وكان له فضيلة، فلما تبيّن له ذلك أخذ يصنف في الرّد عليهم، وذهب إلى شيخ كبير منهم فقال له: بلغني أنك جرى بينك وبين فلان كلام، قال: نعم، قال: أي شيء قال لك؟ قال: فقال لي: آخر أمركم ينتهي إلى الوجود المطلق، قال: جيد، قال: بأي شيء يرد ذلك؟ قال: المطلق إنما هو في الأذهان لا في الأعيان، فقال: أخرب بيوتنا وقلع أصولنا " (2)   (1) . كتاب البدُ وهو كتاب بد العارف لابن سبعين، وهو مطبوع بتحقيق د. جورج، كما حققه عبد الرحمن بدوي، والإحاطة إحدى رسائل ابن سبعين، وقد طُبعت ضمن رسائل ابن سبعين بتحقيق عبد الرحمن بدوي، والرسالة الفقرية ولوح الأصالة من رسائل ابن سبعين أيضاً. انظر: النبوات لابن تيمية 1/ 399، الوحدة المطلقة عند ابن سبعين لمحمد ياسر شرف ص 35-38. (2) . الصفدية 1/ 302، 303، وانظر: النبوات 1/ 398 - 401 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وأضاف شيخ الإسلام - في مصنف آخر - قائلاً: (1) "وسألني هذا عما يحتجون به من الحديث مثل الحديث المذكور في العقل (2) ، ومثل حديث: كنتُ كنزاً لا أعرف فأحببتُ أن أعرف وغير ذلك؟ فكتبتُ جواباً مبسوطاً، وذكرتُ أنّ هذه الأحاديث موضوعة (3) " جـ) المناظرة الثالثة: ومن مناظراته ومخاطباته لشيوخ تلك الطائفة ما حكاه قائلاً: " وقد خاطبني مرة شيخ من هؤلاء، وكان ممن يظن أن الحلاّج (4) قال: "أنا الحق " لكونه كان في هذا التوحيد، فقال: الفرق بين فرعون والحلاّج أن فرعون قال: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (سورة النازعات: 24) وهو يشير إلى نفسه، وأما الحلاج فكان فانياً عن نفسه، والحق نطق على لسانه، فقلت له: أفصار الحق في قلب الحلاج ينطق على لسانه، كما ينطق الجني على لسان المصروع. وهو سبحانه بائن عن قلب الحلاج وغيره من المخلوقات، فقلب الحلاج أو غيره كيف يسع ذات الحق؟ ثم الجنّي يدخل في جسد الإنسان، لا يكون الجني في قلبه فقط، فإن القلب كل ما قام به فإنما هو عرض من   (1) . يعنى الحديث الموضوع: "أول ما خلق الله العقل.. الخ " وانظر تفصيل الكلام عن هذا الحديث في السبعينية ص 171 - 182، والصفدية 1/233. (2) . النبوات 1/ 402. (3) . هو الحسين بن منصور الحلاّج، نشأ بتستر وخالط الصوفية وزعم أن الله حل فيه، فأمر الخليفة المقتدر بصلبه وقتله سنة 309 هـ. انظر: تاريخ بغداد 8/112-141، سير أعلام النبلاء 14/313 - 354. (4) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الأعراض، ليس شيئاً موجوداً قائماً بنفسه.. وهؤلاء قد يدّعون أن ذات الحق قامت بقلبه فقط، فهذا يستحيل في حق المخلوق فكيف بالخالق جل جلاله؟ (1) . د) المناظرة الرابعة: ودّون شيخ الإسلام مناظرة رابعة مع الاتحادية فقال: "وقد خاطبني مرة شيخ من شيوخ هؤلاء الضلال، لما قدم التتار آخر قدماتهم، وكنت أحرض الناس على جهادهم، فقال لي هذا الشيخ: أقاتل الله؟ فقلت له: هؤلاء التتار هم الله، وهم من شر الخلق؟ هؤلاء خارجون عن دين الله، وإن قدر أنهم كما يقولون فالذي يقاتلهم هو الله، ويكون الله يقاتل الله؟ وقول هذا الشيخ لازم هذا وأمثاله (2) ". بالنظر إلى تلك المناظرات وملابسات وقوعها وما يلحق بها، تظهر الأمور الآتية: 1- اهتم شيخ الإسلام بمناظرة أهل وحدة الوجود، وقرر بطلان مذهبهم في عدة مصنفات، نظراً لعظم محنتهم، وتفاقم شأنهم، كما أوضحه بقوله: "ولهذا لما وقعت محنة هؤلاء بمصر والشام، وأظهروا مذهب الجهمية الذي هو شعارهم في الظاهر، وكتموا مذهب الاتحادية الذي هو حقيقة تجهمهم، وأضلوا بعض ولاة الأمور حتى يرفعوا   (1) . منهاج السنة النبوية 5/378، 379 = باختصار يسير (2) . الرد على البكري ص 191، وانظر مجموع الفتاوى 2/309. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 إخوانهم، ويهينوا من خالفهم، وصار كل من كان إلى الإسلام أقرب، أقصوه وعزلوه وخفضوه، وكل من كان عن الإسلام أبعد رفعوه، حتى رفعوا شخصاً كان نصرانياً وصّيروه بعد الإسلام سبعينياً" (1) فرفعوا درجته حتى جعلوا لا يصل إلى أحد رزق، ولا ولاية إلا بخطه، هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً، حتى أزال الله كلمتهم عن المسلمين، وأذلهم بعد العز، وأهلك من أهلك منهم، وكشف أسرارهم وهتك أستارهم (2) . وذكر شيخ الإسلام - في موضع آخر - أن ما جرى للمؤمنين مع أولئك الاتحادية هي أشهر المحن الواقعة في الإسلام (3) . 2- بيّن ابن تيمية شناعة كفرهم، وكشف عن زندقتهم - في مواطن كثيرة - فكان مما قاله: "وأما ما جاء به هؤلاء من الاتحاد العام، فما علمتُ أحداً سبقهم إليه إلا من أنكر وجود الصانع، مثل فرعون والقرامطة، وذلك أن حقيقة أمرهم أنهم يرون أن عين وجود الحق هو عين وجود الخلق، وأن وجود ذات الله خالق السموات والأرض، هي نفس وجود المخلوقات، فلا يتصور عندهم أن يكون الله تعالى خلق غيره، ولا أنه   (1) . على طريقة ابن سبعين، وهو عبد الحق الرقوطي، اشتغل بالفلسفة فأصابه إلحاد، وجاور بغار حراء راجياً النبوة، هلك عام 669هـ انظر البداية والنهاية 13/61، وشذرات الذهب 5/ 329. (2) . الصفدية 1/ 271، 272 = باختصار يسير (3) . انظر السبعينية ص 527 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 رب العالمين.. " (1) . إلى أن قال: " وكنت أخاطب بكشف أمرهم لبعض الفضلاء الضالين، وأقول إن حقيقة أمرهم هو حقيقة قول فرعون، المنكر لوجود الخالق الصانع، حتى حدثني بعض عن كثير من كبرائهم أنهم يعترفون ويقولون نحن على قول فرعون. " (2) . وقال في موضع آخر: " فإن هؤلاء حقيقة قولهم تعطيل الصانع، وأنه ليس وراء الأفلاك شيء، فلو عدمت السموات والأرض لما يكن ثمّ شيء موجود، ولهذا كان يصرح بذلك التلمساني، وهو كان أعرفهم بقولهم وأكملهم تحقيقاً له، ولهذا خرج إلى الإباحة والفجور، وكان لا يحرّم الفواحش ولا المنكرات، ولا الكفر والفسوق والعصيان. وحدثني الثقة الذي رجع عنهم لما انكشفت له أسرارهم أنه قرأ عليه، "فصوص الحكم " لابن عربي، قال: فقلت له: هذا الكلام يخالف القرآن. فقال القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا (3) . ومعلوم أن أصول الإيمان ثلاثة: الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر، وهم ألحدوا في الأصول الثلاثة، أما الإيمان بالله فجعلوا وجود المخلوق هو وجود الخالق، وهذا غاية التعطيل، وأما الإيمان باليوم الآخر، فادعى   (1) . مجموع الفتاوى 2/ 466 (2) . مجموع الفتاوى 2/ 468 (3) . انظر: مجموع الفتاوى 2/ 127 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 ابن عربي أن أصحاب النار يتنعمون في النار، كما يتنعم أهل الجنة، وأنه يسمى عذاباً من عذوبة طعامه. ولهذا قال بعض أصحابنا لهؤلاء الملاحدة: الله يذيقكم هذه العذوبة. وأما الإيمان بالرسل فقد ادعوا أن خاتم الأولياء أعلم بالله من خاتم الأنبياء، وأن خاتم الأنبياء هو وسائر الأنبياء يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء " (1) . 3- مع أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد امتحن بسببهم، فشكوه إلى الدولة (2) ، إلا أنه ظل شديد الإنكار عليهم مباشراً الاحتساب بنفسه، وأكّد على أهمية الاحتساب عليهم، وأن القيام عليهم من آكد الواجبات، فقال: " إن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات، لأنهم أفسدوا العقول والأديان، على خلق من المشايخ والعلماء، والملوك والأمراء، وهم يسعون في الأرض فساداً، ويصدون عن سبيل الله " (3) وقال في موضع آخر: " إن إنكار هذا المنكر الساري في كثير من المسلمين أولى من إنكار دين اليهود والنصارى، الذي لا يضل به المسلمون، لاسيما وأقوال هؤلاء شر من أقوال اليهود والنصارى   (1) . الصفدية 1/ 244 - 247 = باختصار (2) . انظر: العقود الدرية ص 178، البداية والنهاية 14/45، والدرء 5/ 170 (3) . مجموع الفتاوى 2/ 132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وفرعون، ومن عرف معناها واعتقدها كان من المنافقين. وليس لهذه المقالات وجه سائغ.. فإن ضررها على المسلمين أعظم من ضرر السموم التي يأكلونها ولا يعرفون أنها سموم.. فهؤلاء يسقون الناس شراب الكفر والإلحاد في آنية أنبياء الله وأوليائه، ويلبسون ثياب المجاهدين في سبيل الله، وهو في الباطن من المحاربين لله ورسوله " (1) . كما تحدث عن نفاقهم وتلونهم، وإنكاره عليهم فقال: " فإن أحد هؤلاء إن أمكن أن يدّعي الإلهية أو النبوة، ولو بعبارة غريبة لا ينفر عنه الناس فعل، حتى كان في زماننا غير واحد ممن اجتمع بي وأنكرت عليه، وجرى لنا في القيام عليهم فصول ممن يدّعي الرسالة ظاناً أن هذا يسلم له، إذا لم تسلّم له النبوة، فيدّعون الرسالة، فإذا جاء من يخاف منه من العلماء، ادّعى أحدهم الإرسال العام الكوني كإرسال الرياح وإرسال الشياطين " (2) . ومن وقائع احتسابه عليهم ما كتبه قائلاً: "وغاية من تجده يتحرى الحق منهم أن يقول: العالم لا هو الله ولا غير الله. ولما وقعت محنة هؤلاء الملاحدة المشهورة، وجرى فيها ما جرى من الأحوال، ونصر الله الإسلام عليهم، طلبنا شيوخهم لنتوّبهم، فجاء من   (1) . مجموع الفتاوى 2/ 359، 360 = باختصار (2) . السبعينية ص 391، 392 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 كان من شيوخهم، وقد استعد لأن يظهر عندنا غاية ما يمكن أن يقوله لنا ليسلم من العقاب، فقلنا له: العالم هو الله أو غيره؟ فقال: لا هو الله ولا غيره. وهذا كان عنده هو القول الذي لا يمكن أحد أن يخالف فيه، ولو علم أنا ننكره لما قاله لنا، وكان من أعيان شيوخهم ومحققيهم (1) " 4- تضمنت هذه المناظرات الرحمة بالخلق والإشفاق عليهم، والحرص على هدايتهم، فقد أظهر شيخ الإسلام الحق وأبانه لأولئك لاتحادية، فاهتدى منهم أقوام، وصاروا دعاة للحق. فلم تكن هذه المناظرات مجرد إقامة حجة وكشف شبهة، بل كانت سبيلاً إلى التزام السنة والجماعة، لما تحلّى به شيخ الإسلام من أدب المناظرة، وظهور الحجة، ودرايته العميقة بمذاهب القوم، وتنزّله معهم. يقول شيخ الإسلام - في هذا المقام - " فلما يسّر الله أني بينت لهم حقائقهم، وكتبت في ذلك من المصنفات ما علموا به أن هذا هو تحقيق قولهم، وتبيّن لهم بطلانه بالعقل الصريح، والنقل الصحيح، رجع عن ذلك من علمائهم وفضلائهم من رجع، وأخذ هؤلاء يثبتون للناس تناقضهم، ويردونهم إلى الحق (2) "   (1) . الدرء 6/ 172 (2) . منهاج السنة النبوية 8/ 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ويقول أيضا: "وقد قال لي أفضل شيوخ هؤلاء بالديار المصرية لما أوقفته على بعض هذا الكتاب. (1) فقال: هذا كفر، وقال لي في مجلس آخر: "هذا الكتاب عندنا من أربعين سنة نعظمه، ونعظم صاحبه، ما أظهر لنا هذه المصائب إلا أنت (2) . ومن أجل هداية أولئك، ودعوتهم إلى الحق، كان الشيخ يتنزل معهم لعلهم يرجعون، كما في المناظرة الأولى، وكما جاء في إحدى مخاطباته لهم قائلاً: "وقلت لبعض حذاقهم: هب أن هذا الوجود المطلق ثابت في الخارج، وأنه عين الموجودات المشهودة، فمن أين لك أن هذا هو رب العالمين الذي خلق السموات والأرض وكل شيء؟ فاعترف بذلك، قال: هذا ما فيه حيلة (3) " ومن باب الإشفاق على المغترين بالاتحادية، حكى شيخ الإسلام لهم هذا المثال، فقال: " ولقد ضربتُ لهم مرة مثلاً بقوم أخذوا طائفة من الحجاج ليحجوا بهم، فذهبوا بهم إلى قبرص لينصّروهم، فقال لي بعض من كان قد انكشف له ضلالهم من أتباعهم، لو كانوا يذهبون بنا إلى قبرص لكانوا يجعلوننا نصارى، وهؤلاء كانوا يجعلوننا شراً من النصارى.   (1) . يعنى: كتاب الفصوص لابن عربي. (2) . السبعينية ص 488. (3) . الجواب الصحيح 3/81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 والأمر كما قال هذا القائل (1) " ومع أن شيخ الإسلام كشف عن مقالات ابن عربي (2) وما تحويه من أنواع الكفر البواح (3) ، والردة المغلظة، إلا أنه قال عنه: "والله تعالى أعلم بما مات الرجل عليه، والله يغفر لجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، والأحياء منهم والأموات " (4) . 5- إذا كان ابن تيمية يقرر أنه لا يحتج مبطل بآية أو حديث صحيح على باطله إلا وفي ذلك الدليل ما يدل على نقيض قوله (5) ، فإنه قد حقق ذلك وطبّقه في ردّه على أهل الاتحاد ووحدة الوجود. ومن ذلك احتجاجهم بحديث الرؤية (6) على ظهور الله تعالى في   (1) . مجموع الفتاوى 2/ 361 (2) . هو أبو بكر محمد بن علي الطائي، ارتحل وطاف البلدان، نطق بوحدة الوجود كما في كتابه " الفصوص" وكان يقول بقدم العالم، هلك سنة 638هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 23/48، شذرات الذهب 5/190. (3) . انظر: مجموع الفتاوى 2/ 122 - 133 (4) . مجموع الفتاوى 2/ 469 (5) . انظر: الدرء 1/ 374، مجموع الفتاوى 8/ 29، حادي الأرواح لابن القيم ص 208. (6) . يعنى حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن أناساً قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا. قال: فإنكم ترونه كذلك.. الحديث أخرجه البخاري ك التوحيد ح (7437) ومسلم ك الإيمان ح (302) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 كل صورة من الصور المشهودة في الدنيا والآخرة، حيث بيّن شيخ الإسلام أن الحديث حجة عليهم (1) ، ودليل على فساد مذهبهم من وجوه: أ) "أن ناساً سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل يرون ربهم يوم القيامة؟ ولم يسألوه عن رؤيته في الدنيا، فإن هذا كان معلوماً عندهم أنهم لا يرونه في الدنيا، وقد أخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك " (2) . إلى أن قال: " فلا أحد من الناس يرى الله في الدنيا بعينه، لا في صورة ولا في غير صورة، وأن الحديث الذي احتج به الاتحادية على تجليه لهم من الصور في الدنيا يدل على نقيض ذلك " (3) . ب) "لو كانت الرؤية هي تجليه في صور المخلوقات كلها كما يقوله الاتحادية لقال لهم: إنكم ترون ربكم في هذه الصور " (4) . جـ) "إنه قال " لا تضامون في رؤيته، و " لا تضارون في رؤيته " أي لا يلحقكم ضير ولا ضيم. وهذا كله بيان لرؤيته في غاية التجلي والظهور، وبحيث لا يلحق الرائي ضرر ولا ضيم، كما يلحق عند رؤية الشيء الخفي والبعيد.   (1) . انظر السبعينية ص 451. (2) . السبعينية ص 466. (3) . السبعينية ص 528 = بتصرف يسير. (4) . السبعينية ص 529. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وعلى قول هؤلاء الأمر العكس، فإنهم إذا قالوا يتجلى في كل صورة، من صورة الذباب والبعوض ونحو ذلك من الأجسام الصغيرة، فمعلوم ما يلحق في رؤيتها من الضيم. (1) . 6 - تميّز شيخ الإسلام بقوة الحجة وحضورها، فقد كشف عن شبهات القوم، كما في نقضه لما في "لوح الأصالة " مع أنه لم يطلع عليه إلا أنذاك - كما سبق آنفاً - كما عني ابن تيمية بنقض أصول الاتحادية وأهل وحدة الوجود ومصادرهم، فلا يمكن قطع دابر تلك الشبه إلى بملاحقة أصولها (2) ، ومن ذلك تقريره - في غير موضع - أن المطلق في الأذهان لا في الأعيان، فاعترفوا عندئذ بأن هذا التقرير يقلع أصولهم ويخرب بيوتهم، كما جاء في المناظرة الثانية. ومن ذلك أنه أبطل مقالة الاتحادية من خلال نقض دعواهم بالكشف، وهو من مصادرهم التي عوّلوا عليها، حيث قال: " لكن هؤلاء يقولون: إن لم تترك العقل والنقل لم يحصل لك التحقيق الذي حصل لنا، ويقولون: ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح العقل. فقلت لبعضهم: إن الأنبياء صلوات الله عليهم أكمل الناس كشفاً،   (1) . السبعينية ص 530 (2) . انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة 2/ 226 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وهم يخبرون بما يعجز عقول الناس عن معرفته، لا بما تعرف عقولهم أنه باطل، فيخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول. فمن دونهم إذا أخبر عن شهود وكشف، يعلم بصريح العقل بطلانه، علم أن كشفه باطل (1) " 7- حرر شيخ الإسلام القواسم المشتركة بين أرباب وحدة الوجود، وبين الفلاسفة، فمن أوجه الشبه بين الفريقين دعواهم أن الله تعالى هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، وزعم الفلاسفة أن النبوة مكتسبة، وكذا أهل وحدة الوجود، فقط طلب النبوة أمثال السهروردي المقتول (2) وابن سبعين، وإذا كان بعض الفلاسفة كالفارابي يجعل الفيلسوف أعظم النبي، فإن ابن عربي يفضّل الولي على النبي (3) . ثم بيّن أهمية معرفة هذا التشابه، فقال: "ولكن المقصود التنبيه على تشابه رؤوس الضلال، حتى إذا فهم المؤمن قول أحدهم، أعانه على فهم قول الآخر، واحترز منهم، وبيّن ضلالهم لكثرة ما أوقعوا في الوجود من الضلالات " (4) .   (1) . الجواب الصحيح 3/ 79. (2) 949. يحيى بن حبش السهروردي، فيلسوف قليل الدين، له مؤلفات ليست من علوم الإسلام، قتل سنة 587 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 21/207، شذرات الذهب 4/290. (3) . انظر: مجموع الفتاوى 7 / 587، 588، والحموية ص 282، والدرء 1/9 (4) . مجموع الفتاوى 7/ 593 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ومع تحريره لتلك الأوجه من التشابه، إلا أنه يقرر أوجه التباين والاختلاف بين الطوائف، وتفاوت الانحراف بين أصحابها، ويؤكد على أهمية معرفة مراتب الانحراف والشرور، تحقيقاً للعدل ومراعاة لقاعدة المصالح والمفاسد، حيث فال: "والمؤمن ينبغي له أن يعرف الشرور الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة، كما يعرف الخيرات الواقعة، مراتبها في الكتاب والسنة، فيقدم ما هو أكثر خيراً، وأقل شراً على ما هو دونه، ويدفع أعظم الشرين باحتمال أدناهما، ويجتلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما، فإن من لم يعرف الواقع في الخلق، والواجب في الدين، لم يعرف أحكام الله في عباده " (1) . ويقول - في موضع آخر: " فقد يكون الرجل على طريقة من الشر عظيمة، فينتقل إلى ما هو أقل منها شراً وأقرب إلى الخير.. فالاتحادية الذين يجعلون الله هو الوجود المطلق، متى تاب الرجل منهم من هذا، وصار يسكِّن نفسه بعشق بعض الصور، وهو لا يعبد إلا الله وحده، كانت هذه الحال خيراً من تلك الحال " (2) . ومن تلك تقريره أن مقالة الاتحادية وأهل وحدة الوجود شرٌّ من مقالة اليهود والنصارى. فهم يعظّمون فرعون، ويدّعون أنه خير من موسى عليه السلام (3) ، كما بيّن شيخ الإسلام أن أهل وحدة الوجود متفاوتون،   (1) . جامع الرسائل 2/ 305 (2) . الاستقامة 1/ 464، 466 = بتصرف يسير (3) . انظر مجموع الفتاوى 2/359 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 فمنهم العارف ببطن المذهب، ومنهم الجاهل، فإن من كان أعرف بحقيقة المذهب كان أظهر كفراً وإلحاداً، وأما الجهال فيحسنون الظن بقول هؤلاء ولا يفهمونه " (1) . بل إن رؤوس المذهب ليسوا سواءً، فابن عربي أقربهم إلى الإسلام، والصدر الرومي كان متفلسفاً فهو أبعد عن الإسلام، وأما الفاجر التلسماني (2) فهو أخبث القوم وأعمقهم في الكفر (3) .   (1) . مجموع الفتاوى 2/366 (2) . أبو الربيع سليمان بن علي العابدي، شاعر النحوي، نسب إليه حلول واتحاد وزندقة، له مؤلفات، هلك سنة 690هـ. وانظر: البداية والنهاية 13/226، شذرات الذهب 5/ 412. (3) . مجموع الفتاوى 2/470-472. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 3- مناظرات ابن تيمية للقبوريين: كان لشيخ الإسلام صولات مع القبوريين، فقد ناظرهم بالدليل والبرهان، وأجاب عن شبهاتهم، ودحض أكاذيبهم بالحجة والبيان، كما كسر المشاهد والأوثان، وسنورد هاتين المناظرتين: المناظرة الأولى: ساق إبراهيم بن أحمد الغياني هذه المناظرة: "شرع شيخ الإسلام يعيب تلك الأحجار، التي كان الناس يتبركون بها، وينهى الناس عن إتيانها، أو أن يحسن بها الظن. فقال بعض الناس: إن قد جاء حديث " لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به" فقال الشيخ: هذا الحديث كذب مختلق وإفك مفترى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والذي صحّ وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربّه عزّ وجلّ أنه قال: "أنا عند ظن عبدي بي " (1) ، وقال " لا يموتن أحدكم إلا هو يحسن الظن بالله " (2) فهو الرب العظيم الكبير المتعال، الذي بيده ملكوت كل شيء، يُحسن العبد به ظنه، لا يحسن ظنه بالأحجار، فإن   (1) . أخرجه البخاري ك التوحيد ح (7405) ، ومسلم ك الذكر والدعاة ح (2675) . (2) . أخرجه مسلم ك الجنة ح (2877) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الكفار أحسنوا ظنهم بالأحجار فأدخلتهم النار، وقد قال الله تعالى في الأحجار، وفيمن أحسنوا بها الظن حتى عبدوها من دونه " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (التحريم: 6) ، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستجمر من البول بثلاثة أحجار، ما قال أحسنوا ظنكم بها، بل قال استجمروا بها من البول، وقد كسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الأحجار التي أحسن بها الظن حتى عبدت - حول البيت" (1) . المناظرة الثانية: - ومن ذلك أنه لما بيّن حال أولئك الغلاة الذين يطلبون حاجاتهم عند القبور، وربما كان صاحب القبر كافراً أو منافقاً, ساق المناظرة الآتية: " وكان بالبلد جماعة كثيرون يظنون في العبيديين (2) أنهم أولياء الله تعالى، فلما ذكرتُ لهم أن هؤلاء كانوا منافقين زنادقة، وخيار من فيهم الرافضة، جعلوا يتعجبون ويقولون: نحن نذهب بالفرس التي بها مغل (3) إلى قبورهم، فتشفى عند قبورهم، فقلت لهم: هذا من أعظم الأدلة على كفرهم، وطلبتُ طائفة من سياس الخيل، فقلت: أنتم بالشام ومصر إذا أصاب الخيل المغل أين تذهبون بهم؟ فقالوا: في الشام نذهب   (1) . الجامع لسيرة ابن تيمية ص 89، 80 = باختصار (2) . وهم الذين يُسمون كذباً بالفاطميين، انظر الكلام عن نسبهم في مجموع الفتاوى لابن تيمية 35/ 128- 132 (3) . المغل: وجع أو داء في البطن. انظر: ترتيب القاموس المحيط للزاوي 4/ 266، والمعجم الوسيط 2/ 886 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 بها إلى القبور التي ببلاد الإسماعيلية، وأما في مصر فنذهب بها إلى دير هناك للنصارى، ونذهب بها إلى قبور هؤلاء الأشراف، وهم يظنون أن العبيديين شرفاء لما أظهروا أنهم من أهل البيت، فقلت: هل تذهبون بها إلى قبور صالحي المسلمين؟ فقالوا: لا. فقلت لأولئك: اسمعوا إنما يذهبون بها إلى قبور الكفار والمنافقين، وبيّنت لهم سبب ذلك، قلت: لأن هؤلاء يعذبون في قبورهم، والبهائم تسمع أصواتهم، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح، فإذا سمعت ذلك فزعت، فبسبب الرعب الذي يحصل لها تنحل بطونها ـ فتروث، فإن الفزع يقتضي الإسهال، فيتعجبون من ذلك، وهذا المعنى كثيراً ما كنت أذكره للناس.. (1) " تسترعي هذه المناظرات عدة أمور، نورد منها ما يلي: 1- يعوّل القبوريون على أحاديث مكذوبة، وأخبار مغلوطة، فالنقل الذي يحتجون به " إما كذب أو غلط، أو ليس بحجة " (2) . ومن ذلك ما قاله شيخ الإسلام: " قدم بعض شيوخ المشرق، وتكلم معي في هذا (3) ، فبينت له فساد هذا، فقال: أليس قد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور " فقلت: هذا مكذوب   (1) . الرد على البكري ص 309، 310 = باختصار يسير، وانظر الجامع لسيرة ابن تيمية ص 88. (2) . اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 688 (3) . أي في دعاء الأموات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 باتفاق أهل العلم، لم يروه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد من علماء الحديث " (1) . 2- أن غلبة الجهل سبب في ظهور الاستغاثة بالأموات، ووقوع الشرك في توحيد العبادة، فيستغيث أولئك الجهال بأصحاب القبور، وقد تقضي الشياطين حوائجهم، فيظنون ذلك كرامة، وإنما هي أحوال شيطانية ناشئة عن تلك الوثنية (2) . وقد قال شيخ الإسلام عن هؤلاء القبوريين: " ليس معهم دليل شرعي ولا نقل عن عالم مرضي، بل عادة جروا عليها كما جرت عادة كثير من الناس بأنه يستغيث بشيخه في الشدائد ويدعوه، وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم، وله فضل وعلم وزهد إذا نزل به أمر خطا إلى جهة الشيخ عبد القادر خطوت معدودات، وهؤلاء ليس لهم مستند شرعي من كتاب أو سنة، أو قول عن الصحابة والأئمة.. وكلما كان القوم أعظم جهلاً وضلالاً، كانت هذه الأحوال الشيطانية عندهم أكثر.." (3) . 3- كانت حجة شيخ الإسلام ظاهرة جلية في ردّه على القبوريين، لما احتجوا بحديث " لو أحسن أحدكم بحجر لنفعه "، فقد بيّن أنه كذب مختلق، وأن المتعيّن هو إحسان الظن بالله تعالى، فهو ربّ العالمين، بيده   (1) . الرد على البكري ص 302، وانظر: اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 688 (2) . انظر: مجموع الفتاوى 35/ 115، ونظرية العقد لابن تيمية ص 29. (3) . الرد على البكري ص 250، 251 = باختصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الأمر كله، ولما أحسن الكفار ظنهم بالأحجار، لم تنفعهم بل أدخلتهم النار، فهذه الأحجار لا تستحق إلا الإزالة والاستجمار. وقد ساق شيخ الإسلام حجة عقلية في إبطال تلك الوثنية فقال: " ثم إنك تجد كثيراً من هؤلاء الذي يستغيثون عند قبر أو غيره، كل منهم قد اتخذ وثناً أحسن به الظن، وأساء الظن بآخر، وكل منهم يزعم أن وثنه يستجاب عنده، ولا يستجاب عند غيره، فمن المحال إصابتهم جميعاً، وموافقة بعضهم دون بعض تحكم، وترجيح بلا مرجح، والتدين بدينهم جميعاً جمع بين الأضداد، فإن أكثر هؤلاء إنما يكون تأثرهم - فيما يزعمون - بقدر إقبالهم على وثنهم، وانصرافهم عن غيره.. (1) " ولما استدلوا - في المناظرة الأخرى - بأن الخيل تشفى عند قبور العبيديين، قلب شيخ الإسلام الدليل عليهم، وبيّن أن شفاء الخيل بسبب ما تسمعه من العذاب الذي يعقبه الفزع والإسهال. 4- لم يقتصر شيخ الإسلام على الجانب العلمي في تلك المخاطبات والمناظرات، بل اقترن به جانب عملي احتسابي، فعمد إلى تكسير الأوثان، ومن ذلك أنه أزال العمود المخلّق، وكسر بلاطة سوداء زعموا أن عليها كف النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما حطم صخرة كبيرة كان الناس ينذرون لها، ويتبركون بها، إلى غير ذلك من الوقائع التي ساقها الغياني في   (1) . اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 688. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 رسالة مفرده (1) . 5- قرر شيخ الإسلام أن النصر على الأعداء إنما يكون بالاستغاثة بالله تعالى واللجأ إليه، وأما الاستغاثة بالأموات فهو سبيل الهزيمة والخنوع للأعداء، فأكّد على أهمية هذا الأصل - وهو دعاء الله تعالى والاستغاثة به - وبيّن أن تحقيقه كان سبب هزيمة التتار آنذاك، فقال: " فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن تدعو أحداً من الأموات، لا الأنبياء، ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة، ولا بغيرها.. ولهذا ما بيّنت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن، وقال: هذا أصل دين الإسلام، وكان بعض الأكابر من الشيوخ العارفين يقول: هذا أعظم ما بينته لنا، لعلم بأن هذا أصل الدين إلى أن قال - ولما قدم العدو - الخارج عن شريعة الإسلام - دمشق، خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم، وقال بعض الشعراء: يا خائفين من التتر ... لوذوا بقبر أبي عمر فقلت لهم: هؤلاء الذين تستغيثون بهم لو كانوا معكم في القتال لانهزموا.. فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلاص الدين لله عز   (1) . عنوان هذه الرسالة: فصل فيما قام به ابن تيمية وتفرّد به، وذلك في تكسير الأحجار، وهي ضمن الجامع لسيرة ابن تيمية ص 78 - 96، وانظر: البداية لابن كثير 14/34، وإغاثة اللهفان 1/329. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وجل، والاستغاثة به.. فلما أصلح الناس أمورهم وصدقوا في الاستغاثة بربهم، نصرهم على عدوهم نصراً عزيزاً، ولم تنهزم التتار مثل هذه الهزيمة قبل ذلك (1) "   (1) . الرد على البكري ص 376، 377 = باختصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 4- مناظرات ابن تيمية للأحمدية (الرفاعية البطحائية) جرت هذه المناظرات في ثلاثة مجالس سنة 705هـ، وقد بسط شيخ الإسلام وقائع المناظرة في رسالة مفردة (1) ونظراً لطولها فسنورد أهم أحداثها كما يلي: يقول شيخ الإسلام - في مقدمة تلك المناظرة -: " فقد كتبت ما حضرني ذكره في المشهد الكبير بقصر الإمارة، بحضرة الخلق من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء، لتشوف الهمم إلى معرفة ذلك وحرص الناس على الاطلاع عليه.. ولما حصل بها من عز الدين، وظهور كلمته العليا، وظهور زيف من خرج عن ذلك. (2) " - " وقد تقدمت لي معهم وقائع متعددة، بيّنت فيها لمن خاطبته منهم، ومن غيرهم بعض ما فيهم من حق وباطل، وأحوالهم التي يسمونها الإشارات، وتاب منهم جماعة، وأدب منهم جماعة من شيوخهم، وبينت صورة ما يظهرونه من المخاريق.. وإن عامة ذلك من حيل معروفة، وأسباب مصنوعة.. ولما عارضتهم بأني أدخل معكم النار بعد   (1) . كما في مجموع الفتاوى 11/ 445 - 475، كما حكى ابن عبد الهادي وابن كثير هذه المناظرة. انظر العقود الدرية ص 131، والبداية 14/36 (2) . مجموع الفتاوى 11/ 446، 446 = باختصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 أن نغتسل بما يذهب الحيلة، ومن احترق كان مغلوباً، فلما رأوا الصدق أمسكوا عن ذلك (1) " - " فلما نهيتهم عن ذلك، أظهروا الموافقة، ومضت على ذلك مدة، والناس يذكرون عنهم الاصرار على الإبتداع في الدين، وإظهار ما يخالف شرعة المسلمين.. وحضر عندنا منهم شخص فنزعنا الغل من عنقه، فحملهم هواهم على أن تجمعوا تجمع الأحزاب، مظهرين الضجيج والإرعاد، واضطراب الرءوس والأعضاء، وإبراز ما يدعون من الحال والمحال. فلما رأي الأمير ذلك هاله ذلك المنظر، ثم دخل عليه شيخهم، وأظهر الشكوى عليّ، فأرسل إلىّ الأمير يريد كشف أمرهم..، فلما علمت ذلك أُلقي في قلبي أن ذلك لأمر يريده الله من إظهار الدين، وكشف حال المبتدعين (2) " "فانتدب شيخهم وقال: نحن لنا أحوال وأمور باطنة لا يوقف عليها. فقلت له: الباطن والظاهر مردود إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ليس لأحد الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لا من المشايخ   (1) . مجموع الفتاوى 11/447 = باختصار (2) . مجموع الفتاوى 11/452-454 = باختصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 والفقراء، ولا من الملوك والأمراء.. فقال: نحن لنا أحوال خارقة - كالنار وغيرها -. فقلت: أنا أخاطب كل أحمدي أي شيء فعلوه في النار، فأنا أصنع مثل ما تصنعون، ومن احترق فهو مغلوب، ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار، فسألني الناس عن ذلك؟ فقلت: لأن لهم حيلاً في الاتصال بالنار يصنعونها من أشياء.. فأخذ شيخهم يدّعي القدرة على ذلك، ويظهر التحايل.. فقلت: هذا تطويل وتفريق للجمع، ولا يحصل به مقصود، بل قنديل يوقد وأدخل إصبعي وإصبعك فيه بعد الغسل، ومن احترقت إصبعه فهو مغلوب، فلما قلت ذلك تغيّر وذلّ. ثم قلت لهم: ومع هذا فلو دخلتم النار، وخرجتم مها سالمين، لم يكن في ذلك ما يدل على صحة ما تدعونه من مخالفة الشرع. ومشايخهم يتضرعون عند الأمير في طلب الصلح، وجعلتُ ألح عليه في إظهار ما ادعوه من النار مرة بعد مرة، وهو لا يجيبون. فلما ظهر للحاضرين عجزهم وكذبهم، طلبت منهم متابعة الكتاب والسنة وأن يلتزموا هذا التزاماً عاماً، ومن خرج عنه ضربت عنقه. " (1) . - "فلما أظهروا التزام الكتاب والسنة، وجموعهم بالميدان بأصواتهم   (1) . مجموع الفتاوى 11/464-468 = باختصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وحركاتهم الشيطانية يظهرون أحوالهم، قلت لشيخهم،: أهذا موافق للكتاب والسنة؟ فقال: هذا من الله حال يَرِد عليهم، فقلت: هذا من الشيطان الرجيم.. فقال: ما في السموات والأرض حركة إلا بمشيئة الله تعالى، فقلت له: هذا من باب القدر، وهكذا كل ما في العالم من كفر وفسوق هو بمشيئته، وليس ذلك بحجة لأحد في فعله.." (1) . - "فلما ظهر قبح البدع في الإسلام، وأنهم مبتدعون بدعاً منكرة، فيكون حالهم أسوأ من حال الزاني والسارق، فقال شيخهم: لا تتعرض لهذا الجناب العزيز - يعنى الأحمدية - فقلت: ويحك، أي شيء هو الجناب العزيز، وجناب من خالفه أولى بالعز، تريدون أن تبطلوا دين الله ورسوله.. وقلت لهم: يا شبه الرافضة، يا بيت الكذب - حتى قيل فيهم، لا تقولوا أكذب من اليهود على الله، ولكن قولوا أكذب من الأحمدية على شيخهم -. ولما رددتُ عليهم الأحاديث المكذوبة، أخذوا يطلبون مني كتباً صحيحة ليهتدوا بها، فبذلت لهم ذلك، وأعيد الكلام أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه وأعاد الأمير هذا الكلام، واستقر الكلام على ذلك، والحمد لله (2) .."   (1) . مجموع فتاوى 11/470 = باختصار (2) . مجموع الفتاوى 11/474، 475 = باختصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ونورد بعد هذا العرض المختصر الأمور التالية: 1 - مما كان يقرره شيخ الإسلام: وجوب العدل مطلقاً، فكان يقول: " أوجب الله العدل لكل أحد، على كل أحد، في كل حال. " (1) . ويتجلى من هذه المناظرات ما تحلّى به شيخ الإسلام من العدل والإنصاف في جميع الأحوال، فمع خصومته للأحمدية، لما تلبّسوا به من بدع شنيعة، وأحوال شيطانية، إلا أنه أنصفهم فأثبت ما لبعضهم من التعبد والزهد ولين الجانب (2) ، وخاطب الأحمدية قائلاً: فالتتري وأمثاله سود، وأهل الإسلام المحض بياض، وأنتم بلق فيكم سواد وبياض " (3) . وما أروع مقالة بعض العلماء - عن ابن تيمية -: "وددتُ أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه (4) " 2- نلحظ في ثنايا هذه المناظرة ما أصاب شيخ الإسلام من المحن والابتلاء، فالأحمدية قد أجلبوا عليه بأحوالهم وخوارقهم، وحرّضوا الأمراء عليه، والكثير من الصوفية والفقهاء مع أولئك الأحمدية، بل إن بعضهم طعن في شيخ الإسلام لأجل رده على الأحمدية، فانتصر له   (1) . الرد على المنطقيين ص 425، وانظر: جامع المسائل 5/166 (2) . انظر: مجموع الفتاوى 11/446 (3) . مجموع الفتاوى 11/448. (4) . مدارج السالكين 2/345. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 العلامة أحمد بن إبراهيم الواسطي (1) قائلاً: "أما ردّه على الطائفة الفلانية (2) أيها المُفرِط التائه، الذي لا يدري ما يقول، أفيقوم دين محمد بن عبد الله الذي أنزل من السماء، إلا بالطعن على هؤلاء؟ (3) وكيف يظهر الحق إن لم يُخذل الباطل؟ لا يقول هذا إلا تائه، أو حاسد. " (4) . 3- تبدو شجاعة ابن تيمية ظاهرة جلية، فقد كان قوي القلب ثابت الفؤاد، فلم تفزعه تلك الأحوال والمخاريق، فتحدى الأحمدية، وعارضهم، في مستهل المناظرة، وقال: " أنا معارض لكم مانع لكم؛ لأنكم تقصدون بذلك إبطال شريعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن كان لكم قدرة على إظهار ذلك فافعلوا. فانقلبو صاغرين (5) " وصاح بهم في آخرها - قائلاً: "يا شبه الرافضة يا بيت الكذب.. أنا كافر بكم وبأحوالكم، فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون" (6) .   (1) . وهو المعروف بابن شيخ الحزّامين، كان شافعي المذهب صوفي المسلك، فلما قدم الشام تتلمذ على يد ابن تيمية فانتقل إلى مذهب أحمد وترك التصوف، له مؤلفات، توفي سنة 711هـ. انظر: الدرر الكامنة 1/91، وشذرات الذهب 6/24. (2) . يعنى: الأحمدية، كما صرّح بذلك في كلام سابق، انظر الجامع لسيرة ابن تيمية ص 75. (3) . كان العلامة الواسطي عارفاً بهم، فقد كان أبوه شيخ الأحمدية، ونشأ بينهم. انظر: شذرات الذهب 6/ 24. (4) . الجامع سيرة ابن تيمية ص 76. (5) . مجموع الفتاوى 11/ 448 (6) . مجموع الفتاوى 11/474، 475 = باختصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 ولقد اعترف خصومه بشجاعته، فقالوا عنه: "هذا رجل محجاج خصِم، وماله قلوب يفزع من الملوك، وقد اجتمع بقازان ملك التتر وكبار دولته، وما خافهم (1) . وكثيراً ما يقرر شيخ الإسلام أن صلاح بني آدم لا يتم في دينهم ودنياهم إلا بالشجاعة والكرم (2) ، وكان يقول أيضاً: " فلا تتم رعاية الخلق وسياستهم إلا بالجود الذي هو العطاء، والنجدة التي هي الشجاعة، بل لا يصلح الدين والدنيا إلا بذلك " (3) . 4- أكّد ابن تيمية - في غير موضع - على أصل الاتباع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحذّر من البدع والمحدثات، ومن ذلك: تطويق أغلال الحديد في أعناقهم على سبيل التعبد، فلا يصح التقرّب بذلك إلى الله تعالى، لأن عبادة بما لم يشرعه ضلالة (4) . يقول شيخ الإسلام - في هذا الشأن -: " فهذا أصل عظيم تجب معرفته والاعتناء به وهو أن المباحات إنما تكون مباحة إذا جعلت مباحات، فأما إذا اتخذت واجبات أو مستحبات كان ذلك ديناً لم يشرعه الله، ولهذا عظم ذم الله في القرآن لمن شرع ديناً لم يأذن الله به (5) ".   (1) . الجامع لسيرة ابن تيمية ص 92 (2) . انظر: الاستقامة 2/ 269 (3) . مجموع الفتاوى 28/291 (4) . انظر: مجموع الفتاوى 11/450 (5) . مجموع الفتاوى 11/ 451 = باختصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 كما قرر - في ثنايا المناظرة - أن البدعة شرّ من المعصية، وساق أدلته على ذلك (1) . 5- طلب الأحمدية من شيخ الإسلام أن يسلّم إليهم حالهم، فلا يعارضهم ولا ينكر عليهم (2) ، فامتنع عن ذلك، وأمرهم باتباع الشريعة، وأما مسألة فلان يسلّم إليه حاله، أو لا يسلّم إليه حاله، فمن المسائل التي تنازع الناس فيها بين إفراط وتفريط. وقد حقق شيخ الإسلام هذه المسألة في أحد أجوبته، وبيّن أن قولهم: يسلّم له حاله، له معنى سائغ إذا أريد به رفع اللوم عن صاحب الحال، فلا يؤثّم ولا يعاقب، وإن أريد بتسليم حاله أن يكون صنيعه صواباً أو صحيحاً، فلا يجوز، ولا يسلّم حاله بهذا المعنى (3) . 