الكتاب: البلاغة العربية المؤلف: عبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني الدمشقي (المتوفى: 1425هـ) الناشر: دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت الطبعة: الأولى، 1416 هـ - 1996 م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- البلاغة العربية الميداني، عبد الرحمن حبنكة الكتاب: البلاغة العربية المؤلف: عبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني الدمشقي (المتوفى: 1425هـ) الناشر: دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت الطبعة: الأولى، 1416 هـ - 1996 م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] مقدمة الكتاب الحمد لله ربّ العالمين الذي أتقن كلّ شيءٍ صنعاً، وفطر النفوس على حبّ الجمال، وزيّن ما خلَقَ بزيناتٍ روائعَ تميلُ إليها النفوس، وتأنَسُ بها وترتاح إليها، وهي تدلُّ عَلى إبداع خالقها وإرادته الحكيمة، في كلّ ما خلق من ظواهر وبواطن. هو الذي أنزل كتابَهُ القرآن معجزاً، وآيةً عظيمةً تدلُّ علَيْه، ومن إعجازه ما فيه من جمالٍ بيانيّ وبلاغةٍ رائعة لا ترقى إلى مِثْلها بلاغَةُ جميع البلغاء، ولا فصاحة جميعِ الفصحاء. والصلاة والسلام على رسُولِنا محمّدٍ خاتم النبيّين والمرسلين، وإمامهم، مَنْ خَصَّه الله بالدّينِ الخاتم، والكتاب الخاتم المعجز، فأنزلَهُ عليه مُتكَفِّلاً بحفظهِ مِنَ التغيير والتبديل والزيادة والنقصان، بقَصْدٍ أو نسيان، فهيّأ له من وسائلِ الحفظِ ما جَعَلهُ باقياً كما أنْزَلَهُ في السُّطُور والصُّدور وأدواتِ التسجيل الصوتي. وبعدُ: فخدمةً للقرآن كتاب الله المجيد، وحرصاً على إبراز بعض جوانب إعجازه البيانيّ، اجتهد علماء المسلمين بحثاً، وتَنْقِيباً واستخراجاً، حتَّى وَضَعُوا علوم البلاغة الثلاثة: "المعاني - والبيان - والبديع" وما يزال الباحثُون يَبْحَثُون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 ويستَخْرِجون ويكْتَشِفُون مِن عناصر إعجاز القرآن البياني ما لم يكتشِفْهُ السّابقون. على أنّ كتاب الله عزّ وجلّ أوسَعُ من أن يُحْصِيَ كُلَّ عناصرِ إعجازه البياني الباحثون والمستخرجون والمكتشفون، مهما اجتهدوا ونقَّبُوا، لأنّ كثيراً من عناصر الجمالِ تُدْرَكُ بالحسّ الجماليّ ولا يُسْتطاعُ تحديدُها والتعبيرُ عنها ولا اكتشافُ عناصِرِها. وسيظهر في كلّ عَصْرٍ من جوانب إعجاز القرآن البياني روائع ما توصَّلَ السّابقون إلى اكْتشافها واستخراجها، فَهُو كتاب لا تفنى عجائبُهُ، ولا يَخْلَقُ عَلى كثْرةِ الرَّدّ، كَما جاء وصفُهُ في كلام الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد فتح الله عليّ بجملة طرائف ولطائف هي من عناصر إعجاز القرآن البياني، أردتُ أن أضيفها إلَى علوم البلاغة التي استقرّت منذ قرون على هَيْكلٍ لم يَدْخُلْهُ من الإِضافات والتعديلات إلاَّ القليل، وبعضُ التطبيقات من الأمثلة. وفتح الله على غيري من الباحثين متناثرات تَتّصِل بموضوع إعجاز القرآن البياني، ويَحْسُنُ أن تُضافَ إلى علوم البلاغة، كظاهرة التصوير الفنّي الّتي اهتدى إليها المرحوم "سيّد قطب" وكالْبُحوث الطيّبة حول القصّة القرآنيّة الّتي نجدها لدى عدد من الباحثين المعاصرين. فعزمْتُ مستعيناً بالله العزيز الحميد الوهّاب أنْ أجْمَعَ ما انتهى إليه السّابقون من علوم البلاغة، محاولاً التذليلَ والانتقاءَ واستيعابَ الأمّهاتِ والْمُهِمّات، متجاوزاً التفصيلاتِ التي لا تُكسِبُ مَلَكَةَ تَذَوُّقِ الجمال البياني، والّتي دخلت في علوم البلاغة بتأثير الدراسات المنطِقيَّةِ والرّياضيّةِ العقليّة الصِّرْف، ومتجاوزاً الإِجراءات التي تُشبه التحليل الكيميائي في معامل الكيمياء، والتي تفقد النصّ روعته الجماليّة، كأنواعِ الاستعارات في الفعلِ والحرف وإجراءاتها، وأشباه ذلك. وأرجو أن أُوَفّق لتحقيق ما عزمْتُ عليه من تقريب علوم البلاغة وفُنُونِها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 للأجيال المعاصرة من ناطقي اللّغة العربية، بالأُسلوب الذي يُسَهِّلُ عليهم فَهْمَها، ويُيَسِّرُ لهم تَطْبيق قواعدها على الأمثلة من القرآن، وأقوال الرسول، وغيرهما من نَثْرِ وشِعْرِ البلغاء، ويُشجّعُهم على أن يقتدوا في بيانهم بالنماذج الرفيعة من النُّصوصِ البليغة، وأن يبتكروا أشياء بديعةً تهديهم إليها الفطرة الرّبّانيّة، بما أوْدع الله فيما خَلَقَ وفيما أنزل من جمال، وبما أودع فيهم من حِسٍّ جماليّ. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلَّى الله وسلم على سيّد البلغاء من الناس مُحمّدِ بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. عبْدالرحمن حسن حَبَنَّكة الميْداني مكة المكرمة فى 9/4/1414هـ 25/9/1993م الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 مقدمات عامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 (1) الغرض من دراسة علوم البلاغة والأدب البلاغة بفنونها الثلاثة "المعاني - البيان - البديع" وسائر الفنون الأدبية التي نبَّه عليها أدباء العرب، وكذلك سائر المذاهب الأدبيّة المستوردة من الشعوب غير العربيّةِ ليست إلاَّ بحوثاً وتتبُّعاتٍ لاكتشاف عناصر الجمال الأدبيّ في الكلام، ومحاولات لتحديد معالمها، ووضع بعض قواعدها، دُون أن تستطيع كلُّ هذه البحوثِ والدّراساتِ جَمْع كلِّ عناصر الجمال الأدبِيّ في الكلام، أو استقصاءها، واكتشاف كلّ وجوهها. فالجمال كثيراً ما يتذوّقه الحسّ الظاهر والشعور الباطن، دون أن يستطيع الفكر تحديد كلّ العناصر التي امتلكت استحسانه وإعجابه، وإنْ عرف منها الشيء الكثير، واستطاع أن يُفْرِزَه ويُحَدّد معالمه. إنّ آفاق الجمال أوسع من أنْ تُحَدَّدَ أو تُحْصَرَ بأُطُرٍ مقاييس، ولكن يمكن اكْتشَافُ بَعْضِ عناصرِ الجمال، وكُلِّيَّاتِه العامّة، وطائفةٍ مِنْ ملامحه. والْغَرَضُ من عرض الباحثين لفنون البلاغة وعلومها، وللمذاهب الأدبيّة المختلفة، وللأمثلة الأدبيّة الراقية المقرونةِ بالتحليل الأدبي والبلاغي، تَرْبيةُ القدرة على الإِحساس بعناصر الجمال الأدبيِّ في الكلام الأدبيّ الرفيع، وتربية القدرة على فهم النصوص الجميلة الراقية، والقدرة على محاكاة بعضها في إنشاء الكلام، والقدرة على الإِبداع والابتكار لدى الذين يملكون في فطرهم الاستعداد لشيء من ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وليس الغرض من دراسة هذه الفنون والعلوم والمذاهب والنصوص، الجمودَ في قوالِبِ ما اسْتُخْرجَ من العناصر الجمالية، وما وُضع من قواعد، دون اكتساب الإِحساس المرهف بمواطن الجمال، لتقديم الأفكار، وصياغة الكلام صياغةً أدبيّة بليغة. فَمَع ضرورة التَّسلُّح بهذه الدراسة، والاطلاع الواسع على النصوص الأدبيّة الجميلة الراقية، ودراستها دراسةً تَحْلِيلِيَّةً تكشفُ من جوانب الجمال والإِبداع فيها على مقدار اسْتِطَاعَةِ الْمُحَلّل، لا يصِحُّ بحالٍ من الأحوال الجمود عندها دون محاولات الابتكار والإِبداع والتجديد، بشرط أَنْ يكون ذلك الابتكار قادراً على انتزاع إعجاب ذوي الإحساس المرهف، والذَّوْق الرَّفيع في إدراك الكلام الأدبيِّ الجميل البليغ. هذه الحقيقة لا بُدَّ من ملاحظتها دواماً لدى أيّةِ دراسَةٍ بلاغيّةٍ وأدبيّة، ولدى إنشاء أي نصٍّ أدبيّ جديد. ومن الخير دواماً لكّل كاتب أو مُنْشِىءٍ أو شاعرٍ أن يحْذَرَ منْ أنْ يضَعَ الصورة الأدبيَّةَ الّتِي دَرَسَها بلاغيّاً أو أدبيّاً، وينشِىءَ كلامَهُ على قَالَبِها، فإذا فَعل ذلِكَ أَفْسَدَ كلامه، وشوّه روح القاعدة البلاغيّة أو الأدبيّة، وإن التزم بصورتها. إنّ تربية الذوق والملكة البيانيّة، مع تلقائيّة الأداء التعبيريّ لدى إنشاء الكلام كتابةً أو ارتجالاً، عند منْ يَمْلك الاستعداد لأن يكون أديباً بليغاً، هي الكفيلة بتفجير الإِبداع المطلوب في الأدب، بشرط عدم الخروج عن ضوابط قواعد اللّغة وأصول البيان. ومن جيّد ما قرأت في التعريف بخير الكلام، قول "خالد بن صَفْوان" وهو من فصحاء العرب المشهورين، كان يجالس عُمَر بن عبد العزيز، وهشام بن عبد الملك، توفي نحو (133 هجرية) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 "خَيْرُ الكلام مَا طَرُفَتْ مَعَانيه، وشَرُفَتْ مَبَانِيه، والْتَذَّه آذان سَامِعِيه". عن لسان العرب في مادة "طرف". *** (2) نظرات تحليليّة حول الغرض من الكلام الغرض من الكلام التعبيرُ عمّا في الفكر ومشاعر النفس وأحاسيسها بألفاظٍ دالّةٍ على ما يريد المتكلّم التعبير عنه. والكلماتُ رموزٌ اصطلاحيَّةٌ في الأوضاع اللُّغويّةِ الأولى، وفي الاستعمالات اللاّحقة للأَوْضَاعِ اللّغويّة والناجمة عن اسْتِخْدام الناس لمختلف الأساليب والْحِيَلِ الكلامية الْقَائِمةِ على التوسُّع في دلالاتِ الألفاظ، والانتقال بِها منَ الْحسّيَّاتِ إلى ما وراءَها، حتّى العقليَّات المجرّدة. * فمن أمثلة ذلك الحسيّات: التّضَرُّعْ: كان بمعنى خَفْضِ رَأْس الرّضِيع من صغار البهائم كَحَمَلٍ أو عِجْلٍ أَوْ سَخْلَةٍ، ونحو ذلك، ليَرْضَعَ مِنْ ضَرْعِ أُمِّهِ، فصار في التوسُّع اللُّغَوِيّ بمعنَى الذُّلّ والانْكِسار، ونَزَلَت التعاليمُ الرَّبَّانِيَّةُ المبيِّنَةُ للصُّوَرِ الْمُثْلَى من دَرجاتِ العبادةِ لله تباركَ وتَعَالَى، فَعَلَّمَتْنَا أَنَّ أَمْثَلَ الْعِبَادَةِ لله عزّ وجلّ ما كانَ بتَضَرُّع له، أي: بذُلِّ وانْكِسَارٍ اسْتِجْدَاءً لِرَحْمَتِهِ وَحَنَانِهِ، ويُعَبَّرُ عن حالَةِ الذّلِّ والانكسارِ في النفس بالركوعِ والسُّجُودِ لله جلَّ وعَلاَ. * ومن الأَمثلة في العقليّات: الحدّ - والْحُدود: فَأَصلُ الحدِّ في اللّغةِ الحاجزُ بَيْنَ شيئَيْنِ مادّيّيْنِ مُدْرَكَيْنِ بالْحِسِّ الظّاهر، كالأعلام والْفَوَاصِلِ الَّتِي تُوضع في نَحْو آخِرِ الأَرْضِ الَّتِي يملُكَها إِنْسَانٌ ما، لتُبَيِّنَ انْتِهاءَها وانْفِصَالهَا عَنْ غَيْرِها من ممتلَكَات الآخَرِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ثُمَّ صَارَ تَوَسُّعٌ في كلمة "الحدِّ" وجمعها "الحدود" فصارت تدلُّ على ما يفصل المعانِيَ الفكريَّةَ بعْضَها عن بعض، من بيانٍ جامعٍ لكُلِّ عَنَاصِرِ المحدود، مانعٍ من دُخولِ غَيْرِهِ فِيه. وبالحدودِ البيانيّة تُحْمَى المعاني من أنْ يتداخل بعضُهَا في بَعْضٍ، أو يختلط بَعْضُها ببعض. وتُسْتَخْدَمُ في الكلام الأشباهُ والنَّظَائِرُ، ودَلالاَتُ اللَّوازِم الكفريّةِ، لإِفْهَامِ الآخَرِينَ ما يُريدُ ذو الكلام التَّعْبِير عنْه، كمَا هو في ذهْنِهِ، أَوْ في مَشَاعِرِ نَفْسِهِ، أَوْ فِي إحْسَاسَاتِهِ الجَسَدِيّة، أو الوجْدَانِيَّةِ الباطنة. فلدَينا إذَنْ كلماتٌ مُفْرَدة، وجُمَلٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ كلماتٍ، وجَمِيعُها ذَواتٌ أَلْفَاظٍ وَذَوَاتُ دَلالاتٍ، وَأَلْفَاظُهَا ذَواتُ حُروفٍ مجتمعة تَنْطِقُ بِهَا الأدواتُ النَّاطِقَةُ، وهِيَ تُصْدُرُ بأصْواتٍ فَتَقْرَعُ آذان السامِعينَ بمختلِفِ أشْكالِهَا وصُوَرِها. وأصواتُ الحروفِ الَّتِي تُرَكَّبُ منْها الكلماتُ لها نَغَمَاتٌ وحُدودٌ مختلفات، فمنها ما يقْرَع السّمْعَ برِقَّةٍ ولينٍ فيستَحْلِيهِ، ومنْها ما يقرعُ السَّمْعَ بغلظةٍ وخُشُونَةٍ فَيَمُجُّهُ كَارهاً له، ومنْها ما ينْفِرُ منه السّمْعُ وتتقَزّزُ منْهُ النفس، سواءٌ أكان ذلك من الكلمة الواحدة مُفْرَدَةً، أمْ من اجْتِماع عدَّةِ كَلِماتٍ أحدثَ اجتماعُها ما لم يكُنْ عِنْدَ انْفرادِ كلِّ منها. وَكلُّ أمّةٍ تَضَع ما تَلَقَّتْ منْ كلمات أجدادها، وما تُضِيفُ من كلماتٍ تضَعُها لتُعَبِّر بها عن أفكارٍ ومشاعرَ وأحاسيسَ قامَتْ في أنفسها، مَوْضِعَ التجربة، لاختبارِ مدى لينِها وسُهولَةِ النُّطْقِ بها، أو مَدى التَّأْثيرِ النَّفْسِيّ لدى النطق بها في أنْفُسِ السَّامعين، ولاخْتبار مَدَى استحسان الأسماع لها، أو استقباحها، واستغلاظها، والنُّفْرَة منها، وتَقَزُّز النفس لدى سماعها. وخلال التجارب الطويلة تشيعُ غالباً الكلماتُ الَّتي تَوَاضَعَ مُعْظَمُ النَّاسِ على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 قبولها واسْتحْسَانِها، لأداءِ المعاني الَّتِي يُعبَّرُ بها عَنْهَا، مع ملاحظة الشُّعورِ بالتَّلاؤْم بينَ اللَّفظِ والمعنى في كثيرٍ من الكلمات، في المجتمع البشري الذي درجَتْ على ألسنة أفرادِه. وتُعْزَلُ في الغالب ِ الكلماتُ القاسية الصعبة، والكلماتُ المستقبحة المستغلظة، والتي تتقزّزُ مِنْها النفوس، إِلاَّ ما كانَ منها مقصوداً لِبَيَانِ قُبْحِ المعنَى، أو ما كان منها مقصوداً للشتائم، ونحو ذلك. ويَنتَقِي أصحابُ الأَذواقِ الرَّفيعَة منَ الكلمات أَلْيَنها في النُّطْقِ، وأحْلاها في الأسماع، أوْ أوفَقَهَا وأكْثَرها مُلاءَمَةً للمعاني الّتي تدلُّ عَلَيْهَا، ويخُصُّونَ بها أقوالهم ذوات الشأن، من خُطَبِ، ورسائل، ومقالات، وشِعْر، وقصّة وغير ذلك من موضوعات الكلام المحرّر المنتقى، الذي صار يُسَمَّى فيما بَعْدُ "أدباً" لأنَّه في الكلام يُشْبهُ أدبَ السلوك في الأعمال. وتظلُّ كلماتٌ مستقبحاتٌ شائعاتٌ، لدى من لهم هوىً في أن يستخدموا ألفاظاً قاسيةً خشنةً، تنفرُ منها الأسماع، إذْ يرَوْنَهَا نافعةً لهم في إزعاج الآخرين بها، أو لفت أنْظارِ الناس إليهم عن طريقها، كما يفعلون مثل ذلك في ألبستِهِمْ، وما يحملون من أسلحةٍ مستهجنة، وما يمارسون من حَرَكاتٍ وأعمال، إلى غير ذلك من أُمُورٍ يبتَعِدُ عَنْها الْمتأَدِّبُونَ من الناسِ بالآداب الحسنة، وذوو الأذواق الرفيعة، والسلوك الجميل الفاضِلِ بيْنَ الناس. وقد تتدخَّلُ عوامل أخرى في بقاء كلماتٍ صعبةٍ ثقيلةٍ في النُّطْقِ ضمْن الكلام الدارج المستعمل في اللّغة، وهذه العوامل يصْعُبُ تحديدها، وتبقَى هذهِ الكلماتُ حَيَّةً في الاستعمال بحُكْمِ الإِلْفِ والتقليدِ والمحافظة على المواريثِ اللُّغَويّة. ومن هذهِ العوامل تفاخُرُ الأُمَّةِ بقُدْرَةِ ألْسنَتِها على الانفرادِ بالنطق ببعض الحروف أو الكلمات، ومنها المحافظةُ على إحْدَى الصفاتِ القوميَّةِ للأُمَّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وتَظَلُّ كلماتٌ يسْهُلُ نُطْقُها على النّاس بالتداولِ في تَعاملاتِهمُ اليوميّة، ولو لم تكُنْ راقيةَ النغمات في تركيب حروفها، ولا عذْبةً في الأَسماع، ولكنْ بقيتْ في التداوُلِ بتأثير العادة، والحاجة إلى تداوُلها اليوميّ في تَعَامُلاتِ النّاس. وهذه الكلماتُ يبتَعِدُ عَنْها أدباءُ الْقَومِ وشُعَراؤُهم وخُطباؤهم وكُتَّابُهم لدى إنشاء كلامهم المجوّدِ الْمُحَسَّنِ الذي يحرصُونَ على أنْ يكون له شأنٌ بينهم. فظهر بسبب ذلك صنف من الكلمات ضِمْنَ اللُّغَةِ الواحدة، يوصَفُ بأنّه فصيحٌ، وصنْفٌ آخَرُ يوصَفُ بأنَّهُ غيرُ فصِيح. ثُمَّ لدى تركيب الكلمات في الْجُمَلِ التي تدلُّ على المعاني الَّتِي يرادُ تعريفُ المخاطبين بها، قد ينشَأُ من التركيب قساوةٌ أو صعوبةٌ في النُّطقِ، أو استقباح واستغلاظٌ ونُفْرَةٌ منْهُ في الأسماع، فلا يكون الكلام في هيئته التركيبيَّةِ فصيحاً، على الرغم من فصاحة مفرداته قبل اجتماعها في هذه الهيئةِ التركيبيَّةِ الخاصّة. فظهر بسبب ذلك ما يُسَمَّى به الكلامُ المركّبُ فصِيحاً أَوْ غَيْرَ فصيح. لذلك نلاحظ أنَّ من يختار لكلامه مفرداتٍ فصحيةً، وينظمها في كلامه نظماً ملائماً فصيحاً، مع التزامه بضوابط قواعد اللّغة وأحكام أهل اللّسان النحويَّةِ والصرفية، فإنَّه يصِحُّ أنْ يُسَمَّى ناطقاً فصيحاً. فصارت الفصاحة بهذا التحليل وصفاً للكلمة، وللكلامِ، وللمتكلّم. * فيقال: كلمة فصيحة، ويُقَابلها: كلمة غير فصيحة. * ويقال: كلامٌ فَصيحٌ، ويُقابله كلامٌ غيْرُ فصيح. * ويقال: متكلّمٌ فصيح، ويُقابله: متكلّم غير فصيح. وتختلف الأمم في أوضاعها اللغويّة، وفي أساليب كلامها، وتعبيراتها، وفي أذواقها، ومَا يلين من الكلمات والحروف في ألسنتها، وما يصُعُب ولا يلين عليها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وما هو مستنكر مستهجَنٌ في أسماعها، وما هو مألوفٌ محبَّبٌ أو مقْبولٌ لديها، وهذه ظواهر فطرة الله للناس، كما قال الله عزّ وجل في سورة (الروم/30 المصحف/84 نزول) : {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ} [الآية: 22] . *** أمّا دلالات الألفاظ على المعاني المرادة، فتتعرّض لأحوال: (1) إمَّا أنْ تكون قاصرة الدلالة غير وافية بتأدية المعنى المراد. (2) وإمَّا أن تكون وافية الدلالة بشرط وجود مُسَاعِدٍ لها من عبقريّة المتلقّي أو ذكائه المتفوّق، فإن لم يكن المتلقّي كذلك كانتِ الدلالة قاصرةً بالنسبة إليه. (3) وإمَّا أنْ تكون وافية الدلالة لدى الإِنسان المتوسّط الذّكاء. فإن كان المتلقي دون ذلك كانت الدلالة قاصرةً بالنسبة إليه، وإنْ كان المتلقّي فوق ذلك رأى فيه زيادةً مُمِلَّة. (4) وإمَّا أن تكون وافية الدلالة لدى الإِنسان الذي هو دون متوسّط الذكاء. فإنْ كان المتلقّي فوق ذلك كان الكلام بالنسبة إليه مُمِلاًّ مطوّلاً، ولا سيما بالنسبة إلى متفوّق الذكاء. (5) وتتعرَّض أيضاً دلالاتُ الألفاظ على المعاني المرادة لأحْوالٍ أخرى، في الموضوعات التي يُراد توصيلُ مضامينها إلى المتلقي، أو إقناعه بها، إلى ما يقتضي البسط، أو التوسُّطَ بين الْبَسْطِ والإِيجاز، أو الإِيجاز. أو يقضتي الابتعاد عن التوجيه المباشر، بدرجةٍ أو أكْثَرَ بِحَسَبِ ذكاء المخاطَبِ أو المتلَقِّي، فَيُبْلِغُ إليه المعاني الَّتِي يريدُ تعريفَهُ بها إبلاغاً حسناً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 فما يطابق حالَ المخاطب أو المتلقّي من الكلام مع فصاحة مفرادته، وفصاحة جُمَلِهِ المركَّبةِ هو الكلام البليغ. والمتكلّم الذي يكون كلامه من هذا القبيل يقال له: متكلّمٌ بليغ. ويرتقي الكلام البليغ بأساليبه في سُلَّمٍ ذي درجات متفاوتاتٍ فيكونُ بعضُه أبلغ من بعض، ضمْنَ الطبقة التي هو منها، والملائمة للْمُتَلَقِّي الذي يُراد إبلاغ المعاني المراد توصيلها إليه، مزيَّنةً بزيناتها التي تُعْجبُهُ وتُمْتِعُه، وتَهُزُّ مَشَاعِرَه، وتَسْتَأْثِرُ بجوانِب فكرِهِ ونفسه من الداخِلِ والخارجِ. فيختلف الإِعجابُ بالكلام من كلامٍ بليغٍ إلى كلامٍ بليغٍ آخَرَ، بحَسَبِ نِسْبَهِ ما فيه من مرضياتٍ للفكر والمشاعِرِ والأحاسيس. وهنا تبرز بلاغةُ الكلام، ومستوياتُ درجات هذه البلاغَةِ صعوداً ونزولاً. ولا يكون الكلامُ بليغاً في اللِّسَانِ العربيّ لدى علماء البلاغة، ما لم يكن مع تأثيره في المخاطب بِهِ تأثيراً بالغاً، كلاماً فصيحاً في مفرداته وجمله. *** (3) أسس البلاغة العالية والأدب الرفيع وشرحها في ثلاثة فصول باستطاعة الباحث المتفكر اكتشاف أنّ مقادير الارتقاء في درجات سلّم البلاغة العالية والأدب الرفيع في اللّسان العربي تعتمد على نصيب الكلام من عناصر الأسس الثلاثة التالية: الأساس الأول: الجمالُ المؤثر في النفس الإِنسانية، المفطورة على الميل إلى الأشياء الجميلة، وحُبّها، والارتياح لها، والتأثّر بها، والانفعال السّارّ بمؤثراتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الأساس الثاني: كون الكلام في مفرداته وجُمَلِهِ فصيحاً وفْقَ ضوابط وقواعد ومنهج اللّسان العربي، ولا يخلو هذا الأساس من مؤثرات جماليّة أيضاً. الأساس الثالث: كون الكلام بليغاً، أي: مطابقاً لمقتضَى حال المخاطب به فرداً كان أو جماعة، وبالغاً التأثير المرجوَّ في نفسه، ولا يخلو هذا أيضاً من مؤثراتٍ جمالية. ولشرح هذه الأسس الثلاثة يتطلَّبُ الْبَحْثُ المتأنيِّ عقْدَ ثلاثةَ فصول: الفصل الأول: الجمال في الكلام. الفصل الثاني: الفصاحة. الفصل الثالث: البلاغة. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 أسس البلاغة العالية والأدب الرفيع وشرحها الفصل الأول: الجمال في الكلام (1) حبُّ الجمال حبُّ الجمال فطرةٌ في النفس الإِنسانية، فهي بقوة فطرية قاسرة تميل إليه، وتنجذب نحوه، وليس بمستطاع النفوس أنْ تغيِّر فطرها التي فطرها البارىء المصوِّر عليها. والجمال شيء يصعب تحديده، ولكن باستطاعة النفوس أنْ تحسّ به وتتذوّقه متى أدركته، وعندئذٍ تميل إليه وتَنْجَذِب نحوه، وتأنس به، وترتاح إليه، وتَسْعَدُ بالاستمتاع بلذّة إحساس المشاعر به ولو تخيُّلاً، ويتفاوت النّاس في قدراتهم على تذوُّق الجمال والإِحساس بدقائقه كشأن تفاوتهم في سائر قدراتهم المادّية والمعنوية: مثل القوى الجسمية، وقدرات الذكاء، وقوى الإِبصار والسمع والشمّ والذوق واللّمس. والجمال يكون في كل المجالات التي تدركها الحواس الظاهرة والباطنة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 حتى مجالات الأفكار، والتخيّلات، والوجدانيّات، والطباع، والأخلاق، وأنواع السلوك الإِرادي النفسي والظاهر. ففي ساحة المرئيات تشاهد الأبصار مرئيات جميلة تتفاوت فيما تحظى به من نسب الجمال تفاوتاً كبيراً، وتشاهد مرئيات قبيحة تتفاوت فيما لديها من نسب القبح تفاوتاً كبيراً وتشاهد وسطاً فاتراً لا يجذب بجمال، ولا ينفِّر بقبحٍ. وفي ساحة الأصوات يسمع السامعون أصواتاً جميلة تتفاوت فيما تحظى به من نسب الجمال تفاوتاً كبيراً، ويسمعون أصواتاً قبيحة تتفاوت فيما لديها من نسب القبح تفاوتاً كبيراً، وتسمع أصواتاً فاترة لا تجذب بجمال ولا تُنَفِّر بقبحٍ. ونظير ذلك في ساحة الروائح، وفي ساحة الطعوم، وفي ساحة الملموسات التي فيها ناعم وخشن، وصلب وليّن، وقاسٍ وَلَدْن، وحارٌّ وبارد. وفي المشاعر الوجدانيّة ندرك أنَّ لدينا مشاعر وجدانية جميلة لذيذة، كمشاعر الحبّ، ومشاعر الإحساس بفعل الخير، ومشاعر الأبُوَّة والأمومة، والشعور بطمأنينة القلب، وبالأمن. وندرك أنَّ لدينا مشاعر وجدانية قبيحة نتألّم بها، كالشعور بالذّلة والصّغَار، وكالحقد، والحسد، وكالشعور بالخوف والقلق. وندرك أنّ لدينا مشاعر وجدانيّة فاترة لا تُحدِث لذّة نفسية ولا تُحدِث ألماً، كمشاعر الانتماء إلى أسرة مغمورة ليس لها مجد يُحدث في النفس لذّة الافتخار، وليس لها فضائح وقبائح تُحْدِث في النّفس ألم الصَّغار. وفي الساحة الفكرية نُدرك أفكاراً جميلة حلوة، وأفكاراً قبيحة مرّة، وأفكاراً فاترة لا تُحْدِث انفعال استحسان ولا انفعال استقباح. إنّ الفكرة الذكيّة المبتكرة فكرة جميلة، وإنّ الفكرة الغبيّة المستنكرة فكرة قبيحة، وإنّ الفكرة العاديّة المكرّرة دون غرض فنِّي أدبي فكرة فاترة تمرُّ دون أنْ تثير أي انفعال، وكذلك الفكرة الغامضة التي لا يستطيع من تُعرض عليه أنْ يُدركها. ويمرُّ في أذهاننا شريط أفكار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 طويل فلا يُحدث فينا أيّ انفعال من لذّة أو ألم، إنّها أفكار فاترة، وربّ فكرة تمرّ فتثير إعجاباً وانفعالاً عظيماً نحوها، وقد تمرُّ فكرة فتتقزّز النفس منها وتصرفها بسرعة وتتجاوزها. وفي ساحة التخيّل تمرُّ أخيلة جميلة حلوة لذيذة، وتَمرُّ أخيلة قبيحة كريهة، وتمرُّ أخيلة في شريط طويل، فلا تُحدث أيّ انفعال. وفي ساحة التعبير البياني عن الأفكار والمطالب والتخيّلات والمشاعر النفسيّة والوجدانيّة تُوجَد تعبيرات بديعة جميلة جذّابة، تتملّك المشاعر، وتؤثِّر في القلوب، وتتفاوت فيما بينها بما تحظَى به من نِسَب الجمال تفاوتاً كبيراً. وتوجد تعبيرات قبيحةٌ منفِّرة، وهذه تتفاوت فيما بينها بما فيها من نِسَب القبح تفاوتاً كبيراً، وتُوجَد تعبيرات فاترة تمرُّ دون أنْ تُحدث في النفوس أيّ انفعال محبوب أو مكروه. *** (2) مجالات الجمال من المعلوم لدى ذواقي الجمال أنّ الزينة من الجمال، وأنَّ كثيراً من المقاصد والمطالب إذا قُدِّمت إلينا مغلّفة بزيناتها أو مقرونة بزيناتِها كنّا أكثر قبولاً لها، وانسجاماً معها، لأنَّ جمال الزينة قد جذبنا إليها، وأقنع عواطفنا وانفعالاتنا بقبولها، ولنحظَى بلذّة الاستمتاع بالجمال، فتتحقّق من وراء ذلك المقاصد الأساسيّة والمطالب. وهذه الحقيقة تشمل الأفكار، فإذا قُدّمت بعض الأفكار المقصودة وما اشتملت عليه من مطالبِ اعتقادٍ أو عمل ممتزجةً أو مقرونة بزينات جميلة فكرية أو لفظية كانت النفوس أكثر انجذاباً إليها، وقبولاً لها، ثمّ تمسكاً بها أو عملاً بما طلب فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 إنَّ شأن الأفكار كشأن المآكل والمشارب والأدوية، وسائر المطالب والحاجات، فمنها ما هو حلو بطبعه، ومنها ما هو حامض، ومنها ما هو مرّ، ومنها ما هو ليّن، ومنها ما هو قاس، ومنها ما هو ناعم، ومنها ما هو خشن، ومنها ما هو مُهَوِّع مثيرٌ للغثيان، ومنها ما هو محرّك للشهوة مثير لِلُّعاب. حتى الطيِّبات من المآكل والمشارب وغيرها يزيدها حسناً وجمالاً وتطريةً وتحريكاً لشهوات النفوس نَحْوَها إذا قُدّمت في أطباق جميلة نفيسة، وعلى مائدة جميلة أنيقة، وفي أيدٍ نظيفة رشيقة حلوة لِخَدَم مكتملي الأناقة حِسَان، وفي مكان منظّم مليء بالأشياء الحسَنة الجميلة، من منظور ومسموع ومشموم وملموس ونحو ذلك. فالفكرة المرّة قد تحتاج غلافاً حلواً جميلاً يزيِّنها حتى يبتلعها مَنْ توجّه له. والفكرة الشديدة الحموضة قد تحتاج مخالطاً يعدِّل حموضتها حتى يستسيغها من توجّه له. والفكرة القاسية بطبعها قد تحتاج أسلوباً يليِّنها ويعدِّل قساوتها. والفكرة الخشنة بطبعها قد تحتاج أسلوباً ناعماً يغلِّفها ويهوِّن ابتلاعها. وكما أنَّ الحسِّيّات الجسدية يحتاج كثير منها إلى ما يجمّله ويحسِّنه ويزيِّنه للنفوس حتى تستسيغه، كذلك الأفكار التي نريد تقديمها إلى الآخرين قد يحتاج كثير منها إلى ما يجمِّله ويحسِّنه ويزيِّنه للنفوس حتى تستسيغه، وهذا التجميل والتزيين والتحسين هو من عناصر الأدب الرفيع لا محالة. ولكنْ ليس من الضروري لكلّ فكرة مقصودة بالذّات أنْ تُصنَع لها مزِّينات جماليّة لا يكون الكلام ذا أدب رفيع إلاَّ بها. فكثير من الأفكار جمالُها ذاتِيّ، وإذا قُدِّمت مجرّدة من كل الزينات والأصباغ والألوان في أحوال ملائمة لهذا التقديم كانت أرفع أدباً، وكانت النفوس أكثر تقبُّلاً واستساغةً لها، فهي تزدردها او ترتشفها بشهوة بالغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وهذا نظير تقديم سيِّد المائدة العظيم لضيفه العزيز قطعة مقشّرة من الفاكهة، أو قطعة منتقاة من أطيب اللحم، مجرّدة من أيَّة زينات موافقة أو مغلّفة لها. وقد يكون من رفيع الأدب تقديم الفكرة المرّة من غير تغليف ولا تحلية لتقديمها لمن يحسن إذاقته مرارتها، كأنْ يكون عدوّاً مجاهراً بعداوته مواجهاً بشتائمه، وفي بعض الحالات التربويّة نلاحظ أنّه كما يحسن الضرب يحسن ما هو نظيره من الكلام. *** (3) حول تعريف الجمال والجمال في الوجود مع إدراك النّاس له وإحساسهم بكثير من صوره، دقيق العناصر متشابكها فهو شيء يصعب جدّاً تحديده، ويَصْعب قِياسُه، ولا تنحصر ألوانه. وبما أنّ الأدب لون من الجمال، فهو إذن تنطبق عليه قواعد الجمال العامّة. إنّ من الجمال أحياناً أنْ تتصنّع الحسناء، ومن الجمال أحياناً أنْ لا تتصنّع، بل أنْ تظهر على طبيعتها. ومن الجمال أحياناً أنْ تلبس الثياب الجميلة الساترة لكثير من مفاتن جسمها بطرائق خاصّة، ومِنَ الجمال أحياناً أنْ تلمح بعض مفاتن جسمها إلماحاً ثمّ تسترها، ومن الجمال أحياناً أنْ تتعرى على طبيعتها من غير ابتذال ثمّ تعود إلى سواترها. ومِنْ أبدَعِ صُوَرِ الجمال التنويع فيه والتنقلّ من لون إلى لون آخر منه، أمّا الثبات والتكرار للصورة الواحدة في كل الأوقات فهو مُمِلٌّ للنفوس مهما كانت هذه الصورة جميلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 باستثناء تكرار المقاطع في بعض ألوان صُوَر الجمال، كشجرة الورد على رأس كل زاوية عند منعطف الطريق، أو على رأس كلّ مسافة، لتكون بمثابة الدلالة. وكذلك حال الأفكار وأساليب عرضها الأدبي، ومثل شجرة الورد المتكرّرة على رأس كل مسافة أو على الزوايا، آية: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الآية: 13] في سورة الرحمن عروس القرآن. لكنّها صورة قدّمت لوناً من ألوان الجمال الأدبي ومثالاً من أمثلته، قلَّما يوجد في سائر القرآن نظير مطابق لها، بل فيه ألوان أخرى. ومع وجود قسم من الجمال لا يختلف اثنان في استحسانه، وقدر من القبح لا يختلف اثنان في استهجانه، فكم توجد أوساط مشتبهات تختلف فيها أذواق النّاس، وتختلف وجهات أنظارهم إليها. فما يستحسنه بعض النَّاس منها قد لا يراه غيرهم حسناً، وما يستقبحه بعض النّاس منها قد لا يراه غيرهم قبيحاً، وتتدخّل النظرات الذاتيّة الشخصية في قسم المشتبهات بشكل واسع، ويصعب فيها تحديد النظرة الموضوعية. ويخضع الأدب لهذا القانون العام. فقد يُرْضِي كلام ممدوحاً مغروراً بنفسه بحبّ المديح، فيراه أدباً رفيعاً مستحسناً، لكنّه في الوقت نفسه يُسْخِط حاسداً له، فيراه تزلّفاً تافهاً، وأسلوباً في المدح سخيفاً مستهجناً، ويسمعه فريق ثالث فلا يرى فيه ما يحرّك النفس بإعجاب ولا ما يحرِّك النَّفس بتقزّز واستجان. وقد تُرْضِي تعبيرات حبِّ معشوقة، فتراها أدباً رفيعاً مستحسناً، فتحفظها وترويها بإعجاب، لكن هذه التعبيرات قد أسخطت في الوقت نفسه أترابها، فرأينها تعبيرات سخيفةً مبتذلة. ثمّ يسمعها حياديّون فلا يرون فيها رأيَ المعشوقة المعجَبَة، ولا رأي أترابها الساخطات، بل يرون فيها أدباً عادّياً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وهكذا تختلف وجهات أنظار النّاس إلى هذه الأوساط المشتبهات، التي لم يتمحّص فيها الجمال، ولمْ يتمحّض فيها القبح، وتتدخّل عوامل نفسيّة في الاستحسان، أو في عدم الاستحسان، وربّما تتدخّل عوامل أخرى تّتصل بمدى القدرة على الإِحساس بالجمال، أو بمَدَى الخبرة بفنونه وألوانه وأشكاله ونسبته، أو بمَدَى دقّة الملاحظة التي قد تَقَعُ على النّقص فتقف عنده، وتجسّمه حتى يملأ الساحة، أو تَقَعُ على لمحة جماليّة فتقف عندها مُعَجْبَةً وتعظّمها، ويتدخّل الوهم في مدّها حتى تملأ كل الساحة. وهكذا. *** (4) عوامل اختلاف نظرات الناس إلى الجمال لدى تحليل العوامل التي تجعل النّاس يختلفون في نظراتهم الجماليّة إلى الأشياء اختلافاً كبيراً، حتى إنَّ الشيء الواحد قد يستحسنه فريق، وقد يستقبحه فريق آخر، ويجعله فاتراً واقفاً على الحياد فريق ثالث، والمستحسنون له قد يتفاوتون في درجة استحسانه، والمستقبحون له قد يتفاوتون في درجة استقباحه. لدى هذا التحليل نلاحظ العوامل التالية: العامل الأول: التلاؤم أو عدم التلاؤم بين أجهزة الإِحساس في الإِنسان والأشياء التي يُدْرِكها ويُحِسّ بها. والأمزجة والأذواق البشريّة تختلف في هذا اختلافاً فطريّاً لا يُنْكَر، وبسبب هذا العامل قد تختلف أحكامهم في هذا المجال. العامل الثاني: تدخُّل أهواء أو مصالح شخصيّة مرافقة. وبسبب هذه الأهواء أو المصالح تختلف وجهة نظر أصحابها عن وجهات أنظار الآخرين الذي ليس لهم أمثال هذه الأهواء أو المصالح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 العامل الثالث: حكم العادة والإِلف، فكثير منَ النّاس إذا اعتادوا لوناً من ألوان الجمال آثروه تلقائياً على غيره، وحَكَمُوا بأنّه أحسن وأجمل، وربّما لم يكن كذلك في حقيقة الأمر. العامل الرابع: مؤثِّرات البيئة، فقد تتواضع بيئة ما على استحسان لون جمالي، وربّما كان عاديّاً جدّاً وابتدائياً من سلّم الارتقاء الجمالي، إلاَّ أنّ تأثير البيئة يجعل الناشئين فيها يقتبسون منها الأذواق الجماليّة، فيتأثّرون بأحكامها الناقصة، أو أحكامها التي لا تَنِمُّ عن ذوق رفيع، وكذلك البيئات الراقية تمنح الناشئين فيها أذواقاً رفيعة، والبيئات تتفاوت تفاوتاً كبيراً في هذا المجال. العامل الخامس: مدى القدرة على تصيّد نقاط الجمال والإغضاء عمّا سواها، وجعله أرضية لا تثير الانتباه. وقد يكون العكس، فتكون القدرة النقدية ذاتَ إحساس مفرط تجاه تصيّد نقاط النقص أو القبح فقط، أمّا سواها فتُغضي عنه، وتجعله أرضيّة غَيْرَ مُثِيرة للانتباه. وبسبب هذا العامل بشَطْرَيْهِ وتفاوت نسبة كل منهما في النَّاس تظهر أحكام متباينة أو متخالفة. العامل السادس: سعة التجارب وضيقها في اكتساب ذوق الإِحساس بالجمال، وتفاوت نسبه. فذو الخبرات الطويلة الباحثة والناقدة يكون أقدر على تذوُّق الجَمال، وإدْراك درجاته المتفاوتات، من الإِنسان العاديّ غير ذي الخبرة، أو السائر في طريق البحث والنقد، ولم تكتمل بَعْدُ لديه القدرة على تَذوُّق الفروق الجمالية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 (5) عناصر الكمال والجمال الأدبي لا بُدَّ أوّلاً من توافر الأركان الأساسية للكلام البليغ، وهي: (1) مطابقته لمقتضى حال المخاطب به. (2) التزامه بقواعد اللّغة وضوابطها في مفرداتها وتراكيب جملها. (3) خلُوّه من التعقيد اللّفظي، والتعقيد المعنوي. وبعد توافر هذه الأركان الأساسيّة توجد عناصر كثيرة تُكْسِبُ الكلام ارتقاءً أدبيّاً وتُعْطيه جمالاً وإبداعاً، ورونقاً وحياةً، وقدرةً على التأثير والهيمنة على النفوس والأفكار والقلوب. وبمقدار ما يُمْكِنُ أن يجتمع في الكلام من هذه العناصر، متلائمةً غير متنافرة، متوائمة غير متشاكسة، مُتَحابّة غير متباغضة، مطابقةً لمقتضى حال المخاطب، يكون تسامي الكلام في سلّم الكمال الأدبيّ الرفيع، الّذي يحتلُّ قمّته لدى التحليل المِْجْهَريّ الدقيق كلام الله المعجز، ثمّ يأتي من دونه كلامُ الناس، مع المسافات الشاسعات بينه وبين قمّة كلام الناس. وكما نقتبس عناصر الجمال والكمال من لوحات الطبيعة التي خلقها الله، فنعمل الأعمال الفنيّة الرفيعة بمحاكاة الفنون المختلفة فيها ضمن قدراتنا البشريّة، ونتتلمذ على الأمثلة الجمالية الكمالية التي تقدّمها لنا، فنكتسب منها الذوق، وفنون الصنعة الرائعة، بأشكالها وألوانها وأنغامها وملامسها وأنظمتها وحركتها وحياتها وعواطفها ولذّاتها وآلامها وذكرياتها وتحسّراتها وآمالها ومخاوفها، إلى سائر الظواهر الطبيعية في كل جامد متحركّ ونام وحيّ. كذلك يقتبس أهل البصيرة عناصر الجمال والكمال الأدبي من اللّوحات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 البيانيّة البديعة المنزّلة من لَدُنْ حكيم عليم، والتي نتدبّر ما نتدبّر منها في كتاب الله المجيد على مقدار قدراتنا البشريّة. وهذا التدبّر الواعي يحتاج إلى بصيرة نفّاذة لمّاحة، وصبر طويل، ومعالجات متكرّرات، ومعرفة بما توصّل إليه المتدبَّرون السابقون، وبحث مستمر لاستنباطات جديدة، ثم تكون أنصبه الباحثين بعد كل ذلك على مقدار مواهبهم، لا على مقدار البحر المحيط الذي يغترفون منه، ويغوصون في أعماقه، ليستخرجوا من روائعه وبدائعه. الكلام ولفظ المعنى: ومن الْبَدَهِيّاَت الأساسيّة أنّ الكلام ذا الدلالة اللّغوية إنّما هو لفظ ومعنى. * أمّا اللفظ، فينحلّ إلى قسمين: 1- مفرد. 2- مركب. أمّا المفرد في المنظار الأدبي، فيمكن أنْ نقسِّمه إلى أربعة أقسام: القسم الأول: اللّيّن السهل، وتتفاوت في ذوق الأديب درجات هذا القسم، فمن هُلاميّ رجراج، مثل الكلمات الخفيفة التي يستطيع الأطفال الصغار المبتدئون بالنطق أن ينطقوا بها صحيحة سليمة، وهي غالباً تتألّف من الحروف الشفويّة والصوتية، ثم الحروف اللّثويّة والصوتيّة، مثل: "بابا - ماما - دادا - لولو" وتتدرّج النسبة ارتقاء، مع المحافظة على صفة اللّين والسهولة، ولكن بالنسبة إلى نطق الكبار العادّيين، مثل: "نَسْمَة - بَسْمَة - رَنَا - دَنَا - وَهَى - وَشَى" ومن السهل اللّين في القرآن قول الله تعالى في سورة (الرحمن 55) : {الرحمان * عَلَّمَ القرآن * خَلَقَ الإنسان * عَلَّمَهُ البيان * الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ * والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الآيات: 1 - 6] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 القسم الثاني: القويّ الجزل، وتتفاوت في ذوق الفصيح ذي الحسِّ المرهف درجات هذا القسم. ومن أمثلة القوي الجزل المفردات التالية من سورة (الشمس 91) : "ضُحاها - جَلاّها - يَغْشاها - طَحَاها - بِطَغْواها - إذا انْبَعَثَ أشْقَاها - فَعَقَروها - فَدَمْدَم عليهم - عُقْباها". القسم الثالث: الحُوشِيُّ الغريب، وتتفاوت درجات هذا القسم. والحوشي الغريب ما قلّ في العرب استعماله، لثقله على الألسنة، حتى يكاد بعضه يُهمل في الاستعمال عند معظم العرب، مثل المفردات التالية: الْحَنْطَبَة: بمعنى الشجاعة. والْحَيْزَبُون، والشَّهْرَبَة: بمعنى المرأة العجوز. طَخَا الليل: بمعنى أظلم. تَطَشَّى المريض: بمعنى برىء. النُّقَاخ: وهو الضرب على الرأس بشيء صلب. الْهَبَيَّخَة: وهي الجارية باللّغة الحِمْيَرِيَّة. الْهَبَيَّخُ: وهو الرجل الأحمق، والوادي العظيم، والنهر العظيم. الْقُدْمُوس والْقُدْمُوسَة: وهي الصخرة العظيمة. الْعَقَنْفَسُ والْعَفَنْقَس: هو السيِّىء الخلق. القسم الرابع: الصعب الجموح، وتتفاوت درجات هذا القسم. ومن الصعب الجموح ماهو حوشي غريب، ولكن ليس كل صعب جموح كذلك، فقد لانت في ألسنة العرب كلمات صعاب، وبقيت مستعملة دارجة بيْن أُدبائهم إلاَّ أنّها صعبة على الألسنة لها جُموح ونفور، مثل الكلمات التالية: غَضَنْفر: من أسماء الأسد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 مُسْتَشْزِر: أي مفتول. عَقْعَقٌ: اسم لطير. والأديب رفيع الأدب، مرهف الحسّ في ذوق الكلمات، يختار في كلامه من القسمين الأوّلين: * اللّين السهل. * والقوي الجزل. ويضع ما يختار في موضعه مراعياً حال المخاطب وما يسرُّه من المفردات، وما يلائم ذوقه، ولغة قومه. ويحسن به أنْ يختار لبعض الموضوعات مفرداتٍ ذاتَ جَرْس موسيقي وإيقاعٍ رشيق. ويختار أيضاً من الكلمات ما يلائم المعنى من لين وسهولة أو قوّة وجزالة. ويختار أيضاً من الكلمات ما هو أليق بالمناسبة، وبالموضوع العام للكلام، وأكثر ملاءمة لهما. ويبتعد عن الحوشي الغريب، إلاَّ في مجال التعليم، أو لنُكَتِ أدبيّة خاصّة. ويجعل الصعب الجموح مقصوراً على مواطن خاصّة تستدعي النُكتةُ الأدبيّة اختيار بعض منها، مثل كلمة: (ضِيزَى) في وصف القسمة الجائزة غير العادلة، لما لهذه الكلمة بحروفها وصيغتها من إيحاءات تلائم التشنيع على القسمة الجائرة. والدُّعاة إلى اللهِ مطالبون بالتزام هذا المنهج الأدبي في دعوتهم. *** وأمّا المركب في المنظار الأدبي: فَلَه تقسيمات من ثلاث جهات: 1- جهة السبك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 2- جهة الكثافة. 3- جهة تواصل الجمل بأدوات الربط أو تفاصلها. أوّلاًَ- فمن جهة السبك: ينقسم اللّفظ المركّب إلى أربعة أقسام: القسم الأوّل: المتلائم المتناسق، المتوائم السهل حَسَنُ السّبك. القسم الثاني: المتنافر الصعب العَسِر النطق. القسم الثالث: سيِّىء السَّبك ضعيف الإِنشاء. القسم الرابع: معقَّد الترابط صعب الفهم. والأديب البليغ رفيع الذوق، ذو الحسّ المرهف، المتمرّس بصناعة القول الرفيع، يحاول أنْ يكون كلامه سليماً من أنْ يكون سيِّىء السبك، ضعيف الإِنشاء، ومن أنْ يكون معقّد الترابط صعب الفهم. ويتحرّى أنْ يكون كلامه من القسم الأوّل (المتلائم المتناسق المتوائم السهل حَسَن السبك) . ويبتعد جَهْدَ مستطاعه عمّا هو متنافرٌ صعب عَسر النطق، ويُولِي عناية للعناصر الجماليّة التالية: (1) صياغة الجملة صياغة فنّية سَهْلَة الفهم، لا توقع فكر المخاطب بارتباك في ربط مفردات الجملة، ولا تُكَلِّفه مشقّة، حتى يفهم المراد منها. (2) رصْف الجمل رصْفاً يثير الاستحسان والإِعجاب لدى المخاطب. وقد يحتاج هذا إلى التفنُّن في الجُمل، ما بين متوازنات طولاً وقصراً أحياناً، ـ وبين طويلة ومثل نصفها أو ثلثها أحياناً أخرى، وبين ترك التوازن ليذهب الكلام منساباً. وقد يحسن التكرير في بعض هذه العمليّات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 ولا ضابط لمَواطن الجمال فيها إِلاَّ الحسّ المرهف الذوّاق للجمال الأدبي. (3) وقد يَجْمُلُ بعض السجع غير المتكلَّف ولا المتصنَّع، بشرط عدم الالتزام به في كل الكلام. (4) المحسِّنات البديعية اللّفظية التي تأتي مناسبة محبّبة غير متكلّفة ولا متصنّعة. (5) فنون الشعر الذي له تأثير في أساليبه وموسيقاه على مشاعر كثير من النّاس. ورجال الدّعوة إلى الله مطالبون بالعناية بهذه العناصر الجمالية الأدبيّة في دعوتهم، إذا خَطبوا، أو حاضروا، أو تحدّثوا، أو كتبوا، أو نظّموا شعراً، أو ألّفوا مؤلفات علميّة، أو توجيهيّة، أو أدبيّة. وأنْ يُسَخِّروا أدبهم في خدمة الدّعوة إلى الله. ثانياً - ومن جهة الكثافة: ينقسم الكلام إلى ثلاث مراتب، تُعرف عند علماء البلاغة بالإيجاز، والمساواة، والإِطناب، كما سيأتي بيانها إن شاء الله في علم المعاني. ولكلّ من هذه المراتب درجات متفاوتات. وأشرح الكثافة في بناء الكلام وأشرح مستوياتها في تحليل أدبي فكري، فأقول: تخضع التعبيرات الكلاميّة عن المراد لنِسَب متفاوتة من الكثافة. فمِنَ الكلام ما هو شديد الكثافة، وقد تشتدّ فيه حتّى يكون بمثابة قطعة من الصخر، لا تُعرف عناصرها حتى تُكسر وتُطحن، وتُفرَّق الأجزاء عن بعضها، وتحلّل بوسائط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وبعض متون العلم المكثّفة المختصرة هي من هذا القبيل، وقلّما يسلم التكثيف الشديد في الكلام من الإِخلال في الدلالة على المراد. وفهم المكثّف من الكلام يحتاج إلى ملكات ذهنيّة عالية، أو إلى تدريب ممارسة طويلة، وتعلّم على أيدي أهل العلم. وتخفّ الكثافة ببسط الكلام وتمديده، ويتدرّج ذلك في سلَّم كثير الدرجات، ولكنْ ليس لدينا ميزان نزن به كثافة الكلام، شبيه بميزان الكثافة الذي توزن به السوائل، فالمرجع في تحديد الكثافة أذواق العلماء والأُدباء، وملاحظة سهولة استساغة الكلام من قبل العامّة أو عدم ذلك. وباستطاعتنا أنْ نقسِّم مستويات الكثافة في الكلام إلى ثلاث مراتب، ولكلِّ من هذه المراتب الثلاث درجات متفاوتات. المرتبة الأولى: هي مرتبة الكلام الموجز المختصر. ولهذه المرتبة عدّة درجات ما بين شديد الكثافة، أي شديد الإِيجاز والاختصار حتى مستوى الرمزيّة، وما بين كثافة يتحمّل الإِنسان العادي فهمها ولكن بشيء من الممارسة والتدرّب والتأمّل. وعنوان هذه المرتبة عند علماء البلاغة: (الإِيجاز) . وتستخدم هذه المرتبة لدى اختبارات الذكاء، ولدى مخاطبة الأذكياء وكبار القوم وأمرائهم، بشرط أنْ يكون المخاطب بها قادراً على فهم المراد ولو بتأمُّل يسير، وبالنسبة إلى أحوال هؤلاء تداول الأُدباء قديماً عبارة (البلاغة الإِيجاز) . وتستخدم هذه المرتبة في الخلاصات العلمية التي يعدّها طلاّب العلم للحفظ، وتَذَكُّرِ المسائل العلمية بها. المرتبة الثانية: هي مرتبة الكلام الذي هو متوسط البسط، وضابطه فيما أرى أن يكون لكلّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 فكرة يراد الدلالة عليها لفظ يدل عليها، أو صيغة تدلُّ عليها، أو تركيب خاصٌّ يدل عليها، بشرط أن يكون المخاطب عارفاً بذلك ويفهمه دون كدٍّ ذهنيّ، ودون حاجة إلى تأمّل طويل. وقد يبدو أنّ هذه المرتبة ليس فيها درجات متفاوتات، إلاَّ أنّني أرى خلاف ذلك، فلها فيما أرى درجات، وتختلف هذه الدرجات وتتفاوت، باختلاف أحوال المخاطبين وتفاوتهم في قدراتهم على الفهم، واستيعاب دلالات الكلام، وفي معرفة دلالات الصِّيَغ والتراكيب، وفي التمرّس بمتابعة فهم المعاني من الكلام. فمتوسّط البسط من الكلام بالنسبة إلى المبتدىء ليس هو كذلك بالنسبة إلى الذي تقدّم أشواطاً في معرفة دلالات الكلام وفهمها. وكبار القرّاء لهم متوسط يناسبهم، والأذكياء لهم متوسط يناسبهم، والأطفال لهم متوسط يناسبهم. فيدخل في تحديد نسبة التوسّط اعتبار حال المخاطب. وعنوان هذه المرتبة عند علماء البلاغة (المساواة) ولكن ربّما كان تحديدي لها يختلف مع تحديد علماء البلاغة. ويحسن استخدام هذه المرتبة في معظم الأحوال، ولا سيّما لدى كتابة صكوك العقود والمعاهدات، وكتابة المواد القانونيّة، وكتابة متون العلوم، والتعريف بالمبادىء في نصوص معدّة للحفظ والتداول بين النّاس، ومن ذلك كثير من أحاديث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مثل قوله: "اجتنبوا السبع الموبقات". قالوا: يا رسول الله وما هنّ؟. قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النّفس التي حرّم الله إلاَّ بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولّي يوم الزحف، وقَذْف المُحْصنات المؤمنات الغافلات". رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة المرتبة الثالثة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 هي مرتبة الكلام المبسوط، والكلام المبسوط هو ما لو حذف منه شىءٌ بالنسبة إلى حال المخاطب به لفهم المراد فهماً تامّاً، دون كدٍّ ذهني، ولا تأمّل طويل، ولَمَا حدث لديه أيّ ارتباك فكريّ أو غموض، ولَمَا نقص لديه من الفهم شىءٌ. والكلام المبسوط له حدود دنيا، يمثّلها ما زاد على نسبة التوسّط ولو قليلاً، ثم تزداد درجات البسط كلّما زاد بسط الكلام، ولا حدّ لأكثرها، وباستطاعة الثّرثار أنْ يَمُدَّ كلاماً تكفي صفحة واحدة لفهم المراد منه فهماً كاملاً تامّاً، دون إِرباك ولا كدّ للذهن ولا تأمّل طويل، فيؤلّفَ كتاباً من مئات الصفحات ثم لا يخرج قارئها بأكثر ممّا فهمه قارىء الصفحة الواحدة، ونلاحظ أمثلة كثيرة لهذه الثرثرات في كُتب الشيوعيّين، وكُتب الَّذين نَسَجُوا على منوالهم، والغرض من الثرثرة تغطية عيوب المضامين الفكريّة، والإِيهام والتعمية على الغوغائيين من المراهقين والمراهقات في أعمارهم أو في أفكارهم، ولا سيّما إذا اقترنت هذه الثرثرات بعبارات غامضات ومصطلحات تُوهِمُ أنّ وراءها فلسفة وعلماً عظيماً. وعنوان هذه المرتبة عند علماء البلاغة: (الإِطناب) . إذا كانت الزيادة في الألفاظ ذات فائدة، وإلاّ كانت الزيادة من قبيل الإسهاب والتطويل. وقد يحسن استخدام ما يدخل في هذه المرتبة من الكلام في دروس التعليم، وفي مجالس الوعظ العامّة، وفي الخطب التي تُلقى على جماهير، وفي بعض مجالس المؤانسة والمحادثة، وفي إلقاء القصص أو كتابتها، ولكنْ يشترط في ذلك أنْ لا يصل المتكلّم بالمخاطبين أو بالقرّاء إلى مستوى السأم والْمَلَل، فبعد السأم والملل يكون الضجر، ثم النفور، وعندئذٍ يثمر الكلام عكس المقصود منه، ويشترط أيضاً أن ْ يكون بسط الكلام عن طريق الاستطرادات الخارجة عن أصل موضوع الكلام، ومعلوم أنْ الاستطرادات تجرّها أدنى مناسبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 ثالثاً: ومن جهة تواصل الجُمل بأدوات الربط وتفاصلها: فقد حرّر علماء ضوابط ذلك في مبحث "الفصل والوصل" كما سيأتي بيانه في علم المعاني إن شاء الله تحريراً كاملاً فيما أرى الآن، إلاَّ أنّ ضوابطهم تحتاج إلى تطبيقات واسعات على الأمثلة، لتدريب المهتمّين بفنون الأدب وصناعة الكلام. فعلى رجال الدّعوة إلى الله أنْ يكونوا على بصيرة بمحاسن الفصل والوصل بيْن الجمل في الكلام، حتّى يكون كلامهم أرفع أدباً، وأعظم تأثيراً. وأعظم معلِّم لمحاسن الفصل والوصل بيْن الجمل كِتاب الله ثم أقوال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. *** * وأمّا المعنى فالنظر إليه يكون من جهات ثلاث: الجهة الأولى: جهة كوْن المعنى له لفظ لغوي موضوع أو مستعمل في عُرْف النّاس أو في مصطلحاتهم للدّلالة عليه، أو ليس له لفظ يدلّ عليه. الجهة الثانية: جهة الدّلالة على المعنى عن طريق الأسلوب الكلامي المباشر، أو عن طريق الأسلوب الكلام غير المباشر. الجهة الثالثة: جهة المعاني أنفسها وقيمها الفكريّة والجماليّة. والبحث العلمي الشامل المتّزن يأخذ بأيدينا إلى النّظر الثاقب في المعاني من هذه الجهات الثلاث. *** وبنظرة عَجْلى وبحث أوّليّ متواضع أعقد لكل جهة من هذه الجهات الثلاث مقولة خاصّة بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 اوّلاً - مقولة الجهة الأولى حول المعنى: وهي كون المعنى له لفظ يدلّ عليه أو ليس له لفظ يدلّ عليه. إنّ المعاني التي يمكن أنْ يحيط بها علم الإِنسان، أو يصل إليها إدراكُه الذهني، أو تخيُّلاته، تنقسم إلى قسيمن: القسم الأول: هي المعاني التي لها ألفاظ لغويّة تدلّ عليها. القسم الثاني: هي المعاني التي ليس لها ألفاظ لغويّة تدلّ عليها. * مثل بعض الوجدانيّات والمشاعر النفسيّة التي لا يجد الشاعر بها ألفاظاً تدلّ عليها. * ومثل بعض المركبات التخيّلية التي ليس لها أمثلة في الواقع. * ومثل الغيبيّات التي لم يصل إلى حسّ النّاس أيّة صفة من صفاتها، ولكنْ أدركوا بعض آثارها، كالجاذبيّة قبل أنْ يتنبّه العلماء إليها ويضعوا لها اسماً. * ومثل كثير من عناصر الأرض ونباتاتها وحشراتها وأجزاء الأجسام المركّبة التي لم يحدّد النّاس بَعْدُ أسماءً لها. * ومثل كثير من الطعوم والروائح التي لا تُحْصَر فروعها، وإنْ عرفت أصولها، وكذلك الأصوات وما بينها من فروق وما لأصول أنغامها من فروع. * ومثل كثير من الأعمال ذات الحركات المركّبة المتداخلة التي صار النّاس يشاهدونها بعد اختراع الآلات واكتشاف الطاقات. وكلّنا نلاحظ أنّه كلّما وضح في أذهان النّاس معنى من هذه المعاني، وصاروا بحاجة إلى تداوله والتعبير عنه بدأوا يضعون لفظاً منقولاً أو مرتجلاً يدلّ عليه، ومع تداول هذا اللّفظ مشيراً إلى المعنى الذي وُضِع له يغدو رمزاً معروفاً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 فكُلما ذُكِرَ اللّفظ ربط به الذّهن معناه، مستخرجاً له من خزائن المعاني عنده، ووضعه في ساحة التصوّر الحاضر. وتعجُّ كتب العلوم بالألفاظ المستحدثَة التي هي من هذا القبيل، وتُعْرَف بالمصطلحات العلميّة. وتتزايد في تداول النّاس ضمن لغاتهم الدَّارِجات ألفاظ تدلُّ على معانٍ لم يكنْ لها من قبل ألفاظ تدلُّ عليها، لأنَّ هذه المعاني لم تكن موضوعة من قبل موضع التداول العام، إذْ لم تكنْ الحاجة ماسّة إلى تداولها بين النّاس. وفي المقابل تموت ألفاظ دالّة على معانٍ لأنّ هذه المعاني لم تعد الحاجة ماسّة إلى تداولها، كأسماء بعض الأدوات التي أهمل النّاس استعمالها. ومِنَ المُلاحظ أنَّ اللّغات يسرق بعضها من بعض مَعَانِيَ وألفاظاً فتغدو متداولة في غير مواطنها الأصليّة بعدَ أنْ لم تكنْ كذلك. وكثيراً ما يحتال الإِنسان ليدلّ الآخرين على معنى لا يجد له في اللّغة لفظاً يدلّ عليه دلالة واضحة، إذْ يَلْحَظُ شبهاً قويّاً أو ضعيفاً بينه وبين شيء ممّا له في اللّغة لفظ يدلُّ عليه، فيستخدم اللّفظ الدالَّ على هذا الشبيه فيضرب مثلاً منه، وإذا كان هذا المعنى الشبيه قابلاً للتعميم، ثم التجريد من الحدود الحسّية إذا كان من الحسّيّات، فإنَّ الإِنسان يلجأ عادة إلى التعميم بملكة التعبير اللَّغويّة الموجودة في فطرته المكتسبة من مجتمعه، وعندئذٍ ينقل اللّفظ الموضوع أساساً في عرف النّاس للمعنى الحسِّي، ويعمِّمه ثمّ يجرِّده من الحدود الحسِّيّة. لقد كان الباب لفظاً دالاًّ في الحسِّيَّات على المدخل المخصّص وسط حاجز أو سُور، والذي يمكن فتحه وإغلاقه عند الحاجة، فيدخل منه الإِنسان هو وأشياؤه إلى دار أو بستان أو مدينة أو مغارة أو نحو ذلك، أو يخرج منه ... ثمّ لاحظ النّاس أنّ هذا المعنى إذا عُمِّم وجُرِّد من الحدود التي عرفوها عند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الإطلاق الأوّل كان لفظ الباب قابلاً لأنْ يدلَّ على المنفذ الذي يدخل منه الطائر إلى عشِّه ويخرج منه، والّذي يدخل منه الحيوان إلى جُحْرِه ويخرج منه، وعلى الثَّقْب الذي تدخل منه النحلة إلى خليَّتها وتخرج منه. ثم اتّسع التعميم فصار قابلاً لأنّ يدلَّ على حَواجِزَ في السحاب تحجز الأمطار عن الهطول، وربّما تكون هذه الحواجز طاقات ذاتَ أنظمة خاصّة، فإذا حُرِّكت هذه الحواجز تحريكاً يسمح بهطول الأمطار هطلت الأمطار. ومنه التعبير القرآني في سورة (القمر54) : {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ} [الأية: 11] . ثم انتقل الذهن من التعميم إلى التجريد، فصار للرزق أبواب وهي أبواب معنويّة، وصار للعلم أبواب وهي أبواب معنويّة، ومن ذلك التعبير القرآني في سورة (الأنعام: 6) : {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} [الآية: 44] . مُبْلِسون: أيْ يائِسون مبهوتون متحيّرون ساكتون قد انقطعت حجّتهم وهيمن عليهم الخِزْي والندم. ونظير الباب المفتاح والمفاتيح، ومن التعميم والتجريد مفاتيح الرزق، ومفاتيح العلم، ومقاليد السماوات والأرض، قال الله تعالى في سورة (الشورى/ 42 مصحف/62 نزول) : {لَهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الآية: 12] . أيْ له مفاتيح السماوات والأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ومِنْ احتيال الإنسان للدّلالة على مشاهر شوقه العنيف إلى محبوبة تشبيهه هذه المشاعر بالنّار التي تلذع بحرارتها وتؤلم، وتجفّف رطوبة الجوانح، وتَدَاوَلَ العشّاق والشعراء هذا التعبير حتّى قال الشاعر: بِنْتُمْ وبِنّا فَمَا ابْتَلَّتْ جَوَانِحُهَا ... شَوْقًا إِلَيْكُمْ وَلاَ جَفَّتْ مَآقِينَا ثانياً - مقولة الجهة الثانية حول المعنى: وهي جهة الدلالة على المعنى بالأسلوب المباشر أو غير المباشر. المعنى: (أ) إمّا أنْ ندلّ عليه في الكلام بالأسلوب المباشر السافر. (ب) وإمّا أن ندلّ عليه في الكلام بالأسلوب الملامس بساتر. (ج) وإمّا أنْ ندلْ عليه في الكلام بالأسلوب غير المباشر. فالأسلوب المباشر السافر: هو الأسلوب الذي تكون الدلالة فيه على المعنى المراد: * باللّفظ الموضوع له لغة، وهو ما يسمّى (حقيقة لغويّة) . * أو باللّفظ الدّال عليه في الاستعمال العامّ الدارج وهو ما يسمّى (حقيقة في العرف العام) . * أو باللّفظ الدّال عليه عند أهل علم من العلوم، أو فنّ من الفنون، أو في الاصطلاح الشرعي، وهو ما يسمّى (حقيقة في الاصطلاح الخاص) . والأسلوب المباشر السافر في الكلام قد يكون في كثير من الأحوال هو الأسلوب الأوقع والأكثر تأثيراً، أو الأنفع والأجدى، أو الأكثر ضبطاً. والأصل في الكلام هو الأسلوب المباشر السافر، وله النّسبة الأكبر من كلّ الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ومن الأحوال التي يكون فيها الأسلوب المباشر السافر أوقع وأكثر تأثيراً، أو أنفع وأجدى، أو أكثر ضبطاً، الأحوال التالية: (1) خطاب الذين يصعب عليهم الفهم بأسلوب غيره، كالصغار وضعفاء التكفير. (2) حينما يكون المخاطب في حالة انفعالية أفقدته الهدوء والصّفاء الفكري، فالإِنسان في مثل هذه الحالة لا يروق له إلاَّ الكلام الذي يدلّ على المقصود بطريقة مباشرة. (3) لدى بيان الحقائق الكبرى العقديّة، كالكلام الذي يحدّد قضايا الإِيمان، فهذه يجب فيها التصريح المباشر السافر، مثل: لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله. آمنت بالله وملائكتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِه واليوم الآخر. (4) لدى بيان المبادىء التي تعلنها الشعارات، فهذه ينبغي فيها التصريح الذي يدلّ على المعاني دلالة مباشرة سافرة. (5) لدى كتابة نصوص التشريع أو التقنين، فالأدب الرفيع فيها هو التعبير بالأسلوب المباشر السافر، لئلاَّ يكون في الأفكار احتمالات تسمح بصرف الكلام عن دلالاته المقصودة. (6) لدى التعبير عن الأحكام القضائيّة، فالنّصوص ذات الدلالة المباشرة السافرة فيها هي أكمل الأدب وأحكمه، عملاً بما توجبه مقتضيات هذه الأحكام. (7) في معظم مواقف الدعاء لله تعالى، فالتعبير المباشر السافر الموجز فيها كثيراً ما يكون هو الأدب الأرفع، مثل: ربّ اغفر لي، وارحمني، واهدني، وسدِّدني، وعافني، وارزقني حلالاً طيِّباً مباركاً فيه. (8) في كثير من صور التعليم المنهجي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 (9) في ذروات التعبيرات العاطفية، فالتعبير المباشر السافر فيها عند التصافي وانعدام الرقباء هو من أرقى الأدب وأرفعه. إنّه قد يكون أوقع عند وصول الحبيبين إلى التكاشف الصريح أنْ يقول كلُّ منهما لحبيبه: أنِّي أحبُّك، أو يا حبيبي. والأسلوب الملامس بساتر: هو الأسلوب الذي يُستخدم فيه للدلالة على المعنى المراد طريق التشبيه والتمثيل، أو الاستعارة، أو المجاز المرسل، أو المجاز العقلي إذا قلنا به. فحين نقول: "وجهه كالقمر" فإنّ السامع أو القارىء يلمس أنّ المراد وصفه بأنّه جميل، ولكنّ حِسَّ اللّمس يقع على ساتر التشبيه بالقمر، ولا يباشر الملموس المراد، وإنّما يباشر الساتر، فبين اللاّمس والملموس فاصل الساتر، وهو هنا التشبيه. ويتكاثف الساتر في التشبيه البليغ. ويزداد الساتر كثافة في الاستعارة التصريحية. ويزداد الساتر كثافة أخرى في الاستعارة المكنية. مثلاً: حين نقول للولد: كنْ مع والديك كفرخ الطّير الذي يخفض جناحيه تذلُّلاً تحت صدر أمّه أو جناحها. فإنَّ الولد يلمس أنّ المراد مطالبته بأنّ يتواضع لوالديه كتواضع الذليل ذي الحاجة إلى الأمن والدفء والرزق، ولكن يلمس هذه المعاني فاصل ساتر التشبيه. فإذا حذفْنا أداة التشبيه، وجعلناه تشبيهاً بليغاً، لَمَس المراد نفسه، إلاَّ أنّه شعر قليلاً بزيادة كثافة الفاصل. ثمّ إذا قُلنا له كما جاء في القرآن في سورة (الإسراء/17 مصحف/50 نزول) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة} [الآية: 24] على طريقة الاستعارة المكنيّة، فإنّه يلمس المراد نفسه أيضاً، كلنّه يشعر بأنّ كثافة الفاصل قد زادت من جهة، وازدانت بحلاوة ملامس خاصّة بها، مع جسّ المراد من ورائها. ونلاحظ نظير ذلك في المجاز المرسل، وفي المجاز العقليّ إذا قلنا به. فقول الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) : {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق حَذَرَ الموت ... } [الآية: 19] . هو من المجاز المُرسل بإطلاق الكلّ وإرادة البعض، ونحن حين نسمع هذا القول، ويسرع إلى تصوّرنا أنّ الإِصبع كلّها لا تدخل عادة في الأُذن، إنّما الذي يدخل منها رأس الأنملة فقط، نعلم أنَّ المراد أنَّهم يجعلون رؤوس أناملهم في آذانهم، ولكنْ لَمَسْنا ذلك من وراء فاصل، وهو هنا ساتر المجاز المرسل. ومع لمسِ المراد من وراء الساتر أحسسْنا بزينة خاصّة في هذا الساتر نفسه، وبفكرة مضافة، وهي أنّهم يبالغون بضغط أصابعهم على آذانهم، فلو كان الواقع يسمح بدخولها كلّها في آذانهم لفعلوا من شدّة ذعرهم وحذرهم، وهذا معنى بديع يضفي على الكلام زينة حلوة. وقول الله تعالى في سورة (الرعد/13 مصحف/96 نزول) : {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ... } [الآية: 17] . أسند فيه السيلان إلى الأودية، مع أنَّ السيلان للماء فيها، ولكنَّنا حين نقرأ أو نسمع هذا الكلام نلمَس المقصود به من وراء فاصل وهو ساتر المجاز، إِذْ أُسنِد السيلان للمحلّ، وهو هنا الأودية، ومع لمْس المراد من رواء الساتر نحسّ بزينة خاصّة في هذا الساتر، وبفكرة مضافة، وهي أنّ النّاظر إلى تدفّق الماء في الأودية، وتدافع أمواجه، يتوهّم في لحظات الانبهار أنّ الأودية تجري أيضاً مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الماء، وهذا معنى بديع يضفي على الكلام زينة حلوة، ويصوّر حالة التخيّل التي تعتري الناظرين المندهشين. إنّ هذا الأسلوب الذي هو وسط بين الأسلوب المباشر السافر، والأسلوب غير المباشر، أسلوب يتّسع لإضافة زينات أدبيّة كثيرة، تضفي على الكلام جمالاً، ورَوْنقاً وبهاءً، مع ما في هذه الزينات من أفكار ودلالات يمكن إضافتها، ومن تصوير فنّيّ بديع يمكن أنْ يقدّمه الأديب البارع عن طريقها. الأسلوب غير المباشر: والأسلوب غير المباشر يكون بالتعبير عن فكرة لتفهم معها فكرة أخرى، عن طريق اللّوازم العقلية القريبة، أو متوسّطة القرب، أو البعيدة، أو شديدة البعد. وهذه الفكرة الأخرى إنّما يريد المتكلّم الإِشارة إليها من طرف خفي، ولا يريد التعبير عنها بأسلوب مباشر، لغرض بياني أو غرض تربوي، أو أي غرض آخر يقصده البلغاء. فمع ما في هذا الأسلوب من دلالة على ذكاء من يستعمله، ومع ما فيه من مجال واسع لتفنّن أدبي لا حصر له من قِبَل نوابغ الأدباء، وعباقرة البلغاء والشعراء، فهو مجال لتحقيق أغراض كثيرة، منها الأغراض التالية: (1) عدم مواجهة المخاطبين بما يراد إعلامهم به لدواع تربوية، أو لدواع نفسية، كعدم المواجهة بالتكليف، وعدم المواجهة بالنّقْد، وعدم المواجهة بالعتاب، وعدم المواجهة بالتلويم، وغير ذلك. (2) إرضاء نفس من يخاطب به، إذ يشعر بأنّه محترم مقدّر مِنْ قِبَل من يخاطبه، فهو في نظره من مستوى الأذكياء وكبراء القوم الذي يخاطبون بإشارات الكلام وكناياته، ولا يحتاجون إلى صريح القول. (3) إخفاء المراد على جمهور المستمعين، وإشعار المخاطب وحده بالرمز، لأغراض سياسيّة، أو عسكريّة أو تربويّة، أو نحوها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 كما وقع في غزوة الخندق، إذ بلغ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنّ بني قريظة نقضوا عهدهم، فأرسل وفداً من الأنصار فيه سيِّدا الأوس والخزرج إلى كعب بن أسد القرظي سيِّد يهود بني قريضة ليستطلعوا الخبر، وقال لهم: انطلقوا حتّى تنظروا، أحقٌّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم أمْ لا؟ فإنْ كان حقاً فالْحَنُوا لي لَحْناً أعرفه، ولا تفتُّوا في أعضاد القوم (أي: تكلّموا بالرمز ولا تتكلّموا بصريح القول) . وكذلك فعلوا لمّا علموا أنَّ بني قريظة قد نقضوا عهدهم حقاً. إنَّهم لمّا عادوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سلَّموا عليه، ثمّ قالوا له: عَضَلٌ والْقَارَة. ففَهِم الرسول المراد، وعلم أنّ القوم قد غدروا كما غدرت عَضَلٌ والْقَارة بأصحاب الرجيع. (4) التوصّل عن طريق اللّوازم العقلية إلى معان قد لايكن لها ألفاظ تدلّ عليها دلالة مباشرة (5) تزيين الكلام ليكن أكثر تأثيراً في نفوس المخاطبين. (6) وقد يكون الأسلوب غير المباشر مقرِّباً للفكرة الغامضة، أو مقدِّماً لها مقترنة بحُجَّتِها المُقْنعة بها. (7) إمكان التهرّب من إرادة المعنى عند الإِحراج، وذلك إذا كانت إرادته تسوء المخاطب به، أو تسوء غيره من أنداده أو حسّاده أو غيرهم. ومِنْ أمثلة ذلك مَنْ يُشير بطَرْف خفيّ إلى حبِّه، أو يلمِّح إلماحاً خفيِّاً، لأنَّ أمامه رُقباء من الأنداد أو الحُسّاد، أو مَنْ لا يَرْضَى بهذه العلاقة غَيْرةً أو نَخْوة أو مخافة العار، والمتكلِّم لا يريد إثارة هؤلاء نحوه لئلاّ يَكِيدُوه. وفي كثير من الأحوال يكون خطاب النّاس بالأساليب غير المباشرة هو الأجدى، لأنَّه أوقع في نفوسهم، وأكثر إرضاءً لغرورهم، أو أوفق لظروف أحْوالهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 ولكن لا يصحّ أنْ يكون كلّ الكلام جارياً وفق الأسلوب غير المباشر، فالأصل في الكلام هو الأسلوب المباشر، وهو بمثابة الخبز الذي تؤكل معه ألوان الأطعمة، إنّ الأسلوب غير المباشر ينبغي أنْ لا يزيد في الكلام كثيراً حتى لا يفقد الكلام قواعده وأركانه الأساسيّة. إنَّ الأسلوب غير المباشر ينبغي أن يكون في غضون الكلام الجاري على الأسلوب المباشر، وبمقدار الأغراض البلاغيّة، وبمقدار الحِلْيات التي تتزيَّن بها الحِسان عادة. وينبغي أيضاً أن يكون الكلام متنوعاً، لا ملازماً لوناً واحداً من ألوان الأساليب غير المباشرة. إنَّ أبدع الكلام وأحلاه ما كان متنوعاً كثير الألوان، غير مقتصر على نَمَطٍ واحد. ومع ذلك فليس هذا في كل مائدة كلاميّة. إنّه قد تجمل في بعض الأحيان وفي بعض المناسبات مائدة كلاميّة من لون واحد من الكلام فقط. إنَّ طبائع النفوس عجيبة، وينبغي أنْ يكون ميزان الأديب تُجَاهها شديد الحساسية، يتتبعها بالمؤثّرات الآنية عليها. ويُعرف الأسلوب غير المباشر عند علماء البلاغة باسم (الكناية) ويدخل فيه ما يعرف عند علماء أصول الفقه باسم (المفهوم) أو باسم (الفحوى) فيقولون: "منطوق اللّفظ ومفهومه" سواء أكان المفهوم موافقاً أم مخالفاً. ويقولون: "فحوى الكلام" وهو عندهم كالمفهوم المقابل للمنطوق. والمعنى المدلول عليه بهذا الأسلوب غير المباشر: (أ) إمّا أنْ يكون معنى قريب التناول لا يحتاج إلى متابعة لوازم عقليّة متعدِّدة مثل قولنا للدّلالة على طول إنسان: "لا يدخل الأبواب إلاَّ وهو يخفض رأسه أو يتقاصر بجسمه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ويمكن أنْ نمثِّل له بقوله الله تعالى: {وأحسنوا إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} [البقرة: 195] أيْ: ويثيبهم ويدخلهم جنّات النعيم. لأنَّ من أحبّه الله أكرمه وأدخله في رحمته، فهذه من لوازم المحبّة. ونظيره في القرآن كثير. ويدخل فيه مثل قوله الله تعالى في سورة (الإِسراء/17 مصحف/50 نزول) في بيان واجبات برِّ الوالدين: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا ... } [الآية: 23] . أي: ولا تفعل أيضاً ما هو أشدّ!، وهذا يفهم بداهة لأنّ من نُهِيَ عن القبيح الأخفّ فهو منهي عن القبيح الشديد والأشدّ لزوماً عقليّاً. (ب) وإمّا أنْ يكون معنىً متوسّط البعد، يدركه الذهن دون تأمّل عميق، وينتقل مع لوازم منطوق اللّفظ إليه بغير مشقّة فكريّة. مثل الكناية عن كَثْرة إطعام الضيفان عند البدو، أنْ يقول قائلهم فلان: "كثير الرَّماد" أيْ: مضياف جَوَاد. لأنَّ كَثرة الرّماد عندهم مِنْ كَثرة إيقاد النَّار، وكثرة إيقاد النَّار مِنْ كَثرة الطبخ عليها، وكَثْرة الطبخ تدلُّ على كَثْرة الضيوف بحسب العادة. (ج) وإمَّا أنْ يكون معنىً بعيداً، بسبب كَثْرة لوازمه العقلية، أو بسبب أنَّ هذه اللَّوازم تحتاج إلى تعمّق في التفكير حتّى يدركها الذّهن، وغالباً لا يدركها إلاَّ الأذكياء والعلماء. ونُمثِّل لهذا بقول إبراهيم عليه السلام حين رفض عبادة الأصنام وكلّ ما في الأرض، وبدأ يبحث عن ربِّه في السماء. كما جاء في سورة الأنعام/6مصحف/55 نزول) : {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل رَأَى كَوْكَباً قَالَ هاذا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين} [الآية: 76] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 أيْ: إنَّ غياب الكوكب ظاهرة حدوث، وصفه الحدوث لا تكون من صفات الرَّب الخالق، فالكوكب لا يصلح لأنْ يكون ربّاً، فأنا لا أحب عبادة الآفلين الذين ليس أحد منهم يصلح لأنْ يكون ربّاً خالقاً، إنَّما أحبَّ عبادة ربِّي الحقّ. فجملة {لا أُحِبُّ الآفلين} في معرض البحث عن الربِّ الخالق، تستدعي لدى أهل الفكر والنظر وأذكياء التأمّل كل هذه اللّوازم. (د) وإمَّا أنْ يكون معنَى يُلمح لمحاً، أو يشم شمّاً، ويتطلّب إدراكه حِسّاً مُرْهَفاً، وممارسة لإِدراك مشاعر النفوس من وراء تعبيرات اللّسان. وقد لا تظهر لوازم فكريّة تدلُّ عليه، بل قد تكون الإِشارة إليه من قرائن الأحوال، أوْ مِنَ التصريح بشيء وعدم التصريح بقرينه أو مُقَابِله، مع وجود الدواعي لهذا التصريح. ويعمل الذّكاء وقوّة الحَدْس في هذا المجال لاكتشاف ما يختلج في النفوس من معانٍ لم يُفْصِحْ عنها اللّسان، لسببٍ مِنَ الأسباب، كالاستحياء، أو الكِبَر، أوْ العِفَّة، أو الخَوْف، أو غير ذلك. ونستطيع أنْ نمثِّل لهذا القسم بالأمثلة التالية: (1) قول موسى عليه السلام بعد أن سقى لابنتي الشيخ الصالح عند ماء مدين ثم تولّى إلى الظّل، كما جاء في سورة (القصص/28 مصحف/49 نزول) : {رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [الآية: 24] . فهو في هذا يشير باستحياء إلى حاجته إلى الزوجة إشارة خفيَّة لا تُعْرف إلاَّ من قرينة الحال. (2) قوْل أيُّوب عليه السلام بعد أنْ طال به المرض ثمانيةَ عشر عاماً: يا ربْ إنِّي مسَّني الشيطانُ بنُصبٍ وعذاب. قال تعالى مبيِّناً دعاءه في سورة (ص/38 مصحف/38 نزول) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 {واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [الآية: 41] . بنُصْب وعذاب: أيْ بتعب وبلاء ومؤلمات جسديّة ونفسيّة، فهو في دعائه هذا يشير باستحياء إشارة خفيّة إلى طلب الشفاء، معلّلاً ذلك بأثر وساوس الشيطان في نفسه من جراء طول المرض، فهذه الوساوس قد زادت متاعب جسده وآلامه وعذَّبت نفسه. (3) قوْل امرأة عمران حين وضعت جنينها الذي كانت قد نذرتْهُ محرَّراً لبيت المقدِس، وكانت تنتظر أنْ يكون ذكراً، فجاء أنثى وأسمتْها مريم، قالت كما جاء في سورة (آل عمران/3 مصحف/ 89 نزول) : {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى} [الآية: 36] . وقالت: {وَلَيْسَ الذكر كالأنثى ... } [الآية: 36] . فهي تشير بقرينة الحال إلى مشاعر التحسُّر التي تشغل قلبها ساعتئذٍ. (4) قولُ ذي النّون عليه السلام وهو في بطن الحوت لربّه، كما جاء في سورة (الأنبياء/21 مصحف/ 73 نزول) : {لاَّ إلاه إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} [الآية: 87] . فالقول توحيد وتسبيح واعتراف بالذنب، إلاَّ أنَّه يشير باستحياء شديد من طرف خفِيّ ِإلى طلب النجاة. *** الخلاصة: فالمعانى: (1) إمَّا أنْ تُسْتَفَاد مِنْ دلالة الكلام المباشرة السافرة. (2) وإمَّا أنْ تُسْتَفَاد من دلالة الكلام الملامسة بِسائر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 (3) وإمَّا أنْ تُسْتَفَاد مِنْ دلالة الكلام غير المباشر، ويكون ذلك في حدود ظِلال الكلام. ولهذه الحالة ثلاثة مراتب: قريبة، متوسّطة، وبعيدة، ولكلّ من هذه المراتب الثلاث درجات متفاوتات. ويلحق بالأسلوب غير المباشر أنْ تُستفاد المعاني من قرائن الأحوال، ومن الإِشارات الخفيَّة الضمنيّة. وهذه المعاني يُتَوصَّل إلى إدراكها بالذكاء والتفرّس والحَدْس، ومعرفة القرائن والملابسات. فهي تُتصيَّد ممّا وراء ظلال الكلام، والإِلماح إلى هذه المعاني ذو نِسَب متفاوتة في الظهور والخَفَاء. وعلى الدُّعاة إلى الله أنْ يكونوا على بصيرة بفنون دلالات الكلام على المعاني، وأنْ يتمرّسوا بألوان التعبير البليغ ويُدَرِّبوا أنفسهم على تذوُّق آداب القول، وعلى معرفة أحوال التلاؤم بين أُسلوب الكلام ومُقتضى حال المخاطب به، حتّى يكون كلامُهُمْ أكثر تأثيراً، وتكون متأسِّية بمنهج القرآن في الدّعوة، ومنهج أنبياء الله ورُسُلِه في دعَواتِهم إلى سبيل ربِّهم. ثاثاً - مقولة الجهة الثالثة حول المعنى: وهي جهة المعاني أنفُسِها وقِيَمها الفكرية والجماليّة. (أ) إنَّ المعانيَ أنْفُسَها في أذهان النّاس ومقولاتهم تنقسم إلى أقسام خمسة: (1) فمنها ما هو حقٌّ بلا ريب. (2) ومنها ما هو باطل بلا ريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 (3) ومنا ما يترجّح في الظن أنّه حق، وتختلف نسبة الرّجحان. (4) ومنها ما يترجّح في الظن أنّه باطل وتختلف نسبة الرّجحان. (5) ومنها ما هو واقف في المنطقة المتوسّطة تماماً، وهي الأمور التي تكافأت قوتا النفي والإِثبات بالنّسبة إليها، فلا هي راجحة إلى جانب الحقّ، ولا هي راجحة إلى جانب الباطل، وهذه الحالة الذهْنِيَّة بالنّسبة إلى الأمور التي هي منْ هذا القبيل، يُطلِق عليها علماؤنا كلمة (الشّك) في اصطلاحهم، لكنّ كلمة الشّك في التعبير القرآني تعني غير هذا: {أَفِي الله شَكٌّ} [إبراهيم: 10] أيْ: أفي إثبات وجود الله أيّ احتمال مهما كان ضعيفاً يُفْتَرَضُ معه أنْ لا يكون للكون ربٌّ خالق فاطر؟ إنّ هذا مرفوض بداهة. (ب) وإنّ المعاني أنْفُسها تختلف بالنّسبة إلى أَفْهَام النّاس بُعْداً وقُرْباً. * فمنها ما هو قريب منْ مدارك النّاس، سَهْلُ المأخذ، سَهْلُ الفهم. * ومنها ما هو بعيد نسبياً لا تتوصل إليه أفهام الناس ومداركهم إلاَّ بالتأمّل ودقّة الملاحظة، أو بقسط من البحث. * ومنها ما هو عميق بعيد الغَوْر لا يصل إليه إلاَّ الأذكياء والنُّبهاء والعباقرة، أوْ الباحِثون المنقِّبون. * ومنها ما لا تستطيع مدارك النّاس الوصول إليه أو الإِحاطة به، وقد أصبحت الآلات الإِلكترونية تقدِّم للعقول نتائج لا تستطيع العقول بأنْفُسِها التوصّل إليها. وهنالك في الغيب علوم لم يُؤْتَ النّاسُ وسائل الوصول إليها، نبّهت على بعضها الوسائل الحديثة، ودلَّ على بحورها العميقة. قول الله عزّ وجلّ في سورة (الإِسراء/17 مصحف/ 50 نزول) : {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً} [الآية: 85] . ودلّ عليها قول الله عزّ وجلّ في سورة (لقمان/ 31 مصحف/ 57 نزول) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الآية: 27] . إنَّ المعاني كبحور عظيمة لها سطوح وشواطىء، وتحت السطوح أعماق، وتحت الأعماق أعماق أخرى، وتحت الأعمال أغوار، وتحت الأغوار أغوار سحيقة. ومِنَ النّاس مَنْ يأخُذ من المعاني ما يصل إلى الشواطىء، ومنَ النّاس منْ يركب بحار المعاني ويجري على سطوحها، ويتناول منَ السطوح أو منَ العمْقِ القريب. ومنَ النّاس منْ يغوص إلى بعض الأعماق، ومنَ النّاس منْ يغوصُ إلى بعض الأغوار، ويتفاوت النّاس في نِسَب غوصهم، وكل منهم يستخرج منْ بحار المعاني على مقدار غوصه، وعلى مقدار استيعابه. عناصر الجمال في المعاني: أمّا عناصر الجمال في المعاني فمتنوِّعة، منها العناصر التالية: العنصر الأوّل: تناسُق الأفكار وترابطها بوشائجها المنطقيّة دون إعنات للفكر، ثمّ تكاملها ولو مع طيّ بعض العناصر التي يمكن أنْ تفهم ذهناً، ولا يشترط التعبير عن وشائج الترابط، بل ربّما يكون طيّ ذلك أحلى وأكثر جمالاً أدبيَّاً. العنصر الثاني: الانتقال من الجذور والأصول في الأفكار إلى الفروع الكبرى فالصغرى فالأوراق والثِّمار. أوْ مِنَ الفروع إلى الأصول. أمّا الخلط من غير ترابط منطقي فهو قبيح تنفر منه الأذهان، لأنَّها لا تستطيع أن تُجريه في جداولها المنطقيّة الفطرية، ولأنّه يتنافى مع أُسلوب الطبيعة المنظَّمة بأبدع نظام. العنصر الثالث: محاكاة الواقع بتصوير فنِّيِّ يُبْرِزُ الحركة والحياة والمشاعر، ويعبِّر عن مختلف أبعاد الواقع، ولا يقتصر على التصوير الجامد للأشكال والرسوم الظاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 العنصر الرابع: الصدق في التعبير عن الحقيقة، أو عن المشاعر والأحاسيس، أو عن الآمال والرغائب، أو عمّا يسبح فيه الخيال متأثّراً بمطالب النفوس، وشهواتها، ومطامحها. العنصر الخامس: ما تشتمل عليه المعاني ممّا يحرّك في النّاس المشاعر الوجدانيّة أو النفسيّة الحلوة، والعواطف الوجدانيّة أو النفسيّة الحلوة، أو يرضي شهوات النفوس. العنصر السادس: ما يُعجب الأذهان من إشراقات ذكاء، وأفكار جديدة مبتكرة، بشرط أنْ لا تكون قبيحة بطبيعتها. العنصر السابع: ما يسرُّ الخيال ويعجبه ويُمْتِعُه ممّا يرضي الرغبات النفسيّة التي يتمنّاها الإنسان ويعجز عن الوصول إليها وتحقيقها: (أ) فمن الحق والصدق ما هو جميل جداً: إنّ التصوير الفنّي الذي يُبرز في الكلام صورة الواقع المتحدَّث عنه، حتّى كأنّه مُشَاهَدٌ ملموس بحركته وحياته ورونقه وجماله هو من أرفع الأدب وأجمله، وكم من واقع هو أجمل وأكمل من الخيال. وإنّ الكلام الذي يعبِّر عن الحقائق الفكرية المجرَّدة بطريقة مفهومة سهلة ليِّنة طيّعة في الفكر وفي اللسان، هو من أرفع الأدب وأجمله. وإنّ الكلام الذي يحدِّد الأحكام الشرعية أو الأحكام القانونية أو مسائل العلوم بوضوح، ودقّة تامّة، ورشاقة وعذوبة لفظ، هو من أرفع الأدب وأجمله. وإنَّ الكلام الذي يعبِّر تعبيراً صادقاً عن مشاعر النّفس الوجدانيّة أو التخَيُّلِيَّة لدى مُشاهَدةٍ طبيعية أو حادثة إنسانيّة هو من أرفع الأدب وأجمله. وإنّ الكلام الحلو الذي يُرضي الآمال والمطامع النفسيّة، بإقناعات صادقات، أو بإقناعات توهِم بأنّها صادقات، فتستر بها عورات التلفيق والكذب، هو من أرفع الأدب وأجمله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 أمّا الكلام الذي تنكشف فيه عورات التلفيق والكذب فهو كلام قد تمجُّه النفوس، ولو سِيق لإِرضاء الآمال والمطامع النفسيّة. وإنَّ الكلام الذي يَصْنَعُ قصصاً مقتبسة ممّا يجري في الواقع نظائرها، هو من أرفع الكلام القصصي وأجمله. دعوى "أعذب الشعر أكذبه": أمّا دعوى: "أعذب الشعر أكذبه" فهي دعوى لا أساس لها من الصحّة، لدى التحليل والبحث عن العناصر الجماليّة في الأدب. إنّ الحقّ إذا لبس ثوباً أدبيّاً جميلاً كان أجمل من الباطل لا محالة، مهما لبس من أثواب جميلة مزخرفة. إنّ الحُلَّة والحِلْيَة الأدبيَّة اللَّتَيْن يرفل بهما قول الله تعالى في سورة (الرعد/ 13 مصحف/ 96 نزول) : {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} [الآية: 17] . للفكرة الحقِّ التي تبيّن واقع انتصار الحقّ والمحقِّين بعد أحداث الصِّراع بين الفريقين، أجمل من كل أدب يُزيِّن فكرة باطلة لتكون مقبولة محبَّبَة. ربّما يكون تضخيم الحقّ وتجسيمه في الصورة الأدبيّة عملاً أدبيّاً جميلاً، لأنّ التضخيم والتجسيم في مفاهيم النّاس لون من ألوان البيان والشرح للحقيقة، وبعد الشرح ترجع الحقيقة في تَصَوُّرِ النّاس إلى حجمها الطبيعي. إنّ الفكرة المشتملة على كذب سخيف ممجوج قد يستعذِبها الذهن لطرافتها، ولكن يمجّها الذَّوق والحسُّ المرهف العارف بألوان الجمال لسخافتها ومجافاتها للحقيقة مجافاةً واسعة المسافة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 في قول المتنبّي: كفى بجسمي نحولاً أنّني رجل ... لولا مخاطبتي إيّاك لم ترني وفي قول الآخر: ولوْ أنّ ما بي من جَوىً وصبابةٍ ... على جَمَلٍ لم يدخل النّار كافر قد نلاحظ فكرة غريبة لا يتصيّدها إلاَّ شاعر ذَكِيّ، فنُعْجَبُ بطرافتها، ولكنّنا مع ذلك نمُجُّها، لأنَّها تشتمل على دعوى كاذبة سخيفة. أمَّا حين تكون الفكرة مبتكرة حلوة، وتكون الدَّعوى صادقة في أصلها، مضخَّمة مجسَّمة مبالغاً بها في صورتها الأدبيّة، فإنّ الكلام يكون حينئذٍ أرفع أدباً، وأعلى كعباً، وأوقع في النّفس. هَلُمَّ فَلْنَلْحظ اجتماع الصدق والأدب الرفيع في قول الله تعالى في سورة (ق/ 5 مصحف/ 34 نزول) : {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] . إنَّ في هذه الآية حلاوة فكرة السؤال والجواب. وحلاوة الجواب الذكي الذي لم يكن مباشرة بصيغة: (لم أمتلىء) أو بصيغة (لا) مع كثرة الذين أُلقوا فيها. وإنّما جاء على صغية سُؤال النَّهِم الشَّرِه طالب المزيد: {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} ؟!!. وما دام باستطاعة الإِنسان أنْ ينتقي من الحقّ والصدق عناصر جماليّة لأدبه فما أوفر الحقّ والصدق في بيانات الإِسلام أما الدّعاة إلى الله، وما عليهم إلاَّ أنْ يغترفوا. (ب) ومن الأفكار الجديدة المبتكرة ما هو جميل جداً: وكلّنا نلاحظ أنّ النّاس تُعْجِبُهم وتحلو لديهم المعاني الجديدة المبتكرة، ويقولون في عباراتهم الدارجة: لكل جديد لذّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 فاشتمال الكلام على المعاني الجديدة المبتكرة - دون أنْ تكون قبيحة في ذاتها - هو من عناصر الجمال الأدبي، والزينة الجوهريّة في الكلام. على أنَّ كلّ فكرة جديدة مبتكرة يستعذبها النّاس ويُعْجَبُون بها، قد تمسي مبتذلة مزهوداً فيها، متى تداولها النّاس واستعملوها كثيراً، باستثناء الأفكار التي هي بمثابة الخبز في الأكل، أو الملح في الطعام، أو الماء والهواء. وما أوفر المعانيَ الجديدة التي يمكن استنباطها من كتاب الله عزَّ وجلّ، ويمكن إِرضاء عقول النّاس بها، وما على الدّعاة إلى الله إلاَّ أنْ يحسنوا الاستفادة منها. ومن المبتكرات في المعاني ما تكون جِدَّتُه في الجمع والتركيب. مثلاً: إنّ التعبير الساذج عن عدم الْعَدْلِ في مجال الحبّ الذي يعاتب به الإِنسان العادي أميراً ذا مكانة، أنْ يقول له: يا سيّدي إنِّي أُحبُّك حبّاً عظيماً مع المحبِّين ولكنَّك لا تعامل حُبِّي بالعدل كما تعامل الآخرين. إنَّ مشاعر هذا الإِنسان وقفت عند هذا الحدّ فأعطى هذا التعبير. لكن المتنبّي بذكائه تجاوز هذه المشاعر الساذجة، فأدرك أنّ سيف الدولة أعدل النّاس، وأدرك أنّه هو الْحَكَمُ لو شاء أنْ يشكوه إلى حَكَم، ثم رجع فأدرك أنّه هو الخصم، ثم استدرك ليكشف أنّ الخصومة على حُبِّه وما يقتضيه هذا الحب. كل هذه الأفكار والمشاعر قد اجتمعت وتراكبت! وتدخّل الذكاء فأحاط بها معاً، وتدخَّلت القدرة البيانيّة على التعبير عنها مجتمعة بطريقة تُفْهَمُ بلا تعقيد ولا كدٍّ للذِّهْن، فقال المتنبِّي لسيف الدولة: يَا أَعْدَلَ النَّاسِ إلاَّ فِي مُعَامَلَتِي ... فِيكَ الْخِصَامُ وأَنْتَ الْخَصْمُ وَالْحَكَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 (ج) ولإِشراقات الذكاء في الأدب تأثير عظيم جدّاً في ارتفاع المستوى الأدبي: إنّ التعبيرات غير المباشرة أو المباشرة بساتر عن الأفكار المقصودة بالذات لا تكاد تُحْصَر. ويتفاوت النّاس فيها بمقدار تفاوتهم في القدرة على تصيّد المعاني التي لها بالأفكار المقصودة صِلَة يمكن عن طريقها الإِشارة إليها، أو الدّلالة عليها، ولو إلماحاً، أو من جانب خفي. ومن الأسباب الجوهريّة في ارتقاء المستوى الأدبيّ للكلام ما يكون لدى المتكلّم أو الكاتب من قدرة في هذا المجال. كالقدرة على تصيُّد الأشياه والنظائر، واستخدام بعضها لبعض، في الأمثال والتشبيهات، والاستعارات، وأنواع المجاز التي يُكَنِّي بها الأدب عن مراده، وكالقدرة على معرفة الروابط بين الأفكار، والانتقال فيها بين اللوازم والملزومات، والأجزاء والكل الذي يجمعها، والخاصِّ والعام، والمتناقضات والأضداد، وغير ذلك من المعاني ذات الترابط فيما بينها في الواقع أو في الفكر، فهي تتخاطر معاً ولو كانت متناقضاتٍ وأضداداً، ويستدعي بعضها بعضاً. ولا بدّ مع ذلك من توافر الذوق الفنّي، والحسِّ الجمالي الرفيع، لوضع هذه الأشياء في مواضعها، بحسب مقتضى حال المخاطب، فرداً كان أو جماعة. مثلاً: اعتاد الأُدباء والشعراء أن يُشَبِّهوا الجواد بالبحر، لأنّ البحر ماؤه كثير، وعطاؤه وفير، فهو لا يمنع آخذاً منه، لكن إشراقات الذكاء مكَّنت الشاعر من أنْ يعطي هذا التشبيه المتداول زينةً جديدة مُحَبَّبة بتقسيم البحر إلى لُجَّةٍ وساحل، فقال في ممدوحه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 هُوَ الْبَحْرُ مِنْ أَيِّ النَّوَاحِي أَتَيْتَهُ ... فَلُجَّتُهُ الْمَعْرُوفُ والْجُودُ سَاحِلُهُ (د) ولتحريك المشاعر الوجدانيّة والنّفسيّة الحلوة تأثير عظيم في ارتفاع المستوى الأدبيّ: ولا ريب في أنّ النّاس تُعجبهم وترضيهم وتحلو لديهم المعاني التي تحرّك لديهم المشاعر الوجدانيّة والنّفسية الحلوة، والعواطف الوجدانية والنّفسيّة الحلوة، أو تذكّرهم بها. مثل: مشاعر الحبّ، ولقاءات الأحبّة، وعواطف الحنان والشفقة، ومشاعر الشوق لدى العُشّاق، ومشاعر الإِيمان وأحاسيسه العميقة لدى المؤمنين، ومشاعر العبادة الحلوة لدى العبّاد الصالحين، ومشاعر الفخر والاعتزاز بالأمجاد، ومشاعر الإِحسان وفعل الخير، ومشاعر الأخوّة والصدق والوفاء، ومشاعر الأبوَّة والأمومة وسائر القرابات، ومشاعر العطف على الأيتام، ومشاعر التوبة والندم والرجعة إلى الله، ومشاعر الزهد في الدنيا والتطلُّع إلى النعيم المقيم في الآخرة، ومشاعر التضحية والبطولة والفداء، ومشاعر الإِيثار، ومشاعر البرّ والتّقوى، ومشاعر التحدِّي والصمود وآمال النصر على الطغاة والبغاة وعُبَّاد الشيطان. وما أوفر المعاني التي تحرِّك هذه المشاعر الحلوة لدى الدّعاة إلى سبيل الله، وما عليهم إلاَّ أنْ يُحْسِنُوا الاستفادة منها. ثمّ إنّ المشاعر النّفسيّة والوجدانيّة منها ما هو ساذج بسيط، ومنها ما هو مركَّب متفاصل، ومنها ما هو مركَّب متداخل معقّد. ويرتقي مستوى الكلام الأدبي لدى عِلْية الأدباء، ولدى العامّة أيضاً، بقدر ارتقاء المشاعر التي يأتي التعبير عنها ولو بطريقة مباشرة. ويصلح مثالاً لهذا سموُّ المشاعر في قول المتنبِّي لسيف الدولة: إنْ كَان سَرَّكُمُو مَا قَالَ حَاسِدُنَا ... فَمَا لِجُرْح إِذَا أَرْضَاكُمُو ألَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 يَامَنْ يَعِزُّ عَلَيْنَا أَنْ نُفَارِقَهُمْ ... وِجْدَانُنا كُلَّ شَيْءٍ بَعْدَهُمْ عَدَمُ ومركب المشاعر في قوله له: يَا أَعْدَلَ النَّاسِ إلاَّ فِي مُعَامَلَتِي ... فِيكَ الخِصَامُ وَأَنْتَ الْخَصْمُ وَالْحَكَمُ المشاعر الوجدانيّة والنّفسيّة في الدّعوة إلى الله: وإذا كان للمشاعر الوجدانيّة والنّفسيّة هذا الأثر في ارتقاء مستوى الكلام الأدبيّ، وفي تأثيره القويّ على النّفوس، فإنّ لدى الدّعاة إلى الله كنزاً عظيماً من المشاعر التي يتيسّر لهم الانتفاع منها في تحقيق أهداف الدّعوة، وفي رفع مستوى كلامهم الأدبيّ. ولكن لا بدّ من أنْ نُنَبِّه على عنصر مهم جدّاً، ألاَ وهو أنّ يكون المتكلِّم منفعلاً حقَّاً في عمق وجدانه ونفسه، بالمشاعر التي يريد التعبير عنها، ويحرص على تحريكها في أعماق سامعيه أو قارئيه. إنّه كلَّما كانت مشاعر الداعي حول ما يدعو إليه من دين الله أعمق، وكان إحساسه بها أعنف وأوضح، كان تأثيره في سامعيه أكثر وأعمق، ولذلك نجد تأثير المخلِصين عظيماً. وحين تقترن بهذه المشاعر الصادقة العميقة قدراتٌ أدبيّة على البيان، وتجارب مختلفات في ميادين التعبير الأدبي عن الأفكار وعن الأحاسيس والمشاعر النفسيّة أو الوِجْدَانيّة، فإنَّ القدرة على التعبير عن هذه المشاعر تكون أكمل وأوفى، ثم يكون الكلام أكثر نفاذًا إلى أعماق سامعيه أو قارئيه، وأكثر تحريكاً لمشاعرهم. ويرتقي الدّاعي إلى سبيل الله في تعبيراته الأدبيّة البليغة ضمن دعوته بمقدار ارتقاء تجاربه الإِيمانيّة، وتجاربه الوجدانيّة، ومشاعره النّفسيّة الحلوة، في مجالات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الصّلة بالله، والطاعة له، والتوبةِ والنَّدَمِ، وعطاءات الخير، والتطبيقات الإِسلاميّة المسعدة للنفوس، والمريحةِ للضمائر، والْمُمِدَّةِ للقلوب بالطمأنينة ... *** منثورات في عناصر الجمال الأدبي أوّلاً: الأسلوب البياني: من عناصر الجمال الأدبي في الكلام ملاءمة أسلوبه البياني للأمور التالية: (أ) للهدف العام من الكلام. (ب) للمضمون الفكري في الموضوع العامّ الذي يجري فيه الكلام، وفي الفكرة الخاصّة التي يَتَحَدَّث عنها. (ج) لوضع المخاطب وحالته الفكريّة والنّفسيّة والاجتماعية. (د) لِلْمُنَاخ النفسيّ العام الذي يُلقى فيه، أو يوجَّه له، فالمناخات النفسيّة كثيرة، ولكلٍّ منها أسلوب بياني يلائمه. وللتوصّل إلى الملاءمة المطلوبة التي هي عنصر مهمٌّ جداً من عناصر الجمال الأدبي لا بدّ من ملاحظة الأمور التالية بعناية ودقّة: (1) ملاحظة حال المخاطبين أو الّذين يُوَجَّه لهم الكلام وذلك بصفة عامّة. ويدخل في هذا ملاحظة بيئتهم العامّة، ومفاهيمهم السائدة بينهم. (2) ملاحظة الحالة النّفسية والفكريّة والاجتماعية التي يكون عليها المخاطبون بصفة عامّة. ويدخل في هذا ملاحظة حالات السلم والحرب والأمن والخوف، وسعة الرزق والجوع، والنّصر والهزيمة، والإِيمان الكُفر والنِّفاق، والطمع واليأس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 والمسرّة والحُزْن، والصفاء والكَدَر، ونحو ذلك من الأحوال النفسيّة الخاصّة، التي يستدعي كلٌّ منها ما يلائمه من أساليب البيان. ويدخل في هذا أيضاً ملاحظة حالات الذّكاء والغباء، وطمأنينة الفكر واضطرابه، والعلم والجهل، ونحو ذلك من الأحوال الفكريّة التي يستدعي كلٌّ منها ما يلائمه من أساليب البيان. ويدخل في هذا أخيراً ملاحظة الحالات الاجتماعيّة، كالبداوة والتحضُّر، والرفعة والضِّعة، والقوَّة والضعف، والقيادة والانقياد، ونحو ذلك من الأحوال الاجتماعية التي يستدعي كلٌّ منها ما يلائمه من أساليب البيان. (3) ملاحظة الظرفين الزماني والمكاني اللَّذين يُقَالُ فيهما أو يُعدُّ لهما لكلام. فمن الأساليب البيانيّة ما يلائم ظرفاً من الظروف الزمانيّة أو المكانيّة، في حين أنّه قد لا يلائم ظرفاً آخر. إنّ ما يلائم في مواسم الأعياد، قد لا يلائم في أوقات التحريض على الجهاد، وما يلائم في مكان الفرح، لا يلائم في كان التَّرَح، وما يلائم في مواطن تأدية النُّسُك، قد لا يلائم في أسواق البيع والشراء، وكذلك العكس، وقس على هذه المتخالفات. (4) ملاحظة الْمُنَاخ النفسيّ العام، فالمناخات النّفسيّة كثيرة، ولكلٍّ منها أُسلوب بيانيّ يلائمه. ومنْ أمثلة الْمُنَاخات النّفسيّة: المناخ الخطابي، الْمُناخ الحربي، المناخ العاطفي، مناخ السفر، مُنَاخ الحضَر، مُنَاخ الخوف، مناخ الطمَع، مناخ القلق، مناخ الهدوء والسكينة، مناخ الغضب، مناخ الرِّضا، مناخ التربية والتعليم، مناخ الموعظة والإِرشاد، مناخ الخصومة والجدل، مناخ الطلب والاستجداء، مناخ الدُّعاء، وهكذا إلى مُنَاخات كثيرة أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 الشرح: منَ المعلوم أنّ المتكلّم لا بدَّ أنْ يكون ذا هدف من كلامه، وللوصول إلى الهدف المقصود من القول أساليب بيانيّة كثيرة، ولكل هدف أساليب تناسبه. وملاءمةُ الأسلوبِ البيانيّ للهدف من الكلام هي فيما أرى رُكن أساسي وجوهري لارتفاع مستوى الكلام الأدبي البليغ. * فحين يكون غرض الكلام مثلاً أنْ يُحْدِث تأثيراً إقناعياً، يكون الأسلوب البياني الأكثر إقناعاً وتأثيراً في هذا المجال هو الأكثر أدباً، والأرفع منزلة في هذه الحالة. * وحين يكون غرض الكلام أنْ يُحْدِث انفعالاً حماسيّاً، ويستثير خلق الشجاعة والبسالة والإِقدام، يكون الأسلوب البياني الأكثر إثارة للحماسة واستثارة للبسالة والشجاعة والإِقدام هو الأكثر أدباً، والأرفع منزلة في هذه الحالة. * وحين يكون غرض الكلام أنْ يُثِير الغضب أو يُحْدِث الغيظ، يكون الأسلوب البيانيّ الأكثر إثارة للغضب أو إحداثاً للغيظ، هو الأكثر أدباً، والأرفع منزلة في هذه الحالة. فمن أرفع الأدب في هذا المجال قوله الله تعالى في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) بشأن المنافقين الّذين إذا خلَوا عضُّوا أناملَهم غيظاً من المؤمنين: {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [الآية: 119] . وقول الله تعالى بشأن المشركين الذين يَكْرَهُوَن ظهور الإِسلام وانتصاره في سورة (الصف/ 61 مصحف/109 نزول) : {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون} [الآية: 9] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ولكنّ الإِسلام قد عزل السباب والشتائم عن أدبه، وأوصى المسلمين بذلك، فقال الله تعالى في سورة (الأنعام/6 مصحف/ 55 نزول) : {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الآية: 108] . كما عزل عن أدبه ما يسمّى بالأدب المكشوف أو أدب الفراش، وسَتَرَ القرآن عوراتِ هذا المجال بالكنايات والعمومات، مثل: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء} [النساء: 43] {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء} [آل عمران: 14] {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} [النساء: 21] {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] ، [الأحزاب: 49] {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} [المجادلة: 3، 4] {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 236] {فَلَماَّ تَغَشَّاهَا} [الأعراف: 189] {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187] . * وحين يكون غرض الكلام تحقير من يوجّه الكلام ضدّه، أو السخرية منه، يكون الأُسلوب البيانيّ الأكثر تحقيقاً لهذه الغاية هو الأكثر أدباً، والأرفع منزلة في هذه الحالة، بشرط أن لا يعكس الأثر على موجِّه الكلام. * وحين يكون غرض الكلام أنْ يستعطف من يُوَجَّهُ له، فيحرِّك لديه عاطفة الشفقة، أو الرحمة أو يحرِّك لديه خُلُق الجود، أو نحو ذلك، يكون الأسلوب البياني الأكثر تحقيقاً لهذه الغاية هو الأكثر أدباً، والأرفع منزلة في هذه الحالة. * وحين يكون غرض الكلام التودّد والتحبّب لمن يوجّه له الكلام، يكون الأسلوب البياني الأكثر تحقيقاً لهذه الغاية هو الأكثر أدباً والأرفع منزلة في هذه الحالة. * وحين يكون غرض الكلام استرضاءَ مَنْ يُوَجَّهُ له الكلام صراحة أو ضمناً، في دافع من دوافع نفسه، كالكِبْر، أو العُجْبِ بالنفّس، في جمالٍ، أو علمٍ أو حَسَبٍ، أو نَسبٍ، أو مكانةٍ اجتماعية، أو قُدْرَةٍ إداريّة، أو حِكْمَةِ أو حُنْكَةٍ، أوغيرِ ذلك، يكون الأسلوب البياني الأكثر تحقيقاً لهذه الغاية هو الأكثر أدباً والأرفع منزلة في هذه الحالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وهكذا في سائر أغراض الكلام. ولكلّ غرض من أغراض الكلام أساليبُ تُنَاسبه، فما يصلح في مجال الحماسة لا يصلح في مجال الإقناع، وما يحلو في الخطابة لا يحسن في مقام التعزية، وما يحسن في الجدل لا يحسن في مقام الاعتذار، وما يلائم بثّ الوَجْد، قد لا يلائم اسْتِجْدَاءَ الرَّفْد، وما يُنَاسِبُ المدح قد لا يناسب الهجاء. وذوق الأديب البليغ يُحِسُّ بوجوه الملاءمة أوعدمها بين أساليب الكلام وبين الأهداف منه، فيتحَرَّى أفضل الأساليب مُلاَءَمَةً للهدف الذي يقصده من كلامه. ولا غَرْوَ أنَّ بعض الأساليب الملائمة للهدف أكثر ملاءمة وأعظم تأثيراً من بعض. ثمّ لكل صنف من أصناف المخاطبين، ولكلّ حالٍ من أحوالهم الفكريّة والنفسيّة والاجتماعية أساليبُ ملائمة، وأساليبُ غير ملائمة، وعلى المتكلِّم البليغ أنْ ينظر في صنف من يريد توجيه كلامه له، وأنْ ينظر في حالته الفكرية والنّفسيّة والاجتماعية، ويُحسن اختيار الأسلوب الكلامي الذي يُلائمه ويؤثّر فيه فرداً كان أو جماعة. فمن أصناف النّاس: عامّة وخاصّة، وجاهلون وعلماء، وأغبياء وأذكياء ودَهْمَاء وأمراء، وبُدَاة جفاةٌ ومتحضِّرون، وأهلُ حِلْم وعقل، وأهلُ خِفّة وطَيْش، ومنهم من يُمْلَكُ من طريق عاطفته، ومنهم من يُمْلك من طريق عقله. وهكذا تختلف أصناف النّاس اختلافاً كثيراً، ولكل صنف منهم أساليب من القول تلائمه، وتكون أكثر تأثيراً في من أساليب أخرى. ونظير اختلاف النّاس اختلاف أحوالهم الفكرية والنّفسيّة والاجتماعية، فما يلائم الإِنسان وهو هادىء الفكر قد لا يلائمه وهو مشوّش الفكر مضطربه، وما يلائمه وهو في حالة الرضا قد لا يلائمه وهو في حالة الغضب، وما يلائمه وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 فقير ذليل قد لا يلائمه وهو في سَعَة من المال وعِزّ، وما يَصْلُح له من الخطاب وهو وحده قد لا يصلح له وهو بين النّاس. وهكذا إلى سائر اختلاف الأحوال، ولكل حال أساليبُ من القول مناسبة، وبعضها أكثر مناسبة وملاءَمة وتأثيراً من بعض. وفي هذا المجال الذي تختلف فيه أهداف الكلام، وتختلف فيه أصناف المخاطبين، وتختلف فيه أحوالهم، تتفاوت مراتب البلغاء والبيانيِّين. ما هو المراد من الأسلوب البياني؟ قد لا نستطيع حصر الأساليب البيانيّة وإنْ حاولنا ذلك، ولكنّنا نستطيع توضيح المراد من الأسلوب البياني بذكر طائفة من الأساليب الكلاميّة التي إذا كانت ملائمة للغرض العام من الكلام، والوضع العام للمخاطب، والحال الخاص له، والْمُنَاخ النفسيّ العامّ، كانت أسلوباً بيانيّاً مُرْتَقِياً في معارج البلاغة الراقية، والأدب الرفيع. فمن الأساليب الكلاميّة مايلي: (1) أسلوب الْعَرضِ المباشر الصريح للفكرة المراد الإِعلام بها، أو العرض الملامس بساتر. (2) أسلوب العرض غير المباشر الذي يُعْتَمَدُ فيه على مقدار ذكاء المخاطب، ويدخل في أسلوب العرْض غير المباشر التعريضُ والتَّلمِيح، ومعاريض الأقوال، والإِشارةُ الخفيّة، وفحوى الكلام، ولهذا الأسلوب صُوَر كثيرة جداً. (3) أسلوب الإِطناب وعرض الفكرة مبسّطة موضّحة من كل جوانبها، ولهذا الأسلوب مراتبُ وصُوَر كثيرة، وهذا الأسلوب يناسب أصنافاً من النّاس، وأغراضاً معيّنة من الكلام، وأحوالاً خاصّة للمخاطبين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 (4) أسلوب الإِيجاز والاختصار، ولهذا الأسلوب أيضاً مراتب وصُوَر كثيرة، وأسلوب الإِيجاز والاختصار يناسب أصنافاً من النّاس، كالأذكياء، والأمراء، وأهدافاً معيّنة من الكلام، وأحوالاً خاصّة للمخاطبين. (5) أسلوب الترغيب، وله مراتب وصُوَر كثيرة، وهو في الغالب يلائم معظم النفوس الإِنسانيّة، لما أودع الله فيها من مطامع. (6) أسلوب الترهيب، وله أيضاً مراتب وصوَر، وهو كأسلوب الترغيب يلائم في الغالب معظم النّفوس الإِنسانيّة، لما أودع الله فيها من حذر وخوف. (7) أسلوب العُنْفِ والقسوة، وهو يلائم بعض النّاس وفي بعض الأحوال. (8) أسلوب الرِّقَّة واللّين. (9) أسلوب الإِثارة للعواطف والانفعالات، وكثيراً ما يكون هذا الأسلوب نافعاً ومجدياً في الحماسة والخطابة. (10) أسلوب الإِقناع الفكري الهادىء. (11) أسلوب الجدل. (12) أسلوب الكتابة التَّقْنِينيَّة، والكتابة العلميّة المحرّرة، والمحدِّدَة للمقاصد بنصوص بعيدة عن الاحتمالات الأخرى. وهكذا تختلف أساليب الكلام، وكلُّ منها يناسب أهدافاً معيّنة، وأصنافاً معيّنة من النّاس، وأحوالاً خاصّةً للمخاطبين، ومُنَاخَاتٍ نفسيّةً عامّة، وقد يجتمع عدد من أساليب الكلام في كلام واحد حينما لا تكون متنافية، أو حينما يلائم بعضها بعضاً. مثال: ولتقريب فكرة اختلاف الأساليب البيانيّة التي يُتوخَّى منها تحقيق الغرض من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 الكلام، ويُرَاعَى فيها أوضاع المخاطَبين وأحوالهم، نضرب المثال التالي: نضع في هذا المثال مطلباً من المطالب التي قد يراد الإِعلام بها، بغية تحقيقها، ثم ننظر إلى طائفة من الأساليب الكلاميّة التي يمكن أنْ يُتَوَصَّل بها إلى الإِعلام بالمطلوب. وهنا لا بدّ أنْ نرى من الأساليب ما هو ساذج صريح، يتناول الطَّلب مباشرة، ثمّ نرى من الأساليب من يدلّ على المطلوب دلالة غير مباشرة، ويُعْتَمَدُ فيها على ذكاء المخاطبَ وقدْرَتِه على إدراك المطلوب من خلال إشارات القول ومعاريضه. ومن المسلَّم به أنّه كلّما كان المخاطب أكثر ذكاء ورغبةً في تَلْبية الطلب، كان إخفاء الإِشارة إلى الطلب في أسلوب القول الدّال عليه لدى مخاطبته أعلى منزلة من الناحية البيانيّة، وأكثر بلاغة، هذا من غير النّصوص التي يُقصد منها تثبيت أحكام بعيدة عن الاحتمال الذي قد يُفهم منه غير المراد. وهنا تتكاثر الأساليب التي تشير في خفاء إلى المطلوب، وبعضها أرقى من بعض، أو أعذب وأحلى، أو أبدع أو أكثر نفعاً وتأثيراً. ولنفرض أنَّ عدداً من النّاس كلُّ واحد منهم يُريدُ الحصول على كأس ماء يروي ضمأه، وهم متفاوتون في قدراتهم البيانيّة، وحاول كل واحد منهم الإِعلام بما يريده. أمّا الساذج منهم فيأمر أمراً بإحضار كأس الماء الذي يريد بطريقة لا لِينَ فيه ولا حِلْيَة، وقد يكون هذا الأسلوب هو الأبلغ في مخاطبة بعض النّاس، وفي بعض الأحوال والأوضاع، لا سيما في طلب الأكبر من الأصغر، فالأسلوب البياني الأبلغ حينئذٍ هو الطلب بالأمر المباشر، والأوامِرُ العسكرية من القادة إلى الجنود قد لا ينفع فيها إلاَّ مِثْلُ هذا الأسلوب المباشر الجاف، لمقتضيات التدريب على الانضباط العسكري، وكذلك شأن القرارات والمراسيم والأوامر التي توجّهها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 سلطات الحكم، ومن هذا الباب التكاليف الشرعية فيها أوامرُ ونواهٍ، مثل: "أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وافعلوا الخير، ولا تقتلوا النّفس التي حرّم الله إلاَّ بالحق، ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، ولا تسرقوا، ولا تزنوا" ومع ذلك فإنّنا نلاحظ معظم التكاليف الشرعية تقترن بتَطْرِيةِ الترغيبِ والترهيب، وبيانِ الحكمة، والتمهيد بالمقدِّمات، والتلطّف بالنداء التكريمي، مثل: {يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ} [آل عمران: 149] ومثل: {ياعبادي} [الزمر: 53] . وترتقي من فوق الأمر المباشر الجافّ أساليبُ الإِعلام بالطلب، فيأتي أسلوب الطلب المقترن بما يشعر بتكريم المخاطب، ومن أمثلة ذلك في موضوع طلب كأس الماء "من فضلك أعطني ماء". ثمّ يأتي فوقه أسلوب الشكر على تحقيق المطلوب قبل تحقيقه، ومن أمثلة ذلك: "أشكرك على كأس الماء الذي ستقدّمه لي". ثمّ يأتي من فوق ذلك أسلوب التلميح والتعريض، ولهذا الأسلوب صور كثيرة، ودرجات بعضها أرقى وأعذب من بعض ومن أمثلة هذا الأسلوب: (1) ماؤكم عذب لا يشبَعُ منه الشاربون. (2) الحرُّ شديد يورث الظمأ. (3) طعامكم طيِّب ولذيذ أكْثَرْنَا منه فألهب الأكباد. وهكذا من أمثلة المعاريض التي لا تحصر. أَلَسْنا نلاحظ أنّ الهدف المطلوب تحقيقه واحد في كلّ الأساليب السابقة، إلاَّ أنّ الأساليب البيانيّة للإِعلام بالهدف قد تفاوتت تفاوتاً كثيراً. ومع تفاوت الأساليب البيانيّة وارتقاء بعضها فوق بعض، نؤكد أنّه ربّما كان الأدنى منها أصلح وأجدى من الأساليب التي هي أرقى، مع بعض المخاطبين، أو في أوضاع وأحوال خاصّة، أو في موضوعات معيّنة أو بالنسبة إلى أهدافٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 خاصّة من الكلام. وعندئذٍ يكون الأدنى في أسلوبه البياني هو الأبلغ لتحقيق الهدف، كشأن أساليب التربية. ومن أجل ذلك لا بدّ من النّظر إلى الأسلوب البياني ومرتبته من جهة، وإلى ما يَقْتَضيه الهدفُ وإلى وضع المخاطب وحاله من جهة أخرى. ومن هذا تبيّن لنا أنّ الأساليب البيانية تختلف أنواعها اختلافاً كثيراً، وأنّ الأهداف من الكلام، وأوضاع المخاطبين وأحوالهم، والموضوعات العامّة التي يجري فيها الكلام، والمضامين الفكرية التي يراد الدلالة عليها، والْمُنَاخات النّفسية والاجتماعية التي يوجّه فيها الكلام، تختلف اختلافاً كثيراً أيضاً. والبليغ حقاً هو الذي يُحْسِنُ الملاءَمَة بين أسلوبه البياني وبين الهدف الذي يقصده، والموضوع الذي يتحدّث فيه، ووضع المخاطب الذي يُوَجِّهُ له كلامه، وحاله التي هو عليها، وسائر الأمور التي يمكن أن يُلائِمَها أسلوب من الكلام ولا يلائمها أسلوب آخر. ولا بد من الإِشارة هنا إلى أنّ هذه المَلاءَمَة في الأسلوب البياني، ليست هي كلَّ شيء في تحديد الجمال والأدبي، بل توجد عناصر جماليّة أخرى كثيرة، قد يشتمل عليها الكلام أو لا يشتمل عليها مع مراعاة الملاءمة في الأسلوب البياني. ونظرةٌ في مختلف الأساليب البيانيّة تجعلنا نمرُّ على أسلوب العرض المباشر الجاف، فأسلوب العرض المباشر المغلّف بما يلطِّفه ويخفّف جفافه، ونمرُّ على الأسلوب الساذج البسيط، فما هو قريب منه. وقد يلطِّف العرضَ المباشر التشبهُ والتمثيلُ فيجعلُه ملموساً بساتر، والمحسِّنات اللّفظية، وأنواع من الزينة المعنوية، ودَعْمُ الخبر بالمؤكدات والشواهد، ودَعْمُ الطَّلَب بالمبرّرات والترغيب والترهيب. ثمّ نمرّ على أساليب العرض غير المباشر التي يدخل فيها التعريض، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 والتلميح، والكناية، والقصّة، وضرب الأمثال، وتَرْكُ صِيَغ الطلب إلى صيغ الْخَبَر الذي يراد منه الطلب، إلى غير ذلك من الأساليب البيانية الكثيرة التي لا يُعرض فيها المطلوب بشكل مباشر، وقد يقترن أسلوب العرض غير المباشر بما يؤكد الخبر الذي تضمّنه الكلام، أو بما يحرِّض على تحقيق المطلوب في الكلام، كالترغيب والرهيب. وأصحابُ الذَوق البياني الرفيع يُحسنون استخدام الفنون البلاغيّة التي يذكرها علماء البلاغة، وفنوناً أخرى يبتكرونها، فالفنون البيانيّة لا تُحصر، والفكر الإِنساني مؤهل لأن يبتكر فيها بدائع وروائع جديدة، تهديه إلى خصائص الإِبداع الفنّي التي وهبها الله للإِنسان. والدعاة إلى الله مطالبون بتدريب أنفسهم لاكتساب هذا الذوق البياني، ولاكتساب المهارة في صناعة الكلام الرفيع، ثم هم مطالبون بتسخير أدبهم في دعوتهم إلى سبيل ربِّهم، اقتداءً بنبيّهم ورسولهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واقتباساً من المنهج القرآني في بلاغته العظيمة. ثانياً - التنويع والتنقّل والتلوين: ومن عناصر الجمال الأدبيّ الذي يزيد الجمال جمالاً، والحسن حسناً وبهاء، التنويع والتنقّل والتلوين بين الصور والأشكال الجماليّة في الكلام. إنّ التزام الأديب لطريقة واحدة من الجمال الأدبيّ يكرّرها باستمرار في كلامه أو في معظم كلامه، ممّا يجعل مشاعر سامعيه أو قارئيه تَتَبَلّد تجاه هذا اللون من الجمال، فتفقد ما كنت تحسّ به من استعذاب وحلاوة وطلاوة، ويدبّ السأم إليها، ولو أنَّ أدبه كان كالمنِّ والسلوى، لأمست مشاعرهم أمام التزامه الوتيرة الواحدة كنفوس بني إسرائيل. لمّا أكثر طه حسين من استخدامه للون جميل في الكلام هو الاستفادة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 عكس الكلام للدلالة على فكرة أخرى، غدا هذا اللون بعد حين مادّة لتندّر بعض المقلّدين الساخرين. وهذا العكس في الكلام هو ما كان على وزن العبارة المشهورة: "كلام الأمير أمير الكلام" ونقول في نظائرها: "الجمال الأدبيّ وأدب الجمال" - "الطَّبْعُ الْحَسَنُ والْحُسْنُ المطبوع". "شعراءُ العلماء وعُلَمَاءُ الشعراء" - "روائع النَّثْرِ ونَثْرُ الرَّوَائع". ومن التزام الوتيرة الواحدة المملّة ما نجده في مقامات الحريري على الرّغْم من حلاوة بعضه لأوّل مرة، لكنّ التّنقّل في الألوان الأدبيّة، والتنويع في استخدام العناصر الجمالية في الكلام، من الأسباب التي تجدّد إثارةَ الانتباه للإِحساس بالجمال، وتجدّد الاستمتاع بلذّة الأدب الجميل، وترفعه إلى مستوى الروائع، وتَمْنَعُ تسلُّل والْمَلَلِ إلى نفوس المستمعين أو القرّاء. إنّ التَّنَقُّل مثلاً في النَّثْر من المتوازنات القصيرة، إلى المتوازنات الطويلة، إلى المتفاوتات الرشيقة ضمن نسق معجب جميل أَحبُّ إلى النّفوس الحضاريّة الذوّاقة للجمال من الثبات على وتيرة واحدة منها. ثم إذا استطاع الأديب أنْ يُلاَئِمَ بين المضامين الفكرية وبين الأسلوب الذي اختاره كان ذلك أكثر إعجاباً وإبداعاً. وكذلك التَّنَقُّل من الخبر، إلى التساؤل، إلى الجواب، إلى التمنِّي فإلى الخبر، فإلى الحوار والمناقشة، فإلى الْجَدَلِ، فالْحَماسة، فالمنطقيّة العقليّة، فالعاصفة، فالحديثِ الهادىء، إلى غير ذلك من ألوان وفنون بيانيّة، مع شرط الملاءمة، وعدم التنافر الجمالي. ومع التنقّل ينبغي للأديب أنْ يكون قادراً على الإِحساس بالتحوّلات النّفسيّة لدى من يُوَجِّهُ له كلامه، ليختار من أساليب القول ما يلائم الحالة النّفسيّة التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وصل إليها. إنّ هذه القدرة على هذا الإِحساس، مع القدرة على التكيُّف السريع والانتقال إلى الأسلوب الأدبيّ الجديد الملائم، هي الوسيلة البارعة الموصلة إلى امتلاك الألباب والقلوب والنّفوس بأدب رفيع. ومهما كان الأديب أقدر على هذا التكيُّف، مع اختيار اللّون الأدبيّ الملائم، وأقدر على استخدام مختلف الأساليب في كلامه، والتَّنقُّل البارع بينها من غير تكلُّف ولا قفزات منفّرات، كان أكثر أدباً، وأرفع أسلوباً، وأقدر على امتلاك من يُوَجِّه له كلامه. ولنا في هذا بكتاب الله العظيم أسوةٌ رائعة، فمن خصائص الإِعجاز القرآني التنويع البديع الرائع في الأساليب، مع ملاءمة كلّ نوع من أنواع الأساليب للمضمون الفكري الذي يُرَادُ بيانه في النَّظْم القرآني المنزَّل. *** ثالثاً - تزيين الأفكار المقصودة بالذات بأفكار أخرى: ومن عناصر الجمال الأدبيّ تزيين الفكرة المقصودة بالذات بأفكار أخرى عن طريق التمهيد أو المقارنة أو التذييل. (1) فالتمهيد يكون بعرض أفكار تمهّد للأفكار المقصودة بالذات، وتزيِّنُها وتجعلها مقبولة. كالتمهيد بمَقُولة إقناعيّة تتضمّن ضرورة العناية بالصحة، والمحافظة عليها، قبل التّحذير من شرب الخمر، أو من شرب الدخان، أو نحو ذلك من الأمور الضارّة بالصّحة. وكاستثارة عناصر الإِيمان قبل توجيه التكليف. وكالتمهيد بعبارات تشعر بتكريم المخاطب والتلطّف معه، بحسب مكانته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 الاجتماعية بين قومه، ومن ذلك الديباجات التي يُقدِّم بها الناس خطاباتهم للملوك والعظماء والرؤساء. وأمثلة هذا التمهيد كثيرة في القرآن العظيم ومنها: (أ) قول الله لرسوله في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزل) : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين} [الآية: 159] . فقول الله لرسوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] تمهيد حلو في ثناء وتكريم، لتحذير ضمني من شيء غير واقع حتماً، ألاَ وهو الفظاظة وغلظ القلب الذي جاء بصيغة: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] . ثمّ نلاحظ أنَّ الجملتين معاً كانتا تمهيدين رائعين لتوجيه التكليف بقوله تعالى لرسوله: {فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} [آل عمران: 159] . (ب) قوله الله تعالى في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزل) : {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [الآية: 164] . إنَّ هذه الآية بمضامينها قد كانت تمهيداً يهيِّىء نفوس المؤمنين لتقبّل تلويمهم على ما بَدر منهم من تذمُّر واستنكار لبعض المصائب التي أصابتهم في أعمالهم الجهاديّة، بأسباب من عند أنفسهم، وهو ما جاء في الآية التالية للآية السابقة: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هاذا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165] . (ج) وقد علّم الله موسى أن يُمهِّد لفرعون بمقدِّمات العرض الرفيق جدّاً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 قبل أنْ يوجِّه له الدَّعوة المقصودة، وهي أنْ يتزكّى أي يتطهّر من الكفر والطغيان والظلم والعدوان. فقال له كما جاء في سورة (النازعات/ 79 مصحف/ 81 نزل) : {اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى * فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أَن تزكى * وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ فتخشى} [الآيات: 17 - 19] . فأدب الدعوة لعظيمٍ بلغ به الأمر إلى ادّعاء الربوبيّة، قد اقتضى اتّخاذ الحكمة في دعوته، بتقديم مقدمات العرض الرفيق المهذّب جدّاً، دلَّ عليها في النص: {هَل لَّكَ إلى أَن} لقد كان يفكي أنْ يقول له: أدعوك أنْ تزكّى. أو يكرّمه قليلاً بصيغة العرض الاستفهامي: هل تتزكَّى، أو يكرمه أكثر فيقول له: هل ترى أن تتزكّى، أو نحو ذلك. لكنّ الله علّم موسى أنْ يفرش لفرعون مقدّمات تكريم أكثر تناسب مكانة فرعون في قومه، وقد جاء التعبير عن هذه المقدّمات الطويلة نسبيّاً بقوله: {هَل لَّكَ إلى أَن تزكى} فأطال المقدّمات بحسب عادات القوم، واختصر المطلوب الأساسي، فقال {تزكى} بدل {تتزكّى} (2) والمقارنة تكون بإلباس الفكرة المقصودة ثوباً من فكرة أخرى تقبَّلها المخاطب أكثر من تقبُّلِه الفكرة المقصودة عارية مجرّدة. وتطبيق ذلك يكون باستخدام الأساليب غير المباشرة التي سبق شرحها بتفصيل. (3) والتذييل يكون بعرض الأفكار المقصودة بالذّات أوّلاً، وإتباعها بما يُزّينها ويجعلها مقبولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 كالإِتيان بالفكرة ثم بإتباعها بالاستدلال عليها استدلالاً برهانياً أو دون ذلك. بإتباعها بالوعد المحبوب ترغيباً بها، بالوعيد المكروه ترهيباً منها وتحذيراً. أو بإتباعها ببيان دواعيها المنطقيّة، أو دواعيها الالتزاميّة، ومن الدّواعي الالتزاميّة التذكير بعهد الإيمان والإِسلام، أو بسوابق الوعود والعهود، ونحو ذلك. والأمثلة القرآنية على هذا النوع كثيرة جداً. فمنها قول الله تعالى في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول) : {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الآية: 22] . فأَمَرَ الله عزّ وجلّ بالعفو والصفح، ثمّ أتبعه بعرضٍ فيه الوعد بالمغفرة لمن يعفو ويصفح. ونجد في القرآن آيات كثيرةً مختومة بنحو قوله تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} [التوبة: 4، 7] . {إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} [البقرة: 195] ، [المائدة: 13] . {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [المائدة: 42] . {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين} [الأنفال: 58] . {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين} [القصص: 77] . {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين} [آل عمران: 32] ممّا يشير إلى الوعد أو الوعيد بعد بيان المطلوب من فعل وترك. *** رابعاً - ضرب الأمثال: ومن عناصر الجمال الأدبيّ الرفيع في الكلام ضرب الأمثال، بشرط أن تتوافر فيها الشروط الفنِّية للأمثال، وتستجمع الشروط الأساسيّة العامّة للكلام البليغ. ويشترط في ضرب المثل أنْ يكون له غرض بيانيّ، لا أنْ يكون مجرّد عبث في القول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 ولدى تتبُّعي للأمثال القرآنيّة وجدْتُ أنَّ أهمّ الأغراض التي يحسن أنْ يقصدها البلغاء هي الإغراض الأخلاقية والتربوية التي هدَفَتْ إليها الأمثال القرآنيّة، تتلخّص بالأغراض الست التالية: الغرض الأوّل: تقريب صورة الممثَّل له إلى ذهن المخاطب عن طريق المَثَل. الغرض الثّاني: الإِقناع بفكرة من الأفكار، وهذا الإِقناع قد يصل إلى مستوى إقامة الحجّة البرهانيّة، وقد يقتصر على مستوى إقامة الحجّة الخطابيّة، وقد يقتصر على مجرّد لفت النّظر إلى الحقيقة عن طريق صورة مشابهة. الغرض الثّالث: الترغيب بالتزين والتحسين، أو التَّنفيرُ بكشف جوانب القبح، فالترغيب يكون بتزيين الممثّل له وإبراز جوانب حسنة، عن طريق تمثيله بما هو محبوب للنّفوس مرغوب لديها. والتنفير يكون بإبراز جوانب قبحه، عن طريق تمثيله بما هو مكروه للنّفوس أو تنفر منه. الغرض الرابع: إثارة مِحْوَر الطّمع، أو مِحْوَر الخوف لدى المخاطَب، ففي إثارة محوَر الطمع يتّجه الإِنسان بمحرّض ذاتيّ إلى ما يُرَادُ توجيهه له، وفي إثارة محور الخوف يبتعد الإِنسان بمحرِّض ذاتيّ عما يُرَادُ إبعاده عنه. الغرض الخامس: المدح أو الذّم والتعظيم أو التحقير. الغرض السادس: شَحْذُ ذهن المخاطَب، وتحريكُ طاقاته الفكرية، أو استرضاء ذكائه، لتوجيه عنايته حتّى يتأمّل ويتفكّر ويصل إلى إدراك المراد عن طريق التفكُّر. والأمثال التي يَدْفَعُ إليها هذا الغرض إنّما يُخَاطَب به الأذكياء، وأهل التأمُّل والنَّظر والبحث العلمي، وكبراء القوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 أمّا الأغراض غير الأخلاقيّة فقد تجافت الأمثال القرآنيّة عنها كالسخريّة في ابن الرومي إذ قال: قَصُرَتْ أَخَادِعُه وَطَالَ قَذَالُهُ ... فَكَأَنّهُ مُتَرَبِّصٌ أنْ يُصْفَعَا ومن شاء أنْ يتعلّم فن ضرب الأمثال، فليهتد بهدي خصائص الأمثال القرآنية. ولدى تتبُّعي للأمثال القرآنيَّة اكتشفت من خصائصها الخصائص الست التالية: الأولى: دقّة التصوير مع إبراز العناصر المهمّة من الصُّورة التمثيليّة. الثانية: التصوير المتحرِّك الحيّ الناطق، ذو الأبعاد المكانيَّة والزمانيَّة، والذي تبرز فيه المشاعر النَّفسيّة والوجدانيّة، والحركات الفكرية، للعناصر الحيّة في الصورة. الثالثة: صدقُ المماثلة بين الممثَّل به والممثّل له. الرابعة: التنويع في عرض الأمثال، مرّة بالتشبيه، ومرّة بالعرض المفاجىء وبالتمثيل البسيط، وأخرى بالتمثيل المركّب الذي يطابق كل جزء منه جزءاً من الممثَّل له، وأخرى بالتمثيل المركّب الذي يُنْتَزَع منه وَجْهُ الشبه بنظرة كليّة عامّة. الخامسة: البناء على المثل والحكم عليه كأنَّه عين الممثَّل له، على اعتبار أنَّ المثل قد كان وسيلة لإِحضار صورة الممثَّل له في ذهن المخاطب ونفسه، وإذْ حضرت صورة الممثّل به ولو تقديراً، فالبيان البليغ يستدعي تجاوز المثل، ومتابعة الكلام عن الممثَّل له، وتسقط صورة المثل لتبرز القضايا المقصودة. السادسة: قد يحذف من المثل القرآني مقاطع اعتماداً على ذكاء أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الاستنباط، وقد تُحذف من الممثَّل له مقاطع أيضاً، ويبقى في دلالات الألفاظ أو لوازم المعاني ما يدلّ على المحذوف. واجب الدّعاة: وعلى الدُّعاة إلى سبيل الله بالحِكْمة والموعِظَة الحسَنَة أنْ ينتفعوا من هذا العنصر من عناصر الجمال الأدبي، ويهتدوا بهَدْي كتاب الله وهَدْي سنّة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك، فكم فيهما من أمثال رائعات. وللقارىء أنْ يرجع إلى كتابي: "أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع". *** خامساً - السطح والعمق: ومن عناصر الجمال والكمال الأدبيّ الرفيع في الكلام أنْ يكون له سطح تفهمه العامّة دون غموض ولا ارتباك ذهنيّ، وأنْ يكون له مع ذلك عمقٌ تفهمه الخاصّة بالتأمّل والتعمُّق وإعمال الذكاء. ولا يستطيع تقديم بيان رفيع مثل هذا البيان الذي له سطح وعمق إلاَّ نوابغ البلغاء الأذكياء. والقُدوة الهادية لهؤلاء النوابغ بلاغة القرآن المعجز. إنّ المتدبِّر لكلام الله عزّ وجلّ في القرآن يلاحظ عجباً، إنّه إلى آية فيفهمها، ويأخذ منها دلالة صحيحة ينتفع منها انتفاعاً عظيماً. ثمّ تأتيه نفحات في تدبُّر آخر، فيفهم من الآية معانيَ جديدة لم ينتبه إليها في التدبُّر الأول، وهذه المعاني لا تتعارض مع ما فهمه في التدبُّر الأوّل إذا كان تدبُّراً صحيحاً. بل تعطيه إضافات متمِّمة لما كان قد تدبَّره من قبل. ثمّ كلّما تعمَّق في التدبُّر تواردت عليه مفاهيم جديدة تتكامل بها لديه المعرفة المتعلِّقة بدلالة الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 والعمق في الكلام يتكوّن من أسباب، منها مايلي: الأوّل: عدم الإشارة باللّفظ إلى الترابط المنطقي بين المعاني، أو إلى الترتيب الزماني أو المكاني بين الأحداث، أو غير ذلك من أمور مع إبقاء كل جملة في محلِّها الطبيعي. ولوْ أنَّه جاءت الإشارة الصريحة إلى هذا الترابط، أو هذا الترتيب بلفظ دالٍّ، لخرج المعنى من العمق إلى السطح. ولكن يفقد النّص بذلك عاملاً من عوامل جدّته في نفس القارىء عند كل تدبُّر. الثاني: الكنايات البعيدة ذوات الدلالات المتتابعات. الثالث: المحاذيف التي تُحْذَف للإِيجاز، ويقتضيها معنى النّص، أو يستدعيها التوازن والتناظر والتكامل فيه، أو غير ذلك، ويبقى المعنى بعد حذفها صحيحاً، إلاَّ أنّه جزء من المعرفة التي يدلُّ عليها السطح والعمق معاً. والعمقُ القرآنيّ عمقٌ معجز، لهذا سيظلّ في القرآن جديد يفهمه المتدبّرون المتعمّقون. والسّطحُ والْعُمْقُ في القرآن شيءٌ غير الظاهر والباطن الذي تدّعيه الباطنيّة كذِباً وبهتاناً وافتراءً على الله ورسوله، إنَّ الذي يقولون به خرافةٌ يُقْصَدُ بها تحريف نصوص كتاب الله وسنّة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومن ميزة السطح والعمق في القرآن أن الْعُمْقَ يُكَمِّل السطح، ولا ينقضه، ولا يتنافى معه. وشأن المتدبِّر في القرآن كشأن الباحث في سطح البحر وعمقه. ومن بُلغاء البيان مَنْ يكون لبعض كلامهم سطح وعمق، إلاَّ أنّ العمق لديهم سهل الاستخراج وقد يتنافى مع السطح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 إنّْ قول المتنبِّي لكافور الإِخشيدي: *"لقد كنت أرجو أنْ أراك فأطربا"*. له سطح يمدح به كافوراً، لكنَّ له عمقاً يسخر به منه. *** سادساً - أوجه النَّص: ومنْ عناصر الجمال والكمال الأدبيّ الرفيع في الكلام أنْ يكون له عدّة أهداف، وهذه الأهداف كلُّها مقصودة به، ويظهر هذا بجلاء حينما يكون المخاطب بالكلام جماعة ذات فئات مختلفة، وعناصر متباينة. فمن أمثلة النَّصّ ذي الهدف المزدوج أن يوجِّه ذو سلطان عدم تهديده الشديد للَّذين يخالفون أوامر مبعوث من قبله للقيام بمهمّة من المهمّات السلطانيّة، إنّنا نلاحظ في هذا النَّص التهديدي هدفين معاً: أحدهما: تهديد الذين يخالفون. وثانيهما: رفع معنويَّة المبعوث، وشدُّ أزره وشحذُ همّته للقيام بما بُعِثَ به أفضل وجه. وقد يكون الكلام مثلّث الهدف، أو أكثر من ذلك، وكل صاحب علاقة يأخذ من النَّصّ ما يناسب حاله، ويكْثُر هذا في النُّصوص القرآنيّة، فقد يكون الكلام تهديداً وتوعُّداً للكافرين، ووعداً للمؤمنين، وتربيةً وتأديباً وتسلية للرسول صلوات الله وسلامه عليه. ومن الأمثلة القرآنية على تَعَدُّد الهدف من النصّ قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنفال/ 8 مصحف/ 88 نزول) : {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ سبقوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} [الآية: 59] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 ففي هذا النصّ هدف إلقاء الوهن في قُلوب الكافرين، ولو عظمت قوّاتُهم. وهدف رفع مستوى القوى المعنوية في قلوب المؤمنين، وشحذُ همّتهم لإعداد القوى المادية التي يسبقون بها الذين كفروا تمهيداً للتكليف بإعداد المستطاع من القوة الذي جاء في الآية التالية لهذا النص. *** سابعاً - الشعر وفنونه: ومن عناصر الجمال في الكلام أنْ يُرضي الحسّ الموسيقي في الإِنسان، ويدغدغه بإمتاع. إنَّ للموسيقى وموازنيها تأثيراً مستعذباً في النُّفوس، فإذا جاء الكلام موزوناً على بعض موازنيها الحلوة المستعذبة اكتَسَبَ حلاوة مُحبَّبَة. ثم إذا توافرت في الكلام مع ذلك عناصر متلائمة من عناصر الجمال والكمال الأدبي ازداد الكلام حُسناً وقوّة تأثير في النَّاس. إنَّ الأشياء الجميلة التي تلامس مشاعر الإِنسان بمؤثراتها الحلوة من جانبين، هي أكثر تأثيراً فيه من التي تلامس مشاعره من جانب واحد. وكلّما ازدادت الجوانب ازدادت قوّة التأثير، حتّى تصل إلى محاصرة الإِنسان من كل مشاعره الجسديّة والنفسيّة والفكرية والوجدانيّة، فيفقد عندئذٍ كل مقاومته، ويستسلم استسلاماً تامّاً، مستغرقاً في لذّات المشاعر الحُلوة. إنَّه إذا اجتمع المنظر الجميل، والصوت الحَسَن، والرائحة الزّكية، والطعم اللّذيد، والملمس الحُلو الممتع، والرّاحة النّفسيّة، وكان الحديث أدباً جميلاً رفيعاً، موضوعاً بقالب موسيقي شِعري، فقد حاصر الجمال معظم مشاعر الإِنسان، وأخذَ يهيْمن عليها بمؤثراته الحُلوة، حتى يَسْلُبَها كل مقاوماتها، فتستلم استسلاماً تامّاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 ولمّا كانت النَّفس الإِنسانية تَطْرَبُ للموسيقى، وترتاح لموازينها الحُلوة، وكان الشِّعر كلاماً يجري في بعض جداولها، وعلى بعض موازنيها، كان للشعر تأثير حلو على النُّفوس الإِنسانية، ويظهر هذا حتى على الأطفال الصغار، الذين يظهر شعرٌ طفليّ على بعض جملهم التي يردّدونها أو يغنُّون بها. ويتفاوت النَّاس في مدى إحساسهم بهذا النَّوع من أنواع الجمال في الوجود، وفي تذوُّقهم له، لذلك نلاحظ أنَّ بعض النّاس يتأثّرون بالشِّعر أكثر من بعض، مع وجود أصل التأثّر عند كل النّاس إلاَّ نادراً. وبعض النّاس لديه بالتكوين الفطري فِطْرَةُ نَظْم الكلام على ميزان شِعري. وكلُّنا يعلم أنّ الكلام الموضوع في قالب ميزان شِعري أسرع إلى الحفظ، وأثبت في الذاكرة، وأسهل استدعاءً عند الحاجة. فلا غَرْوَ إذن أنْ يكون الشِّعر عنصراً من عناصر الجمال في الكلام. وهنا نقول: إنّ على أصحاب الأهداف النّبيلة والدّعوات الخيِّرة أنْ يُحسِنوا استخدام هذا اللَّون الجمالي من ألوان المؤثرات على النَّفس الإِنسانيَّة، وأن لا يَدَعوا ساحته للشعراء الذين يتَّبِعهم الغاوون، الذين هم في كل وادٍ من أودية أهواء النَّفس وشهواتها، وأودية الضلال والفساد في الأرض يهيمون، والذين هم يقولون ما لا يفعلون. إنَّ الشِّعر سلاح من أسلحة الأدب، وهو وسيلة حياديّة بذاتها، إنْ استُخْدِمت في الخير كانت خيراً، وإنْ استُخدِمت في الشرّ كانت شرّاً. وبوسع المصْلِحين ودُعاة الخير ممَّن لديهم القدرة على كتابة الشِّعر الرفيع أنْ يَلْبَسوا درع قول الله تعالى في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) : {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الآية: 227] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 بعد أنْ وصف الله واقع حال معظم الشُّعراء بقوله تعالى فيها: {والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 224 - 226] . فالشعراء الذين يهيمون في كلّ وادٍ من أودية الضلال والهوى، والكذب والطعن في الناس ظلماً، والمدح لبعض الناس استجداء، والانتصار بغير حق، ويتبجّحون بشعرهم كذباً وزوراً، فيصفون أنفسهم بالشجاعة وهم الجبناء، وبالكرام وهم البخلاء، وبالعقل وهم السفهاء، وبالعفّة وهم الفُسّاق، ويتحدَّثون عن مغامرات غراميّة لم تحدث، فيفضحون بأكاذيبهم محصنات عفيفات، ويفتخرون بالحَسَب والنَّسب وهم صعاليك لا حَسَب لهم ولا نَسَب، ويَعِدون ولا يَفُون، ويُعَاهِدُون ويَغْدُرون، ويُظْهِرُون صدق الحبِّ وهم الطامعون، فهم يقولون ما لا يفعلون. هؤلاء بزخرف الشِّعر الذين يملكون القدرة على صناعته والتأثير بفنونه إنَّما يتَّبعهم من النَّاس الذين سَفِهوا نفوسَهم، فخدعتهم الكلمة المزخرفة ولو كانت باطلاً وزُوراً، ودَعْوةً إلى الشَّرِّ والفساد في الأرض. ومن هؤلاء شعراء الحانات، والمواخير، والليالي الحمراء، وشعراء الإِباحيّة، وشعراء المذاهب الضالّة الهدّامة. أمّا الشُّعراء الذين يَلْبَسُون درع الاستثناء القرآني فقد برز منه في عصر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "حسّان بن ثابت - وعبد الله بن رواحة - وكعب بن مالك". واتَّخذهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسلحة بيانيّة أدبيّة ضدّ شعراء أهل الكُفر والشّرك بالله، وكان يستحثُّهم أحياناً لمجاهدة الكافرين والمُشركين بشعرِهم. وظهر في العصور الإِسلاميّة التالية شعر إسلامي كثير، ولكن ظلّت نسبة المبدعين من فحول الشّعراء في جانب الذين يَتَّبِعهم الغاوون هي النِّسبة الأكبر، أمّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 الذين لبِسوا درْعَ الاستثناء القرآني فقد كان فيهم موهوبون ذوو قدرات عالية تؤهِّلهم لأن يكونوا من فحول الشُّعراء، إلاَّ أنَّهم فيما أرى آثروا الإِبداع في العلوم الإِسلاميّة والاشتغال بها عن توجيه كل اهتمامهم للشِّعر، فلم يُبَرِّزوا به كما برّز الآخرون. وفي ظنِّي لو أراد الإِمام الشافعي أنْ يكون شاعراً لبزّ أبا نواس في الشِّعر. ولكنّه آثر أنْ يكون عالماً فقيهاً. وقد تكون شدّة الحذر من الانزلاق بالشِّعر إلى فئة الّذين يتَّبعهم الغاوون قد كفَّت كثيراً من الذين يملكون في فطرتهم القدرة الشِّعرية العالية عن أن يخوضوا بحور فنونه، ويستخدموه للدّعوة ويبلغوا فيه إلى مستوى فحول الشُّعراء. ثامناً - الغرض الفكري البياني من الصورة البلاغيّة المختارة: ليس يكفي إيراد الكلام وفق صورة من الصُّوَر البلاغيّة التي يذكرها علماء البلاغة، بل لا بدّ من ملاحظة غرض فكريّ بياني تؤديه هذه الصورة المختارة. إنَّ نسبة الجمال في الكلام ترتقي جداً حينما نُدرك أنّ الأديب قد اختار الصورة البلاغيّة التي أوردها في كلامه لغرض فكريّ زائد على مجرّد اختيار صورة جماليّة بلاغيّة يذكرها علماء البلاغة. إنَّ الصورة البلاغيّة مهما كانت جميلة في ذاتها تغدو كجسد بلا روح إذا كانت خالية من غرض فكري بياني تهدف إليه في البيان، باستثناء عناصر الجمال اللّفظي أو الموسيقي، والزِّينات التي لا تحتمل أداء غرض فكريّ بيانيّ. ولدى بحث أيِّ جانب بلاغي في كلام رفيع من كلام البلغاء ينبغي البحث لاستجلاء الغرض الفكري من الصورة البلاغيّة، فليس المهم مجرّد الإِشارة إلى الصورة البلاغيّة، إنَّما المهم بعد ذلك هو استجلاء الغرض الفكري البياني من ورائها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] إنَّ الصورة البلاغيّة في النَّص تتلخَّص بإسناد السيلان إلى الوادي، مع أنّ المراد سيلان الماء فيه. فهل انتهينا من البحث. إنَّ الذي يملك الحسَّ الأدبي الرفيع يقول: لا. لأنَّه يتساءل: ولماذا أسند السيلان إلى الوادي بدل إسناده إلى الماء؟ وما الدَّاعي إلى ذلك وما هو الغرض منه؟. وبالتأمّل يجد الجواب على تساؤله، إذ يرى أنَّ الغرض الفكري البياني من هذا الإِسناد هو إعطاء السامع أو القارىء صورة تُشْعِرُ على سبيل التخيّل بأنَّ الوادي يسيل فعلاًَ لكثرة تدفّق الماء وارتفاع نسبته في جانبي الوادي. وهذه الصورة قد تحدث في وهم الإِنسان أو في تخيّلاته حينما يشاهد هدير الماء الكثير الذي يغمر قدراً كبيراً من الوادي. فالتعبير إذن تصوير صادق لما يَجْرِي في التخيُّل لدى مشاهدة الحدث المادي. إذن ينبغي للأديب أن يراعي ذلك في كلامه، وعليه أن يلاحظ باستمرار أنّ كبار البلغاء حينما يعطفون في كلامهم عن مجراه إلى صُوَر بلاغيّة يختارونها إنَّما يفعلون ذلك لأغراض فكريَّة بيانيَّة يهدفون إليها، ولا يكتفون باختيار الصُّوَر البلاغيّة لمجرّد أنَّها صور بلاغيّة، وهذا ما يعطي كلامهم ارتقاء أدبياً عظمياً، وجمالاً مكثَّفاً مضاعفاً. *** تاسعاً - الجمع بين الأشياء المتضادّة: وقد يكون من عناصر الجمال الأدبي في الكلام الجمع بين الأشياء المتضادّة في صورة كلاميّة متناسقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وذلك لأنَّ الأضداد سريعة التخاطر في الأذهان، فإيرادها قد يُحْدِثُ ارتياحاً جماليّاً في النَّفس. وفي الصُّوَر الحِسِّية مِشَاهِدُ للتضاد أمثال ذلك، فمن المشاهد الحسِّيَّة الجميلة مشهد جبل أجرد إلى جانب وادٍ أخضر فيه جنّات ألفاف. ومشهد قصر راسخ ثابت البنيان ضمن عاصفة هوجاء تقتلع ما على الأرض من أشجار وأكواخ وأشياء كثيرة. ومشهد سفينة ثابتة كالطُّوْد في خِضمّ بحرٍ هائج وعاصفة بحريّة ثائرة. ومشهد وجه منير كالبدر ضمن شعر منسابٍ كالليل. والحسّ الذوّاق للجمال يتحكّم بإدراك التناسق أو التنافر في الصورة التي تجمع بين المتضادّات، إذ ليس كلّ جمع بين المتضادّات يُحْدِثُ هذا الارتياح النَّفسي. فمثلاً: لا ترتاح النُّفوس لدى ذكر ما يثير تقزّزها ونفورها، وإن كان ذلك مقابل ذكر ضدّه أو نقيضه، إنّ ذكر المُحْزِنات لدى ذكر المُفْرِحات أمرٌ مستنكر تنفر منه الطباع، ما لم يكن عَرْضاً لمبادىء عامّة لها طابع التأمّل الفلسفي، وإنّ ذكر المستقذرات في مقابل الطيِّبات أمرٌ مستهجن تنفر منه النُّفوس ولا ترتاح له. وهكذا. فمن أمثلة المزدان بعنصر الجمع بين الأضداد الذي يُحدث إعجاباً وارتياحاً في النفُّوس، ولا يُحدث نفوراً ولا انزعاجاً ولا تقزّزاً، مايلي: (1) قول الله تعالى في سورة (النجم/ 53 مصحف/ 23 نزول) : {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى} [الآيات: 43 - 45] . (2) وقول الله تعالى في سورة (الحج/ 22 مصحف/ 103 نزول) : {وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير} [الآيات: 3 - 4] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 (3) وقول الله تعالى في سورة (الروم/ 30 مصحف/ 84 نزول) : {ولاكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ} [الآيات: 6 - 7] . (4) وقول الله تعالى في سورة (الأعلى/ 87 مصحف/ 8 نزول) : {ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا} [الآية: 13] . *** عاشراً - مسايرة المخاطب في تداعي أفكاره: وقد يكون من عناصر الجمال الأدبيّ في الكلام مسايرة المخاطب في تداعي أفكاره، بالمقدار الذي يُحْدِثُ الارتياح ولا يُورِث الملل. إنَّ ممّا يُحْدِثُ المسرّة والارتياح في الكلام أنْ يُتَابِعَ الأنفس فيما تسترسل به من أفكار تتداعى، ويَجْلُبُ بعضها بعضاً، ويُمْسِكُ بعضها بأعناق بعض، بشرط عدم الاسترسال المملّ. إنّ الملَلَ متى بدأ يدبّ إلى النَّفس بالاسترسال مع أفكارها المتعانقة، كان قطع هذا الاسترسال والانتقال إلى عنصر المفاجأة هو الأرفع أدباً والأكثر تأثيراً، لأنّه يقدّم صورة جماليّة جديدة، بشرط أن تكون المفاجأة حُلْوَةً، لطرافتها أو غرابتها أو بُعد خطورها في الأذهان، أو غير ذلك. وكثيراً ما يكون قطع الاسترسال وترك النَّفس لتستكمل بذاتها بقيّة العناصر هو الأجمل لديها، والأحبّ لمشاعرها. والأديب ذو الحسّ المرهف يستطيع أن يُدْرِكَ متى يحسن الاسترسال مع تداعي أفكار المخاطب أو القارىء، ومتى يحسن قطع الاسترسال، ومتى يحسن الانتقال لأمر مثير بالمفاجأة الحلوة المعجبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 فمن أمثلة المسايرة الحلوة لتداعي الأفكار قول الله تعالى في سورة (فاطر/ 35 مصحف/ 43 نزول) : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ الناس والدوآب والأنعام مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ} [الآيات: 27 - 28] . إنّ الحديث عن اختلاف الألوان في الثمرات يستدعي في الأفكار تصوّر اختلاف الألوان في الجبال، لأنَّها هي التي تبرز في اللّوحة الفنيّة أوّلاً بعد النّظر إلى الثمار في أشجارها، فيخطر اللّون الأبيض منها على اختلاف درجاته، فالأحمر على اختلاف درجاته، ثمَّ الأسود، ثمّ ينتقل الذهن بالتداعي الفكري إلى الألوان في الدوابّ والأنعام. هذا هو الأمر الغالب بالنسبة إلى واقع أحوال النَّاس. ولا يخفى أنّ متابعة الأفكار في تداعيها الذاتي كثيراً ما يكون مريحاً للنُّفوس، ومُعْجباً لها، فهو إذن من عناصر الجمال الأدبي، إذا استوفى شروطه، وخلا من المنفِّرات أو المزعجات، ولم يَطُلْ حتى يُحْدِثَ الْمَلَلَ والسّأَم. ومن الأمثلة أيضاً: قول الله تعالى في سورة (الغاشية/ 88 مصحف/ 68 نزول) : {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السمآء كَيْفَ رُفِعَتْ * وإلى الجبال كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأرض كَيْفَ سُطِحَتْ} [الآيات: 17 - 20] . ففي هذه الآيات تصوير للوحة فنّية متحرِّكة، تبدو بالتتابع كما هي في النَّص، بالنسبة إلى الناظر الجالس في الصحراء، إذا مرّت بعيداً عنه قافلة من الإِبل. إنّ أوّل ما يلفت نظره لدى مشاهدة هذه اللّوحة من مشاهد الطبيعة، أنْ يتركَّز انتباهه في مشاهدة قافلة الإِبل، وتكون القافلة بالنسبة إليه هي بؤرة المشهد، لأنَّها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 هي المتحرِّك الآسر الجالب للانتباه، وتلقائيَّاً ينتقل نظره بعد ذلك إلى الأفق، من مستوى نظره إلى أسنمة الجمال إلى الأفق، حتّى إذا ملأ نظره من الأفق نزل ليرى الجبال من بعيد، ثمّ بعد ذلك ينخفض نظره ليركزّ انتباهه في مشاهدة الأرض المنسطحة. وعلى وفق هذا المشهد الذي يتكرّر لدى كثير من سكان الصحراء في خيامهم ولدى عابريها جرى تصوير الصورة الكلاميّة، وقد وافق التسلسل فيها التسلسل الذي يَحْدُثُ غالباً عند النَّاس، لدى مشاهداتهم لمثل هذه اللوحة في الصحراء. وهذا من عناصر الجمال الفنِّي لا محالة. *** حادي عشر - نقل الأسماء أو الصِّفات من مواضعها الطبيعيَّة وإضفاؤها على غيرها: * قد يكون من عناصر الجمال الأدبيّ في الكلام نقل الأسماء أو الصِّفات من مواضعها الاصطلاحيّة أو الطبيعيّة وإضفاؤها على غيرها، لوجود ما يستدعي في التخيّل هذا النقل، وإن لم يكن في الواقع كذلك. فمن ذلك نقل صفة الحالّ في الشيء وإضفاؤها على ذلك الشيء كقولنا: "جرى النهر" مع أنّ الجريان هو اللماء في النّهر، ولكنّ التخيّل ربَّما أحسّ لدى مشاهدة جريان الماء في النّهر أنّ النّهر يجري أيضاً مع الماء. ومن بديع هذا النَّقل قول الشاعر: وسَالَتْ بِأَعْنَاقِ الْمَطِيِّ الأَبَاطِحُ فقد أضْفَى صفة السيلان على الأباطح، وهي لما يمرّ فيها، بعد أنْ أضفاها على أعناق المطيّ وهي للماء، لأنّ التخيّل يلحظ صفة سيلان الماء حينما يشاهد أعناق الإِبل تتموّج وهي تسير على الأباطح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 ومن بديع هذا النَّقل أيضاً قول الله تعالى: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] ففيه إضفاء السيلان على الأودية، وهي لماء السيول فيها، لأنَّ الأودية حينما تسيل فيها السيول العارمة تُوقِعُ في خيال المُشَاهِد المندهش أنّ الأودية والجبال أنفُسَها تسيل مع حركة المياة الجارفة فيها. ومن بديع هذا النَّقل أيضاً قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ومَنْ بَطَّأ به عمله لم يُسْرعُ به نسبه". ففيه إضفاء صفة التبطيء على العمل، هي في الأصل صفة للكسل أو التقصير في العمل، ولكنّ التخيّل إذا رأى العامل المقصِّر الكسول تصوّر أنّ عمله هو الذي يطّأ به، إذ العمل هو الحركة المشهودة، أمّا الكسل أو التقصير فيهما لا يُشَاهَدَان نظراً، وإنَّما يُدْرَكَان فكراً، وفيه إضفاء صفة الإِسراع أو عدمه على النَّسب! لأنَّ النَّاس يتخيَّلون أنّ من لم ينَل السبق بعمله ربَّما ناله بنسبه، فيُعْطَى ذو النَّسب الكريم مَنْزِلَ السبق لمجرّد نسبه. ويدخل في هذا العنصر نقل صفة الحيّ وإضفاؤُها على الذي لا حياة له، ونقل صفة الذي لا حياة له وإضفاؤها على الحيِّ، لأنَّ التخيُّل يلاحظ في المنقول إليه لمحات من صفة المنقول منه، ومن هذا استنطاق الجماد الذي لا ينطق، ومخاطبته كأنَّه ناطق يتكلّم. والأمثلة على ذلك كثيرة في أبلغ الكلام، ومنها الأمثلة القرآنية التالية: (1) قول الله تعالى في سورة (ق/ 50 مصحف/ 34 نزول) : {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [الآية: 30] . (2) وقول الله تعالى في سورة (فصِّلت/ 41 مصحف/ 61 نزول) : {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [الآية: 11] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ففي هاتين الآيتين استنطاق الجماد ومخاطبته، وهذا من نقل صفة الحيّ إضفائها على الذي لا حياة له. (3) وقول الله تعالى في سورة (الكهف/ 18 مصحف/ 69 نزول) في سياق قصّة موسى والخَضِر عليهما السلام: {فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الآية: 77] . ففي هذا نقل صفة الإِرادة التي هي للحيّ المريد، وإضفاؤها على الجدار الذي لا حياة له ولا إرادة، لأنَّ صورة الجدار هذا تُحْدِثُ في تخيّل الناظر إليه أنّه كعجوز من النَّاس هَرِم، وهو يريد أن يستريح من قيامه ويسقط إلى الأرض انقضاضاً كانقضاض الطائر راكعاً أو ساجداً أو مستلقياً، فأعطاه صفة الإِرادة وصفة انقضاض الطائر. (4) وقول الله تعالى بشأن المنافقين في سورة (المنافقون/ 63 مصحف/ 104 نزول) : {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العدو فاحذرهم قَاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الآية: 4] . ففي هذا النّص نقل صفة الجامد الذي لا حياة له عن طريق التشبيه الصريح، وإضفاؤها على المنافقين الأحياء الجالسين المستندين إلى جدار مجلس الرسول بأجسامهم الْمَهِيبَة، لأنّ حالتهم النّفسية المنصرفة كلّياً عمّا يجري حولهم تُوقِعُ في التخيّل أنّهم بمثابة الخُشُب المسنّدة. * وقد يكون نقل الصفة لغرض الإِيجاز، أو الإِيجاز مع التعميم، كنقل الصفة من أهل المكان إلى المكان، ومن أهل الزمان إلى الزمان، ومن أمثلة ذلك مايلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 (1) قول الله تعالى في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) : {وهاذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى وَمَنْ حَوْلَهَا ... } [الآية: 92] . أي: لتنذر أهل هذا البلد ومن حولهم من أهل الأرض. (2) وقول الله تعالى في سورة (ق/ 50 مصحف/ 34 نزول) : {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً} [الآية: 36] . أي: وكم أهكلنا قبلهم من أقوام في قرون مضت هم أشدّ منهم بطشاً. (3) وقول الله تعالى في سورة (يوسف/ 12 مصحف/ 53 نزول) حكاية لقول إخوة يوسف لأبيهم: {وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الآية: 82] . أي: واسأل أهل القرية التي كنا فيها، وأصحاب العير التي أقبلنا فيها. * من استعراض أمثلة هذا العنصر، والصُّوَر التي يمكن أن تدخل فيه، لا بدّ أن يظهر لنا أنّ ألواناً بلاغيّة كثيرة تدخل فيه، كأنواع التشبيه، والاستعارات، والمجاز العقلي، والمجاز المُرْسل، لأنَّها قائمة على نقل الأسماء أو الصِّفات من مواضعها، وإضفائها على غيرها، استناداً إلى أنّ خيال الأديب يَسْمَحُ له بهذا النقل، إمّا للشبه بين المنقول منه والمنقول إليه، أو للتّجاور، أو للارتباط السببي، أو لغير ذلك. ولا بدّ أن نعلم بأنّه ليس كلّ نقل من هذا القبيل يقدّم صورة جماليّة تُزَيِّن الكلام، وترفع قيمته الأدبيّة، بل لا بدّ مع ذلك من أن تكون الصورة نَفْسُها برئيةً ممّا يُشَوِّه جمال النّقل، وأن يتضمّن النّقل فكرة تثير الإِعجاب والارتياح النَّفسي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وأن يكون ذا هَدَفٍ بلاغي، فالأعمال اللّفظيّة الشكلية الخالية من الأهداف البلاغيّة بمثابة رسوم ساكنة لا حياة فيها ولا حرارة. *** ثاني عشر- البراعة في إبراز وتصوير الأحاسيس والمشاعر النَّفسيّة: ومن عناصر الجمال الأدبي في الكلام البراعة في إبراز وتصوير الأحاسيس والمشاعر النَّفسيّة والأفكار. وقد تكون هذه البراعة بتقديم الفكرة من خلال نظير حسّي، أو بالمبالغة في تصويرها، أو تصوير آثارها، أو غير ذلك. أمثلة: (1) قول الله تعالى بشأن المنافقين فية سورة (المنافقون/ 63 مصحف/ 104 نزول) : {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ... } [الآية: 4] . ففي هذا إبراز بارعٌ جدّاً، وتصويرٌ بديع لحالة الذُّعر الشديد الذي يعانون منه في داخل أنفسهم، وقد دلّ على هذه الحقيقة المبالغة، لأنّ الخائف المذعور جدّاً قد يسمع صياح الْمُنْجِد له فيتصوّره صياحاً ضدّه. (2) وقول الله تعالى في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) يصف حال أناس داهمهم مطر شديد فيه ظلمات ورعد وبرق: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق حَذَرَ الموت والله مُحِيطٌ بالكافرين} [الآية: 19] . ففي المبالغة بأنهّم يجعلون أصابعهم في آذانهم إبرازٌ لصورة حالتهم النَّفسية، التي تدفعهم إلى سدّ مسامعهم بكلّ أصابعهم، فلو أنّهم استطاعوا إدخال كلّ أصابعهم في آذانهم لفعلوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 (3) وقول الله تعالى في سورة (مريم/ 19 مصحف/ 44 نزول) حكاية لقول زكريّا عليه السلام إذ نادى ربّه نداءً خفيّاً: {قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً} [الآية: 4] . ففي تصوير تسارع انتشار الشيب في رأسه حتى عمّ الرأس بحالة الاشتعال الذي يسارع انتشاره في الهشيم، براعة تدلّ على الحالة النَّفسيّة التي أخذ يعاني منها، والتي بدأت تكويه بنار اليأس التي أخذ لَهَبُهَا ينتشر شيباً في شعر رأسه. (4) وقول الله تعالى في سورة (القمر/ 54 مصحف/ 37 نزول) : {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [الآيات: 11 - 12] . ففي هذا النّص تصويرٌ بارع يُبْرِزُ مشهدَ انصباب الماء من السماء، حتى كأنّ أبواباً فيها هي بمثابة سُدودٍ فتحت فانصبّ الماء المنحصر وراءها. ويُبْرِزُ مشهدَ تفجُّر الماء من مواضع لا تحصى من الأرض، حتّى لكأنّ الناظر إلى الأرض يرى أنّها كلّها قد صارت عيوناً يتفجّر الماء منها تفجّراً، ليلتقي في بحرٍ طامٍ خِضَمِّ لا يُبْقِي ولا يذر. ومن البراعة في إبراز وتصوير الأحاسيس والمشاعر النّفسية، والأفكار، تجسيدُها في أمثلة حسيّة ماديّة، كتمثيل العلم بالنور، والجهل بالظلمات. وكتمثيل الكفر بالعمى، والإِيمان بالبصر. وكتمثيل القرآن بقلب المؤمن في هدايته بمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنّها كوكب درّي. قال الله تعالى في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول) : {الله نُورُ السماوات والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِي زُجَاجَةٍ الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ على نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ} [الآية: 35] . ففي هذه الآية ضرب الله مثلاً لنور القرآن المعنوي بمصباح أرضي من صنع النّاس، ذي نور صافٍ من أيَّةِ شائبة، وهذا النّور يتلألأ كالكوكب الدرّي، والقرآن بالنسبة إلى سائر كلام الله كقطَرة من بحر، وكذلك نور المصباح بالنَّسبة إلى سائر ما خلق الله من نور في الكون الكبير. ومن تجسيد المعاني والمشاعر والأحاسيس في أمثلة حِسّيَّة مادّيَّةٍ في الاستعارات التالية: إعصار الهوى. عبير الوجدان. بَرْد اليقين. نار الحب. رياح العاطفة الشجيّة. حلاوة الإِيمان ... إلى غير ذلك من تعبيرات. *** ثالث عشر- احترام فكر المخاطب وتقديره بترك استخدام الأسلوب المباشر: وقد يكون من عناصر الجمال الأدبي في الكلام احترامُ فكر المخاطب وتَقْدِيرُه بترك استخدام الأسلوب المباشر، اعتماداً على أنه لمّاحٌ تكفيه الإِشارة الخفيفة والخفيّة، أو بترك الإِطناب والشرح، واللّجوء إلى الإِيجاز والرمزية. ويدخل في هذا الكنايات، ورموز الأقوال، والتلميحات، والمعاريض، ونحو ذلك. ولا ريب أنّ من احترام فِكر المخاطب وتقديره الإِيجازَ له في الأشياء التي يمكن أن يفهمها بنفسه، إذا كان أهلاً لذلك، ويَحْسُنُ هذا الإِيجاز جدّاً إلى حدّ الرمز في مواقف خاصّة، منها أنّ يتطلب الموقف إعلام المخاطب وحده، مع إخفاء الأمر عن حاضري مجلسه. ومن روائع التلويح إلى المعاني بالإِشارات التي لا تفهم إلاَّ بذكاء لمّاح، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 استعمال لفظة الكفّار المرادفة للفظة الزارع في قول الله تعالى في سورة (الحديد/ 57 مصحف/ 94 نزول) : {اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرِضْوَانٌ وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور} [الآية: 20] . فقد استعملت هذه اللّفظة "الكُفّار" المرادفة في معناها هنا اللفظة "الزرّاع" بدل استعمال لفظة "الزرّاع" تلويحاً بأنّ مقابل الزرّاع في المثل هم الكفّار في الممثَّل له، فالمعجبون بزينة الحياة الدُّنيا المغرورون بها هم الكفّار، ويقابِلُهُمْ في المثل الزرّاع الذين يعجبهم النّبات إذا نزل عليه الغيث فاخضرّ وأنبت. ولمّا كانت تطلق في اللّغة لفظة "الكفّار" على "الزرّاع" لأنّهم بزرعهم يدفنون الحبّ في الأرض فيسترونه، والكفر في اللّغة هو الستر، اختيرت لفظة "الكفّار" هذه بالذّات، لتدلّ على الزرّاع في مكانها التي استعملت فيه، ولتلوِّح بأنّ مقابِلَهُمْ في الممثَّل له هم الكفّار بيوم الدين. ويزيدنا ثقّة بأنّ اختيار هذه اللّفظة هنا كان مقصوداً، لتَحْمِل هذا التلويح الذي لا يُتَنبَّه له إلاَّ بذكاء لمّاح اختيارُ كلمة "الزرّاع" في موقع آخر من القرآن، لأنّ ذلك الموقع لا حاجة فيه إلى مثل هذا التلويح، وهو ما جاء في وصف أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الإِنجيل، كما روت لنا سورة (الفتح/ 48 مصحف/ 111 نزول) إذ قال الله تعالى فيها: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ يُعْجِبُ الزراع لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} [الآية: 29] . فقد استعملت هنا لفظة "الزُّرَّاع" لأنّ مقابلها في الممثّل له ليسوا بكافرين، بخلاف "أَعْجَبَ الكفَّارَ نَبَاتُهُ". *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 رابع عشر- تقريب الصورة الغائبة بوضعها في صورة مشهودة النّظير أو مخيّلة: ومن عناصر الجمال الأدبي في الكلام تقريب الصورة الغائبة، وذلك بوضعها في صورة مشهودة النظير، أو في صورة متخيَّلة في أذهان المخاطبين. فمن تقريب الغائب بوضعه في صورة مشهودة النظير ما جاء في القرآن والسنّة من تمثيلٍ أو تسميةٍ لما في الدّار الآخرة من أحوال وأحداث ومكوَّنات. ففي الصحيح عن ابن عباس أنّ النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ مِمَّا فِي الدُّنْيَا إلاَّ الأسْمَاء". ومن تقريب الغائب بوضعه في صورة متخلية في أذهان المخاطبين، وصف طلع شجرة الزقوم بأنّه يُشْبِهُ رؤوس الشياطين، وهو ما جاء في سورة (الصافات/ 37 مصحف/ 56 نزول) بقول الله عزَّ وجلّ فيها: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين} [الآيات: 64 - 65] . طَلْعُها: أي ثمرها. ففي أخيلة النّاس صورةٌ بشعة مرعبة لرؤوس الشياطين، فجاء تقريب صورة طلع هذه الشجرة الخبيثة، بأنّه أبشع وأقبح صورة تتخيّلونها، وهي رؤوس الشياطين. *** خامس عشر- الإِتقان في إبراز دقائق الصورة: ومن عناصر الجمال الأدبي في الكلام الإِتقان في إبراز دقائق الصورة، ماديّةً كانت أو غير مادّية، وذلك لدى رسمها في الصورة الكلاميّة، مع استيفاء العناصر اللازمة لإِبراز الحقيقة بشكل جميل وواضح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 ويزيد الصورة جمالاً تركُ جوانب فيها يُتَابعها الفكر وحده، ويستكملها الخيال بنفسه، مع إيجاد المنافذ أو الإِشارات التي يُمْكِنُ الانطلاق منها إلى هذه الجوانب المتروكة، كالرمز، والإِشارة الخفيّة، وما يستتبعه الكلام باللّزوم الذهني، وغير ذلك. ونلاحظ هذا العنصر الجمالي في قول الله تعالى في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول) : {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} [النور: 39 - 40] . القيعة: كالقاع وهو ما استوى من الأرض. لُجِّيّ: أي عظيم عميق. وفي قوله تعالى عقب النّص السابق بآيتين: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بالأبصار} [النور: 43] . يُزْجي: يَسُوق برفق. رُكَاماً: أي: بعضه فوق بعض. الوَدْق: المطر. سَنَا: ضَوْء. أَلَسْنا نلاحظ في هذه الأمثلة الثلاثة إتقاناً عجيباً في إبراز دقائق الصورة، مع استيفاء العناصر اللازمة لإِبراز الحقيقة بشكل واضح وجميل، ومع ترك جوانب في الصورة يتابعها الفكر وحده، ويستكملها الخيال بنفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 فالصورة في المثال الأوّل قدّمت أعمال الكافرين على شكل سراب، يراه الظمآن السائر في الصحراء وهو بعيد عنه ماءً، فيسعى إليه ليشرب من مائه، ويُطْفِىءَ ظمأه، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، لأنَّه كان انعكاس أشعةٍ تُخيِّل للناظر إليه من بعد أنّه ماء. وكذلك حال الكافر الذي يقدِّم أعمالاً يَظُنُّ أنّها تُسعدهُ في دنياه، أوتنفعه في آخرته، وما هي في الحقيقة إلاَّ بمثابة سراب، وهو إذا وصل إلى موطن المحاسبة والجزاء على الأعمال، لم يجد أعماله شيئاً، لأنّها لم تكن ثمرة إِيمان بالله واليوم الآخر، بل وجد الله عنده هو الذي له الحكم والأمر، وبيده الحساب والجزاء، فوفّاه حسابه بعدله وحكمته، فحاسبه على كفره، فسقط بالمحاسبة على الكفر كلُّ عمل صالح كان قد عمله، لأنّه لم يكن قائماً على أساس مقبول عند الله. والصورة في المثال الثاني صوّرت الحالة النفسيَّة والفكرية والقلبية للّذين كفروا، بعد أنْ تركوا نور الهداية الربّانيّة، بحالة من هو في ظلماتِ قاعِ بحرٍ عميق، فوقه أمواج في العمق تزيد الظلمة، فوقها أمواج في السطح تضاعف الظلمة، فوقها سحاب يزيد الظلام ظلاماً، ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يقارب رؤيتها لشدّة الظلمة. ومن كان كذلك فلا بدّ أن يسلك مسالك المهالك. وكذلك حال الذين كفروا في أعمالهم، وفي تحديد الغاية من أعمالهم، وفيما يقرّرون من أسباب لذلك. إنَّهم يطلبون سعادتهم في الظلمات، فقلوبُهُمْ مظلمة بالكفر، ونُفُوسُهمْ تائهة في بحر لُجيّ من ظلمات الأهواء والشهوات، وأفكارُهُمْ تسبح في ظلمات أسباب لذّات الحياة الدنيا، وإراداتُهم تتخبّط تحت كلّ هذه الظلمات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 والصورة في المثال الثالث رسمت حركة السُّحب الخفيفة الموزّعة، وكيفية سوقها الرفيق، ثم رسمت التأليف بينها وتجميعها، حتّى تُغَطِّي ما فوقها من سماء، ثم رسمت تكديس بعضها على بعض حتى تتراكم وتكون كالجبال القائمة بين السماء والأرض. ثم انتقلت الصورة إلى رسم خروج حبّات المطر من خلال السحاب المتراكم، وتركت للخيال سائر الظواهر التي تحدث، ليتمّها بنفسه من رعد وبرق ورياح. ثم انتقلت إلى ظاهرة نزول البَرَد بدل المطر، وألمحت إلى أنّ السحاب المتراكم يكون في هذه الحالة بمثابة جبالٍ من بَرَدٍ اجتمع بعضه إلى بعض، إذْ قد جمَّدت البرودة وحدات مائيّة فيها فكانت بَرَداً. ولمّا كان المطر أقرب إلى أن يكون ظاهرة رحمة، والبَرَد أقرب إلى أن يكون ظاهرة عذاب مع احتمال خلاف ذلك في كل منهما، رتّبت الآية على كُلٍّ منهما قوله تعالى: {فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ} [النور: 43] . أي: رحمةً كان أو عذاباً. ثم رسمت الصورة لمحة من ظاهرة البرق، فقال تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بالأبصار} [النور: 43] . فكم في هذه الأمثلة من إتقان في إبراز دقائق الصورة، مع استيفاء العناصر اللاّزمة لإِبراز الحقيقة بشكل واضح وجميل، ومع ترك جوانب منها يستطيع الخيال أن يستكملها بنفسه دون عناء. * ومن ترك ما يستكمله الفكر بنفسه في الكلام، ما نلاحظه في الأمثلة القرآنية التالية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 1- قوله تعالى في سورة (الرعد/ 13 مصحف/ 96 نزول) : {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى بَل للَّهِ الأمر جَمِيعاً} [الآية: 31] . أي: لكان هذا القرآن. فقد ترك في هذه الآية جواب "لو" لأنّ المخاطب أو القارىء المتدبِّر سيستكلمه بنفسه، إذ يعلم أنّ هذا القرآن العظيم هو أعظم كتاب أُنزل، وقد اشتمل على كلّ فضائل الكتب السابقة. 