6 - تميّز شيخ الإسلام بالثقة بالله تعالى وحسن الظن به عز وجل، كما هو بيّن في مناظراته وتقريراته، فإن الأحمدية لما اجتمعوا تجمع الأحزاب، وتكالبوا تكالب الأعداء، وأظهروا خوارقهم، وطالبوا بحضور ابن تيمية، قال حينئذ: "فلما علمت ذلك، ألقى في قلبي أن ذلك لأمر يريده الله من إظهار الدين، وكشف حال أهل النفاق المبتدعين" (4) .   (1) . انظر: مجموع الفتاوى 11/ 472 (2) . انظر: مجموع الفتاوى 11/ 454، 465 (3) . انظر: مجموع الفتاوى 10/ 378 - 386. (4) . مجموع الفتاوى 11/ 454 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وقرر هذا المعني في أكثر من موضع، ومن ذلك قوله: " ومن أعظم أسباب ظهور الإيمان والدين، وبيان حقيقة أنباء المرسلين: ظهور المعارضين لهم من أهل الإفك المبين.. وذلك أن الحق إذا جحد وعورض بالشبهات، أقام الله تعالى له مما يحق به الحق، ويبطل به الباطل من الآيات والبينات بما يظهره من أدلة الحق وبراهنيه الواضحة، وفساد ما عارضه من الحجج الداحضة " (1) . 7- لما أبطل شيخ الإسلام أحوالهم، وبيّن مخالفتهم الشرع المنزّل، احتجوا بالقدر قائلين: " ما في السموات والأرض حركة إلا بمشيئته "، فأجابهم بقوله: " هذا من باب القدر، وهكذا كل ما في العالم من كفر وفسق هو بمشيئته، وليس ذلك بحجة لأحد في فعله، بل ذلك مما زيّنه الشيطان وسخطه الرحمن " (2) . وقد ساق شيخ الإسلام جواباً آخر على المحتجين بالقدر في فعل المصايب، كما جاء في مناظرته التي حكاها ابن القيم بقوله: "وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله - يقول: لمتُ بعض الإباحية، فقال لي: المحبة نار في القلب، تحرق ما سوى مراد المحبوب، والكون كله   (1) . الجواب الصحيح 1/ 13، 14 = باختصار، وانظر: مجموع الفتاوى 28/ 57 - 59 (2) . مجموع الفتاوى 11/ 470 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 مراده فأي شيء أبغض فيه؟ قال الشيخ: فقلت له: إذا كان المحبوب قد أبغض أفعالاً وأقوالاً، وأقواماً، وعاداهم فطردهم ولعنهم، فأحببتهم، تكون موالياً للمحبوب أو معادياً له؟ قال: فكأنما ألقم حجراً، وافتضح بين أصحابه، وكان مقدماً فيهم مشاراً إليه " (1) .   (1) . مدارج السالكين 3/14، وانظر: مجموع الفتاوى 10/ 210، وطريق الهجرتين ص 303 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 5- مناظرات ابن تيمية للرافضة: مع أن شيخ الإسلام أخبر بوقوع مناظرات ومفاوضات مع الرافضة يطول وصفها، إلا أنه لم يتيسر الوقوف إلا على هاتين المناظرتين: المناظرة الأولى: جادل ابن تيمية أحد شيوخ الرافضة، وكان الجدل والبحث في مسألة دعوى عصمة الإمام، وأن أمير المؤمنين على بن أبي طالب - رضي الله عنه - معصوم من الصغائر والكبائر فحاجّه شيخ الإسلام في أن العصمة لم تثبت إلا للأنبياء عليهم السلام، وأن علياً وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما اختلفا في مسائل وقعت، وأن تلك المسائل عُرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصوّب فيها قول ابن مسعود - رضي الله عنه - (1) . المناظرة الثانية: ساق ابن تيمية مناظرته لشيخ رافضي في إحدى مسائل الإمامة فقال: "ولقد طلب أكابر شيوخهم الفضلاء أن يخلو بي، وأتكلم معه في ذلك، فخلوتُ به وقررت له ما يقولونه في هذا الباب، كقولهم: إن الله أمر العباد، ونهاهم، فيجب أن يفعل بهم اللطف الذي يكونون عنده أقرب إلى فعل الواجب وترك القبيح.. وهذا أخذوه من المعتزلة.   (1) . انظر: العقود الدرية ص 122 = باختصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ثم قالوا: والإمام لطف؛ لأن الناس إذا كان لهم إمام يأمرهم بالواجب وينهاهم عن القبيح، كانوا أقرب إلى فعل المأمور، وترك المحظور، فيجب أن يكون لهم إمام، ولابد أن يكون معصوماً، لأنه إذا لم يكن معصوماً لم يحصل به المقصود، ولم تدع العصمة لأحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا لعليّ، فتعيّن أن يكون هو إياه للإجماع على انتفاء ما سواه، وبسطت له العبارة في هذه المعاني. ثم قالوا: وعليّ نصّ على الحسن، والحسن على الحسين، إلى أن انتهت النوبة إلى المنتظر محمد بن الحسن فاعترف بأن هذا تقرير مذهبهم على غاية الكمال. قلت له: فأنا وأنت طالبان للعلم والحق، وهم يقولون: من لم يؤمن بالمنتظر فهو كافر، فهذا المنتظر هل رأيته؟ أو رأيت من رآه؟ أو تعرف شيئاً من كلامه الذي قاله هو؟ أو ما أمر به أو ما نهى عنه مأخوذاً كما يؤخذ عن الأئمة؟. قال: لا. قلت: فأي فائدة في إيماننا هذا؟ وأي لطف يحصل لنا بهذا؟ ثم كيف يجوز أن يكلفنا الله بطاعة شخص، ونحن لا نعلم ما يأمرنا به، ولا ما ينهانا عنه، ولا طريق لنا إلى معرفة ذلك بوجه من الوجوه؟ وهم من أشد الناس إنكاراً لتكليف ما لا يطاق، فهل يكون في تكليف ما لا يطاق أبلغ من هذا؟ (1) "   (1) . منهاج السنة النبوبة 1/101-103 = باختصار، وانظر: التسعينية 2/ 628. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وبالنظر إلى هاتين المناظرتين وما يحتف بهما، نسوق الجمل الآتية: 1- الإمامة أهم أصول الرافضة " فهي الأصل الذي تدور عليه أحاديثهم، وترجع إليه عقائدهم، وتلمس أثره في فقههم وأصولهم، وتفاسيرهم وسائر علومهم " (1) . والإمامة مما شذّ به الرافضة عن سائر الطوائف، ولذا قال شيخ الإسلام: "خاصة مذهب الرافضة الإمامية من الاثني عشرية ونحوهم هو إثبات الإمام المعصوم، وادعاء ثبوت إمام عليّ بالنص عليه، ثم على غيره واحداً بعد واحد " (2) . وأما أصولهم الأخرى كالتوحيد والعدل والنبوة، فيشتركون مع سائر أهل الأهواء. فلا عجب أن يعنى شيخ الإسلام بنقض أصل الإمامة، وبيان ما يحويه من فساد (3) ، كدعواهم بالنص على الأئمة الاثنى عشر، وعصمتهم، وأن الإمام المنتظر لطف من الله، فإنه إذا انتقض هذا الأصل، انتقض ما يبنى عليه من عقائدهم وآرائهم. 2- لم يكتف شيخ الإسلام بمناظرة الرافضة ومجادلتهم، بل   (1) . أصول مذهب الشيعة للقفاري 2/653 (2) . التسعينية 2/ 625 (3) . انظر: منهاج السنة النبوة: 1/ 100، 3/378، 487، 5/163، 6/384 -442. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 جاهدهم بالسنان، وغزاهم في عقر دارهم، وذلك لما عليه الرافضة من الضلال الشنيع، والمكر الكبّار لأهل الإسلام. كما قال عنهم: "فلينظر كل عاقل فيما يحدث في زمانه، وما يقرب من زمانه من الفتن والشرور والفساد في الإسلام، فإنه يجد معظم ذلك من قِبل الرافضة، وتجدهم من أعظم الناس فتناً وشراً، وأنهم لا يقعدون عمّا يمكنهم من الفتن والشر وإيقاع الفساد بين الأمة " (1) . وتحدث عن نصرتهم لأعداء الله تعالى فقال: "ولهذا الرافضة يوالون أعداء الدين، الذين يعرف كل أحد معاداتهم، من اليهود والنصارى والمشركين، ويعادون أولياء الله الذين هم خيار أهل الدين، وسادات المتقين، ولهذا كان الرافضة من أعظم الأسباب في دخول الترك الكفار إلى بلاد الإسلام.. وهم كانوا أعظم الأسباب في استيلاء النصارى قديماً عل بيت المقدس (2) .." لقد أفتى شيخ الإسلام بغزوهم، ودعاهم إلى الالتزام بشرع الله تعالى، وذلك سنة 699هـ (3) ، حيث قال: "وقد علم أنه كان بساحل الشام جبل كبير (4) ، فيه ألوف الرافضة يسفكون دماء الناس، ويأخذون   (1) . منهاج السنة النبوية 6/ 372 (2) . منهاج السنة النبوية 7/ 414 = باختصار (3) . انظر: البداية لابن كثير 14/12. (4) . وهو جبل كسروان. انظر: منهاج السنة النبوية 6/ 418، العقود الدرية ص 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 أموالهم، وقتلوا خلقاً عظيماً، وأخذوا أموالهم وباعوا الأسرى للكفار النصارى.. ومع هذا فلما استشار بعض ولاة الأمر في غزوهم، وكتبت جواباً مبسوطاً في غزوهم (1) . وذهبنا إلى ناحيتهم وحضر عندي جماعة منهم، وجرت بيني وبنيهم مناظرات ومفاوضات يطول وصفها، فلما فتح المسلمون بلدهم (2) ، وتمكّن المسلمون منهم، نهيتهم عن قتلهم، وعن سبيهم، وأنزلناهم في بلاد المسلمين متفرقين لئلا يجتمعوا" (3) . 3- مع أن الرافضة أرباب بدع مغلظة وزندقة مكشوفة " فليس في جميع الطوائف المنتسبين إلى الإسلام مع بدعة وضلالة شرّ منهم، لا أجهل ولا أكذب ولا أظلم ولا أقرب إلى الكفر والفسوق والعصيان، وأبعد عن حقائق الإيمان منهم " (4) . ومع كيدهم وبغيهم على أهل السنة، إلا أن أهل السنة عاملوهم بكل عدل وإنصاف، كما حققه شيخ الإسلام في غزوه لهم، حيث نهى   (1) . من مؤلفات ابن تيمية: الرد على أهل كسروان الرافضة في مجلدين. انظر: الجامع لسيرة ابن تيمية ص 232 (2) . انظر تفصيل ذلك في: العقودية الدرية ص 120 -122، والبداية لابن كثير 14/12 (3) . منهاج السنة النبوية 5/ 158 - 160، وانظر: منهاج السنة النبوية 3/ 367، ومجموع الفتاوى 11/ 474. (4) . منهاج السنة النبوية 5/ 160. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 عن قتلهم وسبيهم بعد أن تمكن منهم، مع أنهم قتلوا المسلمين وسبوهم. وقد اعترف الرافضة بهذا العدل، شهدوا أن أهل السنة ينصفونهم ما لا ينصفهم سائر إخوانهم الرافضة، وكما حكاه شيخ الإسلام قائلاً: " فأهل السنة يستعملون معهم العدل والإنصاف، ولا يظلمونهم، فإن الظلم حرام مطلقاً، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء (1) خير من بعضهم لبعض، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض. وهذا مما يعترفون هم به، ويقولون: أنتم تنصفوننا ما لا ينصف بعضنا بعضاً. (2) ويقول - في موضع آخر -: " فما من طائفة من طوائف أهل السنة على - تنوعهم - إلا إذا اعتبرتها وجدتها أعلم وأعدل، وأبعد عن الجهل والظلم من طائفة الرافضة. وهذا أمر يشهد به العيان والسماع، لمن له اعتبار ونظر، ولا يوجد في جميع الطوائف لا أكذب منهم، ولا أظلم منهم، وشيوخهم يقرون بألسنتهم يقولون: يا أهل السنة أنتم فيكم فُتّوة، لو قدرنا عليكم لما عاملناكم بما تعاملونا به عند القدرة علينا. " (3)   (1) . المراد بهؤلاء: أهل الأهواء. (2) . منهاج السنة النبوية 5/ 157. (3) . منهاج السنة النبوية 4/ 121، وانظر: 2/342. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 4- نلمس - في المناظرة الثانية - ما عليه شيخ الإسلام من تحقيق لآداب المناظرة، فقد أحسن التعامل مع مخالفه، وترّفق به، فوصفه بأنه من فضلاء شيوخهم، وأجاب طلبه في الخلوة والكلام معه في مسألة الإمامة، كما بيّن شيخ الإسلام مذهب الرافضة بكل إنصاف، حتى أقرّ الرافضي بأن هذا البيان على غاية الكمال، وكان ابن تيمية في غاية التجرد للحق، والنصح لمخالفه، حيث قال: "فأنا وأنت طالبان للعلم والحق " فالباعث من تلك المناظرة المناصحة والرحمة، لا المغالبة والظهور (1) . 5- تميّز شيخ الإسلام بقوة حجته، وبراعة مناظرته، وتمام درايته بمذهب الرافضة، ولا غرو في تلك الدراية وهو القائل: " أنا أعلم كل بدعة حدثت في الإسلام، وأول من ابتدعها، وما كان سبب ابتداعها" (2) . لقد طالبهم في مناظرته الأولى بالدليل على دعواهم بعصمة الأئمة، فالعصمة لا تثبت إلا للأنبياء عليهم السلام، وكما قرر شيخ الإسلام في أحد مؤلفاته أنه لا عبرة بكثرة الدعاوى، وإنما العبرة بقوة الأدلة   (1) . انظر: الكلام عن مناظرة المناصحة والمغالبة في كتاب الإبانة الكبرى لابن بطة (الإيمان) 2/548. (2) . مجموع الفتاوى 3/ 84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وتعددها (1) ، والعلم إما نقل مصدّق عن معصوم، وإما قول عليه دليل معلوم (2) . وكما جاء في قواعد المناظرات: إن كنت ناقلاً فالصحة، أو مدعياً فالدليل (3) . كما كشف عن تناقضهم - في المناظرة الثانية - فالإيمان بالإمام الغائب لا يتحقق به لطف، بل هو تكليف بما لا يطاق، فإثباتهم الإمام الغائب وأنه لطف من الله، يبطله نفيهم بتكليف ما لا يطاق، فأظهر شيخ الإسلام أن أقوالهم ينقض بعضها بعضاً. وصدق - رحمه الله - إذ يقول: "ما أعلم أحد من الخارجين عن الكتاب والسنة إلا ولابد أن يتناقض.. " (4)   (1) . انظر: تنبيه الرجل العاقل 1/ 63. (2) . انظر: مجموع الفتاوى 13/ 329. (3) . انظر: منهج الجدل والمناظرة 2/ 687. (4) . مجموع الفتاوى 13/305 = باختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 6- مناظرات ابن تيمية لنفاة الصفات: من المعلوم أن مسائل الأسماء والصفات من أهم المسائل التي اشتغل ابن تيمية بتقريرها، والرد على المخالفين، فقد سطّر المصنفات العديدة في هذا الباب، كما كانت سيرته حافلة بمناظرات لنفاة الصفات، كما في الأمثلة الآتية: المناظرة الأولى: كان موضوع " الرسالة المدنية" (1) ومحتواها: مناظرة ابن تيمية لبعض الناس في مسألة تأويل الصفات، وخلاصة المناظرة: أن شيخ الإسلام قرر لمخالفه مذهب أهل السنة في مسألة الصفات، ومعنى قولهم: ظاهر نصوص الصفات مراد أو ليس مراداً، وأن الظاهر مراد إذا كان المقصود إثبات الصفات لله تعالى، كما يليق بجلاله وعظمته، فأقرّ المناظر على ذلك، ثم ساق ابن تيمية شروطاً في صرف نصوص الصفات عن ظاهرها، فلا يجوز أن يكون في نصوص الوحيين كلام يراد به خلاف ظاهره، إلا وقد نُصِب دليل يمنع من حمله على ظاهره، حيث سلّم ذلك الرجل بهذا التقرير، ثم ساق شيخ الإسلام صفة اليد لله تعالى مثالاً وأنموذجاً لذلك، وحكى تأويلات المخالفين،   (1) . طبعت "الرسالة المدنية " مفردة بتحقيق: د. الوليد الفريان، وهي موجود ضمن مجموع الفتاوى 6/ 351 - 373 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 واعترف الرجل بها، ثم أجاب شيخ الإسلام عن تأويلاتهم بحجج من القرآن والسنة واللغة والعقل، ثم اعترض المخالف بأن إضافة اليد لله كناقة الله وبيت الله، فأجاب ابن تيمية عن الاعتراض، ثم ختم مناظرته بإيراد أحاديث في إثبات صفة اليد لله تعالى، ثم خاطب مناظره قائلاً: " هل تقبل هذه الأحاديث تأويلاً؟ أو هي نصوص قاطعة؟ وهذه أحاديث تلقتها الأمة بالقبول والتصديق " (1) "فأظهر الرجل التوبة، وتبيّن له الحق " (2) المناظرة الثانية: كتب شيخ الإسلام مناظراته بشأن العقيدة الواسطية، ونظراَ لطولها فسنوردها بتصرف وإيجاز شديد على النحو الآتي: جرت هذه المناظرات في ثلاثة مجالس سنة 705هـ (3) ، حيث أُحضرت العقيدة الواسطية، وقرئت بتمامها على الحاضرين (4) ، وبين الشيخ سبب تأليفها، وأجاب عما أورده الحاضرون من إشكالات واعتراضات. وبيّن أن هذه عقيدة السلف الصالح جميعاً، فليس للإمام أحمد   (1) . الرسالة المدنية ص 66 (2) . الرسالة المدنية، وانظر تفصيل المناظرة في الرسالة المدنية ص 28 -66 (3) . انظر: مجموع الفتاوى 3/ 161. (4) . انظر: مجموع الفتاوى 3/ 164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 اختصاص بها (1) ، وأزال شيخ الإسلام اللبس عند الحاضرين في مسألة الحرف والصوف، والفرق بين تكلم الله بصوت، وبين صوت العبد (2) ، فأسكت بهذا التفصيل طائفة من المعاندين المتجهمة (3) . ولما قرر ابن تيمية أن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئاً، لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً، استحسن الحاضرون هذا الكلام وعظموه، واعترفوا بزوال الشبهة عنهم (4) . ثم ساق مجموع اعتراضاتهم، وأجاب عنها (5) . وافتتح شيخ الإسلام المجلس الثاني بأهمية الجماعة، والنهي عن الفرقة (6) ، ثم قال الشيخ المقدم من المعترضين: "لا ريب أن الإمام أحمد إمام عظيم القدر، لكن قد انتسب إليه أناس ابتدعوا أشياء" (7) . فقال ابن تيمية: "أما هذا فحق، وليس هذا من خصائص أحمد، بل ما من إمام إلا وقد انتسب إليه أقوام هو منهم بريئ " (8) .   (1) . انظر: مجموع الفتاوى 3/169. (2) . انظر: مجموع الفتاوى 3/170. (3) . انظر: مجموع الفتاوى 3/172. (4) . انظر: مجموع الفتاوى 3/176. (5) . انظر: مجموع الفتاوى 3/177-180. (6) . انظر: مجموع الفتاوى 3/181. (7) . مجموع الفتاوى 3/ 184. (8) . مجموع الفتاوى 3/185 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وذبّ عن أئمة الحنابلة، وبيّن كذب ما ادّعاه ابن الخطيب (1) عنهم (2) ، وأكّد أن هذه العقيدة لا تختص بالإمام أحمد، وإنما هذا اعتقاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسلف الأمة، وخاطب أكابر الشافعية بأن ما قرره في هذه العقيدة هو قول أئمة أصحاب الشافعي (3) . ولما عزم بعضهم على الطعن في حديث الأوعال (4) ، بادر ابن تيمية بإثبات الحديث وقبوله، ولما أحضر بعضهم كتاب الأسماء والصفات للبيهقي، وأن فيه تأويل الوجه، فعاجله الشيخ بالجواب وبيّن جواز تأويل الوجه بالجهة والقبلة في قوله تعالى: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} (البقرة: 115) فلا محذور فيه، وكما جاء عن مجاهد والشافعي في تفسير الآية، ولكن هذه الآية ليست من آيات الصفات (5) .   (1) . ابن الخطيب هو الفخر الرازي (2) . انظر: مجموع الفتاوى 3/ 184-186 (3) 1839. انظر: مجموع الفتاوى 3/191 (4) . وهو حديث العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه -.. ومنه " ثم فوق السابعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال، بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهم العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم الله تبارك وتعالى فوق ذلك " أخرجه أبو داود ك السنة ح (4723) ، والترمذي ك التفسير ح (3320) ، وأحمد 1/260، وحسّنه ابن تيمية في مجموعة الفتاوى 3/139، وابن القيم في تهذيب سنن أبي داود 7/91. (5) . انظر: مجموع الفتاوى 3/193 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 هذه خلاصة تلك المناظرة (1) ، كما دوّنها شيخ الإسلام، كما حكيت المناظرة في مواضع أخرى بشيء من الزيادات (2) . ج) ومن مناظراته نفاة الصفات ما حكاه قائلاً: " وقد ناظرت غير واحد من هؤلاء من نفاة الصفات ومحرّ فيها من شيعي ومعتزلي وغيرهما، وذكرت لهم الشبهة التي تذكرها نفاة الرؤية، فقلت هي كلها مبنية على مقدمتين: إحداهما: أن الرؤية تستلزم كذا وكذا كالمقابلة والتحيز وغيرهما. والثاني: أن هذه اللوازم منتفية عن الله تعالى، فكل ما يذكره هؤلاء فأحد الأمرين فيه لازم، إما أن لا يكون لازماً بل يمكن الرؤية مع عدمه، وهذا المسلك سلكه الأشعري وغيره، لكن أكثر العقلاء يقولون: إن من ذلك ما هو معلوم الفساد بالضرورة. وإما أن يكون لازماً، فلا يكون محالاً، فليس في العقل، ولا في السمع ما يحيله، بل إذا قّدر أنه لازم للرؤية فهو حق؛ لأن الرؤية حق، قد علم ذلك بالاضطرار عن خير البرية، أهل العلم بالأخبار النبوية (3) . وحكى - في موطن آخر - مقالة نفاة الرؤية، واحتجاجهم بانتفاء   (1) . انظر: البداية لابن كثير 14/36، والعقود الدرية ص 140 -164 (2) . انظر: مجموع الفتاوى 3/ 194- 210، 202-210 (3) 1889. السبعينية ص 476 = باختصار يسير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 لازمها وهو الجهة، وأتبعه بجواب مفصّل (1) ، ثم قال: "هذا مما خاطبت به غير واحد من الشيعة والمعتزلة، فنفعه الله به، وانكشف بسبب هذا التفصيل ما وقع في هذا المقام من الاشتباه والتعطيل. " (2) . د) ومن تلك المناظرات ما أورده بقوله: " وقد يحكى عن بعضهم أن سُمع كلام لا معنى له في نفس الأمر، كما حكى الرازي في "محصوله" عمّن سماهم بحشوية، أنهم قالوا: يجوز أن يتكلم الله بكلام ولا يعنى به شيئاً، لكن هذا القول لا أعرف به قائلاً، بل لم يقل هذا أحد من طوائف المسلمين. ولهذا كنا مرة في مجلس، فجرت هذه المسألة، فقلت: هذا لم يقله أحد من طوائف المسلمين، وإن كان أحد ذكره فليس فيما ذكره حجة على إبطاله، فقال بعض الذابين عنه: هذا قالته الكرامية، فقلت: هذا لم يقله لا كرّامي ولا غير كرّامي، ولا أحد من أهل المذاهب الأربعة ولا غيرهم، وبتقدير أن يكون قولاً، فإنما احتج على فساده بأن هذا عبث، والعبث على الله محال، وهذه الحجة فاسدة على أصله، لأن النزاع إنما هو في الحروف المؤلفة، هل يجوز أن ينزل حروفاً لا معنى لها، والحروف عنده من المخلوقات، وعنده يجوز أن يخلق الله كل شيء؛ لأنه فعله لا يتوقف على الحكمة والمصلحة، فليس فيما ذكره حجة على بطلان هذا، وإنما   (1) . منهاج السنة والنبوية 2/348، 559 (2) . منهاج السنة النبوية 2/ 349 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 النزاع المشهور: هل يجوز أن ينزِّل الله تعالى ما لا يُفهم معناه، والرازي ممن يجوّز هذا في أحد قوليه " (1) . نخلص بعد هذا العرض الموجز إلى الأمور التالية: 1- نلحظ في المناظرة الأولى أن شيخ الإسلام اهتم بمسألة تأويل الصفات، والتي خالف فيها الأشاعرةُ أهلَ السنة، وعلل ذلك قائلاً: "بأنها الأم وسائر المسائل فرع عنها" (2) . ومن المعلوم أن شيخ الإسلام يعني في التقرير بالقواعد والأصول، كما يعنى بها في الردّ والمناقشة. ولذا يقول: " لابد أن يكون مع الإنسان أصول كلية ترد إليها الجزئيات، ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت؟ وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات، فيتولد فساد عظيم " (3) . كما نلحظ أن شيخ الإسلام - في تلك المناظرة - كان يتدرج مع المخالف في تقرير مذهب أهل السنة، ويورد ذلك مسألة تلو مسألة، حتى سلّم المناظر، وأظهر التوبة.   (1) . الصفدية 1/287، 288 (2) . الرسالة المدنية ص 29 (3) . انظر: مجموع الفتاوى 19/203 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وبرع أيضاً في التطبيق لما يقرره ويحرره، فما قرره من الشروط في صرف نصوص الصفات عن ظاهرها، قد حققه عبر مثال ظاهر، وأنموذج بيّن. 2- مع أن ابن تيمية عرض له في المناظرة بشأن الواسطية - صنوف الأذى والوشاية، والكيد والكذب من قبل مخالفية، إلا أنه عاملهم بالرحمة، والعفو، والإحسان (1) ، والسعي إلى الاجتماع والنهي عن الفرقة - كما جاء مبسوطاً في ثنايا المناظرة. ومن ذلك قوله - في المجلس الثاني من المناظرة - " إن الله تعالى أمرنا بالجماعة والائتلاف، ونهانا عن الفرقة والاختلاف.. وربنا واحد، وكتابنا واحد، ونبينا واحد، أصول الدين لا تحتمل التفرق والاختلاف، وأنا أقول ما يوجب الجماعة بين المسلمين" (2) . ويقول - في موضع آخر - " أنا كنت من أعظم الناس تأليفاً لقلوب المسلمين، وطلباً لاتفاق كلمتهم، واتباعاً لما أمرنا به من الاعتصام بحبل الله، وأزلت عامة ما كان في النفوس من الوحشة" (3) . 3- التزام ابن تيمية في العقيدة الواسطية بالدليل والأثر، وقرر أن الاعتقاد يؤخذ عن الله تعالى، ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما أجمع عليه   (1) . انظر: مجموع الفتاوى 3/ 161، 162، 164، 169، 210 (2) . مجموع الفتاوى 3/ 181، 182 = باختصار يسير (3) . مجموع الفتاوى 3/227 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 سلف الأمة (1) . وقال - رحمه الله-: " كل لفظ قلته فهو مأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " (2) . لقد كان شيخ الإسلام وقّافاً على نصوص الوحيين نفياً وإثباتاً، ومن ذلك قوله: " إني عدلت عن لفظ التأويل إلى لفظ التحريف، لأن التحريف اسم جاء في القرآن بذمه، وأنا تحريت في هذه العقيدة اتباع الكتاب والسنة، وفنفيت ما ذمه الله من التحريف (3) . وقلت لهم ذكرتُ في النفي التمثيل، ولم أذكر التشبيه، لأن التمثيل نفاه الله بنص كتابه حيث قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) . وقلت: من غير تكييف ولا تمثيل، لأن التكييف مأثور نفيه عن السلف، وهو أيضاً منفي بالنص، فإن تأويل آيات الصفات يدخل فيها حقيقة الموصوف، وحقيقة صفاته غير معلومة (4) .." 4- يبدو جلياً من خلال المناظرة بشأن الواسطية قوة حجة ابن تيمية، ورسوخ علمه، وحدة فهمه، ودقة تحقيقه، ودرايته بالمقالات والمذاهب،   (1) . انظر: مجموع الفتاوى 3/ 161. (2) . مجموع الفتاوى 3/179. (3) . في قوله: "ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من غير تحريف ولا تعطيل، من غير تكييف ولا تمثيل " انظر: العقيدة الواسطية ضمن مجموع الفتاوى 3/129. (4) . مجموع الفتاوى 3/ 195، 196 = باختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وحضور حجته، ومسارعته بإيراد الجواب عن كل إشكال. فالعقيدة الواسطية كتبها في قعدة بعد العصر، ومع ذلك قال لمخالفيه: "كل من خالفني في شيء مما كتبته فأنا أعلم بمذهبه منه " (1) . وقال أيضا: " قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين، فإن جاء بحرف واحد عن أحد القرون الثلاثة يخالف ما ذكرته فأنا أرجع عن ذلك، وعليّ أن آتي بنقول جميع الطوائف - عن القرون الثلاثة - توافق ما ذكرته.. " (2) . كما ردّ على أولئك الشافعية الذي ناظروه بكلام أئمتهم المقدمين (3) ، وأنصف الحنابلة بالرد على ما ادعاه الفخر الرازي " (4) . ومع أن المجلس الأول من المناظرة كان بغتةً لابن تيمية (5) ، إلا أن خيره عظيم كما قال - رحمه الله - " أظهر الله من قيام الحجة، وبيان المحجة، ما أعز الله به السنة والجماعة، وأرغم به أهل البدعة والضلالة. " (6) .   (1) . مجموع الفتاوى 3/163 (2) . مجموع الفتاوى 3/169 (3) . انظر: مجموع الفتاوى 3/172، 150 (4) . انظر: مجموع الفتاوى 3/186 (5) . انظر: مجموع الفتاوى 3/181 (6) . مجموع الفتاوى 3/180 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 5 - كان شيخ الإسلام مراعياً عوارض الأهلية - كالجهل والتأوّل ونحوهما - كما في حكاية مناظرة الواسطية، فلما اعترض الخصوم بأن من خالف شيئاً من عقيدة الفرقة الناجية يلزم هلاكه. فأجاب قائلاً: " ليس من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكاً، فإن المنازع قد يكون مجتهداً مخطئاً يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته" (1) . ويقول - في موطن آخر - " كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة، والذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش، لما وقعت محنتهم، أنا لو وافقتكم كنت كافراً؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جهال، وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم. " (2) . وبالجملة فإن المناظرة بشأن الواسطية تستحق أن تفرد بمصنّف نظراً لطولها، ولما تحويه من معالم مهمة، وفوائد جمة في تقرير الاعتقاد، وشرح العقيدة الواسطية، والردّ على المخالفين، وجوانب عملية تطبيقية في المناظرات وآدابها.   (1) . مجموع الفتاوى 3/179، وانظر: 3/230، 231 (2) . الرد على البكري ص 259. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 6- لخّص ابن تيمية في المناظرة الثالثة: شبهة نفاة الرؤية في مقدمتين، ثم نقضها، وأشار إلى ثبوت الرؤية كما جاء في الآثار الصحيحة، فابتدأ بنقض الأصل الفاسد، ثم أتبعه بتقرير الحق، وعلل ابن تيمية هذا المسلك بقوله: " فإن المبتدع الذي بنى مذهبه على أصل فاسد، متى ذكرت له الحق الذي عندك ابتداء أخذ يعارضك فيه، لما قام في نفسه من الشبهة، فينبغي إذا كان المناظر مدعياً أن الحق معه أن يبدأ بهدم ما عنده، فإذا انكسر وطلب الحق فأعطه إياه (1) .." وساق ابن تيمية جواب الأشاعرة عن شبهة نفاة الرؤية، حيث أثبت الأشاعرة الرؤية مع نفي الجهة والمقابلة، وإن كان قول الأشاعرة بنفي الجهة فاسداً وممتنعاً، إلا أن مقالة المعتزلة والشيعة بنفي الرؤية والجهة أشد فساداً وأعظم امتناعاً من جهة النقل والعقل (2) . والذي عليه أهل السنة أن تلك اللوازم - كالجهة والمقابلة ونحوها - ليست ممتنعة، فإذا كانت المقابلة لازمة للرؤية فهي حق، فما كان حقاً وصواباً فلازمه كذلك، لذا يقول ابن تيمية: "من ادّعى ثبوت الشيء فقد ادّعى ثبوت لوازمه، ولوازم لوازمه، وهلم جرّاً ضرورة عدم الانفكاك عنه" (3) .   (1) . مجموع الفتاوى 17/159 (2) . انظر: منهاج السنة النبوية 2/ 330-348 (3) . تنبيه الرجل العاقل 1/63 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 7- وأما عن مناظرته بشأن من ادّعى أن الله يتكلم بكلام لا معنى له.. فقد تميزت بأجوبة مهمة، منها: تقريره أن هذه المقولة لم يقلها أحد من الطوائف لا حشوية ولا كرامية، ولا غيرهما. وهذا من درايته التامة بمقالات الفرق، ودقته في نسبة الأقوال إلى أصحابها (1) . ومن تلك الأجوبة: أنه لو فرض أنه قول، فإنما احتج الرازي على فساده بأنه هذا عبث، والعبث على الله محال، وهذه الحجة مردودة على أصله لأمرين، أحدهما: أن النزاع إنما هو في الحروف، والحروف عند الرازي مخلوقة، فلا تقوم بها حجة. وثانيها: أنه يجوز عند الرازي أن يخلق الله كل شيء، وأن ينّزل حروفاً لا معنى لها، فلا يوصف الله - عنده - بالحكمة..   (1) . انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة 1/ 322 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 خاتمة نخلص في نهاية هذا البحث إلى النتائج التالية: - كثرة مناظرات ومخاطبات شيخ الإسلام لأهل الملل والنحل، لا سيما الاتحادية وأهل وحدة الوجود، والرافضة، فقد جرى بينه وبينهم مناظرات ومخاطبات يطول وصفها.. ومد تضمن هذا البحث سبع عشرة مناظرة، فضلاً عن المناظرات والمخاطبات الواردة في ثنايا التعليقات. - مشروعية المناظرة وضابطها، مع بيان أحوال المناظرة المشروعية، وأن المناظرة قد تكون ممنوعة إن كان المناظر ضعيف العلم أو معانداً. - ما تحلى به شيخ الإسلام في تلك المناظرات - وكذا سائر مواقفه العلمية والعملية - من عدل وإنصاف لمخالفيه، وكما شهد بذلك خصومه، ولعل عدله كان سبباً في إفحام مخالفيه، واعترافهم بما معه من الحق. ويشهد لذلك قوله - رحمه الله - " إن الإنسان إذا اتبع العدل نُصر على خصمه، وإذا خرج عنه طمع فيه خصمه" (1) .   (1) . الدرء 8/409، وانظر: نقض التأسيس 2/344 - 348 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وتحقيقاً لكمال العدل فإن ابن تيمية يتنزل مع مناظريه - كما سبق في مناظرته للنصارى والاتحادية - وكان يقول: "التنزل في المناظرات من تمام الإنصاف، ومن الداعي للنظر في الأدلة والبراهين المرجحة، وفيه دعوة لطيفة لأهل الانحراف، كما هو معروف بالتأمل " (1) . - مع ما في هذه المناظرات من صدع بالحق، وإزهاق للباطل، وفضح للمنافقين، ومباهلة (2) ، إلا إنها لا تنفك عن رحمة بالمخالف، ومحبة الخير لهم، والترفق بهم من أجل هدايتهم، ومراعاة عوارض الأهلية كالجهل والتأويل ونحوهما. - أن ما يورده شيخ الإسلام من تقرير وتأصيل - تبعه - في تلك المناظرات - بالتطبيق والتحقيق، فإذا كان بابن تيمية يقرر - مثلاً - أن أهل السنة يعلمون الحق، ويرحمون الخلق، فقد حقق ذلك والتزمه في تلك المناظرات، ولما ساق في مناظرته المذكورة في الرسالة المدنية، شروط صرف الكلام عن ظاهره، أتبعه بالمثال والتطبيق.. - تميّز شيخ الإسلام بقوة حجته، وظهور أدلته، ووضوح براهنيه.   (1) . طريق الوصول إلى العلم المأمول للسعدي ص 251 (2) . جرت مباهلة بين شيخ الإسلام وبين الاتحادية - كما سبق ذكره - وانظر: مجموع الفتاوى 4/82. وعرّف ابن الأثير المباهلة بقوله: "الملاعنة، وهو أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء، فيقولوا لعنة الله على الظالم منا " النهاية 1/167 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وكان يقول: "قد لا يتأتى في المناظرات تفسير المجملات، خوفاً من لدد الخصم، فيؤتى بالواضحات (1) " ومن ذلك نقضه لأصول الاتحادية بالبرهان، عند ما قرر أن المطلق في الأذهان وليس في الأعيان، فاعترف الاتحادية بأن هذا التقرير يقلع أصولهم. وكذا بيانه تناقض الرافضة عندما أوضح أن إثباتهم الإمام الغائب، وأنه لطف من الله تعالى ينقضه قولهم بنفي تكليف ما لا يطاق. ومن قوة حجته: قلب الدليل عليهم، فلما احتج الاتحادية بحديث الرؤية، قرر ابن تيمية أن هذا الحديث حجة عليهم من عدة وجوه، ولما استدل القبوريون بأن الخيل تشفى عند قبور العبيديين، قلب الدليل عليهم، وبيّن أن سبب شفاء الخيل ما تسمعه من العذاب الذي يؤدي إلى فزع الخيل وإسهالها. - ما كان عليه شيخ الإسلام من حضور الحجة، وسرعة البديهة، فمع أن جملة من المناظرات يقع بغتة، إلا أن حجته حاضرة وظاهرة، فلم يناظر أحداً إلا غلبه - كما قال ابن الزمكاني -. ومن ذلك أنه فسّر كتاب "لوح الأصالة " لابن سبعين وبيّن فساده،   (1) . مجموع الفتاوى 18/140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 مع أنه لم يره من قبل، ومع أن المجلس الأول من المناظرة في شأن " الواسطية " كان بغتة، إلا أن الله تعالى أظهر به قيام الحجة، وظهور السنة. - يقترن بتلك المناظرات جوانب عملية من الاحتساب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاستتابة، والتأديب. هذا ما تيسر جمعه وبحثه وبالله التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 المراجع (1) إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان، لابن القيّم، ت: محمد عفيفي، ط 1، 1407هـ، المكتب الإسلامي، بيروت. (2) أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية، لناصر القفاري، ط 1، 1414هـ. (3) اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية، ت: ناصر العقل، ط 1، 1404هـ، مكتبة الرشد، الرياض. (4) الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية، لابن بطة الحنبلي، ت: رضا معطي، ط1، 1409هـ، دار الراية، الرياض. (5) البداية والنهاية، لابن كثير، ط 1، 1348هـ، مطبعة كردستان، مصر. (6) البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، لمحمد بن علي الشوكاني، دار المعرفة، بيروت. (7) بغية المرتاد في الردّ على المتفلسفة والقرامطة والباطنية (السبعينية) ، لابن تيمية، ت: موسى الدويش، ط 1، 1408هـ، مكتبة العلوم والحكم، المدينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 (8) بيان تلبيس الجهمية أو نقض تأسيس الجهمية، لابن تيمية، ت: محمد القاسم، ط 1، 1392هـ، مطبعة الحكومة، مكة. (9) التدمرية، لابن تيمية، ت: محمد السعوي، ط1، 1405هـ، الرياض. (10) التسعينية، لابن تيمية، ت: محمد العجلان، ط 1، 1420هـ، مكتبة المعارف، الرياض. (11) تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل والباطل، لابن تيمية، ط 1، 1425هـ، دار عالم الفوائد، مكة. (12) الجامع لسيرة ابن تيمية خلال سبعة قرون، لمحمد عزيز شمس، وعلي العمران، ط 1، 1420هـ، دار عالم الفوائد، مكة. (13) جامع الرسائل، لابن تيمية، ت: محمد رشاد سالم، ط2، 1405هـ، دار المدني، جدة. (14) جامع المسائل، لابن تيمية، ت: محمد عزيز شمس، ط 1، 1422هـ، دار عالم الفوائد، مكة. (15) الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح، لابن تيمية، مطبعة المدني، القاهرة. (16) الجوهر المنضّد في طبقات متأخري أصحاب أحمد، لابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 عبد الهادي، (ت 909هـ) ، ت: عبد الرحمن العثيمين، ط 1، 1407هـ، مكتبة الخانجي، القاهرة. (17) درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية، ت: محمد رشاد سالم، ط 1، 1399هـ، مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض. (18) الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، لأحمد بن حجر العسقلاني، ت: محمد جاد الحق، دار الكتب الحديثة، مصر. (19) الرد على البكري، لابن تيمية، ط 2، 1405هـ الدار العلمية، دلهي. (20) الرد على المنطقيين، لابن تيمية، ط 2، 1396هـ، إدارة ترجمان السنة، لاهور، باكستان. (21) الرسالة المدنية، لابن تيمية، ت: الوليد الفريان، ط 1، 1408هـ، دار طيبة، الرياض. (22) زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيّم، ت: شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط، ط13، 1406هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. (23) الاستقامة، لابن تيمية، ت: محمد رشاد سالم، ط 2، 1411هـ، جامعة الإمام محمد بن سعود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 (24) سير أعلام النبلاء، للذهبي، ط 1، 1409هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. (25) شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الحنبلي، ط 1، 1399هـ، دار الفكر، بيروت. (26) الصفدية، لابن تيمية، ت: محمد رشاد سالم، مكتبة ابن تيمية، القاهرة. (27) طبقات الشافعية الكبرى، للسبكي، ت: عبد الفتاح الحلو، ومحمود الطناحي، 1964م، القاهرة 1392هـ، مطبعة الحكومة، مكة (28) طريق الوصول إلى العلم المأمول مختار من كتب ابن تيمية، لعبد الرحمن السعدي، المؤسسة السعدية، الرياض. (29) العقود الدرية، لابن عبد الهادي، مطبعة المدني، القاهرة. (30) الفتوى الحموية الكبرى، لابن تيمية، ت: حمد التويجري، ط 1، 1419هـ، دار الصميعي، الرياض. (31) الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم، ت: محمد نصر وعبد الرحمن عميرة، ط 1، 1402هـ، شركة عكاظ، جدة. (32) مجموع الفتاوى، لابن تيمية، جمع: عبد الرحمن بن قاسم، ط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 1416هـ، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة. (33) مدارج السالكين، لابن القيم، ت: محمد حامد الفقي، 1375هـ، القاهرة. (34) منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية، لابن تيمية، ت: محمد رشاد سالم، ط جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، 1406هـ. (35) منهج الجدل والمناظرة في تقرير مسائل الاعتقاد، لعثمان علي حسن، ط 1 1420هـ، دار إشبيليا، الرياض. (36) موقف ابن تيمية من الأشاعرة، لعبد الرحمن المحمود، ط 1، 1415هـ، مكتبة الرشد، الرياض. (37) النبوات، لابن تيمية، ت: عبد العزيز الطويان، ط 1، 1420هـ، مكتبة أضوء السلف، الرياض. (38) النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير، ت: الطاهر الزاوي، ومحمود الطناحي، المكتبة العلمية، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89