2- وقول الله تعالى في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) : {لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} [الآية: 39] . أي: لو يعلمون ذلك ما كفروا. فقد ترك في الكلام جواب "لو" وبقي مكانه فارغاً، ليستكمله المخاطب أو القارىء المتدبّر بنفسه. ووصفُهم بالكفر مع تلويمهم عليه في السياق وترتيب صُوَر العقاب عليه يومىء إلى ما يملأ هذا الفراغ في الكلام بالجواب المناسب. 3- وقول الله تعالى في سورة (الرعد/ 13 مصحف/ 69 نزول) : {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ... } [الآية: 33] . أي: أفمن هو قائم على كلّ نفسٍ بما كسبت كشركائهم الذين لا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم ضرّاً، أو يجلبوا لأنفسهم نفعاً! فقد تُرك التصريح بهذا، وأبقى مكانه في النّص فارغاً لأمرين. الأوّل: ليستكمله المخاطب أو القارىء المتدبّر بنفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 الثاني: لعدم استحقاق شركائهم الذكر والمقارنة بالله الخالق الحكيم، الذي هو قائم على كلّ نفس بما كسبت. *** سادس عشر- لفت النّظر إلى معانٍ دقيقة لا يَتَنَبَّهُ لها الذهن العادي من أوّل وهلة: ومن عناصر الجمال الأدبي في الكلام لفت النَّظر إلى معانٍ دقيقة لا يتنبّه لها الذهن العاديّ من أوّل وهلة، لكنّه إذا لُفِتَ نَظَرُهُ إليها، أو انتبه لها بنفسه أُعْجِبَ بها، وربّما أحسّ أنه امتلك أمراً طريفاً لم يكن يخطر على باله. ومن أمثلة هذا قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: "ومن بطّأ به عمله لم يُسرع به نسبه". وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ". وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: "أنْصُرْ أَخَاكَ ظَالِماً أَوْ مَظْلُوماً" قيل: كيف أنصره ظالماً؟ قال: "تَحْجُزُهُ عَنِ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ". فنبّه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الأقوال على أفكار طريفة قلّما يتنبّه لها الذهن العادي، وقلّما تَخْطُر على البال، لا سيّما ماجاء في بيان نصر الظالم، فمن المثير للاستغراب دعوة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى نُصْرَةِ إخواننا الظالمين، لكن من المريح والمثير للإِعجاب تفسير ذلك بَحَجْزِهِمْ عن الظلم، وكفِّهِمْ عن ممارسته والقيام به، لئلاّ يوقعهم في المهالك. ومن الأمثلة أيضاً قول المتنبِّي: يَا مَنْ يَعِزُّ عَلَيْنَا أَنْ نُفَارِقَهُمْ ... وِجدَانُنَا كُلَّ شَيْءٍ بَعْدَهُمْ عَدَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 إنّ صدر هذا البيت يشتمل على معنى مبذول، يتداوله النّاس، وتستعمله الخاصّة والعامّة. لكن لما جاء عجز البيت: "وِجْدَانُنَا كُلَّ شَيُءٍ بَعْدُهُمْ عَدَمُ". ارتقى الكلام ارتقاءً عالياً، إذ جعل حيازته لكل شيء بعد مفارقة ممدوحه عدماً أو بمثابة العدم، وهذا معنى دقيق قلّما يخطر على البال، فَنُدْرَةُ خُطُورِه على البال لدى معظم النّاس أَغْلَى قيمته الأدبيّة. ونظير ذلك قوله في القصيدة نفسها: إِنْ كَانَ سَرّكُمُو مَا قَالَ حَاسِدُنَا ... فَمَا لِجُرْحِ إِذَا أَرْضَاكُمُو أَلَمُ فالفكرة التي تتبادر إلى كلّ الأذهان، أن يقول المحبّ لمحبوبه: إنني أصبر على ألم الجرح الذي يَسُرُّك، لأنها هي التي تعبرّ عن واقع حال معظم المحبين الصادقين في حبهم، لكن فكرة انعدام وجود الأَلَمِ كُلِّيّاً، بتأثير سرور المحبّ بما يُسَرُّ به محبوبة فكرةُ تَقِلُّ خطوراً على البال، لأَنّها نادرة الوجود في الواقع، فاكتسب النّص بذلك إضافة جماليّة أَغْلَى قيمته الأدبيّة. *** سابع عشر- تصوير الواقع بالصورة المتخيّلة منه لدى مشاهدته: ومن عناصر الجمال الأدبي في الكلام تَصْوِيرُ الواقع بالصورة المتخيَّلة منه لدى مشاهدته، ولو في بعض الأحيان، أو في بعض اللّمحات. ففي هذا التصوير عنصر المبالغة الخياليّة في الدلالة على الحقيقة. وفيه أيضاً التأثير النفسيّ على السامع أو القارىء، إذْ يُرْسَمُ له في التعبير الكلامي مِثْلُ ما أحسّ هو به، دون أنْ يُعبِّر عنه، أو دون أن يستطيع التعبير عنه، أو جاءه أمر طريف حلوٌ كان غافلاً عنه، فلمّا نُبِّهَ عليه أعجبه فتمثّل له في الخيال، ورأى أنّه كان ينبغي له أن يتخيّله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وأستطيع أن أمثّل لهذا العنصر بما يلي: (1) بقول الله تعالى في سورة (الرعد/ 13 مصحف/ 96 نزول) : { ... فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ... } [الآية: 17] . (2) وبقول الشاعر: "وَسَالَتْ بِأَعْنَاقِ الْمَطِيِّ الأَبَاطِحُ". (3) وبقول الله لنوح عليه السلام في شأن ولده الذي أَبَى أن يركب معه في السفينة، كما قصَّ تعالى علينا في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) : { ... إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ... } [الآية: 46] . فالصورة التي قد تتركّز في الخيال لدى مشاهدة إنسان ليس له عمل صالح، أنّه كتلة من عمل غير صالح، وتنعدم الذات وسائر أعمالها، ولا يبقى في التَّخيُّل إلاّ صورة العمل غير الصالح ومن كان كذلك فهو لا يستحقّ الشفقة عليه. (4) وبقول الله تعالى في سورة (الحج/ 22 مصحف/ 103 نزول) : { ... وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الآية: 5] . هامدة: أي ميّتة يابسة. رَبَت: أي نمت وانتفخت. بهيج: أي حسن يسرّ الناظرين. ففي هذا النّص أسند الاهتزاز إلى الأرض مع أنّه للنبات، لأنّ الناظر إلى الأرض المنبتة إذا مرّت عليها الرياح فهزّت نباتها، قد يتخيَّل أنّ الأرض هي التي تهتزّ، مع أنّ المهتزّ هو ما نبت فيها، ورَبَا فوقها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وكذلك "رَبَت" أي ربا النبات فيها. *** ثامن عشر- حُسْنُ تركيب الجمل وانتقاءِ المفردات ذوات الدلالات الأدقّ: ومن عناصر الجمال الأدبيّ في الكلام حُسْنُ تركيب الجمل، بتنظيم مفرداتها على وفق نَسَق متلائم لا تنافر فيه ولا تشاكس، كتنظيم حبّات عقد اللُّؤلؤ من قبل منظّم ماهر، وكتنظيم الجواهر على حلية نفيسة، من قبل صائغ بارع، مع العناية بالتزام أصول دلالات التراكيب التي نبّه عليها علماء المعاني. وكذلك انتقاء المفردات الجميلة التي تحمل أقوى وأحلى وأدقّ دلالة على المعنى المراد، مع توافر عنصر الملاءمة بينها وبين مضمون الكلام بوجه عامّ، وحال المخاطبين به. والقرآن الكريم كلّه هو النموذج الأعلى لذلك، ثم روائع أقوال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثمّ من بعد ذلك كلام كبار البلغاء والفصحاء. *** تاسع عشر- احترام المخاطب بالتأدّب معه ورعاية مشاعره: ومن عناصر الجمال الأدبيّ في الكلام احترامُ المخاطب بالتأدّب معه، ورعاية مشاعره، وذلك بالابتعاد عمّا يشمئزّ منه، وبِعَدَم مواجهته بالألفاظ الصريحة الدالّة على المستقذرات، أو المعاني التي يَجْمُلُ التستّر بها مع أنّها معلومة. والأديب ذو الحسّ المرهف يُلْقِي على المعاني التي لا يجمل التصريح بها سِتْراً كلاميًّاً، إذ يدلُّ عليها بالكنايات والإِشارات والتلميحات ومعاريض الألفاظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 ومن أمثلة ذلك مايلي: (1) قول الله تعالى في سورة (النِّساء/ 4 مصحف/ 92 نزول) : {وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} [الآية: 43] . من الغائط: أي من المكان المنخفض الذي يذهب إليه عادةً من يريد قضاء حاجة الإِنسان، والتعبير بقوله تعالى: {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط} [المائدة: 6] . فيه كناية عن قضاء الحاجة الناقضة للوضوء. أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ: فيه كناية عن الجماع وهو عمل يجب ستره وإن كان مباحاً، فَحَسُنَ في الكلام ستره بالكناية. (2) ما حُكي عن أم المؤمنين عائشة عن حالها مع الرسول في عدم النَّظر إلى العورات: "ما رأيت منه ولا رأى منِّي" تعني العورة المغلَّظة. *** عشرون- تخصيص بعض المترادفات بما فيه خَيْرٌ وبعضها بما فيه شرّ: ومن عناصر الجمال الأدبيّ في الكلام تخصيص بعض المترادفات ذات الدلالة اللّغويّة العامّة بما فيه خير ورحمة، وتخصيص بعضها الآخر بما فيه شرّ وعذاب. وهذا من الأدب القرآني الرفيع، ومنه مايلي: (1) قول الله تعالى في سورة (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً} [الآية: 85] . ففي جانب الشفاعة الحَسَنة استعملت كلمة "نصيب" وفي جانب الشفاعة السيِّئة استعملت كلمة "كِفْل" مع أنَّ الكِفْلَ والنصيب مترادفان في اللّغة، ويستعملان في الخير والشرّ، والرحمة والعذاب، ولكنّ تباين النصيبين في الحقيقة اقتضى في أدب اللّفظ التَّغَايُر في الكلمات الدّالاّت على المراد ضمن النصّ الواحد. فالتغيير هنا جاء بتغيير اللّفظ كلّها مادّة وصيغة. (2) وقول الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/ 87 نزول) : {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت ... } [الآية: 286] . فاختار النّص كلمة "كَسَبَتْ" لجانب العمل الصالح، واختار كلمة "اكْتَسَبَتْ" لجانب العمل السيِّىء، مع أنَّ كلاًّ من اللّفظين يستعمل في كلٍّ من المعنيين، ولكنْ لما اجتمع المعنيان في نصٍّ واحد مفرّقين في موضعين منه، دعا الجمال الأدبي أنْ يُوجَدَ تفريق في اللّفظين، ولو في الصيغة فقط مع اتحاد مادة الكلمة، يضاف إلى ذلك ما في كلمة (اكتَسب) من معنى التكلّف الذي يُنَاسِبُ حَمْل الوزر. وفي آيات أخرى اجتمع المعنيان، ولكن غير مفرّقين في موضعين من النّص، أو انفرد كلٌّ منهما في النّص بنفسه، فاجاء التعبير تارة بكسب في العمل الصالح والعمل السيِّىء، أو في أحدهما، وتارة بـ"اكتسب" فيهما أيضاً أو في أحدهما. والمتدبّر للقرآن عندئذٍ لا يلحظ في صيغة "اكتسبت" أكثر من زيادة معنى التكلّف، وأنّ العمل قد كان فيه عَطَاءٌ يَزِيدُ عل العطاء في العمل العادي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 (3) ومن ذلك ما جاء في القرآن من تخصيص لفظة "الريح" غالباً في التي تأتي بعذاب وهلاك. وتخصيص لفظة "الرياح" في التي تأتي بنعمة ورزق وخير. فالتفريق هنا جاء بتغيير اللّفظة بين الإفراد والجمع، ومنه قول الله تعالى في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) : {وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الآية: 57] . وقوله تعالى في سورة (الأحقاف/ 46 مصحف/ 66 نزول) : { ... بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الآية: 24] . وقد يكون للريح الواحدة أثر في التدمير والعذاب، بحسب تواترها وشدّتها، أمّا التي تأتي بُشْراً بين يدي رحمة الله، فإنَّها قد تكون أنواعاً من الرياح تحمل الخير ويدفع الله شرّ بعضها ببعض. أو نقول: اختر الله عزّ وجلّ لفظ الجمع "الرياح" للتي تأتي بنعمة ورزق وخير لأنّها هي الأعظم والأكثر في واقع الحال، إذ رحمته سبحانه سبقت غضبه، واختار لفظ المفرد "الريح" للتي تأتي بعذاب، لأنها هي الأقلّ في واقع الحال، فدلّ على الكثرة بالجمع وعلى القلة بالإِفراد. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 الفصل الثاني: الفصاحة - الفصاحة في اللّغة الفصاحة في اللَّغة: الفصاحة عند أهل اللّغة: البيان، والإِفصاح: الإِبانة. يقال لغة: فَصُحَ الرَّجُلُ فَصَاحةً فَهُو فصيحٌ، إذا كانَ في كلامِهِ قادراً على أن يُبَيِّن مُرَاده بوضوحٍ دون عَجْزٍ، ولا تَلكُّؤٍ، أو تعثُّرٍ، في نُطْقِ الألْفَاظ، أو في اختيار الكلمات الدالاَّتِ على ما يُريدُ إيضاحَهُ من المعاني للْمُتَلقّين. ويُجْمَعُ "فَصيح" على فُصحاء، وفِصاحٍ وفُصُح. والأنْثَى فصيحةٌ، وهُنَّ فَصَائح. ويقالُ: كلامٌ فصيحٌ، إذا كان المرادُ منْهُ واضحاً. ويقالُ: لسانٌ فصيحٌ، إذا كان طَلْقاً في نُطْقِ الْكَلاَمِ مُبِيناً لاَ يَتَعَثَّر. والرجلُ الفصيح هو المنطلق اللّسان في القولِ، الّذي يَعْرِفُ جَيِّدِ الكلام من رديِئه. ويقالُ: أفْصَحَ الصُّبْحُ إِذا بَدَا ضَوْؤُهُ واستبان. وأَفْصَح المتَحَدِّثُ عن مُرادِهِ إذا بيَّنَهُ ولم يُجَمْجِمْ. وكُلُّ ما وَضَحَ فقد أفْصَح، وكُلُّ وَاضحٍ هو مُفْصِحٌ. وفَصُحَ اللَّبَنُ إذا أُزِيلَتِ الرَّغْوَةُ من سطحه فبانَ وظهَرَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الفصاحة في اصطلاح علماء البلاغة: ذكر علماء البلاغة أنَّ الفصاحة تأتي وصفاً للكلمة الواحدة، ووصْفاً للكلام، ووصْفاً للمتكلّم، فيقال: كلمةٌ فصيحة، وكلامٌ فصيحٌ، ومتكلّم فصيح. *** فصاحة الكلمة أمّا الكلمة الفصيحة: فهي الكلمة العربية التي تَخْلُو من أربعة عيوب وهي: التنافر، والغرابة، ومُخَالفة القياس، وكراهة السَّمع لها. أوّلاً: شرح العيب الأوّل: وهو تنافر حروف الكلمةم. التنافر في الكلمة صفةٌ فيها تجعلها ثقيلة على اللِّسان، يصعُبُ النُّطْقُ بها. وهذا التنافُرُ مِنْهُ ما هُو شديدٌ غايةٌ في الثّقل، ومنْهُ مَا هُو دون ذلِكَ، ويُحِسُّ به الذّوق السَّليم، ومن علامات التنافر في حروف الكلمة أنْ يصعُب على معظم ألسنة الناطقين بالعربيّة النُّطقُ بها. ومن أمثلة ما هو شديد التنافر ما يلي: * كلمة "صَهْصَلِق" يقال لغة: رجُلٌ صَهْصَلِقُ الصَّوْتِ، إذا كان ذا صوتٍ شديد، ويقالُ: امرأةٌ صَهْصَلِق وصَهْصَلِيق، أي: شديدة الصّوتِ صَخَّابة. * كلمة "طَسَاسِيج" جمع "طَسُّوج" اسم للناحية، واسمٌ لمقدار من الوزن يعْدِلُ رُبْعَ دانِقٍ، فالدَّانِق أربعةُ طَسَاسِيج، وهو سُدْسُ الدّرهم. * كلمة "اطْرَغَشَّ" يقال: اطرغَشَّ الْمريضُ، إذا بَرِىءَ من مرضه، وإذا قام وتحرّك ومشى. ومن أمثلة ما هو غير شديد التنافر ما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 * كلمة "النُّقاخ" يقال لغة: ماءٌ نُقَاخٌ، إِذا كان ماءَ عذباً. * كلمة "مُسْتَشْزِرَاتَ" بمعنى منفتلات، وقد جاءت في شِعْر امرىء القيس، إذْ قال: وَفَرْع يَزِينُ الْمَتْنَ أَسْوَدَ فَاحِمٍ ... أَثِيثٍ كَقِنْوِ النَّخْلَةِ الْمُتَعَثْكِلِ غَدَائِرُهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إِلَى الْعُلاَ ... تَضِلُّ الْمَدَارِي فِي مُثَنَّى وَمُرْسَلِ الْفَرْعُ: الشَّعَرُ التَّامُّ الَّذى لا نقص فيه. الْمَتْنُ: الظَّهْرُ. الفاحِمُ: الشّدِيدُ السَّواد. الأَثِيثُ: الكثير. قِنْوُ النَّخْلة: عِذْقُها بما فيه من الرُّطب. الْمُتَعَثْكِل: الكَثِيرُ الشَّمَاريخ، وهي العيدان الحاملةُ للثّمر. غَدَائِرُهُ: أي: ذُؤاباتُه الْمَضْفُورة، مُفْردُها غديرة. مُسْتَشْزِرَات: أي: مُنْفَتِلاَتٌ، يقالُ: اسْتَشْزَرَ الحبلُ، إذا انْفتَل. تَضِلُّ الْمَدَارِي: أي: تَضِيعُ الْمَدَارِي، وهي جمعُ مِدْراة، والْمِدْراةُ ما يُعْمَلُ من حديدٍ أو خَشَبٍ على شْكلِ سِنٍّ مِنْ أسْنَانِ الْمُشْطِ، وأطول منه، يُسَرَّحُ بها الشِّعَرُ الْمُتَلَبِّدُ. والْمُثَنَّى: الْمُنْعَطِفُ بَعْضُهُ عَلى بعض. والْمُرْسَل: المتروكُ على طَبيعَتِه دُون ضَفْرٍ وَلاَ تَثْنِيَةٍ وَلاَ تَجْعِيد. * كلمة "الْعَشَنْزَر" وهي بمعنى الشَّديد الْخَلْقِ العظيم من كلّ شيء، وَيقال: ضَبُعٌ عَشَنْزَرَة، أَي: سيِّئةُ الْخُلُق. * كلمة "الابْرِغْشَاشِ" بمعنى الْبُرْءِ من الْمَرَض. * كلمة "الخَنْشَلِيل" بمعنى الْمُسِنّ من الناس والإِبل، وبمعنى الجيّد الضرب بالسيف. *** ثانياً: شرح العيب الثاني: "الغرابة" الغرابة في الكلمة كونُها غير ظاهرة المعنى ولا مألوفةِ الاستعمال عند فُصحاء العرب، وبلغائهم، في شعرهم ونثرهم، لاعند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 المولّدين ومَن بعدهم، فأكثر الكلام العربي الفصيح غريب عند غير فصحاء العرب وبلغائهم. والغرابة إمّا تكون بسبب نُدْرة استعمال الكلمة عند العرب، وإمّا أن تكون بسبب أنّ التوصّل إلى المراد منها في الكلام يحتاج إلى تخريج مُتكَلَّف بعيد. ومثَّلُوا للغريب النادر بما يلي: * كلمة "مُسْحَنْفِرَة" بمعنى "متّسِعَة". * وكلمة "بُعَاق" بمعنى "مطر". * وكلمة "جَرْدَحْل" بمعنى "الوادي". * وفُلانٌ جُحَيْشُ وَحْدِهِ، أي: عَيِيُّ الرّأْي يَسْتَبِدُّ بِهِ، وهذا ذَمٌّ. * وكلمة "مُشْمَخِرّ" إذا استعملتْ فِي النَّثْر، وهي بمعنى "العالي". ومثَّلُوا للغريب الذي يحتاج إلى تخريجٍ مُتكلَّف بعيدٍ لمعرفةِ المقصود به، بقول رؤبة بْنِ العجّاج يصِفُ الأنْفَ بكلمة "مُسَرَّج" فقال ابْنُ دُرَيد: هو من قولِهِمْ للسُّيوف سُرَيجيّة، أي: منسوبة إلى حدّادٍ يُسَمَّى سُرَيجاً، فهو يريد تشبيه الأنْفِ في دقَّتِهِ واستوائِه بالسَّيْفِ السُّرَيجيّ، وقال ابْنُ سِيدَه، صاحبُ المحكم: هو من السِّرَاج، فهو يريد تشبيهَ الأنْفِ في بريقه ولمعانه بالسِّراج. أقول: ويكثر هذا التكلُّفُ الممجوجُ عند كثير من الشعراء والكتاب المبتدئين، فلا يُعْرَفُ الْمُرادُ من مفرداتهم، إلاَّ بسؤالهم عَنْ مقاصِدهم منها. *** ثالثاً: شرح العيب الثالث: "مخالفة الكلمة للقياس" أي: سوقُ الكلمة مخالفةً للقياسِ النحويّ أو الصّرفيّ، ومن أمثلة ما هو مخالف للقياسِ في الكلمة فكُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 الحرف المضعّف في الكلمة التي يقتضي القياسُ فيها إْدغامَهُما بحرفٍ مُشَدَّدٍ، نحو: * كلمة "الأجْلَلِ" والقياسُ أَنْ يُقَالَ فيها الأجَلّ. ومنه قول أبي النّجم بن قُدامة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الأَجْلَلِ ... أَنْتَ مَلِيكُ النَّاسِ ربّاً فَاقْبّلِ وممّا هو مخالف للقياس جمع "فاعل" وصفاً لمذكر عاقل على "فَواعل: قالوا: ومنه استعمال الفرزدق نواكس جمعاً لناكسٍ وصفاً لمذكّر عاقل في قوله: وإِذَا الرّجَالُ رَأَوْا يَزِيدَ رَأَيتَهُمْ ... خُضْعَ الرِّقَابِ نَوَاكِسَ الأَبْصَارِ أقول: ما في شعر الفرزدق ليس مخالفاً للقياس، لأنه يريد أَنْ يصف الأبصار بالنواكس، أي: هي منكسرة ذليلة، لا أَنْ يصف الذكورَ العقلاء، عَلَى أن جمع ناكس على نواكس، ممّا اسْتُعْمِل شاذاً عن القياس عند العرب، كما قالُوا في فَارسٍ فوارس، وفي هالِكٍ هَوَالِكَ. وممّا هو مخالف للقياس استعمال هَمْزَةٍ القطْعِ بدلَ همزة الوصْل، واستعمال همزة الوصل بدل همزة الْقَطْعِ، ويكثُرُ مثُلُ هذَا في الشِّعْرِ لِمُرَاعَاةِ الوزن. ومنه قول جميل: ألاَ لاَ أرَى "إثْنَيْنِ" أحْسَنَ شِيمَةً ... عَلَى حَدَثَانِ الدَّهْرِ مِنِّي وَمِنْ جُمْلِ فقطع همزة "اثنين" مع أنّها همزة وصْل، وحدَثان الدهر نوائبه، وأراد بِكَلِمَةِ "جُمْلِ" فَرَسَهُ أو جَمَلَه. *** رابعاً: شرح العيب الرابع: "كون الكلمة مكروهةً في السمع" أي: كونُها ممجوجةً في الأسماع، تأنف منها الطّباع، خشنَةً وَحْشِيَّةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 ومثَّلوا لهذا العيب، بنفور السمع عن كلمة "الْجِرِشَّى" بمَعْنَى "النفس" فعابوا على أبي الطيّبِ المتنبّي استعمالَها في قَوْلِهِ يمدحُ سيف الدولة: مُبَارَكُ الاسْمِ أغَرُّ اللَّقَبْ ... كَرِيمُ الْجِرِشَّى شَرِيفُ النَّسَبْ كَرِيمُ الجِرِشَّى: أي: كريمُ النفس. أقوال مأثورة اشتملت على مفرداتٍ غير فصيحة لِعَيْبٍ ما فيها: (1) كتب بعض أُمَراء بغداد رُقْعةً طرحها في المسجد الجامع حين مَرِضتْ أُمُّهُ، جاءَ فيها: "صِينَ امْرُؤٌ وَرُعِي، دَعَا لاِمْرَأةٍ إِنْقَحْلَةٍ مُقْسَئِنَّةٍ، فَقَدْ مُنِيَتْ بِأَكْلِ الطُّرْمُوخِ، فَأَصَابَهَا مِنْ أجْلِهِ الاسْتِمْصَالُ، أَنْ يَمُنَّ اللهُ عَلَيْهَا بِالاطْرغْشَاشِ والابْرِغْشاشِ". إنْقَحْلَة: أي: مُسِنَّةٌ هَرِمَةٌ يَبِسَ جلْدُهَا وسَاءَ حَالُها. مُقْسَئِنَّة: أي: كبيرة السّنّ، ليس لها قدرة على الحركة. الطُّرْمُوخ: الْخُفَّاش. الاسْتِمْصَال: إسهالُ الطبيعة. الاطرغْشَاش والابرغْشاش: كلاهما بمعنى البرء من المرض. (2) جاء في خُطْبَةٍ لابْنِ نُبَاتة، يَذْكُرُ فيها أَهْوَالَ يَوْمِ القيامة، قولُه: "اقْمَطَرَّ وَبَالُهَا، واشْمَخَرَّ نَكَالُهَا، فَمَا سَاغَتْ وَلاَ طَابَتْ": أقْمَطَرَّ وَبَالُهَا: ِأي: اشتَدَّ وعَظُمَ ثِقَلُها. واشْمَخَرَّ نَكَالُهَا: أي: اشْتَدَّ وارتَفَعَ وعَظُمَ عِقَابُهَا. فَمَا سَاغَتْ وَلاَ طَابَتْ: أي فَمَا سَهُلَتْ ولاَ كانَتْ طيّبَة. (3) قال امرؤ القيس حين أَدْركتْهُ المنيَّةُ، وَكان قَدْ ذَهَبَ إلى مَلِكِ الرُّومِ يَسْتَنْجِدُهُ عَلَى قَتَلَةِ أَبيه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 "رُبَّ جَفْنَةٍ مُثْعَنْجِرَةٍ، وَطَعْنَةٍ مُسْحَنْفِرَةٍ، وَخُطْبَةٍ مُسْتَحْضَرَةٍ، وَقَصِيدَةٍ مُحَبَّرَةٍ، تَبْقَى غداً بِأَنْقِرَةٍ". رُبَّ جَفْنَةٍ مُثْنْجِرَةٍ: أي: رَبِّ قَصْعَةِ طَعَامٍ مَلأَى. وطَعْنَةٍ مُسْحَنْفِرَةٍ: أي: ورُبَّ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ في الْقِتَالِ واسِعَةٍ. (4) رُوي أنَّ أُمَّ الهيْثَمِ الأَعْرَابِيَّةَ قَالت لأَِبي عُبَيْدَة الرَّاوِية، حِينَ عَادَهَا فِي علَّةٍ أصابَتْها: "كُنْتُ وَحْمَى سَدِكَةً، وَشَهِدْتُ مَأْدُبَةً، فَأَكَلْتُ جُبْجُبَةً مِنْ صَفِيفِ هِلَّعَةٍ، فَاعْتَرَتْنِي زُلَّخَةٌ". فَقِيلَ لَهَا: أيَّ شَيْءِ تُقُولِينَ؟ فقالَتْ: أَوَ لِلنَّاسِ كَلاَمَانِ، والله مَا كَلَّمْتُكُمْ إِلاَّ بالْعَرَبِيِّ الْفَصيح. كُنْتُ وَحْمَى سَدِكةً: وَحِمَتِ الْحُبْلَى، إِذا اشْتَهَتْ شيئاً عَلَى حَبَلِهَا، فَهِي وَحْمَى. سَدِكَةً: أي: مُولَعَةً بِنَوْع طَعَامٍ لِوَحَمِهَا. وَشَهِدْتُ مَأْدُبَةً: المَأدُبَةُ: الطَّعَامُ الَّذِي يُصْنَعُ لِدَعْوَةِ. جُبْجُبَةً: الْجُبْجُبَةُ: الكَرِشُ يُجْعَلُ فيها اللّحم المقطَّعُ، ويُغْلَى ثُمَّ يُقَدَّدُ. من صَفِيفِ هِلَّعَة: الصّفِيفُ: رقائقُ اللَّحْم تُشْوَى. والْهِلَّعَةُ: الأنْثَى مِنْ أولاد المعز والغنم. فاعْتَرَتْنِي زُلَّخَةٌ: الزُّلْخَةُ: داءٌ يأخُذُ فِي الظَّهْرِ والجنب. *** فصاحة الكلام وأمَّا الكلامُ الفصيح: فهو عند علماء البلاغة ما كان سهْلَ اللفظ، واضح المعنى، جيّد السَّبكِ، متلائم الكلمات، فصيح المفردات، غير مُسْتكْرَهٍ ولا مَمْجوجٍ ولا مُتكَلَّف، ولا مخالفٍ لقواعد العرب في نحوها وصرفها، وغير خارج عن الوضْعِ العربي في مفرداته وتراكِيبِه، وليس في كلماته تنافر، وليس فيه تعقيدٌ لفظيٌّ، ولا تعقيدٌ معنويّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 قالوا: ولا بُدَّ لكون الكلام فصيحاً من أن يكون خالياً مِنْ أربعة عيوب، مع شرط فصاحة مفرداته، وهي: العيبُ الأول: تنافر الكلمات عند اجتماعها، ولو كانت مفرداتها فصيحة. العيبُ الثاني: ضعف التأليف. العيبُ الثالث: التعقيد اللفظي. العيبُ الرابع: التعقيد المعنويّ. أوّلاً: شرح العيب الأول: "تنافر الكلمات عند اجتماعها" وهو وصفٌ يعرض للكلام من جرّاء اجتماع كلماتٍ فيه تجعل النُّطْقَ بها ثقيلاً ممجوجاً حال اجتماعها، مع كون كلّ كلمةٍ ليّنةً سهلة النطق بها. ويُحِسُّ بهذا الثَّقَل الممجوج أصحابُ الذوق السليم في نُطْق الكلام العربي، ومن علامات التنافر في الكلام أن يَصْعُب على معظم ألسنة الناطقين العربية النُّطقُ به. الأمثلة: (1) من الأمثلة الّتي ذكروا أنّ فيها هذا العيب بشدّة، ما أورده عَمْرو بن بحر الجاحظ من شعر بشأن قَبْر حَرْب بن أميّة بن عبد شمس: وَقَبْرُ حَرْبٍ بِمَكَانٍ قَفْرُ ... وَلَيْسَ قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُ رُفع لفظ "قَفْر" مع أنه نعتٌ للفظ "مكانٍ" لضرورة الشعر، وخرّجوه على أنّه من قبيل الصفة المقطوعة عن موصوفها. وقد جاء الثقل من تكرار الراء والباء في البيت. (2) ومن الأمثلة الَّتي ذكروا أَنَّ فيها هذا العيب دون شدَّة، قولُ أبي تمّام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 كَرِيمٌ مَتَى أَمْدَحْهُ أَمْدَحْهُ والْوَرَى ... مَعِي وَإِذَا مَا لُمْتُهُ لُمْتُهُ وَحْدِي وقد جاء ثِقَلُهُ من تكرير لفظ "أَمْدَحْهُ" بما فيه من حاء وهاء. وكذلك قول أبي الطيّب المتنبّي: أَتُرَاهَا لِكَثْرةِ الْعُشَّاقِ ... تَحْسَبُ الدَّمْعَ خِلْقَةً فِي الْمَآقِي كَيْفَ تَرْثِي الَّتِي تَرَى كُلَّ جَفْنٍ ... رَاءَها غَيْرَ جَفْنِهَا غَيْرَ رَاقِي "راءَهَا" أي: رآها، قَدَّم وأخَّرَ لضرورة الشِّعر. "راقِي": اسم فاعل من رَقَأَ الدَّمْعُ إذا انْقطع. ومعنى البيت الثاني: كيف تَرْحَمُ هذِهِ الْمَعْشُوقَةُ عَاشِقَهَا وهِي تَرَى كلَّ الأَجْفَانِ باكيَةً غيْرَ جَفْنِها، فتحسبُ أَنَّ العيون تذرف الدمع بالْخِلْقَةِ لاَ من العشق، لذلك فلا تُسْتثارُ فيها الرحمةُ على العشّاق. وفي هذا البيت مع عيب الضرورة عيب تكرير الجيم والراء في كثير من كلماته، الأمر الذي أكسبَهُ بعض الثقل. (3) ومن الأمثلة التي ذكروا فيها عيبَ التنافُرِ في الكلام، أو ثِقَلَ النُّطْقِ بِهِ، أَوْ مَجَّ الذَّوْقِ له، قول عبد السَّلام بْنِ رُغْبَان المعروفِ بديكِ الجنّ: أُحْلُ وامْرُرْ وضُرَّ وانْفَعْ وَلِنْ وَاخْشَنْ وَأَبْرِرْ ثُمَّ انْتَدِبْ لِلْمَعَالِي. وعِلَّتُه تكرُّرُ أفعالِ الأَمْرِ فيهِ. وأشدّ من هذا قول أبي الطيّب المتنبّي إذْ جَمَعَ أفْعالَ أمْرٍ دون عاطفٍ بينها، من قصيدة يمدح فيها سيف الدولة: أَقِلْ أَنِلْ أَقْطِعِ أحْمِلْ عَلِّ سَلِّ أعِدْ ... زِدْ هِشَّ بِشَّ تَفَضَّلْ أَدْنِ سُرَّ صِلِ دفعه إلى هذا ولَعُه بالإِغْرابِ والإِبداع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 أَقِلْ: فعل من الإِقالَةِ. أَنِلْ: من الإِنالَة وهي العطاء. أقْطِعْ: من الإِقْطاعِ بمَنْح الأرض. احْمِلْ: من قولهم: حملتُهُ على فَرَسٍ. عَلِّ: من التَّعْلِيَةِ وَالرَّفْعِ. سَلِّ: من التَّسْلِية والترويح عن النفس. أَعِدْ: من الإِعادة، أي: في العَطاء. زِدْ: من الزّيادة في العطاء الثاني. هِشَّ: من قولهم: هَشَشْتُ إلى كذا أهِشُّ. بِشَّ: من البشاشة وهي طلاقة الوجه. تَفَضَّلَ: من الإِفْضَالِ وهو عطاء الفضل. أَدْنِ: من الإِدناء وهو التقريب. سُرَّ: أي: افعلْ ما يَسُرُّ. صِلِ: من الصِّلَةِ، وهي العطيَّة. وهذا أشبَهُ بمنْظوماتِ مُتُونِ الْعِلْم، وعلّتُه تَكَرُّرُ أفعالِ فيه دون حرف عطف بينَها، فزاده ثقلاً. (4) ومن الأمْثِلَةِ أيضاً، قول أبي الطيّب المتنبّي، في قَصِيدَة يَمْدَحُ فيها عُبَيْدَ الله بْنَ خراسان الطرابلسيّ: دَانٍ بَعيدٍ مُحِبِّ مُبْغِضٍ بَهِجٍ ... أَغَرَّ حُلْوٍ مُمِرًّ لَيِّنٍ شَرِسِ شَرِس: الشَّرسُ في اللّغة الْعَسِرُ السَّيْىءُ الْخُلُق، ويريد أنَّه عَسِرٌ غير ليّن بالنسبة إلى الأعداء في الحرب. بعض هذه الصفات يُعامل بها أولياءَه، وأضدادها يعامل بها أعداءه. وعلّته إيراد صفاتٍ متعدّدات على نَسَقٍ واحدٍ. (5) ومن الأمثلة أيضاً، قول أبي تمّام يصِفُ مَمْدُوحَهُ: كَأَنَّهُ في اجْتِمَاعِ الرُّوحِ فِيهِ لَهُ ... فِي كلِّ جارحَةٍ في جِسْمِهِ رُوحُ أي: هو يقظ دواماً بكلّ جوارحه. وعِلَّتُه تَعَاقُبُ الأَدواتِ فيه. ونظيره قول أبي الطيب المتنبّي يصفُ فرساً: وتُسْعِدُنِي فِي غَمْرَةٍ بَعْدَ غَمْرَةٍ ... سَبُوحٌ لَهَا مِنْهَا عَلَيْهَا شواهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 في غَمْرَة: أي: في شِدَّة. سَبُوح: أي: فرسٌ شدِيد الجري. لَهَا مِنْهَا عَلَيْهَا شواهِدُ: أي: لَها عَلى كرمها شَوَاهِدُ مِنْ صفاتها. على أن تعاقب الأدوات قد لا يكون ثقيلاً مستكرهاً، والحكَمُ ذوق الفصحاء. (6) ومن الأمثلة أيضاً قولُ ابْنِ بابك: حَمَامَةَ جَرْعَى حَوْمَةِ الْجَنْدَلِ اسْجَعِي ... فَأَنْتَ بِمَرْأَى مِنْ سُعَادَ ومَسْمَعِ يخَاطِبُ الشَّاعِرُ حَمَامَةَ جَرْعَى حَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، فَيَطالِبُهَا بأن تَسْجَعَ لِتَسْمَعَها مَعْشُوقَتُهُ سُعاد، والسَّجْعُ هديل الحمام. جَرْعَى: مُؤنَّثُ أَجْرَع، وهي رَمْلَةٌ لاَ تُنْبتُ. حَوْمَةِ: مُعْظم. الجندل: الحجارة. وَعِلَّتُه تَوالي الإِضافات، إذْ أضاف أولاً حمامة إلى جَرْعَى وأضاف أيضاً جَرْعَى إلى حَوْمَة التي أضافها إلى الجندل، فتوالت الإِضافات، ومن هنا كانت علّة الاستكراه، على أن توالي الإِضافات قَدْ لا يكون مستكرهاً. *** ثانياً: شرح العيب الثاني: "ضعفُ التأليف" وهو أنْ يكون تأليف الكلمات في الجمل أو إجراؤُها الإِعْرَابي على خلاف المشهور المتَّبَع من قواعد النحو، أو فيه لحْنٌ نحويٌّ أو صرفي، واللّحْنُ في اللّغة ليْسَ من فصيحها، بل هو من عامّيها، أو من نطق الدخلاء على أهلها ممن ليسوا منها، أو من نطق أطفال الأمة الذين لم يتمرّسوا بقواعد لغتهم، ومن أمثلة ما فيه ضعف التأليف: * عوْدُ الضمير علَى مُتأخِّرٍ لفظاً ورُتبةً، بينَما الأَصْلُ أن يعودَ الضميرُ علَى مُتَقَدّمٍ في اللفظ أو الرتبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 * استعمال الضمير المنفصل مع إمكان استعمال الضمير المتّصل، واستعمال الضمير المتصّل في حالِ وُجوبِ استعمال الضمير المنفصل. * نصْبُ الفعل المضارع أو جزمُهُ بدون ناصبٍ أو جازمٍ. تقديم غير الأَعْرَف في الجملة الاسميّة على الأعْرَف. * تقديم المعمول على عامله مع عدم جواز ذلك، أو مع عدم وجودٍ مقتضٍ لَهُ بلاغيّاً. * مجيء الضمير المتَّصِل بعد أداةِ الاستثناء "إلاَّ". الأمثلة: (1) قول حسّان بن ثابتٍ يرثي مُطْعِمَ بْنَ عَدِيّ أحد رُؤساء المشركينَ، وكان يُدَافع عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَوْ أَنَّ مَجْداً أَخْلَدَ الدَّهْرَ وَاحِداً ... مِنَ النَّاسِ أَبْقَى مَجْدُهُ الدَّهْرَ مُطْعِماً فأعاد الضمير في "مَجْدُهُ" على متأخّرِ لفظاً ورُتبة وهو "مُطْعِماً" على خلاف قانون التأليف المتّبع المشهور في العربيّة، وهذا من العيوب المخلّة بالفصاحة. والمعنى: ولو أنّ مجداً مهما كان عظيماً جعل من يتّصف به يخلُد طَوال الدَّهر، لكان مَجْدُ مُطْعِم بن عديّ جعله خالداً. (2) قول زياد بن حَمَل التميميّ: وَمَا أُصَاحِبُ مِنْ قَوْمٍ فَأَذكُرَهُمْ ... إِلاَّ يَزِيدُهُمُو حُبَّاً إِليَّ هُمُ أي: وما أصاحبُ من قومٍ بعْدَ قومي فأذكُر لهم قومي، إلاَّ بالَغُوا في الثناء عليهم حتّى يَزِيدُوهُمْ حُبّاً إِلَيَّ. فلم يأتِ بالضمير المتّصل الذي هو "واو" الجماعة في: "يَزِيدُونَهُمْ" بل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 فصله، وجاء به ضميراً منفصلاً في آخرِ البيت، لضرورة الشعر، وهو لفظ "هُمُ" وهذا من العيوب المخلّة بالفصاحة. (3) قول الفرزدق: بِالْبَاعِثِ الْوَارِثِ الأَمْواتِ قَدْ ضَمِنَتْ ... إِيَّاهُمُ الأَرْضُ في دَهْرِ الدَّهَاريرِ فجاء بالضمير المنفصل "إيّاهُمْ" مع إمكان مجيء الضمير المتصل، لضرورة الشعر، وهذا من العيوب المخلّة بالفصاحة. والمعنى: أحلف بالله الباعث الوارث الأموات قد ضَمِنَتْهم، أي: احتوتْهُمُ الأرض في دهْرِ الدّهارير. في دَهْرِ الدَّهَارير: أي: سالف الأزمان، كلمة "الدهارير" تأتي بمعنى أوّل الدهر في الزمان الماضي "لا واحد لها من لفظها" (4) قول أبي الطيّب المتنبي، يمدحُ بدر بن عمّار: خَلَتِ الْبِلاَدُ مِنَ الْغَزَالَةِ لَيْلَها ... فَأَعَاضَهَاكَ اللهُ كَيْ لاَ تحْزَنَا الغزالة: الشمس. يقول المتنبّي لممدوحه: خَلَت البلاد من الشمس في وقْتِ لَيْلِها، فجَعَلَكَ اللهُ لهَا عِوَضاً عن الشَّمس، لكيلا تحزن البلاد على فراق ضوءِ الشمس. قال النحاة: إذا اجتمع ضمير المخاطب والغائب فالواجبُ تقديم ضمير المخاطب على ضمير الغائب، وهذا ما نصّ عليه سيبويه. وكان على المتنبيّ أن يقول: فأعاضَكَها" بدل "أعَاضَهَاكَ" ولكن ضرورة الشعر ألجأته إلى ما قال. بيد أنَّ العبّاس محمّد بن يزيد المبرَّد يجيز ما فعل المتنبّي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 (5) قول الشاعر: انْظُرَا قَبْلَ تَلُومَانِي إِلَى ... طَلَلٍ بَيْنَ النَّقَا والْمُنْحَنَى فحَذَفَ "أن" النّاصبة لفعل "تَلُومَاني" وأبْقَى النّصْبَ في الفعل، إذْ حذف النون. الطَّلَل: مابقيَ من آثار الدّيار. النَّقَا - والْمُنْحَنَى: اسْمانِ لِمَوْضِعَيْن. (6) قول الشاعر: وَمَا نُبَالِي إِذَا مَا كُنتِ جارَتَنا ... أَلاَّ يُجَاوِرَنَا إلاَّكِ دَبَّارُ فجاء بالضمير المتّصل بعد "إلاَّ" والأصل أن يقول: إلاَّ إِيّاك، ولكن خالف القاعدة لضرورة الشّعر. *** ثالثاً: شرح العيب الثالث: "التعقيد اللفظي" ويكون بجعل الكلمات في جملة الكلام مرتَّبةً على غير الترتيب الذي يقتضيه نظام الكلام وتأليفُه في اللّسان العربيّ. كتقديم الصفة على الموصوف، والصلة على الموصول، وكالتشتيت في الروابط بين عناصر الجملة الواحدة، أو بين عناصر الْجُمَل في الكلام الواحد. وهذا العيب أشدّ نكارةً وبعداً عن فصيح الكلام من عيب "ضَعْفِ التَّأْليف" ولا يُغْني عن ذكره وبيانه ذكْرُ عيْبِ "ضَعْفِ التَّأْليف" وَإِنْ كان الصنفان يلتقيان في كون كُلٍّ منهما يخالِفُ نظام الكلام في اللّسان العربيّ، لأنّ ضعْف التأليف قلّما يؤدي إلى ما يُسِيءُ في الدلالة، بل هو مُجرَّد خروجٍ عن المشهور من فصِيحِ كلامِ العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 أمّا التعقيد اللفظيُّ ففي الغالب يؤدّي إلى الإِلْغازِ، أو الغموض، أو التشويش، أو الدلالة على معانٍ غَيْرِ مرادةٍ. والكلام الْمُعَيبُ بعَيْبِ "التعقيد اللّفظي" مرفوضٌ غَيْرُ مقبولٍ عند أهل البيان، لأنّه يُفْضِي إلى اختلال المعنى المراد واضطرابه، وذلك مُبَاينٌ للفصاحة الّتي تقومُ على الإِبانةِ وتوضيح المعاني المرادة. قال العتّابي: "الألفاظُ أَجْسَادٌ، والْمَعَانِي أرواح، وإِنّما نَراها بَعَيْنِ القُلُوب، فَإِذا قَدَّمْتَ مِنْهَا مُؤَخَّراً، أَوْ أَخَّرْتَ مِنْهَا مُقَدَّماً، أَفْسَدْتَ الصُّورَةَ، وغَيَّرْتَ الْمَعْنَى، كَمَا لَوْ حُوِّلَ رَأْسٌ إلى مَوْضِعِ يَدٍ، أَوْ يَدٌ إلَى مَوْضِعِ رِجْلٍ، فإنَّ الْخِلْقَةَ تَتَحَوَّلُ، والْحِلْيَةَ تَتَغَيَّر". قالوا: والفرزدق أكثر من استعمل التعقيد اللفظيّ في شعره، وكأنَّه كان يَقْصِدُ إلى ذَلِكَ، لأنّه لا يجري على لسانِ عربي إلاَّ متكلَّفاً مَصْنُوعاً، والفرزدقُ عربيٌّ أصيلٌ لا يشكو من عجمة حتّى تؤثّر عليه. الأمثلة: (1) من أمثلة التعقيد اللّفظيّ قول الفرزدق، يمدحُ إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي خالَ هشام بن عبد الملك: وَمَا مِثْلُهُ في النَّاسِ إلاَّ مُمَلَّكاً ... أَبُو أُمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِبُهُ أي: وما مِثْلُ إبراهِيم في النَّاسِ حيٌّ يشبهه في فضائله غير مَلِكٍ أَبُو أُمِّهِ أبوه. أصْلُ ترتيب الكلام: وما مثله في الناس حيٌّ يقاربُه إلاَّ مملَّكاً أَبُو أُمِّهِ أَبُوه، فقَدَّمَ وأَخَّرَ في الكلمات، فألْغَزَ إلْغازاً سَيِّئاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 (2) وقولُ الْفَرَزْدَق أيضاً يمْدَحُ الوليد بن عبد الملك: إِلَى مَلِكٍ مَا أُمُّهُ مِنْ مُحَارِبٍ ... أَبُوهُ وَلاَ كَانَتْ كُلَيْبٌ تُصَاهِرُهُ يريد: إلى مَلِكٍ أَبُوه ليستْ أُمُّه مِنْ مُحَارِبٍ، فقدّم وأخَّرَ فأبْهَمَ المعنى وألْغزَ وأفْسَد. (3) ومن أقبح أمثلة هذا التعقيد اللفظي، قول أحدهم يصِفُ دياراً درَسَتْ وعفَتْ آثارُها: فَأَصْبَحَتْ بَعْدَ خَطّ بَهْجَتِهَا ... كَأَنَّ قَفَراً رُسُومَهَا قَلَماً أي: فأصبَحَتْ بعد بَهْجَتِهَا قَفْراً، كأنَّ قَلَماً خطَّ رُسُومَها. ويبدو أنّ هذا البيت مصنوعٌ لإِبراز قباحة التعقيد اللفظي، إذْ ليس من المعقول أن يقوله ناطق عربي له فكرٌ ما. *** رابعاً: شرح العيب الرابع: "التعقيد المعنوي" ويكون باستخدام لوازم فكرية بعيدة، أو خفيّةِ العلاقة، أو استخدام كنايات من الْعَسيرِ ِإدراكُ المراد منه، لعدم اقترانها بما يشير إلى دَلالاتها المرادة، فَيَنْجُم عَنْهُ خفاءُ دلالة الكلام، وصعوبَةُ التوصُّلِ إلى معرفةِ المراد منه من قِبَلِ أهل الفكر والاستنباط، أو منْ قبَل المخاطبين به إذا كان المخاطبون به دون مستَوى أهْلِ الفكر والاستنباط. الأمثلة: (1) ذكروا من الأمثلة على التعقيد المعنويّ قولَ العبّاسِ بن الأحنف: سَأَطْلُبُ بُعْدَ الدَّارِ عَنْكُمْ لِتَقْرُبُوا ... وَتَسْكُبُ عَيْنَايَ الدُّمُوعَ لِتَجْمُدا أي: سأطْلُبُ بُعْدَ الدّار عنكم وأتحمَّلُ آلاَمَ الفراق وأصْبِرُ عليه، لأنّ عاقبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 الأَلم والصبر الفرجُ، وحين يأتي الفرجُ يكون قُرْبٌ دائم، ووصلٌ مستمرٌّ مصحوبٌ بسرور لا ينقطع، وقد أبعد في هذِه الكناية لكثرة لوازمها الذهنيّة التي لا تُدْرَكُ إلاَّ بإجْهادٍ ذهْنِيّ، على أنّ هذا المعنى حَسنٌ طرقَهُ الشعراء والأدباء وأهل الفكر، منه ما أجاب به الربيع بن خيثم، وقد صلَّى ليلةً حَتّى أصْبَح، إذْ قيل له، أتْعَبْتَ نفْسَكَ. فقال: راحَتَهَا أطْلُبُ. أي: أطلبُ راحَتَها الدائمة يوم الدين بإتْعَابِها في العبادة في الدنيا. ونظيره في المعنى، قول أبي تَمّام: أآلِفَةَ النّحِيبِ كَمِ افْتِرَاقٍ ... أَلَمَّ فَكَانَ داعِيَةَ اجْتِمَاعِ وقولُ عُرْوَة بن الورد: تَقُولُ سُلَيْمَى: لَوْ أَقَمْتَ بِأَرْضِنَا ... وَلَم تَدْرِ أَنِّي لِلْمُقَامِ أُطَوِّفِ لكنّ العبّاس بن أحنف عبّر بعد ذلك بجمُود الْعَيْن كنايةً عن حالَةِ السُّرُور التي سَيَنالُها حينما يأتي الْفَرجُ بالوصْل بَعْد كثرة البكاء، في حين أنّ جُمَودَ العين يُعبَّرُ بِهِ كنايةً عن شُحِّهَا بالدُّموع عنْدَ حَاجةِ النفس إلى البكاء، ليكون في البكاء تخفيفٌ مِنْ آلاَم النفس بالفراق، أو مِنْ الحزن والكَمَد والتَّعَبِ والنّصب، فالشُّحُّ بالدمع يزيد في آلام النَّفس، ولَيْس من العلامات الدّالاّت على سرورهَا حتَّى يُكنَّى به عنه، ومن هُنا رَأَوْا أنّ في كلامِهِ تعقيداً معنويّاً. (2) ويُمْكن أن نُمثِّل للتعقيد المعنويّ بأن نقول: فَتَح السلطانُ أَبْوابَ السُّجُون. ونحن نقصد بهذه العبارة أنّه نَشَر جُنْدهُ لملاحقة خصومه حتى يُودِعهم في السجون، مع أنّ المتبادر المتعارف في مثل هذه العبارة، أن تُقالَ لتكونَ كنايةً عن أنّه أخرج المساجين منها بإصدار عفوٍ عامٍّ عنهم، فاعتبارُهَا كنايةً عن المعنى المضادّ لهذا المعنى تعقيدٌ معنوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وقِسْ على هذا. *** فصاحة المتكلم المتكلّم الفصيح هو من كان كلامه فصيحاً، وكان ذا ملكةٍ يقتدر بها على التعبير عن مقصوده بكلام فصيح، دون تَلَعْثُم، ولا تلكُّؤٍ، فما شاء من معنى استطاع التعبير عنه بيُسْرٍ وسُهولةٍ، وبكلام فصيح المفردات، وفصيح الْجُمَل والتّراكيب. ومع الهبة الفطريّة لا يكون المتكلم فصيحاً في اللّسانِ العربيّ، حتّى يكون مُلمّاً باللّغة العربيّة، عالماً بقواعد نحوها وصرفها، واسع الاطلاع على مفرداتها ومعانيها الدقيقة، كثير النظر في كتب الأدب، مطّلعاً على أقوال كبار الفصحاء، له درايةٌ بأساليب العرب في شعورهم ونثرهم وأمثالهم وكناياتهم ومجازاتهم، حافظاً لطائفةٍ جَمَّةٍ من عيون كلام فصائحهم وبلغائهم من أهل النثر وأهل الشعر، وأن يمارس موهِبَتَهُ بالتطبيقات العمليّة، حتَّى يكتسب مهارة التعبير عن مقاصده وما يجول في نفسه من معانٍ بكلامٍ فصيح. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 الفصل الثالث: البلاغة - البلاغة في اللّغة البلاغة في اللّغة: البلاغة عند أهل اللّغة هي حُسْنُ الكلام مع فصاحته وأدائه لغاية المعنى المراد. والرجل البليغ هو من كان فصيحاً حسَنَ الكلام يَبْلُغُ بعبارة لسانه غايةَ المعاني الّتي في نفسه، ممّا يُرِيد التعبير عنه وتوصيلَهُ لمن يُرِيد إبلاغه ما في نفسه. وأصل مادّة الكلمة في اللّغة تدور حول وُصُولِ الشيء إلى غايته ونهايته، أو إيصال الشيء إلى غايته ونهايته. تقول لغةً: بلغَ الشّيءُ يَبْلُغُ بُلوغاً وبلاغاً، إذا وصل وانتهى إلى غايته. وتقول: أبلغْتُ الشيءَ إبلاغاً وبَلاَغاً، وبلَّغتُهُ تَبْليغاً، إذا أوصلته إلى غايته ونهايته. وبَلَغَ الْغُلاَمُ وبَلغت الجارية، إذا وصَلا إلى انتهاء مرحلة ما دون التكليف، ودخلا في مرحلة التكليف، ويكون ذلك باحتلام الغلام وحيض الجارية، ويُقَال: ذكَرٌ بالغ، وأنثى بالغٌ وبالغة. والأمر البالغ، هو الأمر الذي وصل إلى غايته فكان نافذاً. والبلاغَةُ تكون وصفاً للكلام، ووصفاً للمتكلّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 بلاغة الكلام في الاصطلاح: هي مطابقة الكلام لمقتضى حَال من يُخَاطبُ به مع فصاحة مفرداته وجُمَله. فيشترط في الكلام البليغ شرطان: الشرط الأول: أن يكون فصيح المفردات والجمل. الشرط الثاني: أن يكون مطابقاً لمقتضى حال من يُخَاطبُ به. ولمّا كانت أحوال المخاطبين مختلفة، وكانت كلُّ حالةٍ منها تحتاج طريقةً من الكلام تلائمها، كانت البلاغة في الكلام تستدعي انتقاء الطّريقة الأكثر ملاءمة لحالة المخاطب به، لبلُوغ الكلام من نفسه مبلغ التأثير الأمْثل المرجوّ. الأحوال التي تستدعي اختلافاً في طرائق الكلام وأساليبه: أمّا الأحوال التي تستدعي اختلافاً في طرائق الكلام وأساليبه، فتكادُ لا تُحْصرُ. * فمنها ما يستدعي من الكلام إيجازاً. * ومنها ما يستدعي من الكلام بَسْطاً متوسّطاً. * ومنها ما يستدعي من الكلام بَسْطاً مطوْلاً. * ومنها ما يستدعي خطاباً بصورة مباشرة. * ومنها ما يستدعي خطاباً بصورة غير مباشرة. * ومنها ما يستدعي تنكيراً، أو يستدعي تعريفاً. * ومنها ما يستدعي إطلاقاً، أو يستدعي تقييداً. * ومنها ما يستدعي ذِكراً، أو يستدعي حذفاً. * ومنها ما يستدعي وصلاً بحرف العطف، أو يستدعي فصلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 * وخطاب الذكيّ يُخَالف خطاب الغبيّ. * وحال الوعظ يستدعي خطاباً غير حال البيان العلمي. * وحال الدعاء والتماس مطلوب، يستدعي خطاباً غير حال التكليف من ذي سلطان. * وخطاب أهل العلم والمعرفة يخالف خطاب الذين لا علم لديهم. * وخطاب الملوك والأمراء والرُّؤساء يخالف خطاب العامّة. * وخطاب أهل الحضر يُخَالف خطاب أهل البداوة وأهل المدَر. * ولكل أهل صنعة خطابٌ يُلائم صناعتهم. * والصغارُ وأحْداثُ الأسنان لَهُم ألوان من الخطاب تلائم حداثتهم، وصِغَر أَعْمَارِهم. * إلى غير ذلك من أصناف المخاطبين، وأحوالهم النفسيّة والاجتماعية، وأحوال المتكلّم وظروف الكلام. واختيار الأسلوب من الكلام الملائم للمخاطب، أو الأكثر ملاءمة له يحتاج فطنةً عاليةً، وذكاءً حادّاً، وخيرات كثيرات بخطاب الناس. ويُلْحَقُ بمطابقة الكلام لمقتضى حال المخاطب وجوهٌ أُخَرُ كثيرةٌ تورثُ الكلامَ حُسْناً. وَكُلَّما كان الكلام مع فصاحة مفرداته وجمله أكثر مطابقة لحال المخاطب وتأثيراً في نفسه، كانَ أعلَى حُسْناً، وأرفَعَ منزلةً في مراتب البلاغة ودرجاتِها. وتتنازلُ الدرجات وتنحطُّ بمقدار بُعْدِ الكلام عن مطابقة مقتضى حال المخاطب وضَعْفِ تأثيره في نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وللكلام البليغ حدٌّ أعْلَى رفيعٌ، وهو حدُّ الإِعجاز، وما يَقْربُ منه. ولَهُ حدٌّ أسْفَلُ مُنْحطٌّ إذ نزلَ عنْهُ درجَةً واحدةً الْتحقَ عند البلغاء بأصواتِ الحيوانات. وبين الحدّ الأعلى والحدّ الأسفل مراتب ودرجاتٌ كثيراتٌ يتعذَّرُ على الناس إحصاؤها. بلاغة المتكلّم في الاصطلاح: هي ملكَةٌ "أي: صفةٌ ثابتةٌ مستقرّة في ذاتِ المتكلّم" يستطيع بها تأليف كلامٍ بليغ. ولمّا كان كلُّ كلام بليغٍ لا بدّ أن يكون فصيح المفردات والْجُمَل كان كلُّ كلامٍ بليغٍ كلاماً فصيحاً، وَكان كلُّ متكلِّمٍ بليغٍ متكلّماً فصيحاً. لكن قد يكون الكلام فصيحاً وَلا يكون بليغاً، لأنّ الفصاحة أعمُّ، والبلاغةَ أخصُّ دائماً، فكلُّ بليغٍ فصيحٌ، كلاماً أَوْ متكلّماً، وليْسَ كلُّ فصيحٍ بليغاً، فالكلام الفصيح لا يكون كلاماً بليغاً حتَّى يكون مطابقاً لمقتضى حالِ المخاطب به. عناصر البلاغة في الاصطلاح: ممّا سبق يتبيّن لنا أنّ البلاغة ترجع في أصولها العامة إلى تحقّق العناصر السّتَّةِ التالية: العنصر الأول: الالتزام بما ثبت في متن اللّغة وقواعد النحو والصرف، واختيار الفصيح من المفردات والْجُمَل والقواعدِ. العنصر الثاني: الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد. العنصر الثالث: الاحتراز عن التعقيد في أداء المعاني المرادة، سواء من جهة اللّفظ أو من جهة المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 العنصر الرابع: انتقاء الكلمات والعبارات الجميلة، الّتي يُدْرِكُ جمالَها الحسُّ المرهف، والذّوْقُ الرفيع لدى البلغاء. العنصر الخامس: تصيُّد المعاني الجميلة، وتقديمها في قوالب لفظيّةٍ ذاتِ جمالٍ. العنصر السادس: تزيين الكلام بالمحسِّنَات التي تَسْتَثِيرُ إعجاب المخاطَبِين. والمحسّنَاتُ التي تُزَيّنُ الكلامَ وتَزِيدُه جمالاً لا تُحْصَرُ، وباستطاعة الموهوبين أن يبتكروا فيها دواماً أشياء جديدةً لم يتوصَّلْ إليها البلغاء السّابقون من الناس. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 "علم المعاني" الباب الأول: مدخل إلى علم المعاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 الفصل الأول: مقدّمات حول الكلمة والجملة (1) مقدمة * النحويّ يبحث في الكلام العربي من جهة إعراب مفرداته وجُمْله، وما يجب في تراكيب الجمل البسيطة والْمُرَكّبَةِ كجُمَلِ الشرط، وما يجوز فيها من تقديم أو تأخير، وما يجوز في الكلام من ذكر أو حذف أو نيابة، مع تحديد أصول المعاني التي تدلُّ عليها صِيَغُ الأسماء والأفعال ومشتقّاتها، ومتعلقات الفعل، وأصول المعاني التي تدلُّ عليها حروفُ المعاني. * والصَّرْفيّ يبحث في الكلمة العربيّة من جهة بنائها وضوابطه في اللّسان العربي، وفي المعاني الأصول التي وُضعت صِيغُ الكلمات للدَّلالة عليها. * ويشارِكُ النّحويُّ الصرفيَّ في بعض ما هو مختصٌّ به، وقد يشارك الصّرْفيُّ النحويّ في بعض مسائله الخاصة به. * أمّا عالم البلاغة فيوجّه اهتمامَه حَوْلَ الكلمة والجملة العربية للمعاني التي تدلُّ عليها صِيَغُ الكلمات، وأُصُول التراكيب وفروعها، وللمعاني الّتي يَدُلُّ عليها التقديم والتأخير في مواضع الكلماتِ عمّا هو الأصْلُ في التراكيب، وللمعاني التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 يَدُلُّ عليها الذّكْرُ والحذف، والاقتصارُ، وَوَضْعُ نوع من الكلام بدَلَ نوعٍ آخر، كظاهر بدل مضمر، ومُضمَرٍ بدَلَ ظاهر، واسْمِ موصول بدل اسم جنس، أو اسْمٍ عَلَمٍ، وغير ذلك ممّا فيه دلاَلَةٌ على معنىً يمكن بحسب الاستعمال العربيّ أنْ يُدَلَّ به عليه، ممّا قَصَد به بُلَغاءُ أهل اللّسان الدلالةَ به عليه. وقد وجّه علماء البلاغة اهتمامهم لهذه الأمور ضِمْن أمور أخرى احتفلوا بها، بغية التنبيه على معالم المنهج الأمثل للناطق العربي، كَيْما يُحْسِنَ تدبُّر النصوص الرفيعة، وفَهْمَ صُوَرِ الآداب الراقية ونقْدَها، وكيْمَا يتدرّبَ المؤهَّلُ للارتقاء في إنْشاء وارتجال الكلام الفصيح البليغ الراقي بعناصره الأدبيَّة، حتى يكون أديباً فصيحاً بليغاً منضبطاً مع أساليب اللّسان العربيّ، في الذكر والحذف، والتقديم والتأخير، والإِظهار والإِضمار، واختيار نوع دون غيره من أنواع الكلام، وانتقاء المفردات بعناية، وتجويد التراكيب وتَحْسِينها، وتصفيف الكلمات والْجُمَل بدقة، لتَبْلُغَ الْمَبْلَغ المطلوبَ من التأثير في الّذين يَتَلَقَّوْنَ كلامه، معَ دلالته على ما يريد من معانٍ بحسَب قواعد دلالاتها الصريحة أو الضمنيّة أو اللُّزومية، حتَّى مُسْتَوى الإِشارَةِ والرّمْزِيّة. ومن هذا نشأ عند البلاغيين ما يسمَّى بعلم المعاني. *** (2) تعريف علم المعاني هو علْمٌ يعرف به أحوال الكلام العربيّ التي تهدي العالمَ بها إلى اختيار ما يُطَابقُ منها مقتضى أحوال المخاطبين، رجاء أن يكون ما يُنْشِىءُ من كلامٍ أدبيٍّ بَلِيغاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ويدور هذا العلم حول تحليل الجملة المفيدة إلى عناصرها، والبحث في أحوال كلّ عنصر منها في اللّسان العربيّ، ومواقع ذكره وحذفه، وتقديمه وتأخيره، ومواقع التعريف والتنكير، والإِطلاق والتَّقْيِيد، والتأكيد وعدمه، ومواقع الْقَصرِ وعَدَمه، وحَوْلَ اقتران الجمل المفيدة ببعضها، بعطف أو بغير عطف، ومواقع كلٍّ منهما ومقتضياته، وحول كون الجملة مساوية في ألفاظها لمعناها، أو أقلَّ منه، أو زائداً عليه، ونحو ذلك. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 الفصل الثاني: بناء الجملة في اللّسان العربي وتقسيمها (1) تعريف الجملة الجملة المفيدة كلامٌ تامٌّ يَدُلُّ على معنىً أقلُّه نسبةُ شيءٍ إلى شَيْءٍ إثباتاً أو نفياً، أو إنْشاءُ ربْطٍ بينَ شيءٍ وشيءٍ آخَرَ يكفي لإِنشائِهِ الْقَوْلُ، مثل أمْر التكوين، أو الأمْرِ بفعلٍ ما. والجملة المفيدة تسمَّى عند علماء المنطق "قضيّة" وأقلُّ مَا تتألف منه الجملة عنصر أن يُعَبَّرُ عَنْهُما باللفظ، وهما: (1) مُسْنَدٌ إليه، ويُسَمَّى محكوماً عليه، ويُسمّى عند علماء المنطق موضوعاً. (2) ومُسْنَدٌ، ويُسمَّى محكوماً به، ويُسمَّى عند علماء المنطق محمولاً. ويلاحظ بين المسند إليه والْمُسْنَدِ شيءٌ ثالثٌ هو الإِسنادُ، وهو الرابط المعنويُّ بينهما، وقد يُوجد في اللفظ ما يدلُّ علَيْهِ، كحركة الإِعراب، وكضمير الفصل بين المبتدأ والخبر. (3) ويُلْحَقُ بالجملة المفيدة توابعُ المسند إليه والْمُسْندِ إنْ وُجدَتْ، فمنها المفاعيل، والأدواتُ، ما يَدُلُّ عَلى القيود لأرْكان الجملة، كالصفات والأحوال والقيودِ الزمانيّة والمكانيّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 ولا تتم جملةٌ مفيدةٌ بأقَلَّ من مُسْنَدٍ، ومُسْنَدٍ إليه، وإسنادٍ يُلاحظُ ذهْنية بينهما. *** (2) تحليل بناء الجملة على اختلاف وجوهها الجملَةُ الكلاميَّةُ بناءٌ من كلمتين فأكثر من أصول الكلمات الثلاث: "الاسم والفعل والحرف ذي المعنى". ودلالة الكلمة في بناء الجملة تكون بواحد من الأمور التالية: الأول: الوضع اللُّغوي الأوّل، أو الوضع الاصطلاحيّ كمصطلحات العلوم. الثاني: ما تَطَوَّر إليه الوضع باستعمال أهل اللّغة، أو في العرف العام. الثالث: ما يجري في الكلمات من استعارات ومجازات جرى بها أو بنظائرها لسانُ أهل اللّغة. الرابع: ما تَحْمِلُهُ الكلماتُ من دلالات لزوميّة ذهنية، تُدْركُ بالذهن من معانيها، كالأمر بالعلم الذي يستلزم ذهناً اتّخاذ وسائله. الخامس: ما في الكلام المذكور من إشارات تدلُّ على محذوفٍ يقتضيه الكلام، كحرف عطف ليس من الكلام المذكور ما يُعْطَفُ به علَيْه. السادس: نيابة مذكور عن محذوف، بدلالة قرينةٍ ذهنيَّةٍ أو لفظيّة، كنائب الفاعل مع قرينةِ بناء الفعل على الصيغة الخاصّة بما لم يُذْكَرْ فاعِلُه. السابع: اقتران كلمة بكلمة مع حركة إعرابِ ظاهرة أو مقَدَّرة، كحال المبنيّات من الأسماء، أو دون حركة إعراب كحال الحروف التي لا محلَّ لها من الإِعراب، عاملةً بغيرها أو غير عاملة. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 (3) أصول المعاني التي يُدَلُّ عليها بالألفاظ في الجملة الكلامية بعد ملاحظة إرادة التعبير في الجملة الكلاميّة عن ربط شيءٍ بشيء لعلاقةٍ ما قامت بينهما، كالأكل والآكل، والنوم والنائم، والجمالِ والجميل، والْقِدَم والْقَدِيمِ والحدوثِ والحادث، والوجود والموجود، والعدم والمعدوم، وأيّةٍ صفةٍ والموصوف بها، وأيِّ حدثٍ ومَنْ فعله أو قام به، وزمانِ الحدث، وكانهِ، وآلته، وسببه، والباعث إليه، والغاية منه، وحُدود كلّ شيءٍ يُشار إليه بالعبارة الكلاميّة من كلّ ذلك، وقيودِهِ الوصفية الثابتة والمتحوّله، تظهر لنا مِنْ أصول المعاني التي يرادُ الدّلالة عليها بالألفاظُ طائفة يَسْهُلُ تمييزها وإحصاؤها، وتَبْقَى طائفةٌ أخرى يصْعُبُ وضْعُها في مواضِعِها من الشجرة الفكريَّة لأصول المعاني. وأكتفي هُنَا بتوجيه نظرات تحليليّة لبعض أصول هذه المعاني، وتفرُّعها من شَجَرَتِها الفكريّة. وأرى أنّها تبدأ من تلاقي زَوْجين: الشيء الّذي يُتَصَوّرُ أنَّهُ يقوم بنفسه، وهو ما يطلق عليه في اصطلاح الفلاسفة "الجوهر" والوصف الذي يُتَصَوَّرُ أنّه لاَ يقوم بنفسه، وهو ما يُطْلق عليه في اصطلاح الفلاسفة "الْعَرَض". وتدعو الحاجة في الكلام إلى أن يُعَبَّر به عن الشيء والوصف الذي قام به، أو عن الوصف والموصوف به، وهنا تظهر لنا أدنى النِّسبِ التي يُعَبَّر عنها بالكلام، فذكر شيء ما يستدعي ذكر الصفة الّتِي دعت إلى ذكره، وذكر وصفٍ ما يستدعي ذكر الموصوف به. فظهر لنا بهذا عنصران أساسان هما من أصول المعاني التي يُعَبَّر عنها بالكلام. * الشيء. "= الجوهر" وهو يشمل الفاعل والمفعول به من حيث المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 * ووصفه. "= العرض". ويتمّ ربط العلاقة بينهما بإسناد أحدهما إلى الآخر في الجملة الكلامية، وهذه هي أدنى النِّسَبِ الّتي يُعَبَّرُ عنْها بالكلام. ثمّ قد تدعو الحاجة البيانيّة إلى تحديد الشيء " = الجوهر" بالقيود الّتي تُميِّزُه عن غيره قَبْلَ أو مع إسناد الوصف إليه، لتُعْرَف حقيقة الموصوف، وكذلك قد تدعو الحاجة البيانية إلى تحديد الوصف " = العرض" بالقيود التي تميِّزُه عن غيره. فظهر بهذا ما يُعْرَفُ بقيود المسند إليه، كالوصف، والحال، والتمييز ونحو ذلك. وظهر أيضاً ما يُعْرَفُ بقيودِ الْمُسْنَدِ، فعلاً كان، أو خبراً أو نحوهما، كالحال، وقيود الزمان والمكان. ثم نلاحظ أنّ الوصف " = العرض" قد يكون ملازماً للموصوف "= الجوهر" وقد يكون حَدَثاً طارئاً، كالحركة والسكون، والحرارة والبرودة، والحدث لا بدّ له من ظرف زمانٍ حدَث فيه، أو يَحْدُث فيه، ومفاصل الزّمن الكبرى التي يُعبَّر عنها بصِيَغِ الأفعال هي: "الماضي والحاضر والمستقبل" وهنا ظهرت الحاجة في الكلام إلى بيان الظرف الزماني بصيغة الكلمة، كالفعل الماضي والمضارع. وظهرت الحاجة أيضاً للتعبير عن الزمان بمادة الكلمة، كالزمان، والحين، والدهر، والساعة، واليوم، والشهر، ونحو ذلك. ثم نلاحظ أنَّ كل شيء من الأشياء المخلوقة ومعها أوصافُها القائمة بها، والأحداث الجارية فيها أو الصادرة عنها، لا بدّ أن تكون في ظرفٍ مكاني. وهنا ظهرت الحاجة في الكلام إلى بيان الظرف المكاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وبالظرف الزمانيّ والظرف المكانيّ وُجد في الكلام ما يُسَّمى المفعول فيه زماناً أو مكاناً. ثم نلاحظ أنّ إحداث الحدث قد يكون بسبب أو بآلَة، وبهذا ظهرت الحاجة في الكلام أحياناً إلى بيان السبب أو الآلة، ومِن ثَمَّ جاء في الكلام ما يدلُّ على السبب والآلة. ونلاحظ أيضاً أنّ الحدث المقصود إنّما يكون بباعثٍ ولغايَةٍ، ومن هذا ظهرت الحاجة في الكلام أحياناً إلى بيان الباعثِ للحدث، والغاية منه، فجاء في الكلام مايدلُّ على ذلك، ومنه ظهَرَ في الكلام ما يسمَّى "المفعولَ لأجله". ونلاحظ أنه قد يقترن الحدث بحدث آخر، وقد تدعو الحاجة إحياناً في الكلام إلى بيان الحدث المقارن للحدث المراد بيانه أصلاً، ومن هذا ظهر في الكلام ما يُسمَّى "المفعول معه". وتنفعل النفس الإِنسانية بأحاسيس مختلفة يُرِيدُ الإِنسان التعبير عنها بالكلام، فظهر في الكلام ما يدلّ على بعض هذه الأحاسيس الأصول، مثل: التَّوَجُّع، التَّفَجُّع، التَّعَجُّب، الْمَدْح، الذَّمّ، التَّحْذِير، الإِغْراء، الاسْتِفْهَام، الإِثبات، النفي، التأكيد. إلى غير ذلك من أحاسيسَ ومعانٍ أصولٍ يرادُ التعبير عنها بصيغٍ خاصّة، أو كلماتٍ خاصّة، كعبارات التوجع والتفجُّع، وفِعْلَي التعجّب، وأفعال المدح والذّم، وصيغ التحذير والإِغراء، وأدواتِ الاستفهام، وأدوات النفي، والمؤكّدات. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 (4) ترتيب الجملة في اللّسان العربي إذا أردْنا أن نصوغ جملة نبيّن فيها طلوع القمر أو عدمه، وجدنا أنفسنا أمام عَددٍ من الاحتمالات، مثبتين أو نافين: (1) طلَعَ القمر، ما طلع القمر. (2) القَمَرُ طَلَع، القمَرُ ما طلع. (3) القَمَرُ طَالِعُ. القمر غير طالع. ليس القمر طالعا. (4) ما طالعٌ القمر. ولكن هل هذه الصيغ تقع في درجةٍ واحدةٍ من البيان، أم هي مختلفة، مع جوازها جميعاً في اللّسان العربي؟ يقول النحويّ هذه كلّها جائزة، ولكلٍّ منها عندي تخريجٌ إعرابي. لكنّ البلاغيَّ يقول: إن صِيَغَ "طَلَعَ القمر - ما طَلَع القمر - ما طالعٌ القمر" تقال في مقام الإِخبار الابتدائي الذي لا حاجة فيه إلى تأكيد، أما صِيَغ "القَمَرُ طَلَع - القمرُ ما طَلَع - ليس القمرُ طَالعاً" فتقال في مقامٍ يحتاج فيه الخبر إلى نوع تأكيد، فإذا لم تكن حال المخاطب تقتضي تأكيداً فلا داعي لاستخدام هذه الصّيغ، إذْ جاء فيها إسناد الطلوع إلى القمر مرّتين، فالقمر فيها مبتدأ أو أصله مبتدأ، وفعل طَلَع مُسْنَدٌ إلى ضمير يعود على المبتدأ، والجملة هي خبر المبتدأ، واسم الفاعل "طالعاً" كالفعل يحمل ضميراً يعود على القمر. فتغيير الترتيب في أركان الجملة نَجَمَ عَنْه إضافَةُ دلالة، فَعَلَى الْبَلاَغِيّ أن يُلاحظها لدى إنشاء الكلام، ولدى فهم النصوص البليغة الرّفيعة. ولركني الإِسناد الرئيسين في الجملة الكلاميّة توابع، منها المفعول به، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وموضعه الأصليّ في الجملة العربية بحسب ترتيب الكلام المعتاد يأتي بعد الفاعل، على الوجه التالي: (1) ... .. (2) ... ... . (3) فعل ... .. فاعل ... .. مفعول به مثل: أكل ... الذئبُ ... الحَمَلَ قال النحاة: ويجوز تقديم المفعول به على الفاعل، ويجوز تقديمه أيضاً على الفعل، إلاَّ عند اللَّبْس. فيقال: أكَلَ الْحَمَلَ الذّئبُ. ويقال: الْحَمَلَ أكَلَ الذئبُ. ويقال: رفَعَ سعيدٌ طناً من الحديد. يقال: طناً من الحديد رفع سعيد. لكنْ البلاغيين قالوا: إنّ مخالفة الأصل في ترتيب بناء الجملة، واستخدامَ ما يجوز فيها بحسب استعمال العرب، هو في الغالب لغرض تأدية معنىً من المعاني، لا لمجرَّدِ استخدام احتمالات جائزة، باستثناء حالة الضرورة الشعريّة، أو حاجة توازن الجمل وتناسُقِها، ومراعاةِ السَّجْع أو القوافي، ضمن أغراضٍ جماليّةٍ في الكلام. فتقديم المفعول به عن رتبته، ولا سيّما تقديمُهُ على الفعل الذي هو صَدْرُ الجملة الفعليّة بنبغي أن يكون لغرض، وهو الدّلالة على معنًى ما، كالتخصيص، أو الحصر، أو بالغ الاهتمام، أو نحو ذلك. ورُتَبُ عناصر الجملة تشبه رُتَب جلساء رئيس القوم، فإذا قدَّم الرئيس إلى جواره من هو في العادة يجلس بعيداً عنه بحسب رتبته، فإنما يُقَدِّمه لغاية يفهمها الفطناء، فإذا وضعه في موضع وزيره الأول، أدرك أهل الفطانة أنّه مُهْتَمٌّ به وبتكريمه، أو أنّه سوف يستوزره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 (5) معالم الترتيب في عناصر الجملة عند النحاة قال النحويون: الأصل في الفاعل أن يتّصل بفعله لأنّه كالجزء منه، ثم يأتي بعده المفعول به، وقد يُعْكَسُ الأمر، وقد يتقدّم المفعول به على الفاعل والفعل معاً، وكلُّ ذلك: إمّا جائزٌ، وإمّا واجب، وإمّا ممتنع. * فيجوز تقديم المفعول به على الفاعل وتأخيره عنه في نحو: "كتب زُهيرٌ الدرسَ - كتبَ الدّرْسَ زُهَيرٌ". * ويجب تقديم أحدهما على الآخر في خمسة أحوال: (1) إذا خُشِي الالتباسُ والوقوعُ في الشّكّ، بسبب خفاء الإِعراب، مع عدم قرينة، فلا يُعْلَم الفاعل من المفعول به، فيجب تقديم الفاعل، مثل: "علَّمَ مُوسَى عيسَى - أكْرَمَ ابني أخي - غَلَبَ هذا ذَاك". فإذَا أُمِنَ اللَّبْس لقرينة دالّة جاز تقديمُ المفعول به، مثل: "أكْرَمَتْ مُوسَى سَلْمَى - أضْنَتْ سُعْدَى الْحُمَّى". (2) أَنْ يتصل بالفاعل ضمير يعود على المفعول به، فيجب تأخير الفاعل وتقديم المفعول به، مثل: "أكرَمَ سعيداً غُلامُه - وإِذِ ابْتَلَى إبْرَاهيِمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ - يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ". وما ورد على خلاف ذلك فضرورة شعريّة. (3) أن يكون الفاعل والمفعول به ضميريْن، ولا حَصْر في أحدهما، فيجب تقديم الفاعل وتأخير المفعول به، مثل: "أطعمتهُ وسقيته". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 (4) أن يكون أحدهما ضميراً متّصلاً والآخر اسماً ظاهراً، فيجب تقديم الضمير منهما. * فيُقَدَّمُ الفاعل وُجوباً في نحو "أكرمت عليّاً". * ويُقدَّمُ المفعول به وجوباً في نحو "أكرمَنِي عليٌّ". (5) أن يكون أحدهما محصوراً فيه الفعل بحرف "إلاَّ" أو بحرف "إنّما" فيجب تقديم ما حُصِر فيه الفعل، سواءٌ أكان مفعولاً به، أَمْ فاعلاً، مثل: "ما أكرمَ سعيدٌ إلاَّ خالداً - ما أكرمَ خالداً إلاَّ سيعدٌ - إنَّما أكرم سعيدٌ خالداً - إنَّما أكرمَ خالداً سَعِيداً". *** وقال النحويون: يجوز تقديم المفعول به على الفعل والفاعل معاً، في نحو: "عَلِيّاً أكْرَمْتُ" ومنه قول الله تعالى: {فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87] . ويجب تقديمه عليهما في أربعة أحوال: (1) أن يكون المفعول به اسمَ شرط، مثل: أيَّهُمْ تكْرِم أكرم - {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد: 33] . أو مضافاً إلى اسم شرط، مثل: هَدْيَ مَنْ تَتْبَعْ يَتْبَعْكَ بَنُوكَ. والسبب أنّ اسم الشرط له الصدارة في الجملة. (2) أنْ يكون المفعول به اسمَ استفهام مثل: مَنْ أكْرَمْتَ؟ - مَا فعلْتَ؟ - كَمْ كتاباً اشترَيْتَ؟ - {فَأَيَّ آيَاتِ الله تُنكِرُونَ} [غافر: 81] . أو مضافاً لاسم استفهام مثل: كِتَابَ مَنْ أَخَذْتَ؟ والسبب أنّ اسم الاستفهام له الصدارة في الجملة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 (3) أن يكون المفعول به لفظ "كم" أو "كأيّن" الخبريَّتَيْن، مثل: "كَمْ كتاب ملكتُ - كَمْ عِلْمٍ حَوَيْتُ - وكَمْ عُلَماءَ تخرجُوا في مَدْرَسَتِي - وكأيّنْ من قصيدَةِ شعْرٍ كَتَبْتُ". أو مضافاً إلى "كم" الخبريّة، مثل: "ذَنْبَ كَمْ مُذْنِبٍ غَفَرْتُ" (4) أن ينصب المفعولَ به جوابُ "أمَّا" وليسَ لجوابها منصُوبٌ مُقَدَّمٌ غيْرُهُ، مثل: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ * وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ} [الضحى: 9 - 10] . وإنّما وجب تقديمُهُ في هذه الحالة ليكون فاصلاً بين "أمّا" وجوابها، فإذا وُجد فاصلٌ غيره فلا يجب تقديمه، مثل: لَقَدْ كُنَا نَخَافُ عَصَاكَ يَوْماً ... فَأَمَّا الْيَوْمَ فَافْعَلْ مَا بَدَا لَكْ *** وقال النحويون: إذا تعددّت المفاعيل في الكلام فَلِبَعْضِهَا الأصالة في التقدُّمِ على بعض. * إمّا بسبب كونة مبتدأً في الأصل، كما في باب "ظنّ". * وإمّا بسبب كونه فاعلاً في المعنى، كما في باب "أعطى". فمفعولاً "ظنّ" وأخَوَاتِها، أصلُهُما مبتدأ وخبر، فإذا قلت مثلاً: "عَلِمْتُ اللهَ رَحيماً" فالأصل: "اللهُ رحيم". ومفعولا "أعْطَى" وأخواتها ليس أصلهما مبتدأً وخبراً، غير أن المفعول به الأول هو فاعل في المعنى، فإذا قلتَ مثلاً: "ألبَسْتُ الفقير ثوباً" فالفقير فاعلٌ في المعنى، لأنَّهُ هو الذي لَبِسَ الثوبَ، والثوبُ ملبوسٌ. بناءً على هذا فالأصْلُ تقديم ما أصله المبتدأ في باب "ظنّ" وما أصله الفاعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 في باب "أعْطَى" مثل: "ظَنَنْتُ الْبَدْرَ طالعاً - أعطيت سعيداً الكتاب - كَسَوْتُ الفقِيهَ جُبَّةً". قالوا: ويجوز العكسُ إنْ أُمِنَ اللَّبْسُ. ويجب تقديم أحد المفعولين على الآخر في أربعة أحوال: (1) أنْ لا يُؤْمَنَ اللَّبْسُ، فيجب تقديم ما حقُّه التقديم، وهو ما كان متبدأ أو فاعلاً في المعنى، مثل: * "ظننتُ سعيداً خالداً" إذا كان سعيدٌ هو المظنون أنه خالد، وإلاَّ وجب تقديم خالد. "وهو من باب ظنّ". * قول ذي السلطان: وهبتُ الأَبَ ابْنَهُ، إذا كان الابن هو مستحقّ العقاب فعفا عنه من أجل أبيه، وإذا كان الأب هو مستحقّ العقاب، قال: وهبتُ الابْنَ أباه. "وهو من باب أعطى". (2) أن يكون أحد المفعولين ضميراً والآخر اسماً ظاهراً، فيجبُ تقديمُ ما هو ضميرٌ وتأخيرُ ما هو ظاهر مثل: "أعطيتُكَ فرساً - فرساً أعطيتُهُ سعيداً". (3) أن يكون أحد المفعولين محصوراً فيه الفعل، فيجب تأخير المحصور سواءٌ أكان المفعولَ الأوّلَ أم الثاني، مثل: "ما أعطيت سعيداً إلاَّ دِرْهماً - ما أعطيتُ الدّرْهَمَ إلاَّ سعيداً". (4) أن يكون المفعول الأوّل مشتملاً على ضميرٍ يعودُ على المفْعول الثاني، فيجب تأخير الأوّل وتقديم الثاني، مثل: "أعْطِ الْقَوْسَ بَارِيَهَا". إذْ لو قُدّم المفعول الأوّل في هذه الحالة لعاد الضمير على متأخّر لفظاً ورُتبةً، باعتبار أنّ المفعول الثاني رتبتُه التأخير عن المفعول الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 ولا يصحُّ في اللّسان العربي عوْدُ الضمير على متأخّر لفظاً ورتبةً معاً، إلاَّ في نحو ضمير الشأن والقصة. هذه مقرّرات علماء النحو بالنسبة إلى ترتيب عناصر الجملة فيما يتعلّق بالفعل والفاعل والمفاعيل. *** وقال النحويّون: يجب تقديم المبتدأ في ستة أحوال: (1) أن يكون المبتدأ من الأسماء التي لها صدْرُ الكلام، مثل: * أسماء الشرط. * أسماء الاستفهام. * "ما" التعجبيّة. * "كَمْ" الخبرية. (2) أن يكون المبتدأُ مُشَبَّهاً باسم الشرط، مثل: "الذي يجتهد فَلَهُ جائِزَةٌ - كلُّ تلميذٍ يَجْتَهِدُ فَهُو مؤهَّلٌ للنجاح". (3) أن يضافَ المبتدأ إلى اسم له صَدْرُ الكلام، مثل "غُلاَمُ مَنْ هُو؟ - زِمَامُ كَمْ مَدْرَسَةٍ في يَدِ وزير التربية؟ ". (4) أن يكون المبتدأ مقترناً بلام التأكيد، وهي لام الابتداء، مثل: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: 221] . (5) أن يكون كلٌّ من المبتدأ والخبر معرفةً نَكِرَةً، ولا تُوجَدُ قرينة تُعَيّنُ أحَدَهُمَا، فيجب تقديمُ المبتدأ خشية التباس الْمُسْنَدِ بالْمُسْنَدِ إليه، لأنّ الأصل في ترتيب المبتدأ أن يكون قبل الخبر، مثل: * "أخوك عليٌّ" إذا أردتَ الإِخبار عن الأخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 * "عليٌّ أخوك" إذا أردتَ الإِخبار عن عليّ. (6) أن يكون المتبدأ محصوراً في الخبر، مثل: * {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل ... } [آل عمران: 144] . * {إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ} [هود: 12] ، أي ما أَنْتَ إلاّ نَذِيرٌ. فالمبتدأ في المثالين محصورٌ في الخبر. *** وقال النحويّون: يجب تقديم الخبر على المبتدأ في أربعة أحوال: (1) إذا كان المبتدأُ نكرةً غير مفيدةٍ ومُخْبَراً عنْها بظرْفٍ أو جارٍّ ومَجْرُورٍ، مثل: "في الدار رجُلٌ - عندكَ ضيفٌ - لَدَيْنَا مَزيدٌ - على أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ". (2) إذا كان الخبرُ اسْمَ استفهام، مثل: "كيفَ حَالُكَ؟ " أو مضافاً إلى اسم استفهام، مثل: "ابنُ مَنْ أَنت؟ - صبيحةً أيِّ يَوْمٍ سَفَرُكَ؟ ". (3) إذا اتّصَل بالمبتدأ ضمير يَعُودُ على شيءٍ من الخبر، مثل: "في الدار صاحبُها - مِلْءُ عَيْنٍ حَبِيبُها - أَمْ عَلى قُلوبٍ أقْفَالُها". (4) أن يكون الخبر محصوراً في المبتدأ، مثل: * "مَا خالقٌ إلاَّ الله". * إنّما محمودٌ مَنْ يَجْتَهِد" أي: ما محمودٌ إلاَّ مَنْ يجتهد. * إنّما الخالقُ الله" أي: ما الخالقُ إلاَّ الله. هذه مقررات النحويّين بالنسبة إلى ترتيب عنصري الجملة الاسمية. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وقال النحويّون: الأسماءُ التي لها الصدارة في الجملة، فلا يتقدَّمُها إلاَّ جارٌّ لها، أو مضافٌ إليها، أو حُروفُ العطف؛ هي: (1) أسماء الاستفهام. (2) أسماء الشرط. (3) "ما" التعجبيَّة. (4) "كم" الخبرية. *** وقال النحويّون: إذا اجتمعت التوابع في جملة واحدة قُدِّمَ منها: (1) النعت. (2) فعطف البيان. (3) فالتوكيد. (4) فالبدل. (5) فعطف النَّسَق. وهو ما كان بحرف عطف. مثل: "بعثَ اللهُ الرَّسُولَ العربيّ محمّداً نَفْسَه أخَا بَنِي إسْحَاقَ والرّسُلَ والنبيّينَ مِنْ قَبْلِه". *** (6) نظر الأديب البليغ حول مراعاة ترتيب عناصر الجملة إذا كان نظر علماء النحو إلى ترتيب عناصر الجملة هو على النحو الذي سبق بيانه، فإن نظر الأديب البليغ لا يكتفي بالتقيُّد بما يجوز في التراكيب العربيّة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 فيستخدمُها كيفما اتفق، بَلْ يَنْظُر إلى دَلالاتها، وإلى المعاني التي تُؤدّيها مُخْتَلِفَاتُ التراتيب، والتركيبات، فيستَخْدِمُ منها ما يدُلُّ على ما يُريدُ التعبير عنه في كلامِهِ بأخْصَرِ عبارة، ويُحاوِل دوماً أن يطابِقَ بين اختياره منها وما يُريدُ التعبير عنه. *** (7) دوائر عطاء الجملة الكلامية الدائرة الصغرى: أصغر دائرة عطاءٍ بيانيّ تقدّمه الجملة الكلامية يظهر بنسبة شيءٍ إلى شيءٍ. * كنسبة الوجود إلى الأرض، فنقول: الأرض موجود، أي: لها صفة الوجود، ففي هذه الجملة نَسَبْنَا الوجود إلى الأرض. * وكنسبة العدم إلى شريك الباري، فنقول: شريك الباري معدوم، ففي هذه الجملة نسبنا العدَمَ إلى شريك الباري. * وكنسبة الطلوع أو الأفول إلى القمر، فنقول: طَلَع القمر - أفل القمر. * وكنسبة الموت إلى إنسان كان حيّاً فمات، فنقول: مات فيصل. من هذه الأمثلة نُلاحظ أنّ ركناً من رُكْنَي كُلِّ جملةٍ فيها يتضمَّن معنىً هو شيءٌ منسوبٌ، وأنّ الركْنَ الآخر من ركنيها يتضمن معنىً هو شيءٌ منسوبٌ إليه معنى الركن الأول، وأن الألفاظ دوالٌّ على المعاني. فبالتحليل يظهر لنا ثلاثة عناصر: الْعُنْصُر الأول: مَنْسُوبُ. العنصُر الثاني: منسوبٌ إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 العنصُر الثالث: نسبةٌ بينهما ذهنية، وقد يُدَلُّ عليها بلفظ، أو بحركة، وهذه النسبة هي الرابطة بين رُكني الجملة الكلامية. والنسبة في الجملة قد تكون بالإِثبات كالأمثلة السابقة، وقد تكون بالنفي، وذلك حين تدخل على الجملة أداةٌ من أدوات النفي، فنقول مثلاً: ما طلع القمر، وما مات إبليس، وصوت الحمار ليس جميلاً، ولاَ يَمْشِي الجماد. وللتفريق بين رُكْنَي الجُمْلَةِ الرّئيسَيْنِ والنسبة الرابطةِ بينهما ظَهَرَتْ عدّة مصطلحات عند العلماء على اختلاف تخصُّصاتهم. فقالوا: (1) المسند: وهو الخبر أو ما يَسُدّ مَسَدَّه في الجمل الاسمية، والفعل في الجمل الفعلية، أو ما يَعْمَلُ عَمَلَه. (2) المسند إليه: وهو المبتدأ في الجمل الاسمية، أو ما أصله المبتدأ، والفاعل أو ما ينوب عنه في الجمل الفعلية. (3) الإِسناد: وهو الرابطة الذهنيّة بين المسند والمسند إليه، وقد يُدَلُّ على الرابطة بنحو ضمير الفصل وحركة الإِعراب. ويوجد هذا الاصطلاح لدى علماء اللّغة العربيّة. *** وقالوا: (1) محكوم به "أي: مسند". (2) محكوم عليه "أي: مسند إليه". (3) والنسبة الحكمية "أي: الإِسناد" وثمرة الجملة "الحكم" ويوجد هذا الاصطلاح لدى علماء أصول الفقه. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وقالوا: (1) موضوع "أي: مسند إليه". (2) محمول "أي: مسند". (3) النسبة بينهما "أي: الإِسناد". والجميع "قضيّة" وثمرة القضية "الحكم" إيجاباً أو سلباً. ويوجد هذا الاصطلاح لدى علماء المنطق. هذه مصطلحات متعدّدة ومُؤَدَّاها لدى الجميع واحد. ومن الْجُمل في حدود هذه الدائرة الصغرى ما يكون المسند فيها باعتبار مادته لا يتحقق إلاَّ باجتماع مُسْنَدٍ إليه متعدّد، مثل: "اشْتَرَكَ زَيْدٌ وَعَمْرو - اجتمع خالد وسعيد - جُمِع الشَّمْسُ والقمر - تقاتل المسلمون والمشركون". وهكذا كلُّ ما يقتضي بمادّته المشاركة بين فريقين من أفعالٍ وغيرها. الدائرة الثانية: وهي الجملة التي تشتمل على دائرة عطاءٍ بياني يظهر بنسبة شيْءٍ إلى شيْئَيْن، أحَدُهُمَا هو الذي اتّصفَ بالشيءِ من جهة كونه مُؤَثِّراً به "أي: فاعلاً" والآخر هو الذي اتّصفَ بالشيء من جهة كونه متأثّراً به (أي: مفعولاً به) ، مثل: "ضرَبَ زيدٌ عَمْراً". دلّت هذه الجملة على نِسْبة الضّرب إلى زيدٍ ووصفه به من جِهَةِ كونِه مؤثِّراً بالضّرْب (أي: ضارباً) ونِسْبَة الضرب نفسه إلى عَمْروٍ ووصفه به من جهة كونه مُتَأَثِّراً بالضرب (أي: مَضْروباً) . فبالتحليل الفكريّ يظهر لنا أنّ الضَّرْبَ ذو نسبتين: (1) نسبته إلى فاعله المؤثِّر به فهو ضارب. "لذلك سمّوه فاعلاً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 (2) نسبته إلى الواقع عليه المتأثِّر به فهو مضروب "لذلك سمَّوْهُ مفعولاً به". ومثل: "خلق الله عزّ وجلّ الكونَ" فالخلق ذو نسبتين: (1) أمّا فاعله والمؤثِّرُ به فهو الله عزّ وجَلَّ. "وهو الخالق". (2) وأمّا الواقِعُ عليه والمتأثِّرُ به فهو الكون. "وهو المخلوق". هذا تحليل قول علماء العربيّة: الفعل قد يتعدّى إلى المفعول به. وأضيف أنّه لا فرق من جهة المعنى بمقتضى هذا التحليل أن يكون تَعَدِّي الفعل بدون وساطة، أو بوساطة حرف جرٍّ، مثل: عَلِمَ فلانٌ المسألة، وعَلِمَ بها. الدائرة الثالثة: وهي الجملة التي تشتمل على دائرة عطاءٍ بيانيّ يظهر بنسبة شيءٍ إلى ثلاثة أشياء. الأوّل: هو الذي اتّصف بالشيء من جهة كونه مؤثراً به (أي: فاعلاً) . الثاني والثالث: هما اللّذان اتّصَفَا بالشيءٍ من جهة كون كلٍّ منهما متأثِّراً به "أي: مفعولاً به" مع اختلاف صفة التأثّر. مثل: "كَسَى الأبُ ولَدَهُ ثَوْباً" فالكَسْوُ ذو ثلاثِ نِسَب: (1) نسبتُه إلى فاعله المؤثِّر به فهو كاسٍ. (2) نسبته إلى الواقع عليه المتأثِّر به فهو مَكْسُوٌّ، وهذا المكسوّ له جهتان مختلفتان. الجهة الأولى: كون المكسُوِّ آخذاً لِلْكُسْوة، لا بساً لها. الجهة الثانية: كون المكْسُوِّ مأخوذاً، مَلْبُوساً، وهو نفسه الكُسوة. فصار بهذا للكَسْوِ في الجملة ثلاثُ نِسَبٍ مَقْصُودَةٍ بالبيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وقِسْ على هذا المثال أشباهَهُ، مثل "علَّمَ الأُسْتاذُ تلميذَهُ عِلْمَ النحو - أعطَى الْمُحْسِنُ الفقيرَ صَدَقَةً - وهَبَ الله أَيّوبَ أَهْلَهُ ومِثْلَهُم مَعَهُمْ". الدائرة الرابعة: وهي الجملة التي تشتمل على دائرةٍ عطاءٍ بيانيّ يظهر بنسبة شيءٍ إلى أربَعَةِ أشياء. الأول: هو الذي اتّصَفَ بالشيءِ منْ جهة كونه مؤثراً به (أي: فاعلاً) . الثاني والثالث والرابع: هي الأشياء الّتي اتَّصَفَتْ بالشيء منْ جهة كون كلٍّ منها متأثّراً به "أي: مفعولاً به" مع اختلاف صفة التأثُّر في كلٍّ منها. مثل: "أَعْلَمَ اللهُ النَّاسَ مُحمّداً رَسُولاً" فالإِعلام في هذه الجملة ذو أرْبَعِ نِسَب: (1) نِسْبتُهُ إلى فاعله المؤثّر به، فهو مُعْلِمٌ بكَسْرِ اللام. (2) نسْبَتُهُ إلى الواقعِ عليه المتأثِّرِ به فهو مُعْلَمٌ بفتح اللاّم، وهذا المعلَمُ لَهُ ثلاثة جهاتٍ مختلفات: الجهة الأولى: كَوْنُ الْمُعْلَمِ مُسْتَفِيداً كاسباً لِلْعِلْم. الجهة الثانية: كَوْن الْمُعْلَم أَحَدَ رُكْنَي القضيّة الّتي جرى الإِعلام بها، وهو فيها مُسْنَدٌ إليه، وهو: "مُحَمّداً". الجهة الثالثة: كون الْمُعْلَمِ أَحَد رُكْنَي القضيّة الّتي جرى الإِعلام بها، وهو فيها مُسْنَدٌ، وهو: "رَسُولاً". وأصلُ القضيّة التي جرى الإِعلام بها هي: "مُحَمّدٌ رَسُولٌ". فظهر بهذا التحليل أنّ الإِعلام ذو أربع نِسَب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 الاقتصار على بيان بعض النسب: بعد بيان هذه الدوائر الأربع لعطاء الجملة الكلاميّة، نلاحظ أنّه قد لا يستدعي موضوع الجملة أكثر من الدائرة الأولى، وقد يستدعي موضوعُها الدائرة الثانية، أو الدائرة الثالثة، أو الدائرة الرابعة. ومع استدعاء موضوع الجملة أكثر من الدائرة الأولى، فقد يتعلَّق غرضُ المتحدّث بالاقتصار على بعض النِّسَب وإغفال بيانِ ما يتعلَّق بالنِّسَبِ الأُخرى، وله ذلك متى أفاد بحديثه ما يريد إبلاغَهُ من الإِسناد، وأدناه الدائرة الأولى، ويكون فيها إسنادُ شَيْءٍ إلى شيءٍ بجملةٍ تُقَدِّمُ فائدةً ما. ودون ذلك يكون الكلام ناقصاً ولَغْواً. ولا بُدَّ من ملاحظة أنَّ المحذوف المقدَّر الذي يُمْكن إدْراكُهُ وتصوُّرُهُ ذهْناً لوجود قرينة تدلُّ عليه لفظيَّةٍ أو غير لفْظيَّة، هو كالمذكور، ولدى علماء العربية والبلاغيّين ضوابط لذلك. *** (8) نظرة حول ما يُسَمَّى فضلةً في الجملة عند النحويين لعلّ ما يَصِفُه النحويون في الجملة الكلاميّة بأنه فضلَةٌ يقْصِدون به أنَّهُ عطاءٌ فكريٌّ زائدٌ على أصغر دوائر الجملة الكلاميّة المفيدة. فالّذي أرَاه أنَّه لا تُوجَدُ في الجملة الكلامية كلمةٌ تُؤدّي معنىً مقصوداً بالبيان، لا تؤدّيه كلمةٌ أخرى غيرها تأدِيَةً مباشرةً، يَصِحُّ أن تُسَمَّى لدى التحقيق فضلةً في علم المعاني، لأنّ الفضلةَ يَنْبَغي أنْ تُطْلَق على ما في الكلام من ألفاظٍ تدلُّ على معنىً هو زائدٌ على المطلوب بيانُه والتَّعْريفُ به. فإذا قال النحويُون أو البلاغيّون تبعاً للنحويّين: إنّ ما زاد على رُكْنَي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الإسناد "المسند والمسند إليه" في الجملة الكلامية هو فضلة، كالمفاعيل وسائر متعلّقات الفعل، فَقَصْدُهُمْ من ذلك فيما أرَى أنّ الجملة المفيدة لا بُدَّ فيها حَتْماً مِنْ رُكْنَيْ الإِسناد، وإلاَّ كان الكلام غير مفيد، فما زاد على ذلك يعتَبَرُ زائداً على أدْنَى ما يَجبُ أَنْ تُبْنَى بِه جملةٌ كلاميّةٌ مفيدة، لا أنّه زائد على ما يَقْصِدُ المتكلِّمُ بيانه. إذْ كُلُّ فِكْرَةٍ دلَّ عليها لفظٌ في الكلام - مهما دقَّتْ هذه الفكرة - إذا كانت مقصودة بالبيان، فإنَّه يُمْكِنُ أن تُصَاغَ لأَجْلِها جُمْلَةٌ مفيدة من "مُسْنَدٍ ومُسْنَدٍ إلَيْه" وأن تكون هذه الجملةُ منفصلة مستقلّة، إلاَّ أنّ الاقتصادَ في التعبيرَ جعل الْجُمْلةَ تَسْتَوْعِبُ بتعلّقات الإِسناد في المفاعيلِ، وبقيود الإِسناد، وقيودِ الْمُسْنَدِ، وقيودِ الْمُسْنَدِ إليه عِدَّةَ جُمَلٍ، وهي لَوْ حُلِّلَتْ وَفُصِّلَتْ لكانت في بعضها جملتين، ولكانت في بعضها ثلاثَ جُمَلٍ، وفي بعضها أرْبعَ جمل، وخَمْسَةً وسِتَّةً وأكثر من ذلك، بعَدَدِ المتعلّقاتِ والقيود. بهذا البيان التحليلي لا يصِحُّ أنْ نعتبر في مثل عبارة: "ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْراً" أنَّ "عَمْراً" فضلة، لأنّ فكرةَ وقُوع ضَرْبِ زيْدٍ على عَمْروٍ فكرةٌ مقصودةٌ بالبيان، تُصَاغُ لَهَا جُمْلَةٌ خاصَّةٌ مفيدة، نَقُولُ فيها: "ضُرِبَ عَمْروٌ" أو "عَمْروٌ مَضْرُوبٌ"، وهكذا سائرُ متعلّقاتِ الجملة الكلاميّة وقيودُها. أمّا الفضلة الحقيقيّة فهي الكلمة التي لا تُضِيفُ إلى معنى الجملة معنىً مقصوداً بالبيان، كالمترادفات المتتابعات في الجملة، وكزوائدِ التأكيد في الجملة التي لا يُرْفَعُ بِذكْرها تَوَهُّمُ المجاز أو الْغَلَطِ وسَبْقِ اللّسان، كأن تقول: "جاء القومُ أجمعون أكتعون أَبْصَعُون" فالمترادفاتُ الإِطنابية، المؤكّدات الإِطنابيّة زوائد لم تُضِفْ جديداً، ولم ترفَعْ توهُّماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 (9) مشجَّرات تحليليّة للجملة الكلاميّة (أ) الجملة الكلاميّة 1 - الْمُسنَد ويأتي المسند في الجملة على وجوه: - فعل. - أو ما يقوم مقام الفعل. - اسم مفرد أو ما يؤول به. - جملة إسمية أو فعلية. - شبه جملة (ظرف أو جار ومجرور) . - كل ما يقوم مقام ما تقدم. وقد يتعدد المسند والمسند إليه واحد، فَيُسْتَغْنى بحرف العطف عن إنشاء جملة جديدة أو أكثر، مثل: ((أكلَ وشرب ونام الأسد)) . 2 - الإِسناد وهو الربط بين ركْني الجملة بالاقتران مع علانة إعراب ظاهرة أو مقدرة، أو بضمير الفصل أحياناً. وقد يظهر هذا الرابط في غير العربية بما يُسمَّى فعل الكون 3 - الْمُسنَد إليه ويأتي المسند إليه في الجملة على وجوه: - فاعل. - مبتدأ. - اسم كان وأخواتها. - اسم إنّ وأخواتها. - نائب الفاعل. - كل ما يقوم مقام ما تقدم. وقد يتعدّد المسند إليه والمسند واحد، فَيُسْتَغْنى بحرف العطف عن إنشاء جملة جديدة أو أكثر، مثل: ((أكلَ الأسد والذئب والثعلب والنَّسْرُ)) . وقد يتعدَّد كلٌّ من المسند والمسند إليه مع تماثل النسبة في الإِسناد، فَيُسْتَغْنى بالعطف في كلٍّ منهما عن إنشاء جُمَلٍ متعدّدة، مثل: ((أكلَ وشرب ونام الأسدُ والذئبُ والثعلبُ والنَّسْر)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 (ب) تابع تقسيمات الْمُسند 1 - المسند بحسب سنده - لازم: وهو نسبة واحدة. فليس له إلاَّ فاعل أو ما يقوم مقامه. - متعدٍّ ذو نسبتين: فله فاعل ومفعول به أو ما يقوم مقامهما. - متعدٍّ ذو ثلاث نسب: فله فاعل ومفعول به أول، ومفعول به ثان، أو ما يقوم مقامها. - متعدٍّ ذو أربع نِسَب: فله فاعل ومفعول به أول، ومفعول به ثانٍ، ومفعول به ثالث، أوْ ما يقوم مقامَها. 2 - ما ينوب مناب المسند - ما يعمل عمل الفعل: كالمصدر، مثل: ((ضربي العبد مسيئاً)) . واسم الفعل، مثل: ((هيهات لما توعدون)) . - الظرف: مثل: ((الجزاء الأمثل يومَ الدين)) . - الجار والمجرور: مثل: ((زيد في الدار)) . ((إبليس من الجنّ)) . ((منّا الصالحون ومنّا دون ذلك)) . 3 - المسند بحسب إطلاقه وتقييده - مطلق: مثل: ((مرض الحصان)) . - مقيد بالوصف: مثل: ((مرض الحصان مرضاً شديداً)) . ((نام الأرنب نوماً عميقاً)) . - مقيد بحرف الجرّ: مثل: ((مرض الفاسق بمرض الزهري)) . ((قتل قاتل بالسيف)) . ((أكل الرسول بيده)) . ((انطلق المسافرون من محطة القطار)) . ((تجاوز الله للعاصي عن سيئاته الصغرى)) . - مقيد بقيد الغرض في المفعول لأجله: مثل: ((حضرتُ إكراماً لك)) . أي: حضوري مقيّد بأنه لأجل إكرامك. - مقيد بقيد الظرف الزماني أو المكاني: مثل: ((وُجِدَ في داره يومَ السبت صباحاً)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 (ج) تابع تقسيمات المسند إليه 1 - - مطلق: مثل: ((مرّت سحابة)) . ((في الدار رجل)) . ((داهَمَ سيل)) . - مقيّد بقيد الوصف: مثل: ((مرّت سحابة ثقيلة)) . ((في الدار رجُلٌ فاضل)) . ((داهَمَ سيلٌ يملأ الوادي)) . - مقيَّدٌ بقيد الحال: مثل ((عاد الجيش منتصراً)) . - مقيّد بالاستثناء: مثل ((رجع حُجَّاج المدينة إلاَّ سبعة)) . - مقيّد بقيد الإضافة: مثل ((هلك قوم نوحٍ)) . - مقيّد بالتمييز: مثل ((ذبح لضيوفه عشرينَ خروفاً)) . - مقيّد بواو المعية: مثل: ((سارت القافلة وَسَاحلَ البحر)) . 2 - قد ينوب عن المسند إليه جملة تُؤول بمصدر. مثل: ((وأن تصوموا خير لكم)) . أي: صيامكم خير لكم. ((أن تفعلوا الخير احبُّ إلى الله ةأرجى ثواباً عنده)) . أي: فعلكم الخير أحبُّ إلى الله. 3 - - الضمائر: هي اختصار يُكَنَّى بها، فتغني عن تكرار المسند إليه، وعن ذكر الاسم الظاهر. - أسماء الموصول: مبهمات يتوصّل بها إلى وصف المسند إليه بجماة كلامية. فَيُسْتَغْنى بذكر الوصف عن ذكر الاسم الخاص، للجهل به، أو لغرض بياني. - أسماء الإشارة: يشار بها إلى المسند إليه، فتقع في الكلام موقع اسمه. - قد يتوصل إلى المسند إليه بحرف الجرّ: مثل ((احتفل القوم بعالمهم)) . فعبارة"بعالمهم" مسنَدٌ إليه من رتبة المفعول به الأول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 (د) تابع تقسيمات الإِسناد النسبة بين المسند والمسند إليه مطلقة ومقيدة 1 - المطلقة هي التي لا تقترن بقيْدٍ يقيدها. مثل: ((الله موجود)) . ((الكون مخلوق)) . 2 - المقيدة - مقيدة بقيد الزمن الماضي المطلق: مثل: ((جاء سعيد)) . ((مات أهل القرون الأولى)) . المحدّد: مثل: ((جاء سعيد أَمْسِ)) . ((يجب الصوم في شهر رمضان)) . - مقيدة بقيد الزمن الحاضر مع التجدّد مثل: ((يسير القطار - الشمس تجري - السحاب يسير - الارض تدور)) . - مقيدة بقيد الزمن المستقبل المطلق مثل: ((سيبعث الله الموتى)) . ((لتعلمُنَّ نَبأَه بَعْد حين)) . المحدّد مثل: ((سيحضر الرئيس يوم الخميس القادم)) . - مقيدة بغير ذلك من القيود: كقيد المكان: مثل: ((زيد موجود في الدار)) . ((ينبت الشجر في الأرض)) . كقيد الحال: مثل: ((جاء الأمير راكباً)) . أي: حصل مجيئه وهو راكب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 (هـ) الأسماء التي لها الصدارة في الجملة توجد في اللّسان العربيّ أسماء لها الصدارة في الجملة العربية، فلا يصحّ أن يتقدّمَ عليها إلاّ جارٌّ لَهَا، أو مضاف إليها، أو حروف العطف، وهي: - أسماء الاستفهام مثل: ((كيف حالك)) . ((أين أبوك؟)) . ((متى يأتي موسم الحصاد؟)) . ((من أوّل من بنى الكعبة؟)) . ((حَتّى متى نَظَلَُ في حَالة الضعف؟)) . ((مَا لَوْنُها؟)) . ((لِمَ تقولون ما لا تفعلون؟)) . ((كَمْ سورةٍ حَفِظْتَ؟)) . - أسماء الإشارة مثل: ((من يعملْ خيراً يجزَ به)) . ((أينما تكونوا يدرككم الموت)) . ((حيثُما تَسْتَقِمْ يُقَدِّرْ لَكَ اللهٌ نجاحاً في غابر الأزمان)) . ((ما تفعلوا من خير يَعْلَمْهُ الله)) . - ((ما)) التعجبيّة مثل: ((ما أَحْسَنَ خَلْقَ الله!)) . ((ما أحْمَق مَنْ يتطاول على بارئه)) . - ((كم)) الخيريّة مثل: ((كمْ عَمَّةٍ لَكَ يَا جَرِيرٌ وخالَةٍ)) . ((كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ ِفَئًة كَثيرةً بإذْنِ الله)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 (10) تقسيم الجملة إلى خبريّة وإنشائية استقرّ رأي الحذَّاق من النحويّين وعلماء أصول الفقه وغيرهم، وعلماء البلاغة، على أنّ الكلام ينحصر في قسمين: "الخبر، والإِنشاء" وأنّه ليس له قسمٌ ثالث. وقيل استقرار الرأي على هذا التقسيم كان للباحثين في هذا الموضوع أقوال، فقيل: أقسامُ الكلام عشرة، وقيل: تسعة، وقيل: ستّة، وقيل: خمسة، وقيل: أربعة، وقيل ثلاثة، على اختلاف وجهات أنظار أصحاب هذه الأقوال. والدليل على انحصار الكلام المفيد في الخبر والإِنشاء، أنّ الكلام: * إمّا أن يحتمل لِذات الكلام لا لمقتضياتٍ أخرى - أن يُقالَ فيه هو مطابق للواقع أو غير مطابق للواقع، فهو الخبر. * وإمّا أن لا يحتمل أن يقال فيه ذلك باعتبار منطوقة، لا باعتبار دلالاته اللّزُوميّة، فهو إنشاء. فالجملة المفيدة تنقسم إلى قسمين: القسم الأوّل: الجملة الخبرية، وهي الجملة الّتي اشتملت على خَبَرٍ مَا، فَمَضْمُونُها إخبارٌ عن أَمْرٍ ما، إيجاباً أوْ سَلْباً. والقصدُ منها الإِعْلاَمُ بأنَّ الْحُكْمَ الّذي اشتملت عليه له واقعٌ خارجَ العبارة الكلاميّة مطابقٌ له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 القسم الثاني: الجملة الإِنشائيّة، وهي الجملة الّتي لم تشتملْ على خَبَرٍ، وإِنَّما أنشأَ النُّطْقُ بِهَا حدَثاً ما، كإنْشاءِ طَلَبِ الفعل، إذا قُلْتَ لابْنِك: اسْقِنِي، أو قُلْتَ لَهُ: اجْتَهِدْ، أو لا تَكْسَلْ، وكإنْشاء طلَب الْفَهم، إذا قلْتَ للفقيه: هلْ يجوز أن أفعل كذا؟ أو ما حكمُ كذا شرعاً. ونحو ذلك. فليس القصد من الجملة الإِنشائيّة الإِعلامَ بنسبةٍ حكميّةٍ تحقَّقَتْ أَوْ لم تتحقَّقْ في الواقع، وإنْ كان يلزم عقلاً منْ إيراد الجملة الإِنشائيّة فَهْمُ قضايا وجُمَلٍ خبريَّةٍ أُخْرَى لا تَدُلُّ عليها الجملة الإِنشائيّةُ بمنطُوقِها دَلالَةً مُبَاشِرة، بل تَدُلُّ عليها باللُّزوم الذهني. كدلالة الجملة الاستفهاميّة على أنَّ المستَفْهِمَ جاهلٌ يطلبُ الفهمَ، وكدلالة جملة التَّمَنِّي على أنّ من أنشأها يتمنّى في نفسه ما دَلّت عليه عبارَتُه، وكدلالة جملة المدح على أنّ المادح بها يُعَبِّرُ بصِدْقٍ عمّا في نفسه. إلى غير ذلك من دلالات خبريّة تُستفاد باللّزوم الذهني من الْجُمَلِ الإِنْشَائيّة. تعريف الخبر: الخبر: هو الكلام الذي يحتمل الصِّدْق والكذبَ، باعتبار كونه مجرّد كلامٍ، دون النظر إلى قائله، ودون النظر إلى كونه مقترناً بما يدُلُّ على إثباته حتماً، أو نَفْيهِ حتماً، ومَدْلُولُه لا يتوقّف على النُّطْق به، ويدخُلُ فيه الوعْدُ والوعيد، لأنهما خبران عمّا سيفعله صاحب الوعد والوَعِيد. مثل: طلَعتِ الشَّمْس - نَزَلَ الغيثُ - بعثَ الله محمّداً رسُولاً - سيأتي الدّجالُ في آخر الزمان - سينزل عيسَى ويَقْتُلُ الدّجال - سَنُلْقِي في قلوب الذين كفروا الرعب - وَعَدَ الله الذين آمنوا وعلموا الصالحات لَيسْتخلفنّهم في الأرض - والكافرون لهم عذابٌ أليم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 تعريف الإِنشاء: هوا لكلام الذي لا ينطبق عليه تعريف الخبر، ولدى تحليل حقيقته أقول: هو الكلام الذي يَتَوقَّفُ تحقُّقُ مدلوله على النُّطْقِ به، كالأمْرِ والنهي، والدّعاء، والاستفهام، والمدح والذّم، وإنشاء العقود الّتي يتمّ تحقُّقُها بالنُّطق بالْجُمَل الّتي تَدُلُّ عليها، مثل: بِعْتُك - اشتريتُ منك - زوَّجتُك - أنْتِ طالق - أعتقتُكَ. (11) هل التعجّب من الخبر أو من الإِنشاء؟ اختلفت العلماء في التعجب هل هو من أقسام الخبر أو من أقسام الإِنشاء، ورجّح الكثيرون أنّه من أقسام الخبر، لأنّه إخبارٌ عن حالة التَّعجُّب القائم في النفس. والقائلون بأنّه من أقسام الإِنشاء لاحظوا أنّه صيغةٌ كلاميَّةٌ يُطْلَبُ بها تعظيم الأمر في النفس السَّامع. وللعلماء في تعريف التعجّب أقوال: قال ابْنُ فارس: هو تفضيلُ شيءٍ على أضْرابه. وقال ابن الصائغ: هو استعظام صفةٍ خرج بها المتعجَّبُ منه عن نظائره. وقال الزمخشري: معنى التعجُّب تعظيم الأمر في قلوب السامعين، لأنّ التعجُّبَ لا يكونُ إلاَّ من شيءٍ خارجٍ عن نظائره وأشكاله. وقال الرّماني: المطلوبُ في التعجُّب الإِبْهام، لأنّ من شأن الناس أن يَتَعَجَّبُوا ممّا لا يُعْرَفُ سَبَبُهُ، فكلّمَا اسْتَبْهَمَ السَّبَبُ كان التَّعجُّبُ أحْسَنَ ... وأصْلُ التعجُّب إنّما هو للمعنَى الذي خَفِيَ سبَبُه، والصيغة الدّالة عليه تُسَمَّى تَعَجُّباً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 مجازاً ... ومن أجْلِ الإِبهام لم تَعْملْ "نِعْمَ" إلاَّ في الجنْسِ، من أجْلِ التفخيم، ليقَعَ التَّفْسِيرُ على نَحْوِ التَّفْخِيم بالإِضْمارِ قَبْلَ الذِّكر. والتعجُّبُ يكون بصِيَغٍ تَدُلُّ عليه من لفظ المتعجَّب منه، وبصِيَغٍ أُخْرَى منْ غير لفظه. فالصِّيَغُ الّتي يُتَعجَّبُ بهَا من لفظ المتعجّب منه تأتي على وِزانِ: "مَا أفْعَلَهُ" مِثْل: ما أَكْرَمه - ما أحْسَنَهُ - مَا أشجعَهُ. وعلى وِزان: "أَفْعِلْ به" مثل أَكْرِمْ به - أحْسِنْ به - أشْجِعْ به. ومنها: * قول الله عزّ وجلّ في سورة (مريم/ 19 مصحف/ 44 نزول) : {فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ * أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ... } [الأيات: 37 - 38] . أي: ما أشدَّ سَمْعَهُمْ وما أشدَّ بَصَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ. * قول الشاعر: مَا أَحْسَنَ الدِّينَ والدُّنْيَا إِذَا اجْتَمَعَا ... وأَقْبَحَ الْكُفْرَ والإِفْلاَسَ بِالرَّجُلِ * قولنا: ما أجمل الصّدق - أكْرِمْ بالعفيفِ الشريف. استخدام الاستفهام للتعجّب: وقد يُسْتَخْدَمُ الاستفهامُ للتَّعَجُّبِ، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الآية: 28] ؟! أي: كُفْرُكُمْ مع هذه الأدلة الداعِيَة إلى الإِيمان أَمْرٌ مستغربٌ يُنْشِىءُ التعجُّبَ مِنْهُ. استخدام عبارات مختلفات في التعجب: وتُسْتَخْدَم عباراتٌ أُخْرى في التعجّب، مثل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 "سُبْحَانَ الله - لله دَرُّ فلان - ما أَدْرَاكَ ماهِيَه". لفظة "كَبُر" مثل: * قول الله عزّ وجلّ في سورة (الكهف/ 18 مصحف/ 69 نزول) : {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} [الآية: 5] . * وقول الله عزّ وجل في سورة (الصف/ 61 مصحف/ 109 نزول) : {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الآية: 3] . وتُسْتَعْمَلُ في التعجُّب كلمةُ: "وَيْ" وهي كناية عن جُمْلَةٍ تعجُّبيَّة. وتُسْتَعْمَل أيضاً كلمة: "واهاً" في التعجُّب من طيب الشيء، فهي بمعنى: "ما أَطْيَبه". وتُسْتَعمل أيضاً كلمة: "هَيْتَ" في التعجب، تقول العرب: "هَيْتَ للْحلْم" و"هَِيْتَُِ لَكَ. عبارات التعجب الواردة في كلام الله: قال المحقّقون: إذا ورد التعجّبُ في كلام الله صُرِفَ إلى المخاطبين، ولهذا يُعَبِّر بعض العلماء بالتعجيب بدل التعجُّب، أي: هو تعجيب من الله للمخاطبين. * قول الله عزّ وجلّ بشأن أهل النار في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {أولائك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار} [الآية: 175] . أي: هؤلاء ينبَغِي أنْ تَتَعَجَّبُوا من شدّة صَبْرِهِمْ على عذاب النار. * وقول الله عزّ وجلّ السابق آنفاً: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38] . أي: تَعَجَّبُوا من شدّة سَمْعِهِمْ ومِنْ شِدَّةِ بَصَرِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 الفصل الثالث: الجملة الخبريّة وأحوالها (1) الصّادق والكاذب من الْخَبر والْمُخْبِر به لا بد من التفريق بين الْخَبَرِ والمخْبِرِ به، من جهة الصدق والكذب، لتنحلَّ إشكالات قد تُوجَّه للتعاريف وبعض النصوص. أولاً: الخَبَرُ الصّادِقُ: أو الْخَبَرُ الصِّدْقُ، هو ما كان من الكلام مطابقاً للواقع في حقيقةِ الأَمْرِ. ثانياً: والْخَبَرُ الكاذبُ، أو الْخَبَرُ الكَذِبُ، هو ما كان من الكلام غَيْرَ مطابقٍ للواقع في حقيقة الأَمْرِ. ثالثاً: أمّا الْمُخْبِرُ الصّادقُ فهو الْمُخْبِرُ بخَبَرٍ يدّعي أنّه صادقٌ فيه، وهو يَعْتَقِد أنّه حَقٌّ وصِدْقٌ، ولَوْ كان ما أَخْبَرَ به كذباً غَيْرَ مُطابِقٍ للواقع في حقيقة الأمْر. وحين يَنْفِي الحقَّ وهو يَعْتَقِد صحَّةَ ما يقولُ فإنَّه يُسَمَّى نافياً، وَلا يُسمَّى جاحداً للحق، إذ هو يقول ما يعتقد. رابعاً: وأمَّا الْمُخْبِرُ الكاذبُ فهو الْمُخْبِرُ بخبرٍ يدّعي أنّه صادقٌ فيه، وهو يَعْتَقِدُ أنّه باطلٌ وكَذِبٌ، ولو كان ما أَخْبَر بِهِ صدْقاً مطابقاً للواقع في حقيقة الأمْرِ، ونفيُهُ للحقِّ يُسمَّى جَحْداً وجُحُوداً، فالذي ينفي أمْراً وَهو يَرَى أنه أمرٌ ثابت هُوَ جاحد، ويقالُ له نافٍ بمقتضى الإِطلاق العام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 فالمنافق الذي يقولُ بلسانه: "مُحَمَّدٌ رسولُ الله" هو كاذبٌ في قوله، لأنّه يقولُ خلافَ ما يَعْتقِد، وكلامُهُ حَقٌّ وصدْقٌ، لأنّه مطابقٌ للواقع، وقد دلَّنا الله عزَّ وجلَّ على هذا التفريق في قوله في سورة (المنافقون/ 63 مصحف/ 104 نزول) : {إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} [الآية: 1] . وبهذا التفريق بين الخَبَر والمخبِرِ به تنحَلُّ إِشْكَالاَتٌ واعتراضاتٌ مُوَجَّهةٌ على التعاريف التي ذُكِرَتْ للصّدْقِ والكذب. وفي بيان أنّ النافيَ المستيقن من الأمر جاحِد قال الله عزَّ وجلَّ في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) : {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هاذا سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين} [الآيات: 13 - 14] . ووصف الله بالجحود الذين يُدْركون آيات الله ثم ينكرون دَلاَلاتِها الدامغات، ومن ذلك قوله تعالى في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) خطاباً لرسوله: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولاكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} [الآية: 33] . *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 (2) أغراض توجيه الخبر (1) الأصل في توجيه الكلام الذي يَتَضمَّن خبراً ما أن يكون الغرض منه الإِعلام بالخبر الذي دلَّ عليه الكلام، أي: إفادة المخاطب الحكْمَ الّذِي تضمَّنَتْهُ الجملةُ أو الْجُمَلُ الخبريَّة. ويُسمَّى هذا عند عُلماء البلاغة "فَائِدَةَ الْخَبَر". (2) وَقَدْ يُرادُ من توجيه الكلام الّذي يتضمَّنُ خبراً مَا، إعْلاَمَ المخاطَبِ بأنّ المتكلِّمَ عالمٌ بالحكْمِ الذي تضمَّنَتْهُ الجملةُ الخبريَّة، ولا بُدّ عندئذٍ من أن يكون المخاطَبُ عالماً به. ويسمَّى هذا عند علماء البلاغة "لاَزِمَ الفائدة". (3) وقد يُنزَّل العالم بالخبر منزلةَ الجاهل به لأنه لا يعمَلُ بمقتضى عِلْمِه. (4) وقد يراد من توجيه الخبر إعلانُ الفخر بما تضمّنَه الخبر، كقول الشاعر: أنَا الْقَائِدُ الْحَامِي الذِّمَارَ وإنَّما ... يُدافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِمْ أَنَا أَوْ مِثْلِي الذِّمارُ: ما تجب حمايته، كالأهل والعِرْض. الأحْسَاب: مَا يَعُدُّهُ المرءُ من مَناقبِ وشَرفِ الآباء. (5) وقد يرادُ منه المدح والثناء، مثل أن نقول: اللَّهُمّ أنْتَ خالق السماوات والأرض العليم القدير الحكيم الرحيم الغفار، ناصيتي بيدك، أنت قيّوم السماوات والأرض الذي لا تأخذه سنة ولا نوم. (6) وقد يُرادُ منه التحسُّرُ والتّأسّف، كقول الشاعر: ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ في أكْنَافِهِمْ ... وبَقِيتُ في خَلْفٍ كَجِلْدِ الأَجْرَبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 (7) وقد يُرادُ منه الاسترحامُ والاستعطاف، كقول الشاعر: رَبِّ إِنيّ لاَ أَسْتطِيعُ اصْطِبَاراً ... فَاعْفُ عَنِّي يَا مَنْ يُقِيلُ الْعِثَارَا (8) وقد يرادُ منه إظهارُ الضَّعْف، كقول الشاعر: قَدْ كُنْتَ عُدَّتِيَ الَّتِي أَسْطُو بِها ... وَيَدِي إذَا اشْتَدَّ الزَّمَانُ وسَاعِدِي (9) وقَدْ يُرادُ مِنْهُ التوبيخ، كجواب المؤمنين للمنافقين في موقفِ الحشر بَعْدَ أن يُضْرَبَ بيْنَ الفريقين بسورٍ له بابٌ، باطِنُهُ فيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهره مِنْ قِبَلِهِ العَذَاب، في الحوار بَيْنَهما الذي عرضَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ في سورة (الحديد/ 57 مصحف/ 94 نزول) : {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بلى ولاكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وارتبتم وَغرَّتْكُمُ الأماني حتى جَآءَ أَمْرُ الله وَغَرَّكُم بالله الغرور} [الآية: 14] . وكالمقالة الَّتي تُوجّه للذّين يكنزونَ الذّهَبَ والفِضَّه حين يُعَذّبُونَ بصَفَائِحِهَا الْمَحْمِيَّةِ في نار جَهَنَّمَ، إذْ يُقَالُ لَهُمْ كَمَا جَاءَ في سُورَةِ (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) : { ... هاذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [الآية: 35] . (10) وَقد يُراد منه إظهار الفرح، كقولِ أَهْلِ الجنَّةِ مظهرين الفرحَ من خلال ثنائِهِمْ عَلَى الله بمَا آتَاهُمْ مِنْ فَضله، كما جاء في سورة (الزمر/ 39 مصحف/ 59 نزول) : {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} [الآية: 74] . (11) وقد يراد منه الوعظ، بتحريك النّفسِ من مَحَاوِر مطامعها ومخاوفها، كاستعراض نعيم الجنَّةِ لاستثارة مطامع النفس، واستعراض عَذَاب النار لاستثارة مخاوف النفس، حتى تلتزم صراط التقوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 (12) وقد يُراد منه الشتيمة، كأن يُقَال للَّقِيط: أنْتَ وَلَدُ زِنَا. (13) وقد يُرادُ منه التذكير، كأن يُقَالَ عنْدَ المحتَضَر: أَشْهَدُ أنْ لا إله إلاَّ الله وأنّ محمداً رسول الله. (14) وقد يراد منه إعلامُ غير المخاطب، على طريقة: إيَّاكِ أخاطبُ واسْمَعي يا جَارَة. إلى غير ذلك من أغراض. *** (3) خروج الخبر عن أصل معناه للدلالة على الأمر والنهي والدّعاء قد يَخْرُج الخبر عن أصل المعنى الذي وُضِعَتْ له صِيَغُه، فَيُدَلُّ به على الأمر والنَّهْي والدُّعَاء. (1) فقد يُرَادُ من الخبر في الجملة الخبريّةِ الأمْرُ، ومِنْهُ: * قولُ الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {*والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة ... } [الآية: 233] . أي: ولْيُرْضِعِ الوالداتُ أَوْلاَدَهُنَّ. * وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) : {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَيُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ} [الآية: 71] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 أي: ليكُن المؤمنون والمؤمناتُ بعضُهم أولياءَ بعضٍ ... إلى آخر الآية. * وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء ... } [الآية: 228] . أي: ليتربَّصْنَ. أقول: والسبب في دلالة الجملة الخبرية على الأمر أحياناً بمساعدة القرائن، ليس من استخدام الصيغة الخبريّة في معنى الأمر، ولكنَّ هذه الدّلاَلة آتيةٌ من دلالة اللّزُومِ الفكري. فوصف الله المؤمنين بأنّ بعضَهُمْ أولياءُ بعْضٍ، وبأنهم يأمُرونَ بالمعروف وينهون عن المنكر، إلى آخر ما جاء في الآية، يدُلُّ باللُّزوم الفكريّ على أنّهم لا يَتَحَلَّون بهذه الصفاتِ إلاَّ بدافعٍ من إيمانِهِمْ وخوفهم من ربّهم، وحرصهم على طاعته فيما أمرهم به، ولو لم تكن هذه الصفاتُ ممّا أمَر الله به لمَا كانَتْ أثراً من آثار إيمانهم الصادق. ثم إنّ مثلَ هذه الصيغةِ الخبريَّةِ الواردة في الآية والمحفوفة بالقرائن، تدُلُّ على أنّ الأمْر بما جاء فيها من صفاتٍ للمؤمنين، قد كان أَمْراً بالغَ الشّدَةِ والْجَزْمِ، فلم يَكُنْ في وُسْعِ المؤمنين الصادقين إلاَّ الالتزامُ بطاعة اللهِ فيه. (2) وقد يُراد من الخبر في الجملة الخبريَّة النهيُ، ومنه: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج ... } [الآية: 197] . أي: فَمَنْ فَرَضَ فيهِنَّ الحجّ فَلاَ يَرْفُثْ ولاَ يَفْسُقْ ولا يُجَادِلْ في الحجّ. وأقول هنا نظير الذي قُلْتُه في دلالة الخبر على الأمر إذا حُفَّ بما يُخْرجه عن الخبريَّةِ من قرائن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 ورأَى ابْنُ العربي أنّ ما ذُكِرَ من خروج الخبر إلى النَّهْيِ غَيْرُ مقبول، لاحتمال حَمْلِ الكلام على معنى آخر غير ما ذكروا. فقال في قوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج ... } ليس نفياً لوجودِ الرَّفَثِ، بل هو نفيٌّ لمشروعيَّتِه، فإّن الرَّفث يوجَدُ من بعض الناس، وأخبارُ الله تعالى لا يجوزُ أن تقع بخلاف الواقع، وإنما يَرْجِعُ النفيُ إلى وُجوده مشروعاً، لا إلى وُجوده مَحْسُوساً، قال: وهذه هي الدفينة التي فاتت العلماء فقالوا: إنّ الخبر يكون بمعنى النهي، وما وُجد ذلك قطُّ، ولا يصحُّ أن يُوجَد، فإنَّهما مختلفات حقيقةً، ويتباينان وصفاً. أقول: ما ذكر ابْنُ العربيّ وجْهٌ يُمْكن أنْ يُقْصَد، لكن استعمالَ النَّفي بمعنى النَّهْي أمْرٌ متدَاولٌ بين الناس، ويدعو إليه عدّة دواعٍ بلاغيّة، منها التلطّفُ بالمخاطب. (3) وقد يراد من الخبر في الجملة الخبريّة الدعاء، وهذا كثير، منه: * قولنا: يَرْحَمُ اللهُ موتانا ويَغْفِرُ لهم. أي: اللهم ارحمهم واغفرْ لهم. وفي استخدام الخبر في الدّعاء معنى التفاؤُلِ باستجابة اللهِ الدعاء، وتحقُّقهِ في الواقع حتَّى يكون خبراً. * قولُ يوسف عليه السلام لأخوته فيما حكى الله في سورة (يوسف/ 12 مصحف/ 53 نزول) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 {قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين} [الآية: 92] . يَغْفُرُ اللهُ لَكُم: جملةٌ خَبَريَّةٌ أُرِيدَ منها الدُّعَاءُ لهم بأَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ. * وكان من دعاء الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه: "غَفَر اللهُ له" بأسلوب الخبر، والمعنى: اللهم اغفرْ له، وكان هذا الدّعاءُ مشعراً بقرب وفاة من دعَا الرَّسُولُ له به. *** (4) التأكيد وعدمه في الجملة الخبرية الإِخبار الابتدائي: الأصل في الجملة الخبريّة مُثْبتةً كانت أو مَنْفِيَّةً أنْ يؤتى بها خاليةً من المؤكّداتِ، حينَ لاَ يكونُ حالُ المخاطَب يَسْتَدْعِي تأكيدَ الخبر لَهُ، وذلك إِذا كان خالِيَ الذّهْنِ، ليْسَ في نفسِه ضِدَّ مُقَدِّم الخبرِ عواملُ شَكٍّ أو إحجامٍ عن قَبُولِ أخباره. ويَحْسُنُ في ابْتِدَاءِ الإِخْبار بِالْخَبرِ إيرادُهُ غيْرَ مُقْتَرِنٍ بأيَّةٍ مؤكِّداتٍ، ومن الأمثِلةِ قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ لرَسُولِهِ في أوَّلِ ما أنزل علَيْه من تنزيل في سورة (العلق/ 96 مصحف/ 1 نزول) : {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ * اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم * الذى عَلَّمَ بالقلم * عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} [الآيات: 1 - 5] . فالجملُ الخبريَّةُ في هذا النّصّ خاليةٌ مِنَ المؤكّداتِ، لعدم وجود الدّاعي إلَى اقترانِها بما يقتضي تأكيدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 الإِخيار الطّلَبي: وحين يكونُ لدى المخاطَبِ شَكٌّ في الخبر، أَوْ عواملُ شَكٍّ أوْ إحجامٍ عن قبول الخبر، فإنّ حالَه تكونُ حالَ طالب يسأل عن صحة الخبر، فيَحْسُن أن يُؤتَى لَهُ بالجملة الخبريَّةِ مُقْتَرِنَةً بمَا يُؤَكِّدُ صحَّةَ مَضْمُونِ الْخَبَر، ويؤتَى فيها بمقدارٍ من المؤكّدات يُلائِمُ نِسْبَةَ التَّشَكُّكِ لديه وعَوامِلِ الإِحْجَامِ عَنْ قبوله الخبر. فإذا كانَتْ عواملُ الشَّكّ والإِحجامِ غَيْرَ قويَّةٍ حَسُنَ في الْكَلاَمِ إيرادُهُ مقترناً ببعضِ المؤكّداتِ من درجَةٍ دُنْيَا. * وكلّما زاد الشَّكُّ وقويت عوامل رفضِ قبولِ الخبر، كان من بلاغة الكلام الخبريّ زيادَةُ المؤكّداتِ فيه، بمقدار حالة نَفْس الْمُخَاطَبِ. وقد يُنَزَّلُ غيرُ الشَّاكّ مَنْزِلَةَ الشّاكّ إذا بدَتْ علَيْه أماراتُ الشّكّ منذ بداية التلويح له بالخبر. الإِخبار الإِنكاري: * وحين يصِلُ المخاطب إلى حالة الإِنكار ورَفْض قبولِ الخبر، يكون من بلاغة الكلام الخبريّ وجوبُ اقتِرانِهِ بالمؤكداتِ التي تُلاَئم حالة الإِنكار والرَّفْضِ في نَفْس المخاطَبِ به ضعفاً وشدةً. وقد يُنَزَّلُ غيرُ الْمُنْكِرِ منزلةَ المنْكِرِ إذا بدت عليه أماراتُ الإِنْكار. أمثلة: المثال الأول: حذّر اللهُ عزَّ وجلَّ الّذين كفروا من أن يُنْزِلَ بهم الإِهْلاَكَ الشَّامِلَ الّذي أنزلَهُ بكُفُّارِ أَهْلِ الْقُرُون الأولى، مبيّناً لَهُمْ أَنَّهُ إنّما أهلكهم ضمْن مَجْرى سنَّتهِ الثَّابِتَةِ في معاملة عباده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 * فكانَ البيان الإِخباريُّ في أوّلِ الأمْرِ بأسْلوبِ التَّساؤلِ عن إهلاك المكذّبين الأوّلين، لانتزاعِ الاعتراف بحصول المستَفْهَمِ عنه، فقالَ الله عزَّ جلَّ في سورة (المرسلات/ 77 مصحف/ 33 نزول) : {أَلَمْ نُهْلِكِ الأولين} [الآية: 16] . فإهْلاكُ المكَذِّبينَ الأولينَ لرسُلِ رَبّهم قضِيَّةٌ مَعْرُوفَةٌ لدى الناس الموجَّهِ لهم هذا السؤال، لذلك اكتفى النّص في بدْءِ الأمر بتوجيه السؤال لهم عن إهلاك الأوّلين. * ثُمَّ جاء البيان الإِخباريُّ مقْتَرِناً بمؤكّدِ واحدٍ ابتدائيّ، فقال اللهُ عزَّ وجلَّ في سورة {ق/ 50 مصحف/ 34 نزول) : {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً ... } [الآية: 36] . أي: هُمْ أشَدُّ بطْشاً من كُفّارِ أهْل مكَّة، كان هَذَا في الرُّبْعِ الأوّل من العهد المكّيّ من نشأة الدّعوة المحمّديّة. فجاء في هذه الآية جَرٌّ تمييز "كم" الخبرية بحرف الجرّ "من" للتأكيد، مع أنّه يجوز مجيء هذا التمييز غير مجرور بمن. * ثُمَّ جاء البيان الإِخباريُّ حول الموضوع نفسه مقترناً بمؤكِّدَينِ اثْنَيْن، فقال الله عزَّ وجلَّ في سورة (ص/ 38 مصحف/ 38 نزول) : {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} [الآية: 3] . فأضيفت في الجملة كلمة "مِنْ" داخِلَةً عَلَى لفظ "قَبْلِهِمْ" مَعَ جرّ تمييز "كم" بحرف الجرّ "من" فهذه الزيادةُ في اللفظ قد جاءتْ لزيادَةِ التَّأْكيد على ما جاء في سورة (قَ) . * ثم جاء البيان الإِخباريُّ حول الموضوع نَفْسِه مقترناً بتأكيد زائدٍ على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 النَّصَيْنِ السَّابقين، فقال اللهُ عزَّ وجلَّ في سورة (يونس/ 10 مصحف/ 51 نزول) : {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ ... } [الآية: 13] . فجاء الخبر في هذه الجملة مؤكّداً بثلاثة مؤكّدات: (1) لام الابتداء في "لَقَدْ". (2) حرف "قد" الذي من معانيه التحقيق، ويؤتَى به للتأكيد. (3) إدخال حرف "مِن" على لفظ "قَبْلهم" مع أنّ الكلام يتمّ بدونها. المثال الثاني: في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول) قصّ الله عزَّ وجلَّ قصّةَ الرُّسُل الثّلاَثَةِ الّذِينَ أرسَلهم إلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ يُقالُ: إنَّها إنطاكيّة، وَيقالُ: إنّ الرُّسُلَ الثّلاثَةَ هُمْ مِنَ الرُّسُلِ السَّبْعِينَ الَّذين أَرْسَلَهُمْ عيَسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ إلَى الأقاليم، لِنشْرِ دينِ الله في الأرْض. فقال الله عزَّ وجلَّ فيها: {واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية إِذْ جَآءَهَا المرسلون * إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثنين فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فقالوا إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ * قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرحمان مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ * قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ البلاغ المبين} [يس: 13 - 17] . * ففي ابتداءِ الأَمْرِ عَرَضَ الرَّسُولاَنِ عَلَى أصحاب هذِه الْقَرْيَةِ أنَّهمَا رسُولاَنِ يُبَلِّغَانِ تعاليم الدين، فكان بيانهما من قبيل الإِخبار الابتدائي غَيْرِ المقرون بمؤكّداتِ لفظيّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 * فلمّا كذَّبَهُما القومُ عزَّزَهُما اللهُ برسولٍ ثالثٍ، وقالُوا لهم: {إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ} فجاء الإِخبارُ مؤكِّداً تأكيداً متوسطاً، لأنّ إنكار القومِ كانَ في بدايته. والتأكيدُ في هذِهِ الجملة الخبريّةِ قد جاء بحرف التأكيد "إنّ" ويمكنُ أن نفهم من تقديم [إليكم] على عامله [مُرْسَلُون] تأكيداً آخر، لأنّ فيه معنى القصر، أو زيادةَ الاهتمام، وكلاهُمَا يفيد تأكيداً، والمؤكد الثالث كون الجملة جُملةً اسميّة. * ولمّا أصرّ القومُ علَى تكذيب الرّسُل الثلاثة، زاد الرُّسُل جملتهم الخبريّة تأكيداً، فقالوا: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} . والمؤكدات في هذه الجملة هي: (1) {رَبُّنَا يَعْلَمُ} فهذه العبارة بمثابة القسم. (2) "إنّ" وهو حرف تأكيد. (3) اللاّم المزحلقة للخبر في عبارة {لَمُرْسَلُونَ} . (4) كون الجملة جملةً اسميّة. مخالفة مقتضى الظاهر: إذا أوردنا الخبر لخالي الذّهْنِ مجرّداً من المؤكدات، وللمتردّد الشاكّ مقروناً ببعض المؤكّدات استحساناً، وللمنكِر مقروناً بالمؤكدات بحسب درجة إنكاره وجوباً بلاغيّاً، كان إيرادُنا الخبر جارياً على مقتضى الظاهر، وهذا يُسمَّى "إخراج الكلام على مقتضى الظاهر". وقد تقتضي حالةُ المخاطب الخفيَّة غيرُ الظاهرة تأكيد الخبر له، مع أنّ توجيه الخبر له كان بصورة ابتدائيّة لا تستدعي بحسب الظاهر تأكيد الخبر له، فحين نُؤكِّدُ له الخبر ملاحظين حالته الخفية، فإنّا نُوجّه له الخبر مؤكَّداً على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 خلاف مقتضى الظاهر، وهذا يُسمَّى: "إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر". ولإخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر عدّة صور: الصورة الأولى: أن يُنَزَّل خالي الذهن منزلة المتردّد السائل الذي يَطْلُبُ تأكيد الخبر له، وذلك إذا شَعَرَ من مقدّمات الكلام بما يُشير إلى مضمون الخبر، فاستشرفت نفسه وتتطلَّعَتْ تطلُّع المستغرب المتردّد في قبول الخبر، أو الطالب لما يُؤكّده له. * فمن أمثلة هذه الصورة قول الله عزّ وجلّ بشأن نوحٍ عليه السلام، في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) : {وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ * واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} [الآيات: 36 - 37] . من الظاهر أنّ مُقدّماتِ الكلام تُشْعِرُ بأنّ الله عزّ وجلّ قضى أنْ يُغْرِقَ مَنْ لمْ يؤمنْ مع نوحٍ مِنْ قومه، إذ الإِخبارُ بأنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِهِ إلاَّ من قدْ آمن، والأَمْرُ بصناعةٍ الْفُلك الَّتي لا تتّسع إلاَّ لِلمُؤمنين ولما يحتاجون في رحلتهم البحريّة، يدلُّ علَى أنّ سائر القوم مُغرقون، فاستشرفَتْ نفس نوح عليه السَّلام لطلَب تَأخيرِ إهْلاكهم إمهالاً، أوْ صَرْفِ النظر عن إهلاكهم أهْلاكاً عامّاً شاملاً، فبادره الله عزّ وجلّ بقوله: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا} . وَأكَّدَ لَهُ مَا قَضَاهُ سبحانه من إهلاَكِهِمُ بالْغَرق، فقال له: {إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} . فاشتملت هذه الجملة على مؤكّدين: "إنّ" و"الجملة الاسمّية". * ومن الأمثلة قول الله عزّ وجلّ لرسوله في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) بشأن الّذِين اعترفوا بذنوبهم خَلَطوا عمَلاً صالحاً وآخر سيّئاً: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الآية: 103] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وصَلِّ عَلَيْهِمْ: أي: وادْعُ لهم بالرّحْمَة، مُسْمِعاً دُعَاءَكَ لهم. بعْدَ هذا الأمر للرسول بأن يُصَلّي عليهم، استشرفَتْ نفس الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للسؤال عن فائدة هذِهِ الصَّلاة الَّتي يُسْمِعُهُمْ إيّاها، فقال الله له مؤكِّداً: {إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ} . فاشتَمَلَتْ هذه الجملة على مؤكّدين: "إنّ" و"الجملة الاسميّة". * ومن الأمثلة قول بشار بن بُرْد: بَكِّرَا صَاحِبَيَّ قَبْلَ الْهَجِيرِ ... إنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ الْهَجِيرُ: نصف النهار في القيظ عنْد شِدَّةِ الحرّ. لمّا قدَّم الأمر بالتبكير كانت نفس المخاطب مستشرفَةً للسؤال عن السَّبب، طالبةً تأكيد مضمون الجملة التعليليّةِ التي تجيب على سؤالٍ يُلاحَظُ ذهنا، فقال: "إنّ ذَاكَ النجاحَ في التكبير". فأكَّد بمؤكِّدَيْنِ: "إنّ" و"الجملة الاسمية". ونظيره قول بعض العرب يستحثّ على حُدَاءِ إبله لتُسْرعَ في السّير: فَغَنِّهَا وَهْيَ لَكَ الْفِدَاءُ ... إِنَّ غِنَاءَ الإِبِلِ الْحُدَاءُ الصورة الثانية: إنْ يُنزَّلَ مَنْ لا يُنْكِرُ ما سَيُقَدَّمُ لَهُ مِنْ خَبَرٍ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنكرُهُ، إذا ظهرت عليه بعْضُ أماراتِ الإِنْكار في داخل نفسه. * فَمن الأمثلة التي ذكرها البلاغيون لهذه الصورة، قول "حجل بن نضلة القيسيّ" بشأن ابْنِ عَمِّهِ "شقيق": جَاءَ شَقِيقٌ عَارِضاً رُمْحَهُ ... إِنَّ بَنِي عَمِّكَ فِيهِمْ رِماحٌ مجيء "شقيقِ" واضعاً رُمْحَهُ عَرْضاً يُشْعِرُ بأنَّهُ يُنَافِسُ بشجاعَتِهِ وسلاحه، فكأنّه يُنْكِرُ أَنّ أبناء عَمِّه لديهم أسلحة وأنَّهُمْ شجعان، فاقتضَى حالُهُ تأكيد الْخَبَر الْمُوَجّه له، فقالَ له ابْنُ عَمِّهِ مؤكّداً: "إنَّ بَني عَمِّكَ فِيهِمْ رِمَاحٌ". فيهم رماح: أي: في حوزتِهم وفي ملكهم رماحٌ كثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 الصورة الثالثة: أَنْ يُنَزّلَ المنكِرُ منزلةَ غَيْرِ المنكر، فَلاَ يُعْتَدَّ بإنكاره ولا يُلْتَفَتَ إليه، وذلك إذا كان لديه من الأدلّة الواضحة والبراهين القاطعة، ما يكفي لإِقناعِ أهل الفكر المنصفين الذين يَنْشُدُون الحقّ. * فمن الأمثلة على هَذِه الصورة، أن يأتي واحدٌ من صغار الملاكمينَ فيَتَطَاوَلَ على شخْصٍ لا يَعْرفُه بذاته، ولكن يعرف اسْم الْبَطل العالمي للملاكَمَة، فَيَتَحَدَّى هذا الملاكمُ الصَّغِيرُ هَذا الشخْص، فيقُولُ له: "أَنَا فُلان" دون أن يؤكّد كلامه بأيَّةِ مؤكّدات، عندئذٍ يَنْخَلِع قلْب الملاكم المتحدّي ويَنْهَزِم. الصورة الرابعة: أنْ يُنَزَّلَ العالِمُ بفائدةِ الخبر وبلازم فائدتِهِ منزلة الجاهل بالخبر، وذَلِكَ لأَنَّهُ غَيْرُ عَامِلِ بمقْتَضَى عِلْمِهِ، فَيُقَدَّمُ له الْخَبَرُ كَما يُقَدَّمُ للجاهلين به. * فمن الأمثلة على هذه الصورة المواعظُ الَّتِي تُقَدَّمُ على ألْسِنَةِ الوعاظ للعاملينَ بِهَا، تنزيلاً لهم منزلة الجاهلين بها، لأَنَّهم لا يعملون بمقتضى ما يَعْمَلون. ويُسمَّى هذا تذكيراً، أوْ تَنْبِيهاً للمخاطَبِينَ من غفلاتهم. *** (5) مؤكّداتُ الجملةِ الخبريةِ التوكيد: التوكيد في اللّغة: أصْلُهُ شدُّ السَّرْجِ على ظهر الدابَّةِ بالسُّيُور حتّى لا يسقط، وتسمّى هذه السُّيُور تواكيد وتآكيد. ثم استعمل التوكيد في توثيق العهود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 ومن هذا المعنى اللُّغوي أُخِذَ لِتَقْوِيةِ صِدْقِ الكلام الخبريّ بما يؤكّده من ألفاظٍ اسْمُ "التوكيد". والغرضُ من توكيد المتكلّم كلامَهُ، إعْلاَمُ المخاطَبِ بأَنّه يقول كلامه جازماً، قاصداً لما يَدُلُّ عليه كلامُهُ، مُتَثَبِّتاً مِنْه، لا يقولُه عن تَوَهُّمِ أَوْ ثَرْثَرَةٍ ِأوْ تَضْلِيلٍ أو اختراعٍ أو نحو ذلك، كما يفْعَلُ صَانِعُو القِصَصِ باستعمالِ قُدْرَاتهم التخيُّليّة في تأليف قصصهم المخترعة. والتوكيد في الجمل إنَّما يكون للإِسناد "أي: الحكم" فيها، موجبةً كانت أو سالبة. مؤكّداتُ الإِسناد الخبريّ: لكلٍّ من الجملة الفعليّة والجملة الاسميّة موجبةً كانت أَوْ سالبةً مؤكّداتٌ تُؤكِّدُ إرادَةَ صِحّةِ وصِدْقِ الإِسناد فيها، أو تُؤكِدُّ تَحقُّقَ صِدْقِ الإِسْنادِ فيها موجباً كان أو سالباً. والأصل في بناء الجملة في اللّسان العربيّ الجملةُ الفعليّة، خاليةً ممّا يدُلُّ على إرادة تأكيد النسبة فيها، مثل: "اقتربت السّاعة - وانشقّ القمر - وأهلك اللهُ المكذبين الأوّلين - ولا تخفى عَلى اللهِ خافية - وما انتصر أولياءُ الشيطان عَلى أولياء الرحمن". ويؤكَّد الإِسنادُ في الجملة الخبريَّة بمؤكدات، قد ينفرد بعضُها، وقد يجتمع مع غيره بشروط، ويختص بعضها بالجملة الفعلية، وبعضها يختصّ بالجملة الاسمية، وبعضُها يؤكَّدُ به الجملتان الفعلية والاسمية. وفيما يلي بيانٌ لما تمَّ إحصاؤُه منها: * المؤكّد الأول: تقديم ما هو فاعل في المعنى على فعله، مثل: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67] {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [المائدة: 108] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وسبب إفادة هذا التقديم التأكيد، أنّ الْمُسْنَدَ إليه وهو الفاعلُ قد أُسْنِد إليه الفعلُ مَرَّتين. الأولى: تظهر حينما نقول في نحو: "خالدٌ جاهَدَ في اللهِ حقّ جهاده" خالدٌ: مبتدأ، وخبرُهُ جملة: "جَاهَدَ ... ". والثانية: تظهر حينما نقول: "جاهَدَ" فعل ماضٍ، وفاعله ضمير مستتر يعود على "خالد". فالجهادُ أُسْنِدَ إلى لفظ "خالدٍ" أوّلاً، وأُسند إلى ضميره ثانياً، واجتماع هذَيْنِ الإِسْنَادَينِ في الجملة هو بمثابة تكرير الجملة. وتقديم ما هو فاعل في المعنى على فعله يجعل الجملة جملةً اسمية. * المؤكّد الثاني: اختيار الجملة الاسمية بدل الجملة الفعليّة ابتداءً، والسَّبَبُ في كون الجملة الاسمية تحمل تأكيداً لا تحمله الجملة الفعليّة، أنّ خبر الجملة الاسميّة يحمل في التقدير الذي يُلاحَظُ في ذهن العربيّ ضميراً يعودُ على المبتدأ، أوْ ما أصْلُه المبتدأ، فيكون حالُ الجملة الاسميّةِ دواماً مثل حال تقديم ما هو فاعل في المعنى على فعله، قد جرَى فيها الإِسنادُ إلى المسنَدِ إليه مرّتين: الأولى: إسنادُه إلى الاسم الظاهر. الثانية: إسنادُه إلى ضميره. * المؤكّد الثالث: كلمة "قَدْ الحرفية، وتختصُّ بالدّخول على الفعل المتصّرف الخبريّ المثبَتِ المجرّدِ من ناصِبٍ وجازم، ومِنْ حرف تنفيس، وتكونُ معه كالجزء منه، فلا تُفصل عنْهُ إلاّ بالْقَسَمِ أحياناً. ولكلمة "قد" الحرفية خمسةُ معانٍ، هي: التوقُّعُ، وتقريبُ الماضي من الحال، والتقليل، والتكثير، والتحقيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 هذا المعنى الأخير وهو التحقيق هو المقصودُ هُنا، مثل: * {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [الشمس: 9] أي: نُؤَكّدُ إثْباتَ فلاح مَنْ زَكَّى نفسه. * {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ} [ق: 4] أي: نُؤكّد تحقُّقَ هذا الْعِلْم. * {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ} [الأنعام: 33] أي: نُؤَكِّدُ تَحَقُّقَ حُصولِ عِلْمنَا بكلّ مَا يحْزُنُكَ حِيناً بعد حينٍ ممَّا يقولُ الكافرون. * {قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً} [النور: 63] أي: نُؤكّد تحقُّقَ حصول هذا العلم. * المؤكّد الرابع: الْقَسَم، مثل: * والله لَفَعَلْتُ - والضحى واللّيل إذا سَجَى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وما قَلَى - أُقْسِمُ لأَفْعَلَنَّ، بالنون الخفيفة أو الثقيلة - أَحْلِفُ بالله لَفَعَلْتُ أَوْ لأَفْعَلَنَّ بالنون الخفيفة أو الثقيلة. وقد يجتمع الْقَسَمُ وحرف "قد" مثل: {والتين والزيتون * وَطُورِ سِينِينَ * وهاذا البلد الأمين * لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 1 - 4] . * المؤكّد الخامس: نونا التوكيد الثقيلة والخفيفة، ويؤكِّدان الفعلَ المضارع، ويؤكدان فِعْلَ الأَمرِ، مثل: * {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ} [الحج: 40] . * {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن الصاغرين} [يوسف: 32] النون في "لَيُسْجَنَنَّ" هي نون التوكيد الثقيلة، وفي "لَيَكُوناً" هي نون التوكيد الخفيفة. * المؤكّد السّادس: لاَمُ الابتداء، وهي التي تقع في صدر الجملة، وتُفِيد توكيد مضمون الجملة، وتخليص المضارع للحال، ولا تدخُل إلاّ على: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 (1) الاسم، مثل: {لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ الله} [الحشر: 13] . (2) الفعل المضارع، مثل: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ} [المائدة: 82] . (3) الفعل الذي لا تصرَّف، مثل: * {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [المائدة: 62] . * {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ} [المائدة: 80] . * {وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين} [النحل: 30] . * {فَلَنِعْمَ المجيبون} [الصافات: 75] . * المؤكد السابع: اللاّم المزحْلَقَة، وهي لام الابْتداء حينما تُزحْلَقُ عن صَدْرِ الجملة. وهِيَ تُزَحْلَقُ بَعْد "إنَّ" المكسورة عن صدر الجملة، فتدخُلُ علَى الخبر، مثل: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعآء} [إبراهيم: 39] . وتدخُل على معمول الخبر إِذا كان صالحاً لدخول اللاّم عليه، مثل: إنَّ اللهَ لَكُلَّ شَيْءٍ يَعْلَمُ. وتَدْخُلُ على اسم "إنَّ" إذا كان مُتأخّراً عن خبرها، مثل: {إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً} [النور: 44] . وتَدْخل على ضمير الفصل، مثل: {إِنَّ هاذا لَهُوَ القصص الحق} [آل عمران: 62] . * المؤكّد الثامن: "إنّ" و"أَنَّ" بكسر الهمزة وفتحها، وهما من الأحرف المشبّهة بالفعل، لأنَّها تَعْمَلُ فيما بَعْدَها شبيه عَمَل الْفِعل فيما بَعْدَه، وتدخلان على الْجُمَلِ الاسميّة. وكُلٌّ منْهما ينْصِب المبتدأَ الذي لا يَلْزَمُ الصدارة دائماً، ويُسَمَّى اسْمَها، وَيَرفَعُ الْخَبَرَ غَيْرَ الطَّلَبيّ والإِنْشائي، ويُسَمَّى خَبَرَها. وتفيدان تأكيد النّسبة بيْنَ اسْمِها وخبرها، مثل: * {*إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا} [الحج: 38] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 * {إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15] . * {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} [الشعراء: 191] . * {ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق وَأَنَّهُ يُحْيِي الموتى وَأَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج: 6] . * المؤكد التاسع: "إنْ" المخفّفة مِنَ الثقيلة، وتَدْخُلُ على الجملَتَيْنِ الفعليّةِ والاسميّة، مثل: * {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32] . * {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله} [البقرة: 143] . * {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} [الإِسراء: 73] * المؤكّد العاشر: ضمير الفصل، وهو الضمير الذي لا محلّ له من الإِعراب، ويقع فصلاً بين المبتدأ والخبر، أو بين ما أصله مبتدأ وخبر، مثل: * {إِن كَانَ هاذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} [الأنفال: 32] . * {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117] . * {وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين} [القصص: 58] . {إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً} [الكهف: 39] . وضمائر الفصل تُفِيد التأكيد وتفيد الاختصاص أيضاً. * المؤكد الحادي عشر: "إنّما" و"أنَّما" أصْلهما "إنّ" و"أَنَّ" ضُمَّت إليهما "ما" الزائدة للتأكيد، فكفَّتْهما عن العمل، وهيّأَتْهُما للدّخول على الجُمَل الفعليّة، فهما يدخلان على الجملتين الاسميّة والفعلية، ويضَمِّ "ما" إليهما اجتمع في لفظيهما مؤكدان، إذْ أصلُهُما يُفيد التأكيد، وزاد التأكيد بضمّ "ما" إليهما، مثل: * {قَالَ إِنَّمَا العلم عِندَ الله} [الأحقاف: 23] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 * {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} [الذاريات: 5] . * {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ} [ص: 65] . * {إِن يوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [ص: 70] . * المؤكد الثاني عشر: كلمة "أَمَّا" الشرطيّة، وهي حرف شرطٍ وتفصيل وتوكيد. أمّا كونُها شرطيّة فيدلُّ عليه لزومُ الفاء بعدها. وأمّا كونُها تفصيليّة فهو الغالبُ من أحوالها، وأمّا كونُها مؤكّدة، فقد قال الزمخشري بشأنها كما ذكر ابن هشام: فائدةُ "أمّا" في الكلام أنْ تُعْطِيَهُ فضل توكيد، تقول: زيد ذاهب، فإذا قصدتَ توكيد ذلك وأنّه لا محالة ذاهبٌ، وأنّه بصَدَدِ الذهاب، وأَنّه عزيمة، قُلْتَ: أمّا زيدٌ فذاهبٌ. ويأتي بعدها المبتدأ، أو الخبر، أو جملة شرط، أو اسم منصوبٌ بالجواب. ومن الأمثلة قول الله تعالى في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ الله بهاذا مَثَلاً ... } [الآية: 26] . * المؤكّد الثالث عشر: أدوَات التنبيه، ومنها "ألا" التي تردُ للتنبيه في فاتحة الكلام، وتدخُل على الجملتين الاسميّة والفعليّة، مثل: * {ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] . * {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} [هود: 8] . وقول لبيد: ألا كلّ شيء ما خَلاَ باطل ... وكلُّ نعيمٍ لا مَحَالَةَ زَائلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 ومنها "أما" الاستفتاحية، والتي تأتي بمعنى "حقاً" كقولِ أبي صَخْرٍ الْهُذَلي: أَمَا وَالَّذِي أَبْكى وَأَضْحَكَ والَّذِي ... أَمَاتَ وأَحْيَا والَّذِي أَمْرُهُ الأَمْرُ * المؤكد الرابع عشر: تكرير النفي، مثل قول الشاعر: لاَ. لاَ أَبُوحُ بحُبّ بَثْنَةَ إِنَّهَا ... أَخَذَتْ عَلَيَّ مَواثِقاً وَعُهُوداً * المؤكد الخامس عشر: الأحرف التي تُضاف في الكلام، وتُسَمَّى "زائدة" ويدخل فيها كلُّ حرفٍ إذا حُذِفَ لم ينقص شيءٌ من المعنى المراد، فإيجاده في الكلام يكون لغرض التوكيد، ومنها: * "مَا: بعد "إذا"، مثل: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ} [التوبة: 127] . * "مِنْ" الجارة، مثل: {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأسآء والضرآء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف: 94] . و {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس: 3] . * "الباء" الجارة، مثل: {وكفى بالله شَهِيداً} [النساء: 79] . و {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} [البقرة: 195] . و {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] . * المؤكد السادس عشر: السينُ وسوف الداخلتان على فعل دالٍّ على وَعْدٍ أو وَعيد، مثل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 * {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلان} [الرحمن: 31] . * {وَسَيَجْزِي الله الشاكرين} [آل عمران: 144] . * {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} [آل عمران: 151] . * {وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 146] . * {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً} [النساء: 56] . * المؤكد السابع عشر: "لَكِنَّ" وهي حرف ينصب الاسم ويرفع الخبر، قال ابن عصفور هي للتوكيد، ويصحَبُ التوكيد معنَى الاستدراك. وقيل: للاستدراك فقط، وقيل تَرِدُ تارةً للاستدراك وتارة للتوكيد، مثل: * {ولاكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين} [البقرة: 251] . * {ولاكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] . وقول الشاعر الحماسي: لَكِنَّ قَوْمي وَإِنْ كَانُوا ذَوِي عَدَدٍ ... لَيْسُوا مِنَ الشَّرِّ فِي شَيْءٍ وَإِنْ هَانَا * المؤكد الثامن عشر: "لَنْ" قال علماؤنا: وَلاَ تفِيدُ تَوْكيدَ النَّفْي وَلاَ تَأْبِيدَهُ خلافاً للزمَخْشَرِي. أقول: أمّا التَّأْبِيدُ فلا تُفِيدُه حَتْماً، وأَمَّا التوكيد فالظاهر أَنَّها تُفيدُه، لأَِنّ لفظ "لَنْ" زائدٌ على لفظ "لا" النافية، والزيادة في لسانِ العرب إنّما تكونُ غالباً لزيادة المعنى، وظاهر أنّ لفظ "لَنْ" مُشابِهٌ للفظ "لا" بزيادة نون ساكنٍ في آخرِه لزم من وجوده حذف الألف، لأنه ساكنٌ مَدّيٌّ ليّن، والنافي ابتداءً يقول: لا أفْعَلُ، فإذا ألَحَّ عليه طالبُ الفعل قال: لَنْ أفْعَلَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 (6) تقسيم الإِسناد في الجملة إلى حقيقي ومجازي (وهو المجاز العقلي) الإِسناد الحقيقي: إذا جعَلَ المتكلّمُ الإِسنادَ في جُمْلَتِهِ مبنيّاً على ما يعتقد أنّه هو له في الواقع فإسناده إسناد حقيقيٌّ لا مجاز فيه. أمثلة: * كقول المؤمن المسلم: الله خالق كل شيء - وهو الذي يُنْبت الزّرع - وَيُدِرُّ الضَّرْعَ - ويُحْيِي ويُميت. * وكقول النصراني: أحْيا عِيسَى الأموات - وخَلَقَ الطيورَ. فإنّه يعتقد أن عيسى هو فاعل هذا الإِحياء والخلْقِ باعتباره كما يعتقد أنّه أحد الأقانيم الثلاثة التي يتكَوَّنُ مِنها الله "الأقانيم: هي في اعتقاد النصارى أشخاصٌ متفاصلة مع أنّها إلَه واحد". * وقول المشرك الوثني الذي لا يُلاحظُ أفعال الله فيما يجري في الكون من أحداثٍ ذواتِ أسباب، بل يرى الأسبابَ ذوات فِعْلٍ حقيقيّ في مُسَبَّباتها: أنبتَ مَطَرُ السماء الزرعَ في الأرض - أنزلَ نَوْءُ كذا المطر - أشْعَلَتِ الرّيَاح السَّمومُ النار في الغابة فأحرقتها. * وكقولك لفلاّح رأيتَهُ قد قام بأعماله بيديه: حَفَر بِئْرَهُ - وحَرَثَ أرْضَهُ - وغَرَسَ شَجَرَه. الإِسْنادُ المجازيّ: وإذا جَعَلَ المتكلّم الإِسنادَ في جملتهِ مبنيَّاً على غَيْرِ ما يَعْتَقِد أنّه هو لَهُ في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 الواقع، مُلاَحِظاً علاقَةً ما أو مُلاَبسَةً ما تَسْمَحُ لَهُ بأنْ يُسْنِدَ هذا الإِسناد، دون أَنْ يتَّهِمَهُ أحَدُ بالكذِب، فهو إسنادٌ مجازيٌّ، ويُسمَّى هذا "مجازاً عقليّاً" لأنّه وقَعَ في الإِسناد، لا في الْمُسْنَدِ، ولا في الْمُسنَدِ إليه. ويُلْحَقُ به كلُّ وَصْفٍ "صفة أو حال" إذا بنيت منه ومن الموصوف جملة مفيدة كان الإِسناد فيها إسناداً مجازيّاً، كما سيأتي في الأمثلة. الأمثلة: * كقولنا: "رَبِحَتْ تِجَارَةُ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه" ففي هذه الجملة أُسْنِدَ الرّبْحُ إلى التجارة، مع أنّ الرابحَ هو صاحبُها: "عبد الرحمن بن عوف". وحين أسندنا الربح إلى التجارة لم نكن نعتقد أنّ التجارة هي التي ربحت، وإنّما الذي ربح هو صاحبها، ولكنْ أرَدْنَا أنْ نُعَبِّر تعبيراً مجازيّاً قائماً على ملاحظة أثَرِ الحركة التجاريّة الحكيمة الذّكيّة التي قام بها عبد الرحمن والّتي حقَّقَ بها الرّبْح، فصحَّ في تصوُّرنا أن نُسْنِدَ الرّبْحَ إلى التجارة نَفْسِها، للإِشْعَارِ بقيمة المهارة التي اشتملت عليها تجارته. وبما أنّ التجارة هي عَمَلُ عبد الرحمن فبينها وبينه مُلابَسَةٌ قويَّةٌ، وعلاقَةٌ واضحةٌ، هي علاقة العامل بعمله، أو نقول: هي علاقة الفاعل "وهو عبد الرحمن" بالمفعول به "وهي التجارة" إذ كان المفعول به سبباً في تحقيق الربح لعبد الرحمن "الفاعل". * وكقولنا: "قَتَلَتِ الْمُتَهَوِّرَ حَمَاقَتُهُ" مع أنَّهُ قَدْ قُتْلَ بِيَدِ خصومه الّذين نازلهم في تهوُّرِه بدون أن يحسب حساباً للنتائج. ففي هذه الجملة قد أسندنا القتل إلى الحماقة، فجعلناها هي القاتلة، مع أنّ القاتل هو البطل الخصم الذي نازله، وهو غير كفءٍ لمنازلَتهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ولكنْ أردنا أنْ نُعَبِّر تعبيراً مجازيّاً قائماً على ملاحظة أثر الحماقَةِ الّتي دفعت المتهور، فجعلَتْه قتيلاً بيَد قاتله البطل، فصحَّ في تصوُّرنا أن نُسْنِدَ الْقَتْلَ إلى الْحَمَاقة، للإِشعار بكونها سبباً في قتله، مع الاختصار في العبارة، وأصل الكلام: قتَلَ البطَلُ مُنَازِلَهُ الّذي تهوَّر بسبب حماقته التي دفعته إلى منازلة البطل، وهو غير كُفْءٍ لمنازلته. ونظير هذا أن نقول: قطَعَتِ السّرقةُ يَدَ السَّارق، إذْ نُسْنِد القطع إلى السّرقة، مع أنّ الّذِي قطع يد السَّارق مُنَفِّذُ حُكْمِ حدّ السّرقة. أحوال المسند في الجملة المشتملة على مجازٍ عقلي: الْمُسْنَدُ في الجملَةِ المشتملة على مجازٍ عَقْلِيٍّ قد يكون واحداً مما يلي: * قد يكون فعلاً مَاضياً، أو فعلاً مضارعاً، أو فعل أمر، مثل: "بَنَى الأمير المدينة - يبني الأمير المدينة - يا هامانُ ابْنِ لي صَرْحاً". * وقد يكون غَيْرَ فِعْلِ، لكنَّهُ في معنى الفعل، وهو ستة أنواع، هي: "1- المصدر 2- اسم الفعل 3- اسم المعفول 4- الصفة المشبّهة 5- اسم التفضيل 6- الظرف والجار والمجرور". الأمثلة: أوّلاً - من المصدر: * قولنا: "دوامُ الدولَةِ عَدْلُها" ففي هذا المثال أسندنا العدل وهو مصدر "عَدَلَ" إلى غير ما هو له، وهو دوام الدولة، فالعدلُ ليسَ هو دوامَ الدولة، لكنَّهُ سبَبٌ في دوامها. * قول الخنساء من قصيدة ترثي بها أخاها صخراً: فَمَا عَجُولٌ لَدَى بَوٍّ تُطِيفُ به ... لَهَا حَنِينَانِ إِعْلاَنٌ وإِسْرَارُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 أَوْدَى بِهِ الدَّهْرُ يَوْماً فَهْيَ مُرْزِمَةٌ ... قَدْ سَاعَدَتْهَا عَلى التَّحْنَانِ أَظْآرُ تَرْتَعُ مَا غَفَلَتْ حَتَّى إِذَا ادَّكَرَتْ ... فَإنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وإدْبَارُ يَوْماً بِأَوْجَعَ مِنِّي يَوْمَ فَارَقَنِي ... صَخْرٌ ولِلْعَيْشِ إِحْلاَءٌ وإِمْرَارُ عَجُول: أي: ثَكْلَى، ومُرَادُها: ثَكْلَى من النوق. بَوّ: جِلْدُ وَلَد الناقة يُحْشَى تِبْناً ويُقَّرَّبُ من أمْه الثكلَى لتدر عليه. تُطِيفُ به: أي: تَدور حوله. أَوْدَى به الدّهر: أي: أهلكه. مُرْزِمَة: يُقالُ" أزْرَمَتِ الناقة، إذا صوّتَتْ حنيناً على ولدها. أَظْآرُ: أي: نوقٌ تُرْضِعُ غَيْرَ أَوْلادها من حنينها على أولادها. وللعيش إِحْلاَءٌ وإمْرَارُ: أي: وللعيشِ أحوال يُقَدّمُ بها حلاوة، وأخرى يقدّم بها مرارة. والشاهد في قولها: تَرْتَعُ مَا غَفَلَتْ حَتَّى إِذَا ادَّكَرَتْ ... فَإنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وإدْبَارُ أي: هذه الثكْلَى مِنَ النوق تَرْتَعُ (أي: ترعَى) في أوقات غفلتها وسُلُوّها عن ولَدِها، حتَّى إذا إذا تذَكَّرَت وَلَدَها ثار بها الحنين فصارت تُقْبِلُ وتُدْبِرُ على غير هُدىً، لكن الخنساء لم تَقُلْ هكذا، وإنما جعلَتِ الناقَةَ كُلَّها هي الإِقبال والإِدْبار، فقالت: "فإنَّمَا هِيَ إقْبَالٌ وإِدْبارُ" الإِقبال مصدَرُ "أقبل" والإِدْبارُ مصدر "أدْبَر" ومرادُها الإِشعارُ بأنّها صارت في التَّصَوُّر إقبالاً وإِدْباراً، لطغيان هذين الوصفين على الذات وسائر الصفات. * قولي صانعاً مثلاً: يَرَى السُّخَفَاءُ الْمُلْكَ عَرْشاً وَتَاجَهُ ... وَمَا الْمُلْكُ إِلاَّ الْعَدْلُ والْجُودُ والْحَزْمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 أي: سبَبُ ظفر الْمَلِكِ بسُلْطانِهِ على شبعه واكتسابه الْمُلْكَ الحقيقي أن يقيم العدل، وتخلّق بالجود وبالحزم. * قول الشاعر: سَيذْكُرُني قَوْمي إِذَا جَدَّ جِدُّهُمْ ... وفي اللّيلَةِ الظَّلْمَاءِ يُفْتَقَدُ الْبَدْرُ فَنَسَبَ فعل "جَدَّ" إلى المصدر المضاف إلى ضمير قومه، أي: إذا جَدُّوا، والمرادُ الإِشعارُ بأنْ أمرهم الجدَّ إذا انْضَمّ إليه جدُّ آخرُ فوق المعتاد فأقْلَقَهُمْ وأحْوَجَهُمٍ إلى معين، فإنَّهُمْ سَيَذْكُرُونني حنيئذٍ. ثانياً - من اسم الفاعل: * قول الله عزّ وجلّ في سورة (الحاقة/ 69 مصحف/ 78 نزول) بشأن مَنْ أوتي كتابه بيمينه: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الآيات: 21 - 22] . راضية: اسم فاعل، وقد جاء في هذا التعبير القرآني إسناد الرّضا في كلمة "راضية" إلى العيشة، مع أنّ الراضي هو صاحبُ العيشة، إذْ يَرْضَى عن عيشته الحسنة، فالعيشة في الحقيقة مرضيّة. والعلاقة الّتي صحَّحَت استخدام هذا المجاز العقلي كون العيشة محيطة بحياة صاحِبِها، ورضاهُ بها يُشيع الرّضا في كلّ ما يحيط به. والتحليل النفسيّ لهذا يكْشِفُ أنّ من كان سعيداً فإنّه يرى الدنيا كلّها من حوله سعيدة، ومن كان حزيناً فإنّه يرى الدُّنيا كلَّها من حوله حزينة، وهكذا. * قولهم: "طريق سائر" مع أنه مسيرٌ فيه، و"نَهْرٌ جارٍ" مع أنّه مجريٌّ فيه، للإِشعار بأنّ التصوُّرَ يَرَى الطريق يسير لامتلائه بمن يمشي فيه، وبأنّ حُفْرَة النَّهر تجري لامتلائها بالماء الجاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 * قولهم: "نهارُهُ صائم" و"لَيْلُهُ قائم" فإسنادُ الصَّيام إلى النهار، والقيام إلى اللّيل، مع أنّ فاعل الصيام والقيام هو الرّجل المتعبّد بداهة، يَعْتَمِدُ على مَدِّ في التصوّر للإِشعار بأنّ النهارَ واللَّيْلَ يَصُومانِ ويقومان معه بمشاعره ووجدانه. * ما جاء في دعاء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ إنّي أحْمَدُكَ عَلَى الْعِرْقِ السَّاكِنِ واللَّيْلِ النَّائم". أي: على العاقية والنْومِ في اللَّيل، فجَاء وصف اللّيْل بالنوم مع أنه وصف لمن ينام فيه، والوصف اختصار لنسبةٍ بَيْنَ رُكْنَيْ إسنادٍ في جملة مفيدة. * قول الله عزّ وجلّ في سورة (العلق/ 96 مصحف/ 1 نزول) : بشأن الذي ينهى عبداً إذا صلّى: {كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بالناصية * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [الآيات: 15 - 16] . جاء في هذا النّصّ وصف الناصية باسم الفاعل: "كاذِبة وخاطئة" مع أنّ الكاذب والخاطىء هو صاحب الناصية، لكنّ الناصية جزءٌ منْهُ، فَجَذْبُهُ من ناصيته لإِذْلاله وتعذيبه يكون بسب كونه كاذباً وخاطئاً، والملابسة والعلاقة بين الناصية وصاحِبها من الأمور الظاهرة. والوصف كما سبق هو اختصار لنسبه بين ركني إسنادٍ في جملة تامّة، إذْ يُقالُ في هذه الجملة: "ناصيةٌ كاذبة" و"ناصِيةٌ خاطئة". لَنَسْفَعَنَّ: أي: لنَقْبِضَنَّ وَنَجْذِبَنَّ. ثالثاً - من اسم المفعول: * قولي ضارباً مثلاً: دَارُهُ مَهْجُورَةٌ مِنْ حِبِّه ... ونَعِيمُ الْوَصْلِ لِلْكُوخِ الْبَعِيدِ ففي هذا إسنادُ اسم المفعول وهو "مهجورةٌ" إلى الدّار، مع أنّ المهجور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 صاحبها، ولكنّ الْمشَاعِرَ النفسيّة مَدَّتْ أبْعَادَ الهجْرِ، فجعَلَتْ الدارَ كُلَّها مهجورة، مع أنْ المتكلّم يَعْلَمُ أنّ الهجْرَ هو لصاحب الدار، لا للدّار، فتجوَّزَ في التعبير لِيُشْعِرَ الآخرينَ بما شعَرَ هو به. * وقولهم: سَيْلٌ مُفْعَمٌ، ففي هذا إسناد اسم المفعول "مُفْعَم" إلى السيل، مع أنَّ المفعَمَ (أي: المملوءَ) هو الوادي الذي جرى فيه السي، أمّا السيل فهو "مُفْعِم" بكسر العين اسم فاعل. * وقول الله عزّ وجلّ في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) : {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} [الآية: 103] . الشهود: هو الحضور المصحوب بإدراك الحواس. فجاء في هذا النصّ إسنادُ المشهوديّةِ للْيَوْم، مع أنَّ اليوْمَ اسْمٌ لزمَنٍ، وهو لا يُدْرَكُ بالْحوَاسّ، لكِنّ الذي يُشْهَدُ ويُدْرَكُ بالحواسّ هو ما يَحْصُل في اليوم من أشياء وأحداثٍ تُرى أو تُسْمَع أو تُلْمَسُ. ولمّا كان كلُّ شيءٍ في ذلك اليوم سيكونُ مشهوداً محضوراً غير غائب، كان إطلاق المشهوديَّةِ على اليوم دالاًّ على هذِهِ المشهوديَّة الشّاملة لكلّ ما فِيه بأخْصَرِ عبارَة، فَهُو مِنَ المجاز العقليّ. رابعاً - من الصفة الْمُشَبَّهَة: * قولنا: فلانٌ رِداؤه شَريف، وإزارُه عفيف، ففي هذا القول إسناد الشرف إلى الرداء، والمراد أنه شريف الحسب والنسب، وإسناد العفّة إلى الإِزار، والمراد أنّه ذو عفّةٍ في فرجه الواقع تحت الإِزار، والملابسة واضحة. كلمتا "شريف وعفيف" هما صفتان مشبهتان، والصفة المشبّهة، هي لفظ مصوغٌ من مصدر اللازم للدلالة على الثبوت، مثل: أحمر وحمراء، وعطشان وعطشى، وحسَن، وشجاع، وجبان، وفَرِح، ونَجِس، وطاهر، وبخيل، وكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 * وقولنا: فلانٌ سَيْفُه جبان، وصُنْدوق ماله بخيل. ففي هاتين العبارتين إسناد الْجُبْنِ إلى السيف وإسناد البخل إلى صندوق المالِ، والمراد صاحبُهما، والملابسةُ أو العلاقة كَوْنُ المذموم مالِكَهُما أو المتصرّفَ بهما. * وكالوصف في: "الكتاب الحكيم" و"الأسلوب الحكيم" إذا قلنا: إن الحكمة صفة صاحب الكتاب والأسلوب. خامساً - من أفعل التفصيل: * قولنا: إزار فلانٍ أعَفُّ من إزار فلان، وسيفُهُ أشجع من سيفه، وصندوقه أكرم من صندوقه، ودارهُ أكثر ترحيباً بالضُّيُوفِ من دارِه. سادساً - من الظرف والجار والمجرور: * قولنا: الشُّجَاعُ حينَ المبارزة، وعند اللّقاء، وفي ساحَةِ الوغَى. أي: تُعْرَفُ وتَظْهَرُ شَجَاعة الشُّجَاعِ في وقت المبارزة، ومكان اللّقاء، وفي ساحةِ الحرب. علاقات المجاز العقلي: أمّا علاقات المجاز العقلي فهي كلّ مُلاَبَسةٍ أو علاقة تُصَحّح التجوز في مفاهيم البلغاء والأدباء، في المجاز العقلي وفي المجاز المرسل الآتي بيانه في موضعه إن شاء الله. وقد أحصى منها علماء البلاغة وعلماء أصول الفقه زائداً على عشرين علاقة، منها: "السببّة - المسببيّة - إطلاق الكلّ على البعض - إطلاق البعض على الكلّ - إطلاق اللازم وإرادة الملزوم - إطلاق الملزوم وإرادة اللازم - إطلاق المطلق وإرادة المقيّد - إطلاق المقيد وإرادة المطلق - إطلاق العام وإرادة الخاص - إطلاق الخاص وإرادة العامّ - إطلاق الحالّ وإرادة المحل - إطلاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 المحلّ وإرادة الحالّ - إقامة المضاف إليه مقام المضاف - إقامة المضاف مقام المضاف إليه - علاقة الجوار - اعتبار ما كان عليه الشيء - اعتبار ما يؤول إليه الشيء - علاقة الآليّة - علاقة البدليّة والعوض - إطلاق المعرّف باللاّم وإرادة واحدٍ منكر - إطلاق النكرة في الإِثبات وإرادة العموم - علاقة التضادّ" إلى غير ذلك من علاقات. ومن هذه العلاقات ما يصلح في المجاز العقلي، ومنها ما لا يصْلُحُ، وذوق البليغ هو الذي يُحْسِنُ تصيُّد العلاقة لما يصوغ من كلام يَتَجوَّزُ فيه عن ذكر الحقيقة إلى مُلابِسٍ من مُلاَبِسَاتها. *** (7) الجملة المفيدة بين الإِثبات والنفي تنقسم الجملة المفيدة من جهة الإِثبات والنفي إلى قسيمن: القسم الأول: الجملة المثبتة، وهي الجملة الّتي خلَتْ من أداةٍ من أدوات النفي، فالإِسنادُ فيها بين الْمُسنَدِ والْمُسْنَدِ إلَيْهِ (بين المحكومِ به والمحكُومِ عليه) إسنادٌ مُثْبَتٌ، ولو كان مضمون الجملة يمكن أنْ تُصَاغَ له جملةَ منفيّة. مثل: "العنقاءُ طائُرٌ مَعْدُومٌ". هذه جُمْلةٌ مُثْبَتَةٌ، ويُمكن أنْ يُصاغ لمضمونها جملةٌ أخرى منفيّة نقولُ فيها: "لا وُجُودَ لطائر العنقاء". القسم الثاني: الجملة المنفيّة، وهي الجملة التي دخلتْ عليها أداةٌ من أدواتِ النفي دلّتْ على نفي نِسْبَةِ الْمُسْنَدِ إلى المْمُسْنَدِ إلَيْهِ فيها، ولو كان مضمون الجملة يُمْكِنُ أن تُصَاغ له جملة مثبتة. مثل: "لا وُجود لطائر العنقاء" و"لا يعلم الكفار أنهم إلى النار صائرون". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 هاتان جملتان منفيتان، ويُمْكِنُ أن يُصاغ لمضمونهما جملتان أخريان مثبّتان نقول فيهما: "العنقاء طائر مَعْدُومٌ"، و"الكفارُ يَجْهَلُونَ أنَّهم إلى النار صائرون". أدوات النفي التي تنفي الجمل: أدوات النفي التي تنفي الجمل في اللّسان العربي ثمان، هي: "لاَ - لاتَ - لَيْسَ - مَا - إنْ - لَمْ - لَمَّا - لَنْ". وفيما يلي بيانٌ حولَ هذه الأدوات: شرح الأداة الأولى: كلمةُ "لاَ" وتأتي حرفَ نَفْي على خمسة أوجه: الوجه الأول: أنْ تكونَ عاملةً عملَ "إنَّ" تنصِبُ الاسْمَ وتَرْفَعُ الخبر، وذلِكَ إذا أُرِيدَ بها نفيُ الجِنْسِ على سبيل التنصيص، ومن أمثلة هذا الوجه قولُ أبي الطيّب المتنبِّي يمدح عليّ بن أحمد الخرساني: ولاَ ثَوْبَ مَجْدٍ غَيْرُ ثَوْبِ ابْنِ أَحْمَدٍ ... عَلَى أَحَدٍ إلاَّ بِلُؤْمٍ مُرَقَّعُ الوجه الثاني: قد تكونُ بِقلَّةٍ عاملةً عَمَلَ "لَيْسَ" تَرْفَعُ الاسم وتنصبُ الخبر، ومن أمثلة هذا الوجه قولُ الشاعر: تَعَزَّ فَلاَ شَيْءٌ عَلَى الأَرْضِ بَاقِيَا ... وَلاَ وَزَرٌ مِمَّا قَضَى اللهُ واقِيَا وقولُ أبي الطيّب المتنبّي: إِذا الْجُودُ لَمْ يُرْزَقْ خَلاَصاً مِنَ الأَذَى ... فَلاَ الْحَمْدُ مَكْسُوباً وَلاَ الْمَالُ بَاقِيَا الوجه الثالث: أن تكونَ عاطفةً بشروطٍ مبيّنة عند النحويين، مثل: "جَاءَني رَجُلٌ لاَ امْرَأَة". ومِنْ أمثلة هذا الوجه قولُ امْرِىءِ الْقَيْس: كَأَنَّ دِثَاراً حَلَّقَتْ بِلَبُونِهِ ... عُقَابُ تَنُوفَى لاَ عُقَابُ الْقَوَاعِلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 دِثار: اسْمُ راعٍ كان يرعى الإِبل. حَلَّقَتْ: أي: ذهبت. بلَبُونِهِ: أي: بنُوقِهِ ذَواتِ اللَّبَن. الْعُقاب: طائر من كواسر الطير قويّ المخلب، ولفظه مؤنث، ويُجْمَعُ على "أَعْقُبٍ" و"عِقْبْان". تَنُوفَى: اسم جَبَلٍ عالٍ تَأْوِي إليه العِقْبان الشديدةُ القويّة. الْقَوَاعِل: صِغَارُ الجبال التي تأوي إليها العِقْبانُ الصّغارُ والضِّعاف. الوجه الرابع: أن تكون جواباً مناقضاً للجواب بلفظ "نَعَمْ" وهَذِه تُحْذفُ الْجُمَلُ بَعْدَهَا بكَثْرَةٍ. الوجه الخامس: أن تكون على خلاف ما سبق: فإن كان ما بعدها جملةً اسميّة صَدْرُها مَعْرِفَةٌ أو نكرة ولم تَعْمَلْ فيها، أو كان ما بَعْدَها فِعْلاً ماضِياً لفظاً أَوْ تَقْدِيراً وجب تكرارها، إلاَّ في الدّعاء، وإرادةِ المستقبلِ في الفعل الماضي. ومن أمثلة هذا الوجه: * قول الله عزّ وجلّ في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول: {لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الآية: 40] . * وقول الله عزّ وجلّ في سورة (الصافات/37 مصحف/ 56 نزول) : {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ * لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الآيات: 45 - 47] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُون: أي: ولاَ هُمْ عَنْ شُرْبِهِم لَهَا يَسْكَرُونَ حتَّى تَذْهَبُ عُقولُهُم، يُقَال لُغَةً: شَرِبَ خَمْراً فَأَنْزَفَ، أي: سَكِرَ أو ذهب عقله. * وقول الله عزّ وجلّ في سورة (القيامة/ 75 مصحف/ 31 نزول) بشأن الكافر: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى * ولاكن كَذَّبَ وتولى} [الآيات: 31 - 32] . *** شرح الأداة الثانية: كلمة "لاَتَ" وهي حرف نفي، قال جمهور النحويين: هي مؤلّفة من كلمتين: هما "لاَ" النافية، و"التاء" الَّتِي لتأنيث اللّفظة، كما في "ثمَّت" وَ "رُبَّت" وإنّما وجبَ تحريكُ التاء في "لاَتَ" لالْتِقاءِ السّاكنَيْن. وقال جمهور النحويين: إنّها تَعْمَلُ عَمَل "لَيْس" وهي خاصَّةٌ بِنَفْي الْحِين، ولاَ يُذْكَرُ بَعْدَهَا إلاَّ أَحَدُ مَعْمُولَيْهَا. ومن الأمثلة قول الله عزّ وجلّ في سورة (ص / 38 مصحف/ 38 نزول) : {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} [الآية: 3] . *** شرح الأداة الثالثة: كلمة "لَيْسَ" وهي فعلٌ لاَ يَتَصَرَّف، ويدُلُّ على نَفْي الحالِ، ويَنْفِي غَيْرَهُ بقرينة، وهو يَرْفَعُ الاسْمَ ويَنْصِبُ الخَبَر، ومن الأمثلة: * قول الله عزَّ وجلَّ خطاباً لرسوله بشأن الكافرين في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولاكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ ... } [الآية: 272] . * قول المتنبّي في مَدْحِ طاهِرِ بْنِ الْحُسين: فَشَرَّقَ حَتَّى لَيْسَ لِلشَّرْقِ مَشْرِقٌ ... وغَرَّبَ حَتَّى لَيْسَ لِلْغَرْبِ مَغْرِبُ *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 شرح الأداة الرابعة: كلمة "ما" الحرفية، وتأتي حرْفَ نَفْيٍ، وتدخُلُ على الجملَتَيْن الاسميّة والفعليّة: * فإذا دخَلَتْ على الجملة الاسمية أعملها الحجازيّون والتهاميُّونَ والنَّجْدِيُّونَ عَمَل "لَيْسَ" بشروط. * وإذا دخلت على الجملة الفعليّة لم تَعْمَلْ. * وهي تخلِّص الفعل المضارع إذا دخلت عليه للحالِ عند جمهور النحويين، ما لم تُوجَدْ قرينةٌ تدُلُّ على الاستقبال. *** شرح الأداة الخامسة: كلمةُ "إِنْ" وهي حرف. فمن وجوه هذه الكلمة أن تأتي نافية، وتَدْخُل على الجملتين الاسميّة والفعلية، ولا يشترط أن يأتي بعْدها في الجملة "إلاّ" أو "لمّا" حتَّى تكونَ نافية، وبعضهم اشترط ذلك. ومن أمثلة استعمال "إِنْ" حرف نفي ما يلي: * قول الله عزَّ وجلّ في سورة (الملك/ 67 مصحف/ 77 نزول) : { ... إِنِ الكافرون إِلاَّ فِي غُرُورٍ} [الآية: 20] . أي: ما الكافرون إلاَّ في غرور. * قول الله عزّ وجلّ في سورة (الطارق/ 86 مصحف/ 36 نزول) : {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الآية: 4] . أي: ما كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْها حَافِظٌ. * قول الله عزّ وجلّ في سورة (يونس/ 10 مصحف/ 51 نزول) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 {قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الغني لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بهاذآ أَتقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الآية: 68] . أي: ما عندكم من حُجَّةٍ ذَاتِ سُلْطَانِ بِهذا الذي تقولونه. * قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) خطاباً لرسوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ آذَنتُكُمْ على سَوَآءٍ وَإِنْ أدري أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ} [الآية: 109] . أي: وما أدري أقريبٌ أمْ بعيدٌ تُوعَدُونَ. *** شرح الأداة السادسة: كلمة "لم" وهي حرف نفي وجزْمٍ يجزم الفعل المضارع، ويقلبُ زمَنَهُ فيجعَلُهُ ماضياً. الأمثلة: * قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ... } [الآية: 283] . * قول الله عزّ وجلّ في سورة (البينة/ 98 مصحف/ 100 نزول) : {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين مُنفَكِّينَ حتى تَأْتِيَهُمُ البينة} [الآية: 1] . * قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) : {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الآية: 184] . * قول المتنبّي يمدح أبا عُبَادَة بن يحيى البحتري: لَمْ أُجْرِ غَايَةَ فِكْرِي مِنْكَ فِي صِفَةٍ ... إِلاَّ وَجَدْتُ مَدَاهَا غَايَةَ الأَبَدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 شرح الأداة السابعة: كلمة "لَمَّا" وَهِي حَرْفُ نفي وجزم، يجزم الفعل المضارع، ويَقْلِبُ زمنَهُ فيجعلهُ ماضياً مثل "لَمْ" لكنَّ "لمَّا" تُفَارقُ "لَمْ" في خمسة أمور: الأمر الأول: أنّها لا تقترن بأداة شرط، بخلاف "لم". الأمر الثاني: أنّ منفيَّها مُسْتَمِرُّ النفي إلى زمان التكلّم، بخلاف "لَمْ" فقد ينقطع نفيُها في بعض أزمان الماضي، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (الإِنسان/ 76 مصحف/ 98 نزول) : {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} [الآية: 1] . أي: ثُمَّ كان شيئاً مذكوراً في الزمانِ الماضي. الأمر الثالث: أنّ الغالب في منفيّ "لمَّا" أنْ يكون قرِيباً من الحال. الأمر الرابع: قالوا: إنّ منفيّ "لمَّا" متوقَّعٌ ثُبوتُهُ بخلاف منفي "لم". أقول: هذا مُعْتَرَضٌ عليه بقول الله عزّ وجل في سورة (عبَس/ 80 مصحف/ 24 نزول) : {كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ} [الآية: 23] . إذِ الاَيةُ فيها زَجْرٌ يَوْم القيامة للعاصي الذي لمَّ يَقْضِ ما أَمَرَهُ الله به، وقد صار أمراً غير ممكن الحصول، وغير متوقّع، بعد انتهاء زمن الابتلاء. الأمر الخامس: أنّ منفيّ "لمَّا" جائز الحذف، فتقول: أنَا قاصدٌ الحجّ إلى بيت الله الحرام ولمَّا، أي: ولمَّا أصِلْ. بخلاف "لم". *** شرح الأداة الثامنة: كلمة "لَنْ" وهي حرف نفي ونَصْبٍ للفعل المضارع، واسْتِقبال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 قالوا: ولا تفيد توكيد النفي ولا تأبيده خلافاً للزمخشري. أقول: أمّا أنّها لا تفيد التأبيد فهو حقٌّ، لأنّ في كثير من النصوص التي توجد فيها "لن" ما يدلُّ على أنّ التأبيد غير مدلولٍ عليه فيها. وأمّا التأكيد فأرى أنّها تُفِيده، لأن مَبْنَى حرف "لن" فيه زيادة لفظية على مبنى حرف "لا" فهي آكَدُ منها. *** رأيٌ لِلْحَوْفِي حول أدوات النفي قال الْحَوْفِي: أصل أدوات النفي "لا" و"ما" لأنّ النفي إمّا في الماضي، وإمّا في المستقبل، والاستقبال أكثر من الماضي أبداً. قال: و"لا" أخفّ من "ما" فوضعوا الأخفّ للأكثر، ثُمَّ إنّ النفي في الماضي إمّا أن يكون نفياً واحداً مستمراً، أو نفياً فيه أحكامٌ متعدّدة، وكذلك النفيُ في المستقبل، فصار النفي على أربعة أقسام، واختاروا له أرْبَعَ كلمات: "ما" و"لم" و"لن" و"لا". وأمّا "إنْ" و"لمَّا" فليسا بأَصْلَيْن. فـ "ما" و"لا" في الماضي والمستقبل متقابلان، و"لم" كأنَّه مأخوذٌ من "لا" و"ما" لأنّ "لم" نفي للاستقبال لفظاً، وللمضيّ معنًى، فأُخِذَ اللاَّمُ مِن "لا" الّتي هي لنفي المستقبل، والميم من "ما" التي هي لنفي الماضي، وجُمِعَ بينَهُما إشارةً إلى المستقبل والماضي، وقُدِّم اللاّم على الميم إشارة إلى أَنَّ "لا" هي أصل النفي، ولهذا يُنْفَى بها في أثناء الكلام، فيُقالُ: لم يفْعَلْ زيْدٌ ولاَ عَمْرو. وأمّا "لَمَّا" فَتَرْكيبٌ بعْدَ تَرْكيب، كأنّه قَالَ: "لَمْ" و"ما" لتوكيد معنى النفي في الماضي، وتفيد الاستقبال أيضاً، ولهذا تُفِيد "لمّا" الاستمرار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 أقول: كلامُ الْحَوْفِي رَأيٌ في تحليل الوضع اللّغوي، إلاَّ أنّ اللّغات يَصْعُبُ الجزم بتعليل أوضاعها، إلاَّ ما كان منها متبادراً لِلْفَهْم، أو خاضعاً لمقاييس تجريبيّة. *** قضايا حول النفي في الجملة القضيةُ الأولى: نفيُ الذَّاتِ الموصُوفة قَدْ يكونُ نَفْياً للصفة دون الذّات، وقد يكون نفياً للذّاتِ والصفة معاً. (1) فمن أمثلة نفي الصفة دُونَ الذّات، قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) بشأن الرُّسُلِ من البشر: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ} [الاية: 8] . فالنفْيُ في هذه الآيَةِ مُسَلَّطٌ علَى عدم أكلهم للطعام لا عَلَى كَوْنِهِمْ جَسَداً، فهم جَسَدٌ وَيَأْكُلُونَ الطَّعَام. (2) ومن أمثلة نفي الذاتِ والصفة معاً: * قولُ الله عزَّ وجلَّ بشأن الفقراء المتعففيين عن المسألة في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً ... } [الآية: 273] . أي: لاَ يسألُونَ الناسَ مطلقاً فلاَ يَحْصُلُ منهم إلحافٌ في المسألة. أقول: لا مانع من أن يسألُوا برفق دون إلحافٍ. الإِلحاف: الإِلحاح في المسألة مع عدم الحاجة. * قول الله عزّ وجلّ في سورة (غافر/ 40 مصحف/ 60 نزول) بشأن الظالمين يوم القيامة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} [الآية: 273] . أي: لاَ يَكُونُ لَهُمْ شَفيعٌ مُطْلَقاً وبذلك ينتفي الشفيعُ ووصْفُهُ، وفائدة ذكر الوصف قَطْعُ طَمَعِهِمْ بأنَّ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُمْ من دُونِ اللَّهِ من الملائكة أو الصالحين سيشفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَ رِبِّهِمْ، فلَوْ شفَعوا لهم لَمْ يَسْتَجِب الله لشفاعتهم. *** القضيّة الثانية: قد يُنْفَى الشَّيْءُ كُلُّه لِعَدم كمالِ وصْفِهِ، أو لانتفاء ثمرته، فمن أكلَ طعاماً لم ينتفع منه يقول: مَا أكَلْتُ، ومَنْ شَرِبَ شراباً لم يستَمْتعْ بهِ يقول: مَا شَرِبْتُ. ومن الأمثلة على هذه القضيَّة من القرآن، قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعلى/ 87 مصحف/ 8 نزول) : {وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى * الذى يَصْلَى النار الكبرى * ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا} [الآيات: 11 - 13] . فنفى عنه الموت، لأنّ ما هو فيه لَيْسَ بموتٍ، ونَفَى عنه الحياة لأنّ مَا هو فيه ليسَ حياةً طيّبةً ذاتَ راحةٍ من العذاب. *** القضية الثالثة: نفيُ الأعمّ يَدُلُّ على نفي الأخصّ، وإثباتُ الأعمّ لا يدُلُّ على إثبات الأخَصّ. وإثباتُ الأخصّ يدلُّ على إثبات الأعَمْ، ونفي الأخصّ لا يَدَلُّ على نفي الأعمّ. ونفيُ المبالغة في الفعل لا يستلزم نفي أصْلِ الفعل. الأمثلة: * إذا قلنا "لا يوجد في الدار إنسان" فهو يدلُّ على أنه لا يوجد فيها امرأة، لأنَّ لفظ "إنسان" أعَمّ، يَشْمَلُ الرَّجُلَ والمرأة والطفل والطفلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 * وإذا قلنا: "يوجد في الدار إنسان" فهو لا يدُلُّ على أنه وجود رجلٍ حتماً، أو وجود امرأة حتماً، بل يمكن أن يكون الموجود واحداً غير مُعيَّن ممّا ينطبق عليه لفظ "إنسان" الذي هو أعم من لفظ "رجل" ومن لفظ "امرأة". * وإذا قلنا: "يوجد في الدار إنسان" فهو يدلُّ على وجود حيوان فيها، لأنّ لفظ "إنسان" أخصُّ من لفظ حيوان، فالإِنسان هو حيوان ناطق. * وإذا قلنا: "لا يوجَدُ في الدار إنسان" فهو لا يَدُلُّ على عدم وجود حيوان مطلقاً، لأن لفظ "حيوان" أعَمُّ من لفظ "إنسان" فقد يوجد فيها حيوان غير إنسان. * وإذا قُلْنا: "ليْسَ فُلاَنٌ ظلاَّماً" لم يَدُلَّ هَذا القولُ على أنَّه ليسَ ظالماً مطلقاً. وأمّا قول الله عزّ وجلّ: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [آل عمران: 182] . {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] . {وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [ق: 29] . فهو من دقَّة الأداءِ البيانيّ لإِجراءِ التقابُل بين أفراد الظلم، وأفراد العبيد، فلو أنَّه تعالَى ظَلَمَ كُلَّ واحدٍ من عباده أقلَّ ظُلْمٍ لكان بالنسبة إليهم جميعاً ظلاَّماً، لكَّنهُ لا يفْعَلُ ذلك فهو ليْسَ بظلاّم. فإذا قيل: فهل يظلم الله عزّ وجلّ بعضَ عبيده أقَلَّ ظُلْمٍ ولو شخصاً واحداً؟ فالجواب: أنَّ الله عزّ وجلّ نفى ذلك عن نفسه في نصوصٍ أخرى، منها ما يلي: * قول الله تعالى في سورة (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول) : {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [الآية: 40] . * وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (يونس/ 10 مصحف/ 51 نزول) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً ولاكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الآية: 44] . * وقول الله عزَّ وجلّ في سورة (الكهف/ 18 مصحف/ 69 نزول) : { ... وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الآية: 49] . وبهذا تَكَامَلَتِ النُّصُوصُ في بيان كُلِّ عَناصِر الموضوع، من كلّ جوانبه، وهذا من وجوه إعجاز القرآن، فمِنْ أُسْلُوبِ القرآن تجزئةُ مَوْضُوعاتِه إلى عناصر جزئيَّةٍ، وتناوُلُ كلِّ عنصر منها ببيانٍ خاصٍّ يحيط به، ولدى جَمْعِ كلِّ البيانات حول الموضوع الواحد يكونُ الموضوع قَدْ أُحِيطَ بِهِ من كُلِّ جوانبه، وأَوْضَحَ البيان كلَّ عناصِره. *** (8) دَلاَلاتُ الجملة الخبريّة بحسب أحوالها لدى تقسيم الجملة إلى خبريّة وإنشائيّة عرفنا أنّ الخبر هو الكلام الذي يحتمل الصّدقَ والكذبَ، باعتبار كونه مجرّد كلام، دون النظر إلى قائله، ودون النظر إلى كونه مقترناً يما يدلُّ على إثباته حتماً، أو نفيه حتماً، ومدّلُولُهُ لا يتوقف على النطق به، وللجملة الخبرية أحوال ودلالات مختلفات: أولاً دلالات الجملة الخبرية الاسميّة التي لا يكون خبرها جملةً فعليّة الجملة الخبريّة الاسميّة الّتي لا يكون خَبَرُها جملةً فعليّة، تُفِيدُ بأصْلِ وضْعها الحكْمَ بإثبات أو نفي نسبة المسند (= المحكوم به) إلى الْمُسْنَد إليه (= المحكوم عليه) فقط، دون إفادة حدوثٍ ولا استمرارٍ ولا تَجَدُّدٍ، والأصل فيها التحدّث بها عن الواقع عنْد إِنْشاء الجملة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 فإذا أرَدْنَا الإِخْبار عن هذه النسبة في الماضي أضفنا إليها ما يدلّ على الزمن الماضي، أو جعلنا مع الكلام قرينة تدلُّ عليه. وإذا أردنا الإِخبار عن هذه النسبة في المستقبل أضفنا إليها ما يدُلُّ على الزمن المستقبل، أو جعلنا مع الكلام قرينة تدلّ عليه. وإذا أردنا إفادة الاستمرار والدوام أضفنا إليها ما يَدُّلُّ على ذلك، أو اكتفينا بالقرائن اللّفظِيَّة أو الفكريَّةِ الدالَّةِ عليه. فقولنا: "سعيدٌ قائم - سُعَادُ نائمة - اللهُ ربُّ العالمين - نوحٌ رسول الله - الجنَّةُ دار نعيم المتقين - النّار دار عذاب المجرمين - الشمس طالعة - الشمس غير طالعه - العنقاء لا وجود لها - النار محرقة". كلُّ هذه الجُمَلِ لا تدُلُّ بأصل وضعها على أكثر من إثبات النسبة أو نفيها بين رُكْني الإِسناد. والأصل فيها إرادة الحال عند إنشاء هذه الجمل، ويُمْكِنُ أن يُراد بها الدّوام بقرينةٍ عقليّة، في مثل: "الله ربّ العاملين" للعلم بأنَّه ليس للعالمين ربٌّ غَيْرُه، ولا بُدَّ للعالمين من ربٍّ دواماً أو بدلالةٍ لفظيَّة صريحة في مثل: اللَّهُ رَبُّ العالمين دواماً، أو بقرينة لفظية غير صريحة. ويَصْرِفُ عَنْ إِرَادَةِ الحال عند إنشاء الجملة قرينةٌ عقلية في مثل: "نوحٌ رسول الله" أي: كان رسول الله لقومه في زمانه، للعمل بأنّ نوحاً عليه السلام قد مات من آلاف السنين، وفي مثل: "الجنَّةُ دَارُ نَعيم المتقين" أي: ستكون دار نعيم المتقين بعد دخولهم فيها يوم الدّين، للعلم بأنّهم الآن لم يدخلوها مع أنّها معدَّةٌ لهم. أو دلالةٌ لفظيّة كأن نقول: "نوح عليه السلام رسول الله في زمنه الذي مضى" و"الجنَّةُ دار المتقين بعد الحساب وفَصْلِ القضاء يوم الدّين"، أو قرينة لفظية غير صريحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 ومن القرائن التي تدلُّ على الدوام المدحُ أو الذمُّ أو تقديم الجملة على أنَّها حِكْمَةٌ يُسْتَرْشَدُ بها. * من الأمثلة التي تدلُّ قرينة المدح فيها على الدوام والاستمرار قول الله عزّ وجلّ لرسوله في سورة (القلم/ 68 مصحف/ 2 نزول) : {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [الآية: 4] . * ومن الأمثلة التي تدلُّ قرينةُ الذّمّ فيها على الدوام والاستمرار، قول الله عزّ وجلّ في سورة (فاطر/ 35 مصحف/ 43 نزول) : {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً ... } [الآية: 6] . فقد جاء هذا النص في معرض التحذير من الشيطان وذمّه. *وسَوْقُ الْجُمْلَةِ مَسَاقَ حِكْمَةٍِ يَحْسُنُ الاسترشادُ بها لِيَكُونَ قَرِينَةً على الدوامِ والاستمرار، نَجِدُ لَهُ أَمْثِلَةً كثيرة، منها: "رَأْسُ الحكمةِ مَخَافَةُ الله - الصّحَّةَ تَاجٌ على رُؤوسِ الأَصِحَّاء - في الْعَجَلَةِ النَّدامَةُ وفي التَّأَنِّي السَّلاَمةُ - الْبَرَكَةُ فِي الْبُكُورِ". *** ثانياً دلالات الجملة الخبريّة المشتملة على فعل ماضٍ ولا تفيد الجملة الخبريّة الإِثباتِيَّةُ المشتملة على فعل ماضٍ أكثر من إثبات حدوث النسبة الحكميّة في الزمن الماضي، فلا تَدُلُّ على الاستمرار إلاَّ بمساعدة من القرائن اللفظيّة أو العقلية. فإذا قُلنا: "خطبَ صالحٌ ابنةَ الشيخ عثمان - نام الخطيب عبد الرحمن على المنبر - صعد أبي إلى غار حراء" فإنّ هذه الْجُمَل لا تفيد بحسب أصل الوضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 أكثر من حدوث النِّسَبِ الحكميّة الّتي عليها في زمن مضى، ويكفي لتحقيق صدقها أقَلُّ ما يُطْلَقُ عليه لفظ الفعل الماضي من معنىً يدلُّ عليه. * لكنّ القرائن العقليّة قد تجعل الفعل الماضيَ دالاًّ على الاستمرار والدوام، وقد يكون ذلك من الازل إلى الأبد، كفعل "كان" في الجمل التي تتحدّث عن ذات الله وصفاته مثل: {وكان الله عليماً حكيماً - إنَّ الله كان سميعاً بصيراً - وكان الله غنيّاً حَمِيداً} أي: هو دواماً عليم حكيم سميع بصير غنيٌّ حَمِيد. * ومن القرائن اللّفظيّة أن نقول: "ثَرْوَةُ بلادنا تَعْتَمِدُ على إنتاج الحبوب وقد كانت بلادنا تُنْتج الحبوب من قديم الزمان" أي: فهي ما زالت تنتجها. أمّا الجملة الخبريّةُ السّالِبة المشتملةُ على فعلٍ ماضٍ أومضارع منفي بحرف "لَمْ" أو حرف "لمَّا" فهي تَدُلُّ ذهْناً على استيعاب الزمن الماضي بمقتضى النفي، لأنّه لو حدث المنفيّ فيها ولو مرَّةً واحدةً في الزَّمان الماضي لما صَحَ النّفْيُ، لكن إذا وُجِدَ قيد يُحَدِّدُ قدْراً من الزّمنِ الماضي أوْ قرينةٌ تدلُّ عليه، في غير نفي المضارع بحرف "لمّا" فالنفي عندئذٍ لا يَسْتَوْعِبُ كلَّ الزَّمَنِ الماضي. أمّا نفي المضارع بحَرف "لمّا" فقد سبق أنّ المنْفِيَّ بها مُسْتَمِرُّ النفي إلى زمان التكلّم. *** ثالثاً الجملة الخبرية المشتملة على فعل مضارع يقول النحويّون: الفعل المضارع يُسْتَعْمَل للدّلالة على وقتين: الحال والاستقبال، أي: لأحدهما أو لَهُما معاً، فإذا دخلت عليه "لم" أو "لمَّا" انقلب زمنه إلى الماضي، وإذا دخلت عليه "لام التوكيد" أو "ما" النافية تعيّن للحال، وإذا دخلت عليه "السين أو سوف" تعيّن للاستقبال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 أمّا علماءُ البلاغة فيرونَ أنّ الجملة الخبريّة المشتملة على فعل مضارع غيرِ مقلوب الزمن إلى الماضي، وغير مُتَعَيِّنٍ بالأدوات للحال أو للاستقبال، تفيد تجدُّدَ حُدُوثِ النّسبة الحكميّة فيها، بمقضتى دلالة الفعل المضارع، مع إفادة تتابع تَجَدُّد الحدوث، سواء أكانت الجملة مُثْبتَةً، أم منفيّة، ما لم يَصْرِف عن هذه الدلالة صارف. فإذا قال قائل: "تَعْمَلُ أُسْرَتُنَا، أو أُسْرَتُنا تَعْمَل: أنا أَعْمَل في التجارة، وابني يعمل في العمران، وبنتي تَعْمَلُ في الخياطة، وزوجتي تعمل في أعمال البيت". فظاهر هذا الكلام يدلُّ على أنّهم جميعاً يعملون في حركة متجدّدة تَمْلأُ بحَسَب المعتاد في عُرفِ الناس أوقاتَ العملِ الَّتِي يعمل فيها الناس لكسب أرزاقهم وتأدية وظائفهم، والقيام بمطالب حياتهم. وكذلك إذا قال: " لا يَعْمَلُ أحَدٌ من أُسْرَتِنَا" فإنّه ينفي وُجوُدَ العمل ذي الحركة المتجددة بتتابع، ولا ينفي وجود أيِّ عمل ما. وإذا قال قائل يَصِفُ وَادِياً فيه رياضٌ غنَّاء: "النهرُ يَجْري، والزمانُ يَسِيرُ دُونَ مزْعِجَات، والرّيَاحُ تَعْبَثُ بالْغُصُون، والطُّيُورُ تَتَنَقَّلُ بين أَغْصَانِ الشَّجَر وَتُغَرِّدُ، ونحن نَسْتَمْتعُ بأنواعِ الطّيبات: فإنَّهُ يَدُلُّ بصِيَغ الفعل المضارع التي اسْتَعْمَلَها في الْجُمَلِ الَّتي قالها على أَنَّ الأحداث الّتي أخْبَر بها أحداثٌ متجدّدة متكرّرة في المكان والزمان اللَّذَيْنِ تَحَدَّثَ عنهما. وحين نقول: "الأرض تدور - والشمس تجري - واللَّيْلُ والنهار يتعاقبان - ولا يُوجَدُ شركاء لله في ربوبيّته ولا في إلَهيته". فإنّ هذه الجمل تدُلُّ على دَوام التجدّد دون ملاحظة نهاية، ما لم تدلَّ قرينة عقليَّةٌ أو لفظيَّةٌ أو نصٌّ صريح عليها. هذا هو الذي يتبادر من الاستعمال في كلّ جملة خبرية تشتمل على فعل مضارع، سواء أكانت الجملة اسميّة أم فعليّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وعلى متدبّر كتاب الله أن يُلاحظ هذه الدلالة، حتّى يكون على بصيرةٍ في تدبُّره. أقول: يُلاَحَظُ في النُّصوصِ القرآنيّةِ كَثْرَةُ استعمال اسم الفاعل واسم المفعول دالَّين علَى ما يَدُّلُّ عليه الفعلُ المضارع من تَجَدُّد الحدوث وتكراره، ومنه قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) بشأن "عاد" قوم الرسول "هود" عليه السلام، إذْ أَنْفَذَ الله قَضَاءَه بإهْلاَكهم ونَجَاةِ هُودٍ والَّذِينَ آمنوا معه: {فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} [الآية: 72] . أي: كَذَّبُوا فيما مَضَى مِنْ عُمْرِهِمْ قَبْلَ لحظة إِهلاكهم بآياتِنَا، وَمَا كانوا مُؤمِنينَ بَها مُسْتَقْبَلاً لوْ أَمْهَلْنَاهُمْ، فحالَتُهُمْ النفسيَّةُ حالةٌ مَيْئُوسٌ منها، إذْ وصَلُوا إلى دركة التَّعَنُّت والعناد والإِصرار على الكفر، رغم وضوح الأدلّة والبراهين التي دمَغَتْهم، واسيقنتها قلوبهم. *** رابعاً الجملة الخبريَّة المشتملة على شرط قد تُؤَلَّفُ جُملَةٌ خبرية مُرَكَّبَةٌ من جملتين فأكثر، إذْ يعقد الشرْطُ بينهما أو بينها رابطاً لإِثبات حُكْم أَوْ نفيه، وللشرط أدواتٌ تدلُّ عليه، فتصير كُلُّ جُملة مِنْ عناصر الجملة المركّبة بمثَابَةِ مفرد في جملة بسيطة. والجملة الخبريّة الشرطيّة تنقسم إلى قسمين: * الجملة الشرطيّة المتصلة. * الجملة الشرطيّة المنفصلة. الجملة الشرطية المتّصلة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 هي التي يكون الحكم في جملة جواب الشرط فيها مرتبطاً ارتباطاً شرطيّاً بالحكم في الجملة التي جُعِل حُكْمُهَا شرطاً، مثل: 1- مَنْ ماتَ على الإِيمان الحقِّ دَخَلَ الجنَّة. هذه الجملة الشرطيّة المركّبةُ من جملَتَيْن بسيطتين انقعد بينهما ارتباط شرطي، دلَّت على قضيَّةٍ شرطيّةٍ واحدة، هي الحكم بدخول الجنة بشرط تحقُّق الموت على الإِيمان الحقّ. 2- إذا كانت الرّوح حالَّةً فِي الجسد، كان الجسد حيّاً. وهذه الجملة الشرطيّة كسابقتها، وقد دلّت أيضاً على قضيَّةٍ شرطيّةٍ واحدة، هي الحكم بحياة الجسد بشرط تحقُّقِ وجود الروح فيه. الجملة الشرطيَّةُ المنفصلة: هي الجملة التي يكون الحكم فيها متردّداً بين احتمالَيْنِ فأكثر، وحين يلاحظ المتكلّم الذي يريد إصدار الحكم انحصار التردّد بين عدَدٍ من الوجوه أو الاحتمالات، فإنّه يُعَبِّر عن ذلك بمثل قوله: إمّا أن يكون الأمر كذا، وإمّا أن يكُون الامر كذا، أي: لا يخلو عن واحدٍ منهما، أو لا يخلو عنهما، مثل: (1) إمّا أن يكون العدد زوجاً وإمّا أن يكون فرداً. (2) جَلِيس السُّوءِ إمّا أنْ يُغْوِيَك وَإمَّا أن يوقعَك في التهمة. (3) إمّا أَنْ تكون الشمس طالعة وإمّا أن تكون غاربة. وإذا حلَّلْنَا الجمل الشرطيّة التي من هذا القبيل فإننا نجدها ترجع من جهة المعنى إلى جملتين شرطيتين فأكثر. فقولنا مثلاً: "إِمَّا أنْ يكون العدد زوجاً وَإِمَّا أنْ يكون فرداً" ينحلّ من جهة المعنى إلى ما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 إذا كانَ العدد زوجاً فهو غير فرد. وإذا كان العدد فرداً فهو غير زوج. وإذا لم يكن العدد زوجاً فهو فرد. وإذا لم يكن العدد فرداً فهو زوج. إذن: فهذه الجملة الشرطيّة المنفصلة بقوة أربع جمل شرطيّة متصلة من جهة المعنى. وقولنا مثلاً: "جليس السّوء إمّا أن يُغويَك وَإِمَّا أن يُوقِعَكَ في التُّهْمَة" ينحلّ من جهة المعنى إلى ما يلي: إذا لم يُغْوِكَ جليسُ السوء أوقعكَ في التُّهمَة. وإذا لم يوقِعْكَ في التُّهمَةِ أغواك. أي: لا يخلو الأمر عن واحد منهما وربما يجتمع الأمران. بهذا التحليل يتَّضحُ لنا أنَّ الجملة غير الشرطية تشتمل على حكم بين شيئين دون ارتباط بحكم آخر، فهي بسيطة، وأنّ الجملة الشرطيّة المتصلة تشتمل على حكم بين شيئين مرتبط بحكم آخر، فهي مركّبة تركيباً متوسّطاً، وأنّ الجملة الشرطيّة المنفصلة تشتمل على حكم متردِّدٍ بين شيئين فأكثر، فهي تنحلّ من جهة المعنى إلى جملتين شرطيّتين متصلتين فأكثر، فهي مركّبةٌ تركيباً أعلى. وفي الجمل الشرطيّة إيجازٌ لا يوجد في غيرها لو أُرِيد التعبير عن مضمونها بجمل غير شرطيّة. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 الفصل الرابع: الجملة الإِنشائية وأقسامها وفيه ما يلي: (1) مقدمة. (2) ومقولتان. المقولة الأولى: شرح الإِنشاء غير الطلبي، وهو خمسة أنواع: النوع الأول: أمر التكوين. النوع الثاني: إنشاء العقود وحلّها. النوع الثالث: إنشاء المدح والذمّ. النوع الرابع: إنشاء القسم. النوع الخامس: إنشاء التوجع أو التفجْع ونحوهما. المقولة الثانية: شرح الإِنشاء الطلبي، وفيه ستة أنواع: النوع الأول: الأمر والنهي. النوع الثاني: التحذير والإِغراء. النوع الثالث: النداء. النوع الرابع: التمني والترجي. النوع الخامس: الدعاء. النوع السادس: الاستفهام. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 المقَدّمَة لدى تقسيم الجملة إلىخبريَّة وإنشائية عرفنا أنّ الإِنشاء هو ما لا ينطبق عليه تعريف الخبر، ولدى تحليل حقيقته أقول: هو الكلام الذي يتوقف تحقُّقُ مدلوله على النطق به، كالأمر والنهي والدعاء والاستفهام، وإنشاء العقود، وإنشاء المدح والذمّ، وأمر التكوين، والْقَسَم، ونحو ذلك. وأضيف هنا أنّ الإِنشاء في اللّغة هو الإِبداع والابتداء، وكلُّ من ابتدأ شيئاً فقد أنشأه. والإِنشاء في الجملة الإِنشائية ينقسم إلى قسميْن: القسم الأول: الإِنشاء غير الطلبي. القسم الثاني: الإِنشاء الطلبي. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 المقولة الأولى شرح الإِنشاء غير الطّلبي تعريفه: الإِنشاء غير الطلبي: هو ما لا يستدعي مطلوباً، إلاَّ أنّه يُنْشِىءُ أمراً مرغوباً في إنشائه، وله أنواع وصيَغٌ تَدُلُّ عليه، ومنها الأنواع التالية: النوع الأول: وهو أعلاها، وهو ما يمكن أن نُسَمّيَهُ "أمْرَ التكوين" وجملَة أمْرِ التكوين هي لفظ "كُنْ" كما قال الله عزَّ وجلَّ في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول) : {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [الآية: 82] . *** النوع الثاني: إنشاءُ العقود، وحلُّ المعقود منها، مثل عقود البيع، وعقود الزواج، وأوامر ضَرْبِ الرّق، وقرارات تعيين الموظفين، وقرارات الإِقالة من الوظائف ممّن يملك ذلك، وكعبارات الطلاق والعتق، ومبايعة رئيس الدولة، وخلع البيعة عنه، ونحو ذلك. وتأتي صِيَغُ العقود وصِيَغُ حلّها بعباراتٍ مختلفات من الجمل الفعليّة والاسميّة، وما يقوم مقامها اختصاراً، مثل: (1) إنشاء عقود البيع والشراء بما يدلُّ عليها اصطلاحاً من عبارات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 "كبِعْتُكَ، اشْتَريتُ منك - أبيعك، أشتري منك - بِعْني، بْعتُك - اشْتَرِ مِنْي، اشْتَرَيتُ منك" ونحوها. (2) إنشاء عقود الزواج بما يدلُّ عليها اصطلاحاً من عبارات: "كزَوّجتُك بنتي، قبلت زواجها - أُزَوَجُك ابنتي، تَزَوَّجتها - زَوّجْنِي ابْنَتَك، زوّجْتُكَهَا" ونحوها. (3) إنشاء عقد مبايعة أمير المؤمنين بما يدلُّ عليها من عبارات: "أبايعك على السّمع والطاعة - بايعتُكَ على السّمع والطاعه" ونحوها. إلى غير ذلك من عباراتٍ تتضمَّن في عرف الناس إنشاء العقود، وهي جُمَلٌ، أو مختصراتٌ تتضَمَّنُ معنَى جُمَلٍ إنْشَائِيّة. (4) إنشاءُ الدخول في الإِسلام بإعلان الشهادتين، فهو عَقْدٌ مع اللهِ بالإِسْلاَم له، مع عقد النيّة على هذا الدخول. (5) إنشاء الدخول في نحو عبادة الصلاة، أو عبادة الحج والعمرة، فالدخول في الصلاة يكون بعقد النيّة مع تكبيرة الإِحرام، إذْ تكبيرة الإِحرام تنوب مناب: عقدت الدخول في الصلاة وأنشأته، مع استحضار النيّة في النفس. والدخول في عبادة الحج أو العمرة يكون بعد النيّة مع التلبية، إذ عبارة "لبَّيْكَ اللَّهُمَ لبَّيْكَ" تنوبُ مناب: عقدتُ الدخول في الحج أو العمرة وأنشأْته، مع استحضار النيّة في النفس. (6) حلُّ العقود بعبارات تدلُّ عليه، مثل: "فَسَخْتُ البيع - خَلَعْتُ الْبَيْعَةَ - قول الرجل لزوجته: طلَّقْتُكِ أو أنتِ طالق، أو نحو ذلك - قول مالك الرقيق لمملوكة: أعتقتك، أو أَنْتَ عَتِيقٌ، أو قوله له: كاتَبْتُكَ على كذا" ونحو ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 النوع الثالث: إنْشاء المدح أو الذّم، ويأتي في أفعالٍ وصِيغ: * فيأتي المدح بفعل: "نِعْم" مثل: "نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّه أوّاب - ولَنِعْمَ دار المتَّقين - فَنِعِمَّا هِي". * ويأتي الذَّمُّ بفعل: "بئْسَ" مثل: "بِئْسَ الشَّرَابُ - فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبِّرِينَ". * ويُحَوَّلُ الفعل الماضي الثلاثي عن وزْنِه فَيُصَاغُ على وَزْنِ "فَعُلَ، لازماً بضمّ العين، ويُسْتَعْمَلُ عندئذٍ قريباً من استعمال "نعم وبئس" للدلالة على المدح أو الذم، مثل: "وَحَسُنَ أولئِكَ رَفيقاً - حَسُنَتْ مُسْتقرّاً وَمُقاماً - إنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً ومُقَاماً - وسَاءَتْ مَصِيراً - وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً - مُحْمُّدٌ عَظُمَ رَسُولاً، وكَرُمَ أصْلاً، وجَمُلَ خُلُقاً، وجَادَ عطاءً، وفَاقَ بَيَاناً". أفْعَالُ "ساءَ وجَادَ وفاقَ" في هذه الأمثلة هي على تقدير تحويلها إلى وزنِ "فَعُل" وإن شابَهَ لفظُها الذي حُوِّلَتْ إلَيْهِ لَفْظَهَا الذي حُوِّلَتْ مِنْهُ، لأنّ لَفْظَها الّذِي حُوِّلَتْ إليهِ هو "سَوُءَ - جَوُدَ - وفَوْق" ولكن تحرَّكتِ الواو وانْفَتَحَ ما قَبْلَهَا فَقُلِبَتْ ألفاً، فعادت إلى مثل ما حُوّلَتْ عَنْهُ في اللفظ. ونُلاحِظُ أنّ عبارات إنشاء المدح والذمّ من بدائع الصِّيَغ والتركيباتِ في اللِّسَان العربي. ويُمْكِن أن نُلْحِقَ الشتائم بإنْشاءِ الذّم. *** النوع الرابع: إِنْشَاءُ الْقَسَم، ولَهُ صِيَغٌ كثيرَة، منها: "أُقْسِمُ بالله لَفَعَلْتُ أَوْ لأَفْعَلَنَّ - أَحْلِفُ بالله لأَفْعَلُ أو لَتَفْعَلَنَّ - أَشْهَدُ لأَفْعَلَنَّ - أُشْهِدُ اللَّهَ لأَفْعَلَنَّ - عَلِمَ اللَّهُ أو يَعْلَمُ اللَّهُ لأفْعَلَنّ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 ويختصر العرب عباراتِ الْقَسَم فَيَحْذِفون منها فعل الْقَسَمِ، ويشيرون إليه بأداةٍ كحرف الْقَسَم، مثل: واللَّهِ - باللَّهِ - تَاللهِ" أو بحركة إعرابٍ مثل: "اللهِ لأفْعَلَنَّ" على تقدير وجود حرف القسم الجارّ، أو "اللَّهَ لأفْعَلَنَّ" أي: أَحْلِفُ اللَّهَ بالنصب، والنصب جاء على طريقة الحذف والإِيصال، وهو حذف الجار ونصْبُ المجرور به على أنّه مفعولٌ به. والغرضُ من إنشاء الْقَسَمِ تأكيد الجملة الخبريَّة كما سَبَقَ بيانه في مؤكداتِ الخبر. *** النوع الخامس: إنشاء التوجّعِ أو التَّفَجُّعِ، أو التَّرَحُّمِ، أو التَّثْرِيب، أَوْ تَقْبيحِ الحال. وتَدُلُّ على هذه المعاني عبارات هي في الحقيقة اختصارٌ لجمل أو رَمْزٌ لها من جهة المعنى. * ففي التوجّع نلاحظ عبارات مثل: "يا عُمراه - واعُمَراهُ - وامُحمّداهُ - واحُزْنَاه - وافَجِيعَتاه". ومثل: "آه - أَوّه". * وفي الترحم أو التخوّف من وقوع مكروه، مثل "ويْحَهُ - وَيْسَه". * وفي التقبيح والتثريب، مثل: "وَيْلَه - وَيْبَه" قالوا: وهما كلمتا عذاب، أي هما كلمتان لإِنْشَاءِ التقبيح والتثريب بسبب استحقاق العذاب. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 المقولة الثانية شرح الإِنشاء الطّلبي تعريفه: الإِنشاء الطلبي: هو ما يستدعي مطلوباً غير حاصل في اعتقاد المتكلّم وقت الطلب، ويكون الإِنشاء بأنواع من الكلام: "الأمر والنهي - التحذير والإِغراء - النداء - التمنّي والترجّي - الدعاء - الاستفهام". *** (1) النوع الأول: الأمر والنهي تعريف الأمر: هو طلَبُ تحقيق شيْءٍ ما، مادّيٍّ أو معنويّ، وتدُلُّ عليه صِيَغٌ كلاميّة أربع، هي: "فعل الأمر - المضارع الذي دخلت عليه لام الأمر - اسم فعل الأمر - المصدر النائب عن فعل الأمر". تعريف النهي: هو طلَبُ الكفّ عن شيءٍ ما، مادّيٍّ أو معنويٍّ، وتدلُّ عليه صيغةٌ كلامية واحدة هي: "الفعل المضارع الذي دخلت عليه (لاَ) الناهية". أمثلة من الأمر: (1) من صيغة "فعل الأمر": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 * {قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ... } [الآية: 158] (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) : * {وَأَقِيمُواْ الصلاوة وَآتُواْ الزكاوة واركعوا مَعَ الراكعين} [الآية: 43] (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) . * وقول أبي الطيّب المتنبّي: عِشْ عَزِيزاً أَوْ مُتْ وَأَنْتَ كَرِيمٌ ... بَيْنَ طَعْنٍ الْقَنَا وَخَفْقِ الْبُنُودِ * وقَوْلُ الشاعر: إِذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَة اللَّيالي ... وَلَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا تَشَاءُ (2) مِنْ صيغة "المضارع الذي دخلَتْ عليه لاَمُ الأَمْر". * {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وأولائك هُمُ المفلحون} [الآية: 104] (آل عمران/ 3 مصحف / 89 نزول) . * وقول البحتري: فَمَنْ شَاءَ فَلْيَبْخَلْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَجُدْ ... كَفَانِي نَدَاكُمْ عَنْ جَمِيعِ الْمَطَالِبِ * وقول المتنبي في مدح سيف الدولة: كَذَا فَلْيَسْرِ مَنْ طَلَبَ الأَعَادِي ... وَمِثْلَ سُرَاكَ فَلْيَكُنِ الطِّلاَبُ * وقول الشاعر: لِيَكُنْ بِرَبّكَ كُلُّ عِزِّك يَسْتَقِرُّ ويَثْبتُ ... فَإذَا اعْتَزَزْتَ بِمَنْ يَمُوتُ فَإِنَّ عِزَّكَ مَيِّتُ (3) مِنْ صِيغَةِ: اسم فِعْلِ الأَمْرِ": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 * {فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الآية: 17] (الطارق/ 86 مصحف/ 36 نزول) . رَوَيدا: اسم فعل بمعنى "أَمْهلْ". * {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ} [الآية: 19] (الحاقة/ 69 مصحف/ 78 نزول) . ها: اسم مفعل أمر بمعنى "خذ". * وقول المعرّي: أَبَنَاتِ الْهَدِيلِ أَسْعِدْنَ أَوْعِدْ ... نَ قَلِيلَ الْعَزَاءِ بالإِسْعَادِ أيهِ للَّهِ دَرُّكُنَّ فَأَنْتُنَّ ... اللَّوَاتِي تُحْسِنَّ حِفْظَ الْوِدَادِ إِيهِ: اسْمُ فعل أمر، معناه طلب الزيادة. الْهَدِيل: صوتُ الحمام - أو ذكر الحمام الوحشي. فالمعري يطالِبُ بناتِ الهديل، وهي أنغام صوت الحمام، بأن تُسْعِدَه بما لديها من ترجيعٍ وترديدِ ألحان، وبأن تزيده من غنائها. (4) من صيغة "المصدر النائب عن فعل الأمر". * {فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السعير} [الآية: 11] (الملك/ 67 مصحف/ 77 نزول) . فَسُحْقاً: أي فَبُعْداً شديداً، وهو مصْدَر "سَحُقَ" بمعنى: بَعُدَ أَشَدَّ الْبُعْد، وقد ناب عنْ فعل الأمر، والمعنى: "اسْحُقُوا" أي: ابْتَعِدوا ابتعاداً شديداً". * قول قَطَرِيّ بن الْفُجَاءَة: فَصَبْراً فِي مَجَالِ الْمَوْتِ صَبْراً ... فَمَا نَيْلُ الْخُلُودِ بَمُسْتَطَاعِ فَصَبْراً: أي: فاصْبِرْ. أَمْثِلةٌ مِنَ النهي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 * {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ... } [الآية: 118] (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) . بِطَانَةً: أي: أصْحاباً يُخالطونكم ويطلعون على أسراركم وبواطن أموركم. لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً: أي: لا يُقَصِّرُونَ في إفساد شؤونكم وخططكم وأفكاركم وأعمالكم. * {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً ... } [الآية: 5] (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول) . * وقول المعرّي: وَلاَ تَجْلِسْ إِلَى أَهْلِ الدَّنَايَا ... فَإِنَّ خَلاَئِقَ السُّفَهَاءِ تُعْدِي * وقول المتنبي في مدح سيفِ الدولة: فَلاَ تُبْلِغَاهُ مَا أَقُولُ فَإِنَّهُ ... شُجَاعٌ مَتَى يُذْكَرْ لَهُ الطَّعْنُ يَشْتَقِ وقول أبي الأسود الدُّؤَلِي: لاَ تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ دلالات صِيَغِ الأمْرِ والنهي: (1) يُسْتَفادُ مِنْ صِيَغِ الأَمر التكليفُ الإِلْزامِيُّ بالفعل. (2) ويستفادُ منْ صيغة النهي التكليف الإِلزاميُّ بالترك وعدم الفعل. وكلُّ من صِيَغِ الأمْرِ وصيغةِ النهي قد تخرج عن دلالَتَيْهِما بقرائنِ حاليّة أو قوليّة إلى معانٍ كثيرة، منها ما يلي: "الدعاء - الالتماس - الإِرشاد - التمنّي - الترجّي - التيئيس - التخيير - التسوية - التعجيز - التهكّم والإِهانة - الإِباحة - التوبيخ والتأنيب والتقريع - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 الندب - التهديد - الامتنان - الاحتقار والتقليل من أمر الشيء - الإِنذار - الإِكرام - التكوين - التكذيب - المشورة - الاعتبار - التعجّب أو التعجيب" إلى غير ذلك من معان. أمثلة: (1) من الدعاء ويكون عادةً من العبد لربّه: * { ... فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين * واكتب لَنَا فِي هاذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة ... } [الآيات: 155 - 156] (الأعراف/ 7 مصحف / 39 نزول) . * {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ أَنتَ مَوْلاَنَا فانصرنا عَلَى القوم الكافرين} [الآية: 286] (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) . (2) ومن الالتماس، ويكونُ عادةً من الإِنسان لمن هو أعلى منه، أو لمساويه: * قول هارون لموسى عليهما السلام: {ابن أُمَّ إِنَّ القوم استضعفوني وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعدآء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ القوم الظالمين} [الآية: 150] (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) . * وكقول الصِّدِيقِ لصَدِيقه: أعِرْنِي كتابَكَ وَلاَ تُحْرِجْنِي أَنْ أُعِيدَهُ قَبْلَ أُسْبُوعٍ. * وقول الشاعر: لاَ تَطْوِيَا السِّرَّ عَنِّي يَوْمَ نَائِبَةٍ ... فَإنَّ ذَلِكَ ذَنْبٌ غَيْرُ مُغْتَفَرِ (3) ومن الإِرشاد، ويكونُ عادةً في مجال النُّصْحِ وإِبْدَاءِ المشورة: * {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ ... } [الآية: 282] (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 * وقَوْلُ المستَشار في نَصيحَتِه: تَزَوّجْ بِكْراً وَلاَ تَتَزَوَّجْ مَنْ تَعَدَّدَ عَلَيْهَا الأزْواج. * وقول المعرّي: لاَ تَحْلِفَنَّ عَلَى صِدْقٍ وَلاَ كَذِبٍ ... فَلا يُفِيدُك إِلاَّ الْمَأْثَمَ الْحَلِفُ (4) ومن التَّمنِي، ويكون عادة في الميئوس من الحصول عليه، أو فيما هو بعيد المنال: * تمنِّي أهل النّار أنْ يُقْضَى عَلَيْهِمْ بالْمَوِتِ وَهُمْ يائسونَ مِنْ ذلك: {وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ} [الآية: 77] (الزخرف/ 43 مصحف/ 63 نزول) . * وطَلَبُهُم من أصحاب الجنة أن يفيضوا عليهم من الماء او مما رزقهم الله. {ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله ... } [الآية: 50] (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) . * وقولي واضعاً مثلاً: أَمْطِرِي يَا سَمَاءُ كُلَّ صَبَاحٍ ... فَوْقَ بَيْتِي مِنَ الدنانِيرِ ألْفاً لاَ تَكُفِّني مِنْ فَيْضِ جُودِكِ عَنِّي ... عَادَتِي لاَ أَسُوءُ بِالْقَبْضِ كَفّاً (5) ومن الترجّي، ويكونُ في المطموع فيه، والمترقّب الحصول عليه: * قول امرىء القيس: أَلاَ أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلاَ انْجَلِي ... بصُبْحٍ وما الإِصْبَاحُ مِنْكَ بَأَمْثَلِ فالصبْحُ مَرْجُوٌّ قُدُومُه بعد اللَّيل الطويل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 (6) ومن التيئيس: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) بشأن المنافقين: {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ... } [الآية: 66] . (7) وَمِنَ التَّخيير: * قولُنَا للطالب في الامتحان: أجبْ على أَحَدِ السؤالَيْن التاليين: * وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الملك/ 67 مصحف/ 77 نزول) : {وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [الآية: 13] . * وقول المتنبي: عِشْ عَزِيزاً أَوْ مُتْ وَأَنْتَ كَرِيمٌ ... بَيْنَ طَعْنِ الْقَنَا وَخَفْقِ الْبُنُودِ القنا: الرماح. البنود: الأعلام. (8) ومن التسوية: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الطور/ 52 مصحف/ 76 نزول) حكاية لما يُقال لأهل النار يوم الدين: {هاذه النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هاذا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ * اصلوها فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الآيات: 14 - 16] . * وقول الشاعر: أَسِيئِي بنَا أَوْ أحْسِنِي لاَ مَلُومَةٌ ... لَدَيْنَا وَلاَ مَقْلِيَّةٌ إِنْ تَقَلَّتِ تَقَلَّتْ: تَبَغَّضَتْ - أو تَمَلْمَلَتْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 (9) ومن التّعجيز: * قولُ الله عزَّ وجلَّ في صورة (الرحمن/ 55 مصحف/ 97 نزول) : {يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} [الآية: 33] . * وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وادعوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الآية: 23] . * وقول اللهِ عزَّ وجلَّ في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) : {أإلاه مَّعَ الله قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الآية: 64] . (10) ومِنَ التهكّم والإِهانة: * ما يقال للمعذَّب في النار يوم الدّين، كما جاء في سورة (الدخان/ 44 مصحف/ 64 نزول) : {خُذُوهُ فاعتلوه إلى سَوَآءِ الجحيم * ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم * ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الآيات: 47 - 49] . ففي الأمر بفعل [ذُقْ] تهكُّم به. * وما يُقال جواباً لِمَنْ قُضِي عليهم بالخلود في النار حين يقولون: رَبَّنَا أَخْرجْنَا مِنْها فإنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظالِمُونَ، كما جاء في سورة (المؤمنون/ 23 مصحف/ 74 نزول) : {قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [الآية: 108] . (11) ومن الإِباحة: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 {ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً ... } [الآية: 168] . * وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول) : { ... وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا ... } [الآية: 2] . (12) ومن التوبيخ والتأنيب والتقريع: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) خطاباً لأهل الكتاب: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل وَتَكْتُمُواْ الحق وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الآية: 42] . (13) ومن الندب ويقابله في النهي الكراهَة: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) : {وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الآية: 204] . دل على أنّ الأمر للنّدب قوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ففي هذا ترغيب لا ترهيب. * وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول) : {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً} [الآية: 37] . (14) وَمِنَ التهديد: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (فُصّلت/ 41 مصحف/ 61 نزول) : {إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ في آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتي آمِناً يَوْمَ القيامة اعملوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الآية: 40] . أي: فَسَتَلْقَونَ عِقابَ أعمالكم في النار. (15) ومن الامتنان: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 {وَهُوَ الذي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ والنخل والزرع مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ والزيتون والرمان مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين} [الآية: 141] . ففي الأمر بعبارة (كلوا) امتنان من الله على عباده. (16) ومن الاحتقار والتقليل من أمر الشيء: * قول مُوسَى عليه السلام للسَّحَرةِ: {أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ} كما جاءَ في سورة (يونس/ 10 مصحف/ 51 نزول) : {فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ} [الآية: 80] . لقد احتقر موسى عليه السلام وسائلهم واستهان بسحرهم، فقال لهم: ألْقُوا. أي: قبلي: (17) ومن الإِنذار: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الزمر/ 39 مصحف/ 59 نزول) : { ... قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النار} [الآية: 8] . * وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المرسلات/ 77 مصحف/ 33 نزول) : {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ} [الآيات: 45 - 46] . (18) ومن الإِكرام والتكريم: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الحجر/ 15 مصحف/ 54 نزول) : {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادخلوها بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الآيات: 45 - 46] . (19) ومن التكوين: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول) : {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [الآية: 82] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 (كُنْ) : من الله أمْرُ تكوين. (20) ومن التكذيب: * قولُ الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) : {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ الذين يَشْهَدُونَ أَنَّ الله حَرَّمَ هاذا ... } [الآية: 150] . * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) : {كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الآية: 93] . (21) ومن المشورة: * قول سيدنا إبراهيم لولده إسماعيل عليهما السلام كمَا حكَى اللَّهُ في سورة الصافات/ 37 مصحف/ 56 نزول) : {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي قَالَ يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين} [الآية: 102] . فقول إبراهيم لإسماعيل عليهما السلام: {فانظر مَاذَا ترى} قول طالب مشورة في أمْرِ الرؤيا. (22) ومن الاعتبار: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) : { ... انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ ذلكم لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الآية: 99] . (23) ومن التعجب والتعجيب: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الفرقان/ 25 مصحف/ 42 نزول) خطاباً لرسوله: {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} [الآية: 9] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 * وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (مريم/ 19 مصحف/ 44 نزول) : { ... فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ * أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لاكن الظالمون اليوم فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الآيات: 37 - 38] . ذَكَرهُ السَّكَاكِيُّ في استعمال الإِنشاءِ بمعنى الخبر، والمعنَى: ما أشدّ سمعهم وبصرهم يومئذٍ. إلى غير ذلك من معانٍ أخرى، وعلى متدبرّ النصوص القرآنيّة، ودارِسِ النصوص الأخرى أن يكون باحثاً درّاكاً للمراد من صِيَغِ الأَمْرِ والنهي، مستفيداً مِنْ قرائِن الأحوال وسِبَاقِ الكلامِ وسيَاقِه. *** (2) النوع الثاني: التَّحْذِير والإِغراء التحذير والإِغراء هما في المعنى من فروع الأمر والنهي، وينطبق عليهما ما ينطبق عليهما. * فعبارات التحذير هي في معنى: احذر - أو تجنّبْ - أو تَوَقَّ - أو تَبَاعَدْ - أو لا تَقْرَبْ - أو لاَ تَدْنُ". أو نحو ذلك ممّا يُلائم حال الْمُحَذَّرِ منه. * وعبارات الإِغراء هي في معنى: (افْعَلْ - أَو الْزَم - أو اطْلُبْ - أو أَقْبِلَ - أو تَقَدَّم - أَوْ خُذْ -" أو نحو ذلك مما يُلائم حال الْمُغْرَى به. أمثلة: (1) من التحذير: قول الشاعر: وَإِيّاكَ والْمَيْتَاتِ لاَ تَقْرَبَنَّهَا ... وَلاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ وَاللَّهَ فَاعْبُدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وقولي صانعاً مثلاً: إِيَّاكَ والصَّبْوَةَ إِنْ أقْبَلَتْ ... مُنْذِرَةُ الشَّيْبِ تَهَادَى إِلَيْك زَلَّتُكَ الْيَوْمُ وَأنْتَ الَّذِي ... قَدْ شِبْتَ تُرْدِيكَ وَتَقْضِي عَلَيْكَ * وقول الشاعر: فَلاَ تَصْحَبْ أَخَا الْجَهْلِ ... واِيَّاكَ وَإيَّاهُ (2) ومن الإِغراء: * قول الشاعر: أَخَاك أَخَاكَ إِنَّ مَنْ لاَ أخَا لَهُ ... كَسَاعٍ إِلَى الْهَيْجَا بِغَيْرِ سِلاَحِ * وقول الداعي إلى الصلاة: الصَّلاَةَ جَامعة. *** (3) النوع الثالث: النداء تعريف النداء: هو طلَبُ الإِجابة لأمْرٍ ما بحرف من حروف النداء يَنُوبُ مَنابَ "أدعو". وأدوات النداء ثمان: "أَ - أَيْ - يَا - آ - آي - أَيَا - هَيَا - وَا". * أمَّا "أَ - أَيْ" فلنِدَاء القريب. * وأمّا "أَيَا - هَيَا - آ" فلنداء البعيد. * وأمّا "يا" فالراجح أنّها موضوعةٌ لنداء البعيد حقِيقةً أو حكْماً، وقيل مشتركة. * وتُسْتَعَمل "وَا" للنّدْبة، وهيَ الَّتي يُنَادَى بها المندوبُ الْمُتَفجَّعُ عليه، وتُسْتَعْمَلُ في النُّدْبة أيضاً "يَا" عند أَمْنِ الالتباسِ بالنداءِ الحقيقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 تصرُّف البليغ في استعمال أدوات النداء: (1) قد يستعملُ البليغ أدوات النداء الّتي للقريب فينادي بها البعيد، لمعنىً يُريدُ الإِشارة إليه، كأن يُريدَ الإِشارَة إِلَى أنَّ هذا البعيد في جَسَده هو قريب إلى قبله ونفسه حاضر في تصوّره المستمر، وكأن يريد الإِشارة إلى أنّه لشدّة سمعه وانتباهه وسرعة استجابته، كأنّه قريب، فهو لا يحتاج أن ينادى بأدوات نداءِ البعيد. (2) وقد يَسْتَعْمِلُ البليغ أدوات النداء الَّتي للبعيد فينادي بها القريب، لمعنى يُرِيدُ الإِشارة إليه، كأنْ يُرِيدَ أنّه رفيع المنزلة عالي المقام، فهو لارتفاع منزلته وبعد مقامه بمثابة البعيد إلى الأعلى في جسده، فاللاّئق به أنْ يُنَادَى بأدوات النداء التي للبعيد. وكأَنْ يريد أنَّه مُنْحَطُّ المنزلة جداً، فهو لانحطاط منزلته بمثابة البعيد إلى الأسفل في جسده، فاللاّئق به أن يُنَادى بأدَواتِ النّداءِ الّتي للبعيد. وكأن يُرِيدَ التعبيرَ عن حَالةِ تَلَهُّفِهِ وشدّةِ طلَبِه، فهو بمثابة المستغيث الذي يمدُّ صوته في النداء، فيستعمل أدوات النداء التي للبعيد لما فيها من مدِّ الصّوْت وَطُول النفس معه. وكأن يريد أنّ المنادَى غافل شارد الذهن أو غير مستعدٍّ للاستجابة فهو بمثابة البعيد. (3) وقد يخرج النداء عن المعنى الأصليّ الموضوع له، فيُسْتَعْمَلُ لدى البلغاء وغيرهم في أغراضٍ أخْرى غير النداء، وهذه الأغراضُ تُفْهَمُ من قرائن الحال أو قرائن المقال، فكلُّ حَرَكَةٍ نفسيَّةٍ ذات مشاعِرَ تَدْفَعُ الإِنسان إلى التعبير عنها بنداء ما بطريقةٍ تلقائية، ولو لم يشعر بأنّ هذا النداء يحقق له مرجوّاً أو مؤمولاً أو يدفع عنه مكروها. كأن يستعمل النداء في الزّجْر واللّوم، أو التحسّر والتأسّف والتّفجع والندم أو النُّدْبة، أو الإِغراء، أو الاستغاثة، أو اليأس وانقطاع الرجاء، أو التمني، أو التذكر وبث الأحزان، أو التضجر، أو الاختصاص، أو التعجب، إلى غير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 (4) وكثيراً ما تُحذَفُ أداة النداء ولا سيما في نداء الرّبّ ودُعائه، فتكون مقدَّرة ذِهناً، مثل: "رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمناً - رَبّ اغْفِر لي وَلأِخي - رَبّ زِدْنِي عِلماً - رَبِّ انْصُرنِي بمَا كذَّبُونِ". والأداةُ التي تُقدَّرُ عند الحذف هي: "يا" فيما ذكر النحاة. أقول: إنّ حذف أداة النداء لَهُ دلالةٌ في نفس البليغ، وهي أنّ المنَادى هو في أقرب منازل القرب من المنادِي، حتّى لَمْ يحتج إلى ذكر أداة نداءٍ لَهُ لشدّةِ قُربِهِ، وهذا يليق بمقام دُعاءِ الرّبّ جلّ وعلا، فإذا قال الداعي "يَارب" فهو يعبرّ بذكر أداة النداء عن شِدَّةِ حاجة نفسه لما يدعو به، أو يعبّر عن ألمه أو استغاثته أو ضيقِ صدره، أو نحو ذلك من المعاني. لذلك وجدتُ في القرآن أنّ كلّ نداءٍ فيه دعاءٌ للربّ قد حُذِفَتْ منه أداة النداء، باستثناء نِدَاءَيْنِ نَادَاهُما الرسُول محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد ذكر فيهما أداةَ النداء "يا" تعبيراً عن حالة نفسه الحزينة من أجل قومه الذين اتّخَذوا القرْآن مهجوراً بعد أن بلّغهم ما أُنْزِل عليه منه، وأسْمَعَهُمْ آياتِهِ، وأعادَهَا عليهم مَرَاتٍ ليفهموا دلالاتها فأصرُّوا على كُفْرهم وعنَادهم حتَّى رأى أنَّهُمْ لا يُؤْمِنُون مَهْمَا ذكَّرَهُمْ وأقنعهم وحذَّرَهُمْ وأَنْذَرَهُمْ. فالأول: ما جاء في سورة (الفرقان/ 25 مصحف/ 42 نزول) بقول الله عزَّ وجلَّ فيها: {وَقَالَ الرسول يارب إِنَّ قَوْمِي اتخذوا هاذا القرآن مَهْجُوراً} [الآية: 30] . فذكَر الرسول حرف النداء "يا" مع أنه يُنَادِي ربَّهُ الذي هو أقرب إليه من حبل الوريد، ليعبّر بمدّ صوته بأداة النداء عن حزنه منْ أجل قومه، وتلَهُّفِهِ لاستجابتهم، وحِرْصِه على نجاتِهِمْ من عذاب ربّهم في جهنم دار عذاب الكافرين يوم الدين. والثاني: ما جاء في سورة (الزخرف/ 43 مصحف/ 63 نزول) : {وَقِيلِهِ يارب إِنَّ هاؤلاء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [الآية: 88] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 أي: تَصَلَّبُوا على العناد والكفر، فَهُمْ لاَ يتحرَّكونَ حركة جديدةً يُشْعِرُون فيها باقترابهم من الإِيمان، فعبّر بأداة النداء عن تلهُّفِهِ لإِيمانهِم ونجاتهم، وتوجُّعِ قلبه من أجلهم. فائدة: قال الزمخشري: "كثُر في القرآن النداء بـ[يا أيُّها] دون غيرها لأنّ فيها أوجهاً من التأكيد، وأسباباً من المبالغة، منها: (1) ما في "يا" من التأكيد والتنبيه. (2) ما في "ها" من التنبيه. (3) وما في التدرّج من الإِبهام في "أي" إلى التوضيح. والمقام يناسب المبالغة والتأكيد، لأنّ كلّ ما نادى الله له عباده من أوامره، ونواهيه، وعطائه، وزواجره، ووعده، ووعيده، ومن اقتصاص أخبار الأمم الماضية، وغير ذلك ممّا أنطق الله به كتابه، أمورٌ عظام، وخطوبٌ جسام، ومعانٍ واجبٌ عليهم أن يتيقظُوا لها، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها، وهُمْ غافلون، فاقتضى الحال أن يُنَادَوْا بالآكد الأبلغ". *** أمثلة من استعمال أدوات النداء على وفق أو على خلاف مقتضى الأصل من القرب والبعد * نادى نوح عليه السلام ولده الذي كان في معزل عنه مستخدِماً أداة النداء الّتي للبعيد، دلَّ على ذلك قول الله عزّ وجلّ في سورة (هود/11 مصحف/ 52 نزول) : {ونادى نُوحٌ ابنه وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يابني اركب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين} [الآية: 42] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 فاستعمل أداة النداء الّتي تُسْتَعْمَلُ للبعيد وفْقَ مقتضى الأَصْلِ، إذْ كان بعيداً في معزلٍ عن أبيه. * ونُلاَحِظُ أنَّ هارُونَ عليه السلام كانَ لَهُ مَوْقِفَانِ مَعَ أخِيهِ موسَى عليه السلام، تُجَاهَ مَا كَانَ مِنْ مُوسَى إذْ أَخَذَ برأسِهِ يَجُرُّهُ إلَيْهِ: أمَّا في المرّةِ الأَولَى فَحَذَفَ مِنْ عبارَتِهِ أَداةَ النداء لإِشعارِه بأنَّه أكْثَرُ مِنْ قَريبٍ بالنسبة إليه، دلَّ عَلى هذه المرّة ما جاء في سُورَةِ (الأَعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) {قَالَ ابن أُمَّ إِنَّ القوم استضعفوني وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعدآء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ القوم الظالمين} [الآية: 150] . فحذفَ أداة النداء مُسْتَعطِفاً، لأنّه كان قريباً منه جَسَدِيّاً، وأشْعَرَهُ بزيادة القرب منه نفسيّاً، إذْ هو أبْنُ أُمِّهِ. وأمَّا في المرّة الأُخْرَى حِينَ أَخَذَ مُوسَى عليه السلام برأسِ هارون ولحيته محاسباً، فقد ناداه بحرف النداء "يا" قائلاً لَهُ كما جاء في سورة (طَه/ 20 مصحف/ 45 نزول) : {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [الآية: 94] . أي: ولم تَرْقُبْ قَوْلي السّابقَ لَكَ: إنَّ الْقَومَ اسْتَضعَفُوني وكادُوا يَقْتُلُونَنِي "هذا فيما أرى والله أعلم". فأنزل هارون أخاه موسى في هذا النداء الثاني منزلة البعيد، لأنّه لم يَرْقُبْ قولَهُ السّابِق لَهُ، أي: لم يضعه موضع المراقبة ليعمل بمقتضاه. * ونلاحظ في خطاب الله لعباده في القرآن أنّه يُنزِّلُهُم مَنْزِلَة البعيدين عنه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 فيناديهم بحرف النداء "يا" مع أنّه أقربُ إليهم من حبْلِ الوريد، مراعاةً لمقام الربوبيَّةِ الرفيع، في الأمر والنهي والتوجيه، إذْ هو سبحانه العليُّ الأعْلَى. فجاء في النصوص القرآنية: يا عبادي - يا معشر الجنّ والإِنس - يا يَحْيَى - يا عِيسَى - يا داود - يا زكريا - يا أيُّها الناس - يا أيُّها النبيّ - يا أيُّها المزّمل - يا أيُّها المدَّثِّر". * وأنزل أبو العتاهية مخاطَبَهُ الذي يعظه منزلة البعيد، فناداه بأداة النداء التي للبعيد "أيَا" ليشير إلى أنه غافِلٌ لاهٍ في دُنياه، فهو بمثابة البعيد الذي يحتاج إلى أداة النداء التي يُنَادى بها البعيد، فقال: أَيَا مَنْ عَاشَ فِي الدُّنيا طَوِيلاً ... وَأَفْنَى الْعُمْرَ فِي قِيلٍ وَقَالِ وَأَتْعَبَ نَفْسَهُ فِيمَا سَيَفْنَى ... وَجَمَّعَ مِنْ حَرَامٍ أَوْ حَلاَلِ هَبِ الدُّنْيَا تُقَادُ إِلَيْكَ عَفْواً ... أَلَيْسَ مَصِيرُ ذَلِكَ للزَّوَالِ؟ * وخَاطَبَ سَوَارُ بْنُ المضَرَّب قلْبَهُ الذي هو منه، فناداه كما يُنادي البعيد، ليشير بذلك إلى غفلَتِه فكأنَّه بعيد، فقال: يَا أَيُّهَا الْقَلْبُ هَلْ تَنْهَاكَ مَوْعِظَةٌ؟ ... أَوْ يُحْدِثَنْ لَكَ طُولُ الدَّهْرِ نسياناً * وكتب والِدٌ لوَلَدِه البعيد عنه في سفر رسالةً قال له فيها ناصحاً: أَحُسَيْنُ إِنّي واعظٌ وَمُؤَدِّبٌ ... فافْهَم فَإِنَّ الْعَاقِلَ الْمُتَأَدِّبُ فاستعملَ أداة النداء " أ " الّتي هي للقريب على خلاف الأصل، ليشير بذلك إلى أنّه حاضر في ذهْنِهِ لا يغيب عن باله. * ونزَّل المتنبّي سيفَ الدولة منزلة البعيد مُشِيراً إلى ارتفاع منزلَته مع الإِشارة إلى أنّه ابتعد عن معاملته بالعدل فناداه بحرف النداء "يا" في مخاطبته، فقال له مُعَاتِباً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 يَا أَعْدَلَ الناسِ إلاَّ في مُعَامَلَتي ... فيكَ الخِصَامُ وَأَنْتَ الْخَصْمُ والْحَكَمُ أُعِيذُها نَظَراتٍ مِنْكَ صَادِقَةً ... أَنْ تَحْسَبَ الشَّحْمَ فِيمَنْ شَحْمُهُ وَرَمُ *** أمثلة من خروج النداء عن معناه الأصلي إلى معاني أخرى الّذي أراه أنّ النداء بمعنى رفع الصوت بحرف " أ " أو "يا" أو "وا" أو نحوها، عند تحرّك النفس بأيّ شعورٍ داخليٍّ هو من مظاهر الفطرة التلقائيّة الموجودة لدى الأطفال عند مطالبهم وأوجاعهم وأحزانهم وفرحهم وسرورهم وتعجُّبهم وغير ذلك من مشاعر على اختلاف هذه المشاعر على اختلاف هذه المشاعر التي تتحرّك في نفوسهم، وعلى تناقضها، فهم بالدافع الفطريّ يريدون التعبير عنها بأصواتهم، وقد يُسْتَدَلُّ على اختلاف المعاني باختلاف نغمات الأصوات، وما يقترن بها من بكاء أو ضحك أو مظاهر دهشة، أو تلَهُّفٍ لمطلوبٍ يريدونه، أو انزعاجٍ من أمرٍ يكرهونه، أو حركةٍ تدلُّ على أَلَمٍ يعانون منه. وبقي لهذا المظهر من مظاهر التعبيرات الفطريّة التلقائيّة أثَرٌ في اللّغة، وبدأ المفكّر المعبّر بالكلمة يتصرّف باستخدام أدوات النداء في غير طلب الإِجابة لأمْرٍ ما، كحالِ الطفْلِ، إلاَّ أَنَّهُ خَصَّصَ بعض الأدوات لبعض المعاني، وجعلَ القرائن القولية والحالية تدلُّ على مشاعره النفسيَّةِ التي يريد التعبير عنها. ونظر علماء اللّغة العربيّة، ثُمَّ علماءُ البلاغةِ إلى خروج أدوات النداء عن غرض طلب الإِجابة لأمْرٍ ما، إلى معانٍ أخرى، فرأوا أنّه من الأساليب البلاغيّة التي يَحْسُن التَّنْبِيه عليها في علم المعاني، وعرضُ طائفة من أمثلتها. وهي فيما أرى بمثابة الزُّجاج الشفاف الذي يتلَوّن بلون الأشعةِ المسلَّطة عليه أو المقارنة له، لا أنّ أدوات النداء تستعمل للدّلالة على هذه المعاني التي نفهمها من القرائن، ولسْتُ أقول: إنّها مُطْلَقُ أصواتٍ لا معنى لها، بل هي أصواتٌ تَظْهَرُ لَها مَعَانٍ بدلالاتِ القرائن القوليّة والحاليّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وتمشّياً مع مُدَوّناتِ البلاغيين أعرض طائفة من الأمثلة الّتي جاءت فيها أدوات النداء مستعملةً في غير طَلَبِ الإِجابَةِ لأمْرٍ ما، الذي هو معناها الأصلي. (1) ففي التحسُّر يُسْتَعْمَل النداء بمدّ الصوت تعبيراً عن تأوُّهٍ داخِلِيّ في النفس، فيقول المتحسّر مثلاً: "يَا حَسْرَتي - يَا حَسْرتا - يا حَسْرَتاه" ويرافق التحسُّرَ الندمُّ والتمني غالباً إذا كان المتحسِّر يتحسَّر من أجل نفسه. وجاء هذا الاستعمال في القرآن تعبيراً عن حالة المتحسّرين، جرْياً على طريقة أهل اللّسان العربي في ذلك. * في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول) عبّر الله عزّ وجلّ عمّا يَشْعُر به الذين يتحسّرون من أجل أهل الكفر الذين يعرّضون أنفسهم بكفرهم لعذاب الله الشديد، فقال تعالى: {ياحسرة عَلَى العباد مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [الآيات: 30 - 31] ؟!. * وفي سورة (الزمر/ 39 مصحف/ 59 نزول) وصف الله عزّ الله وجلّ حالة نفس الْمُسْرِفِ بالمعاصي، إذ تُنَادِي بالْحَسْرَةِ على ما فَرَّطَتْ في جنْب الله، حين يَنْزِل بها العذاب الرّبّاني، فقال تعالى خطاباً للّذين أسْرَفُوا على أنْفُسِهم: {واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ * أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين} [الآيات: 55 -56] . * وفي سورة (الفرقان/ 25 مصحف/ 42 نزول) وصف اللهُ عزّ وجلّ حالة الكافرِ يَوْمَ الدّين إذْ يُنادِي بالْحَسْرَةِ مُتَمَنّياً نادماً، فقال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ يَقُولُ ياليتني اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً * ياويلتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً} [الآيات: 27 - 28] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 * وفي سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) وصف الله عزَّ وجلّ حالةَ المكذّبين بلقاء الله حينما تأتيهم الساعة بغتة، إذْ يُنادُونَ بالحسْرَة على أنفسهم، بسبب تفريطهم بما يجب عليهم تجاه لقاء الله وحسابِه يوم الدين، فقال تعالى: {قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الله حتى إِذَا جَآءَتْهُمُ الساعة بَغْتَةً قَالُواْ ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} [الآية: 31] . (2) وفي التَّمَنِّي يُسْتَعْمَلُ النّداءُ بمدّ الصّوتِ تَعْبيراً عنْ مشاعِرِ النفس المتمنّية أمْراً عَسِيرَ المنال أو مُتَعَذِّرَهُ. أمثلة: * نظر الذين يريدون الحياة الدنيا من بني إسرائيل في عَهْدِ موسَى عليه السلام، إلى ما آتى اللهُ قارُونَ من مالٍ وزينَةٍ في الحياة الدنيا، فَتَمنَّوْا أَنْ يكونَ لَهُمْ مثْلُ مالَهُ من ذلك، فقالوا كما ذكر الله عزّ وجلّ في سورة (القصص/ 28 مصحف/ 49 نزل) : {ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [الآية: 79] . فنَادَوا مُتَمَنِّين قائلين: يَا لَيْتَ لنا، كأنّهم يُنادُونَ بِالأُمنية. * وتمنَّى الرَّجُلُ المؤْمِنُ الّذي اسْتُشْهِد في سبيل الله من أصحاب القرية التي جاءها المرسَلُونَ الثلاثة، وهو يتقلّبُ في نعيم من نعيم الجنّةِ المرتّب للشهداء في سبيل الله، أَنْ يَعْلَمَ قومُه بما غفر له رَبُّهُ وبما جعله من المكرمين، فنادَى مُتَمنّياً، كما جاء في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول) : {ياليت قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المكرمين} [الآيات: 26 - 27] . * وبَثَّ عَنْتَرَةُ بن شدّاد العبسيّ أحزانه مع الذكريات فنادَى دار محبوبته "عَبْلَة" فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 يَا دَارَ عَبْلَة فِي الْجَواءِ تَكَلَّمِي ... وَعِمِي صَباحاً دَارَ عَبْلَةَ واسْلَمِي * وبثَّ أحدهم أحزانه على راحلٍ أخلى الدّيار فناداه قائلاً: يَا رَاحِلاً أَخْلَى الدِّيَا ... رَ - وفَضْلُهُ - لَمْ يَرْحَلِ (3) وفي التّعجب وفي التأسّف يُسْتَعْمَلُ النداءُ برفْع الصوتِ تعبيراً عمَّا في النفس من حالةِ التَّعَجّب المثيرة أو حالة التأسف. * ففي التعجّب من البشارة بالحمل لعقيم في سِنِّ اليأس قالَتْ "سارة" زوجة سيّدنا إبراهيم عليه السَّلام حين بشرتها الملائكة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، كما جاء في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) : {قَالَتْ ياويلتى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهاذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هاذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [الآية: 72] . * وفي التّعجُّب والتأسّف من أحوال بعض الناس قال أبو العلاء المعرّي: فَوَا عَجَباً كَمْ يَدَّعِي الْفَضْلَ نَاقِصٌ ... وَوَا أَسَفاً كَمْ يُظْهِرُ النَّقْصَ فَاضِلُ وفي التَّعجُّب منْ طُولِ بقاء أبي الْهَوْلِ أحَدِ الآثار الفرعونية عصوراً كثيرة، ناداه الشاعرُ مع حذف أداة النداء بقوله: أَبَا الْهَوْلِ طَالَ عَلَيْكَ الْعُصُر ... وبُلِّغْتَ في الأَرْضِ أقْصَى الْعُمُر (4) وفي الرّثاء وَبثِّ الحزن يُسْتَعْمَلُ النداءُ برَفْع الصوت تَعْبِيراً عمّا في النَّفْسِ من مشاعِرَ تَنْدَفعُ إلى بَثٍّ صَوْتيٍّ. * ففي رثاء مَعْنِ بن زائدة أحَدِ أجواد العرب الشجعان الفصحاء، قال الشاعر مُنَادِياً قَبْرَهُ، تعبيراً عن مشاعر الحزن عليه: فَيَا قَبْرَ مَعْنٍ كَيْفَ وَارَيْتَ جُودَهُ ... وَقَدْ كَانَ مِنْهُ الْبَرُّ والْبَحْرُ مُتْرَعاً وارَيْتَ: ستَرتَ واخفيْتَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 مُتْرَعاً: مْمْتَلِئاً، يُقالُ لغةً: أتْرَعَ الإِناءَ إِذا ملأَه. * وَرَثَى "حافظ إبراهيم" ابنة عزِيزٍ عليه، فوصَفَها بأنَّها دُرّة، وَنَادها، تعبيراً عن حُزْنِه من أجل أبيها، فقال: يَا دُرَّةً نُزِعَتْ مِنْ تَاجِ وَالِدِهَا ... فَأَصْبَحَتْ حِلْيَةً فِي تَاجِ رِضْوَانِ رضوان: خازن الجنة. * ورَثَى أحدُهُم أخاه، فَنَادهُ تعبيراً عن حزنه عليه، قائلاً: يَا ابْنَ أُمِيّ وَيَا حُبَيِّبَ نَفْسِي ... أَنْتَ خَلَّفْتَنِي لِدَهْرٍ شَدِيدٍ * وبَثَّ الشاعر أحزانه مع الذكريات فَنادَى منَازِلَ سَلْمَاهُ تعبيراً عن مشاعره تجاه محبوبته، فقال: أَيَا مَنَازِلَ سَلْمَى أَيْنَ سَلْمَاكِ ... مِنْ أَجْلِ هَذَا بَكَيْنَاهَا بَكَيْنَاكِ (5) وفي التضجّر يُسْتَعْمَل النداء تعبيراً عن مشاغر النفس التي تُعَاني من الضجر. * فقال امرؤ القيس متضجّراً من طول ليله: أَلاَ أَيُّها اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلاَ انْجَلِي ... بِصُبْحٍ وَمَا الإِصْبَاحُ مِنْكَ بِأَمْثَلِ أي: وليس الإِصباح بأفضل حالاً منك ما دام لا يأتي بالمحبوب، وأداة النداء محذوفة مقدرة، أي: ألاَ يَا أَيُّها اللّيل. (6) وفي الزجر والتلويم يُسْتَعمل النداء للإِشعار بأن المخاطَبَ يُناسِبُهُ النداء، ولا يكفيه مجرّد الخطاب. * فقال الشاعر ينادي فؤاد نفسه: أَفُؤَادِي مَتَى الْمَتَابُ أَلَمَّا ... تَصْحُ وَالشَّيْبُ فَوْقَ رَأْسِي ألَمَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 (7) وفي اليأس وانقطاع الرَّجاء يُسْتَعْمَلُ النداءُ تعبيراً عن مشاعر النفس اليائسة. * فقال الشاعر: فَيَا صَاحِبَيْ رَحْلِي دَنَا الْمَوْتَ فَانْزِلاَ ... بِرابِيَةٍ إِنّي مُقِيمٌ لَيَالِيَا (8) وفي الاختصاص يُسْتَعمل النداء من أجل التنبيه على تخصيص المتحدّثِ عنه. ومنه قولي: إِنَّا بَني الْعَرْبِ على طُولِ المدى ... لَمْ نَكْتَسبْ في أَيّ عَصْرٍ سُؤْدَدَا إلاّ بإسْلاَمِ حَمَانَا وهَدَى ... تَارِيخُنَا وَمَجْدُنَا لَقَدْ بَدَا *مُذا أرْسَل اللهُ لَنَا مُحَمّداً* *صلَّى عليه الله* *** (4) النوع الرابع: التّمَنِّي والتّرجّي ومن أنواع الإِنشاء الطلبي التّمنّي والتّرجّي: أما التمنّي: فهو طلب أمْرٍ محبوبٍ أو مرغوبٍ فيه، ولكن لا يُرْجَى حصولُهُ في اعتقاد المتمنّي، لا ستحالته في تصوُّره، أو هو لا يطمَعُ في الحصول عليه، إذْ يراه بالنسبة إليه معذّراً بعيد المنال. والأداة التي يُتَمنَّى بِها هي كلمة: "لَيْتَ". وأمام التَّرَجِّي: فهو طلبُ أمْرٍ محبوبٍ أو مَرْغُوبٍ فيه، ممّا يَرَى طالِبُهُ أنَّه مطموعٌ فيه، وهُو يترقَّبُ الظفر به، أو الحصول عليه، وقد ترد صيغته لمجرّد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 التوقع، ولو كان توقُّعَ أمْرٍ محذورٍ منه، ويسمَّى حينئذٍ إشفاقاً، مثل [لعَلَّ السّاعة قريب] . ويستعمل في الترجّي كلمتان هما: "لَعَلَّ" و"عَسَى". وقد يُتَرجَّى بأداة الاستفهام "هَلْ" وبحرف "لو" فيما هو عزيز المنال مع إمكانه. وعلى خلاف الأصل قد يُسْتعمل في التّمنّي: "هل" و"لَعَلَّ" و"عسَى" لغرض بلاغي، وهو إبرازُ المتَمَنَّى في صورة الممكن المطموع فيه، بغيةَ الإِشعار بكمال العناية به، والتلهُّفِ على الحصول عليه، أو تحقيقه. وقد يُسْتَعمل في التّمني حرف "لو" لإِبراز المتمنَّى في صورة الممكن إلاَّ أنّه عزيز المنال يَصْعُبُ تحقيقه، إذْ حرفُ "لو" يُشْعِر بعزّة الأمرِ المرجوّ المطموع فيه. وقد يُسْتَعْمَل في الترجي لفظ "ليت" الذي للتمنّي، لغَرَضٍ بلاغيّ، هو إبراز المرجوّ في صورة المستحيل أو المتعذِّر الْبعيد المنال، للمبالغة في بيانِ بُعْدِ الحصول عليه أو تحقيقه. ويُلاحظُ أَنّ مجيّ عبارات الترجّي أو الدعاء في كلام اللَّهِ عزّ وجلّ هو على معنى أنّ مقتضى الحال يلائمه من البشر الترجّي أو الدعاء، فَقَوْل الله تعالى لموسى وهارون بشأن فرعون في سورة (طه/ 20 مصحف/ 45 نزول) : {اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [الآيات: 43 - 44] . ينبغي أن نفهم الترجّي فيه على معنى: اذْهَبَا إلى فرعون راجِيَيْنِ وطامِعَيْنِ في أن يتذكّر أو يخشَى، إذ لو ذهبا إليه وهما يائسَانِ من استجابَتِه، لَمْ تندفعْ أنفسهما للقيام بمهمّةِ رسَالَتِهِما على الْوَجْهِ الأمْثَلِ المطلوب منهما. أمثلة وتطبقيات: * سبق في بحث النداء عرض طائفة من الأمثلة القرآنية التي فيها التّمنّي بأداة التمنّي "ليت" مسبوقةً بأداة النداء "يا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 * الذين اتّخذوا دينهم في الحياة الدنيا لهواً ولعباً، ونَسُوا كتاب الله تاركين له إذْ جحدوا به، وغرَّّتْهُم الحياة الدنيا وزيناتُها، يَتمَنَّونَ يوم القيامة أن يكون لهم شفعاء فيَشْفعوا لهم، أو أنْ يُرَدّوا إلى الحياة الدّنيا، ليعملوا غير الذي كانوا يعملون ممّا يُرْضي ربّهم عليهم. دلَّ على تمنِّيهم هذا قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) حكاية لمقالتهم يوم الدين: {يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خسروا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [الآية: 53] . جملةٌ "فهل لنا من شفعاء" وجملة "أو نردّ فنعمل غير الذي كنّا نعمل" هما من قبيل الإِنشاء الطلبي، والمطلوب فيهما من نوع تمنّي أمْرٍ محبوبٍ مرغوبٍ فيه لا يطمعون في الحصول عليه. والأداة المستعملة هي "هل" الاستفهامية، إذ الاستفهام هنا مستعمل في التمني، لأنّهم يعلمون أنّه لا يشفع أحدٌ يومئذٍ إلاَّ بإذن الله، ويعلمون أنّهم لا يُريدّون إلى الحياة الدنيا، فقد طلبوا قبل ذلك الرجعة ساعة موتهم فزُجِروا ورُفِضَ طَلَبُهُمْ. * ويتمنَّى الضالون الأتباع الذين أضلّهم المجرمون وهم يُعَذَبون في الجحيم، أن يرجعوا إلى الحياة الدنيا ليُؤْمِنُوا، لكنّهم يعلمون أنّ هذا المطلب ميؤوسٌ من تحقيقه. دلَّ على هذا التمنّي ما جاء في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) حكاية لقولهم: {وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلاَّ المجرمون * فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} [الآيات: 99 - 102] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 والأداة المستعملة في هذا التَّمنِّي حرف "لو" إذْ لدى هؤلاء بعض أمَلٍ ضعيفٍ باستجابة طلبهم، أو أرادوا إظهاره في صورة الممكن عزيز المنال. * وتمنَّى ابْن الرُّومي أنْ يكون ليلُ رمضان شهراً، وأن يمرَّ نَهَارُه مرَّ السحاب، فقال: فَلَيْتَ اللَّيْلَ فِيهِ كان شَهْراً ... وَمَرَّ نَهَارُهُ مَرَّ السَّحَابِ والأداةُ المستعملة في هذا التمني لفظ "ليت". * وتمنَّى جرير أن يُشْتَرَى الشبابُ بالمال ليشتريه، أَوْ أنْ يرجع كَرَّةً أُخْرَى، فقال: ولَّى الشَّبَابُ حَمِيدَةً أيَّامُهُ ... لَوْ كَان ذَلِكَ يُشْتَرَى أَوْ يَرْجِعُ والأداة المستعملة في هذا التمنّي حرفُ "لو" وغرض جرير أَنْ يُظْهِر أنّ عودة الشباب أمْرٌ ممكن إلاَّ أنّه عزيزُ المنال، لئلا يعيش في اليأس الكامل. * وعرض أحدهم بأسلوبه التخيُّلي على طير القطا يُعيرهُ جناحه، مُتَمنّياً أن يطير به إلى محبوبه،، فقال مخاطباً سِرْب القطا: أسِرْبَ الْقَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَنَاحَهُ؟ ... لَعَلِّي إلى مَنْ قَدْ هَوِيتُ أَطِيرُ القطا: واحدته "قطاة" وهو نوع من اليمام يؤثر الحياة في الصحراء، ويتخذ أُفحوصَهُ في الأرض، ويطير جماعات، ويقطع مسافات شاسعات، وبيضُه مرقّط. والأداة المستعملة في هذا التمنّي لفظ "هل" في الجملة الأولى، ولفظ "لعلّ" في الجملة الثانية، وهاتان الأداتان تستعملان أصلاً في الترجّي، إلاَّ أنّ الشاعر استعملهما فيما هو متعذر، ليُظْهِرَ مطلوبه بأنه أمر ممكن مرجوّ في مشاعر نفسه. * وتمنّى الآخر أن تدنُوَ له الكواكب، لينظم منها عقود مدح لممدوحه فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 لَيْتَ الكوَاكِبَ تُدْنُو لِي فَأَنْظِمَها ... عُقُودَ مَدْحٍ فَمَا أَرْضَى لَكُمْ كَلِمِي والأداة المستعملة في هذا التمنّي لفظ "ليت" والتّمني في كلامه ظاهر. * وتَرجَّى الشاعر أن يُفرّج الله عنه الكرْب الضاغط عليه، فقال: عَسَى الكَرْبُ الَّذِي أمْسَيْتُ فِيهِ ... يَكُونُ وَرَاءُه فَرَجٌ قَرِيبُ هذا الكلام من قسم الإِنشاء الطلبي، وهو من نوع الترجّي، لأنّ الفرج أمْرٌ مترقّبُ مطموع فيه. وأداة الترجّي فيه كلمة "عَسَى". * وترجَّى الشاعر الآخر أن تكون عاقبة العتب محمودة، فقال للذي عتَبَ عليه: لعَلَّ عَتْبَكَ مَحْمُودٌ عَوَاقبُهُ ... ورُبَّمَا صَحَّتِ الأَجْسَامُ بالْعِلَلِ وأداة الترجّي في هذا القول كلمة "لَعَلَّ" وفق الأصل. * وترجّى البوصيري أن ينال من رحمة ربّة على مقدار معاصيه، فقال: لَعَلَّ رَحْمَةَ رَبِّي حِينَ يَقْسِمُهَا ... تَأْتِي عَلَى حَسَبِ الْعِصْيَانِ في الْقِسَمِ وأداة الترجِّي الّتي استعملها كلمة "لعَلّ" وفق الأصل. *** (5) النوع الخامس: الدعاء الدعاء: هو في الأصل من النداء، يقال لغة: دَعا فلاناً إذا صاح به وناداه، فهو طلبُ إقبال المدعوِّ إلى الداعي. ويقال: دعا بالشيء، إذا طلَبَ إحضاره، ودعَا الميّتَ إذا ندَبَهُ، فقال مثلاً: وَاوَلَدَاه، واحَبِيبَتاه. ودعا فُلاَناً، إذا استعان به، ورغب إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 ودعا المؤمن رَبّه، إذا ناداه وطلبَ منه تحقيق نفع أو دفع ضرّ من أمور الدنيا، أو أمور الآخرة. ودعا الوثنيُّ مَعْبُودَه، إذَا نَادَاه، وطلبَ أمراً من أمور الدّنيا. واشتهر الدُّعاء بأحد معانيه اللّغوية، وهو المعنى الدينيِّ له، مع توسُّعٍ شمَلَ كلّ ذِكْرٍ لله عزّ وجلّ وثناء عليه بصفاته وأسمائه الحسنى، لأنّ ذكْرَ الله يُرجَى منه رضوان اللَّهِ وثوابُه، فهو ذو دَلاَلَةٍ طلبيَّةٍ، ويتضمَّن غالباً نداء اللَّهِ عَزَّ وجلّ بحَمْدِه والثناء عليه. روى الترمذي عن عَمْروا بن شُعَيْبٍ عن أبيه عن جدّه، أنّ النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَة، وخَيْرُ ما قُلْتُ أَنَا والنَّبِيُّون مِنْ قبْلِي: لاَ إلَهَ ِإلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ ولَهُ الْحَمْدُ وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ". فمن دعاء الله ما هو مُطْلَقُ ذكْرٍ له، ومن دعاء اللَّهِ ما نداءٌ له بطلَبٍ يتضمَّنْ اسْتِجْداءَ تحقيق مرغوبٍ فيه من خيرات الدنيا، أو خيرات الآخرة، أو دفْع مكروهٍ من أُمور الدنيا أَوْ أمور الآخرة. ويكون الدّعاء بصِيَغٍ كثيرة تَشْمَلُ صِيَغَ الأمر والنهي، وصِيَغَ الجمل الخبريّة، والأصلُ فيه النداء مع طلبٍ بصِيَغِ الأَمْرِ أو النَّهْي، وكثيراً ما يُحْذَفُ حَرْفُ النداء، مثل: رَبِّ اغْفِرْ لي وارْحَمْنِي. وكثيراً ما يُدْعَى بصيغَةٍ خَبَرِيَّة، مثل: رَحِمَ الله فلاناً وغَفَرَ له، أو يَرْحَمُ الله فُلاناً ويَغْفِر له. والدعاءُ الموجَّه لله عزّ وجلّ من أجَلِّ العبادات، والدعاءُ وفْقَ المعنى الديني الموجّه لغير الله عزّ وجلّ شِرْكٌ بالله، والله لا يغفر أن يُشْرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. وقد يتأدّب الداعي مع ربّه، في طلب بعض حاجاته الدنيوية، كما فعل موسَى عليه السلام، وهو عند ماءِ مَدْين، إذْ قال كما جاء في سورة (القصص/ 28 مصحف/ 49 نزول) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 {رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [الآية: 24] . فاستجاب الله طلبه الذي ألمح إليه دون تصريح، فدَعَاه الشيخ والد المرأتين اللَّتَيْن سقا لهما إلى منزله، وبعد أن قصّ عليه قصة خروجه من مصر، عرض عليه أن يُنْكِحَهُ إحدى ابْنتَيَيْه، فَتَمّ ذلك. وتأدب رسولُ الله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع ربّه، وفي نفسه أن يُحَوِّل الله القبلة إلى الكعبة المشرّفة، فجعل يقلّب وجْهَهُ في السّماء، فقال الله عزّ وجل له كما جاء في سورة (البقرة / 2 مصحف/ 87 نزول) : {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الآية: 144] . وتَأَدَّبَ أيضاً صلواتُ الله عليْه مع ربّه في دعائه الصريح، فلَمْ يَشْكُ ما يَتَعَلَّقُ بشَخْصِه من عداء قومه له، وتَدْبيرهِمْ وسائل محاربته وقمعه، واقتصر على ما يتَعلَّق بأمْرِ تبليغ القرآن، ومُتَابعةِ تذكير قومه به، فقال كما جاء في سورة (الفرقان/ 25 مصحف/ 42 نزول) : {وَقَالَ الرسول يارب إِنَّ قَوْمِي اتخذوا هاذا القرآن مَهْجُوراً} [الآية: 30] . فجاء الجواب الرّبّاني متعلّقاً بما كتمه الرسول ولم يُصَرِّح به، فقال الله عزّ وجلّ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين وكفى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الآية: 31] . فبدأ العلاجُ القرآني بما كتمه الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دعائه ولم يُصَرِّحْ به. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 (6) النوع السادس: الاستفهام تعريفه: الاستفهام: هو من أنواع الإِنشاء الطّلبي، والأصل فيه طلَبُ الإِفْهامِ والإِعْلاَمِ لتَحْصِيلِ فائدةٍ عمليّةٍ مجهولةٍ لدَى الْمُستَفْهِم. وقَد يُراد بِالاستفهام غيْرُ هذا المعنى الأصليّ له، ويُسْتَدلُّ على المعنى المراد بالقرائن القوليّة أو الحالية، كما سيأتي بيانه إن شاء الله. *** أقسام أدوات الاستفهام للاستفهام طائفةٌ من الأدوات، وهي تقع في ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما يُسْتَفْهَمُ به عن التصوُّر والتصديق، وهو "همزة الاستفهام" فقط، وهو حرفٌ لا يكون له محلُّ من الإِعراب في الجملة. القسم الثاني: ما يُستَفْهَمُ به عن التصديق فقط وهو لفظ "هَلْ" وهو حرفٌ أيضاً، لا يكونُ له محلُّ من الإِعراب في الجملة. القسم الثالث: ما يُسْتَفهَمُ به عن التَّصَوُّر فقط، وهي سائر أدوات الاستفهام، وهذه جميعُها أسماء، وهي: "مَا - مَنْ - أَيٌّ - كَمْ - كَيْفَ - أَيْنَ - أَنَّى - مَتَى - أَيَّانَ". التّصوّر: هو إدْراكُ المفرد، ويُطْلَبُ بالاستفهام عن التصّور إدْراكُ المسند إليه، أو إدْراكُ المسند، لتعيينه، ويكونُ الجوابُ بتعيينِ المسؤول عنه، مُسْنداً كان أو مُسنداً إليه. مثل: * أضَرَبَ خالدٌ أَمْ أكل؟ والجواب: ضرب - أو - أَكل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 * أضُرِبَ زَيْدٌ أم عَمْروٌ؟ والجواب: عَمْرو - أو - زَيْدٌ. * متى يُفْطِرُ الصّائم؟ والجواب: إذا غربتِ الشمس. التصديق: هو إدْراك النسبة الحكميّة بين المسند والْمُسْنَد إليه، موجبةً كانت أو سالبة. مثل: * هل بُعِثَ خَاتم المرسلين؟ والجواب: نعم، بُعِث. * هل ظهر المسيح الدجال؟ والجواب: لا، لم يظهر بَعْدُ. ولكلّ أداة من أدوات الاستفهام صفاتٌ وخصائص، وفيما يلي بيان ذلك إن شاء الله. *** شرح أدوات الاستفهام وبيان ما يتعلّق بكُلٍّ منها الأداة الأولى: همزة الاستفهام "أ" ويُسْتَفْهم بها كما سبَقَ بيانُه عن التصوّر والتصديق، وهي أصل أدواتِ الاستفهام كلّها. ويرى "سيبويْهِ" أن العرب تركوا النُّطق بهمزة الاستفهام مع سائر أدوات الاستفهام لأنّهم أَمِنُوا الالتباس، فاكتسبَتْ هذه الأدواتُ معنى الاستفهام بالتداول. قال ابن مالك في "المصباح": "ما عدا الهمزة نائبٌ عنها، ولكونه "أي: الاستفهام" طلبَ ارْتِسَام صورةِ ما في الخارج في الذهن، لزم أن لا يكون حقيقةً إلاَّ إذا صَدَرَ من شَاكٍّ مُصدِّقٍ بإمكان الإِعلام، فإنّ غير الشاكّ إذا استفهم يلزمُ منه تحصيل الحاصل، وإذا لم يُصدّقْ بإمكان الإِعلام انْتَفَتْ عنه فائدة الاستفهام". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 * وتختصّ همزة الاستفهام عن سائر الأدوات بعدّة خصائص، هي الخصائص التالية: (1) جواز حَذْفِها وتقديرها ذهناً، مثل ما جاء في قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) في حكاية قول فرعون لسحرته بعْدَ أنْ غُلِبُوا وأعلَنُوا إيمانهم: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ ... } [الآية: 123] . أي: أآمنُتُمْ به؟ (2) أنَّها أداةٌ يُطْلَبُ بها التصوّر، ويُطْلبُ بها التصديق، كما سبق بيانه. ويكْثرُ في طلب التصوّر بها أن يُذْكَر للمسْتَفْهَم عنه معادلٌ بعد "أم" وتسمَّى عندئذٍ همزة التسوية، مثل: * أخالد بن الوليد فتح دمشق أم أبو عبيدة بن الجرّاح؟ * {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله} ؟ [البقرة: 140] . * {ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} ؟ [النمل: 59] . * {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] . أي: سواءٌ عليهم إنذارُكَ وَعَدَمُه. * ألَحْمَ عِجْلٍ أطْعَمْتنا؟ فإذا طُلِبَ بها التصديق (وهو إدراكُ النسبة الحكميّة في الجملة) امْتَنَع ذِكْرُ معادلٍ للمستفهم عنه بها، مثل: * {أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السمآء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16] . * {أَرَأَيْتَ الذي ينهى * عَبْداً إِذَا صلى} [العلق: 9 - 10] . * {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى} [الضحى: 6] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 * {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} [المجادلة: 13] . (3) أَنَّها تَدْخُلُ على الإِثبات، وتدخل على النفي، مثل: * أدَرَسْتَ مادَةَ التفسير؟ * ألَمْ نَشْرَحْ لكَ صَدْرك؟ * ... أَبَعْدَ بَنِي عَمْروٍ أُسَرُّ بِمُقْبِلٍ ... مِنَ الْعَيْشِ أَوْ آسَى عَلَى إِثْرِ مُدْبِرِ (4) أنّها لا يَلِيها إلاّ المسؤول عنه، سواءٌ أكان مسنداً، أَمْ مُسْنداً إليه، أَمْ مفعولاً به، أم حالاً أم ظَرْفاً أم غير ذلك من متعلقات الفعل. (5) أنّ لها تمامَ الصدارة، فتُقَدَّم في الجملة حتّى على حروف العطف، مثل: * {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ ... } ؟ [الأعراف: 185] . * {أَوَلَمْ يَسيرُواْ} ؟ [الروم: 9] . * {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ ... } ؟ [يونس: 51] . أمّا سائر أدوات الاستفهام فتتأخَّرُ عن حروف العطف، وتتأخّر عن "أمْ" التي للإِضراب، مثل: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ؟ - فَأيْنَ تَذْهَبُونَ؟ - فأنى تُؤْفَكُونَ؟ - فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون؟ - فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن؟ - فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْن؟ - أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء؟} . إلى غير ذلك من خصائص ذكرها النحاة. *** الأداة الثانية: كلمة "هل" وهي أداة يستفهم بها عن التصديق فقط، فلا يُذْكر مع الْمُسْتَفْهَمِ عنه بها معادل، بخلاف همزة الاستفهام، وهي "حرف" كالهمزة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 والأصل في كلمة "هل" أن تدخُلَ على جملة فعليّة، فِيَلِيَهَا فِعْلٌ لفظاً أَوْ تقديراً مثل: * قول الله عزّ وجلّ في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول) : {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ؟ ... } [الآية: 33] . * وقول الله عزّ وجلّ في سورة (الرعد/ 13 مصحف/ 96 نزول) : {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور؟ ... } [الآية: 16] . * وقول الله عزّ وجلّ في سورة (النازعات/ 79 مصحف/ 81 نزول) : {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى} [الآية: 15] . فإذا عُدِل عن الجملة الفعليّة فأدخلت "هل" على الجملة الاسمية، فذلك لنكتة يلاحظها الْبُلَغَاء، وهي جعل ما سيحصل كأنّه حاصل موجودٌ فعلاً، اهتماماً بشأنه، أو تأكيداً للرغبة بتحقُّقِ وُقُوعِهِ، مثل: * قول الله عزّ وجلّ في معرض الحديث عن داوُد عليه السّلامُ في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) : {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} ؟ [الآية: 80] . أي: فهل ستكونُونَ حقاً شَاكِرينَ، أو هو استفهام تضمّن معنى الحضّ على الشكر. * قول الله عزّ وجلّ في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول) بشأن الخمر والميسر، خطاباً للذين آمنوا: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} ؟! [الآية: 91] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 أي: فَهَلْ سَتَنْتَهون، أو هو استفهامٌ تضمّن معنى الحضّ على الطاعة. ولا تدخل أداة "هل" على: [النفي - والمضارع الذي للحال - والشّرط - حرف "إنّ" الذي ينصب الاسم ويرفع الخبر - وحرفِ العطف] . بخلاف الهمزة في كلّ ذلك. *** الأداة الثالثة: كلمة "ما" وتأتي اسماً من أسماء الاستفهام، ومعناها "أيُّ شيء؟ " وهي للاستفهام عن غير العقلاء، والمطلوب بها أحد أمور ثلاثة: الأمر الأول: إيضاح الاسم وشرحه، مثل: * ما النُّضار؟ وجوابه: الذهب. أو الخالِصُ من كلِّ شيء. * ما اللُّجَيْن؟ وجوابه: الفضّة. * {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين * قَالَ رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [الآيات: 23 - 28] [الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) . في هذا النصّ نلاحظ أنّ سؤال فرعون عن ربّ العالمين هو سؤالٌ عن شرح الاسم، أي: ما معنَى "رَبّ العالمين". إنّه لا يجهل معنى كلمة "رَبّ" ولا معنى كلمة "العالمين" لكنّه سأل عن الاسم المؤلّف من "ربّ العالمين". فشرح له موسَى عليه السلام بقوله: "رَبُّ السَّمَاواتِ والأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا". فاتَّهَمَهُ فِرْعَوْنُ بالجنون، لأنَّه ذكر أنّ السَّمَاواتِ والأَرْض وما بينهما خاضعةٌ لسلطان رَبٍّ واحد، وهو يتصوَّرُ أنّ الكائنات يتحكَّمُ بها أربابُ مُتَعدِّدُون، وهو رَبُّ إِقليم مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 فتنزّل موسى عليه السلام إلى مستوى إدْراك فرعون، فقال له ولِمَلَئِه: رَبُّ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِب وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. أي: هو المتَصَرِّفُ بعمليّات الْخَلْق والتَّدْبِيرِ في هذِهِ الأَرْضِ من مَشْرِقِهَا إلَى مَغْرِبها، ومن ذلك حدود سلطانك في مصر يا فرعون. عندئذٍ اسْتكْبَر فرعونُ حِينَ فهم مراد موسَى عليه السلام، فقال له: {لَئِنِ اتخذت إلاها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} [الآية: 29] . أي: لَئِنْ اتَّخَذْتَ مَعْبُوداً غَيْرِي. الأمر الثاني: بَيَانُ حقيقةِ الْمُسَمَّى، مثل: * ما الْحَسَد؟. وجوابُه مثلاً: تَمَنِّي زَوالِ النعمة عن المحسود. * ما الكِبْرُ؟. وجوابُه: "بَطَرُ الْحَقِّ وَغْمْطُ النّاس". الأمر الثالث: بيان صفات المسؤول عنه وأحواله الخاصة أو العامة، مثل: * {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [الآيات: 17 - 18] [طه/ 20 مصحف/ 45 نزول) . * أَنْ تَقُولَ لقادم عليكَ وأنت لا تعرف صفاته: مَا أَنْت؟ * قول المتنبّي في مَدْح سيف الدولة: لَيْتَ الْمَدَائِحَ تَسْتَوْفِي مَنَاقِبَهُ ... فَمَا كُلَيْبٌ وَأَهْلُ الأَعْصُرِ الأُوَلِ؟ أي: فَمَا صفاتُ كُلَيْب بجانبِ صفاتِهِ، وكان العربُ يقولون: أعزُّ من كليب بن وائل. ومَا صفاتُ الملُوكِ الأوّلين بجانب صفاته ومناقبه، ومرادُه التعظيم من مناقبه وصفاته، والتقليل من صفات السّابقين من سادَة العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 الأداة الرابعة: كلمة "مَنْ" وتأتي اسماً من أسماء الاستفهام، قالوا: ويُطْلَبُ بها تعيينُ أحد العقلاء، أو العلماء، مثل: * {قَالُواْ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا؟ ... } [الآية: 52] (يَس/ 36 مصحف/ 41 نزول) . * { ... وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله ... } [الآية: 135] (آل عمران/ 3 مصحف/ نزول 89) . * قول الشاعر: وَمَنْ ذَا الَّذِي تُرْضَى سَجَايَاهُ كُلُّهَا؟ ... كَفَى الْمَرْءَ نُبْلاً أَنْ تُعَدَّ مَعَايِبُه *** الأداة الخامسة: كلمة "متَى" وتأتي اسماً من أسماء الاستفهام، ويُسْتَفْهَمُ بها عن الزمان ماضياً كان أم مستقبلاً، فلها محلٌّ في الإِعراب في الجملة، كسائر الأسماء، مثل: * قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} [الآية: 214] . * مَتَى قَامَتِ الْحَرْبُ العالميّة الثانية؟ * متَى يُفِيضُ الحاجّ من عَرَفَات يوم عرفة؟ * وقولي صانعاً مثلاً: *وَقَالُوا: مَتَى شَمْسُ الْهِدَايَةِ أَشْرَقَتْ؟ * فَقُلْتُ: بِعَامِ الْفِيلِ فِي الْحَرَمِ الْمَكّي* *** الأداة السّادسة: كلمة "أَيّانَ" وتأتي اسْمَ استفهام، ويستَفْهَمُ بها عن الزمان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 مثل "متى" ومعناها "أَيُّ حين" وتختصُّ بالاستفهام عن الزمان المستقبل، وتُسْتَخْدَمُ في الموضع الذي يَحْسُنُ فِيه التهويل والتعظيم، وتضخيمُ أمره، مثل: * قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا؟ ... } [الآية: 187] . * وقول الله عزّ وجلّ في سورة (القيامة/ 75 مصحف/ 31 نزول) : {بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة} ؟ [الآيات: 5 - 6] * وقولي صانعاً مثلاً: أَيَّانَ يَأْتِي الْحَدَثُ الْعَجِيبُ ... وَيَرْتَضِي زَوْرَتَنَا الْحَبِيبُ؟ *** الأداة السابعة: كلمة "كَيْفَ" وَتأتي اسم استفهام، ويُسْتَفْهَمُ بها عن الحال، ويُطلَبُ بها تعيينُ الحال مثل: * قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : { ... وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً ... } ؟ [الآية: 259] . * وقول الشاعر: إِلَى اللَّهِ أَشْكُو بِالْمَدِينَةِ حَاجَةً ... وَبِالشَّامِ أُخْرَى كَيْفَ يَلْتَقِيَانِ؟ *** الاداة الثامنة: كلمة "أَيْنَ" وَتأتي اسم استفهام، ويُسْتَفْهَمُ بِهَا عن المكان، وهي مبنيّةٌ على الفتح في كلّ حالاتها، مثل: * قول الله عزّ وجلّ في سورة (القيامة/ 75 مصحف/ 31 نزول) : {فَإِذَا بَرِقَ البصر * وَخَسَفَ القمر * وَجُمِعَ الشمس والقمر * يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر} [الآيات: 7 - 10] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 * وقول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) : {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الآية: 22] . * قول الشاعر: فَأَيْنَ إلَى أَيْنَ النَّجَاةُ بِبَغْلَتِي ... أَتَاكَ أَتَاكَ اللاَّحِقُّون. أحْبِسِ أحْبِسِ يخاطب نفسه بقوله: "أتاكَ أتاكَ". *** الأداة التاسعة: كلمةُ "أنَّى" وَتأتي اسماً من أسماء الاستفهام بمعنى "مِنْ أيْنَ؟ " وبمعنى: "كَيْفَ؟ " وبمعنى "متى؟ " وبمعنى "أيْنَ؟ " فلها أربعة معانٍ. أمثلة: * قول الله عزّ وجلّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) بشأن مريم عليها السلام: { ... كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يامريم أنى لَكِ هاذا} [الآية: 37] ؟. أَنَّى لَكِ هذَا؟ : من أَيْنَ لَكِ هَذَا؟. * وقول الله عزّ وجلّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) بشأن زكريّا عليه السلام: {قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} [الآية: 40] . أَنّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ؟ : كَيْفَ يَكُونَ لي غُلاَمٌ؟ * وقول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ ... } [الآية: 223] ؟. فأتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم؟ : أي: متى شِئْتم؟، وكيف شِئْتُمْ؟ ولكِنْ من مكان الْحَرْثِ الّذِي يُنْبِت الزَّرْع. * وقول الله عزّ وجلّ في سورة (المنافقون/ 63 مصحف/ 104 نزول) بشأن المنافقين: {هُمُ العدو فاحذرهم قَاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الآية: 4] ؟. أَنَّى يُؤْفَكُونَ: أي: أَيْنَ يُصْرَفُونَ وَيَذْهَبُونَ؟. *** الأداة العاشرة: كلمة "كم" وتأتي اسماً من أسماء الاستفهام، ويستفهم بها عن العدد، ويطلب بها تعيين العدد، ومعناها: أيُّ عَدَد، مثل: * قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {سَلْ بني إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} ؟ [الآية: 211] . * قول الله عزّ وجلّ في سورة (الكهف/ 18 مصحف/ 69 نزول) في عَرْض قصة أهل الكهف: {وكذلك بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ... } [الآية: 19] . * وقول الله عزّ وجلّ في سورة (المؤمنين/ 23 مصحف/ 74 نزول) بشأن سؤال المَبْعُوثين يَوْمَ الْبَعْثِ عَنْ مُدَّةِ إقامتِهِمْ في الأرض موتى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ العآدين * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الآيات: 112 - 114] . * وقولي صانعاً مثلاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 قُلْتُ لاِبْنِي: كَمْ زُرْتَني عَبْرَ عَشْرٍ ... مُنْذُ فَارَقْتَ مَنْزِلي؟ قَال: عَشْراً قُلْتُ: يَكْفِيكَ أنْ يَزُورَكَ أبْنَا ... ؤُكَ في الْعَامِ مَرَّةً؟ قال: عُذْراً *** الأداة الحادية عشرة: كلمة "أيّ" وتأتي اسماً من أسماء الاستفهام، ويُسْتَفْهَمُ بها لتعيين أحد المتشاركين في أَمْرٍ يَعُمُّهُما، سواءٌ أكانَا شخصين مِمَّنْ يَعْقِلْ، أَم مِمَّا لاَ يَعْقِل، أو زمانين، أو مكانين، أو حالَيْن، أو عددين، أو غير ذلك، وتكُونُ بِحَسَبِ ما تُضاف إليه، نحو: "أيّ الرجلين؟ - أي المرأتين؟ - أيُّ الزمانين؟ - أيُّ المكانين؟ - أيُّ الحالين؟ - أيّ العدَدَيْن"؟. أمثلة: * قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) : {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ ... } [الآية: 19] . * وقول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) في حكاية محاجّة إبراهيم عليه السلام لمشركي قومه: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ؟ [الآية: 81] . * وقول الله عزّ وجلّ في سورة (الرحمن/ 55 مصحف/ 97 نزول) خطاباً للجن والإِنس: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ؟ [الآية: 13] وهي مكرّرة فيها. *** خروج الاستفهام عن أصل دلالته إلى معاني أخرى كثيراً ما يخرج الاستفهام عن إرادة طلب الإِفْهامِ والإِعلام إلى معانٍ أخرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 أشار إليها به، ويُسْتَدَلُّ علَيْهَا مِنْ قرائِنِ الحال أو قرائن المقال، إذْ يَسْتَغْنِي الْبُلَغاء بعبارات الاستفهام عن ذكر الألفاظ الدّالة دلالةً صَريحةً على مَا يُريدون التَّعْبيرَ عَنْهُ مِنَ المعَاني، وبلاغةُ الدّلالة على هذه المعاني بأسْلُوبِ الاسْتفهام آتيةٌ من التعبير عنها بصورة غير مباشرة وهيَ دلالاتٌ تُتَصيَّدُ بالذكاء. قال شمس الدين ابن الصائغ في كتابه "روض الأفْهام في أقسام الاستفهام": "وقد توسعت العرب، فأخرجت الاستفهام عن حقيقته لمعانٍ، أو أشربته تلك المعاني". وقد أحصى البلاغيّون معاني كثيرة خرج إليه الاستفهام عن حقيقته، إذْ تَنَبَّهُوا إليها لدى دراسة مُخْتَلِف النصوص، وهي ما يلي: "1- الإِنكار 2- التوبيخ 3- التقرير 4- التعجّب أو التعجيب 5- العتاب 6- التذكير 7- الافتخار 8- التفخيم والتعظيم 9- التهويل والتخويف 10- التسهيل والتخفيف 11- التهديد والوعيد 12- التكثير 13- التسوية 14- الأمر 15- التنبيه 16- الترغيب 17- النهي 18- الدعاء 19- الاسترشاد 20- التَّمنّي والترجّي 21- الاستبطاء 22- العرض 23- التحضيض 24- التجاهل 25- التحقير والاستهانة 26- المدح والذّم 27- الاكتفاء 28- الاستبعاد 29- الإِيناس 30- التهكّم والسخرية 31- الإِخبار 32- التأكيد" إلى غير ذلك من معادنٍ. أقول: من طبيعة الإِنسان إذا لم يُرِد التصريح بالمعنى الذي يَقْصِده، فإنّه يتّخذ للإِشعار به أسلوباً غير مباشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 ومن الأساليب الذكيّة غير المباشرة أن يحاول جعل المخاطَب هو الذي يعبّر بنفسه عن المعنى، أو يُدْرِكُه بنفسه ولو لم يُعبِّر عنه بكلامه. والطريق السهل للوصول إلى هذه الغاية، أن يطرح على المخاطب جملةً استفهاميَّةً موجّهةً توجيهاً خاصّاً، إذ يحيطها بقرائن تجعله يدرك المعنى بنفسه، سواء عبّر عنه بالجواب أو لم يُعَبِّر. ولمّا كانت المعاني التي يمكن الإِشارة إليها من طرفٍ خفيّ كثيرة جدّاً، ويُمْكنُ استدعاؤها إلى الذهن عن طريق طرح السُّؤال الذي لا يُصَرَّحُ فيه بالمراد، كان من الأمر الطبيعيّ في الكلام أن يُصَاغ فيه جُمَلٌ استفهاميّة محفوفةٌ بقرائن الحال أو المقال، بغيَةَ استدراج المخاطَب لإدراكها، وقد يُصَرِّح في جوابه بما أدرك من معنى، أو يكتفي بإدراك المراد، ويعلم أن السؤال قد طُرِح لمجرّد إفهامه الغرض من السؤال. والمحققون من علماء البلاغة يَرَوْنَ أَنَّ معنى الاستفهام يبقَى ولكن ينضم إليه ما يُستفاد منه من المعاني التي يُدَلُّ بِه عليها. *** شرح المعاني التي يُدَلُّ عليها بالاستفهام مع الأمثلة (1) شرح الاستفهام المستَعْمَل في الإِنْكار: ويُسَمَّى استفهاماً إنكاريّاً، ويُرادُ منه النفي، مع الإِنكار على المثْبِتِ كَيْفَ أَثْبَتَ مَا هو ظاهر النفي، وكانَ الواجبُ عليه أن يَنْفِي، أو مع الإِنكار على المخاطب قضيَّته، وهي باطلةٌ في تصوُّرِ مُوجِّه الاستفهام. وقد يأتي بعدُه الاستثناء كما يأتي بعد المنفي بأداةٍ من أدوات النفي، وقد يعطفُ عليه المنفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وكثيراً ما يصحبُه التكذيب، وهو في الماضي بمعنى "ما كان" وفي المستقبل بمعنى "لا يكون" وقد يُشْرَبُ الإِنكار معنى التوبيخ والتقريع. أمثلة: * قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأحقاف/ 46 مصحف/ 66 نزول) : { ... بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون} [الآية: 35] . أي: لاَ يُهْلَكُ إِهلاكاً عامّاً شاملاً بعقوبةٍ دُنيويَّةٍ معجَّلةٍ إلاَّ الْقَوْمُ الفاسِقُون، من مستوى فسق الظلم الكبير فلا يكونون فاسقين إلاَّ وهُمْ ظالمون، وكذلك العكس، ولذلك جاء في (الأنعام/ 6 مصحف/55 نزول) : {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الظالمون} ؟ [الآية: 47] . * وقول الله عزّ وجلّ في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 46 نزول) حكاية لمقالة نوحٍ عليه السلام له: {قالوا أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون} ؟ [الآية: 111] . أي: لاَ يكونُ منّا إيمانٌ بكَ وَإِسْلامٌ لَكَ والحالُ أنَّه اتَّبَعك الأَرْذَلُون. * وقول الله عزّ وجلّ في سورة (القمر/ 54 مصحف/ 37 نزول) حكاية لمقالة ثمود بشأن الرسول صالح عليه السلام: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر * فقالوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} [الآيات: 23 - 24] . أي: لا نَتَّبِع بشراً منَّا واحداً لمجرّد ادّعائه أنّه رسولٌ من ربّه، إنَّنا إذا اتّبعناه كُنَّا إذاً في ضلالٍ في مسيرتنا وجنونٍ في عقولنا. * وقول الله عزّ وجلّ في سورة (الروم/ 30 مصحف/ 84 نزول) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 {فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ الله وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} [الآية: 29] . أي: لاَ أحد يحكم بالهداية لِمَنْ حَكَم الله عليهم بالضّلال، ومَا لهم من ناصرين ينصرونهم فيدفَعُون عنْهُمْ عذَابَ الله. فجاء في هذه الآية عطف الجملة المنفيّة على الاستفهام الإِنكاري، إذ معناه النفيُ. * وقول الله عزّ وجلّ في سورة (الإسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول) : {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين واتخذ مِنَ الملائكة إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} [الآية: 40] . أي: أفَآثَرَكم رَبُّكُمْ بِالبنين على نفسه ... ؟ والمعنى: ما فَعَلَ ذلك ولم يتّخذ من الملائكة إناثاً لنفسه. * وقولُ الله عزّ وجلّ في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) حكايةً لمقالة هود عليه السلام لقومه: {قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن ربي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [الآية: 28] . أي: لاَ نجْبرُكُمْ بِالإِكْرَاهِ على اتِّباعِ مَا جئتُكُمْ به، فاتّباع الدين لا يكن إلاَّ بإرادةٍ اختياريّة، إذْ لا إكْرَاهَ في الدين. * وقول امرىء القيس: أَيَقْتُلُنِي وَالْمَشْرَفِيُّ مُضَاجِعِي ... وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَاب أغْوَال؟ *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 (2) شرح الاستفهام المستعمل في التوبيخ والتقريع: ويسمَّى استفهاماً توبيخيّاً، أو تقريعيّاً. التقريع: توجيه اللّوم والعتاب الشديد الموجع، وأصْلُ الْقَرْعِ الضَّرْبُ. والاستفهام التوبيخي قد يُوجَّهُ للتوبيخ على فعل شيءٍ غير حَسَنٍ في نظر موجّه الاستفهام، أو تركِ فعْلٍ كانَ ينبغي القيامُ به في نظر موجّه الاستفهام. أمثلة: * قول موسى لأخيه هارون بشأن اتّخاذ قومه العجل، فيما حكاه الله عزّ وجلّ في سورة (طه/20 مصحف/ 45 نزول) : {قَالَ ياهرون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} ؟ [الآيات: 92 - 93] . فَمُوسَى عليه السلام يلوم أخاه بشدَّةٍ على أمْرٍ ظَنَّ أنَّهُ ارتكَبَهُ، وَهُو معصيةُ أَمْرِه، لكنَّ هارُونَ عليه السلام اجْتَهَد وَلَمْ يَعْصِ، والمعنى: مَا مَنَعَكَ عَنِ اتَباعي وحَمَلَكَ على ألاَّ تتَّبِعَني. * وقول إبراهيم عليه السلام لقومه بشأن أصنامهم التي يعبدونها، فيما حكاه الله عزّ وجلّ في سورة (الصّافات/ 37 مصحف/ 56 نزول) : {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ؟ [الآيات: 95 - 96] . فإبراهيم عليه السلام يوبّخهم على أنّهم يَعْبُدون أوثاناً ينحوتها بأيديهم، والله خلقهم وخلق أوثانهم التي يعبدونها، وهو الذي يجب أن تكون العبادة له وحده. * وقول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/87 نزول) خطاباً لبني إسرائيل: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكتاب أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ؟ [البقرة: 44] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 الشاهد في الآية قوله تعالى: [أَفَلاَ تَعقِلُون؟] وفي {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر ... } ؟ معنى التعجيب منْ فعلهم كما سيأتي إن شاء الله. * قول الله عزّ وجلّ في سورة (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول) : {إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض قالوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فأولائك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً} [الآية: 97] . فالملائكة تُوبِّخُهُمْ وَتُقَرِّعُهُمْ لأنّهم لم يُهَاجروا من الأرضِ الّتي كانوا مستضعفين فيها، ورَضُوا بأن يكونوا ظالمي أنفسهم طاعةً للجبَّارين، من أنّ أرض الله واسعة، وكان بإمكانهم أن يهاجروا إلى أماكن لا يُكْرَهُونَ فيها على مَعْصِية الله. * قول العجّاج: أَطَرَباً وَأَنْتَ قَيْسَرِيُّ ... والدَّهْرُ بِالإِنْسانِ دَوَّارِيُّ؟ الْقَيْسَرِيُّ: الشيخ الكبير، أي: أتطربُ وأنت شيخ كبير؟ ويُرْوى "قِنَّسْريُّ" كما في اللّسان. وهو الشيخ الكبير أيضاً. *** (3) شرح الاستفهام المستعمل في التقرير: ويُسمَّى استفهاماً تقريريّاً، والمرادُ منه حَمْلُ المخاطَب على الإِقْرار والاعتراف بأمْرٍ قد استقرّ عنده العلْمُ به، أو هو أمْرٌ باستطاعته معرفته حِسِّيّاً أو فكْرِيّاً، موجباً كان أو سالباً. فمن ادَّعَى أنَّكَ جئْتَه وأنْتَ لم تأته، قد توجّه له استفهاماً تقريريّاً قائلاً: هَلْ أَنَا جئتك؟ ومتَى جئتُك؟ وَمَاذَا كَانَ حين الْتَقَيْتُكَ، لتنزعَ منْه الإِقرارَ والاعْتِرافَ بأنَّك لم تَأْتِهِ. ومن بَدا عليه أماراتُ إنكارِ أمْرٍ وقع، قَدْ توجِّه له استفهاماً تقريرياً، قائلاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 أَلَمْ يحدُثْ كذا؟ أَلَمْ أفعلْ كذا؟ ألَمْ يكُنْ منْكَ كذا وكذا؟ لِتَنْتَزعَ منه الإِقرار الاعتراف بالأمر الذي قد حدث ووقع فعلاً. أمثلة: * قول الله عزّ وجلّ لرسوله في سورة (الشرح/ 94 مصحف/ 12 نزول) : {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الآيات: 1 - 4] . * وقول الله له في سورة (الضحى/ 93 مصحف/ 11 نزول) : {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى * وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى * وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فأغنى} ؟ [الآيات: 6 - 8] . * وقول الله للمكذّبين بيوم الدّين في سورة (المرسلات/ 77 مصحف/ 33نزول) : {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} [الآيات: 20 - 24] . * وقول إبراهيم عليه السلام لمشركي قومه بشأن أوثانِهِم لانتزاع إقراراهم، فيما حكاه الله عزّ وجلّ في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) : {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الآيات: 72 - 73] . فإذا لم يُقِرُّوا بألسنتهم بأنّ أوثانهم لا تَسْمَعُهم، فإنهم لا بُدَّ أنْ يُقِرُّوا بذلك في قلوبهم. * قول الله عزّ وجلّ في سورة (الفجر/ 89 مصحف/ 10 نزول) : {والفجر * وَلَيالٍ عَشْرٍ * والشفع والوتر * والليل إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ} ؟ [الآيات: 1 - 5] . الظاهر من الاستفهام في هذا النصّ أنّ الغرض منه انتزاع إقرار ذوي الفكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 والعلم والعقل بأن القسم بهذهِ الأشياء قسمٌ عظيم يثبت صدق وعيد الله، وأنّه بالمرصاد للمجرمين المفسدين في الأرض. * وقول عزّ وجلّ في سورة (الزمر/ 39 مصحف/ 59 نزول) : {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ ... } [الآية: 36] ؟. * وقول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) : {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ ... } [الآية: 172] . فَمِنَ الظَّاهر في هذِهِ الأمْثلة أنّ الاستفهام فيها مُسْتَعْمَلٌ لاستِدعاء المخاطب إلى الإِقْرار بقضيَّةٍ مُوجَبَةٍ أو سالبة جرى حولها الاستفهام. فالجواب المستدْعَى في أمْثلة: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ؟ - أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى؟ - أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ؟ - أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ؟ - أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} ؟ هو: "بَلَى" وَكلمة الجواب هذه تدلُّ على نقيض المستَفْهَمِ عنه، أي: شَرَحْتَ صدْرِي - وَجَدني يتمياً فآوى - خَلَقْتَنَا مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ - اللهُ كافٍ عَبْدِهُ - أنْتَ رَبُّنا. والجوابُ المستدعى في مثال: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} [الشعراء: 72] هو: "لا" إذ الأوْثانُ المعنيَّةُ في الاسْتفهام لا تَسْمَعُ ولاَ تَنْفَعُ وَلاَ تَضُرُّ. والجوابُ المستدعى في مثال: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ} [الفجر: 5] هو: "نعم" أي: من تفكَّر بعقلٍ حصيفٍ في هذهِ الأشياء التي أقْسَمَ الله بها وَجَدها مؤكِّدة حقّاً لمضمون الْمُقْسَمِ عليه، وذلك لأنَّ الأزمان الّتي أقْسَمَ الله بها هي أزمان إهْلاك الله الأُمَمَ السَّابقة، وظاهرٌ أنَّ القَسَمَ بأزمَانٍ خاصة هو قَسَمٌ بالأَحْدَاثِ العظيمة التي جرتْ فيها، وهذه الأحداث أدلّةٌ تجريبيّةٌ ماضية تؤكد صدق الخبر بحدوث أشباهها مستقبلاً عند وجود المقتضيات المماثلات للمتقضيات التي حدثت بسببها الأحداث الماضية، لأنّ سنة الله القائمة على حكمته سنة دائمة، لا تتغيّر ولا تتبدّل. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 (4) شرح الاستفهام المستعمل في التعجُّب أو التعجيب: ويُسَمَّى اسْتِفْهَاماً تَعْجُبيّاً حين يَكونُ صَادِراً مِنْ متعجِّبٍ فعلاً، ويُسَمَّى اسْتِفْهَاماً تَعْجِيبيّاً حينَ يكونُ الغرض من إيراده إثارَةَ الْعَجَب عنْد مَنْ يخاطَبُ بهِ أو يتلقَّاهُ، منه ما يكون صادراً عن الله عزّ وجلّ، إذْ ليْسَ صفاتِهِ سبحانه أن يتعجَّب تَعَجُّبَ استِغْرابٍ واستبعاد، نظراً إلى سابقِ علمه تعالى بكلّ ما يحدُثُ منْ عباده قبْلَ حدوثه، وعِلْمِهِ بخلقِه وَصفاتِهِمْ وخصائصهم النّفسية والسلوكيّة. وما ورد في بعض الأحاديث النبويّة منْ نسبة العجب إلَى الله عزّ وجلَّ فهو بمعنى الاستحسان المقتضي للرّضى والمثوبة. أمثلة: * قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ؟! [الآية: 28] . الاستفهام في هذه الآية استِفْهَامٌ تَعْجيبيٌّ فيه معنَى التَّوْبيخِ والتْلويم والتَّأْنِيب والتَّقْريع، فَالْمَعْنَى أَنَّ كُفْرَكُمْ باللَّهِ مَعَ كَوْنِكُمْ كُنْتُمْ أَمْواتاً فأحْيَاكُمْ ولم تُحْيُوا أنتم أنْفُسَكُمْ، أمْرٌ ينْبَغِي أن تَعْجبُوا منه قبل غيركم، وأمْرٌ يتعجّبُ منه كلُّ العقلاء من أهل الرشد. فحالُكم يثير التعجُّب والاستغراب، كيف يصْدُرُ من ذوي عقول وأفكار؟!. * قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) خطاباً لعلماء بني إسرائيل: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكتاب أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ؟! [الآية: 44] . فالاستفهامُ في {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر} الذي يخاطب اللهُ به علماء بني إسرائيل استفهامٌ فيه معنى التَّعْجيب مِنْ حالِهِمْ مع التوبيخ والتَّلْويم والتقريع، إذْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 يأمُرونَ الناسَ منْ عَامَّةِ بني إِسرائيل بالبرّ (أي: بالتَّوَسُّعِ في أعْمالِ الخير فوْقَ الواجبات) وأنْ يتركوا مَعَ ذَلك أنْفُسَهم فلا يؤدّوا ما فرض الله عليهم وأَخَذَ عليهم به الْعَهْدَ من الإِيمان بالرسول الخاتم واتّباعه، وهم يتلون كتاب التوراة، وفيه تكليفهم أنْ يؤمنوا بالرَّسول النبيِّ الأُمّيِّ الّذي يأْمُرُهُمْ بالْمَعْرُوف ويَنْهَاهم عن المنكر، ويُحِلُّ لهم الطَّيباتِ ويُحَرِّمُ عليْهِمُ الخبائث، ويَضْعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُم والأَغَلاَلَ الَّتِي كانت عليهم. * قول الله عزّ وجلّ في سورة (النَّمْل/ 27 مصحف/ 48 نزول) في حكايةِ تفقُّدِ سُليمانَ عليه السلام الطَّيْرَ واسْتِفهامه عن الْهُدْهُد إذْ لم يَرَهُ بينها: {وَتَفَقَّدَ الطير فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين} [الآية: 20] . فالاستفهامُ في {مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد} ؟ اسْتِفْهَامٌ تَعَجُّبِيٌّ، إذْ تعجَّب سليمانُ عليه السَّلام مِنْ عدم رؤيته الْهُدْهُدَ مع أَنواع الطَّيْرِ وليْسَ من عادته أن يتخلَّف. * وقول الشاعر: مَالِي أَرَاكُمْ تُنْكِرُون مَكَانَتِي؟! ... الشَّمْسُ لاَ تَخْفَى معَ الإشرَاقِ * قول أبي تمَّام: مَا لِلْخُطُوبِ طَغَتْ عَلَيَّ كَأَنَّهَا ... جَهِلَتْ بِأَنَّ نَدَاكَ بالْمِرْصَادِ؟! الْخُطُوب: مُفْرَدُهَا "خَطْبٌ" وهو الأَمْرُ الشّديد الذي يكثُر فيه التخاطب. فأبو تمَّام يُبْدِي عجَبَهُ منْ طُغْيانِ الشدائدِ عليه مع أنَّ ممدوحه قائم بالمرصاد لها يدفعها عنه بنداه، أي: بعطاياه. * قول المتنبّي في سيف الدولة وهو يعودُه منْ دُمَّلٍ كَانَ فيه: وَكَيْفَ تُعِلُّكَ الدُّنْيَا بِشَيءٍ ... وأَنْتَ لِعِلَّةِ الدُّنْيَا طَبِيبُ؟! وَكَيْفَ تَنُوبُكَ الشَّكْوَى بِدَاءٍ ... وَأَنْتَ الْمُسْتَغَاثُ لِمَا يَنُوبُ؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 أي: إنّ هذا لأمْرٌ يستَحِقُّ أَنْ يُتَعَجَّبَ مِنْهُ. * قولُ إحْدى نِسَاءِ الْعَرب تَشْكُو ابْنَها وتُظْهر التعجُّبَ مِنْ عَمَله: أَنْشَا يُمَزِّقُ أَثْوابِي يُؤَدِّبُني ... أَبَعْدَ شَيْبِيَ يَبْغِي عِنْدِيَ الأدَبَا؟! أي: إنّ تأديبَ مَنْ شاب من العجَبِ الْعُجَاب. *** (5) شرح الاستفهام المستعمل في العتاب: العتاب: أخفّ أنواع إظْهارِ عدم الارتياح لسلوكٍ ما، فعلاً كان أو تركاً، وقد يُسْتَخْدَمُ لدلالة عليه أسلوبُ الاستفهام للتخفيف من توجيهه، والتَّلَطُّفِ بنفس الموجّه له. أمثلة: * قول الله عزّ وجلّ في سورة (الحديد/ 57 مصحف/ 94 نزول) : {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} ؟ [الآية: 16] . أَلَمْ يَأْنِ؟ : أي: أَلَمْ يَحِنِ الْوَقْتُ؟ يُقَالُ لُغةً: أَنَى يَأْنِي أَنْياً وَإِنىً وأَنَاةً، إذا حَانَ وَقَرْبَ. الاستفهام في هذا النصِّ يتضَمَّن عِتَاباً لطائفَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنينَ مرَّتْ عَلَيْهِمْ بعد إيمانهم مُدَّةٌ كافيةٌ، كَانَ يَنْبَغي أن يَرتَقُوا فيها من دَرَجَةِ إيمانِ الْوَجِلِ إلى دَرَجَةِ إيمانِ الخاشع. الوجَلُ: هو الخوف، والخوفُ يرافقُه قلَقٌ واضطرابٌ في القلب. الخشوع: هو الخضوع مع سُكُونِ القلب، وهو درجةٌ في الإِيمان أعلَى من درجةَ الوجَلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 وفوقهما درجة الطَّمَأْنينة. أخرج الحاكم بسنده عن أبن مسعود قال: ما كان بين إسلام هؤلاَءِ وبين أن عُوتِبُوا بهَذِهِ الآية إلاَّ أرْبَعُ سِنين. * قول الله عزّ وجلّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) خطاباً لرسوله محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشأْنِ إِذْنِهِ لطائفةٍ من المنافقين عن الخروج معه إلى غزوة تبوك: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين} ؟ [الآية: 43] . فقول الله له: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} من ألْطَفِ صُوَرِ العتاب. * قول الحطيئة معاتباً: أَلَمْ أَكُ جَارَكُمْ وَيَكُونَ بَيْنِي ... وبَيْنكُمُ الْمَوَدَّةُ والإِخَاءُ؟ * ويُفْهَمُ العتابُ من قول الشريف المرتضَى لِمَنْ يَهْجُره: أَتَبِيتُ رَيَّان الْجُفُونِ مِنَ الْكَرَى ... وَأبِيتَ مِنْكَ بِلَيْلَةِ الْمَلْسُوعِ *** (6) شرح الاستفهامِ المستَعْمَلَ في التذكير: قد يستخدم الاستفهام للتذكير بقولٍ أو فِعْلٍ أو حادثةٍ جرَتْ، وقد يُقْتَصَرُ فِيهِ على بعض ما يُسْتَدْعَى بالاستفهامِ تَذكُّره، فتحصل به فائدةُ الإِيجاز في القول. أمثلة: * قول الله عزّ وجلّ في سورة (يوسف/12 مصحف/53 نزول) في حكاية قصّة يوسف عليه السلام وإخوته: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ} ؟ [الآية: 89] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 فيوسف عليه السلام يُذَكِّرُ إخوته بما سَبَقَ أَنْ فَعَلُوا بِهِ وبأخيهِ "بنيامين" بأسلوب الاستفهام، وتُفْهَمُ مع هذا التذكير معانٍ أخرى كالعتاب أو التلويم. وقول اللَّهِ عزّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) خطاباً للملائكة بعد أن أثبت لهم تفوْق آدم عليهم بمعرفةِ الأسماء الَّتي علّمهُ إيّاها، وبعد أن اعلنوا جهلهم بها: {قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} ؟ [الآية: 33] . *** (7) شرح الاستفهام المستعمل في الافتخار: ذكروا أنّ الاستفهام قد يُسْتعمل في الافتخار، ومثَّلُوا له بقول اللَّهِ عزّ وجلّ في سورة (الزخرف/ 43 مصحف/ 61 نزول) حكاية لنداء فرعون فِي قومه: {ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ ياقوم أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهاذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} ؟ [الآية: 51] . قالوا: إنّ الاستفهام في قوله: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} خرج عن معناهُ إلى معنى الافتخار بما يملك في مصر. أقول: إنّ فرعون خاف على قومه أن يتأثّروا بدعوة موسى ويتّبعوه، بعد أن جاءهم بآياتٍ ذواتِ عدد، وبعد أن دعا رَبّه فكشَفَ عنهم ما أرسَلَ عليهم من رجز، فأراد فرعون أن يُقْنع قومه بتفوّقِهِ علَى مُوسَى بأنّ لَهُ مُلْكَ مصر، وبأنّ موسى لا مُلْكَ له ولا سلطان، وبأنّه إذا أراد أن يتكلّم فإنّه لا يكاد يُبين عن مراده، وعلى هذا فالاستفهام في كلامه مستعمل لانْتزَاع إقرار قومِهِ في جماهيريَّة غوغائيّة بتفوّقه على مُوسَى، وَلِلَفْتِ أنظارهم إلى عناصر التفوّق التي يريد أن يخدعهم بها عن الحقيقة، ولَيْسَ لمطلق الافتخار، وقد يكون فيه رائحة اْفتِخَار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وقد يُفْهَم الافتخار من بعض أمْثِلَةِ الاستفهام كمَقْصَدٍ أوّل، وقد يكون أحد لوازم المقصد الأوّل منه، كقولي مفتخراً بأمجاد أُمَّتنا الإِسلامية: *أَما نَحْنُ الَّذِينَ غَدَوْا شُمُوساً * عَلَى الدُّنيَا وَعَمَّ بِنَا الرَّخَاءُ؟ *** (8) شرح الاستفهام المستعمل في التفخيم والتعظيم: تندفع نفس المتكلّم حين يرى شيئاً عظيماً فخماً للتعبير عن عظمته وفخامته، بأسلوب التّعجُّبِ أحياناً، وبأسلوب الاستفهام أحياناً أخرى، فإذا رأى قصراً عظيماً فخماً قال: مَا هذا القصر؟. كيف بُنِي هذا القصر؟. مَنْ بنى هذا القصر؟. وإذا سمع شاعراً مُبْدعاً قال: ما هذا الشاعر؟. من أين له بهذا الشعر البديع؟ وهو لا يريد الإِجابة على استفهاماته، إنّما يريد التعبير عن عظمة ما رأى، أَوْ سَمع. أمثلة: قول الله عزّ وجلّ في سورة (الكهف/ 18 مصحف/ 69 نزول) بشأن استعظام المجرمين يوم الدّين كتاب أعمالهم، الذي لم يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاَّ أحصاها: {وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياويلتنا مَالِ هاذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الآية: 49] . مَالِ هذا الكتاب؟ : استفهامٌ يرادُ به تعظيمُ وتفخيم شأنه، وليس استفهاماً يطلب له الجواب. * قول الشاعر: ومَنْ الّذي تُرْضى سَجَايَاهُ كُلُّها ... كَفَى الْمَرْءَ نُبْلاً أَنْ تُعَدَّ مَعَايِبُهُ؟ أي: إنّ الذي تُرْضَى سجاياه كلُّها رَجُلٌ عظيم. * قول المتنبّي يمدح كافوراً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وَمَنْ مِثْلُ كَافُورٍ إِذَا الْخَيْلُ أحْجَمَتْ؟ ... وَكانَ قَلِيلاً مَنْ يَقُولُ لَهَا اقْدُمِي أي: هو عظيم قليل النظير في الحثّ على وُرُودِ المعارك، فأورد الاستفهام والغرض منه التعظيم، والقرينة المْدحُ. * قول الشاعر: أَضَاعُوني وَأَيَّ فَتىً أَضَاعُوا؟ ... لِيَوْمِ كَرِيهَةٍ وَسَدادِ ثَغْرِ وأَيَّ فَتىً أضَاعُوا؟ : أي أضاعوا فَتىً عظيماً، فالشاعر يعظم من أمْرِ شجاعته. الكريهة: الشدّة المكروهة في الحرب. وسَدَادِ ثَغْر: أي: وَسَدِّ ثَغْرَةٍ مِنْ ثُغُورِ البلاد لحمايتها من الْعَدُوّ. * قول ابن هانىء الأندلسي: مَنْ مِنكُمُ الْمَلِكُ الْمُطَاعُ كأنَّهُ ... تَحْتَ السَّوَابِغِ تُبَّعٌ فِي حِمْيَرِ؟ *** (9) شرح الاستفهام المستعمل في التهويل والتخويف: وإذا كان المعظَّم شيئاً مُخِيفاً مَهُولاً، كان تعظيمه بالاستفهام فيه مَعْنَى التَّهْوِيل والتخويف. أمثلة: * قول الله عزّ وجلّ في سُورة (الحاقّة/ 69 مصحف/ 78 نزول) يخوّف من يوم القيامة وأهْوَالها: {الحاقة * مَا الحآقة * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحاقة} ؟ [الآيات: 1 - 3] . فالاستفهام هنا للتخويف والتهويل. ونظيره قول الله عزّ وجلّ في سورة (القارعة/ 101 مصحف/ 30 نزول) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 {القارعة * مَا القارعة * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا القارعة} ؟ [الآيات: 1 - 3] . *** (10) شرح الاستفهام المستعمل في التسهيلِ والتخفيف: وقد يُعبّر المتكلّم عمّا يراه أمراً سَهْلاً هيّناً خفيفاً بأسلوب الاستفهام، وتدلُّ قرينة الحال أو قرينة المقال على ما أراد التعبير عنه. كأن يقول قائل لشابّ رياضيٍّ معتادٍ صعود الجبال: أتستطيع أنْ تصعد هذا الجبل؟ فيقول له: وماذا في صعوده؟ ويقول قائل لخطيب مفوّهٍ معتادٍ أن يقف بين الجماهير خطيباً مرتجلاً، وبأسرهم بكلامه: أتستطيع أن تخطب لنا خطبةً في هذا الحفل؟ فيجيبه بالْمَثَل: أو للبطّ تُهَدِّدِينَ بالشَّطّ. أمثلة: * قول الله عزّ وجلّ في سورة (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول) : {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بالله واليوم الآخر وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ الله وَكَانَ الله بِهِم عَلِيماً} [الآية: 39] . أي: إنّ الإِيمان أمْرٌ سَهْلٌ يَسيرٌ هيِّنٌ لاَ ثِقَلَ فِيه عَلَى النفوس. * قول اللَّهِ عزّ وجلّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) : {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين ... } ؟ [الآية: 52] . أي: هَلْ تَنْتَظِرُون أَنْ يَنَالَنا إلاَّ إحْدَى الْحُسْنَيَيْن: الشَّهَادَة وهْي سَهْلَةٌ عَلَيْنا، أو النَّصْر وهو حبيبٌ إلينا. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 (11) شرح الاستفهام المستعمل في التهديد والوعيد: وقد يُهدِّد المتكلّم باستخدام أسلوب الاستفهام، وقَدْ يَتَوعَّدُ به. كأن يقول السُّلْطان لطائفةٍ منَ المجرمين الّذين لم تَثْبُتْ بَعْدُ إدانتُهم بجرائمهم: ألَمْ تَعلَمُوا أَنَّنا قطعْنَا أيدي الّذِينَ ثبتَتْ عليهم جريمة السّرقة؟. ألَمْ تَعْلَموا أنَّنا قتلْنَا من ثبتت عليهم جريمة القتل عمداً وعُدْواناً؟ ألم تَعْلَمُوا أَنَّنا عاقبنا من ثبتت عليهم جريمة الحِرابة بتقطيع أيديهم وأرجُلهم من خلاف، وبقتل القتَلة منهم؟. أمثلة: * قول الله عزّ وجلّ في سورة (المرسلات/ 77 مصحف/ 33 نزول) : {أَلَمْ نُهْلِكِ الأولين} ؟ [الآية: 16] . أي: كما فعلنا بالمجرمين الأولين من مكذّبي القرون الأولى سنفعل بأمثالهم من الأمم اللاّحقة. * قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) يتوعّد الكافرين بما في يوم الدين: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملائكة وَقُضِيَ الأمر وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} ؟ [الآية: 210] . * قول الله عزّ وجلَّ في سورة (يونس/ 10 مصحف/ 51 نزول) يُهَدِّدُ المشركين: {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ ... } ؟ [الآية: 102] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 (12) شرح الاستفهام المستعمل في التكثير: وقد يعبّر المتكلم عن الكَثْرَة بأسلوب الاستفهام، والأداة المستعملة في هذا غالباً كلمة "كم" وتخرج حنيئذٍ عن الاستفهام وتسمى "كم" الخبرية التي يُعبَّرُ بها عَنِ الكثرة. وَيمكن أن يستعمل غيرها من الأدوات للدلالة على التكثير، كأن تقول الأم لابنها الذي يريد أن تحمله مع أن كبدها تذوب من توالي حمله: أَلَيْلَةً وَاحِدَةً ... أَرَّقْتَني يَا وَلَدِي؟ تُرِيدُ حَمْلاً وأنَا ... تَذُوبُ مِنْهُ كَبِدِي أمثلة: * قول الله عزّ وجلَّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) : {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} ؟ [الآية: 4] . أي: كثيرٌ من الْقُرى أهْلَكْنَاها. * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {سَلْ بني إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ... } ؟ [الآية: 211] . أي: آتيناهم آياتٍ بَيّنَاتٍ كثيرات. * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) : {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرض كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} ؟ [الآية: 7] . أي: أنبتنا فيها أصْنافاً كثيرة. * قول أبي العلاء المعرّي: صَاحِ هذِي قُبُورُنَا تَمْلأُ الرَّحْـ ... ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 أي: فقبورٌ كثيرة من عَهْدِ عاد. *** (13) شرح الاستفهام المستعمل في التسوية: ويكون في الاستفهام الداخل على جملة يصحُّ حلول المصدر محلّها، ويأتي بعْدَها معادلٌ. أمثلة: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} ؟ [الآية: 6] . أي: استوى إنذارهُمْ وعَدَمُهُ. * قول المتنبي: وَلَسْتُ أُبَالي بَعْدَ إِدْرَاكِيَ الْعُلاَ ... أَكَانَ تُرَاثاً مَا تَنَاوَلْتُ أَمْ كَسْبَا *** (14) شرح الاستفهام المستعمل في الأمر: كثيراً ما يتلطَّفُ المتكلم بالمخاطب فيوجّه له الأمر بأسلوب الاستفهام، والأمْرُ يَشْمَلُ كُلَّ مَا تُسْتَعْمَلُ له صيغة الأمْرِ من تكليف، أو نصيحة، أو موعظة، إو إرشادٍ، أو دُعاءٍ، أو التماسٍ، أو غير ذلك. فإذا قدّم له طعاماً مثلاً قال له: أتأكل؟ ألاَ تأكُل؟. وإذا أراد أن يأمُرَه بالصَّلاةِ وقد حانَ وقْتُها قالَ له: أَتُصَلّي؟ ألاَ تُصَلِّي.. وهكذا. أمثلة: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) خطاباً لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 {فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب والأميين أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ والله بَصِيرٌ بالعباد} [الآية: 20] . أَأَسْلَمْتُمْ؟ : أي: أسْلِموا. * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول) : {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} ؟ [الآية: 91] . فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُون؟ : أي: انْتَهُوا. قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الفرقان/ 25 مصحف/ 42 نزول) : {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ... } [الآية: 20] ؟. أَتَصْبْرُون؟ : أي اصْبِرُوا. * قول الشاعر: أَلاَ ارْعِوَاءً لَمِنْ وَلَّتْ شَبِيبَتُهُ ... وآذَنَتْ بِمَشيبٍ بَعْدَهُ هَرَمُ؟ أي: فلْيَرْعَوِ عن المعاصي والقبائح وفعل السّيّئات. *** (15) شرح الاسْتِفْهَام المستعمل في التّنبيه: التنبيهُ في الحقيقة هو من أقسام الأَمر، ومن المعاني الّتي تُستعمل فيها صيغة الأَمر. أمثلة: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الفرقان/ 25 مصحف/ 42 نزول) : {أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} [الآيات: 45 - 46] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 ألَمْ تَرَ إلَى رَبّكَ؟ : أي: انظر وتفكّر وتنبَّه إلى هذه الآية من آيات الله. * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التكوير/ 81 مصحف/ 7 نزول) بشأن القرآن المجيد: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ * فَأيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} [الآيات: 25 - 27] . فَأَيْنَ تَذْهَبونَ؟ : أي: انْتَبِهُوا، ولاَ تَذْهَبُوا بعيداً منصرفين عن إدْراك الحقيقة. * قول الشاعر: *أَلَم تَسْمَعِي أيْ عَبْدَ في رَوْنَقِ الضُّحَى * بُكَاءَ حَمَامَاتٍ لَهُنَّ هَدِيرُ؟ أي: انتبهي لبكائهِنّ، فإنّك عندئذٍ تذكرين بُكَاء عَاشقك. *** (16) شرح الاستفهام المستعمل في الترغيب: الترغيب في الحقيقة من المعاني التي تُسْتَعْمَلُ للدَّلالة عَلَيْها صيغة الأَمْر، فكما يستعمل الاستفهام في الامر يمكن أن يُسْتَعمل في الترغيب. أمثلة: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الآية: 245] . أي: ارغبوا في هذا الثواب العظيم فأقْرِضوا الله قرضاً حسناً. * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الصف/ 61 مصحف/ 109 نزول) : {ياأيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الآية: 10] . أي: ارغَبُوا في هذِهِ التجارة العظيمة الرابحة. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 (17) شرح الاستفهام المستعمل في النهي: استعمال الاستفهام في النهي نظير استعماله في الأَمْر، لأنَّ الأمر بالشيءِ نهْيٌ عن ضدّه، وبالعكس. أمثلة: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) بشأنِ الحث على قتال أئمة الكُفر: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ} ؟ [الآية: 13] . أي: لا تخشوهم، لأنّ الله ناصركم عليهم. * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الانفطار/ 82 مصحف/ 82 نزول) : {ياأيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم * الذي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الآيات: 6 - 7] . أي: لا تغتَرَّ بربّك. * قول الشاعر: أَكُلَّ امْرِىءٍ تَحْسَبِينَ إمْرأً ... وَنَارٍ تَوَقَّدُ في اللَّيْلِ نَاراً؟ أي: لاَ تَحْسَبي ذلك. *** (18) شرح الاستفهام المستعمل في الدّعاء: استعمال الاستفهام في الدعاء نظير استعماله في الأمْرِ والنهي، فالدعاء تستعمل للدلالة عليه صيغتا الأمر والنهي، والدعاء يكون عادة من الأدنى إلى الأعلى، والحقّ أَنْ لا يكون إلاَّ من العبد لربّه عزَّ وجلَّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 أمثلة: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) : {واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرجفة قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ ... } [الآية: 155] ؟. أَتُهْلِكُنَا بَمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا؟ : أي: لاَ تُهْلِكْنَا بِمَا فعَلَ السُّفَهَاءُ منا. * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) بشأن المشركين وتكذيبهم بالقرآن. {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ المجرمين * لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم * فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} ؟ [الآيات: 200 - 203] . هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ: أي: أنْظِرْنَا رَبَّنا، يدعون بأسلوب الاستفهام لأنّهم يَعْلَمُونَ أَنَّهم مُذْنِبُون لا يستجاب لهم، فقد انتهت مدّة ابتلائهم. *** (19) شرح الاستفهام المستعمل في الاسترشاد: قد يطرح المتكلم سؤالاً استفهاميّاً ظاهره يُشْعر بالاستشكال أو الاعتراض، وغرضه الاسترشاد، ويمكن أن نعتبر من الأمثلة على هذا أسئلة موسى للخضر في اعتراضاته على تصرّفاته، كما أبان الله لنا في سورة (الكهف/ 18 مصحف/ 69 نزول) : {فانطلقا حتى إِذَا رَكِبَا فِي السفينة خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} ؟ [الآية: 71] . {فانطلقا حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} ؟ [الآية: 74] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 إِمْراً: أَيْ: عجيباً مُنْكَراً لاَ يَتَّفِقُ مع أحكام الشريعة فيما أَعْلَم. نُكْراً: أيْ: مُنْكراً لاَ يتَّفِقُ مع أحكام الشريعة فيما أعلم. لَقَدْ تعجَّلَ موسى عليه السّلامُ سؤال الاسترشاد، مع أَنْ موافقة الخضر على مصاحبته له كانت مشروطةً بِأَنْ يَصْبِرَ حتَّى يُبَيّنَ لَهُ أسبابَ تصرُّفاتهِ الَّتِي لم تكُنْ في الحقيقة مخَالِفةً لمقتضياتِ شَرْعِ الله، إذْ عَلِم الْخَضِر من الحقيقة ما لَمْ يَعْلَمْهُ موسَى عليهما السلام. ومثَّلُوا لسؤال الاسترشاد الذي من هذا القبيل بسؤال الملائكة إذْ قَالُوا لربّهم كما جاء في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ؟ [الآية: 30] . *** (20) شرح الاستفهام المستعمل في التمنِّي والترجي: يتمَنَّى المُتَمَنِّي أمراً يرى أنَّه معتذّر الحصول أو بعيد المنال، وقد يعبّر عن تَمَنِّيهِ بأسلوب الاستفهام، كأنّ يتمنَّى بعضُ أصحاب الأوهام أنْ ينام ليلة فيصحوَ وقد حفظ القرآن عن ظهر قلب، أو صار عالماً من كبار العلماء، أو ألقي إليه من السماء كنز من الذهب أو نحو ذلك، فيقول: هلْ يَحْصُلُ لي كذا وكذا؟ وكذلك الترجّي. أمثلة: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) بشأن تمنّي الكافرين يوم الدّين أن يكون لهم شفعاء يشفعون لهم: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ على عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنْمَلَ غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خسروا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [الآيات: 52 - 53] . أي: نَتَمَنَّى أنْ يكون لنا شفعاء، أو نُرَدَّ إلى حياة الابتلاء لنعمل غير الذي كنّا نعمل، لكنّ أمانيَّهُمْ ضائعة ومطالبهم بها مرفوضة. * قول الشاعر: هَلْ بالطُّلُولِ لِسَائلٍ رَدُّ؟ ... أَمْ هَلْ لَهَا بِتَكَلُّمٍ عَهْدُ؟ * قول أبي العتاهية يمدح الأمين: تَذَكَّرْ أَمِينَ اللهِ حَقِّي وَحُرْمَتِي ... وَمَا كُنْتَ تُولِينِي لعلَّكَ تَذْكُرُ فَمَنْ لِيَ بالْعَيْنِ الَّتِي كُنْتَ مَرَّةً ... إِليَّ بِهَا في سَالِفِ الدَّهْرِ تَنْظُرُ؟ أي: أتمنَّى أَنْ تعودَ لي تلك العين التي كنت تنظرُ إليَّ بها، أو أرجو. * قول الشاعر: مَضَى زَمَنٌ والنّاسُ يِسْتَشْفِعُونَ بي ... فَهَلْ لِي إلَى لَيْلَى الْغَدَاةَ شَفِيعُ؟ فهو يتمنى أو يرجو. *** (21) شرح الاستفهام المستعمل في الاستبطاء: يستبطىء الموعود بوعْدٍ حدوث الموعود به، وقد يعبّر عن استبطائه له بأسلوب الاستفهام، فيقول لمن وعده بزيارته له: متَى تأتينَا؟. متى تزورنا؟ حتَّى متَّى تعِدُنا وَلا تفي بوعدك؟ أمثلة: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) خطاباً للمؤمنين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} [الآية: 214] . مَتَى نَصْرُ الله؟ أي: تأخَّرَ النَّصْرُ الْمَوْعود به، وهكذا حالُ البشر يستعجلون، وحكمةُ الله لا تُسَايرُ مطالب المستعجلين. * قول أبي العلاء المعرّي: إلاَمَ وفِيمَ تَنْقُلُنَا رِكابٌ ... وَتَأْمُلُ أَنْ يَكُونَ لَنا أَوَانُ؟ أي: إلى متى تسير مطاياناً وترجو أن يكون لنا وقتٌ نجزيها فيه على إحسانها بنا. *** (22) شرح الاستفهام المستعمل في العرض: ويتلطّف الآمر، أو الناصح، أو الداعي، أو طالب أيّ مطلب، فَيَعْرِضُ ما يطلبه أو يدعو إليه عرضاً بأسلوب الاستفهام، والصيغة الأصلية التي تُسْتَعْمَل في ذلك صيغة الأمر، أو صيغة النهي. أمثلة: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول) : { ... وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الآية: 22] . أي: إنْ عفوتم وصفحتُمْ غفر الله لكُم. * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النازعات/ 79 مصحف/ 81 نزول) يعلّم موسَى عليه السّلام كيف يَعْرضُ دَعْوته على فرعون: {اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى * فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أَن تزكى * وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ فتخشى} ؟ [الآيات: 17 - 19] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الذاريات/ 51 مصحف/ 67 نزول) بشأنِ دعوة إبراهيم عليه السلام ضيوفه ليأكلوا ما أَعدَّ لهم من طعامٍ، وكان عِجْلاً مَشْوِيّاً: {فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ} ؟ [الآيات: 26 - 27] . *** (23) شرح الاستفهام المستعمل في التحضيض: ويريد المتكلم حَضَّ مَنْ يخاطبه على فعل أمرٍ أو ترِك أمْرٍ، وقد يجد استعمال أسلوب الاستفهام أوقع في نفسه، وأكَثْرَ تَأْثيراً، إذا كانت القرينة القولية أو الحالية تشعر بالتلويم على عدم الاستجابة. أمثلة: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) يحضُّ على قتال المشركين: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ ... } [الآية: 13] ؟. * قولي صانعاً مثلاً: أَلاَ قُمْتُموُ يَا رِجالَ الْهُدَى ... لنُصرَةِ دِينِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ؟ *** (24) شرح الاستفهام المستعمل في التجاهل: قد يتجاهل العارف بالأمر أو بالشخص أو بصفاته لأغراضٍ بلاغيّة، منها استزادة المعرفة، ومنها انتزاع الاعتراف، ومنها تحقيره والتقليل من شأنه حتّى كأنه غير معروف، ومنها الإِثارة لإِفاضة البيان حوله من بعض حاضري المجلس للتعريف به مدحاً أو ذمّاً، إلى غير ذلك من إغراضٍ بلاغية، ويستعمل في التجاهل أسلوب الاستفهام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 ويمكن أن نعتبر من أمثلة الاستفهام المستعمل في التجاهل ما جاء في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) ضمن عرض قصة إبراهيم عليه السلام لمّا حطّم أصنام قومه إذْ تخلف عنهم يوم خرجوا ليلهوا في عيد لهم، قال الله عزَّ وجلَّ فيها: {قَالُواْ مَن فَعَلَ هاذا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين * قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قالوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هاذا بِآلِهَتِنَا ياإبراهيم} ؟ [الآيات: 59 - 62] . (25) شرح الاستفهام المستعمل في التحقير والاستهانة والاستهزاء: وقد يستعمل الاستفهام أسلوباً من أساليب تحقير المستَفْهَم عنه والاستهانة به، لأنّ الاستفهام يشعر بأنّ المستَفْهِمَ غَيرُ مهتَمٍّ بما يَسْتَفْهِمُ عنه، ولا مكثرتٍ له لحقارته في نفسه، واستهانته به، ثم صار الاستفهام يدلُّ على التحقير والاستهانة بمساعدة قرائن الحال أو المقال: أمثلة: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) في بيان بعض مواقف الذين كفروا من الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أهاذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمان هُمْ كَافِرُونَ} ؟ [الآية: 36] . * وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الفرقان/ 25 مصحف/ 42 نزول) في ذلك أيضاً: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أهاذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً} ؟ [الآية: 41] . لقَدِ احتقروه واستهزؤُوا به أوَّلاً إِذْ بعثه الله رسولاً، فسورة الفرقان قد نزلت قبل سورة الأنبياء، ثم احتقروه واستهزؤوا به دفاعاً عن أوثانهم بعد أنْ أَبَانَ أنَّها حجارةٌ لا تضُرُّ ولا تنفَعُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 * قول الشاعر: فَدَعِ الْوَعِيدَ فَمَا وَعِيدُكَ ضَائِرِي ... أطَنِينُ أَجْنِحَةِ الذُّبَابِ يَضِيرُ؟ *** (26) شرح الاستفهام المستعمل في المدح أو الذمّ: وقد يُسَاقُ الاستفهام للدلالة على مدح المتحدّث عنه والثناء عليه، أو للدلالة على ذمّة وكشف مثالبه، والقرائن القولية أو الحالية كواشف. أمثلة: * قول جرير في مدح عبد الملك: أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ... وَأنْدَى الْعَالَمِين بُطُونَ رَاحِ؟ * قول المتنبي حينما صَرَعَ بدْرُ بن عمَّار أسداً بسوطه يمدحه: أَمُعَفِّرَ اللَّيْثِ الْهِزَبْرِ بِسَوْطِهِ ... لِمَنِ ادّخَرْتَ الصَّارِمَ الْمَصقُولاَ؟ * قول الشاعر: أَرَأَيْتَ أَيّ سَوالِفٍ وَخُدُودٍ ... بَرَزَتْ لَنَا بَيْنَ اللِّوَى فَزَرُودِ؟ * قول ابن الرومي في المدح: أَلَسْتَ الْمَرْءَ يَجْبِي كُلَّ حَمْدٍ ... إِذَا مَا لَمْ يَكُنْ لِلْحَمْدِ جَابِ؟ جَابٍ: أي: مَنْ يَجْبِي بمعنى يجمع. * قول الشاعر في الاستفهام المعبّر عن الذمّ: فَقَالَتْ: أَكُلَّ النَّاسِ أصْبَحْتَ مَانِحاً ... لِسَانَكَ كَيْمَا أَنْ تَغُرَّ وتَخْدَعَا؟ *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 (27) شرح الاستفهام المستعمل في الاكتفاء: وذكروا أنّ الاستفهام قد يستعمَلُ لبيان الاكتفاء، ومثلوا له بقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (العنكبوت/ 29 مصحف/ 85 نزول) : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بالحق لَمَّا جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} ؟ [الآية: 68] . * وبقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الزمر/ 39 مصحف/ 59 نزول) : {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله وَكَذَّبَ بالصدق إِذْ جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} ؟ [الآية: 32] . {وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} ؟ [الآية: 60] . أي: يكفيهم عقاباً لَهُمْ مَثْواهُمْ في جَهَنَّمَ يوم الدين. أقول: الأقرب اعتبار هذه الأمثلة من الاستفهام المستعمل في التهديد والوعيد والترهيب. *** (28) شرح الاستفهام المستعمل في الاستبعاد: وَكثيراً ما يُسْتَخْدمُ الاستفهام للدلالة على استبعاد المستفهم عنه، والتشكُّك في حدوثه. أمثلة: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الدخان/ 44 مصحف/ 64 نزول) بشأن الدخان الذي هو أحد أشراط السّاعة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 {فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى الناس هاذا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَّبَّنَا اكشف عَنَّا العذاب إِنَّا مْؤْمِنُونَ * أنى لَهُمُ الذكرى وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ} [الآيات: 10 - 14] . أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى؟ : أي: تَذَكُّرُهُمْ واتِّعاظُهُمْ أَمْرٌ مُسْتَبْعَد. * قول الشاعر أَتُقْرَحُ أَكْبَادُ الْمُحِبِّينَ كَالَّذِي ... أَرَى كَبِدي مِنْ حُبِّ مَيَّةَ تُقْرَحُ؟ أي: أستبعد ذلك. *** (29) شرح الاستفهام المستعمل في الإِيناس: ويريد المتكلم أن يؤانِسَ من يخاطبه، فيطرح عليه أسئلة يَجُرّهُ بها إلى المحادثَة، مع أنّ المتكلم عالم بجواب أسئلته. أمثلة: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (طه/ 20 مصحف/ 45 نزول) مبيّناً ما كلّم الله به مُوسَى في رحلة التكليم: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [الآيات: 17 - 18] . * قول الزوج في ليلة عرسه لعروسه: مَنْ أهْداكِ هذا العقد النفيس؟ مِنْ أيْنَ جئتِ بهذا الشعر الذهبي الجميل؟ مَاذَا تُحَبّين أنْ يكون بِكْرُكِ؟ أذكراً أم أنْثَى؟ *** (30) شرح الاستفهام المستعمل في التهكُّم والسخريَة: ويستعمَلُ الاستفهام عند إرادة التهكُّم أو السخرية، ومن الأمثلة مقالة قوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 شعيب عليه السلام له، كَما حكى الله عزَّ وجلَّ في سورة (هود/11 مصحف/ 52 نزول) : {قَالُواْ ياشعيب أصلاوتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} ؟ [الآية: 87] . ومقالة إبراهيم عليه السّلام لآلِهَةِ قَوْمِه مِنَ الأَوْثَانِ كما حكَى الله عزَّ وجلَّ في سورة (الصّافات/ 37 مصحف/ 56 نزول) : {فَرَاغَ إلى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ} ؟ [الآيات: 91 - 92] . أَلاَ تأْكُلُونَ؟ : استفهامٌ تَهَكُّمِيُّ سَاخِر. وكذلك: مَالَكُمْ لاَ تنطقُونَ؟ *** (31) شرح الاستفهام المستعمل في الإِخبار: وقد يستعمل الاستفهام أسلوباً من أسَالِيب الإِخبار، وهو يدخل في طريقة الإِعلام غير المباشر. أمثلة: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول) بشأنِ طائفةٍ من المنافقين: {وَإِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق يأتوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارتابوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أولائك هُمُ الظالمون} [الآيات: 48 - 50] . أفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا: أي: هم فريقانِ، فريقٌ في قلوبهم مرض النفاق، وفريق دخل إلى قلوبهم الرّيبُ. * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الإِنسان/ 76 مصحف/ 98 نزول) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} [الآية: 1] . أي: قَدْ أتى عليه هذا الحين. *** (32) شرح الاستفهام المستعمل في التأكيد: وقد يأتي الاستفهام تأكيداً لاستفهام قبله، حين تدعو الحاجة البيانيّة الرفعية لذلك، ومن الأمثلة على هذا قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الزمر/ 39 مصحف/ 59 نزول) : {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النار} ؟ [الآية: 19] . قال الموفّق عبد اللطيف البغدادي: "أي: مَنْ حقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ فإنَّكَ لاَ تُنْقِذُهُ، فـ "مَنْ" للشَّرْطِ، و"الفاء" جواب الشرط، و"الهمزة" في: {أَفَأَنتَ؟} دخلَتْ مُعَادَةً لطولِ الكلام، وهذا نوعٌ من أنواعها". قال الزمخشري: "الهمزة الثانية هي الأولَى كُرّرَت لتوكيد معنى الإِنكار والاستبعاد". *** خاتمة: قد نلاحظ معاني أخرى في بعض أمثلة الاستفهام غير التي ذكرها مُحْصُو المعاني السابقة، كالاستعطاف والاسترحام، والتيئيس وقطع الرجاء، والشكوى، والتشوّق، والغيرة، والتفجّع والهلع. * فمن الاستعطاف قول الشاعر: أَلَمْ أَكُ جَارَكُمْ وَيكُونَ بَيْنِي ... وَبيْنكُمُ الْمَوَدَّةُ والإِخَاءُ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 ومن التيئيس وقطع الرجاء قول الشاعر: قَدْ قِيلَ مَا قيلَ إِنْ صِدْقاً وَإِنْ كَذِباً ... فَمَا اعْتِذَارُكَ مَنْ قَوْلٍ إِذَا قِيلَ؟ ومِنَ الشكوى قولُ الشاعر: أَلاَ تَسْأَلاَنِ الدَّهْرَ مَاذا يُحَاوِلُ؟ ... أَنَحْبٌ فَيُقْضَى أَمْ ضَلاَلٌ وَبَاطِلُ؟ ومن التشوّق قولُ الشاعر: فَقُمْتُ للطَّيْفِ مُرْتَاعاً فَأَرَّقَنِي ... فَقُلْتُ: أَهْيَ سَرَتْ أَمْ عَادَنِي حُلُمُ؟ ومن الغيرة قول مجنون لَيْلَى: بِرَبِّكَ هَلْ ضَمَمْتَ إِلَيْكَ لَيْلَى ... قُبَيْلَ الصُّبْحِ أَوْ قَبَّلْتَ فَاها؟ * وأرى من الهلع والجزع قول موسى عليه السلام في ميقاتِ المناجَاةِ الثاني لربه، كما جاء في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) : { ... أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ ... } ؟ [الآية: 155] . *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 "علم المعاني" الباب الثاني: أحوال عناصر الجملة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 الفصل الأول: مقدمات عامّة المقدمة الأولى: الأصل في الكلام ذكر ما يدُلُّ على العنصر المراد بيانُه من عناصر الجملة، إلاَّ أنّ أهل اللّسان اعتادوا أن يحذفوا من الجملة عناصر يفهمون معانِيَها دون ذكر ألفاظها، لكثرة الاستعمال، أو لورود الجملة على طريقة الأمثال، أو لوجود قرينة تدُلُّ عليها من قرائن الحال أو قرائن المقال. فما اعتاد أهل اللّسان أو اعتاد البلغاء منهم على حذفه، أو هو ممّا يمكن إدراكُه بسهولة إذا حُذِف، فإنّ ذكره يُعْتَبر إسرافاً في التعبير يتحاشاه البلغاء، وحين يَعْمَدُ البليغ الذوَّاق للأدب الرفيع إلى ذكره فإنَّما يَفْعَلُ ذلك لغرضٍ بلاغيٍّ يقْصِدُه. *** المقدّمة الثانية: ويتعرّض كلُّ عُنْصرٍ من العناصر الأساسيّةِ التي تُبْنَى منها الجملة المؤدّية لما يَقْصِد المتكلّم بيانَهُ، لاحتمال تقييده بالوصف أو غيره من القيود، كالحال، والبدل، وعطف البيان، والتأكيد، والظرف الزماني أو المكاني، والجارّ والمجرور به، وغير ذلك، ويتعرّض أيضاً لاحتمال إطلاقه وعدم تقييده. والبليغ الذّوّاق للأدب الرفيع يختار من احتمالي التقييد وعدمه، ما يَراهُ مُحقّقاً لغرضٍ بلاغِيٍّ يقْصده، أو يَراهُ أَوْفَى بتحقيقه ممَّا يطابقُ به مقتضَى حال من يُوَجّه له بيانه، فرداً كان أو جماعة. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 المقدمة الثالثة: وكلُّ ما يُمْكن في الجملة الكلاميّة إيرادُه من الأسماء معرفةً أو نكرة، فإنّ على البليغ الذّوّاق للأدب الرفيع أن يختار من الاحتمالات الممكنة ما يُحَقِّق به غرضاً بلاغيّاً يقصِدُهُ، أو يراه أَوْفَى بتحقيقه، ممّا يطابق به مقتضى حال من يوجّه له بيانه، فرداً كان أو جماعةً. ويَتحقِّقُ باختيار الاسم النكرة أغراضٌ بلاغيّة متعدّدة، تقتضيها أحوال المخاطبين، ويُسْتَدَلُّ على المراد من هذه الأغراض بقرائن الحال، أو قرائن المقال. ويتحقَّقُ باختيار الاسم المعرفة أغراضٌ بلاغيّةٌ مُتَعَدِّدةٌ أيضاً تقتضيها أحوال المخاطبين، ويُسْتَدَلُّ على المراد من هذه الأغراض بقرائن الحال، أو قرائن المقال، وذلك بحسب نوع المعرفة، إذ الاسم المعرفة ينقسم إلى ستة أنواع، وهي الأنواع التالية: النوع الأول: ما يكون تعريفه بسبب كونه ضميراً. النوع الثاني: ما يكون تعريفه بسبب كونه عَلَماً. النوع الثالث: ما يكون تعريفه بسبب كونه اسم إشارة. النوع الرابع: ما يكون تعريفه بسبب كونه اسم موصول. النوع الخامس: ما يكون تعريفه بسبب كونه محلَّى بالأَلف واللاّم. النوع السادس: ما يكون تعريفه بسبب كونه مضافاً إلى واحدٍ ممّا سبق. قالوا: وأعْرَفُ هذه الأنواع الضمير، ويليه في الرُّتْبَة الْعَلَم والمضاف إلى الضمير، فرتبةُ اسم الإِشارة، فرتبة اسم الموصول، فرتبة المحلَّى بالأَلف واللاّم، فرتبة المضاف إلى أحد المعارف غير الضمير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 ولمّا كان مُنْشِىء البيان الكلاميّ أمام احتمالاتٍ وصُورٍ متعدّدة من كلّ ما سبق، وكان عليه أن يختار لبيانه واحداً منها. ولمّا كان كلُّ احتمال يُمكن أن يَقْصِدَ بِه البليغ معنىً بلاغيّاً يطابق مقتضى الحال، وهذا المعنى لا يتحقّق بغيره من الاحتمالات. ولمّا كانت مقتضيات أحوال المخاطبين مختلفات، فما يطابق مقتضى حال بعضهم قد لا يطابق مقتضى حال غيره. لمّا كانت كلُّ هذه الأمور مُجْتَمِعةً في وقت واحد، كان على البليغ أن يختار بلاغيّاً لبيانه ما هو الأبلغ والأَجمل المطابق لمقتضى الحال، وكان مسؤولاً عن هذا الاختيار. لكنَّ مراتبَ أذواقِ الْبُلَغاء متفاوتة متفاضلة، ومراتب الاختيارات الجماليّة متفاوتة متفاضلة أيضاً، لذلك كان لا بُدَّ أَنْ تتفاوت بلاغة الكلام، وتتفاضَل نِسَبُ الجمال فيه، بحسب تَفَاوُتِ الاختيارات، وتفاضل مستوياتها. *** المقدمة الرابعة: وللجملة في اللّسان العربيّ نظامٌ أصليٌّ ينبغي ملاحظته لدى ترتيب عناصرها، واحتمالاتٌ فرعيّة جائزة يتمُّ بها تقديم ما حقُّه الأصليُّ التأخير، لأغراضٍ بلاغيّةٍ أو جماليّة. لذلك كان على البليغ الذّوّاق للأدب الرفيع أن يتقيّد بنظام ترتيب عناصر الجملة، ولا يلجأ إلى الاحتمالات الفرعيّة الجائزة إلاَّ لأسباب بلاغيّةٍ أو جمالية دَعَتْهُ إلى ذلك. والباحثُ البلاغيُّ يُنَبِّهُ على طائفةٍ من الأغراض البلاغيّة أو الجمالية الداعية إلى مخالفة النظام الأصلي في ترتيب عناصر الجملة الكلاميّة، حتَّى يهتدي بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 منشىء البيان الكلامي، ويَتَحرَّى فيما ينشىء من قول ما هو الأبلغ والأجمل دواماً، قدر استطاعته وتذوُّقِه لدقائق المعاني ومستويات الجمال. *** المقدمة الخامسة: ولدى إنشاء الكلام ومتابعة بناء بعضه على بعض، ورصْفِ بعضه إلى جانب بعض، يلاحظ كلُّ ذي فكرٍ متذوّقٍ لأساليب الكلام، أنّه تُوجَدُ طرائق وأساليب يقتضيها ظاهر النَّسّق، فالمتكلّم يتابعها بتلقائيّة، كتتابع الماء في مَجرىّ متماثل الأجزاء، ليس فها انحرافٌ ولا دورانٌ ولا الّتِوَاء، وليس فيها صَواعِد ولا نوازل. ولكِنْ قد تدْعو دواعي بلاغيّة أو جمالية إلى مخالفة مقتضى الظاهر في الكلام، كما تدعو دواعي نفعيّة لعطف مجرى الماء عن نَسَقه المتماثل، أو تدعو دواعي جماليّة لإِيجاد دوائر ومنعطفات، وصواعد ونوازل في مجرى الماء، لإِحْدَاث مشاهد جماليّة بديعة لا تتحقّق بمتابعة النَّسَق المتماثل. والباحثُ البلاغيُّ يُنَبِّهُ على طائفة من الأغراض البلاغيَّةِ أو الجماليّة الداعية إلى مخالفة مقتضى ظاهر النسق الكلامي، ليهتَديَ بهَدْيِها مُنْشِىءُ البيان، ويتحرَّى فيما ينشىء من قولٍ ما هو الأبلغ والأجمل دواماً قدر استطاعته، وتذوُّقِه لدقائق المعاني، ومستويات الجمال. *** خاتمة: هذه الأحوال التي تَقَدَّم الحديث عنها مجملاً في المقولات الخمس السابقات، تتطلّبُ دراسة تفصيليّة مُدَعَّمَةً بالأَمثلة والشواهد المقرونة بالتحليل، ليستفيد منها دارس علوم البلاغة وفنونِها في تحقيق أربع غايات، وهي ما يلي: الغاية الأولى: حُسْنُ تَفَهُّم وتَدَبُّر النَّصوص البليغة الرفيعة من القرآن المجيد، وأقوال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكلام أساطين البلغاء والشعراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 الغاية الثانية: اكتساب القدرة على نقد النصوص المشتملة على ما هو سمين وغثٌ من الكلام، وبيان ما في النصوص التي يَنْقُدُها من محاسن وعيوب بلاغيّة وأدبيّة. الغاية الثالثة: اكتسابُ الذوق الرفيع الذي يُحِسُّ بمواطن البلاغة والجمال الأدبيّ. الغاية الرابعة: الاهتداءُ بهَدْي ما أعطَتْهُ الدراسة، لدى إنشاء الكلام، وكتابةِ المقالات والخطب والرسائل والمؤلفات، واكتسابُ الدافع الذّاتي لِتَحَرِّي ما يَرَاه الأَبْلَغَ والأجْمَل فيما يُنْشِىءُ من بيان، ولا سيما حينما يقول بوظيفة الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والأَمْرِ بالمعروف والنّهي عن المنكر. ولا يَفُوتُنا أخيراً ملاحظةُ أَنَّ حظوظ الناس فيما يستفيدونه من دراستهم متفاوتة متفاضلة، وهي تكون بحسب هِبَاتِهم الفطريّة، من الاستعداد لتَذَوُّق البيان الرفيع، وصناعَةِ الكلام البليغ وصياغته. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 الفصل الثاني: الذكر والحذف (1) مقدمة * كل ما يُرادُ الإِعلامُ به من عناصر الجملة في اللّسان العربيّ، فالأصل السّاذَجُ بالنِّسْبَةِ إليه أنْ يُذْكر ولاَ يُحْذَفَ، لأنَّ ذِكْره دليلٌ على إرادة الإِعْلامِ به، أمّا حَذْفُه فهو دليلٌ على عدم الإِعْلامِ به. * هذا هو الأصلُ في الآليَّة المادّيّة لبناء الكلام الدّالِّ على المعاني الّتي يرادُ الإِعلامُ بها، إذا عَزَلْنا قُوى الإِدْراكِ اللَّمْحِيّ والإِشاريّ، وقُوى الاستدلالِ بقرائِن الأحوال وقرائن الأقوال، لدَى مُتَلقِّي الخطاب، ولا سيما أهلُ الفطانة والذّكاء وأهل الخبرة في حِيَلِ المعبِّرين عمّا في نفوسهم بأساليبِ وطرائق الكلام المختلفة، فهؤُلاءِ يكفيهم الرّمز وتُقْنِعُهم الإِشارة عن صريح العبارة. وقديماً قال العرب في أمثالهم: "تُقْرَعُ العصا لذي الْحِلْمِ" أي: يُدْرك ذو العقل الراجح والفطانة اللَّماحة الْمُرَادَ من قرع العصا على الأرض، فيستخرج منها رُمُوزاً ودلالات يقصِدُها قارعُها، كما ورد في قصّة مَضْرِب هذا المثل. ورَمزَ وفْدُ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بني قريظة في غزوة الخندق، بقولهم له: "عضَل والقارة" أي: غَدَرَ بَنُو قريظة كما غدرت من قبلُ "عَضَلٌ والقارة". وحين دخل داهية العرب أَمِيرُ جيش المسلمين عمرو بن العاص، على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 الداهية العجمي "أرطبون" حاكم القدس، مُدَّعِياً أنه رسول أمير جيش المسلمين إليه. وفَطِن "أرطبون" أنّ مثل هذا الرسول لا بدّ أن يكون هو أمير جيش المسلمين، فأمَرَ خاصَّتَهُ بأن يقتلوه قبل أن يخرج من المدينة، ووصل الخبر إلى عَرَبيٍّ في القدس يَعْرِف عمرو بن العاص، فقال له بعد أن خرج من قصر "أربطون" يَا عَمْرو أحسنْتَ الدُّخول فأحْسِنِ الخروج. ففطن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أنّ أَرْطَبون شكّ في أمْرِه فأمَرَ سِرّاً بقتله، فعاد إلى "أرطبون" وزعم له أنّه واحدٌ من عشرةِ هم أهْلُ مشورة أمير جيش المسلمين، فإنْ رأيْتَ أن آتيكَ بهم ليسمعوا منك الذي سَمِعْتُه أنا منك، فتكون موافقتهم أوثق للأمر الذي تفاوضنا فيه، فطمع "أرطبون" بقتل العشرة فأَمَر سرّاً بعدم قتله، حتّى يأتيه ببقيّة أهل مشورة الأمير كُلِّهم فيقتلهم، ونجا عمرو بن العاص بهذه الحيلة الذكيّة. * ونلاحظ أنّ في كثيرٍ من الجمل العربيّة مخاذيفَ واجبَة الحذف أو جائزَته، قد لوحظ فيها أن المحذوف هو من الأكوان العامّة الّتي تُفْهَمُ بالْفِطْنَة دون أن تُذكَر، أو من الضمائر التي يُوجَدُ في الملفوظ من الكلام ما يَدُلُّ عليها، أو ممّا يسْهُلُ إدْراكُه ولو لم يُوجدْ في الكلام لفظ خاصٌّ يَدُلُّ عليه. وقد اعتاد أهل اللّسان العربيّ على حَذْفِها دواماً، أو أحياناً، لأنّ اللٍّسان العربيَّ مَبْنِيٌّ في مُعْظَم تعبيراته على الإِيجاز، وحذْفِ ما يُعْلَم ولَو لَمْ يُذكر، وهذا من مزايا اللّغة العربيّة. * وحينما يكون المتكلّم العربيّ الْبَلِيغُ أمام احتمالَيْنِ جائزيْنِ في اللّسان العربي كالذِّكْر والحذف، ويَرَى أنَّ كُلاًّ منهما يُحَقِّق توصيل ما يُريدُه من المعاني، إلاَّ أنّ أحدهما أكْثَرُ تأثيراً في المخاطب بحسب حاله، أو أكثر جمالاً لدى ذوّاقي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 الجمال في الكلام، أو يراه يُحَقِّق له غرضاً بلاغيّاً لا يحقِّقُه له الاحتمال الآخر، فإنّ عليه أن يكون دقيق الملاحظة في خصائص الاحتمالات وفُروقِ دلالاتها، ويُحَدِّد منها ما يدعوه إلى ما يختار من ذكر العنصر من عناصر الجملة التي يُنْشِئُها أو حذفه. فإذا ذَكَرَ العنصُرَ وكان بالإِمكان إدْراكُ المخاطب معناه لو لم يَذْكُرْه، فينبغي أن يكونَ ذكره له مستنداً إلى داعٍ بلاغيٍّ رجَّحَ لَدَيْه ذكْره. وإذا حذَفَ الْعُنْصُرَ الذي يُمْكن إدْراكُ المخاطب معناه لو لم يذكُرْهُ، فينبغي أن يكون حذفُه له مستنداً إلى داعٍ بلاغيٍّ رجّح لَدْيه حَذْفه، وأدنَى ذلك الرغبةُ في الإِيجاز والاقتصادِ في القول، والبُعْدِ عن الإِسراف فيه، وإيثار جِسْمٍ للعبارة مُكْتَنِزٍ مُضمِّرٍ، على جِسْمٍ مُتَرَهِّلٍ مُنتَفخٍ لا رصانة فيه ولا قُوّة ولا جزالة. فلكلِّ من الذكر والحذف مقامٌ ينَاسِبُه، وحالٌ تقتضيه. * وقد نَبَّه البلاغيُّونَ على طائفةٍ من دواعي الذكر، وطائفةٍ أخرى من دواعي الحذف، وأشاروا إلى أنّ ما ذكروه من ذلك لا يُمَثِّل إحصاءً شاملاً لكلِّ الدواعي، وإنّما يُقَدِّم صُوراً ونماذج يمكن أن يهتدي بهديها الباحثون، ويَحْذوا حذوها، وأن تكون لديهم منطلقاتٍ للبحث الذكيِّ الفطن اللّماح في هذا المجال. *** (2) دواعي ذكر العنصر مع إمكان إدراك معناه لدى حذفه ذكر البلاغيّون طائفةً من دواعي ذكر العنصر الذي يُراد الإِعلام به من عناصر بناء الجملة، مع إمكان فهم معناه العامّ لدى حذفه، وهذه الدواعي تُحَقّق أغراضاً بلاغيّة يَهْدِفُ إليها المتكلمّ البليغ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وقد ظهرت لي بعض دواعي أخرى لم يُصَرِّحوا بها، وهي تحقّق أغراضاً بلاغيّة وهذه الدواعي الَّتي ظهرت لي تُقاس على ما ذكروا وهي ممّا يقع في نفوس المتكلمين البلغاء، وله تأثيرٌ ما في المخاطبين. وأُأكّد أنّه يَعْسُر إحصاءُ كلّ الدواعي الّتي تقوم في نفوس المتكلمين البلغاء لذكر ما يمكن حذفه، لذلك رأيتُ أن أعرض للدارسين ما ذكره البلاغيون، وأضيفَ إليه ما ظهر لي، وهي بمجموعها الدواعي السّتةَ عشر التالية: الداعي الأول: الاحتياط بذكر العنصر، لضعف التعويل على القرينة فيما لو حُذِف، إذْ تكون القرينة غير كافية للدلالة عليه، ويخشى المتكلّم أن يَلْتَبِسَ المرادُ على المتلَقِّي إذا حذفه تعويلاً على القرينة التي يمكن أن تدُلَّ عليه. الداعي الثاني: الإِشعار بغباوة المخاطب، وأنّه ليس من الّذين يُدْرِكون المراد بالقرائن، بل لا بدَّ من إعلامه باللّفظ الخاصّ الصريح الدّال على العنصر. الداعي الثالث: إرادة زيادة الإِيضاح والتقرير، وذلك حين يكون الموضوع يقتضي ذلك، كأمور العقائد، وأحكام الحلال والحرام، والصِّيغ القانونيّة التي قد يتلاعبُ بمعانيها أصحاب الأهواء، ولا تكفي القرائن لإِلزامهم بالمعاني المرادة. ويَحْسُنُ هذا الإِيضاح والتقرير في مجال تعليم مسائل العلوم، وفي الوعظ والإِرشاد، وفي مقام إثارة الحماسة وسائر العواطف، وفي البيانات والبلاغات العامّة للجماهير. الداعي الرابع: إرادة التعظيم والتفخيم، ويظهر هذا في نحو الأسماء والألقاب التي يُشْعِر ذكْرُها بعظمة أصحابها وفخامتهم، وفيما يُثِير ذكرُه في النفوس المهابة أو الإِجلال. الداعي الخامس: إرادة الإِهانة والتحقير، ويظهر هذا في نحو الأسماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 والألقاب، التي يُشْعِرُ ذكرها بمهانة أصحابها وحقارتهم، وفيما يُثيرُ ذكْرُهُ في النفوس الاحتقار والاستهانة. الداعي السادس: إرادة التهويل، ويظهر هذا فيما يُثيرُ ذكرُه في النفوس مشاعر الخوف والرهبّة. الداعي السابع: إرادة استثارة ما في نفوس المتلقّين من كوامن المشاعر، كإثارة شوق المخاطب بذكر اسم محبوبه، وإثارة الشوق إلى الوطن، بذكر اسمه لدى المسافر البعيد عنه، المشوق إلى العودة إليه. الداعي الثامن: إرادة التلَذُّذ، ويظهر هذا الداعي في الألفاظ الّتي يُحبُّ المتكلّم أن يُرَدِّدَها على لسانه، لأنّه يحبُّ مسمَّيَاتها، كاسم المعشوقة عند العاشق، واسم الذهب عند عشاقه. ويقول الناس: من أحبّ شيئاً أكثر من ذكره. الداعي التاسع: إرادة التبرُّك، أو العبادة ويظهر هذا في الأدعية، والأوراد، والأذكار. الداعي العاشر: إرادة ترسيخ ما يدُلُّ عليه اللّفظ في نفوس المتلقِّين، كألفاظ الأذان التي تعاد وتكرّر. وكما يعفل مُرَدِّدو الشعارات، بغية ترسيخها في نفوس الجماهير، حتى تكون معانيها جزءاً من مفاهيمهم الثابتة، ففي خطبة واحدة يُرَدِّدُ زعيم اشتراكيٌّ مثلاً لفظ "الاشتراكية" مئة مرّة، ولا يكتفي بأن يدُلَّ عليها بالضمائر. الداعي الحاي عشر: إرادة بسط الكلام في المقام الذي يحسُنُ فيه بسط الكلام، كمقام الافتخار، أو المدح، أو الذمّ والتشنيع والتوبيخ، وكمقام التعليم، أو الترويج لفكرةٍ ما، أو الترغيب فيها، أو الترهيب منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 ويُراد بسْطُ الكلام لإِطالة وقت المحادثة والمحاورة، بغية التشرُّف، أو التبرّك، أو الاستئناس، أو الاستمتاع والتلذّد. وقد يُراد بسط الكلام بغية استدراج المخاطب للإِفاضة عمّا في نفسه، إذْ يُفْصِحُ في حالة الإِفاضة عن أشياء يَحْرِصُ في العادة على كِتْمانِها وعدم الإِعلام بها. الداعي الثاني عشر: إرادة التسجيل على المخاطب حتَّى لا يتأَتى له الإِنكار. الداعي الثالث عشر: إرادة تأكيد الرّدّ على المخاطب إذا كان يُنْكِرُ صحة ما يقال له، مثل قوله الله عزَّ وجلَّ في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول) : {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [الآيات: 78 - 79] . لقد كان يمكن فهم المراد دون ذكر [يُحْيِيها] لكن اقتضَى الردُّ على سؤالِ منكر البعث بإحياء العظام وهي رميم، بأنْ يُقالَ له: يحييها الذي أنشأها أوّل مرّة. الداعي الرابع عشر: كونُ المختار للذكر نوعاً من الكلام يُفِيدُ معنىً خاصّاً مراداً لا يُسْتفاد هذا المعنى عند حذفه، ولو كان أصل المعنى قد يُفْهَم، ولكن بوجه عامّ، أو على وجه الإِجمال، فَيُقْصَدُ التعيين بالذكر. ويظهر هذا في نحو دلالة الفعل المضارع على التجدّد، ودلالة الاسم على مطلق الثبوت، والدلالات الخاصّة لأسماء الموصول، وأسماء الإِشارة، وغير ذلك. الداعي الخامس عشر: إرادةُ تكوين جُمَلٍ مستقلّة في الكلام، حتَّى يتَهَيّأَ إمكان سَوْقٍ كلٍّ منها منفردةً في المقام الملائم لها عند الحاجة. ويكثُرُ هذا في الْجُمَلِ القرآنيَّةِ التي يصلُح الاستشهاد بها في المواضع الملائمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 لها، فإذا حُذِفَ منها ما يمكن فهمه مع حذفه ضمن جُمَلِ الآية وهي مجتمعة، لم يتيسَّر الاستشهاد بالواحدة منها بصورة منفردة عند المناسبة الداعية إلى الاستشهاد بها، مثل قول الله عزّ وجل في سورة (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول) : {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً} [الآية: 126] . فلو حذف لفظ الجلالة الذي بعد [وكان] لما نقص من المعنى شيء، ولكن لا يَحْسُنُ عندئذٍ اقتطاعُ جملةٍ: "وكانَ بكلّ شيء محيطاً" والاستشهاد بها منفصلةً عن الجملة السابقة لها. الداعي السادس عشر: إرادة إظهار التعجّب والاستغراب، كأن يقول قائل بشأن شخص حذّاء اسمه "مسرور" لم يُعرَف عنه أنّه خطب بين الناس خُطبةً ما: لقد خطب اليوم مسرورٌ الحذاء خطبةً عصماء أَسَرَتِ الجماهير، وأثَّرَتْ فِي عَواطفهم تأثيراً عظيماً، فيقول المخاطَبُ مُتَعَجِّباً: أمسرورٌ الحذاء هو الذي خطب هذه الخطبة العصماء؟! وقد كان يكفي أن يقول: أحقّاً خطب هذه الخطبة، ولكنَّه أعاد ذكر اسمه متعجّباً، ومستعيداً تذكّر صفاته التي لم يكُنْ يَتَخَيَّلُ معها أن يكونَ خطيباً، فضلاً عن أن يخطب خُطْبَةً عصماءَ. *** أمثلة وتطبيقات المثال الأول: قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) بشأن المتقين: {أولائك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولائك هُمُ المفلحون} [الآية: 5] . في تكرير المسند إليه وهو اسم الإِشارة في الجملة الثانية مع فهم المراد دون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 ذكره غرض بلاغيّ وهو زيادة الكشف والإيضاح بالتنبيه على أنّهم كما تحقّق منهم أنّهم متمكّنُونَ من تحقيق الْهُدَى الذي جاءهم من عند ربّهم بأعمالهم الصالحة، فقد ثبت لهم أنّهم هم المفلحون عند ربهم يوم الدّين، أي: هم الظافرون بما يريدون والفائزون بجنّات النّعيم. وفي هذه الإِعادة أيضاً فائدة جعل كلّ جملة من الجملتين وحدةً مستقلة، ولو انفردت كُلُّ جملةٍ منها لكانت كافية للدّلالة على الأخرى منهما عن طريق اللّزوم الفكري، لأنّ من كان على هدى من ربّه لا بُدّ أن يكون مُفْلِحاً، ومن كان من المفلحين فلا بدّ أنه قد كان على هُدىً من رَبِّه، ففي استقلاليّةِ كُلٍّ من هاتين الجملتين تأكيد لمعنى كلّ منهما عن طريق دلالة ما في الأخرى من اللُّزوم الفكري. ونظيره قول الله عزّ وجلّ بشأن الّذِين كفروا في سورة (الرعد/ 13 مصحف/ 96 نزول) : {أولائك الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ وأولائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدونَ} [الآية: 5] . ويكثر في القرآن ذكر المسند إليه أو المسند مع إمكان حذفه أو حذفهما لتكون الجمل مستقلّة، قابلةً لأن يُسْتَشْهد بها منفردة في المناسبات الداعيات إلى الاستشهاد بها، ومن ذلك قول الله عزّ وجلَّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) : {الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل * فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء واتبعوا رِضْوَانَ الله والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [الآيات: 173 - 174] . لقد كان من الممكن الاستغناء بالضمير في "من الله - رضوان اللهِ - واللهُ ذو" لكن إعادة ذكر اسم الجلالة في هذه الجمل يجعل كلاًّ منها جملةً مستقلّة، مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 ما في ذكر لفظ الجلالة من تربية الإِجلال والإِعظام في القلوب، وإمكان الاستشهاد ببعضها منفردةً عن سائرها. ومن ذكر المسند والمسند إليه مع إمكان حذفهما قول الله عزّ وجلّ في سورة (لقمان/ 31 مصحف/ 57 نزول) : {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [الآية: 34] . فقد كان من الممكن أن يقال: ولا بأيّ أرض تموت. المثال الثاني: ما جاء في سورة (طه/ 20 مصحف/ 45 نزول) بشأن تكليم الله موسَى عليه السلام: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى * قَالَ أَلْقِهَا ياموسى} [الآيات: 17 - 19] . في هذا النَّصّ نلاحظ ذِكْرَ كلماتٍ كان من الممكن حَذْفُها دونَ أن يُؤَثِّرَ عَلى المعنى شيئاً. لقد كان يكفي أن يقول موسى عليه السلام في جواب سؤال ربّه: "عَصَايَ" دون أن يقول: {هِيَ عَصَايَ} . وكان من الممكن أن يقتصر على بيان أنها عصاه، دون أن يشرح أعماله فيها بقوله: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [الآية: 18] . وكان من الممكن أن يقول الله عزّ وجلّ له: {أَلْقِهَا} دون أن يناديَهُ {ياموسى} . لكن دعَا إلى بسط الكلام وإطالةِ الحديث رغبةُ الإِيناسِ مِنَ الرَّبّ عزّ وجلّ، ورغبةُ التشرّف والاستئناس والتلذّذ بطول المحادثة من موسى عليه السلام. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 المثال الثالث: في قصّة إبراهيم عليه السّلام وتحطيمه أصنام القوم التي كانت على أشكال الناس، إلاَّ كبيراً لهم، وذلك حين خرج القوم من بلدتهم لعيدٍ لهم ولم يخرج معهم إبراهيم عليه السلام، جاء فيها بيانُ سؤال قومه له عمّن حطّم أصنامهم، فأجابهم عليه السلام جواباً فيه تعريض بغباوتهم، إذْ ذَكَرَ في كلامه ما يُمْكن فَهْمُه لو حذفه، فقال الله عزّ وجلّ في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) : {قَالُواْ مَن فَعَلَ هاذا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين * قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قالوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هاذا بِآلِهَتِنَا ياإبراهيم * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هاذا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} [الآيات: 59 - 63] . لَقَدْ كَان يكفي أن يقول لهم: "بل فعله كبيرهم" أو يقول لهم: "بل فعله هذا" لكنّه شعر أنّهم أغبياء إذْ يُدَافِعونَ عن آلهتهم من الأصنام التي حُطِّمَتْ ولم تستطعْ أن تُدَافع عن أَنْفُسِها، ولم يُقْنِعهم تحطيمها بأنّها لو كانت تملك لأنفسها أو لغيرها نفعاً أو ضرّاً لحمت أنفسها من التحطيم، ولمنَعتْ مُحَطِّمَها من أن يجعلَهَا جُذاذا. ومن كان يمثل هذا الغباء فإنّه يُناسبُه أن لا يُحْذَفَ له من الكلام ما يُمْكن أن يفهمه أقَلُّ النَاس ذكاءً وإدراكاً لدلالات القول. *** المثال الرابع: جاء في المأثور من الأقوال، ويُرْوى عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: "اعمل لدُنيْاك كأنّكَ تعيشُ أبداً، واعْمَلْ لآخِرَتِكَ كأنَكَ تَمُوتُ غداً". نلاحظ في هذا القول تكرير عبارة "اعمل" في الجملة الثانية، مع إمكان فهمها لو حُذفت، والغرض إرادة زيادة التقرير والإِيضاح، مع جعل كلّ جملة وحدةً مستقلّة. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 المثال الخامس: قول الشاعر الجاهلي "عمرو بن كلثوم" في معلقته يفاخر بقومه فيكرّر المسند إليه فيقول "وأنّا" مع كلّ منقبة يَصِفُ بها قومه: وَقَدْ عَلِمَ الْقَبَائِلُ مِنْ مَعَدٍّ ... إِذَا قُبَبٌ بأَبْطَحِهَا بُنِينَا بِأَنَّا الْمُطْعِمُونَ إِذَا قَدَرْنَا ... وَأَنَّا الْمُهْلِكُونَ إِذَا ابْتُلِينَا وأنَّا الْمَانِعُونَ إِذَا أَرَدْنَا ... وأَنَّا النَّازِلُونَ بِحَيْثُ شِينَا وأنَّا التَّارِكُونَ إِذَا سَخِطْنَا ... وأنَّا الآخِذُونَ إِذَا رَضِينَا وأنَّا الْعَاصِمُونَ إِذَا أُطِعْنَا ... وأنَّا الْعَازِمُونَ إِذَا عُصِنَا وَنَشْرَبُ إِنْ وَرَدْنَا الْمَاءَ صَفْواً ... وَيَشْرَبُ غَيْرُنَا كَدِراً وطِينَا قُبَب: جمع قُبَّة، وهي بناءٌ معروف، وقد تكون من بيوت العَرَبَ الرُّحّل من الأقْمشَةِ والجلود. بأبْطَحِها: الأبْطَحُ: الأرض الخلاء الواسعة. إِذَا ابْتُلِينَا: أي: إذا امتحنَّا بالقتال. ويصف قومه بأنهم أعِزَّاء يَمْنَعُون ما يريدون مَنْعَه فلا أحَدَ من الناس يُكْرِهُهُمْ على بذل شيءٍ لا يريدون بذله، ولا أحد من العرب يستطيع منعهم من أن ينزلوا بأيّ أرضٍ يريدون النزول فيها. ويصف قومه بأنّهم إذا سخطوا على إنسان مهما علت مكانته فإنهم يرفضون عطاياه ويتركونها، وإذا رَضُوا عنه فإنّهم يقبلون هداياه. ويصف قومه بأنَّهم يَعْصِمُون بالحماية والحفظ من يطيعهم، وأنّهم أهل عَزْمٍ وجِدٍّ وقُوّةٍ في تأديب من يعصيهم. ألا تُلاحظُ أنّه كرّر عبارة "وأنَّا" مع كلّ منقبة ذكرها لقومه مفاخراً، وغرضُه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 إلصاق المنقبة في قومه بذكرهم عند ذكرها، وإبرازُها في جملة مستقلّة، وكان بإمكانه أن يعطف المناقب دون تكرير المسند إليه. ومن هذا القبيل قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مفاخراً في إحدى الغزوات: أنا النبيُّ لا كذِب، أنا ابْنُ عَبْدِ المطلّب. *** المثال السادس: ما جاء في شعر الشاعرة الخنساء، تُمَاضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد، من بني سُلَيم، مُضَرِّية من أهل نجد، أشعر شواعر العرب، أدركت الجاهلية والإِسلام، ووفدت مسلمة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع قومها بني سليم، ومن شعرها قولُها في رثاء أخيها صخر: أَعَيْنَيَّ جُودَا وَلاَ تَجْمُدا ... أَلاَ تَبْكيَانِ لِصَخْرِ النَّدَى ألاَ تَبْكِيَانِ الْجَوَادَ الْجَمِيلَ ... أَلاَ تَبْكِيَانِ الْفَتَى السَّيّدا قالت هذا وهي في موقف الحزن، فَحَسُنَ في حِسِّها الملتهب بالمشاعر، وهي من أشعر الشواعر، أن تكرّر قولَها تخاطب عينيها: "أَلاَ تبكيان" مع أن العبارة الأولى كانت كافيةً للدلالة على المقصود، حتى العبارةُ الأولى كان بالإِمكان فهمُ أصل المراد منها من قولها في الشطر الأول: "أَعينيَّ جودا ولا تجمدا" لكن في عبارة الاستفهام من أغراضٍ بلاغية ما ليس في عبارتي الأمر والنهي، وفي فعل "تَبْكِيان" من دلالة على تجدِيد البكاء المتتابع ما ليس في "جُودا ولا تجمُدا" فقصدت إلى تعيين نوع البكاء، وأنّه ينبغي أن يكون بكاءً متجدّداً، فاستعملت الفعل المضارع الدالّ على هذا المعنى. وبكت أخاها صخراً في شعرها، فجعلتها شاعريَّتُها تكرّر في مقام رثائها لأخيها وفجيعَتِها به عبارةً "وابكي أخاك" تخاطب نفسها على طريقة التجريد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 وَابْكِي أَخَاكِ وَلاَ تَنْسَيْ شَمَائِلَهُ ... وابْكِي أَخَاكِ شُجَاعاً غَيْرَ خَوَّارِ وابْكِي أخَاكِ لأَِيْتَامٍ وأرْمَلَةٍ ... وابْكِي أَخَاكِ لحَقِّ الضَّيْفِ والْجَارِ لقد كان من الممكن أن تُعَدِّدَ ما تُرِيدُ من شمائل أخيها، دون أن تكرّر عبارة "وابْكي أخاكِ" لكنّها في مقام التوجّع والتفجُّعِ والرّثاء والنحيب، وفي هذا المقام الملتهب بمشاعر الحزن الحارّ، يحلو في أنْفُسِ ذواتِ الحزن التكرار، كما يَشْفِي تكرار تدفُّق الدموع. المثال السابع: هجا جرير قبيلة "سدوس" وذمَّهَا فكرّر في هجائه ذكر اسمها مع كلّ صفة ذمّ ذكرها لها، إمعاناً منه بإلصاق المثالب التي ذكرها بها إلصاقاً يُصاحِبُهُ التشهير، والإِذاعةُ بالتكرير، مع أنّه كان يكفي العطفُ في ذكر الصفات، دون إعادة ذكر اسم القبيلة التي يذُمُّها، فقال في هجائه: أَخِلاَّئِي الْكِرَامُ سِوَى سَدُوسٍ ... وَمَالِي فِي سَدُوسٍ مِنْ خَلِيلِ إِذَا أَنْزَلْتَ رَحْلَكَ فِي سَدُوسٍ ... فَقَدْ أُنْزِلْتَ مَنْزِلَةَ الذَّلِيلِ وَقَدْ عَلِمَتْ سَدُوسٌ أَنَّ فِيهَا ... مَنَارَ اللُّؤْمِ واضِحَةَ السَّبِيلِ فَمَا أعْطَتْ سَدُوسٌ مِنْ كَثِيرٍ ... وَلاَ حَامَتْ سَدُوسٌ عَنْ قَلِيلٍ ففي البيت الأوّل يذكر جرير أنّه اتّخذ أخلاءه الكرام من غير سدوس، وأنّه لم يتخذ منها خليلاً واحداً، مشيراً إلى انعدام الكرام فيها. وفي البيت الثاني يخاطب نفسه وكلّ مسافر بأنّه إذا أنزل رحله في أرض سدوس لم يجد لديهم مقاماً كريماً، بل يجد نفسه قد أُنْزِل منزلة الذليل، لأنّ سدوساً أذلاء لا عزّة لهم وَلا مَنَعة عندهم. وفي البيت الثالث يذكر أنّ سدوساً تَعْلَم من أنفسها أنّها منار اللُّؤْم بين القبائل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 وفي البيت الرابع يصفُ سدوساً بأنّها غاية في البخل، وغاية في الضعف والجبن، فهي لا تعطي شيئاً حينما يكون لديها الكثير لبُخْلِها، وهي لا تحمي الشيء القليل الذي لديها، لضعفها وجُبْنِهَا إذا لم يكن عندها إلاَّ القليل، وهي مضطرة إليه. *** المثال الثامن: يحرّك الله عزّ وجلّ في أهل القرى "وهي كلُّ مجمّع سكني ولو كان من المدن الكبرى" الذين كذّبوا رُسل رَبّهم المخاوف من مفاجأة نقمة الله وعذابه ليلاً أو نهاراً، فيقدّم لهم التنبيهات المتتابعات، مع تكرير ما يمكن أن يُفْهَم لو حذف، لأنّ تكرار الذكر يساعد على عدم شرود الذهن عن إدراك ما جاء في عبارات الترهيب، بخلاف الحذف فإنّه يساعد على شرود المقصودين بالخطاب، نظراً إلى أنّهم كافرون قد انصرفت أذهانهم عن سماع عبارات الإِنذار والترهيب، بسبب كفرهم، فهي تحتاج إلى دقّاتٍ متواليات كدقَات الناقوس، أو أصوات البوق المتواليات المنذرات بالخطر. فقال الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض ولاكن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون} [الآيات: 96 - 99] . المقامُ مقامُ تهديدٍ ووعيدٍ واستثارة لمخاوف أهل القرى، فاقتضى هذا المقام إعادةَ ألفاظٍ كان يمكن فهم معناها بِدون إعادتها، لأنّ هذه الإعادة هي بمثابة الدَّقَات المتواليات التي تثير الانتباه بسبب مخالفتها لما يقتضيه المألوفُ في الأسماع. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 المثال التاسع: رثت ابنة النعمان بن بشير الأنصاري الصاحبي زَوْجَها مالكاً، فعبّرت في رثائها عن فاجعتها بزوجها، فكرَّرتَ عبارة من الممكن فهمها بداهة ولو لم تكرّرها، لكِنَّ التفجُّع في الحُزْنِ الحارّ يَحْسُنُ معَهُ التكرار، فقالت: وحَدّثَنِي أَصْحَابُهُ أَنَّ مَالِكاً ... أَقَامَ ونَادَى صَحْبُهُ بَرِحِيلِ وحَدَّثَنِي أصْحَابُهُ أَنَّ مَالِكاً ... ضَرُوبٌ بِنَصْلِ السَّيْفِ غَيْرُ نَكُولِ وحَدَّثَنِي أَصْحابُهُ أَنَّ مَالِكاً ... صَرُومٌ كَمَاضِي الشَّفْرَتَيْنِ صَقِيلِ ضَروبٌ: أي: كثير الضرب. غَيْرُ نكُولِ: أي: غيرُ ضعيفٍ ولا جبانٍ. صَرُوم: حادٌّ شديد المُضَاء قاطع. كماضِي الشفرتين: أي: كسيفٍ ذي حَدَّيْنِ وَهو فيهما ماضٍ حادٌّ قاطع. صَقِيل: أي: مجلوّ يتلامع من شدّة جلائه. المثال العاشر: مدحت الشاعر "ليلى الأخيلية" من بني عامر بن صعصعة، الحجّاجَ، فقد وفدت عليه مرّات، فكان يُكرمُها ويُقَرِّبُها، فكرَّرتْ بعض العبارات في مدحها له بفنّية جمالية بارعة، لتبني على ما تكرّره تفصيلات يحْسُن لدى ذكرها تكرير العبارة التي تريد أن تبني عليها تفصيلاتها، فقالت: إِذا هَبَطَ الحجَّاجُ أَرْضاً مَرِيضَةً ... تَتَبَّعَ أَقْصَى دَائِهَا فَشَفَاهَا شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الّذي بها ... غُلاَمٌ إِذَا هَزَّ الْقَنَاةَ سَقَاهَا سَقَاهَا فَرَوَّاهَا بِشُرْبٍ سِجَالُهُ ... دِمَاءُ رِجَالٍ حَيْثُ مَالَ حَشَاهَا إِذَا سَمِعَ الْحَجَّاجُ رَزَّ كَتِيبَةٍ ... أَعَدَّ لَهَا قَبْلَ النُّزُولِ قِرَاهَا أَعَدَّ لَهَا مَسْمُومَةً فَارِسِيَّةً ... بِأَيْدِي رِجَالٍ يَحْلُِبُونَ صَراهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 أرضاً مَرِيضَةً: تريد أرضاً فيها خارجون على مُلْك بني إميّة، فبخروجهم صارت أرضاً مَرِيضةً "على سبيل الاستعارة". الدّاء الْعُضَال: هو الداء الشديد الذي لا طِبَّ له. سِجَالُه: السجال جمع "السَّجْل" وهي الدلو العظيمة. حشاها: ما في بطونها من أحشاء. رَزّ كتيبة: أي: صوت كتيبة مقاتلة. صَرَاهَا: أي: ما جمعتْ في ضرْعها. يلاحظ أن معظم عباراتها اعتمدت على الاستعارة، فقد استعارت الشفاء لقتال الخارجين على سُلْطة بني أميّة واستئصالهم، واستعارت "السقيا" لاصطباغ الرماح بدماء الخارجين، إذ شبَّهتْها بالظامىء، لكنها ظامئة لدماء أهل الْحِرابة، وشبَّهت عمل جنود الحجّاج بمن يحلب الضروع المصرّاة حين يمسحون الدماء عن نصالها. المثال الحادي عشر: وقف الجاهليّ امرؤ القيس على أطلال صاحبته "سلْمَى" وحيّاهُ تحيّة الجاهليّة، ثم توارَدَتْ عليه الذكريات، وأيْأسَهُ ما رأى من واقع عفاء الدّيار، وخلوّها من ساكنيها فقال مكرّراً عبارة: "وتحسبُ سَلْمَى لا تزال" استئناساً بإعادة الاسم، عند فقد المسمَّى: وتَحْسَبُ: سَلْمَى لاَ تَزَالُ تَرَى طَلاَ ... منَ الْوَحْشِ أَوْ بِيضاً بِمَيْثَاءَ مِحْلالِ وتَحْسَبُ: سَلْمَى لاَ تَزَالُ كَعَهْدِنا ... بِوَادِي الْخُزَامَى أَوْ عَلَى رَأْسِ أَوْ عَال تَرى طلاً: الطَّلا: الصغير من كلّ شيءٍ، وولد الظبيَةِ، والصغير من الوحش منذ ولادته حتى يشتَدَّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 أو بِيضاً: البيض جَمْعُ أبْيضَ، ولعلّهُ يقْصِدُ ولداناً بيضاً، لأنّ الذكريات عن العهود الغوابر يبرزُ منها ما فيها من صُوَرٍ جماليّة، وأجملُ ما يثبتُ في الذكريات الصغارُ من النَّعَمِ والوحش، والولدان البيض في ملاعبهم. بِمَيْثَاءَ: الميثَاءُ الرَّمْلَةُ السهلة، والرابية الطيِّبَة، والتَّلْعَةُ العظيمة. مِحْلاَل: يقال لغةً: مكانٌ مِحْلاَلٌ إِذا كَانَ كثير الرُّوَّاد، ولاَ يكون كذلك إلاَّ لما فيه من صفاتٍ تُرَغَّبُ فيه. بِوَادِي الْخُزَامَى: أي بالوادي الذي يكثر فيه نبات "الخُزَامَى" في دِيارِ سَلْمَى التي صارت أطلال خالية من ساكنيها الغابِرينَ. أو على رأس أَوْ عَالٍ: أي: أو على رأْسِ صُخُورٍ مُشْرِفَةٍ فوق القِمَم، شُبِّهَتْ هذه الصُّخور بالأوعال جمع "وَعِل" وهو تَيْسُ الجبل، لأنّ الأوعال تَصْعَدُ رؤوس التلال والجبال، وتُشْرِف برؤوسها، وتوجد في المرتفعات صخور تُشْبِهُها، يَصْعَدُ إليها المتنزّهون، ويجلسون عليها، مستمتعين بالارتفاع والمشهد والحديث، وكان لامرىء القيس مجالس هنا لك مع صاحبته سلْمَى. هذه طائفة من الأمثلة اكتشفنا فيها بعض أغْراض ذكر العنصر الذي يمكن فهمه بوجه عامّ فيما لو حُذِف من الكلام، لكنَّ الداعيَ البلاغِيّ رجَّحَ في ذَوْقِ الأَديب البليغِ ذكره على حذفه، لإِفادة المعنى البلاغيّ الذي قصده. والدواعي التي لم أورد أمثلة لها من أقوال البلغاء والفصحاء، ليس من الصّعْب وضْعُ أمثلة لها، أو اكتشاف أمثلة لها لدى الاطلاع على النصوص البليغة من النثر والشعر. فعلى مُحَلّل النصوص الآدبيّة البليغة أن يكون على بصيرة بمختلف الأغراض البلاغيّة، وحتى يكون شرحُهُ الأدبيُّ البلاغيُّ للنصوص كاشفاً بِدِقَّةٍ أغراضَ البلغاء. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 (3) دواعي الحذف في الكلام مقدم: قد يرى المتكلّم البليغ الذّوّاقُ للأدب الرفيع أن يحذف من كلامِه الذي يُريدُ توصيلَ معناه لمَنْ يتلَقَّى كلامه، مَا يمكِنُ أن يفهمه المتلَقّي بقرائن الحال، أو قرائن المقال، أو باللّوازم الفكرية الجليّة، أو باللّوازم الفكرية الخفية وبالإِشاراتِ الّتي تُدْرَكُ بالذكاء اللّمَّاح، ومن المعلوم أنّ الأذكياء يكفيهم الإِلْماح، لأنهم يدركون المقاصدَ باللّمح. وقد اهتمّ علماءُ البلاغة، والباحثون في إعجاز القرآن بدراسة ما في كتاب الله من محذوفات، وبدراسة أقوال كِبَارِ البلغاء والفصحاء، وما فيها من عناصر محذوفة مع أرادة توصيلِ معانيها للمخاطبين بها، فاكتشفوا أنّ الحذف من صريح البيان، والاكتفاء بدلائل قرائن الأحوال أو قرائن الأقوال، أو دلائل اللّوازم الفكرية، وما في الأقوال المذكورة من إشارات، قد يكون أبلَغ وأبدَعَ وأكْثَرَ جَمالاً، إذَا كان المتلَقِّي ممَّنْ تقتضي حالُه أنْ يُخَاطَبَ بمثل ذلك، اعتماداً على ذكائه وفطنته، أو كان في المتلقّين من هم كذلك، وهؤلاء يكشفون لسائر المخاطبين ما فهموه من الكلام الموجّه للنّاس بوجهٍ عامٍّ، فَيُغْنِي إفهام أهل البحث والعلم والفطنة بكلام يُلاَئمُ مقتضى حالِهم، إذْ هم مُكَلَّفُونَ إِفْهَامَ الآخرين وتعليمَهُم، ولا حاجة في كلّ الكلام أَنْ يلائم أحوال متوسطي الذكاء فمن دونهم، إذا كان الكلام موجّهاً للناس بوجه عامّ. ولذلك نجدُ في كتاب الله الموجّه للناس أجمعين ما يمكنُ أَنْ يفهمه بسهولة كلُّ المخاطبين، ونجد فيه ما يحتاج فهمه إلى ذكاءٍ متوسّطٍ أو فوق المتوسط، ونجد فيه ما يحتاج فهمه إلى ذكاءٍ فائقٍ وفطنةٍ رفيعة عالية، ليشرح هؤلاء ما فهموه من كتاب الله، ويقدّموه لسائر الناس بما يفهمون من بيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وَإِذْا أحسَّ أستاذُ علوم البلاغة "عبد القاهر الجرحاني" أَنَّ حذفَ ما يُمْكن أن يُدركَهُ أهل الذكاء والفطنة بالقرائن أو الإِشارات، ممّا يرفع مستوى الكلام إلى مراتب عاليةٍ في البلاغة والإِبداع والجمال البياني، قال كما جاء كتابه "دلائل الإعجاز" بشأن الحذف: "هذا بابٌ دقيقٌ الْمَسْلَكِ، لطيفُ المأخذ، عجيبُ الأَمْر، شبيهٌ بالسِّحْر، فإِنَّكَ ترى به تركَ الذّكر أفْصَح من الذكْر، والصَّمْتَ عن الإِفادة أزيد للإِفادة، وتجِدُكَ أنْطَقَ ما تكونُ إِذَا لَمْ تَنْطِقْ، وأتمَّ ما تكون بياناً إذا لمْ تُبَيّنْ، وهذه جُمْلَةٌ قدْ تُنْكِرُها حتَّى تَخْبُر، وتَدفَعُهَا حتَّى تَنْظُر". وممّا سبق ندرك أنّ من شرط حَذْفِ ما يُرادُ الدلالة على معناه، أن يمكن القول، إدراكُهُ بقرائن الحال أو قرائن المقال، أو اللّوازم الفكرية، أو إشارات المذكور من القول وإلاَّ كان تَعْمِيَةً لا تليق بذي بيان بليغ. ومن علامات الحذف البليغ الذي يرفع قيمة الكلام، أنَّه إذا أُظْهِرَ المحذُوف زالَ ما في الكلام من بهجة وطلاوة وجمالٍ فنّي وإبداع. *** أقسام الحذف: لدى استقرار صوف الحذف في الكلام العربي البليغ يظهر لنا أنّه يدور حول حذف جُزْءٍ من الكلمة أو ما يُنَزَّلُ مَنْزِلَة جزئها، كأداة النداء وياء المتكلّم. وحذف جُزْءٍ من الجملة كحذف المسند أوحذف المسند إليه أو حذفهما، أو حذفِ شيءٍ من متعلّقاتِ الفعل أو ما يَعْمَلُ عمله. وحذف جملة كاملة. وحذف أكثر من جملة. فالحذف إذَنْ يقع في أربعة أقسام: القسم الأول: حذفُ جُزْءٍ مِن الكلمة أو ما يُنَزَّلُ منزلة جُزْءِ الكلمة، ولم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 يوجّه البلاغيون عناية لهذا القسم، لكن تنبَّهَ إلى بَعْضِهِ "الأخفش" من علماء العربيّة، وحاول تعليله وفق مناهج النحاة والصرفيين، لا وفق مفاهيم البلاغييّن والأدباء، وذلك في قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الفجر/ 89 مصحف/ 10 نزول) : {والليل إِذَا يَسْرِ} [الآية: 4] . بحذف "الياء" من "يَسْرِي" مراعاة لرؤوس الآيات، دون أن يُوجَدَ مقتضٍ نحويٌّ لهذا الحذف. وتنبَّهَ إلى هذا القسم وأضافه اقتراحاً إلى أقسام الحذف البلاغي من المعاصرين "د. محمد أبو موسى" في كتابه "خصائص التراكيب" وقد أحسن صُنْعاً. وأقول في شرح هذا القسم: إِنّ العربيّ قد اعتاد أن يختصر من الكلمة إيجازاً في نُطْقِه وتخفُّفاً، وذلك في بعض كلامه ممّا يكثر تداوله، فيحذف بعض حروف الكلمة، وأن يختصر أيضاً فيحذف بعض ما يُنَزّلُ مَنْزِلَة جُزْءِ الكَلمة، كالجزء الثاني من المركب تركيباً مَزْجِيَّاً، وكالمضاف إليه، وكياء المتكلم، وأداة النداء. ويظهر لنا هذا في بعض أنواعٍ من الكلام العربي، ومنه ما نجده في الأبواب التالية: فمنه ما يُسمَّى الترخيم في باب النداء، فقد يحذف العربيُّ في النداء آخر حرف في الكلمة، أو الحرفين الأخيرَيْن منها، وقَدْ يَحْذِفُ الجزءَ الثانِيَ من جزئي الكلمة المركّبة تركيباً مزجيّاً، وقد يحذف في الترخيم المضاف إليه. ومن دواعيه إلى ذلك الإِيجاز، والتحبُّبُ لِلْمُنَادى أحياناً، ومراعاة جمال فنّيٍّ في نَسَقِ الكلام، وإيثار اللفظ الأخف على اللّسان، إلى غير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 الأمثلة: (1) قول امرىء القيس: أفَاطِمُ مَهْلاً بَعْضَ هَذَا التَّدَلُّلِ ... وَإِنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ صَرْمِي فَأَجمِلِي أي: أفاطمةُ، وفي هذا الترخيم يظهر معنى التحبُّب مع إرادة سلامة الوزن الشعريّ. (2) قول الْعَجَّاج يخاطِبُ امرأته "جارية" وهو يُعِدُّ رحل ناقته للسَّفر، فقالت له: "ما هذا الذي تَرُمُّ" أيْ: تُعِدُّهُ من أمْرٍ رغبةً في الارتحال: فقال لها: جَارِيُ لاَ تَسْتَنْكِرِي عَذِيرِي ... سَعْيِي وإشْفَاقِي عَلَى بَعِيري فحذَفَ حرفَ النداء ورَخَّمَ، وأصلُ الكلام: "يَا جاريَةُ" ومعنَى "عَذِيري": حالي، وما أحاول من سَفر، فعذيرُ الرَّجل ما يرومُ وما يُحَاول مما يُعْذَرُ عليه إذا فعله. (3) قول الفرزدق، يخاطب مروان بن عبد الملك: يَا مَرْوَ إِنَّ مطيّتِي مَحْبُوسَةٌ ... تَرْجُو الحِبَاءَ وَرَبُّهَا لَمْ يَيْأَسِ أي: يا مروان، فحذف الحرفين الأَخيرين من "مروان". (4) قول لبيد: يَا أَسْمَ صَبْراً عَلَى مَا كَانَ مِنْ حَدَثٍ ... إِنَّ الْحَوَادِثَ مَلْقِيٌّ وَمُنْتَظَرُ أي: يَا أسماء، فحذف بالترخيم الحرفين الأخيرين من "أسماء". (5) وقالوا مُرَخّمين في نداء نحو"حضر موت" وفي نداء نحو "مَعْدِ يكرب": يا حَضْرَ - يَا مَعْدِ. (6) وكثيراً ما يحذف العرب أداة النداء، وياء المتكلم التي يضاف إليها المنادى، مثل: "يَارَبّ - يَا أبَتِ - يا ابْنَ أمَّ - يَا عبادِ - يَا غلامِ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 * ومنه حذف ياء المتكلّم. الأمثلة: (1) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (سبأ/ 34 مصحف/ 58 نزول) : {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} ؟ [الآية: 45] . أي: فَكَيْفَ كَانَ إِنْكَارِي، فحذف من "نكير"، ياء المتكلم، والداعي النَّسَقُ الجمالي في رؤوس الآيات في السورة. ونظيره في سورة (غافر/ 40 مصحف/ 60 نزول) : {فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [الآية: 5] . أي: فكيف كان عقابي. وكذلك في سورة (القمر/ 54 مصحف/ 37 نزول) في عدة مواضع منها: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [الآية: 16] . أي: فكيف كان عذابي ونُذُرِي، والداعي في كلّ ذلك مراعاة النسق الجماليّ في رؤوس الآيات. * ونظير حذف ياء المتكلم حذف حرف العلة في آخر الفعل دون مقتضٍ إعرابي، رعايةً للنسق الجمالي، ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الفجر/ 89 مصحف/ 10 نزول) : {والفجر * وَلَيالٍ عَشْرٍ * والشفع والوتر * والليل إِذَا يَسْرِ} [الآيات: 1 - 4] . الأصل: "واللَّيْلِ إذا يَسْرِي" فحذفت الياء من "يسري" رعاية للنسق الجمالي في رؤوس الآيات ولو لم يُوجَدْ جازم يَقتضي حذفها إعرابيّاً. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 القسم الثاني: حذف جزءٍ من الجملة، ويكونُ بحذف المسند إليه، أو حذف المسند، أو حذفهما والاكتفاء بمتعلّقَاتِ الفعل أو ما في معنى الفعل كالمصدر واسم الفاعل، أو حذف غير ذلك من عناصر الجملة، استغناء بما يدلُّ على المحذوف. وقد ذكر ابن هشام في كتابه "مغني اللّبيب عن كتب الأعاريب" زيادةً على ثلاثين نوعاً من أنواع الحذف في اللّسان العربي، واستشهد على كثير منها بأمثلة قرآنيّة، ومعظم هذه الأنواع يرجع إلى حذف جزء من الجملة، وتجد تفصيلاً لأنواعِ الحذف مع أمثلتها في القاعدة (14) من كتابي "قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عزَّ وجلَّ". ومن أنواع حذف جزء الجملة ما يلي: (1) حذف الاسم المضاف. (2) حذف المضاف إليه. (3) حذف اسمين مضافين. (4) حذف الموصول الاسمي. (5) حذف الموصوف. (6) حذف الصفة. (7) حذف المعطوف. (8) حذف المعطوف عليه. (9) حذف المبدَل منه. (10) حذف المبتدأ. (11) حذف الخبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 (12) حذف الفعل. (13) حذف المفعول. (14) حذف الحال. (15) حذف التمييز. (16) حذف "لا" النافية وغيرها. (17) حذف لام التوطئة. (18) حذف الجار، ويطّردُ مع "أنَّ و"أَنْ". (19) حذف لام الطلب. *** القسم الثالث: حذف جملة كاملة استغناءً بما يدلُّ عليها، أو اعتماداً على إمكان فهمها ولو لم تُذْكر. * فمنه حذف جملة القسم، مثل قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) في حكاية قصّة سليمان: {وَتَفَقَّدَ الطير فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [الآيات: 20 - 21] . أي: أُقْسِمُ باللهِ لأَذْبَحَنَّهُ. * ومنه حذف جواب القسم، مثل قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النازعات/ 79 مصحف/ 81 نزول) : {والنازعات غَرْقاً * والناشطات نَشْطاً * والسابحات سَبْحاً * فالسابقات سَبْقاً * فالمدبرات أَمْراً} [الآيات: 1 - 5] . أي: لَنَبْعَثَنَّهُمْ ولَنُحَاسِبَنَّهُمْ. * ومنه حذف جملة جواب الشرط، مثل قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرض أَوْ سُلَّماً فِي السمآء فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ ... } [الآية: 35] . أي: فإن استطعْتَ ذَلِكَ فَافْعَل. وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الرعد/ 13 مصحف/ 96 نزول) : {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى ... } [الآية: 31] . أي: لكان هذا القرآن المنزّلُ على محمد. * ومنه حذف جملة الشرط، مثل قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (العنكبوت/ 29 مصحف/ 85 نزول) : {ياعبادي الذين آمنوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فاعبدون} [الآية: 56] . أي: فإنْ لم يتأَتَّ لكُمْ إخلاصُ العبادة لي في هذه الأرضِ فإيَاي فاعْبُدُني في غيرها. *** القسم الرابع: حذف أكثر من جملة استغناءً بما يدلُّ على المحذوف، ومن أمثلته الكثيرة قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الآية: 73] . أي: فقلنا اضربوا القتيل ببعض البقرة المذبوحة، فضربوه ببعضها، فصار القتيل حيّاً فَأخْبَرَ عنْ قاتِلِهِ ... *** دواعي الحذف البلاغية: ذكر البلاغيون طائفة من دواعي الحذف مُوزَّعةً في بحوث حذف المسند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 إليه، وحذف المسند، وحذف بعض متعلقات الفعل، وقد انتقيت منها وأضفت إليها، فاجمتعتْ لديّ الدواعي التالية، وأُأكد أنّه يَعْسُر إحصاءُ كلّ الدواعي التي تقوم في نفوس البلغاء للحذف، وما ذكرته منها يرشد إلى ما فاتني أن أذكره. الداعي الأول: الاحتراز عن العَبثِ بناءً على الظاهر، إذا كان ما يُحْذَفُ يُمْكِن أنْ يُدْرِكه ويَفْهَمه المتلقِّي، دون أن يُذْكَر في اللفظ، لدلالة قرينة الحال، أو قرينة المقال، أو اللّوازم الفكرية المنطقيّة، والمخاطب من الذين تكفيهم دلالات القرائن واللّوازم الفكريّة. الداعي الثاني: تَخْيِيلُ الْعُدُولِ إلى أَقْوى الدّليلين من العقل أو اللفظ، باعتبار أنّ التوصُّلَ إلى فكرةٍ ما عن طريق الاستدلال العقلي أقْوى لدى الإِنسان من أَنْ تُبَيَّنَ له عن طريق دلالة اللفظ، يُضافُ إلى ذلك أنّ فَهْمَ الإِنسانِ للأَمْرِ باسْتِنْبَاطِه الفكريّ آنَسُ لَهُ وأَسَرّ، وأكثَرُ إشعاراً له بذاتيّته المستقلّة، من أَنْ يَشْعُرَ بأَنَّه عالةٌ في الْفَهْم على من يُعَرِّفُه به بصريح اللّفظ. لمَا يتضمَّنُ البيان بصريح اللّفظ من إلماح ضمنيّ إلى أنَّ المخاطَبَ ليْسَ مِن أهل فهم المعاني بقرائن الأحوال، أو قرائن الأقوال، أو لوازم الأفكار، ففي الحذف إثارةٌ للفكر وترضية لدوافع النفس التي يُسْعِدها الاستقلال والاعتماد على الذات. الداعي الثالث: اختبارُ تَنَبُّهِ المتَلّقي أو مقدارِ تَنَبُّهِهِ، عند إمكان الاستِغْناءِ عن دلالةِ صريح اللفظ على المراد. الداعي الرابع: الإِشعار بتمجيد المسمَّى عن طريق الإِيهام بصون اسمه عن أن يُبْتَذَلَ بالذكر لجلالة قدره، على معنى قول الشاعر يخاطبُ ممدوحه: لَسْنَا نُسَمِّكَ إجْلاَلاَ وتَكْرِمَةً ... فَوَصْفُكَ الْمُجتِلي عَنْ ذَاكَ يُغْنِينَا الداعي الخامس: الإِشعار باحتقارِ المسمَّى وازدارئه وتَنْزِيهِ اللّسان عن ذكر اسْمِهِ، عن طريق الإيهام بأنّه يَنْبَغِي صَوْنُ اللّسانِ عنه، كما يُصانُ عن ذكْرِ ألفاظِ الفحش، وأسماء العورات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 الداعي السادس: صونُ اللّسان حقيقةً عن ذكر المحذوف والاكتفاء بدلالة القرائن، لأنّه ممّا ينبغي سَتْرُ ما يَدُلُّ اللّفظ الصريحُ عليه، ويَسْتَهْجِنُ ذوّاقوا الأدب الرفيع ذكره. الداعي السابع: التمكُّن من إنكار المحذوف، عند الحاجة إلى هذا الإِنكار، وادّعاء قَصْد غيره. الداعي الثامن: كَوْنُ ما يُحْذَفُ مُتَعَيِّناً حقيقةً أو ادّعاءً، فلا داعي إلى ذكره، إذْ يكونُ ذِكْرُهُ عندئذٍ من الإِسراف في القول، وهو أمْرٌ لا يَسْتَسِيغُه الْبُلَغاء. الداعي التاسع: اتّباع الاستعمال الوارد على ترك ذكره، كالأمثال وما يجري مجراها، نحو: "رَمْيَةٌ من غَيْرِ رَامٍ" أي: رَمْيَةٌ مُصِيبةٌ مِن غير رام ماهرٍ يُحْسِنُ الرّماية، ونحو "شِنْشِنَةٌ أَعْرِفُهَا مِنْ أَخزَمِ" ونحو: "قضِيةٌ ولاَ أبَا حَسَنٍ لَهَا". الداعي العاشر: تركُ نظائره في استعمالات العرب، كما في الرفع على المدح، أو الذمّ، أو الترحُّم، فإنَّهُمْ لاَ يكادون يذكرون فيه المبتدأ، وكَقطْع الصفة ونَصْبِها على تقدير فعل أمدح، أو أذُمُّ، أو نحو ذلك، وكما في "أهلاً وسهلاً". أي: لقيت أهلاً، ووطئت سهلاً، وكما في المفعول المطلق لفعل محذوف، مثل: "سَقْياً وَرَعْياً" أصله: سقاك الله سقياً، ورعاكَ الله رَعْياً، ومثل "حَمْداً وشُكْراً" أصله: أحمد الله حمداً، وأشكر اللهَ شكراً. الداعي الحادي عشر: ضيق المقام عن إطالة الكلام بسبب التوجُّعِ أو التضجُّر، كأن تقول لمريض: كيف حالك؟ فيقول: مريض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 وكأن تقول لفاقد عزيز عليه: كيف حالك؟ فيقول: حزين. الداعي الثاني عشر: إرادة أخفاء الأمر عن غير المخاطب الذي يسألك عن أمْرٍ بحضور آخرين لا تريد إعلامهم به فتكفي بذكر بعض الجملة، أو بنحو حرف نفي، أو حرف إيجاب. الداعي الثالث عشر: خوف فوات فرصة سانحة، كأن تقول للصيّاد المترقب الراصِدِ "وَعِل - غزال - أرنب - هذا - ذاك -". الداعي الرابع عشر: رعايةُ السَّجْعِ، أو القافية، أو أواخر الآيات، محافظةً على الجمال الفنّي في اللّفظ ونَسَقِ الْجُمَل. الداعي الخامس عشر: تربية الفائدة بتكثير المعاني، إذْ يتأتَّى من احتمالات المعاني بالحذف، ما لا يتأتَّى بالذكر. الداعي السادس عشر: قَصْدُ التعميم مع الاختصار في اللفظ، وهذا كثير في النصوص البليغة الرفيعة، كقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (يونس/ 10 مصحف/ 51 نزول) : {والله يدعوا إلى دَارِ السلام وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الآية: 25] . أي: يدعو كلّ ممتَحَنٍ مُكَلَّّفٍ إلى دار السلام عن طريق الإِيمان والإِسلام، ودار السّلام هي الجنة. الداعي السابع عشر: قصْدُ الإِيجاز فقط، ولو لم ينضمُ إليه داعٍ آخر، فالإِيجاز دون إخلالٍ بالمعنى المراد من الدواعي التي يَهْتَمُّ الْبُلَغَاءُ بمراعاتها، لأنّه يصون الجملة في ذوق الناطق العربي من الثقل والترَهُّل. الداعي الثامن عشر: المبادرة إلى دفع ما يمكن أن يتوهّمه الْمُتَلقِّي ممّا هو غير مراد، لو لم يحصل الحذف، كأن يقول المخبر بغزوِ الأعداء المدينة: دخلَ الغزاةُ إلى الْقَصْر السلطاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 فَحَذَف عن عبارته لفظ "المدينة" لأنّه بادر إلى دفع توهم أنَّهمْ لم يصلوا بَعْدُ إلى القصر السلطاني، وأنّهم ما زالوا في الطريق إليه. الداعي التاسع عشر: قصد التشويق بالإيهام، ليأتي البيان بعده شافياً حركة الشوق إلى المعرفة. إلى غير ذلك من دواعي تتفتَّقُ عنها قرائح البلغاء الفطناء. *** أمثلة وتطبيقات أُقدِّم أمثلةً وتطيبقات غير شاملة لكلِّ أقسام الحذف وأنواعه، رجاء أن تكون هاديةً للدّارِسِ الباحثِ البلاغي، فَيَقيسَ عليها، ويستخرج ما يراه من دواعي بلاغيَّةٍ في مختلف النصوص التي يدرسُها، من كتاب الله، وأقوال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأقوال البلغاء من ناثرين وشعراء ذوَّاقي الأدب الرفيع وعناصره الإِبداعيّةِ والجماليّة: المثال الأول: ذكر البلاغيّون أنّ من المألوف في أساليب بلغاء العرب أنَّهم يحذفون الْمُسْندَ إليه عند ذكر الدّيار، ومنه قول امرىء القيس: لِمَنْ طَلَلٌ أَبْصَرْتُهُ فَشَجَانِي ... كَخَطِّ زَبُورٍ فَي عَسِيبِ يَمَانِ دِيَارٌ لِهِنْدٍ وَالْرَّبَابِ وَفَرْتَنَى ... لَيَالَيَنَا بِالْنَّعْفِ مِنْ بَدَلاَنِ لَيَالِيَ يَدْعُونِي الْهَوَى فَأُجِيبُهُ ... وَأَعْيُنُ مَنْ أَهْوَى إليَّ رَوانِ الطَّلَلُ: مَا بِقَي شَاخِصاً مِنْ آثار الدِّيار ونحوها. فَشَجَانِي: أي: فهيَّج حزني وأثاره. كخطّ زبور: شبّه بخَطِّ لكتاب مكتوب. فِي عَسِيبِ يَمَانِ: الْعَسِيب: سَعَفُ النَّخل. يَمَانِ: نسبة إلى الْيَمن، أو جهة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 اليمن، ويظهر أنّ اليمانيّين كانوا في عصره يكتبون كتبهم في سَعَفِ النخل. دِيارٌ لِهِنْدٍ: أي: هي ديار لهند، فحذف المسند إليه، وهو مبتدأ هنا، و"هند" و"الرباب" و"فَرْتَنى" أسماء صواحبَ له، كان يستمتع بلقائهنّ في هذه الديار التي هُدِمت ولم يَبْقَ منها إلاَّ الأطلال. لَيَالِينَا: أي: أتذكّر ليالِيَنَا، فحذف المسند. وأبقى النصبَ دليلاً على المحذوف، وهذا شاهد على حذف المسند، وكذلك: لَيَالِي. بالنَّعْف: النَّعْفُ: هو ما انحدر من الجبَلِ وارتفع عن الوادي. مِنْ بَدَلاَنِ: بَدَلاَن: بَلَدٌ في اليمن. رواني: أي: ينظرن إلي نظراً طويلاً مع سكون طرف، يقال: رَنَا إليه، إذا أدام النظر مع سكون الطرف. ذكر امرؤ القيس أنّه أبصر طَلَلَ دِيار صواحبِهِ "هند والرّباب وفَرْتَنَى" فأحزنه هذا المشهد، لأنّه ذكّره ما فاته من أيَّام خوالي، كان فيها مستمتعاً بهِنَّ، ووصف في عرضه المكان وليالي اللّقاء بهنَّ. *** المثال الثاني: قول الشاعر المخزومي القرشي "عُمَرَ بن عبد الله بن أبي ربيعة" من شعراء القرن الهجري الأول (23 - 93 هـ) شاعر الغزل: هَلْ تَعْرِفُ الْيَوْمَ رَسْمَ الدّارِ وَالطَّلَلاَ ... كَمَا عَرَفْتَ بِجَفنِ الصَّيْقَلِ الْخِلَلاَ؟ دَارٌ لِمَرْوَةَ إِذْ أَهْلِي وَأَهْلُهُمُوا ... بِالْكَانِسِيَّةِ نَرْعَى اللَّهْوَ والْغَزَلاَ رَسْمَ الدّار: أي الأثر الباقي منها. والطَّلَلاَ: أي: ما بقي شاخصاً من آثار الديار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 بِجَفْنِ الصَّيْقل: الْجَِفْنُ: غِمْدُ السَّيف. الصَّيْقَل: الذي يَشْحَذُ السّيوف ويَجْلُوهَا، وأراد هنا السَّيْفَ المجلوّ، والشاعر ممَّنْ يستشهد بكلامه في العربيَّة. الْخِلَلاَ: بكسر الخاء وفتح اللام جمع "خِلَّة" وهي بطانة جَفْنِ السيف. أي: لم يبقَ من الدار إلاَّ كما لو لم يَبْقَ من جَفْنِ السيف إلى بطانته الداخلية. دارٌ لِمَرْوَة: أي: هي دارٌ لمروة، فحذف المسند إليه وهو المبتدأ هنا، كعادة العرب من حذف المسند إليه في هذا المقام، و"مَرْوَة" اسم المرأة التي كان يلهو معها لهو غزل. بالْكَانِسِيَّةِ: اسم مكان. *** المثال الثالث: سأل الأقَيْشَرُ ابْنَ عَمِّ له موسراً، فمنعه ولم يُعْطه، فشكاه إلى قومه وذمَّه، فوثَبَ إليه ابْنُ عمِّه ولطمه، فقال فيه الأقَيْشر: سَرِيعٌ إلى ابْنِ الْعَمِّ يَلْطِمُ وَجْهَهُ ... وَلَيْسَ إلَى دَاعِي النَّدَى بِسَرِيعِ حَريصٌ عَلَى الدُّنْيَا مُضِيعٌ لِدِينِهِ ... وَلَيْسَ لِمَا فِي بَيْتِهِ بِمُضِيعِ أي: ابن عَمِّي فلان سَرِيعٌ إلى ... حَرِيص على، فحذف المسند إليه. *** قول الشاعر في ذكر ربْعِه ومنازله الدوارس: اعْتَادَ قَلْبَكَ مِنْ لَيْلَى عَوَائِدُهُ ... وَهَاجَ أَهْوَاءَكَ الْمَكْنُونَةَ الطَّلَلُ رَبْعٌ قَوَاءٌ أَذَاعَ الْمُعْصِرَاتُ بِه ... وكُلُّّ حَيْرَانَ سَارٍ مَاؤُهُ خَضِلُ أي: هو ربَعٌ قَواء، القواء: القفر من الأرض، ومنزل قواء: لا أنيس فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 أذاعَةُ وأذَاعَ به: إذا نشره. أذاع المعصراتُ به: أي: نَشَرَتِ السُّحُبُ المعصراتُ مَاءَها فيه بكثرة فغيّرت معالمه. وكلُّ حَيْرَانَ سَارٍ: الحيران السّاري: الْمُزْنُ تَجْرِي لَيْلاً. مَاؤُهُ خَضِلُ: أي: ندِيّ، يُريدُ أنَّه يُنَدِّي ويُبَلِّلُ الأَرْضَ والجوّ من تحته. المثال الخامس: قول بَكْر بن النَّطّاح: الْعَيْنُ تُبْدِي الْحُبَّ والْبُغْضَا ... وتُظْهِرُ الإِبْرَامَ والنَّقْضَا دُرَّةُ مَا أنْصَفْتِنِي فِي الْهَوَى ... وَلاَ رَحِمْتِ الْجَسَدَ الْمُنْضَى غَضَبَى. ولاَ واللَّهِ يَا أَهْلَهَا ... لاَ أَطْعَمُ الْبَارِدَ أَوْ تَرْضَى فحذف أداة النّداء من "يَا دُرَّةُ: اسم صاحبته. وحذف الْمُسْنَد إليه في البيت الثالث، والأصل: هي غضبَى. وحذف فيما أرى في قوله: "وَلاَ والله يَا أَهْلَها" العطوفَ عليه، إذ يريد أن يقول: هي غضبَى وأنا حزِينٌ ولْهَانٌ ولا واللَّهِ يا أَهْلَهَا لاَ أَطْعَمُ الباردَ أَوْ تَرْضَى. الإِبرام: هو في الأصل لفُّ الخيوط بعضها على بعض، ويكنَّى به عن الوعد والعهد، وعكْسُه النقض. الْمُنْضَى: المهزُول من الْجَهْد، يقال: أَنْضَاهُ إذا أتعبَهُ حتَى جعله هزيلاً نحيفاً. *** المثال السادس: قول الشاعر لمن يَسْتجديه: بَرِّدْ حَشَايَ إِنِ اسْتَطَعْتَ بِلَفْظَةٍ ... فَلَقَدْ تَضُرُّ إِذَا تَشَاءُ وَتنْفَعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 فحذف المفعول، وأصْلُ الكلام: فلقد تضرُّني إذا تشاء وتَنْفَعُنِي، وقد يكون الداعي إرادة التعميم، أي تضرُّني وتضرّ غيري، وتنفعُنِي وتنفع غيري. *** المثال السابع: قول الله عزّ وجلّ لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سورة (الضحى/ 93 مصحف/ 11 نزول) : {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى * وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى} [الآيات: 6 - 7] . أي: فآواك، وفهداك، فحذف المفعول رعاية للجمال الفني بتجانس أواخر الآيات. *** المثال الثامن: قول الله عزّ وجلّ في سورة (الكهف/ 18 مصحف/ 69 نزول) : {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً} [الآيات: 1 - 2] . أي: لِيُنْذِرَ الْكَافِرِينَ بَأْساً شديداً، فحذف المفعول الأوّل لأنّه مُتَعيّن، ولدلالة مقابلة جملة "ليُنذِر" بجُمْلة "يُبَشِّرَ المؤمنين". ويظهر لنا أنّ الداعي هنا الإِيجازُ، وإمتاعُ أهل الفكر بالاستنباط، وأهل الذكاء بالاعتماد على ذكائهم. *** المثال التاسع: قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ... } [الآية: 20] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 وقول الله عزّ وجلّ في سورة (يونس/ 10 مصحف/ 51 نزول) : {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الآية: 99] . أي: ولو شاء الله أنْ يذهَبَ بسمعهم وأبْصَارِهم لَذَهَبَ ... . ولو شاء رَبُّكَ أن يُؤمِنَ من في الأرْضِ كُلُّهُمْ جَميعاً لَجَعَلَهُمْ مَجْبُورينَ لا خِيارَ لَهُم ولآمَنْ مَنْ في الأرضِ كلُّهم جميعاً عندئذٍ. فَحَذَفَ المفعول لفعل المشيئة، وهذا الحذف هو الغالب في فعل المشيئةِ في النصوص القرآنية، وكذلك فعل الإِرادة، إلاَّ إذا كان المفعول أمراً مستغرباً أو مستنكراً أو مستحيلاً، فالداعي البلاغي لذكره أقوى من الداعي البلاغي لحذفه. والداعي البلاغي للحذف هنا: الإِيجاز والتشويق بالإِبهام ليأتي البيان بعده شافياً، مع داعي إمتاع أهل الفكر بالاستنباط والاستخراج الفكري، اعتماداً على دلالات القرائن. *** المثال العاشر: قول الله عزّ وجلّ في سورة (النجم/ 53 مصحف/ 23 نزول) : {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} [الآيات: 43 - 44] . وقوله فيها: {وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى} [الآية: 48] . جاء في أفعال هذه الآيات الثلاث حذف المفعول به تنزيلاً للفعل المتعدي منزلة الفعل اللازم، إذ الغرض بيان أنّ الله عزّ وجلّ هو الذي تكون بخلقه هذه الأفعال التي تحدث في الناس، فذكْرُ المفعول به إطناب لا لزوم له، إذْ هو خارج عن المقصود بالبيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 ونظيره قول إبراهيم عليه السلام لنمرود في محاجته له، كما جاء في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ الله الملك إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ ... } [الآية: 258] . أي: هو الذي يكون بخلقه الإِحياء والإِماتة. *** المثال الحادي عشر: قول عمر بن معديكرب يصف تخاذل قومه، ويُبيّن أن رماحهم المتخاذلة قَطَعَتْ لسانه عن الافتخار بهم والثناء عليهم. فَلَوْ أنَّ قَوْمِي أنْطَقَتْنِي رِمَاحُهُمْ ... نَطَقْتُ وَلَكِنَّ الرِّمَاحَ أَجَرَّتِ أجَرَّت: يقال: أجرَّ فَلانٌ لسانَه إذ منَعَهُ الكلام. فحذف مفعول "أجرّت" ومرادُه منَعَتْ لساني عن الثناء على قومي والافتخار بهم، وغرضه الإِيجاز لِلْعِلْم بالمحذوف، وللإِشارة إلى أنّ تخاذل القوم يُسكت لسان المفتخر مهما كان شأنه، مع مراعاة قافية قصيدته التي جاءت على التاء. *** المثال الثاني عشر: قول البحتري يمدح يوسف بن سعيد: لَوْ شِئِْتَ لَمْ تُفْسِدْ سَمَاحَةَ حَاتِمٍ ... كَرَماً وَلَمْ تَهْدِمْ مَآثِرَ خَالِدِ أي: لو شئْتَ أنْ لاَ تُفْسِدَ سَمَاحَةَ حَاتِمٍ بجودِك لأمسكت عن العطاء فلم تُفْسِدَ سماحةَ حاتم كرماً. ولو شئت أن لا تَهْدمَ مآثر خالدٍ بشجاعتك وإقدامك وحُسْنِ تدبيرك في الحرب لتهاونْتَ فلَمْ تَهْدِم مآثر خالد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 والداعي البلاغي الإِيجاز، وإمتاع الفكر بالاستنباط والإِدراك الذاتي السريع. *** المثال الثالث عشر: قول الشاعر للممدوحة: قَدْ طَلَبْنَا فَلَمْ نَجِدُ لَكَ في السُّؤْ ... دَدِ والْمَجْدِ والْمَكَارِمِ مِثْلاً أي: قد طَلَبْنَا مِثْلَكَ في السؤدد والمجد فلم نجد لك ... إلخ. والداعي البلاغي الإِيجاز، وإمتاع الفكر بالإِدراك الذاتي السريع. *** المثال الرابع عشر: قول الله عزّ وجلّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) : {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار} [الآية: 13] . أي: "قَدْ كَانَ لَكُمْ آيةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ" مؤمِنَةٌ {تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ} تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الطَّاغوتِ {يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين} . فَحُذِف الوصف وهو لفظ "مؤمنة" في الأوائل لدلالة مقابله في الأواخر لفظ "كافرة" وحُذِفَ من الأواخر جملة "تقاتل" في سبيلِ الطاغوت" لدلالة مُقَابِله في الأوائل، وهي جملة "تُقَاتِلُ في سَبِيلِ اللهِ". وَهذا الحذف من الأوائل لدلالة الأواخر، ومن الأواخر لدلالة الأوائل يُسمَّى "الاحْتِبَاكَ" إذا اجتمع الحذفان معاً، وله في القرآن نظائر، وهو من إبداعات القرآن وعناصر إعجازه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 المثال الخامس عشر: قول البحتريّ يمدح أبا الصقر: وَكَمْ ذُدْتُ عَنِّي مِنْ تَحَامُلِ حَادِثٍ ... وَسُوْرَةٍ أَيَّامٍ حَزَزْنَ إلى الْعَظْمِ فحذَفَ المفعول به لِفِعْل حَزَزْنَ وَهو "اللَّحْمَ" لدفْع تَوَهُّمِ إِرادَةِ غَيْرِ الْمُرَادِ ابْتِداءً، إذْ لَوْ قَالَ: "حَزَزْنَ اللَّحْمَ" لَجَاز أَنْ يَسْبِقَ إلى وهْمِ السَّامِعِ قَبْلَ ذكره ما بَعْدَهُ أن الحزَّ قد كان في بعض اللّحم ولم يَصِل إلى العظْمَ، مع ما في الحذف من إيجاز. ذُدْتَ عَنِّي: دَفَعت وطرَدْتَ. تَحَامُل حادث: شدّة حادثٍ ومشقته على نفسي. سَوْرَةِ أيّام: هي شِدَّتُها وعُسْرُها. حَزَزْنَ: قَطَعْنَ، كفِعْلِ السّكين في اللّحم دون الوصول إلى نهاية الطرف الآخر الذي يتمّ به الْفَصْلُ. *** المثال السادس عشر: قول البحتري أيضاً يمدح المعتزّ باللَّهِ: شَجْوُ حُسَّادِهِ وغَيْظُ عِدَاهُ ... أَنْ يَرَى مُبْصِرٌ وَيَسْمَعَ وَاعٍ فحذَفَ المفعول به لفِعْلَي: "يَرَى" و"يَسْمَع" لأنّه أراد تنزيل الفعل المتعدّي منزلة الفعل اللاّزم، فالمعنى: إنّ ما يَحْزُنُ أعداءَه ويَغِيظُهم أن يُوجَدَ راءٍ ما يرى ببصره، وسامعٌ ما يسْمَعُ، لئلا يرى محاسنه وفضائله ويسمع كلامه، ومن يثني عليه، ويُضَاف إلى هذا احتمال إرادة التعميم، أي: أن يوجد سامع يسمع أيّ شيء، وراءٍ يَرَى أيَّ شيء، إذ متى وُجد فلا بُدَّ أن يعرف محاسنه وفضائله فيُقَدِّمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 خاتمة: أكتفي بهذه الامثلة وأقول: مع كثر ما أودر البلاغيّون من شواهد الحذف في شعر شعراء العرب، فإنّه ينحصر في بعض أبواب الحذْفِ، وبَعْضِ دواعيه وأغراضه، لكنّ روائع الحذف في مختلف الأبواب إنّما نَجِدُهَا في نصوص القرآن المجيد، وهي جديرة بأن تُفْرَدَ بدارسةٍ خاصّةٍ، وتجمع في كتاب مستقبلّ. ومن شاء مزيداً من الشواهد القرآنية على الحذف فليرجع إلى ما سَطَّرتُه في القاعدة (14) من كتابي "قواعد التدبّر الأَمْثَل لكتاب اللَّهِ عزّ وجلّ" وإلى كتاب "الإِشارة إلى الإِيجاز في أنواع المجاز" للعلاّمة الشيخ "العزّ بن عبد السلام = وهو عبد العزيز بن عبد السلام 577 - 660 هـ" لُقّب بسلطان العلماء، لموافقه الشجاعة ضدّ أعمال السلاطين المخالفة للدين. *** ملاحظة: لم أتعرّض لعدم ذكر ما يجهله المتكلّم من عناصر الجملة، كالفعل الذي يُبْنَى على ما لم يُسَمَّ فاعله لجهل المتكلّم بالفاعل، ولا لعدم ذكر ما ليس للمتكلّم غرض بذكره، إذْ لا يُوجَدُ ما يَدُلُّ عليه من قرينة الحال، أو قرينة المقال أو اللّوازم الفكرية، لأنّ الدواعي لعدم الذكر مطلقاً هي الدواعي الّتي تدعو القادر على البيان أن يَصْمُتَ ولا يتكلَم، وهذه الدواعي لا تدخُلُ في الفنون البلاغيّة فيما أرى، إذْ يستوي فيها البليغ وغير البليغ والقادر على الكلام والعاجز عنه. وأرى أنّ ذكر البلايين لما يدخل في هذينِ البابَيْن ضمن دواعي الحذف فيه نظر. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 الفصل الثالث: التقديم والتأخير (1) مقدمات المقدمة الأولى: لكلّ عنصر من عناصر الجملة في اللّسان العربيّ موقع في ترتيب بناء الجملة، وفق الذي سبق بيانه في الفصل الثاني "بناء الجملة في اللّسان العربي وتقسيمها" من الباب الأوّل "مدخل إلى علْم المعاني". وقد عرفنا أنّ الجملة في اللّسان العربي تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: الجملة الفعلية. القسم الثاني: الجملة الاسمية. وهنا نضيف: أنّ الأصل في الجملة الفعليّة تقديمُ المسند "= المحكوم به" وهو الفعل، ويُلْحَقُ به مَا يعمل عمل الفعل، وتأخير المسند إليه"= المحكوم عليه" وهو الفاعل أو ما يَنُوب منابه، ثم تأتي متعلقات الفعل أو ما يعمل عمله. وأنّ الأصل في الجملة الاسميّة تقديم المسند إليه "= المحكوم عليه" وهو المبتدأ وما يتصل به، وتأخير المسند "= المحكوم به" وهو الخبر وما يتّصل به، وبعد ذلك تأتي متعلقات الخبر المماثلة لمتعلقات الفعل، إذا كان الخبر ممّا يعلم عمل الفعل، أو جملة مصدّرة بفعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 وباستطاعتنا أن نحدّد معالم المراتب الطبيعيّة لعناصر الجملتين: الجملة الفعلية، والجملة الاسمية في اللّسان العربي، اتّباعاً لما نصّ عليه علماء العربيّة في بعضها، واستناداً إلى أهميّة كلّ عنصرٍ من عناصر الجملة في البيان، وأولويته في ترتيب المعاني، مع ملاحظة أذواق فصحاء وبلغاء الناطقين العرب في ترتيب عناصر جملهم التي يصوغونها في كلامهم. وأبدأ بالمجملة الفعلية، لأنها هي الدرجة الدنيا في سلّم البيان، وأُثَنّي بالجملة الاسمية، لأنّها الدرجة العليا في سلّم البيان، إذْ هي آكد وأقوى، إذا كان الخبر يتحمّل ضمير المبتدأ، أو كان في توابعه أو ما يتّصل به ما يتحمّل ضمير المبتدأ. وقد صرّح جمهور البلاغيين بهذا الترتيب، وعلَّلوه بأنّ الجملة الاسميّة تشتمل على الحكم بمضمون الجملة مرَّتين. * فالمرّة الأولى تكون بإسناد الخبر إلى لفظ المبتدأ. * والمرّة الأخرى تكون بإسناد الخبر وتوابعه وما يتصل به إلى ضمير المبتدأ المستتر في الخبر أو فيما يتصل به أو في توابعه. فإذا قلنا: "زيدٌ قائم" أو "زيدٌ قام" ففي لفظ "قائم" وفي لفظ "قام" ضميرٌ يعود على "زيد" فيحصل بذلك إسناد القيام إلى لفظ "زيد" وإسناده إلى ضميره، قالوا: وإسنادان أقوى من إسناد واحد، إذْ هو بمثابة إعادة الجملة مرّتين على سبيل التأكيد. أمّا الخبر الذي لا يتحمل هو ولا ما يتصل به ولا بعض توابعه ضمير المبتدأ، مثل: "القمح البرّ - القمح البرُّ الذي نصنع منه خبزاً نأكله"، فالجملة الاسمية معه بقوّة الجملة الفعلية البسيطة، وهما جميعاً في المرتبة الدنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 وفيما يلي جدولان فيهما بيان مراتب عناصر الجملة الفعليّة، ومراتب عناصر الجملة الاسمية على ماظهر لي، مع التمثيل لكلٍّ منهما: الجدول الأول: الجملة الفعلية، ومراتب عناصرها في اللّسان العربي إذا اجتمعت، هذا باعتبار الأصل، مع جواز تبادل المراتب عند الحاجة. وما لا يذكر من هذه العناصر في الجملة يحلُّ تاليه محلّه إذا وُجِد. 1 - الفعل وما يقترن به من أدوات. 2 - الفاعل وما يتصل به كالمضاف إليه وصلة الموصول والنعت والتوكيد والبدل والتمييز والعطف. 3 - المفعول به الأول وما هو بمثابته من جار ومجرور وما يتصل به كما جاء فيما سبق. وقد يحتل هذه المرتبة المفعول معه، مثل: سرت والقمر. 4 - المفعول به الثاني وما هو بمثابته 5 - المفعول المطلق وما يتصل به كما جاء فيما سبق. 6 - المفعول فيه وهو ظرفا الزمان والمكان وما يتصل بهما. 7 - الحال وما يتصل به. 8 - المفعول لأجله وما يتصل به. المثال الأول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 ضرب - فتَى الحيّ الشجاع - اللّصَّ المتحرفَ الذي أتْعَبَ أهْلَ الحيِّ - ضرباً موجعاً بلَغَ تسعين ضربةً - لَيْلَة الخميس في سَاحة الحيّ - والقمر بازغ - جزاءً وتأديباً. المثال الثاني: كسَى - سيّد العشيرة السّخيُّ - زوجتَهُ الشابّة الحسناء - إِحْدَى عشرة حلّة - كسوة رائعة - ليلة الجمعة في قصر الأفراح - وهي على منصّة العروس - إكراماً لها ولأهلها. هذان المثالان قد جرى ترتيب عناصر الجملة الطويلة فيهما على وفق الترتيب الذي جاء في الجدول الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 الجدول الثاني: الجملة الاسمية ومراتب عناصرها في اللّسان العربي إذا اجتمعت هذا باعتبار الأصل، مع جواز تبادل المراتب عند الحاجة. وما لا يذكر من هذه العناصر في الجملة يحلُّ تاليه محلّه إذا وُجِد. 1 - المبتدأ وما يتصل به كالمضاف إليه والنعت والبدل والتوكيد والعطف. 2 - الخبر وما يتصل به كما جاء في المبتدأ. 3 - المفعول فيه أي ظرفا الزمان والمكان وما يتصل بهما 4 - متعلقات الخبر الأخرى وما يتصل بكلٍّ منها. قد يتساوى في هاتين المرتبتين [[3، 4]] كلٌّ من الظرف ومتعلقات الخبر الأخرى. 5 - الحال وما يتصل به. 6 - المفعول لأجله وما يتصل به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 المثال الأول: الخليفة الصالح السلطان عبد الحميد - خليفةٌ مظلوم إذْ خلَعَهُ ظُلْماً وعُدْواناً - من ولايته مَجْلِسُ المبعوثان التركي - في تركيا سنة (1908م) - بتأثير المكايد اليهوديّة والغربيّة - وهو يقاوم أعداء الإِسلام - تحقيقاً للمصالح الغربية ومصالح اليهودية العالمية السَّاعية يومئذٍ لإِقامة الدولة اليهودية في فلسطين. المثال الثاني: محمدٌ - رسول الله النبيّ العربي المبعوث - في مكّة سنة (610م) - برسالة عامة للناس أجمعين - والناسُ في جهالة جهلاء وضلالة عمياء - ليخرج الناس من الظلمات إلى النور. هذا المثالان قد جرى ترتيب عناصر الجملة الطويلة فيها على وفق الترتيب الذي جاء في الجدول الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 المقدمة الثانية: التقديم والتأخير في الجملة الاسمية التي ركناها معرفتان إذا صلح في الجملة الاسمية كلٌّ من ركنيها لأن يكون مبتدأً فيها ولأنّ يكون خبراً، نظراً أنَّ كُلاًّ منهما معرفة يجوز الابتداء به بمقتضى قواعد النحو، فأيّهما ينبغي أن نجعله المبتدأ والآخر الخبر؟. لم يتعرّض النحويّون للتَّحديد، بل أجازوا أن يكون كلٌّ منهما هو المبتدأ وأن يكون الخبر، ويُعْرِبُون المقدّم مبتدأً، والمؤخّر خبراً. لكن البلاغيّين بحثوا الأمر بحثاً فكريّاً منطقيّاً دقيقاً، ناظرين إلى حال المخاطب، وما هو الأعرف لديه من ركني الإِسناد اللّذين هما من المعارف. فأيّ المعرفتين هو الأعرف بالنسبة إليه، وحالتُه تتطلّب مزيداً من العلم عنه يُجْعَلُ هو المبتدأ، والركن الآخر يُجْعَلُ هو الخبر، وتُرَتَّبُ له الجملة بتقديم المبتدأ وتأخير الخبر. * فمن عرف مثلاً الإِمام الشافعيّ وجَهِلَ أنّه هو الشاعر الأول بين الفقهاء يقالُ له: "الإِمامُ الشافعيُّ الشاعرُ الأولَ بين الفقهاء". * ومن عرف وجود شاعر هو الشاعر الأول بين الفقهاء، واستقر ذلك في ذهنه وسمع شعره أو قرأه، وهو لا يعرف أنه هو الإِمام الشافعيُّ يُقالُ له: "الشاعر الأول بين الفقهاء الإِمام الشافعيّ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 * ومن كان مسافراً وعلم أنّه قد وُلد له ولد، ولم يره، وسمّاه في رسالة بعثها سعيداً، ثمّ عاد من السفر وأخذ ينظر في الصغار ليعرف من هو ولده سعيد منهم، يقال له: "ولدُك سعيد هذا الذي في يده كُرَة". * ومن قدم من سفر، ورأى صبية يلعبون، فهفا قلبه إلى واحد منهم، ولم يكن يعلم أن زوجته كانت حاملاً منه، فحمل الصبيَّ وقبّله، يقالُ له: "هذا الصّبِيّ ولَدُك". * جاء في الآية الثالثة من سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) خطابُ الله للناس بقوله: {اتبعوا مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الآية: 3] . فقرّر في أذهانهم أنّ الرَّبَّ الممدَّ بعطاءات الرّبوبيّة هو الذي يجب أن يتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إليهم منه. ثم جاء في الآية (54) منها قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش يُغْشِي الليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ... } [الآية: 54] . فبنى في هذه الآية على ما سبَقَ أنْ قَرَّرَهُ في أَذْهَانِهِمْ حول ربّهم، بَيَان أَنَّه هو اللَّهُ الذي خلق السّماوات والأرض ... إلخ لئلاّ تنصرف أذهانهم في تحديده إلى أربابٍ يَعْبُدونها من دون الله. * وجاء في سورة (الشورى/ 42 مصحف/ 62 نزول) قول الله عزّ وجلّ لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعلّمه كيف يخاطب الذين كفروا: {وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ الله مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ المصير} [الآية: 15] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 في الفقرة الأولى من هذا التعليم قال الله له: {وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ الله مِن كِتَابٍ} . فإذا قال لهم هذا القولَ قَرَّرَ في أذهانِهمُ اسْمَ اللهِ مُنَزِّلِ الكِتَاب، فكَانَ هذا الأسم حاضراً في أذهانهم وهو الأعرف. وهذا يستدعي أن يُبْتَدَأ في الفقرات اللاّحقات باسم الله، وأن يُخْبَر عنه بما يُرَادُ بيانُه من صفاته. فجاء في الفقرة الثالثة: {الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} . وجاء في الفقرة السادسة: {الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا} . *** المقدمة الثالثة: ترتيب التوابع إذا اجتمعت ذكر النحاة أنّ التوابع إذا اجتمعت في جملة واحدة فترتيبها كما يلي: (1) النعت. (2) عطف البيان. (3) التوكيد. (4) البدل. (5) عطف النسق، أي: العطف بحرف عطف. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 المقدمة الرابعة: الحالات التي قرّر النحاة وجوب التقديم والتأخير فيها قرّر النحاة بمقتضى القواعد النحويّة وجوب التقديم في أربع حالات: الحالة الأولى: يجب تقديم ما له الصدارة في الكلام العربي، أو ما هو مضاف إلى ما له الصدارة. والأسماء التي لها الصدارة في اللسان العربي هي ما يلي: (1) أسماء الاستفهام. (2) أسماء الشرط. (3) "ما" التعجّبية. (4) "كم" الخبرية. الحالة الثانية: يجب تقديم المحصور من المبتدأ أو الخبر. الحالة الثالثة: يجب تقديم الخبر إذا كان المبتدأ نكرة لا يصح الابتداء بها، وقد فصل النحاة الأحوال التي يجوز فيها الابتداء بالنكرة. الحالة الرابعة: يجب تقديم ما حقّه التأخير إذا كان فيما حقّه التقديم ضمير يعود عليه أو على شيء مما يتصل به، وذلك لئلاّ يعود الضمير على متأخّر لفظاً ورُتبة. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 خاتمة: ما سبق بيانه من ترتيب عناصر الجملة في اللّسان العربي هو الأصل، وقد يخالَفُ هذا الأصل للحاجة الشعرية أو لمراعاة السّجع، وقد يخالفُ هذا الأصل لدواعي بلاغية فكريّة أو جمالية سيأتي إن شاء الله الحديث عنها، وَهذا ما يعتني به علماء البلاغة في بياناتهم التفصيلية. وقد اعتنى علماء البلاغة ببيان الدواعي البلاغية لتقديم المسند إليه في الجملة الفعلية، إذْ رُتبته فيها التأخير عن المسند، مع عرض بعض الأمثلة. وببيان الدواعي البلاغية لتقديم المسند إليه في الجملة الاسمية التي يكون خبرها أو ما يتصل به ممّا يتحمّل ضمير المبتدأ، كاسْمي الفاعل والمفعول مذكورين أو مقدّرين، مع عرض بعض الأمثلة وببيان الدواعي البلاغية لتقديم المسند في الجملة الاسمية، إذْ رتبته فيها التأخير عن المسند إليه. وببيان الدواعي البلاغية لتقديم المفعول به عن رتبته، مع عرض بعض الأمثلة. وذكر علماء البلاغة أنّ من عَرف هذه الدواعي أمكنه أن يقيس عليها دواعي التقديم والتأخير في سائر عناصر الجملة في اللّسان العربي. *** (2) نظرة تحليلية عامّة إلى دواعي التقديم لمَّا كانت الجملة الفعلية هي الدرجة الأولى الدنيا في سلّم البيان عمّا يُراد التعبير عنه في اللّسان العربي، وكان الأصل فيها بمقتضى النظام المبتع فيه أنْ يصدرّ فيها المسند وما يقترن به من أدوات "وهو الفعل" وأن يأتي بعده المسند إليه "وهو الفاعل أو ما ينوب منابه" كما ذكرت في المقدمة السابقة، كان تغيير هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 النظام بتقديم المسند إليه على المسند غير مستحسن إلاَّ إذا اقتضته ضرورة أو حاجة كالوزن الشعري، ومقتضيات السّجع، أو دعا إليه داعٍ بلاغيّ معنوي أو جمالي في اللفظ. وقد درج ذوق الناطق العربيّ الفصيح على أن يكنّي عمّا سبق له أن ذكره بضمير ظاهر أو مستتر، مع العلم بأنَّ الضمير المستتر ملاحظٌ ذهناً، لذا فله حكم الضمير الظاهر، ولو كان ستره وعدم ذكره أمراً واجباً في أسلوب التعبير العربيّ الفصيح. فإذا أراد الناطق العربي الْقُحُّ الفصيح أن يخبر مثلاً بنزول المطر في موسم نزوله، ولم يجد أنّ من يخاطبه منكر، ولم يجد أنّ عليه شيئاً من علامات الإِنكار، وليس من غرض يقتضي منه أنْ يغيّر النظام الأوليَّ للكلام، فإنّه يقول عمّا حدث في الماضي: "نَزَل المطر" ويقول عمّا يجري حدوثُه مع كلامه: "يَنْزل المطر" ولا يجد داعياً لأنْ يقدّم المسند إليه فيقول: "المطر نزل" أو "المطر ينزل". لكن إذا وجّه كلامه لمن سبق أن أَخْبَرَ بناءً على دلائل الأرصاد الجويّة بأنّ المطر لا ينزل خلال أربع وعشرين ساعة، فجاء الواقع على خلاف ما أخبر، أو أراد بشارة أهله أو قومه بنزول المطر الذي يترقبونه لحاجتهم إليه، أو أراد أن يُعَبِّر عن اهتمامه بحصول هذا الحدث، أو كان الموسم موسِماً يُسْتَغْرَبُ فيه نزول الأمطار، أو كان يُرِيدُ التعبيرَ عن فرحته، أو الثناءَ على نوع المطر النازل، أو التوطئة للثناء على الله الّذي أنزله، أو التوطئة للحثّ على شكر الله على نعمته، أو نحو ذلك من مقتضيات التقوية والتأكيد، أو مقتضيات البدء في الجملة بذكر ما هُو الأهمُّ في نفسه أو نفس المخاطب، كان من المستحسن أن يُعبِّر بأسلوب بُشعِرُ بتقوية الخبر، أو بما يلائم مقتضى الحال، ومن الأساليب المؤديّة للأغراض السابقة تقديم المسند إليه على المسند، فيقول بمقتضى سليقته في تذوّق أساليب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 الكلام العربي: "المطر نَزَل" أو "المطر يَنْزِل" شاعراً بأن المخاطَبَ العربيّ الْقُحَّ يفهم من هذه الصيغة قوَّةً وَتأكيداً، أو غرضاً ما تساعد على فهمه القرينة، وهذا الغرض دعاه إلى تقديم المسند إليه على المسند. ويظهر للباحث من تحليل عبارة "المطر نزل" أو عبارة "المطر ينزل" أنّهما تشتملان على عاملين غير موجودين في "نزل المطر" وفي "يَنْزِل المطر" وهما: العامل الأول: تقديم لفظ المسند إليه "المطر" المشعر بأنَّه محل اهتمام المتكلّم أو المخاطب، إذ الأصل فيه التأخير، ومعلومٌ أنّ النفس تتّجه دواماً للبدْءِ بما هو محلُّ اهتمامها. العامل الثاني: شعور الناطق العربي الْقُحّ بأن في فعل "نزل" المتأخر عن "المطر" وفي فعل "ينزل" أيضاً ضميراً مستتراً يعودُ على المطر، فهو في عبارتَيْهِ يلاحظ أنّه يُسْنِد النزول إلى المطر مرّتين، ففي الأولى يُسْنِدهُ إلى لفظ "المطر" وفي الأخرى يسنده إلى ضميره المستتر. وقد يُحَوِّل الناطق العربيّ الْقُحُّ تعبيره إلى جملة مبتَدَؤُها وخبرها اسمان وفيها تحقيق ما يريد من قوّة، ما يريد من إشعارٍ بالْبَدْءِ بما هو محَلُّ اهتمامه، أو محلُّ اهتمام المخاطب، فيقول: "المطرُ نَازِلٌ من السماء" أو "المَطَرُ مُنَزَّلٌ من السماء" إذْ يُدرِكُ أنّ في الخبر "نَازِل - مُنزّل" ضميراً مستتراً يعود على المبتدأ، فالأول "اسم فاعل" والثاني "اسم مفعول" وهما يحملان الضمير كالفعل، ويعملان عمله. وقد نلاحظ في استعمالات العرب الفصحاء البلغاء لتقديم المسند إليه وفق البيان السابق، أنّ التقوية المستفادة من هذا التقديم قد ترقَى إلى مستوى التخصيص والحصر، ولا سيما المسند إليه المسبوق بنفي، مثل أن يقول المتهم بسرقةِ مَنْزِلٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 حصلت فيه سرقَةٌ فعلاً: "ما أنا سرقتُ المنزل" أو "ما أنا سارقٌ المنزل" أي: بل غيري هو الذي سرقه، فقَصَرَ نَفْي السّرقة على نفسه، ولم يَنْفِ حصول السرقة نفياً كليّاً. يضاف إلى ما سبق أنّ ما يعتني الإِنسان بتفخيمه وتعظيمه في كلامه يحاول تقديمه على غيره في الذكر، كما يقدَّم العظماء في المجالس والمواقف. وكذلك ما يريد توجيه العناية له في أمْرٍ من الأمور، نظير تقديم العروسين في ليلة عرسهما، وتقديم المتخرجين لتسليمهم شهاداتهم، وتقديم المتفوقين لتسليمهم جوائز تفوّقهم. وعلى نظير ذلك نلاحظ البدء بطرق المسامع بالمسند إليه في مجال الافتخار، ولدى إرادة تعجيل المسرّة بالبشرى والوعد ونحوهما، أو تعجيل المسَاءَة بالإِنذار والوعيد ونحوهما، ولدى الرغبة في تعجيل التلَذُّذ بذكره، ولدى الإِشعار بأنه حاضر في التصوّر لا يغيب عنه، فهو يَسْبِقُ غيره إلى النُّطق به، ولدى الإِشعار بالاهتمام بمدحه أو ذمّه، إلى غير ذلك ممّا قد يلاحظه فطناء البلغاء. وفي كلّ الأحوال ترجع مزايا التقديم إلى أمرين رئيسين: الأمر الأول: ما يفيد زيادةً في المعنى وزيادةً في جمال اللفظ، وهذا غاية ما يعتني به البلغاء في هذا المجال. الأمر الثاني: ما يفيد زيادةً في أحدهما فقط، ويدخل هذا أيضاً ضمن مقاصد البلغاء. أمّا ما يتكافأ فيه التقديم والتأخير فلا يهتم له البلغاء، وأمّا ما يختلُّ به المعنى أو يفقد عنصراً من عناصر جمال اللّفظ فيتجافون عنه وينفرون منه. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 (3) دواعي تقديم المسند إليه من البيان السابق نستطيع استخلاص طائفةٍ من دواعي تقديم المسند إليه على المسند حينما يكون الْمُسْنَد فعلاً، أو اسماً ممّا يحتمّل الضمير كالفعل، إذْ يعمل مثل عمله، ولو كان محذوفاً من اللفظ إلاَّ أنّه مقدّر ذهناً كمتعلّق الظرف والجار والمجرور أحياناً. والطائفة التي نستخلصها هي ما يلي: الداعي الأول: تقوية الحكم الذين دلّت عليه الجملة وتوكيده على ما سبق به البيان. الداعي الثاني: إرادة إفادة اختصاص المسند بالمسند إليه، إذا كان في السّباق أو السياق أو القرائن الأخرى ما يساعد على ذلك، كالرّدّ على مدّعي خلافه، فإذا كان يدّعي انفراد غيره به، أو مُشَاركته له فيه قال له: "أَنَا فعلتُه" أي: فعلته وحدي. الداعي الثالث: الرغبة في تعجيل المسرّة، أو تعجيل المساءة، وذلك في مواطن البشرى والوعد، ومواطن الإِنذار والوعيد. الداعي الرابع: الإِشعارُ بأنه حاضرٌ في التصوّر لا يغيب، لذلك فهو يسبق غيره في التعبير، فيبدأ اللّسان بالنطق به. الداعي الخامس: الرغبة في تعجيل ذكره، لما يحصل في النفس من مشاعر لذّة، إذ هو محبوبٌ لديها، ومعلومٌ أنّ المحبّ يتلذّذ بذكر اسم محبوبه. الداعي السادس: مراعاة حال المخاطب الذي يسُرُّه البدء بالمسند إليه، لتشوّقه إلى معرفة أخباره، أو استئناسه أو تلذّذه بسماع اسمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 الداعي السابع: الرغبة في البدء بالمسند إليه تفاخراً، في المواطن التي يكون ذكر المسند إليه فيها يُشعر بالفخر، كأن يقول من يريد الفخر من الطائيين: "حاتم الطائي جدي" وكأن يقول الشريف: "محمّد رسول الله جدي" ومنه قول سيدنا "علي بن أبي طالب" رضي الله عنه في غزوة خيبر: أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي الْحَيْدَرة ... كَلَيْثِ غَابَاتٍ غَلِيظِ الْقَصَرةِ أَضْرِبُ بِالسَّيْفِ رِقَابَ الكَفَرة ... أَكِيلُكُمْ بالسّيُفِ كَيْلَ السَّنْدَرَة حَيْدَرَة: من أسماء الأسد، قال ابن الأعرابي: الحيدرةُ في الأُسْدِ مثل الملك في الناس. القَصَرَة: العنق وأصْلُ الرقبة. السَّنْدَرة: مكيالٌ كبير. فقدم المسند إليه "أَنَا" مفاخراً في مقام يحْسُنُ فيه الفخر، لأنَّه يقاتل الكفَرَة أعداء الله. الداعي الثامن: كون المسند إليه أمراً مستغرباً أو مفاجئاً أو نادِراً أو مخفياً، مثل: "الحيتانُ العظمى أقبلت إلى الشاطىء - الجنُّ لها مساكن في أمّ لقرى - جيش العدوّ دخل المدينة - بَقرةٌ تكلّمت - الكنْزُ ظهَرَتْ مَعَالِمُه". الداعي التاسع: الرّغبة في الإِسراع بالتبرك، ويظهر هذا في أسماء الله الحسنى. الداعي العاشر: الاهتمام بالممدوح بتقديم اسمه في الجملة، كقولي من قصيدة: مُحَمَّدٌ أنت مَا أَحْلاَكَ تَسْمِيَةً ... اللَّهُ سَمَّاكَهَا والحمد مُنْتَظَرُ لقد حَسُن في مدح الرسول البدءُ بذكْر اسمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وفي تقديم لفظ الجلالة "الله" ما يشعر بالتفخيم والتعظيم، وهذا من الدواعي أيضاً كما يأتي. الداعي الحادي عشر: إرادة التفخيم والتعظِيم، كأن يسأل سائل: ما بال أهل مدينتنا ينصبون الزّينات في الشوارع وعلى الأبنية وعلى الحافلات وكلّ السّيّارات، وبالتلقائيّة يأتيه الجواب: مَلِكُ البلاد سيزورنا قريباً. الداعي الثاني عشر: إرادة تمكين المسْنَد، لأنّ في المسند إليه تشويقاً إليه. إلى غير ذلك من دواعي تتفتَّقُ عنها قرائح البلغاء. *** ملاحظتان الملاحظة الاولى: حول كلمتي "مثل - غير". ذكر علماء البلاغة أنّ كلمتي "مثل" و"غير" تلازمان التقديم في التراكيب البليغة، إذا أُرِيد بهما الكناية عن الشخص الذي يجري الحديث عنه. كأنْ تقول له: * "مثْلُكَ لاَ يَبْخَل - مثلُكَ لا يقصر في فعل الخير - مثلك لا يترك الصلاة المفروضة عامداً". أي: أنت لا تفعل ذلك، دون أن تريد التعريض بغيره، مُومِئاً إلى أن من تُعَرّضُ به يتصف بالبخل، أو بالتقصير في فعل الخير، أو بترك الصلاة المفروضة عمداً. * "غَيْرُك يُسِيءُ إلى أصدقائه - غيرك لا يُعاشر أهْلَهُ بالمعروف - غيرُكَ يمنَعُ الزكاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 أي: أنت لا تسيءُ إلى أصدقائك - وأنت تُحْسِن معاشرة أهلك بالمعروف - وأنت لا تمنع الزكاة، دون أن تريد التعريض بغيره، مُومِئاً إلى أن من تعرّض به يسيءُ إلى أصدقائه، أو لا يعاشر أهله بالمعروف، أو يمنع الزكاة. * ومنه قول المتنبي من قصيدة يُعَزِّي بها أبا شجاع عضد الدولة وقد ماتتْ عمّته: مِثْلُكَ يَثْني الْحُزْنَ عَنْ صَوْبِهِ ... وَيَسْتَرِدُّ الدَّمْعَ عَنْ غَرْبِهِ وَلَمْ أَقُلْ "مِثْلُكَ" أَعْنِي بِهِ ... سِوَاكَ يَا فَرْداً بِلاَ مُشْبِهِ يَثْنِي: أي: يَعْطِفُ ويَصْرِف. عَنْ صَوْبِهِ: أي: عن قَصْدِه. عن غَرْبِهِ: أي: عن مجراه. الْغَرْبُ: مجْرَى الدَّمْعِ وَجمعه "غُروب". والمعنى: أنت تقدر أن تَعْطِفَ وتصرفَ الحزْنَ عن قصده حين يتوجه لنفسك وقلبك، بالحكمة والصّبْر. وأنت تستطيع أن تسترجع بقوّة احتمالك وبالغ عزمك الدمعَ عن مجراه، وتمنعَهُ من متابعة الجري. *** الملاحظة الثانية: على خلاف ما ذكر البلاغيون فإنني لست أرى أن يُلْحق بباب التقديم والتأخير البلاغي تقديم أداة النفي على اللفظ الدالّ على العموم، ولا تقديم اللفظ الدالّ على العموم على أداة النفي، فهذه قضية فكرية تتصل بأصل بناء الكلام في أدائه للمعاني، وهي ترجع إلى قاعدة "سَلْبِ العموم أو عُموم السلب" فإذا سُلِّط النفي على العموم لم يلزم منه نفي جميع الأفراد، لأنّ المنفيّ حنيئذٍ هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 العموم لا جميع أفراده، وإذا سُلّط العموم على المنفي بأداة النفي فإنَّه يَدُلُّ حينئذٍ على نفي جميع الأفراد. فإذا قلنا: "ليس كان إنسان كاتباً" بتسليط السَّلْب على العموم فمعنى هذه الجملة أنّ بعض الناس غير كاتب، وهذا حكم صادق. وإذا قلنا: "كُلُّ إنسان ليس كاتباً" بتسليط اللفظ الدال على العموم على الجملة المنفيّة "المسلوبة" فمعنى هذه الجملة أنه لا أحد في الناس هو كاتب، وهذا حكم كاذب غير صحيح. فمعني كلٍّ من الجملتين قد أُخِذَ عقليّاً من تسليط النفي على العموم، ومن تسليط العموم على النفي، ولم يُؤْخَذْ من دواعي بلاغية، وهذا الموضوع هو من اهتمامات علماء المنطق وعلماء أصول الفقه، وقد شرحتُه في مقولةٍ خاصة في كتابي: "ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة". انظر إلى قول القائل: "كُلُّ كبائر الإِثم لم أرتكبها" فإنّك تجد أن هذا الكلام يفيد أنه لم يرتكب شيئاً من كبائر الإِثم، ولذلك قد يعترض عليه بمثل قول القائل: "بل ارتكبْتَ بضعها". انظر إلى قول القائل: "لم أرتكبْ كُلَّ كبائِرِ الإِثْم" فإنّك تجد أنَّ صاحب هذا الكلام لا ينفي عن نفسه أنّه ربما ارتكب بعض كبائر الإِثم، من أجل هذا لم يصحّ أن يُعتَرضَ عليه بمثل قول القائل: "بل ارتكبت بعضها" لأنّ هذا أمر لم ينفه عن نفسه، وإنما قد يُعْتَرض عليه بمثل قول القائل: "بل ارتكبْتَ جَميعَ كَبَائر الإِثم" إذا كان قد ارْتكبَهَا فِعلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 فقول أبي النجم: قَدَ أَصْبَحَتْ أُمُّ الخِيَارِ تَدَّعي ... عَليَّ ذَنْباً كُلُّهُ لَمْ أَصْنَع يفيد أنه لم يصنع شيئاً منه، لأنّه قدّم أداة العموم على أداة السلب. أمثلة وتطبيقات أُقدّم أمثلة وتطبيقاتٍ قد لا تكون شاملة لكل دواعي تقديم المسند إليه على المسند الفعلي، والمسند الذي يتحمّل الضمير كالفعل، رجاءَ أن تكون هاديةً للدّارس الباحث البلاغي، فيقيسَ عليها، ويستخرج ما يراه من دواعي بلاغيّةٍ في مختلِف النُّصوص التي يدرسها من كتاب الله عزّ وجلّ، وأقوال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأقوال البلغاء من ناثرين وشعراء ذوّاقي الأدب الرفيع، وعناصره الإِبداعيّة والجمالية: المثال الأول: قول الله عزّ وجلّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) بشأن فريق من اليهود: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الآية: 78] . جملة: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} جملةٌ حالية قُدِّمَ فيها المسند إليه على المسند الفعلي لتقوية الإِسناد فيها وَتأكيده، لأنّ مقتضى الحال يستدعي التقوية والتأكيد. والسبب في ذلك أنّ هؤلاء كانُوا يكتبون مكتوبات يزعُمُون أنَّها ممّا أنْزَل اللهُ في الكتُب على رسُلِهِمْ، ويتخذون مع ذلك حيلةً لترويج ما كتبوه وافتروهُ على اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 بغية أن يقبله عوامُّهم، وهي أن يَلْوُوا ألْسِنَتَهُم به لدى تلاوته، كما يفعلون لدى تلاوة ما أَنْزَل الله من كتاب، فيخلطون المدسوس الذي هو من افترائهم بالأصل الصَّحِيح، للإِيهام بأنّه من كتاب الله، وهم بذلك يقولون على اللهِ الكذب، ويعلمون ذلك من أنفسهم. لكنّهم لا يعترفون بأنّهم يكذبون، فاقتضى واقع حالهم سوق الكلام لهم بطريقة فيها تقوية وَتأكيد، فجاء في الجملة تقديم المسند إليه على المسند الفعلي، لما في هذا التقديم من تقوية وتأكيد، كما سبق بيانه في المقدمة. مع ما في تأخير المسند من داعٍ جمالي في اللّفظ، وهو مراعاة التناظر في رؤوس الآيات قبل الآية وبعدها. *** المثال الثاني: قول أبي العلاء "أحمد بن عبد الله بن سليمان المعرّي" من أبيات يرثي بها أحد الفقهاء: بَانَ أَمْرُ الإِلَهِ وَاخْتَلَفَ النَّا ... سُ فَدَاعٍ إلى ضَلالٍ وَهَادِي وَالَّذِي حَارَاتِ الْبَرِيَّةُ فِيهِ ... حَيَوانٌ مُسْتَحْدَثٌ مِنْ جَمَادِ لقد صاغ جملةً اسميّةً في تابع خبرها ما يحمل ضميراً يعود على مبتدئها المسند إليه، فتمّ له تقديم المسند إليه في جملته الاسميّة التي فيها تقوية وتوكيد. والداعي إلى هذا التقديم تمكينُ المسند في ذهن المتلقّي، لأنَّ في المسند إليه "المبتدأ" هنا تشويقاً للتعرّف على خبره، إذ جاء فيما يتّصل به أنّه شيءٌ حارتْ البريَّةُ بأمره، فالنفس تتساءل بشوق: ما هذا الذي حارت البريَّةُ فيه؟ ويأتي الجوابُ في الخبر: "حيوانٌ مستحدثٌ من جماد" والمرادُ الإِنسانُ وسائرُ ما خلق الله من ترابٍ فنفخ فيه نسمة الحياة. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلّ في سورة (الحجرات/ 49 مصحف/ 106 نزول) : {ياأيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لتعارفوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الآية: 13] . فإنّ في المسند إليه "أكرمكم" الذي هو اسم "إنَّ" تشويقاً للتعرّف على الخبر وهو "أتقاكم" فإذا جاء الخبر بعد ذلك تمكن من النّفس لأنه جاء بعد تساؤلٍ نَفْسِيٍّ عنه. *** المثال الرابع: قول الله عزّ وجلّ في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) : {وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجن والإنس والطير فَهُمْ يُوزَعُونَ} [الآية: 17] . فَهُم يُوزعون: أي فهم يُجْمعون في مكان جامعٍ، ويُرَتَّبُونَ صفوفاً ويُسَوَّوْن بانتظام، للقيام بما يكلفون من أعمال، أو للاستعراض. أصل الوزْعِ: الكفُّ والحبْسُ، والمراد كفُّهم - بترتيبهم صفوفاً منتظمةً - عن التفرق والانتشار، ومعلوم أنّ الجنود حينما يُجْمعون صفوفاً مُسوَّاة منتظمة يسْهُل توجيهُ الأوامر والنواهي لهم للتحرّك والتوقف، من قِبَلِ وليّ أمرهم القائد. وقد جاء تقديم المسند إليه في هذه الجملة لتأكيد الخبر باعتباره أمراً غريباً، إذْ من المستغربِ أن يُجْمَعَ جَيْشٌ واحدٌ في مكان جامعٍ، ويُنَظَّمَ صفوفاً مُسَوَّاةً، وأن يكون جُنُودُ هذا الجيش من الجنّ والإِنْسِ والطير. مع ما في تأخير المسنَدِ من داعٍ جماليٍّ في اللّفظ، وهو مراعاة التناظر في رؤوس الآيات. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 المثال الخامس: قول الله عزّ وجلّ في سورة (الحجر/ 15 مصحف/ 54 نزول) بشأن القرآن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الآية: 9] . يُلاحظُ في هذه الآية تقديم المسند إليه، باختيار كون الجملتين فيهما اسميّتَيْن خبرُهما يتحمّل ضميراً يعود على المسند إليه فيهما. ويظهر لنا من هذا التقديم عدّة دواعي بلاغية: (1) ابتداءُ طَرْقِ الأسماع بضمير المتكلّم العظيم، لإِلقاء المهابة والإِجلال ومشاعر التعظيم والتفخيم. (2) تمكين الإِسناد الخبريّ فيهما وتوكيده، بالعدول عن اختيار الجملة الفعلية، إلى اختيار الجملة الإسميّة التي يتحمّل خبرها ضمير المبتدأ. (3) التوطئة لإِيراد مؤكّداتٍ تلائمها الجملة الاسميّة، وهي: (حرف التوكيد "إنّ" وضمير الفصل "نحن" في الجملة الأولى) و (حرف التوكيد "إنّ" واللاّم المزحلقة، وتقديم معمول الخبر "له" المفيد للتخصيص في الجملة الثانية) . *** المثال السادس: قول الله عزّ وجلّ في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) : {وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [الآية: 69] . حَِنيذٍ: أي: مَشْوِي، يقال لغة: حَنَذَ العِجْلَ ونَحْوَه يَحْنِذُهُ حَنْذاً وتحْنَاذَا إذا شَوَاه، بأنْ دسّه في النار أو في حجارة مُحْمَاةٍ بالنار. نلاحظ في هذه الآية أنّ الرسُلَ من الملائكة لما جاءوا سيدنا إبراهيم عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 السلام ليبشّروه بغلام من زوجته "سارة" العجوز العقيم، على صور بشرٍ، لم يعرفهم في أول الأمر، وظنّهم ضيوفاً من الناس، فسلموا عليه سلاماً اتبدائياً بجملة فعليّة حُذِف فعلُها، وأبقي منها المفعول المطلق منصوباً بالفعل المحذوف، فقالوا: "سَلاماً" أي: نُسلّم عليكَ سلاماً. فردّ إبراهيم عليه السلام تحيّتهم بأحسن منها، فجاء بجملة اسميّة هي أقوى وآكد من الجملة الفعليّة، فقال: "سَلاَمٌ" بالرْفع، أي: سلامٌ عليكم، سواءٌ اعتبرنا "سلامٌ" مبتدأ، وهذا ممّا يجوز فيه الابتداء بالنكرة، لأنه من المصادر، فعبارة "عليكم" المحذوفة إيجازاً، هي جار ومجرور متعلقان بخبر محذوف هو اسم فاعلٍ من الكون العام، وهو يتحمل الضمير كالفعل، وتقديره: سلامٌ كائنٌ عليكم، وقد سبق أن عرفنا أنّ الجملة الاسمية التي يتحمل خبرها أو ما يتعلّق به ضمير المبتدأ أقوى وآكد من الجملة الفعليّة، أو اعتبرنا "سلامٌ" خبر مبتدأ محذوف تقديره: تحيتي سلام عليكم، فلفظ "سلام" مصدر يعمل عمل الفعل، فهو بقوة الجملة الفعلية. *** المثال السابع: لاَمَ عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بني أميّة على قبولهم استخلاف عُمَرَ بن عبد العزيز، لمّا أخذ هذا الخليفة الصالح التقيّ يردّ المظالم إلى أهلِها، ويحاسب الأمويين بالعدل وهم أهله الأقربون، وقد غَلُظ عليهم ما نالهم منه، فقال عبد الرحمن: فَقُلْ لِهشَامٍ والذين تَجَمَّعُوا ... بِدَابِقَ: مُوتُوا لاَ سَلِمْتُمْ مَدَى الدهْرِ فأَنْتُمْ أَخَذْتُمْ حَتْفَكُمْ بِأَكُفّكُمْ ... كَبَاحِثَةٍ عَنْ مَدْيَةٍ وَهْي لاَ تَدْرِي عَشِيَّةَ بَايَعْتُمْ إمَاماً مُخَالِفاً ... لَهُ شَجَنٌ بَيْنَ الْمَدِينَةِ والْحِجْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 دابق: هو المكان الذي اجتمع كبار بني أُميَّة فيه، وبايعوا عمر بن عبد العزيز خليفة. حَتْفَكم: أي: هلاككم. كَبَاحِثَة: أي: كامْرأةٍ خَرْقَاءَ تحفِرُ الترابَ بكفّيهَا على غير هدى فقد تقع يداها على ما يقطعهما، كالْمُدْية. عنْ مُدْية: الْمُدْيَةُ الشَّفْرة العظيمة. له شَجَنٌ: أي: له حاجةٌ دِينيَّةٌ شاغلةٌ له في مكة والمدينة، صارفة له عن مطالب الدنيا. نلاحظ أنَّه قدّم المسند إليه على الخبر الفعلي بقوله لبني أميّة أَهْلِه: "فَأَنْتُمْ أخَذْتُمْ حَتْفكُمْ بِأَكُفِّكُم" ليقوّي خبره ويؤكّده، وهو أنهم قد وقعوا في خطأ جسيم حينَ بايعوا عمر بن عبد العزيز، وهو تقيٌّ ورع، عَلائِقُ قلبه ونفسه موصولة بمهابط الوحي، وليس هو على طريقة أُسْرَته من بني أميّة مُغْرَماً بالسلطان وزينة الحياة الدنيا، وظاهرٌ أنّ مقتضى الحال يتطلب منه التقوية والتأكيد. وقد ردّ عليه أحد ولد مروان معارضاً ومؤنِّباً بأبيات على مثل أبياته وزناً وقافية، وخاطبه بمثل طريقته من التقوية والتوكيد. *** المثال الثامن: قول أبي الطيب المتنبي من قصيدة يعتذر فيها لسيف الدولة عن تأخّره عليه في نظم قصيدةٍ جديدة يمدحه بها، ذاكراً فيها أنّ عُذْرَه ما نزل به من همٍّ أسقمه، وأضرم ناراً في قلبه، دون أن يكون هو الذي جلب هذا الهمّ إلى نفسه، ودون أن يكون قادراً على دفعة: وَمَا أَنا أَسْقَمْتُ جِسْمِي به ... وَمَا أَنَا أَضْرَمْتُ فِي الْقَلْبِ نَارَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 نلاحظ أنّه قدّم المسند إليه المسبوق بالنفي في الشطرين لإِفادة التخصيص مع التقوية والتوكيد، فلخبر فعليٌّ. والمعنى: إنّ السّقم الذي نزل بجسمي من الهمّ، والنّارَ التي أُضْرِمَتْ في قلبي منه، لم يكونا مني حتى أُلاَم على تأخّري عنك، بل وفَدا عليّ من قوّةٍ قاهرةِ لإِرادتي، فلم أجلُبْهُما ولم اسْتَطع رَدَّهُما، ولذلك قال بعده في القصيدة: فَلا تُلْزِمَنِّي ذُنُوب الزَّمَا ... نِ إِليَّ أَسَاءَ وَإِيَايَ ضَارا ضارَ: مثل "ضَرَّ" يقال: ضارَهُ يَضيرُهُ ضَيْراً، وضرَّهُ يضُرُّهُ ضُرّاً وضَرّاً. ونظيره قول المتنبّي أيضاً يمدح علي بن عامر الأنطاكي: وَمَا أَنَا وَحْدِي قُلْتُ ذَا الشِّعْرَ كُلَّهُ ... وَلَكِنْ فِيكَ من نَفْسِهِ شِعْرُ فقدم المسند إليه المنفيّ الذي خبره فعلي، لإِفادة التقوية والتخصيص، أي: ما أنا المنفرد وحدي بقول هذا الشعر، ولكن أعانني عليه شعري نفسُه، لأنّ شعري أرادَ مدحَكَ كما أرَدْتُه. قال الْعُكْبَري: وهو معنى قول الطائي: تَغَايَرَ الشِّعْرُ فِيهِ إِذْ أَرِقْتُ لَهُ ... حَتَّى ظَنَنْتُ قَوَافِيهِ سَتَقْتَتِلُ تَغَايَرَ: أي: غار بعضه من بعض، أو تخالَفَ بعضه مع بعض. *** المثال التاسع: قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين وهو على بغلته كما جاء عند البخاري ومسلم: أَنا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ فقدَّم المسندَ إليه في جملة اسمية خبرها يحملُ ضمير المبتدأ، مفتخراً بثباته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 وقد فرَّ الناس، ومتفخراً بنبوّته وبنسبه الشريف، لأنّ المقامَ يحسُنُ فيه الفخر، وقد علمنا من دواعي تقديم المسند إليه إرَادةَ الافتخار. *** المثال العاشر: قول أبي تمّام: وغَيْرِي يَأْكُلُ الْمَعْرُوفَ سُحْتاً ... وَتَشْحَبُ عِنْدَهُ بِيَضُ الأَيَادِي سُحْتاً: السُّحْتُ: المال الحرام، وكلُّ ما خَبُثَ وَقَبْحَ من المكاسب، كالرشوة والْغُلُول والربا. تَشْحَبُ: يتغير لونها. يريد أنّ بِيضَ الأيادي تظلّ عنده بيضاء فهو لا يجحدها ولا يكفرها. قدّم كلمة "غير" إذْ أراد بها الكناية عن نفسه، وقد عرفنا أن كلمتي "غير" و"مِثْلَ" تلازمان التقديم إذا أريد بهما الكناية عن الشخص المتحدَّث عنه في الأساليب العربيّة البليغة. *** (4) دواعي تقديم المسند إذا كان الأصل فيه التأخير ذكر علماء البلاغة من الدواعي البلاغية لتقديم المسند إذا كان الأصل فيه التأخير أربعة أمور، ويمكن أن نضيف إليها كثيراً من الدواعي التي سبق بيانها لتقديم المسند إليه إذا كان الأصل فيه التأخير، وكذلك غيرها من الدواعي مما تتفتَّق عنه قرائح البلغاء الأذكياء. الداعي الأوَّل: تخصيص المسند بالمسند إليه، أي: قَصْرُ المسند على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 المسنَدِ إليه، فلا يكون لغيره، وسيأتي إن شاء الله في بحث القصر بيان القصر الحقيقي والقصر الإضافي. أمثلة: (1) قول الله عزّ وجلّ في سورة (القصص/ 28 مصحف/ 49 نزول) : {وَهُوَ الله لا إلاه إِلاَّ هُوَ لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة وَلَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الآية: 70] . في هذه الآية جملتان قدّم فيهما المسند على المسند إليه، هما: * {لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة} . * {وَلَهُ الحكم} . والجملتان اسميتان، والأصل فيهما تقديم المسنَدِ إليه، وقدم فيهما المسند لإِفادة التخصيص بمعنى القصر، وإليك التحليل: المسند ... . المسند إليه له ... ... ... الحمد في الأولى والآخرة له ... ... ... الحكم اللام بمعنى الاختصاص، أي: اختص الله بكلّ الحمد وبكلّ الحكم، بمعنى أنّ كلَّ الحمد وكلّ الحكم مقصوران عليه، لا يتعديان إلى غيره سبحانه. (2) قول الله عزّ وجلّ في سورة (الروم/ 30 مصحف/ 84 نزول) : {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ... } [الآية: 4] . هذه جملة اسمية، والأصل فيها تقديم المسند إليه، وقُدّم فيها المسند لإِفادة التخصيص، أي: الحصر، وإليك التحليل: المسند ... . المسند إليه لِلَّهِ ... ... .. الأَمْرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 اللآم بمعنى الملك، والجار والمجرور متعلقان بخبر مقدم مقدّر، والمعنى اختصّ مِلْكُ الأمر بالله، أي: كلّ الأمر مقصور ملكه على الله سبحانه، لا يتعدّاه إلى غيره. ونظير ذلك قول الله عزّ وجلّ في سورة (الكافرون/ 109 مصحف/ 18 نزول) : {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الآية: 6] . (3) قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73) : {واقترب الوعد الحق فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كَفَرُواْ ياويلنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هاذا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [الآية: 97] . الشاهد: جملة {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كَفَرُوا} ، {إِذَا} فجائية {هِيَ} ضمير القصة، وهو مبهم جاء تفسيره في الجملة بعده، ويؤتَى في البيان العربي بضمير القصة لتعظيم الأمر المبهم الذي سيأتي تفسيره. {شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كَفَرُوا} جملةٌ قُدِّم فيها الخبر وهو {شاخصة} على المبتدأ وهو {أَبْصَارُ الذين كَفَرُوا} لإِرادة التخصيص، على معنى تخصيص الشخوص بأبصار الذين كفروا يوم القيامة، دون غيرهم وهم أهل الإِيمان. (4) قول الله عزّ وجلّ في سورة (الصافات/ 37 مصحف/ 56 نزول) : بشأن عباد الله المخلَصِينَ في جنّات النعيم: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ * لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الآيات: 45 - 47] . غَوْل: الْغَوْلُ ما يحدثه شرب الخمر من صداع وسكر، والغول الإِهلاك، يقال: غاله غَوْلاً إذا أهلكه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 يُنْزَفُون: يَسْكَرُون - تذهبُ عقولهم، يقال لغة: شرب خمراً فأنزف، أي: سَكِر، أو ذهب عقله. الشاهد: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} قُدّم المسندُ هو {فِيهَا} المتعلق بخبر محذوف مقدر، وأخِّر المسند إليه وهو {غَوْلٌ} لإِفادة التخصيص، أي: خمر الجنّة مخصوصة بنفي الغول عنها بخلاف خمر الدنيا، فنفي الْغَوْلِ مقصورٌ على خمر الجنة لاَ يَتَعَدَّاها إلى غيرها من الخمور، وهي خمور الدنيا. والنصوص القرآنية الشواهد على هذا الداعي كثيرة. *** الداعي الثاني: قالوا التّنْبِيه من أوّل الامر على أنّه خبرٌ لا نعت، إذا كان تأخيره قد يوهم ابتداءً أنّه نعتٌ للمسند إليه. ويمكن أن نصوغ هذا الداعي بأن نقول: دفع سَبْقِ التوهّم إلى أنّه نعت، بالتَّنْبِيه على أنه خبر مع بدء الجملة. أمثلة: (1) قول أبي بكر النّطّاح في وصف أبي دُلف العجلي: لَهُ هِمَمٌ لاَ مُنْتَهى لِكِبَارِهَا ... وَهِمَّتُهُ الصُّغْرَى أَجَلُّ مِنَ الدَّهْرِ أصل الكلام: "هِمَمٌ لَهُ لاَ مُنْتَهَى لِكبَارِها" لكنّ هذه الصيغة توهم أنّ "لَهُ" صفة لهمم، لأنّ النكرة تستدعي النعت أكثر ممّا تستدعي الخبر، وهو يريد أن يُثبت لممدوحه همماً لا منتهى لكبارها، ودفعاً للتوهم الذي كان يمكن أن يحدثُ قدَّم المسند وهو "له" على المسند إليه وهو "هِمَمٌ" لا منتهى لكبارِها". وجاء في شعره فيه بعد هذا البيت قوله: لَهُ رَاحَةٌ لوْ أنَّ مِعْشَارَ جُودِها ... عَلَى الْبَرِّ كَانَ البَرُّ أَنْدَى مِنَ الْبَحْر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 فقدّم المسند وهو "له" على المسند إليه وهو "راحةٌ" لأنّ "راحة" نكرة غير موصوفة، فلا يجوز نحويّاً الابتداء بها، فوجب تقديم المسند على المسند إليه وفق القواعد النحويّة، لا بمقتضى داعٍ بلاغي. (2) قول الله عزّ وجلّ في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول) : بشأن عذاب الذين كفروا يوم القيامة. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الآية: 36] . {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [الآية: 37] . {وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الآية: 41] . جاء في هذه النصوص تقديم المسند وهو {لَهُمْ} على المسند إليه وهو {عَذابٌ أليم - عذابٌ مقيم - عذاب عَظيمٌ} لئلا يسبق إلى التوهّم أن المسند قد سيق على سبيل النعت للمسند إليه، وأن الخبر لم يأتِ بَعْدُ، مع ما في هذا التقديم من مراعاة داعٍ جمالي في اللفظ، اقتضته رؤوس الآيات. *** الداعي الثالث: أن يكون في المسند ما يدعو إلى التفاؤل بالخير أو التشاؤم من الشرّ، ويريد موجّه القول المبادرة بما يحدثُ في نفس المتلقّي من التفاؤل أو التشاؤم. كأن تقول لمن تريد أن يحسَّ بالتفاؤل: مع أذان الفجر أو عند شروق الشمس وِلادَة ابنك. وكأن تقول لمن تريد إثارة تشاؤمه وقد سأل متى يكون زواجه: حين تصيح الْبُومةُ زَواجُك. ومن إرادة الإِشعار بالتفاؤل، قول الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 سَعِدَتْ بغُرَّةِ وَجْهِكَ الأَيَّامُ ... وتَزَيَّنَتْ بِلقَائِكَ الأَعْوَامُ *** الداعي الرابع: إرادة التشويق إلى ذكر المسند إليه، ويكثرُ هذا الداعي في المدح والوعظ. * فمن أمثلته في المدح قول محمد بن وهب يمدح المعتصم: ثَلاَثَةٌ تُشْرِقُ الدُّنْيَا بِبَهْجَتِهَا ... شَمْسُ الضُّحَى وَأَبُو إِسْحَاقَ والْقَمَرُ ومن أمثلته في الوعظ، قول ابي العلاء المعرّي: وَكَالنَّارِ الْحَيَاةُ فَمِنْ رَمَادٍ ... أَوَاخِرُهَا وَأَوَّلُهَا دُخَانُ * ومن أمثلته قول الشاعر: ثلاثَةٌ لَيْسَ لَهَا إِيَابُ ... الْوَقْتُ والْجَمَالُ والشَّبَابُ *** (5) دواعي تقديم متعلقات الفعل عن مراتبها ذكر عُلَمَاءُ البلاغة طائفةً من الدواعي البلاغية لتقديم ما هو من متعلقات الفعل عن مرتبته، ويمكن أنْ تضاف إليه طائفةٌ أُخرى مما سبق عرضه في تقديم المسند إليه، وتقديم المسند، وطائفةٌ أخرى ممّا تتفق عنه قرائح البلغاء والفطناء. يُقْصَدُ من متعلقات الفعل المفعولُ به، والجارُ والمجرور، والظّرف، والمفعولُ المطلق، والمفعولُ معه، والمفعولُ لأجله، والحالُ، والتمييزُ في أحوال قليلة ونادرة. الداعي الأوّل: إرادة التخصيص، وهو قَصْرُ الحكم (الناتج عن إسناد المسند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 إلى المسنَدِ إلَيْه) على المقدَّم من مُتَعَلّقات الفعل على الفعل أو ما في معناه، ممّا يعمل عمله، وتُسَاعد القرائن على اكتشاف إرادة التخصيص. أمثلة: (1) قول الله عزّ وجلّ في سورة (الفاتحة/ 1 مصحف/ 5 نزول) : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الآية: 5] . إيَّاكَ: في الجملة الأولى مفعول به مقدّم على فعله وهو {نَعْبُدُ} . وإيَّاكَ: في الجملة الثانية مفعول به مقدّم على فعله وهو {نَسْتَعِينُ} . وقد أفاد هذا التقديم تخصيصَ وحَصْر عبادة العابد الذي يتلو هذه الآية باللَّهِ عزَّ وجلّ، المخاطبِ بضمير الخطاب {إِيَّاكَ} وتخصيص وحصْر استعانته به إذا استعان. (2) قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فارهبون * وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تكونوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فاتقون} [الآيات: 40 - 41] . الشاهد في جُمْلَتَي {وَإِيَّايَ فارهبون} [الآية: 40] و {وَإِيَّايَ فاتقون} [الآية: 41] ففيهما تقديمُ المفعولِ بِه على فعله، وقد أفادَ هذا التقديم التخصيصَ والحصْرَ، والمعنى: لا ترهبوا غيري من الشركاء، ولا تتَّقُوا غيري من الشركاء. (3) قولي في مدح الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِلَيْهِ مَدِيحاً سُقْتُ غُرَّ قَصَائِدِي ... فَعَنْهُ عَرَفْتُ النُّورَ في ظُلُمَاتِي وَفي حُبِّهِ السَّامِي أَجُودُ بمُهْجَتِي ... فَذَلِكَ فَرْضٌ مِثْلُ فَرْضِ صَلاتِي إذَا كَانَ ذُو الْعَرْشِ اصْطَفَاهُ عَلَى الْوَرَى ... فحُبِّي لَهُ مِنْ مُسْعِدَاتِ حَيَاتِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 إليه مَدِيحاً: معمول لفعل (سُقْتُ) مقدَّمٌ عليه لإِرادة التخصيص. فَعَنْهُ: معمول لفعل (عَرَفْتُ) مقدّم عليه لإرادة التخصيص. وفِي حُبِّهِ السَّامِي: معمول لفعل (أجود) مقدَّمٌ عليه لإِرادة التخصيص من دون سائر عباد الله. (4) قول الله عزّ وجلّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) : خطاباً لرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ الله لا إلاه إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم} [الآية: 129] . عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ: أي: أخُصُّهُ وَحْدَهُ بِتَوَكُّلي، وقَدْ فُهِمَ هذا من تقديم المعمول على عامله. ونظير هذا كثير في القرآن مثل: {وإِلَيْكَ أنَبْنَا - إنّا إلى ربّنَا رَاغِبُونَ - فَإِلَيْنَا يُرْجَعُون - ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ - إِلَيْه يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ - وإلى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ -} . (5) قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : خطاباً للمؤمنين أتباع الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً ... } [الآية: 143] . لِتكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس: جاء في هذه العبارة تأخير المعمول {عَلَى الناس} على عامله "شُهداء" وفق أصل الترتيب، إذ لا يُوجَدُ داعٍ للتقديمِ، إذْ أتباع محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكلّفون أن يُبَلِّغوا رسالة الله للناس، ليكونوا يوم يوم القيامة شهداء عليهم بهذا التبليغ، وليست شهادتهم بعد تبليغهم خاصة بناس دون ناس، لأنّ الخطاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 لعموم المؤمنين، والمطلوب تبليغهم عموم غير المؤمنين، لا خصوص فريق منهم. وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً: وجاء في هذه العبارة تقديم المعمول {عَلَيْكُمْ} وعلى عامله {شَهِيداً} على خلاف أصل الترتيب، لوجود داعي بلاغيّ لهذا التقديم، وهو أنّ بلاغَ الرسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلاغٌ مخصوص بالْقَرنِ الأَوَّل الَّذِينَ بلَّغَهُمْ مُشَافهة من أُمَّتِه، أمَّا الَّذِين جاءوا من بعدهم فقد بلَّغهم المبلِّغُون من أهل القرن الأول، وهكذا تسلْسُلاً قَرْناً بعْدَ قرن. فقد تنبّه إلى الفرق بين العبارتين في هذه الآية وإلى الداعي البلاغي الذي ذكرتُه "الزمخشريُّ" في كشّافه، وقد أحسن. (6) قول الله عزّ وجلّ في سورة (مريم/ 19 مصحف/ 44 نزول) في بيان ما خاطب به المبشر من الملائكة زكريّا عليه السلام بغلام اسمه يحيى، بعد إن أظهر له تعجُّبه من أن يأتيه غلام في حالة كون امرأته عاقراً وكونه قد بلغ من الكبر عتِيّاً: {قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [الآية: 9] . هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ: في هذه الجملة تقديم المعمول {عَلَيَّ} على عامله {هَيِّنٌ} لإفادة أنَّ ما يراه أمْراً صعباً في مقاييس القدرات البشرية، هو بالنسبة إلى الله على وجه الخصوص هيِّنٌ، فاقتضى حال زكريَّا عليه السلام وتعَجُّبه وتساؤله أن يُنَبَّهَ على أنَّ ما تعجَّبَ منه هو ممّا اختصَّ الله بِأنَّه هَيِّنٌ عليه. ملاحظة: إذا كان العامل منفيّاً وقدّم عليه المعمول كانت دلالة التقديم على التخصيص والحصر أمراً لازماً، فلا يَجُوز أنْ يُتْبَعَ الْكَلاَمُ بما يَنْقُضُ هذا الحصر، فلا يُقالُ نحو: "ما زَيْداً ضَرَبْتُ ولاَ غَيْرَه" لأنّ عبارة "ما زيداً ضربتُ" تدلُّ على تخصيص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 زيد بعدم ضربه، لكنَّها تُفِيدُ أَنَّه قَدْ ضَرَبَ غيره، فتأتي عبارة "وَلاَ غَيْرَه" ناقضةً للدّلالة التي أفادها التخصيص. *** الداعي الثاني: الاهتمام بشأن المقدّم أو الإِشعار بالاهتمام به كأنْ تُوصِيَ مَنْ طلَبَ منْكَ أنْ تنصحه فتقول له: "بِوالدَيْكَ كُنْ بَرّاً، ثُمَّ كُنْ بَرّاً بالأَقْرَبَيْن والأرحام". والْفِقْهَ احْرِصْ على تَعَلُّمِهِ أَوَّلاً ثُمَّ تعلَّمْ سائرَ علوم الدين وما يَخْدُمُها من العلوم الّتِي بها تُفْهَمُ النُّصُوصُ وتُسْتَنْبَطُ الأَحْكام. وتَقْوَى اللَّهِ الْزَمْ في أَمْرِكَ كُلَّه، ثُمّ تَزَوْدْ فوق ذلك من الصالحات. والشِّركَ احْذَرْ أَنْ يُخَالِطَ نِيَّتَكَ في أَعْمالِكَ. في هذه الوصايا قُدِّم المعمولُ على عامله لتوجيه الاهتمام وبالغ العناية، ولم يُقدَّم لإِفادة التخصيص والحصر. * ومن الأمثلة قول الله عزّ وجلّ في سورة (السجدة/ 32 مصحف/ 75 نزول) : {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لبني إِسْرَائِيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [الآيات: 23 - 24] . قوله تعالى: {بِآيَاتِنَا} معمولٌ مقدَّمٌ على عامله وهو {يُوقِنُونَ} وَقُدِّمَ لِلإِشْعَارِ بأَهَمّيَةِ آيَاتِ اللهِ في حيَاةِ البْشَر، وبقيمَتِها العظيمة في رحلة امتحانهم، فالإِيقانُ بها هو الذي يُصَحِّحُ مسيرتهم ويُقوّمُ سُلوكهم، وليس الغرض حصر الإِيقان بها، فأركان الإِيمان التي يجب الإِيقان بها لا تقتصر على آيَات الله. مع ما في تأخير {يُوقِنُونَ} من مراعاة عنصر جماليٍّ تستدعيه رؤوس الآيات. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 الداعي الثالث: إرادة ردّ الخطأ من التعيين أو الاشتراك، جواباً أو بياناً لمن ذَكَرَ أو ادَّعى أو اعتقد خلاف ذلك. فمن أمثلة ردّ الخطأ في التعيين: دخل "خالد بن سعيد" سوق بيع الأنعام، فاشترى جملاً ليحجّ عليه، وأخذ خطامه، وجرَّه وراءه، فعدا عليه اللّصوص ضمن الزّحام وهو لا يشعر، فقطعوا خطام الجمل، ووصلوه برأس حمار، ومشى الشاري غافلاً، ثمَّ التفت فرأى أنّه يجرُّ وراءه حماراً، فصاح أيْنَ جملي، فقال له من في السوق وهم يعلمون حِيَل اللّصوص في سوقهم: أمَا اشتريتَ حماراً؟ فردّ عليهم بقوله: جملاً اشتريتُ، جملاً اشتريت، وأبدله اللُّصوص بحمار. أي: لم أشتر حماراً وإنَّما اشتريتُ جملاً، فَردّ قولهم في تعيين ما اشترى إلى الصواب، بأسلوب تقديم المعمول على عامله. ومن أمثلة ردّ ادّعاء الاشتراك: * اشترى "عبد الرحمن" حصاناً وبقرة وثوراً لمزرعته، من سوق البقر والخيل، وسلّمه البائع البقرة وتشاغل، ثمّ ادَّعَى أنَّه سلّمه الحصانَ والثور. فقال "عبد الرحمن": بقرةً استلمتُ منْكَ، أي: لم أسْتَلِمْ بَعْدُ الحصان والثورَ وإنّما استلمتُ البقرة فقط. * وقال الزوج لزوجته في خصومة بينهما: قدَّمْتُ لَكِ ليْلَةَ الْعُرْسِ عقداً وَسِوَارَيْنِ بيَدَيَّ هَاتين. فردّت عليه بقولها: "عِقْداً بيَدِكَ قَدَّمْتَ لي" أي: لم تقدّم لي سوارَيْن، ولم تَسْتَعْمِلْ يَدَيْك الاثنتين، بل استعملْتَ يداً واحدة. وقال لها: تَسَلَّمْتُكِ يَوْمَ الْعُرْسِ مِنْ أُمِّكِ وَأَبِيكِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 فردّت عليه بقولها: "من أُمِيّ تَسَلَّمْتَنِي" أي: لَمْ يُشَارِكْ أبي في هذا الأمر. * وقال المتفاخر بقمع الْجُنَاةِ من قُطّاعِ الطَّريق: قَطَّعْتُ رؤُوس عصابة الجناة. فردّ عليه أحد حاضري المعركة: "رأسَ جَانٍ قَطَعْتَ" أي: لم تقطع غيره. * وقال الرفيق لرفيقه: صحبتك في زيارتي لمكة وفي زيارتي لمسجد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فردّ عليه بقوله: "في زيارتي لمكة صحبتني" أي: لم نتصاحب في الزيارة لمسجد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. *** الداعي الرابع: التنبيه على أنّ المقدّم هو مناط الإِنكار أو الاستغراب أو الاستعظام أو لفت النظر أو نحو ذلك. أمثلة: * أراد المربّي أن ينكر سلوكاً عابَةُ على تلميذه، وأن يبادِرَه بتنبيهه عليه، فقال له: "رِجْلَكَ تَمُدُّ إلَى وجْهِي دون احترام، وصَوْتَكَ تَرْفع فِي مَجْلِسي بَعْدَ طُول تَأْديبي لك، وتَعْليمي إيَّاك. فقدم المعمول على عامله في الجملتين لتنبيهه عَلى مناط الإِنكار. * وقال أبو العلاء المعرّي منكراً على من زعم أنّه يُصَدِّق الواشي، ويُخيّب السائل: أَعِنْدِي وقَدْ مَارَسْتُ كُلَّ خَفِيَّةٍ ... يُصَدَّقُ وَاشٍ أَوْ يُخَيَّبُ سَائِلُ فقدّم الظّرف "عندي" على عامله "يُصَدَّق" وما عطف عليه، ليدُلَّ على مناط إنكاره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 * وعبّر المتفرج في مجمّع غرائب الألعاب الرياضيّة "السّيرك" عن استغرابه فقال مقدّماً المعمول على عامله: "عَشَرَةَ أشخَاص حمَلَ اللاَّعبُ على خشبة فوق رَاْسِهِ". * وعبَّرَ مُعْظَّم خلق الله عن ظواهر من آيات الله في كونه فقال: "السَّمَاءَ رَفَعَ بغير عَمَد، والرّيحَ سخَّر في أمور كثيرة عظيمة لا تُحَدّ، ونَسَمَةَ الحياة نفخ في مُصَوّرات من الطين، فكانت كائنات حيَّة عجباً". فقدم المعمولات "السماء - والريح - ونسمة الحياة" للإِشعار بمناط التعظيم. * وأراد المحادث أن يلفت نظر محدِّثه إلى مكان نظّارة عينيه التي يبحث عنها، فقال له: "إلى رَأْسِكَ مُدَّ يَدَكَ تَجِدْها". فقدم المعمول على عامله للمسارعة بلفت النظر. * واستعظم العالم الباحث المطلّع على المؤلفات كتاباً ألَّفه أحد العلماء المعاصرين له، فأراد التنبيه على ما استعظم فقال: "مَوْسُوعةً شاملةً أَلَّفَ فلانٌ في علم كذا". فقدم المعمول على عامله. وهكذا إلى أمثله كثيرة مناظرة. الداعي الخامس: إرادة المبادرة إلى التلذذ بذكر اسم المحبوب في الجملة، مثل أن يقول العاشق بأن معشوقته هند: هِنداً عَشِقْتُ وإنْسَاناً بِمُقْلَتِها ... قَلْبِي يُدَاعِبُهُ بالضَّمِّ والْقُبَلِ *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 الداعي السادس: إرادة المبادرة إلى التبرك بذكر اسم الرّبِّ في الدعاء، مثل أن يقول الداعي: رَبِّي دَعَوْتُ وأَرْجُو فَيْضَ رَحْمَتِهِ ... وأَنْ أَنَالَ لَدَيْهِ مُنْتَهَى أَمَلِي *** الداعي السابع: إرادة التهويل، أو التخويف وإلقاء الرُّعب، إذا كان المقدَّم فيه ما يخيفُ ويُرْعب، مثل: "بالْحَدِيد المحميّ قَيِّدُوه، ... وإلى بِئرِ التعذيب خُذُوه" الداعي الثامن: مراعاة النسق الجمالي اللفظي، في قوافي الشعر، وسجْعِ النثر، وفواصلِ رؤوس الآيات في القرآن. والأمثلةُ على هذا الداعي كثيرة منها: قول الله عزّ وجلّ في سورة (الحاقة/ 69 مصحف/ 78 نزول) : بشأن الكافر الذي يؤتَى كتابه بشماله يوم القيامة: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بالله العظيم} [الآيات: 30 - 33] . جاء في هذا النص تقديم المعمول مرّتين، لمراعاة الجمال في رؤوسِ الآيات في السورة، مع ما في الموطنين من البدء بإلقاء الرعب في قلوب الكافرين المجرمين. *** (6) دواعي تقديم بعض معمولات الفعل على بعض في الجملة ولو تكافأت مرابتها من شأن البليغ دائماً أن يتصرف في رصف وترتيب عناصر جملته التي يُنشِئُها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 تصرُفاً حكيماً وفنيّاً، يراعي فيه جوانب بلاغية معنوية، أو جوانب جمالية معنويّة أو لفظية. وعمله في هذا كمنظم العقود حينما يرصف حبات عقده ويرتبها ترتيباً يحقق فيه جوانب ذوقية جمالية، وجوانب جوهرية في عناصر الحبات واختلاف أصولها وقيمها وألوانها. فإذا كان لدى البليغ معنىً يريد الدلالة عليه ولو على سبيل الإِشارة، وهذا المعنى يمكن استفادته من تقديم عنصر من عناصر جملته على عنصر آخر من عناصرها فَعَل ذلك، ما لم يكن ممتنعاً في قواعد اللّغة العربيّة وضوابطها، حتّى العناصر المتكافئة في المرتبة كالنعوت فيما بينها، وكالمعطوفات المتعدّدات التي تعطف بالواو التي هي لمطلق الجمع، ولا تقتضي ترتيباً ولا تعقيباً، وكألفاظ التوكيد المعنوي، فإنّه يهتمُّ بأن يقدّم ويؤخِّر بُرؤىً بلاغية أدبية وفكريَّة متى انقدحت لديه فكرة مناسبة، يمكن الدلال عليها بأسلوب التقديم والتأخير. وفي مجال ترتيب عناصر الْجُمَل في الكلام تظهر براعة كبار البلغاء والأدباء، وتتفاوت مراتبهم، وفوق كلّ القمم ترتقي جوانب الإِعجاز القرآني في رصف عناصر الجملة، وترتيبها، ورصف عناصر الجمل وترتيبها، كما ترتقي في كلّ مجال فكريّ وبلاغي. ومع احتمال أن تتوارد هنا دواعي كثيرة من الدواعي التي سبق بيانها في دواعي تقديم المسند إليه، ودواعي تقديم المسند، ودواعي تقديم متعلقات الفعل، وأن يُقاس على أمثلتها، فيحسن أن نورد هنا بعض الدواعي، مع بعض الأمثلة. وعلى دارس النصّ البليغ أن يبحث ليكتشف ما دَعا منشىء الكلام إلى أن يقدّم وأن يؤخّر. ولا سيما حينما يأتي الترتيب على خلاف الأصل، أمّا إذا جاء الترتيب على وفق الأصل فيحسنُ أن لا يتعب نفسه بالبحث عن العلة، إلاَّ أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 يكتشف عَرَضاً داعياً مناسباً، فعندئذٍ يمكن أن يجعله عاملاً مرجّحاً لإِبقاء الشيء على أصله. فمن الدواعي هنا ما يلي: الداعي الأول: أن يكون ذكر المقدّم أهمّ في نظر منشىء الكلام لغايةٍ ما يَرْمي إليها. *** الداعي الثاني: مراعاة الترتيب الطبيعي في المعاني، كأن يقدّم في المتعاطفات بالواو اللفظ الدّال على الإِيمان على اللفظ الدالّ على الإِسلام، لأنّ الإِيمان هو الأساس فلا يصح إسلام ما لم يكن قائماً عليه، وكأن يقدّم اللّفظ الدّال على التقوى على اللّفظ الدّالّ على البرّ، لأنّ الارتقاء إلى مرتبة البرّ لا يكون إلاَّ بعد استكمال حقوق مرتبة التقوى، وقد يعكس الأمر لغرض الإِشعار بأفضليّة المقدّم وأنّ مرتبته أعلَى، وبغية التشجيع على العمل به، كتقديم اللّفظ الدالّ على البرّ على اللفظ الدالّ على التقوى. *** الداعي الثالث: إرادة الترقّي من الأدنى إلى الأعلى، أو العكس، أو إرادة البدء بالظاهر، فما يتصل به من الأسباب، وهكذا تسَلْسُلاً إلى الأسباب الباطنة الخفيّة، حتى السبب الأوّل، أو البدء بما هو بمنزلة الأساس فما يتصل به. وهكذا تدرّجاً إلى الأعلى فالأعلى حتى القمة. ومن أمثلة التدرج من الأدنى إلى الأعلى قول الله عزّ وجلّ في سورة (فاطر/ 35 مصحف/ 43 نزول) مبيناً مراتب ودرجات المؤمنين: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير} [الآية: 32] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 والأغراض الداعية إلى ذلك كثيرة لا تحصر، فمنها ما هو بَيَانٌ لفكرةٍ ومنها ما هو الأفضل في التعليم، ومنها ما يُحقّقُ فوائد تربوية ومنها جماليٌّ فنيٌّ، إلى غير ذلك. ومن أساليب العرب أن يَبْدؤوا في المدح بالصفة الدّنيا، ثمّ يرتقوا إلى الأعلى فالأعلى، وأن يبدؤوا في الذّم بالصفة الأَخَسّ، ثم يذكروا الأخفّ فالأخف. وجاء في تعبيرات القرآن المجيد تقديم الأشياء الصغيرة على الكبيرة، للدلالة على تأكيد الشمول، من خلال الإِشعار بالاهتمام بالصغير، وأنّه ليس مما يُهْمَل ويُتَسامح بعدم العناية به، كما يقول البائع هذا بخمسةٍ وألف، فيقول الراغب في الشراء، ألا تبيع بألف، فيقول له: الخمسة قبل الألف. ومنه قول الله عزّ وجل في سورة (القمر/ 54 مصحف/ 37 نزول) : {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} [الآيات: 52 - 53] . فدلّ تقديم "صَغير" على أنّ الشُّمُول في كتابةِ كلّ الأفعال متحقق دون استثناء ما يراه الناس صغيراً ومن المحتقرات. وجاء في تعبيرات القرآن البدء بما يقَعُ في مُدْركات الناس من الأشياء الصغيرة، والعطف عليها بما هو أصغر منها، فما هو أكبر منها، فقال الله عزّ وجلّ في سورة (يونس/ 10 مصحف/ 51 نزول) : {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الآية: 61] . إنّ المخاطبين من جماهير الناس لا يعرفون أصغر من الذّرَة، فبدأ القرآن بها، وأبان لهم بالعطف عليها أنه يوجد ما هو أصغر منها، وهنا ينطلق الذهن في المصغرات إلى مقدار يستحيل تقسيمه ذهناً، وعطف عليه بعد ذلك ما هو أكبر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 وينطلق الذهن إلى الأشياء الكبيرة العظيمة التي لا يستطيع التصوّر الإِحاطة بها، فشمل النصّ كُلَّ شيْءٍ. وجاء في القرآن البدء بمَنْ يحتل الدرجة العليا، فمن يحتل الدرجة التي دونها، فمن يحتل الدرجة التالية، ومنه قول الله عزَّ وجلّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) : {لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة ... } [الآية: 117] . فبدأ بالنبيّ، وعطفَ عليه المهاجرين، وعطفَ عليهم الأنصار الذين اتّبعوا الرسول في ساعة العُسْرَة، مراعاةً لأفضليات المراتب والدرجات. ونلاحظ في سورة (التوبة) أيضاً ترتيباً روعي فيه الترتيب الواقعِيّ في الأَحْدَاث، وهو قول الله عزّ وجلّ فيها بشأن الذين خرجوا مع الرسول لغزوة تبوك: {ذلك بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكفار وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} [الآية: 120] . إنّ الذين خرجوا إلى غزوة تبوك وهذا صالح للتعميم في معظم الغزوات، أوّل ما أصابهم الظّمأ بسبب نفاد الماء، وانعدام مصادر الماء في طريقهم، وبعد ذلك أصابهم النَّصَبُ، وهو التعبَ، فالرحلة في أرض صحراء، وفي حرّ شديد، وبعد ذلك انتهت أزوادهم فنزلت بهم المخمصة، أي: المجاعة، وبعد اقترابهم من تبوك وَطِئُو موطئاً يغيظ الكفّار، وبعد ذلك نالُوا من عدوهم عند تبوك نيلاً فرح به الغزاة الخارجون مع الرسول من أهل الإِيمان والصدق. فجاء الترتيب في الآية على وفق الترتيب في الأحداث، وهذا من دقّة الأداء البياني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 وقد يلاحظ في الترتيب تدرّج أحوال النفس، وهذا من مراعاة الترتيب في الواقع، ومنه ما جاء في سورة (عبس/ 80 مصحف/ 24 نزول) في وصف حالة الإِنسان يوم القيامة. {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وصاحبته وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [الآيات: 34 - 37] . فجاء الترتيبُ وفق ترتيب أحوال النفس، إذ يتخلَّى الإِنسان عند الضرورة عن الحبيب، فعن الأحبّ فعن الأشدّ حبّاً له، وأحبّ الناس إلى قلب الإِنسان بنوه، ودون ذلك صاحبته الحبيبة، ودونها أبواه، ودونهما أخوة. فعلى دارس النصوص البليغة أن يُمْعِن النظر، ويطيل التأمُّل والتفكير، حتَّى يكتشف ما فيها من دواعي بلاغيّةٍ وفكرية دعته إلى ترتيب عناصر كلّ جملة، وترتيب الجمل فيها، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وانظر في موضوع ترتيب الجمل ما جاء في "الصورة السادسة" من قسم "صور من أدب القرآن الرفيع" في كتابي "أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع". *** الداعي الرابع: التخلّص مما يُوهم معنىً غير مرادٍ في دلالات الكلام، ومن أمثلة ذلك قول الله عزّ وجلّ في سورة (غافر/ 40 مصحف/ 60 نزول) : {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ ... } [الآية: 28] . عبارة {مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} نعت لـ {رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ} . وعبارة {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} نعت أيضاً لـ {رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ} . وهذان النعتان متكافئات في الرتبة، فليس أحدهما أولى بالتقديم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 الآخر، لكن تقديم عبارة {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} على عبارة {مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} يوهم أنّ الجار والمجرور في هذه العبارة متعلقان بفعل "يكتم" مع أنهما متعلقان بمحذوف هو صفة لـ {رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ} فرفع تقديمها هذا الإِيهام، وجاء البيان سليماً واضحاً. إلى غير ذلك من دواعي لا تخفى على الدارس المتتبِّع اللّبيب. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 الفصل الرابع: التنكير والتعريف (1) مقدمة نعلم من مقرّرات النحويّين أنّ الكلمة تنقسم إلى: "اسم، وفعل، وحرف" وأنّ الجملة العربيّة تتألف من كلمتين فأكثر: من فعلٍ واسم فأكثر، أو من اسمين فأكثر، وقد يدخل في الجملة الحرف للرّبط، أو لأداء معنى وُضِع له، وهذا المعنى يظهر عند تركيب الحرف مع غيره من الجملة. وإذا أخذنا قسم "الاسم" الذي يدخل عنصراً أو أكثر ضمن عناصر الجملة فإنّنا نلاحظ أنّه قد يكون نكِرَةً، وقد يكون معرفة. * أمّا النكرة: فاسم يطلق على القليل والكثير، أو على مفرد، أو على أكثر ومعناه شائع في جنس، أو نوع، أو صنف، أو نحو ذلك، وهذا يصدق بالمثنى والجمع. وما يطلق على القليل والكثير صالح لأن يراد به أقل مقدار وأكثر مقدار، وما يطلق على مفرد صالح لأن يراد به أيّ فرد دون تعيين، وما يطلق على أكثر من مفرد صالح لأن يراد به أيُّ جمع دون تعيين إذا كان جمعاً، وأيّ اثنين إذا كان مثنى. فالشائع في أفراد دون تعيين مثل: "رجل - امرأة - إنسان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 والشائع في مثاني أو جموع دون تعيين مثل: "رجلين - رجال - امرأتين - نساء". وما يطلق على القليل والكثير من الجنس أو النوع أو الصنف مثل: "ماء - تراب - ريح". * وأمّا المعرفة فاسم يَدُلُّ على مُعَيَّن مُمَيَّزٍ عن سائر الأفراد أو الجموع المشاركة له في الصفات العامة المشتركة، مثل "زيد" علماً لشخص معين، و"هؤلاء" اسماً يُشار به إلى جماعة معينة، وذكر النحويّون أنّ المعارف سبعة أقسام، قالوا: وترتيبها بحسب الأعْرَفِيَّة كما يلي: الأول: الضمير، مثل: "أنا - أنت - أنتما - هو - هي - هما ... ". الثاني: العلم، مثل: "زيد - أبي بكر - بدر الدين" وما يضاف إلى ضمير مثل: "يدي - رأسه - قلمكَ". الثالث: اسم الإِشارة، مثل: "هذا - هذه - أولئك". الرابع: اسم الموصول، مثل: "الذي جاءني - التي تزوجتها ... ". الخامس: المحلّى بأل، مثل: "الرجل - المرأة - المؤمن - الرجال - النساء - المؤمنين". السادس: المضاف إلى غير الضمير من المعارف السابقة، مثل: "زوجة سعيد - غلام هذا - قلم الذي زارني صباحاً - كتاب الرجل". السابع: النكرة المقصودة في النداء، مثل: "يَا رَجُلُ" تخاطب رجلاً بعينه. ولمَّا كانت الأسماء الّتي تدخل في بناء الجملة ذوات أقسام: النكرة بأقسامها الثلاثة، والمعرفة بأقسامها السبعة، فإنّ أمام منشىء الكلام بدائل من هذه الأسماء يمكن أن يختار منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 لكنّ هذه البدائل ليستْ سواءً في دلالاتها، حتّى يأخذَ منْها ما يشاء لما يشاءُ، دون اختيار وانتقاء لما يراه أكثر ملائمة وأداءً لما يريد توصيله من المعاني، أو التعبير عنه. لذلك كان لابدّ من رسم معالم هذه البدائل، وتوضيح فروق دلالاتها، حتَّى ينتقي منها منشىء الكلام لكلامه ما هو الأحكام بياناً، والأفضل لتحقيق ما يريد توصيله من معاني، رجاء أن يكون كلامه أكثر بلاغة، وأتقن اختياراً، وأوفى دلالة على المعاني التي يريد التعبير عنها. *** (2) دواعي اختيار النكرة عرفنا أنّ النكرة ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما يطلق على القليل والكثير، ومعناه شائع في جنسٍ أو نوع، أو صنف، أو نحو ذلك، مثل: "ماء - تراب - ريح". وهذا القسم يراد منه غالباً المعنى الشائع قلّت وحداته أو كثرت، وعند إرادة تحديد الكميّة أو وصفها بالقلة أو الكثرة أو نحوهما يُضاف في البيان ما يُراد بيانه. ولامعنى لجمع هذا القسم ما دام يطلق على القليل والكثير، إلاَّ إذا أريد بالجمع الأنواع أو الأصناف أو نحو ذلك. القسم الثاني: ما يطلق على مفرد شائع دون تعيين، وهذا القسم صالح لأن يراد به معنى الجنس أو النوع أو الصنف أو نحو ذلك، وأن يراد به معنى الإِفراد على وجه الخصوص، وفي هذه الحالة يحسن تأكيد معنى الإِفراد بالوصف بأنه واحد، ومنه قول المشركين في تعجُّبهم من فكرة التوحيد التي جاء بها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أَجَعَلَ الآلهة إلاها وَاحِداً} ؟ [ص: 5] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 قال الله عزَّ وجلَّ في سورة (ص / 38 مصحف/ 38 نزول) : {أَجَعَلَ الآلهة إلاها وَاحِداً إِنَّ هاذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [الآية: 5] . القسم الثالث: ما يُطلق على أكثر من مفرد، ومعناه شائعٌ في مَثَانٍ أو جُمُوع، وهذا القسم صالح لأَِن يُرادَ به معنى الجنس أو النوع أو الصف أونحوهما، وأن يراد به معنى التثنية أو الجمع على وجه الخصوص، وفي هذه الحالة يحسُنُ تأكيد معنى التثنية بالوصف بنحو "اثنين" ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول) : {وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلاهين اثنين إِنَّمَا هُوَ إلاه وَاحِدٌ فَإيَّايَ فارهبون} [الآية: 51] . في هذا المثال نلاحظُ تأكيد التَثْنِيَة في المْمُثَنَّى النكرة بوصفه بلفظ "اثنين"، ونلاحظ تأكيد الإِفراد في المفرد النكرة بوصفه بلفظ "واحد"، لأنّ المراد التنبيه على أنّ التثنية والإِفراد هما المرادان على وجه الخصوص، أمّا في النكرة التي هي جمع فقد يحسن تخصيصها بنحو قليل أو كثير، مثل قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الفرقان/ 25 مصحف/ 42 نزول) : {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً طَهُوراً * لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً} [الآيات: 48 - 49] . فخصَّص "أَنْعَاماً وأناسِيَّ" وكلِّ منهما نكرةٌ جمْعٌ، فوصفهما بفلظ "كثيراً". وإذا كان المراد تحديد عدد معين وُصِفَتِ النكرة الجمع بما يُبَيِّن العدد، ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الواقعة/ 56 مصحف/ 46 نزول) : {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً} [الآية: 7] . أي: وكنتم أيها الناس يوم القيامة أصنافاً ثلاثة: هم أصحابُ الميمنة، وأصحابُ المشأمة، والسّابقون المقربّون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 بعد تحديد معالم النكرات يَحْسُنُ بيانُ دواعي اختيار النكرة في الجملة الكلامية. *** تفصيل دواعي اختيار النكرة: أذكر هنا طائفة من الدواعي أخْذاً ممّا ذكره علماء البلاغة، منبّهاً على أنّ الدواعي قد لا تنحصر فيها، فترك المعرفة واختيار النكرة في الكلام ممّا تتشعّب فيه أغراض البلغاء، وقد تتفَتَّقُ قرائح الّلاحقين منهم عن أشياء لم يتنبّه إليه السابقون، إذ الأمر ليس اصطلاحاً لغويّاً حتّى ينحصر فيما اصطلح عليه الأولون، بل هي أغراضٌ تُقْصَدُ بلاغياً من خلال استعمالٍ لغويّ قابل لدلالات كثيرة، ولا سيما حينما نلاحظ أنّ ذكر النكرة غير موصوفة قد يوحي بطيّ الصفة في اللّفظ مع ملاحظة معناها ذهناً، والنكرة قابلة لأن توصف بأشياء كثيرة جدّاً، فقد توصف بالشيء، وقد توصف بضدّه، وعند حذف الصفة يبقى لفظها محتملاً، لكنّ قرائن الحال أو قرائن المقال قد تشعر بطيّ صفة مع إرادة معناها، وقد تُشعر أحياناً أخرى بطيّ نقيضها مع إرادة معناه، ومن هنا تتنوع الدواعي والأغراض. وفيما يلي أعرض ما أحصيته من دواعي اختيار النكرة: الداعي الأول: الجهل بما يُعَرِّف المذكور بقسم من أقسام المعرفة، فيلْجأ المتكلم إلى التنكير، بإطلاق اسم غير مُعَيّن من أسماء النكرة، وهذا الاسم النكرة ينطبق على المتحدّث عنه وينطبق على غيره، مّما يشاركه في الصفات العامة، ويحصل بإيراد النكرة تخصيصٌ ما، وهذه فائدة تُقْصَدُ في الكلام، فمن قال لأبيه مثلاً: جاءنا رجلٌ وسأل عنك، فقد أفاده أنَّ سائلاً ما سأل عنه، وأنّ هذا السائل هو من صنف الرجال، لا من صنف النساء. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 الداعي الثاني: أن يقصد المتكلم عدم تعيين من يتحدث عنه، وتظهر هنا عدّة أغراض: * منها أن يكون تعيينُه زائداً على ما يقصد المتكلم بيانه، مثل تعيين اسم الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى ليقول لموسى عليه السلام: إنَّ الملأ يأتمرون بكَ ليقتلوك، لذلك لم يذكر الله اسمه، فقال تعالى في سورة (القصص/ 28 مصحف/ 49 نزول) : {وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى المدينة يسعى قَالَ ياموسى إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فاخرج إِنِّي لَكَ مِنَ الناصحين} [الآية: 20] . ومثل تعيين اسم الرجل الذي جاء لينصر المرسلين الثلاثة في أنطالية، ويدعو قومه لاتّباعهم، ويُعْلِنُ أمام قومه إيمانه، فانتقموا منه فقتلوه، لذلك لم يذكر الله اسمه، واكتفى بذِكْر أنَّه رَجل، فقال تعالى في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول) : {وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ يسعى قَالَ ياقوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} [الآيات: 20 - 21] . * ومنها إرادة إخفاء شخص المتحدّث عنه، لمصلحةٍ يراها مُنْشِىء الكلام، والمصالح من الإخفاء كثيرة يصْعُبُ حصْرُها، كالخوف عليه، وكالتشويق إليه، وكانتظار المناسبة الملائمة للمفاجأة به. ومن أمثلة إرادة الإِخفاء أوّلاً ما كان من أخت موسى عليه السلام، بعد أن وضعته أمّه وهو رضيع في صندوق وألقته في اليمّ، إذْ تَتَبَّعته حتى التقطه آل فرعون، وتعلّق قلب امرأة فرعون به، ورفض أن يرضع من المراضع اللائي جُلِبْن له، وكانت تتابع أمره فعرضت على الذين يبحثون له عن مرضعة ترضعه وتكفله، فقالت لهم كما جاء في سورة (القصص/ 28 مصحف/ 49 نزول) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 {هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [الآية: 12] . فقد جاءت بلفظ "بيتٍ" نكرةً، وقالت "أَهْلِ بَيْتٍ" ولم تَقُلْ مُرْضعة، لتلاحظ مدى استجابتهم للعرض، ولتُبْعِدَ الشبهة عن أن تكونَ أُمُّه في هذا البيت، خوفاً على أخيها وأمّها، فلمَّا استوثقت من تلهفّهم، وصدق رغبتهم، وَأَنَّهُم لمْ يشْعُروا بأنّها ذات علاقةٍ ما بالطفل، دلَّتْهُمْ وأخَذَتْ بهم إلى أمِّها، فالْتَقَم ثدْيَها وشَرَعَ يَرْضَعُ برغبةٍ تامّة. *** الداعي الثالث: أن يكون مراد المتكلّم ذكر واحد غير معين من الجنس أو النوع أو الصنف، كأن يقول الراغب في الزواج: "أريد زوجة" فهو يبحث عن زوجةٍ ما تناسبه، وهذه غير معينة في ذهنه. وكأن يقول طالب دابّة لسفره: "أريد فرساً" فهو يبحث عن فرس ما مناسبة دون تعيين. ومنه قول إخوة يوسف حينما تآمروا للتخلّص منه: {أَوِ اطرحوه أَرْضاً} [يوسف: 9] أي: أرضاً ما بيعدة دون تعيين، حتَّى يضلّ أو تأكله الوحوش. قال الله عزَّ وجلَّ في سورة (يوسف/ 12 مصحف/ 53 نزول) : {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} [الآيات: 8 - 9] . وهذا الشاهد يصلح أيضاً لإِرادة نوعٍ من الأرض غير معيّنة بذاتها، لكنّها نوعٌ ذات وصف خاص، فهي أرض بعيدة نائية مجهولة مَنْ طُرِح فيها ضلُّ وتعرَّض لِلْهَلاَك. *** الداعي الرابع: قد يختار المتكلم النّكرة قاصداً بالتنكير التكثير، وتدلُّ القرائن على قصد التكثير، وإذْ دَلَّتِ القرائن عليه حَسُن في الكلام حَذْفُ الوصف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 الدالّ على الكثرة، والاكتفاء بدلالة التنكير مع دلالة قرينة الحال أو قرينة المقال. أمثلة * قول الله عزَّ وجلَّ لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) : {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بالبينات والزبر والكتاب المنير} [الآية: 184] . لفْظُ: [رُسُل] نكرة، وقرينةُ تسْلِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تدُلُّ على أنَّهم رسُلٌ كثيرون قَدْ كُذِّبوا من قِبَلِ أقوامهم. * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) ، بشأن تقطيع بني إسرائيل في بلدان كثيرة من الأرض: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً ... } [الآية: 168] . أي: أُمما كثيرةً في بلدان من الأرض كثيرة. * ومنه {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ - أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ - كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ -} . *** الداعي الخامس: وقد يختار المتكلم النكرة قاصداً بالتنكير التقليل، وتدُلُّ القرائن على قصد التقليل، وإذْ دلَّت القرائن عليه حَسُنَ في الكلام حذف الوصف الدالّ على القلّة، والاكتفاء بدلالة التنكير مع دلالة قرينة الحال أو قرينة المقال. أمثلة * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) : {وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ ذلك هُوَ الفوز العظيم} [الآية: 72] . جاءَ لفظ "رِضْوانٌ" مُنْكَراً، وقرينة كونه من الله مع كونه أكبر من كلّ ما في جنّات عَدْنٍ مِنْ نعيم دليلٌ على أنّ المراد: ورضوانُ قليلٌ من اللهِ يُفْرِغُهُ على أهل جناتِ عَدْنٍ هو أكبر عندهم وأعظم من كلِّ ما فيها من نعيم. وقد تنبّه علماء البلاغة إلى أنه لم يرد في القرآن سلامٌ من جهة اللَّهِ إلاَّ مُنكّراً، لأنَّ سلاماً قليلاً من جهته عزَّ وجلَّ كافٍ لتحقيق كُلّ ما يطلُبُهُ العبادُ مِنْ أمن أو تحيَّة، مثل: {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ - سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ - سَلاَمٌ على نُوحٍ - سَلاَمٌ على إِبْرَاهِيمَ - سَلاَمٌ على موسى وَهَارُونَ - وَسَلاَمٌ على المرسلين - فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين} . قالوا: وأمّا عيسى عليه السلام: {والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [الآية: 33] كما جاء في سورة (مريم/ 19 مصحف/ 44 نزول) فقد جاء مُعَرَّفاً لأنَّه ورد على لسان عيسَى الطفل في دعائه لنفسه، بخلاف الذي ورد بشأن يحيى عليه السلام في السورة نفسها بياناً صادراً عن الله عزَّ وجلَّ، إذْ جاء فيه قوله تعالى: {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً} [الآية: 15] . * قول المتنبّي يمدح سيف الدولة: فَيَوْماً بِخَيْلٍ تَطْرُدُ الرُّومَ عَنْهُمُ ... وَيَوْماً بِجُودٍ يَطْرُدُ الْفَقْرَ والْجَدْبَا نكّر لفظ "خيل" ونكّر لفظ "جود" وهو يريد: بعدد قليل من الخيل، وبمقدارٍ قليل من الجود، وقد دلّ التنكير فيهما على التقليل ما في السّباق والسّياق من المدح والإِطراء البالِغَيْنِ من المتنبيّ لسيف الدولة، وهذا يقتضي أن يطرد الروم بقليل من خيله، وأن يطردَ جودٌ قليلٌ منه الفقر والجدْبا. *** الداعي السادس: وقد يختار المتكلم البليغ النكرة قاصداً بالتنكير التعظيم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 وتدلُّ القرائن على قصد التعظيم، وإذْ دلّت القرائن عليه حَسُنَ في الكلام حذف الوصف الدالّ على التعظيم، والاكتفاء بدلالة التنكير مع دلالة قرينة الحال أو قرينة المقال. أمثلة: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {الم * ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [الآيات: 1 - 2] . جاء في هذا النصّ تنكير لفظ "هُدىً" للتعظيم والتفخيم، أي: هُدىً عظيم فخمٌ جليل للمتّقين، ودلّ على إرادة التفخيم قرينة تمجيد القرآن، إذْ جاءت الإِشارة إليه بإشارة البعيد للدلالة على منزلته الرفيعة جدّاً، وجاء وصفه بأنه لا ريب فيه. * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} [الآيات: 278 - 279] . جاء في هذا النصّ تنكير لفظ "حَرْبٍ" للتعظيم والتهويل، أي: بحربٍ شديدةٍ هائلة مخيفة، ودلّ على كونها شديدةً مخيفة كَوْنُها من الله ورسوله، وكونُها عقوبة على معصيةٍ هي من الكبائر. *** الداعي السابع: إرادة التحقير والتصغير، وتدلُّ القرائن على ذلك. أمثلة: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (غافر/ 40 مصحف/ 60 نزول) في حكاية قول مؤمن آل فرعون: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 {وَقَالَ الذي آمَنَ ياقوم اتبعون أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرشاد * ياقوم إِنَّمَا هاذه الحياة الدنيا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخرة هِيَ دَارُ القرار} [الآيات: 38 - 39] . جاء في هذا النص تنكير "مَتَاع" للتحقير والتصغير، أي: متاعٌ حقير صغير سريع الزوال، وفيه معنى التقليل أيضاً. * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) بشأن مشركي مكة: {وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الآية: 46] . جاء في هذه الآية تنكير "نفحة" للتصغير، أي: نفحةٌ صغيرة من عذاب رَبّك كافيةٌ لأن تجعلَهُمْ يُنَادُون: يَا وَيْلنَا إنَّا كُنَّا ظَالِمِين، والقرينةُ عقليّةٌ، فالعذاب الكبير يهلكهم بطرفَةِ عين، فلا يَدَعُهم يُنَادون على أنفسهم بالويل، إذ المرادُ نفحة من عذاب الله في الحياة الدنيا لا في الآخرة، ويكفي في هذه النفحة أنْ تَمَسَّهُمْ مَسّاً، دون أن تُصِيبهم إصابة بالغة، فالنفحة الصغيرة القليلة من عذاب الله تؤلم ألماً شديداً. * وجمع أبو السّمط بين إرادة التعظيم وإرادة التحقير والتصغير في بيت واحد فقال بشأن ممدوحه: لَهُ حَاجِبٌ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ يَشِينُهُ ... وَلَيْسَ لَهُ عَنْ طَالِب الْعُرْفِ حَاجب أي: له حاجب عظيم يحْجُبُه عن كلّ أمر يَشِينُه، وليس له حاجبٌ ما ولو كان حقيراً يَحجب عنه طالب المعروف، بسبب أنه جواد لا يردّ طالب معروف. *** الداعي الثامن: إرادة نوع من الأنواع، أو صنف من الأصناف. أمثلة: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) خطاباً للذين آمنوا بشأن اليهود: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} [الآية: 111] . جاء في هذا الآية تنكير لفظ "أذىً" لإِرادة أنه نوع خفيف من أنواع الضّرَر، فالمعنى: لن يضرُّوكم إلاَّ ضرراً هو نوعٌ من أنواع الأذى. * قول الشاعر: لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ يُسْتَطَبُّ بهِ ... إلاَّ الْحَمَاقَةَ أَعْيَتْ مَنْ يُدَاوِيهَا نكّر الشاعر لفظ "داء" ولفظ "دواء" قاصداً: لكلّ نَوْعٍ أو صنف دَاءٍ نَوْعُ أو صنفُ دَواءٍ يلائمه. * ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) يصف الذين بلغوا في الكُفْر مبلغ من لا يتأثر بالإِنذار بأنّ عَلى أبصارهم غِشَاوَةً، أي: غشاوة من نوع خاصٍّ تحجبُ عنهم رؤية آيات الله في كونه. {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [الآيات: 6 - 7] . فجاء تنكير "غِشَاوَةٍ" لإِفادة أنَّها نوعٌ خاصٌّ يحجُبُ فقط رؤية آيات الله، وقد دلّ على هذا أَنَّهْم يَرَوْن بأبصارهم أشياء كثيرة إلاَّ أنهم محجوبون عن إدْراك آيات الله. * وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول) : {والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ ... } [الآية: 45] . جَاءَ في هذه الآية تنكير لفظ "ماء" لإفادة أنّه نوع خاصٌّ من أنواع المياه، وهو الماء الذي تَنْعَقِدُ منْهُ الأجنَّة. الداعي التاسع: إرادة تحاشي المتكلّم التعريف، لما في التعريف من تصريح يحسُنُ في العبارة طيُّهُ، والاكتفاء بدلالة القرائن عليه، أو الإِشارة إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 أمثلة: * قول الشاعر في ممدوحه: إِذَا سَئِمَتْ مُهَنَّدَهُ يَمِينٌ ... لِطُولِ الْحَمْلِ بَدَلَهُ شِمَالاً مهنَّدَه: أي: سيفه المطبوع من حديد الهند، وكان حديد الهند أجود الحديد. نكّر لفظ "يمين" ولم يقُلْ: يمينَهُ، تحاشيَ أن ينسُبَ السآمة بصريح اللفظ إلى يمنيه، واكتَفَى بدلالة الحديث عنه. * قولي صانعاً مثلاً: مَحَاسِنُ أشْرَافِ الرِّجَالِ إذَا الْتَقَتْ ... نظائِرَهَا فيه الْتَقَيْنَ مَسَاوِيَا جاء تنكير "مَسَاوِيَا" تحاشيَ إضافةِ لفظ "مَسَاوِي" إلى الممدوح، مع أنَّها في معايير الناس تُعتَبَرُ مَحَاسِنَ أشْرَافِ الرِّجال، فإذا كانت هذه المحاسن تعتبر بالنسبة إلى سائر صفاته الفضليات تشبه مساويَهُ، فكيف تكونُ منازِلُ محاسنه الرفيعة. *** الداعي العاشر: إرادة الإِطلاق وعدم الحصر بالتنكير، إذ التعريف فيه تَقْيِيدٌ وحصر. أمثلة: * قول الله عزَّ وجلَّ في سُورَةِ (الفرقان/ 25 مصحف/ 42 نزول) : {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} [الآية: 59] . أي: فاسأل عن الرحمن خبيراً، أَيَّ خبيرٍ كان لجأ إليه ودعاه فَرحمه، واستجاب له دُعاءه، فجاء اللّفظ نكرة لإِرادة الإِطلاق الذي يصْدُقُ بخبير فأكثر من المجربين الخبراء عن تجربة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (فاطر/ 35 مصحف/ 43 نزول) : {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [الآيات: 13 - 14] . الْقِطْمِيرُ: القِشْرَةُ الرَّقيقةُ على النواة، كاللِّفافة لها. جاء تنكير لفظ "خبير" لإرادة الإِطلاق، أي: لا ينبئُكَ بحقيقة أَمْرٍ ما مِثْلُ من مارسه وخَبَرَ دَقائِقَهُ، وعرفه عن تجربةٍ وممارسَةٍ عمليّة، ويدخل في هذا الإِطلاق من خَبَر الشركاء فدعَاها من دون الله فلم تستجب له، وخاب في عبادته لها. *** الداعي الحادي عشر: إرادة التعميم بالتنكير، وتساعد على إرادة التعميم القرائن الفكريّة أو اللفظية ويظهر هذا فيما يعمل عمل الفعل من الأسماء، لأنه بمثابة الفعل الّذي حذف معموله لإِرادة التعميم. ومن أمثلة إرادة التعميم بالتنكير مع مساعدة القرائن: * {إِنَّ الله عَلَيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34، الحجرات: 13] أي: عليم بكلّ شيءٍ، خبير بكلّ ما يصلح بطبيعته للاختبار والتجربة. * {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27] أي: هو خبير بكلّ شيءٍ من أمور عباده وأحوالهم، بَصِيرٌ بكلِّ ما يُدْرَكُ بالْبَصَرِ من ظواهرهم وبواطنهم. والقرائن الفكرية دلت على التعميم إذ ورَدَتْ صفاتٍ لله عزَّ وجلَّ الذي دلّ العقل، ودلّت نصوصُ الشرع على أنّ صفاته عموم وشمول تَامّ فيما هي له. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 (3) دواعي اختيار المعرفة عرفنا أن المعرفة في الكلام سبعة أقسام عند النحاة، وترتيبها عندهم بحسب الأعرفيّة كما يلي: "الضمير - العلم بأنواعه وفي رتبته ما يضاف إلى الضمير - اسم الإِشارة - اسم الموصول - المحلَّى بأل - المضاف إلى غير الضمير من المعارف السابقة - النكرة المقصودة في النداء" هذا ما يقرّره النحويون. ولمّا كان المتكلم البليغ لا يُلْقِي كلامه جزافاً، بل ينتقي ويختار بحسب أغراضه التي يهدف إليها، فإنّ عليه أن يعرف بدقّة فروقَ دلالاتِ ما يختار لكلامه من كلماتٍ. ولمّا كانت دلالات المعارف من الأسماء ليست سواءً كان لا بُدَّ من بيان فروق دلالاتها، ودواعي اختيار كلّ قسم منها، وهذا أمْرٌ اهتمَّ به البلاغيون، لتبصير دارسي النصوص البليغة كي يُدْرِكُوا مراميها، وتبصير منشئي الكلام الحريصين على الارتقاء في درجات سلّم البلغاء كي يُجَوِّدوا ما ينشؤون من كلام، حتى يكون كلامهم بليغاً. وفي دواعي اختيار المعرفة من الأسماء ممّا لا يشترط فيه التنكير في الجملة الكلاميّة، لم أُفَصِّل العناصر التي يمكن أن تكون بدائل في "المسند إليه، والمسند، ومتعلقات الفعل، والتوابع" لأنّي رأيت أن معظم الدواعي قد تُوجَدُ لاختيار المعرفة في كُلٍّ منْها، لذلك آثرتُ دَمْجَها ببعضها تسهيلاً على الدارسين، فكل عنصر من عناصر الكلام ممّا يصلُح لأن يُؤْتَى به معرفة ونكرة دون إلزامٍ نحويّ بأحدهما تَشْمَلُه دواعي الاختيار الملائم لأغراض المتكلم من كلامه، ويَسْتَبْعِد الباحثُ المتفكّرُ ما لا يُلاَئم منها في كلامه. وبما أن المعارف سبعة أقسامٍ مختلفات الدلالات، فلا بدّ من بحث دواعي اختيار كلٍّ منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 أولاً - دواعي اختيار الضمير: أنواع ضمائر التكلّم والخطاب والغيبة المفصّلة عند النحويين، قد يُخْتَار للكلام منها، لأنّ المقام يدعو إلى ذلك، وهي ألفاظ مختصرة موجزة يُستغنى بها ظاهرةً أو مضمرة عن ألفاظ تحتاج عند النطق أزماناً وجهداً أطول وأكثر. * فإذا كان المقام مقام حديث المرء عن نفسه أو معه غيره جيء بضمير التكلم، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (طه/ 20 مصحف/ 45 نزول) في حكاية خطابه لموسى عليه السلام بجانب الطور: {إني أَنَاْ رَبُّكَ فاخلع نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى * وَأَنَا اخترتك فاستمع لِمَا يوحى * إنني أَنَا الله لا إلاه إلا أَنَاْ فاعبدني وَأَقِمِ الصلاة لذكريا} [الآيات: 12 - 14] . وقول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الآية: 30] . ويلاحظ الضمير المستتر في "نُسَبِّح" و"نُقَدّس"، وهو "نحن". وقول المتنبي: أَنَا الَّذِي نَظَرَ الأَعْمَى إلى أَدَبِي ... وأَسْمَعَتْ كَلِمَاتِي مَنْ بِهِ صَمَمُ * وَإِذا كان المقام مقامَ مُخَاطَبٍ واحدٍ أو أكثر جيء بالضمير المناسب للمخاطب فرداً أو مثنَّى أو جمعاً، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (طه/ 20 مصحف/ 45 نزول) في حكاية خطابه لموسى عليه السلام: {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [الآيات: 42 - 44] . وقول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 {ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [الآية: 132] . * وإذا كان المقام مقامَ حديثٍ عن غائب أو أكثر جيء بالضمير المناسب للمتحدَّث عنه فرداً أو مُثَنَّى أو جمعاً، مثل قول الله تعالى في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً وَلَوِ افتدى بِهِ أولائك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} [الآية: 91] . ولا يُتْرَكُ الضمير إلى استخدام معرفة أخرى في مقام التكلّم أو الخطاب أو الحديث عن الغائب الذي يُلائمه الكناية عنه بالضمير للإِيجاز والربط بين الكلام إلاَّ لداعٍ من الدواعي البلاغية التي تستدعي ذلك، وسيأتي إن شاء الله بيان هذا في بحث: "الخروج عن مقتضى الظاهر" الشامل لأمور كثيرة غير العدول عن الضمير الملائم إلى غيره. قالوا: وأصل الخطاب أن يكون لمعيّن، وقد يُتْرَكُ هذا فيكونُ الكلامُ مُوجَّهاً لكلِّ من يَصْلُح بصفاته لأن يخاطب به، ويُحْمَلُ على هذا كثير ممَّا جاء في القرآن المجيد من خطاب مفردٍ أو جَمْعٍ إلاَّ ما كانَ خاصّاً بمعيَّنٍ كالرَّسُولِ، أو خاصّاً بجماعة معيَّنةٍ مقصودة بالذات، ومن الأمثلة قول الله عزّ وجلّ في سورة (السجدة/ 32 مصحف/ 75 نزول) : {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [الآية: 12] . أي: ولو تَرَى أَنْتَ يَا أَيُّها الصالح لمثل هذا الخطاب أيّاً كُنْتَ. * وقول الله عزّ وجلّ في سورة (لقمان/ 31 مصحف/ 57 نزول) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 {أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ... } [الآية: 20] . أي: ألَمْ تَرَوْا أنْتُمْ يَا أيُّها الصّالِحُونَ لمثْلِ هذَا الْخِطَابِ. * وقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه الترمذي وأبو داود عن بُرَيْدَةَ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّور التَّامِّ يَوْمِ الْقِيَامَةِ". أي: يَا مَنْ يَصْلُح للخطاب بَشِّرْ، والمعنى بَلِّغْ عنّي هذه البشارة. ونظائر هذا كثير، ومنه: * قول أبي فراس الحمداني: لاَ تَطْلُبَنَّ دُنُوَّ ... دارِكَ مِنْ خَلِيلٍ أَوْ مُعَاشِرْ أَبْقَى لأَِسْبَابِ الْمَوَدَّ ... ةِ أَنْ تَزُورَ وَلاَ تُجَاوِرْ * وقول المتنبي: لاَ تَلْقَ دَهْرَكَ إلاَّ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ ... مَا دَامَ يَصْحَبُ فِيهِ رُوحَكَ الْبَدَنُ فَمَا يَدُومُ سُرُورٌ مَا سُرِرْتَ بِهِ ... وَلاَ يَرُدُّ عَلَيْكَ الْفَائِتَ الْحَزَنُ مَا كُلُّ مَا يَتَمَنَّى الْمَرْءُ يُدْرِكُهُ ... تَجْرِي الرِّيَاحُ بِمَا لاَ تَشْتَهِي السُّفُنُ فالخطاب فيهما لكلّ من يصْلُحُ للخطاب، حتَّى المتكلّم نفسه على طريقة تجريد شخصٍ من نفسه يخاطبُه. *** ثانياً - دواعي اختيار الْعَلَم: الْعَلَمُ ينقسم كما ذكر النحويون إلى "اسْم - وكُنْيةٍ - وَلَقبٍ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 فالكنيةُ: كُلُّ مركّب إضافيّ صُدّر بأبٍ أو أمّ، ومنه: "أبو بكر - أمُّ كُلثوم". واللَّقبُ: كلُّ علم أشعر برفعة المسمَّى أو أشعر بضعَتِه، ومنه: "زين العابدين - الرشيد" و"الجاحظ - الأعرج". والاسم: ما عدا القسمَيْن السابقين، وهو الغالب، منه: "خالد - سيعد - زينب - عائشة - ذو الفقار - يَعْفُور". قالوا: وإذا اجتمع الاسم واللّقب أُخّر اللّقبُ على الاسم، مثل: علي زين العابدين" ولا ترتيب بين الكنية وغيرها، فيجوز تقديم الكنية على الاسم واللّقب، ويجوز تأخيرها عنهما. وقد ظهرت للبلاغيين عدّة دواعٍ لاختيار الاسم "العلم" دون غيره من المعارف السّبع. الداعي الأول: إرادة إحضار المتحدّث عنه في ذهن المتلقّي باسمه الخاصّ به، ليمتاز عمّا عداه، ويترجّح هذا الدّاعي حينما يكون المتحدّث عنه معروفاً لدى الْمُتَلَقِّي باسْمِهِ الخاصّ به. أمثلة: * قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم} [الآية: 127] . * قول "الْغَزّي" يذكر "أبا الطيب المتنبي" بكنيته ليميزه ويحضره في الأذهان: مَنْ أَغْفَلَ الشِّعْرَ لَمْ تُعْرَفْ مَنَاقِبُهُ ... لاَ يُجْتَنَى ثَمَرٌ مِنْ غَيْرِ أَغْصَانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 لَوْلاَ أَبُو الطَّيِّبِ الْكِنْديُّ ما امتَلأَتْ ... مَسَامعُ النَّاسِ مِنْ مَدْحِ ابْنِ حَمْدَانِ *** الداعي الثاني: إرادة الإِشعار بتعظيم المتحدّث عنه، ويكون هذا في الأعلام التي تشعر بمدح، ومنها الألقاب التالية: "ذو النَّورين - صلاح الدين - سيف الله" ويكون في الأسماء التي اشتهرت بصفاتها العظيمة، ومنها: "محمد بن عبد الله - خالد بن الوليد - عُمر بن الخطاب" وفي الكُنَى، مثل: قضيّةٌ ولا أبو حَسَنٍ لها" وهو عليّ بن أبي طالب. *** الداعي الثالث: إرادة الإِشعار بإهانة المتحدث عنه، ويكون هذا في الأعلام التي تشعر بذمّ، أو اشتهرت بصفاتها الذميمة، ومنها "حمار (علماً) - صخْر - أبو مّرة - إبليس - أبو لهب - أمّ الخبائث (كنية الخمر) - أبو جَهْل". *** الداعي الرابع: إرادة استخدام لفظ العْلمَ للكناية به عن معناه اللغويّ قبل نقله إلى العملية، مثل أن تقول: * جاءنا "محمود" بالبشائر، وأنت تريد الإِشعار بأنّه في صفاته محمود، فلَهُ من اسمه نصيب. * المدير "راشِد" وأنت تريد مدحه بالرُّشد الذي هو معنى اسمه قبل العملية. * خَصْمُنَا "صَخْر" وأنْتَ تريد الإِشعار من خلال ذكر اسمه بأنّه قاسٍ لا يَنْدَى كالصخر. *** الداعي الخامس: إرادة التلذّذ اسم المتحدّث عنه لأنه محبوب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 فالمحبّون والعشاق يأنسون ويستمتعون بذكر أسماء من يحبون، ومن ذلك: * قول مجنون ليلى: بِاللهِ يَا ظَبَيَاتِ الْقَاعِ قُلْنَ لَنَا ... لَيْلاَيَ مِنْكُنَّ أَمْ لَيْلَى مِنَ الْبَشَرِ * وأبان المتنبّي رغبة التلذّدِ بذكر أسماء الممدوح في قصيدة مدح فيها عضد الدولة، أبا شجاع، فَنَّاخُسْرو، الفارسيّ، فقال: "أبَا شُجَاعٍ" بفارسٍ "عَضُدَ الدَّولَةِ" ... -"فَنَّا خُسْرُو"- "شَهِنْشَاهَا" أَسَامِياً لَمْ تَزِدْهُ مَعْرِفةً ... وإِنَّمَا لَذَّةً ذَكَرْنَاها *** الداعي السادس: إرادة التنفير، واستثارة الخوف، أو استثارة التقزّز من ذكر اسمه، وهذا يظهر حينما يكون المتحدَّث عنه مُخِيفاً أو مكروه الاسم ينْفِرُ منْه المتلقّي، كاسم "جنهّم" علماً على دار العذاب يوم الدين، وكاسم "الحجَاج" عند خصومه، واسم الضرّة على مسمع ضَرَّتِها، إذَا كانت أثيرة عند زوجها ومالكةً قلْبه، فسَمَاعُ اسم ضرّتها يثيرها ويغضبها ويهيّج غَيْرَتها. ومن النفرة من الأسماء في غير باب الْعَلَمِ ما حدّثنيه بعض من مضى إلى رحمة الله من الأصدقاء، أنَّ عَلَماً ذَا شهرةٍ كبيرَةٍ من أهل العلم والأدب والقلم اللّسان يكره الْجُبْن منذ طفولته، وله طبْعٌ مزاجيٌّ أَذِيٌّ، إذا ذكر اسم الجبْنِ على مَسْمَعٍ منه تقزَّزَتْ نفسه، وثار غَضباً على من قصد إسماعه إيّاه. وكان له صديق شاعر أديب يصاحبه في بعض نزهاته، ويجالسه في مجالس أُنسِهِ، وكانا يسيران معاً في إحدى الضواحي، فلقيهما من حدّثني القصّة، وهو من أهل هذه الضاحية، فقال له الشاعر: هل عندكم في بلدكم جبْنٌ حسَنُ الصنعة خالٍ من الغش؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 وقبل أن يجيبه ثار عليه صديقه الذي يكره الجبْنَ ثورة عظيمة، وشتمه، وانطلق مفارقاً له. *** الداعي السابع: إرادة إثارة الفأل الحسن، وهذا حينما يكون الاسم العلم فيه ما يُشْعِر بالتفاؤل مثل: "سعْد - سيعد - رضا - هناء - الشفاء" أعلاماً. *** الداعي الثامن: إرادة إثارة التشاؤم لدى المتلقي، إذا كان من الذين تشاءمون، وهذا حينما يكون الاسم العلم فيه ما يثير التشاؤم، مثل: "السفّاح - الجارود - أبو لهب - قحطان" أعلاماً. *** الداعي التاسع: إرادة التسجيل والتثبيت حتى لا يتأتَّى الإِنكار، ويُلْجَأُ إلى تحقيق هذا الداعي كثيراً في تثبيت العقود، وتدوين الشهادات، وفصل الخصومات في القضاء، فذكر الأعلام فيها بالتفصيل ممّا يتحقّق به التسجيل المميَّزُ الذي تُحَرَّرُ فيه القضايا، وتُضْبَطُ بكلِّ ما يتطلَّبُهُ التسجيل من ضوابط. *** ثالثاً - دواعي اختيار اسم الإِشارة: اسم الإِشارة: هو ما وُضع لمشارٍ إليه مذكراً أو مؤنّثاً، مفرداً أو مثنّىً أو جمعاً، وقد تلحق به كاف الخطاب، ولام البعد، وقد تقترن به "ها" التي للتنبيه. وأسماء الإِشارة هي: (1) الإِشارة إلى المفرد المذكر تكون بكلمة "ذا". (2) والإِشارة إلى المفردة، تكون بما يلي: ذي - تي - ذِهِْ - تِهِْ [وتنطقان بثلاثة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 وجوه: بإسكان الهاء وبكسرها دون إشباع وبكسرها مع إشباع] ذات - تا". (3) والإِشارة إلى المثنّى المذكر تكون بـ: "ذانِ" في حالة الرفع، و"ذين" في حالتي النصب والجرّ. (4) والإِشارة إلى المثنّى المؤنَّث تكون بـ: "تانِ" في حالة الرفع و"تَيْنِ" في حالتي النصب والجر. (5) والإِشارة إلى جمع العقلاء من الذكور والإِناث تكون بـ"أُولاَءِ" وقد يُشَار به قليلاً إلى جمع غير العقلاء. (6) والإِشارة إلى الأمكنة تكون بـ "هُنَا [للمكان القريب] وقد يقترن بها "ها" التي للتنبيه، فتصير "هاهنا" ويُشَار إلى البعيد من الأمكنة بإحدى الصّيغ التالية: "هُنَاك - هاهناك - هُنَالِكَ - هَنَّا - هِنَّا" وبكلمة "ثَمَّ" بفتح الثاء. وتلحقُ كافُ الخطاب اسْمَ الإِشارة الموضوع للمشار إليه البعيد، وكاف الخطاب حرفٌ لا محلّ له من الإِعراب، فتفتح للمخاطب المذكر، وتُكْسَرُ للمخاطبة، وتتصل بها علامة التثنية في المثنّى، وعلامة الجمع في الجمع. وقد تُزادُ لامُ الْبُعْدِ قبل كاف الخطاب للدلالة على الْبُعْدِ الكثير، باستثناء: [المثنَّى - وأولئك - وما سبقته "ها" التي للتنبيه] فلا تزاد لام البعد فيها. فتقول: "ذَاكِ وذَلِكَ - ذَاك وذَلِكِ - ذاكُمَا وذَلِكُمَا - ذاكُمْ وذَلِكُمْ - ذَاكُنَّ وَذَلِكُنَّ". وقِسْ على هذا سائر أسماء الإِشارة مراعيّاً ما يجوز وما لا يجوز. ولاستخدام اسم الإِشارة مزايا أساسية منها الإِيجاز وتفادي التكرار اكتفاءً بدلالة اسم الإِشارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 وقد ظهرت للبلاغين عدّة دواعٍ لاختيار اسم الإِشارة، دون غيره من المعارف، وفيما يلي بيانُها مع التّنبيه على أنّ الدواعي لا تنحصر فيها: الداعي الأول: أن يتعَيّن اسم الإِشارة طريقاً للتعريف بالمشار إليه، كأن يكون المتكلّم والمتلقّي أو أحدهما لا يعرف من المعارف التي تُميّزُ المتحدَّثَ عنْهُ غيَر كونه حاضراً مُحَسَّاً يشارُ إليه، فيكون استعمال اسم الإِشارة لتعيين المتحدّث عنه هو الأمر الذي ينبغي المصير إليه. أمثلة: * لمّا كان الملائكة يجهلون أسماء ما عَرَضَ الله عليهم من خلقه قال لهم: "أَنْبِئُوني بأَسْمَاءِ هَؤلاء" فأشارَ إِلَيْهِمْ باسم الإِشارة لتعيينهم، قال الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {وَعَلَّمَءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هاؤلاء إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الآية: 31] . * قول الشاعر يُثْني علي ممدوحه بأنّه يَقْرِي ضيفه الطارقَ عليه بليل وهو لا يعرفه، فينحر له الناقة، ذَاتَ السَّنَام العظيم: وَإِذا تَأَمَّلَ شَخْصَ ضَيْفٍ مُقْبِلٍ ... مُتَسَرْبِلٍ سِرْبَالَ لَيْلٍ أَغْبَرِ أَوْمَا إلَى الْكَوْمَاءِ هَذَا طَارِقٌ ... نَحَرَتْنِيَ الأَعْدَاءُ إِنْ لَمْ تُنْحَرِي أَوْمَا: أي أومَأَ بمعْنَى أشار. الكَوْمَاء: النَّاقَةُ ذَاتُ السَّنَامِ العظيم، وعظم سنامها يدلٌ على سِمَنِها. هَذَا طَارِقٌ: أي: هذا ضيف طَارق، والطَّارِقُ هو الذي يأتي ليلاً. والشاعر يدعو نفسه بأن تَنْحَرَهُ الأَعْدَاءُ إنْ لم يَنْحَرْ نَاقَتَهُ إكراماً للضيف الطارق عليه الذي لا يعرفه، وقد مَيَّزَهُ باسم الإِشارة "هذا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 * ومنه قول سيدنا إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ اجعل هاذا البلد آمِناً} [البقرة: 126] . *** الداعي الثاني: إرادة تمييز المتحدَّثِ عنه أكمل تمييز يُحْضِرُهُ في ذهْنِ المتلَقِّي، مبالغةً فِي تعيينه، وقد يحسُنُ هذا في الإِطراء، أو في الهجاء، ومعلومٌ أنّ من طبيعة دلالة اسم الإِشارة تحديد المشار إليه تحديداً ظاهراً متميّزاً عن غيره وهذا قد يكون من مقاصد المتكلّم. أمثلة: * قول ابن الرومي مادحاً أبا الصقر الشيباني: هذَا أبُو الصَّقْرِ فَرْداً في مَحَاسِنِه ... مِنْ نَسْلِ شَيْبَانَ بَيْنَ الضَّالِ والسَّلَمِ الضّال: شجر السّدر، وهو من شجر البوادي. السَّلَم: شجر ذو شوك، وهو من شجر البوادي أيضاً. لمّا أراد ابن الرّومي وصف أبي الصقر بأنّه فردٌ في محاسنه ذكره باسم الإِشارة ليميّزه أكمل تمييز. * سأل رجلٌ من أهل الشام هشام بن عبد الملك عن عليّ بنِ الْحُسَيْنِ: مَنْ هو؟ وكان ذا هيئةٍ ونضارة، فتجاهله هشام، خشية أنْ يفتَتِنَ به أهْلُ الشّام، فقال الفرزذق مستخدماً اسم الإِشارة في شعره، يمدح عَلِيّ بْنَ الْحُسَيْن: هذَا ابْنُ خَيْر عِبَادِ اللهِ كُلِّهِمِ ... هَذَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهِرُ الْعَلَمُ هذَا الَّذِي تَعْرِفُ الْبَطْحَاءُ وَطْأَتَهُ ... والْبَيْتُ يَعْرِفُهُ والْحِلُّ والْحَرَمُ إِذَا رَأَتْهُ قُرَيْشٌ قَالَ قَائِلُهَا ... إِلى مَكَارِمِ هَذَا يَنْتَهِي الْكَرَمُ يَكَادُ يُمْسِكُهُ عِرْفَانَ رَاحَتِهِ ... رُكْنُ الْحَطِيمِ إِذَا مَا جَاءَ يَسْتَلِمُ يُغْضِي حَيَاءً وَيُغْضَى مِنْ مَهَابَتِهِ ... فَمَا يُكَلَّمُ إِلاَّ حِينَ يَبْتَسِمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 لقد حَسُنَ في ذوق الفرزدق أنْ يُكَرِّر استعمال اسم الإِشارة للدّلاَلة على ممدوحه وتمييزه أكمل تمييز، وفي هذا التمييز ردٌّ ضِمْنِيٌّ على تجاهل هشام بن عبد الملك له. * قول الله عزّ وجلّ في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول) : {إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هاذآ إِفْكٌ مُّبِينٌ} [الآيات: 11 - 12] . وقولُهُ تَعَالَى: {ولولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بهاذا سُبْحَانَكَ هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] . فجاء ذكْرُ حديثِ الإِفْكِ باسْم الإِشارة "هذا" في ثلاثة مواضع: [هذَا إفْكٌ] و [مَا يكونُ لنا أن نَتَكلّم بهذا] و [هذا بِهْتَانٌ عَظيمٌ] لتمييزه أبلغ تمميز، وإبرازه بما فيه من قُبْحٍ وشناعةٍ وظُلْمٍ لا يَلِيقُ بالمؤمنين. * وتظهر إرادة تمييز المشار إليه في قول الله تعالى في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) خطاباً لأهل الكتاب: {ياأهل الكتاب لِمَ تُحَآجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التوراة والإنجيل إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * ها أنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [الآيات: 65 - 66] . {إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ والله وَلِيُّ المؤمنين} [آل عمران: 68] . لمَّا كان خطابُ أهل الكتاب بعبارَة {هاأنتم} محتَمِلةً لمخَاطبَةِ جميع أهْلِ الكتاب إبّانَ التّنزيل، سواءٌ من كان منهم قد واجه الرَّسُول محمّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 يواجهه، اقتضى تمييز المجادلين من عموم أهل الكتاب بعبارة {هؤلاء} أي: يَا هؤُلاء، لا غيركم من سائر أهل الكتاب. وفي الآية [68] اقتضى تمييز محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باسم الإِشارة مع وصفه بالنبوّة، فقال تعالى: {وهاذا النبي} . *** الداعي الثالث: إرادة التعريض بغباوة المتلقّي، إذ يُشْعِر أحياناً استخدام اسْم الإِشارة بأنّ المخاطَب يحتاج لتمييز المتحدّث عَنْهُ إلى إشارة حسّيَّةٍ، وأنَّه لاَ تكفيه الدلالات الفكريّة. وقد مثَّلُوا لهذا الداعي بقول الفرزدق من قصيدة يفتخر فيها على جرير: أولئِكَ آبَائِي فَجِئْنِي بِمِثْلِهِمْ ... إِذا جَمَعَتْنَا يَا جَرِيرُ الْمَجَامِعُ وأرى أنه من قبيل الداعي الرابع الآتي بيانه إن شاء الله. * ويمكن أن نفهم التعريض بغباوة المخاطبين في قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) : {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هاذا بالحق قَالُواْ بلى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [الآية: 30] . أي: أليس هذا الذي أنْتُمْ فيه تُحِسُّونَهُ وَتَعِيشون فيه بعد بعثكُمْ إلى الحياة الأُخْرى بالواقعِ الحقّ، وهو الأمر الذي كنْتُمْ تُنْكِرُونَه وتَجْحَدُونَه في الحياة الدنيا؟ * ويكْثرُ في مخاطبات الناس أنّهم كلّما شعروا بغباء المخاطب عن إدراك المتحدّث عنه استخدموا له اسماً من أسماء الإِشارة، على معنى: هذا أو ذاك أو ذلك فانظره إذا كنت من الذين لا تكفيهم الدلالة الفكرية. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 الداعي الرابع: إرادة تكريم المتحدَّث عنه والتعبير عن ارتفاع منزلته، باستعمال اسم الإِشارة الذي يُشار به إلى البعيد، والأمثلة على هذا كثيرة في القرآن المجيد. الأمثلة: * قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [الآية: 2] . جاء في هذا النّص استخدام اسم الإِشارة الموضوع للمشار إليه البعيد، مع أنّ المشار إليه متْلُوٌّ على المتلقّين قريبٌ منهم، للإِشعار بأنَّه جليلٌ رفيع المنزلة، جديرٌ لارتفاع منزلته أن يشار إليه باسم الإِشارة الموضوع للبعيد. * وقول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة) أيضاً بعد أن فصّل صفات المتقين: {أولائك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولائك هُمُ المفلحون} [الآية: 5] . فأشار إليهم باسم الإِشارة الموضوع للمشار إليه البعيد إشعاراً بارتفاع منزلتهم فوْقَ الناس، إذْ منزلتهم الرفيعة جديرة بأن يُشَارَ إليهم فيها بهذه الصيغة من أسماء الإِشارة. ونظائر هذا الاستعمال في القرآن كثيرة. * قول الشاعر "الحطيئة" مادحاً: أُولِئكَ قَوْمٌ إِنْ بَنَوْا أَحْسَنُوا الْبِنَى ... وإِنْ عَاهَدُوا أَوْفَوْا وإِنْ عَقَدُوا شَدُّوا الْبِنَى: جمع "البِنْيَة" وهي تُطلق على كُلِّ ما بُنِي. وإِنْ عَقَدُوا شَدُّوا: يقال لُغَةً شَدَّ الْعَقْدَ إِذَا وَثَّقَه. *** الداعي الخامس: إرادة إهانة المتَحَدَّث عنه، والتعبير عن انحطاط منزلته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 وبعدها كثيراً إلى جهة الأسفل، باستعمال اسم الإِشارة الذي يشار به إلى البعيد، والأمثلة على هذا كثيرة في القرآن المجيد. الأمثلة: * قول الله عزّ وجلّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) : {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ الله شَيْئاً وأولائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الآية: 116] . أي: وأولئِكَ المنحطونَ السّافلون البعداء جدّاً عن رحمة اللهِ أصحاب النار هم فيها خالدون. * وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أولائك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولائك هُمُ الغافلون} [الآية: 179] . أي: أولئك الذين ردّوا أنفسهم بكفرهم إلى أسْفَلِ سافلين حتى صاروا أضلّ من الأنعام، فابْتَعَدُوا جدّاً عَنْ مَهَابِطِ رحْمَةِ الله فصاروا أصحاب جهنَّم يوم الدين، فناسب حالُهم أن يشار إليهم باسم الإِشارة الذي يشار به إلى البعيد. ذَرَأْنَا: أي: خلقنا وفق نظام التناسل الذي تكون المواليد به ذُرّيَة آبائهم وأُمَّهَاتهم. * وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (محمد/ 47 مصحف/ 95 نزول) بشأن المنافقين: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ * أولائك الذين لَعَنَهُمُ الله فَأَصَمَّهُمْ وأعمى أَبْصَارَهُمْ} [الآيات: 22 - 23] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 أي: أولئكَ المنافقون البعداء عن مهابط الرحمة إلى جهة الدَّرْك الأسْفلِ من النّار الذين لعنهم الله بسبب نفاقهم فأصَمَّهُمْ وأعْمَى أبصارهم. *** الداعي السادس: إرادة تَحْقِيرِ المتحدَّثِ عنه بتعريفه باسم الإِشارة. الامثلة: * قول الله عزَّ وجلَّ من سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) حول مقالة الذين كفروا بشأن رسول الله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أهاذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمان هُمْ كَافِرُونَ} [الآية: 26] . من الظاهر في عبارة الذين كفروا: [أَهَذَا الّذِي يَذْكُرُ آلِهَتكُمْ] أنّهم يريدون التحقير باستعمال اسم الإِشارة "هذا" مع الاستفهام الذي يراد منه الاستصغار والتحقير أيضاً. * وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) في حكاية قول فرعون يحرّض جيشه الذي جمَّعَه لملاحقة موسى عليه السلام ومعه بنو إسرائيل خارجين من مصر في اتجاه سيناء: {فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي المدآئن حَاشِرِينَ * إِنَّ هاؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الآيات: 53 - 56] . فحقَّرَ فِرْعَوْنُ بَنِي إسْرَائيل وقَلَّلَ من شأنهم بقوله "إِنَّ هَؤلاَءِ" وفصّل كلامه بقوله: "لَشِرْذِمِةٌ قَلِيلُون". الشِّرْذِمَةُ: الجماعة القليلة، وجمعُ "شِرْذِمَة" شَرَاذِم. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 الداعي السابع: إرادة بيان أنّ المتحدَّثَ عنه واضح جليّ حاضرٌ قريب التناول لا يحتاج إلى بَحْثٍ وَجَهْدِ للوصول إليه. الأمثلة: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) : {وَأَنَّ هاذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الآية: 153] . أي: هذا القريب منكم جدّاً، والظّاهر بما أنزلت عليكم من بيان حوله، والذي يتلاءم مع فطرة عقولكم ونفوسكم، وهو دين الإِسلام هو صراطي حالة كونه مستقيماً لا اعوجاج فيه. * وقول الله عزَّ وجلَّ بشأن القرآن في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول) : {إِنَّ هاذا القرآن يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً * وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الإسراء: 9 - 10] . أي: إنّ هذا القرآن القريب منكم الّذِي يُتْلَى عَلَيْكُمْ. *** الداعي الثامن: تنزيل المعنويات الفكريّة منزلة الأشياء الّتي تُدْرَكُ بالحواسّ الظاهرة، فهِيَ تَسْتَحِقُ أَنْ يُدَلَّ عليها باسم الإِشارة، بحسب ما يرى المتكلم من حالها قرباً أو بعداً. فإذا كان يريد أنّها قريبة أشار إليها باسم الإِشارة الذي للقريب. وإذا كان يرى أنّها بعيدة أشار إليها باسم الإِشارة الّذِي للبعيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 ومنه قول الشاعر ابن الدمينة يخاطب معشوقته: تَعَالَلْتِ كَيْ أشْجَى وَمَا بِكِ عِلَّةٌ ... تُرِيدِينَ قَتْلِي قَدْ ظَفِرْتِ بِذَلِكِ فنزّلَ فِكْرةَ قَتْلِهِ منزلةَ الأَمْرِ المدرك بالحسّ الظاهر، فأشار إليها باسم الإِشارة، ولكن ألْمَحَ إلى أنّ لديه قدرة احتمال قد تؤخِّرُ موته فتجعَلُه بعيداً يشار إليه باسم الإِشارة الموضوع للبعيد. *** الداعي التاسع: استخدام اسم الإِشارة الذي يُشار به إلى ذي أوصاف متعددة سبقت في الكلام، للإِشعار بأنّ هذه الأوصاف السابقة هي التي جعلته مستحقاً لأن يُحْكَمَ عليه بما جاء في جملته الخاصة. الأمثلة: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) في صوف المتقين: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ * أولائك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولائك هُمُ المفلحون} [الآيات: 3 - 5] . أيْ: إنَ الحكم لها بالفلاح وظفرهم به يوم الدين قد كان بسبب اتصّافهم بالأوصاف التي ذُكِرَت لهم فيما سبَقَ من النصّ في عدّة جُمَلٍ. * وقول الله عزَّوجلَّ في سورة (البقرة) أيضاً في وصف الفاسقين: {الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض أولائك هُمُ الخاسرون} [الآية: 27] . أي: إنّ الحكم عليهم بأنّهم هم الخاسرون قد كان بسبب اتصافهم بالأوصاف التي ذُكِرَتْ لهم فيما سبَقَ من النصّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 ونظائر هذَيْنِ المثالين في القرآن المجيد كثيرة. *** الداعي العاشر: إرادة التهكّم بالمخاطب، من أمثلته أن يكون المخاطب أُمِّيّاً لا يقرأ وَلاَ يكتُبُ، ويُجَادِل في مسائل علميّة، ويدّعي أنَّ القرآن يشْهَدُ لِمَا يقول، وذكَرَ آيةً من حفظه على خلاف تلاوتها الصحيحة، ومُحَدِّثه يَعْلَمُ أنَّه أُمّي، فيقول له: هذا المصحف فاتْلُ علينا الآيَةَ الَّتِي ذَكرْتَ مِنْه. إلى غير ذلك من دواعٍ تتفتّقُ عنها قرائح البلغاء ومُتَدَبّري النصوص البليغة الرفيعة. *** رابعاً - دواعي اختيار اسم الموصول: اسم الموصول: هو اسم معرفة يفتقر في بيان المراد منه إلى أمْرَيْن: الأمر الأول: الصلة، وهي: (1) جملةٌ خبرية: مثل: الذي خلق كلّ شيء. (2) أو شبه جملة (وشبه الجملة الظرف والجار والمجرور المتعلقان بعامل محذوف وجوباً) مثل: الذي في الدار، والذي عندك. (3) أو وصف صريح (وهذا خاصٌّ بألْ الموصولية) مثل: هذا المغلوبُ على أمره، أي: الذي غُلِبَ على أمره. الأمر الثاني: العائد، وهو ضمير مذكور أو محذوف يربط الصلة به. وأسماء الموصول، منها ما هو نصٌ في معناه، وهي ثمانية: "الذي - الّتِي - اللَّذَان - اللَّتَانِ - الأُولَى - الّذِينَ - اللاّتي - اللاّئي". ومنها ما هو مشترك، وهي ستة: "مَنْ - ما - أيُّ - ألْ - ذو - ذا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 فاسم الموصول هو اسم مُبْهَمُ الدلالة لولا صلته الكاشفة للمراد به، والمعرَّفةُ حقّاً بما يرادُ الدلالة به عليه. وهذا الإِبهَامُ الأوَّليُّ في اسم الموصول يُحْدِثُ في نَفْسِ المتلَقِّي تشَوُّفاً وَتَشَوُّقاً لمعرفة المراد به عن طريق صِلَته. فهو بسبب استثارته للدّاعي النفسيّ إلى المعرفة يُعْتَبَر من أدوات البيان التي تنفتح لها أبواب النفس انفتاحاً تلقائياً فتتلقَّفُهَا بالدافع الذّاتي إلى المعرفة. ومن هنا تَبْدُو لنا ميزةٌ خاصّةٌ لاسم الموصول لا تُوجَد في غيره، ويُضاف إلى هذه الميزة أنّ صلة الموصول قد تتضمَّن مع التعريف بالمدلول عليه به بياناً لمعانٍ مُهمَّةٍ تُؤَدَّى بكلام تامّ يَقْصِدُ المتكلّم بيانها، مع صياغتها في إطار مفردٍ هو جزء جملة، ويَقْصِدُ توصيلَها إلى من يُوجِّه له الكلام. أمّا الدواعي البلاغيّة الخاصّة الّتي تدعو المتكلّم البليغ إلى استخدام اسم الموصول في كلامه، للتعريف بالعنصر الاسمي من عناصر أركان جملته، فهي الّتي اهتمَّ البلاغيون بالتنبيه على ما اكتشفوه منها. وقد ذكر البلاغيُّونَ طائفةً من الدواعي البلاغيَّة لاختار اسم الموصول مِنْ ضِمْن البدائل التي تصلُح لأن تستخدم في موقعه من الجملة، دون أن يكون ما ذكروه منها حاصراً لكلّ الدواعي التي تتفَتَّقُ عنْها قرائح أذكياء البلغاء. ومع تجاوز التقيّد بحدود المسند والمسند إليه تظهر لنا الدواعي التالية: الداعي الأول: أَنْ لا يكون لدى منْ يتلقَّى الكلامَ عِلْمٌ بشيءٍ من المعرّفات التي تعرّف العنصر الاسميّ، أو تميّزه في الجملة عن غيره، إلاَّ اتّصافه بما دلَّت عليه صلة الموصول، فيكون اختيار الاسم الموصول في هذه الحالة أمراً لازماً لتحقيق البيان الذي يستدعيه الكلام. كأن لا يعرف عنه المخاطب غير أنّه اشترى منه خروفاً يوم الجمعة، فيقول له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 ابنُه مثلاً: يا أبي جاء الذي اشتريتَ منه الخروف يوم الجمعة يُطالِبُ بباقي ثمن الخروف. ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في عرض قصة موسى عليه السلام في سورة (القصص/ 28 مصحف/ 49 نزول) بشأن الإِسرائيلي الذي استنصره في مصر فنصره على القطبي: {فَأَصْبَحَ فِي المدينة خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الذي استنصره بالأمس يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ موسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} [الآية: 18] . فمُتلَقُّو هذه القصة وتالوها لا يَعْرِفُونَ عن هذا الرجل غير ما جاء في سِبَاقِ القصة من أنّه استنصر موسى بالأمس فنَصَرَهُ، فوكَزَ مُوسَى الرَّجُلَ القبطيَّ فقضى عليه. *** الداعي الثاني: إرادة الوصف بما تضمّنته صلة الموصول، وهذا شائع كثير، ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان} [الآية: 185] . *** الداعي الثالث: تحاشي التصريح باسمه لكونه مُسْتَهْجَناً، أو يُؤْثر المتكلِّم عدم التصريح به تأدُّباً أو تعفُّفاً أو استحياءً أو غير ذلك، فيكونُ تمييزه بالوصف عن طريق الموصول وصلته محقّقاً لمطلوب البيان، دون التعرض للتّلفُّظ بما هو مستهجَنٌ ممجوج مُسْتَكْرَهٌ في آذانِ المتلقين، أو ما يؤثر المتكلّم عدم التصريح به لسبب من الأسباب. ومنه ما رواه الضحّاك بن سفيان أنّ النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 "إنَّ اللهَ جَعَلَ مَا يَخْرُجُ مِنِ ابْنِ آدم مَثَلاً للدّنْيَا" أخرجه الإِمام أحمد والطبراني والبيهقي في شعب الإِيمان. يلاحظ أنّ ذكر ما يخرج من ابن آدم باللّفظ الصريح مستَهجن، فأشار الرسول إليه بأنّه الذي يخرج من ابن آدم، فاستخدم اسم الموصول وصلته. ومنه ما وراه البخاري عن سهل بن سعد أنّ النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ يَضْمَنْ لِي ما بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجنَّة". *** الداعي الرابع: إرادة زيادة تقرير الغرض المسوق له الكلام، لما في صلة الموصول من ظلال دلالاتٍ توحي بوقوع الحدث، إذا قيس بأشباهه في مثل ظروفه، كأن تقول: سرق خزينة القصر الذي يعرف خباياه، ومداخله ومخارجه، وباستطاعته أن يتوصل إلى مفاتيح أبوابه بسهولة، وأنت تقصد شخصاً معيّناً تعرف اسمه، وتنطبق عليه هذه الأوصاف، فذكرك له باسم الموصول وصتله مما يزيد في تقرير وقوع السّرقة منه، وذلك لأنّ من كان مثله في صفاته كان عُرضةً لأن يسرق الخزينة. ومن شواهد هذا الداعي قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (يوسف/ 12 مصحف/ 53 نزول) بشأن مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السلام واستعصامه بالعفة وبالخوف من الله، وتمنُّعِهِ عن الوقوع في الفاحشة: {وَرَاوَدَتْهُ التي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأبواب وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ الله إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} [الآية: 23] . فاختيار ذكر: [الّتِي هُوَ في بَيْتِهَا] دون ذكر اسمها "زليخة" أو ذكر "امرأة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 العزيز" كما جاء في موضعٍ آخر من السورة، لزيادة تقرير وقوع الحدث، إذْ كونُ يوسف عليه السلام في بيتها، وهي سيّدتُه المطاعة فيه، لا بُدَّ أن يُلاحظ معه أنّها لا تراوده إلاَّ إذا وصَلَتْ إلى ذِرْوة الإِعجاب بشخصه والافتتان بصفاته، بعد مخالطة طويلة رأت فيها من جماله وبهائه وذكائه وشبابه ورجولته وحسن أدبه، وكمال خلقه ما جعلها شغوفة بحُبّه حُبَّ النساء للرجال، وهي ترى أنّ لها عليه سلطان الآمر الناهي، وأنّ عَلَيْه أن يُحَقِّق لها مطالِبَها منه. ومع زيادة التقرير هذه نلاحظ مضمون الثناء على عفّة يوسف عليه السلام، واستعصامه وطاعته لربّه، إذ استطاع مع وجود كلّ الدواعي الدافعة بقوّةٍ إلى الخطيئة، أَنْ يَصْمُدَ أمام كلّ مثيرات الإِغراء، وأنْ يتحَدَّى سلطةَ سيّدة القصر الّتي تريد تحقيق رغبتها ولو بالقوّة. وتُفْهَمُ زِيَادةُ التقرير هذه من قول أبي العلاء المعرّي: أَعْبَّادَ الْمَسِيحِ يَخَافُ صَحْبِي ... وَنَحْنُ عَبِيدُ مَنْ خَلَقَ الْمَسِيحَا؟! أي: من المستبعد جدّاً في أصْحَابي المسلمين الذين يَعْبُدونَ من خَلَقَ الْمَسِيحَ، ويستعينون به، ويرجون منه النَّصْرَ أن يَخَافُوا مَنْ يَعْبُدون الْمَسِيحَ الذي هو عبد الله، وخَلْقٌ من خلْقِه، وإن استنصرتموهُ لم يَنْصُرْهم. *** الداعي الخامس: إرادة التفخيم والتعظيم أو التهويل، وذلك لأنّ الإِبْهام الذي قد يوحي به اسم الموصول مع صلته أحياناً يومىء إلى ذلك. * ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (طه/ 20 مصحف/ 45 نزول) : {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} [الآيات: 77 - 78] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 أي: فَغَشِيَى فرعَوْنَ وجُنُودَه من الْيمّ مَا غَشِيَهُمْ منْ أمْرٍ مَهُولٍ جدّاً، فدَلَّ الإِبهام في الموصول وصلته عَلى عِظم الأمر المهول الذي غشيهُمْ. * ونظيره قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النجم/ 53 مصحف/ 23 نزول) : {والمؤتفكة أهوى * فَغَشَّاهَا مَا غشى} [الآيات: 53 - 54] . المؤتفكة: أي: المنقلبة، وهي قُرَى قوم لوط. فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى: أي: فنزل عليها من فوقها شيءٌ مهولٌ عظيم سترها كلَّها فدمّرها تدميراً شاملاً، فدلّ الإِبهام في الموصول وصتله على عِظَم الأمر المهول الذي غشَّى قرى قوم لوط المنقلبة عاليها سافلها. * وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النجم) أيضاً بشأن تفيخم وتَعْظِيم ما يَغْشَى سِدْرَةَ المنتَهَى، فوق السماوات السّبع: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى * عِندَ سِدْرَةِ المنتهى * عِندَهَا جَنَّةُ المأوى * إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى} [الآيات: 13 - 16] . أي: إذْ يَغْشَى السّدْرة شيءٌ فخم عظيم لا تستطيع الأوهام أن تتخيّله. *** الداعي السادس: الإِشارة إلى أنّ الوصف الذي دلّت عليه صلة الموصول هو علة بناء الحكم في الجملة، هذا نظير قول علماء أصول الفقه: بناء الحكم على المشتقّ يُؤْذن بعلّيّة ما منه الاشتقاق. والإِشارة أيضاً إلى أن الوصف الذي دلّت عليه صلة الموصول يقتضي الالتزام بالتكليف الذي يأتي بعده. والأمثلة على هذا الداعي بفرعيه كثيرة في القرآن المجيد، فمنها ما يلي: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [الآية: 177] . أي: هذا الجزاء الكريم لهم إنّما هو بسبب اتصافهم بالإِيمان والعمل الصالح وَإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. * وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول) : {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} [الآية: 56] . أي: هذا العذاب الأليم لهم إنّما يكون بسبب كفرهم بآياتِ الله. * وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الحشر/ 59 مصحف/ 101 نزول) : {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ واتقوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الآية: 18] . أي: إنّ إيمانكم بالله واليوم الآخر يقتضى منكم الالتزام بطاعة الله، لتَتَّقُوا عذابه يوم الدين. *** الداعي السابع: قد يُتَّخَذُ اسم الموصول مع صلته ذريعة لتعظيم الموصوف به، إذ اتّصافُه بما تضمَّنته صلة الموصول من وصفٍ عظيم أمرٌ يدلُّ على أنّه عظيم، كأن تقول: الذي خَلَقَ السماوات والأرض وأتقن كلّ شيءٍ صُنْعاً هو إلهنا. فَوَصْفُهُ كَأنَهُ هو الخالق المتقن لكلّ شيءٍ يَدُلُّ على عظمته وجلاله واستحقاقه أن يُعْبَد ويُفْرد بالعبادة. وقد يُتَّخَّذُ ذَرِيعةً للتعريض بالمنزلة الرفيعة للمتكلّم، أو فخامة شيءٍ يتعلّق به، أو نحو ذلك، كأن تقول: الذي بنَى قصر الملك هو الذي بنَى قَصْرِي، تشير إلى فخامة بناء قصرك، وأنّك ذو مكانة رفعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 ومنه قول الفرزدق من قصيدة يفتخر بها على جرير: إِنَّ الذي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا ... بَيْتاً دَعائِمُهُ أَعَزُّ وأَطْوَلُ وقد يُتَّخَذُ ذريعة للتخويف من عقاب الموصوف به، والتحذير الشديد من مخالفته، ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) في حكاية ما قال شعيب عليه السلام لقومه: {واتقوا الذي خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين} [الآية: 184] . والجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ: أي: الأمَّةَ الأَوّلِينَ من الناس. والمعنى أنّ خالق الناس جميعاً يجب أن يُتَّقَى عقابُه، إذ هو على كلّ شيءٍ قدير. *** الداعي الثامن: إرادة تنبيه المخاطب على خطأٍ واقع فيه، بما تضمّنَتْه صلة الموصول مما يخالف معتقده، ومنه قول عَبْدَة بْنِ الطبيب من قصيدة يَعِظُ فيها بَنِيه: إِنَّ الَّّذِينَ تَرَوْنَهُمُ إِخْوَانَكُمْ ... يَشْفِي غَليلَ صُدُورِهِمْ أَنْ تُصْرَعُوا غَلِيلَ صُدُورهم: أي: غيظ صدورهم منكم. أَنْ تُصْرعُوا: أي: أن تَهْلِكُوا وتَمُوتُوا. *** الداعي التاسع: قصد الدلالة على معانٍ تتضمنها صلة الموصول، وهذه المعاني لا تدلُّ عليها المعارف الأخرى، ولا حصر لهذه المعاني. وبعض هذه المعاني يُشعر بتعظيم من دلّ عليه اسم الموصول، وما يجب تجاهه، مثل: {الذي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار: 7] . وبعضها يشعر بالتّهكُّم، مثل قول المشركين للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما جاء في سورة (الحجر/15 مصحف/ 54 نزول) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 {وَقَالُواْ ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الآية: 6] . وبعضها يُشْعر بالحثَّ على الرحمة والمعونة والإِحسان، مثل: أسعفوا الّذِين يتعرّضون للتقتيل والتشريد والجوع والظمأ والمرض من مسلمي البوسنة والهرسك على أيدي الصِّرْبِ الهمج. *** خامساً - دواعي اختيار المعرّف باللاّم: (1) مقدمة الاسم المعرّف باللاّم [وقَدْ يستعمل النحاة عبارة المعرّف أو المحلّى بـ"ال"] تدخل عليه أداة التعريف هذه فتدُلُّ على مَعَانٍ متعدّدة، تختلف باختلاف المراد منها الذي تكشفه القرائن اللفظية أو غير اللفظية. وقد أحْصَى النحاة وتبعهم البلاغيون المعانيَ التي يُمْكن أن تستفاد من هذه الأداة من أدوات التعريف. ونبَّه البلاغيون على أن المتكلّم البليغ قد يختار في كلامه الاسم المعرّف باللاّم دون المعارف الأخرى التي تَصلُح بدائل له، للدّلالة على معنى يقصده من المعاني التي يمكن أن تستفاد من أداة التعريف هذه، مع قصْدِ الإِيجاز في التعبير. ونلاحظ أنّه كلّما كان المتكلّم أكثر إحساساً بفروق المعاني، وأكثر تذوّقاً لفروق العناصر الجمالية في الكلام، وأكثر إدراكاً لمطابقة الكلام لمقتضى الحال، كما أحْسَنَ اختياراً من البدائل التي يَصْلُح كلُّ منها لأداء أصل المعنى المقصود بوجه عامّ، وبسبب ذلك تتفاوت مراتب الكلام البليغ ودرجات كلّ مرتبة منها، وتتفاضل مراتب البلغاء ودرجاتهم في إنشاء الكلام البليغ والإِبداع فيه. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 (2) تقيسم لام التعريف قسّم النحويّون اللاّم التي تدخل على الاسم فتفيده تعريفاً إلى قسمين: اللاّم الجنسية، واللاّم العهدية: أمّا اللاّم الجنسيّة: (وقد تُسمَّى عند البلاغيين لام الحقيقة) فهي ثلاثة أنواع: النوع الأول: اللاّم التي لبيان الحقيقة والماهية، وهي التي لا يصحّ أنْ يستعمل بدلَها كلمة "كلّ" فيشارُ بها إلى الحقيقة الشائعة في الأفراد، دون النظر إلى الدّلالة على عُمومٍ أو خصوص. ومن الأمثلة على هذا النوع ما يلي: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) : {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} [الآية: 30] . أي: وجعلنا من ماهيّةِ جنْسِ الماء كلَّ شيء حيّ، فإرادة حقيقة الماء وماهيته تستبعد إرادة كُلِّ الماء على سبيل الاستغراق، والقرينَةُ على إرادة الحقيقة والماهيّة دون الاستغراق الواقعُ المشاهد، فالأحياء يدخل في تركيب أجسادها عنصر الماء، مع وجود مياه منفصلة عن الأحياء، ومياه لم تخلق منها أحياء بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 * والقول المشهور: "أهلك النّاسَ الدِّينارُ والدّرْهم" أي: أهلك جنْسَ الناس لا كلَّ أفرادهم جنْسُ الدينار وجنسُ الدرهم، لا كُلُّ دينار وكلّ دِرْهم. * ويمثلون بعبارة: "الرَّجُلُ خَيْرٌ من الْمَرْأة" أي: جنْسُ الرجُلِ وماهيَّتُه خيرٌ من جنس المرأة وماهيتها، لا كُلُّ فردٍ من أفراد الرجال خير من كلّ امرأة، إذْ بعض النساء أفضل من مئات الألوف من الرجال. * ومنه قول أبي العلاء المعرّي: وَالْخِلُّ كَالْمَاءِ يُبْدِي لِي ضَمَائِرَهُ ... مَعَ الصَّفَاءِ وَيُخْفِيهَا مَعَ الكَدَرِ أي: جِنْسُ الْخِلّ يَفْعَلُ هذا، دون ملاحظة استغراق جميع الأخِلاّء، إذْ قد يوجَدُ منهم من هو على خلاف ذلك. النوع الثاني: اللاّم لاستغراق أفراد الجنْسِ كلّهِم حقيقةً أَوْ عرفاً، وهي الّتي تدلُّ على ما تدُلُّ عليه لفظة "كُلَّ" لو كانت بدلها. فمن أمثلة الاستغراق الحقيقي ما يلي: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول) : {يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً} [الآية: 28] . أي: وخلق كلّ فرد من أفراد جنس الإِنسان ضعيفاً، والواقع يشهد لإِرادة هذا الاستغراق. * وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (السجدة/ 32 مصحف/ 75 نزول) : {ذلك عَالِمُ الغيب والشهادة العزيز الرحيم} [الآية: 6] . أي: عالم كلّ غيب وكلّ شهادة، والدليل العقلي يقرّر هذا الاستغراق. ومن أمثلة الاستغراق العرفي ما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) : {وَجَآءَ السحرة فِرْعَوْنَ ... } [الآية: 113] . أي: سحرة مملكته، لا كلُّ سَحَرَة العالم. ومنه أن تقول: جمع وزير الصحة الأطباء والصيادلة، أي أطبّاء الدولة وصيادلَتَها. ويلاحظ في الاستغراق أنّ استغراق المفرد أشمل من استغراق المثنى والجمع، بدليل صحة قولنا: لا رجلان في الدار، إذا كان فيها رجل واحد، وصحة قولنا: لا رجال في الدار، إذا كان فيها رجل أو رجلان. ويلاحظ أيضاً أنَّهُ لاَ تنافي بين الاستغراق وإفراد الاسم، لأنّ حرف اللام يدخل عليه مجرّداً عن معنى الوحدة، فيكون لفظ المفرد المعرّف باللام بمعنى: كُلّ فرد، لا بمعنى: مجموع الأفراد، ولهذا امتنع وصفه بلفظ الجمع، فلا يقال: الرَّجُلُ المؤمنون أفضل من الرجل غير المؤمنين، بل يقال: الرجل المؤمن أفضل من الرجل غير المؤمن، أي: كلّ رجل مؤمن أفضل من كلّ رجل غير مؤمن. النوع الثالث: اللاّم التي لاستغراق صفاتِ الجنْسِ مجازاً على سبيل المبالغة، كأن تقول لمن تريد الثناء عليه باستجماعه صفات الرجولة الكاملة: "أنت الرَّجُل" أي: أنت المستغرق في صفاتك صفات جنس الرجال. وكأن تقول مثلاً عن المتنبّي: "هو الشاعر" أي: هو الذي اجتمعت فيه كلُّ صفات الشاعر، فكأنه استغرق الجنْسَ كلّه. ومنه قول الشاعر: "أَنْتُمُ النَّاسُ أَيُّهَا الشُّعَرَاءُ". *** وأمّا اللاّم العهدية: فهي ثلاثة أنواعٍ أيضاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 النوع الأول: اللاّم الّتي للعهد الذكريّ، وهي الَّتِي يتقدَّم المعرَّفَ بها ذكْرٌ في الكلام، وضابطها أن يسُدّ الضمير مسَدَّه. والمعهود في الذكر قد يكون مذكوراً صراحةً باللّفظ، وقد يكون مذكوراً على سبيل الكناية. * فمن أمثلة المذكور صراحة بلفظه ما يلي: قول الله عزّ وجلّ في سورة (المزمل/ 73 مصحف/ 3 نزول) : {إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فعصى فِرْعَوْنُ الرسول فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} [الآيات: 15 - 16] . وَبيلاً: أي: شديداً. فاللاّم التي في (الرسول) عهديّة، ونلاحظ أنّه يمكن أن يقع الضمير موقع لفظ الرسول فيقال: فعصاه فرعون، ويلاحظ أن اختيار المعرّف باللام العهديّة هنا إرادة ذكر لفظ الرّسول لبيان شناعة معصية فرعون لرسول ربّه. * قول الله عزّ وجلّ في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول) : {*الله نُورُ السماوات والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِي زُجَاجَةٍ الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [الآية: 35] . فاللاّم في "الْمِصْبَاح" وفي "الزجاجة" عهديّة، ونلاحظ أنَّه يمكن أن يقع الضمير موقعهما، فيقال: فيها مصباح هو في زجاجة هي كأنها كوكبٌ دُرِّي. ولكِنْ تَضْعُفُ فنيَّةُ الأداء البياني لو استخدم الضمير بدل الْمُعَرَّف باللاّم، فالداعي هنا جماليّ. ومن أمثلة المذكور على سبيل الكناية ما يلي: * ما جاء في قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 {إِذْ قَالَتِ امرأت عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذكر كالأنثى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم} [الآيات: 35 - 36] . إنَّهُ لم يسبق ذكر لفظ الذَّكَرِ صراحةً، لكنه سبق ذكره على سبيل الكناية، لأنّها قالت: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} [آل عمران: 35] وعتق الوليد لخدمة بيت المقدس لم يكن إلاَّ للذكور، فلفظ "ما" في كلامها قد كَنَّتْ به عن وليد ذكر، فلمَّا جاء الوليد أنْثَى قالت: {وَلَيْسَ الذكر كالأنثى} [آل عمران: 36] . النوع الثاني: اللاّم التي للعهد الذهني: ويُسمَّى أيضاً "العهد الْعِلْميّ" وهي التي سبق العِلْمُ بالمعرَّف بها. وهو قسمان: معهود ذهناً بشخصه المعيّن. ومعهود ذهناً بحَقيقته ضمن فرد مُبْهَم غير معَيّن بشخصه، والمعرَّفُ بهذه اللام للدّلالة على حقيقته ضمن فرد مبهم لفظٌ يعامل معاملة المعرفة، ولكن معناه يُعامَلُ معاملة النكرة، لأن المعهود بها غير معيَّنٍ بشخصه. ومن أمثلة المعهود ذهناً بشخصه المعين مايلي: * قول الله عزّ وجلّ في سورة (طه/ 20 مصحف/ 45 نزول) : {فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ ياموسى * إني أَنَاْ رَبُّكَ فاخلع نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى} [الآيات: 11 - 12] . إنّه لم يَسْبِق ذِكْرٌ للفظ "الوادي" لكن سبق العلم به، فهو معهود ذهناً، فاللاّم المعرّفة له هي للعهد الذهني " = العهد العلمي". * وقول الله عزّ وجلّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) خطاباً للمؤمنين تحريضاً لهم على نصرة الرسول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ ثَانِيَ اثنين إِذْ هُمَا فِي الغار ... } [الآية: 40] . إنَّه لم يسبق ذكر للفظ "الغار" لكن سبق العلم به، فهو معهودٌ ذهناً، فالاّم المعرّفة هنا هي للعهد الذهني " = العهد العلمي". * وقول الله عز وجلّ في سورة (الفتح/ 48 مصحف/ 111 نزول) : {*لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الآية: 18] . فالشجرة مَعْهُودَةٌ ذِهْناً، دون أن يسبق في النصّ لها ذكر. ومن أمثلة المعهود ذهناً بحقيقته ضمن فرد مبهم غير معين بشخصه ما يلي: * ما جاء في قول الله عزّ وجلّ في سور (يوسف/ 12 مصحف/ 53 نزول) حكايةً لمقالة يعقوب لبنيه بشأن يوسف عليهما السلام. {قَالَ إِنِّي ليحزنني أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [الآية: 13] . لفظ "الذئب" يطلق على أيّ ذئب فمعناه كمعنى النكرة، فماذا فعلَتْ اللام المعرّفة فيه؟ قالوا: عرَّفَتْ الحقيقة الملاحظة في الذهن، ولم تُعَرِّفْ ذِئباً معيّناً بشخصه، وهذه الحقيقة الذهنية الواحدة تنطبق على ذئبٍ ما أيّ ذئب. * ومنه قول عُمَيرة بن جابر الحنفي: وَلَقَد أَمُرُّ علَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي ... فَمَضَيْتُ ثَمَّتِ قُلْتُ: لاَ يَعْنِينِي فتعريف لفظ "اللئيم" تعريف للحقيقة الملاحظة في الذهن كما قالوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 * ومنه أن تقول لمن تخاطبه: اذهب إلى السّوق واشتر منه حاجتك. النوع الثالث: اللاّم الّتي للعهد الحضوري، وهي التي يكون المعرَّفُ بها حاضراً عند التكلّم، ومن أمثلة هذا النوع ما يلي: * قول الله عزّ وجلّ في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول) : {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً ... } [الآية: 3] . فاللاّم التي في لفظ "اليوم" المعرِّفة له تُشِير إلى اليوم الحاضر الذي نزلت فيه الآية، وكان يوم عرفة في حجّة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. * قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) في عرض لقطاتٍ من قصة موسى عليه السلام وفرعون: {وَقَالَ موسى يافرعون إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ * قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين * فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هاذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الآيات: 104 - 110] . فالظاهر أنّ اللاّم في لفظ "الْمَلإِ" المعرّفةَ تُشِيرُ إل الْمَلإِ الحاضرين فِي مَجْلِسِ فِرْعَوْن حِينَ قدَّم مُوسَى عليه السلامُ آيتيه لفرعَوْن، إذْ يحتمل أن يوجد في مصر مَلأٌ آخرون غيرهم لم يكونوا حاضرين في مجلسه حِنئذٍ. * وتصل إلى دارٍ لتقابل صاحبها فتناديه: افتح الباب، فاللام في لفظ "الباب" عهدية تشير إلى الباب الموجود في مكان الحضور، فهي من الّتي للعهد الحضوري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 وتريد أن تشرب ماءً، فتقول لمن تخاطبه: ناولني الكأسَ، أي: الكأس الحاضرة في مجلس المخاطبة. إلى غير ذلك من أمثلة. وببيان قسْمَي اللاّم المعرفة وأنواعها ودلالات كلِّ نوع منها، يتّضح لنا أن على المتكلّم البليغ أن يختار لكلامه ما يلائم المعنى الذي يريد أن يعبّر عنه، ما يراه أكثر بلاغة ممّا يطابق مقتضى الحال. وأنّ على متفهم النصوص البليغة أن يكتشف أسرار الاختبارات الحكيمة في الكلام البليغ، وأن يكون قادراً على النقد الكاشف للمحاسن والعيوب في الكلام. ملاحظة: لم أتعرّض هنا لما يسمَّى "اللاّم الزائدة: مثل "ال" في نحو "اللاّت والعزّى" وفي نحو "الآن" وفي نحو "اليزيد" والداخلة على الأعلام، مثل: "الحسن والحسين". ولم أتعرّض لما يُسمَّى "اللام الموصولية" التي تأتي بمعنى "الذي" وهي التي قد تدخل على اسم الفاعل، أو اسم المفعول، على مَعْنَى الذي، فهي حينئذٍ اسم موصول في صورة حرف، وصِلَتُها الوصف الذي دخلَتْ عليه، مثل: جاء الضاربُ أخاك، أي: الذي ضرب أخاك. لم أتعرّض لهما لأنهما بطبيعتيهما خارجتان عن اللام الّتي تدخل على الاسم فتعرّفه، وإِنْ كانتا مُتشابهتين لها في دخولهما على بعض الأسماء مثل دخولها. فدواعي اختيار المعرّف باللاّم ترجع إلى قصد الدلالة على معنىً من معانيها مع الاختصار والإِيجاز، ومع دواعي أخرى يقصد إليها البليغ، كالتأكيد، والإِشارة إلى عظمة المعرّف بها، أو حقارته، أو إرادة التذكير به، أو بسالف عهد معه، إلى غير ذلك من أغراض يصعب إحصاؤها. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 سادساً - دواعي اختيار المعرَّف بالإِضافة: (1) مقدمة ذكر النحويّون أنّ الإِضافة قسمان: لفظيّة، ومعنوية. فالإِضافة اللفظية: وتسمّى أيضاً "الإضافة المجازية - والإِضافة غير المحضة" هي الّتي لا تفيد المضافَ تعريفاً ولا تخصيصاً، والغرض منها التخفيف في اللفظ فقط بحذف التنوين من المضاف، أو حذف نوني التثنية والجمع ويُجَرُّ المضاف إليه فيها، والمضاف إليه فيها فاعل المعنى للمضاف أو مفعول به، إذ المضافُ فيها ينبغي أن يكون ممّا يعملُ عَمَل الفعل، والجرّ على تقدير حرف تعدية فقط، مثل: سعيد طالبُ علمٍ، أي: يطلبُ علماً. والحُسَيْنُ مَهْضُومُ الحقِّ، أي: هُضِمَ حقُّه. ومُصْعَبٌ حَسَنُ الْخَلْقِ والْخُلُقِ، أي: حَسُنَ خَلْقُهُ وخُلُقه. وهذه الإِضافة اللفظية، لا تَدخُلُ في دواعي اختيار المعرَّف بالإِضافة عند البلاغيين، بل هي من مُلْحَقَاتِ متعلقاتِ الفعل. أمّا الإِضافة المعنوية: وتسمّى أيضاً "الإِضافة الحقيقية - والإِضافة المحضة" فهي نِسْبَةٌ تكون بين اسْمَيْن مقترنين على تقدير حرف جرّ ذي معنىً بينهما، ويُنَزَّلُ الثّاني منهما مَنْزِلة التنوين من الأوّل، وهي توجب جرّ الثاني دواماً، مثل: كتَابُ اللهِ المعجزُ دليلٌ على نُبُوَّةِ مُبَلِّغِهِ وأنَّهُ رسُولُ الله لِجَمِيعِ النّاس. ويسمَّى الأول منهما مضافاً، ويُسَمَى الثاني مضافاً إليه، والجارّ للمضاف إليه هو المضاف. وحرف الجرّ المقدّر بينهما واحدٌ من حروف الجرّ الأرْبعة التالية: الأول: "اللاّم" التي تفيد الملك مثل: "هذا كتابي" أي كتابٌ مِلْكي، أو تفيد الاختصاص، مثل: "هُنَا مَرْبطُ الفرس" أي: مربط متخصّص بالفرس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 الثاني: "من" البيانيّة، ويكون المضاف إليه فيها جنساً للمضاف، مثل: "سوار ذَهَبٍ - خاتمُ فضْةٍ - ثوبُ قُطْنٍ". أي: سوارٌ من ذهب، وخاتم من فضة، وثوب من قطن. الثالث: "في" الظرفية، ويكون المضاف إليه فيها ظرفاً للمضاف مثل: "سَهَرُ اللّيْلِ مُضْنٍ - عَمَلُ الصَّبَاح مباركٌ فيه - قُعُودُ الدار يجلب الأكدار" أي: سَهرٌ في اللّيل، وعملٌ في الصباح، وقُعُود في الدار. الرابع: "كاف التشبيه" ويكون فيها المضافُ مشبَّهاً به، والمضاف إليه مشبَّهاً، مثل: "تساقط لُؤْلُؤُ الدَّمع على ورد الخدود" أي: تساقط الدمْعُ الذي كاللُّؤلؤ، على الْخُدُودِ الّتي كالْوَرْدِ، هذه الإِضافة هي من إضافة المشبّه به إلى المشبه، وملاحظة كاف التشبيه فيها تكون بعد عكس ركني الإضافة. وهذه الإِضافة المعنوية تفيد واحداً من أمرين: الأول منهما: تعريف المضاف بالمضاف إليه، إذا كان المضاف إليه فيها واحداً من المعارف، مثل: "مَسْجدُ الرسولِ محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" و"تَلوْتُ صفحةً من كِتَابِ اللهِ" إلاَّ أن يكون المضاف متوغلاً في الإِبهام والتنكير مثل: "غير" أو يكون المضاف إليه ضميراً يعودُ على نكرة. الثاني منهما: تخصيص المضاف بالمضاف إليه، إذا كان المضاف إليه فيها نكرةً من النكرات، مثل: سيف فولاذ أقوى وأصلَبُ من سيف فضّة، أو ضميراً يعودُ على نكرة، مثل: طرق بابي مستوِّلٌ وزوجته. واشتريت ناقةً وَفَصِيلَهَا. *** ملاحظة: الإضافة التي هي تقدير كاف التشبيه يمكن إدْخالها في الإضافة على تقدير "من" على اعتبار أن لفظ المضاف أُخِذ على سبيل الاستعارة وأُطلق على معنى المضاف إليه، والعلاقة هي التشبيه. ولهذا اقتصر معظم النحاة على تقدير "اللاّم ومن وفي" بين المضاف والمضاف إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 (2) بيان الدواعي أمّا دواعي التعريف بالإِضافة الحقيقة فقد ذكر البلاغيون طائفة منها، وفيما يلي بيانٌ لها. الداعي الأول: كون الإِضافة أخصر طريق وأوجزه، والمقام يقتضي الاختصار والإِيجاز. ومن الأمثلة: * قول جَعْفَر بن عُلْبَة الحارثِي: هَوَايَ مَعَ الرَّكْبِ اليَمَانينَ مُصْعِدُ ... جَنِيبٌ وَجُثْمَانِي بِمَكَّةَ مُوثَقُ عَجِبْتُ لِمَسْرَاهَا وَأنَّى تَخَلَّصَتْ ... إِلَيَّ وَبَابُ السِّجْنِ دُونِيَ مُغْلَقُ ألَمَّتْ فَحَيَّتْ ثُمَّ قَامَتْ فَوَدَّعَتْ ... فَلَمَّا تَوَلَّتْ كَادَتِ النَّفْسُ تَزْهَقُ فَلاَ تَحْسَبِي أَنِّي تَخَشَّعْتُ بَعْدَكُمْ ... لِشَيْءٍ وَلاَ أَنِّي مِنَ الْمَوْتِ أَفْرَقُ وَلاَ أَنَّْ قَلْبي يَزْدَهِيهِ وَعِيدُهُمْ ... وَلاَ أَنَّنِي بِالْمَشْي في الْقَيْدِ أَخْرَقُ وَلَكِنْ عَرَتْنِي مِنْ هَوَاكِ ضَمَانَةٌ ... كَمَا كُنْتُ أَلْقَى مِنْكِ إذْ أَنَا مُطْلَقُ مُصْعِد: من "أصْعَدَ" إذا ارْتقى في أرضٍ آخذةٍ في العلوّ والارتفاع، وقد كان سجينا في مكة، فزارته التي يهواها، ثم سافرت مع الركب المتجهين مُصْعِدِين إلى جهة اليمن. الْجَنِيب: ما يقادُ إلى الجنب من الخيل وغيرها، شبّه هواه الصاعد مع الركب بالدابة التي تُقَاد إلى جَنْبٍ من مقودها، فتكون مرافقة للرّكب، وقصده مَنْ يهوى، فهي هواه، قالوا: وحسَّنَ هذا الاختصار أنّ الشاعر ضائق وسجين. كادَتِ النَّفْسُ تَزْهَقُ: أي: تخرج من جسده. تَخَشَّعْتُ: تذلَلت وتضرّعت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 أفْرَق: أخاف. أخْرَقُ: أي: مذعور فَزعٍ مندهش. ضمانَةٌ: أي: عِلَّةٌ لَزِمَتْنِي. والشاهد الذي استشهد به البلاغيون قولُه "هَوَايَ" أي: التي أهواها، فأطلق عليها أنّها هي الهوى، وأضاف الهوى إلى ياء المتكلم، فقال: هَوَايَ مع الركب اليمانين مُصْعِد. *** الداعي الثاني: كون الإِضافة تُغني عن تفصيلٍ متعذِّرٍ، أو متعسّر، ومن الأمثلة أن تقول: أجْمَعَ علماءُ المسلمين على رجْم الزّاني المحصن. فتفصيل علماء المسلمين أمرٌ متعذّر. ومن الأمثلة: قول حسان بن ثابتٍ يمدح أولاد جفنة من الْغَسَاسِنَة، ويبدو أنّ هذا من شعره قبل الإِسلام: أَوْلاَدُ جَفْنَةَ حَوْلَ قَبْرِ أَبيهِمُ ... قَبْرِ ابْن ماريَةَ الْكَرِيمِ الْمُفْضِل الْمُفْضِل: الْمُحْسِن بالعطاء، والزائد على غيره في الحسَبِ والشّرف. وقول الشاعر يمدح قومه بني مطر: بَنُو مَطَرٍ يَوْمَ اللِّقَاءِ كَأَنَّهُمْ ... أُسُودٌ لَهَا فِي غِيلِ خَفَّانَ أَشْبُلُ في غِيل: الغِيلُ مَوْضِعُ الأسُود، والمجتمع من الشجر. خفَّان: مأَسدةٌ قُرْبَ الكوفة. أشْبُل: جمع شِبْل وهو وَلدُ الأَسد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 وقول الحارث الجرمي: قَوْمِي هُمُ قَتَلُوا أُمَيْمَ أَخِي ... فإذَا رَمَيْتُ يُصِيبُني سَهْمِي ومع الاختصار ففي هذه الإِضافة معنَى التحسُّرِ لأنَّ من قَتَلَ أخاه هم قومُه الّذِينَ يَعِزُّ عليه أن يَنْتَقِم منهم، لأنَّه لو فعل لأصابَ بسَهْمِه نفسه. *** الداعي الثالث: أن يشار بالإِضافة إلى تعظيم المضاف أو تعظيم المضاف إليه، ومن أمثلته ما يلي: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الإِسْرَاءِ/ 17 مصحف/ 50 نزول) : {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ... } [الآية: 1] . * وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الجنّ/ 72 مصحف/ 40 نزول) : {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الآية: 19] . لِبَداً: لِبَد جَمْعُ لِبْدَة، وهي لِبْدَةُ الأَسَدِ، أي: كاد مشركو مكة من كثرة تألُّبهم ضدَّه لمقاومة دعوته يكونون مثل لِبَدِ أُسود حوله. فالإِضافة إلى الله في الآيتين تَشْرِيفٌ للمضاف عظيم. * ومن تعظيم المضاف أن يقول ذو مكانة اجتماعية ومال كثير: هؤلاء أنصاري، وهذا السوقُ مِلْكِي، وقصور هذا الحيّ قصوري، فهو يُعظِّم نفسه بانصاره، وبما يملك. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 الداعي الرابع: أن يُشار بالإِضافة إلى تحقير المضاف أو تحقير المضاف إليه، أو تحقير غيرهما. فمن تحقير المضاف أن تقول عن عِقْدٍ تتفاخر به صاحبته: هذا عِقْدُ كَلْبِكِ. ومن تحقير المضاف إليه أن ترى كوخاً حقيراً فتقول لمن تريد أهانته: هذا قصرك. ومن تحقير غيرهما أن تقول لمن تريد إهانته وهو جالسٌ على كرسيّ مستكبراً: هذا كُرسيُّ الإِسكاف. *** الداعي الخامس: أن تتضمّن الإِضافة معنىً يُقْصد ويُشار إليه بها، كالتحريض على الإِكرام، أو التحريض على الإِهانة والإِذلال، أو التحريض على البرّ، أو إرادة الاستهزاء والتّهكم، أو غير ذلك. * فمن أمثلة التحريض على الإِكرام: هذا صديقُك يزورك. * ومن أمثلة التحريض على الإِهانة والإِذلال: هذا عدُوّك مقبل إليك. * ومن أمثلة التحريض على البرّ: هذا أبوك الذي ربّاك. * ومن أمثلة إرادة الاستهزاء والتهكم: أن تقول لمن تسخر منه: هذا رَئيسُنَا وزعيمُنَا، مع أنّه لا يصلُح إلاَّ أن يكون تابعاً خادماً. إلى غير ذلك من معانٍ لطيفة يمكن أن يُشارَ إليها بالإِضافة. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 الفصل الخامس: التقييد وعَدَمه (1) مقدّمة أصلُ الإِسناد في الجملة يتحقّق بأقلّ ما يُطْلَقُ عليه أنَّه حُكْمٌ بشيءٍ على شيءٍ، كقولنا: "هذه شجرة - سعيد رجل - القَمَر بازغٌ - الشّمْس غائبة". وكلّ زيادةٍ على ذلك ذاتِ دلالةٍ في الجملة تُعتَبَرُ زيادةً في إفادة معنىً أو أكثر، ويَقْصِد البلغاء إلى الإِتيان بها لتنمية الفائدة وتربيتها لدى مُتَلَقّي الكلام. وبعضُ هذه الزيادات في المعاني قد تدلُّ عليها البدائل المختارة للمُسْنَد أو المسنَدَ إليه، كزيادة معنى الحدوث في الزمان الماضي لدى اختيار صيغة الفعل الماضي في المسنَد، وكزِيادة معنىَ الحدوث في الحال أو الاستقبال أو التجدّد لدى اختيار صيغةِ الفعل المضارع في المسند أيضاً، وكزيادة معنى الوصف لدى اختيار اسم الفاعل أو اسم المفعول أو الصفة المشبّهة في المسنَدِ، أو في الْمُسْنَد إليه، أو ما هو في حكم المسند إليه كالمفعول به. وقد سبق في فصل التنكير والتعريف بيان طائفةٍ من أغراض الاختيار من البدائل في الكلام ضمن عناصر الجملة. وهنا في فصل التقييد وعدمه لاحظ البلاغيّون أنّ المتكلّم قد يقصد زيادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 إفادة المتلقّي معاني لا يكفي المسند والمسند إليه للدّلالة عليها، وهي تتعلّق بالمسند أو بالمسند إليه أو بالإِسناد في الجملة. * فمِمَّا يتعلق بالمسند بيان زمن حدوثه أو مكان حدوثه بظرفَيِ الزّمان والمكان، مثل: "جرَى السَّيْلُ يوم الأربعاء في مكة ووصل إلى باب الكعبة". فبيان الزمن قيْدٌ للمسند، وبيان المكان قيد آخر له. * وممّا يتعلّق بالمسنَدِ إليه وصْفُه، أو بيان حاله، أو تأكيدُهُ، أو غير ذلك، مثل: "سَبَقَ الْحِصَانُ الأَدْهَم - حضَرَ عليٌّ راكباً - خَرَجَ طُلاَّبُ المدرسة كُلُّهم". فـ"الأَدْهم" نَعْتٌ للحصان، و"راكباً" حالٌ لعلي، و"كُلُّهُمْ" تأكيدٌ معنويٌّ لطلاب المدرسة، وكلُّها قيودٌ للمسند إليه، والحالٌ منها قَيْدٌ للمسنَدِ أيضاً. * وممّا يتعلّق بالإِسناد تقييده بنحو الشرط، مثل: "إذا أدَّى المخلوق المبتلى المكلَّف كُلَّ الواجبات، وتركَ كُلَّ المحرّمات، دخل الجنة ولم يدخل النار". فالحكم بدخوله الجنة وعدم دخوله النار مشروط بأن يفعل كلّ الواجبات ويترك كلّ المحرّمات، ومن الظاهر أن هذا الشرط هو من قيود النسبة الحكميّة بين المسند والمسند إليه. وبالإِضافة إلى غرض زيادة الفائدة بما يُؤتَى به في الجملة من قيودٍ للمسند أو المسند إليه أو الإِسناد، فقد نبَّهَ البلاغيون على أغراض بلاغيّة تُسْتَفادُ من التقييد بالمقيّدات التي تُسْتَكْمَلُ بها الجملة الكلاميّة، وهي المقيّدات التالية: (1) المفاعيل، وهي: "المفعول به - المفعول فيه - المفعول لأجله - المفعول المطلق ونائبه - المفعول معه". (2) التوابع وهي: "النعت - عطف البيان - التوكيد - البدل - عطف النَّسَق" وهكذا يكون ترتيبُها إذا اجتمعت كما ذكر النحويّون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 (3) ضمير الفصل. (4) الشرط. وفيما يلي شَرْحُ هذه القيود مع بيان بعضِ الأغراض البلاغيّةِ التي قد يَقْصِدُهَا البلغاء منها. *** (2) التقييد بالمفاعيل أوّلاً - المفعول به: المفعول به هو في الحقيقة مُسْنَدٌ إليه على مَعْنَى أنَّه هو الذي وقع عليه فعلُ الفاعل، فهو من القيود التي تبيّن حُدُود المسند. إنّ مثال: "ركب خالدٌ جواداً" يَدُلُّنَا على أنّ العلاقة بين الرُّكوب وخالد، أي النسبة الرَّابطةَ بينهما هي أنّ الرُّكوبَ وقَعَ من خالد، باعتباره فاعل الرُّكوب، وأنّ العلاقة بين الرُّكوب والجواد، أي النسبة الرابطة بينهما هي أنّ الرُّكوبَ وقَعَ على الجواد باعتباره مفعولاً به واقعاً عليه الرُّكوب، فذِكْرُ كلمة "جواداً" في الجملة قد أضاف إليها قيداً، إذْ كانت جملة "رَكِب خالدٌ" جملةً مطلقةً، ذات احتمالات كثيرة، فقد يكون خالدٌ ركب أيَّ مركوب آخر غير الجواد من حيوانٍ أو آلة، كسفينةٍ أو عربةٍ أو نحو ذلك. من هذا يتبيّن لنا أنّ ذكر المفعول به ممّا يفيد الجملة بياناً تقييديّاً، سواءٌ أكان مفعولاً به لفعل ينصبُ مفعولاً واحداً، كالمثال السابق، أم مفعولاً به ثانياً لفعلٍ يَنْصِبُ مفعولين، مثل: "أَلْبَسَ رَباحٌ زوجتَه حُلَّةً" أم مفعولاً به ثالثاً لفعلٍ يَنْصِبُ ثَلاَثَةَ مَفَاعيل، مثل: "أَعْلَمْتُ سَعِيداً القَمَر بَازغاً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 فالمفعول به الأوّل في: "أَلْبَسَ رَبَاحٌ زَوجته حُلَّةَ" أضاف إلى الجملة قيداً، هو أنّ الإِلْبَاسَ من رباحٍ قد كان لزوجته، فهي اللاّبسة له. والمفعول به الثاني أضاف قيداً آخر، هو أنّ الملْبُوسَ كان "حُلَّةً"، أي: لا نعلاً أو حِلْيَةً أوغطاءَ رأْسٍ أو غير ذلك. وفي مثال: "أَعْلَمْتُ سَعيداً الْقَمَرَ بَازِغاً" نقول: إنّ المفعول به الأول وهو "سعيد" أضاف قيداً إلى الجملة، هو أنّ الإِعلام كان منّي لسعيد، وإنّ المفعول به الثاني والمفعول به الثالث قد أضافا قَيْدَيْنِ آخرين في الجملة، أحدهما أنّه حصل بُزُوغ، وثَانيهما أنّ هذا البزوغ هو بزوغ القمر. وظاهرٌ أنَّ التَّقْييدَ بهذه الْقُيود في الكلام ممّا يُفيد تَرْبيةَ الفائدة بزيادة عناصرها لدَى المتلقّي. وتتوارد بعد ذلك أغراضٌ بلاغيّة فوق تربية الفائدة، فقد يُكتَفَى بدلالة القرائن عن ذكر المفعول به، إلاَّ أن دواعِيَ بلاغيَّةً قَدْ تَدْعو إلى ذكره. * كأن يكون المفعول به أمراً غريباً نادراً، ويَقْصدَ البليغُ أَنْ يَقْرَعَ به سَمْعَ المُْتَلقِّي أو نَفْسَه مع أوّل مرحلةٍ مناسبةٍ من مراحل كلامه، ومن الأمثلة على هذا قولُ الخزيمي يَرْثي أبا الْهيْذَام: وَلَو شِئْتُ أَنْ أَبْكِي دَماً لَبَكَيْتُهُ ... عَلَيْهِ وَلَكِنْ سَاحَةُ الصَّبْرِ أَوْسَعُ لقد كان يكفي الشاعِرَ أن يقولَ: ولَوْ شئتُ لَبَكَيْتُ عليه دماً، بحذْفِ مفعول: "شِئْتُ" كان يفكيه أن يقول: ولو شئتُ أن أبكي لبكيْتُ عليه دماً، بحذف مفعول: "أبْكِي" إلاَّ أنَّ المسارعة إلى تعريف المتَلَقِّي بأنّ حُزْنَه على فقده أبَا الهيْذام قد بلغ منه مَبْلَغَ أن يَبْكِيَ عليه دماً جعلَتْهُ يُصرِّحُ بما في نفسه، ويُسارعُ إلى ذكر الدّم عند أوّل مناسبَةٍ سَانِحَةٍ في كلامه. * وَكأن يريد المتكلّم دَفْع تَوَهُّم إرَادة غير المراد، ومن الأمثلة ما صنعتُه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 مثلاً، أن يقول مظلوم حَكَمَ عليه طاغٍ بالقتل ليتخلص من منافسته له: سَتكْسُوني بقَتْلِكَ لِي فَخَاراً ... ومَجْداً مِنْ دِمَاءٍ زَاكِيَاتِ وتَلْبَسُ خِزْيَ عُدْوانِ وَظَلْمٍ ... بِلُبْسِكَ بَاغياً ثَوبَ الطُّغَاةِ وهنا نلاحظ المبادرة إلى إعلان أنّ مَا يُلْبِسُه إيّاه إذا قتله هو الفخار والمجد، لا ما يُتَوَهَّمُ من أنّه سَيُلْبِسُه ذلاً ومهانة. * وقد يأتي التقييد بالمفعول به لكثير من الأغراض البلاغية التي سبق بيانها في دواعي ذكر العنصر الذي يُراد الإِعلام به من عناصر الجملة. *** ثانياً - المفعول فيه: وهو الظرف، ويؤتى به لتقييد وقوع الحدث الذي اشتملت عليه الجملة بزمَنٍ مُعَيّن، أو مكان مُعَيَّن، مثل: "سافرت لَيْلاً - ومَشِيتُ مِيلاً". ومع تربية الفائدة بقيدَي الزمان والمكان فقد يَقْصِد البليغ بهما أغراضاً بلاغيّة تدعو إليها مقتضيات الأحوال، كالتعريض، والمدح، والذمّ، والتلذُّذ بالذكريات، وغير ذلك ممّا يعسُرُ حصره، وتُلاحظ هنا أيضاً دواعي العنصر الذي يُراد الإِعلام به من عناصر الجملة على ما سبق به البيان. *** ثالثاً - المفعول لأجله: وهو المفعول الذي يُبَيِّن علّة الحدَث الذي اشتملت عليه الجملة، أو سبَبَهُ، أو الحكمة منه، أو الغرض منه، أو نحو ذلك. ويؤتَى به لتقييد الحدَثِ ببيان علَّته أو سبَبِه أو الحكمة أو الغرض منه، مثل: "زُرْتُكَ إكراماً لَكَ" أي: لأجل إكرامك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 ويدخل في هذا المفعل ما فيه معنى المفعول لأجله ولو لم يكن منصوباً، وهو المجرور منه بحرف جرّ مفيدٍ للتعليل، ويسمَّى المفعول لأجله غير الصّريح، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/2) : {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق حَذَرَ الموت ... } [الآية: 19] . "من الصَّواعِق" مفعول لأجله غير صريح. "حَذَرَ" مفعول لأجله صريح. ومع تربية الفائدة بقيد المفعول لأجله نقول هنا أيضاً ما سبق أن قلناه في المفعول به، والمفعول فيه، حَوْلَ الأغراض البلاغيّة. *** رابعاً - المفعول المطلق ونائبه: المفعول المطلق: هو مصدرٌ يُذْكَرُ بعْدَ فِعْلٍ من لفظِهِ، لتأكيد معناه، أو لبيان عدده، أو لبيان نوعه، أو يؤتَى به بدلاً من التلفّظِ بفعله. (1) فالمؤكدّ لمعنى فعله، مثل: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} [النساء: 164] . (2) والمبيّن لعدده، مثل: "شَرِبَ شَرْبَتَيْنِ". (3) والمبيّن لنوعه، مثل: {فاصبر صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج: 5] و"بَكَى بُكَاءَ الثَّكْلَى". (4) ومَا يُؤْتَى بِه بدلاً من التلفُّظ بفعله، مثل: "رِفْقاً بالقوارِيرِ". والنائبُ عن المفعول المطلق هو ما يُعْطَى مثل حكمة ولو لمْ يكن مَصْدراً من لفظ فعله، وينوب عنه "اسم المصدر - صفة المصدر - ضميره العائد عليه - مرادفه - مصدر يتلاقى معه في الاشتقاق - ما يَدُلُّ على نوعه - ما يَدُلُّ على عدده - ما يدُلُّ على آلته التي يكون بها - كلمتا "ما" و"أيُّ" - الاستفهاميتَيْن - "ما ومهما وأيُّ" الشرطيات - كلمات "كلّ" و"بعض" و"أيّ الكمالية" مضافات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 إلى المصدر - اسم الإِشارة إذا كان مشاراً به إلى "المصدر" ويرجع إلى أمثلتها في كُتُب النحو. ومع ترْبية الفائدة بالمفعول المطلق ونائبه نقول هنا أيضاً نظير ما سبق أن قلناه في المفاعيل السابقة حوْلَ الأغراض البلاغيّة. *** خامساً - المفعول معه: هو اسم يؤتى به منصوباً بعد واو المعيّة، لإِفادة تقييد الْمُسْنَدِ في الجملة بقيد مصاحبة الاسم المنصوب بعد واو المعيّة للاسم الذي جاء قَبْلها، فهو يفيد فائدة شبيهة بفائدةِ الحال في الجملة، ولاَ يُقْصَدُ إشْرَاكُ ما بَعْدَ واو المعيَّةِ في حُكْمِ مَا قَبْلها، مثل: سِرْتُ والْجَبَلَ، أيْ: سِرْتُ مُصَاحَباً الجبَلَ، مع أَنَّ الْجَبَل لَمْ يشْمَلْهُ حُكْمُ السَّيْر الذي سِرْتُه. ومع تربية الفائدة بالمفعول معه نقول هنا أيضاً نظير ما سبق أن قلناه في المفاعيل السابقة حول الأغراض البلاغية. *** (3) التقييد بالنواسخ النواسخُ هي التي تدخل على الجملة الاسميّة فتنسخ حُكْمَي المبتدأ والخبر، وتعْمَل فيهما عملاً خاصّاً بها وهي أربعة أقسام: القسم الأول: أفعالٌ ترفَعُ المبتدأ على أنَّه اسْمُها، وتَنْصِبُ الخبرَ على أنّه خَبَرُها، وهي الأخوات: "كان - أمسى - أصْبَح - أضْحَى - ظلَّ - بَاتَ - صَارَ - لَيْسَ - ما زال - مَا بَرِحَ - مَا فَتِىءَ - مَا انْفَكَّ - مَا دامَ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 و"كَادَ وأخواتُها" وهي ثلاثة أقسام: (1) أفعال المقابة: وهي: "كاد - كرب - أوشك". (2) أفعال الرجاء: وهي: "عَسَى - حَرَى - أخْلَوْلَقَ". (3) أفعال الشّروع: وهي كثيرة، منها: "أنْشَأَ - طَفِقَ - عَلِقَ - أَخَذَ - هَبَّ - بَدَأ - ابْتَدَأ - جَعَل - قَامَ - انْبَرَى" ومِثْلُها كُلُّ فعل يدلُّ على الابتداء بالعمل ولا يكتَفِي بمرفوعه. ولكلّ فِعْلٍ من الأفعال السابقة "كان وأخواتها" و"كَادَ وأخواتها" أفعال المقاربة وأفعال الرجاء، وأفعال الشروع، معنىً يُقْصَد التعبير عنه في الكلام، فالبليغ يختارُه في كلامه لِيَدُلَّ به على المعنَى الذي يُسْتَفَادُ منْه. ويُرجع إلى كتب النحو واللّغة لمعرفة معاني هذه الأفعال، وطرائق استعمالها وأعمالها. القسم الثاني: أفعال تنصب المبتدأ والخبر على أنّهما مفعولان لها، وهي: قسمان: "أفعال القلوب" و"أفعال التحويل والتصيير": * أمّا أفعال القلوب: فمنها ما يُفيد اليقين وتسمَّى أفعال اليقين، أي الاعتقاد الجازم، وهي: "رَأَى - عَلِمَ - دَرَى - تَعَلَّمْ، فِعْلَ أَمْرٍ بمعنى اعْلم واعْتَقِدْ - وَجَدَ، بمعنى عَلِمَ واعْتَقَد". ومنها أفعال الظنّ، وهي: "ظنّ - خال - حَسِبَ - جَعَل، التي بمعنى ظنَّ أو اعتقد - حَجَا - عَدَّ الّتِي بمعنى ظنّ - زعم - هَبْ، فِعْلَ أمْرٍ بمعنى ظُنَّ". * وأمّا أفعال التحويل والتصيير فهي: "صَيَّر - رَدَّ - تَرَكَ - تَخِذَ - اتَّخَذَ - جَعَل - وَهَب، إذا اسْتُعْمِلَت هذه الأفعال التي بَعْدَ صَيَّر بمعنَى صَيَّرَ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 ويُرجَعُ إلى كُتُب اللُّغة والنحو لمعرفة معاني هذه الأفعال، وكيفيَّة استعمالها وعملها في نصب المبتدأ والخبر. القسم الثالث: حروف مشبهة بالفعل وهي تنصبُ المبتدأ على أنَّه اسْمُها، وترفع الخبر على أنّه خبرها، وهي: "إنَّ - أَنَّ - كَأَنَّ - لَيْتَ - لَعَلَّ - لَكِنَّ - لا النافية للجنس". ويُرْجَعُ إلى كتب النحو لمعرفة معاني هذه الحروف، وكيفيّة استعمالها وعملها، فقد أوفاها النحويُّون بحثاً، ونخص بالبيان هنا "إنَّ - أَنَّ - للتذكير بأنّهما يُفيدان التأكيد في الجملة، إذ إفادة التأكيد ممّا يُهِمُّ البلاغيين التنبيهُ عليه. القسم الرابع: حروف نفي تَعْمَل عَمَلَ "لَيْس" بشُروط ذكرها النحويون، وتؤدّي المعنى الذي تؤدّيه "ليس"، وهي "مَا - لاَ - لاَتَ - إِنْ". هذه هي النواسخ الّتي تدخل على الجملة الاسمية فتنْسخُ حُكْمَي المبتدأ والخبر من جهة الإِعراب، وتعمل فيها عملاً خاصّاً بها كما سبق. وهنا نلاحظ أنَّ إدخال النواسخ على الجملة الاسمية يُرادُ منْهُ إضافةُ معانٍ تدلُّ عليها الأفعال والحروف الناسخة بحسَبِ أوضاعها ودلالاتها اللّغوية، وقد اهتم اللُّغويُّون ثُمَّ النّحويُّون ببيان معاني هذه النواسِخِ، فَعَلى متدبّر النصوص أن يرجع إلى ما دوّنوه من ذلك. أمّا علماء البلاغة فقد وجّهوا اهتماماتهم للدّلات الأخرى، الَّتى لا تَدُلُّ عليها الأوضاع اللّغويّة، ممّا يُفْهَمُ مجازاً، أو من إشارات الكلام وقرائن الألفاظ والأحوال. ولا يخفى على الأديب ذي الحسّ المرهف تَصيُّد الأغراض البلاغيّة والأدبيّة الَّتي يَرْمي إليها البلغاء، ممّا يختارون في استعمالاتهم من هذه النواسخ، فمع تربية الفائدة بما تشتمل عليه من دلالاتٍ تُفْهَمُ من أوضاعها اللّغوية نلاحظ أنّه قد يُشارُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 بها إلى معانٍ بلاغيّة سَبَق بيانُ طائفةٍ منها في دواعي ذكر العنصر الّذي يُرادُ الإِعلام به من عناصر الجملة، ويُمْكِن القِياسُ عليها. فكلمة "لَيْتَ" الَّتي تُسْتَعمل للتَّمنّي قد تستعمل بلاغيّاً في الأمر غير البعيد ولا المتعذّر، للإِشعار مثلاً برفعة منزلة الشخص الذي يُوَجَّهُ لَهُ المطلوب بها، كأن يقول التلميذ الذي يُحِبُّ شيخه ويُعظمه: "لَيْتَكَ تَزُورُني في دَارِي" مع أنّ الشيخ من عادته أن يزور أصْغَرَ تلاميذه. وقد يؤكّد بـ"إنّ" أو "أنّ" لتنزيل المخاطب منزلة المنكر أو الشّاك. وقد يُسْتَعْمل مثلاً فعلُ "أصْبَح" الّذي يدلُّ على الدُّخول في الصباح، أو فعل "أضْحَى" الذي يَدُلُّ على الدخول في وقت الضُّحى، مع أنَّ ما حَصَل قد حَصَل باللّيل، للإِشعار بأنّ السُّرُورَ قد قلَبَ اللَّيْلَ فِي مشاعر النفس نهاراً. وقد يُسْتَعْمَلُ فِعْلُ "أمْسَى" الّذي يَدُلُّ على الدخول في المساء، وفعل "بَات" الّذي يدلُّ على الدُّخولِ في اللّيل، مع أن ما حصل قد حصل بالنهار، للإِشعار بأنّ الْحُزْنَ أو الكرْبَ قد قلَب النهار في مشاعر النفس ليلاً. إلى غير ذلك من أغراض بلاغيّة كثيرة. *** (4) التقييد بالحال قال النحويّون: الحال وصفٌ لصاحِبها قَيْدٌ لعامِلها الذي هو الفعل أو ما في معناه، فمثل: "جاء زيد راكباً" نلاحظ أنّ الرُّكوبَ وَصْفٌ لزيدٍ حَالةَ مجيئه، فمجيءُ زيْدٍ المفهومُ من "جَاءَ زيد" مُقَيَّدٌ بقيدِ رُكوبه، وظاهر أنّ في هذا القيد مزيدَ فائدةٍ يستفيدها متلَقِّي الْكَلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 وقد يُؤتَى بالحال لتوكيد عاملها، مثل "وَلَّى مُدْبراً". أو لتوكيد صاحبها، مثل: "جاء التلاميذ كلُّهم جميعاً". أو لتوكيد مضمون جملة مؤلفة من اسمين معرفتين جامِدَيْن، مثل: "هو الحقُّ بَيِّناً". والتوكيد يعطي مزيد فائدة في الكلام، ومع تربية الفائدة بالحال يمكن الإِشارة بها إلى أغراض بلاغية يَقْصِدُها البلغاء، فمثل قول القائل: "جاء عِليَهُ القوم راكِبين" قد يتضمن الإشارة إلى أنّ الذين لم يأتوا راكبين ليْسُوا من عِلْيَة القوم. ولا يخفى على ذوّاق البلاغة والأدب تصيُّد النكت والأغراض البلاغية من الحال. *** (5) التقييد بالتوابع سبق في مقدّمة هذا الفصل أن عرفنا أن التوابع هي: (1) النعت "= الصفة". (2) عطف البيان. (3) التوكيد. (4) البدل. (5) عطف النسق، وهو العطف بحرف من حروف العطف. وأنّها إذا اجتمعت في جملة واحدة كان ترتيبها وفق هذا الترتيب الذي ذُكرت فيه، كما ذكر علماء النحو. وفيما يلي شرحٌ لهذا التوابع: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 أولاً - النَّعْت "= الصفة": النعت: هو تابع يكمّل متبوعَهُ بدلالة على معنىً فيه، أو فيما له تعلُّقٌ به، مثل: "جاءني رجلٌ كريم" و"رَضِيَ بالدّية الأَبْنَاءُ الْمَقْتُولُ أبُوهم". ما يستفادُ مِن النعت: (1) يؤتى بالنعتِ لإِيضاح الموصوف به إذا كان معرفة، ويسمَّى الوصْفَ الكاشف، مثل: "فَتْحُ الْبَارِي هو تأليفُ ابْنِ حَجر أحمد العسقلاني" و"تُحْفَةُ الْمُحْتاج لشرح المنهاج هو تأليف ابْنِ حجر أحمد الْهَيْتَمِي" فالعسقلانيُ وصْفٌ كاشف مميّز لابن حجر أحمد مؤلف كتاب "فتح الباري في شرح صحيح البخاري" والْهَيْتَمِي وصْفٌ كاشفٌ مُمَيْزٌ لابن حَجر أحمد مؤلف كتاب تحفة المحتاج لشرح المنهاج" في الفقه الشافعي. (2) ويؤتى بالنَّعْتِ أيضاً لتخصيص الموصوف به إذا كان نَكِرةً، أو شبيهاً بالنكرة في شُيوعه، كالمعرّف بـ"أل" الّتي للجنس، مثل: "يرافق المرأة في السَّفر كُلُّ رَجُلٍ مَحْرَمٍ مِنْ مَحَارِمِها" فعبارة "مَحْرَمٍ من مَحَارِمها" وصْفٌ مُخَصِّصٌ لعموم لفظ "رجُل" وجيء بهذا الوصف المخصّص لإِخراج كلّ رَجُلٍ لا يكون مَحْرماً لها. هذا ما ذكره النحويّون، وقد ذكر علماء البلاغة هاتين الفائدتين للنعت، وأضافوا إليهما فوائد أخرى استنبطوها بأذواقهم البلاغيَّة الأدبيّة، وتابعهم في ذلك فريقٌ من النحويّين، وهي ما يلي: (3) تفصيل المنعوت، مثل: "زارني رجلان: فقيه، وطبيب". (4) مدح المنعوت، مثل: "الحمدُ للهِ رَبِّ العالَمِين". (5) ذمّ المنعوت، مثل: "أعوذُ باللهِ من الشيطان الرجيم". (6) التَّرَحُّم، مثل: "لَطَفَ اللهُُ بعبادِه الضُّعَفاءِ". (7) الإِبهام، مثل: "تَصَدَّقْ بصَدَقَةٍ قَلِيلَةٍ أَوْ كثيرة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 (8) التوكيد، مثل: فإِذَا نُفِخَ في الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ"، ومثل: "أَمْسِ الدَّابرُ لَنْ يَعُود" فلفظ "واحدة" ولفظ "الدّابر" كلُّ منهما نَعْتٌ توكيدي، ومنه توكيد إرادة الحقيقة أو إرادة عموم الأفراد، مثل قوه الله تعالى في سورة (الأنعام/6) : {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ... } [الآية: 18] . فَوَصْفُ الطائر بأنّه يطير بجناحيه قد أفاد إرادة الحيوانات التي تطير بأجنحتها دون إرادَة ما يرتفع في الجوّ من غير ذلك كالسُّحُب والأشياء المعنوية غير المرئية، مع إفادة التعيم. *** ثانياً - عطف البيان: عطف البيان تابع شبيه بالصفة في إيضاحه لمتبوعه إذا كان معرفة، وتخصيصه إذا كان نكرة، وهو يفارق النعت بأنّ النعت مشتقٌّ أَوْ مُؤَوّلٌ بمشتق، أمّا عطف البيان فجامدٌ دواماً إذَا كان غير جملة، وقد يكون جملة. ومن عطف البيان ما يقع بعد "أَيْ" أو "أَنْ" التَّفْسِيريتَيْن، أو "إذا" حينما تكون تفسيريّة. أمثلة: (1) "أَقْسَمَ بِاللهِ أَبُو حَفْصٍ عُمَر" فلفظ "عُمَر" عطف بيان جيء به لتوضيح الكنية "أبو حفص" وهو ثاني الخلفاء الراشدين رضي الله عنه، والغرض من هذا التوضيح تمييز هذه الكنية عن مشاركي عُمر بن الخطاب بمثلها. (2) قول الله تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95] فعبارة "طعام" مضافة إلى مساكين عطف بيان جيء بِهِ لتخصيص النكرة الَّتِي هي لفظ "كفّارة" إذ الكفارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 تحتمل أن تكون إطعام مساكين أو غير ذلك، فجاءت عبارة "طعام مساكين" مُخَصَّصة أو مبيّنة للفظ "كفَّارة" المطلق. (3) "رَأْيْتُ غَضَنْفراً، أَيْ: أسَداً" فلفظ "أسداً" عطف بيان جاء تفسيراً لكلمة "غَضَنْفراً" بعد "أي" التفسيريّة. (4) قول الله تعالى في سورة (الأعراف/7) : {ونادى أَصْحَابُ الجنة أَصْحَابَ النار أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً ... } [الآية: 44] . فجملة "قد وَجَدْنا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً" معطوفة عطف بيان جاء تفسيراً للنداء ناداه أصحاب الجنة، بعد "أن" التفسيرية. (5) قول الله عزّ وجلّ في سورة (طه/20) في معرض حكاية قصة آدم: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان قَالَ ياآدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى} [الآية: 120] . فجملة: قالَ يَا آدم هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى" معطوفة عَطْفَ بيانٍ جاء تفسيراً للوسوسة الّتي وسوس بها الشيطان، دُون أن تُسْبَقَ بكلمة "أن" التفسيريّة. (6) يأتي في كُتب اللّغة مثل عبارة: "تَقُولُ: امتَطَيْتُ الْفَرَسَ، إذَا رَكِبْتَهُ" فلفظ "إذا" في مثل هذه العبارة تفسيريَّة، وما بعدها عطف بيان جاء تفسيراً لجملة "امْتطيْتُ الْفَرَسَ". ويمكن أن يُؤْتَى بعطف بيان لبعض الأَغراض البلاغيّة الَّتِي سَبَق بيانُها في النَّعْت، كالمدح، منه قوله تعالى: {جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لِّلنَّاسِ} [المائدة: 97] . وكالإِيضاح والتفسير. ملاحظة حو عطف البيان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 يُلاحَظُ أَنَّ عَطْف البيان يكونُ في اللَّقب بعد الاسم العلم، مثل "جَاءَ عليٌّ زيْنُ العابدين". وفي الاسم العلم بعد الكنية، مثل: "أَقْسَمَ بالله أبو حفصٍ عُمَر". وفي المحلَّى بـ"ال" بعد اسم الإِشارة، مثل: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فيه} [البقرة: 2] . وفي الموصوف بَعْدَ الصِّفَة، مثل: "بعثَ اللهُ الكليمَ مُوسَى إلَى فِرْعَوْن وَمَلَئِه" وَفي التفسير بَعْدَ الْمُفَسَّر، مثل: "الْعَسْجَدُ الذَّهَبُ تَجِبُ فِيه الزَّكاة". *** ثالثاً - التوكيد: التوكيد: تابعٌ يُذْكر تقريراً لمتبوعه، بغيةَ رفع احتمال إرادة المجاز، أو رفع احتمال السَّهْو والغلط، وهو قسمان: القسم الأول: التوكيد اللفظي، ويكون بإعادة اللفظ، أو إعادة مرادفة، سواء أكان اسماً، أم فعلاً، أم حرفاً، أم جملةً، أم شبه جملة. القسم الثاني: التوكيد المعنويّ، ويكون بسبعة ألفاظ، وهي ما يلي: (1) لفظتا "النفس - العين" ويؤكّد بهما لرفع المجاز عن الذّات. * ففي المفرد نقول مثلاً: "جاء الأمير نَفْسُه، أو عَيْنُه" أي: لا نائبة، ولا رسولُ من قبله يمثّله. * وفي المثنى نقول مثلاً: "حضر الْمَلِكَانِ أَنْفُسُهما، أو أَعْيُنُهما" بالجمع، وهو الأفصح، ويجوز نفاسهما، أو عيانهما بالمثنى. * وفي الجمع نقول مثلاً: "حضر الرُّؤسَاءُ أنْفُسُهُمْ، أو أَعْيُنُهم". (2) لفظة "كِلاَ" ويؤكّد بها المثنَّى من المذكّر، لرفع احتمال إرادة المجاز بأنّ الحاضر أحدهما وقد أغنى حضوره عن الآخر، فنقول مثلاً: "حضر الصديقان كلاهما" و"رَكِبْتُ الْحِصَانَيْنِ السّابِقَيْنِ كِلَيْهِما". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 (3) لفظة "كِلْتَا" ويؤكّد بها المثنَّى مِن المؤنَّثَاتِ، مثل: "امرأةُ نوحٍ وامرأةُ لُوطٍ كافِرَتَانِ كِلْتَاهُمَا" و"دَخَلْتُ الحديقَةَ فوجدت فيها شجرتي تُوتٍ فَأَكَلْتُ مِنْهُما كِلْتَيْهِمَا". (4) ألفاظ "كُلّ - جميع - عامّة" ويؤكَّدُ بهَا الجمع من المذكر والمؤنث، فنقول مثلاً: الصَّالحُونَ كُلُّهُمْ، أو جميعهم، أو عامَّتُهم، يدخلون الجنّة يوم الدين" و"الصالحات كُلُّهُنَّ، أو جميعُهُنّ، أو عامَّتُهُنَّ، يدخُلْنَ الجنَّةَ يَوْمَ الدّين". وَيُؤكّد بهذه الألفاظ لرفع احتمال إرادة الأغلب أو البعض، لأنّ لفظتَي الصّالِحينَ والصّالحاتِ يمكن إرادة عدم العموم فيهما، باعتبار احتمال أن تكون "أل" جنسيّةً أوْ عَهْدِيَّةً وليست استغراقية. وقد يُرَادُ تَقْوِيَةُ التوكيد فيؤتَى بكلمة "أَجْمَعْ" بعد كلمة "كُلّ" في المذكر، وبكلمَةِ "جَمْعَاء" بعد كلمة "كُلّ" في المؤنث، فنقول مثلاً: "جاء الجيشُ كُلُّه أَجْمَع" و"جاءت القبيلة كُلُّهَا جَمْعَاء" و"حضر الرُّؤسَاءُ كُلُّهُمْ أجْمَعُونَ". ويُؤتَى بكلمة "جُمَع" بعد كلمة "كُلّهن" فتقول: "حَضَرَ النّسَاءُ كُلُّهُنَّ جُمَعُ". وقَدْ يُؤَكَّدُ بألْفَاظ "أَجْمَع، وجَمْعَاء، وأَجمَعِينَ، وَجُمَع" وإنْ لم يَتَقَدَّمْهَا التَّوكيد بلفظة "كُلّ" ولا يجوز تثنية "أجمع" ولا "جمعاء". قال أبو الهيثم الرّازي: "العربُ تؤكّد الكلمة بأرْبعة تواكيد، فتقول: مَرَرْتُ بالْقَوْمِ أجْمَعِينَ أَكْتَعِينَ أَبْصَعِينَ أَبْتَعِينَ". وتقول في جمع النِّسْوة: "رَأيْتُ النِّسْوَةَ جُمَعَ بُصَعَ". الأغراض البلاغية: قد يُؤتَى بالتوكيد لأغراضٍ بلاغيةٍ غير ما سبَقَ بيانُهُ، كالرَّدّ على اعتقاد غير صحيح، وادّعاءٍ باطل، والتعريض بغباوة المخاطب، وتنزيل المخاطب منزلة منكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 ما دَلَّ عليه التوكيد، والافتخار، والمدح، والذّمّ، والترحُّم، والتشنيع، والإِشعار بهَوْل الحدث وفظاعته، إلى غير ذلك من أغراض يُلْمِحُ إليها البليغ إلماحاً بأسلوب التوكيد. *** رابعاً - البدل: البدل: تابعٌ هو المقصود بالحكم في الكلام، ويؤتَى به بَعْدَ المبْدَلِ منه بدون وساطة عاطفٍ بينهما. أمّا المبْدَلُ منه: فإمّا أن يكون قَدْ ذُكر توطئة وتمهيداً للبدَل، فيأتي البدل بمثابة التفسير بعد الإِبهام، أو التخصيص، أو التوضيح للمراد، وإمَّا أن يكون قد ذُكر على سبيل الخطأ فيأتي البدلُ على سبيل التدارك لتصحيح ما يُرادُ بيانُه. والبدلُ أربعةُ أقسام: القسم الأول: بدَلُ الكُلِّ من الكُلِّ، ويُسمَّى الْبَدَلَ المطابق، وهو بدل الشيء ممّا يطابق معناه، مثل قوله تعالى في سورة (الفاتحة) : {اهدنا الصراط المستقيم * صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} [الآيات: 6 - 7] . القسم الثاني: بَدَلُ البَعْضٍ من الكُلِّ، أَوْ بَدَلُ الجزء من كُلِّه، وهو بمثابة التصريح بالباقي بَعْدَ الاستثناء، مثل: "أكلتُ الرَّغيفَ ثُلُثَيْه، أو نِصْفَه، أو ثُلُثَه". القسم الثالث: بَدلُ الاشتمال، وهو بدلُ الشَيْءِ ممّا يَشْتَمِل عليه بوجه عامّ دون أن يكون جزءاً منه، مثل: أدْهَشَنِي مالِكُ بنُ أنس وَقَارُهُ وسَمْتُه، وأَبُو حَنيفة رأيهُ وعُمْقُ تفكيره، والشافعيُ عبقريَّتُه في الاستنباط من النصوص، والإِمامُ أحْمَدُ حِفْظُهُ ووَرَعُه". القسم الرابع: البَدلُ المباين، وهو ثلاثة أقسام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 (1) بدل الغلط، ويأتي تداركاً لشيءٍ غير صحيح ولا مراد، لكن سبَق إليه الفكر أو اللّسان على سبيل الغلط. (2) بدل النيسان، ويأتي تصحيحاً لأمر قُصِدَ أوّلاً، ثُمَّ ظهر للمتكلّم أنَّه قد كان ناسياً. (3) وبدلُ الإضراب عن المبْدَلِ منه، ويأتي تداركاً لما يرادُ التعبير عنه، مع صحّة إرادة الْمُبْدَلِ منه، لكن المتكلّم أضربَ عنه صارفاً النظر عن الاهتمام به، أو موجّهاً النظر بعنايةٍ إلى الْبَدَل. أمّا كَوْنُ البدل من القيود في الجملة فيظْهَرُ في بعض أقسامه بلا إشكال، أمّا قسم البدل المباين فإدْخاله في عموم القيود هو على سبيل التسمُّح، وعلى معنى أن البدل صحَّح ما سَبَق في البيان بقيْدٍ لفظيّ مُلْغٍ لَهُ على سبيل الإِبدال. الفوائد البلاغية: وتظهر فوائد بلاغية في الأقسام الثلاثة الأولى للبدل: * منها التفسير والتوضيح بعد الإِجمال، أو الإِبهام أو التعميم، لتثبيت المعنى في نفس المتلَقّي، وهذا يظهر في بدل الكُلّ من الكُلّ. * ومنها الإِشعار بأنّ البعض قد تبلُغُ أهميَّتُه حتّى يكون هو بمثابة الكلّ، فجاء التعبير بالكُلّ أوّلاً، ثُمَّ أُبدلَ منه بعضُه، وهذا يظهر في بدل البعض من الكُلّ. * ومنها تثبيت الأصل أوّلاً اهتماماً به، ثمّ التوجيه للمقصود بالبيان، فتتحقَّق بذلك فائدتان، وهذا يظهر في بدل الاشتمال. * ومنها زيادة التقرير بالتفسير والتوضيح، أو بالتكرير المؤكّد. * وقد تظهر فوائد بلاغيّة في بدل الغلط، وذلك حينما يكون التوجيه غير الصحيح أوّلاً مقصوداً، ثمّ يأتي بعده التصحيح التداركيّ للإِيهام بأنّ الفكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 أو اللّسان لم يُخْطِىء إلاَّ وفي النَّفْسِ عوامل تدعو إلى هذا الغلط، إذْ من المعروف أنَّ فلتات اللّسان قد تدلُّ على ما في الجنان. * وقد يُقْصَدُ بالبدل التركيزُ على مواطن المدح أو الذّمّ، أو ماله الأهميَّةُ سواءٌ عند المتكلّم أو المخاطَب. إلى غير ذلك من فوائد. *** خامساً - عطفُ النسق: عطْفُ النَّسق: تابعٌ يتوسَّطُ بينه وبين متبوعه واحدٌ من حروف العطف، وهي: "الواو - الفاء - ثُمَّ - حتَّى - أَمْ - لَكِنْ - بَلْ - لاَ يَكُونُ - ليس". ولِكُلّ وا حد من حروف العطف هذه دلالة تُستفادُ في الكلام، بسطها علماء النحو، والمتكلّم البليغ يتحرّى أن يختار منها في كلامه حين يريد العطفَ ما يلائم منها المعنى الذي يريد إعلام المتلَقِّي به. ومن الظاهر أنّه يتحقَّق بالعطف مزيد فائدة يستفيدها مُتَلَقِّي الكلام. الفوائد البلاغية: لِلْبلاغيين نظراتٌ فوق الأوضاع اللّغويّة للدلالة التي تُستفادُ بالعطف وحروفه، ومنها ما يلي: (1) التفصيل مع الاختصار. فقولنا: "جاء مُحمَّد وعلي - جاء محمد فعلي - جاء مُحَمَّد ثُمّ علي" أخصر من أن نقول: جاء محمد جاء علي، وهكذا، وهذا من أصل فوائد العطف، والبليغ يهتمّ بالإِيجاز. (2) إراد التشكيك بحرف العطف "أو". (3) تجاهل العارف بحرف العطف "أو". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 (4) بعض الأغراض التي تستفاد ببدل الإِضراب، باستخدام "بل". (5) إراد الترتيب في الرتبة أو في الذكر على سبيل المجاز، باستخدام "الفاء" التي تفيد الترتيب مع التعقيب، أو باستخدام "ثُمَّ" الَّتِي تفيد الترتيب مع التراخي. إلى غير ذلك من فوائد بلاغيّة يمكن استنباطُها من النصوص، أو تصيُّدها عند الأحوال المقتضية لها. *** (6) التقييد بضمير الفصل ضمير الفصل هو ضمير منفصل من ضمائر الرفع، يُؤتَى به لغرض الفصل بين ما هو خبر وما هو تابع. ويقع فصلاً بين المبتدأ والخبر، مثل: المتنبي هو شاعر العربيَّة المبدع". ويقع فصلاً بين ما أصله مبتدأ وخبر ممّا دخل عليه أحَدُ النواسِخِ، مثل: "إنْ كَانَ هذا هو الحق - وكُنْتَ أَنْتَ الرّقيبَ عليهم - وكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثينَ - تَجِدُوهُ عند اللهِ هُوَ خيراً". الفوائد البلاغية: يستفاد من ضمير الفصل فوائد بلاغية متعدّدة، منها ما يلي: (1) التخصيص، بقصر المسند على المسند إليه، مثل قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التوبة/9) : {أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} [الآية: 104] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 (2) تأكيد التخصيص، إذا كان في الجملة مُخَصِّصٌ آخر، كما في المثال الثاني من الآية السابقة، وكما هو قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الذاريات/51) : {إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين} [الآية: 58] . فالتخصيص مستفاد من تعريف طرفي الإِسناد، وجاء ضمير الفصل مؤكّداً له. (3) تمييز الخبر عن الصفة، مثل قولنا: "الْفَصِيحُ هو مُوضِح البيان طَلْقُ اللِّسَان". إلى غير ذلك من أغراض بلاغية يمكن استنباطها أو تصيُّدها. *** (7) التقييد بالشرط يدخل الشرط على الجملة لربط الحكم فيها بحكم آخرَ في جملة أخرى ربطاً شرطيَّاً، فتكون الجملتان بمثابة جملة واحدة، وتُسمّى عندئذٍ جملة شرطيّة. ويلاحظ في الجملة الشرطية أنّ الشرطَ فيها قَيْدٌ للحكم في الجملة التي هي جواب الشرط، ففي قولنا: "من آمَنَ وعَمِل صالحاً دخَلَ الجنة" نلاحظ أنّ تحقُّق الإِيمان والعمل الصالح المبيّن في الجملة الأولى قَدْ جُعِل في الكلام شرطاً لتحقُّق دخول الجنة في الجملة الثانية، والأداةُ الرّابطة بين الجملتين هنا كلمة "مَنْ" الشرطيّة. وأدوات الشرط قسمان: أدوات عاملة فيما بعدها، وأدواتٌ غير عاملة. * أمّا الأدوات العاملة: فهي التي تجزم فعلين أوّلُهما فعل الشرط والثاني جوابه وجزاؤه، وهي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 (1) "إن - إذْمَا" وهما حرفان. (2) "مَنْ - مَا - متَى - أَيْنَ - أيْنَما - أَيَّانَ - أَنَّى - حَيْثُما - كَيْفَمَا - مَهْمَا - أيُّ" وهي أسماء. * وأمّا الأدوات غير العاملة، فهي: "لَوْ - لَوْلاَ - لَوْمَا - أَمَّا - لَمَّا" وهي حروف، و"إذا" هي اسم ظرف لما يستقبل من الزمن. وقد فصّل اللّغويون والنحاة معاني أدوات الشرط العاملة وغير العاملة، والفصيح البليغ يتحرَّى استعمالها فيما وُضِعَتْ له، وضمن المعاني الّتي استَعْمَلَها العربُ الفصحاء فيها. ونَبَّه علماءُ البلاغة على مواقع استعمال بعض أدوات الشرط السّابِق ذكرُها، إذْ لاحظوا أنّ بَعْضَ شارحي النصوص البليغة ومُفَسِّريها لَمْ يكْشِفُوا فروق دَلالات هذه الأدوات، مكْتَفِينَ بدلالاتِها الشرطيّة العامّة، كما أنّ بعض الكتَّاب والشُّعراء يَغْلَطُونَ فيضَعُونَ بعضَ هذه الأدواتِ في المواقع التي لا يحْسُنُ وضْعُها فيها. وقد أَبَان البلاغيّون الفرق بين أداة الشرط "إنْ" وأداة الشَّرْط "إذا" فرأوا من تتبُّع النُّصُوصِ الرَّفيعة أنّ حرف الشرط "إنْ" يُسْتَعْمَلُ غالباً فيما يَرى المتكلّم أنّ ما جُعِلَ شرطاً وهو ما دلَّتْ عليه جملة الشرط أمْرٌ مشكوكٌ في وقوعه مستقْبلاً، أو هو نادر الوقوع. وأنّ اسم الشرط "إذا" يُسْتَعْمَلُ غالباً فيما يَرى المتكلم أنَّ ما جُعِلَ شرطاً وهو ما دلّتْ عليه جملة الشرط أمْرٌ مُتَحقِّق الوقوع، أو هو مَرْجُوّ الوقوع. فالبليغ مطلوبٌ منه، أن يستَعْمِلَ كُلاًّ من "إنْ" و"إذا" فيما هو الغالبُ من استعماله، ليشير في كلامه بكلمة "إنْ" الشرطيَّة إلى الشَّكِّ في وقوع الشرط أو ندرته، وليشير في كلامه بكلمة "إذا" إلى تَحَقُّقِ الشرط مستقبلاً، أو إلى رجاء تحقُّقه. على أنّ كلمة الشرط "إنْ" باعتبارها أمّ أدوات الشرط قَدْ يقتضي الكلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 استعمالها في غير المشكوك فيه أو النادر، ولا سيما حينما يتردَّدُ الشرط بين احتمالين أو احتمالات متعدّدات، مثل أن نقول: "إن استوفى المصلي المطلوبَ منه وجوباً صحَّتْ صَلاتُه، وإنْ لم يستوف المطلوبَ منه وجوباً لم تَصِحَّ صلاتُه" فلفظ "إنْ" في هذا المثال وأشباهه لا يشير إلى أنّ الشرط مشكوكٌ في تحقُّقِهِ أو نادر. وللبلغاء ذوقٌ دَرّاكٌ للمواطن التي يَحْسُنُ فيها استعمال "إنْ" الشرطية، وللمواطن التي يَحْسُنُ فيها استعمال "إذَا". ومن الأَمثلة التي جاء فيها استعمال كلٍّ من "إذا" و"إنْ" الشرطيتَيْنِ في مكانه المناسب تماماً، قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأعراف/7) : يقصُّ قصّة موسَى عليه السّلام وآل فرعون: {وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين وَنَقْصٍ مِّن الثمرات لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هاذه وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ ألا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله ولاكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الآيات: 130 - 131] . إنّ مَجْرَى إمْدَادِ اللهِ الناسَ بالحسنات في الحياة الدُّنيا أَمْرٌ مُتَحَقِّقٌ وَهُوَ القاعِدَةُ الأَغْلَبِيَّة، ولو كانوا كفَّاراً مُجْرمين، لذلك جَاءَ استعمال كلمة "إذَا" داخلةً على شرط مجيء الحسنة لآلِ فرعون، أمَّا الإِصَابَةُ بالسَّيِّئَة فأمْرٌ نادرٌ وقليلٌ بالنسبَة إلى تواتر الحسنات، وتأتي للتذكيرِ، والتَّنْبِيه على عقوبات الله الكبرى التي جاء بها الوعيد الرَّباني، لذلك جاء استعمال كلمة "إنْ" داخلة على شرط الإِصابة بالسيّئة. قال الزمخشري في الكشاف: "وللْجَهْلِ بمواقع (إنْ) و (إذا) يَزِيع كثير من الخاصَّة عن الصواب فيَغْلَطُونَ، ألاَّ ترى إلى (عبد الرحمن بن حسَّان) كيف أخطأ بهما الموقع في قوله يخاطِبُ بعض الولاة وقد سأله حاجَةً فلم يقضها، ثُمَّ شُفِعَ لَهُ فيها فقضاها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 أَبَى لَكَ كَسْبَ الْحَمْدِ رَأَيٌ مُقَصِّرٌ ... ونَفْسٌ أَضَاقَ اللهُ بالْخَيْرِ بَاعَهَا إذا هِيَ حَثَّتْهُ عَلَى الخير مَرَّةً ... عَصَاهَا وإنْ هَمَّتْ بِشَرٍّ أَطَاعَها ولو عكس في استعمال الأداتين لأصابَ الغرض". أي: لو قال: فإن هي حثته ... وإذا همت بشرٍّ ... * وذكر البلاغيّون أنّ كُلاًّ من حَرْفِي "إنْ" و"إذا" الشرطيَّيْن قد يستعمل في موضع الآخر لأغراض بلاغيّة، منها: (1) تجاهل العارف، كأن يقول المتعذر عن أمْرٍ لا يليق به: "إنْ كنتُ فَعَلْتُ هذا الأَمْرَ فأرجو العفو والمسامحة" وهو يعلم من نفسه أنّه فعله، وكأن يقول المغاضب لصاحبه: "إنْ طرقْتُ بابَكَ بَعْدَ اليْوم فلا تَفْتَحْ لي" وهو يعلم من نفسه أنّه لا يصْبر على هجره. وكأنْ يقول مُدَّعِي ما ليْسَ له: "إِذَا كَانَ هذا حَقِّي فَلا بُدَّ أنْ أصل إليه" وهو يعمل أنّه لا حقّ له به. (2) تنزيل المخاطب منزلة مُنْكر الحقيقة، كأن يقول الأب لابنه الخارج عن واجب البرِّ: "إنْ كنْتَ ابْنِي حَقَّاً فَلا تَعْصِنِي". (3) تنزيلُ الشَّاكّ منزلةَ غير الشاكّ، للإِشعار بأنّ وضوح الأدلة يقتضي عدم وجود الشّك أَصْلاً، كأن يقول المؤمن الذي يناظِرُ غير المؤمن حول قضايا الإِيمان الكبرى: "إِذَا كنْتَ تُسَلّم بالبراهين العقلية الدَّامِغة فلا بُدَّ أن تُؤْمِنَ باللهِ واليوم الآخر وَالقرآن وخاتم المرسلين محمد بن عبد الله وما جاء به عن ربّه". (4) تغليب واقع حال العدد الأكثر من المخاطبين على العدد الأقل، وقد يُحْمَلُ على هذا قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/2) خطاباً للجاحدين من المشركين بأن القرآن مُنَزَّل مِنْ عند الله عزَّ وجلَّ: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ... } [الآية: 23] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 أَفْهَمَ اسْتِعْمالُ "إنْ" في هذا النَّصّ أنّ العدد الأكثر من المشركين لم يكونوا شاكّين في أنَّ القرآن كلامٌ مُنَزَّل من عند الله، إنما كانوا جاحدين معاندين، والمعنى أن احتمال وجود الشّكّ في القرآن عندكم أمْرٌ قليلٌ ونادِرٌ، فأكثركُمْ معاندون. والأصل أن يكون فعل الشرط مع أدَائَيْ "إنْ" و"إِذَا" فِعْلاً مضارعاً، وقد يأتي فعلاً ماضياً لفظاً، إلاَّ أنّ معناه بأداة الشرط انقلب إلى الاستقبال، والبليغ حين يستعمل فعل الشرط ماضياً مع "إنْ" أو "إذا" يُلاحظ غرضاً بلاغيَّاً، ومن هذه الأغراض: (1) الإِشعار بتحقُّقِ الوقوع فكأنه أمْرٌ تَمَّ وُقُوعُهُ، مثل: {إِذَا وَقَعَتِ الواقعة} [الواقعة: 1] ، {إِذَا السمآء انشقت} [الإنشقاق: 1] ، {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1] . (2) التفاؤل بتحقُّق الوقُوع، مثل قول الفقير المعدم: "إذا رزقني اللهُ مالاً وفيراً اشتريت داراً واسعة جميلة وأدّيت فريضة الحجّ". (3) إظهار الرغبة في تحقُّق الوقوع، مثل قول التاجر الطامع بشراء صفقة تجاريّة رابحة: "إذا تَمَّتْ هذِهِ الصَّفْقَةُ التِّجَاريَّة حصَلَ لنا منها رِبْحٌ وفير". (4) التعريض، مثل أن يقول الباحث عن زوجة مناسبة أمام من يرغب أن يتزوَّجَها، إِذَا وَجَدْتُ الجميلة الذكيّة العاقلة ذات الخلُق والدِّين فإنّي أُحِبُّ الزّواج مِنْها إِذَا وَافَقَتْ هِي وأهْلُها. إلى غير ذلك من أغراض. على أن حرف الشرط "إنْ" قد يُسْتعمل في غير الاستقبال لفظاً ومعنىً، قياساً مُطَّرِداً في موضعين: الموضع الأول: أن يأتي فعل الشرط لفظ "كان". الموضع الثاني: أن يأتي حرف "إنْ" في مقام التأكيد بعد واو الحال لمجرّد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 الربط دون إرادة الشرط منه، مثل أن يقول المحبّ لحبيبه: "سأزورُكَ وَإِنْ هَجَرْتَنِي، وأكْرِمُكَ وإِنْ أَهَنْتَنِي، وأحْبَبْتُكَ وإِنْ جَفَوْتَنِي، وذَكَرْتُكَ وإِنْ نَسِيتَنِي". * أمّا "لو" الشرطيّة فهي على قسمين: الأول: أنْ تكون للتعليق في المستقبل، وعندئذ تكون مرادفة "إنْ" الشرطيّة، وإذا وَلِيَها فعل "ماضٍ" كان معناه على الاستقبال، وقد يدعو إلى ذلك غرض بلاغي، وهو جعل الأمر المستقبل بمثابة الأمر الماضي، ومن فوائد ذلك التحذير والتخويف، كما في قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النساء/4) : {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [النساء: 9] . أي: إنّ من المتوقَّعِ أنْ يتْرُكَ الَّذِينَ لاَ يتَّقُونَ اللهَ فِي ذُرِّياتِ غيرهم ذُريّاتٍ لهم يخافون عليهم من ظلم من يتولَّى أمورهم بَعْدَهم. الثاني: أنْ تكون "لو" للتعليق في الماضي، وهو أكثر استعمالاتها، وتقتضي عندئذٍ لزوم امتناع جوابها لامتناع شرطها إن لم يكن لجوابها سبَبٌ آخر غير الشرط، مثل قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الفرقان/25) : {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً} [الآية: 51] . أي: لم نشأ ذلك فلم نَبْعَثْ، لأنّ الحكمة اقتضت أن نبعث رسولاً واحداً في آخر الزَّمان خاتماً للمرسلين، ورسولاً لجميع العاملين. وحين تكون "لو" للتعليق في الماضي فالأصل أن يكون كلٌّ من فِعْلَي الشرط وجوابِه فِعلاً مَاضياً، وقد يَسْتَعْمِلُ البليغ الفعل المضارع لغرض بلاغي، ومن الأغراض البلاغيّة في هذا الاستعمال ما يلي: الغرض الأول: قصد الاستمرار في الماضي حيناً فحيناً، مثل قول الله عزَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 وجلَّ في سورة (الحجرات/49) خِطَاباً للمؤمنين في عصر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ ... } [الآية: 7] . الْعَنَت: المشقة، والتعب، وشدّة الضّرر، والفساد. أي: لو تابع طاعتكم في كثير من الأمور الَّتي تقدّمون فيها آراءً خاصَّةً لوقعتم في العنت، وهذا المعنى يُفْهَمُ من الفعل المضارع الذي يدلُّ على التجَّدُّد في المستقبل، فَقُلِبَ معنى زمانه إلى المضي بحرف "لَوْ" وبقي فيه معنى التجدّد. الغرض الثاني: تصوير ما سيحدث بصورة الأمر الذي وقَعَ وحدث، فيُؤْتَى بالفعل المضارع للإِشعار بأنَّه أمْرٌ من أُمُورِ المستقبل المتحقِّقَةِ الوقوع، ولمَّا كانت "لو" هذه للتعليق في الماضي كان اجتماع الأمرين بمثابة الإِعلام بأنّ ما نقولهُ من أمْرِ المستقبل هو بقوّة ما وقع وتحقَّقَ فِعلاً، ولهذا أمثلة كثيرة في القرآن، منها قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (السجدة/32) : {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [الآية: 12] . وُضِع الفعل المضارع "تَرَى" والأصل - دُون ملاحظة الغرض البلاغي - أن يُقَال: ولَوْ رَأَيت. لكن الفعل المضارع أدّى معنى دقيقاً لا يؤدّيه الفعل الماضي هنا. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 الفصل السادس: الخروج عن مقتضى الظاهر مقدمة درس علماء البلاغة ضمن تتبُّعِهم لموضوعات علم المعاني ظاهرةَ الخروج عن مقتضى الظاهر في الكلام البليغ، لداعٍ من الدواعي البلاغيّة ذات التأثير في النفوس والأفكار، لما فيها من عناصر فَنّيَّةٍ إبداعيّة تتضمَّن دلالاتٍ فكرية، أو تعبيراتٍ جماليّة، أو إلماحات ذكيّة. وظهر لهم من التتبُّع الأنواع التسعة التالية: النوع الأوَّل: الالتفات. النوع الثاني: أسلوبُ الحكيم. النوع الثالث: الإِضمار في مقام الإِظهار، والإِظهار في مقام الإِضمار. النوع الرابع: التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي. النوع الخامس: التغليب. النوع السادس: وضع الخبر موضع الإِنشاء ووضع الإِنشاء موضع الخبر. النوع السابع: الانتقال من الماضي إلى المضارع وبالعكس. النوع الثامن: تجاهُل العارف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 النوع التاسع: القلبُ بإجراء التبادل بين جزئَيْنِ يُمْكن إجراء التبادل بينهما من أجزاء الجملة. وفيما يلي شرح لهذه الأنواع الّتي يلاحظ فيها خروجٌ في الكلام البليغ عن مقتضى الظاهر لداعٍ بلاغيّ حسُنَ بسببه هذا الخروج بلاغياً وأدبيّاً. *** (1) النوع الأول الالتفات تعريف الالتفات: الالتفات: هو في اللّغة تحويل الوجه عن أصل وضعه الطبيعيّ إلى وضْعٍ آخر. وفي اصطلاح البلاغيين هو التحويل في التعبير الكلاميّ من اتجاه إلى آخر من جهات أو طرق الكلام الثلاث: "التكلّم - والخطاب - والغيبة" مع أنّ الظاهر في متابعة الكلام يقتضي الاستمرار على ملازمة التعبير وفق الطريقة المختارة أوّلاً دون التحوّل عنها. وأضاف السَّكّاكيّ إلى ما اشتمل عليه هذا التعريف التعبيرَ ابتداءً بواحدة من هذه الطُّرُقِ إذا كان على خلاف مقتضى الظاهر، كأنْ يتحدّث المتكلِّم عن نفسه بأسلوب الخطاب الذي يخاطب به غيره، أو يتحدَّث مع من يخاطبه بأسلوب التكلّم عن الغائب، أو يتحدّث عن نفسه بأسلوب الحديث عن الغائب، أو يتحدّث عن الغائب بأسلوب الخطاب، وهكذا. ومنه وفق رأي السّكّاكي قول البوصيري في بردته يخاطبُ نفسه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 أَمِنْ تَذَكُّرِ جِيرَانٍ بِذِي سَلَمِ ... مَزَجْتَ دَمْعاً جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ ومنه حديث الله عزّ وجلَّ عن نفسه بأسلوب الحديث عن الغائب في القرآن المجيد: مثل قول الله عزّ وجلَّ في سورة (البقرة/2) : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الآية: 30] . ومنه خطاب الله رسوله بقوله: {عَبَسَ وتولى * أَن جَآءَهُ الأعمى} [عبس: 1-2] . وكان مقتضى الظاهر أن يقول: "وإذْ قُلتُ لِلْمِلاَئِكَة ... " وأن يقول لرسولِهِ: "عَبَسْتَ وتولَّيْتَ أن جَاءَكَ الأعمى". ويُلَقّبُ الالتِفاتُ بشجاعة العربيّة، على معنى أنَّ الْبُلَغَاء مِنْ ناطقي العربية كانت لديهم شجاعةٌ أدبيَّةٌ بيانيّة استطاعوا بها أن يفاجئوا المتلقّي بالتَّنقُّل بَيْن طُرُقِ الكلام الثلاثة "التكلُّم - والخطاب - والْغَيْبة" مشيرين بذلك إلى أغراضٍ بلاغيَّة يريدون التنبيه عليها بذلك. والالتفات من الأساليب البلاغيَّةِ ذَاتِ اللَّطَائف النفيسة، وقد تكرّر في القرآن المجيد استخدامه جداً، وله فيه أمثلة كثيرة. وهو فنٌّ بديعٌّ من فنون القول يُشْبِهُهُ تحريكٌ آلات التصوير السينمائي بنقلها من مشهد إلى مشهد آخر في المختلفات والمتباعدات الّتي يُرادُ عَرْضُ صُوَرٍ مِنْها، ومفاجأة الْمُشَاهِدِ بلَقَطاتٍ مِنْها متباعدات، ولكنَّها تدخُلُ في الإِطار الْكُلّي الذي يُراد عرض طائفةٍ من مشاهده تدلُّ على ما يُقْصد الإِعلام به. ويَهْدِي الذوقُ الأدبيُّ السليم إلى استخدام الالتفات استخداماً بارعاً يُحَقِّق به البليغ فوائد في نفس المتَلَقِّي أو فكره، مع ما يُحِقِّق به من الاقتصاد والإِيجاز في العبارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 فلننظر إلى الالتفات البديع الموجود في النصّ القرآنيّ التالي: بينما يتحدّث النّصّ عن بني إسرائيل الأوّلين ما فعلُو من كبائِرَ بأسلوب الحديث عن الغائب، يلتفت النّصّ فيخاطب بني إسرائيل المعاصرين لنزول القرآن فمن يأتي بعدهم كأنَّهم الأوّلون أنفسُهم، للإِشعار بأنّ هؤلاء الْخُلُوف ما زالوا يتّصفون بأوصاف الأوّلين، لم يغيّروا منها شيئاً، فهم مَعْنِيُّون بعموم الخطاب، فقال الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/7 مصحف/ 39 نزول) : {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب يَأْخُذُونَ عَرَضَ هاذا الأدنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الكتاب أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ والدار الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الآية: 169] . فالالتفاتُ في: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} خطاباً لبني إسرائيل المعاصرين لنزول النصّ فمن بعدهم فيه فائدتان: الأولى: فنيّيّةُ التنويع في العبارة المثيرة لانْتِباه المتلَقِّي، والباعثة لنشاطه في استقبال ما يُوَجَّه له، والإِصْغَاءِ إلَيْه. الثانية: الاقتصاد والإِيجاز في التعبير، فبدل أن يقول النصُّ لمعاصري التنزيل الكافرين من بني إسرائيل فمن بَعْدَهم: وأنتم يا بني إسرائيل ما زِلْتُم على طريقة أسْلاَفِكُمْ، أَفَلاَ تَعْقِلُونَ؟. اقْتَصَرَ النّصُّ على: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} مُسْتَغْنِياً بأُسْلُوبِ الالْتفاتِ، للدلالة على ما يُمْكِن فَهْمُه ذِهْناً، إذْ اعتَبَرَهُمُ النَّصُّ داخِلِين في عُمُوم خطاب الغائبين السّالِفين، إذْ هم موافقون على ما كانوا يفعلون، أو يفعلون مثلهم. ونظيره الالتفات البديع في قوله الله عزّ وجلّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) : {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب ... } [الآية: 179] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 ففي هذه الآية تحقَّقَتِ الفائدتانِ أيضاً: الأولى: فَنّيَّةُ التَّنْوِيع في أسلوب الكلام. الثانية: الإِيجاز في العبارة. وبسط الكلام يكونُ كما يلي: مَا كان الله ليذر المؤمنين على ما هم عليه من الدَّعَة والأمن والرَّخاء، وأنتم من المؤمنين، فما كان الله ليَذَرِكُمْ على ما أنْتُم عليه، حتَّى يميز بالامتحان الشديد على النفوس الخبيثَ من الطَّيب في الأعمال والأقوال والنيّات وحركات النفوس الإِرادِية. ومن فوائد الالتفات من الخطاب إلى الغيبة الإِشعارُ بالعتاب أو الإِعراض عمَّنْ يليقُ به أن يُكرَّمَ بالخطاب بحسب مقتضى الظاهر، ولكن جاء الكلام على خلاف ذلك لأنّه أعرض أو تولَّى في مقامٍ كان ينبغي له في أَنْ لا يُعْرِض ِأو أن لا يتولّى، ومن أمثلته على رأي السّكّاكيّ - وهو رأيٌ حَسَنٌ - المثالُ الذي سبق الاستشهاد به لما ذهب إليه، وهو قول الله عزّ وجلّ في سورة (عبس/ 80 مصحف/ 24 نزول) : {عَبَسَ وتولى * أَن جَآءَهُ الأعمى} [الآيات: 1 - 2] . إذِ الْتَفَتَ عنه ابتداءً، فتحدَّثَ عنْهُ بأسْلُوبِ الحديثِ عن الغائب، مع أنّ مُقْتَضَى الظاهر بحسب منزلته أنْ يُكلِّمَهُ بأسلوب الخطاب، لكِنْ لم يُطِلِ الالتفاتَ عنه بل أسْرَعَ إلى الالتفات إليه، فخاطبه بقوله معاتباً: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى} [عبس: 3] . *** فوئد الالتفات: ممّا سبق استطعنا أن تكتشف مِنْ فوائد الالتفات ما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 الفائدة الأولى: فنيِّيّةُ التَّنْوِيعِ في العبارة، المثيرِ لانتباه المتلَقِّي، والباعثِ لنشاطه في استقبالِ ما يوجَّه له من كلام، والإِصغاءِ إليه، والتفكير فيه. الفائدة الثانية: الاقتصادُ والإِيجازُ في التعبير. الفائدة الثالثة: الإِعراض عن المخاطبين، لأنهم عن البيانات معرضون أو مُدْبرون وغير مكترثين. الفائدة الرابعة: إفادة معنىً تتضمَّنُه العبارة الّتي حصل الالتفات إليها، وهذا المعنى لا يستفادُ إذا جرَى القول وفق مقتضى الظاهر. الفائدة الخامسة: ما يُسْتفاد من معنىً بالالتفات إنّما يستفاد إلماحاً بطريقٍ غير مباشر، ومعلُومٌ أنّ الطُّرُقَ غير المباشرة تكون أكثر تأثيراً من الطرق المباشرة حينما تقتضي أحوال المتلقّين ذلك. الفائدة السادسة: إشعارُ مختلِف زُمر المقصودين بالكلام بأنّهم محلُّ اهتمام المتكلّم، ولو لم يكونوا من الزُّمْرَة المتحدّث عنها أوّلاً، ويظهر هذا في النصوص الدينيّة الموجَّهة لجميع الناس، وفي خُطَب الملوك والرؤساء والوّعاظ وأشباههم. *** ملاحظات حول شروط الالتفات وما يقرُب منه: الملاحظة الأولى: قالوا: يشترط في الالتفات أن يكون الضمير المتنقل إليه عائداً في نفس الأمر إلى المنتقل عنه. ولكنّي لست أرى هذا شرطاً لازماً، لأنّ مطلق التنقّل بين التكلّم والخطاب والغيبة له التأثير نفسه، وله خصائصه الفنيّة البيانية البليغة، إذا استوفى عناصره الجماليّة المؤثرة، وأدى بعض فوائده وأغراضه البلاغية. الملاحظة الثانية: وقالوا: يقربُ من الالتفات نقل الكلام من خطاب الواحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 أو الاثنين أو الجمع إلى الآخر. أقول: هذا صحيح، ولا مانع من إلحاقه به. الملاحظة الثالثة: وقالوا: يقربُ من الالتفات التنقُّل بين الماضي والمضارع والأمر. أقول: وهذا صحيح أيضاً، وهو من الخروج عن مقتضى الظاهر، ويُلْحَقُ به التنقُّل بين الفعل واسم الفاعل واسم المفعول، مثل: {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} [الأنعام: 95] . ويُلْحق به أيضاً كُلُّ تنويع من هذا القبيل يُلاَحَظُ فيه خروج الكلام عن مقتضى الظاهر، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (الفاتحة) . {اهدنا الصراط المستقيم * صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} [الآيات: 6 - 7] . إذْ كان الظاهر أن يقال: "غير الذينَ غَضِبْتَ عليهم" فَخُولِفَ هذا الظاهر. *** صُورُ اللالتفات: يأتي الالتفات في ستِّ صُوَر: الصورة الأولى: الانتقال من التكلّم إلى الخطاب، وكذا الابتداء بالخطاب، مع أنّ مقتضى الظاهر يستدعي التكلم أو الْغَيْبَة. الصورة الثانية: الانتقال من التكلُّم إلى الغيبة، وكذا الابتداء بالْغَيْبة مع أنّ مقتضى الظاهر يستدعي التكلّم أو الخطاب. الصورة الثالثة: الانتقال من الخطاب إلى التكلّم، وكذا الابتداءُ بالتكلّم مع أنّ مقتضى الظاهر يستدعي الخطاب أو الْغَيْبَة. الصورة الرابعة: الانتقال من الخطاب إلى الْغَيْبة. الصورة الخامسة: الانتقال من الْغَيْبة إلى التكلّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 الصورة السادسة: الانتقال من الْغَيْبة إلى الخطاب. *** الأمثلة: أولاً: فمن أمثلة الانتقال من التكلّم إلى الخطاب مايلي: * ما جاء في قول الله عزّ وجلّ في سورة (يَس/ 36 مصحف/ 41 نزول) في حكاية ما كان من الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة (قيل: هي أنطاطية لنُصْرَة الرُّسل الثلاثة: {وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ يسعى قَالَ ياقوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرحمان بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ} [الآيات: 20 - 23] . قوله: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي} معطوفٌ على محذوفٍ دلَّ عليه حرف العطف "الواو" والمطويُّ المحذوف يُمْكِنُ تقديره بأن نقول. قالوا له: أتُؤْمن بما جاء به هؤلاء المرسلون وتَعْبُدُ الرَّبَّ الَّذِي يدعُونَ لعبادته؟ قال نعم: أومنُ بما جاؤا به، وأَعْبُدُ رَبِّي، ومَالِيَ لاَ أَعْبُدُ الّذي فَطَرَني؟!. ثم انتقل من التكلّم إلى الخطاب فقال لهم: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فخاطَبَهُمْ مع أن مقتضى الظاهر أن يقول: وإليه أُرْجَعُ يوم الدين ليحاسبني ويجازيني، كما يُرْجَعُ إليه سائر الناس وأنتم منهم. فأوجز في العبارة، وأشعرهم بأسلوب غير مباشر أنَّهم قد كان عليهم أن يؤمنوا كما آمَنَ هو، لأنّهم سَيُرْجَعُون إليه يوم الدين، وسَيُحَاسِبُهم ويجازيهم على أعمالهم. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 ثانياً: ومن أمثلة الانتقال من التكلّم إلى الغيبة مايلي: * قول الله عزّ وجلّ في سورة (الكوثر/ 108 مصحف/ 15 نزول) : {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر} [الآيات: 1 - 2] . فقد جاء الكلام أوّلاً على طريقة التكلُّم: {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ} ثُمَّ انْتَقَل إلى أسلوب الحديث عن الغائب: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} ولم يَقُلْ: فَصَلِّ لنا. والحكمة من هذا الالتفات التذكير بحقِّ الرّبّ الْمُنْعِم بعطاءات الربوبيَّة في أن يَعْبُدَهُ عبادُهُ ويُصَلُّوا له، مع الاقتصاد في التعبير، والإِيْجاز في القول. * وقول الله عزّ وجلّ في سورة (الزمر/ 39 مصحف/ 59 نزول) : {*قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} [الآية: 53] . كان مقتضى الظاهر أن يأتي التعبير: لا تقنطوا من رحمتي إنّي أغْفِرُ الذُّنوب جميعاً. ولكن حصل العدول عنه إلى {مِن رَّحْمَةِ الله ... } للإِشعار بأنّ من صفات الله الجليل العظيم أن يغفر ذنوب مَنْ يُنيبون إلى رَبِّهِمْ ويسلمون له، كما جاء في الآية التالية من السورة، مع الإِيجاز والاقتصاد في العبارة. * وقول الله عزّ وجلّ في سورة (الدخان/ 44 مصحف/ 64 نزول) : {حم* والكتاب المبين * إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} [الآيات: 1 - 6] . بدأ الأسلوب في هذا النّصّ عَلى طَرِيقة حديث المتكلّم عن نفسه: {إِنَّا أنْزَلْنَاهُ - إنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ - أمراً من عِنْدِنا - إنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 وبعد ذلك انتقل إلى أسلوب الحديث عن الغائب خلافاً لمقتضى الظّاهر {رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} . وفائدة هذا الالتفات التذكير بربوبيّة الله عزّ وجلّ والتوطئة لذكر بعض صفاته التي هي من متقضيات ولوازم كونه رَبّاً، مع الإِيجاز والاقتصاد في العبارة. * وقول الْحُصَيْنِ بنِ الْحُمَام في مُفَضَّليته يتحدّث عن الخيل في موقعةِ يوم "دَارةِ موضوع" بين بني سعد بن ذبيان، وبين بني سهم بن مُرَّة، وكان الْحُصَيْن قائد بني سهم، وكتب الله له فيها النصر، فجاء في قصيدته: وَأَنْجَيْنَ مَنْ أَبْقَيْنَ مِنَّا بخُطَّةٍ ... مِنَ الْعُذْرِ لَمْ يَدْنَسْ وإِنْ كَانَ مُؤْلِماً أَبَى لاِبْنِ سَلْمَى أَنَّهُ غَيْرُ خَالِدٍ ... مُلاَقِي المَنَايَا أَيَّ صَرْفٍ تَيَمَّمَا فَلَسْتُ بمُبْتَاعِ الْحَيَاةِ بِسُبَّةٍ ... وَلاَ مُبْتَغٍ مِنْ رَهْبَةِ الْمَوْتِ سُلَّمَا يَصِفُ الْحُصَيْنُ بن الْحُمَامُ خَيْلَ قَوْمه وقد نجّتْ من بقي منهم في معركتهم الظافرة، وأبان أنّ مَنْ بقي حيّاً فقد بقي بخُطَّةٍ يُعْذَر بها، إذْ لم يجبُنْ، بل أبلى بلاءً حسناً، فلَمْ يَدْنَسْ بفرار من المعركة. وتحدَّث عن نفسه بأسلوب الحديث عن الغائب فقال: "أبى لابن سلمى" بعد أن تحدّث عن نفسه بأسلوب التكلم مع قومه في قوله: "مَنْ أبْقَيْنَ مِنّا" وكان هو ممّن بقي. ونقل الحديث إلى الحديث عن الغائب ليوطىء للحديث عن نفسه، كأنَّه يُحَدِّث عن فارسٍ شجاعٍ لا يخشى المنايا، لأنّه يعلم أنه غير خالد لوفرّ من مواقعها، وقَصَدَ أيّ صَرْفٍ من صُروفِ المَهَارِب. وبعد ذلك التفت أَيضاً إلى التكلّم، فَتَحَدَّث عن نفسه فقال: فَلَسْتُ بِمُبْتَاعِ الْحَياةِ بِسُبَّةٍ ... وَلاَ مُبْتَغٍ مِنْ رَهْبَةِ الْمَوْتِ سُلماً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 بمتاعٍ الحياة: أي بِشارٍ لها. *** ثالثاً: ومن أمثلة الانتقال من الخطاب إلى التكلّم مايلي: * قول "عَلْقَمة بْنِ عَبْدَة": طَحَابِكَ قَلْبٌ في الْحِسَانِ طَرُوبُ ... بُعَيْدَ الشَّبَابِ عَصْرَ حَانَ مَشِيبُ يُكَلّفُنِي لَيْلَى وَقَدْ شَطَّ وَلْيُهَا ... وَعَادَتْ عَوَادٍ بَيْنَنَا وَخُطُوبُ بدأ يتحدث عن نفسه بأسلوب الخطاب في البيت الأوّل مُجَرِّداً من نَفْسِه مُخاطَباً قائلاً: "طَحَا بِكَ قَلْبٌ" أي: ذهبَ بِكَ وأتْلَفَك. وانتقل إلى أسلوب التكلُّم في الحديث عن نفسه فقال في البيت الثاني "يُكَلِّفني ليلى وَقَدْ شَطّ وَلْيُهَا" أيْ: يُكَلِّفُنِي حُبَّ ليلى وقد بَعُدَ قُرْبَها. قال المرصفي: مدَحَ "أي: علقمة بهذا القصيدة" ملِكَ غَسَّانَ واستعطاه، وسأله مع طلب الجائزَة أن يَمُنَّ على أخيه شاس بن عبْدَة، وكان أسيراً عند الملك، ولم يكتف بهذا بل طلب الجائزة لأخيه. *** رابعاً: ومن أمثلة الانتقال من الخطاب إلى الغيبة مايلي: * قول الله عزّ وجلّ في سورة (يونس/ 10 مصحف/ 51 نزول) : {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هاذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين * فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق ... } [الآيات: 22 - 23] . كان الكلام في صدر الآية جارياً على أُسلوب الخطاب: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك} ، وبَعْدَ ذَلِكَ انْتَقَلَ الْكَلامُ إلى أسْلُوب الحديث عن الغائب: {وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} . وفائدة هذا الالتفات بيانُ أنّ الذين تكون منهم هذه الظاهرة التي تحدّث عنها النّصّ ليسوا جميع المخاطبين، بل هم فريق منهم، فمن الحكمة الحديث عنهم بأسلوب الحديث عن الغائب، مع ما في الحديث عن الغائب من الإِعراض المشعر بالتأنيب على ما يكون منهم، وقد جاء في النصّ بعد ذلك تأنيبُهُمْ صراحةً فقال تعالى: {ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الحياة الدنيا} ولَوْ تتابع الكلامُ وفْقَ أُسْلُوب الْخِطاب دون ما حصل في النصّ من الالتفات لكان التأنيب مُوَجّهاً لكلّ الناس، مع أنّ فيهم صالحين لا تظهر منهم هذه الظاهرة القبيحة من الظواهر المنافية للسلوك الدّيني المطلوب من العباد. * وقول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) في معرض بيان خطابه لِجَمْعٍ كبيرٍ من الأنبياء المرسلين الذين جاء ذكرهم في السورة: {إِنَّ هاذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاعبدون * وتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الآيات: 92 - 93] . يظهر لنا في هذا النصّ نَظِيرُ ما ظهر لنا في النَّصّ السّابق، فالذين تقطَّعُوا أَمْرَهم بَيْنَهُمْ لَيْسُوا كُلَّ أتباعِ الرُّسُل، إذْ فيهم من حافظوا على وحدة الأمّة الرَّبَّانيَّةِ، ولم يَتَنكَّبُوا صِراطَ الله، وحينما بعثَ الله الرَّسُولَ الخاتم اتَّبعوه مؤمنين بأنَّ أُمَّتَه هُمْ أُمَّةُ الرُّسُلِ الذين جاءوا قبله، تلاحقت مواكبهم، إذْ هُمْ رُسُلُ مُرْسلٍ واحدٍ، يَقُودون أمَّةً واحدةً على صراط الله المستقيم. * وقول الشاعر: أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي ... حَيَاؤُكَ إِنَّ شِيمَتَكَ الْحَيَاءُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 كَرِيمٌ لاَ يُغَيِّرُهُ صَبَاحٌ ... عَنِ الْخُلُقِ الْجَمِيلِ وَلاَ مَسَاءُ في البيت الأوّل واجه ممدوحه بالخطاب، وفي البيت الثاني انتقل من الخطاب إلى الغيبة على طريقة الالتفات. وموضع الحسن في هذا الالتفات أنّ الشاعر أراد أن يُواجه الناسَ بمدحه، ويُعْلِن على الملأ أنّه كريم ذو خُلُقٍ جميل، ولو تابع طريقة الخطاب لأوهم أنّه يتزلّف إليه بينه وبينه، وهو لا يريد إعلان مدحه بين الناس. خامساً: ومِنْ أمثلة الانتقال من الغيبة إلى التكلّم ما يلي: * قول الله عزّ وجلّ في سورة (فاطر/ 35 مصحف/ 43 نزول) : {والله الذي أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النشور} [الآية: 9] . الكلامُ في صَدْرِ الآيةِ جَارٍ وفْقَ أُسْلُوبِ الْحدِيثِ عن الْغَائب: {والله الذي أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً} . وبَعْدَ ذلِكَ انْتَقَل إلى أُسْلُوبِ التكَلُّمِ فقال تَعَالى: {فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} . وفائِدة هذا الالتفاتِ إيقاظُ الأذْهانِ للتفكُّر في مِنَّةِ اللهِ على عبادِه الذي يُقَدِّر أسْباب رِزْقِهِم ويَسُوقُها لهم، وللتفكُّرِ في مظهر من مظاهر قدرته الَّتِي يُحْيِي بها الأرْضَ الميتة، الذي يُشْبِهُهُ إحياءُ الموتَى يومَ القيامة، إذ جاء فيه تحدُّثُ الرَّبّ الجليل عن نفسه بضمير المتكلِّم العظيم: {فَسُقْنَاهُ - فَأَحْيَيْنَا بِهِ} . * وقول الله عزّ وجلّ في سورة (فُصِّلت/ 41 مصحف/ 61 نزول) : {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم} [الآيات: 11 - 12] . الكلام في صدر النصّ جارٍ وفق أسلوب الحديث عن الغائب كما هو ظاهر، وبعد ذلك انتقل إلى أسلوب التكلّم، فقال تعالى: {وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً} . وفائدة هذا الالتفاتِ هو ما سبق بيانه في النصّ السابق. وبعد ذلك انتقل النَّصُّ أيضاً إلى أسلوب الحديث عن الغائب. {ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم} . توطئةً لذكر اسْمَيْنِ من أسْمَاءِ الله الحسنى الملائمة لدقَّةِ التقدير العظيم وإحكامه. * وقول المخبَّل السَّعْدِي في مطلع مُفَضَّلِيَّتِه: ذَكَرَ الرَّبَابَ وَذِكْرُهَا سُقْمُ ... فَصَبَا وَلَيْسَ لِمَنْ صَبَا حِلْمُ وَإِذَا أَلَمَّ خَيَالُهَا طَرَفَتْ ... عَيْني فَمَاءُ شُؤونِهَا سَجْمُ كاللُّؤْلؤِ الْمَسْجُورِ أُغْفِلَ فِي ... سِلْكِ النِّظَامِ مَخَانَهُ النَّظْمُ الرَّباب: اسم محبوبته. فَصَبَا: أي: فَحَنَّ ومَال. طَرَفَتْ عَيْنِي: تَحَرَّكَ جَفْنَاها. فَماءُ شُؤُونها: شُؤُونُ العين مجاري دَمْعِهَا. سَجْمُ: أي: سَائِلٌ يتصَبَّب. كاللُّؤْلُؤِ الْمَسْجُورِ: أي: كالُّؤْلُؤ الْمَحْمِّيِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 أُغْفِلَ في سِلْكِ النِّظَام: أَي تُرِكَ مُهْمَلاً في الْخَيْطِ الَّذِي نُظِمَ فِيه فَلَمْ يُعْقَد. فَخَانَهُ النَّظْمُ: أي: فتناثَر لأَنّ النَّظْمَ الذي كانَ لَهُ في سِلْكِهِ خَانَهُ لَمْ يُمْسِكْهُ عَنِ التَّسَاقط. في البيت الأول اتِّبَعَ في الحديث عن نفسه أُسْلُوبَ الْحَدِيثِ عَنِ الغائب. وفي البيت الثاني التفت من الغيبة فتحدّث عن نفسه بأسْلُوب التكلُّم، ليدلُّ على أنّه هو المقصود في البيت الأوّل. *** سادساً: وَمِن أمثلة الانتقال من الغيبة إلى الخطاب ما يلي: * قول الله عزّ وجلّ في سورة (الفاتحة/ 1 مصحف/ 5 نزول) : {بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ * الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين * الرحمان الرحيم * مالك يَوْمِ الدين * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهدنا الصراط المستقيم * صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} [الآيات: 1 - 7] . النص في مطلع السورة جارٍ وفق أسلوب الحديث عن الغائب، وبَعْدَ ذلِكَ انْتَقَلَ إلى أسْلوب الخطاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ... } . وفَائِدَةُ هذا الالتفات التحوُّلُ من موضوع الثناء على الله عزّ جلّ إلى موضوع التوجُّهِ له بالعبادة والدُّعاء، فالثناء يحْسُنُ فيه الإِعلانُ العامّ، وهذا يلائمه أسلوبُ الحديث عن الغائب، والعبادةُ الدّعَاءُ يَحْسُنُ فيهما مواجهة المعبود الْمَدْعُوّ بالخطاب. * وقول الله عزّ وجلّ في سورة (مريم/ 19 مصحف/ 44 نزول) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 {وَقَالُواْ اتخذ الرحمان وَلَداً * لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} [الآيات: 88 - 89] . الإِدّ: المنكر الفظيع الشنيع. بدأ الحديث عمَّن افترى على الله بأنّه اتخذ ولداً بأسلوب الحديث عن الغائب خطاباً للمؤمنين. وعَقِبَ ذلك وجّه الخطاب للمفترين فقالَ الله لهم: {لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} . وفائدةُ هذا الالتفات تحقيق غرضَيْنِ: الأول: تَثْبِيتُ المؤمنين على عقيدة تنزيه الله عمّا لا يليق به سبحانه. الثاني: تَأْنِيبُ المفترين على الله بأنَّهم ارتكبوا أمراً بالغ النكارة والفظاعة والشناعة. مع الاقتصاد والإِنجاز في العبارة. *** تطبيقات تحليليّة لأمثلة قرآنية المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول) ضمْنَ عَرْضِ قصّة أصحاب القرية الّتي جاءها المرسلون فكذّبوهم: {وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ يسعى قَالَ ياقوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الآيات: 20 - 22] . دلَّت عبارة {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي} على أَنَّ قَوْمَه تَوَجَّهُوا له يحاكمونه على انتصاره للرُّسُل، فأخذوا يسألونه ويُجيبُهُم بحكمة وعقْلٍ وسداد، وباستطاعتنا أن نتخيّل مجلس المحاكمة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 قالوا: هل صدّقت هؤلاء الذين يزعمون أنَّهم مُرْسلون؟ وهَلْ آمنتَ بهم؟ قال: نعم. قالوا: وَهل تركتَ ما يعبُد قومُك من آلهة؟ قال: نعم. قالوا: وَهل صِرْتَ تَعبُد الإِلَه الّذِي يدعو هؤلاء إلى عبادته وحده لا شريك له؟. قال: نعم، إنّه هو الذي فطرني، ومَالِيَ لاَ أعْبُد الذي فَطَرني وَإليه تُرْجَعُون؟!. فالتفت من الحديث عن نفسه، إذْ كانت متابعة الأسلوب تستدعي أن يقول: "وإليه أرجع" أي: للحساب والجزاء، فخاطبهم فقال: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . ونَلْمَحُ في هذا الالتفات البديع أنّه بدأ كلامه أوّلاً بأسلوب اتخاذ طريق الخير لنفسه، وهو يريد ضِمْناً مناصحة قومه تلطُّفاً بهم، وليُشْعرهم بأنّه يريد لهم ما يريد لنفسه، وبعد ذلك التفت إليهم إذْ أراد تخويفهم من عذاب الله، ودعوتهم إلى الإِيمان واتّباع المرسلين. ولدى تحليل النصّ بوجه عام نلاحظ أنّ الرَّجُل المؤمن يريد أن يقدّم لهم الدليل الذي اقتنع هو به، وأنّ عليهم لمصلحة أنفسهم أن يتصّبروا بهذا الدّليل ليُوَلّد لديهم الاقتناع بما اقتنع هو به، فقال لهم: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي} وطوى ضمن كلامه: وإليه أرجع ليحاسبني ويجازيني، وأنتم كذلك مثلي، فلم لا تَعْبُدونَ الذي فطركم؟! واكتفى عن ذكر هذا المطوي بعبارة: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . فدلّت عبارة: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي} من شطر الكلام الأول على عبارة: "ومَالكم لا تبعدون الذي فطركم" من شطر الكلام الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 ودلّت عبارة: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} من شطر الكلام الثاني على عبارة: "وإليه أرجع" من شطر الكلام الأول. وبهذا الحذف الإِيجازي ظهر التعبير على صورة الالتفات من أسلوب حديث المتكلّم عن نفسه مريداً به المخاطبين، إلى أسلوب الخطاب، ومثل هذا الالتفات البديع يشدّ الانتباه إلى التأمُّل وحُسْنِ التدبُّر. المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) خطاباً للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكُلّ داعِ إلى سبيل ربّه وآمرٍ بالمعروف وناهٍ عن المنكر من بَعْده: {قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين * وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة واتقوه وَهُوَ الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الآيات: 71 - 72] . عبارة {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين} جاءت بأسلوب حديث المتكلّم عن نفسه ومعه كُلّ المكلفين من الناس، أي: وأُمِرْنَا جميعاً بالأوامر الربّانيّة المختلفة لنُسْلِمَ مُنْقادين طائعين لربّ العالمين. وبعد هذه العبارة تحوّل الأسلوب إلى التكليف بالخطاب، فجاء في النصّ: {وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة واتقوه وَهُوَ الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} . والغرض من هذا الالتفات نلاحظه حينما ندرك أنَّ الأَمْر بإقامَةِ الصلاة وبتقوى اللهِ مع كونه داخلاً في عُمُومِ {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين} إلاَّ أنّ على الرسول وعلى كلّ آمِرٍ بالمعروف ناهٍ عن المنكر من بعده أنْ يقوم بهذه الوظيفة الاجتماعية تذكيراً وتحذيراً، فهو آمِرٌ ونَاهٍ بتوجيه منه، وليس مجرّد مقدّم على سبيل الحكاية ما أمر الله به ونهى عنه، ضمن المأمور به في عبارة: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين} المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الفتح/ 48 مصحف/ 111 نزول) خطاباً لرسوله محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً * وَيَنصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً} [الآيات: 1 - 3] . بدأت الآياتُ بِحَدِيثِ المتكلّم العظيم عَنْ نفسه، وهذا الأسلوب يناسِبُه بحسَب الظاهر أن يكون الكلام بعدَهُ: "لنغفر لك ما تقدم ... ونُتِمَّ نعْمَتَنَا ... ونَهْدِيَكَ ... ". إلاَّ أن الكلام جاء على خلاف ذلك، فحصل الالتفات من التكلّم إلى الغيبة، فقال تعالى: {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله} إذ الاسم الظاهر بقوّة ضمير الغائب. والفائدةُ الخاصةُ التي يَدُلُّ عَلَيْها هذا الالتفاتُ الإِشعارُ بأنَّ قائل {إِنَّا فَتَحْنَا} هو الله نَفْسُه، والتنبيهُ على مقام لفظ الجلالة "الله" الدّالّ على الذات وكلّ الصفات والذي بيده الغفرانُ، وإتمامُ النعمة، والهدايةُ إلى الصراط المستقيم، والنَّصْرُ العزيز، مع الفوائد العامّة الَّتي تُسْتَفَاد من الالتفات. المثال الرابع: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الكوثر/ 108 مصحف/ 10 نزول) : {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر} [الآيات: 1 - 3] . بدأت السورة بحديث المتكلّم العظيم عن نفسه، وهذا الأسلوب يناسبُه بحسَب الظَّاهر أن يكون الكلام بَعْدَهُ: "فَصّلِ لنَا وانْحر". إلاَّ أن الكلام جاء على خلاف مقتضى الظاهر هذا، إذْ حصل الالتفات من التكلّم إلى الغيبة، فقال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر} . والفائدة الخاصة التي يدلُّ عليها هذا الالتفات الإِشعار بأنّ المتكلّم هو ربٌّ يُمِدُّ بعطاءات الرُّبوبيّة دواماً، فمن حقِّهِ على مَرْبُوبيه أن يَعْبُدوه بمختلف أنواع العبادات، ومنها الصلاة له، ونَحْرُ الْهَدْيِ ابتغاءَ مرضاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 المثال الخامس: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الدخان/ 44 مصحف/ 64 نزول) : {حم* والكتاب المبين * إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} [الآيات: 1 - 6] . كما جاء في المثالين السابقين الثالث والرابع بدأت السورة بحديث المتكلّم العظيم عن نفسه، وبعد ذلك حصل الالتفات من التكلُّم إلى الغيبة، فقال تعالى: {رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} وكان الأسلوب النّمطِيُّ يستدعي أن يكون النّص: {رَحْمَةً منّا} . والفائدة الخاصة في هذا الإِلتفات التنبيه على أنَّ كلّ أمرٍ حكيم يُفْرق بأمْر الله هو رحمةٌ من أَثَر صفةِ رُبوبيَّةِ الرَّبّ عزَّ وجلَّ. المثال السادس: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الروم/ 30 مصحف/ 84 نزول) : {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُو عِندَ الله وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولائك هُمُ المضعفون} [الآية: 39] . إنّ أسلوب عبارة {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله} هو من المواجهة بالخطاب، ويلائمه بحسب الظاهر أن يقال: {فَأنْتُمُ المضعفون} . إلاَّ أنَّ الكَلاِمَ جَاءَ على خلال مقتضى الظَّاهِرِ هَذَا، إذْ حصل الالتفاتُ من الخطاب إلى الغيبة، فقال تعالى: {فأولائك هُمُ المضعفون} . والغرض البلاغيّ الخاصّ في النَّصّ التنبيه باسم الإِشارة الذي هو في قُوّةِ ضَمِيرِ الغائب على ارتفاع منزلتهم عند الله، إذْ أُشِيرَ إليهم باسم الإِشارة الخاصّ بالمشار إليه البعيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 والأمثلة على الالتفات في النصوص القرآنية كثيرةٌ جدّاً، وفيما سبق استعراضُهُ وتحليلهُ منها كفايةٌ لمن شاء أَن يتدبّر ويحلّل سائر النّصوص، إذا كانت لَدَيْهِ ملكة التدبُّر والتحليل. *** (2) النوع الثاني أسْلوبُ الحكيم أسلوبُ الحكيم: هو عند علماء البلاغة صَرْفُ كلامِ المتكلّم أو سؤال السائل عن المراد منه، وحَمْلُه على ما هو الأَوْلَى بالْقَصْد، أو إجابته على ما هو الأولى بالقصد، وسمّاه الشيخ "عبد القادر الجرجاني": "المغالطة". وهو قسمان: القسمُ الأول: حَمْلُ كلام المتكلّم على غير ما يُريد به، تنبيهاً على أنَّه الأولى بالْقَصْد، ومنه ما يلي: * قول ابن حجّاج البغدادي "هو أبو عبد الله بن أحمد البغدادي" شاعرَ فَكِهٌ: قَالَ: ثَقَّلْتُ إِذْ أتَيْتُ مِرَاراً ... قُلْتُ ثَقَّلْتَ كَاهِلي بالأَيَادِي قالَ: طَوَّلْتُ. قُلْتُ: أَوْلَيْتَ طَوْلاً ... قَالَ: أَبْرَمْتُ قُلْتُ: حَبْلَ وِدَادِي الكاهل: من الإِنسان هو ما بين كِتفَيْهِ، فَوْقَ الْعُنُق. بالأَيَادِي: أي: بالنعم. في البيت الأول أخذ المخاطب ظاهر كلام صاحِبِهِ وحَمَلَه على غَيْر مرادِه به، إذْ أراد بالتثقيل ما يَحْمِلُه المضيف من أعباء الضيافة، لكن المضيف حَمَلَه على معنى أنّ صاحِبَهُ ثَقَّلَ كَاهله بأياديه في تكرير زيارته له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 وفي البيت الثاني حَمَل كلمةَ "أَبْرَمْتُ" على معنى إبْرام حبْلِ الوداد، وقَصْدُ المتكلّم من "أَبْرَمْتُ" معنى أضْجَرْتُ وأَنْزَلْتُ الْمَلَلَ، وحَمَلَ كلمةَ "طَوَّلْتُ" على معنَى أفْضَلْتَ، أي: أعطيتَ فضلاً، وقَصْدُ المتكلّم أنّه أطال الإِقامة. * ومن العبارات الدارجات أنْ يقول المحتفي بضيفه معتذراً. "أرجو العفْوَ عن قُصُوري". فيقول الضيف: "قُصُورُك عاليةٌ شماخة" أي: ما قدّمته من إكرام عظيم كالْقُصُورِ الشامخة إلى جانب الأبنية الأخرى، فيحمل كلمة "قصور" على غير ما أراد بها المضيف. * ما رُوي من قصّة "القبعثرى" و"الْحَجَّاج بن يُوسف الثقفي" وإلى بني أُميَّة على العراق. قالُوا: اجتمع نُدَماء من أهل الشّعْر والأدب في مَجْلِس شراب، إلى جانب شجرة من أشجار العنب ذاتِ عناقيد مُدَلاّة، وكان "القبعثرى" واحداً منهم، يعبث بعنقودِ عِنَبٍ مدلى من غُصْنِه، فذكر أحد النّدماء "الحجّاج بن يوسف" فقال "القبعثرى" وبيده عنقودُ العِنب المدلى من غُصْنه: قَطَع الله عُنُقَهُ وسقاني من دَمه. فأبْلَغ أحدُ الوشاة كلمتَهُ إلى الحجّاج، فاستدعاه وقال له: أنت الذي قُلْتَ: قطع الله عنُقه وسقاني دمه؟ قال: نعم، وقد قَصَدْتُ عُنْقودَ العنب الّذي كان بيدي. قال له الحجّاج: لأَحْمِلَنَّك على الأدهم (أي: لأُقيّدنَّكَ بالْحَدِيد) . قال القبعثرى: مثْلُ الأمير يَحْمِل على الأدهم والأشهب (قاصداً من الخيل) . قَال الحجّاج: قَصَدْتُ الحديد. قال القبعثرى: لأنْ يكون حديداً خيرٌ من أن يكون بليداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 * ققول الشاعر: وَقَالُوا: قَدْ صَفَتْ مِنَّا قُلُوبٌ ... نَعَمْ صَدَقُوا ولكِنْ مِنْ وِدَادِي * قول القاضي الأرّجاني: غَالَطَتْنِي إِذْ كَسَتْ جِسْمِي الضَّنَا ... كِسْوَةً عَرَّتْ مِنَ اللَّحْمِ الْعِظَاماَ ثُمَّ قَالَتْ: أنْتَ عِنْدِي فِي الْهوَى ... مِثْلُ عَيْنِي. صَدَقَتْ لكن سَقَامَا فقبل ظاهر كلامها: (أنْتَ مِثْلُ عَيْنِي) لكِنْ حمَلَهُ على غير ما قَصَدَت إذْ ذكَرَ أنَّهُ مِثْلُ عَيْنِها في سقامِها، ومعلومٌ أنّ السقام في العين يزيدها حسناً. * وقول أحدهم: ولَقَدْ أَتَيْتُ لِصَاحِبِي وسَأَلْتُهُ ... ي قَرْضِ دِينارٍ لأَِمْرٍ كَانَا فأَجَابَنِي - واللهِ - دَارِي مَا حَوَتْ ... عَيْناً فَقُلْتُ لَهُ: وَلاَ إِنْسَانا أراد بقوله: "مَا حَوَتْ عيناً" أي: ذهباً، لكِنّ المخاطبَ حَمَل كلمة "عيناً" على العين المبصرة، وعطف عليها قوله: "وَلاَ إنساناً" ومرادُهُ إنسان العين. * وقول أحدهم: طَلَبْتُ مِنْهُ دِرْهَماً ... يَوْماً فأَظْهَرَ الْعَجَبْ وَقَالَ: ذَا مِنْ فِضَّةٍ ... يُصْنَعُ لاَ مِنَ الذَّهِبْ تجاهل غَرَضَ طالِب الدّرهم وحمل كلامه على غَيْر مراده مُوهِماً بأنّه يَرُدّ على زَعْمِهِ بأنّ الدّرْهم من الذهب ويبيّن له أنّ الدّرهَمَ يُصْنَعُ من الفضّة. ولدينا أمثة قرآنيّة من هذا القسم: المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المنافقون/ 63 مصحف/ 104 نزول) بشأن قول المنافقين في غزوة بني المصطلق، وما بنى الله عزَّ وجلَّ عليه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ولاكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ} [الآية: 8] . المنافقون قالوا: ليُخْرِجَنَّ الأعزُّ من المدنية الأذلّ إنّ رَجَعْنَا من الغزوة التي نحن فيها إلى المدينة. فجاء البيان القرآني تعليقاً على مقالهم بحمله على ظاهرة لكن على غير ما قصدوا، وذلك بإثبات أنّ الأعزَّ الرسولُ والمؤمنون معه بإمداد الله لهم بالعزّة، لأنّ العزّة أي: القوة الغالبة هي له سبحانه ولمن يُمدِّهم بالعزّة. المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنفال/ 8 مصحف/ 88 نزول) خطاباً للكافرين: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ... } [الآية: 19] . أي: إنْ تَدْعُو الله بأنْ يَنْصُرَكم على الرسول والذين آمَنُوا معه، فَقَدْ جَاءَكم النَّصْرُ ولكن على غير ما تطلبُون، لقد جاءكم نَصْرُ الله لرسوله والّذين آمنوا معه عليكم. فجاء قبول ظاهرة دُعائهم بالنّصر ولكن بعد حمله على غير ما طلبوا فيه، لقد طلبوا مجيء النّصر فجاءهم النّصر للمؤمنين عليهم. المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) بشأن المنافقين الّذين تخلَّفوا عن الرسول والمؤمنين فلم يخرجوا إلى غزوة تبوك: {سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ إِذَا انقلبتم إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الآية: 95] . إنَّهم يَطلبُونَ الإِعراض عن مؤاخذتهم على تخلُّفهم، فإذا حَمَلْنا قول الله عزَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 وجلَّ {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ} على معنى الإِعراض الدّالّ المجافاة والقطيعة وعَزْلِهم عن دائرة المؤمنين الصادقين، كان من الأسلوب الحكيم، إذْ جاء فيه حَمْلُ طلبهم على غير ما يَقْصِدُون به. *** القسم الثاني: إجابة السائل بغير ما يطلُبُ في سؤاله، (لتنبيهه على أنّه الأَمْر الأَهَمُّ الذي كان ينبغي أن يسأل عنه. ومن أمثلته في القرآن ما يلي: المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} [الآية: 215] . لَقَدْ سَأَلُوا عَنِ الشيء الذي يُنْفِقُونه، فعلَّم الله رسوله أَنْ يجيبهم عن الّذين يَنْبَغي أن تُوَجّه لهم النفقة، إشارةَ إلى أنّه كان ينبغي لهم أن يسألوا عمَّنْ ينبغي أنْ تُوجّه لَهُم النفقة، أمّا الشيءُ الذي يُنْفقُون منْهُ ومقدارُ ما يُنْفِقُونَ فيَعُمُّ كُلّ ما يَصْلُح للإِنْفاق منه، وما وراء حدّ الزكاة المفروضة هو من التطوّع المفتوح الذي لاَ يُسأَلُ عن حدٍّ له، ويظهر أنّ حدّ الزكاة المفروضة لم يكن قَدْ نزَلَ به حكْمٌ فأعرض النصّ عن الإِجابة عليه، وقد أجاب الله عزَّ وجلَّ عن هذا حينما كرَّرُوا سؤالهم بقوله في السورة: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو ... } [البقرة: 219] . الْعَفْوُ في النفقة: ما زاد على حاجة الإِنسان لنفسه ولمن يعولُهم. المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {*يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج ... } [الآية: 189] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 سأل السائِلونَ عَنْ سَبَبِ الظاهرة الكونيَّةِ في الأهلة، لماذا يَبْدأ الهلالُ كالحاجب في أوّل الشهر، ويتزايَدُ يَوْماً فَيَوْماً، حتَّى يكون الْقمَرُ بدراً، وبعد ذلك يتناقص حتى يكون في آخر الشهر مثلما بدأ في أوَّله؟ ولمّا كانت هذه الظاهرة إحدى أنظمة الكون يمكن بالبحث العلمي أن يكتشفها الناس مستقبلاً، وليس بيانُها من الأغراضِ الدينيّةِ الأساسيّة الَّتِي بعث اللهُ الرُّسُل لبيانِها، جاءَ الجوابُ مبيّناً وظيفة الأهلة المرتبطةَ ببعض قضايا الدين، وهي تحديد مواقيتِ الشهور، الّتي يحتاجها الناس لعباداتهم، ومعاملاتِهم، وتواريخهم، وتكاليفهم، المرتبطة بالأشهر القمرية، كالصيامِ، وأشهرِ العِدَّةُ، ومُرُورِ الحول لأداء الزكاة، وغيرِ ذلك، وخصّ اللهُ منها الحجَ اهتماماً بتحديد وقته، إذ دخل فيه التحريف الجاهليُّ بالنِّسيء الذي كانُوا يصنعونه. أمّا الظواهر الكونية القائمة على أسباب غير منظورة فكثيرة جدّاً، والناس لا يستطيعون إحصاءها، وفتح أبواب السؤال عنها والإِجابة عَليْها. يُحَوِّلُ مُهِمَّة الرسول من رسالة دينيّة إلى رسالة عالِمٍ من علماء أنظمة الله في كونه. *** (3) النوع الثالث الإِظهارُ في مقام الإِضمار، والإِضمار في مقام الإِظهار ومن الخروج عن مقتضى الظاهر: الإِظْهَارُ في مقام الإِضْمارِ، وبالعكس، فهو قسمان: القسم الأول: الإِظهارُ في مقام الإِضمار. قد يكون استخدام الضمير في الكلام هو المتبادر الذي يقتضيه ظاهر الأسلوب المعتاد، لكن قد يوجد داعٍ بلاغي يستدعي استخدام الاسم الظاهر بدل استخدام الضمير، ومن الأغراض البلاغيّة لهذا ما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 الغرض الأول: الإِشعار بكمال العناية بما اسْتُخْدِمَ للدلالة عليه الاسم الظاهر بدل الضمير، من أجل اختصاصه بحكم غريبٍ مثلاً، ومنه: قول أحمد بن يحيى الراوندي: كَمْ عَاقِلٍ عَاقِلٍ أَعْيَتْ مَذَاهِبُهُ ... وَجَاهِلٍ جَاهِلٍ تَلْقَاهُ مَرْزُوقاً هَذَا الَّذِي تَرَكَ الأَوْهَامَ حَائِرَةً ... وَصَيَّرَ الْعَالِمَ النَّحْرِيرَ زِنْدِيقَا فجاء اسم الإشارة "هذا" في مقام الضمير "هو" لتوجيه العناية تفكّراً في حكمة اللهِ بتقدير أرْزاق العباد، وإدراك أنّ الأرزاق قد تقتضي حكمة الله بأن تأتي وافرةً للجاهل، وتأتِيَ غير وافرة للعالم العاقل. الغرض الثاني: التهكّم باستخدام اسم الإِشارة، ويُمْكن أن أُمَثِّل له بقولي: قَالَ لِلأَعْمَى وَقَدْ أَزْعَجَهُ ... مِنْهُ إِنْكَارُ بُزُوغِ الْقَمَرِ أَيُهَا الْجَاحِدُ هَذَا نُورُهُ ... سَاطِعٌ عَبْرَ غُصُونِ الشَّجَرِ كان مُقْتَضَى الظاهر أن يقول له: نُورُهُ يَخْتَرِقُ الأُفْقَ لَنَا ... فَنَراهُ مِنْ خِلالِ الشَّجَرِ لكِنَّهُ أراد التهكم به لجحوده ما يراه المبصرون وهو أعْمَى، فاستخدم اسم الإِشارة، لإِشعاره بأنه لو كان يُبْصِر لرآه. ومنه فيما أرى باستخدام الاسم المظهر، قولُ الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنفال/ 8 مصحف/ 88 نزول) خطاباً للكافرين: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح ... } [الآية: 19] . أي: إن تطلبوا الفتح فقد جَاءَكَمُ الفتح، وكان مقتضى الظاهر أن يكتفى بالضمير فيقال: "إن تستفتحوا فقد جاءكم" ولكن جيء بالاسم المظهر للتهكم بهم، لأنّ الفتح وهو النصر الذي جاءهم كان عليهم ولصالح المسلمين.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 الغرض الثالث: إظهار بلاهة المقصود بالخطاب، وأنّه لا يفهم إلاَّ بالإِشارة الحسيّة، فلا يكفيه الضمير لمعرفة المراد، كأن تقول لمن تُرِيد وصفه بالبلادة، وهو يتحدَّثُ عن كتابٍ بيده اشتراه وهو مبتهج بشرائه له: أرِني هذا الكتاب الذي اشتريته. لقد كان مقتضى الظاهر أن تقول له: أَرِنِيهِ، إلاَّ أنّك أردت إشعاره بالبلادة، وأنّه ليس أهلاً لاقتناء الكتب. الغرض الرابع: إظهار فطانة المتكلّم أو المخاطب، حتّى كأنّ الأمْرَ الفكريّ غير المحسوس هو بالنسبة إليه يشبه الأمور الحسيّة، ومنه قول الشاعر: تَعَالَلْتِ كَيْ أَشْجَى وَمَا بِكِ عِلَّةٌ ... تُرِيدين قَتْلِي قَدْ ظَفِرْتِ بِذَلِِكِ أي: ادّعَيْتِ العلّة كَيْ أَحْزَنَ مِنْ أجْلِكِ وَأَنْتِ سَلِيمة، أتُريدينَ قتلي بما تفعلين. إنْ كنت تريدين قتلي فقد ظفرتِ بذلِكِ، وكان مقتضى الظاهر أن يقول لها: قد ظفرتِ به. الغرض الخامس: زيادةُ تمكين ما اسْتُخْدِمَ للدلالة عليه الاسم الظاهر بدل الضمير، ومنه قوله الله عزَّ وجلَّ في سورة (الصّمد/ 112 مصحف/ 22 نزول) : {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ * الله الصمد} [الآيات: 1 - 2] . كان مقتضى الظاهر أن يكون التعبير: "هُو الصّمد" لكنّ بلاغة القرآن جاء فيها استعمال الاسم العلم الظاهر بدل الضمير، لتوكيد وتمكين إسناد الصفات في السورة إلى الله عزَّ وجلَّ. الغرض السادس: الاستعطاف بإعلان الخضوع، بغية استدرار الرحمة والشفقة، ومنه قول العبد الذي يستدر رحمة ربّه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 إلَهِي عَبْدُكَ الْعَاصِي أَتَاكَا ... مُقِرّاً بالذُّنوب وَقَدْ دَعَاكَ كان مقتضى الظاهر أن يقول: "أنا العاصي أتَيتُكَ" لكنّه أراد أن يستعطف ربّه ويظهر كمال خضوعه له، فذكر الاسم الظاهر بدل ذكر الضمير. الغرض السابع: إدخال الروعة والمهابة في نفس المخاطب، ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) خطاباً للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين} [الآية: 159] . إنّ مُقْتَضَى الظّاهر يستدعي أن يقال: "فتوكَّلْ عليه إنَّه يحبُّ المتوكلين". لكن وُضع الاسم المظهر وهو لفظة الجلالة "الله" موضع الضمير لإِدخال الروعة والمهابة، نظراً إلى أن لفظ الجلالة يجمع كُلَّ صفات كمال الله عزَّ وجلَّ، باعتباره اسماً علماً للذات العليّة، وما هو اسم علم للذّات يكون جامعاً لكلّ صفات الكمال. الغرض الثامن: التعجيب واستثارة الإِنكار، ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (ص/ 38 مصحف/ 38 نزول) : {ص والقرآن ذِي الذكر * بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ * وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الكافرون هاذا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [الآيات: 1 - 4] . جاء في هذا النصّ: {وَقَالَ الكافرون} مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أنْ يُقَال: "وَقَالُوا" باستخدام الضمير، ولكن وُضِع الاسم المظهَرُ "الكافرون" مقام الضمير للتعجيب من فظاعة مقالتهم، واستثارة النكير عليهم، والإِشعار بأنّهم أهل تمرّدٍ وعناد، كافرون بالحقّ، ساترون لأدلّته وبراهينِه الواضحة. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 القسم الثاني: الإِضمار في مقام الإِظهار. ويلاحظ هذا القسم في موضعين: الموضع الأول: ضمير الشأن أو القصّة، وهو ضمير الغائب الذي يقع قبل الجملة، ويسَمَّى ضمير الشأن إذا كان مذكّراً، وضمير القصة إذا كان مؤنَّثاً، ويعود كلُّ منهما إلى ما في الذهن من شأنٍ أو قصة، وذلك هو مضمون الجملة التي بعده. وضمير الشأن أو القصة لا يحتاج إلى ظاهر يعود عليه، ولا يفسَّرُ إلاَّ بجملة. ويُستعملُ ضمير الشأن أو القصة في مقام الاسم الظاهر في الأمر الذي يُرادُ فيه التعظيم والتفخيم، أو التهويل، أو الاستهجان، أو نحو ذلك. ولهذا الضمير أربعة أحوال: (1) أنْ يكون بارزاً متّصلاً، في باب "إنَّ" مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (يوسف/ 12 مصحف/ 53 نزول) حكاية لمقالة يوسف عليه السلام لإِخوته: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} [الآية: 90] . أي: إنّ الشأنَ العظيم الّذِي يَعْظُمُ لدى أُولي الألباب هو "مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِر ... ". (2) أن يكون بارزاً مُنْفَصلاً، إذا كان عامله معنويّاً، أي: إذَا كان مبتدأً، مثل قول الله عزَّ وجلَّ: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الآية: 1] . أي: قل: الشأنُ العظيم الجليل الذي يجب أن يَهْتَمَّ بِه كُلُّ ذي فكر اللهُ أَحَدٌ ... . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 (3) أن يكون مستتراً، ويكون مستتراً في باب "كاد"، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) : {لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ... } [الآية: 117] . أي: من بعد مَا كادَ شأنُهُم المستنكر يَزِيغ قلوبُ فريق منهم، فضمير الشأن هنا مستتر، ولكن بقيَتْ دلالته. (4) أن يكون واجب الحذف، ويجب حذفه مع "أَنْ" المفتوحة المخففة من الثقيلة، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (يونس/ 10 مصحف/ 51 نزول) : {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الآية: 10] . أي: وآخر دُعَاءِ أهل الجنّةِ في الجنّة أنَّ شأَنَهُمُ المحمود أن يَحْمُدوا رَبَّهم قائلين: الْحَمْدُ للهِ رَبّ العالمين. فضمير الشأن هنا محذوف وجوباً، ولا يجوز في العربية إظهاره. والغرض من وضع ضمير الشأن موضع الاسم الظاهر التعظيم والتفخيم، أو التهويل، أو الاستهجان، أو نحو ذلك كما سبق، وهذا من خصائصه في أصل الوضع اللّغوي واستعمالات العرب له. الموضع الثاني: الضمير في باب "نِعْمَ وبِئْسَ وَمَا جَرَى مجراهما" وهي أفعالٌ لإِنشاء المدح أو الذّمّ على سبيل المبالغة، وفاعل هذه الأفعال قد يكون اسماً ظاهراً، وقد يكون ضميراً مُسْتَتِراً وجُوباً مُمَيّزاً بكلمة "مَا" بمعنى شيْءٍ أو كلمةِ "مَنْ" بمعنى شخص، أو بنكرَةٍ عَامَّةٍ. والغرض من الضمير المستتر في هذا الباب الإِبْهامُ به أوّلاً للتشويق واستثارة النفس، ويأتي التّمييز فيزيلُ بعض الإِبهام ويزيد تشويقاً لمعرفة المخصوص بالمدح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 أو الذّم، وهذا من خصائص هذا الضمير في أصل الوضع اللّغويّ واستعمالات العرب له، ومن الأمثلة ما يلي: * قول الله عزّ وجلّ في وسورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ ... } [الآية: 271] . أصلها: فنِعْمَ مَا، أي: فنعم هو شيئاً. * وقولُ الله عزّ وجلّ في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول) بشأن كثير من اليهود: {وترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثم والعدوان وَأَكْلِهِمُ السحت لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الآية: 62] . أي: لَبِئْسَ هو شيئاً قبيحاً كانوا يعملونه. *** (4) النوع الرابع التَّعبير عن المستقبل بلفظ الماضي من الخروج عن مقتضى الظاهر التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي، والغرض من هذا التعبير الدلالة على تحقق الوقوع، وهو كثير في القرآن المجيد. ومن روائعه ما كان على سبيل اقتطاع أحداث المستقبل التي سيتحقّق وقوعها حتماً، وتقديمها في صورة أحداثٍ تمَّ وقوعُها. ومن الأمثلة قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) : {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أولائك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 هَدَانَا لهاذا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * ونادى أَصْحَابُ الجنة أَصْحَابَ النار أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [الآيات: 42 - 44] . فجاء في هذه الآيات وطائفة من الآيات بَعْدَها في السورة تَقْدِيمُ صُوَر من أحْداثِ المستقبل التي ستكون بِصِيَغِ أفعالٍ من أفعالِ الماضي، كأَنَّها أُمُورٌ قَدْ وقعت فعلاً ومضت للدّلالة على تحقُّقِ وقُوعها في المستقبل، ولإِعطاء الأحداث المستقبليَّة صُوَرَ قِصَص تَمَّ حُدُوثُها، فهي تُقَدَّم بتَصْوِيرٍ فَنِّيٍّ مطابق للواقِع. ومعلومٌ لدى كلِّ ذَوَّاق للتَّصْويرِ الفَنِّي في القصَصِ أنَّ ما كانَ منها أكثر مطابقةً للواقع كان أكْثَرَ تأثِيراً في النفوس، واستثارةً للمشاعر. *** (5) النوع الخامس التَّغْليب التَّغْليب: إعطاء أحد المتصاحِبَيْن في اللّفظ، أو المتشاكِلَيْنِ المتشابِهَيْنِ فِي بَعْضِ الصفات، أو المتجاورين أو نحو ذلك حُكْمَ الآخَر. ومن فوائده الإِيجاز في العبارة، مع فوائد بلاغية تُلاحَظُ في مُخْتَلِفِ الأَمثلة. ويكون التغليب في أمور كثيرة، منها: تغليبُ المذكّر على المؤنّث، وتغليب الكثير على القليل، وتغليب المعنى على اللفظ، وتغليب المخاطب على الغائب، وتغليب أحد المتناسبين أو المتشابَهيْن أو المتجاوريْنِ على الآخر، وتغليب العقلاء على غيرهم، إلى غير ذلك من أمور. الأمثلة: * ذكر الله عزّ وجلّ في القرآن الذين آمنوا والّذين كفروا في نصوص كثيرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 ويدخل المؤمنات في الذين آمنوا، والكافرات في الّذين كفروا، لأنّ الاقتصار في اللفظ على المذكورين قد كان على سبيل التغليب. * قول الله عزّ وجلّ في سورة (صَ/ 38 مصحف/ 38 نزول) : {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ استكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين} [الآيات: 71 - 74] . جاء في هذا النّصّ وأشباهه ذِكْرُ الملائكة دُونَ ذِكْرِ مَنْ كَانَ معهم من الجنّ عَلى سبيل تغليب الكثير على القليل، فالذينَ كانوا مع الملائكة من الجنّ داخلون في عموم الامر بالسجود لآدم، دلَّ على هذا استثناء إبليس، فقد كان من الجن ففسق عن أمر ربه، ولو لم يكن الجنُّ الذين كانوا مع الملائكة مأمورين بالسجود لما استثناهُ اللهُ من عُمُومِ المأمورين به إذْ لم يَسْجُدْ. * قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأحقاف/ 46 مصحف/ 66 نزول) حكاية لمقالة هود عليه السلام لقومه: {ولاكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} [الآية: 23] . كان مقتضى الظاهر أن يكون النص: قَوْماً يَجْهَلُون، بياء الغائب مراعاة للَفْظِ {قَوْماً} لكنْ جاء في النصّ تغليبُ المعنَى، فَهُوَ يُخاطبهم بقوله: {أَرَاكُمْ} فناسَبَ هذا المعنى أن يقول لهم {تَجْهَلُونَ} . والغرض البلاغيُّ من هذا التغليب موجهتُهم بوصفهم بالجهالة، إذْ وصَلُوا إلى طَوْرِ العناد الشديد والتحدّي بأن يأتيهم بالإِهلاك الذي كان يُنْذِرُهُمْ به. * ما جاء في قوله الله عزّ وجلّ في سورة (طه/ 20مصحف/ 45 نزول) خطاباً لموسى عليه السلام، وهو في المناجاة بجانب الطّور، ولم يكن معه أخوه: {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [الآيات: 42 - 44] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 ففي هذا النصّ تغليب المخاطب وهو موسى عليه السلام بأسلوب الخطاب على الغائب وهو هارون عليه السلام، والغرض البلاغيّ اعتبار الغائب كأنه حاضِرٌ يتلقَّى الخطاب. * إطلاق لفظ {العالمين} [الآية: 2] في القرآن في سورة (الفاتحة) وفي بعض النصوص الأخرى على كلّ ما سوى الله، تغليباً للعقلاء على غيرهم. * قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) : {يابنيءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة ... } [الآية: 27] . أي: كما أخرجَ أَباكم وأمّكم، فقد جاء ذكرهما بعبارة {أَبَوَيْكُمْ} على سبيل التغليب، لما بينهما من علاقة، وغُلِّبَ الذكر على الأنثى. ومنه ما هو معروف في استعمال الناس من إطلاق لفظ القمرين على الشمس والقمر. *** (6) النوع السادس وضع الخبر موضع الإِنشاء ووضع الإِنشاء موضع الخبر ومن الخروج عن مقتضى الظاهر وضع الخبر موضع الإِنشاء، ووضع الإِنشاء موضع الخبر، لأغراض بلاغيّة متعدّدة. أولاً: فمن أغراض وضع الخبر موضع الإِنشاء مايلي: الغرض الأوّل: التفاؤل بتَحَقُّق المطلوب، كالدُّعاء بصيغة الخبر، تفاؤلاً بالاستجابة، ومنه ما يلي: * قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "غِفَارُ غَفَرَ اللهُ لَهَا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 غَفَر: فعل ماضٍ، فالصيغةُ خبر، وقد وُضِع موضع الإِنشاء، إذ المعنى: اللَّهُمّ اغْفِرْ، والغرض التفاؤل باستجابة الدعاء. ومنه قول الشاعر: كُلُّ خَلِيلٍ كُنْتُ خَالَلْتُهُ ... لاَ تَرَكَ اللهُ لَهُ وَاضِحَهْ كُلُّهُمْ أَرْوَغُ مِنْ ثَعْلَبٍ ... مَا اللَّيْلَةَ بالْبَارِحَهْ الواضحة: الأسنان الّتي تبدو عند الضحك. ما أشبه اللّيلة بالبارحة: مثل يُضْرَبُ لِتَشَابُهِ الأُمُور. لقد كان مقتضى الظاهر أنْ يدعو عليه بمثل: "اللَّهُمَّ كسِّرْ أسنانه" بصيغة الإِنشاء، لكن جاء بصيغة الخبر تفاؤلاً بأن يُسْتَجَابَ دُعاؤه. الغرض الثاني: التأدُّب بالابتعاد عن صيغة الأمر، احتراماً لِمَنْ يُوجَّهُ له الطَّلَب، كأن يقول رافعُ خطابِ طلبٍ للأمير أو الرئيس: "يتكرَّمُ الأَمِيرُ بِأَنْ يطّلِعَ على خطابي، ويَنْظُرَ في طَلَبِي". الغرض الثالث: التنبيه على أنّ المطلوب يسير سهل، قد توافرت أسبابه، كأن يقول القائد لجنده في بدء المعركة: "أنتم تحُسُّونَهُمْ حَسّاً، تَقْتُلُونَ ذوي البأسِ منهم، وتُطَاردُونَ الفارّين، وتأسِرونَ سَائِرَهم". أي: افعلوا كذا وكذا. الغرض الرابع: إظهار الرغبة في حصول المطلوب، كأن تكتُبَ رسالة لقريب أو صديق غائب، تقول فيها: "جَمَعَ اللهُ شَمْلَنَا، ووصَلَ ما انقطع من حبالنا، وأمْتَعَنا بأيَّامِ أُنْسِ وصَفَاء، كما كُنَّا قَبْلَ زَمَانِ الْبُعْدِ والْغُرْبَة". الغرض الخامس: التنبيهُ على لزوم سُرْعة امتثال الأمر التكليفي، وأنه ينبغي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 ألاَّ يَمُرَّ زَمَنٌ إلاَّ والمطلوب متحقِّقُ الوقوع، ومنه قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) خطاباً لبني إسرائيل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [الآية: 84] . أي: لاَ تَسْفِكُوا دِماءَكُمْ، ولا تخرجُوا أنفسكم من دياركم، فجاء التكليف بصغية الخبر وبعبارة الفعل المضارع للإِشعار بلزوم فورية الامتثال. الغرض السادس: حمل المخاطب على الفعل بألطف أسلوب، كأن تقول لتلميذك الحريص على أنه لا يكذّبك فيما تخبر عنه من أحداث المستقبل. "تلميذي حُسَين يخطُبُ غداً يوم الجمعة عنّي في المسجد الجامع بموضوع كذا ... ". إلى غير ذلك من أغراض قد تتفتَّق عنها أذهان البلغاء الأذكياء. ثانياً: ومن أغراض وضع الإِنشاء موض الخبر ما يلي: الغرض الأول: إظهار العناية والاهتمام بالشيء، ومنه قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) : {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الآية: 29] . كان مقتضى الظاهر أن يُقَال: وبإقامَةِ وُجُوهِكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وبدُعَائِكم مُخْلِصين له الدِّين، عطفاً على لفظ {بالقسط} وبأسلوب الخبر، لكن خُولِف هذا الظاهر فجاء التعبير بأسلوب الإِنشاء في صيغة الأمر التكليفي، إشعاراً بالاهتمام بالمطلوب في أمر التكليف. الغرض الثاني: التفريق في أسلوب الكلام بين المتقارنين في العبارة للإِشعار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 بالفرق بينهما، وبأنهما لا يحسُن الحديث عنهما بتعبيرين متثماثلَيْن، ولو في الصيغة الكلاميّة، ومن الأمثلة قول الله عزّ وجلّ في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) في حكاية قول هودٍ عليه السلام لقومه: {قَالَ إني أُشْهِدُ الله واشهدوا أَنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ} [الآية: 54] . كان مقتضى الظاهر أن يقول لهم: إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَأَشْهِدُكُمْ أَنِّي بَرِيءٌ ممّا تُشْرِكون. لكن جاء التعبير على خلاف مقتضى الظاهر هذا، لئلا يكون التحدّث عنهم وهم كفرة مشركون بعبارة مُشابهة للعبارة الّتِي جاء فيها إشْهَادُ الله عزّ جلّ. الغرض الثالث: الإِشعار بأنّ ما هو مُقَرَّرٌ حصولُهُ هو أمْرٌ مرغوبٌ فيه للمتحدّث، فكأنّه مطلوبٌ له، ومن أمثلته قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ متعمّداً فلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". كان مقتضى الظاهر يستدعي أن يقول: فإنّه سيَتَبَوَّأُ مَقْعدَهُ من النار، بأسلوب الخبر، لكن عدل الرسول عن ذلك وجاء بأسلوب الإِنشاء "فَلْيَتَبَوَّأْ" للإِشعار بأنّ هذا التَّبُّوءَ أمر يَطْلُبُه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويدعو ربّه به. إلى غير ذلك من أغراض بلاغيّة قد تتفتَّق عنها أذهان البلغاء الأذكياء. *** (7) النوع السابع الانتقال من الفعل الماضي إلى الفعل المضارع وبالعكس ومن الخروج عن مقتضى الظاهر الانتقال في تتابع الجمل من الفعل الماضي إلى الفعل المضارع وبالعكس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 ولهذا الانتقال أغراض بلاغيّةٌ يقصدها البلغاء، ويكتشف متدبّر النصوص الرفيعة أغراضاً نفيسة تُقْصد بهذا الانتقال. * فمن الانتقال من الماضي إلى المضارع فالماضي قول الله عزّ وجلّ في سورة (فاطر/ 35 مصحف/ 43 نزول) : {والله الذي أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النشور} [الآية: 9] . كان مقتضى الظّاهر بَعْدَ فعل {أَرْسَلَ} الماضي أن يُعْطَفَ عليه بفعل ماضٍ فيقال: "فأثارت" لكن عُدِلَ عن هذا الظاهر إلى: {فَتُثِيرُ} بالمضارع بُغْيَة تقديم صُورَةِ السَّحابِ المثار كأنّه حدَثٌ يجري مع تلاوة النَّصّ، وهذا أسلوب فَنِّيٌّ بديعٌ، فيه إحضارٌ للمشاهد الماضية في صُوَر المشاهد الحاضرة الجارية، ذاتِ الأحداث المتجدّدة، إذ الفعل المضارع يفيد مع الحدوث الحاضر ظاهرة التجدّد والتتابع. يضافُ إلى هذا الغرض التنويعُ في أسلوب التعبير الذي يستثير الانتباه ويستدعيه بقوة. ونلاحظ في هذه الآية العود إلى الفعل الماضي بقوله تعالى: {فَسُقْنَاهُ - فَأَحْيَيْنَا} للتأكد على أنَّ الغرض من التعبير بعبارة: {فَتُثِيرُ} تَصْوِيرُ حَدَثٍ مضَى بصُورَةٍ حدثٍ يجري في الحاضر. * ومن الانتقال من المضارع إلى الماضي قول الله عزّ وجلّ في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) في وصق بعْضِ أحداث يوم القيامة: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [الآية: 87] . داخِرِين: أي: أذِلاَّء صاغرين خاضعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 كان مقتضى الظاهر يستدعي أن يُقال: {فَفَزِعَ} بالفِعْل المضارع عطفاً على فعل {يُنفَخُ} لكن عُدِلَ عن هذا الظاهر لتقديم الأحداثِ الّتي ستأتي في المستقبل في صورة أحداثٍ قَدْ وقَعَتْ وَمَضَتْ. ومع ما في هذا الأسلوب من تنويعٍ يَسْتَثير الانْتِبَاهَ، فهو يتضمَّن تأكيد أنّ هذا الأمْرَ الّذي سيحدث مستقبلاً هو بقوة الأمر الذي وقع في الماضي، إذْ مجيئُهُ في المستقبل حتميٌّ، وحتميَّةُ وقوعه في المستقبل تَسْمَحُ بالتحدُّثِ عَنْهُ بصيغة الفعل الماضي، كما يقول الماهر بالرَّمْي إذا أطْلَقَ قذيفةً مُسَدَّدَةً إلى الْهَدَفِ بدقَّةٍ تَامَّة: "لَقَدْ أصَابَتِ الهدفَ" مع أنَّها ما زالَتْ تَسِيرُ في الجوّ لم تَصِلْ بَعْدُ إلى الْهَدَف. وهذا فنٌّ بديع من فنونِ الإِبداع البيانيّ البليغ، ولكنّ استخدامه يحتاج قدرة بيانيّةً رفيعةً، تمكّن المتكلّم من اختيار المواضع الملائمةِ لاستخدامه. *** (8) النوع الثامن تجاهل العارف ومن الخروج عن مقتضى الظاهر "تجاهُل العارف" إذْ الأمور التي تجري على طبيعتها بالتِّلْقائيّة أن يتكلّم العارف بالأمر على وفق معرفته له، ولكن قد تدعوه بلاغيّة إلى التظاهر بالشّكّ أو الجهل. ومن الدواعي البلاغية لهذا: "المدح - الذَّمّ - التعجّب - التوبيخ". أمثلة: * قول الشاعر: أَلَمْعُ بَرْقٍ جَرَى أَمْ ضَوْءُ مِصْبَاحِ ... أَمِ ابْتِسَامَتُهَا بِالْمَنْظَرِ الضَّاحِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 المنظر الضاحي هو المنظر البارز الواضح. يريد الشاعر أن يصف ابتسامة مالكةِ هواه بأنها ابتسامة مضيئة، فأراد تأكيد هذه الفكرة بطرح تشكيك حول ثلاثَةِ أُمُورٍ باعِثاتِ ضوء، وهي: "لَمْعُ البرق - ضوء مصباح - بَرِيقُ ثَغْرِها" وهو عارفٌ غير جاهل، فبريق ثغرها هو الذي أثار مشاعره، فأراد أن يُثْنِيَ عليه بطرح اختلاطه في تصوّره بالأشياء والنظائر، مع تأكيد أن ابتسامتها ذات بريق. * قول البوصيري: أَمِنْ تَذَكُّر جِيرَانٍ بذي سَلَمِ ... مَزَجْتَ دَمْعاً جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ أَمْ هَبَّتِ الرِّيحُ مِنْ تِلْقَاءِ كَاظِمَةٍ ... وَأَوْمَضَ الْبَرْقُ في الظَّلْمَاءِ مِنْ إضَمِ يُريدُ تأكيد بُكَائِه المختلطِ بالدّمّ، بطرح تشكيكه في الأسباب الداعية إلى ذلك، أَهِيَ التذكر، أم الريح الّتي هبَّتْ من أرض محبوبه، أم البرق الذي أومض من جِهَتِها، وهو عارف بأن السبب هو التذكُّر. * قول المتنبّي: مَالِي أُكَتِّمَ حُبّاً قَدْ بَرَى جَسِدي ... وتَدَّعِي حُبَّ سَيْفِ الدَّوْلَةِ الأُمَمُ بَرَى جَسَدِي: أي: أنْحَلَهُ وَأَضْنَاهُ. قال العكبري في شرح هذا البيت: يقول: لأَِيّ شيْءٍ أُخفِي حُبَّه؟ وغيري يُظْهِرُ أنَّه يُحِبُّه، وهُوَ بخلافِ مَا يُضْمِر، وَأَنَا مُضْمِرٌ مِنْ حُبّهِ مَا يَزيدُ مُضْمَرُهُ عَلَى ظَاهِره، ومَكْتُومُهُ عَلَى شَاهِدِهِ، والأُمَمُ تَشْرَكُنِي في ادّعاءِ ذَلِكَ، بقلُوبٍ غير خَالِصَة، ونَيَّاتٍ غَيْر صَادِقَةٍ، فَيَنْحَلُ جِسْمِي بِقِدَمِي في صِدْقِ وُدِّهِ، وَتَأَخُّرِي فِيمَا يَخُصُّنِي من فَضْلِه". إنّه على طريقة تجاهل العارف قال: "مَالِي أُكَتِّمُ حُبّاً قَدْ بَرَى جَسَدِي" لتأكيد حُبِّه له بتساؤله عن سبب تكتُّمِه بهذا الحب. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 (9) النوع التاسع القلب ومن الخروج عن مقتضى الظاهر "الْقَلْبُ" ويكون القلْب بإجراء التبادل بين جزئين من أجزاء الجملة لغرضٍ بلاغيّ يستحسنُه الفطناء، وَيُلْحَقُ به القلب في التشبيه. وأُمثّل للقلب في التشبيه بقولي صانعاً مثلاً: تَدَاوَلَ الإِلْمَاحَ بَدْرُ الدُّجَى ... كَوَجْهِ هِنْدٍ مِنْ وَرَاءِ الشَّبَكْ والْوَرْدَةُ الْحَسْناءُ فِي غُصْنِهَا * وَجْنَتُهَا مَدَّتْ إليْنَا الشَّرَكْ* واستعمل القلب في التشبيه يتضمّن ادّعاء أنّ الصفات في المشبّه أفضل منها في المشبه به، فيأتي القلب أبلغ إذا كان التشبيه دقيقاً متقناً مختاراً ببراعة. * ومن القلب قول الشاعر: "يكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ". وكان مقتضى الظاهر أن يقول: تَكُونُ مِزَاجَ الْعَسلِ والماءِ، إلاَّ أن الشَاعرَ أجرى القلب بين جزئين جملته. * ومن القلب قول الشاعر يصف ناقته. فَلَّمَا أَنْ جَرَى سِمَنٌ عَلَيْهَا ... كَمَا طَيَّنْتَ بِالْفَدَنِ السِّيَاعَا الفَدَن: القصر. السِّياع: الطين المخلوط بالتبن يُطَيّن به البناء. وحسَّنَ هذا القلبَ إذْ كان الغرض منه الإِشعارَ بأنّ الطين كان أكثر من القصر، حتَّى كأنَّ القصر هو الذي كان طيناً للطين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 ملاحظات: الأولى: حين لا يتضمّن القلب غرضاً مقبولاً لدى البلغاء والأدباء يكون سَمِجاً مرفوضاً، كقول عُرْوَةم بن الْوَرْد. "فَدَيْتُ بِنَفْسِهِ نَفْسِي وَمَالي". إنّ ما يتبادر إلى الذهن هو أنه يؤثر نفسه، ولا يفدي محبوبه بنفسه وماله. الثانية: أرى أنّ من القلب أن يُوجّه الأب مثلاً لابنه تكليفاً بعمل بصورة مقلوبة، فيقول له مثلاً: "أعطني نقوداً لأذهبَ إلى السّوق وأشتري لك فاكهة"، أي: خذ منّي النقود وأحضر الفاكهة من السّوق. الثالثة: وأرى أنّ من القلب أنْ يلاحظ البليغ أنّ عند غيره كلاماً يتلجلَجُ في صدره، ويريد أن يقوله له، إلاَّ أنّه يكتمه خجلاً، أو خوفاً، أو تأدُّباً، أو غير ذلك، فيقول عنه، لكنَّه يخاطبُه به، كأن يقول لزائره الذي يُكثر من زيارته، وفي نفسه أن يوجّه له عتاباً على أنّه لا يقابله بالمِثْلْ، في شعر صنعتُه مثلاً لهذا: مَالِي أزُورُكَ في شَوْقٍ وَفِي حَدَبٍ ... وَأَنْتَ تَهْجُرُنِيْ في الْفِكْرِ والنُّزُلِ مَا هَكَذا يَصْنَعُ الأَحْبَابُ مَا صَدَقَتْ ... حِبَالُ وِدِّهم فِي الْقَوْلِ والْعَمَلِ أي: من حَقِّكَ أَنْ تقولَ لي هذا الكلام. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 "علم المعاني" الباب الثالث: القصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 (1) تعريف القصر القصر: يأتي في اللّغة بمعنى التّخصيص، يقال لغة: قَصَرَ الشَّيْءَ على كذا، إذا خصّصه به، ولم يجاوز به إلى غيره. ويُقالُ: قَصَر غلَّةَ بستانه على عياله، إذا جعلها خاصّةً لهم، وقَصَر الشيءَ على نفسه، إذا خصَّ نفسَه به، فلم يجعل لغيره منه شيئاً. ويأتي الْقَصْر أيضاً بمعنى الحبْسِ، يُقال لغة: قَصَر نفسه على عبادة رَبّه، إذا حَبَسها على القيام بعبادة ربّه، وقَصَر جُنْدَهُ على ممارسة التدريب العسكريّ في القلعة، إذا حَبَسَهُمْ وألزَمَهُمْ بذلك فيها. والقصر في اصطلاح علماء البلاغة: تخصيص شيءٍ بشيءٍ بعبارة كلاميّةٍ تدلُّ عليه. ويقال في تعريفه أيضاً: جعْلُ شيءٍ مقصوراً على شيءٍ آخر بواحدٍ من طُرُقٍ مخصوصة من طُرُق القول المفيد للقصر. والمقصور عنه على وجهين: الوجه الأول: أن يكون جميع ما سوى المقصور عليه، ويسمَّى عند البلاغيين "قصراً حقيقيّاً" مثل: "لا إلاه إلاَّ الله" أي: لا يُوجَدُ في الوجود كُلّه معبودٌ بحقٍ سوى الله عزَّ وجلَّ. وهذا "القَصْر الحقيقيّ" إذا كان مضمونه مطابقاً للواقع سمّوه "حقيقيّاً تَحْقيقيّاً" أي: صادقاً مطابقاً للواقع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 وإذا كان غير مطابق للواقع، وإنما ذُكر عَلَى سبيل المبالغة والادّعاء المجازيّ، سمَّوْهُ "حقيقيّاً ادّعائيّاً" أو مجازيّاً" مثل قولهم: لا سيف إلاَّ ذو الفقار. الوجه الثاني: أن يكون المقصور عنه شيئاً خاصّاً يُرادُ بالْقَصْر بيانُ عَدَم صحَّةِ ما تصوَّرَهُ بشأنه أو ادَّعاهُ المقصودُ بالكلام، أو إزالة شكّه وتردّده، إذا الكلام كلُّه مُنْحَصِرٌ في دائرة خاصّة، ويسمَّى "قصراً إضافيّاً" أي: ليس قصراً حقيقيّاً عامّاً، وإنّما هو قَصْرٌ بالإِضافة إلى موضوع خاصٍّ يدور حول احتمالين أو أكثر من احتمالاتٍ محصورة بعَدَدٍ خاصّ، ويُسْتَدلُّ عليها بالقرائن. مثل: {وَمَا مَحمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُل} [آل عمران: 144] لقد جاء هذا البيان لتصحيح تصوُّر الَّذِين يتوهَّمُونَ أنّ محمداً رسولٌ لاَ يموتُ كما يموت سائر الناس. فالموضوع الخاصّ الذي يدور الكلام حوله هو كون محمّدٍ رسولاً مبرَّءاً من أن يكون عرضةً للموت، فجاء النصّ مبيّناً قَصْرَهُ علَى كونه رسولاً فقط، والمقصورُ عنه أمْرٌ خاصٌّ هو كونه لا يموت، لا سائر الصفات غير صفة كونه رسولاً، إذْ له صفات كثيرة لا حصر لها، وهي لا تدخل في المقصور عنه. إذن: فالقصر في هذا المثال هو من قبيل "القصر الإِضافي". *** (2) أقسام القصر بحسب أحوال المقصور والمقصور عليه كُلٌّ من القصر الحقيقيّ والقصر الإِضافي ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: قصر موصوف على صفةٍ دون غيرها. ويكون قصراً حقيقاً، وقصراً إضافياً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 القسم الثاني: قصر صفةٍ على موصوفٍ دون غيره. ويكون قصراً حقيقاً، وقصراً إضافياً. وليس المقصود بالوصف في باب القصر النعتَ النحويَّ الذي يَتْبَعُ منعوتَه، بل هو كلُّ معنىً من المعاني يتّصف به موصوف ما، كالفعل يتصف به الفاعل باعتبار كونه فاعلاً، ويتصف به المفعول به باعتبار كونه مفعولاً به، كَالخبر يتَّصفُ به المبتدأ، وكالحال يتّصفُ به صاحبُ الحال، وكَفِعْلٍ مَا يتَّصفُ بكونه قد وقع في مكانٍ ما أو زمانٍ ما، وهكذا. فقد يريد المتكلّم أن يَقْصُرَ مثلاً الفعلَ على الفاعل، أو على المفعول به، أو يقصر الخبر مثلاً على المبتدأ، أو الحال مثلاً على صاحب الحال، وهكذا. وقد يريد المتكلّم أَنْ يقصر مثلاً الفاعل أو المفعول به على الفعل، أو المبتدأ مثلاً على الخبر، أو صاحب الحال على الحال، وهكذا. الأمثلة: * حينما نقول: "لاَ إلاه إِلاَّ الله" فإنّنا نقصر وصف الإِلَهيّة الحق على موصوف هو الله وحده "هذا من قصر الصفة على الموصوف - وهو قصر حقيقي". * وحينما نقول: "ما لإِبليس من عمل في الناس إلاَّ الوسوسة والإِغواء" فإنَّنا نقصر عمل إبليس في الناس على صفتي الوسوسة والإِغواء. عمل إبليس في النّاس موصوف، والوسوسة والإِغواء صفة "هذا من قصر الموصوف على الصفة". فإذا كان لا صفة لعلمه في الناس بحسب الواقع إلاَّ الوسوسة والإِغواء كان قصراً حقيقيّاً، وإذا كان لعمله صفات أخرى غير الوسوسة والإِغواء كان قصراً إضافيّاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 * وحينما نقول: "ليس في كلام الله باطلٌ بل كُلًُّه حقٌّ" فإننا نقصر كلام الله في موضوع الحق والباطل على صفة كونه حقاً "هذا من قصر الموصوف على الصفة - وهو قصر إضافي". * وحينما نقول: "علم قيام الساعة عند الله لا عند غيره" فإننا نقصر علم قيام الساعة على الله وننفيه عن غيره "هذا من قصر الصفة على الموصوف - وهو قصر حقيقيّ". * وحينما نقول: "طاف الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حول الكعبة راكباً ناقته لا ماشياً" فإننا نقصر طواف الرسول على حالة الركوب، دون المشي، "هذا من قصر الموصوف وهو الطواف على الصفة وهي كونه ركوباً_ وهو من القصر الإِضافي". * وحينما نقول: "إنّما تُشْرِق الشَّمْسُ في النهار" فإننا نَقْصُر شروق الشمس على كونه في النهار دون اللّيل "هذا من قصر الموصوف وهو شروق الشمس على الصفة وهي كونه في زمن النهار - وهو من القصر الإِضافي لأن الشروق له صفات أخرى كثيرة غير كونه في النهار، لكنّ الموضوع المتحدَّث عنه خاص بزمن الشروق". *** (3) أركان الْقَصْر ممّا سبق يتضح لدينا أنّ للقصر أربعة أركان: الركن الأول: المقصور، صفةً كان أو موصوفاً. الركن الثاني: المقصورُ عليه، صفةً كان أو موصوفاً. الركن الثالث: المقصورُ عنه، وهو المنفيُّ المستَبْعَدُ بالْقَصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 الركن الرابع: القولُ الْمَقصُورُ به. (1) ففي كلمة التوحيد: "لاَ إلاه إِلاَّ الله" وهي من القصر الحقيقي بقصر صفةٍ على موصوف: * المقصور: صفة الإلهية للمعبود بحقّ. * المقصور عليه قصراً حقيقيّاً: الله عزَّ وجلَّ الموصوف بأنَّه الإله بحقّ. * المقصورُ عنه: كلُّ ما سوى الله عزَّ وجلَّ. * القول المقصور به: النفي والاستثناء في العبارة: "لا.. إلاَّ.. ". (2) وفي عبارة: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ} [آل عمران: 144] وهي من القصر الإِضافي بقصر موصوف على صفة: * المقصور: "محمّد" الموصوف بأنه رسول. * المقصور عليه قصراً إضافياً: صفة رسالته، المفهومة من "رسول". * المقصور عنه قصراً إضافياً: صفة تبرُّئِه من أن يكون عرضةً للموت، لتصحيح تصوُّر متوهمي ذلك فيه، ظانين ظنّاً توهميّاً أنه لا يموت. * القول المقصور به: النفي والاستثناء في العبارة: "مَا ... إلاَّ ... ". *** (4) أقسام الْقَصْر بحسب أحوال من يوجّه له الكلام من المعلوم أنّ الكلام يوجّه لمن يراد إعلامه بمضمونه وهو خالي الذّهن، أو يراد تصحيح تصوّره الذي هو مخطىء فيه بحسب اعتقاد مُوَجِّه القول، أو يُرادُ رَفْعُ شَكِّه وتردّده، ويستخلص من هذا أربعة أقسام في القصر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 القسم الأول: أن يكون الكلام المشتمل على القصر موجّهاً لخالي الذّهن، أو إعلاناً عن اعتقاد المتكلم، أو اعترافه بمضمون ما يقول، أو تعبيره عما في نفسه لمجرّد الاعلام به، وأُسمِّيهِ: "قصراً إعلامياً ابتدائياً". وأشير إلى أنَّ البلاغيين لم يذكروا هذا القسم اكتفاءً بالمفاهيم العامّة المعروفة من توجيه الكلام. القسم الثاني: أن يكون الكلام المشتمل على القصر موجّهاً لمن يُرادُ إعلامُه بخطأِ تصوُّرِهِ مُشَارَكةَ غيرِ المقصور عليه في المقصور. ويُسمِّي البلاغيُّون هذا "قَصْرَ إفراد". مثالُه: يعتقد المشرك أنّ الأربابَ التي يُؤْمِنُ بها تَخْلُق، كما أنَّ اللهَ يخلُق، فنقول لَهُ: "لاَ خَالِقَ إلاَّ الله". هذا قصر حقيقيٌّ، من قصر الصفة على الموصوف، ويُرادُ منه إفراد الله عزَّ وجلَّ بالخلْقِ، ونَفْيُ صفةِ الخلْقِ عن كلّ ما سواه ومن سواه من الشركاء، لتعريف الخالفِ بأنه مخطىء في تصوّره مشاركةَ غَيْرِ اللهِ للهِ في الخلْق، فهو "قَصْرُ إفراد". القسم الثالث: أن يكون الكلام المشتمل على القصر موجّهاً لمن يُرادُ إعلامه بخطأ تصوُّره نسْبَةَ المقصور إلى غَيْر المقصور عليه. ويُسَمِّي البلاغيون هذا "قَصْرَ قَلْب". مثاله: يعتقد الملحد الذي يَجْحَدُ وجُود اللهِ عزَّ وجلَّ، وينْسُبُ أحداثَ الكون المتقنة العجيبة إلى التطوّر الذاتيّ، وإلى المصادفات، فنقول له: "لا مُحْدِثَ لأحداث الكون إلاَّ الله". هذا قصرٌ حقيقيٌّ، من قصر الصفة التي هي إِحْداثُ أَحْداثِ الكون، على موصوف واحدٍ هو الله عزَّ وجلَّ، ويُرادُ منه قلْبُ تصوُّر من يُوَجَّهُ له الخطاب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 وتعريفُهُ بأنَّ ما يَنْسُبُه إلى التطوُّر الذّاتي وإلى المصادفات هو لله وحده، فهو "قَصْر قلْب". القسم الرابع: أن يكون الكلام المشتملُ على القصر موجَّهاً لمن يُرادُ إزالَةُ تردُّدِه وشكِّهِ، هل المقصورُ منسوبٌ إلى المقصور عليه أوْ إلى غَيْره. ويُسمِّي البلاغيّون هذا "قَصْرَ تعْيين". مثاله: يسأل متردّد شاكٌّ: هل لفظ الكسوف يُسْتَعْمَل لاختفاء ونقصان ضوء الشمس أو نور القمر، فنقول له: "لا يُسْتَعْمَل لفظ الكسوف إلاَّ للشمس، أمّا ما يحدث للقمر فيُسَمَّى الْخُسُوف". هذا قصرٌ إضافي، لأنّ كلمة "الكسوف" تُسْتَعْمَلُ لمعانٍ أخرى غير ما يحدث للشمس، ومنها تنكيس الطَّرْف، وهو من قصر الصفة على الموصوف. وُيرَادُ منه إزالة شكِّ وتردّد من يوجّه له القول بتعيين المقصور عليه، فهو "قصْرُ تعيين". ملاحظة: يرى البلاغيّون أنّ "قَصْرَ الإِفراد، وقَصْرَ الْقَلْبِ، وقَصْر التَّعْيِين" أقسامٌ للقصر الإِضافِيّ فقط، إلاَّ أنّي لست أرَى هذا، ففي الأمثلة الّتي أَوْرَدْتُها للأقسام، منها ما هو قصْرٌ حقيقيٌ، منها ما هُو قَصْرٌ إضافي. فالأقسام الأربعة السابقة نستطيعُ أن نعتبرها أقساماً للقَصْر بوجْهٍ عَامّ، وحَالُ المقصود بتوجيه الكلام له هي التي تحدّد كون الْقَصْر قَصْرَ إعلامٍ ابتدائي، أو قَصْرَ إفراد، أو قصر قلب، أو قصر تعيين. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 (5) طُرُقُ القصر يُسْتفادُ القصر بعدة طرق: الطريق الأول: أن يكون بعبارة تدلُّ عليه بمادَّتها اللّغويَّة صراحةً، مثل: "دخولُ مكةَ مقصورٌ على المسلمين - غرفة القصر العليا خاصّةٌ بسيِّد القْصَر - سبق الفارس خالدٌ جميعَ الْمُتَسابقين - دخل الزوج إلى مخدع العروس وحده - سدُّ الصّين أعظم سَدٍّ في الأرْض وأطولُه - أبو حنيفة مُنْفَرِدٌ من بَيْنِ المجتهدين في باب الاعتماد على الرأي الثاقب". *** الطريق الثاني: أَنْ يكون بدليلٍ خارجٍ عن النصّ، كدليل عقلي، أو دليل حِسِّي، أو دليل تجريبي، أو دليل من القرائن الذّهنيَّةِ أو الحاليّة، مثل: "فلانٌ رئيسُ الجمهوريّة - اللهُ رَبُّ السّماوات والأرض وهو على كُلّّ شيءٍ قدير - تبثُّ الشَّمْس ضياءها على الأرض فَتُمِدُّها بالحرارة -. لاَ يَسْلَمُ الشَّرَفُ الرَّفِيعُ مِنَ الأَذَى ... حتَّى يُرَاقَ عَلَى جَوانِبِهِ الدَّمُ أَرُوِني أُمَّةً بَلَغَتْ مُنَاهَا ... بَغَيْرِ الْعِلْمِ أَوْ حَدِّ الْيَمَانِيّ لكِنَّ الْقَصْرَ بواحدٍ من هذين الطريقين لا يدخل في اهتمامات علماء البلاغة تفصيلاً وتقسيماً وشرحاً، إلاَّ أنّ القصر المستفاد بواحد منهما - فيما أرى - مشمولٌ بكلّ أحكام القصر وتفصيلاته من جهة المعنى، والسبب في أنَّ البلاغيين لم يوجّهوا لهما اهتماماتهم، أنّهما طريقان يتعذَّر حَصْر عناصرهما أو يَعْسُر. واهتم البلاغيون بتحديد وشرح وتقسيم وتفصيل الطريقين الآتيين "الثالث والرابع" فهو القصر الاصطلاحي المدوّن عند علماء البلاغة، والذي وجهوا له عنايتهم وفيما يلي شرحهما: *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 الطريق الثالث: أن يكون القصر ببعص الأدوات التي تدلُّ عليه بالوضع اللّغوي، وهي: النفي والاستثناء - وكلمتا "إنَّما" و"أَنَّما" - والعطف بالحروف التالية: "لا - بل - لكن". وفيما يلي الشرح: أولاً: النفي والاستثناء، مثل: "لاَ إلاه إِلاَّ الله - مَا مِنْ إلَه إلاَّ الله - ومَا كان لنفس أن تموت إلاَّ بإذن الله - وَإِنْ مِنْ شيءٍ إلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُه - فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُم لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إلاَّ قَلِيلاً - وقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَة - قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لنا" ومثل إلاَّ في الاستثناء كلمة "غَيْر" ونحوها. ومثل النفي ما يدلُّ على معناهُ، كالاستفهام. ويكون المقصور بالنفي والاستثناء هو ما قبل الاستثناء صفةً كان أو موصوفاً، أمّا المقصور عليه فهو ما بعد أداة الاستثناء. النفي ... الْمَقْصُورُ ... ... ... ... أداة الاستثناء ... المقصور عليه ما ... مُحَمَّدٌ (موصوف) ... ... ... إلاَّ ... ... رسول "صفة" لا ... صاحب للرسول في الغار (صفة) إلاَّ ... ... أبو بكر الصديق "موصوف" لن ... يُصِيبَنَا "أي: مُصِيب ما" ... ... إلاَ ... ... مَا كتب الله لنا "صفة" وهو "موصوف" ... ... ... ... ... ... ... أي: صِفَةُ ما يُصِبَنَا أنَّه ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مكتوبٌ لنا لا علينا ثانياً: كَلِمتا "إنَّما" بكَسْر الهمزة، و"أنَّما" بفتح الهمزة، والمقصور بواحد منهما هو ما يلي الأداة، والمقصور عليه هو الذي يجيءُ بعده. أمثلة: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول) : {وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ ... } [الآية: 111] . أي: لا يكسبُهُ إلاَّ على نفسه، والمعنى أنّ المكسُوبَ من الإِثم "وهو هنا موصوف" مقصور على صفة واحدة هي كونه على نفس الكاسب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 فهو من قصر موصوف على صفة، أي: لا يضرّ به إلاَّ نفسه، وظاهرٌ أنَّه من قسم القصر الإِضافي، إذ الكلام يدور في دائرة الجزاء عند الله، أمّا في غير دائرة الجزاء الرّبّاني فقد يضرّ كاسب الإِثم به غيره من عباد الله ضرراً دنيويّاً. * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) خطاباً لرسوله: {قُلْ إِنَّمَآ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلاهكم إلاه وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} [الآية: 108] . في هذا النَّصّ قَصْران: أحدهما بأداة "إنَّما" بكسر الهمزة والآخر بأداة "أَنَّما" بفتح الهمزة. وهذان القصران مساويان لقولنا: ما يُوحَى إليَّ إلاَّ أَنَّه ما إلهكم إله واحد. فالْمَقْصُورُ بالأداة الأولى "إنَّما" هو الموحَى به، وهو هُنَا "موصوفٌ" والمقصورُ عَلَيْهِ مَضْمُونُ جُمْلَةِ "أَنَّمَا إلهكم إله واحداٌ" أي: وحدانية إلهكم، وهو هنا "صفة" أي: صفة الموحَى به كونُ مضْمُونِه هذه الحقيقة. والمقصور بالأداة الثانية "أَنَّما" هو "إلهكم" وهو هنا "موصوف". والمقصورُ عليه هو كونُه إلها واحداً، وكونه إلهاً واحداً صِفَةٌ. فالمثالان من قصر مَوْصُوفٍ على صِفَةٍ، وظاهر أنهما من قبيل القصر الإِضافي، إذ الكلام مع المشركين يدور في دائرة التوحيد والشرك، ومن المعلوم أنَّ الله عزَّ وجلَّ كان إبَّانَ نُزولَ النّصّ يُوحِي إلى رَسُولِهِ بياناتٍ ومعلومات أُخْرَى غير كون إلههم إلها واحداً. * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول) خطاباً للذين آمنوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول واحذروا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين} [الآية: 92] . أي: لاَ يَجِبُ عَلى رَسُولِنَا إلاَّ البلاغُ المبينُ. المقصورُ بأداة "أَنَّما" هو الوجوبُ على الرسول، وهو هنا "صِفَةٌ" والمقصورُ عليه هو البلاغ المبين، وهو هنا "موصوف" فهو من قصر صفة على موصوف أي: صفةُ تكليف الرسول مقصورةٌ على موصوف هو تبليغهُ ما أَمَرَهُ الله بتبليغه بَلاَغاً مبيناً. وهذا القصر هو من قبيل القصر الإِضافي، إذ الكلام حول مسؤولية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تجاه قومه في موضوع رسالته، ولا يدخل في هذه الدائرة الخاصة ما يجب على الرسول من واجبات أخرى تجاه ربِّه وتجاه أصحاب الحقوق، وواجبات أخرى غير ذلك. * ونقول في قصر الموصوف على الصف: "إنّما اللهُ إله واحد" وهو قصر إضافي. ونقول في قصر الصفة على الموصوف: "إنما الإله الله" وهو قصر حقيقي. ثالثاً: العطف بالحروف التالية: "لا - بَلْ - لكن". (1) أمَّا كلمة "لا" العاطفة فَيُعطَفُ بها لإِخراج المعطوف ممّا دخل فيه المعطوف عليه، مثل: أكَلْتُ بصَلاً لا عَسَلاً، ولبستُ خزّاً لاَ بزّاً، وللعطف بها ثلاثة شروط: الأول: أن يكون المعطوف بها مفرداً، أي: غير جملة. الثاني: أن تكون مسبوقة بإيجاب أو أمْرٍ أو نداء. الثالث: أن لا يَصْدُقَ أحد معطوفيها على الآخر، وهذا الشرط بدهي. والعطف بكلمة "لا" يفيد الْقَصْر، وكلٌّ من المقصور والمقصور عليه يأتيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 قبل أداة العطف، وكلٌّ منهما قد يكون هو المعطوف عليه، أمّا المعطوف بها فهو مقصور عنه، ففي قولنا: حامل راية المسلمين في فتح خيبر عليٌّ لا غَيْرُه. عليٌّ: هو المقصور عليه، وهو موصوف هنا. حَمْلُ الراية في فتح خيبر: هو المقصور، وهو صفة هنا. غَيْرُ علي: هو المقصور عنه. والقصر في هذا المثال حقيقي، من قصر الصفة على الموصوف. وفي قولنا: مالك بن أنس فقيه مجتهد لا شاعر. مالك بن أنس: هو المقصور، وهو موصوف هنا. فقيه مجتهد: هو المقصور عليه، وهو صفة هنا. شاعر: هو المقصور عنه. والقصر في هذا المثال قصر إضافي، وهو من قصر الموصوف على الصفة. (2) وأمّا كلمة"بل" العاطفة، ومعناها الإِضرابُ عن الأول، والإِثبات للثاني، وللعطف بها شرطان. الأول: أن يكون المعطوف بها مفرداً، أي: غير جملة. الثاني: أن تكون مسبوقة بإيجابٍ أو أمْرٍ أو نهْيٍ أو نَفْي. * فإن وقعت بعد كلام مثبت خبراً كان أو أمراً، كانت للإِضراب والعدول عن شيءٍ إلى آخر. * وإن وقعت بعد نفْيٍ أو نَهْيٍ كانت للاستدراك بمنزلة "لكِنْ". والعطف بكلمة "بل" يفيد القصر، والمقصور عليه بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 هو ما بعدها، المعطوف بها، ففي قولنا: "لا تأكل دُهْناً حيوانيّاً بل دهناً نباتيّاً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 دهْناً نباتيّاً: هو المقصور عليه، وهو المعطوف بكلمة "بل". دُهْنَا حَيَوانيّاً: هو المقصور عنه. وهو المعطوف عليه. الأكْل المفهوم من "لا تأكل": هو المقصور. أي: ليكن أَكْلُكَ بالنسبة إلى الأدهان مقصوراً على الدهن النباتي، ومبتعداً عن الدهن الحيواني. وهذا قصر إضافيٌّ من قصر الصفة على الموصوف، إذ الموصوف هنا مطلق "الدُّهن" والصفة كونه دهناً نباتيّاً، والوصيةُ توجّه أن يكون المأكول من الأدهان الدّهن النباتي. وفي قولنا: "المرجان حيوانٌ بَحْرِيٌّ بل نبات بحري". نبات بحري: هو المقصور عليه، وهو "صفة". المرجان: هو المقصور، وهو "موصوف". حيوان بحري: هو المقصور عنه، وهو "صفة". القصر في هذا المثال قصر إضافي، من قصر الموصوف على الصفة، إذ لا تقتصر صفات المرجان على كونه نباتاً بحريّاً. (3) وأمّا كلمة "لكِنْ" العاطفة، فهي للاستدراك بعد النفي، وللعطف بها ثلاثة شروط: الأوّل: أن يكون المعطوف بها مفرداً، أي: غير جملة. الثاني: أن تكون مسبوقة بنفي أو نهي. الثالث: أن لا تقترن بالواو. والعطف بكلمة "لكن" يفيد القصر، وحالها كحال "بل" فالمقصور عليه بها هو ما بعدها المعطوف بها، ويصلح هنا مثال: "لا تأكُلْ دُهْناً حيَوانيّاً لكن دُهْناً نباتيّاً" بوضع كلمة "لكِنْ" بدل كلمة "بل" ويكون الشرح هناك هو الشرح هنا. وفي قولنا: "مَا طلعَ الْفَجْرُ الصّادقُ لَكِنِ الفجر الكاذب". الفجر الكاذب: هو المقصورُ عليه، وهو "موصوف". الفجر الصادق: هو المقصورُ عنه. الطلوع الخاص: هو المقصور، وهو "صفة". القصر في هذا المثال قصر إضافي من قصر الصفة على الموصوف، إذ لا يقتصر الطلوع على الفجر. *** الطريق الرابع: أن يكون القصر بدلالات في الكلام تفهم من: (1) تقديم ما حقُّهُ التأخير في الجملة. (2) إضافة ضمير الفصل. (3) تعريف طرفي الإِسناد في الجملة. والشرح فيما يلي: أولاً: تقديم ما حقُّهُ التأخير في الجملة. سبق في مبحث "التقديم والتأخير" بيان مراتب عناصر الجملة في اللّسان العربي، وأنّ تقديم ما حقُّه التأخير يكون لأغراضٍ ودواعي بلاغيّةٍ معنوية، أو جماليّة لفظيّة، وبلغت الدواعي البلاغيّة لتقديم المسند إليه على المسند "اثني عشر داعياً" وبلغت دواعي تقديم المسند إذا كان الأصل في التأخير في الجملة "أربعة دواعي خاصة" مع دواعي أخرى يمكن أن تستفاد من تقديم المسند إليه، وبلغت دواعي تقديم متعلقات الفعل عن مراتبها. "ثمانية دواعي" وقد سبق شرحها وعرض أمثلتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 وهنا في باب القصر نبَّهَ البلاغيون على أنّ تقديم ما حقّه التأخير في الجملة قد يُفِيدُ القصر في بعض صُوره، ومن ذلك ما يلي: (1) تقديم المعمول على عامله. (2) تقديم المسند إليه إذا كان حقُّه في الجملة التأخير. (3) تقديم المسند إذا كان حقُّه في الجملة التأخير. * أمّا تقديم المعمول على عامله فجمهور البلاغيين على أنّه يفيد القصر، سواءٌ أكان مفعولاً، أم ظرفاً، أم مجروراً بحرف جرّ، والمقصور عليه هو المقدّم. أمثلة: المثال الأول: قول الله عزّ وجلّ في سورة (الفاتحة/ 1 مصحف/ 5 نزول) : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الآية: 5] . إيَّاكَ: الأولى مفعول به لفعل {نَعْبُد} وإيّاكَ: الثانية مفعول به لفعل {نَسْتَعِين} ، والأصل في المفعول به أن يكون متأخيراً عن عامله. قالوا: دلّ هذا التقديم على تخصيص الله عزّ وجلّ بالعبادة والاستعانة، فالمعنى: لا نَعْبُد إلاَّ إيّاك، ولا نستعين إلاَّ بك. والقصر هنا من قصر الصفة على الموصوف، وهو قصر حقيقي. المثال الثاني: قول الله عزّ وجلّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) خطاباً للّذينَ آمنوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 {وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} [الآية: 159] . إلى الله: معمول لفعل {تُحْشَرُونَ} لأنّه معلِّقٌ به، والأصل فيه أن يكون متأخّراً عن عامله. قيل: معناه لإَلَى الله تُحْشَرُونَ لا إلى غيرِه، أي: ليحاسبكم ويجازيكم، ومعلوم أنّ الحشر يوم القيامة يكون لله وحْدَه، فهو وحده الذي يحاسِبُ عباده ويجازيهم يوم الدين. مع ما في هذا التقديم من داعٍ جمالي رُوعي فيه تناسُق رؤؤس الآيات. ولا مانع من اجتماع عدَّة دواعي بلاغيَّةٍ لظاهر واحدة. المثال الثالث: قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً ... } [الآية: 143] . يُلاحظُ في هذا النّصّ أنَّ الصِّلَةَ في العبارة الأولى: {شُهَدَآءَ عَلَى الناس} أُخّرَتْ عن عاملها، لأنّ المراد مجرّد إثبات شهادة المسلمين على الناس دون تخصيصهم بهذه الشهادة، إذْ قَدْ يَشْهَدُ عليهم عيسَى عليه السلام الذي بشَّرُهمْ بخاتم المرسلين، وسَيَشْهَدُ عليهم عند نزوله. أمّا في العبارة الثانية: {وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} فقد قُدِّمَت الصلة {عَلَيْكُمْ} على عاملها {شَهِيداً} لأنَّ المراد تخصيص الرسول بشهادته عليهم، إذْ هو المبلّغ عن الله دين الله لمن بلّغَهُمْ بَعْدَ بعثته، ولا أحَدَ غيرُهُ بلَّغَ هذا الدين عن الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 المثال الرابع: قول المتنبي يمدح بَدْر بْنَ عمّار: بِرَجَاءٍ جُودِكَ يُطْرَدُ الْفَقْرُ ... وَبَأَنْ تُعَادَى يَنْفَدُ الْعُمْرُ قدّم الصلة (برجاء جودك) على عاملها (يُطْرَد) والصلة (بأنْ تُعَادَى) على عاملها (يَنْفَدُ) لأنه أراد على سبيل المبالغة والادّعاء أنْ يخُصَّ برَجاءِ جوده طردَ الفقر، دون رجاء جود غيره، وأنّ يَخُصَّ بِمُعَاداته نفاد عمر من يعادِيه من الناسِ، دون معاداة غيره من الناس. فالقصر هنا ادعائي مجازي، وإضافي غير حقيقي. المقصور (وهو صفة) ... المقصور عليه (وهو موصوف) ... المقصور عنه طرد الفقر ... ... ... رجاء جوده ... ... ... ... ... ... رجاء غيره من الناس نفاد العمر ... ... ... معاداته ... ... ... ... ... ... معاداة غيره من الناس المثال الخامس: قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) في معرض الحديث عن كُفَّار اليهود: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ القيامة يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ العذاب ... } [الآية: 85] . في هذا النص قُدِّمَ الظَّرفُ {يَوْمَ القيامة} على عامله {يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ العذاب} لإِفادَة قصر الرَّدّ إلى أشدّ العذاب على كونه يقع يوم القيام، وهو قصر حقيقي. * وأمَّا تقديم المسنَدِ إليه إذا كان حقُّه في الجملة التأخير، فقد يفيد القصر في بعض أحواله، وقد يفيد مجرّد التقوية والتأكيد، ودلالة القصر يساعد عليها سِبَاق الكلام وسياقه، وقرائن الحال، والمقصور عليه هو المقدّم. فمن إفادة تقديم المسند إليه القصر - على ما أبان الشيخ عبد القاهر الجرجاني الإِمامُ في البلاغيّات - ما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 الأول: أن يكون المسند إليه معرفةً والمسنَدُ فعلاً مثبتاً، كأنْ تقول: "أنا قمت - أنا سعيت في حاجتك". فإذا كان القصر قصر "إفراد" جاء التأكيد بنحو: "أنا قمتُ وحْدِي - أنا سعيْتُ في حاجَتِكَ وحْدِي". وإذا كان قصر "قلب" جاء التأكيد بنحو: "أنا قُمْتُ دون غيري - أنا سيعتُ في حاجَتِكَ لا غيري" وكذلك إذا كان القصر قَصْرَ تعيين. ومنه ما جاء في قول الله عزّ وجلّ في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) في عرض قصّة هَدِيَّة ملكه سبأ لسليمان عليه السّلام، قالت: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون * فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ الله خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [الآيات: 35 - 36] . جاء في هذا النصّ تقديم المسند إ ليه: {أَنتُمْ} على الْمُسْنَد: {تَفْرَحُونَ} مع تقديم المعمول {بِهَدِيَّتِكُمْ} على عامله {تَفْرَحُونَ} . وَالشاهد هنا تقديم المسند إليه المفيد مع القرائن التي اشتمل عليها النّص القصر الإِضافي، والمعنى أنّ الفرح بالهديّة مقصورٌ عليكم، لا يتعدّى إليّ، فأنا لست بها فَرِحاً، فَمَا آتاني اللهُ خيرٌ ممَّا آتاكم. ومنه ما جاء في قول الله عزّ وجلّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) لرسوله بشأن المنافقين: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ... } [الآية: 101] . قُدِّم في هذا النصّ المسند إليه {نَحْنُ} على الْمُسْنَدِ {نَعْلَمُهُمْ} لإِفادة قَصْرِ الْعِلْمِ بِهِمْ على الله، وظاهر أنّ القصر هنا هو من قبيل القصر الإِضافي، إذْ قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 تَعْلَمُهُمُ الملائكة أيضاً، ولكن جاء القصر في مقابلة نفي العلم بهم عن الرسول، ولعلّ ذلك قد كان قبل أن يُعْلِمَهُ الله بهم، أو أن بعض المنافقين لم يُعْلِمِ الله رسوله بهم. الثاني: أن يكون الْمُسْنَدُ منْفيّاً، كأن تقول لمن تخاطبه: "أنْتَ لاَ تَكْذب" فهذه العبارة أبلغ من أن تقول له: "لا تكذبُ أنت" وهذا التقديم قد يفيد القصر بمساعدة القرائن. ومنه قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [الآية: 216] . ففي قوله: {وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} يُلاَحَظُ قَصْرُ عَدَمِ الْعِلْم على المخاطبين في النَّصّ، وساعد على هذه الدلالة قوله تعالى قبله {والله يَعْلَمُ} . الثالث: أن يكون المسند إليه نكرةً مثبتاً، كأن تقول: "رجُلٌ جاءني". فقد يفيد تقديم المسند إليه في هذه الحالة القصر بمساعدة القرائن من الحال أو من المقال. فإذا كنت في معرض تساؤل متسائل هل الذي جاءك من الرجال أو من النساء؟ كان قولك: "رجلٌ جاءني" مفيداً أنّه ليس امرأة. وإذا كنت في معرض تساؤل متساءل هل جاءك رجلٌ أو أكثر؟ كان قولك: "رجلٌ جاءني" مفيداً أنّه رجل واحد لا أكثر. الرابع: أن يأتي قبلَ المسند إليه حَرْفُ نفي، كأن تقول: "ما أنا قلتُ هذا القول" أي: أنام لم أقُلْه مع أنّ غيري قاله فتدَلُّ بعبارتك على قَصْرِ النفي على نَفْسِك، مع إثبات القول لغيرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 أقول: وفي كلّ ذلك لا بُدَّ من مساعدة القرائن، إذْ ليس القول نصّاً في الدلالة. * وأمّا تقديم المسند إذا كان حقُّهُ في الجملة التأخير، فقد يفيد القصر بمساعدة قرائن الحال أو المقال، والمقصور عليه هو المقدّم. ويمكن أن أمثّل له بقولي صانعاً مثلاً، خطاباً للكفّار: لَنْ تَهْزِمُوا إِيمَانَنَا بِسِلاَحِكُمْ ... جُبَنَاءُ أَنْتُمْ أَيُّهَا الكُفَّارُ فجاء في هذا الكلام تقديم "جُبَناء" وهو مسنَدٌ حقُّه في الجملة الاسميّة التأخير، تأخير "أنتم" وهو مسند إليه وحقُّه هنا التقديم لإِفادة القصر بمساعدة قرينة المقال السابق، وقرينة حال الاستبسال، والمعنى أنتم وحدكم الجبناء بكفركم، أمّا نحن فشجعان بإيماننا وتوكّلنا على ربّنا. *** ثانياً - إضافة ضمير الفصل إلى الجملة: ضمير الفصل: هو ضمير منفصل مرفُوعٌ يُؤْتَى به فاصلاً بين المبتدأ والخبر، أو ما أصله مبتدأ وخبر، ويفيدُ تقوية الإِسناد وتوكيده، وقَدْ يفيد القصر بمساعدة قرائن الحال أو المقال، والمقصور عليه هو ما دل عليه ضمير الفصل. والأصل أنّه لا محلّ له من الإِعراب، وقد يؤتَّى به على أَنَّهُ مبتدأ وما بعده خبرٌ له، وتكونُ الجملة منه ومن خبره هي الخبرَ لما قبلهما. أمثلة: المثال الأول: قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) بشأن المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * ألا إِنَّهُمْ هُمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 المفسدون ولاكن لاَّ يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ الناس قالوا أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السفهآء ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء ولاكن لاَّ يَعْلَمُونَ} [الآيات: 11 - 13] . لقد جيء بضمير الفصل مرَّتين في هذا النص: {ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون - ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء} . ونلاحظ أنّه مع تقوية الإِسناد وتوكيده في الجملتين فقد أفاد ضمير الفصل بمساعدة القرائن القصر، والمعنى: هُمُ المفسدونَ وهُمُ السَّفَهاء، لا المؤمنون الذين يتَّهِمُهُم المنافقون بإفسادِ وحْدَةِ جماعة قومهم بدينهم الجديد، وبالسّفاهة في عقولهم، أي: بِالطيشِ ونقصان العقل. المثال الثاني: قول الله عزّ وجلّ في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول) في عرض سؤال الله عزّ وجلّ عيسى عليه السلام: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلاهين مِن دُونِ الله} [المائدة: 116] وفي أجوبته عليه السلام قال لربّه: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117] . جاء في هذا النصّ ضمير الفصل في حكاية قول عيسَى عليه السلام: {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} أي: كُنْتَ أَنْتَ الرَّقيب عليهم وحدك دوني، إذْ تَوَفَّيْتَنِي أَجَلِي بينهم، ورفعْتَنِي بعيداً عنهم، فليس لي رقابَةٌ عليهم. المثال الثالث: قول الله عزّ وجلّ في سورة (القصص/ 28 مصحف/ 49 نزول) : {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين} [الآية: 58] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 أي: وكنّا نَحْنُ لاَ غَيْرُنَا الْوَارِثينَ، فقد أفاد ضمير الفصل هنا القصر بقرينة سوابق الجملة. ومنه {فاللهُ هو الولي} [الشورى: 9]- {وأولئك هُمُ المفلحون} [البقرة: 5، آل عمران: 104]- {إنَّ هذا لَهُو القَصَصُ الحقّ} [آل عمران: 62]- {إنَّ شانِئَكَ هُوَ الأبْتَر} [الكوثر: 3]- {وأَنَّهُ هُوَ أضْحَكَ وأَبْكى} [النجم: 43] . والأمثلة على هذه كثيرة. *** ثالثاً: تعريف طَرَفَي الإِسناد المسند والمسند إليه، ويكون هذا في الْجُمَل الاسميّة، أَمّا الْجُمَلُ الفعليّة فالفعل فيها بقوّة النكرة، فلا يكون فيها المسند معرّفاً، وليس بعيداً أن نجد جملة فعليّة هي بقوّة جملة اسميّة معرّفة الطرفين، لكن لم يُتَابع البلاغيون هذا بالبحث، كأن يَدُلَّ دليل العقل على أنّ الفعل لا يَصْدُرُ إلاَّ من الفاعل. فقد يُفيد تعريف طرفي الإِسناد القصر بمساعدة قرائن الحال أو المقال مع إفادته تقوية الإِسناد وتوكيده، والمقصورُ هو المبتدأ الذي يجب في هذه الحالة تقديمه، والمقصور عليه الخبر الذي يجب في هذه الحالة تأخيره. ونمثل لما قد يُفِيدُ القصر من تعريف طرفي الإِسناد: بأنْ يجري حديث حول مشتغلَيْنِ بنظم الشعر، أيُّهما الناظم وأيُّهما الشاعر: "العمريطي" أو "أحمد شوقي" فيقول الخبير الناقد: "الشّاعِرُ أحمد شوقي" أي: أمّا "العمريطي" فناظم لا شاعر. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 (6) شجرة تقسيمات القصر (6) شجرة تقسيمات القصر القصر: تخصيص شئٍ بشئٍ بعبارة كلامية تدلّ عليه وأركانه: - مقصور. - مقصورٌ عليه. - مقصورٌ عنه. - قَوْلٌ مقصور به. والقصر باعتبار حال المقصور عنه. 1- حقيقي: إذا كان المقصور عنه جميع ما سوى المقصور عليه. - حقيقي تحقيقي: إذا كان مضمون القصر مطابقاً للواقع. - حقيقي ادعائي مجازي: إذا كان مضمون القصر غير مطابق للواقع إلاَّ أنّه جاء على سبيل الادعاء والمبالغة مجازاً، أو وفق رؤية ذاتيّة خاصّة. 2- إضافي: إذا كان المقصور عنه خاصّاً منحصرا في دائرة خاصة يجري الكلام فيها [ويُسْتَدَلُّ عليها بالقرائن] . والقصر بحسب أحوال المقصور والمقصور عليه صفةً أو مَوْصوفاً: 1- قصر موصوف على صفة دون غيرها. 2- قصر صفة على موصوف دون غيره. والقصر بحسب أحوال من يوجه له الكلام: 1- قصر إعلام ابتدائي: وهو الموجه لخالي الذهن أو كان تعبيراً عمّا في نفس المتكلم دون النظر إلى رأي الآخرين. 2- قصر إفراد: وهو الموجه لمن يُراد إعلامه بخطأ تصوّره مشاركةَ غير المقصور عليه في المقصور. 3- قصر قَلْب: وهو الموجه لمن يُراد إعلامه بخطأ بسبة المقصور إلى غير المقصور عليه. 4- قصر تعيين: وهو الموجه لمن يُراد إزالة تردّده وشكّه هل المقصور منسوب إلى المقصور عليه أو إلى غيره. والقصر له طُرُق تدُّل عليه: 1 - الطريق الأول: أن يكون بعبارة تدلّ عليه بمادتها اللغوية صراحة، مثل: ((هذا مقصور على هذه)) 2 - الطريق الثاني: أن يكون بدليل خارج عن النصّ كدليل عقلي أو حسّي أو تجريبي أو دليل من القرائن الذهنيّة أو الحاليّة. وهذان الطريقان [[1، 2]] لا حصر لهما فلم يوجه البلاغيون عنايتهم لتفصيلهما 3 - الطريق الثالث: أن يكون القصر ببعض الأدوات التي تدلُّ عليه بالوضع اللّغوي وهي: * النفي والاستثناء. * إنما أَنّما. * العطف بالحروف التالية: لا وبل ولكن. 4 - الطريق الرابع: أن يكون القصر بدلالات كلامية تفهم بالفحوى من: * تقديم ما حقه التأخير. * إضافة ضمير الفصل. * تعريف طرفي الإسناد في الجملة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 "علم المعاني" الباب الرابع: نظام التلاؤم في الكلام والفصل والوصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 الفصل الأوّل: نظام التلاؤم في الكلام (1) بيان التلاؤم نَظْمُ الكلام عَمَلٌ فكريّ يُشْبه في الحسيَّات نَظْمَ العقود من اللآلىء أو غيْرِها من الجواهر، ويُشْبه وصفَ حجارةِ الألماس والياقوت والمرجان والزّمُرّد وغيرها من الحجارة الكريمة على مَا يُصاغ مِنْ حِلْيَاتٍ للرُّؤوسِ والصُّدُورِ والأيدي وغيرِها. إنّ دخيلاً نابياً أو نظماً غير متلائم الألوان والطيوف والحجوم في عقود اللآلِىء، أو رَصْفاً محروماً من التناسق الجماليّ في الْحِلْيَات يُفْسِدها، ويُقَلِّل من قيمتها. ورُبَّ عِقْدَيْن أو حِلْيَتَيْنِ جواهرُ كُلِّ منهما متساويتان في القيمة وَهُمَا غَيْرَ مَنْظُومَتَيْن أو غَير مَصُوغتين. فيَنْظم الْعِقدَ أو يَصُوغُ الحِلْيَةَ ماهر خبير مُتْقِنٌ بتلاؤمِ جميلٍ بديع، يُرَاعي فيها حُسْنَ التجاور، وخُطُوط التلاؤم وطُيُوفَهُ وظِلاَلَهُ، ويُراعي فيه تناسُبَ الألْوانِ، وجَمالَ تلاقيها وتدرُّجها وتكاملها، فإذا هون يُعَادِلُ أضعافَ قِيمة جواهره وهي غير منظومه أو غير مصوغة. ويعمل نظير ذلك من لا خبرة له، ولا مهارة عنده، فلا تزيد قيمةُ ما نظم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 أو صاغَ على قية جواهره منثورة، وربّما تَنْقُصُ قيمَتُها في نظر ذوّاقي الجمال. كُنْتُ أجلس أحياناً إلى من كان يُسَمَّى "مَلِكَ اللُّؤْلؤ" الشيخ "محمد علي زينل علي رضا" - تغمّده الله برحمته وضاعف حسناته - في دارة عمله التجاريّ في مدينة "بومبي" إحدى كُبْرى مُدُنِ الهند، إذْ أقمت عنده أربعة أشهر وعشراً سنة (1372 هجرية) فأشاهِدُهُ يجمع أكوام حبّاتِ اللُّؤْلُؤ، ويختار منها بإتقان وإحكامٍ وتلاؤم، وينظم نفيسات عقود اللُّؤلؤ. وأخبرني يومئذٍ وأنا أتابع اختياراته ونَظْمَهُ لعقود: أنّ العقد الذي يَنْظِمُه هو يُبَاعُ بقيمةِ عِقْدَيْن أو ثلاثةِ عُقُود، من العقود التي ينظمها من لا خبرة له، وليس لديه حِسٌّ مرهف يُدْرِكُ به التلاؤم بين الحبات التي ينظمها، سواء تجاورت أو تباعدت، مع أنّ وزن حبات عِقْدِه يساوي وزن حبات العقد الآخر، وقيمتها منثورةً تساوي قيمة الأخرى منثورة، والفرقُ بيْنَهما إتقانُ الانتقاء، ودقّة التلاؤم والتناسُقِ الجمالي فيما أنْظم، وانْعِدام ذلك فيما ينظم الآخرون. أقول: ولدَى التحليل نلاحظ أنّ التلاؤم في حَبَّاتِ العقود، وجواهر الْحِلْيَاتِ يكون في الأَلوانِ، والطُّيوف، وبَريقِ الأشعة، والحجوم، والتدرّج، وحُسْنِ التآخي والمزاوجة، ونِسَبِ الأبعاد، وبدائِع التشكيلات ضمن أشكالٍ هندسيّة، أو أشكال مُتَناثِرَة العناصر ذاتِ جمالٍ يأسِرُ المشاعر، ونحو ذلك. وأقول أيضاً: كذلك الكلمات والجمل حين تُجْمَعُ في نظام كلاميٍّ من النثر، أو من الشعر. والتلاؤم الجماليُّ في الكلام تتدخّل فيه عوامل مختلفة فكريّةٌ ولفظية. * أمّا العوامل اللفظيّة فقد سبق بيانُها في بحث الفصاحة، وأنّ شروط الكلمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 الفصيحة أن تكون خالية من أربعة عيوب، وهي: "التنافر - الغرابة - مخالفة القياس - كراهة السّمع لها". وأن شروط الكلام الفصيح أن يكون خالياً من أربعة عيوب أيضاً، وهي: "تنافر الكلمات عند اجتماعها - ضعف التأليف - التعقيد اللّفظي - التعقيد المعنوي". * وأمّا العوامل الفكرية فمن المتعذّر إحصاؤها، إذِ الأفكار ومعاني الألفاظ لا حصر لها، وضَمُّ فكرةٍ إلى فِكرةٍ أخرى، وَلفظ ذي معنى إلى لفظ آخر ذي معنى موافق أو مخالف، يتطلّب إدْراكاً عالياً جدّاً، قادراً على تمييز درجات حُسْن التلاؤم، ودركات قبح عدم التلاؤم الذي يُوَلِّد في النفوس الصَّدَّ أو النفرةَ أو الاستقباحَ، أو الحكم على الكلام بالركاكة، وسوء التركيب، وخروجِهِ عنْ أُطُرِ الجمال الفنّي. وقد تعرّض أئمة علوم البلاغة وشيوخ الأدب للإِشارة إلى هذا الموضوع ضمن بحوث الفصل والوصل، أو ضمن بحوثٍ أخرى، دون أن يُفْرِزوه بعنوان خاص، مع كونه جديراً بأن يُفْرز ببحثٍ مستقلٍّ، كانت لهم حوله عبارات، ونظرات عامّات لم تُحَدَّدْ فيها أقسامٌ ولا عناصر متفاصلة، بسبب أنّ التلاؤمَ وعدَمَ التلاؤم بين المعاني قضيَّةٌ جمالية فكريّة، والبحث فيها مائجٌ رَجْراجٌ لا حصر لصوره، والبحث فيه كالبحث في صُوَرِ أمواج البحر، وكالبحث في صُورِ حركات السُّحُب وتشكيلاتها المتنوعات الناتجات عن تقاربها وتباعدها، واجتماعها وافتراقها، مع اختلاف ألوانها وكثافاتها في الأبعاد الثلاثة: "الطول والعرض والْعُمْق". *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 (2) من أقوال شيوخ البلاغة والأدب حول التلاؤم في الكلام (1) لقد وصف شيوخ البلاغة والأدب الكلمة الموضوعة في المكان الملائم لها من الجملة بأنها "مُتَمَكِّنة". أي: هي ثابتة في المكان الذي وُضِعَتْ فيه، فهي ذات جذور وروابط فكرية تربطها بما جاورها من عناصر الجملة. (2) ووصفوا الكلمة الموضوعة في المكان غير الملائم لها من الجملة بأنّها "قَلِقَة" و"نَابِيَة" و"غَيْرُ مُتَمَكِّنَة". (3) وقالوا عن الشعر الذي لا تآخي بين كلماته، ولا تواصُلَ بين مُفْرَداته: "لاَ قِرَانَ له". أي: ليس له جامع فَنِّيٌ راقٍ يجمع بين كلماته ويَشُّدُّ بعضها إلى بعض، كما يَجْمَعُ أسْرُ الكائن الحيّ بين أعضاء جسده ومختلف أجزائه، وهو جملته العصبيّة. القِران: هو الجمع بين شيئين وشدّ كلٍّ منهما إلى الآخر بِحَبْلٍ رابط، كأسيرين يُقْرَنانِ بحبل مَشْدُودٍ عليهما. ويطلق القِرانُ أيضاً على الحبل الجامع بينهما. فهو مصدر للشدّ بالحبل، واسم للحبْلِ الذي يُشَدُّ به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 ومن أقوالهم في ذمّ الشعر الذي لا قِرَان له، ما أنشده ابن الأعرابي. وبَاتَ يُنْشِدُ شِعْراً لاَ قِرَانَ لَهُ ... قَدْ كَانَ ثقَّفَهُ حَوْلاً فَمَاذَادَا لا قِرَانَ له: أي: لا روابط بين مفرداته وجُمَله. قد كان ثَقَّفَهُ: أي: قد كان قوّمه وعدّله، وعمل على إزالة الزوائد النابية منه. فَمَاذَادَ: أي: فما استطاع أن يذود عنه ويُبْعِد الْعوج، ويُخَلّصَهُ من الزوائد النابية، لضعف ملكته الشعريّة. (4) ووصفوا الشعر الرّاقي بالتماسُكِ والإِحكام، والتَّلاؤُم، والسَّلاسَةِ والتَّحَدُّر، نظراً إلى ما يشتمل عليه من حُسْنِ بناءٍ، وسَبْكٍ، وصِيَاغةٍ، ولِينٍ وسُهُولةٍ في النُّطْقِ، وعُذُوبةٍ في مجاري السَّمْع، وذلك بسبب ما في معاني كلماتَه وجمله من ترابط وتعانُقٍ وتلاحُمٍ موافق لما في فِطَرِ أنظمة الفكر وحركات مشاعر النفوس من تشعُّبَاتٍ شَجَرِيَّةٍ بديعةِ التواصل والتلاقي، من بزورها وجذورها حتى أقاصي فروعها، ما يتلاقى منها وما يَتَبَاعَدُ. وبسبب ما في الألفاظ من سهولة وتلاؤمٍ في النُّطْقِ وعُذُوبةِ طَرَقَاتِ موسيقاها على السَّمْع، مَعَ التلاؤم بين مخارج حروف الكلمات الْمُنْتَقَيات، والمعاني الّتِي يُراد أداؤها بها. (5) وذكر الجاحظ قول "خلف الأحمر": وَبَعْضُ قَرِيضِ الْقَومِ أبْنَاءُ عَلَّةٍ ... يَكِدُّ لِسَانَ النَّاطِقِ الْمُتَحَفِّظِ أبناءُ عَلَّة: أي: أبناء ضَرَّة، الْعَلَّة الضَّرَّة، يقال: هم أبناءُ عَلاَّت أي: أبناء ضرائر، أبوهم واحد وأمَّهاتُهُمْ شتَّى. ومعلوم أنّ البناء العلاّت يحدُث بينهم جفوات وتنافر في أكثر الأحيان. يَكِدُّ لِسَانَ النَّاطِقِ: أي: يُجْهِدُ لِسَانَ الرجُلِ النّاطِقِ الذي يُطاوعه لسانُه في النُّطق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 المتحفِّظ: هو المحترز الذي يحاول الضبط وعدم الانزلاق إلى ما لا يُحْسِن، أو الذي بَذَلَ جَهْداً حتَّى حفظ النصّ وأتقنه أجزاءً، ومع ذلك فهو يكِدُّ لِسَانَه: أي يُتْعِبُه ويُجْهِدُه. قال الجاحظ في كتابه: "البيان والتبيين": (أمّا قول خَلَفٍ: "وبَعْضُ قريضِ القوم أَبْنَاءُ عَلَّة" فإنّه يقول: إذا كان الشّعرُ مستكْرَهاً، وكانت ألفاظ البيت من الشعر لا يقَعُ بعضُهَا مُمَاثلاً لبعضٍ كان بينهما من التنافر ما بين أبناء الْعَلاَّت، وإذا كانت الكلمة ليس موقعها إلى جنب أختها مُرْضياً موافقاً، كان على اللّسان عند إنشاد ذلك الشعر مؤونة) . وقال أيضاً: وأنشدني أبو البيداء الرِّياحي: وشِعْرٌ كَبَعْرِ الكَبْشِ فَرَّقَ بَيْنَهُ ... لِسَانٌ دَعِيٌّ في الْقَرِيضِ دَخِيلُ وعلّق الجاحظ بقوله: "وأمّا قوله: "كَبَعْرِ الكَبْش" فإنَّما ذهب إلى أنَّ بَعَرَ الكَبْشِ يقع متفرّقاً، غَيْرَ مؤتلف، ولا متجاور، وكذلك حروف الكلام، وأجزاء البيت من الشعر، تراها متفقة ملساء، وليّنة المعاطف سهلة، وتراها مختلفة متباينة، ومتنافرة مستكْرَهة، تَشُقُّ على اللِّسَانِ وَتَكِدُّهُ، والأخرى تراها سهلةً ليّنةً، ورطبَةً مواتية، سلسلة النظام، خفيفةً على اللّسان، حتَّى كأنّ البيت بأسْرِه كلمةٌ واحدة، وحتَّى كأنّ الكلمة بأسرها حرفٌ واحد". (6) وقال عبد القاهر الجرجاني في كتابه: "دلائل الإِعجاز": "وهل نَجِد أحداً يقول: هذه اللَّفظة فصيحة إلاَّ وهو يعتبر مكانَها من النظم، ومن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها، وفَضْلَ مؤانَسَتِها لأخواتها؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 وهل قالوا: لفظةٌ متمكّنةٌ ومقبولة، وفي خلافه: قَلِقةٌ ونابيةٌ مستكرهة، إلاَّ وغرضُهم أن يُعَبِّروا بالتمكّن عنْ حُسْنِ الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناها. وبالْقَلَق والنُّبُوّ عن سوء التلاؤم، وأنَّ الأولى لم تَلْتَقِ بالثّانية في معناها، وأنّ السَّابقةَ لم تَصْلُحْ أنْ تكون لِفْقاً للتالية في مؤدّاها؟! ". لِفْقاً: يَقْصِد أنْ تكون الكلمة ملائمةً ومُلْتَحمةً مع جارتها كَتَلاؤُمِ الشِّقِ المخيط بالشِّقِّ الآخر من الْحُلَّة. يقالُ لغة: حُلُّةٌ ذاتُ لِفْقَيْن، أي: ذاتُ شِقّينِ مُنْضَمَّيْنِ معاً بالخياطة، ولا يُقال للشِّقّ "لِفْقٌ" إذا فُتِقَتِ الخياطَة الضّامَّةُ لهما. (7) وذكر السَّكَّاكِيُّ مثالاً للكلام الذي ليس بين مفرداته ترابط فكري، فالجمع بينها في حكم واحدٍ غير مقبول في الذوق الأدبيّ، وإن كان مطابقاً للواقع، أن يقول القائل: "الشمس، ومرارة الأرنب، وألف باذنجانة، مُحْدَثَة". أقول: والسبب في عدم قبول مثل هذا الجمع أنّ الذّهن إمَّا أنْ يَقْرن بين الأشباه والنظائر، أو بَيْنَ المتجاورات في الواقع، أو بين الأضدّاد، لأنَّ استدعاء الذهن للأضدّاد، أسرع من استدعائه للنظائر، وينفر من جمع مفردات متباعدات لا يجمعها تشابه أو تجاوز، أو تضادّ، لأنّ شريط السلاسل الفكريّة ذو نظامٍ فطريّ مُحْكَمِ الترابط، أمّا الالتقاط العشوائي دون ملاحظة أنظمة الترابط الفكريّة الفطريّة فهو لا ينسجم معها، والنفس الإِنسانية تنفر منه بسبب ذلك. (8) وجاء في مُدوَّناتِ الأدب أنّه: اجتمع "نَصِيبُ بن رَباح" وهو من فحول شعراء القرن الأول الهجري، و"الكُمَيْت" وهو أيضاً من فحول الشعراء في عصره، و"ذو الرّمّة" وهو من فحول شُعراء الطبقة الثانية في عصره، فأنْشَدَ الكميتُ صاحبيْهِ قصيدتَهُ التي في مَطْلعِها: "هَل أَنْتَ عَنْ طَلَبِ الأيفاعِ مُنْقَلِبُ" حتَّى إذا بلغ إلى قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 أَمْ هَلْ ظَعَائِنُ بالْعَلْيَاءِ نَافِعَةٌ ... وَإِنْ تَكَامَلَ فِيها الأُنْسُ والشَّنَبُ عقَدَ "نَصِيبٌ" واحدة. فقال الكُمَيْتُ: ماذا تُحْصي؟ قال نَصِيبٌ: خطأَكَ، بَاعَدْتَ في القول، مَا الأُنْسُ من الشنب (أي: ما الرابط الفكري بين الأنس والشَّنَب) ألاَّ قُلْتَ كما قال ذو الرّمّة: لَمْيَاءُ في شَفَتَيْهَا حُوَّةٌ لَعَس ... وَفِي اللّثَاتِ وَفِي أَنْيَابِهَا شَنَبُ فانْكسَرَ الكُمَيْت، (أي: طأطأ رأسَهُ معترفاً بأنَّه لم يُحْسِنِ الجمع بين الأُنْسِ والشَّنَب) . الشَّنَبُ: جمال الثَّغْر، وصفاءُ الأسنان ورقّتها. لَمْيَاءُ: أي: ذاتُ شفاه حُمْرتُها ضاربة إلى سواد، وهذا نوع من الجمال يستحسنه العرب. حُوَّة: الحوّةُ لونٌ مُسْتَحْسنٌ في الشفاه، وهو حمرةٌ إلى سواد. لَعَس: اللَّعَسُ سواد في باطن الشفة. أقول لقد كان يكفي ذا الرّمّة أن يقول: "لمياء" دون أن يؤكّد ذلك بقوله: "في شفتيها حُوَّةٌ لَعَسُ" إلاَّ أنّه فيما يبدو قد حَلاَ لَهُ أن يتلذّذَ بتَنْويع العبارة حول هذا الجمال، الذي هو شَغُوفٌ به في شِفاهِ لَمْيَائِه. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 الفصل الثاني: الفصل والوصل بين عناصر الجملة الواحدة (1) مقدمة عامّة يُراد بالوصل الربط بين أجزاء الكلام بحرف عطف، ويراد بالفصل عدمُ الربط بين أجزاء الكلام بحرف عطف. وأجزاء الكلام قسمان: القسم الأوّل: "المفرد" ويراد به هنا ما يُقَابل الجملة، وهو الذي لا تتحقّق به وحْدَهُ الفائدة من عناصر الجملة. القسم الثاني: "الجملة" وهي القول المفيد معنىً تامّاً مُكْتَفِياً بنفسه. *** (2) عناصر الجملة سبق في فصل "بناء الجملة في اللّسان العربي وتقسيمها" أنّ الجملة تتألف من العناصر التالية: (1) المسند إليه. (2) المسند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 (3) الإِسناد الذي لا يُصَرّحُ به في اللّفظ. (4) ما يتعلّق بواحد ممّا سَبق من توابع وأدواتٍ إِنْ وُجِدَتْ. والعنصر من عناصر الجملة: * إمّا أنْ يكون عُنصُراً بسيطاً غير مُرَكّب. * وإمّا أن يكون عُنْصراً مُرَكَّباً (وما تركَّبَ منه هذا العنصر من أجزاء قد صار بالتركيب جزءاً واحداً فلا تُوصَلُ بحرف عطف) . وينقسم العنصر المركب إلى سبعة أقسام: القسم الأول: "المركّب الإِضافي" مثل: "كتابُ اللهِ - صَلاةُ الْجُمْعَةِ - رأسُ الحكمةِ - بَابُ الْعِلمِ". ومعلوم أنّه لا عطف بين المضاف والمضاف إليه، لأنّهما صارَا بالتركيب الإِضافي بمثابة الكلمة الواحدة، ذات الأجزاء الملتحمة، والإِضافةُ على تقدير حرف جرٍّ بين المضافِ والمضاف إليه. القسم الثاني: "المركَّبُ الوصْفيُّ" مثل: "الرَّجُلُ الْعَالِمُ زَارَني - أكلتُ طعاماً طيّباً - وسقاهم ربُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً". ومعلوم أنَّهُ لا عطف في الأصل بيْنَ النَّعْتِ والمنعوتِ به، لأنّ الصفة جزءٌ من الموصوف فهما متشابكان، فلا معنى لعطف الصفة على الموصوف بها، إذ العطفُ في أصل معناه يقتضي التغايرُ، ويكفي للدلالة على كونها صفة إتباعها للموصوف بها في الإِعراب ضمن الشروط المبينة عند النحويين. القسم الثالث: "المركَّبُ التَّوكيديّ" مثل: "حضر الضيوفُ كلُّهم - فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُون". ومعلوم أنّه لا عطف بين المؤكَّد والمؤكَّدِ به، لأنَّ المؤكِّدَ بهِ محقِّقٌ للمرادِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 من المؤكَّد، فهما بمثابة شيءٍ واحدٍ، فلا معنى للعطف بينهما، والتوكيد تابع من التوابع. القسم الرابع: "المركّب الْبَدَلِيُّ" سواء أكان بدلاً مطابقاً، أوْ بدلَ بعضٍ من كلٍّ، أو بدَلَ اشتمال، أو بدلاً مُبَايناً، مثل: {اهدنا الصراط المستقيم * صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (في البدل المطابق) - {قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} (في بدل البعض من الكُلّ) - أفادني الشيخ عِلْمُه (في بدل الاشتمال) نَاوِلْني كتابَ النحو كتابَ اللُّغَةِ (في البدل المباين) وهكذا ... ". ومعلوم أنّه لا عطف بين البدل والمبدَلِ منه إذ المراد أن يَحُلَّ البدلُ مكان المُبْدَل منه، والعطف يقتضي اجتماعهما. القسم الخامس: "المركّب البيانيُّ" وهو ما يكون الجزء الثاني منه معطوفاً على الأوّل عطف بيان، مثل: "أقسم باللهِ أبو حفْصٍ عُمَرُ". ومعلم أنه لا تتوسط أداة عطف بين البيان والمبيَّنِ، إذْ هُمَا: إمّا بمثابة المركّب الوصفيّ، أو بمثابة المركّب الْبَدَلِيّ. القسم السادس: "المركب المزجيُّ" مثل: "بعلبَكّ - حضرموت - معديكرب" ونحو ذلك. ومعلومٌ أنّ المركّب المزجي هو في الحقيقة كلمةٌ واحدة يُلاحَظُ في لفظها أصلُها قبل أن تمتزج عناصرها في كلمة واحدة. القسم السابع: "الأسْماءُ المركبة من أكثر من كلمة" مثل: "عبد الله - شابَ قرناها - ذو نُوَاس - ذو الخويصرة" ونحو ذلك. ومعلوم أنَّ الأعلام المركبة من كلمتين فأكثر صارت بالنقل إلى العملية كلمةً واحدة جديدة، تُقال كما كانت قبل النقل إلى العلميّة، وكذلك الألفاظ المتعدّدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 التي تُطْلَق بهيئتها التركيبيَّة على أشياء إطلاقَ النكرات على أجناسها وأنواعها. القسم الثامن: "المركّب العددي" مثل: "أَحدَ عشر - ثلاثَةَ عشر". والمركب العددي هو بمثابة كلمة واحدة كانت كلمتين، وكان ينبغي عطف الثانية منهما على الأولى بحرف العطف، إلاَّ أنّه اسْتُغْنِيَ عن حرف العطف بينهما باعتبارهما قد صارتا مُرَكَّبَتَيْنِ تركيبَ كَلِمَةٍ واحدة. *** (3) الاحتمالات التي يتعرّض لها "المفرد" وكذلك "الجملة التي لها محل من الإِعراب" "المفرد" المقابل للجملة (ومثله الجملة التي لها محلٌّ من الإِعراب إذ هي مؤوّلة بالمفرد) لا يخلوا عن أن يكون واحداً من الاحتمالات التاليات: الاحتمال الأوّل: أنْ يكون حرفاً من المعاني أو من الحروف التي تُزاد للتأكيد، في أي موقع من مواقع الجملة. ومن الملاحظ أنّ الحرف يدخل في الجملة كالجزء من العنصر الذي دخل قبله، كحرف النفي، وحرف الجرّ، وحرف التوكيد، والجزء من العنصر الذي التحق به، كنون التوكيد، ونون الوقاية. فالحرف بطبيعته ملتحم أو شبه ملتحم بالعنصر الذي دخل عليه أو التحق به من عناصر الجملة، ولهذا كان بطبيعته لا يحتاج وصلاً بحرف عطفٍ بداهةً. الاحتمال الثاني: أنْ يأتي العنصر في صدر الكلام، وهذا بطبيعة حاله لا يُلاحَظُ وصْلُه بشيء قبله حتى يدخل عليه حرف عطف، إلاَّ أن يُسْبَق بكلامٍ مُقَدَّرٍ ذِهْناً، فقد يكون للمقدّرات الذهنيّة اعتبارات تُلاحظُ في المنطوق من الكلام، مثل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 قَالَتْ بَنَاتُ الْعَمِّ يَا سَلْمَى وإنْ ... كَانَ فَقِيراً مُعْدِماً قَالت: وَإِنْ الاحتمال الثالث: أن يكون خبراً لمبتدأً أو لما كان مبتدأ، كاسم "كان" واسم "إنّ". ومعلومٌ أنّ الرابط بين المبتدأ والخبر رابط معنويٌّ هو الإِسناد الذي يجعل الْمُسْنَدَ وصفاً من جهة المعنى للمسند إليه في الإِيجاب، أو نفي ذلك في السلب، ودليل الإِسناد مع المعنى علامةُ الإِعراب. الاحتمال الرابع: أن يكون فاعلاً، والرابط بين الفعل أو ما يعمل عمله وبين الفاعل رابط معنوي، وهو الإِسناد الذي يجعل المسند وصفاً من جهة المعنى للمسند إليه في الإِيجاب، أو نفي ذلك في السلب، ودليله مع المعنى علامة الإِعراب. الاحتمال الخامس: أن يكون مفعولاً به (واحداً أو أكثر إذا تعدَّدت المفاعيل". والرابط بين الفعل أو ما يعمل عمَلَهُ وبين المفعول به رابط معنويٌّ أيضاً مُشْتَقٌ من الإِسناد، ودليله مع المعنى في الجملة علامةُ الإِعراب، ويُلْحَقُ بالمفعول به المجرورُ بحرف جرٍّ، لأنَّ تعدية الفعل إلى المفعول به إمَّا أنْ تكون بغير أداة، أو بأداة حرف الجرّ سواء أكان لمجرّد التعدية أو لإِضافة معنى يدلُّ عليه حرف الجرّ. الاحتمال السادس: أن يكون مفعولاً فيه (ظَرْفَ زمانٍ أو ظرفَ مكان) والرابط بين الفعل أو ما يعمل عمله وبين المفعول فيه رابطٌ معنويّ أيضاً مشتقٌّ من الإِسناد، وهو رابط يدخل في عموم رابط المفعول به، ودليله مع المعنى علامة الإِعراب، وهو على تقدير حرف الجرّ "في" فلمّا حُذِف نُصِبَ الاسم الذي كان مجروراً به، وأُلْحِقَ بالمفاعيل. الاحتمال السابع: أن يكون مفعولاً مطلقاً، وهو في الحقيقة كالجزء من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 عامله، فهو لا يحتاج ربطاً بحرف عطف، لأنّ الربط بحرف العطف يقتضي في الأصل التغاير، وهذا جزء مكمّلٌ للعامل به، لا مغاير له، وحركته الإِعرابيّة النصب لأنه يدخل في عموم المفاعيل. الاحتمال الثامن: أن يكون مفعولاً لأجله، وهو في الحقيقة على تقدير حرف علة، ولو كان مصرّحاً به في اللفظ لكان جارّاً لأنه من حروف الجرّ، فلما حذف نُصِبَ الاسم الذي كان مجروراً به وأُلْحِقَ بالمفاعيل. الاحتمال التاسع: أن يكون مفعولاً معه، مثل: "سِرْتُ والجبَلَ" إنّ مثل هذا التعبير الَّذِي يُفِيدُ المعيَّةَ والمصاحبة أصْلُهُ: سِرْتُ مع الجبل، أي: مصاحباً لأجزاء الجبَلِ في مسيري، فلمّا وُضِعتِ الواو الّتي من معانيها المعيّة بدلَ "مع" والواو ليست اسماً حتَّى تُعتَبَر مضافةً إلى ما بعدها، نُصِبَ ما بعدها إلحاقاً له بالمفاعيل، ولأنّ واو المعية هذه يُمْكِنُ أنْ يُعَبَّر عنها بالحال، فيقال: سِرْتُ مصاحباً الجبلَ، فألْقِيتْ حركة النصْب على المفعول معه. فالواو في المفعول معه ليست في الحقيقة حرْف عطف، والكلام لا وصل فيه. الاحتمال العاشر: أن يكون تمييزاً، ومعلومٌ أنّ التمييز هو والمميَّز شيءٌ واحد، فلا يُعْطَفُ عليه بحرف عطف، لأنه في الحقيقة بيانٌ له، والتمييز: * إمّا منصوبٌ على تقدير حذف حرف "مِنْ" الجارّة، مثل: "اشتريتُ عشرين كتاباً" إذ المعنى اشتريت عشرين من الكتب، وتعليل النصب هنا كالتعليل النصب في المفعول فيه والمفعول لأجله. * وإمّا مجرورٌ بالإِضافة، مثل: "ثلاثةُ رِجالٍ وعَشْر نِسْوَةٍ" وهذا يدخل في عموم المضاف إليه. وطبيعيٌّ أن لا يحتاج التمييز إلى الوصل بحرف العطف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 الاحتمال الحادي عشر: أن يكون منادىً، وهو في الحقيقة بمثابة المفعول به، لأنّ أداة النداء نائبة مناب أدعو أوأُنَادي. الاحتمال الثاني عشر: أن يكون مستثنى، وهو في الحقيقة على وجهين: * إمّا أن يكون بمثابة المفعول به، لأنّ أداة الاستثناء "إلاَّ" نائبه مناب "استثني". * وإمّا أن يكون ما بعد أداة الاستثناء معمولاً لما قبلها، ويكون هذا في الاستثناء المفرّغ. وفي كلٍّ من الوجهين لا يحتاج المستثنى إلى الوصل بحرف عطف. الاحتمال الثالث عشر: أن يكون حالاً مفرداً غير جملة، والحال في الحقيقة صفة لصاحبها، وهي مع صاحبها كالصفة مع الموصوف، فهي كالجزء منه، فلا تُعْطَفُ عليه بحرف عطف. الاحتمال الرابع عشر: أن يُرادَ إدْخال عُنْصرٍ في الجملة شريكاً لأحد العناصر السابقة في الحكم، استغناءً بذلك عن تكرار الجمل. والوسيلة لذلك في معظم الأحوال الوصل بالعطف بحرف من حروف العطف حسب اقتضاء المعنى. وينبغي أن تُلاحظ هُنا معاني حروف العطف، وشروط العطف بها، على ما فصّله النحويّون واللّغويّون. وإجمال معاني حروف العطف فيما يلي: (1) "الواو" لمطلق الجمع فلا تقتضي بأصل الوضع ترتيباً ولا تعقيباً. (2) "الفاء" للترتيب مع التعقيب حقيقةً أو مجازاً. (3) "ثُمّ" للترتيب مع التراخي حقيقةً أو مجازاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 (4) "حتّى" لانتهاء الغاية. (5) "بل" وتأتي على وجهين: الوجه الأول: للإِضراب والعدول عن شيءٍ إلى آخر بعد كلامٍ مثبت خبراً كان أو أمراً. الوجه الثاني: للاستدراك بمنزلة "لكن" إذا وقعت بعد نفي أو نَهْي. (6) "لكن" للاستدراك. (7) "لا" بعد المثبت، وهي تفيد تأكيد إثبات الحكم لما قبلها، ونَفْيَهُ عمّا بعدها. (8) "أم" وتأتي على وجهين: الوجه الأول: "أَمْ" المتصلة، وهي الّتي يكون ما بعدها متًّصِلاً بما قَبْلَها، ومشاركاً له في الحكم، وتقع بعد همزة الاستفهام مثل: "أعليٌّ في الدار أمْ خالد؟ " أو بعد همزة التسوية، مثل: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} . وسُمِّيتْ متّصلة لأنَّ ما قَبْلها وما بَعْدها لا يُسْتَغْنَى بأحدهما عن الآخر. الوجه الثاني: "أَمْ" المنقطعة، وهي التي تكون لقطع الكلام الأوّل واستئناف ما بَعْدَه، ومعناه الإِضراب، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (الرعد/ 13 مصحف/ 96 نزول) : {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخلق عَلَيْهِمْ قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الواحد القهار} [الآية: 16] . هذه هي القاعدة العامّة فيما يراد جعله شريكاً لعنصر من عناصر الجملة التي سبق بيانُها، باستثناء تعدُّد الأخبار، وتعدّد الصفات أو تعدّد الأحوال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 أمّا القاعدة بالنّسبة إلى تعدّد الأخبار. فإذا جاء في الجملة أخبارٌ متعدّدة لمُبتَدأ أو لما أصله مبتدأ فإذا كان الخبران متكاملين فيما بينهما ومفردَيْن، وهما بقوّة الخبر الواحد، لم يَجُزْ عطفُ الثاني على الأول، مثل: "هذا الرُّمّان حُلْوٌ حامض" لأنهما بمعنى خبَرٍ واحدٍ تقديره: "مِزّ". والأصل عند تعدّد الأخبار إذا كان اللاّحق مفرداً لا جملة، أَنْ لا يُعْطَفَ اللاَحِقُ منها على السّابق، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (البروج/ 85 مصحف/ 27 نزول) : {وَهُوَ الغفور الودود * ذُو العرش المجيد * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [الآيات: 14 - 16] . ويجوز عطف بَعْضِها على بعضٍ لدى ملاحظة غَرَضٍ بلاغيٍّ خاصٍّ بدلُّ عليه العطف، فتقول مثلاً: "عليٌّ بْنُ أبي طالبٍ شجاعٌ ذُو بأسٍ لا تَلِينُ له قناةٌ، وعَالِمٌ وَبليغ، وذُو بَصَرٍ في الأَقْضِية، حتَّى قيلَ: قضيَّةٌ ولاَ أبا حَسَنٍ لها". أمّا إذا كان اللاّحق جُمْلةً فيأتي موصولاً بحرف العطف، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (البروج) أيضاً: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ} [الآية: 13] . *** وأما القاعدة بالنسبة إلى تعدّد الصفات: فإذا كان الموصوف لا يتعيّن إلاَّ بعدد من الصفات فيجب إتباعُها وعدم عطف بعضها على بعض. وإذا كان الموصوف لا يحتاج إلى تعيين أو كان يتعيّن ببضعها فقط، فما يتحقَّقُ به تعيينُ الموصوف منها فإنَّهُ يُذْكَرُ دون توسط حرف عطف، وأمّا سائر الصفات فيجوز فيها وجهان: الأول: أن تذكَرَ توابع بلا عطف، وهو الأصل، مثل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 {بسم اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيم - للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ -} . الثاني: أن تُذكَرَ معطوفةً، وينبغي أن يُلاَحظ في العطف غرضٌ بلاغيٌ، لأنّ الأصل في النعوت أن تأتي تَوابعَ دون أن تُوصَلَ بحرف عطف. * ومما جاء من ذلك معطوفاً لغرض بلاغي قول الله عزّ وجلّ حكاية لمقالة إبراهيم لقومه في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) : {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأقدمون * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين * الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين} [الآيات: 75 - 82] . فعطف الصفات للتأكيد على أنّ كلَّ واحدةٍ منها كافيةٌ لعابدة الرّب وحده. * ومنه أيضاً قول الشاعر: إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وابْنِ الْهُمَامِ ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ في الْمُزْدَحَمِ الْقَرْمُ: السيّد المعظَّم. الهُمَامُ: السيّد الشجاع السَّخِيُّ من الرِّجال، والأسد. فعطفَ الصِّفاتِ مع أنّ الأصل عدمُ عطفها، ليَلْفِتَ النظر إلى أنّه مع كونه ملكاً قَرْماً هو ابْنُ سيِّدٍ شجاع سخي، وهو أيضاً شجاعٌ كالأسد. * ومن الصفات المتعدّدة الّتي اجتمع فيها الفصل والوصل قول الله عزّ وجلّ في سورة (غافر/ 40 مصحف/ 60 نزول) : {حم* تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز العليم * غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب ذِي الطول لاَ إلاه إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المصير} [الآيات: 1 - 3] . إنَّ صفات {العزيز العليم غَافِرِ الذنب} جاءت منفصلة دون حرف عطف كما هو الأصلُ في الصفات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 وبعدها جاءت: {وَقَابِلِ التوب} صفة معطوفة بالواو على خلاف الأصل لغرضَ بلاغي، وهو فيما أرى دفع توهُّم المطابقة بين غُفْرانِ الذّنْبِ وقبول التوبة، فغفرانُ الذَّنْب قد يكون دون أن يتوبَ الْمذنِبُ من ذنبه، بل يسأل اللهَ الغفران فقط، أمّا قبولُ التوبةِ، بمعنى رجوعِ اللهِ إلى التائب من عباده بفيوضاتِ عطاءاته التي يُعْطِيها المتقين إذا كان منهم، أوَ الأبرار أو المحسنين إذا كان منهم، فهو شيءٌ آخر غير غفران الذنب. وعاد النص بعد هذا إلى ذكر سائر الصفات دون عطف، وهذا من بدائع القرآن. *** (4) الجمل التي لها محلٌّ من الإِعراب كلُّ جملة صحَّ تأويلها بمفرد فلَهَا محلٌّ من الإِعراب: "الرفع أو النصب أو الجرّ" كالمفرد الذي تُؤَوَّل به، ويكون إعرابُهَا كإعرابه، إذْ تكون واقعة موقعة. وكلُّ جملة لا يصحُّ تأويلها بمفرد، لأنّها غير واقعة موقع مفرد فليس لها محلُّ من الإعراب. والجمل التي لها محلٌّ من الإِعراب سبعٌ: الجملة الأولى: هي الواقعة خبراً، ومحلُّها من الإِعراب الرفع أو النصب بحسب الخبر المفرد الذي وقعت موقعه، مثل: "العلمُ يَرْفَعُ مَنزلةَ صاحبه - كان رسُولُ الله يُواظبُ على قيام اللّيل". الجملة الثانية: هي الواقعة مفعولاً به، ومحلُّها من الإعراب النصبّ، مثل: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله} فجملة "إنّي عبد الله" في محلّ نصب مفعول به لفعل "قال". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 الجملة الثالثة: هي الواقعة موقع المضاف إليه، ومحلّها من الإعراب الجرّ، مثل: {هاذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ} فجملة {يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ} في محل جرّ لأنّها في تأويل مفرد هو مضافٌ إليه، والتقدير: يَوْمُ نَفْعِ الصِدْقِ للصادقين. الجملة الرابعة: هي الواقعة جواباً لشرطٍ جازِمٍ، وشرطها أنْ تقترن بالفاء أو بإذا الفجائيّة، ومحلُّها من الإِعراب الجزم، مثل: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} ، {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} . فكل جملة من هاتين الجملتين: {فماله من هاد - إذا هم يقنطون} واقعة موقع فعل مجزوم هو جواب الشرط. الجملة الخامسة: هي الواقعة موقع الصفة، ومحلُّها من الإِعراب بحسب الموصوف بها، مرفوعاً كان أو منصوباً أو مجروراً، مثل: "وجاء رجلٌ مِنْ أقْصَى المدينة يَسْعَى - الزَمْ عالماً يُعَلِّمُ عُلُومَ الدِّينِ الإِسْلامي - اعتَصِمْ بِحَبْلٍ يَصِلُكَ باللهِ". فكل جملة من هذه الجمل الثلاث "يَسْعَى - يُعَلّم علوم الدين الإِسلامي - يَصِلُكَ بالله" واقعة موقع صفة للاسم النكرة الذي قبلها. الجملة السادسة: هي الجملة التابعة لجملة لها محلُّ من الإِعراب، ومحلُّها من الإِعراب يكون بحسب الجملة التي هي تابعة لها، رفعاً أو نَصْباً أوْ جرّاً، مثل: "كُلُّ حيوانٍ يأْكُلُ وَيَشْرَبُ - كَانَ رَسُولُ الله يَحْمِلُ الكَلَّ وَيَقْرِي الضَّيْفَ ويُعِينُ عَلَى نَوائب الدهر - مرَرْتُ بِرَجُلٍ يأكُلُ بِشَرَهٍ، يأْكُلُ بِشَرَهٍ". الجملة السابعة: هي الجملة الواقعة موقع الحال، ومحلُّها من الإِعراب النصب، كالحال التي جاء لفظها "مفرداً غير جملة" ومؤولة بمفرد، فقول القائل: "وُلِدَ الطفْل يَبْكي" هو بمثابة قوله: "وُلِدَ الطفلُ بَاكياً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 وكان الأصل في الجملة الحالية أن تكون خالية من الواو، لأنّها كالنعت مع المنعوت به، وأن يكون الربط بين الجملة الحالية وصاحبها ضميراً فيها يعود عليه. ولكن قد تكون الجملة الحاليّة خاليةً من هذا الضمير الرابط، مثل: "صلَّى المتهجّد -الناسُ نَائمون" إذا أُريد أن تكون جملة "الناسُ نائمون" جملةً حاليَّة. أو يكون هذا الضمير الرابط صدر الجملة الحالية، مثل: "سافر خالد - هو صائم" إذا أريد أن تكون جملة "هو صائم" حاليّة. إلاَّ أنّ مثل هذين التعبيرين لا دليل فيهما على أنّ جملة كلّ منهما جملة حاليّة، فجاء في اللّغة العربية اختيار حرف "الواو" التي تستعمل في العطف، رابطاً يدلُّ على أنّ الجملة حالية، سواء قلنا بتجريد هذه الواو من معنى العطف، أو قلنا بأنّ معنى العطف ما زال باقياً يجمع الصفة التي دلَّتْ عليها الحال مع الصفة المسندة إلى صاحب الحال التي دلّ عليها الْمُسْنَدُ فِعلاً كان أو غيره، وقد أُضيف إلى معنى الجمع بين الوصفين معنى الحاليّة. ودعت ذَوْقِيَّةٌ جماليَّةٌ وفكريَّةٌ في الجمل الحاليّة أن تجب واو الحال في بعضها، وأن تَمْتَنِعَ في بَعْضِها، وأن يجوز ذكرها وتركها في بعضها. * فتجب واو الحال في ثلاث صور. * وتمتَنِعُ في سبْع صُور. * ويجوز ذكرها وتركها فيما سوى ذلك. على ما فصله النحويّون في باب الحال، وذكره البلاغيّون في باب "الفصل والوصل" استكمالاً لذكر أحوال "الواو" في الْجُمَل وجوداً وعدماً، على اعتبار أنّ "واو" الحال تدخل في عموم الواو العاطفة، إلاَّ أنني رأيت إحالة أمر هذه الواو على مقرّره النحاة بشأنها. وممّا سبق ظهر لنا أنّ الجمل التي لها محلُّ من الإِعراب هي بمثابة المفرد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 لأنَّها تُؤَوَّلُ بمفرد، وتَشْمَلُها أحكام المفرد في الوصل والفصل، حتَّى الجملة الحالية التي تدخل عليها واو الحال رابطةً، إذا لاحظنا أنَّ هذه الواو قد استدعاها حاجة الجملة الحالية إلى رابط، والأصل فيه أن يكون ضميراً يعود على صاحب الحال، وحين تُسْتَخْدَمُ واو الحال للربط فليس ذلك من وصل الجمل بالعطف، وإنما هو للدلالة على معنى الحالية بحرف رابط. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 الفصل الثالث: الفصل والوصل بين الجمل التي لا محلّ لها من الإِعراب (1) مقدمة اهتم البلاغيّون بالبحث لاستخْراج الأسس الفكريّة العامّة للفصل والوصل بين الجمل التي لها محلَّ من الإِعراب، بعد أن نظروا نظرات عامّاتٍ إلى المفرد، وإلى الجملة التي لا محلّ لها من الإِعراب باعبارها بمنزلة المفرد، وتُؤَوَّلُ بمفرد، وتحكُمُهما الأسس الّتي سبَقَ بيانُها في الفصل الثاني من هذا الباب، أخذاً ممّا بَحَثَهُ النَّحْوِيُّونَ، وبحثَ بعضَهُ البلاغيون متناثراً. (2) وقد أبان البلاغيّون أهميّة معرفةِ مواطن الفصل والوصل بين الجمل الّتي لا محلّ لها من الإِعراب، واعتبروا إدْراكَ ذلك من الأمور التي تحتاج بصيرةً نفَّاذةً قادرةً على إدْراك مدَى التلاقي والافتراق، والتقارب والتباعد بين المضامين الفكريّة للجمل التي يتلو بعضُها بعضاً في الكلام، وأنّ هذا ممّا يَصْعُبُ على الكثيرين إدْراكُه، فلا يستطيعون دواماً تَحْدِيدَ ما يجبُ أو يَحْسُن فَصْلُهُ، ومَا يجبُ أو يَحْسُن وصله، وَما يستوي فيه الأمران، فَلاَ يَرْتَقي ما يُنْشؤون من كلامةٍ مؤلف من جُمَلٍ كثيرةٍ في مراقي البلاغية الرفعية، وفي حُسْنِ وضْعِ كُلٍّ من الفصل والوصل في موضعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 ولا تُكْتَسَبُ ملكةُ وضْع كلٍّ من الفصل والوصل في موضعه بالملائم بالتقائيّةِ إلاَّ بممارسةٍ طويلة، مع حِسٍّ فطريٌّ مُرْهف، وموهبة بلاغيّة ممتازة. ويتفاوت الكلام بالفصل والوصل تفاوُتاً كبيراً ارتقاءً أو نزولاً من المراتب البلاغيّة، ويتفاضل في هذا المجال أيضاً الكتّاب والشعراء والخطباء والْمُحَدِّثون. وبالَغَ بعضهم فقال: البلاغة معرفة مواطن الفصل والوصل في الكلام (أي: العطف بالواو وترك العطف بها) . *** (2) الجمل التي لا محلّ لها من الإِعراب لمَّا كان الكلام هنا يتناول الْفَصْلَ والوصل في الجمل التي لا محلّ لها من الإِعراب، فمن المناسب أن نأخذ من النحويّين ما ذكروه من تفصيل لها، ليكون ذلك تمهيداً لكلام البلاغيين حولها. ذكر النُّحاةُ أنّ الْجُمَل التي لا محلَّ لها من الإِعراب تِسْعُ جمل، وهي ما يلي: الأولى: "الجملة الابتدائية" وهي الّتي تكونُ في بدء الكلام، مثل: {*اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} فهي جملة لا محلّ لها من الإِعراب. وهذه الجملة بطبيعتها لا توصل بشيء قبلها، إلاَّ أن تُسْبَقَ بكلامٍ مُقَدَّر ذهناً، فقد يكون للمقدّرات الذهنيّة اعتباراتٌ تُلاحظُ في المنطوق من الكلام، كأن يسأل رجلٌ صديقه: هلْ تَعَشَّيْتَ عند فلان؟، فيقول له: وَبِتُّ عِنده حتّى الصباح. الثانية: "الجملةُ الاستئنافية" وهي الّتي تقع في أثناء الكلام منقطعةً عمّا قبْلَها لاستئناف كلام جديد، وهي جملة لا محلّ لها من الإِعراب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 والأصل فيها أن تكون منفصلةً غير مقترنَةٍ بحرف عطف، مثل قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول) : {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) } . فجملة: "تعالَى الله عمّا يشركون" جملة استئنافيّة. وقد تقترن بالفاء الاستئنافيَّة، مثل قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) : {فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الآية: 190] . وقد تقترن بالواو الاستئنافية، مثل قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) في عرض قصة امرأة عمران: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذكر كالأنثى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم} [الآية: 36] . فجملة: "وَالله أعلم بما وضعت" جملة استئنافية اقترنت بالواو الاستئنافية. الثالثة: "الجملة التعليليَّة" وَهِي الّتِي تَقَعُ في أثناءِ الكلام تَعْلِيلاً لما قَبْلَها، وهي جملة لا محلّ لها من الإِعراب. والأصل في هذه الجملة أن تكون منفصلة غير مقترنة بحرف عطف، مثل قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) خطاباً لرسوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الآية: 103] . فجملة: "إنّ صلاتَكَ سَكَنٌ لهم" جملة تعليلية. وقد تقترن بفاء التعليل، مثل أن تقول: "الْزَمْ سَبِيلَ الْهُدَى فَإِنَّهُ سَبَبُ السَّعَادَةِ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 الرابعة: "الجملة الاعتراضيّة" وهي التي تعترض بين شيئَيْن متلازِمَيْن: "كالمبتدأ والخبر، والفعل ومرفوعه، والفعل ومنصوبه، والشرط وجوابه، والحال وصاحبها، والصفة والموصوف بها، وحرف الجرّ ومتعلَّقه، والقسم وجوابه" وهي جملة لا محلّ لها من الإِعراب. قالوا: ويُؤْتَى بالجملة الاعتراضيّة لإِفادة الكلام تقويةً وتسديداً وتحسيناً. أقول: أغراض الجملة الاعتراضيّة عند البلغاء كثيرةٌ يصْعُبُ تحديدُ أُطُرِها العامّة، فضلاً عمّا هو أكثر من ذلك تحديداً أو تفصيلاً، إذْ دواعي ذكرها، فكريَّة، تُشْتَقُّ من الموضوعاتِ التي تُذْكَرُ ضِمْنَها. ومن أمثلة الجمل الاعتراضية: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وادعوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [الآيات: 23 - 24] . فجملة {وَلَن تَفْعَلُواْ} جُمْلَةٌ اعْتِراضِيَّةٌ جاءَتْ بين متلازمَيْنِ هُمَا: "الشرط وجوابه" والواو فيها استِئْنَافيّة. * وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الواقعة/ 56 مصحف/ 46 نزول) : {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الآيات: 75 - 76] . فجملةُ: {لَّوْ تَعْلَمُونَ} جُملةٌ اعتراضيَّةٌ جاءت بَيْنَ مُتَلازِمَيْنِ هُما: " الصفة والموصوف بها ". الخامسة: "الجملة الواقعة صلةً للموصول" سواءٌ أكان الموصول موصولاً اسمياً، أَمْ موصولاً حرفيّاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 * فالموصول الاسمي: "كالّذِي - والَّتِي - ومَنْ -" مثل قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {الم * ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ... } [الآيات: 1 - 3] . فجملة: {يُؤْمِنُونَ بالغيب} صلة لموصول اسمي، لا محلّ لها من الإِعراب. * والموصول الحرفيّ هو الحرف المصدريُّ الذي يُؤوّل مع ما بعده بمصدر، والحروف المصدرية هي "أنْ الناصبة للفعل المضارع - أَنَّ - كَيْ - ما المصدرية - لو - همزة التسوية". ومن الأمثلة قول الله عزَّ جلَّ في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 113 نزول) : {فَتَرَى الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ ... } [الآية: 52] . فجملة {تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} لا محلّ لها من الإِعراب لأنّها صلة موصولٍ حرفي، وهي مع الموصول الحرفي في تأويلِ مصدرٍ مفعول به لفعل {نخشى} . السادسة: "الجملة التفسيرية" وهي الّتي تأتي مفسِّرَةً لجملةٍ أو مفردٍ قبلها، وتأتي خبريَّةً أوإنشائيّة. والجملة المفسِّرة لما قبلها، قد تأتي مقرونة بكلمة "أيْ" أو بكلمة "أن" أو مجرَّدَةً منهما، وهي لا محلّ لها من الإِعراب. * فمِنْ أمثلة المقرونة بكلمة "أي" قول الشاعر: "وَتَرْمِينَنِي بالطَّرْفِ أي: أَنْتَ مُذْنِبٌ". * من أمثلة المقرونة بكلمة "أنْ" قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المؤمنون/ 23 مصحف/ 74 نزول) في عرض قصة نوح عليه السلام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 {فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ... } [الآية: 27] . ومن أمثلة المجرَّدَة من "أي" و"أنْ" قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الصف/ 61 مصحف/ 109 نزول) : {ياأيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الآيات: 11 - 12] . فجملة {تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ} وما عُطِفَ عليها مُفَسِرَةٌ للتّجارة المنجية. السابعة: "الجملة الواقعة جواباً لقسم" مثل قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول) : {يس * والقرآن الحكيم * إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} [الآيات: 1 - 3] . فجملة: {إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} جواب القسم الوارد في {والقرآن الحكيم} وهي لا محلّ لها من الإِعراب. * وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) في عرض قصة إبراهيم عليه السلام: {وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ} [الآية: 57] . فجملة: {لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} جواب القسم في {تالله} وهي لا محلّ لها من الإِعراب. الثامنة: "الجملة الواقعة جواباً لشرط غير جازم" وهي جملة لا محلّ لها من الإِعراب. وأدوات الشرط غير الجازم هي: "لو - لَوْلاَ - لَوْمَا - أمَّا - لمَّا - إذَا". أمثلة: (1) {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 (2) {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} . (3) {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض} . (4) (لوما الكتابةُ لضَاعَ أكْثَرُ الْعِلْم) . (5) {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ} . (6) {فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} . (7) {وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ} . فجوابُ الشرط الواردُ في هذه الأمثلة جُمَلٌ لاَ محلّ لها من الإعراب. التاسعة: "الجملة التابعَةُ لجملةٍ لا محلّ لها من الإِعراب" فلها حكم الجملة التابعة لها، مثل: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح ... فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره} فجملة {واستغفره} معطوفة على جملة {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره} وهي لا محلّ لها من الإِعراب لأنها جواب شرط غير جازم. *** (3) الأسس العامّة للفصل الوصل بين الجمل التي لا محلّ لها من الإِعراب سبق أن عرفنا أسس الفصل والوصل بين المفردات في الجملة الواحدة، وبين الْجُمَل الّتِي لها محلٌّ من الإِعراب. وعلينا هنا أن نستبصر الأسس العامّة للفصل والوصل بين الجمل التي لا محلّ لها من الإِعراب، وهو البحث الذي اعتبره البلاغيّون عِمَادَ هذا الباب من أبواب البلاغة، كما سبق به البيان. وقبل أن نبدأ ببيان هذه الأسس لا بدّ من التنبيه على أنّ الْمَعْنَى إذا كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 يقتضي العطف بحرف من حروف العطف غير الواو، وهي: "الفاء - ثُمَّ - حتّى - بل - لَكِنْ - لا - أم" فالأصل العطف بالحرف الذي يقتضيه المعنى من هذه الحروف، ولا يُتْرَكُ هذا الأصل إلاَّ لغرضٍ من الأغراض الّتي يَقْصِدُها البلغاء، ومنها أن لا يريد صاحب الكلام بيانَ المعنى الذي يدلُّ عليه حرف العطف ذو المعنى الخاص، وإنْ كَانَ واقع الحال مطابقاً لدلالته لو عطف به، إذْ له غرضٌ في إغفال المعنى وعَدَمِ التعبير عنه، وهذا موضوع لا يحتاج بحثاً ولا تأصيلاً. ولا بُدَّ من التَّنْبِيهِ أيضاً على أنّ عطف الجملة التالية على الجملة السابقة بالواو، إذا كان يُفِيدُ إشراكَها في حكمها، والمتكلّم لا يُريد أن يَدُلَّ على هذا الاشتراكِ لأمْرٍ ما، فإنّه لا يَرْبطُ الجملة التالية بحرف العطف، بل يأتي بها منفصلة، لئلا يدُلَّ كلامه على ما لا يريدُ بيانه والدلالة عليه، وهذا أيضاً موضوع لا يحتاج بحثاً ولا تأصيلاً. إذن: ينحصر الكلام هنا في العطف "بالواو" أو عدم العطف بها، ضمن المقاصد الّتي يريد المتكلّم التعبير عنها والدّلالة عليها. و"الواو" العاطفة التي يدور البحث هنا حول استخدامها عطافةً أو عدم استخدامها، بين الجمل التي لا محلَّ لها من الإِعراب، لها أرْبَعُ صفات: الصفة الأولى: أنّها لمطلق الجمع، فلا تقتضي ترتيباً ولا تعقيباً ولا غير ذلك من معاني حروف العطف، سواءٌ أعطفت المفردات أَمْ عطفت الجمل. الصفة الثانية: أَنَّها تُفِيدُ الإِشراك في الحكم في عطف المفردات وفي عطف الجمل التي لها محلٌّ من الإِعراب، لأنها مؤولة بالمفردات التي حلَّت محلّها. الصفة الثالثة: أنّها تقتضي التغاير بين المعطوف بها والمعطوف عليه، فلا يُعْطَفُ بها المتَّحِدَان في المعنَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 الصفة الرابعة: أنّ الربط بها يتَطَلَّبُ مُنَاسبَةً فِكْريّةً بَيْنَ المعطوف والمعطوف عليه بها تُسَوّغُ عند البلغاء هذا العطف. فلا بُدّ من ملاحظة هذه الصفات لدى العطف بالواو حتى يكون الْعَطْفُ مستقيماً نَحْويّاً وبَلاَغيّاً، ما قد يَرَاهُ النحويُّ جائزاً بحسب القواعد النحويّة، قد لا يراه البلاغيُّ جائزاً إذا نظر إلى المعاني. وبالنظر إلَى الصِّفَاتِ الأربع للواو العاطفة تظهر لنا الاحتمالات التالية للعطف بها أو عدم العطف بين الجمل التي لا محلّ لها من الإِعراب، والتي يُرَادُ رَصْفُ بعضها وَرَاءَ بعْضٍ. الاحتمال الأول: أن يكون المعنيان في الجملتين السابقة واللاّحقة لا يتلاءم معهما مفهوم التغايرُ بينهما، لشدّة اتّحادهما أو لشدّة تقاربهما، أو كانت التالية منهما جواب سؤال مطويّ تستدعيه السابقة منهما. وفي هذه الحالة لا يَصِحُّ بلاغيّاً العطف "بالواو" لأنّ الواو تقتضي التغايُر بين المعطوف بها والمعطوف عليه، وهذا العطف يُفْسِدُ المعنَى المقصود بالبيان. لكن إذا كان ترك الواو يوهم خلاف المقصود، كان إدخال "الواو" بين الجملتين أمراً لازماً كأن يسألَكَ سائل: هل شُفِي معلّمكُمْ؟ فتقول له: لا. وشفاه الله، إذْ لو حذفت الواو لأوهم أنّك تدعو عليه بعَدَم الشفاء، والمعنى: لم يُشْفَ وشفاه الله. الاحتمال الثاني: أنْ يكون بين الجملتين السابقة واللاحقة تغايرٌ في المعنى، ولكن ليس بينهما تناسبٌ أو تلاؤُمٌ فكريٌ يسمح بأن يُجْمَعَ بينهما برباطٍ تشير "الواو" الرابطة إليه حين العطف بها. فإذا وُجِدَتْ هذه الواو الرابطة وكان واقع حال الجملتين خالياً من التناسب والتلاؤم، إذْ لَيْسَ بينهما خيوطٌ فكريّةٌ متلائمة، كان وجود الواو الرابطة بمثابة مُدّعٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 كذّاب، يدّعي وُجُودَ التَّنَاسُب والتلاؤم، وهو في الواقع غير موجود، وهذا أمْرٌ تنفر منه النفوس وتأباه، ولا يَسْمَحُ البلغاء وأهل الفكر باستخدامه. ويستثنى من هذا أن يَحْدُث من ترك الواو بين الجملتين إيهام خلال المقصود، فَتُذْكَر الواو للدلالة على استئناف الكلام الذي بعدها، كأن يسألك سائل: هل أنت مذنب؟ فتقول: لا. وغفر الله لك. الاحتمال الثالث: أن يتوافر في الجملتين السابقة واللاّحقة شرطا التغايُر في المعنى من جهة، والتناسب بين معنَيَيْهِما المتغايرين من جهة أخرى. فإذا كان غرض المتكلّم أن يجمع بينهما برباط "واو" العطف الدّالة على مطلق الجمع مع التغاير والتناسُب بين مَعْنَيَيْهِما، ليَدُلَّ بها على ذلك، كان استخدامه هذا الرابط عملاً بليغاً، ويَدُلُّ على حِسٍّ مُرْهف، وذَوْقٍ رفيع، باستثناء بعض الصور الّتي يوجد فيها سبب في نظم الكلام يقتضي عدم العطف، كإيهامِ خلاف المقصود، مثل قول الشاعر: وتَظُنُّ سَلْمَى أَنَّنِي أَبْغِي بِهَا ... بَدَلاً أُرَاهَا في الضَّلاَلِ تُهِيمُ إنّ جملة "وتَظُنُّ سَلْمَى" يناسبُها أن تُعْطَفَ عليها بالواو جملة "أُراها في الضلال تهيم" أي: هي تَظُنُّ بي شيئاً مخالفاً لواقع حالي، وأنا أرى جازماً أنَّها في هذا الظّنّ تهيمُ في الضلال. لكنَّهُ لو عطفها "بالواو" لأوهم أنّ هذه الجملة معطوفة على جملة "أنَّنِي أبْغِي بِهَا بَدَلاً" أي: وتظُنُّ أيضاً أنني أراها في الضلال تهيم، وهذا خلاف مقصود الشاعر. ملاحظة: هذا التقسيم هو التقسيم الذي رأيته الأسهل والحاصر لمختلفِ الاحتمالات، دون إرباك الذهن، بمصطلحاتٍ متشعّبات، وتفريعات قلّما يستفيد منها من يريد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 التعرّف على أُسُسِ رَبْطِ الْجُمَل التي لا محلّ لها من الإِعراب بواو العطف أوعَدَمِ رَبْطِها بها. *** ما يخرج عن دائرة هذا التقسيم السابق: (1) يخرج عن دائرة هذا التقسيم عطف كلامٍ كُلِّيٍ عَلى كلامٍ كلِّي، كعطف قصّة على قصّة، وعطف موضوع كُلّيٍّ على موضوع آخر كُلّيّ، إذْ يكفي لتسويغ العطف "بالواو" في ذلك مجرّدُ ملاحظة عطف كلامٍ ما، على كلامٍ ما، وعطفِ قصَّةٍ ما، على قصّة ما. أمّا التغاير الذي تقتضيه "الواو" العاطفة فقائم في ذلك، ما لم تكن القصّة التالية تفصيلاً لملخّص القصة السابقة، أو الموضوعُ التالي تفصيلاً لملخّص الموضوع السابق، أو العكس فيهما، فإذا كان التالي تفصيلاً أو تلخيصاً للسابق فَهُما بمثابةِ البيان من المبيَّنِ، متَّحِدَانِ أو شِبْهُ متّحدَين، وتركُ العطف بالواو هو الأصل الذي ينبغي أَنْ يُتَّبَعَ، إلاَّ لغرض بلاغي يقوم في نفس البليغ يرجّح عنده العطف. ومن أمثلة عرض القصّة المفصلة بعد ذكرها مُلخّصةً قصّةُ أهل الكهف الّتِي قصَّها الله في سورة (الكهف/ 18 مصحف/ 69 نزول) فقد جاء التلخيص في الآيات من (9 - 12) وبعدها جاء التفصيل في الآيات من (13 - 26) وعند بدْءِ التفصيل جاء الكلام غير مقترنٍ بواو العطف. وأمّا التناسب فيمكن أن ينتزع من الموضوع العام، إذ الباحث مثلاً في النحو قد يعطف باب المفعول به على باب الفاعل، وقد يعطف أبواب المنصوبات على أبواب المرفوعات أو المجرورات، فالناظم العامّ لأبواب علْم النحو بحث أحوال الكلمة من جهة إعرابها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 والباحث في علم الفقه قد يعطف أبواب المعاملات على أبواب العبادات، وقد يعطف فصلاً على فصل في الباب الواحد، وفرعاً على فرع في الفصل الواحد، وباستطاعته أن ينتزع مناسبةً عامّةً كافيةً للعطف، وكلّما كانت هذه المناسبة ألْصَق بالْمَقْسِمِ القريب للقسم الذي يذكره كان العطف مقبولاً غير مستهجن، وقد تكون مُنْتزعَةٌ من الْمَقْسِم البعيد بحسب اقتضاءات المعاني. والْقَصَّاصُ قد يعطف قصّةً على قصة، إذْ باستطاعته أن ينتزع مناسبة عامّةً كافيةً للعطف، كأن يكون حديثه حول قصص الأنبياء وأقوامهم، أو قصص المتقين، أو قصص المجاهدين، أو يكون حديثه حول قصص اللّصوص، أو قصص الْقَتَلة، أو قصص غرائب السلوك عند الحيوانات، إلى غير ذلك. (2) ويخرج عن دائرة هذا التقسيم إيضاً استخدام "الواو" للدلالة على استئناف كلامٍ جديد، غير مرتبط بالكلام السابق، وتكون عندئذٍ بمعنى: التوقف عن متابعة ما يتعلّق بما سبق من موضوعٍ واستئناف الكلام في موضوعٍ آخر. ومن أمثلة "واو" الاستئناف قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الحج/ 22 مصحف/ 103 نزول) : {ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ... } [الآية: 5] . فجملة: {وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ} جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، مُصَدَّرَة بواو الاستئناف، وليست هذه الواو عاطفةً على ما ذكر النحويون إذْ لو كانت عاطفة على {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ} لكان ينبغي أن يكون فعل {وَنُقِرُّ} منصوباً. ولنا أن نقول: إنّ جملةَ {وَنُقِرُّ فِي الأرحام ... } معطفة على جملة {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ} ولواحقها. ومن الأمثلة التي ذكرها النحويون قول أبي اللّحَّام التغلبي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 عَلَى الْحَكَمِ الْمَأتِيِّ يَوْماً إِذَا قَضَى ... قَضِيَّتَهُ أَنْ لاَ يَجُورَ وَيَقْصِدُ وَيقْصِدُ: بالرَّفعِ أي: وهو يَعْدِلُ، فحمل الكلام هنا على الاستئناف متعيّن، إذ كيف يَجِبُ على الْحَكَمِ إذا قَضَى قضيَّتَهُ أن لا يجور ولا يعدل، هذا تناقض. وأرى أنّ الواو التي تدخل على الجملة الاعتراضيّة هي واو استئناف وليست واو عطف. *** (4) مع علماء البلاغة في تقسيماتهم تأمَّلْتُ فيما ذكر البلاغيّون من تقسيم لأحوال الجمل التي لا محلّ لها من الإِعراب حول الفصل والوصل بينها في الكلام، فرأيت أنّهم بالبحث التحليليّ قد ذكروا لها سبعة أقسام متفرّعة من تقسيمين رئيسَيْن، وأنّهم فصّلوا بعض هذه الأقسام إلى فروع بحسب أحوالها. وفيما يلي بيان ذلك مع بعض تعديل في شجرة التقسيم التي ذكروها. القسم الأول: ما يجب فيه الفصل (أي: عدم عطف الجملة التالية على الجملة السابقة بالواو) . وهذا يكون في أربع صُوَر: الصورة الأولى: أن يكون بين الجملتين "كَمَالُ اتّصال" إذْ لا تغايُر بين الجملتين حتّى تُعطَفَ التالية على السابقة. وهذ الصورة تظهر في ثلاثة وجوه: الوجه الأول: أن تكون الجملةُ التالية توكيداً للجملة السابقة، لزيادة التقرير، أو لدفع توهُّم المجاز، أو لدفع توهُّمِ الْغَلَط، وهذه الجملةُ التوكيديّة: * قد تكون من قبيل التوكيد اللّفظيّ مثل قول الله عزَّ وجلَّ: {فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} . * وقد تكون من قبيل التوكيد المعنويّ، مثل ما حكى الله عزّ وجلّ في سورة (يوسف/ 12 مصحف/ 53 نزول) عمّا قال النسوة حين رأَيْنَ يوسف عليه السلام في بيت العزيز: {مَا هاذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [الآية: 31] . فجملة {إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} توكيدٌ معنويٌّ لجملة {مَا هاذا بَشَراً} لأنّ إثبات كونه ملكاً كريماً تأكِيدٌ وتحقيقٌ لنفي كونه بشراً. ومثل قول المتنبيّ: وَمَا الدَّهْرُ إِلاَّ مِنْ رُوَاةِ قَصَائِدي ... إِذا قُلْتُ شِعراً أَصْبَحَ الدَّهْرُ مُنْشِداً الوجه الثاني: أن تكون الجملة التالية بدلاً من الجملة السابقة، وجملة البدل: * قد تكون بدل كلٍّ مِنْ كلٍّ، ويسمّى "الْبَدَلَ المطابق" مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (المؤمنون/ 23 مصحف/ 74 نزول) : {بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأولون * قالوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الآيات: 81 - 82] . *وقد تكون بدَلَ بعْضٍ مِنْ كلٍّ، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) حكاية لمقالة هودٍ عليه السلام لقومه: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ * واتقوا الذي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الآيات: 131 - 134] . فالأنعام والبنون والجنات والعيون هي بعض ما أمدّهم به مما يعلمون، وفائدة هذا البدل ذكر بعض العناصر مفصلة لأهمّيتها عند المخاطبين، بعد ذكرها بشكل مجمل. * وقد تكون بدَلَ اشتمال، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (يَس/ 36 مصحف/ 41 نزول) حكايةً لمقالة الرجل المؤمن الذي جاء يَسْعَى من أهل أنطاكية، يعظ قومه أن يتَّبعُوا المرسلين الثلاثة الذين أُرْسُلو إليهم: {وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ يسعى قَالَ ياقوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} [الآيات: 20 - 21] . فجملة {اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً ... } بدل من جملة {اتّبعُوا المرسلين} التي تشتمل بمفهومها العام على معنى الجملة التي جاءت بدلاً منها. والغرض التنبيه على قضيّة مهمّةٍ فيهم، وهي إخلاصهم وعدم سعيهم لغرض دنيويٍّ من دعوتهم. الوجه الثالث: أن تكون الجملة التالية معطوفة على الجملة السابقة عطف بيان، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (طَه/ 20 مصحف/ 45 نزول) : {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان قَالَ ياآدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى} [الآية: 120] . فجلمة: "قال يا آدم ... " عطف بيان على جملة {فَوَسْوَسَ ... } وهي لبيان مضمون الوسوسة التي وسوس بها الشيطان. وقول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) خطاباً لبني إسرائيل: {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [الآية: 141] . فجملة: "يُقتّلون أبناءكم" والتي بعدها عطف بيان لجملة: "يسومونكم سُوءَ العذاب". الصُّوَرة الثانية: أَنْ يكون بين الجملتين "شِبْهُ كمال الاتصال". وهذا يكون حينما تكونُ الجملةُ السابقة ممّا يثير في نفس المتلَقّي سُؤالاً يتردَدُ في نفسه ولو لم يُصَرِّحْ به، فتأتي الجملة التالية لتجيب على هذا السؤال، وتأتي دون أن تعطف بالواو، وعلى أسلوب الاستئناف، فالجملة الواقعة جواباً لسؤالٍ مقدّر ذهناً غيرِ مصرّحٍ به في اللّفظ، لكن من شأنه أن تثيره في النفوس الجملة السّابقة هي جملة استئنافيّة. قالوا: والسؤال الذي تثيره الجملة السّابقة على وجوه: * فإِمَّا أن يكون سؤالاً عن سبب الحكم الذي تضمّنته الجملة السابقة بوجه عامّ، مثل قول الشاعر: قَالَ لِي: كَيْفَ أَنْتَ؟ قُلْتٌ: عَلِيلٌ ... سَهَرٌ دَائِمٌ وَحُزْنٌ طَوِيلُ فجملة "سَهَرٌ دائم ... " جملةٌ استئنافية جاءت بدون عطف بالواو، إذْ وقَعَت جواب سؤالٍ تُثِيرُه جملة "أنا عَلِيل" لأنّ من طبيعة المتَلَقِّي أن تتحرّك نفسه بسؤالٍ مضمونه: ما سبَبُ كُوْنِكَ عليلاً؟ وأسْرَعَ المتكلم فأجاب على السؤال دون أن يُطرَحَ عليه، أي: أنا عاشقٌ بعيد عن محبوبه. فالسؤال عن سبب حدوث العلّة المرضية هو سؤال عن السبب بوجه عامٍّ، إذ عادة الناس أنَّهم إذا قيل لهم: فلانٌ مريضٌ، قالوا: ما سبب مرضه؟. * وإمّا أن يكون سؤالاً عن سبب خاص، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (يوسف/ 12 مصحف/ 53 نزول) حكاية لمقالة يوسف عليه السلام: {*وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الآية: 35] . فجملة: {إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء} جملة مستأنفة وقعت جواب سؤال تثيره جملة {وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي} . لقد سبق هذه الآية بيان أن يوسف عليه السلام قال: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين} [الآية: 52] . فَبَعْدَ أَنْ أعْلَنَ براءَتَهُ من الخيانةِ، واعترفَت امرأةُ العزيز بأنَّها هي التي راودَتْهُ عن نفسه، تتساءل النفس قائلة: ما الّذي جعل يوسف عليه السلام يقول: {وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي} بعد أنْ ثبتت براءته وثبتت طهارتُه وعِفَّته، فما هو السبب الخاصُّ الذين جعله يقول هذا القول؟ وقد أسرع عليه السلام فأجاب على السؤال بقوله: {إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء} والسوءُ الذي حدّثته نفسه به ولم يَعْمَلْه، هو هَمُّهُ بضَرْبها بَعْد أنْ همَّتْ بضربه لمّا استعصم بالله، متعفّفاً عن الفاحشة. * وإمَّا أن تُثِير الجملة السابقة سؤالاً ما، لا عن السبب العامّ للحكم فيها، ولا عن السبب الخاصّ، مثل ما جاء في قول الله عزّ وجلّ يَقُصُّ قصّة إبراهيم عليه السلام في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) : {وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [الآية: 69] . حَنِيذ: أي: مَشْوِيّ. إنّ من طبيعة أَيِّ متلَقٍّ للقصة، أنْ يتساءل بعد أن يَسْمَعَ أنّ الرُّسُل من الملائكة الذين جاءوه وقالوا له سلاماً، فيقول في نفسه، فماذا أجابهم إبراهيم عليه السلام؟ فجاءت جملة: {قَالَ سَلاَمٌ} جواباً على هذا السؤال. ومنه قول الشاعر: زَعَمَ الْعَواذِلُ أَنَّنِي في غَمْرَةٍ ... صَدَقُوا ولكِنْ غَمْرَتِي لاَ تَنْجَلِي إنّ الشطر الأول يثير في النفس سؤالاً وهو: إذا كان العواذل قد زعموا أنَّكَ في غَمْرَة فماذا تقول أنت؟ فأجاب على هذا التساؤل بقوله: "صَدَقوا" وزاد على قولهم تأكيداً بقوله: "ولكِنْ غَمْرَتي لا تَنْجَلِي" وهذا من تأكيد الشيء بما يوهم في بدايته خلافه. الغمرة: الشّدّة. ملحوظتان: (1) قد يُحْذَفُ صَدْرُ جواب السؤال المقدّر الذي أثارته الجملة السابقة، ويُسْتَغْنَى عَنْه بما جاء بعده ممّا يدلُّ عليه، ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول) كَمَا جَاءَ في قراءةَ ابن عامر الشامي وشبعة {يُسَبِّحُ} بالبناء للمجهول: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة وَإِيتَآءِ الزكاة يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار} [الآيات: 36 - 37] . قراءة جمهور القرّاء العشرة {يُسَبِّحُ} وَلَيْسَ فيها شاهِدٌ لمَا نَحْنُ فيه، أمّا قراءة ابن عامر وشعبة {يُسَبَّحُ} بالبناء لما لم يُسَمَّ فَاعِلُهُ فهي التي تتضمّن الشاهِدَ المطلوب. إنّ جملة {يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال} جملة تامَّةٌ تثير سؤالاً وهو: مَنِ الذي يُسَبِّحُ للهِ فيها؟ والجوابُ: يُسَبِّحُ فيها رَجَالٌ ... فَحُذِفَ صَدْر الجواب وهو فِعْلٌ واستغني عنه بذكر فاعله "رجالٌ". (2) وقد تُحذف جملة الجواب كلُّها، ويُكْتَفَى بذكر ما يَدُلُّ عليها، منه قول الشاعر "مُسَاوِرِ بن هند" يهجو "بني أسَد": زَعَمْتُم أَنَّ إخْوَتَكُمْ قُرَيْشٌ ... لَهُمْ إلْفٌ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَفُ إنّ الشطر الاول جملة تامَّة تُثِير سؤالاً: أَلَسْنَا صادقين؟ وجوابه: "كذبْتُمْ فإنَّ قُرَيشاً لَيْسُوا إخْوَتكُم" هذا الجواب محذوف لكن دَلَّ عليه ما جاء في الشطر الثّاني، أي: لو كنتم إِخْوَة قَرَيشٍ لكان لكم إِلْفٌ كما لهم. الإِلْف والإِلاَف: العهد والأمان الذي يؤخذ لتأمين خروج التجَّار من أرض إلى أرض، وقد كانت قريشٌ لها هذا الإِلاف الذي يمكّنها من رحْلَتِي الشاء والصيف، إلى الشام واليمن ومصر. الصورة الثالثة: أَنْ يكونَ بَيْنَ الجملَتَيْن "كَمَالُ الانقطاع". وهذا يكون حينما يكون بين الجملتين تبايُنٌ تَامّ، فيجب فصل الجملة التالية عن الجملة السابقة، وعدَمُ وصلها بالواو العاطفة، بشرط أن لا يؤدّي ذلك إلى إيهام غير المقصود. وهذه الصورة تظهر في ثلاثة وجوه: الوجه الأول: أن تختلف الجملتان السابقة والتالية خبراً وإنشاءً في لفظيهما وفي دلالتيهما مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (الحجرات/ 49 مصحف/ 106 نزول) : {وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [الآية: 9] . فالجملة السابقة {وأقسطوا} إنشائية، مصدّرة بفعل أمر. والجملة التالية {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} خبريَّة في لفظها وفي معناها. وظاهر أنّ بين هاتين الجملتين "كمالَ انقطاع" فوجب فصلهما. الوجه الثاني: أن تختلف الجملتان السابقة والتالية خبراً وإنشاءً في دلالتيهما، ولو لم تختلفا في لفظيهما، كأن تكون الأولى خبراً في لفظها ومعناها، والثانية خبراً في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 لفظها إنشاءً في معناها، كأن تقول: نجَحَ ابني في امتحاناته كلِّها، وَفَّقَهُ الله. فالأولى خبريَّةٌ لفظاً ومعنى، والتالية خبريَّةٌ لفظاً إنشائيَّةٌ دعائيَّةٌ معنى. الوجه الثالث: أن لا يكون بين لجملتين مناسبة ما في المعنى، ولا يوجد ارتباطٌ ما بين المسنَدِ إليه فيهما، ولا بين الْمُسْنَد، ومنه قول الشاعر: إنَّما الْمَرْءُ بأصْغَرَيْهِ ... كُلُّ امْرِىءٍ رَهْنٌ بما لَدَيْه ومثل أن تُعَدّدَ حِكَماً في موضوعاته مختلفات لا ترابط بينها، كأنْ تقول: "رَأسُ الحكمة مَخَافَةُ الله - لا يُلْدَغُ المؤمِنُ من جُحْرٍ مَرَّتين - ارْضَ بما قَسَمَ اللهُ لَكَ تكُنْ أغْنَى الناس - كفَى بالموتِ واعظاً". أما الوصل مع وجود كما الانقطاع لأنّ الفصل يوهم خلاف المقصود، فمن أمثلته ما روُي أنّ "هارون الرّشيد" سأل وزيرَه عن شيء فقال: "لا وَأيَّدَ اللهُ الْخَلِيفَة" فبلَغ هذا القول "الصّاحِبَ بْنَ عبَّادٍ" فقال: هذه الواو أحْسَنُ من الواوات في خُدُود الملاح (أي: أحسن من الشعر الذي يتدلّى من الصدغ ويكون مثل الواو على الخدود) . الصورة الرابعة: أنْ يكون بين الجملَتَيْن "شبْه كَمَالِ الانقطاع". وهذا يكون حينما تكون الجملة التالية مسبوقةً بجملَتَيْنِ يَصِحُّ عطفها على إحداهما، ولا يصحّ عطفها على الأخرى، لأنه يُفْسِدُ المعنى المقصود للمتكلم، فَيُتْركُ العطف، ويجب حنيئذٍ الفصل دفعاً لما قد يحدث من إيهام بالوصل بالواو. وذكروا من أمثلة هذا القسم قول الشاعر: وَتَظُنُّ سَلْمَى أَنَّنِي أَبْغِي بهَا ... بَدَلاً أُرَاهَا في الضَّلاَلِ تَهِيُم وقد سبق شرح هذا الشاهد. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 القسم الثاني: ما ينبغي فيه الوصل أو يحسُنُ (أي: أن تُعْطَفَ الجملة التالية على الجملة السابقة بالواو) . ويظهر هذا حينما تكون العلاقة بين الجملتين متوسطة تماماً بين حالَتَيْ "كمالِ الانقطاع" و"كمال الاتصال". ويُلاحظ هذا التوسط حينما تتفق الجملتان التالية والسابقة خبراً أو إنْشاءً، لفظاً ومعنىً، أو معنىً فقط، مع جامع يجمع بينهما، فتُعْطَفُ التالية على السَّابقة إلاَّ إذا أوهم العطفُ خلاف المقصود. أمثلة: (1) قول الله عزّ وجلّ في سورة (الانفطار/ 82 مصحف/ 82 نزول) : {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} [الآيات: 13 - 14] . يُلاَحظ في هاتين الجملتين المعطوفة بالواو والمعطوف عليها توسُّطاً بين كمال الاتّصال وكمال الانقطاع، وجامعاً يجمع بينهما، فالعلاقة بينهما قانون الجزاء الرّبّاني، ذي الصورتين المتضادّتين، لفريقين متضادّين، هما الأبرار والفجّار، إنّ عنوان الجزاء عنوانٌ جامع دون اتّحاد ولا شِبْهِ اتّحاد، وإِنّ التضادّ لا يَصِلُ إلى مستوى التباين التامّ في الفكر، لأنّ الضدَّ أقربُ خُطُوراً بالبال عن ذكرِ الضدّ من النظير إلى النظير، فحصلَ بذلك التوسُّط بين الكمالين، والجملتان هما أيضاً خبريتان لفظاً ومعنىً، فحَسُنَ عطفُ التالية على السابقة بالواو. (2) وقول الله عزّ وجلّ في سورة (الروم/ 30 مصحف/ 84 نزول) : {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الحمد فِي السماوات والأرض وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَيُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الآيات: 17 - 19] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 إنَّ الْجُمَل الْمَعْطُوفة على سَوَابقها في هذا النّصّ لَيْسَ فيها كمال اتصالٍ وَلاّ شِبْهُه، ولا كمال انقطاع وَلاَ شِبْهُه، مع وجود جامع يُحَسِّنُ العطف بالواو، إنّ التسبيحَ مغايرٌ للحمد، لأنّ معنى "سبحان الله" أُنَزِّه الله عمّا لا يليق به من صفات، ومعنى: "الحمد لله" أُثْبِت لله كلّ صفات الكمال التي تقتضي الثناء عليه بها، ومع هذا التغاير فإنّ بينهما تلاؤماً فكريّاً لأنّهما متكاملتان حول صفات الله عزّ وجلّ، والجملتان هما أيضاً خبريّتان لفظاً ومعنى، فَحَسُنَ عطف التالية منهما بالواو على السابقة. وكذلك نقول في الجمل الواردة في الآية (19) إذ عُطِفَتْ الثلاثة الأخيرة منها على الأولى: {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت} لوجود التغاير بينها مع التلاؤم الفكري. إنَّ إخراج الميت من الحيّ مغايرٌ لإِخراج الحيِّ من الميت وملائم له، إذْ هما مظهران من مظاهر قدرة الرّبّ الخالق جلَّ وعلا، وكذلك إحياء الأرض بعد موتها، وكذلك البعث يوم الدّين. فاقتضى التوسط بين الكمالين مع التلاؤم وكونها جملاً خبرية لفظاً ومعنى عَطْفَها بالواو العاطفة. (3) وقول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) : {يابنيءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين} [الآية: 31] . إنّ جُمَلَ {وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا} معطوفة على: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ} لما بينهما من التغاير الذي يجعلها متوسطة بين الكمالين، مع التلاؤم الفكري بينها، والجمل كلُّها متفقة في كونها جملاً إنشائيةً واردة إمَّا بصيغة الأمر وإمّا بصيغة النهي، ومعناها جميعاً على الإِنشاء. والأمثلة على هذا كثيرة من القرآن ومن السنَّة ومن أقوال البلغاء. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 الجامع المسوّغ للعطف بالواو بين الجمل التي لا محلّ لها من الإِعراب العلاقة الجامعة بين الجملتين فكرةٌ تسوّغ الربط بالواو، وهذه الفكرة تُنْتَزَعُ من أركان الإِسناد بين الجملتين وتوابع هذه الأركان، وأرى أنّه ليس باستطاعة الباحث أن يملك ضوابط محدَّدَةً للصُّور التي يُلاَحَظُ فيها الجامع المسوّغ للعطف، يميّزها عن الصور الأخرى التي يكون الجامع فيها ضعيفاً لا يحسُنُ معه العطف بالواو لدى أذكياء البلغاء. وقد حاول السَّكّاكي مستفيداً من دراساته المنطقيّة والفلسفيَّة الواسعة، أن يقدّم تصنيفاً للكليّات الّتي يمكن أن يندرج تَحْتَها الجامع، فرأى أنّ الجامع، إمَّا أن يكون عقليّاً، أو وهْميّاً، أو خياليّاً. * فالجامع العقلي: له عدة صُوَر: (1) أن يتّحد في الجملتين واحدٌ فأكثر من المسند إليه، والمسند إليه، وقيودهما. (2) أن يتماثل في الجملتين واحدٌ فأكثر من المسند إليه، والمسند، وقيودهما، والتماثل هو التشابه، وهو غير الاتحاد. (3) أن تربط بين الجملتين العلاقة التي تُسَمَّى في الفلسفة مقولة "الإِضافة" وهي التي يرتبط فيها فهم الشيء بفهم شيء آخر، مثل العلاقة بين الأُبُوّة والنبوة، والعلاقة بين العلة والمعلول، والسبب والمسبّب، والأسفل والأعلى، والأقل والأكثر، والبيع والشراء، والشريك مع شريكه، إلى غير ذلك. * والجامع الوهمي: هو أن تتواصل الجملتان ببعض عناصرهما عن طريق القوة الواهمة في الذهن. (1) فمنه أن يكون بينهما شبه تماثل، إذ الوهم من شأنه أنْ يرفع شبيه المتماثلين إلى مرتبة المتماثلين ويجمع بينهما لتقاربهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 كأن يجمع بين الأبيض والأصفر لأنهما يشبهان المتماثلين، وكأن يجمع بين شديد الخضرة والسّواد. (2) ومنه أن يكون بينهما تضادّ، كالسّواد والبياض، والإِيمان والكفر، والضحك والبكاء، والقيام والقعود، إذ من شأن القوة الواهمة أن تجمع بين الأضداد. (3) ومنه أن يكون بينهما شبه تضاد، كالسّماء والأرض، والسهل والجبل. * الجامع الخيالي: هو أن تتواصل الجملتان ببعض عناصرهما عن طريق "المخيّلة" في الذهن، إذ الذهن يؤلف بين المتقارنين في الخيال لأسباب مختلفة، كالقلم والقرطاس، والعقد والجيد، والمعصم والسوار، والخاتم والإِصبع، والغراب والسواد، إلى غير ذلك. *** محسنات الوصل بالعطف بالواو إضافة إلى الجامع المسوّغ للعطف بالواو بين الجمل التي لا محلّ لها من الإِعراب توجد مُحَسّنات تُحَسِّن هذا الوصل، ومن هذه المحسنات ما يلي: (1) أن تكون الجملتان اسميتين. (2) أن تكون الجملتان فعليتين، ويزيد في الحسن أن يكون الفعل في كلٍّ منهما ماضياً، أو مضارعاً. هذا إذا لم يوجد داعٍ فكري يقتضي خلاف ما سبق من محسنات، فالدّاعي الفكريّ هو الأحقّ بالمراعاة دواماً، إذا كانت قواعد العربية تَسْمَحُ بذلك. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 شجرة أقسام الفصل والوصل في الجمل التي لا محل لها من الإِعراب وفق تقسيمات البلاغيّين 1 - ما يجب فيه الفصل (أي: عدم عطف الجملة التالية على الجملة السابقة بالواو) وله أربع صور: [الصورة الأولى:] أن يكون بين الجملتين ((كمال الاتصال)) ويظهر في ثلاثة وجوه: الوجه الأول: أن تكون التالية توكيدا للسابقة - توكيد لفظي. - توكيد معنوي الوجه الثاني: أن تكون التالية بدلا من الجملة للسابقة - بدل كل من كل. - بدل بعض من كل. - بدل اشتمال. الوجه الثالث: أن تكون التالية عطف بيان للسابقة [الصورة الثانية:] أن يكون بين الجملتين ((شبه كمال الاتصال)) وهذا يكون حينما تكون الجملة السابقة مما يثير في نفس المتلقي سؤالا يتردد في نفسه ولو لم يصرِّح به، فتأتي الجملة التالية لتجيب على هذا السؤال. والسؤال عن: - سبب عام - سبب خاص سبب - ما غير عامّ ولا خاصّ [الصورة الثالثة:] أن يكون بين الجملتين ((كمال انقطاع)) ويظهر في ثلاثة وجوه: - أن تختلف الجملتان خبراً وإنشاءً لفظاً ومعنى. - أن تختلف الجملتان خبراً وإنشاءً معنى فقط. - أن لا يكون بين الجملتين مناسبة ولا ارتباط بين أركانهما. [الصورة الرابعة:] أن يكون بين الجملتين ((شبه كمال انقطاع)) وهذا يكون حينما تكون الجملة التالية مسبوقة بجملتين يصحُّ عطفها على إحداهما ولا يصحّ عطفها على الأخرى لأنّه يسفد المعنى المقصود للمتكلّم. 2 - ما ينبغي فيه الوصل أو يحسن ويظهر هذا حينما تكون العلاقة بين الجملتين متوسطة تماما بين حالتي ((كمال الانقطاع وكمال الاتصال)) مع جامع يسوّغ العطف بالواو. والجامع على رأي السّكاكي: - عقلي. - وهمي. - خيالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 "علم المعاني" الباب الخامس: الإِيجاز الإِطناب والمساواة الفصل الأول: نِسَبُ الكثافة بين الألفاظ والمعاني وملاءمتها لمقتضيات الأحوال ينقسم الكلام بالنظر إلى المنطوق به، وإلى معانيه من جهة نِسَبِ الكثافة بين كلٍّ منهما في مقابل الآخر إلى ثلاثة أقسامٍ رئيسة سويّة، ويأتي وراءها أقسامٌ أخرى. * فالأقسام السويّة الثلاثة هي ما يلي: القسم الأول: الكلام المتّصفُ بالمساواة بين ألفاظه ومعانيه مع مطابقته لمقتضى الحال. المساواة: هي التطابق التام بين المنطوق من الكلام وبين المراد منه دون زيادة ولا نقصان. القسم الثاني: الكلام المتّصِفُ بالإِيجاز غير الْمُخِلّ، مع مطابقته لمقتضى الحال. الإِيجاز: كون الكلام دالاً على معانٍ كثيرة بعبارات قليلة وجيزة دون إخلال بالمراد. القسم الثالث: الكلام المتّصفُ بالإِطناب لاشتماله على زيادة ذات فائدة، مع مطابقته لمقتضى الحال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 الإِطناب: كون الكلام زائداً عمّا يمكن أن يُؤَدَّى به من المعاني فى معتاد الفصحاء لفائدة تُقْصَد. ويكون الكلام بليغاً إذ وُضع كُلُّ قِسْمٍ من هذهِ الأقسام فى موضعه الملائم له، ورُوِعيَ فيه مقتَضَى حالِ المتلقّي. * وأمّا المعيب من الكلام فى هذا الباب فيكون بواحد فأكثر من الوجوه الثلاثة التالية: الوجه الأول: الإِيجاز المخلّ بالمعنى المقصود بالبيان. الوجه الثاني: الإِطنابُ بزيادةٍ غير ذات فائدة تُقْصَدُ لدَى أذكياء البلغاء، وقد يطلق عليه لفظ "الإِسهاب" أو لفظ "التطويل". ويكون الإِطناب غير المفيد بأحد أَمْريْن: * بالتطويل دون فائدة، وطريقُهُ أن لا يتعيّن الزائد فى الكلام على وجه الخصوص، كأن تُوجد لفظتان مترادفتان تصلح كلُّ منهما لأن تكون هي الزائدة. * أو بالْحَشْوِ دون فائدة، وطريقه أن يكون الزائد غير المفيد فى الكلام متعيّناً بلفظه، كلمةً فأكثر. هذا ما توصَّلَتْ إليه أنظار المحققين من أهل البلاغة والأدب حول تقسيمات الكلام من جهة النِّسَبِ العامَّة للكثافة بين الألفاظ والمعاني. *** مقتضيات استعمال كلٍّ من الأقسام السويَّة ممّا اتفق عليه أئمة البلاغة والأدب أنّ لكلِّ قِسْمٍ من أقسام الكلام الثلاثة: "المساواة - الإِيجاز - الإِطناب" مقتضياتِ أحوالٍ تُلائمه، ومناسباتٍ تقتضيه، ودواعىَ بلاغَيَّةَ تستدعيه، وموضوعاتٍ يَحْسُن أن يُخْتار لها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 وفيما يلي طائفةٌ من أقوالهم: (1) رُوي أنّ الخليل بن أحمد الفراهيدي أحد أئمة اللّغة والأدب قال: "يُخْتَصَرُ الكِتَابُ ليُحْفَظَ، ويُبْسَطُ لِيُفْهَم". (2) قيل لأبي عَمْرو بن العلاء "وهو أحد أئمة اللّغة والأدب، وأحد القرّاء ووُصف بأنّه أعلم الناس بالأدب والعربيّة والقرآن والشعر": هل كانت العربُ تُطِيل؟ قال "نعم، كانت تُطِيلُ لِيُسْمَعَ مِنْها، وتُوجِزُ ليُحْفَظَ عنها". (3) ورُوي أن جعفر بن يحيى البرمكيّ "أحد الموصوفين بفصاحة المنطق وبلاغة القول" قال: "متَى كان الإِيجاز أبْلَغَ كانَ الإِكثَارُ عِيّاً، ومتَى كانت الكِفايَةُ بالإِكثار كان الإِيجاز تقصيراً". (4) وقال أحد الشعراء يثني على خطباء "إِياد" كما ذكر الجاحظ: يَرْمُونَ بِالْخُطَبِ الطِّوَالِ وتَارَةً ... وَحْيَ الْمَلاحِظِ خَشْيَةَ الرُّقَبَاءِ أي: يخطُبون تارةً خُطَباً طِوالاً، إذا كانت حال المخاطبين تقتضي الإِطالة، ويوجزون خطبهم تارةً أخرى إيجازاً يشبه وحْيَ الملاحظ. الوحي: الكلام الخفيُّ السّريع. الْمَلاَحِظ: جمع "مَلْحَظ" وهو اللَّحْظُ أو موضعه من العين، واللَّحظ هو النظر بطرف العين مما يلي الصُّدغ، ومن المعروف أن الناس قد يتفاهمون عن طريق اللَّحْظ، وإشاراته خشية الرقباء. (5) وقال قائل لبشار بن بُرْد "أحد فحول الشعراء، وقد أدرك الدَّولتين الأُمَويّة والعباسيّة": إِنَّكَ لَتَجيءُ بالشيء الهجين المتفاوت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 قال بشّار: وما ذاك؟ قال: بينما تثير النقع وتخْلَعُ القلوب بقولك: إِذَا مَا غَضِبْنَا غَضْبَةً مُضَريَّةً ... هَتَكْنَا حِجَابَ الشَّمْس أَوْ تُمْطِرَ الدَّمَا إِذَا مَا أَعَرْنَا سَيِّداً مِنْ قَبِيلةٍ ... ذُرَا مِنْبَرٍ صَلَّى عَلَيْنَا وَسلَّمَا نَراكَ تقول: رَبَابَةُ رَبَّةُ الْبَيْتِ ... تَصُبُّ الْخَلَّ في الزَّيْتِ لَهَا عَشْرُ دَجَاجَاتٍ ... وَدِيكٌ حَسَنُ الصَّوْتِ فقال بشّار: "لكلِّ وَجْهٌ وَموضع، فالقولُ الأوّل جِدٌّ، والثاني قُلْتُه في "رَبَابَةَ" جاريتي، وَأنَا لا آكُل البيض من السّوق. و"رَبَابَةُ" لها عشْرُ دَجاجات وديك، فهي تجمع لي البيض، فهذا القول عندها أحْسَنُ من (قِفَا نَبْكِ منْ ذِكْرى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ) عندك". (6) وقال الزمخشري: "كما يجب على البليغ فى مَظَانِّ الإِجمال أن يُجْمِلَ ويُوجِزَ، فكذلِكَ الواجب عليه فى موارد التفصيل أنْ يُفَصّل ويُشْبِع". (7) وقالوا: "لكلّ مقامٍ مقال". (8) ومن أمثلة مراعاة مقتضيات الأحوال بكلّ من "المساواة والإِيجاز والإِطناب" ما جاء فيما حكاه الله عزَّ وجلَّ من قصة موسى والخضر عليهما السلام في سورة (الكهف /18 مصحف /69 نزول) : {قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً * قَالَ ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً * قَالَ فَإِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 فانطلقا حتى إِذَا رَكِبَا فِي السفينة خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً * فانطلقا حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً * فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هاذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} . [الآيات: 66 - 78] * نلاحظ فى هذا النص أنّ الخضر قال لموسى عليهما السلام في بدء الأمر: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} . هذا كلام مؤكّد مُسَاوٍ للمعنى المقصود بيانه، لا إطناب فيه ولا إيجاز. * وحين اعترض موسى عليه السلام الاعتراض الأول على الخضر بشأن خرقه السفينة، قال له الخضر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 {أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} . هذا أيضاً كلامٌ مُؤَكَّدٌ ومُسَاوٍ للمعنى المقصود بيانه، لا إطناب فيه ولا إيجاز. وحين اعترض موسى عليه السلام الاعتراض الثاني على الخضر بشأن قتله الغلام، قال له الخضر: {أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} . فَأَطْنَبَ إذْ أضاف عبارةَ {لَكَ} مع أنَّ هذه الزّيادة لا لزوم لها في الكلام المساوي، فعبارة {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} بأسلوب الخطاب تَدُلُّ على أنّ الخطاب قَدْ وَجَّهَهُ الخضِرُ له، فما الداعي لأنْ يقول لَهُ: {أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ؟} ؟ أقول: إنّ الداعي البلاغي لهذا الإطناب هو أنَّ مُوسَى عليه السلام تصرَّفَ تَصَرُّف من لم يُدْرِكْ أنّ الْخِطَابَ قَدْ كان مُوَجّهاً له فيما سبق، فاعترض، فاقتضى حالُهُ أَنْ يقولَ لَهُ الخضر: إِنّي كُنْتُ وجَّهْتُ الخطابَ لَكَ بأَنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً. وحين اعترض موسى عليه السلام الاعتراض الثالث على الخضر بشأن إقَامَتِهِ الجدار المائل فى قريَةٍ أَبَى أهْلُها أنْ يُضَيِّفوهُما، قال له الخضر: {هاذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} . فأوجز فى كلامِهِ، إذْ طوى من اللّفظ عبارة: لأنَّكَ لم تَسْتَطعْ معِيَ صبراً، وقد انتهت مُدَّة الاتفاق على مصاحبتي. وبعد أن أبان الخضر لموسى عليهما السلام التأويل الحكيم للأحداثِ التي أجراها بأمْرِ الله أو إذْنه قال له: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 82] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 فَأَوْجَزَ في بيانه حتى في كلمة "تَسْتَطعْ" إذْ قال: "تَسْطعْ" بحذف التاء التي بعد السين. إنّ مقتضى الحال بعد انتهاء أجل المصاحبة، إذْ لم يلتزم موسَى عليه السلام بشروطها، أنْ يكون الكلامُ مُوجزاً جدّاً، إذْ لا داعِيَ للإِطناب ولا للمساواة، ومِثْلُ موسى عليه السلام يكفيه من الكلام عبارة: "هَذا فِرَاقُ بيني وَبَيْنِكَ" فهو الخبير بإخلاله بشروط المصاحبة المتَّفق عليها. *** مجالات استعمال الأقسام السّوية ذكر أساطين الأَدب، وبُلَغاء الناس وفُطناؤهم طائفةً من مجالاَت القول التي يَحْسُنُ فيها استعمال كلٍّ من أقسام الكلام الثلاثة: "المساواة - الإِيجاز - الإِطناب". وفيما يلي عرضٌ مفَصَّلٌ لبعض هذه المجالات: أوّلاً: ممّا هُو مُتّفَقٌ عليه لزوم اختيار أسلوب "المساواة" بَيْنَ الألفاظ والمعاني، حتَّى تكونَ الأَلفاظ كالقوالب للمعاني دون زيادة ولا نقصان، في عِدَّةِ مجالاَتٍ من مجالات القول، منها ما يلي: (1) مُتُونُ العلوم المحرَّرة. (2) نُصُوصُ الموادّ القانونيَّة والتشريعيَّة. (3) نُصُوص المعاهدات بين الدُّول. (4) القرارات والمراسيم. (5) بيانات أحكام الدين، ومطالب الشريعة المحدّدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 (6) بيانات الحقوق والواجبات. إلى غير ذلك مما يشبه هذه المجالات. *** ثانياً: واستحسن الأدباء والبلغاء والعلماء "الإِيجاز" فى طائفة من مجالات القول، منها ما يلي: (1) الكتب الصادرة عن الملوك والرؤساء إلى الولاة والعمّال، ولا سيما في أوقات الحروب، وفى الشدائد والأزمات. (2) الأوامر والنواهي السُّلطانية. (3) كتب السلاطين بطلب الخراج وجباية الأموال وتدبير الأعمال. (4) كتب الوعد والوعيد. (5) الشكر على النِّعَمِ التي تُهْدَى، الْعَوَارِفِ الّتي تُسْدَى. (6) الاستعطاف وشكوى الحال. (7) استجداء حُسْنِ النظر وشُمولِ الْعِناية. (8) الاعتذار، والتنصُّل من تُهْمة الذّنْب وتَبِعَاته. (9) العتاب بين المحبّين والأصحاب. (10) مخاطبة الأذكياء الذين يكفيهم اللَّمْحُ، وتُقْنعهم الإِشارة. (11) المواطن التي يَحْسُنُ فيها الرّمز لإِخفاء المقاصد عن غير من يوجّه له القول، من رقباء أو ذوي فضول. إلى غير هذه المجالات ممّا يُشْبهها. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 ثالثاً: واستحسنَ الأدباء والبلغاء وذوو التجارب "الإِطناب" وبسط الكلام والإِسهاب فيه، فى عدّة مجالات من القول، منها ما يلي: (1) الحاجة إلى الإِقناع في مشكلات القضايا الفكرية، وفي تعليم مسائل العلوم الدقيقة الخفيَّة الصعبة الفهم. (2) الوعظ بالترغيب والترهيب، والتحسين والتزيين، والتنفير، والتقبيح، وسَوْق الأمثال والقصص. (3) الخطب فى الحماسة، وفى إثارة مشاعر الحبّ أو الكراهية، وفي استجلاب الرضا، أو استثارة الغضب، وذلك لأنّ تحريك العواطف واستثارتها يحتاج إطناباً، وبياناً مفصّلاً مبسوطاً. (4) كتابة التاريخ وتدوين الحوادث. (5) الْخُطَبُ في الصلح بين المتخاصِمين، لإِصلاح ذات البين، وتهديم ما في النفوس من ضغائن. (6) بعض مجالات المدح لمستحقّيه، بغيةَ دفع الممدوح للاستزادة من الخير، والالتزام بالبعد عمّا يُوجَّهُ لفاعله أو تاركه الذّمّ بسببه. (7) تعبيرات العشاق والمحبّين عن مشاعرهم وأشواقهم. (8) تعبيرات ذوي الأحزان والآلام عن مشاعرهم. (9) كتب الصكوك والعقود في البيوع والمداينات ونحوها، إذ ينبغي فيها التفصيل الدقيق، لأمن الخلاف والتلاعب. *** وفي الفصول الثلاثة التالية شرح وتفصيل لأقسام الكلام السويّة التالية: "المساواة، والإِيجاز، والإِطناب". *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 الفصل الثاني: المساواة بين الألفاظ والمعاني الأصل في الكلام أنْ يُؤْتَى بِه مساوياً للمعاني الّتي يدلُّ عليها، دون أن تكون ألْفاظُهُ زائدةً ولا ناقصة. أمّا القدرةُ على المطابقة التامّة بين الْجُمَل المنطوقة والمعاني المرادة منها، فهي من القدرات النادرة في المتكلمين من الناس، لأنَّ الناسَ في النّسْبَةِ العظمى منهم: * إمّا أن يكونوا من ذوي القدرة على الكلام والرغبة فيه مع تَمتُّعِهم بذاكرة كلاميّة واسعةٍ وفيّاضة، فتفيض لديهم منابع القول، وبذلك يزداد المنطوق من كلامهم عمّا يريدون التعبير عنه من المعاني. وقد يصل بعض هؤلاء إلى مستوى الإِسراف والتبذير في القول، والثرثرة بلا طائل، وللنساء النّصيبُ الأكبر من هذا. * وإمّا أن يكونوا ميّالين إلى قلّة الكلام وإيثار الصّمت إلاَّ عند الحاجة الماسّة، بسبب ضابطٍ حكيمٍ من عقولهم، أو بسبب شعورهم بالعجز عن استدعاء الكلماتِ المعبِّرات عمّا يُرِيدون من المعاني، إذْ لا تُساعدهم ذاكرتُهُمْ على اختيار الكلمات المناسبات لما يُريدون التعبير عنه، أو يُصابون بالْعِيّ والْحَصَرِ فى مواقف الرَّغبةِ أو الرَّهبة، أو اضطراب النفس وقَلَقِها لأمْرٍ ما، فيَتَعَثَّرون في الكلام، ويحاولون عند الحاجة إليه اختيار أقلّه، للدلالة عما يريدون التعبير عنه، أو تكون ألسنتهم ثقيلة الحركة يتعثر فيها النطق بحسب فطرتهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 * لكنَّ الذين يتحلَّوْن بالقدرة على القول الكثير، والقدرة أيضاً على ضبط نفوسهم وألسنتهم عن شهوة الكلام والإِطالة فيه، وعلى اختيار الكلام المساوي تماماً للمعاني التي يريدون التعبير عنها دون زيادة ولا نقص، فَهُم القلّة النادرة من الناس. ولا يصل الواصلون إلى القدرة على هذه المطابقة إلاَّ إذا اجتمعت لديهم عدّة صفات يتّضح لنا منها الصفات التاليات: الأول: الاستعداد الفطريُّ للتّحكُّم بما يقولون. الثانية: الثروة اللّغوية الواسعة. الثالثة: القدرة على حُسْنِ الاختيار والانتفاء من الكلمات وأساليب التعبير. الرابعة: الحكمة في ضبط مسيرة القول على منهج التوسع دون وكْسٍ وشطط. الخامسة: التدرُّبُ الطويل والممارسة، مع مُتَابعة النظر الناقد، والتمحيص والتحسين. وبالتتبُّع نلاحظ أنّ الكلام المطابق للمعاني الّتي يراد التعبير عنها به حتى يكون بمثابة القوالب لها تماماً كلامٌ نادرٌ، وهو الأقلّ دواماً من مجموع الكلام ومنزلته رفيعة جدّاً إذا كان فى الموضوعات التي يحسُنُ أن يكون الكلام فيها مطابقاً للمعاني المرادة منه تماماً، لا زائداً ولا ناقصاً، وهي الموضوعات الّتي سبق بيانُها في الفصل الأوّل من هذا الباب. إنّ القادر على ضَبْطِ كلامه وجَعْلِه مطابقاً لما يريد من المعاني دون زيادة ولا نقصان متكلّم ماهرٌ جدّاً، وهو بمثابة من يمشي على طريق مطابق لحدود مواطئ قدميه تماماً، إذا انحرف يميناً أو شمالاً خرج عنه فأساءَ مُنْحَدِراً أو صاعداً أو ساقطاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 ولذلك يُخْتَارُ لصياغة القوانين والقرارات والمعاهدات والبيانات المحدّدة والموادّ المحرّرة الممحصَّة أمْهَرُ كُتّاب القوانين وصائغي نصوصها، إذ يجب أنْ تكون موادُّها مطابقةً تماماً للمعاني التي يُرَاد الدلالةُ عليها بها، حتّى لا تُفَسَّر بما يَنْقُصُ عن المعاني التي حصل عليها الاتفاق، أو بما يزيد عليها، فلمفسّري موادّ القوانين والمعاهدات والعقود والقرارات ونحوها حِيَلٌ كثيرة يغيّرون بها مفاهيم نصوصها، متى وجَدُوا فيها ثغرات نقص أو زيادة تسْمَح بالتحايل والتلاعُب في التفسير. وقلّما نجد في مجموع كلامٍ كثير كلاماً مساوياً للمعاني المرادة منه دون زيادة ولا نقص، ولا سيما في النصوص التي تُصَاغ بأساليب أدبية، فالأمثلة على الكلام المساوي في النصوص الأدبية أو المطَعَّمة بالأساليب الأدبية نادرة، قد نجدها في جُمَل، وفي كلامٍ قصير، وفي بيتٍ من الشعر، أو شَطْرٍ من بيت. ولندرة المساواة في الكلام توهّم بعض الباحثين أنّه لا واسطة بين الإِيجاز والإِطناب، وجعل القسمة ثنائيّة لا ثلاثية وأدخل المساواة في الإِيجاز. *** اختلاف مقادير الكلام في المساواة مع اتّحاد المعنى المراد من الملاحظ في أساليب الكلام العربي ذي التعبيرات المختلفات عن المعنى الواحد، أنّه قد يُوجَدُ فيها تعبيران أو أكثر عن معنىً واحد، ينطبق عليهما أنهما مساويان للمعنى، مع أنّ عدد كلمات أحدهما أكثر من عدد كلمات الآخر، فَيُقَالُ لذي الكلمات الأكثر أطول، ولذي الكلمات الأقلّ أقصر. إنّ قول القائل: "أريد أن أشرب ماءً" كلامٌ مطابقٌ لمعناه دون زيادة ولا نقص بحسب أصول الكلام العربي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 فإذا قال: "أُريدُ شُرْبَ ماءٍ" باستعمال المصدر "شُرْب" بدل: "أن أشرب" المؤوّلان بمصدر، فقد جاء أيضاً بكلامٍ مطابق لمعناه دون زيادة ولا نقص وفق أصول الكلام العربي. لكِنَّ العبارة الثانية أقْصَرُ بالنظر إلى أنَّها مؤلّفةٌ من ثلاث كلمات ملفوظة، أمّا الأولى فهي مؤلّفَةٌ من أربع كلماتٍ ملفوظة. وربَّ كلمةٍ تدلُّ على معنيَيْنِ فأكثر، ويكون فيها غَناءٌ عن كلمِتَيْنِ فأكثر، واستعمالها يقلّل من طول الكلام المطابق المساوي لمعناه. إنّ عبارة "مدينة" أو "قَرْية" مساوية في المعنى لعبارة "مباني سكنيّة مجتمعة" وقولُ القائل: "سكنتُ في قرية" أو "سكَنْتُ في مدينة" يساوي في المعنى قوله: "سكنت في مبانٍ سكنية مجتمعة" وكلٌّ من التعبيرين ينطبق عليه عنوان الكلام المساوي لمعناه الذي لا زيادة فيه ولا نقصان، مع أنّ أحدهما مؤلّف من ثلاث كلمات ملفوظة، والآخر مؤلّف من خمس كلمات ملفوظة. وبناءً على هذا فباستطاعتنا أنْ نُفَصّلِ الكلام المساويَ لمعناه فنجعلَهُ ذا نِسَبٍ مختلفة في الطولِ والْقِصَر، كشأن القسمَيْنِ الآخرين من الكلام: "الإِيجاز والإِطناب" كما سيأتي به البيان إن شاء الله، ففي المساوي أقصر وقصير، وطويل وأطول أحياناً. بعد هذا أقول: إنَّ كلاَّ من المساوي الأقصر والمساوي القصير والمساوي الطويل والمساوي الأطول له مواضع تلائمه، ويكون فيها هو الأبلغ بحسب مقتضيات الأحوال. فكتّابُ المتون المكثفة يَلْجَؤُون إلى اختيار المساوي القصير أو الأقصر، وكذلك مختزلو المقالات الطوال لتقديمها لرؤسائهم الذين تضيق أوقاتهم عن قراءة الكلام الكثير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 وشُرَّاح المتون بشروح موجزة تقتصر على حلّ العبارة يَلْجَؤُون إلى اختيار المساوي الطويل أو الأطول. ملاحظتان: (1) لم يُنَبِّه علماء البلاغة - فيما أعلم - على هذا التفصيل للكلام المطابق المساوي لمعناه، لتعذُّر رسْمِ حدودٍ له، إلاَّ أنّني رأيت أنّ من المناسب التنبيه عليه، لبيان أنّ لكلٍ من أقسام الكلام المساوي مواضع تلائمه، ومقتضياتِ أحوال من المستحسن اختيارُهُ لها. (2) قد يلتبس المساوي القصير أو الأقصر بِقسْمِ: "إيجاز الْقِصَر" الآتي بيانُه - إن شاء الله - إلاَّ أنَّ باستطاعتنا التفريق بأنّ "إيجاز الْقِصَرِ" يختصُّ بجوامع الْكَلِم الذي تُخْتَار فيه الكليّات العامّة، بدلالاتها الشاملات، وتكونُ عباراته بوجه عامّ ممّا لا ينْطَبِقُ عَلَيْها عُنْوانُ "المساواة" فإيجازُ الْقِصَرِ قَدْ يُفِيضُ بمعانٍ كثيرةٍ، تحتاجُ شروحاً وتفصيلات بكلامٍ كثيرٍ جدّاً. أمثلة: أورد البلاغيون أمثلة من الكلام الذي رأَوْا أنَّه يَتَّصِفُ بالمساواة بينه وبين المعاني المرادة منه، دون أنْ يُتْبِعُوها بدراسات تحليليّة كاشفات، وليس من المستبعد أن يكون بعض ما أوردوه منها عُرْضَةً لاحتمالات كونه ممّا ينطبق عليه عنوان: "الإِيجاز" لا عنوان المساواة أو ينطبق على بعض عناصره عنوان: "الإِطناب" والكاشف لذلك الدراسة التحليلية الشاملة للنصّ بكلّ جُمَلِه وعناصرها. والمهمّ أنْ نقول: إنّ من الكلام ما ينطبق عليه عنوان المساواة حتماً، ولو كانت الأمثلة منه ذاتُ النُّصوص الطويلة نادرة، ولا تخلو من اعتراضات وإشكالات قد تجعلها أمثلةً غير مطابقة لما سِيقَتْ له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 فمن الأمثلة على الكلام المتصف بالمساواة ما يلي: المثال الأوّل: قول الله عزّ وجلّ في سورة (فاطر / 35 مصحف / 43 نزول) على ما أورد القزويني في التلخيص: {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ ... } [الآية: 42] . يَحِيقُ: أي: يُحِيط. الْحُوقُ: الإِطار المحيط بالشيء المستدير حوله. المكرُ السَّيّئ: أي: التدبير الخفيّ الموصوف بأنَّه سَيّئٌ لأنه اسْتُخدم في الشرّ لا في الخير، فليس كلُّ مكْرٍ سَيِّئاً، إذْ من المَكْرِ ما هو مَكْرٌ في الخير، وهو عندئذٍ يكون مكراً حسناً لا سَيّئاً. إلاَّ بأهله: أي: إلاَّ بأصحابه المدبّرين له، أو إلاَّ بالمستحقين له. دلّت هذه العبارة القرآنية على أنَّ إحاطة المكر السَّيِّئ إحاطةً تامّةً لا تكون إلاَّ بأصحابه المدبّرين له، أو المستحقين له. لكنَّ هذا المثال قابل للمناقَشَة من وجْهَين: الوجه الأول: أنّ كلمة [يَحِيقُ] فى اللّغة تَدُلُّ على معنى الإِحاطة، وقد فهم المفسّرون منها مع معنى الإِحاطة معنى الإِصابة والنزول، وهذه الزيادة إنما فهموها من دلالات لزوميّة فكريَّة، خارجة عن المعنى المطابقيّ لفعل "يحيق" وبناءً على هذا يكون المثال مما يندرج تحت عنوان: "الإِيجاز" الذي اعْتُمِدَ فيه على الدلالة اللُّزوميّة، ولا يندرج تحت عنوان: "المساواة" التي فيها تطابُقٌ تامٌّ بين اللّفظ والمعنى بحسب الأوضاع اللّغوية. الوجه الثاني: أنّ عبارة [بأَهْلِهِ] ذاتُ احتمالين: * فهل المراد منها أصحابُ المكر المدَبِّرون له؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 * أو المراد منها المستحقّون له، سواءٌ أكانوا هم المدبّرين له، أوْهُمْ ومعَهُمُ الّذين دُبِّر ضِدَّهم، إذا كانَ هؤلاء أصحابَ شرٍّ أيضاً يسْتَحِقُّون أن يَحِيقَ بهم المكر السّيّئ؟. فإذا كان المراد هذا المعنى الثاني فالعبارة تشتمل على إيجاز الْقِصَر باستخدام لفظٍ ذي معنىً كلِّيّ صالحٍ لنوعَيْن: مُدَبّري المكر، ومَسْتَحِقّيه من غيرهم. المثال الثاني: قول النابغة الذبياني من قصيدة يَمْدَحُ بها "النعمان بن المنذر" مَلِكَ الحيرة، على ما أورد القرويني في التخليص: فَإِنَّكَ كَاللَّيْلِ الَّذِى هُوَ مُدْرِكي ... وَإِنَ خِلْتُ أَنَّ الْمُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ مُدْركي: أي: بالِغٌ إليَّ ومحيطٌ مَهْمَا فررتُ منه. خِلْتُ: أي: ظَنَنْتُ. الْمُنْتَأَى: أي: مَكَان الابتعاد. والمعنى: فإنَّكَ - أيُّها الملك - بسبب قُدْرَتِك على الوصول إلى الْقَبْضِ عليَّ، والإِمْسَاك بي تشبه اللّيل الذي هو مُدْرِكي لا محالة أينما فَرَرْتُ منه قاصداً أيّ مكانٍ من الأرض. هذا واقع حالي بالنسبة إلى قدرتك على الظفر بي، وإنْ ظننتُ أنَّ مكان الابتعادِ عن جُنُودِ سلطانك في البلاد مكانٌ واسعٌ أَجِدُ فيه مفرّاً منهم. لكِنَّ هذا المثال قابل للمناقشة أيضاً من وجوه: الوجه الأول: أنّ استخدام "النابغة" أُسْلُوبَ تشبيه "النعمان" باللَّيل في قُدْرَتِهِ على الظفر بمن يَطْلُبُه من قومه أسلوبٌ أوْجَزَ فيه كلاماً طويلاً فهو مثالٌ يَصْلُح للإِيجاز لا للمساواة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 الوجه الثاني: من الملاحظ أنّ "النابغة" خاطب الملك بكاف الخطاب، وهو يريد سُلْطته عن طريق جنُوده، إذْ هو بشخصه لا يستطيع أن يُدْرِكَ النابغة لو أراد الفرار منه، وهذا من إطلاق السبب وإرادة المسبَّب، فهو من المجاز المرسل أحَدِ العناصر التي تُسْتَخْدَم للإِيجاز، والتقدير فإنّ سُلْطَتَكَ التي تَسْتَخْدِمُ فيها جُنُودُكَ الكثيرين كاللَّيْلِ الذي هو مدركي، وهذا إيجاز بالحذف. الوجه الثالث: بالَغَ النابغة فشبَّه "النُّعمان" باللَّيل، فزادَ عمَّا يُريد التعبير عنه من أنّ الملك قادر على أن يوجّه أوامره فتلْحَق جنودُه بمَنْ يفرُّ منه فتقبض عليه، وهذه الزيادة ذات فائدة، فهي من الإِطناب الحسن. الوجه الرابع: أنّ الشطر الأوّل من البيت كافٍ للدّلالة على مقصوده، إلاَّ أنه زاده تأكيداً بقوله فى الشطر الثاني: "وَإِنْ خِلْتُ أنَّ المنتأَى عنك واسعُ" وهذا إطنابٌ بِزِيادةٍ مفيدةٍ. المثال الثالث: قول الله عزّ وجلّ في سورة (الروم/ 30 مصحف/ 84 نزول) . {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الآية: 44] . يَقْرُبُ هذا المثال من أن يكون مثالاً صالحاً للمساواة، إلاَّ أن استعمال عبارة: {فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} تَصْلُحُ لأَنْ تكونَ مِثَالاً للإِيجارُ بالْحَذْفِ، إذْ التقدير: فَعَلَيْهِ يَنْزِلُ عِقَابُ كُفْرِه. وكذلك عبارة: {فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} إذْ تقديرُها: فَلَخَيْرِ أنفسهم، أو لمصلحة أنفسهم يَمْهَدُونَ. يضاف إلى هذا أنّ عبارة {وَمَنْ عَمِلَ صَالحاً} فيها إيجاز بالحذف أيضاً، إذ التقدير: ومَنْ عمل عملاً صالحاً هُو ثَمَرَةُ إيمان صحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 المثال الرابع: قول الله عزّ وجلّ فى سورة (الطور/ 52 مصحف/ 76 نزول) : {كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} [الآية: 21] . أي: كُلُّ امْرِئ محبوسٌ بما كسب. هذا المثال مع قُربه لأن يكون مثالاً صالحاً للْمسَاواة، إلاَّ أننا نجد فيه لدى التحليل إيجازاً بالحذف، إذ التقدير: كلُّ امْرِئٍ كَسَبَ إثْماً فهو بما كسَبَ منه محبوسٌ حتَّى يُحَاسَبَ على ما كسَب ويجازى، أو يغفر الله له. المثال الخامس: قول الله عزّ وجلّ في سورة (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول) خطاباً للمؤمنين الذكور حول المواريث: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الربع مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثمن مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ ... } [الآية: 12] . نظرتُ في هذا النصّ فوجَدْتُ معظَمَهُ صالحاً لأن يكون مثالاً للمساواة، إلاَّ أنّ من الملاحظة فيه أنّ عبارة: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} الواردة فيه مرّتين تشتمل على إيجاز بالحذف، إذ التقدير: من بعْدِ عَزْلِ وصِيَّةٍ أو من بَعْدِ تَنْفِيذِ وَصِيَّةٍ. المثال السادس: قول الله عزّ وجلّ في سورة (النساء) أيضاً: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وذلك الفوز العظيم} [الآية: 13] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 يبدو أن هذا النّصّ صالحٌ لأن يعتبر مثالاً للمساواة، إذْ لم ألاحظ فيه عبارةً فيها إيجاز، ولا عبارةً هِيَ من قبيل الإِطناب. إلاَّ أنْ يقال: إنّ المراد من عبارة {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا} تجري مِنْ تَحْتِ قُصُورِها، أو تَجْري من تَحْتِ فُرُوع أشجارها. وقد يجاب بأنّ {جَنَّات} يُطلَقُ على السّاترات من الأشجار والقصور لا على الأرض من تحتها، فتكون الأنهار الجاريات على أراضيها جارياتٍ من تحتها، ولا حاجة إلى تقدير مضافٍ محذوف. المثال السابع: وذكروا من أمثلة الكلام الموصوف "بالمساواة" قول الشاعر: وَلَمَّا قَضَيْنَا مِنْ مِنىً كُلَّ حَاجَةٍ ... وَمَسَّحَ بالأَرْكانِ مَنْ هُو مَاسِحُ وَشُدَّتْ عَلَى دُهْمِ الْمَطَايَا رِحَالُنا ... وَلَمْ يَنْظُر الْغَادِي الَّذِي هُوَ رَائِحُ أَخَذْنَا بِأَطْرَافِ الأَحَادِيثِ بَيْنَنَا ... وَسَالَتْ بِأَعْنَاقِ الْمَطِيِّ الأَبَاطِحُ المثال الثامن: وذكروا منها أيضاً قول أبي نواس الذي قال "الجاحظ" بشأنه: لا أعرف شعراً يَفْضُلُه: وَدَارِ نَدَامَى عَطَّلُوهَا وَأَدْلَجُوا ... بِهَا أَثَرٌ مِنْهُمْ: جَدِيدٌ وَدَارِسُ مَسَاحِبُ مِنْ جَرِّ الزِّقَاقِ عَلَى الثَّرَى ... وَأَضْغَاثُ رَيْحَانٍ: جَنِيٌّ وَيَابسُ حَبَسْتُ بِهَا صَحْبِي فَجَدَّدْتُ عَهْدَهُمْ ... وَإنِّي عَلَى أَمْثَالِ تِلْكَ لَحَابِسُ تُدَارُ عَلَيْهَا الرَّاحُ فِي عَسْجَدِيَّةٍ ... حَبَتْهَا بأَنْواعِ التَّصَاوِيرِ فَارِسُ قَرَارَتُهَا كِسْرَى وَفِي جَنَباتِهَا ... مَهاً تَدَّرِيَها بِالْقِسِيِّ الْفَوارِسُ فَلِلرَّاح مَا زُرَّتْ عَلَيْهِ جُيُوبُها ... ولِلْمَاءِ مَا دَارَتْ عَلَيْهِ الْقَلاَنِسُ لكنّ هذين المثالين الأخيرين يحتاجان إلى دراسةٍ تحليليّة للتحقّق من انطباق عنوان "المساواة" عليهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 الفصل الثالث: الإيجاز (1) التعريف الإِيجاز لغة: اختصار الكلام وتقليل ألفاظه مع بلاغته، يقالُ لغة: أوجز الكلامَ إذا جعله قصيراً ينتهي من نطقه بسرعة. ويقال: كلامٌ وجيز، أي: خفيفٌ قصير. ويقال: أوْجَزَ في صَلاتِه إذا خفَّفها ولم يُطِلْ فيها. فالمادّة تدور حول التخفيف والتقصير، وفي الحديث أنَّ رَجُلاً قال للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عِظْنِي وأوجِزْ، أي: قُلْ لي كلاماً خفيفاً قصيراً أحْفَظُهُ عنك فيه موعظةٌ لي. روى الإِمام أحمد بسنده عن أبي أيّوبَ الأنصاري قال: جاء رجلٌ إلى النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: عِظْنِي وأوجز. فقال: "إِذَا قُمْتَ فِي صَلاَتِكَ فَصَلّ صَلاَةَ مُوَدِّعٍ، ولا تَكَلَّمْ بِكَلامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ غَداً، وأَجْمِع الإِيَاسَ مِمَّا في أيْدِي النَّاسِ". فوعظه الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه الفقراتِ الثلاث، وأَوْجَزَ له فيها. الإِيجاز في اصطلاح البلاغيين: هو التعبير عن المراد بكلامٍ قصير ناقص عن الألفاظ التي يُؤَدَّى بها عادةً في متعارف الناس، مع وفائه بالدّلالة على المقصود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 أو نقول: هو صياغة كلام قصير يدلُّ على معنىً كثير وافٍ بالمقصود، عن طريق اختيار التعبيرات ذات الدَّلالات الكثيرات، كالأمثال والكليّات من الكلمات، أو عن طريق استخدام مجاز الحذف، لتقليل الكلمات المنطوقة، والاستغناء بدلالة القرائن على ما حُذِف، أو عن طريق استخدام ما بني على الإِيجاز في كلام العرب، كالحصر، والعطف، والضمير، والتثنية، والجمع، وأدوات الاستفهام، وأدوات الشرط، وألفاظ العموم، وغير ذلك. فإذا لم يكن الكلام وافياً بالدّلالة على المقصود كان الإِيجاز فيه إيجازاً مُخِلاًّ، إذ رافق التقصير في الألفاظ تقصيرٌ في المعنى الذي أراد المتكلّم التعبير عنه. قالوا: ومن أمثلة التعبير بكلام قصير فيه إخلال بأداء المعنى المراد قول "الحارث بن حِلِّزَةَ الْيَشْكُرِي" هو شاعر جاهليّ من أهل بادية العراق، وهو أحد أصحاب المعلّقات: عِشْ بِجَدٍّ لاَ يَضِرْكَ النَّوْكُ مَا أُولِيتَ جَدّا والْعَيْشُ خَيْرٌ فِي ظِلاَلِ النَّوْكِ مِمَّنْ عَاشَ كدّا بِجَدٍّ: أي: بحظٍّ من الدنيا، كالنعمة والسّعة. لاَ يَضِرْكَ: أي: لا يُنْزِلْ بكَ ضَرَراً، من "ضارَهُ يَضِيرُهُ". النَّوْكُ: الحماقة من قلة العقل. قال في البيت الأول: إِذَا كان لك حظٌّ من الدّنيا يُسْعِدُك وكُنْتَ أحْمَق فَعِشْ بحظِّكَ فإنّ حماقَتَك لا تَضِيرُكَ. وقال في البيت الثاني: والعيشُ مع الحظّ السعيد في ظلال النَّوْك (=الحمق) خَيْرٌ ممَّن عَاشَ عَيْشاً كدّاً مُضْنِياً بعَقْلٍ ورُشْدٍ دُونَ أن يكون محظوظاً بما يُسْعِده في دُنْيا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 لكنّ هذا المعنى الذي أراده لا تدلُّ عليه عبارات البيت الثاني مَهْما تكلّفْنَا في استخراج اللّوازم الذهنيّة، لكثرة المحاذيف فيه، مع عدم وجود قرائن تدلُّ عليها، ولولا البيت الأوَّل لصَعُبَ جدّاً إدْراكُ مُرَادِه، فهُو من الإِيجاز المخلّ. ولدى إبراز المحاذيف نقول: والعيْشُ بِجَدٍّ في ظلال النَّوْكِ خيرٌ ممن عاش عيشاً كدّاً غير محظوظٍ في ظلال العقل والرُّشد. ومن أمثلة الإِيجاز المخلّ على ما قالوا قولُ "عُرْوةَ بْنَ الْوَرْدِ بن زيْدٍ العَبْسِي" هو شاعر جاهليّ، كان من فرسان قومه وأجوادهم: عَجِبْتُ لَهُمْ إِذْ يَقْتُلُونَ نُفُوسَهُمْ ... وَمَقْتَلُهُمْ عِنْدَ الْوَغَى كَانَ أَعْذَرا قالُوا: أراد إذْ يقتلونَ نُفُوسَهُمْ في السِّلْم من غَيْرِ حرب، فحذَفَ عبارة: "في السِّلْم" وهذا من الإِيجاز المخلّ. أقول: لقد استغنى بدَلاَلَةِ الشطر المقابل، إذْ قَيَّدَ القتل الّذِى يُعْذَرُ به القتيل بأن يكون عند الوغى، أي: عند الحرب، وهذه قرينةٌ كافية لمثل هذا الحذف، قتَقَابُلُ التضاد ذو دلالة قويّة، وقرينتُه تدلُّ على المحذوف في مقابله بسهولة، وله نظائر في القرآن المجيد. وذكروا من أمثلة الإِيجاز المخلّ قولَ الشاعر: أَعَاذِلُ عَاجِلُ مَا أشْتَهِي ... أحَبُّ مِنَ الأَكْثَرِ الرَّائِش الرَّائش: بمعنى المعين، والمنعش، والمغني بالمال الوفير. يريد أن يقول: إنّ عاجل ما يشتهي مع قلّتِه أحبّ إلى نفسه من المؤجل وإنْ كان كثيراً منعشاً مغنياً. فحذف محاذيف لا تُسْتَخرج إلاَّ بصعوبة، فهو من الإِيجاز المخلّ على ما ذكروا. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 (2) تقسيم الإِيجاز الإِيجاز السّويّ ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: "إِيجَازُ الْقِصَر" وهو الإِيجاز الذي لاَ يُعْتَمَدُ فيه على استخدام الحذفِ. القسم الثاني: "إيجازُ الْحَذْف" وهو الإِيجاز الذي يكون قِصَرُ الكلام فيه بسبب استخدام حذف بعض الكلام اكتفاءً بدلالة القرائِن على ما حُذف. *** (3) شرح إيجاز الْقِصَر سبق بيان أنّ "إيجازَ القِصَر" هُو الإِيجاز الذي لا يُعْتَمَدُ فيه على استخدام الحذف. ولكن كيف يكون "إيجاز القِصَرِ" هذا؟. لقد جاء في وصف خاتم المرسلين محمد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنَّهُ أُوتِيَ جَوَامعَ الكَلِم، ونجد في أقواله أمثلةً كثيرةً جدّاً ينطبق عليها عنوان "إيجاز الْقِصَر" ألفاظُها قليلة، ومعانيها غزيرة، دون أن يكون فيها ما يدُلُّ على كلام مطويّ محذوف من اللّفظ، مُشارٍ إليه بقرينة من قرائن المقال، أو قرائن الحال، أو الاقتضاء العقلي. وفي القرآن أمثلة رائعة وكثيرة جدّاً، يَرَى فيها متدبّرو كتاب الله المجيد قِصَراً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 في ألفاظها، وثَرْوَةً واسعةً في معانيها ودَلالتها، مع أنَّها لا تطوي في مثانيها محاذيف، بل جاءت ثَرْوَةُ المعاني من منطوق الألفاظ المختارة بعناية فائقة. ولعلَّنا بنظرة تحليليَّةٍ مُتَأَنِّيةٍ فاحصة نكتشفُ أَسبْابَ قِصَرِ العباراتِ وغزارة المعاني. أولاً: من الملاحظ أنَّ مُتَتَبِّعَ الجزئيّات بالبحث والتأمّل يكتشف صفاتها أفراداً، ثمّ بعد أن يجمع في نفسه أو في سجلاّته صفات هذه الجزئيّات يلاحظ أنّها قد تشترك جميعاً في بعض الصفات التي وجدها فيها، فإذا أراد أن يتحدّث عمّا اكتشفه فأمَامَهُ طريقان: * إمّا أن يفصّل فيذكَر كُلَّ جزئيّة ويعدّد صفاتها، لكنّه في هذا التفصيل سيجد نفسه مضطرّاً أنْ يكرّر بعض هذه الصفات مع ذكر كلّ جزئية، وعندئذٍ يطول معه حبْلُ الكلام طولاً مُمِلاًّ مكروها. * وإمَّا أن يَلْجأ إلى اختيار عبارة كليّة شاملة موجزة مختصرة قليلة الكلمات تدلُّ على أن جميع الجزئيات التي تَتَبَّعَها وَيَدُلُّ عليها لفظ "كذا" تتّصف بصفة "كذا وكذا". وهنا نلاحظ أنّ "القِصَرَ" في التعبير قد جاء من جمع الجزئيّات التي تتبَّعَها بلفظ عامٍّ يشملها، ووصفها جميعاً بالوصف الذي رآها تتصف به، فيقول مثلاً دارسُ طبائع بعض الحيوانات: "الثَّبَاتُ والسَّطو في الأسود، والغدرُ في النمور، والحيلةُ في الثعالب، والهمَّةُ والخيلاء في الخَيْل، والجلَدُ في البغال، والبلادةُ في الحمير". وبهذا يكون قد أوجز في عباراته، إذْ جمع تفصيلات كثيرات، دون أن يُقَدِّر في كلامِهِ محاذيف، وكانت وسيلته في هذا الإِيجاز استخدام العبارات ذوات الدلالات الكليّات الشاملات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 ثانياً: وقد يجد مُنْشِئ الكلام أنّ ما يُريد الحديث عنه لَهُ صفاتٌ كثيراتٌ يحتاج تفصيلها إلى بيان طويل قد يُكتبُ في صفحات أو كُرَّاساتٍ أو أكثر من ذلك. ثمّ ينظر في مخْزونات معارفه فيرى صُورةً من صُوَرِ الكَوْنِ مثلاً، أو طائفةً من المعلومات الجزئيّة مجتمعةً في إطارٍ واحدٍ له عنوان خاصٌّ يدلُّ على الْمُحَاطِ به، ويُلاَحِظُ أنّ ما يُرِيدُ الحديث عنه متشابهٌ لهذه الصورة، أو لما أحيط بهذا الإِطار ذي العنوان الخاصّ، فيهتَبِلُها فُرْصَةً يُوفّر بها على نفسه كلاماً طويلاً؛ إذْ يُبيّن أنّ ما يُرِيدُ التحدّث عن صفاته مشابهٌ لهذه الصورة، أو لما أُحيط بهذا الإِطار، ثمّ إنّ المتلقّي يتَتَبَّع تفصيل الصفات عن طريق النظر في العناصر المتشابهة بين المشبَّه والمشبَّهِ به، وهذه إحدى الفوائد الثمينة من ضرب الأمثال. فإذا قال المتحدّث: لمّا ألقَى الأمريكيون القنبلة الذّرّية على المدينة اليابانية "هيروشيما" صارت هذه المدينة كلُّها كما لو تفجّرتْ ألف ألف قنبلة فنثرت رماداً ودخاناً في الجوّ. فإنّه قد اختصر تفصيلات المشهد العظيم كلِّه بهذه العبارة التمثيلية. وبهذا يكون قد أوجز في عبارته، إذ جمع تفصيلات كثيرات، دون أن يُقدِّر في كلامه محاذيف، وكانت وسيلته في هذا الإِيجاز استخدام أسلوب التشبيه وضَرْبِ المثل. ثالثاً: وقد يجد منشئ الكلام أنّه يحتاج إلى عدد من الكلمات أو العبارات حتَّى تُؤَدِّيَ معنىً مِن المعاني، ثمّ يرى أنّ باستطاعته أن يختار كلمة واحدة، أو عبارةً ما قصيرة، تستدعي بطبيعة معناها لوازم فكريّة، يستطيع المتلقّي أن يكتفي بها عن الكلمات أو العبارات المتعدّدات إذا جاءت بديلاً في الكلام. عندئذٍ يَعْدِلُ إلى اختيار الكلمة أو العبارة ذات اللّوازم الفكرية، مستغنياً بها عن كلام طويل، ليوجز في كلامه ويجعله قصيراً مع غزارة في معانيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 فمن الأمثلة نلاحظ أن كلمة "الذِّكْر" المختارة للتعبير بها عن القرآن في كثير من نصوص الكتاب العزيز تُغْنِي بلوازمها الفكريّة عن جملة كلمات أو عبارات تتضمّن المعانيَ التالية "تبليغ القرآن - وجوب تلقيه عن المبلّغ - وجوب فهمه وتدّبره - وجوب حفظه - وجوب جعله حاضراً في الذاكرة ليُرْجَعَ إلى نصوصه عند كلّ مناسبة داعية لمعرفة دين الله وأحكامه". كلُّ هذه المعاني فهمناها باللُّزوم الذهني، لأنَّهُ لا يكون ذِكْراً دواماً ما لم يكن مسبوقاً بالتبليغ والتلقّي والفهم والتدبّر والحفظ فمن استوفى كلّ هذه الأمور كان القرآن بالنسبة إليه ذكراً، وإلاَّ كان مَتْرُوكاً منسيّاً. فأغنت كلمة واحدة ذات لوازم ذهنيّة عن عَددٍ من الكلمات أو العبارات، دون أن يُقَدَّرَ في الكلام محاذيف، والوسيلة هنا في هذا الإِيجاز الاستغناءُ بما تُعْطيه اللوازم الفكرية، وحُسْنُ انتقاء الكلمات التي تَدُلُّ على اللوازم الفكريّة المطلوبة. *** بهذه النظرات التحليليّة استطعنا أن نكشف أسباباً ثلاثةَ نستطيع بوساطتها أن نجعل الكلام قصيراً موجزاً، مع دلالته على معانٍ غزيرة كثيرة، دون الحاجة إلى تقدير محاذيف حُذِفت من منطوق اللّفظ وبقيت مقدّرةً فيه ذهْناً. وتلخيص هذه الأسباب الثلاثة فيما يلي: السبب الأوّل: اختيار الألفاظ والتعبيرات الكليّة، ذوات الدلالات العامّاتِ الشاملات. السبب الثاني: الاستغناء عن التفصيلات الكثيرات بالأمثال والتشبيهات التي تدلُّ فيها الأشباه والنظائر على مقابلاتها، إذْ يدلُّ الممثَّل به الجامع لصُوَرٍ وصفاتٍ ومعَانٍ كثيرة على صُورٍ وصفاتٍ ومَعَانٍ موجودَةٍ في الممثّل له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 السبب الثالث: الاستغناء بما تعطيه اللّوازم الفكريّة لعبارة، عن ذكر كلامٍ ذي دلالات مباشرات تَدُلُّ بالمطابقة على هذه اللَّوازم. *** أمثلة على "إيجاز الْقِصَر" المثال الأوّل: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الزلزلة/ 99 مصحف/ 93 نزول) : {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} . [الآيات: 7 - 8] وصف الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا القول بأنَّه فَاذٌّ جَامعٌ، فقد روى البخاري عن أبي هريرة أنّ الرَّسول تحدث عن اقتناء الخيل فقسَّمها ثلاثة أقسام، وشرحها، وبعد ذلك سُئِلَ عَنِ الْحمُرِ فقال: "مَا أُنْزِلَ عَلَيّ فيهَا إلاَّ الآيَةُ الْفَاذَّة الجامِعَة": {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الآيات: 7 - 8] . جعل الآيتَيْنِ لترابطهما بمثابة الآية الواحدة، ووصفها بأنَّها فَاذَّةٌ، وَبِأَنَّها جامعة. * أمَّا كونُها فاذّة فمعناه أنَّها منفردة فيما دلّت عليه من معنى، لم يأتِ في القرآن نظيرها بهذا الإِيجاز الجامع. * وأمّا كونها جامعةً فمعناه أنَّها شاملةٌ عامّةٌ تتناول كُلَّ عَمَلٍ صغيراً كان أو كبيراً خيراً كان أو شرّاً، فهي من جوامع الكلم. إنّ هذا البيان القرآني على قِصَرِه وقلَّةِ كلماته يَدُلُّ على مَعَانٍ يمكن أن تُفَصَّل وتُشْرَحَ بسِفْرٍ، لما جاء فيها من اختيار الألفاظ ذَواتِ الدلالات العامّات الشاملات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 (1) كلمة "مَنْ" من ألفاظ العموم، فهي تعطي دلالة كليّة عامَّة تَشْمَلُ كلَّ مكلَّف، وهي اسم شرط جازم. (2) وفعل الشرط "يَعْمَل" يشمل كلّ عَمَلٍ إراديٍّ من الأعمال الظاهرة والباطنة. (3) وعبارة "مثقال ذرّة" عبارةٌ ذات شمول يبدأ من أصغر الأعمال وأقلّها عدداً، وينطلق دون حدود عِظَماً وعدداً كثيراً. (4) وكلُّ من كَلمَتِيْ: "خيراً" و"شرّاً" تمييز على تقدير "من" وهو منكر، فهو يفيد العموم الذي يشملُ كلَّ خير وكلَّ شرّ ظاهر أو باطن. (5) وكلمة: "يَرَهُ" التي هي جواب الشرط تدلُّ على حتميّة رؤيَةِ عَمَلِهِ الذي كان عَمِلَهُ في الدنيا، إذْ يراهُ في كتاب أعماله مسجَّلاً بالصُّورة والصوت والخواطر والنّيات. هذا من أبدع وأعْجَب "إيجاز الْقِصَرِ" وطريقُه اختيار الألفاظ والتعبيرات ذوات الدَّلالات العامَّات الشّاملات. *** المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الآية: 179] . إنّ جملة: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} من أبْدع وأتْقَنِ "إيجَازِ الْقِصَر" الذي لا حَذْف فيه، إنّما فيه حُسْنُ انتقاء الكلمات، مع اتقان الصياغة، فهي على قِصَرِها وقلّةِ ألفاظها تَدُلُّ على معنىً كثيرٍ جِدّاً. وطريق الإِنجاز فيها اختيار الألفاظ ذوات الدَّلالات العامَّاتِ الشاملات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 وقد اشتغل البلاغيّون في تحليل هذه العبارة القرآنية لاكتشاف عناصر إيجازها البديع المتقَن، ولمقارنتها بما كان لدى فصحاء العرب من عبارة مناظرة كانوا يردّدونها ويعتبرونها من أقصر الْكَلمِ وأوجزه، وهي قولهم: "القتْلُ أنْفَى للقتل". وأعرض فيما يلي أبرزها مع إضافات تحليليّة من عندي: (1) إنّ كلمة "القِصَاص" كلمة عامّة تشمل القتل بالقتل، والقطع بالقطع، والجروح بالجروح، وتدخلُ فيها كُلُّ تفصيلات الجنايات ممّا يتعلّق بذوات الأحياء من الناس، أنفسِهِمْ فما دون ذلك. (2) وإنّ كلمة "حياة" تشمل حياة النفس، وحياة كلّ بعْضٍ من أبعاض الجسد الذي إذا انقطع مات، فيكون حاله كحال كلّ الجسد إذا ماتت النفس. وتنكير لفظ "حياة" يدلُّ على أصل بقاء الحياة للنفس، ويدُلُّ على نوع نفيس من أنواع الحياة يتَمنّاه الأحياء، وهو نوع الحياة الآمنة، التي لا خوف فيها ولا قلَقَ، والذي يتحقّق بتقرير حكم القصاص وتنفيذه، وذلك لأنّ من تُحَدِّثُه نفسُهُ بالعدوان على فردٍ أو أكثر من أفراد المجتمع في كلّ النفس، أو في بعض أعضاء الجسد، فإنَّ خوفه من القصاص يروعُه فيكُفُّ عن ارتكاب الجريمة، وبهذا تَقِلُّ جرائم القتل والقطع والجروح في المجتمع إلى أدنى الحدود، فيعيش أفراد المجتمع مطمئنينَ حياةً آمِنة. وبالمقارنة بين العبارة القرآنية: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} وبين أوجز عبارة مشابهة كان العرب يردِّدونها، وهي قولهم: "الْقَتْلُ أنْفَى لِلْقَتل" ظهر ما يلي: (1) إنّ حروف العبارة القرآنية: {فِي القصاص حَيَاةٌ} أقل من عبارة العرب: "الْقَتْلُ أنْفَى للقتل". (2) العبارة القرآنية ذكرت "الْقِصَاصَ" فعمَّت كلَّ ما تُقَابَلُ به الجناية على الأنفس فما دون الأنفس من عقوبة مُمَاثلة، وحدّدَتِ الأمر بأنْ يكون عقوبة لعمل سبق، ودلّت على مبدأ العدل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 أمّا عبارة العرب فقد ذكرت القتل فقط، ولم تقيّده بأن يكون عقوبة، ولم تُشِرْ إلى مبدأ العدل، فهي قاصرة وناقصة. (3) العبارة القرآنية نصَّتْ على ثبوت الحياة بتقرير حكم القصاص. أما عبارة العرب فذكرت نَفْي القتل، وهو لا يَدُلُّ على المعنى الذي يَدُلُّ عليه لفظ "حياة". (4) العبارة القرآنية خالية من عيب التكرار، بخلاف الأخرى. (5) العبارة القرآنية صريحة في دلالتها على معانيها، مستغنية بكلماتها عن تقدير محاذيف. بخلاف عبارة "العرب" فهي تحتاج إلى عدّة تقديراتٍ حتى يَستقيم معناها، إذْ لا بُدَّ فيها من ثلاث تقديرات، وهي كما يلي: "القتلُ" قصَاصاً "أنْفَى من تركه "لِلقَتْلِ" عمْداً وعدواناً. (6) في العبارة القرآنية سَلاَسة، لاشتمالها على حروف متلائمة سهلة التتابع في النطق. أمّا عبارة "العرب" ففيها تكرير حرف القاف المتحرِّك بين ساكنين، وفي هذا ثقل على الناطق. (7) في العبارة القرآنية من البديع "الطباق" بين لفظتي: القصاص والحياة. (8) العبارة القرآنية خالية من عيب إيهام التناقض، إذْ الموضوع تشريع لا يحتمل مثل هذا الإِيهام الذي قد يَحْسُنُ في موضع آخر، كالمدح والذّمّ. فظاهر عبارة "القتل أنفى للقتل" متناقض، ولا يستقيم المعنى، إلاَّ بملاحظة المقدَّرات المحذوفة من اللفظ. إلى غير ذلك من دقائق يكشفها المحلّل الخبير بتحليل دلالات الكلام. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 المثال الثالث: قول الله عزّ وجلّ لرسول في سورة (الحجر/ 15 مصحف/ 60 نزول) : {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} [الآيات: 94 - 95] . إنّ جملة {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} موجزةُ العبارة، لكنَّهَا تَدُلُّ على معانٍ كثيرة، وقد ذكرها "ابْنُ أبي الإِصبع" من أمثلة "الإِيجاز" ونبَّهَ على ما في عبارة {فاصدع} من دقائق، فقال: "المعنى: صَرِّحْ بجميع ما أُوحِي إليك، وبلِّغ كُلَّ ما أُمِرْتَ ببيانه، وإنْ شقَّ بعضُ ذَلِكَ عَلى بعضِ القلوبِ فانْصَدَعَتْ". وأشار إلى أنّ استعمال {فاصدع} هُنَا هو استعمال على سبيل الاستعارة، ومعلوم أنّ الاستعارة عِمَادُها التشبيه، فشَبَّهَ تأثير التصريح في القلوب الكارهة للبيانات الدّينيَّة، بالضرب على الزجاج الذي يَنْصَدعُ دون أن يتكسَّر ويتفرّق، فتابع قائلاً: "والمشابهة بينَهُما فيما يؤثِّرُهُ التصريح في القلوب، فيظْهَرُ أثَرُ ذلك على ظاهر الوجوه من القبض والانبساط، وما يلوح عليها من علامات الإِنكار والاستبشار، كما يظهر على ظاهر الزجاجة المصدوعة. فانظر إلى جليل هذه الاستعارة، وعِظَم إيجازها، وما انطوت عليه من المعاني الكثيرة". وحُكِيَ أَنّ بعض الأعراب لمّا سمع هذه الآية سَجَدَ، وقال سَجَدْتُ لفصاحة هذا الكلام. أقول: إنّ إيجاز هذه الجملة القرآنية: "إيجازُ قِصَرٍ" وطريقُه التشبيه الذي جاء بأسلوب الاستعارة، و"إِيجازُ حَذْفٍ" إذْ في العبارة حذفُ المفعول به لفعل "تُؤْمَرُ" والتقدير: فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ أَنْ تُبلِّغَهُ للناس. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 المثال الرابع: قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) خطاباً لرسوله فكلّ داع إلى سبيل ربّه: {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين} [الآية: 199] . في هذه الآية إيجاز عجيب، إذْ تتألف من كلمات معدودات، إلاَّ أنّها تدلُّ على معانٍ كثيرة. وطريق الإِيجاز فيها استخدام التعبيرات الكلية ذوات الدلالات العامّات الشاملات، والاستغناء بما تعطيه اللوازم الفكرية. وقد شرحْتُ هذا النصّ وآيات ثلاثاً بعده في كتاب "أمثال القرآن وصُور من أدبه الرّفيع" فلا داعي لإِعادة شرحه هنا. *** المثال الخامس: قول الله عزّ وجلّ في سورة (هود/ 11 مصحف/52 نزول) في عرض لقطات من قصة نوح وقومه: {وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي وَغِيضَ المآء وَقُضِيَ الأمر واستوت عَلَى الجودي وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين} [الآية: 44] . قالوا في هذه الآية من الإِيجاز ما يعجز البيان عن استيفاء تحليله وشرحه، فقد أمر فيها ربُّنا ونَهَى، وأخبرَ، ونادَى، ونعَتَ، وسمَّى، وأهْلَكَ وأبْقَى، وأسْعَدَ، وأشْقَى، وقصَّ من الأنباء ما حقّق به الغاية القصْوَى من البيان. وطريق الإِيجاز فيها التعبيرات الكليّة العامّة، والاستغناء بما تعطيه اللوازم الفكريّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 وقد شرحت هذه الآية في كتاب "نوح عليه السلام وقومه في القرآن المجيد". *** المثال السادس: قول الله عزّ وجلّ في سورة (النمل/ 27 مصحف/48 نزول) في عرض لقطات من قصة سليمان وجنوده: {حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِ النمل قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [الآية: 18] . قالوا: إنَّ التعبير عن قول النملة قد جمع ثلاثة عشر جنساً من الكلام: (النداء - الكناية في "أيُّ" - التنبيه في "ها" - التسمية في (النمل) - الأمر - القصة في "مساكنكم - النهي التحذيري - التخصيص في "سليمان" - التعميم في "وجنوده" - الكناية بالضمير في مواضع - العذر في "وهم لا يشعرون" - التأكيد في "لا يحطِمَنَّكُم" - الإِيجاز بالعطف -) . وفي أقوال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذا الإِيجاز الشيء الكثير. ونجد أيضاً في أقوال فصحاء العرب، وبلغاء الأدباء والكتاب أمثلة كثيرة. وفيما أوردته من أمثلة قرآنية كفاية. (4) شرح "إيجاز الحذف" سبق بيان أنّ "إيجاز الحذف" هو الإِيجاز الذي يكونُ قِصَرُ الكلام فيه بسبب استخدام حذف بعضه، اكتفاءً بدلالة القرائن على ما حُذِف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 إنّ من طبيعة البلغاء والمتحدّثين الأذكياء أن يَحْذِفوا من كلامهم ما يَرَوْن المتَلَقِّيَ له قادراً على إدْراكه بيُسْرٍ وسُهُولة، أو بشيء من التفكير والتأمُّل إذا كان أهلاً لذلك. والسبب في هذا أنّ الإِسراف في الكلام لا يَليق برَزَانَةِ ورَصَانةِ أهل العقل والفكر الحصيف، بل هو من صفات الثرثارين وأهل الطيش والخفّة، وهو في الغالب من طبائع النساء. وقد سمَّى "ابن جنيّ" الحذفَ شجاعَةَ العربيّة، وقال: "عبد القاهر الجرجاني": "ما من اسم حُذِفَ في الحالة التي يَنْبَغي أن يُحْذَفَ فيها إلاَّ وحَذْفُهُ أحْسَنُ من ذِكْره". وأعالج شرح "إيجاز الحذف" من خلال ثلاثة مباحث مع الأمثلة. المبحث الأول: فوائد الحذف. المبحث الثاني: شروط الحذف. المبحث الثالث: أنواع الحذف. وفيما يلي التفصيل والشرح. أوّلاً - فوائد الحذف: ذكر الباحثون في هذا المجال إحدى عشرة فائدة أجْمَعُها في "تِسْع" إذا تحققت واحدة منها فأكثر دون الإِساءة إلى المعنى المراد فالحذف بشروطه عمل بليغ، ومسلك في الكلام رشيد. الفائدة الأولى: الاختصار اقتصاداً في التعبير، واحترازاً عن البعث، عند تحقُّق المطلوب بظهور المعنى المراد لدى المتلَقِّي، ككَوْن المذكور لا يصلُح إلاَّ للمحذوف، ومنه حذف المبتدأ إذا كان الخبر من الصفات التي لا تصلُحُ إلاَّ لله عزّ وجلّ، وككْون المحذوف مشهوراً حتى يكون ذكره وحذفه سواء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 الفائدة الثانية: التَّنْبيهُ على أنّ الوقت مع الحدث لا يتسع للتصريح بالمحذوف من اللفظ، أو أنّ الاشتغال بالتصريح به يُفضي إلى تفويت أمْرٍ مُهِمّ، وتظهر هذه الفائدة كثيراً في باب "التحذير والإِغراء" ومنه ما في قول الله عزّ وجلّ في سورة (الشمس/ 91 مصحف/ 26 نزول) المشتمل على قول صالح عليه السلام لقومه: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ * إِذِ انبعث أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله نَاقَةَ الله وَسُقْيَاهَا} [الآيات: 11 - 13] . فحذَّرَّهُمْ أن يَمَسُّوا نَاقَةَ الله، فحذَف فِعْلَ التحذير فقال: "نَاقةَ الله" والتقدير: ذَرُوا نَاقَةَ الله. وأغراهم بأن يحافظوا على شروط سُقْيَاها، فحذف فِعْلَ الإِغراء فقال: "وسُقْيَاها" والتقدير: الزموا سقياها، أو الزموا شروط سقياها. الفائدة الثالثة: التفخيم والتعظيم، أو التهويل ونحو ذلك، بسبب ما يُحْدِثُه الحذف في نفس المتلقّي من الإِبهام الذي قد يجعل نَفْسَه تقدّر ما شاءت دون حدود، ويَحْسُنُ مثل هذا الحذف في المواضع التي يُراد بها التعجيب والتهويل وأن تذهب النفس في تقدير المحذوف كلَّ مذهب. كحذف جواب الشرط في قول الله عزّ وجلّ في سورة (الزمر/ 39 مصحف/ 59 نزول) : {وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ} [الآية: 73] . وتقدير الجواب: لَرَأَوْا شيئاً عظيماً جدّاً تعجز عباراتهم عن وصفه. وكحذف جواب الشرط أيضاً في قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} [الآية: 27] . أي: ولو تَرَى إذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ لَرَأَيْتَ مَا هُمْ فيه من الرُّعْبِ وَالكَرْبِ والْحَسْرَةِ والنَّدَمِ شيئاً لا تستطيع وصفه بالعبارة. الفائدة الرابعة: التخفيف على النُّطْق لكثرة دَوَرَانه في الكلام على الألسنة. وهذه الفائدة تظهر في حذف أداة النداء، وحذف النون من فعل "يكُن" المجزوم، وحذف ياء المتكلم، وحذف مثل ياء "يَسْرِي" كما قال تعالى: {واللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} وحذف آخر المرخّم في النداء، ونحو ذلك. الفائدة الخامسة: صيانة المحذوف عن الذكر تشريفاً له. الفائدة السادسة: صيانة اللّسان عن ذكره فيحذَفُ تحقيراً له وامتهاناً. الفائدة السابعة: إرادة العموم، مثل قولنا في الفاتحة خطاباً لربِّنا: {وَإيَّاكَ نَسْتَعين} أي: في أمور دنيانا وأُمور أخرانا. الفائدة الثامنة: مراعاة التَّناظُر في الفاصلة، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (الضُّحى/ 93 مصحف/11 نزول) : {والضحى * والليل إِذَا سجى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} [الآيات: 1 - 3] . أي: وما قَلاَكَ. الفائدة التاسعة: إرادة تحريك النَّفْس وشَغْلِهَا بالإِبهام الذي يتبعه البيان، حتى يكون البيان أوقع وأثبت في النفس. مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول) : { ... وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الآية: 9] . أي: ولو شاء هدايتكُمْ لسلبكُمُ الاختيار ولجعلكم مجبورين، وإذن لهداكم أجمعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 قالوا: إنّ مفعول المشيئة والإِرادة بعد الشرط لا يذكر غالباً إلاَّ إذا كان غريباً أو عظيماً. *** ثانياً - شروط الحذف: ذكروا شروطاً سبعة لجواز الحذف، منها ما هو بلاغيّ، ومنها ما يدور في فَلَكِ الصناعة النحويّة، ولكِنْ لم يتّضِحْ لي منها بلاغيّاً غير شرطين: الشرط الأول: أنْ لا يُؤَدّيَ الحذْفُ إلى الجهل بالمقصود، فَيُشْتَرطُ أنْ يُوجَدَ دليلٌ يدلُّ علَى المحذوف، وقد يُعَبَّرُ عنه بالقرائن الدالة. الشرط الثاني: أنْ لا يَكُونَ المحذوف مُؤكِّداً للمذكُور، إذْ الحذْفُ منافٍ للتأكيد. والدليل الدّالُّ على المحذوف: (1) إمَّا أنْ يكون من قرائن المقال الموجودةِ في السِّبَاق أَوْ في السِّيَاق. (2) وإمَّا أن يكون من قرائن الحال. (3) وإمّا أن يكون من المفاهيم الفكرية والاقتضاءات العقليَّة، واللّوازم الذهنيّة. أمثلة: المثال الأول: قول الله عزّ وجلّ في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول) في عرض لقطة من أحداث يوم الدّين: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً ... } [الآية: 30] . أي: قالوا: أنْزَلَ رَبُّنَا خَيْراً. إنّ إجابتهم تقتصر على ذكر المفعول به فقط، وهو لفظُ "خيراً" وقد دلَّت قرينة المقال في سباقه على المحذوف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 المثال الثاني: قول الله عزّ وجلّ في سورة (الذاريات/ 51 مصحف/ 67 نزول) : {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} [الآيات: 24 - 25] . هؤلاء الضيوف كانوا الملائكة الذين بشّروه بغلام عليم من زوجته "سارَة" وأخْبَرُوهُ بأنَّهُمْ ذاهبون لإِهلاك قَوْم لوط. وقد جرى في تحيّتهم له حذف، وفي رَدّ إبراهيم عليهم حذف أيضاً ودَلَّ على المحذوف قرينة الحال، وتقدير الكلام إذا رَدَدْنا المحذوفات كما يلي: قالوا: نُسَلِّمُ عليك سَلاَماً. قال: سَلامٌ عليكم أَنْتُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُون. وداعي الحذف هنا الإِيجاز والتخفيف لكثرة دوران مثل هذا الاستعمال على الألسنة. المثال الثالث: قول الله عزّ وجلّ في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول) : {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود ... } [الآية: 1] . وقوله في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول) : {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً} [الآية: 34] . إنّ العقودَ والْعُهُودَ التزاماتٌ بالقول يُنْشِئُها المتعاقدون والمتعاهدون، وترتبط ذه الالتزامات الإِنشائية بإبرامها بالقول، فكيف يُطالِبُ اللَّهُ عزّ وجلّ بالْوَفاء بها وقد استوفَتْ شروط إبرامها؟. الدّليل العقلي يَهْدِي إلى أنّ المطلوبَ الْوَفَاءُ بمقتضاها، لأنّ العقود والعهود تُبْرَمُ بالأَقوال ثم على مَنْ أبْرَمَها أن يلتزم بمقتضاها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 فالكلام إذن على تقدير: أوفُوا بمقْتَضَى العقود، وأوفوا بمقتَضَى العهد. والدليل الذي دلّ على المحذوف الاقتضاء العقلي. المثال الرابع: قول الله عزّ وجلّ في سورة (فاطر/ 35 مصحف/ 43 نزول) : {مَن كَانَ يُرِيدُ العزة فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً ... } [الآية: 10] . في هذه العبارة محاذيف يدلُّ عليها النظر الفكري والتأمل، إذ المعنى: من كان يريد العزَّة فلّيُؤْمِنْ بِاللَّهِ، ولْيَطْلُبْهَا مِنْهُ، ولْيَسْلُكْ سَبيل الوصول إليها عن طريق مرضاته، فَلِلَّهِ الْعِزَّة جميعاً. إنّ جواب الشرط "مَنْ كان يُريدُ العزّة" الذي جاء بصيغة "فلِلَّهِ العزَّةُ جَمِيعاً" يسلتزم عقلاً التوجيه لطَلَبِها عند من يَمْلِكُها، ولمَّا كانَتِ العزَّةُ كلُّها للَّهِ عزَّ وجلّ فَعَلى مَنْ يُريدُها أنْ يَطْلُبَها منه، وطَلَبُها إِنَّما يكون بالإِيمان به، والإِسلام له، وسلوك السبيل التي ارتضاها لعباده، والعمل بمراضيه، وسؤاله النصر والتأييد، والاستعانة به، وذِكْرِهِ كثيراً. فالدليل الدالُّ على المحذوف هنا فكريٌّ عقلي. المثال الخامس: قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) : {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانبجست مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ ... } [الآية: 160] . أي: فَضَرَب مُوسَى بِعَصَاهُ الْحَجَر فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَة عَيْناً. انْبَجَسَتْ: أي: انْفَجَرَتْ. قَالُوا: الفاء في [فَانْبَجَسَتْ] هي الفاء الفصيحة، إذْ أفْصَحَتْ عن محذوفات في النّص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 أقول: الذي دَلَّ على هذه المحذوفات دليلُ النظر الفكري، والتأمُّل في اللّوازم الذهنيَّة التي تَرْبِط بين الأمْرِ بأن يضرب بعصاه الحجر، وبين حدوث ظاهرةِ تفجُّرِ الْحَجَرِ بالماء، والفاء لم تدلُّ إلاَّ على الترتيب مع التعقيب. *** ثالثاً - أنواع الحذف: ذكروا أنّ الحذف ينقسم إلى خمسة أقسام. القسم الأول: الاقتطاع. القسم الثاني: الاكتفاء. القسم الثالث: التضمين. القسم الرابع: الاحتباك. القسم الخامس: الاختزال. وفيما يلي الشرح مع الأمثلة: شرح القسم الأول: الاقتطاع: الاقتطاع: هو حذف بعض حروف الكلمة أو ما هو بمثابة الكلمة الواحدة، تخفيفاً على مخارج الحروف، أو لداعي السرعة، أو لأجل القافية في الشعر، أو الفاصلة في النثر، أو التجبُّبِ في النداء، أو نحو ذلك من دواعي بلاغية. * فمنه حذف نون فعل "يكون" المجزوم، كما جاء في قول الله عزّ وجلّ في سورة (القيامة/ 75 مصحف/ 31 نزول) : {أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى} [الآيات: 36 - 37] . الأصل: "ألَمْ يَكُنْ" فَحُذِفَت النُّونُ تخفيفاً، وربّما لأغراضٍ أخرى تتصل بأعداد الحروف، أو لغير ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 *ومنه حذف إحدى التاءَيْن المتوالِيَتَيْن في الفعل الوارد على وزن "تَتَفعل" كما جاء في قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) : {ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الآية: 152] . تَذَكَّرُون: أصلُها تَتَذكَّرون، فَحُذِفْت إحدى التّاءَيْن تخفيفاً. وكما جاء في قول الله عزّ وجلّ في سورة (عَبَسَ/ 80 مصحف/ 24 نزول) خطاباً لرسوله: {أَمَّا مَنِ استغنى * فَأَنتَ لَهُ تصدى} [الآيات: 5 - 6] . تَصَدَّى: أصلُها تتصدَّى، فحذفت إحدى التّاءَيْن تخفيفاً. * ومنه حذف التاء من استطاع على غير قياس، كما جاء في قول الله عزّ وجلّ في سورة (الكهف/ 18 مصحف/ 69 نزول) حكاية لما قال الخضر لموسَى عليهما السلام: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [الآية: 82] . بعد أن قال له قبل هذا: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [الآية: 78] . ولعلّه أشار أخيراً بفعل "تَسْطعْ" إلى طبيعة موسى عليه السلام التي تقلُّ فيها استطاعة الصبر، فناسبها تقليل حروف الكلمة. * ومنه الترخيم في النداء، كما جاء في قول امرئ القيس: أَفَاطِمُ مَهْلاً بَعْضَ هَذا التَّدَلُّلِ ... وَإِنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ صَرْمِي فَأَجْمِلي أي: أَفَاطِمَةُ. * ومنه حذف آخر الكلمة لمراعاة التناسب في الفواصل، كما جاء في قول الله عزّ وجلّ في سورة (الفجر/ 89 مصحف/ 10 نزول) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 {والفجر * وَلَيالٍ عَشْرٍ * والشفع والوتر * والليل إِذَا يَسْرِ} [1 - 4] . يَسْرِ: أصْلُها يَسْرِي، فَحُذِفَ آخر حرف فيها لمراعاة الفاصلة. وكذلك قوله تعالى فيها: {وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد * وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} [الآيات: 9 - 10] . بِالْوَادِ: أصْلُها "بالوادي" فَحُذِفَتِ الياء لمراعاة الفاصلة. * ومنه حذف ياء المتكلم، كما جاء في قول الله عزّ وجلّ في سورة (القمر/ 54 مصحف/ 37 نزول) : {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [الآية: 21] . ونُذُرِ: أي: ونُذُرِي، فَحُذِفَتْ ياء المتكلم لمراعاة التناظر في الفواصل. إلى غير ذلك. *** شرح القسم الثاني: الاكتفاء: الاكتفاء: هو أن يقتضي المقام ذِكْرَ شيئَيْنِ بَيْنَهُمَا تَلازُمٌ وارتباط، فَيُكْتَفَى بأَحَدِهما عن الآخر لنكتةٍ بلاغيّة. ويختصُّ غالباً بالارتباط العطفي. أمثلة: المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول) : {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجبال أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [الآية: 81] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 ففي قوله تَعَالَى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} إيجازٌ بالحذف، على سبيل الاكتفاء، إذِ التَّقْدير: تقيكُمُ الْحَرَّ والْبَرْدَ. قالوا: وخُصَّ الحرُّ بالذكْرِ لأَنَّ المخاطَبين الأَوَّلِينَ كانوا عَرباً، وبلادُهُمْ حارَّة، والوقاية من الحرّ هي الأهم لدى معظمهم. أقول: إنَّ من أساليب القرآن تَجْزِئَةَ العناصر الفكريّة على النصوص، وقد جاء فيه الامتنان بالدفء في قوله تعالى في سورة (النحل) أيضاً: {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [الآية: 5] . فتكامل النصّان في الدَّلاَلة على الوقاية من الحرّ والبرد. المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) : {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار وَهُوَ السميع العليم} [الآية: 13] . أي: وله ما سَكَنَ وَمَا تَحَرَّكَ في اللّيلِ والنّهار، لأنّ كلّ ساكنٍ في الوجود هو ذُحَركة ما، فالأمران مُتَلازمان فحصل الاكتفاء بأحدهما عن الآخر. *** شرح القسم الثالث: التضمين: التّضمين: هو تضمين كلمة معنى كلمة أُخْرى، وجَعْلُ الكلام بعدها مَبْنيّاً على الكلمة غير المذكورة، كالتعدية بالحرف المناسب لمعناها، فتكون الجملة بهذا التضمين بقوّة جملتين، دلَّ على إحداهما الكلمة المذكورة التي حُذِف ما يَتَعلَّقُ بها، ويُقَدَّرُ معناه ذهْناً، ودَلَّ على الأَخْرَى الكلمةُ التي جاءتْ بعدها المتعلّقةُ بالكلمةِ المحذوفةِ الْمُلاحَظِ مَعْنَاها ذهْناً. وهذا التضمين فَنٌّ رَفيعٌ من فنون الإِيجاز في البيان، وهو لا يخضع لقواعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 الاستعمالات العربيّة الجامدة التقليديّة، الّتي قد يتقيَّد بها النحاة، بل هو لَمْحٌ ابتكاريٌّ يُلاحظه البَلِيغُ، إذْ يَرى فِعْلَيْنِ مُتَقَاربَيْنِ، أَوْ نَحْوَهُما، وهو يريد استعمالَ كلٍّ منهما في كلامه، وهذا يقتضي منه أن يصوغَهُما في جُمْلَتين، وَيُعْطِيَ كُلاًّ مِنْهُما تعديَتهُ التي تلائمه، لكنَّهُ يرَى ما هو أبْدَعُ من ذلك وأخْصَرُ، وأرفع أسلوباً في أداء بيانيٍّ جميلً، يُحَرِّكُ ذهنَ المتلَقِّي لفهمه، ويُعْجب لمَّاحي الذَّكَاء من البلغاء، وهو أن يختار أحدَ الفعلَيْنِ بفنّيّةٍ، فيذْكُرَهُ بلفْظِه، ثمّ يأتي بما يتعدّى إليه الفعلُ الآخر، أو يَعْمَلُ فيه، فَيَذْكُرُه، ويَحْذِفُ مَعْمُولَ الفِعْل الّذِى ذكّرَهُ، إذا كان له معمول، سواءٌ أكان مفعولاً به، أمْ غير ذلك، ويَسْتَغْنِي بذكر جُملَةٍ واحدةٍ عن جملتين. ولدى تَحْلِيل التضمين يظهر لنا أنّه صنف من أصناف الحذفِ الّذِي يُتْرَكُ في اللَّفظ ما يَدُلُّ عليه. فالفعلُ المذكور يَدُلُّ بحسب تَعْدِيَتِهِ العربيَّةِ على معموله المحذوف، والمعمول المذكور مع قرائن النصّ يدُلُّ على عامِلِه المحذوف، ويَنْتُجُ عن ذلك أداءٌ مُوجَزٌ بليغ، اعتمد على أسلوبٍ بيانِيٍّ ذكيّ. ولا بُدّ أن نُدْرِك أنَّ مثل هذا الإِجراء البيانيّ لا يستقيم بين كلِّ فعلَيْنِ أو ما يَعْمَلُ عمَلَهُما، حتَّى يُطَبَّقَ بغباء، سواءٌ استقام الآداءُ البيانيّ أمْ لم يستَقِم، بل يحتاج من البليغ رؤيَةً فَنّيَّةً بَيَانيَّة، يَصِلُ بها إلَى أنَّهُ لو استخدم هذا الأسلوب في جُمْلَتِه لأدركه الْبُلَغَاءُ والأَذكياء، دون إعنات ذهْنِيّ، ويُدْرِكُه الآخَرُون بالتَّدَبُّر والتأمُّل. فمثلاً: أُرِيدُ أنْ أقولَ: جَلَسْتُ عَلى فِراشي، وأَمَلْتُ جِسْمِيَ إلى مُتَّكَئِي، فأخْتَصرُ الكلام فأقُولُ: جَلَسْتُ إلى مُتَّكَئِي. ومثل هذا الإِيجاز القائم على الحذف والإِيصال، أُسْلوبٌ ينهجُه بُلَغاءُ الْعَرب، وتقدير الكلام: جَلَسْتُ مائلاً إلى مُتَّكَئِي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 أمثلة: المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الإِنسان/ 76 مصحف/ 98 نزول) : {إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} [الآيات: 5 - 6] . إنّ فعل: "يَشْرَبُ" يُعَدَّى لغةً بحرف "مِنْ" لكنّه جاء في النّصّ هنا متعدّياً بحرف "الباء" فَلِماذا؟ بالتأمُّل يظهر لنا أنّ فِعْلَ "يشرب" ضُمِّنَ معنَى فِعْلِ: "يتلَذّذ" أو "يَرْتَوِي" الذي يُعَدَّى بحرف "الباء" فَعُدّي تعديته، والتقدير: عيناً يَشْرَبُ منها مُتَلذّذاً بها عبادُ الله، فأغنى "يَشْرَبُ بها" عن عبارة: يشربُ منها ويتلّذذ بما يشرب عباد الله. الفعلُ المذكور دلَّ على معناه بصريح العبارة، وحرف الجرّ "الباء" دلَّ على الفعل المحذوف الذي ضُمِّنَ الْفِعْلُ المذكور معناه، فأغنت جُمْلةٌ عن جُمْلَتَيْن، وعبارةٌ عن عبارتين، وهذا من روائع الإِيجار في القرآن المجيد. المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ... .} [الآية: 187] . كَلِمَةُ "الرَّفَثِ" مَصْدَرُ "رَفِثَ يَرْفَثُ رَفَثاً" أي: صَرَّحَ بكلامٍ يتعلَّقَ بالجماعِ ومُقدّماته، أو فعَلَ ما يتَّصِل بذلك. وأصل الرفَث لا يَتَعدَّى لغة بحرف "إلَى" لكنّه ضُمِّنَ مَعْنَى فِعْلِ "أَفْضَى" فَعُدِّيَ تعديتَه، يُقَالَ: أَفْضَى إلى زوجته، أي: أزال ما بَيْنهما من الفضاء فالتصقَ بها، وهو كناية عن الجماع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 وتقدير الكلام: أُحِلّ لَكُمْ ليلةَ الصّيام الرَّفَثُ بالحديث مع نسائكم مُقَدِّمَةً مُنَاسِبَةً يكونُ بَعْدَها الإِفضاء إليّهن وجماعُهُنَّ، والله بهذا يُعَلِّم الأزواج أدب المعاشرة باستخدام المقدمات قبل الإِفضاء والمعاشرة الزوجيّة. المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النازعات/ 79 مصحف/ 81 نزول) : {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بالواد المقدس طُوًى * اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى * فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أَن تزكى * وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ فتخشى} [الآيات: 15 - 19] . هَلْ لَكَ إلَى أَنْ تَزَكَّى؟ : عبارة: "هَلْ لَكَ" وخبَرٌ مقدَّم والمبتدأ محذوف تقديره: "هَلْ لَكَ رَغْبَةٌ" وكلمةُ "رغْبَة" تُعَدَّى بحرفِ "في" لا بحرف "إلَى" لكن ضُمّنَت معنى فعل "أدعو" فَعُدّيَتْ تَعْدِيته، والتقدير: هَلْ لَكَ رَغْبَةٌ في أن أَدْعُوَك إلَى أن تَزَكَّى؟ المثال الرابع: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الشورى/ 42 مصحف/ 62 نزول) : {وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الآية: 25] . إنّ فعل "يَقْبَلُ" يتعدَّى لغة بحرف "من" فيقال: قَبِل الله منه توبته. ولكنْ عُدّيَ هنا بحرف "عَنْ" لأنَّه ضُمِّنَ معنى فِعْلِ "عَفَا" أو "صَفَحَ" فَعُدِّي تعديته، والتقدير: وهو الذي يَقْبَلُ التوبَةَ من عباده إذْ يَعْفُو ويَصْفَحُ عنهم. المثال الخامس: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) بشأن منافقي العرب: {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [الآية: 14] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 إنَّ فعل "خَلاَ" يأتي في اللّغة للدّلالة على معنَى انفراد الإِنسان في خَلْوَة، لا يكون معه فيها أحَدٌ، فيقولون: خلا الرجل، ورُبَّما قالُوا: خلا بنَفْسِه، فإذا أرادوا بيان أنّ الخلوة حصلَتْ مَعَ فريقٍ آخر قالوا: خَلاَ به، أو خلا معه، ولاَ يُعَدَّى فِعْلُ "خَلا" بحرف "إلى" بحسب أصل الاستعمال. فكيف نُفَسِّر هذه التعدية؟ أقول: إنَّ فعل "خلا" ضُمّن معنى فعل "رجَعَ" فَعُدِّي تَعْدِيته، والتقدير: وإذا خَلَوْا راجِعينَ إلى شياطينهم قالوا لهم: إنّا معكم إنَّما نَحْنُ مستهزئون بالمؤمنين. المثال السادس: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (ص/ 38 مصحف/ 38 نزول) في حكاية فتوى داود عليه السلام للفريقين الّذَيْنِ تَسَوَّروا عليه المحراب: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ ... } [الآية: 24] . إنّ كلمة "سُؤَال" لا تُعَدَّى بحرف "إلَى" ولكنّها ضُمّنَت معنى الجمْع والضّمّ فعدّيَتْ بحرْفِ "إلى" والتقدير: لقد ظلمك بسؤال نَعْجَتِكَ ضامّاً إيَّاها إلى نعاجه. قال ابن تيمية. "والعرب تُضمّن الفعل معنى الفعل، وتُعَدِّيه تعديته، ومن هنا غلط من جعل بعض الحروف تقوم مقام بعض، كما يقولون في قوله: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ} أي: مع نعاجه و {وَمَنْ أَنْصَارِي إلَى الله} أي: مع الله، ونحو ذلك. والتحقيق ما قاله نحاة البصرة من التضمين، فسؤال النعجة يتضمّن جمعها وضَمَّها إلى نعاجه، وكذلك قوله: {وَإِنْ كادوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 73] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 ضُمِّنَ مَعْنَى "يُزِيغُونك" و"يَصُدُّونَكَ" وكذلك قوله: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأنبياء: 77] ضُمّنَ معنى "نَجَّيْنَاه" و"خَلَّصْنَاهُ" وَكَذَلِكَ قوله: {يَشْرَبُ بِهَا عِبادُ الله} [الانسان: 6] ضُمِّنَ "يَرْوَى بها" ونظائره كثيرة. المثال السابع: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) : {ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ} [الآية: 38] . اثّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ: أي: تَثَاقَلْتُمْ مائِلينَ أَوْ مُخلِدين إلى الأرض، فعُدِّيت كلمة "اثَّاقَلْتُم" بحرف "إلى" لأنها ضُمّنَت معْنَى كلمة "أخلد" أو "مَالَ". انظر طائفة من الأمثلة الأخرى في كتابي "قواعد التدبّر الأمثل لكتاب الله عزَّ وجلَّ". *** شرح القسم الرابع: الاحتباك: الاحتباك: هو أن يُحْذَفَ من الأوائل ما جاء نظيره أو مقابلة في الأواخر، ويُحْذَفَ من الأواخر ما جاء نظيره أو مقابلة في الأوائل. ومأخذ هذه التسمية من الْحَبْك، وهو الشدّ والإِحكام، وتحسين أثر الصنعة في الثوب، فَحَبْكُ الثوب هو سَدُّ ما بين خيوطه من الْفُرَج وشَدُّهُ وإحكامه إحكاماً يمنع عنه الْخَلَل، مع الْحُسْنِ والرونق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 وبيان أخذ هذه التسمية من حَبْكِ الثوب أنّ مواضع الحذف من الكلام شُبِّهَتْ بالْفُرَجِ بين الخيوط، فلمّا أدْركها المتدبر البصير بصياغة الكلام، الماهر بإحكام روابطه، وأدْرك مقابلاتها، تنبّه إلى ملء الفُرَج بأمثال مقابلاتها، كما يفعل الحائل حينما يُجْري حبكاً مُحْكماً في الثوب الذي ينسجه. يقال لغة: حبَكَ الثوبَ، وحَبّكَه، واحْتَبَكَهُ إذا أجاد نسجه وأتقنه، وحَبكَ الحبْلَ، إذا شدَّ فتله. وحبَكَ الثوب، إذا ثنَى طرفَه وخاطه. أمثلة: المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) : {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار} [الآية: 13] . نُلاحظ في هذه الآية حَذْفاً مِنَ الأَوَائل لدلالة ما في الأواخر، وحذْفاً من الأواخِرِ لِدَلاَلَةِ مَا فِي الأوائل، وهذا من بدائع القرآن وإيجازه الرائع. إنّ إبراز المحاذيف يتطلّب منا أن نقول: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ} مُؤْمِنَةٌ {تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وَ} فئة {وأخرى كَافِرَةٌ} تُقَاتِلُ فِي سبيل الطّاغوت {يَرَوْنَهُمْ ... } إلى آخره. فتحقّق "الاحتباك" بدلالة ما في الأوائل على المحذوف من الأواخر، ودلالة ما في الأواخر على المحذوف من الأوائل. المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 {وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الآية: 103] . قالوا: أي: خَلَطُوا عَمَلاً صَالحاً بِسَيِّئٍ وعملاً آخَرَ سيّئاً بصالح. أقول: مثل هذا التقدير ليس أمراً لازماً في هذا الشاهد، بل الأولى - فيما أَرَى - فهمُهُ على الوجه التالي: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا} أي: جَمَعُوا جمعاً مختلطاً أَعَمْالاً مختلفة "عملاً صالحاً وآخر سَيّئاً". والمعنى أنّهم يعملون عملاً صالحاً، ويعملون بعده عملاً سيّئاً، وهكذا دواليك، فهذا المعنى التتابعي الذي يجمع في صحائفهم خليطاً غير متجانس لا يؤدّيه تقدير: خلطوا عملاً صالحاً بسيِّئ وعملاً آخر سيّئاً بصالح. المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) حكاية لَما خاطب به موسى عليه السلام عند تكليمه: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء ... } [الآية: 12] . التقدير: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} تَدْخُلْ غَيْرَ بيضاء. وأَخْرِجْهَا {تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء} . فدلَّ لفظ "بيضاء" في الأواخر على عبارة "غير بيضاء" المحذوفة من الأوائل، ودلَّتْ عبارة "وَأَدْخِلْ" في الأوائل على عبارة "وأخرجها" المحذوفة من الأواخر، فتمّ الاحتباك. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 شرح القسم الخامس: الاختزال: الاختزال: هو كلُّ حذف في الكلام لا يدخل في واحد من الأقسام الأربعة السابقة "الاقتطاع - الاكتفاء - التضمين - الاحتباك". وقد تتبّع البلاغيون والنحويّون والمفسّرون هذا الحذف المسمّى بالاختزال فوجدوا أنَّهُ يَشْمَلُ حذف الاسم، والفعل، والحرف، وحذف جملةٍ، أو عدّةِ جملٍ، وحذفَ كلام طويل في قصّةٍ ذات أحداث كثيرة. وتتبعوا الأمثلة بالتفصيل فوجدوا أمثلةً من كلّ ما يلي: (1) حذف المضاف، وهو كثير جدّاً في القرآن، حتّى عَدَّ "ابن جنّي" منه زُهاءَ ألف موضع. (2) حذف المضاف إليه. (3) حذف المبتدأ. (4) حذف الخبر. (5) حذف الموصوف. (6) حذف الصفة. (7) حذف المعطوف عليه. (8) حذف المعطوف مع العاطف. (9) حذف المبدَلِ منه. (10) حذف الفاعل. (11) حذف المفعول به. (12) حذف الحال. (13) حذف المنَادى. (14) حذف العائد. (15) حذف الموصول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 (16) حذف الفعل. (17) حذف الحرف. (18) حذف أكثر من كلمة، وقد تَبْلغ جملاً كثيرة، وأحداثاً طويلةً من قصة. وإذْ يطول بي هنا ذكر الأمثلة مع شرحها وتحليلها، فإني اقتصر الآن على طائفة يسيرة منها، وأُحِيلُ القارئ على ما فَصَّلْتُ في القاعدة الرابعة عشرة، من كتابي: "قواعد التدبُّر الأمثل لكتاب الله عزَّ وجلَّ" وعلى كتاب "الإِشارة إلى الإِيجاز في بعض أنواع المجاز" للشيخ "عزّ الدين بن عبد السلام" وعلى ما جاء في كتاب "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" لابن هشام، في الباب الخامس منه، فقد فصل في أواخره القول في الحذف. أقول: إنّ المهمّ في الدراسة البلاغيّة لظاهرة "الحذف" اكتشاف الداعي البلاغي له في الكلام، والتنبيهُ عليه. أمثلة: (1) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول) : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب ... } [الآية: 3] . أي: حُرِّمَ عليكم أَكْلُ هذِهِ المذكورات، وهذا من حذف الاسم المضاف. (2) وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الروم/ 30 مصحف/ 84 نزول) بشأن الروم إذْ غُلِبوا من قبل الفرس وبيان أنهم سَيَغْلِبُون: {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ... } [الآية: 4] . أي: للَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلِ الْغَلَبِ وَمِنْ بَعْدِ الْغَلَبِ، وهذا من حذف المضاف إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 (3) وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الكهف/ 18 مصحف/ 69 نزول) في حكاية بيان الخضر لموسى عليهما السلام أسباب أعماله التي استنكرها: {أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البحر فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الآية: 79] . أي يأخُذُ كُلَّ سفينةٍ غَيْرِ مَعِيبَةِ غَصْباً، بدليل قوله: فأرَدْتُ أنْ أعيبها. وهذا من حذف الصفة. وهكذا ... . *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 الفصل الرابع: الإِطناب (1) التعريف الإِطناب في اللُّغة: يدور حول معنى الإِطالة والإِكثار والطول والكثرة والزيادة عن المعتاد. يقال لغة: أطْنَبَ النهرُ إذا طال مجراه. وأطنبت الرّيحُ إذا اشتدت مثيرةً غباراً. وأطنبتِ الدّواب، إذا تَبِعَ بعضُها في السّير وطالَ تتابُعُها. وأطْنَب الْعَدَّاء في عَدْوه، إذا بالَغَ فيه وابتعد. ويقال أيضاً: أطنب الرجل في الكلام أو الوصف أو الأمر، إذا بالَغَ وأكثر وزاد في ذلك. الإِطناب في اصطلاح البلاغيين: كوْنُ الكلام زائداً عمّا يُمْكن أنْ يُؤَدَّى به من المعاني في معتاد الفصحاء، لفائدة تُقْصَد. ويقال للمتحدِّث بالكلام الذي فيه إطناب: أطنب في كلامه فهو مُطْنِب. واحْتُرِز بقيد: "لفائدة تُقْصَدُ" لإِخراج الزيادة في الكلام دون فائدة تُقْصَد لدى البلغاء، وقد يطلق على هذه الزيادة لفظ "الإِسهاب". والزيادةُ في الكلام بلا فائدة تُقْصَد تكون - كما سبق به البيان في الفصل الأوّل من هذه الباب - بالتطويل: كذكر المترادفين، أو بالحشو، وكلاهما أمران مَعِيبان، وأضيف هنا أنّ الحشو قد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 يكون حشواً غير مفسد للمعنى، فهو كالتطويل، وقد يكون مفسداً للمعنى وهو حينئذٍ حشوٌ ساقط، وضربوا مثلاً للحشو الساقط بقول المتنبي يتحدّث عن الحياة الدنيا: وَلاَ فَضْلَ فِيها للشَّجَاعَةِ والنّدَى ... وصَبْرِ الْفَتَى لَولاَ لِقَاءُ شَعُوبِ شَعُوب: اسم علَمٌ على المنيّة. قالوا: جاءت عبارة "والنّدى" حشْواً مفسداً للمعنى، وذلك لأنَّ الإِنسان إذا أَمِنَ من ملاقاة الموت زاد تعلّقه بالمال، إذْ تعظُم حاجته إليه بدوام الحياة، فلا يكون لديه جُودٌ به، وعندئذٍ يظهر فَضْلُ النَّدَى أي: الجود، بخلاف مترقّب الموت فإنّه يكثر جوده. أمّا الشجاعة فعلَى عكس الندى، لولا توقُّع ملاقاة الموت بها، ولولا الخوف منه، لما تفاضل الناس بها. ولم يتعرّض العكبري لهذا النَّقْد، بل شرح كلام المتنبي دُونَ تعقيب. أما الحشو غير المفسد فمنه قول أبي العيال الهذلي: ذَكَرْتُ أخِي فَعَاوَدَنِي ... صُدَاعُ الرأْسِ والْوَصَبُ فجاء ذكر الرأس حشواً غير مفسد، لأنّ الصداع لا يكونُ إلاَّ في الرأس. وقول أبي عديّ: نَحْنُ الرّؤوسُ وَمَا الرُّؤُوس إِذَا سَمَتْ ... في الْمَجْدِ لِلأَقْوَامِ كَالأَذْنَابِ فجاء ذكر "للأقوام" حشواً غير مفسد، وهكذا. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 (2) تقسم الإِطناب ينقسم الإِطناب إلى قسمين: إطناب بالبسط، وإطناب بالزيادة: أمّا القسم الأول: وهو "الإِطناب بالْبَسْط" فيكون بتكثير الجمل وبسط المعاني، واستعمالِ كلامٍ طويل يُغْنِي عنه كَلامٌ قصير، دون أنْ تكون فيه ألفاظ زائدة. أمثلة: المثال الأول: قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تَجْرِي فِي البحر بِمَا يَنفَعُ الناس وَمَآ أَنزَلَ الله مِنَ السمآء مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرياح والسحاب المسخر بَيْنَ السمآء والأرض لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الآية: 164] . في هذه الآية إطنابٌ بالبسط، لتوجيه الأنظار لآيات كونيَّة دالاَّتٍ على طائفةٍ من صفات الله عزّ وجلّ، منها شمول علمه، وعظيم قدرته، وكمالُ إرادته، وجليلُ حكمته وإتقانه وإبداعه لمخلوقاته، وعنايته بعباده. وهذا البسط آتٍ من ذكر طائفة مفصّلة من آياته في كونه، كلُّ واحدة منها تدلُّ على كلٍّ هذه الصفات، فذكرها هو من البسط في إقامة الأدلّة دون زيادةٍ في الألفاظ لدى ذكر كلّ آية منها. والآيات هي الآيات السبع التاليات: الأولى: ظاهرة خلق السماوات والأرض. الثانية: ظاهرة اختلاف اللَّيل والنهار. الثالثة: ظاهرة الْفُلْكِ التي تجري في الْبَحْر بما يَنْفَعُ النّاس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 الرابعة: ظاهرة الماء الذي يُنْزله الله من السماء فَيُحْيِي به الأرض بعد موتها. الخامسة: ما بَثَّ اللَّهُ في الأرض مِنْ كلّ دابَّةٍ تَدِبُّ عليها. السادسة: تَصْرِيفُ الرِّياح بتدبير أَمْرِها وتوجيهها لتحقيق أُمُورٍ جليلة في الكون. السابعة: تسخير السحاب بين السماء والأرْض. المثال الثاني: قول الله عزّ وجلّ في سورة (غافر/ 40 مصحف/ 60 نزول) : {الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ... } [الآية: 7] . إنّ عبارة {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} وَصْفاً للملائكةِ الذين يَحْمِلُون العرش، وللملائكة الذينَ من حول العرش من الإِطناب بالبسط، وذلك لأنَّ إيمانهم معلوم من نصوص سابقة التنزيل، ومن كونهم يُسبّحون بحَمْدِ رَبِّهم. والغرض البلاغيّ من هذا الإِطناب إظهار شرف الإِيمان، والترغيبُ فيه، والإِشارة إلى أنّ تسبيحهم بحمد ربِّهم ثمرةٌ من ثمراتِ إيمانهم، وليس تسبيحاً جَبْرِياً كتسبيح السماوات والأرض والشجر والجماد، إذن فهم يملكون جهازاً يُفَكّر، وجهازاً يؤمن بالإِرادة. المثال الثالث: قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [الآية: 261] . في هذه الآية إطنابٌ بالبسط، فالْغَرضُ بَيَانُ مُضَاعَفَةِ أجْرِ المنفق في سبيل الله إلى سبعمائة ضعف فما فوق ذلك، وهذا المعنى يُؤَدَّى بعبارة قصيرة، لكِنْ جاء في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 الآية مبْسُوطاً، وطريقُ البسط تمثيلُ المنفق لحبَّةٍ واحدةٍ في سبيل الله بزارعِ حبَّةٍ أنبتَتْ سبْعَ سنابلٍ في كلِّ سُنْبُلَةٍ مئَةُ حبَّةٍ. والغرضُ من هذا الْبَسْطِ إثارةُ مِحْور الطّمع في المخاطبين إذْ يُعْرَضُ لهم الأَجْرُ الموعودُ به على الإِنفاق في سبيل الله في صورة مثالٍ يَشْهَدون نظائره في الظواهر الزراعيّة، ليكون هذا الطمع محرّضاً ذاتيّاً في الأنفس على بَذْلِ الأموال في سبيل الله. المثال الرابع: قول الله عزّ وجلّ في سورة (فُصّلت/ 41 مصحف/ 61 نزول) : {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ} [الآيات: 6 - 7] . إنّ عبارة {الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة} من الإِطناب، لأنّ المشركين لا يُزَكُّونَ. والداعي لهذا الإِطناب حثُّ المؤمنين على أداء الزكاة، وتحذيرهم من المنع إذْ أبان الله أنَّهُ من صفات المشركين، وفيه دلالة على أنَّ من آثار الشرك جَفَافَ الرحمة على ذوي الحاجات، فهم لا يشعرون بمشاعر ذوي الحاجات، بخلاف المؤمنين بالله واليوم الآخر، إذ الإِيمان يولّد في قلوبهم خلق الرحمة، وعاطفة حبّ العطاء ومساعدة ذوي الحاجات. *** وأمّا القسم الثاني: وهو "الإِطناب بالزيادة" فيكون بزيادةٍ في الألفاظ على أصل المعنى الذي يُرادُ بيانه لتحقيق فائدةٍ ما. فمنه قول الله عزّ وجلّ في سورة (القدر/ 97 مصحف/ 25 نزول) : {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} [الآية: 4] . إنّ عبارَة: {والرُّوح} وهو جبريل عليه السلام من الإِطناب بالزيادة، لأنّ جبريل داخلٌ في عموم الملائكة، ولكنّها زيادة ذاتُ فائدة، إذ الغرضُ من تخصيصه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 بالذكر بعد دخوله في عموم الملائكة الإِشعارُ بتكريمِهِ وتعظيمِ شأنه، حتَّى كأنَّهُ جنْسٌ خاصٌّ يُعْطَفُ على الملائكة. * ومنه قول الشاعر "الحسين بن مطير" من الشعراء الذين عاصروا الدولتين الأموية والعبّاسية، يَرْثي "مَعْنَ بْنَ زائدة": فَيَا قَبْرَ مَعْنٍ أَنْتَ أَوَّلُ حُفْرَةٍ ... مِنَ الأَرْضِ خُطَّتْ للسَّمَاحَةِ مَوْضِعاً وَيَا قَبْرَ مَعْنٍ كَيْفَ وَارَيْتَ جُودَةُ ... وَقَدْ كَانَ مِنْهُ الْبَرُّ والْبَحْرُ مُتْرَعاً إنَّ قولَهُ: "وَيَا قَبْرَ مَعْنٍ" في البيت الثاني هو من الإِطناب بالزيادة، لفائدة، وطريقته التكرير. والداعي البلاغي لهذا الإِطناب "التحسُّر". * ومنه قول "ابْنِ المعتزّ" يَصِفُ فَرَساً: صبَبْنَا عَلَيْهَا - ظَالِمِينَ - سِيَاطَنَا ... فَطَارَتْ بِهَا أَيْدٍ سِرَاعٌ وَأَرْجُلُ إنَّ قولَهُ: "ظالِمِينَ" من الإِطناب بالزيادة لفائدة. والداعي البلاغي لهذا الإِطناب "الاحتراس" لذلك يسمَّى به، إذْ لو لم يُوجَدْ هذا الاحتراس لتوهَّمَ المتَلَقِّي أنَّ فَرَسَ "ابْنِ المعتز" كان بليداً يَسْتَحِقُّ الضَّرْبَ بالسّياط، فكان قولُهُ ظالِمينَ دافعاً لهذا التوهُّم. *** (3) طرائق الزيادات الإِطنابية المفيدة ودواعيها البلاغية. نظر البلاغيون في الزيادات الكلامية التي يحْصُلُ بها الإِطنابُ المفيد، فرأوا أنَّها تكون في طرائق من القول، جَمَعْتُهَا في (15) طريقة كنتُ في كثير منها متبعاً، وفي بعضها محرّراً ومُصَنِّفاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 وبحثوا في الدواعي البلاغيّة لاختيار الإِطناب المفيد بهذه الطرائق فتجمَّعَتْ لَدَيْهم نتائج أفادتني في التصنيف والتمثيل. وأشير هنا إلى أنّ بعض الأمثلة قد تَصْلُح أمثلة لأَكثر من طريقة من الطرائق التالية البالغة خمس عشرة طريقة: الطريقة الأولى: "الإِيضاح بعد الإِبهام" وذلك بأن يُورِدَ المتكلّم المعنى مُبْهَماً، وبَعْدَ ذلك يُورِدُه مُوَضَّحاً، قال أهل البيان: إذا أردت أن تُبْهِمَ ثم توضِّح فَإنَّكَ تُطنِب. ووجه حُسْنِ هذه الطريقة مع الفوائد التي تتحصّل بها أن فيها ما يلي: (1) إبراز الكلام في مَعْرض الاعتدال الذي يدلُّ عليه الإِيجازُ بالإِبْهام، والإِطنابُ بالإِيضاح، فتكون المحصّلة اعتدالاً. (2) إيهَام الْجَمْعِ بين المتنافِيَيْنِ، هما الإِيجاز والإِطناب، إذ الجمع بين المتنافِيَيْن من الأُمور الغريبة المستطرفة المثيرةِ للإِعجاب. ومن فوائد "الإِيضاح بعد الإِبْهام" الداعيةِ للإِطناب به ما يلي: (1) تقديم المعنى الواحد في صورتين مختلفتين إحداهما مبهمة والأخرى موضَّحة، كما تُقَدَّم الحسناءُ في كِلَّةٍ أوَّلاً، وبَعْدَ ذَلِكَ تُعْرَضُ مَجْلُوَّةً إذْ تُرْفَعُ الكِلَّةُ عن وَجْهِها ورَأْسِها ومواطِنِ زينتها، فتنجلي للأعين محاسِنُها. (2) تمكين المعنى في نَفْسِ الْمُتَلَقِّي تمكيناً زائداً، لوقوعه بعد استشراف النفس إليه بالإِبْهام. (3) تكميل لذّة العلم به، إذْ بدأتْ ناقصةً بالإِبْهام، وكَمُلَتْ بالإِيضاح، فالشيء إذا علم ناقصاً تشوّقت النفس إلى العلم به كاملاً، وحصل لديها ظمأ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 لمعرفته، فإذا استكملت النفس معرفته كانت لذّتها أشدّ من حصول العلم به دفعة واحدة. * ومن هذه الطريقة ما يُسَمَّى "التوْشِيعُ". وهو أن يُؤْتَى في عَجُزِ الكلام بمثنَّىً مُفَسَّرٍ باسْمَيْنِ، ثَانيهما معطوفٌ على الأوَّل مِنْهما، كقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما روى البخاري ومسلم عن أنس قال: قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَشِبٌّ مِنْهُ اثْنَانِ: الحرصُ على المال، والحرصُ عَلَى الْعُمْرِ". وأيضاً عن أبي هريرة: "لاَ يَزَالُ قَلْبُ الكَبِيرِ شَابّاً فِي اثْنَتيْن: في حُبِّ الدّنْيا، وطُولِ الأَمَلَ". ومن التوشيع قول الشاعر: وَلاَ يُقِيمُ عَلَى ضَيْمٍ يُرَادُ بِهِ ... إِلاَّ الأَذَلاَّنِ: عَيْرُ الْحَيِّ والْوَتِدُ ومن التوشيع أيضاً قول الشاعر: سَقَتْنِيَ فِي لَيْلٍ شَبِيهٍ بِشَعْرِهَا ... شَبِيهَةَ خَدَّيْها بِغَيْرِ رَقيب فَمَا زِلْتُ فِي لَيْلَيْنِ: شَعْرٍ وظُلْمَةٍ ... وَشَمْسَيْنِ: مِنْ خَمْرٍ وَوَجْهِ حَبِيبِ ومن هذه الطريقة "التفصيل بعد الإِجمال" مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113/ نزول) : {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ الله يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [الآية: 36] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 فعبارة: "مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ" تفصيل بعد إجمال. * ومنها "الإِجمالُ بَعْدَ التفصيل" مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدي فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام ... } [الآية: 196] . جاءت في هذه الآية عبارة: "تِلْكَ عشَرَةٌ كامِلَةٌ" إجمالاً بَعْدَ تفصيل، لرفْع توهُّم أن "الواو" في عبارة "وسَبْعَةٍ إذا رَجَعْتُمْ" هي بمعنى "أو" فتكون الثلاثة داخلة في السبعة، فجاء ذكر الأيّام كلّها مجملةً بعبارة "تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَة". ومثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) : {وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ... } [الآية: 142] . جاءت في هذه الآية عبارة: "فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً" إجمالاً بعد تفصيلٍ لرفع توهُّم أن عبارة: "وأتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ" تَعْنِي كَوْنَ "ثَلاَثِينَ لَيْلَةً" كانَتْ عشرين أُتِمَّتْ بعشرٍ فصارت ثلاثين، فدُفعَ هَذا التوهُّمِ بالإِجمال اللاّحق. وذكروا من أمثلة الإِيضاح بعد الإِبهام ما يلي: (1) قول الله عزّ وجلّ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الآيات: 1 - 4] . قالوا: كان يكفي أن يقول: أَلَمْ نَشْرَحْ صَدْرك. ووَضَعْنا وزْرَكَ الذي أنقض ظهرك ورَفَعْنَا ذِكْركَ، لكن إضافة "لَكَ" في موضعَيْن و"عَنْكَ" في موضِعٍ، تُفيد الإِبهام أوّلاً فتَسْتَشْرِفُ النفس للإِيضاح، وتَتَشوَّقُ للتفسير، وبعبارات: "صَدْرَك - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 وِزْرَكَ - ذِكْرَكَ" يرتَفعُ الإِبهام ويرتوي ضمأ النفس للمعرفة الذي أثاره التشويق، مع ما في "لَكَ" و"عَنْكَ" من تأكيد وتمكين، لأنّ المقام مقام امتنانٍ سبَقَتْ دواعيه. ونظيره قول موسى عليه السلام الذي جاءت حكايتُه بقول اللَّهِ عزَّ وجلّ في سورة (طه/ 20 مصحف/ 45 نزول) : {اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى * قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لي أَمْرِي} [24 - 26] . *** الطريقة الثانية: "ذِكْرُ الْخاصِّ بَعْدَ الْعَامّ" ونظيره "ذِكْرُ الْعَامّ بعد الخاصّ". المراد بالعامّ هنا ما كان شاملاً في معناه لمقابله، لا العام والخاص في مصطلح علم أصول الفقه. وفائدة ذكر الخاصّ بعد العامّ التنبيه على فضله، حتَّى كأنّه ليْسَ من جنس العامّ أو نوعه، تنزيلاً للتغاير في الوصف منزلة التغايرُ في الذّات. وفائدة ذكر العامّ بعد الخاصّ التعميم، وجاء إفراد الخاصّ بالذكر اهتماماً بشأنه، مع ما في إدْخاله ضمن العامّ من تأكيد وتكرير ضمناً. الأمثلة: المثال الأول: قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ} [الآية: 238] . نلاحظ أنّ الصَّلاة الوسْطى - وهي في أظهر الأقوال صلاةُ الْعَصْر - داخلةٌ في عموم لفظ "لصَّلَوات" لكن خُصَّتْ بالذكْر وعُطِفَتْ على عموم الصلوات اهتماماً بشأنها، وتوجيهاً لتخصيصها بعناية فائقة خاصّة، وهذه فائدة الإِطناب بذكرها، إذْ هي داخلةٌ في عموم لفظ "الصّلوات" الوارد قبلها في النص. هذا المثال من عطف الخاص على العام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 المثال الثاني: قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة) أيضاً: {مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} [الآية: 98] . إنّ جبريل وميكائيل عليهما السلام داخلان في عموم الملائكة ولكنْ خُصَّ جبريل بالذكر تحذيراً لليهود من معاداتهم له، وضُمَّ إليه ميكائيل لقيامه بوظيفة أرزاق العباد التي بها حياة الأجساد، مقابل قيام جبريل بوظيفة الوحي الذي به حياة القلوب والنفوس. هذا المثال من عطف الخاصّ على العامّ أيضاً. المثال الثالث: قول الله عزّ وجلّ في سورة (نوح/ 71 مصحف/ 71 نزول) حكاية لدعاء نوح عليه السلام: {رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً} [الآية: 28] . تباراً: أي: هلاكاً. لقد خَصَّ نوح عليه السلام نفسه بطلب المغفرة من ربّه، وأتْبَعَهُ بطلب المغفرة لوالديه، وأَتْبع ذلك بطلب المغفرة لكلِّ مَنْ دَخَلَ بَيْتَهُ مُؤْمِناً، فَعَمَّم، ومعلومٌ أنَّه ممَّنْ دَخلَ بيتَهُ مُؤْمِناً فأدْخَلَ نفسه في العموم، وأخيراً قال: "وللمؤمنين والمؤمِنَات" ومعلوم أنَّ من دَعَا لهم سابقاً يَدْخلون في عموم المؤمنين أو في عموم المؤمنات، فكأنّه شمَلَهم بالدّعاء الأخير، فأفاد هذا التعميم بعد التخصيص تأكيد الدعاء وتكريره لمن ذُكِرُوا سابقاً. هذا المثال من ذكر العام بعد الخاصّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 المثال الرابع: قول الله عزّ وجلّ في سورة (التحريم/ 66 مصحف/ 107 نزول) خطاباً لاثنتين من زوجات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِن تَتُوبَآ إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [الآية: 4] . فذكرَ جبريل أوّلاً على سبيل الخصوص وبعد ذلك ذكر عموم الملائكة ومعلومٌ أنَّ جبريل عليه السلام يدخل في عموم الملائكة، لكن جاء إفراد جبريل بالذكر أوّلاً اهتماماً بشأنه، وتعظيماً لمقامه، وإشادة بمكانته عند الله. *** الطريقة الثالثة: "التكرير" لدَاعٍ بلاغي، كقول عنْتَرة بين شدّاد في بعض روايات معلقته: يَدْعُونَ عَنْتَرَ وَالرِّمَاحُ كَأَنَّها ... أَشْطَانُ بِئْرٍ فِي لَبَانِ الأَدْهَمِ يَدْعُون عَنْتَرَ والسُّيُوفُ كَأنَّهَا ... لَمْعُ الْبَوَارِقِ في سَحَابٍ مُظْلِمِ أَشْطَانُ بِئر: أي: حِبَالُهُ الّتي تُعلِّقُ بها الدِّلاَء. في لَبَانِ الأَدْهَمِ: أي: في صَدْرِ الْفَرَسِ الأدْهم. فكرّر عبارة "يَدْعون عَنْتَرَ" في البيتين إذْ قَصَد الافتخار بشجاعته، وبطلب الفرسان له في أحرج مواقف القتال. والدواعي البلاغي للتكرير متعدّدة، فمنها ما يلي: (1) تمكين المعنى وتأكيده في نفس المتلقِّي، وزيادة التنبيه على ما ينفي التهمة إذا كان البيان يقتضي ذلك. (2) التلذّذ بتكرير عبارات الفخر والإِشادة بالمآثر الحميدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 (3) التنفيس عن النفس بعبارات التحسّر والندم أو الحزن، أو الفرح. (4) طول الفاصِل في الكلام الذي تدعو الحاجة معه إلى التنبيه بالتكرير. (5) المدح أو الذمّ أو الشتيمة. (6) التنبيه على تعدُّد المقتضي لذكر العبارة المكرّرة. (7) جعل العبارة المكررة فاصلةً في الكلام ذاتَ تأثير فَنِّي جماليّ بديع مستطرف، كأنّها أعلام ترفرف على مفاصيل السّور، أو لوحة مكرَّرة على مقاطع من الطريق. مع ما فيها من معنىً قد يحتاج تكريراً لتثبيته، أو استثارةِ دافع من دوافع النفس به، أو تهييج عاطفة، كالكليّات العامّة، وكالمعاني التي فيها ترغيب أو ترهيب، أو تحذير أو إنذار، أو تشويقٌ، أو تنديمٌ أو تحْسير، أو نحو ذلك. (8) أنْ يكون المكرّر متعلّقاً في الذكر الثاني بغير ما تعلَّقَ به في الذكر الأول، ويسمَّى هذا "ترديداً" ويكثر فيه الداعي الجمالي الفنيّ. (9) التعظيم والتهويل. إلى غير ذلك من دواعي بلاغيّة. أمثلة: المثال الأول: قول الله عزّ وجلّ في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول) : {الله نُورُ السماوات والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِي زُجَاجَةٍ الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ... } [الآية: 35] . جاء في هذه الآية تكريرُ "المصباح" مرَّتَيْن، وتكرير "الزُّجَاجة" مرتَيْن إلاَّ أنّ المكرّر متعلّق في الذكر الثاني بغير ما تعلّق به في الذّكر الأول، فهو ممّا يسمَّى "تَرديداً" ولا يخفى ما في هذا لترديد في الآية من جمالٍ فنِّي بديع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 المثال الثاني: جاء في سورة (الرحمن/ 55 مصحف/ 97 نزول) تكرير عبارة: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الآية: 13] . إحدى وثلاثين مرّة خطاباً للإِنْسِ والجنّ المخلوقين للامتحان في ظروف الحياة الدنيا. فبأَيّ آلاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبان: أي فبأيّ نِعَمِ رَبّكُمَا عَلَيْكُما تُكذِّبان. إنّ نِعَمَ الله على العباد لا يستطيع العباد إحصاءها، ومع كلّ فقرة من فقرات حياتهم بتتابع السّاعات والأوقات تمرُّ على كلِّ فَرْدٍ منْهُمْ نِعَمٌ كثيرة وجليلة، وانصرافه الدائم إلى الاستمتاع بها دون ملاحظة خالقها والمتفضِّل على عباده بها يحتاجُ تذكيراً بها، ليقوم بحقّ اللَّهِ عليه في مقابلها، بالإِيمان والطاعة والْحَمْدِ والشّكر. ففي هذا التكرير عقب ذكْرِ كُلِّ فقرة من فقرات آيات صفاتِ الله في كونه، المشتملة على بعض نِعَمِه، أو الإِنْذار، بعقابه وعذابه، تنبيهٌ على حاجة العبد المبتَلَى أن يَذْكُرَ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ دَواماً عند كلِّ فقرة من فقرات حياته، ومَوْجَةٍ من موجات نهرها الجاري، لئلاَّ تَجُرَّهُ الغفلات إلى النسيان، فالمعصية، فاجتيال الشياطين لفِكْرِه ونَفْسِه وعَواطِفه، ودفعه إلى السُّبُلِ المزلقة إلى الشقاء، فالعذاب، فنار جهنّم. فجُعِلَتْ هذه العبارة فاصلة في السّورة، وهذه الفاصلة ذات تأثير فَنِّيّ جماليّ مستطرف، مع ما تشتمل عليه من معنىً يدلُّ على حاجَةِ العباد إلى ذكر نعم الله عليهم مع كلّ موجةٍ من موجات نَهَرِ حياتهم، سواءٌ أكانت ممّا يحبّون أو ممّا يكرهون، ممّا يَطْمَعُون فيه أو ممّا يحذرون منه. المثال الثالث: جاء في سورة (المرسلات/ 77 مصحف/ 33 نزول) تكرير عبارة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} [الآية: 15] . تسْعَ مرّات، إنْذاراً للمكذبين بيوم الدّين، وترهيباً من عذاب جهنم الذي سيلاقونه، إذا أصَرُّوا على كفرهم وتكذيبهم وماتوا على ذلك دون توبة. ومع أنّ كلّ مرّة قد جاءت عقب توجيه إقناع بقانون الجزاء الرَّبّاني، أو إخبارٍ ببعض الأحداث التي تكون قبل يوم القيامة، أو تقديم لقَطَاتٍ من مشاهد الحساب، أو مشاهد الجزاء بالعقاب أو بالثواب، أو تحريكِ سَوْطٍ تهديدي بما سينزل بهم من عذاب أليم، فإنّ تكريرها قد جاء بمثابة فاصلةٍ ذات إيقاعٍ، فهي تُعادُ وتكرّر في السّورة بفنّيّة بديعة، ومضمونُها ممّا يستدعي حال المكذبين تكريره، إذْ فيها تَهْدِيدٌ ووَعيد، وفيهم مكابرةٌ وإصرار على الكُفْرِ عنيد، هم يكرّرون إصرارهم، والعبارة تكرّر تهدْيدِهم بالويل. الويل: كلمة عذاب، فيها معنى الوعيد بحلول عقاب الله، وورد أنّ كلمة "ويل" اسْمٌ علم على وادٍ في جهنم. المثال الرابع: جاء في سورة (القمر/ 54 مصحف/ 37 نزول) تكرير عبارة: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [الآية: 17] . أرْبَع مرَّات، لأنها تضمّنَت حثّاً على تَلَقّي القرآن وتدَبّره وتذكّره، فمضمونها يحمل معنًى كلّياً من كُلّيّاتِ التكاليف الدينيّة التي تتطلَّبُ طبائع النفوس تكريرها، لكثرة شرودها عنها، ورغبتها في التفلّتِ من واجباتها. واختيرت أن تكون هذه العبارة بمثابة فاصلة ذاتِ جمالٍ فنِّي تُتْلَى بَيْنَ فِقَراتٍ من السّورة، فجاءت عقب ذِكْرِ موجز قصة إهلاك قومِ نوح عليه السلام، وعقب ذكر موجز قصة إهلاك عاد قوم هود عليه السلام، وعقب ذكر موجز قصّة إهلاك ثمود قوم صالح عليه السلام، وعقب ذكر موجز قصة إهلاك قوم لوط عليه السلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 وفي تكريرها عقب عرض موجز كلّ قصة من قصص هؤلاء الأقوام إشارةٌ إلى أنَّهم لو تلَقَّوْا ما أنْزِلَ إليهم من ربّهم عن طريق رسُلهم، وتدبّروه، وَوَضَعُوه في ذاكراتهم، وادَّكَرُوه حيناً فحيناً ما عرّضوا أنفسهم للهلاك الشامل المعجّل في الدنيا، وللعذاب الخالد المؤجّل إلى يوم الدّين. فمن تنبّه إلى هذه الإِشارة من أمّة رسالة محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتّعظ بأحوال الأمم السابقة، فاشتغل بحفظ القرآن الميسّر للذّكر، واشتغل بتدبّر معانيه، وادّكَرَ آياتِهِ حيناً فحيناً عند كلّ مناسبة داعية. المثال الخامس: جاء في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) تكرير عبارة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} [الآيات: 8 - 9] . ثمانِيَ مرّاتِ، أُولاَهَا جاءَتْ عَقِب بيان تكذيب الذين كذّبوا محمّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبما جاء به عن ربّه، ثم جاءت كلُّ مرَّةٍ من المرّات الباقيات عقب عرض قصَّةٍ من قِصَصِ المكذّبين الأولين، فكان لكل مرّةٍ منها داعيتها من القصّة التي جاءت قبلها، فإذْ تعَدَّدَ المقتضي حَسُنَ إعادة ذكر العبارة نفسها. المثال السادس: كان "عَمْرو بْنُ هِنْدِ" ملكاً في الحيرَة من ملوك العرب، وكان جبّاراً عنيداً، لا يَرَى في الناس من يُدانيه في الشرف والمنزلة، فأراد أنْ يستذلّ الشاعر "عمرو بن كُلثوم" باتّخاذ أُمِّه وصيفةً لأمّه، فثارت الحميّة في قلب عمرو بن كلثوم، فسَلَّ سيفه وضرب الملك فقتله، وقَرَضَ مُعَلَّقته التي جاءت فيها: بِأَيِّ مَشِيئَةٍ عَمْروَ بْنَ هِنْدِ ... نَكُونُ لِقَيْلِكُمْ فِيهَا قَطِينَا بِأَيِّ مَشِيئةٍ عَمْروَ بْنَ هِنْدٍ ... تُطِيعُ بِنَا الوُشَاةَ وتَزْدَرينَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 فكرّرَ عبارته: "بأَيِّ مَشيئَةٍ عَمْرَو بْنَ هِنْدٍ" لأنّه في مقامٍ الْفَخْر وإباء الضَّيْم، وبيان عُذْرِه في قتل الملك إذْ أراد الملك إِذْلاله وإهانته. لِقَيْلِكُم: الْقَيْل: هو الملك دون الملك الأعظم. قَطِينا: أي: خَدَماً. ويمكن القياس على هذه الأمثلة مع ملاحظة الداعي البلاغي في كُلٍّ مِنها. ملاحظة: توجد تعبيرات يُظَنُّ أنّها من التكرير، ولدى البحث والتدبر والتحرير، يظهر أنها ليست من التكرير، فعلى دارس النصوص ومتدبّرها أن يُمْعِن فيها النظر طويلاً حتَّى لا يُعْطِيَ النّصّ حكْماً ليس هو له. فمن ذلك ما جاء في سورة (الكافرون) ومنها ما يكون المقصود فيه مختلفاً في الألفاظ المكرّرة، اختلاف أمكنة، أو اختلاف أزمان، أو اختلاف أنواع أو أصناف أو أفراد، إلى غير ذلك. *** الطريقة الرابعة: "الإِيغال". الإِيغال في اللّغة: الإِمعان في التعمّق والمبالغة في الابتعاد، يقال لغة: أوْغَلَ في البلاد، إذا ذهب فيها وبالَغَ وأبعد. وأوْغَلَ في السَّيْرِ إذا أسْرَع فيه وابتعد. والإِيغال عند البلاغيين: هو إضافة أخيرة تأتي في الكلام بعد انتهاء المقصود منه، لكنَّها ذَاتُ فائدة ما، والدّاعي لها قد يكون الاحتياج إلى القافية في الشعر، أو إلى تناظر الفقرات في النثر، أو استغلال حالة طارئة عرضت للمتكلم، أو غَيْرَ ذلك. * سئل الأصمعي: مَنْ أشعر الناس؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 فقال: مَنْ ينقضي كلامُه قبل انقضاء القافية، فإذا احتاج إلَيْهَا أفادَ بها مَعْنىً. قيل: نحوُ مَنْ؟ قال: ذو الرّمّة حيث يقول: قِفِ الْعِيسَ في أَطْلاَلِ مَيَّةَ فَاسْأَلِ ... رُسُوماً كَأَخْلاَقِ الرِّدَاءِ الْمُسَلْسَلِ فَتَمَّ كلامُهُ بالرّداء، ثم قالَ: "الْمُسَلْسَل" فزاد به شيئاً، ثم قالَ: أظُنُّ الّذِي يُجْدِي عَلَيْكَ سُؤَالُهَا ... دُمُوعاً كتَبْذِيرِ الْجُمَانِ الْمُفَصَّلِ فَتَمَّ كلامُهُ بالجمان، ثم قال: "المفصّل" فزاد شيئاً. قيل: ونَحْوُ مَنْ؟ قال: الأعشى إذْ يقول: كَنَاطِحٍ صَخْرَةً يَوْماً لِيَفْلِقَهَا ... فَلَمْ يَضِرْهَا وَأَوْهَى قَرْنَهُ الْوَعِلُ فَتَمَّ كَلاَمُهُ بِيَضِرْها، فلمّا احتاج إلى القافية قال: وأوهَى قرنَه الْوَعِلُ، فزاد معنىً. قال السائل: وكيف صار الْوَعِلُ مفضَّلاً على كلِّ ما ينْطَح؟ قال: لأنّه ينحطُّ من قُلّةِ الجبل على قَرْنَيْه فلا يضرُّه. * ومن الإِيغال قول الخنساء في رثاء أخيها "صَخْر". وَإِنّ صَخْراً لتأتَمُّ الْهُدَاةُ به ... كَأنَّهُ عَلَمٌ في رأْسِهِ نارُ لقد تمّ المقصود بقولها: "كأنّه علم" ولمّا احتاجت إلى القافية أضافة خاتمة مفيدة ذات حُسْن فقالت: "في رأْسِهِ نارُ" فبالغت في بيان أنّه رجلٌ تَأْتَمُّ بِهِ الْهُداة. * ومنه قول امرئ القيس: كأَنَّ عُيُونَ الْوَحْشِ حَوْلَ خِبَائِنَا ... وأَرْحُلِنَا الْجَزْعُ الّذِي لَمْ يُثَقَّبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 الْجَزْع: خرز يماني فيه سواد وبياض، يشبّه به عُيُون الوحش، قال الأصمعي: الظبيُ، والبقرة إذا كانا حيَّيْنِ فعُيُونُهما كلُّها سُود، فإذا مَاتَا بدا بياضها. وقد شبَّهَها امرؤ القيس بالْجَزْعِ، لأنّها عُيُونُ ما صَادَ من الوحش، وحَقَّق بزيادته، التَّشْبِيهَ الذي أراده. * ومنه قول زهير بن أبي سُلْمَى: كَأَنَّ فُتَاةَ الْعِهْنِ في كُلِّ مَنْزِلٍ ... نَزَلْنَ بِهِ حَبُّ الْفَنَا لَمْ يُحَطَّمِ الْعِهْن: الصّوف المصبوغ ألواناً. الفنا: عِنَبُ الثعلب، نبات له ثمر بعناقيد صغار الحبّ، كحبّ العنب، إذا نضج احمرّ، أو كان مختلط الألوان حمرة وخضرة، وباطن هذا الحبّ أبيض. لقد تمّ كلامه بقوله "حبُّ الفنا" ولمّا احتاج إلى القافية قال: "لم يُحطَّم" فجاء بزيادة إيغالية مفيدة، قيَّد بِهَا المشبّه به محافظةً على سلامةِ تشبيهه. * ومنه ما كان هارون الرشيد يُعْجَبُ به، وهو قول "مسلم بن الوليد": إذَا مَا عَلَتْ مِنَّا ذُؤَابَةُ شَارِبٍ ... تَمَشَّتْ بِهِ مَشْيَ الْمُقَيَّدِ فِي الْوَحْلِ ذُؤَابَةُ: الذُّؤابَةُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَعْلاَهُ. شارب: الشارب الشعر الذي ينبت على الشفة العليا. أي: إذا عَلَتْ ذُؤابَةُ شَارِب الناشئ من قومِنا جعلته يمشي متبختراً متثاقلاً افتخاراً بمجد قومه. وكان الرشيد يقول: قاتله الله، أمَا كفاه أن يجعله مقيداً حتى جعله في وحْل. فعبارة "في الوحل" إيغال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 * وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول) : {وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ يسعى قَالَ ياقوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} [الآية: 20 - 21] . لقد تَمَّ المعنى المقصود ببيَانِ أَنَّهُمْ مُرْسَلُونَ يَدْعُونَ إلى الحق، ولا يسألون الناس أجراً فليس لهم مصلحة لدى من يدعونهم إلى دين الله، وبعد ذلك جاءت جملة: {وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} إيغالاً، فكَوْن هؤلاء المرسلين مهتدين، أي: يسلكون في أعمالهم وأخلاقهم وكلّ تصرّفاتهم سبيل الهداية، دليلٌ على صدقهم، وهذا يدعو إلى اتِّباعهم وعدم رفض دعوتهم. * وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) خطاباً لرسوله ويُلْحَقُ به كُلُّ داعٍ إلى الله من بَعْده: {فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّكَ عَلَى الحق المبين * إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعآء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ * وَمَآ أَنتَ بِهَادِي العمي عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ} [الآيات: 79 - 81] . إنّ عبارة {إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ} جاءت إيغالاً لتأكيد كون الصُّمّ لاَ يَسْمَعُونَ الدُّعاء. وفائدة هذا الإِيغال الإِشارةُ إلَى أنَّ الأصَمَّ إذا كان مُواجِهاً لمن يدعوه، كان قادراً على إدْراك أنّه يدعوه، من تحريك فمه وحركات جسده عند التكلّم، لكنه إذا كان مُدْبراً مبتعداً لم يَسْمَعْ صوتاً ولم يُدْرِكْ حركةً دالَّةً عليه. وفيه هنا أيضاً مُراعَاةُ كوْنِ المتحدّث عَنْهم صُمّاً صَمَماً معنوياً بكُفْرِهِمْ وعَدَم إيمانهم، وهؤلاء قد يسمعون بعض سماعٍ دُونَ أَنْ يُؤثّر فيهم حالةَ المواجهة، فإذا وَلَّوْا مُدْبِرين لم يَسْمَعُوا شيئاً، فأفاد هذا الإِيغال معانيَ نفيسة. * وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الذاريات/ 51 مصحف/ 67 نزول) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 {وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الآيات: 22 - 23] . إنّ عبارة: {مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} جاءت إيغالاً بَدِيعاً بعد انتهاء المعنى المقصود، إذ شبَّهَ ضَمَانَ الرزق للعباد الذي يحرّكون أفواههم عليه في طعامهم، بقدرتهم على النطق حينما ينطقون، أي: كما أقدركم الله على إخراج نطقكم من أفواهكم أقدركم على كسب أرزاقكم وإدخالها إلى بطونكم عن طريق أفواهكم. *** الطريقة الخامسة: "الاعتراض". الاعتراض في اللّغة: الدّخول بين الشَّيْئَيْن حتى يكون الداخل المعترضُ فاصلاً بينهما، ويُسَّمى "عَارِضاً" أي: حائلاً ومانعاً بينهما، ومنه أُخِذ الاعتراض في البلاغة والنحو. الاعتراض اصطلاحاً: أنْ يُؤتَى في أثْنَاءِ الكلام أو بين كلاَميْن متَّصِلَيْن في معناهما بجملة أو أكثر لا محلّ لها من الإِعراب لنكتة بلاغيّة سِوَى دفع الإِيهام. فإذا كان لدفع الإِيهام فهو من طريقة (الاحتراس = التكميل) الآتي بيانُها إن شاء الله. ويؤتي بالاعتراض لدواعي بلاغية منها ما يلي: (1) التنزيه والتعظيم. (2) الدّعاء. (3) التنبيه على أمْر، وكذلك الإِشارة إلى أنّ ما وقع به الاعتراض قد حصل مضمونه خلال الزمن الفاصل بين الكلامين المتّصلَيْن. (4) التبرُّك. (5) التقرير في نفس السامع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 (6) التصريح بما هو المقصود. (7) الاستعطاف. (8) انتهاز الفرصة المواتية، والمبادرة لبيان أمْرٍ ذي أهميّة. إلى غير ذلك. ووجه حُسْن الاعتراض اهْتِبَالُ الْفُرْصَةِ المواتية للإِفادة والبيان، أو التعبير عمّا في النفس، مع مجيئه مجيء غير المترقّب، فيكونُ كالشيء السّارّ الذي يأتي الإِنسانَ من حيْثُ لا يحتسب. ولحسنه جاء في أرفع الكلام إعجازاً، وجاء في أقوال الفصحاء والبلغاء. أمثلة: المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول) : {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} [الآية: 57] . عبارة: "سبحانه" جملة اعتراضية بين كلامين متصلين في معناهما، للمبادرة إلى تنزيه الله عن أن يكون له بنات، والتشنيع على من جعلَهُنّ له بتصوّرهم الفاسد، وأقوالهم الكاذبة. المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الفتح/ 48 مصحف/ 111 نزول) : {لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرءيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ ... } [الآية: 27] . عبارة: {إنْ شاء الله} جملة اعتراضيّة في أثناء كلام مُتَّصلٍ في معناه، للمبَادرة إلى تعليم المؤمنين أن يقولُوا في كلّ ما يرجون وقوعه أو يريدون إيقاعه مستقبلاً. "إنْ شاء الله" وتعليمهم كيف يكون إدْخال هذا التعليق على مشيئة الله في كلامهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين * نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ واتقوا الله واعلموا أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ المؤمنين} [الآيات: 222 - 223] . إنّ عبارة: {إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين} عبارَةٌ اعتراضيَّة، بين كلامَيْنِ مُتّصلَيْنِ في معناهما، فقوله تعالى: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} متّصل بقوله: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} وجاءت العبارة الاعتراضيّة للمبادرة إلى الحثّ على الطهارة واجتناب الأدْبار والتّوبَةِ من إثْمِ إتيانها الذي ربّما كان يفعله بعض الأزواج قبل البيان القرآني. المثال الرابع: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) ضمن عرض قصّة إغراق قوم نوح عليه السلام: {وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي وَغِيضَ المآء وَقُضِيَ الأمر واستوت عَلَى الجودي وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين} [الآية: 44] . جاءت في هذه الآية ثلاث جُمَلٍ اعتراضيّة بين كلامَيْنِ مُتَّصِلَيْن في معناهما، وهي: "وغِيضَ الماءُ وقُضِيَ الأَمْرُ واسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِي". هذا الاعتراض بهذه الجمل الثلاث أفاد أنَّ مضمونها قد حَصَل بين زمَنَي القولَيْنِ المتّصلَيْنِ في معناهما: [وَقيل ... -وقيل ... ] . ويلاحظ أنّ جملة: {وَقُضِيَ الأمر} اعتراضٌ في اعتراض، إذ الجملتان: {وَغِيضَ المآء} و {واستوت عَلَى الجودي} متصلتان في معناهما، وجاءت {وَقُضِيَ الأمر} معترضة بينهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 المثال الخامس: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الواقعة/ 56 مصحف/ 46 نزول) : {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الآيات: 75 - 77] . في هذا اعتراض بين القسم وجوابه بقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ - لَّوْ تَعْلَمُونَ - عَظِيمٌ} للتنبيه على عظم هذا القسم مع الفرصة المواتية. واعتراضٌ في داخل الجملة المعترضة بين خبر "إنّ" وصفته، بجملة {لَّوْ تَعْلَمُونَ} للتنبيه على أنّ المخاطبين يجهلون عظمة مواقع النجوم. المثال السادس: قول العباس بن الأحْنف: إِنْ تَمَّ ذَا الْهَجْرُ - يَا ظَلُومُ وَلاَ تَمَّ - ... فَمَالِي فِي الْعَيْشَ مِنْ أَرَبِ ظَلُوم: اسْمُ صاحبته. والأرب: الحاجة. في هذا البيت اعتراض بين الشرط وجوابه بنداءِ مَنْ يُحِبّ والمبادرة إلى الدعاء بأنْ لاَ يتمَّ مضمونُ الشرط، والداعي له المبادرة إلى استعطاف "ظلوم" التي يُحِبُّها، وسؤال الله أن لا يَتِمّ هجرها له، والدافع له في نفسه رغبته في وصلها وخوفه من هجرها. المثال السابع: قول عوف بن ملحم الشيباني يشكو كِبَرَهُ وضعفه: إِنَّ الثَّمَانِينَ - وَبُلِّغْتَها - ... قَدْ أَحْوَجَتْ سَمْعِي إلَى تُرْجُمانٍ فجملة: "وَبُلِّغْتَها" جملةٌ اعتراضيةٌ دُعَائية، استغلت فيها المناسبة استغلالاً حسناً ليدعو لمن يخاطبه بطول العمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 المثال الثامن: قول أبي الطيّب المتنبّي: وَخُفُوقُ قَلْبٍ لَوْ رَأَيْتِ لَهِيبَهُ ... -يَا جَنَّتِي- لَرَأيْتِ فِيهِ جَهَنَّما قوله: "يا جَنَّتِي" جملة معترضة، والداعي لها الاستعطاف، واستغلال المناسبة ليُجْرِيَ مطابقة بين الجنة وجهنّم. المثال التاسع: قول ابن ميّادة: فَلاَ هَجْرُهُ يَبْدُو - وفي اليأسِ راحَةٌ - ... وَلاَ وَصْلُهُ يَبْدُو لَنَا فَنُكارِمهْ قولُهُ: "وفي اليأْسِ رَاحَةٌ" جملةٌ اعتراضيّة جاءت تعليلاً لأمر من المستغرب أن يكون مطلوباً، وهو إبرامُ الهجر وعدم التردد فيه، إذ المحبُّون لا يطلبونه عادة، فبادر لبيان السبب فجاء بالجملة الاعتراضية، وهي مبادرة حسنة. *** الطريقة السادسة: "الاحتراس = التكميل". الاحتراس: أو التكميل: اسمان أُطْلِقا على مسمَّى واحد، هو زيادة إطنابيّةٌ في الكلام يَدْفَع بها المتكلّم إيهاماً اشتمل عليه كلامه. ويكون هذا الاحتراس حينما يأتي المتكلم بكلام يوهم خلاف ما يُريد، ويأتي بَعْدَه بكلامٍ يدفع به ذلك الإِيهام، ومثل هذا يُوجَد في أرفع الكلم لتحقيق غرضٍ بلاغي، وقد يوجد في كلام أهل الخطب الارتجالية على سبيل التدارك لما جاء في كلامهم ففطنوا إليه فاحترسوا تكميلاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 أمثلة: المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ لموسى عليه السلام كما جاء في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) : {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء فِي تِسْعِ آيَاتٍ إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} [الآية: 12] . إنّ عبارة: {تَخْرُجْ بَيْضَآءَ} قَدْ تُوِهمُ أَنَّ بَيَاضَهَا رُبَّمَا كَانَ عَنْ بَرَصٍ، فجاءَت عبارة: {مِنْ غَيْرِ سواء} تَكْمِيلاً احْتراسِيّاً لدَفْعِ هذا الإِيهام. المثال الثاني: قول طرفة بن الْعَبْد من قصيدة يمدح بها قتادة بن مسلمة الحنفي، على ما كان منه تجاه قومه، إذْ بذل لهم في سنةٍ أصابتهم: فَسَقى دِيَارَكَ - غَيْرَ مُفْسِدِها - ... صَوْبُ الرَّبِيعِ وَدِيمَةٌ تَهْمِي الصّوب: المطر بقدر ما ينفع ولا يؤذي. الدّيمة: المطر يدوم زمانهُ في سكون. تَهْمِي: تسيل. قوله: {غَيْرَ مُفْسِدِها} تكميل احتراسي، لأنّ سُقْيا الدّيار بمطر كثير قَدْ يفسدها، فدَفع هذا الإِيهام بالاحتراس الذي جاء به. المثال الثالث: قول كعب بن سَعْد الغنوي: حَلِيمٌ إِذَا ما الْحِلْمُ زَيَّنَ أَهْلَهُ ... مَعَ الْحِلْمِ في عَيْنِ الْعَدُوِّ مَهِيبُ في هذا البيت احتراسان كمّل بهما الشاعر كلامه: فقوله: "إذا ما الحليم زيّنَ أهله احترس به لدفع توهم أن يكون حمله عن ضعف، وقوله "في عين العدوّ مهيب" احتراسٌ آخر. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 الطريقة السابعة: "التذييل". التذييل: تعقيب الجملة بجملة أخرى تشتمل على معناها توكيداً لمنطوقها، أو لمفهومها، وينقسم إلى قسمين: القسم الأول: مَا يجري مجرى المثل، وهو ما استقلّ معناه واستغنى عمّا قبله، مثل قول الله تعالى في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول) : {وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً} [الآية: 81] . إنّ جملة {إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً} تتضمّن معنى الجملة التي جاءت قبلها، فهي إطناب على طريقة التذييل، وعبارتها ممّا يجري مجْرى المثل، وهي تُؤكّد منطوق الجملة التي جاءت قبلها. القسم الثاني: مَا لا يجري من التذييل مجرى المثل، وهو ما لا يستقلُّ معناه عمّا قبله، كقول ابن نُبَاتَة السّعْدِي: لَمْ يُبْقِ جُودُكَ لِي شَيْئاً أُأَمِّلُهُ ... تَرَكْتَنِي أَصْحَبُ الدُّنْيا بِلاَ أَمَلِ فالشطر الثاني من هذا البيت تذييل أكّدَ مَفْهوم الشطر الأول، وهو ليس مما يجري مجرى المثل. (1) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) خطاباً لرسوله: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} [الآية: 34] . إنّ جملة {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} تذييلٌ يؤكّد منطوق الجملة التي جاءت قبلها، وهي ممّا يجري مجرى المثل. (2) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (سبأ/ 34 مصحف/ 58 نزول) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور} [الآية: 17] . إنّ جملة {وَهَلْ نُجَازي إلاَّ الكفُور؟} تذييل يؤكّد مفهوم الجملة التي جاءت قبلها، وهي ممّا لا يجري مجرى المثل، إذ المعنى: لا نجزي مثل هذا الجزاء المعجّل بالعقاب المهلك الشامل للقوم إلاَّ من كان كفوراً. (3) قول الحطيئة: نَزُورُ فَتَىً يُعْطِي على الْحَمْدِ مالَهُ ... وَمَنْ يُعْطِ أَثْمَانَ الْمَحَامِدِ يُحْمَدِ الشطر الثاني من هذا البيت تذييلٌ يؤكّد منطوق الشطر الأول منه، وهو مما يَجْري مجرى المثل، فهو تذييل جميل. (4) قول أحد الشعراء لمن أعطاه ومنَّ عليه: أَفْسَدْتَ بِالْمَنِّ مَا أَسْدَيْتَ مِنْ حَسَنٍ ... لَيْسَ الْكرِيمُ إِذَا أَعْطَى بِمَنَّانِ الشطر الثاني من هذا البيت تذييل يؤكّد به الشاعر مفهوم الشطر الأوّل منه، وهذا التذييل مما يجري مجرى المثل، فهو إطنابٌ تَذييليٌّ جميل. (5) قول أبي الطيّب المتنبّي: مَا كُلُّ مَا يتمنَّى الْمَرْءُ يُدْرِكُهُ ... تَجْرِي الرِّيَاحُ بِمَا لاَ تَشْتَهِي السُّفُنُ الشطر الثاني من هذا البيت تذييل أكّدَ به الشاعر منطوق الشطر الأول منه، وقد جرى مثلاً. قال العكبري: وهو من أحسن الكلام. (6) قول زُهَيْر: تَرَاهُ إِذَا مَا جِئْتَهُ مُتَهَلِّلاً ... كَأَنَّكَ تُعْطِيه الّذِى أَنْتَ سَائِلُهُ الشطر الثاني من هذا البيت "تذييل" أكّد به الشاعر منطوق الشطر الأول منه، وهو ليس ممّا يجري مجرى المثل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 (7) قول الشاعر: وَلَقَدْ عَلِمْتُ لَتَأْتِيَنَّ مَنِيَّتِي ... إِنَّ الْمَنَايَا يَا لاَ تَطِيشُ سِهَامُهَا الشطر الثاني من هذا البيت "تذييل" أكّد به الشاعر منطوق الشطر الأول منه، وهو مما يجري مجرى المثل. *** الطريقة الثامنة: "التتميم". التتميم: الإِتيان بفضلة مفيدة في كلام لا يوهم خلاف المراد. يلاحظ أنّ قيد "في كلام لا يوهم خلاف المراد" قد أضيف هنا للتفريق بين التتميم و"الاحتراس= التكميل" الذي سبق بيانه وشرحه. أمثلة: (1) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الإنسان/ 76 مصحف/ 98 نزول) يصف الأبرار. {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً} [الآيات: 8 - 9] . قالوا: عبارة: {على حُبِّهِ} جاءَت تتميماً مفيداً حصلت به المبالغة في أنَّهم حريصون جدّاً على إطعام الطعام على الرغم من حبِّهِمْ له، وتعلُّقِ شَهْوَتِهم به، فالإِطعام في هذه الحالة أبلغ في الدلالة على ابتغاء مرضاة الله، وهو بسبب ذلك أعظم أجراً عند الله. أقول: إنّ عبارة {على حُبِّهِ} قيد لازم لإِدْخال المطعم للطعام في مرتبة الأبرار، وهي فوق مرتبة المتقين الذين يكفيهم أن يطعموا الطعام الواجب عليهم أن يُطْعِموه، ولو كان هذا الطعام غير محبوب لهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 ونظير هذا الْقَيْدِ القيدُ الذي جاء في الآية (177) من سورة (البقرة) فهو قيد لازم حتى يكون من يؤتي المالَ مرتقياً ببذله إلى مرتبة الأبرار، إذ قدّم عملاً هون من أعمال البرّ، فأعمالُ البرّ توسُّعٌ في الخير زائِدٌ على أعمال التقوى. (2) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول) : {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ... } [الآية: 1] . جاءت في هذه الآية كلمة "ليلاً" تتميماً، وذلك لأنّ الإِسراء لا يكون إلاَّ باللَّيْل، وفائدة هذا التتميم الإِشارة إلى قِصَرِ المدّةِ التي حصل فيها الإِسراء ذهاباً وعودة، والإِشارة إلى أنّ لِلّيْلِ خصَائِصَ من نفحاتِ الله وإكراماته التي يفيض بها على بعض عباده. (3) قول "زهير بن أبي سُلْمَى" يمدح "هَرِم بْنَ سِنان". مَنْ يَلْقَ يَوْماً عَلَى عِلاَّتهِ هَرِماً ... يَلْقَ السَّمَاحَةَ مِنْهُ والنَّدَى خُلُقاً عَلى عِلاَّتِهِ: أي: عَلى كُلِّ حَالٍ من أحواله، في انشراحه وانقباضه، وسروره وحُزْنه، ويُسْرِه وعُسْرِه. فقد جاءت عبارة "عَلَى عِلاَّتِهِ" تَتْميماً جميلاً ذا فائدة. (4) قول أحد الشعراء: إِنِّي عَلَى مَا تَرَيْنَ مِنْ كِبَرِي ... أَعْرِفُ مِنْ أَيْنَ تُؤْكَلُ الكَتِفُ فقوله: "على مَا تَرَيْنَ من كبري" كلامٌ لم يدفَعْ به إيهاماً، إلاَّ أَنّه زيادة أفادَتْ فائدة حسنة، فهو "تَتْمِيم" تخلّص به من تُهْمَة تأثير كبر السنّ عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 (5) قول المعرّي: وإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ الأَخِيرَ زَمَانُهُ ... لآَتٍ بمَا لَمْ تَسْتَطِعْهُ الأَوَائِلُ فقوله: "وإِنْ كُنْتُ الأَخير زَمَانُهُ" كلامٌ لم يدفع به إيهاماً، إلاَّ أنَّهُ زيادة أفادت التَّنْبيهَ على أنّ المتأخرين قَدْ يأتُونَ بما لم يأت به الْمُتَقدِّمون، وأنّ مقولَةَ: ما تركَ الأوّل للآخِرِ شيئاً مقُولَةٌ غَيْرُ صحيحة، فهذا القول "تتميم" أشار به إلى ردّ مقولة باطلة: (6) قول المتنبي في صباه يمدح محمّد بن عُبَيْدِ اللَّهِ العلَويّ: لَهُ أَيَادٍ إليَّ سَابِقَةٌ ... أَعُدُّ مِنْهَا وَلاَ أُعَدِّدُهَا أي: له أيادٍ محسناتٌ إليّ، أو سابقةٌ إلي أَعْدُّ بَعْضَها وَلا أستطيعُ أنَّ أُعَدِّدَهَا كُلَّها مُحْصِياً. فعبارة "ولا أُعَدِّدُها" جاءت زائدة على المقصود من القول، ولم تدفع إيهاماً، لكنَّها زيادة مفيدة أشار بها إلى كثرة أيادي ممدوحة، فهو لكثرتها غير قادِرٍ على أنْ يعدّدها محصياً لها، فالعبارة إذن "تتميم" جميل. (7) قول الْحُصَيْن بْنِ الْحُمام: فَلَسْنَا عَلَى الأَعْقَاب تَدْمَى كُلُومُنَا ... وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا تَقْطُر الدَّمَا الشطر الثاني من هذا البيت زائد على المقصود من القول، ولم يدفع إيهاماً، فهو تتميم أكّدَ بِهِ الشاعر أنّه وقومه شجعان يواجهون المقاتلين بصدورهم، ولا يفرّون مُدْبرين، فإذا أصابتهم الكلوم "أي: الجروح" في الحرْب كانت من جهة وجوههم فتتساقط الدماء على أقدامهم، ولم تكن من جهة ظهورهم. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 الطريق التاسعة: "الطرد والعكس". الطرد والعكس: هو أن يُؤْتَى بكلامَيْنِ يُقَرِّرُ كُلُّ مِنْها بمنطُوقه مفهوم الثاني منهما. فهو من الإِطناب ذي الفائدة، وفائدته تأكيد منطوق كلٍّ منهما لمفهوم الآخر. أمثلة: (1) قول الله عزّ وجلّ في سورة (التحريم/ 66 مصحف/ 107 نزول) : {ياأيها الذين آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [الآية: 6] . إنّ جملة: {لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ} تفيدُ بمنطوقها نفي المعصية عنهم وتفيد بمفهومها إثبات الطاعة لهم. وإنَّ جملة: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} تُفيدُ بمنطوقها إثبات الطاعة لهم، وَتفيد بمفهومها نفْيَ المعصية عنهم. (2) قول الله عزّ وجلّ في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول) : {ياأيها الذينءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صلاة الفجر وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم مِّنَ الظهيرة وَمِن بَعْدِ صلاة العشآء ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طوافون عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الأيات والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الآية: 58] . جاء في هذه الآية الأمْرُ بالاسْتئذان في ثلاثة أوقات، وهذا يفيد بمفهومه عدم وجوب الاستئذان في غيرها. وجاء بعد ذلك رَفْعُ الجناح عن الطواف دون استئذان في غير الأوقات الثلاثة، وهذا يفيد بمفهومه وجوب الاستئذان فيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 فكان كلٌّ من القولين مقرّراً بمنطوقه مفهوم الثاني منهما، وهو من التأكيد اللطيف. *** الطريقة العاشرة: "الاستقصاء". الاستقصاء: هو أن يتناول المتكلّم بيانَ معنىً، فيستقصيَهُ من كلّ جوانبه، آتياً بجميع عوارضه، ولوازمه، بعد أن يستقصي جميع أوصافه الذاتية، حتَّى لا يَتْرُكَ لمَنْ يتناولُهُ بعْدَهُ مقالاً إضافيّاً فيه. ومن الأمثلة الرائعة للاستقصاء قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) للتحذير من إبطال أثَر الصّدقاتِ بالمنّ والأذى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات وَأَصَابَهُ الكبر وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فاحترقت كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [الآية: 266] . نلاحظ في هذه الآية اسْتِقْصَاءَ عجيباً. إنّ الاقتصار على لفظ "جنَّة" كان كافياً، لكن لم يأت في الآية الاقتصار عليه، بل جاء في تفسير الجنة أنّها من نخيل وأعناب أشرف الأشجار عند العرب، فكشف الله بهذا البيان أنّ المصاب بإحْرَاق الجنة أشدّ وأعظم من كونها مجرّد جنة عاديّة. وبعده زاد قوله تعالى: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} فصوَّر بهذه الزيادة مبلغ عناية صاحبها بها. وأضاف بعد ذلك وصفها بقوله: {لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات} فأتَى بكلّ ما يكونُ في الجنان، لإِظهار شدّة حزن صاحبها عليها إذا نزل به إعصار فأحرقها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 وقال بعد ذلك في وصف صاحبها: {وَأَصَابَهُ الكبر} والإِنسان حينما تكبر سنّة يشتد حرصه على بستانه، وينقطع أَمَلُهُ مِن إِعَادَةِ تشجيره والعناية به. وأتبع ذلك بقوله: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ} فأبان بهذا مبْلَغَ لَهْفَتِه، على جنته، من أجْلِ ذُرّيّتِهِ الضعفاء. بعد هذا الاستقصاء في وصف الجنّة، ووصف حال صاحبها، ومبلغ تعلّقه بها وحرصه عليها، قال تعالى: {فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ} والإِعصارُ أشدُّ الظواهر الكونية المهلكة للجنّات، ولم يقتصر على ذكر الإِعصار بل أضاف قولَهُ: {فِيهِ نَارٌ} وهو أعْنَفُ أنواع الأعاصير المهلكة. وقدّم أخيراً فِقرةَ الختام التي أتمّ بها أحداث المأساة فقال تعالى: {فاحترقت} . وكان هذا الختام آخر استقصاء صارت به الجنّة البديعة المثمرة رماداً. كذلك حالُ من يُتْبِعُ صدَقته بالمنّ والأذى. ما أروع هذا التمثيل وأتقَنَهُ، وأَكْثَرَه تَتبُّعاً واستقصاءً للجزئيات حتى لا مزيد عليها. أقول: حسْبُ الاستقصاء هذا الشاهد القرآني، لأننا لا نكاد نجد في غير القرآن استقصاءً بديعاً إلاَّ في الْقِصَص المطوّلة. *** الطريقة الحادية عشرة: "التعليل". التعليل: زيادةٌ في الكلام عن أصل المعنى الذي يُقْصَدُ التعبير عنه لبيان علّته، أو سببه، أو الدليل على صحته أو نفعه وفائدته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 وفائدة التعليل الشاملِ لبيان العلّة أو السب أو الدليل: (1) الإِقناع بصحة الكلام، أو بفائدة العمل بمقتضاه. (2) توليد الدافع الذاتي للعمل بمقتضاه. (3) زيادة تقرير مضمون الكلام بذكر علته، لأنّ النفوس أكثر استعداداً لتقبل الأخبار أو التكاليف المعلّلة المقرونة ببيان أسبابها وأدلتها، ممّا لو قُدّمت لها الأخبار أو التكاليف مجرّدة من ذلك. فيكون تطويل الكلام بالتعليل وبيان الدليل إطناباً حسناً مفيداً، ذا أثرٍ في نفوس المتلقّين له. وغالب ما جاء في القرآن من تعليل قد جاء بمثابة جواب سؤالٍ مقدّر ذهناً غير مذكور في اللّفظ. أمثلة: (1) قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنفال/ 8 مصحف/ 88 نزول) : {ياأيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} [الآية: 45] . إنّ عبَارَةَ: {لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} هي بمعنى لِتُفْلِحُوا على سبيل الرّجاء. لقد تَمَّ المطلوب بعبارة {فاثبتوا واذكروا الله كَثِيراً} لَكِنْ جاء التعليل بعدها لتوليد الدافع الذاتي للعمل بهذا المطلوب. فزيادة التعليل قد كانت إطناباً نافعاً. (2) قول الله عزّ وجلّ في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول) : {ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [الآية: 90 - 91] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 في هذا النصّ اقْتَرن النهي عن الخمر والميسر والأنصاب والأَزْلاَمِ ببيان العلّة أو السبب أو الحكمة، لتوليد الدافع الذّاتي لاجتنابها. فهي: * رِجْسٌ من عَمَلِ الشيطان. * واجْتِنَابُها سَبَبٌ يُرْجَى معه الفلاح. * والشيطان يريد أن يوقع العداوة والبغضاء بين الناس في تعاطيهم الخمرَ والْمَيْسِر، ويُريد أنْ يَصُدَّهم بهما عن ذكر اللَّهِ وعن الصلاة. هذه الأسباب كافية لأن تجعل ذا اللّب يُحَقِّقُ المطلوب اجتنابُه في النص. فزيادة التعليل في النصّ قد كانت إطناباً نافعاً. (3) قول الله عزّ وجلّ في سورة (التين/ 95 مصحف/ 28 نزول) خطاباً للمكذّب بالدّينونة والجزاء: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بالدين * أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} [الآيات: 7 - 8] . جاءت آية {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} دَلِيلاً على الدينونة والجزاء، لأنّ أحكم الحاكمين لا يُمْكِنُ عقلاً أن يُسَوِّيَ بين المسلمين والمجرمين. (4) قول الله عزّ وجلّ في سورة (العنكبوت/ 29 مصحف/ 85 نزول) : {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ الله لَغَنِيٌّ عَنِ العالمين} [الآية: 6] . أي: ومَنْ جَاهَدَ ابْتِغَاءَ مَرْضاةِ اللَّهِ فإنَّهُ إِنَّمَا يُجَاهِدُ ليُحَقِّقَ لنفسه عند الله ثواباً عظيماً، وهو بجهادِهِ لا يُضِيف إلى مُلْكِ اللَّهِ شيئاً. هنا يَرِدُ سؤال مُقَدّر: ما السبب في قَصْرِ نفع جهاده على نفسه؟ فجاء الجواب التعليلي بعبارة: {إِنَّ الله لَغَنِيٌّ عَنِ العالمين} ، أي: إنّ الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 قادرٌ على نُصْرة دينه دون مجاهد المجاهدين المؤمنين، لكن ابتلاءهم في الحياة الدنيا اقتضى تكليفهم بالجهاد لنصرة دينه، وتركَ الأمر للأسباب التي وضعها للناس. *** الطريقة الثانية عشرة: "التفسير". التفسير: أنْ يُؤْتَى بكلامٍ لاَحقٍ يُفَسَّرُ به كلامٌ سابق لإِزالة ما فيه من لَبْسٍ أو خفاءٍ. ولمّا كان التفسير زيادة في الكلام مفيدة كان إطناباً حسناً كلَّما اقتضاه الحال، ومن التفسير أن يؤتى بالمرادف الأظهر بعد المرادف الأخفى. أمثلة (1) قول الله عزّ وجلّ في سورة (المعارج/ 70 مصحف/ 79 نزول) : {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} [الآيات: 19 - 21] . جاءت الآيتان "20 -21" من هذا النَّصّ مُفَسِّرَتَيْنِ لِمَعْنَى كلمة "هَلُوع" كما قال أبو العالية وغيره من قدماء أهل التفسير. فالْهَلُوع: هو الذي إذا مسَّهُ الشَّرُّ كان جَزُوعاً، وإذا مَسَّهُ الْخَيْرُ كان منوعاً. وهذا التفسير لم يضف إلى المعنى الذي دلّت عليه كلمة "هلوع" شيئاً، لكنَّه كان مفيداً إذْ شرح معنى كلمة هلوع، فهو إطناب حسن. (2) قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) خطاباً لبني إسرائيل: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [الآية: 49] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 يَسُومُونَكُم: أي: يُحَمِّلُونَكُمْ وَيُكَلِّفُونَكُمْ. سُوءَ العذاب: أي: أشَدَّ العذاب وأكثره مشقةً وظُلْماً. نلاحظ في هذه الآية أنّ قَوْلَ الله تعالى فيها: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} قد جاء تفسيراً لبعض مضمون قوله: {يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب} فهو إطناب مفيد حَسَن. ومعنى: {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} يبقون نساءكم على قيد الحياة للتسخير والخدمة. (3) قول الله عزّ وجلّ في سورة (الممتحنة/ 60 مصحف/ 91 نزول) : {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الحق ... } [الآية: 1] . إنّ عِبَارَةَ: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة} بيانٌ لبعض عناصر اتخاذ أعداء الله وأعداء المؤمنين أولياء، فهو من التفسير الجزئيِّ للموالاَة، وهو يدلُّ على النظير قياساً، وعلى ما هو أشدّ منه من باب أولى. فهذا التفسير من الإِطناب المفيد الحسن. (4) قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) : {ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين * الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا ... } [الآيات: 50 - 51] . إنّ عبارة: {الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} بيانٌ لبعض عناصر الكُفْر وَأسْبَابِه، فَهُوَ من التفسير الجزئي لكلمة {الْكَافِرِين} . فهذا التفسير من الإِطناب المفيد الْحَسَن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 (5) قول الله عزّ وجلّ في سورة (الصمد) : {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ * الله الصمد * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الآيات: 1 - 3] . قال "محمد بن كعب القرظي": {لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ} تفسيرٌ للصَّمد. أقول: هو من التفسير الجزئيّ لا من التفسير المطابق. *** الطريقة الثالثة عشرة: "وضع الاسم الظاهر موضع المضمر". سبق في الفصل السادس "الخروج عن مقتضى الظاهر" من الباب الثاني "أحوال عناصر الجملة" جوانب مهمّة من وضع الاسم الظاهر موضع الضمير، وما يأتي في بحث "الإِطناب" هنا يُعْتَبرُ مكملاً لما جاء في بحث الخروج عن مقتضى الظاهر، وجاء التكرار لاختلاف الاعتبارات فالبحثان متكاملان. أصل وضع الضمائر في اللّغة إنّما كان للاختصار، والتقليل من طول الكلام الذي يحصل بذكر الأسماء الظاهرة ابتداءً أو تكراراً. فيحصل الاكتفاء بأن يكنَّى بالضمائر عن الأسماء الظاهرة، وبها يَقْصُر طول الكلام، وبهذا صار للضمائر في الكلام مواضع يعتبر استعمالها فيها هو الأصل. ولكن قد تدعو دَوَاعي بلاغيّة لوضع الأسماء الظاهرة في مواضع استعمال الضمائر، وتَحَمُّلِ طُولِ الكلام بهذِه الأسماء الظاهرة، وبهذا دخل استعمال الاسم الظاهر موضع المضمر ضمن طرائق الإِطناب. ونظر البلاغيّون في الدواعي البلاغيّة لهذا الاستعمال وفوائده فظهرت لهم الدواعي التالية المتضمّنة فوائده: (1) إرادة زيادة التقرير والتمكين. (2) قصد التعظيم والإِجلال، أو قصد تعظيم الشيء وبيان ارتفاع منزلته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 (3) قصد الإِهانة والتحقير. (4) إرادة إزالة اللّبس إذا كان استعمال الضمير يُفضي إليه. (5) تربية المهابة وإدْخال الرّوع على ضمير المتلقي بذكر الاسم الظاهر إذا كان ممّا يقتضي ذلك. (6) إرادة تقوية الدافع إلى تنفيذ الأمر وتحقيق الطاعة. (7) إرادة التلذّذ بذكر الاسم الظاهر، فالعشّاق يتلذّذون بذكر أسماء من يُحِبون، أو ما يحبّون. (8) إرادة التوصل إلى الوصف باستعمال الاسم الظاهر. (9) إرادة التنبيه على علة الحكم إذا كان الاسم الظاهر يدلُّ عليها أو يشير إليها. (10) إرادة العموم إذا كان الاسم الظاهر يفيده، أو يُذْكَرُ ليُقْرَنَ بما يفيده. (11) إرادة الخصوص إذا كان الاسم الظاهر يفيده، أو يُذْكَرُ ليقرن بما يُفيدُه. (12) قصد الإِشارة إلى استقلال الجملة، وعدمِ دخولها في حكم سابقتها إذا كان استعمالُ الضمير يفيدُه. (13) إرادة مراعاة صورة جمالية في اللّفظ، أو محسّن من محسنات البديع كالجناس والتَّرصيع، إذا كان ذكر الاسم الظاهر يفيد ذلك. إلى غير ذلك من دَوَاعي مقبولة لدى البلغاء الأذكياء. أمثلة: أوّلاً: في النصوص التالية وُضِعَ الاسم الظاهر موضع الضمير لزيادة التقدير والتمكين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ * الله الصمد} [الإخلاص: 1 - 2] . "الله" في الآية الثانية. * {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ} [الإِسراء: 105] . "بالحقّ" الثانية. * {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولاكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} [غافر: 61] . "النّاس" الثانية. * {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 78] . "الكتاب" الثانية. * {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله ... } [آل عمران: 78] . "الله" الثانية. *** ثانياً: في النصوص التالية وُضِعَ الاسم الظاهر موضع الضمير لقصد التعظيم والإِجلال، وقَصْد تعظيم الشيء وبيان ارتفاع منزلته: * {واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] . * {أولائك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} [المجادلة: 22] . * {وَقُرْآنَ الفجر إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً} [الإِسراء: 78] . * {وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ} [الأعراف: 26] . وضع لفظ "ذلك" بدل الضمير. * {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ... } [الإِنسان: 1] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 كان من الممكن أن يقال: إنّ خلقناه. ثالثاً: في النصوص التالية وُضِع الاسم الظاهر موضع الضمير لقصد الإِهانة والتحقير: * {أولائك حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19] . * {إِنَّ الشيطان كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} [الإِسراء: 53] . * {فقاتلوا أَوْلِيَاءَ الشيطان إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً} [النساء: 76] . رابعاً: في النصوص التالية وُضِع الاسم الظاهر موضع الضمير، لإِرادة إزالة اللَّبْسِ إذ استعمال الضمير يفضي إليه: * {الظآنين بالله ظَنَّ السوء عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء} [الفتح: 6] . فلو قال: عليهم دائرته لأوهم أنّ الضمير عائد على الله عزَّ وجلَّ. * {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ استخرجها مِن وِعَآءِ أَخِيهِ} [يوسف: 76] . فلو قال: ثم استخرجها من وعائه لأوهم أنَّ أخاه استخرجها من وعاء نفسه. *** خامساً: في النّصوص التالية وُضع الاسم الظاهر موضع الضمير لإرادة تربية المهابة وإدخال الرّوع على ضمير المتلقّي: * {ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت: 20] . * {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ واتقوا الله إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1] . * {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ * إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} [النحل: 89 - 99] . *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 سادساً: في النصوص التالية وُضِع الاسم الظاهر موضع الضمير لإرادة تقوية الدافع إلى تنفيذ الأمر وتحقيق الطاعة: * {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين} [آل عمران: 159] . * {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38] . * {وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} [آل عمران: 19] . *** سابعاً: ومن وضع الاسم الظاهر موضع الضمير للتلذّذ بذكر الاسم قول عاشق ليلى: بِاللَّهِ يَا ظَبَيَاتِ الْقَاعِ قُلْنَ لَنَا ... لَيْلاَيَ مِنْكُنَّ أَمْ لَيْلَى مِنَ الْبَشَرِ وهذا الغرض هو الذي جعل أبا نواس يقول في خمريّاته: أَلاَ فَاسْقِنِي خَمْراً وَقُلْ لِي: هِيَ الْخَمْرُ ... وَلاَ تَسْقِنِي سِرّاً إِذَا أَمْكَنَ الْجَهْرُ ثامناً: ومن وضع الاسم الظاهر موضع الضمير بغية التوصّل إلى وصفه ما جاء في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) خطاباً من الله لرسوله: {قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض لا إلاه إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ النبي الأمي الذي يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ واتبعوه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الآية: 158] . إذا اعتبرنا أنَّ عِبَارةَ: {فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ النبي الأمي ... } من جملة ما أُمَرَ اللَّهُ به رسوله أن يقوله للناس، فقد كان الأصل أن يقول: فآمِنُوا باللَّهِ وَبي ... لكنّ قصد التوصّل إلى وصف الرسول حسَّنَ وضع الاسم الظاهر موضع الضمير. ويحتمل أن يكون الكلام قد انتهى عند لفظه: {يُمِيت} وأنْ يكونَ الكلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 بَدْءاً من: {فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ... } خطاباً مباشراً من اللَّهِ للناس، وهذا هو الأرجح فيما أرى. *** تاسعاً: في النصوص التالية وُضِع الاسم الظاهر موضع الضمير للتنبيه على علة الحكم: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} [البقرة: 59] . لم يأت النصّ: فأنزل عليهم، إنما جاء: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ} للتَّنْبِيه على أنّ الحكم عليهم بإنْزَالِ الرّجز "= العذاب" كان بسبب ظُلْمِهِمْ الذي ظهرت آثاره بأعمال الفسق الذي كانوا يفسقونه. * {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} [الأنعام: 21] . كان الأصل أن تأتي العبارة بالضمير: إنَّهُمْ لاَ يُفْلِحُون، لكنْ جاء الاسم الظاهر {الظالمون} للتنبيه على أن فَلاحهم إنما هو بسبب ظلمهم. *** عاشراً: ومن وضع الاسم الظاهر موضع الضمير لإِرادة العموم أو إرادة الخصوص ما يلي: * {وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء} [يوسف: 53] ، لم يقل: "إنَّها لأمّارَةٌ بالسُّوء" لأنّه أراد تعميم هذه الصفة على كلّ النُفُوس. * {أولائك هُمُ الكافرون حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} [النساء: 151] ، لم يقل: "واعتدنا لهم" لأنه أراد تعميم استحقاق هذا العذاب على كلّ الكافرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 * {وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ... } [الأحزاب: 50] لم يقل: "إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لَكَ" كما في مقتضى السّياق لئلاّ يُتوهَّمَ قياسُ غيره عليه، فجاء الاسم الظاهر "للنّبِيّ" للتنبيه على أنَّ الحكم خاصٌّ بالنبيّ لكونه نَبِيّاً. *** أحد عشر: ومن وضع الاسم الظاهر موضع الضمير لقصد الإِشارة إلى استقلال الجملة مُعْظَمُ خواتم الآياتِ التي تنتهي بنحو: {إنّ اللَّهَ خَبِيرٌ بما تَعْمَلوُن - إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ - إنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقينَ - وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} وَبهده الاستقلاليّة تكون الجملة بمثابة قضيّة كليّة لها صفة العموم. *** اثنا عشر: ومن وضع الاسم الظاهر موضع الضمير لمراعاة صُوَر جماليّة في اللّفظ أو مُحَسِّنٍ من مُحَسِّنَاتِ البديع، قول الله عزّ وجلّ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس * مَلِكِ الناس * إلاه الناس * مِن شَرِّ الوسواس الخناس} [الناس: 1 - 4] . {عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى} [العلق: 5 - 6] . ملاحظات: قالوا: (1) إعادة الاسم الظاهر بمعناه أحْسَنُ من إعادته بلفظه. أقول: ليس هذا عامّاً، بل ربّما كانت إعادة بلفظه هي الأحْسَن، كما وجدنا هذا في كثير من نصوص التنزيل. (2) إعادة الظاهر في جملة أُخْرى أحْسَنُ منه في الجملة الواحدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 (3) إعادة الظاهر بعد طول الفاصل أحسَنُ من الإِضمار، لئلا يشتغل الذهن بالبحث عمّا يعود عليه الضمير. *** الطريقة الرابعَةَ عشْرة: "التأكيد". الأصل في الكلام لتأدية المعنى المراد أنْ لا تزيد كلماتهُ عمَّا يُؤَدّي أصل المعنى، فإذا زادت عمّا يؤدّي أصل المعنى المقصود بالبيان لغرض يُقْصَدُ لدى البلغاء كان ذلك إطناباً مفيداً، كلّما دعت الحاجة إليه، كأن تكون الزيادة معه يقتضيها حال المتلقّي للكلام، أو حال المعبّر عما في نفسه، كعاشق، أو فرِحٍ أو حزين. ومن الزيادات في الكلام عن أصل المعنى المقصود بالبيان إضافةُ المؤكّداتِ إليه مراعاةً لحال من يُوَجِّه له. وقد سبق في الفصل الثالث من الباب الأول "مدخل إلى علم المعاني" بيان التأكيد وعدمه في الجملة الخبرية، وبيان مؤكّدات الإِسناد الخبري. ونبحث هنا التأكيد من جهة كون الألفاظ الدالة عليه زوائد تجعل الكلام الذي أضيفت إليه يندرج في قسم الإِطناب. والتأكيد هنا يشْمَلُ تأكيد المفرد، وتأكيد الجملتين الخبريّة والإِنشائية. وأُبيّنُ هنا أنّ من يُوجَّهُ له الكلام، إذا كانت حاله لا تقتضي تأكيداً، كانت إضافة المؤكّدات إلى الكلام الموجّه له إسهاباً وتطويلاً لا داعِيَ له، وكان الكلام الموجّه له غير بليغ، إذ الكلام البليغ هو المطابق لمقتضى الحال. ومن المستحسن هنا أن أُوجز عرْضَ المؤكّدات، والدواعِيَ البلاغيّة للتأكيد وأحيل مع هذا على ما سبق في الباب الأوّل من الكتاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 إجمال المؤكّدات: نظر البلاغيّون في المؤكّدات عند علماء العربيّة فقسّموها إلى الأقسام السّتَّة التالية: القسم الأول: الزوائد من الحروف والكلمات التي يؤتَى بها للتوكيد. (1) منها "أحرف الصلة" وهي حروف تُزاد للتأكيد، وهي: "إِنْ - أَنْ - مَا - مِنْ - الباء" مثل: "مَا إنْ فعلْتُ مَا تكره - لمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِير - أكْرَمْتُكَ مِنْ غَيْرِ مَا مَعْرِفَة - مَا جَاءَنَا مِنْ أَحَدٍ - مَا أَنَا بمُهمِلٍ - أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ". قالوا: وتُزَاد "مِنْ" في النفي خاصَّة، لتأكيده وتعميمه، مثل: {مَا جَاءَنَا من بَشِيرٍ ولاَ نَذِير} . [المائدة: 19] ونظير النفي الاستفهام، مثل: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غير الله} [فاطر: 3]- {وتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيد} [ق: 30] . وتزاد الباء لتأكيد النفي، وتزاد أيضاً لتأكيد الإِيجاب، مثل: * {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] : أي: أليس اللَّهُ كافياً عبْدَهُ. * قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بِحَسْبِ أصْحَابي الْقَتْل" أي: يكفيهم. * {وَكَفَى باللَّهِ نصيراً} [النساء: 45] أي: وكَفى اللَّهُ نَصِيراً. وتُزاد "مَا" بعد "إذا" مثل: {وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} [التوبة: 124] أي: وإِذَا أنزلت سورة ... وتزادُ كَافَةً عَنْ عمل الرفع، وهي المتصلة بـ "قَلَّ" و"طَالَ" و"كَثُر" فتقولُ: قلَّمَا، وَطَالَ ما، وكثُر مَا، وتفيد التأكيد، وما هنا كفّت الفعل عن طلب الفاعل. وتُزَادُ كَافّةً عن عمل النصب والرفع، وهي المتصلة بـ "إِنَّ" وأخواتها "إنّما - أنَّما - ليتما ... ". وتزاد كافةً عن عمل الجرّ، وهي التي تتصل بأحرف جرّ، أو بظروف، فالأحرف التي تتصل بها هي: "رُبّ - الكاف - الباء - مِنْ" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 فيقال: "رُبّما - كَمَا - بِمَا - مِمّا" وتتصل بظرفين: هما: "بعد - بين" فيقال: "بَعْدَما - بينما". وقد تُزاد بين المضاف والمضاف إليه، مثل: "من غيرِ ما مَعْرِفَة". وأكثر ما تزاد "إِنْ" بعد "ما" النافية، مثل: "مَا إِنْ فَعَلْتُ هذا" وقد تُزَادُ بَعْدَ "مَا" الموصولة الاسمية، وبعد "ما" التي بمعنى حين، مثل قول جابر بنِ رَأْلاَن: وَرَجِّ الْفَتَى لِلْخَيْرِ مَا إِنْ رَأَيْتَهُ ... عَلَى السِّنِّ خَيْراً لاَ يَزَالُ يَزِيدُ وقد تُزادُ بعد "ألاَ" الاستفتاحيّة. وَتُزَادُ "أَنْ" بعد "لمَّا" الحينيّة، مثل: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ البشير} [يوسف: 96] . وقد تزاد بين الكاف الجارّة ومجرورها، مثل قول كَعْب بن أرقم اليشكري: ويَوْماً تُوافِينَا بِوَجْهٍ مُقَسَّمٍ ... كَأنْ ظَبْيَةٍ تَعْطُو إِلَى وَارِقِ السَّلَم وقد تزاد بين فعل الْقَسَمِ وحرف "لو" مثل: أُقْسِمُ أَنْ لَوْ جَاءنَي البشير لأُكَافِئنَّه. وَتُزَادُ "مِنْ" فتُفِيد التوكيد، أو التنصيص على العموم، أو تأكيد التنصيص على العموم، ولا تكون زائدة إلاَّ بثلاثة شروط: الأوّل: أن يسبقَها نفيٌ، أو نَهْيٌ، أو استفهامٌ بحرف "هل". الثاني: أن يكون مجرورها نكرة. الثالث: أن يكون مجرورها إمَّا فاعلاً، مثل {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ} [الأنبياء: 2] . وإمّا مفعولاً، مثل: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} [مريم: 98] . وَإمّا مُبْتدأً، مثل: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله} [فاطر: 3] . (2) وقد يُزادُ للتأكيد فعل "كان" وفعل "أصبح" قالوا: ومن زيادة فعل "كان" ما جاء في قول الله عزَّ وجلَّ: {قَالُوا: كَيْفَ نُكلِّمُ مَنْ كانَ في الْمَهْدِ صَبِيّاً} [مريم: 29] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 أي: كيف تكلّم صبيّاً في المهد، فجاء تأكيد هذا الوصف بِزيادة فعل "كان". (3) وقد يزاد للتأكيد لفظ "أَمَا" بمعنى "حقّاً" مثل: "أَمَا إِنَّه رَجُلٌ عاقل". (4) ويزادُ للتأكيد حرفا الاستقبال، وهما: "السين - وسوف" إذْ هما لتأكيد معنى الاستقبال في الفعل المضارع. (5) ومن المؤكّدات الأحرف المشبّهة بالفعل: "إِنَّ - أَنَّ - كَأَنَّ - لَكِنَّ - لَيْتَ - لَعَلَّ". * فحرفا "إِنَّ - وأَنَّ" لتأكيد الجملة الخبريّة. * وحرف "كَأَنَّ" للتشبيه مع التأكيد. * وحرف "لَكِنَّ" للاستدراك مع التأكيد. * وحرف "لَيْتَ" للتّمَنِّي مع التأكيد. * وحرف "لَعَلَّ" للترجّي مع التأكيد. (6) ومن المؤكدات: "لام الابتداء" وهي اللام التي تفيد توكيد مضمون الجملة، وتخليص المضارع للحال، وتدخل على صدر الجملة الاسميّة، والفعل المضارع، والفعل الذي لا يتصرّف. ومن لام الابتداء اللاّم المزحلقة عن صدر الجملة الاسميّة فتدخل على خبر "إنّ" أو معمول خبرها، أو على اسم "إنّ" إذا كان متأخّراً عن الخبر، وعلى ضمير الفصل. وتأتي اللام زائدة للتوكيد كقول رؤبة بن العجاج: أُمُّ الْحُلَيْسِ لَعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ ... تَرْضَى مِنَ اللَّحْمِ بِعَظْمِ الرَّقَبَهْ (7) ومن المؤكّدات "ضمير الشأن" و"ضمير الفصل". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 (8) ومن المؤكّدات حرف "قد" و"أمَّا" الشرطية للدلالة على الشرط مع التأكيد. (9) ومن المؤكّدات "نونا التأكيد الثقيلة والخفيفة". (10) ومن المؤكّدات "لَنْ" لتأكيد النفي في المستقبل و"لَمَّا" لتأكيد النفي في الماضي. (11) قالوا: وفي "ألا" و"أما" الاستفتاحيتان معنى التأكيد. وفي "هاء" التنبيهِ التنبيهُ مع التأكيد، وقد تأتي "يا" للتنبيه مع التأكيد، وصورتها صورة "يا" التي ينادى بها. (12) وما يُقْسَمُ به من حروف أو أفعال أو أسماء هي مؤكدات تضاف في الكلام للتأكيد، وكذلك اللام الواقعة في جواب القسم. (13) ومن المؤكدات "لا" النافية للجنس. القسم الثاني: "التوكيد اللفظي": ويكون بإعادة المؤكَّدِ بلفظه أو بمرادفه، سواءٌ أكان اسماً ظاهراً، أمْ ضميراً، أم فعلاً، أم حرفاً، أم جملةً. وفائدة التوكيد اللّفظي تقرير المؤكَّد لَدَى من يُوجَّه له الكلام، وتمكينه في نفسه، وإزالةُ ما لديه من شُبَهٍ حوله، مثل: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [المؤمنون: 36] ومن التأكيد بالمرادف قول الله عزَّ وجلَّ: {أمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق: 17] . القسم الثالث: "التوكيد المعنوي": ويكون بذكر ألفاظ "النفس - أو العين - أو كُلّ - أو جميع - أو عامّة - أو كِلاَ - أو كلتا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 ويشترط للتأكيد بها أن تضاف إلى ضمير يناسب المؤكَّدَ، مثل: "جاء خالد نفسه - حضر رئيسا البلدين أنفسهما - اجتمعت الضَّرَّتَان كلتاهما - فسجَدَ الملائكة كُلُّهُم أَجْمَعُون". ويقوَّى التوكيد المعنوي بالكلمات المؤكّدة التالية: (1) "أجمع" يؤتَى بها بعد كلمة "كلّه" مثل: "جاء القطيع كلُّه أجمع". (2) "جَمْعَاء" يؤتَى بها بعد كلمة "كلّها" مثل: "حضرت القبيلة كلُّها جمعاء". (3) "أجمعون" يؤتى بها بعد كلمة "كلّهم" مثل: "جاهد القوم كلُّهم أَجْمَعُون". (4) "جُمَع" يؤتى بها بعد كلمة "كلُّهُن" مثل: "نجح طالبات المدرسة كُلُّهُنَّ جُمَع". وقد يؤكد بهذه الكلمات دون أن يتقدَّمَهُنَّ لفظ "كُلّ". القسم الرابع: "تأكيد الفعل بمصدره". ويكون بما يُسَمَّى "المفعول المطلق" وهو عوضٌ عن تكرار الفعل مرتين. وفائدته رفع توهم المجاز في الفعل، ومنه قول الله عزَّ وجلَّ: {وَكلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تكليماً} [النساء: 164] أي تكليماً حقيقيّاً، لا تكليماً مجازيّاً. القسم الخامس: "الحال المؤكّدة". وهي الحال التي يُسْتفاد معناها بدونها، وهي ثلاثة أنواع: النوع الأول: الحال المؤكّدة لعاملها، وتكون: (1) من لفظ العامل، مثل: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} [النساء: 79] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 (2) أو من معنى العامل، مثل: "مشَى الرَّجُل سَيْراً". النوع الثاني: الحال المؤكّدة لصاحبها، مثل قول الله عزَّ وجلَّ: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً} [يونس: 99] . النوع الثالث: الحال المؤكّدة لمضمون جملة، مثل ما جاء في قول الله تعالى: {هاذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً} . [الأعراف: 73] . والعامل في هذه الحال المؤكدة لمضمون جملة محذوفٌ مقدّر ذهناً بما يلائم الكلام في الجملة. القسم السادس: صيغ المبالغة التي يؤتى بها للتأكيد، مثل: "غَفّار - شكور - رحيم - جبّار - قهّار" إلى غير ذلك من صيغ المبالغة القياسية والسماعية. *** دواعي التأكيد: للتأكيد دواعي كثيرة، منها ما يلي: (1) حالة الإِنكار لدى من يُوجّه له الكلام، وتزداد المؤكِّدات بحسب قُوَّة الإِنكار. (2) حالة الشّكّ والتردّد لدى من يُوجّه له الكلام، وتزداد المؤكدات بحسب قوة الشك والتردّد. (3) تنزيل غير المنكر وغير الشاك منزلة أحدهما، إذا ظهرت عليه علامات الإِنكار أو الشك، أو لم يعمل بمقتضى علمه بحسب ما لديه من ذلك. (4) دفع توهم المجاز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 (5) تقرير الكلام وتمكينه وتثبيته، مراعاة لمضمون الكلام الذي تتطلب طبيعته تقريراً وتمكيناً، أو مراعاة لحال من يوجّه له الكلام. إلى غير ذلك من دواعي بلاغية، كالترغيب، والترهيب، والإِطماع. وقد يترك التأكيد مع إنكار من يوجّه له الكلام لداعٍ بلاغيّ آخر أقوى، كأن يكون الكلام مقترناً بأدلّة قوية ظاهرة لو تأمّلها لرجع عن إنكاره. أمثلة: المثال الأول: في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول) ضرب الله مثلاً قصة أصحاب القرية التي جاءها المرسلون (ذكروا أنها أنطاكية) قال الله عزَّ وجلَّ: {واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية إِذْ جَآءَهَا المرسلون * إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثنين فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فقالوا إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ} [يس: 13 - 14] . دَلَّ هذَا عَلَى أنَّ الْمُرْسَلَيْنِ الاثنْين قالاَ لأصْحَاب القرية: نَحْنُ رسُولاَنِ إليكم، فكذّبُوهما. فأرْسَلَ اللَّهُ إلَيْهِمْ مُرْسَلاً ثَالِثاً، قال الله تعالى: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فقالوا إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ} هنا نلاحظ أنّ إنكارَهُمْ ناسَبَهُ أَنْ يُؤَكَّدَ لَهُمُ الكلام، فاقترنت عبارتهم: {إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ} بمؤكِّدَين: الجملة الاسمية، وحرف "إنَّ" وقد نلاحظ في تقديم المعمول {إليكم} مع التخصيص أو الاهتمام معنى التأكيد. فكان موقف أصحاب القرية ما أبانه الله بقوله: {قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرحمان مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} [يس: 15] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 فاقتضى هذا الإِصرار على الإِنكار والتكذيب، أن يزيد الرُّسُل بيانَهُمْ تأكيداً، قال الله عزَّ وجلَّ: {قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ البلاغ المبين} [يس: 16 - 17] . فأضَافُوا إلى المؤكّدات السابقات تَأْكيداً بالْقَسَمِ: {رَبُّنَا يَعْلَمُ} وباللاّم المزحلقة، الّتي هي لام الابتداء، زُحْلِقَتْ إلى خبرَ "إنّ" فهي الداخلة على "مُرْسَلُون". فتكاثرتْ نِسْبَةُ المؤكّدات بحسب الإِمعان في التكذيب والإِنكار. المثال الثاني: في عرض لقطات من قصة نوح عليه السلام وقومه في سورة (المؤمنون/ 23 مصحف/ 74 نزول) أبان الله عزَّ وجلَّ أنّ نوحاً سأل ربَّه أن ينْصُرَهُ فقال: {رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ} فأوحى الله إليه أن يصْنَعَ الفلْكَ، حتَّى إذا أتَّمَهَا وَجَاءَ أَمْرُ اللَّهِ فَإنّ عليه أولاً: أنْ يَسْلُكَ فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَجَميعَ أَهْلِهِ باسْتِثْنَاءِ مَنْ سَبَقَ عَلَيْه قَوْلُ اللَّهِ بأنَّهُ من المهلكين بسبب كفره، وإنّ عليه ثانياً أنْ لا يسأَلَ رَبَّهُ في رفْعِ عَذَاب الْهَلاَكِ عَنْ قَوْمِهِ. ولمّا كان قَلْبُ نوح الحليم الرحيم من طبيعته أن يتحرّكَ بعاطفة نَحْو قومه، فلَرُبّما سألَ رَبَّهُ أن يرفع العذاب عنهم أو يؤخره، كانت حالته تستدعي تأكيد القضاء الرّبّانيّ بإغراقهم، حتَّى لاَ يكون لدى نوح أمَلٌ بخلاف ذلك، فقال الله تعالى له: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} [المؤمنون: 27] فأكَّدَ له قرار إغراقهم بحرف التأكيد "إنَّ" مراعاةً لحالته القلبيَّة الحليمة الرّحيمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 المثال الثالث: * وفي إطماع الله عبادَه أكَّدَ لهم أنّه تَوَّابٌ رَحِيمٌ، فقال تعالى في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} فأكَّدَ بِصِيغَتَيْنِ مِنْ صيغ المبالغة وبالجملة الاسميّة. * وفي معرض بيان توبة اللَّهِ على آدم عليه السلام، وإطماعاً لكلّ التائبين من بعده قال الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة) أيضاً: {فتلقىءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم} فأكَّدَ بالمؤكدات التالية: "إِنَّ - والجملة الاسميّة - وضمير الفصل - وصيغتي المبالغة". *** الطريقة الخامسة عشرة: "زيادة بعض التوابع في الكلام". قد تزادُ بعض التوابع في الكلام دون أن يكون وجودها مؤدّياً شيئاً من المعاني الأصليّة المقصودة بالبيان، لكنَّ زيادتها في الكلام مفيدة فائدة تُقْصَدُ لدى البلغاء، فتكون هذه الزيادة من الإِطناب البليغ، إذا دعت الحاجةُ إليها. أمّا إذا كان المعنى المقصود بالبيان لا يتحقّق إلاَّ بذكرها في الكلام، فإنّ ذكرها لا يكون زيادةً أصلاً، ولا يكون به الكلام داخلاً تحت عنوان الإِطناب. وظاهر أَنَّ الزيادة إذا لم تكن ذات فائدةٍ تُقْصَدُ لدى البلغاء كانت إسهاباً وَتطويلاً غير بليغ. وهذه التوابع: هي "الصفة - البدل - عطف البيان - عطف النسق". ويلاحظ في الدواعي البلاغية لزيادة التوابع في الكلام ما يلي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 الداعي الأول: التأكيد. الداعي الثاني: التوضيح ودفع الاشتباه. الداعي الثالث: المدح، أو الذَّم. الداعي الرابع: التفجّع. الداعي الخامس: إرادة التعريض بغير المذكور. إلى غير ذلك مما يزيد على المعاني الأصليّة المقصودة بالبيان. فالزيادة بذكر بعض التوابع لتحقيق غرضٍ بلاغي هي من الإِطناب المفيد البليغ. أمثلة: (1) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 12 نزول) : {إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ والربانيون والأحبار بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ ... } [الآية: 44] . جاء في هذه الآية وصْفُ النبيين بعبارة {الذين أَسْلَمُواْ} وهذا الوصف من الأوصَاف التي تضمَّنَهَا كوْنُهُمْ نَبِيّين، فَهُو زيادة، لكنّها زيادة مفيدة، وفائدتُها إظهارُ شَرَفِ التطبيق الإِسلاميّ وعظمِ مكانته عند الله، والتَّعْريضُ باليهود المخالفين لما كان عليه أنبياؤُهم، وبيان أنّ النّبيّ لا يُعْفَى من التطبيقات الإسلامية. (2) عبارة "أَعَوذُ باللَّهِ من الشَّيْطَانِ الرجيم" جاء فيها وصف الشيطان بأنه رجيم، مع أنّ ذكر كلمة الشيطان تدلُّ على أنّه مطرودٌ من رحمة الله، ومرجوم بكلّ مذمّة، لكنّ ذكر كلمة رجيم ذو فائدة، وفائدتُه تكرير التذكير بطرد اللَّهِ له، للتّنفير من تسويلاته ووساوسه، وشَحْنِ النفس بمعاداته، وعَدَمِ اتّباع خُطُواته. (3) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 {وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلاهين اثنين إِنَّمَا هُوَ إلاه وَاحِدٌ فَإيَّايَ فارهبون} [الآية: 51] . جاء وصف لفظ: {إلاهين} بكلمة {اثنين} مع أنّ التثنِيَة تَدُلُّ على هذا الوصف، فما الفائدة من هذه الزيادة لتكون إطناباً بليغاً؟ أقول: إنّ كلمة {إلهين} قد تُوهِمُ أنّ صنفان أو نوعان من الآلهة، كإلهَيْن مخلوقين، أو حادثين، أو قديمَيْن أو نحو ذلك، فجاء الوصف بكلمة {اثْنَين} لإِفادة النَّهْي عَنْ مُجرّد جعل المعبود اثنين بأيّةِ صورة من الصُّور، وجاءت عبارة {إِنَّمَا هُوَ إلاه وَاحِدٌ} للدّلالة على بطلان تعدّد الآلهة اثنين فصاعداً. (4) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الحاقة/ 69 مصحف/ 78 نزول) : {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة} [الآيات: 13 - 15] . جاء في هذا النصّ وصف النفحة بأنها واحدة، ووصف الدكَّةِ بأنّها واحدة، وقد يقول قائل: أليست كلمة "نفخة" وكلمة "دكَّة" تدلُّ على كونها واحدة. والجواب: أنّ كلمة "نفخة" وكذلك "دكَّة" ونظائرهما استعمال قد يُراد به الجنس، وهو يَصْدُقُ بالواحد من الجنس فأكثر، ودفعاً لهذا الاحتمال الذي قد يدلُّ عليه مثل هذا الاستعمال جاء الوصف مُحَدِّداً بأنَّ النفخة واحدةٌ عدداً، وبأنّ الدَّكَّةَ واحدةٌ عدداً، فهذه الزيادة من الإِطناب البليغ. (5) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) : {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الآية: 38] . جاء في هذه الآية وَصْفُ كلمة [طَائِرٍ] بعبارة: [يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ] وقد يقول قائل ما فائدة هذا الوصف مع أنَّ من المعروف أنَّ الطائر يَطيرُ بجناحيه؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 والجواب: أنّ كلمة: "طَائر" عامّةٌ في كُلِّ ما يرتَفعُ إلى الأعلى، وقد يُطْلَق مجازاً على الذي يسير بسرعة على الأرض، وقد أطلق هذا اللفظ في القرآن مراداً به العمل الذي يطير عن الذي عمله بمجرّد فعله له، وهذا في قول الله تعالى في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول) : {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} [الآيات: 13 - 14] . فدفعاً لتوهُّم إرادة كلِّ ما يمكن إطلاق لفظ "طَائِر" عَلَيهِ حقيقة أو مجازاً، وللنصّ على أنّ المراد الحيوان الذي يطير بجناحيه، جاء في الآية الوصف بأنّه يطير بجناحيه، فهو من الإِطناب البليغ. (6) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الفاتحة) : {اهدنا الصراط المستقيم * صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} [الآيات: 6 - 7] . إنّ عبارة {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بدَلٌ من عبارة {الصراط المستقيم} وهذا البدل هو من الإِطناب البليغ، إذْ لا يتوقَّفُ عليه أصل المعنى، لكنَّهُ ذو فائدة جليلة، وهي بيان أنَّ الصراط المستقيم هو صراط كلّ الذين أنعم الله عليهم في كُلّ الأُمَم سواءٌ أكانُوا رُسُلاً أم غير رُسُل. (7) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112) : {جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لِّلنَّاسِ ... } [الآية: 97] . إنّ عبارة {البيت الحرام} هي عطف بيان، وقد زيد في الكلام للمدح وبيان حرمة الكعبة، فهو إطنابٌ مفيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 ملاحظة: ذكروا من الأمثلة ما جاء في قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الحج/ 22 مصحف/ 103 نزول) : {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولاكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46] . قالوا: إنّ وصف {القلوب} بعبارة: {الّتي في الصُّدُور} هو من الإِطناب. أقول: إِنَّ الْقَلْبَ أُطْلِقَ في الْقُرْآنِ على القوّة المدركة للمعارف، وأُطْلِقَ على مواطِنِ الإِرادة والعواطف، أو مراكز التأثُّرِ بها. فالقوة المدركة للمعارف هي في الدماغ، وهو في الرأس، أمَّا مواطن ظهور الرَّغبات، والعواطف والانفعالات، ومَرَاكزُ حركة عواطف الإِيمان والكفر، وحركة الإِرادات للأعمال، فهي في القلوب الّتي في الصدور، وهذه القلوب التي في الصدور قد يحصل لديها عَمَىً، فتخالِفُ ما أدركته الأذهان من الحق، لانطماس بصيرتها بالأهواء والشهوات، فيكون من آثار ذلك كفرٌ وحركة إراداتٍ نحو أفعال الشرّ، وهذا هو الْعَمَى الحقيقي الذي يُصَاب به أهل الكفر والضلال. إنّ قُواهم المدْركة الذهنية قد لا تكون عمياء، لكنّ مراكز ظهور وحركةِ إرادتهم وعواطفهم ورغباتهم هي العمياء، وهذه في الصدور لا في الرؤوس. وبهذا التحليل يكون وصف (القلوب) بعبارة: (التي في الصدور) قيداً لازماً في هذا المقام، ولا يتمُّ المعنى المقصود إلاَّ به، فهو ليس من الإِطناب أصلاً، بل الجملة تدخل تحت عنوان "المساواة". أمّا نَفْيُ العمَى عَن الأبْصار في عبارة: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار} فالمراد منه نَفْيُ الْعَمَى الدَّافعِ إلى الكفر والضلال، إذِ الكلام في الآية جَارٍ في الْمَساق، وهذا حقٌّ، والواقع المشاهد يُؤَيِّده فكثيرٌ منَ الذين كُفَّتْ أَبْصَارُهُم عن النظر هم من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 أكثر الناس إيماناً وهدايةً واستقامةً على صراط الهداية، ولَمْ يؤثّر عليهم حِرْمَانُهُمْ مِنْ نعمة الْبَصَر تأثيراً سَلْبِيّاً تُجَاهَ الْحَقّ والخير والفضيلة وفعل الصالحات. فالعَمى الحقيقيُّ الصارف عن السعادة الخالدة هو عَمَى القُلُوبِ الَّتِي في الصُّدُور. وأمّا عَمَى الأذهان والأفكار فهو مَرَضٌ يَرْفع المسؤوليَّة عن المكلَّف، ويُدْخِلُه في صنف الْبُلْهِ أو المجانين. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 "علم البيان" مقدمة عامّة علمُ البَيَان وفيه مقدمة عامة وثلاثة فصول: الفصل الأول: الكناية والتعريض. الفصل الثاني: التشبيه والتمثيل. الفصل الثالث: المجاز. وهو قسمان: القسم الأول: الاستعارة. القسم الثاني: المجاز المرسل. الفصل الرابع: نظرات تحليليّة إلى استخدام الأشباه والنَّظائر والمجاز في التعبيرات الأدبية. الفصل الخامس: منهج البيان القرآني في التنويع والتكامل وفي حكاية الأقوال والأحداث والقصص وفيه مقدمة ومقولتان. المقولة الأولى: منهج البيان القرآني في التنويع والتكامل. المقولة الثانية: منهج البيان القرآني في حكاية الأقوال والأحداث والقصص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 مقدمة عامّة (1) الباعث والنشأة والتسمية * مُمَارِسُ صناعة الكلام قولاً وكتابةً يُلاحظُ أَنَّ اللُّغَاتِ جَمِيعَها بحَسَب أوضاعها اللّغويّة، الّتِي جَرَى فيها وضْعُ كُلّ كلمة أو عبارة لتدلَّ على معنىً من المعاني، مهما اتَّسَعَتْ فإنَّها لا تكفِي للدَّلاَلة على المعاني التي تُدْرِكها الأذهان، والدَّلالَةِ على المشاعر التي تُحِسُّ بِها النفوس. ومع أنّ اللّغة العربية أوسع اللُّغَاتِ العالميّة وأثراها في الدلالة على المعاني الفكرية والمشاعر النفسيّة، فإنَّ هذا الحكم يشملها، إذا نظرنا إلى حدود الأوضاع اللّغوية للكلمات وللعبارات. * والذاكرة الإنسانيّة مهما عظمت قدرتها على استيعاب المفردات اللّغويّة مقرونةً بدلالاتها على المعاني التي وُضِعَتْ لها، ومَهْمَا عَظُمت قُدرَتُها على استدعاء ما تحتاج من هذه المفردات عند الحاجة إليها، للدلالة بها على ما تُرِيد التعبير عنه من المعاني، لا تستطيع أن تستوعبَ وتحفظ كُلَّ مفردات اللّغة، ولا تستطيع أن تستذكر دواماً كُلَّ ما تحتاج إليه من المفردات والتعبيراتِ اللُّغوية، لتقدمها إلى أداة التعبير باللّسان أو بالقلم عند الحاجة. * لكِنَّ الإِنسان قد أتاهُ الله عزّ وجلّ قُدْرَةً فَائِقَةً عَلى التعبير عمّا يريد من معانٍ ذهنيّة، ومَشاعر نفْسِيّةٍ عَنْ طُرُق أُخْرى غير طريق الأوضاع اللّغويّة الّتي وُضعت بها المفردات والعبادات لتدُلَّ دلالةً مباشرةً عليها، فَهُوَ يحتال للتعبير عمّا يريد التعبير عنه من خلال ما تُسعفه به ذاكرتُه من مفرداتٍ وعبارات بواحد فأكثر من الطُّرُق التالية: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 الطريق الأول: طريق التَّشْبيه والتمثيل، واستخدام النظير ليَدُلَّ على نظيره. الطريق الثاني: طريق اللّوازم الفكريّة الّتي تُدْرِكُها الأذهان لدَى إدْراكِ أشياء تستدعيها باللُّزُوم الذّهني، فيَذْكُر الألفاظ الدالّة على هذه الأشياء مشيراً بِهَا إلى لوازمها الذهنيّة، كطول الثوب الّذي يستَدْعي باللُّزُوم الذّهْنِي طُولَ لابسه، وكَرُؤْيَةِ النجوم رؤيَةً واضِحةً الَّتِي تَسْتدعي باللُّزوم الذهني كونَ هذه الرُّؤْيَة حاصلةً في اللّيل، وهذا ما يُسمَّى بالكناية. الطريق الثالث: طَرِيقُ ذكر أشياء يُنَبّه ذِكْرُهَا عَلى أشباهها، أو أضدادها، أو ما يخالفها، فيكون ذكرُها مشيراً بتعريض إلى تِلْكَ الأشباه أو الأضداد أو المخالفات، وهذا ما يُسمَّى بالتعريض. الطريق الرابع: طريق استخدام لفْظٍ مكان لفظ آخر صالحٍ لأنْ يَدُلَّ على معناه لعلاقة بينهما، وهذا ما يُسَمَّى بالمجاز. وفتحت هذه الحيل التعبيرية آفاقاً واسعة جدّاً لانتفاء صُورٍ جماليّة لاَ تُحْصَى، يتحقَّق بها الغرضان المهمّان من أغراض الكلام وهما: الغرض الأوّل: إفْهامُ المتلَقِّي ما يُريد المتكلّم التعبير عنه. الغرض الثاني: إمتاعُه بصُورٍ جماليّة يشتمل عليها الكلام، ولهذا الإِمتاع تأثيرٌ في النفوس، وقد يكون وسيلة لقبول المضمون الفكري الذي دلَّ عليه الكلام، ولاعتقاده، وللعمل بمقتضاه. * وممّا سبق بيانُه في علم المعاني عرفنا أنّه علم تناول بحث الكلمة المفردة، وبحث الجملة الخبرية، والجملة الإِنشائية، وأقسام كلٍّ منهما، وأغراض توجيه الكلام، وبحث الْقَصْرِ ومَا يتعلَّقُ به، وبحث الفصل والوصل بين المفردات والجمل، وبحث "المساواة والإِيجاز والإِطناب" وكلُّ هذه البحوث تدور في فَلَك الأوضاع اللُّغَويّة بوجه عامّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 لكنّ التعبير عن المراد لا يقتصر على ما يدلُّ عليه الكلام بحسب أوضاعه اللّغوية ذات الدلالات المباشرات، بل يتجاوزه إلى تعبيرات أُخْرى كما سبَق إيضاحه آنفاً حَوْل الطُّرُق الأربعة التي سبق ذكْرُ أصولها العامّة. وقد اهتم علماء البلاغة بشرح وتفصيل هذه الطرق الأربعة، في دراسة واسعة وضعوها ضمن إطار عِلْمٍ أسْمَوهُ "عِلْم البيان" إذْ تبرُزُ في هذه الطُّرق مَهاراتُ المتكلّمين في الإِبانة عمّا يريدون التعبير عنه، مقرونةً هذه الإِبانة بصُوَرٍ جماليةٍ ذات تأثير في النفوسِ، وإمتاعٍ للأذهان، ورِياضةٍ بديعة للأفكار. البيان: هو في اللغة الوضوح والظهور، يقال لغة: بَانَ الشيْءُ بياناً إذا اتَّضَح وظهر. واضع هذا العلم: ذكروا أنّ أوّل من دوّن مسائل علْم البيان أبو عبيدة "مَعْمَرُ بن المثنَّى" في كتابه: "مجاز القرآن". وتبعه "الجاحظ". ثم "ابْنُ المعتزّ". ثُمَّ "قُدَامَةُ بْنُ جعفر". ثُمَّ "أبو هِلاَل العسكري". ثم جاء الشيخ "عبد القاهر الجرجاني"، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 فاحكم أساسه، وأكمل في بنيانه. أمّا شرح الطرق الأربعة التي تستخدم للتعبير عن المعاني التي يريد المتكلّم التعبير عنها وهي الخارجة عن دائرة الأوضاع اللّغوية الَّتي يُعَبِّر بها عن المعاني بصورة مباشرة، فيقتضي عَقْدَ فصولٍ لها، تجمع مباحثها وأمثلتها. وقد رأيتُ أن أعقد لها فصولاً ثلاثة وفق العناوين التالية: الفصل الأول: الكناية والتعريض. الفصل الثاني: التشبيه والتمثيل. الفصل الثالث: الحقيقة، والمجاز بقسميه: الاستعارة، والمجاز المرسل. واخترتُ أن أرتّبها وفق هذا الترتيب السابق لأنّ الكناية والتعريض طريقان ليس لهما بحوث واسعة وتفصيلات كثيرات، وأخَّرْتُ فصْل المجاز لأنّ قسماً منْهُ يعتمد على التشبيه، وهو قِسْمُ الاستعارة. *** (2) تعريفات تعريف علم البيان: هو علم يبحث في كيفيّات تأدية المعنى الواحد بطُرُقٍ تختلف في وضوح دلالاتها، وتختلف في صُورِها وأشكالها وما تتصف به من إبداعٍ وَجمالٍ، أو قُبْحٍ وابْتذال. ملاحظة: اقتصر البيانيّون في تعريفهم لهذا العلم على عنصر إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة. وقد رأيت أنّ هذا التعريف ناقص، لأنّ هذا العلم يهتَمُّ أيضاً بما في الطُّرُقِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 الَّتي يبحثُها من عناصر جمالية وإبداعيّة، ويهتَمُّ بتربية الذوق الفنّيّ لإِدْراكِ نِسَبِ الجمال والإِبْداع، والتمييز بين مستويات الصُّور ودرجاتها جمالاً وإبداعاً، وإدْراكِ الصُّوَرِ المبتذلة والصُّوَرِ المرذولة المحرومة من الإِبداع أو من الجمال، فأضفت هذه العناصر إلى التعريف. تعريف الكناية: هي اللّفظ المستعمل فيما وضِع له في اصطلاح التخاطب للدّلالة به على معنىً آخر لازمٍ له، أو مصاحبٍ له، أو يُشار به عادةً إليه، لما بينهما من الملابسة بوجهٍ من الوجوه. كالكناية عن طول القامة بطول نجادِ السيف "نجاد السيف: أي: حمائله" وكالكناية عن قضاء الحاجة الطبيعيّة بالمجيء من الغائط: "الغائط: الأرض المنخفضة التي كان العرب يقضون حاجتهم الطبيعية فيها". وقال البيانيون في تعريف الكناية: لفظٌ أريد به لازم معناه مع جواز إرادة معناه. تعريف التعريض: هو طريقة من الكلام أخفى من الكناية، فلا يشترط في التعريض لزوم ذهني ولا مصاحبة ولا ملابَسَةٌ بين معنى الكلام وما يُراد الدلالة به عليه، إنّما قد تكفي فيه قرائن الحال، وما يُفْهَم ذهناً بها من توجيه الكلام. كأن يقول الراغب بخطبة امرأة معينة، كُلُّ رَجُلٍ راغبٍ في الزّواج يحبُّ أنْ تكون هذه المرأة زوجةً له، تَعْرِيضاً بأنّه يرغب في الزواج منها. تعريف التشبيه والتمثيل: هو الدلالة على مشاركة شيءٍ لشيءٍ في معنى أو أكثر من المعاني لغرض، ويختص لفظ "التمثيل" بالتشبيه المركّب الذي يكون وجْهُ الشبه فيه منتزعاً من متعدّد. * فمن التشبيه قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) خطاباً لبني إسرائيل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلك فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ... } [الآية: 74] . فشبَّه قلوبهم بالحجارة، بجامع القساوة في كُلٍّ منهما، لكِنّ قساوة قلوبهم قساوة معنوية تجاه الحقّ والخير والفضيلة، أمّا الحجارة فقساوتها ماديّة. * ومن التمثيل قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة) أيضاً: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ ... } [الآية: 261] . فشبّه الصورة المركّبة من عنصر الإِنفاق، وعنصر كونه في سبيل اللَّهِ عملاً ونيّة، وعنصر ثمرته عند الله، بالحبَّةِ الّتي تُزْرعُ فتُنْبِتُ سبْعَ سنابل، في كلّ سُنْبُلَةٍ مئة حبَّة. إنَّ وجْهَ الشَّبَه من هَذا التشبيه منتزعٌ من متَعَدّد، فهو من قسم "التمثيل". تعريف الحقيقة: هي اللّفظ المستعمل فيما وُضِع له في اصطلاح التخاطب. مثل: لفظ "الأسد" حينما يستعمل للدلالة على الحيوان المفترس المعروف بأنه ملك الوحوش. تعريف المجاز: هو اللّفظ المستعمل في غير ما وُضِع له في اصطلاح التخاطب، على وجْهٍ يصِحُّ مع قرينة عدم إرادة مَا وُضِع له. فإذا كانت العلاقة المصحّحة لهذا الاستعمال المشابهة بين ما اسْتُعْمِل اللّفظ للدّلالة عليه وبَيْن ما وُضِعَ له في اصطلاح التخاطُب، خُصَّ هذا المجاز بعنوان "الاستعارة" مثل لفظ "الأسد" إذا استعمل للدّلالة على الرجل الشجاع، مع قرينة دالّة على ذلك. فالعلاقة بين المعنى الموضوع له في اصطلاح التخاطب وبين المعنى المستعمل للدّلالة عليه مجازاً هي التشابه، ووجه الشبه بينهما الشجاعةُ في كلٍّ منهما، فهو من الاستعارة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 وإذا كانت العلاقة شيئاً آخر غير المشابهة خُصَّ هذا المجاز بعنوان: "المجاز المرسل". مثل إطلاق الكلّ وإرادة الجزء في قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) في وصف حال قسم من المنافقين: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق حَذَرَ الموت ... } [الآية: 19] . أي: يجعلون أناملهم في آذانهم، فأُطْلِق لفظ "الأصابع" مجازاً مراداً بها "الأنامل" للإِيحاء بأنّ حالتهم من الخوف تجعلهم يُدخِلونَ جميع أصابعهم في آذانهم لو كان واقع الحال يسمح بذلك. هذا المجاز هو من إطلاق الكلّ وإرادة الجزء، فالعلاقة بين المعنى الموضوع له في اصطلاح التخاطب، وبين المعنى المستعمل للدّلالة عليه مجازاً هي "الكليّة والجزئية" أو "الكلُّ والبعض" فهو من "المجاز المرسل". *** (3) الدلالات الوضعية اللفظية اقتبس البيانيّون من علماء المنطق ومن علماء أصول الفقه بعض مبحث الدلالات مقدّمة لبحوث علم البيان، نظراً إلى ارتباط هذا العلم بدلالات الألفاظ الوضعيّة على المعاني. ولفائدة هذا البحث هنا أَثْبَتُّ أقسام الدلالة اللفظية الوضعيّة، أمّا الدلالات الأخرى (العقلية والطبيعيّة) فتركتها لأنّها من اهتمامات علماء المنطق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 تنقسم الدلالة اللفظية الوضعيّة إلى ثلاثة أقسام، وهي: القسم الأول: دلالة المطابقة. القسم الثاني: دلالة التضمّن. القسم الثالث: دلالة الالتزام. وذلِكَ لأنَّ الكلام: * إمَّا أنْ يُسَاقَ ليَدُلَّ على تمام معناه الحقيقي أو المجازي، فتكون دلالته دلالة مطابقة تامّة بَيْن اللفظ والمعنى. فإذا قُلْنَا مثلاً: "نزل المطر" قاصدين فعلاً نزول المطر من السماء في الواقع، كانت هذه الدلالة دلالة مطابقة بين اللفظ والمعنى. * وإمّا أن يُسَاق ليَدُلَّ على بعض معناه الحقيقي أو المجازي، لا ليَدُلَّ على كلّ معناه، لأنّ العناصر الأخرى من معناه غير مطلوبة أو غيرُ مُحْتاجٍ إليها، فتكونُ دلالته دلالة تضَمُّن. ومن أمثلة دلالة التضمّن أن يسأل الطبيب المريض: هل تناولت اليوم في طعامك ملحاً كثيراً حتَّى ارتفع ضَغْطُك؟. فأجابه المريضُ بقوله: دعانا صديقُنَا فلان وأطعمنا طعاماً وضَعَتْ له الملْحَ أوَّلاً زوجته، ثم وضعت له الملْحَ مرّة ثانية أُمُّه ظانَّةً أنّه لم يُضَفْ إليه الملْحُ بَعْد، ثم وَضَعَتْ له الملح ثالثاً أخْتُه، فكان الطعام مالحاً جدّاً. لقد ذكَرَ كُلَّ هذا الكلام الذي لا مصلحة للطبيب فيه ليَدُلَّ علَى أنّه تناول ملحاً كثيراً. هذا الكلام دلَّ على بعض معناه لا على كلّ معناه، لأنَّ غرض الطبيب معرفة تناول مريضه الملح الكثير فقط، ولا مصلحة له بكلّ جوانب القصة التي ذكرها المريض، وهو في الغالب قد أهملها ولم يُعِرْها انتباهه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 * وإمّا أن يُساق ليَدُلَّ على معنىً آخر خارجٍ عن معناه الحقيقي أو المجازي، فتكون دلالته دلالة التزام. ولازم المعنى الذي يدُلُّ عليه اللفظ قد يكون لازماً له عقلاً، أو لازماً له عادةً، أو لازماً له عُرْفاً. كأن تقول: هذه الشجرة لا نستطيع قطف أعلى ثمارها إلاَّ بُسَلّم طوله عشرة أمتار. أي: هي شجرة عالية يبلغ ارتفاع أغصانها قُرابة عشرة أمتار. ومن دلالة الالتزام قول الخنساء في أخيها "صخر": طَوِيلُ الْنِّجَادِ رَفِيعُ الْعِمَادِ ... كَثِيرُ الرَّمَادِ إِذَا مَا شَتَى وسيأتي إن الله شرح هذا البيت في الموضع المناسب للاستشهاد به. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 "علم البيان" الفصل الأول: الكناية والتعريض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 المقولة الأولى: الكناية التعريف اصطلاحاً: عرفنا في المقدّمة أن الكناية هي اللفظ المستعمل فيما وُضِع له في اصطلاح التخاطب للدّلالة به على معنى آخر لازم له، أو مصاحبٍ له، أو يُشارُ به عادةً إليه، لما بينهما من الملابسة بوجهٍ من الوجوه. وتُطْلَقُ أيضاً على استعمال اللّفظ من قِبَلِ المتكلّم فيما ذُكر في التعريف. المعْنى اللّغوي: أمّا الكناية في اللّغة: فهي أن تتكلّم بشيءٍ وتُرِيد غيره. يُقالُ لُغةً: كَنَى عَن الأمْر بغيره يَكْنِي كِنَايةً، أي: تكلّم بغيره ممّا يُسْتَدَلُّ به عليه. ويُقَالُ: تَكنَّى إذَا تَسَتَّرَ، مِنْ كَنَى عَنْهُ إذا وَرَّى. فأصل الكناية تَرْكُ التصريح بالشيء، وسَتْرُهُ بحجابٍ ما، معَ إرادةِ التعريف به بصورة فيها إخفاءٌ ما بحجابٍ غير ساترٍ سِتْراً كاملاً. وبهذا نلاحظ أنّ المعنى الاصطلاحيّ للكناية قريبٌ من المعنى اللُّغويّ لها. فرق ما بين الكناية والمجاز: إنَّ إرادة المعنى الأصليِّ للّفْظ مع إرادة المعنى الآخَر الذي يُكَنَّى باللفظ عنه جائزةٌ ولكِنَّهَا غير لازمة دائماً، فقَدْ يُرَادانِ معاً، وقَدْ تُهْمَلُ إرادةُ المعنَى الأصلي ويرادُ المعنَى الآخر فقط، فقد يُقالُ: فُلاَنٌ كثيرُ الرَّمَادِ، أي: مضيافٌ جواد، مع أنَّه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 لا يَطْبُخُ الطعامَ لضُيُوفِه الكثيرين بنار الحطب الّذي يُخَلّف رماداً، إنّما يطبُخ لهم بالأفران الكهربائية أو الغازيّة. وبهذا يظهر الفرق بين الكناية والمجاز، فالمجاز لا يصحّ معه إرادة المعنى الحقيقيّ للفظ، بل يتعيّن فيه إرادة المعنى المجازيّ فقط، مثل: خطب الأسَدُ المغوار خُطْبةً عظيمة في الجيش ألهب بها المشاعر، واستثار الحماسة. فلفظ "الأسد" هنا مجاز عن الرجل الشجاع، ولا يصحّ أن يُرادَ به معناه الحقيقي، وهو الحيوان المفترسُ المعروف. وتدخل الكناية في عموم التعبير عن المراد بأسلوب غير مباشر، فهي ممّا يتوارى، أو يختفي بساتر، ويَدُلُّ على المقصود بلازم له، أو مقارن له، أو بطرفٍ من أطرافه، أو نحو ذلك. *** أقسام الكناية: قسّم البيانيُّون الكناية إلى كناية عن صفة، وكناية عن موصوف، وكنَاية عن نسبة حكميّة بين الْمُسْنَد والمسند إليه (= المحكو به والمحكوم عليه) وهذه الأقسام أقسامٌ تحليليّة غير ذات جدوى - عَلَى ما أرَى - في تربية ذوق بيانيّ أدبيّ، وقد رأيت الإِعراض عن شرح هذه الأقسام وتحليل الأمثلة على وفقها، والاكتفاء بذكر مثال لكلٍّ منها، والاهتمام ببيان ما هو ذو فائدة بيانيّةٍ أدبيّة. * فعبارة: "طويل النجاد" كناية عن صفة هي طول قامته. * وعبارة: "جاء قابض يده" كناية عن موصوف، أي: جاء البخيل. * وعبارة: "إنّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ أَنْ تَزُولاَ" كناية عن نسبة إمداده لها بالبقاء في الوجود، كالكهرباء لبقاء النور في المصباح الكهربائي إذا انقطع إمداده انعدم النور منه، ولله المثل الأعلى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 وإذْ أعرضْتُ عن شرح هذه الأقسام وتحليل كلّ الأمثلة على وفقها فقد رأيت تقسيم الكناية إلى قريبة وبعيدة: أمّا الكناية القريبة: فهي الكناية التي قلّت لوازمها الذهنيّة، أو كانت فيها العلاقة أو الملابسة بيْنَ المكَنَّى بِه والمكَنَّى عَنْه أمراً لا تتدخل فيه وسائِطُ ذوات عَدد، وهذه الكناية تكون في العادة وفي معظم الأمثلة واضحة ظاهرة، يَسْهُل على معظم الناس إدراكُ المقصود منها. كأن نقول: فلانٌ ثَوْبُه طويل، وقلنسوتُه كبيرة، وحذاؤهُ يتّسع لقدمَيْن، أي: هو طويل القامة، عظيم الرأس، كبير القدم. وقد تكونُ مع قُرْبها خفيّة إذا كان اللّزومُ فيها أو كانت العلاقة أو الملابسة بين المكنَّى به والمكنَّى عنه أمراً خفيّاً. كأن نقول: فلانٌ عَيْنُه فارغةٌ، كنايةً عن كونه يحبُّ أنْ يشاهد كلّ شيء، ويَنْظُر إلى كلّ شَيْءٍ، فهذه الكناية يُتَوصَّل إلى المراد بها عن طريق لازم واحدٍ، فهي قريبة، إذْ يلزم من فراغ العين التي هي أداة النظر رغبة صاحبها بِمَلْئِهَا، وملْءُ العين إنّما يكون بالنظر إلى الأشياء التي تَسْتَحسنها. لكنّ استعمال فراغ العين للكناية عن هذا المعنى غير متداول، فهي مع قربها في هذا المثال كناية خفيّة. وأما الكناية البعيدة: فهي الكناية الّتي كثرت لوازمها الذهنية، أو كانت فيها العلاقة أو الملابسة بَيْن المكنَّى به والمكنَّى عنه تتدخلُ فيه وسائط متعدّدة. وهذه الكناية تكُونٌ في العادة وفي كثير من الأمثلة خفيَّةً تحتاج إلى تأمُّلٍ وتفكير، لكثرة لوازمها الذهنيّة، أو لكثرة الوسائط الذهنيّة التي تُوصِل المكنَّى به إلى المكنَّى عنه، ممّا يجعل الانتقال إلى ما هو المقصود بالدلالة ممّا يختصُّ الأذكياءُ بسرعة إدْراكه، أمّا غَيْرُهُمْ فيُجْهدونَ أذهانهم للوصول إلى إدْراكه وفهمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 كأن نقول: في يومِ كذا من أيّام الحرب فرح أهل المزارع الواقعة في أسفل المدينة، بما تدفق عليهم من سمادٍ بشري، كنايةً عن أنَّ أهل المدينة أصابهم رعْبٌ شديدٌ في ذلك اليوم، ألجأهم إلى استطلاق بطونهم، وقذف ما فيها داخل المراحيض التي صبّت على المجاري، وتدافعت حتّى وصلت إلى المزارع. هذه كناية ذات لوازم بعيدة، وهي خفيّةٌ، لأنَّها غير متداولة، ويَحتاجُ إدراك المقصود بها إلى تأمّل. وقد تكون مع كثرة لوازمها أو كثرة الوسائط بين المكنَّى به والمكنَّى عنه واضحة غير خفيّة، لتداولها، أو لوضوح الوسائط. فإذا ذكر المادح العربيّ ممدوحه عن عرب البادية سكان الخيام بين قبائل عَرَب البادية، بأنّه كثير الرّماد، أدرك الجميع بسرعةٍ ودون خفاء أنّه جواد كريم مضياف، مع أنّ اللّوازم الذهنيّة بين المكنَّى به والمكنَّى عنه كثيرة. إنّ كثرة الرّماد تستلزم كثرة إيقاد النيران، وكثرة إيقاد النيران تدلُّ على كثرة الطبخ، وكثرة الطبخ تدلُّ على كثرة الآكلين، وكثرة الآكلين عند رجلٍ من سكان البادية تدلُّ على احتفائه بالضيوف، وهذا يدلُّ على جوده وكرمه. والسبب في عدم خفاء هذه الكناية مع كثرة الوسائط بين المكنَّى به والمكنَّى عنه، تداوُلُها في بيئة عرب البادية، فهم لا يرونها خفيّة. * ويستعمل الناسُ فراغ العين كناية عن الحسَد، ومعلومٌ أنّ الحسَد لازم أبْعَدُ من حُبّ مشاهدة الأشياء، فَمَنْ رأى شيئاً حسناً رُبَّما استحسنه، ومن استحسن ربّما تَمنَّى لنفسه، ومن تمنّى ربَّما حَسَد. فاللّوازم الذهنية الموصلة إلى الحسد متعدّدة، لكنَّ تداول استعمال فراغ العين كناية عن الحسد جعل المقصود بها أمراً غير خفيّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 * ويستعمل الناس كِبَر البطن كنايةً عن الجشع والطمع وظلم الناس بأكل أموالهم بالباطل، والأصل في هذه الكناية أنّ الشّرِهين في الطعام الّذين يأكلون كثيراً تكبُر بطونهم، والشَّرَهُ في الطعام كثيراً ما يصاحبُهُ شَرَهٌ مشابه في جمع المال وكنزه، وهذا يدفع في كثير من الأحوال إلى كسب المال بالظلم والعدوان. فالتعبير بكبر البطن كنايةً عن الجشع والطمع وظلم الناس من الكنايات ذوات اللّوازم الكثيرة، التي يكثر فيها خفاء المراد. لكنّ تداول استعمال الناس لها جعلها غير خفيّة. * ومن الكناياتِ التعبير بالصفة للدلالة بها على الموصوف، مثل: "والذي في السماء عرشه - والذي نفس محمّد بيده - اقْطعُوا ما ثبتت عليه رؤوسهم، أي: أعناقهم - طاهر ما تحت الإزار، أي: طاهر الفرج - ذات سوار، أي: امرأة - هو على السّرير الأبيض، أي: في المستشفى مريض" إلى غير ذلك. * ومن الكنايات التعبير ببعض مصاحبات الشيء للدلالة بها عليه، مثل الكناية عن الجماع بالملامسة، أو المباشرة، أو الإِفضاء، أو الدّخول، أو الغشيان، أو نحو ذلك. * ومن الكنايات التعبير ببعض الأسباب للدّلالة بها على الأشياء التي تَحْصل بها، مثل الحديث عن مُسَجِّى على سَرِير: "قُطِعَ رأسُه، أي: هو ميّت - شرب عشرين كأساً من الخمر، أي: هو مطروح سكران على شفا الموت". * ومن الكنايات التعبير بالمكان للدلالة على ما يحلُّ فيه أو يحدث فيه أو يستعمل له، مثل كلمة "الغائظ" للدلالة بها على قضاء حاجة الإِنسان الطبيعية، وهي في الأصل اسم للمكان المنخفض، ومن استعمالها كناية بهذا المعنى قول الله تعالى: {أوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائِط} [المائدة: 6] . * ومن الكنايات التعبير بالنتائج للدلالة بها على أسبابها، مثل: "حُكِمَ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 الرجل والمرأة بالرّجم، أي: هما زانيان محصنان - جَلَسَ الرَّجُلُ وراء مكتب الرئاسة، أي: انتخب رئيساً للبلاد - أُودِعَ السّجن، أي: تمكّن الجنود من القبض عليه وسوقه إلى السجن - تصارع مع القروش في البحر فلم نجد له أثراً، أي: أكلته القروش - حامل لواء الشعراء إلى النار، أي: مات كافراً - هذا من أهل الجنة، أي: هو مؤمن تقيّ وسَيَمُوتُ مؤمناً تقيّاً". * وقد تُصْنَعُ كنايات مَبْنِيَّة على مفاهيم غير صحيحة، فتبقى الدلالة بها على المكنَّى عنه، دون النظر إلى صحَّةِ معنى اللفظ المكنَّى به، مثل الكناية عن الغبيّ بعبارة "عريض القفا - أو عريض الوساد" فهذه الكناية مَبْنِيَّة على تصوّر أن من كان عريض القفا كان في العادة غبيّاً، ومن كان عريض القفا احتاج عند النوم إلى وسادة عريضة. *** اقتراح للسّكاكي حول تقسيم الكناية: رأى السّكّاكي على سبيل الاقتراح جعل التعريض قسماً من الكناية، ورأى أن تقسّم الكناية مع ذلك إلى تلويح، ورمز، وإيماء أو إشارة. فالتعريض: أن يساق الكلام ليَدُلَّ على شيءٍ غير مذكور، ويُعْرَفُ من قرائن الحال. والتلويح: كناية كثرت فيها الوسائط بيْنَ المكنَّى به والمكنَّى عنه. قال: ومن المناسب أن تسمَّى هذه الكناية تلويحاً لأنّ التلويح في اللغة: أن تشير إلى غير عن بُعْد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 ومن التلويح الكناية عن كون الرجل جواداً مضيافاً بأنّه كثير الرّماد. والرّمْز: كناية قلّت فيها أو انعدمت الوسائط بين المكنّى به والمكنّى عنه، إلاَّ أنَّ فيها نوعَ خفاء، مثل الكناية عن الغباء والبلادة بعبارة "عريض القفا" أو عبارة "عريض الوساد". ويناسب أن تُسَمَّى رمْزاً لأنّ الرمز أن تشير إلى قريب منك على سبيل الْخُفْيَة. والإِيماء أو الإِشارة: كناية ليس بين المكنَّى به والمكنَّى عنه وسائط كثيرة ولا خفاء، كقول أبي تمّام يصف إبلاً: أَبْيَنَ فَمَا يَزُرْنَ سِوَى كَرِيم ... وَحَسْبُكَ أن يَزُرْنَ أبا سعيد فكنَّى بزيارة الإِبل الّتي وصَفَها أبا سعيد عن أنه كريم بعد أن أثبت أن هذه الإِبل أبت أن تزور غير كريم، وقد أطلق الإِبل وأراد صاحبها على سبيل المجاز المرسل. هذه كناية واضحة ليس فيها خفاء فهي حريَّة بأن تُسَمَّى إيماءً أو إشارة. أقول: من الصعب على دارس النصوص أن يُخْضِعها لهذا التحليل الذي ذكره السَّكّاكي، ويفرزها ويسمّيها بالأسماء التي اقترحها، على أنه لم يضع اسماً للخفيّة ذات الوسائط الكثيرة. *** قيمة الكناية في الأدب: الكناية أسلوبٌ ذكيٌّ من أساليب التعبير عن المراد غير مباشرة، وهي من أبدع وأجمل فنون الأدب، ولا يستطيع تصيُّد الجميل النادر منها، ووضعه في الموضع الملائم لمقتضى الحال إلاَّ أذكياء البلغاء وفطناؤهم، وممارسو التعبير عمّا يريدون التعبير عنه بطُرُقٍ جميلة بديعة غير مباشرة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 إنّ الذكِيّ اللَّمَّاح إذا أراد أن يتحدّث عن شيءٍ ما، صفةً كانَ، أو موصوفاً، أو نسبةً حكميّة، جالَ ذهْنُهُ لِيَدُلَّ على ما يُريد التعبير عنه بطريقة غير مباشرة، وطافَ في محيط ذلك الشيء لينتقي ممّا يلاحظ ما يُدلُّ به عليه، فَيُبْعِدُ حيناً، ويَقْرُبُ حيناً، ويتوسطُ حيناً آخر، ويستَبْعِدُ ما لا يَراه حسناً جميلاً، ومَا لاَ يرى دلالته مناسبةً لمقتضى الحال. إنَّهُ يُرِيدُ مثلاً أنْ يتحدّث عن السّاحرات، فيرى من خصائصهنَّ أنَّهُنَّ يَعْقِدْنَ في الخيوط، وتتحرَّك ألْسِنَتُهُنَّ بهَمْهَماتٍ وَغَمْغَمات، ويَنْفُثْنَ فِي الْعُقَد، فيَدُلُّ عليهنَّ بعبارة: "النَّفَّاثات في الْعُقَد" على سبيل الكناية التي تدلُّ على المعنى المراد بطريقٍ غير مباشر. ويريد مثلاً أن يتحدّث عن البخيل، ولكنْ لا يستَحْسِنُ استعمال لفظة "البخيل" في كلامه، لأنّ دلالتها دلالَةٌ مباشرة، وليس فيها إبداعٌ فكريّ، فيلاحظ أنّ من سِمَات البخيل قبض يَدَيْه عن العطاء، فيكنّى عن الْبُخْل بعبارة "قبض اليدين، أو قبض اليد" ويكنّي عن البخيل بعبارة "قابض اليدين، أو قابض اليد" وعبارة "قبض الْيَد" أدقّ، لأنّ العطاء يكون بيد واحدة في الناس. ويريد أن يتحدّث عن شديد الْبُخْل الّذي لا يستطيع أن يمدّ يَدَهُ بعطاء، فيكنّي بعبارة: "مَغْلُول الْيَدِ إلى العُنق" لأنّ من كانت يده مغلولة إلى عنقه كان غير قادر على أن يبسطها لو أراد بسطها ويعطي بها أو يأْخُذ، وكذلك الشحيح الذي يكون بُخْلُهُ شدِيداً، تكون حالة يدِهِ الّتي يعطي بها عادة مع شُحّ نفسه، كحالة مَنْ غُلَّتْ يَدُهُ إلى عُنُقِه. هذا التعبير اشتمل على مَزْج الكناية بتشبيه ضِمْنِيّ، وتقديم ذلك بعبارة جميلة بديعة تدلُّ على المقصود بطريقة غير مباشرة. وفي مقابل هذه الكناية تأتي كناية بسط اليّد للدّلاَلة بها على الجود. وتأتي كناية الإِفراط في البسط للدّلالة بها على الإِسراف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 هنا نُدْرك الإِبداع والجمال في التعبير القرآني الذي قال الله عزَّ وجلَّ فيه بسورة (الإِسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول) : {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} [الآية: 29] . ونظيره ما جاء في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول) : {وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ ... } [الآية: 64] . ولعامّة الناس في تعبيراتهم الدارجات كناياتٌ كثيرات، فَبَدَلَ أَنْ يقولَ قائلهم: "أنا أكبر من فلان سنّا" يأتي في تعبيراتهم: لمّا كنت مُدرساً كان في المرحة الابتدائية - كنْتُ أحمله وهو ابن سنتين - وتقول المرأة: هو ابني من الرضاعة. ويقول قائل: عن أسرة غنيّة: كانوا يستجدون صدقات الناس قبل الحرب، أي: هم أثرياء حَرْب - كانوا فقراء قبل أن يُعيَّن وليُّهم مديراً للمالية -. وقال مُعَمِّي مهنة أبيه: أنا ابْنُ من خضعت له الرؤوس، أي: ابن حلاَّق. إلى غير ذلك من تعبيرات لا تُحْصَى. *** الأغراض البلاغيّة لاستخدام الكناية: تُستَخدم الكناية لأغراض بلاغيّة كثيرة، منها الأغراض التالية: الغرض الأول: إيثار الأسلوب غير المباشر في الكلام، إذا كان مقتضى الحال يستدعي ذلك. فمن المعلوم أنّ الأسلوب غير المباشر أكثر تأثيراً فيمن يُقْصَد توجيه الكلام له غالباً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 الغرض الثاني: كون التعبير المكَنَّى به ينبّه على معنىً لا يؤدّيه اللّفظ الصّريح المكنَّى عنه. فلو خاطب الله الناس فقال: هو الذي خلقكم من آدم، لم يكن في هذا التعبير التنبيه على عظيم قدرته، وبالغ حكمته الجليلة في قضائه وقدره، وواسع علمه، مثلُ قوله عزَّ وجلَّ في سورة (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول) : {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ... } [الآية: 1] . إنَّ عبارة: {مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} جاءت كنايةً عن آدم، لكِن نَبَهَتْ على أَمْرٍ جليل لا تُنَبِّهُ عليه عبارة: "مِنْ آدم". إنَّها تُنَبّه على أنَّ السّلالَة الإِنسانيّة كُلَّها مشتقة بتقدير العزيز العليم القدير الحكيم منْ نفس واحدة. الغرض الثالث: كَوْنَ المكنَّى به أجمل عبارةً، وأعذب لفظاً من المكنَّى عنه، فمراعاة الجمال الفنّي من الأغراض المهمة التي تُقْصد في الكلام. الغرض الرابع: كَوْنُ المكَنَّى عنه ممّا يَحْسُن سَتْرُهُ، ويقبُحُ في الأدب الرّفيع التصريح به، إذْ هو من العورات، أو من المستقذرات، أو من المستقبحات. الغرض الخامس: إرادة إيضاح المكنَّى عنه بما في المكنَّى به من توضيح له. الغرض السادس: إرادة بيان بعض صفات المكنَّى عنه مع الاختصار، بالاقتصار على ما يُذْكَرُ من صفاته لغرض يتعلّق بذكرها. الغرض السابع: إرادة مَدْح المكنَّى عنه أو ذمّة بذكر ما يُمْدَحُ به أو يُذَمّ به، مع الاقتصار على ذكر اللفظ المكنَّى به. الغرض الثامن: إرادة صيانة اسم المكنَّى عنه، وإبعاده عن التداول، بذكر ما يدُلُّ عليه من ألقاب أو كُنَى أو صفات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 الغرض التاسع: كون المكنَّى به أسْهَل فهماً من لفظ المكنَّى عنه. الغرض العاشر: إرادة التّعمية والإِلغاز، ويكون هذا في الكنايات التي يَصْعُب على غير الأذكياء اللمَّاحين إدْراكُ المقصود بها. إلى غير ذلك من أغراض بلاغية. وأنبِّه هنا على أنّه لا تُحْمَد الكناية لمجرّد كونها كناية، بل لا بدّ من ملاحظة غرض بلاغيّ فيها، أدناه كونها أجمل من التعبير الصريح في أذواق الأدباء والبلغاء. ولا بدّ أيضاً من أن تكون خالية من العيوب الجمالية، والمستقبحان الفكرية. *** أمثلة من الكنايات: المثال الأول: في عرض قصّة إلقاء أمّ موسى ولدها الطفل "مُوسَىْ" عليه السلام في اليمّ خوفاً عليه من جُنود فرعون أن يذبحوه تنفيذاً للأمر الفرعوني بقتل كلِّ مولودٍ ذكر من بني إسرائيل. لقد أوحى الله إليها أن تضعه في صندوق وتلقيه في اليمّ إذا خافت عليه من جنود فرعون أن يذبحوه، ففعلت، وجرى به النهر، حتى إذا بلغ شاطئ القصر الفرعونيّ التقطه آل فرعون، وقالت امرأة فرعون له: قُرَّهُ عَيْنٍ لي ولَكَ، لا تقتلوه، عَسَى أن ينفعنا أو نتّخذه ولداً، بعد هذا العرض قال الله عزَّ وجلَّ في سورة (القصص/ 28 مصحف/ 49 نزول) : {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَارِغاً ... } [الآية: 10] . لقد كان فُؤادُها وهو عُمْقُ قلْبِها الشامل لأفكارها وعواطفها مشحوناً بالقلق والاضطراب والخوف عليه، فلمّا ألقته في اليمّ وعلمت بما جرى له، أزيحت عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 فؤادها الغمّة، وأصْبحَ فارغاً من القلق والاضطراب والخوف عليه فجاءت عبارة {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَارِغاً} كنايةً عن طُمَأْنينتها على وَلَدِها، وسكينتها، واستمتاعها بمشاعر السعادة، لأنّ من شأن فراغ الفؤاد من الأفكار والعواطف المثيرة للقلَق والاضطراب والخوف أن تُصَاحبَهُ الطُّمَأْنينة والسكينة ومشاعر السّعادة. هذه الكناية خفيّةٌ نوعاً ما، مع عدم تعدُّدِ الوسائط بين المكنَّى به والمكنَّى عنه، وجاء خفاؤها بسبب احتمال الفراغ لأمرين متناقضين: الأوّل: الفراغ من الْهَمّ والخوف والقلق، وهو الفهم الذي ترجّح لديّ. الثاني: الفراغ من القوة المفكرة العاقلة بسبب الهمّ والخوف والقلق. وبسبب تردّد الفراغ بين هذين الاحتمالين اختلف أهل التفسير في إدْراك المكنَّى عنه. لكِنَّ المعنى الذي ذكَرْتُه هو المعنى الذي يتلاءم مع الحدث وسياق القصة. أمّا قول الله عزَّ وجلَّ بعد هذه الكناية: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بهِ لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِها لِتكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 10] فَهُو رُجُوعٌ بالبيان إلى حال أُمِّ موسَى قبل أن تضعه في الصندوق وتُلْقيَه في اليمّ، إذْ صعُبَ عليها أن تباشر بنفسها إلقاء ولدها في اليمّ، ورأتْ أنّ احتمال هلاكه في اليمّ قريب من احتمال ذبحه بأيدي جنود فرعون، فجاء الرّبط على قلبها مانعاً لها من أن تظهر أمرها، وممدّاً لها بالثبات لتنفيذ ما أوحى الله لها به. وهذا الرجوع بالبيان هو من التفصيل بعد الاجمال، وهو من أساليب القرآن في عرض القصص، وله نظائر متعدّدة فيه. المثال الثاني: يستشهد البيانيون بقول الخنساء "تُماضر بنت عمر" تصف أخاها صخراً: طَوِيلُ النِّجَادِ رَفِيعُ الْعِمَاد ... كَثِيرُ الرَّمَادِ إِذَا مَا شَتَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 كنَّتْ الخنساء عن طول قامة أخيها بطول نجاد سيفه. النِّجاد: حمائل السيف، إذ من المعلوم باللّزوم الذهني أنّ الرجل ذا القامة القصيرة لا يتَّخذ حمائل طويلة لسيفه، إنّما يتّخذ الحمائل الطويلة من كان من الناس طويل القامة. وكنَّتْ عن كون أخيها ذا منزلةٍ رفيعةٍ في قومه بقولها: "رفيع العماد" أي: بيته بين بيوت العرب ذو أعمدة عالية، إذْ يلزم ذهناً من ارتفاع أعمدة سُكَّان الخيام في البادية أن تكون هذه الأعمدة لبيوت عظيمة كبيرة، وجرت العادة أن تكون هذه الخيام العظيمة لذوي المكانة الرفيعة في أقوامهم، أمّا سائر سُكَّان البادية فتتشابَهُ خيامهم في ارتفاعها وأحجامها وأطوال أعمدتها. وكنّتْ عن كون أخيها جواداً مِضْيافاً بقولها: "كثير الرَّماد" وقد سبق شرح دلالة هذه الكناية. المثال الثالث: قول الشاعر يصف شجاعة قومه وبأسهم: الضَّارِ بِينَ بكُلِّ أبْيَضَ مِخْذَمٍ ... والطَّاعِنِينَ مَجَامِعَ الأَضْغَانِ بكُلّ أَبْيَضَ مِخْذَمٍ: أي: بكل سيفٍ أبيض قاطع. كنَّى الشاعر في هذا البيت عن القلوب بعبارة: "مَجَامع الأضغان". الأضغان: الأحقاد، لقد ترك الشاعر التصريح بلفظ القلوب، وكنَّى عنها بذكر بعض صفاتها وهي كون الأحقاد تجتمع فيها، فإذا وُجدت الأضغان كانت مجتمعة في داخلها وملازمةً لها. وأفادت هذه الكناية أنهم يطعنون قلوب أعدائهم الذين تجتمع في قلوبهم أضغان عليهم. ويدخلُ في الكناية إطلاق الصفة مراداً بها الموصوف، وعلى هذا فعبارة: "أَبْيَضَ مِخْذَمٍ" عبارةٌ كَنَّى بها عن السيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 ومثل هذا كثير جدّاً، وهو من الكنايات الشائعة الواضحة. ومن هذا إطلاق "السابح" مراداً به الفرس، وإطلاق "الْعَضْب" بمعنى القاطع مراداً به السيف. وإطلاق النابح كنايةً عن الكلب، وهكذا إلى أمثلة كثيرة جدّاً. المثال الرابع: ما جاء في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) بشأن بني إسرائيل الذين اتّخذوا العجل الذهبيّ يعبدونه من دون الله، حينما ذهب موسى عليه السلام لمناجاة ربّه، لأنّهم استبطئوا عودته إذْ زاد الله له الميعاد من ثلاثين ليلة إلى أربعين ليلة، ثمّ لمّا رأوه من بعيد راجعاً إليهم وبيده الألواح ندموا على ما فعلوا ندماً شديداً ورأوا أَنَّهم قد ضَلُّوا، قال الله عزَّ وجلَّ فيها: {وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الآية: 149] . جاء في هذه الآية الكناية عن نَدَمِهم وخوفهم من سطوة موسى عليه السلام وعقابه، إذ خالفوا موعدهم الذي واعدوه إيّاه أنْ لا يُغَيّروا ولا يبدّلُوا في الدين شيئاً بعبارة: {سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ} . قال أهل التفسير: أي: نَدِمُوا وتَحيَّرُوا. قال الزّجاج: هُوَ نظمٌ لم يُسْمَع قبل القرآن ولم تَعْرِفه العرب. أقول: هو كنايَةٌ عن نَدَمِهم وشدّة خوفهم، وأصْلُ هذه الكناية أنّ الْمُجْرِمَ إذا أدْرَكَهُ الجنود أسرعوا فأسقطوا بعُنْفٍ في يَدَيْهِ الْقَيْدَ الحديدّي حتَّى لاَ يَفِرَّ، فإذا فعلُوا به ذلك ارتخت أعصابه، ووهَنَتْ عزائمه، وأيْقَنَ أنّه مَسُوق للعقاب. وهؤلاء الذين اتخّذوا العجل الذهبيّ الذي عبدوه أحْسُّوا بمثل هذا لمَّا رَأَوْا من بعيدٍ موسَى عليه السلام راجعاً إليهم ومعه الأَلواح، كأنّه قد حَصَل سُقوطُ قيدٍ حَدِيدىٍّ في أيديهم، وسيلاقون عقابهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 هذه الكناية أُرِيدَ منها لاَزِمُها وهو الشعور بالندم والخوف من العقاب مع العجز عن الفرار، وهي كناية ذاتُ إبداعٍ فنّي رائع، وهي من الكنايات الخفيّة مع عدم وجود وسائط بين المكنَّى به والمكنَّى عنه. المثال الخامس: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الزخرف/ 43 مصحف/ 63 نزول) : {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18] . في هذه الآية جاءت الكناية عن البنات في سياق الحديث عن المشركين الذين جعلوا الملائكة بنات الله بعبارة: "مَنْ يُنْشَّأُ فِي الحلْيَة وهو في الخصام غير مبين". فمن المعروف في عادات الناس أنَّهم يُنَشِّئُون بناتهم بما يلائم طبيعتَهُنَّ، وذلك بإعدادهنّ حتّى يكُنَّ زوجاتٍ مالكاتٍ قُلوب أزواجهنّ، وهذا الإِعداد يتطلّبُ تدريبَهُنَّ على إتقان زيناتِهِنَّ وحِلْيَاتِهِنَّ، والتخضُّعِ في القول، ومُجَافَاة الجدال، وعدم تعلُّم الكلام الذي يُقَال في المخاصمات، لئَلاَّ يُفْسِد عليها لسانُها حياتَها مع زوجها، أو مع أحد أولياء أَمْرِها، فجمال المرأة بحشمتها وإتْقان زينتها وضبطِ لسانها عن الخُصُومات. هذه الكناية جاء فيها ذكر الصفات كنايةً عمَّنْ يتصف بها عادَةً، وهُنَّ البنات في قصور الملوك وكبراء القوم، في مقابل جعل المشركين الملائكة بنات اللَّهِ وهو مَلِكُ الملُوك. ونلاحظ في هذه الكناية إبداعاً تعبيريّاً، وتوجيهاً ضمنيّاً لِمَا يَحْسُنُ أن تُنشَّأَ عليه البنات حتَّى يكُنَّ زوجاتٍ صالحاتٍ مُهَذّبَات. المثال السادس: قول البحتري في قصيدته الّتي يذكر فيها قتله للذئب: عَوَى ثُمَّ أَقْعَى فَارْتَجَزْتُ فَهِجْتُهُ ... فَأقْبَلَ مِثْلَ الْبَرَقِ يَتْبَعُهُ الرَّعْدُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 فَأَوْجَرْتُهُ خَرْقَاءَ تَحْسَبُ رِيشَهَا ... عَلى كَوْكَب يَنْقَضُّ واللَّيْلُ مُسْوَدُّ فَمَا ازْدَادَ إلاَّ جُرْأَةً وَصَرامَةً ... وَأَيْقَنْتُ أَنَّ الأَمْرَ مِنْهُ هُوَ الْجِدُّ فَأَتْبَعْتُهَا أُخْرَى فَأَضْلَلْتُ نَصْلَهَا ... بِحَيْثُ يَكُونُ اللُّبُّ والرُّعْبُ والْحِقْدُ فَأَوْجَرْتُهُ خَرْقَاءَ: أي: وجَّهْتُ لَهُ طَعْنَةً بنبْلَةٍ خَرْقَاء لم تُصِبْهُ، وصف النبلة بأنّها خرقاء لأنها لم تصب الهدف. فَأَضْلَلْتُ نَصْلَها: أي: ضّيعتُ نَصْل النبلة الأخرى، كنَّى بهذه العبارة عن إصابتها الذئبَ بها وضياعها داخل جسده. بحيث يكون اللُّبُّ والرُّعبُ والحقد: كنَّى بهذه العبارة عن قلب الذئب، إذْ القلب هو مكان اللّب والرُّعْبِ والحَقدِ في مفاهيم الناس. وهذه الكناية من التعبير بالشيء عن المكان الذي يحلّ به أو يوجد عادة فيه. المثال السابع: قول المتنبيّ يمدح "سيف الدولة" لمَّا ظفر ببني كلاب إذْ عَصَوْه: فَمَسَّاهُمْ وَبُسْطُهُمُ حَرِيرٌ ... وصَبَّحَهُمْ وَبْسْطُهُمُ تُرَابُ وَمَنْ فِي كَفِّهِ مِنْهُمْ قَنَاةٌ ... كَمَنْ فِي كَفِّهِ مِنْهُمْ خِضَابُ كنَّى بعبارة: "وبُسْطُهُمُ حَرِيرٌ" عن أنَّهُمْ كَانُوا في عزّةٍ وسيادة قبل محاربته لهم، لأن من كان عزيزاً سيداً كانت بُسْطُهُ غالباً من حرير. وكنَّى بعبارة "وبُسْطُهُم تُرَاب" عن حالة الذُّلّ والمهانة التي وصَلُوا إليها بعد أن حاربهم وظفر بهم، لأنّ الذليل المهين لا يجد غير التراب يفترشه. ووصف في البيت الثاني رجالَهُمْ بأَنَّهم صاروا من ضَعْفهم عن مقاومة جيشه كالنساء اللّواتي يخضِبْنَ أكفَّهُنّ بالحنّاء، فكنَّى عن النساء بالوصف الذي يتصف به عادة نساء عصره، وكنَّى عن الرّجال بالوصف الخاصّ بهم، وهو القبض على قنوات الرّماح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 المثال الثامن: قول البحتري: أَوَ مَا رَأَيْتَ الْمَجْدَ أَلْقَى رَحْلَهُ ... في آلِ طَلْحَةَ ثُمَّ لَمْ يَتَحَوَّلِ كنَّى بهذا التعبير عن كون آل طلْحَةَ سادةً ثُمَّ أشرافاً أَهْلَ مَجْد، فَمَنْ ألقى المجدُ رحْلَهُ في داره ولم يتحوَّل عنها، فلا بُدَّ أنْ يكون المجدُ منسوباً إليه لعظيم شرفه ورفيع منزلته. وفي هذه الكناية إمتاعٌ للأديب بصورة أدبيَّةٍ جميلة. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 المقولة الثانية: التعريض التعريف اصطلاحاً: عرفنا في المقدمة أن التعريض طريقة من الكلام أَخفى من الكنايةِ فلا يشترط في التعريض لزوم ذهني، ولا مصاحبةٌ، ولا مُلابسة ما بين الكلام وما يُرادُ الدّلالة به عليه، إنّما قد تكفي فيه قرائن الحال، وما يفهم ذهناً بها من توجيه الكلام، وبهذا يظهر الفرق بين الكناية والتعريض. وقد يُراد بالتعريض المعنى الحقيقي للكلام، وقد لا يراد، فهو قسمان. المعنى اللغويّ: التعريض في اللّغة: أن تقول كلاماً لا تُصرّح فيه بمرادكَ منه، لكنّه قد يشير إليه إشارة خفيّةً، ويُمْكِنُك أن تتهرَّبَ من التزام ما أشرتَ به إليه إذا صِرْت مُحْرَجاً. يقال لغة: عرّض لي فلانٌ تعريضاً: أي: قال فلم يُبَيِّن بصراحة اللفظ. أَعْراضُ الكلام ومَعَارِضُهُ ومعاريضُه: كلامٌ غير ظاهر الدلالة على المراد، وفي الحديث: "إنَّ في المعاريض لمندوحةً عن الكذب" أي: فيها سعة يتخلّص بها المتحدّث من الكذب إذا لم يرد التصريح. والتعريض في خطبة المرأة: أنْ يتكلّم الخاطب بكلام يشبه خطبتها دون تصريح. وقد يكون التعريض بضرب الأمثال وذكر الألغاز في جملة المقال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 ويقول الناس بشأن التعريض: إيّاكِ أعني، واسْمَعِي يا جارة. فما يدور حوله المعنى اللّغويُّ قريب جدّاً من المعنى الذي ذكره البيانيّون للتعريض، أو إنّ المعنى الاصطلاحي مأخوذٌ من المعنى اللّغويّ بزيادة شيء من التحليل. الشرح التحليلي مع الأمثلة: * قد يتوسَّل الإِنسان بالتعريض العملي لدلالة حاله: فقد يلبس الفقير المحتاج ثياباً مقطّعة، أو مرقّعة، دون أنْ يقول شيئاً، تعريضاً بأنّه من مستحِقّي الزكاة، ويكتفي بدلالة الحال عن دلالة المقال، فيراه المتصدّقون فيبذلون له من زكوات أموالهم. وكان يأتي بعضُ أصحاب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض الغزوات وقد ربط كلُّ منهم على بطنه حجراً، تعريضاً بأن الجوع قد بلغ منه مبلغاً شديداً، فيكشف الرسولُ لهم عن بطنه، فيرون أنّه قد ربط حجرين. وربّما حمل الْعُضْو في حزب من الأحزاب أو منظمة من المنظمات شعار الحزب أو المنظمة، تعريضاً بأنّه عضوٌ في ذلك الحزب، أو تلك المنظمة. وربّما خرج البخيل من بيته وهو يخلّل أسنانه، تعريضاً بأنّه قد أكَلَ هو وأهله اللَّحم الكثير، وقد يكون الواقع بخلاف ذلك. ونظير هذا التعريض العملي يكون التعريضُ في الكلام. * فقد يقول الشابّ الراغب في الزواج لوالديه: ابنة عمّي صارت ناضجة ومناسبةً لمن يخطبُها، تعريضاً بأنّه يريد أن يتزوّج ولا مانع لديه من خطبتها له. ويقول من يرى نظراتِ كيْدٍ وعداءٍ ممّن هو نِدٌّ له: جاءني اليوم بعض المنافسين وتطاوَلَ عليّ ببعض القول، فسلّطتُ عليه بعض رجالي، فأمطروهُ ضرباً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 ولَكْماً حتّى غاب عن وعيه، ولمّا علم أهله بأمره جاءوا فحملوهُ مريضاً يئنُّ من الألم، تعريضاً للمخاطب بأنّه إذا أراد التطاول عليه أنزل به مثل ذلك، فهو ذو عزوة وأنصار وقُدْرَة. ويقول طالب وظيفة ذات راتب في الدولة، بحضور من يملك توظيفه، أو باستطاعته أن يتوسط له لدى من يملك توظيفه: أنا لا عمل عندي أكسب منه مالاً، وعندي من المؤهلات كذا، وعندي أسرة من خمسة أشخاص أنا مسؤول عن إعالتهم، تعريضاً بأن يوظفه أو يتوسط له. فالتعريض فنٌّ من فُنون القول غير المباشر يُعْتَمَدُ فيه غالباً على قرائن الحال لاَ على قرائن المقال، والتعريضُ - كما سبق - أخفى من الكناية، لأنّ الكناية لا تقتصر قرائنها على قرائن الحال، بل لها من قرائن المقال ما يَدُلُّ على المراد بها. *** الأغراض البلاغية لاستخدام التعريض: قد يتحقق باستخدام التعريض أغراض بلاغيةٌ تشبه الأغراض البلاغيَّة التي تتحقق باستخدام الكناية، وهي التي سبق بيانها في بحث الكناية، دون حصر. وفي التعريض مزيد إخفاء يجعلُهُ أكثر قولاً حينما يكون التصريح مثيراً لغضبٍ، أو نقدٍ، أو اتّهام، أو عَذْلٍ وتَلْوِيم، أو يكشف أمراً يجب سَتْرُه عن الرُّقباء، فيقوم التعريض مقام الإِلغاز والرَّمْزِ الخفيّ، وما يُسمَّى في اصطلاح الجيوش "الشيفرة". أمثلة: المثال الأول: قول الله عزّ وجلّ في سورة (الزمر/ 39 مصحف/ 59 نزول) خطاباً لرسوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 {وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الآية: 65] . من المعلوم في أصول الدين أنّ الرَّسُولَ الّذِي يصطفيه الله لتبليغ رسالته للناس، لا بدّ أن يكون معصوماً عن أن يشرك بالله شيئاً، فقول الله للرسول محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكل رسول اصطفاه الله من قبله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} هو خطابٌ بصريح العبارة للرّسول، وهُوَ تَعْرِيضُ لكِلّ من آمَنَ به واتّبَعَهُ أنْ يَحْذَروا من الشِّرْكِ لئلاَّ تحبَطَ أَعْمالُهُمْ ويكونوا من الخاسرين. هذا التعريضُ أبْلَغُ منْ مواجَهة غير الرسول بصريح الخطاب، وذلك لأنّ الرسول إذا كان لا يَمْلك لنفسه عند ربّه الحماية من أن يَحْبَطَ عملُه ويكونَ من الخاسِرِين إذا أشرك، وهو ذو المكانة العالية عند ربّه والمحظوظ بالاصطفاء، فكيف يكون حال سائر الناس ليس لهم عند ربّهم مثل ذلك. وهذا نظير من يُهدِّدُ ولَدَه بالعقاب الشديد إذا كسَر له شيئاً من تُحف قَصْرِه، أمَامَ أولاد الآخرين، وكان قد حذّر كلّ من يكْسِرُ له شيئاً منها بالعقاب الشديد، وهو قادر على تنفيذ عقوباته. إنَّهم يدركون أنّ عقابهم سيكون أشدّ وأقسَى إذا فعلوا ما نَهَى عنه، وحذّر من الاقتراب منه. المثال الثاني: ما جاء في القرآن من نحو قول الله عزّ وجلّ: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلباب - وليَذَّكَّر أُولوا الألْبَاب - وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَاب - كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ - إِنَّ في ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ - قَدْ فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} . في هذه النُّصوص تعريض بالكافرين الذين لا ينتفعون من آيات الله في كونه، وآياته في بياناته، بأنّهم لا ألباب لهم، وبأنّهم لا يتفكّرون، وبأنّهم لا يفقهون، دون أن تكون هذه المعاني منصوصاً عليها، لكنّها تُفْهَمُ إلماحاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 المثال الثالث: قول الله عزّ وجلّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) : {فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ الله وكرهوا أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [الآية: 81] . إنّ عبارة: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً} لم يُقْصَدْ مِنْها إعْلاَمُ المنافقين المخلَّفِينَ عن رسول الله في غزوة تبوك، بأنَّ نار جهنَّمَ أشَد حَرّاً من حرارة الفصل الصيفي الذي خرج فيه الرسول والمؤمنون إلى غزوة تبوك، فهذا أَمْرٌ واضحٌ، لكنّ المقصود التعريض بأَنَّ هؤلاء المنافقين هم من أهل جهَنَّمَ الّتِي تَكْويهم بحرّها يوم الدين. المثال الرابع: دُعَاءُ مُوسَى عليه السلام عند ماء مَدْيَنَ إذْ خرج من مصر خائفاً يترّقَّبُ، وهو ما جاء بيانه في سورة (القصص/ 28 مصحف/ 49 نزول) : {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امرأتين تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فسقى لَهُمَا ثُمَّ تولى إِلَى الظل فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى استحيآء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [الآيات: 23 - 24] . نُلاحظ في دعاء موسَى عليه السلام بقوله: "رَبّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ" احتمال التعريض بحاجته إلى المأوى والرزق والزوجة، ورأى أنّ الله قد ساق له مقدّمات ما هو بحاجة إليه، فقال: "رَبِّ إِنّي لِمَا أَنْزَلْتَ" بصيغة الفعل الماضي، ولم يَقُل: لما سَتُنْزِل، إذْ شَعَر أَنّ بشائر ما هو مفتقر له قد ظهرت بفرحة المرأتين به لمَّا سقَى لهما، وعَلِمَ أنّ أباهما شيخٌ كبير يحتاج إلى معين رجل. لذلك جاء في النصّ بعد حكاية دُعائه قول الله تعالى: {فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى استحيآء} فدلّت الفاء العاطفة على الترتيب مع التعقيب، وفي هذا إشعارٌ بأنّ الله استجاب له دُعاءه الذي دَعا به تعريضاً لاَ تصريحاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 وتضمَّنَت القصّة بعد ذلك تحقيق ما هو مفتقر إليه، فأوى عند أبيهما الشيخ الكبير، وأصاب رزقاً، وزوجةً صالحة. المثال الخامس: قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس ... } [الآية: 253] . ففي عبارة: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} تَعْرِيضٌ بارْتفاعِ مُحَمّد خاتم الرُّسُلِ دَرَجَاتٍ على سائر الرُّسل، ولمْ يَأْتِ هذا البيان بعبارةٍ صريحةٍ فيها نصٌّ على ارتفاع منزلته فوق سائر الأنبياء والمرسَلِين تعليماً للمسلمين أن يتأدّبوا مع جميع الرُّسل ولا يَتَّخِذُ من أفضليّة محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذريعةً للتنافُسِ والتفاخُرِ به على سائر الأمم، فمثل هذا قد يولّد شقاقاً، ويَصُدُّ أتباع الرسُل السابقين عن اتّباع محمّد خاتم المرسلين، ولعامّة الناس في تعبيراتهم الدّارجات والمبتكرات تعبيراتٌ هي من أمثلة التعريض، وهي كثيرة. * سمعت أحدهم يقول لآخر: "كلّ عضَّة بغصّة يا سفرجل" تعريضاً بأنّه صَعْبٌ عَسِر. فرَدّ عليه بقوله: "كلّ عضّة بشوكة يا صبّارة" الصبارة هي "التين الشوكي في مصر - والبرشومي في الحجاز" تعريضاً بصفاته الشائكة. * وفي عهد أحد الانقلابيين الذين تَسَلَّموا سدّة الحكم في سورية، وكان من مدينة حماة، ترامَى للنّاس أنّ نهاية عهده قاربت، وكان الموسم موسِمَ قُرْبِ انتهاء المشمش الحموي، فصار باعَةُ هذه الثمرة ينادون عليها في الأسواق: "خلصت أيامك يا حموي - قربت أيامك يا حموي" تعريضاً بانتهاء سلطة الحاكم الانقلابي الذي هو من حماه. * ويتشاتم البيض والسُّود بمعاريض الأقوال، فيقول البيض تعريضاً بالسّود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 "باذنجان كيس كبير برط شعير" فيقول السّود تعريضاً بالبيض: "قرع كثير، كبير وصغير، خمس أكْيَاس بكفّ شعير". وتَسْمَع من الظُّرَفاء طرائف كثيرة تشتمل على أمثلة كثيرة من أمثلة التعريض، وتُسْتَخْدَمُ فيها الأمثال الدارجة بين الناس. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 "علم البيان" الفصل الثاني: التشبيه والتمثيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 المقدمة في التعريفات المعنى اللغوي: التشْبيه والتمثيل في اللّغة مترادفان معناهما واحد، وهو بيان وُجود صفة أو أكثر في المشبَّه مُشابِهَةٍ لمَا يَظْهَرُ من صفاتٍ في المشبَّه به. والتشابه اشتراك شيئين فأكثر في صفةٍ أو صفاتٍ متماثلات، وقد يؤدّي هذا الاشتراك إلى اللّبْس وعدم القدرة على التَّعْيين، إذا كان المطلوب فرداً معيّناً أو صنفاً معيّناً فيه هذه الصفة أو الصفات. المعنى الاصطلاحي: المعنى الاصطلاحي عند البيانيين للتشبيه والتمثيل مطابق للمعنى اللّغوي، وقالوا في تعريفه أقوالاً أحسنها: "الدّلالة على مشاركة شيءٍ لشيءٍ في معنىً من المعاني أو أكثر على سبيل التطابق أو التقارب لغرضٍ ما". وخصّ البيانيون لفظ "التمثيل" بالتشبيه المركّب الذي يكون وجه الشبه فيه منتزعاً من متعدّد. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 المقولة الأولى: التشبيه هو الدلالة على مشاركة شيءٍ لشيءٍ في معنىً من المعاني أو أكثر على سبيل التطابق أو التقارب لغرضٍ ما ولا يكون وجه الشبه فيه منتزعاً من متعدد. وله أركان وتقسيمات متعددات على ما سيأتي بيانها إن شاء الله. (1) أركان التشبيه من الواضح بداهة أنّ لكلّ تشبيهٍ أركاناً أربعة تدلُّ عليها ألفاظٌ تُذْكر في التشبيه، وقد يحذف بعضها لغرضٍ بياني: الركن الأول: المشبَّه. الركن الثاني: المشبَّهُ به. الركن الثالث: أداةُ التشبيه، وتأتي أداة التشبيه حرفاً، أو اسماً، أو فعلاً. * فالحرف له لفظتان: (1) "الكاف" ويليها المشبّه به مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول) : {وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ... } [الآية: 77] . (2) "كأنّ" ويليها المشبّه به، وتفيد التشبيه إذا كان خَبَرُها جامداً أَوْ مُؤَوّلاً بجامد، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (لقمان/ 31 مصحف/ 57 نزول) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ولى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الآية: 7] . قالوا: والتشبيه بكأنّ أبلغ من التشبيه بالكاف، لأنّها مركّبة من الكاف وأَنَّ. * والاسم له ألفاظ، منها: "مِثْل - شِبْه - شبِيه - نظير - مَثِيل" ونحوها. * والفعل له ألفاظ، منها: "يُشْبِه - يُمَاثل - يُنَاظر -" ونحوها من كُلّ ما يدلُّ على تشبيه بشيء. الركن الرابع: وجْهُ الشَّبَه، وهو مَا لُوحِظَ عند التشبيه اشتراك المشبَّه والمشبَّه به في الاتّصاف به، من صفة أو أكثر، ولو لم يتساويا في المقدار، ولو كانت ملاحظةُ الاشتراك خياليّة غير حقيقيّة، كتشبيه رأس إنسانٍ منفرٍّ مُرْعبٍ برأس الْغُول، وتشبيه السّاحرة بأنّ وجهها كوجه شيطان. أمثلة: (1) قول المعرّي: رُبَّ لَيْلٍ كَأَنَّهُ الصُّبْحُ فِي الحُسْـ ... ـنِ وَإِنْ كَانَ أَسْوَدَ الطَّيْلَسَانِ الطيلسان: نوع من الأوشحة يُلْبَس على الكتف أو يحيط بالبدن، خالٍ من التفصيل والخياطة. * فالمشبه في هذا التشبيه اللّيل الذي عناه المعرّي. * والمشبه به الصُّبْح. * وأداة التشبيه: "كأنّ". * ووجه الشبه: "الْحُسْن" المصرّح به في عبارة "في الْحُسْنِ". (1) قول المعريّ يخاطب ممدوحه: أَنْتَ كالشَّمْسِ في الضِّيَاءِ وَإنْ جَا ... وَزْتَ كِيوَانَ فِي عُلُوِّ الْمَكَانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 كيوان: اسم لكوكب زُحَل أبْعَدِ الكواكب السّيارة بالنسبة إلى الأرض. * فالمشبّه في هذا التشبيه هو ما دلَّ عليه لفظ "أنْت". * والمشبَّهُ به ما دل عليه لفظ "الشمس". * وأداة التشبيه "الكاف" في عبارة "كالشمس". ووجه الشّبه ما دلّ عليه عبارة: "في الضياء". (2) وقال آخر يخاطب ممدوحه: أَنْتَ كَاللَّيْثِ في الشَّجَاعَة وَالإِقْـ ... ـدَامِ والسَّيْفِ فِي قِرَاعِ الْخُطُوب قِرَاع الْخُطُوب: أي: مصارعة الشدائد والتَّغَلُّبِ عليها. في هذا البيت تشبيهان لمشبَّه واحد. * فالمشبّه: "أنت". * والمشبّهُ به "اللّيثُ في التشبيه الأول و"السّيف" في التشبيه الثاني. * وأداة التشبيه "الكاف". * ووجه الشبه "الشجاعة والإِقدام" في التشبيه الأوّل، و"قِرَاع الخطوب" في التشبيه الثاني. (3) وقال آخر يصف الماءَ وهو يجري صافياً: كَأَنَّمَا الْمَاءُ في صَفَاءٍ ... وقَدْ جَرَى ذَائِبُ اللُّجَيْنِ اللُّجين: الفضَّة. * فالمشبّهُ: "الماء". * والمشبَّهُ به: "ذَائِبُ اللُّجَيْن". * وأداة التشبيه: "كَأَنَّما". * ووجه الشبه: "الصفاء والجريان". *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 (2) فنّ التشبيه ودواعيه فنُّ التشبيه: التشبيه فَنُّ جميل من فنون القول، وهو يدلُّ على دقَّة مُلاحظة الأشباه والنظائر في الأشياء، سواءٌ أكانت مادّيات تدرك بالحواس الظاهرة، أو معنويات، حتى الفكريات المحض، إذْ ينتزع منها لمَّاحُو عناصر التشابه بين الأشياء التي تدخُل في حدود ما يُعْلَم ولو لم يكن له وجودٌ خارج الأذهان، فيجدون بينها أجزاء يشبه بعضها بعضاً، على سبيل التطابق أو التقارب، فيُعبّرون عمّا لاحظوه من تشابُهٍ يشبه بعضها بعضاً، على سبيل التطابق أو التقارب، فيُعبّرون عمّا لاحظوه من تشابُهٍ بعبارات التشبيه، ويَحْسُن في ذوقهم الأدبيّ أنْ يُشَبّهوا ذا الصفة الخفيّة بذي الصفة الجليّة، نظراً إلى وجود جنس هذه الصفة أو نوعها فيهما، وأن يشبّهوا ذا الصفة الجليَّة بذي الصفة الأجلى، وأن يشبهّوا ذا الصفة الأقل أو الأضعف أو الأدنى، بذي الصفة الأكثر، أو الأَقْوَى، أو الأعلى، نظراً إلى التشابه في عين هذه الصفة أو نوعها أو جنسها فيهما. ويُقْصَد التشبيه لتحقيق غرض بيانيٍّ فكريّ أو جمالي، أو فكري وجماليٍّ معاً. ونزوع الأنفس إلى التشبيه هو إحدى فطرها الّتي فطرها الله عليها، مع قصور التعبيرات ذوات الدلالات المباشرات عن أداء المعاني المرادة أحياناً كثيرة. لهذا نجد التشبيه موجوداً لدى كُلّ الأمم والشعوب، وفي كُلّ لغات الناس فصيحها وعامِّيها. قال "المبرِّد" في كناية: "الكامل": الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 "التشبيه جارٍ كثيراً في كلام العرب، حتَّى لو قال قائل: هو أكثر كلامهم لم يُبْعِدْ". وقال "أبو هلال العسكري" في "كتاب الصناعتين: النظم والنثر": "التشبيه يزيد المعنَى وُضوحاً، ويُكْسِبُه تأكيداً، ولهذا أطبق جميع المتكلّمين من العرب والعجم عليه، وَلَمْ يستغن أحَدٌ عنه". وتشبيه شيء بشيء يعتمد على وجود عُنْصِر تشابه بينهما، أو وُجود أكثر من عُنْصُر تشابه. ففي هذا الوجود الكبير أشباهٌ ونظائر بحسب تقدير الله وإتقان صنعته. ألَسْنَا نُلاحظُ في ظواهر الأشياء ممّا تُدْركُه الحواسُّ أشباهاً ونظائر في أجناسها، وأنواعها، وأصْنافها، وأفرادها؟. ألَسْنَا نلاحظ مثل ذلك في طبائع الأشياء من كلّ ما خلَق الله من نبات، وماءٍ، ورياحٍ، ونارٍ، وقوى وطاقات، وغير ذلك ممّا بثّ الله في كونه من ذي حياة وغير ذي حياة؟. ألَسْنَا نُلاحظُ مثل ذلك في طبائع النفوس وأحاسيسها، وسلوكِ ذوي الإِرادات الحرّة؟ إنّ الملاحظة الذكيّة تستطيع أن تتصيّد للشيء الواحد عدّة أشباه ونظائر من هذا الوجود الكبير. ولا يشترط في الشبيه أن يكون مطابقاً من كلّ الوجوه، بل يكفي فيه أَنْ يُلْمَح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 منه جانبٌ فيه شَبَهٌ ما صالحٌ لأنْ يُشَبَّهَ به، بغية تحقيق غرضٍ من أغراض التشبيه البلاغيّة. *** دواعي التشبيه: يرجع اختيار أسلوب التشبيه في الكلام إلى الدواعي الرئيسة التالية: الداعي الأوّل: استخدام الأسلوب غير المباشر للتعبير عن المراد، إذْ هو أكثر تأثيراً في النفوس من الأسلوب المباشر غالباً، وذلك في المجالات الأدبيّة، وفي الموعظة، وفي كثير من صُوَر الإِقناع، وفي نحو ذلك. الداعي الثاني: ما في التشبيه من طُرُق متعدّدة، وصُورٍ كثيرة، تُعْطِي المعبّر البليغ مجالاً واسعاً لانتقاء ما يراه أكثر تأثيراً فيمن يوجّه له الكلام، أو أكثر إبداعاً، وهذا أمْرٌ يشعر فيه المتكلّم بلذّة الإِبداع والابتكار وإيجاد ما لم يُسْبَقْ إليه، وهي نزعة موجودة في طبائع الناس الفطريّة، تنمو عند الأذكياء والعباقرة، وتضمر عند غيرهم. الداعي الثالث: ما في كثير من الصُّور التشبيهيّة منْ جمالٍ يُرضِي أذْواق المتلقّين وَيُمْتِعُهم، إذْ يُقَدّم لهم لوحاتٍ جماليّة مختلفة: * فمنها ما تنتزعه الذاكرة اللّمّاحة من الطبيعة الجميلة في المدركات الحسّيّة كما هو، فيقيس الفكر عليه، ويشبه به. * ومنها ما يجمع الفكر عناصره من الطبيعة، ويؤلّف الخيال بين هذه العناصر تأليفاً مبتكراً في صورة، ثم يقيس الفكر عليها ويشبّه بها. * ومنها أشياء معنوية فكرية يصوّر لها الخيالُ صوراً ثمَّ يقيس الفكر عليها ويشبّهُ بها. وربّما يشبّه الفكر بها دون أن يتدخّل الخيال في تصوير صُورٍ لها. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 (3) أغراض التشبيه الأديبُ البليغ شاعراً كان أو ناثراً، كاتباً أو متحدّثاً، قد يختار في كلامه طريقة التشبيه ضمن ما يختار من طُرُق الكلام وأساليبه ليحقِّق به غرضاً أو أكثر من الأغراض التالية، سواء أكان ما اختاره تشبيهاً مفرداً أو مُركّباً، ويدخل فيه تشبيه التمثيل. الغرض الأول: كون الصورة الّتي دلّ عليها التشبيه أكثر بياناً وأوضح دلالة وأدَقَّ أداءً من الكلمات التي تدلُّ بوضعها اللّغوي على المعنَى مباشرة، دون استخدام التشبيه. الغرض الثاني: تقريب صورة المشبَّه إلى ذِهْنِ المتلقّي عَنْ طريق التشبيه، إذا كان وجْهُ الشَّبَهِ في المشبَّه به أكْثَر وضوحاً وأظْهَر، أو كان مقدارُه أعظم، كتشبيه القلوب القاسية بالحجارة. الغرض الثالث: الإِمْتَاعُ أو الاستمتاع بصُورٍ جماليّة يشتمل عليها التشبيه، ففي كثيرٍ من التشبيهات الدقيقة المحكمة صُوَر جمالية لا تُوجَدُ في غيرها من طُرُق الكلام، فقولك: "ليلةٌ تمشي كالسلحفاة" أكثر إمتاعاً من قولك: "ليلة بطيئة المسير". الغرض الرابع: الإِقناع بفكرة من الأفكار، وهذا الإِقناع قد يصل إلى مستوى إقامة الحجّة البرهانيّة، وقد يقتصر على مستوى إقامة الحجّة الخطابية، وقد يقتصر على لفت النظر إلى الحقيقة عن طريق صورةٍ مشابهة، ومنه تشبيه من يدعو غير الله بباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه. الغرض الخامس: الترغيب بالتَّزْيين والتحسين، أو التنفير بكشف جوانب القبح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 فالترغيب يكون بتزيين المشبَّه وإبراز جوانب حسنه، عن طريق تشبيهه بما هو محبوب للنفوس مرغوبٌ لديها. والتنفير يكون بإبْراز جوانب قُبْحِه، عن طريق تشبيه بما هو مكروه للنفوس، أو تنفر النفوس منه. وقد يكون كلٌّ من الترغيب والتنفير عملاً إيهاميّاً مُعْتَمِداً على صناعةٍ كلاميّةٍ مُبَالَغٍ فيها. الغرض السادس: إثارة مِحْور الطّمع والرَّغَب في النفس، أو مِحْوَرِ الخوف والْحَذر، إذا كان في المشبَّه مطامع تطمع فيها النفوس، أو مخاوف تحذرها. كتصوير المنفق في سبيل الله بزارع الحبّ الّذي تُنْبت كُلُّ حبَّةٍ منه سَبْع سنابل في كلّ سنبلَةٍ مئةُ حبَّة. وكتصوير أعمال الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، برماد اشتدتْ به الريح، فَسَفَتْهُ ونَسَفَتْهُ، فجعلته هباءً مُنْبَثّاً، فهم لا يقدرون على إمساك شيءٍ ممّا كَسَبُوا. فَلَدى إِثارةِ مِحْوَرِ الطّمَع والرَّغَبِ في النفس يتّجه الإِنسانُ بمحرّضٍ ذاتيّ إلى ما يُرادُ توجيهه له. ولَدَى إثارة مِحْوَر الْخَوْفِ والْحذَرِ في النفس يبتَعِدُ الإِنسَانُ بمحرّضٍ ذَاتِيّ عمّا يُرادُ إبْعادُهُ عَنْه. الغرض السابع: المدحُ أو الذَّمُّ، أو التعظيم أو التحقير. كأن تمدح الشجاع بتشبيهه بالأسد، وتَذُمّ الجبان بتشبيهه بالأرْنب، وتذمّ الدّيُّوث بتشبيه بالخنزير. وكأنْ تُعَظِّمَ جُودَ الجواد بتشبيهه بالبحر، وتحقّر خطبة بتشبيهها بنقيق الضفادع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 الغرض الثامن: شَحْذُ ذهن المتَلَقِّي وتحريكُ طَاقاتِه الفكريّة، أو استرضاء ذكائه، لتوجيه عنايته، حتَّى يتأمّل ويتفكّر ويَصِلَ إلى إدْراك المراد عن طريق التفكر. كتشبيه الصراع بين الحقّ والباطل بصورة الغيث الغزير، الذي يجري سيلاً يملأ الوادي، والزبد الذي يطفو على سطحه، وما ينتهي إليه كلٌّ منهما، أمّا الزّبد فيذهبُ جُفاءً، وأمّا ما ينفع الناس فيمكُثُ في الأرض مُفيداً نافعاً. ومثل هذه التشبيهات يخاطب بها الأذكياء، وأهل التأمُّلِ والنَّظَر والبحث العلميّ، والمتفكّرون. الغرض التاسع: تقديم أفكارٍ كثيرة جدّاً ودقيقة، وهي ممّا يحتاج بيانُه عن غير طريق التشبيه كلاماً كثيراً يَصِلُ إلى عشراتِ الصفحات وأكثر من ذلك، فيَدُلُّ علَيْها التشبيه بأخصر عبارة، فالمشبّه به قد يكون بمثابة نموذجٍ مشهودٍ من نماذج الوسائل التعليميّة، فيكفي في العبارة أن يقال: مِثْلُ هذا. الغرض العاشر: إيثار تغطية المقصود من العبارة بالتشبيه، تَأَدُّباً في اللَّفظ واستِحْيَاءً. كتشبيه عمليّة التزاوج بوضع الميل في المكحلة. الغرض الحادي عشر: بيان صفةٍ للمشبّه، عن طريق التشبيه. * فمنه بيان إمكان وجود الصفة في المشبّه، إذْ هي في المشبّه به ظاهرة لا نزاع في وجودها فيه، ويرى المتلَقِّي عدم إمكان وجودها في المشبّه. * ومنه بيان حقيقة الصِّفة، إذا كانت أمراً غير معروف في المشبَّه، لخفائها، فيأتي التشبيه فيكشف حقيقة هذه الصفة المجهولة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 * ومنه بيان مقدار الصفة قوةً وضعفاً، إذا كانت حقيقتُها معروفة، لكنّ مقدارها مجهول. إلى غير ذلك من أغراض. *** (4) صفات وخصائص التشبيهات المثلى يَحْسُن قبل الدخول في شرح أقسام التشبيه والتمثيل، أن يكون الدارس لهذا الفنّ من فنون الكلام عارفاً بالصفات الأساسيّة للتشبيهات الْمُثْلى، حتَّى لا يَظُنَّ أنّ كُلَّ تشبيه أو تمثيل هو من صور الأدب الرفيع، فربّ تشبيه أو تمثيل يُنْزِل من قيمة الكلام أدبيّاً وبلاغياً ولا يرفَعُهُ، وربّما يهوي به إلى الحضيض. ومن الخير له أن يَدْرُسَ التشبيهات والأمثال القرآنية، وأنْ يَدْرُسَ تشبيهاتِ وأمثال الأدباء البلغاء، ليكتسب الذوق الرّفيع، الذي يُميِّز به بين الغثّ والسمين من التشبيهات والأمثال، وليكتسب المهارة على تدبّر النصوص وتحليل ما فيها من ذلك، وعسَى أن يكتسب مهارة الإِبداع في هذا المجال. فمن الصفات الأساسيّة للتشبيهات المثلى ما يلي: الصفة الأولى: دقَّةُ التصوير، مع إبراز العناصر المهمّة التي هي مقصود التشبيه. الصفة الثانية: الابتكار، والابتعاد عن الاجترار والتكرار للتشبيهات المستعملة كثيراً في أقوال الشعراء والأدباء. الصفة الثالثة: التنويع في أساليب التشبيهات والأمثال ضمن الكلام المتتابع، والابتعاد عن التزام الوتيرة الواحدة، والمتابعة على نَمَطٍ واحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 الصفة الرابعة: صدق المشابهة بين المشبَّهِ، والمشبّه به، ويكفي لتحقيق صدق المشابهة ما يسمَّى "الصّدْق الفنيّ" أي: الصدق في إحساس صاحب الكلام ومشاعره. الصفة الخامسة: ممّا يَرْتَقِي بالتمثيل إلى مستوى الذّروة، التصوير المتحرّك الحيّ الناطق، ذو الأبعاد المكانيّة والزّمانيّة، والذي تبرز فيه المشاعر النفسيّة والوجدانية، والحركات الفكرية للعناصر الحيّة في الصورة. الصفة السادسة: الابتعاد عن الإِسفاف والابتذال والتشبيِه ما يَحْسُن في غير الكلام سَتْره، من العورات والمستقذرات. الصفة السابعة: عدم التصريح بما يمكن أن يُدْرَكَ ذهْناً من القرائن. الصفة الثامنة: البناءُ عَلى المشبَّهِ بهِ كأنَّهُ عَيْنُ المشبّه، إذْ يُنْزَلُ المشبَّه به منزلة المشبَّه، بعد أن سِيق لإِحضار المقصود من المشبَّهِ عن طريقه. وهذه الصفة هي من صفات الأمثال القرآنيّة وخصائصها. *** (5) تقسيمات متعدّدات لأنواع وصُوَر التشبيهات التقسيم الأول: تقسيم التشبيه باعتبار ذكر أداة التشبيه ووَجْه الشَّبَهِ أو عَدَم ذِكْرِهما يتعرّض التشبيه لأحوال مختلفة تتعلّق بذكر أداة التشبيه في اللّفظ وعدم ذكرها، وذكر وجه الشبه في اللفظ وعدم ذكره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 وينتج عن هذه الأحوال خمسة مصطلحات عن البيانيين، تتكوّن منها ثلاث صُور. المصطلح الأول: "التشبيه المرسل" وهو التشبيه الذي ذكرت فيه أداةٌ من أدوات التشبيه. المصطلح الثاني: "التشبيه المؤكَّد" وهو التشبيه الذي لم تُذْكَرْ فيه أداةٌ من أدوات التشبيه. المصطلح الثالث: "التشبيه المفصّل" وهو التشبيه الذي ذُكِرَ فيه وجه الشبه. المصطلح الرابع: "التشبيه المجمل" وهو التشبيه الذي لم يُذْكر فيه وَجْه الشبه. المصطلح الخامس: "التشبيه البليغ" وهو التشبيه الذي لم تُذْكر فيه أداة التشبيه، ولم يُذْكَر فيه أيضاً وجْه الشبه. ويتألف في التطبيق العمليّ من هذه المصطلحات الخمسة ثلاثُ صور، بمقتضى طبيعة التداخل: الصورة الأولى: وهي الصورة الدُّنْيا في درجة الأبلغيّة على ما ذكَرُوا، وهي التي يكون التشبيه كلُّه فيها "مُرْسلاً مُفَصّلاً". أي: هو التشبيه الذي ذُكرت فيه أداة التشبيه ووجه الشبه معاً، مثل قولنا: "خالدٌ كالأسد في الشجاعة والبأس". الصورة الثانية: وهي الصورة الوسطى في درجة الأبلغية على ما ذكروا، وتأتي على وجْهَين: (1) أن يكون التشبيه كلُّه "مُرْسلاً مُجْملاً" أي: ذكرت فيه أداة التشبيه، لكن لم يذكر فيه وجه الشبه، مثل قولنا: "خالد كالأسد". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 (2) أن يكون التشبيه كُلُّه "مؤكّداً مفصّلاً" أي: لم تُذكَرْ فيه أداة التشبيه، لكن ذُكِر فيه وجه الشبه، مثل قولنا: "خالد أسَدٌ في الشجاعة والبأس". الصورة الثالثة: وهي الصورة العليا في درجة الأبلغيّة على ما ذكروا، وهي التي يكون التشبيه كُلُّهُ فيها "مؤكّداً مُجْملاً" أي: لم تُذْكَرْ فيه أداة التشبيه، ولم يُذْكر فيه وجْهُ الشبه. مثل قولنا: "خالد أسد". وتُسَمَّى هذه الصورة: "التَّشْبِيهَ البليغ". أمثلة: * من أمثلة الصورة الأولى التي يكون التشبيه فيها "مُرْسَلاً مُفَصّلاً" قول الشاعر: الْعُمْرُ مِثْلُ الضَّيْفِ أَوْ ... كَالطَّيْفِ لَيْسَ لَهُ إقَامَة الْعُمْرُ: مُشَبّه. مثل: أداة التشبيه. الضيف - الطيف: مشبَّه به. ليْسَ له إقامة: وجه الشبه. هذا تشبيه "مرسلٌ مفصّل". * ومن أمثلة الصورة الثانية التي يكون التشبيه فيها "مؤكّداً مفصّلاً أو "مرسلاً مجملاً" قول ابن المعتزّ: وَكَأَنَّ الشَّمْسَ الْمُنِيرَةَ دِينَا ... رٌ جَلَتْهُ حَدَائِدُ الضَّرَّابِ جَلَتْه: أي: صقلته. الضرَّاب: أي: الذي يَطْبَعُ النُّقود. كأن: أداة التشبيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 الشمس المنيرة: المشبَّه. دِينارٌ جلته حدائد الضرّاب: مشبّه به. هذا تشبيه "مرسل مجمل" ذكرت فيه أداة التشبيه ولم يذكر فيه وجه الشبه. وقول البحتري يمدح أمير المؤمنين المتوكّل على الله. يَا ابْنَ عَمِّ النَّبِيّ حَقّاً ويَا أَزْ ... كَى قُرَيْشٍ نَفْساً وَديناً وَعِرْضاً بِنْتَ بالْفَضْلِ والْعُلُوِّ فَأصْبَحْـ ... ـتَ سَمَاءً وأصْبَحَ النَّاسُ أَرْضاً الممدوح: مُشَبَّه. سماءً: مشبَّهُ به، وأداة التشبيه غير مذكورة. بالفضل والْعُلُو: وَجْهُ الشبه. هذا التشبيه "مؤكّد مفصّل" ذكر فيه وجه الشبه، ولم تُذْكَرْ فيه أداة التشبيه. * ومن أمثلة الصورة الثالثة "التشبيه البليغ" الذي يكون التشبيه فيه "مؤكّداً مجملاً" قول الشاعر أبي القاسم الزّاهِي يصف حسناوات: سَفَرْنَ بُدُوراً. وانْتَقَبْنَ أَهِلَّةً ... ومِسْنَ غُصُوناً. والْتَفَتْنَ جَآذِراً في هذا البيت أربعة تشبيهات هي من التشبيه البليغ، إذْ لَمْ يُذكَرْ فيها أداة التشبيه ولا وجْهُ الشَّبه. مِسْنَ: أي: تمايَلْنَ تبخْتُراً واختيالاً. جآذِراً: جمع "جُؤْذُر" وهو ولد البقرة الوحشية، والعرب تعجبهم عيون الجآذر، فَيُشَبِّهون بها. وقول الآخر: فَاقْضُوا مَآرِبَكُمْ عِجَالاً إِنَّما ... أَعْمَارُكُمْ سَفَرٌ مِنَ الأسْفَارِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 شبّه الأعمار بالسَّفر، على طريقة التشبيه البليغ الذي لم تذكر فيه أَداة التشبيه، ولا وجه الشبه. وقول المرقّش الأكبر (شاعر جاهلي) : النَّشْرُ مِسْكٌ. والْوُجُوهُ دَنَا ... نِيرٌ وَأَطْرَافُ الأَكُفِّ عَنَمٌ في هذا البيت ثلاثة تشبيهات هي من التشبيه البليغ، إذْ لم يذكر فيها أداة التشبيه وَلا وجْهُ الشبه. النشر: الرائحة الطيبة. الْعَنَم: نبات أملس له أزهار قِرْمِزِيّة، يُتَخَذُ خِضَاب، ويبدو أنّ الشاعر شبَّه أطراف أكفّ صَوَاحبه بأزهار هذا النبات على طريقة التشبيه البليغ، لا أنّه اعتبر أنّها مخضّبة بصِبْغ هذه الأزهار، وتقدير كلامه: وأطراف الأكُفّ أزْهارُ عَنَم. ويرى البيانيون أنّ التشبيه البليغ يعتَمِد على المبالغة والإِغراق في ادّعاء أنَّ المشبَّه هو المشبَّهُ به نَفْسه، لذلك لا تُذْكَرُ فيه أداة التشبيه، ولا وجْهُ الشّبه. ويرون أنّ التشبيه البليغ ذو مجالٍ واسعٍ لتسابق الْمُجِيدين من الأدباء والشعراء، وانتقاء روائع بديعة منه. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 التقسيم الثاني تقسيم التشبيه من جهة حسنة أو قبحه وقيمته ينقسم التشبيه بالنظر إلى الْغَرَض المسُوقِ له إلى قِسْمَيْنِ أوّلَيْن: القسم الأول: الْحَسَنُ المقبول. القسم الثاني: القبيح المردود. فالْحَسَنُ المقبول: هو ما كان وافياً بالغرض الْمَسُوقِ له من النّاحيتين الفكريّة والجماليّة، وأمثلة هذا القسم كثيرة، لا داعي للاشتغال بها هنا. والْحَسَنُ المقبول ينقسم إلى قِسْمَيْن: * قريبٍ مبتذل. * وبعيدٍ غريب. والقبيح المردود: هو ما لم يكن وافياً بالغرض الْمَسُوق له من النَّاحِيَتَيْنِ الفكريّة والجماليّة، أو من إحداهما. ومن أسباب ذلك انعدامُ وجه الشبّه بين المشبَّهِ والمشبَّهِ به، أو خفاؤه جدّاً دون التَّنبيه عليه، أو كونُ معناه مُسْتَقْبَحاً مستكرهاً لا يَليقُ بكلامٍ أدبيّ رفيع، أو كونُه غثّاً هزيلاً لا يَدُلُ على حُسْنِ انتقاء واختيار بين بدائل الأفكار، إلى غير ذلك مما تمجُّه الأذواق الرفيعة، وتُبْعِدُهُ عن ساحَةِ الأدب المقبول، ولو من أدنى درجات "القريب المبتذل". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 وأتركُ هنا للأدباء مجال تعرية القبيح المردود من التشبيهات، فالتحليل الأدبيّ الناقد مسؤولٌ عن تقديم الأمثلة ونقدها. "القريب المبتذل والبيعد الغريب" لاحظ البيانيون ما ينتج عمّا يكشفه النظر إلى قيمة التشبيه ودَرَجَتِه، بين مختلف التشبيهات ذوات القيم البيانيّة المختلفة، فانتهى بحثُهُمْ إلى تَحْدِيدِ مرتبتين رئيستَيْن للتشبيه، وتركوا تحديد درجات كلِّ مرتبةٍ منهما للأديب الباحث، ولاختلاف وجهات أنظار النُقَّاد: المرتبة الدُّنيا: مرتبة القريب المبتذل، وفيها درجات يعْسُر ضبطها. المرتبة العليا: مرتبة البعيد الغريب، وفيها درجات يَعْسُر ضبطها. (أ) الشبيه القريب المبتذل: هو ما يُنْتَقَلُ فيه من المشبَّهِ إلى المشبّه به من غير تدقيق نظر، ولا إمعان فكر، بل يظهر وجْهُه في بادي الرأي. وقد نظر البيانيّون نظراتِ تحليل لاكتشاف أسباب كون التشبيه قريباً مُبْتَذَلاً، فظَهَرتْ لهم طائفةٌ من الأسباب أشاروا إليها دون أن يَحْصُروا كلَّ الأسباب بها: السبب الأوّل: كون التشبيه معتمداً على النظرة الكليَّةِ الْمُجْمَلة، التي لم يصاحبها تفصيل ولا تحليلٌ للعناصر. إنّ النظرة الكليّة المجملة الّتي لا تبحثُ في دقائق الأشياء وتفصيلات عناصرها وصفاتها هي النظرة الأولى الساذجة للإِنسان بحسب العادة، وهي نظرة يستوي فيها الصغير والكبير، والجاهل والعالم، والأديب وغيره، ويستطيع جميعهم في الغالب التعبير عن مرادهم بها. لذلك تكون مبتذلةً في العادة، ولا تَدُلُّ على مَهَارة فكرية، ولا مقدرة بيانيَّةٍ في مجال التّشبيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 فالتشبيه المعتمد على النظرة الكليّة الْمُجْمَلَة يكون غالباً من مرتبة القريب المبتذل. إنّ النظرة الكليّة المجملة هي التي تجعل الطفل يُسَمّي الحصان إذا رآه حماراً، وقد يُسَمِّي الجمل إذا رآه حماراً، وكذلك البقرة، لأنَّ خِبْرَاتِه السَّابقات علّمَتْه شكل الحمار، وتعلّم مع ذلك أنّ اسمه حمار، فهو يرى الشكل العام للحصان والجمل والبقرة تمشي على أربع كما يمشي الحمار، فَيُسَمِّي كلاًّ منها حماراً، غير ناظر إلى الفروق الكثيرة التي تميّز كلّ نوعٍ عن الآخر. من أجل هذا قالوا: النظرة الأولى حمقاء. ويقول العلماء بشأن من تُعْوِزُه الدقّة في أقواله وآرائه: لم يُنْعِم النظر في الأمر، ولم يُدَقِّق ولم يتأمَّلْ. أو يقولون: قال قَوْلَهُ أَوْ قَدَّمَ رأيه متعجّلاً دون أناة. السبب الثاني: كون وجه الشَّبَه المنتزع من ركْنَي التشبيه قليل العناصر التفصيلية، سريع الْخُطُور على الأذهان في العادة. أو كونُ المشبَّه به من الأشياء الّتي تَتَكَرَّرُ مُشَاهَدَتُها، فهي ممّا يُسَارع الذهن إلى التشبيه بها، كالشمس في الضياء والاستدارة، وكَالقَمَر في النور والحسن، وكاللَّيل في السّواد، وكالنّهار، في البياض، وكالمطر في صفة تقاطُره العام. فمن الملاحظ أنّ الإِنسان العاديّ إذا أراد تشبيه شيء أَسْود خطر له بسرعة اللّيلُ والغراب، فيقول: هو كاللَّيل، أو كالغراب. وإذا أراد تشبيه وجه جميل قال: هو كالقمر. وإذا أراد وصْفَ نَثْرِ النقود على جميع الناس قال: تناثرت عليهم كالمطر. هذه تشبيهات قريبة مبتذلة، يتناولُهَا معظم الناس كما يتناولون الماء والهواء والكلأ، فليس لها قيمةٌ أدبيَّةٌ عالية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 السبب الثالث: كونُ المشبّه به ووجهِ الشّبه المنتزع منه مما تداول الشعراء والأدباء والكتّاب والخطباء، والمتحدّثون العاديُّونَ التشبيه به حتَّى ابْتُذِلَ واسْتُهْلِكَ. كالتشبيه بالغزال في خفّة الحركة والرشاقة ودقّة الخصر، وكالتشبيه بالحمار في البلادة، والتشبيه بالبغل في الجلادة، والتشبيه بالكلب في اتباع صاحبه، والتشبيه بالخنزير في الخِسَّة وعدم الغيرة على إناثه. إلى غير ذلك. لكِنْ قد يتصرّف الأديب المتمرّس بفنون القول، في التشبيه القريب المبتذل، تصرُّفاً بديعاً يَرْفَعُهُ إلى المرتبة العليا "مرتبة البعيد الغريب" فمن هذا التصرف ما يلي: (1) قول أبي الطيّب المتنبّي من قصيدة يمدح بها "هَارون بن عبد العزيز" لَمْ تَلْقَ هَذَا الْوَجْهَ شَمْسُ نَهَارِنا ... إِلاَّ بِوَجْهٍ لَيْسَ فِيِ حَيَاءُ لقد تضمَّن هذا القول تشبيه وجه ممدوحه بالشمس، وهو تشبيه قريبٌ مبتذل، لكن أبا الطيب تصرّف فيه بطريقةٍ بديعة غريبة رفعت قيمته إلى المرتبة العليا، إذْ أدخل في التشبيه عناصر غير مأْلوفة، فقد أَبَانَ دُون إفصاح صريحٍ بالتشبيه أنَّه كان من واجب الأدب والحياء أن لا تظهر الشمس أمام وجهه لضآلة ضوئها في مقابل وجهه الوضّاء، لكنَّها غير ذات حياء، فمن أجل ذلك تَلْقَى الشمْسُ وجْهَهُ مع أنَّه أعظم منها ضياءً. (2) قول الشاعر: فَرُدَّتْ عَلَيْنَا الشَّمْسُ واللَّيْلُ رَاغِمٌ ... بشَمْسٍ لَهُمْ مِنْ جَانِبِ الْخِدْرِ تَطْلُعُ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَأَحْلاَمُ نَائِم ... أَلَمَّتْ بِنَا أَمْ كَانَ فِي الرَّكْبِ يُوشَعُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 تضمّن هذا القول تَشْبِيه مَنْ أُعْجِبَ الشاعر بجمال وجهها بالشمس، وهو تشبيه مبتذل، لكن أَدْخَل فيه عناصر رفعته من المرتبة الدنيا إلى المرتبة العليا، إذ وَصَفَ طلعةَ وجهها من جانب الخدر في اللَّيل على صورة مفاجئة تشعر بأنّ الشمس التي غابت أعيدت إلى الظهور، فهو في حَيْرَةٍ: هل هو نائم يَرَى حُلُماً، أو يُوشَعُ بن نون صاحب موسى موجود في الركب، ومن أجل طلبه أعيدت الشَّمْسِ للظهور، كما حصل له إِذِ استوقف الشمس على ما ذكروا. (3) قول الشاعر الوطواط في ممدوحه: عَزَمَاتُهُ مِثْلُ النُّجُومِ ثَوَاقِباً ... لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلثَّاقِبَاتِ أُفُولُ لقد رفع من قيمة هذا التشبيه إضافة الشاعر الاستدراك إليه، وهو كون النجوم الثواقب لها أفُول، أمّا ممدوحه فلا أُفولَ له. قالوا: ويسمَّى هذا "التشبيه المشروط". (4) ومن التشبيه المشروط الذي رفعته إضافة الشرط إلى المرتبة العليا، قول الشاعر في ممدوحه: يَكَادُ يَحْكِيكَ صَوْبُ الْغَيْثِ مُنْسَكِباً ... لَوْ كَانَ طَلْقَ الْمُحَيَّا يُمْطِرُ الذَّهَبَا والْبَدْرُ مَا لَمْ يَغِبْ والشَّمْسُ لَوْ نَطَقَتْ ... والأُسْدُ لَوْ لَمْ تُصَدْ والْبَحْرُ لَوْ عَذُبَا (5) ومن التصرّف الحسن الذي رفع قيمة التشبيه المبتذل قول الشاعر: فِي طَلْعَةِ الْبَدْرِ شَيْءٌ مِنْ مَحَاسِنِهَا ... ولِلْقَضِيبِ نَصيبٌ مِنْ تَثَنِّيَها (6) وقد يَخْرُج التشبيه من الابتذال بأن يجمع الشاعر بين عدّة تشبيهات بكلام واحد، كقول امرئ القيس يصف فرسه: لَهُ أَيْطَلاَ ظَبْيٍ وَسَاقَا نَعَامَةٍ ... وَإِرْخَاءُ سِرْحَانٍ وَتَقْرِيبُ تَتْفُلِ له أَيْطَلاَ ظبي: أي: خاصِرَتا ظبْي فهو مُضَمَّر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 وساقا نعامة: أي: في الانتصاب والطول بالنسبة إلى الجسد. وإرخاء سِرْحانٍ: أي: وعدوه كعَدْو الذئب، والإِرْخاء ضرب من عدو الذئب. وتقريب تَتفل: التَّتْفُل: ولد الثعلب، والتقريب وضع الرجلين موضع اليدين في العدو. *** (ب) التشبيه البعيد الغريب: وهو ما يكون الانتقال فيه من المشبّه إلى المشبه به بدقيق النّظر، وإمعان الفكر، ولا يظهر وجهه في بادي الرأي. وقد نظر البيانيّون نظراتِ تحليلٍ لاكتشاف أسباب كون بعض أمثلة التشبيه وصُوَره من البعيد الغريب، فظهرت لهم طائفة من الأسْبَاب أشاروا إليها دون أن يحصروا كلّ الأسباب بها: السبب الأول: نُدْرَةُ خُطور المشبَّه بِه في أذهان معظم متذوّقي الأفكار الأدبية، والمهتمِّين باستدعاء الأشباه والنظائر. سواءٌ أكانت هذه النُّدْرَة خاصّةً بحالة ذكر المشبّه أو حضوره في الذّهن، أو غير خاصّة بها. فحين تكون المناسبة بين المشبّه والمشبّه به بعيدة، أو يكُونُ وجْهُ الشبه الجامع بينهما أمْراً دقيقاً خفيّاً، تكون نُدْرة خُطُورِ المشبَّهِ في الذهن لبُعْدِ المناسبة أو لخفاء وجه الشَّبَهِ بَيْنَ طرفي التشبيه. وحين تكونُ نُدْرَةُ خُطُورِ المشبَّه به في الذِّهْن نُدْرَةً عَامَّة غَيْرَ خاصَّةٍ بحالة ذكر المشبه، فإنَّها تكونُ كذلك لواحد من أُمُورِ منها الأمور التالية: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 (1) كون المشبّه به أمراً وهميّاً. (2) كون المشبَّه به مُرَكَّباً خياليّاً. (3) كون المشبَّه به أمْراً عَقْلِيّاً. (4) كون المشبَّهِ به قَلِيلَ التكرُّرِ عَلَى الْحِسّ. (5) كَوْنُ وَجْهِ الشَّبَّهِ مشتَمِلاً عَلى تفصيلٍ يُلاحَظُ فيه أكثر من وَصْف، ويقع على وجوه مختلفة يَعْسُرُ ضَبْطُها. ويظهر من هذه الوجوه وجهان: الوجه الأول: أنْ يَذْكُر عَاقِدُ التَّشْبِيه بعْضَ أجزاء المشبَّهِ به ويَعْزِلَ بَعْضَها الآخر، كما جاء في قول امرئ القيس: حَمَلْتُ رُدَينيّاً كَأَنَّ سِنَانَهُ ... سَنَا لَهَبٍ لَمْ يَتَّصِلْ بِدُخَانِ فعَزَل امرؤ القيس الدُّخان عن سَنَا اللهب لأنّه لا يدخل في التشبيه، وأثبت السَّنا وهو الضوء مفرداً. ونظيره قول الشاعر الآخر: ... "لَهَا حَدَقٌ لَمْ تَتَّصِلْ بِجُفُونِ" فذكر الحدق وعزل عنها الجفون. الوجه الثاني: أنْ يُلاحِظَ عاقِدُ التَّشْبِيهِ أجْزَاءً مُتَعَدِّدة من المشبَّهِ، مُقَابَلَةً بأشباهها من أجزاء المشبَّه به، وكلّما كان التركيب من أمور أكثر كان التشبيه أبْعَدَ وأغرب. ومثّلوا لهذا الوجه بقول: "أَبِي قَيْسِ بن الأَسْلَت" وقيل هو: لأُحَيْحَة بن الجلاح: وَقَدْ لاَحَ فِي الصُّبْحِ الثُّرَيَّا كَما تَرَى ... كَعُنْقُودِ مُلاَّحيَّةٍ حِينَ نَوَّرَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 كعُنْقُودِ مُلاَّحِيَّة: أي: كعُنْقُودِ عِنَبٍ من صِنْفُ "مُلاَحيّة" وهو عِنَبٌ أبيضُ في حبِّهِ طول، والأشْهَرُ في اسم "مُلاَحيّة" تخفيف الّلام. فقد لاحظ الشاعر التشابه بين أجزاء الثُّريَّا بِعُنْقُودِ مُلاحيَّة حينَ نَوّرَ، أي: وضَحَ بياضُه من نضجه، فَحَبَّاتُ العنب في العنقود تشبهها النجوم في الثُّرَيَّا، وشكل العنقود بوجه عام يُشْبِهُهُ شَكْلُ الثُّرَيَّا، والفواصل بين نجوم الثّرَيَّا تشبه الفواصل الموجودة في العنقود. أقول: ومن أبْدَع الأمثلة على هذا الوجه وأبلغها قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [الآية: 261] . وفي غير هذا الموضع تحليلُ هذا النصّ وما فيه من تشبيه بديع ذي عناصر متلاقيَة ملاحظة في المشبّه به معاً. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 التقسيم الثالث تقسيم التشبيه باعتبار أحوال طَرفيه (المشبَّه والمشبّه به) نظر البيانيّون إلى أحوال طرفي التشبيه: (المشبّه والمشبّه به) فظهرت لهم أقسامٌ كثيرة، وهذه الأقسام ناتجة عن احتمالات كون كُلٍّ منهما مفرداً أو مُرَكّباً، واحتمالات كون كلٍّ منهما ممّا يُدْرَكُ بالحواسّ الظاهرة، أو بالوجدان والحواسّ الباطنة، أو بالفكر، فتحصّل لديهم من ذلك أقسامٌ وتشقيقات يحتاج الدارس لإِحصائها وإحصاء أمثلتها وتطبيقها كدّاً ذهنيّاً مُرْهِقاً. وبعد البحث والتأمُّل لم أَجد في إرهاق ذِهْنِ دارس هَذا العلم، بإحصاء هذه الأقسام وتشقيقاتها، وتطبيق الأمثلة عليها، فائدةً ذاتَ قيمةٍ أدبيَّةٍ بيانيّة، تَنْفَعُ لدى دراسة النصوص الأدبيَّة الرَّفيعة، بغية إبراز جوانب إبداعها، أو تنفع لاكتساب مهارة إبداعيّة في نثر أو شعر، بَلْ رُبما تَصْرِفُ دراستُها ذِهْنَ الباحث عن جوانب الجمال والإِبداع إلى مُهمَّاتِ التحليل المخبري الّذي يهتَمُّ بدراسة عناصر الأشياء وتحليلها تحليلاً ذَرِّيّاً. من أجل هذا آثَرْتُ الاقتصار على الأقسام الَّتِي يَسْهُلُ على الدارسِ استيعابُها، وقد ينتفع بها ضمن أغراض دراسة علم البيان. وفيما يلي شرح ما آثرت الاقتصار عليه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 أوّلاً - "التشبيه البسيط والتشبيه المركب". لاحظ البيانيون تقسيماً ناتجاً عن احتمال كون كلٍّ في التشبيه مفرداً أو مركبّاً فظهر لهم ما يلي: إنّ تشبيه شيءٍ بشيءٍ قائم على ملاحظة وجود عنصر أو أكثر من عناصر التشابه بينهما، وبهذا ينقسم التشبيه إلى قسمين: القسم الأول: التشبيه البسيط. وهو التشبيه المشتمل على التشبيه بمفرد، لأنّ المشبَّه يُشابِه المشبَّه به بوجْهٍ من الوجوه، أو جانب من الجوانب، كتشبيه الجاهل بالأعْمَى، والعالم بالبصير، والْجَهْلِ بالظلمات، والْعِلْمِ بالنّور. القسم الثاني: التشبيه المركّب، وهو المسمَّى "التمثيل". وهو التشبيه الذي يكون على شكل لَوْحَةٍ تُصَوِّرُ أكْثر مِنْ مفرد، ووجه الشبه فيه لا يكون مأخوذاً من مفردٍ بعينه، بل يكون مأخوذاً منْه ومن غيره، أو من الصُّورةَ العامّة. وهذا التشبيه المركب يكون على وجْهَيْن: الوجه الأول: ما كان على شكل عناصر متلاقية تقابل أمثالَها في المشبَّهِ به، كتشبيه الإِنفاق في سبيل الله بإخلاصٍ، بالزّرع الَّذِي تُزْرَعُ فيه الحبُوبُ في أَرْضٍ طيّبَةٍ مُبَارَكَة، فَتُنْبِتُ الْحَبَّةُ منها سبع سنابل، في كُلّ سنْبُلةٍ مئة حبّة. هنا نلاحظ أنّ الإِنفاق يشبه عملية الزرع، وتنمية الله له يُشْبه النبت الجيّد، ومضاعفة الأجر تشبه تكاثر السنابل من الحبّة الواحدة، وتكاثُر الحبِّ في كلّ سنبلة. هذا التشبيه نجده في قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [الآية: 261] . * ومنه قول أبي فراس الحمداني يصف روضتَيْن مُزَيَّنَتَيْنِ بأنواع الزهور ذات الألوان المختلفة الزاهيَة، ويجري بينهما نَهْر صَافٍ: وَالْمَاءُ يَفْصِلُ بَيْنَ رَوْضِ الْـ ... زَّهْرِ في الشَّطَّيْنِ فَصْلا كَبِسَاطِ وَشْيٍ جَرَّدَتْ ... أَيْدِي الْقُيُونِ عَلَيْهِ نَصْلاً فِي الشَّطَّيْن: أي: في جانِبَيْ ماء النهر الجاري. الْوَشْي: النقْشُ في الثوب وغيره من ألوان مختلفة. الْقُيُون: جمع "قَيْن" وهو الحدّاد الذي يصنع السيوف ونحوها من الأسلحة. النصل: حديدة السيف ونحوه من الأسلحة، ومرد الشاعر هنا نصل السيف، لقوله: "جَرَّدَتْ" إذ السيف هو الذي يُجَرَّدُ من غِمْدِه. إنّ وجه الشبه في هذا التشبيه منتزع من متعدِّدٍ في صورة واحدة، إلاَّ أننا لدى تحليل هذا التشبيه نلاحظ أنّه جاء على شكل عناصر متلاقية تُقابل أمْثَالَها في المشبه به. فالنهر بين الروضتين يشبه السّيف المجرّد الصقيل المطروح في وسط البساط الموشَّى. والروضة الواقعة على يمين النهر تشبه قِسْم البساط الواقع على يمين السيف المجرّد. والروضة الواقعة على يسار النهر تشبه قسم البساط الواقع على يسار السيف المجرّد. ودلّ تجريد القُيُونِ للسّيف على أنّه سَيْفُ جديد صقيل يتلامع، وهذا يدلُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 على أنّ ما النهر صافٍ شديد الصفاء، وهذا يدلُّ على أنّه نهر جارٍ من نبعٍ، فليس ماءً راكداً آسناً، وليس ماءَ سيل كدراً. بهذا التحليل نلاحظ أنّ التشبيه الذي اشتمل عليه هذا القول هو من الْوَجْهِ الأول من وجْهَي التمثيل. وهذا الوجه هو من روائع تشبيه التمثيل فيما أرى، وأبدع ما جاء منه ما جاء في الأمثال القرآنيّة، التي أوفيتها دراسة في كتاب "أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع". * ومنه قول بشّار بن بُرْد: كَأَنَّ مُثَارَ النَّقْعِ فَوْقَ رُؤوسِنَا ... وَأَسْيَافَنَا لَيْلٌ تَهَاوَى كَوَاكِبُه مُثَارَ النَّقْعِ: أي: مُثَارَ الْغُبَار الَّذِي تَثِيرُهُ حوافر الْخَيْلِ وحَرَكَةُ القتال في الحرب. تَهَاوَى: أي: تَتَهَاوَى. فشبَّه صورة الْغُبَار المثار بحركة القتال والذي تتهاوى داخله أسْياف المقاتلين على أعدائهم بصورة لَيْلٍ تتهاوَى على الأرض كواكبه. ووجه الشبه الجامع بينهما الهيئة الحاصلة من هُوِيَّ أجرامٍ مشرقة مستطيلة مُتَنَاسبة المقدار، ومتفرقة، في جوانب شيءٍ مظلم، وتظهر فيها الحركة التي زادت التمثيل حسناً. ولدى التحليل نلاحظ أنّ التشبيه المركّب قد جاء في شكل عناصر متلاقية في المشبّه، تقابل أمثالها في المشبّه به، ويتحصّل من ذلك هيئة كلّيّةٌ في صورة. * ومنه قول أبي طالب الرَّقّي: وَكَأَنَّ أَجْرَامَ النُّجُوم لَوَامِعاً ... دُرَرٌ نُثِرْتَ عَلى بِسَاطٍ أَزْرَقٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 فوجه الشبه هيئةٌ منتزعة من متعدّد، وهي الهيئة الحاصلة من تفرّق أجرامٍ متلألئَةٍ مستدير، صغار المقادير في مرأى العيون، على سطح جسم أزرق صافي الزُّرْقة. ولدى التحليل نلاحظ أنّ هذا التشبيه المركّب قد جاء على شكل عناصر متلاقية في المشبه، تقابل أمثالها في المشبَّه به، ويتحصّل من ذلك هيئةٌ كليّةٌ في صورة. * ومنه قول عمرو بن كلثوم: تَبْنِي سَنَابِكُهَا مِنْ فَوْقِ أرْؤُسِهِمْ ... سَقْفاً كَواكِبُهُ الْبِيضُ الْمبَاتِيرُ سَنَابِكُها: أي سَنَابِكُ الخيل. جمع "سُنْبُك" وهو طرف الحافر. البيض الْمَباتِير: أي: السُّيوف القواطع، يقال: سيف بتّار ومِبْتار. وجه الشبه هيئة منتزعة من متعدّد، والتشبيه هنا جاء على شكل عناصر متلاقية في المشبّه، تقابل أمثالها في المشبه به، ويتحصّل من ذلك هيئة كليّةٌ في صورة. *** الوجه الثاني: مَا كَانَ عَلى شَكْلِ وَحْدَةٍ مُرَكَّبَةٍ مُتَداخِلَةٍ تُعْطِي بجملَتِها وجْهَ الشبه، دُونَ مُلاحظةِ التقابل الجزئي بين المشبّه والمشبّه به. * كالمثل الذي ضربه الله عزّ وجلّ لفريق من المنافقين، بقوله في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [الآيات: 17 - 18] . تضمَّن هذا التمثيل تشبيهاً لحالة الصنف الأشد من صنفي المنافقين، وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 الصنف الذي مرَد على النفاق، بعد رُؤيته أضواءَ هداية القرآن، وسماعه إنذارات عذاب الله للكافرين، ولمَّا مَرَد على النفاق ملتزماً الثبات في موقع الكفر، طمَسَ الله بصيرته بقانونه القدريّ الذي اتّخذ هو أسبابه. شبّه الله عزّ وجلّ الصّورة الكليّة لهذا الصنف بصورة من استوقد ناراً في مفازة مظلمة مُوحِشة ضمن ليل دامس، فلمّا أضاءت هذه النار ما حوله من أرض المفازة، ورأى صراطه، وعرف سبيل هدايته، ووجد أنه على غير ما يَهْوَى ويشتهي، اتَّخَذ وسيلةً أبْعَدَ بها عنه شعاع الضوء، رافضاً الاهتداء بالنور، مُتَأَبِّياً أن يسْلُكَ الصراط المستقيم إصراراً على الباطل، ومعاندةً للحق، فوقع عليه قانون ذهاب النُّور الذي تَسَبّب هو في إذهابه، فأمْسَى كالأصَمّ الأبْكمِ الأعمى، غير مُسْتَعِدٍّ لأَنْ يَرْجِع إلى مواطن النور. هذا تشبيه من قسم "التمثيل" فوجه الشّبه فيه صورة منتزعة من متعدّد، والتشبيه قائم على تمثيل صورة ذات عناصر مختلفة بصورة ذات عناصر مختلفة، والجامع بينهما وجه شبه يمثّل أيضاً صورة منتزعة من عناصر متعدّدة. * وكالمثل الذي ضربه الله عزّ وجلّ لفريق آخر من المنافقين عقب المثل السابق بقوله تعالى في السورة المذكورة: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق حَذَرَ الموت والله مُحِيطٌ بالكافرين * يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الآيات: 19 - 20] . الصيّب: المطرُ الغزير، أو السحاب الممطر مطراً غزيراً. هذا تمثيل لفريق آخر من المنافقين لم تنطمس بصيرته انطماساً تامّاً، بل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 يتلامع له نور الحقّ أحياناً، فيراه، فيسير فيه قليلاً، ويَسْمَعُ إنْذَارات آيات الله أحياناً، فَيَرْهَبُ، لكنَّه إذا اشتدّت عليه سَدَّ سَمَعَهُ عنها، فيعود إلى حالته الأولى. هذا الفريق من المنافقين صنف متردد مذبذبٌ حيران، لم يستقِرَّ نهائيّاً في موقع الكفر، ولم يحب أن يختار بحزم موقع الإِيمان والعمل بمقتضاه، فصورة حالته العامّة، تشبه صورة جماعَةٍ في مفازة مُظْلِمة بليلٍ دامسٍ، جَاءَهُمْ سحابٌ مُمْطِرٌ، فأمطر عليهم مطراً غزيراً، فأصابتهم الحيرة يبتغون النجاة، ورافق ذلك رعْدٌ وبرقٌ، فكانوا ضمن هذا الحدَثِ على مفازتِهِمْ في مَطَرٍ غزيرٍ مخيفٍ، وظُلُمَاتٍ مُوحشات، ورعْدٍ يثير الرُّعْب، وبرقٍ يتلامع بالضَّوْء. فَهُمْ كُلَّمَا تواتَرَ عليهم الرّعْدُ الشديد المخيف القاذف بالصواعق، يجعلون أصابعهم في آذانهم خوفاً من الصواعق أن تأتيهم بالموت، وكلَّما أضاء لهم البرق مَشَوْا فيه على قَدْرِ مَا يكشف لهم ومِيضُه، فخُطُواتُهم على طريق الهدى قليلة بقَدْر الومضات، وكُلَّمَا انْتَهَتْ ومَضَاتُهُ السَّرِيعات الخاطفات تَوَقَّفُوا في مواقِعهم حَيَارَى، لا يدرون كيف يَتَصَرَّفون. إنَّ أهل هذا الصنف من المنافقين لم يَصِلُوا إلى مرحلة العناد والإصرار على الكفر، كما وصَلَ أهل الصنف الأوّل، بل ما زالت لدَيْهم بقيّةُ خَيْرٍ تَنْزِعُ في داخلهم إلى الاستجابة لدعوة الحق، لكنَّها بقيّة ضعيفة. لذلك فهم لم يَصِلُوا بَعْدُ إلى حضيض: {صُمٌّ بُكْمٌّ عُمْيٌّ فَهُمْ لاَ يَرْجعُونَ} كما وَصَل إليه أهل الصنف الأول، بل هم في مستوى: {وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} لكنّ الله عزّ وجلّ حكيم رحيم لا يَطْمِسُ أسماعهم وأبصارهم حتَّى يتخذوا بأنفسهم أسباب ذلك. هذا التشبيه أيضاً هو من قسم "التمثيل" فوجه الشبه فيه صورة منتزعة من متعدّد، والتشبيه قائم على تمثيل صورة ذات عناصر مختلفة بصورة ذات عناصر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 مختلفة، والجامع بينهما وجْهُ شبَهٍ يُمثِّلُ أيضاً صورة منتزعة من عناصر متعددة. * ومنه قول ابن المعتزّ: والشَّمْسُ كالْمِرْآةِ في كَفِّ الأَشَلّ. شبّه على طريقة التمثيل الشمس في استدارتها وما يُشاهد من حركة الضياء الذي تبثُّه بمرآة مستديرة يحملها أشَلُّ بكفّه فهي ترتجف تبعاً لحركة كفّه. فوجه الشَّبه منتزع من متعدِّد العناصر، مع أنّ المشبّه مفرد، وهي الشمس، لكنّ العناصر التي انتزع منها وجه الشبه متعدّدة، يظهر منها اللّون، والاستدارة، وحركة الارتجاف التي يُشَاهد بها النور يرتجف، حتَّى يُرَى الشُّعَاع كأنَّهُ يَهُمُّ بأن يَنْبَسط حتَّى يفيض من جوانب الدائرة، ثم يبدو له فيرجع إلى الانقباض. ومنه قول المهلّبيّ الوزير: والشَّمْسُ مِنْ مَشْرِقِهَا قَدْ بَدَتْ ... مُشْرِقَةً لَيْسَ لَهَا حَاجِبُ كَأَنَّهَا بوْتَقَةٌ أُحْمِيَتْ ... يَجُولُ فِيهَا ذَهَبٌ ذَائبُ شبه الشمس ببوتقة الصائغ التي يُذِيب بها الذّهبَ على النار، ووجه الشبه هنا منتزع من متعدّد، إذ هو الهيئة الحاصلة من لون الذهب، وحركته الرجراجة وهو ذائب، واستدارة البوتقة في هيئة مختلطة مركّبة. * ومنه قول ابن المعتزّ: وكأنَّ الْبَرْقَ مُصْحَفُ قَارٍ ... فانْطِبَاقاً مَرَّةً وانْفِتَاحاً قَارٍ: أي: قارئٍ، حذفت الهمزة فصارت قاري، وبالتنوين حذفت الياء. في هذا التمثيل تصوير لحركة متعددة الأشكال في صورة جامعة. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 ثانياً - "كُلُّ من ركني التشبيه إمّا أن يكون مُدْركاً بالحسّ الظاهر أو غير مُدْرَكٍ به": ولاحظ البيانيون الأقسام النّاتجة عن احتمالات كون المشبّه والمشبّه به ممّا يدركُ بالحسّ الظاهر أولا يُدْركُ به، فظهر لهم ما يلي: إنّ كلّ معلوم إمّا أن يكونَ شيئاً يُمْكِن إدْراكُه بالْحَواسّ الخمس الظَّاهرة: (السمع والبصر والشَّمّ والذَّوْقِ واللّمس) وإمّا أن يكون معنىً من المعاني يدرك بالفكر كالأفكار، أو شُعوراً يُحسُّ به الوجدان، كالعواطف والانفعالات، وكلّ أنواع الشعور النَّفْسِيّ الباطن. وبالتأمّل نستطيع أن نتبيَّن أنَّ تمثيل شيءٍ بشيءٍ قد يكون بين مُدْرَكَيْن بالحسّ الظاهر، كمرئيّيْنِ بالعين، وقد يكونُ بين مُدرَكَيْنِ بالحسِّ الباطن كالمدركات الفكريّة والوجدانية، وقد يكون أحدهما مُدرَكاً بالحسّ الظّاهر والآخر مُدركاً بالحسِّ الباطن، وقد تأتي الصورة المدرَكَةُ في طرفي التشبيه أو في أحدهما مختلطة من القسمين. فالتقسيم العقليّ يُقَدِّم لنا خمسة أقسام: القسم الأول: تشبيه مُدْرَكٍ بالحسّ الظاهر بمُدْرَكٍ بالحسّ الظاهر. القسم الثاني: تشبيه مُدْرَكٍ فِكْرِي أو وِجداني بمُدْرَكٍ فِكْرِي أو وِجداني. القسم الثالث: تشبيه مُدْركٍ فِكْرِيّ أو وجْداني بمدْرَكٍ بالحسّ الظاهر. القسم الرابع: تشبيه مُدْرَكٍ بالحسِّ الظَّاهر بمُدْرَكٍ فِكْريِّ أو وِجْداني. القسم الخامس: الصورة التمثيلية المختلطة الّتي تمتزج فيها الأشياءُ الْمُدْرَكة بالحسّ الظاهر بالمدركات الفكريّة أو الوجدانيّة. * فمن أمثلة "القسم الأوّل" تشبيه العودة إلى الحياة الدنيا بعد الموت، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 بالنبات الذي يعود إلى الحياة عن طريق بزوره، بعد حصاده الذي يكون به موت حياته الخضراء. فالصورتان بينهما تماثل، وكلتاهما ممّا يدركُ بالحسّ الظاهر. * ومن أمثلة "القسم الثاني" تشبيه الخشية من النّاس بالخشية من الله، وتشبيه لذّة الوصول إلى المعرفة بلذّة الظفر بالملك، أو الانتصار على الأعداء. فكلُّ من المشبه والمشبه به وِجْداني. * ومن أمثلة "القسم الثالث" تشبيه العلم بالنور، والإِيمان بالبصر، والجهل بالعَمَى، والكفر بالسير في الظلمات، وتشبيه من يتخذ من دون الله أولياء بالعنكبوت التي تنسج لنفسها بيتاً واهياً، وتشبيه من ينقض العهد بالمرأة الحمقاء الّتي نقضت عزلها من بَعْد قُوّةٍ أنكاثاً، وتشبيه إبطال أعمال الذين كفروا بربّهم برمادٍ اشتدَدَّتْ به الريح في يومٍ عاصف فنسفته وبدّدته فلم تدع منه في موقعه شيئاً. فكلُّ هذه التشبيهات هي من تشبيه مُدْركٍ فكريّ أو وجْدانيٍّ بمدْرَكٍ بالحسّ الظاهر. * ومن أمثلة "القسم الرابع" تشبيه الأمّ بالمحبّة، وتشبيه القاضي العادل بالعدل، أو بأحكام الشرع، وتشبيه الأعداء بالحقد والكراهية، وتشبيه الانفجارات الناريّة أو البركانيّة بالغيظ العنيف في نفوس المغتاظين. فكل هذه التشبيهات هي من تشبيه مُدْركٍ بالحس الظاهر بمُدْرَكٍ فكريٍّ أو وِجْدَاني. * ومن أمثلة "القسم الخامس" تشبيه الحياة الدنيا المنحصرة باللَّعِب واللَّهْوِ والزّينة والتفاخُر والتّكاثر، بغيثٍ من السّماء أعْجَبَ الكُفَّارَ نباتُه، ثُمَّ يهيج فتراه مُصْفَرّاً، ثمّ يأتي حصاده، فيتكسَّرُ ويتحطَّمُ وينتهي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 فالمشبَّهُ وهو الحياة الدنيا فيه أشياءُ مُدْرَكَةٌ بالحسّ الظاهر، وأشياء فكرية، وأشياء نفسيّة وجدانية، وكلُّ هذِهِ الأمور ممتزجة في لوحة متحرّكة بحركة الزّمن، والمشبّه به لوحة صغرى من الحياة الدّنيا نفسها، وفي هذه اللّوحة عناصر: منها غيث السماء، نجم عنه في الأرض نبات بديع، تحرَّكتُ له نفوس الزّراع بالإِعجاب (وهذا أمر وجداني) ثم انتهت دور حياته فاصفر وتكسّر وانتهى. *** ثالثاً - "كُلُّ من ركني التشبيه إمَّا أن يكون منتزعاً من الواقع أو في الخيال": لاحظ البيانيون ما ينتج من أقسام عن احتمال كون التشبيه صورةً منتزعة من الواقع أو من الخيال، فظهر لهم ما يلي: لدى تتبع التشبيهات يتبيّن لنا أن الصورة الواردة في التشبيه: إمّا أن تكون صورة منتزعة من الواقع. * وإمّا أن تكون صورة منتزعة من الخيال. أمثلة: (أ) من أمثلة الصورة التشبيهيّة المنتزعة من الواقع تشبيه الذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، بزارعٍ يزرع بزوره في تراب رقيق مبسوط على صخرة صمّاءَ مَلْسَاء، إذا نزل عليها غيث السّماء سَفحَ التراب والبزور معه، وجرفها السَّيْل، فترك مزرعته حجراً صَلْداً أمْلَسَ لا شيء عليه، فهو لا يطمع بنبات، ولا ينتظر حصاداً. فالصورة التمثيليّة في هذا التشبيه منتزعة ومقتبسةٌ من الواقع في الأحداث الكونيّة. ومنها أيضاً تشبيه الذي يُنْفِق مالَهُ ابتغاء مرضاةِ اللَّهِ وتثبيتاً من نفسه لقاعدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 الإِيمان في قلبه ولفضيلة خُلُق الجود عنده، بزارع حصيف عاقل، يزرع حبَّهُ في جنَّةٍ سَمِينَةِ التُّرْبَةِ، بربْوة لا تَجْرِفُها السيول، فنَزَل عليها المطرُ الغزير، فآتت أُكُلَهَا ضِعْفَيْن، فإنْ لَمْ يُصِبْهَا المطَرُ الغزير كفاها الطَلَّ (= المطر الخفيف) لتُعْطِيَ الثمر الطيّب المضاعف. إنّ الصُّورة التمثيليَّة في هذا التشبيه صورة منتزعة ومقتبسةٌ من الواقع في الأَحداث الكونية. (ب) ومن أمثلة الصورة التشبيهيَّةِ المنتزعة من الخيال، تشبيه طَلْع شجرة الزَّقوم التي تخرج في أصل الجحيم بصورة رؤوس الشياطين. إنّ الناس لا يعرفون صورة رؤوس الشياطين، لكن في خيالهم صورة قبيحة منفّرة مخيفة للشياطين ورؤوسهم، وهي أقبح وأخوف صورة يتخيّلونها. وقد جرى تشبيه طلع شجرة الزقوم في جهنم بأقبح صورة وأخوفها يمكن أن يتخيّلها الناس. إنّ الشياطين أقبحُ وأخبثُ ما في الوجود، والصورةُ التي يَنْسُجُهَا خَيَالُ النّاس لهم هي أقبح وأخبثُ صورة. فالتمثيل بها تمثيل منتزعٌ من خيال الناس، لا من الواقع، وقد يكون الواقع كذلك، لكنَّ المخاطبين قد خوطِبُوا على مقدار ما في خَيَالِهم. وفي عرض هذا التشبيه يقول الله عزّ وجلّ في سورة (الصافات/ 37 مصحف/ 56 نزول) : {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين * فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الجحيم} [62 - 68] . {نُّزُلاً} : النُّزُل: المنزل. والنُّزُل: الرّزق وما يُهَيَّأُ للضَّيْفِ من ضيافة، والجمع الأنزال، وهي المآكل التي يُتَقَوَّتُ بها، وبهذا المعنىَ فُسِّرَتْ كلمة "نُزُلاً" هنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 {شَجَرَةُ الزقوم} : هي شجرة خبيثة تَنْبُتُ في أصل الجحيم، وقد جاء ذكرها في القرآن في ثلاثة مواضع. {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ} : أي: جعلْناها إحدى وسائل تعذيبهم في جهنّم، إذ كلمة "الفتنة" تأتي بمعْنَى العذاب، وأصل الفتنة الصهر بالنار للمعدن، كالذهب والفضة لتمييز الرديء من الجيّد. *** رابعاً - "تشبيه التسوية وتشبيه الجمع": ولاحظ البيانيون مَا يَنْتُجُ عن احتمال تعدّد المشبّه مع اتّحاد المشبَّه به، أو تعدُّدِ المشبَّهِ به في حال اتّحاد المشبَّه في العبارة الواحدة، فظهر لهم قسمان: القسم الأول: تشبيه التسوية. القسم الثاني: تشبيه الجمع. تشبيه التسوية: قد يتفنَّن الأديب فيأتي بأكثر من مفرد على أنّ كلّ واحد مشبّه، ويأتي بمشبَّهٍ به واحد في العبارة الواحدة. وقد راق للبيانيين هذا الفنّ، فوضعوا له اسم "تشبيه التسوية" ومثَّلُوا به بقول الشاعر: صُدْغُ الْحَبِيبِ وَحَالِي ... كِلاَهُمَا كاللَّيَالِي وَثَغْرُهُ فِي صَفَاءٍ ... وَأَدْمُعِي كالّلآلِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 تشبيه الجمع: وقد يتفنَّنُ الأديب فيأتي بمشبَّهٍ واحد، ويأتي بمُشبَّهٍ به متعدّدٍ في العبارة الواحدة. وقد راق للبيانيين هذا الفنّ، فوضعوا له اسم "تشبيه الجمع" ومثّلوا له بقول البحتري: بَاتَ نَدِيماً حَتَّى الصَّبَاحْ ... أَغْيَدُ مَجْدُولُ مَكَانِ الْوِشاحْ كَأَنَّمَا يَبْسِمُ عَنْ لُؤْلُؤٍ ... مُنَضَّدٍ أَوْ بَرَدٍ أَوْ أَقَاحْ الأغْيَدُ: من الناس الناعم الذي يَتَمايل ويتثنَّى في لِينٍ: مَجْدولُ مَكانِ الوِشَاح: أي: ملفوفُ القامة حَسَنُها، والوِشاحُ نسيج عريضٌ يُرَصَّعُ بالجوهر، تَشُدُّهُ المرأة بين عاتقها وكَشْحَيْها. مُنْضَّدٌ: مرصوفٌ بتناسُق. أَقَاح: جمع أُقْحُوانَة، وهي نبت زَهَرُه أصفر أو أبيض، ورقه كأسنان المنشار، تشبّه الأسنان بالأبيض منه. المشبّه في هذا القول أسنان الأغيد، والمشبّهُ به متعدّد، هو: اللؤْلُؤُ المنضّد، والْبَرَدُ، والأقاح. * وبقول الصاحب ابن عبّاد في وصْفِ أبياتٍ أهْدِيَتْ إليه: أتَتْنِيَ بالأَمْسِ أَبْيَاتُهُ ... تُعَلِّلُ رُوحِي برَوْحِ الْجِنَانِ كَبَرْدِ الشَّبَابِ وَبَرْدِ الشَّرَابِ ... وَظِلِّ الأَمَانِ ونَيْلِ الأَمَانِي وعَهْدِ الصِّبَا وَنَسِيمِ الصَّبَا ... وَصَفْوِ الدِّنَانِ وَرَجْعِ الْقِيَانِ المشبّه: الأبيات التي أهديت للصّاحب بن عبّاد. المشبّه به: ثمانية أشياء جاءت في بيتين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 * ومنه قول امرئ القيس: كأنّ الْمُدَامَ وَصَوْبَ الْغَمَامِ ... وَرِيحَ الْخُزَامَى وَنَشْرَ الْقُطُرْ يُعَلُّ بِهِ بَرْدُ أَنْيَابِهَا ... إِذَا طَرَّبَ الطَّائِرُ الْمُسْتَحِرُ الْمُدَام: الخمر. صَوْبُ الغمام: مطره النافع الذي لا يؤذي. الْخُزَامَى: نبات ذو رائحة عَطِرة. ونَشْرَ الْقُطُر: النَّشْرُ: الريح الطيبة. الْقُطُر: الْعُودُ الَّذِي يُتَبَخَّرُ به. الْمُسْتَحِر: يقال: اسْتَحَرَ الطّائر إذا غرَّدَ في السَّحَر، فهو مُسْتَحِرٌ. المشبّه: رِيقُ صاحبته التي يصف. المشبّه به: الْمُدام - وصوبُ الغمام - وريح الخزامى - ونشر العود الذي يُتبخَّرُ به. وهذا من التشبيه المقلوب الذي سيأتي بيانه. *** خامساً - "التشبيه الملفوف والتشبيه المفروق": ولاحظ البيانيون مَا ينتج عن احتمال ضمّ عدّة تشبيهات لكل مشبّهٍ فيها مشبَّه به، في كلام واحد أو متتابع، فظهر لهم قسمان: القسم الأول: التشبيه الْمَلْفُوف. القسم الثاني: التشبيه المفروق. التشبيه الملفوف: قد يتفَنَّن الأديب فيأتي بأكثر من مشبّه، ويأتي بَعْد ذلك لكلّ واحدٍ بمشبّه به. وقد راق للبيانيين هذا الفنّ، فوضعوا له اسم "التشبيه الملفوف" ومثَّلُوا له بقول امرئ القيس يصف عُقاباً بكثرة اصطيادها الطيور: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً وَيَابساً ... لَدَى وَكْرِهَا الْعُنَّابُ والْحَشَفُ الْبَالِي فجاء أوّلاً بِمشَبَّهَيْن هما: القلوب الرطبة، والقلوب اليابسة من قلوب الطير. وجاء بعد ذلك لكلّ منهما بمشبَّه بِه منفصل عن الآخر، هما: الْعُنَّابُ: وهو ثمر أَحْمَر لشجرة تُسَمَّى العناب أيضاً، وقد شبَّه به القلوب الرَّطْبَة. والحشَفُ البالي: وهو يابسُ التَمْرِ الذي ذهب ماؤه وكُلُّ خير فيه، وقد شَبَّه به القلوب اليابسة من قلوب الطير. التشبيه المفروق: وقد يتفنَّنُ الأديب فيأتي بمشبَّه ومَشَبَّهٍ به، ويُتْبعُهُ بمشبَّهٍ وَمُشبَّهٍ به، وقد يزيد في كلام متتابع، دون فواصل. وقد راق للبيانيين هذا الفنّ فوضعوا له اسم"التشبيه المفروق" ومثّلوا له بقول المرقَّش الأكبر: النَّشْرُ مِسكٌ. والْوُجُوهُ دَنَا ... نِيرٌ وَأطْرَافُ الأَكُفِّ عَنَمْ سبق شرح هذا البيت. ومنه قول المتنبي يصفُ حسناءه: بَدَتْ قَمَراً ومَالَتْ خُوط بَانٍ ... وَفَاحَتْ عَنْبراً وَرَنَتْ غَزَالاً خُوط بانٍ: القضيب، وجمعه خِيطَان. والبان: شجر سَيْطُ القوام لينٌّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 سادساً - "التشبيه المقلوب": ولاحظ البيانيون أنّ عاقد التشبيه قد يحلو له أحياناً أن يجعل المشبَّهَ في كلامه مشبّهاً به، ويجعل المشبّه به مُشَبَّهاً، ليَدُلَّ بصنيعه هذا على أنّ وجود وجْهِ الشّبَه في المشبَّه أقوى وأظهر من وجوده في المشبَّهِ به. وقد راق للبيانيين هذا الفنّ، فوضعوا له اسم "التشبيه المقلوب". أمثلة: (1) قول البحتري يصف بَرْقَ السحابة بتبسُّم ممدوحه: كَأَنَّ سَنَاهَا بِالْعَشِيّ لِصُبْحِهَا ... تَبَسُّمُ عِيسَى حِينَ يَلْفِظُ بِالْوَعْدِ لقد قلب التشبيه ليُشْعِرَ بأنَّه يرى تبسُّم ممدوحه عيسَى أكثر ضياءً من برق السحابة التي استمرّ يتلامع طَوال اللّيل، فتبسُّمه حين يلْفِظُ بالوعد ينبعث منه سَناً معنويٌّ يسُرُّ القلوب سروراً لا يكون حين يتلامع سنا البرق. (2) قول محمد بن وُهَيْبِ الْحِميَريّ (متشبع من شعراء الدولة العباسية - بصريّ الأصل بغداديُّ النشأة) يمدح الخليفة: وَبَدَا الصَّبَاحُ كَأَنَّ غُرَّتَهُ ... وَجْهُ الْخَلِيفَةِ حِينَ يُمْتَدَحُ قلب التشبيه ليُشْعِر بأنّه يرى وجه الخليفة أكثر إشراقاً وضياءً من غُرَّة الصباح. (3) قول الشاعر: أحِنُّ لَهُمْ وَدُونَهُمُ فَلاَةٌ ... كَأَنَّ فَسِيحَهَا صَدْرُ الْحَليم فشبّه اتساع الفلاة بصدر الحليم، على طريقة التشبيه المقلوب. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 سابعاً - "التشبيه الضمني": ولاحظ البيانيُّون أنّ عاقد التشبيه قد يَتْرُك الطريقة المعهودة في ذكر المشبَّه والمشبَّهِ به، ويَتّخِذُ طريقة غيْرَ صريحة في التشبيه، وذلك بأن يأتِيَ بكلام مستقلّ مقرون بكلام آخر، وقد اشتمل هذا الكلام الآخر على معنًى يُفْهَمُ مِنْهُ ضمناً تشبيهٌ يناسب الكلام المستقلّ الذي اقترن به. أمثلة: (1) قول المتنبيّ يمْدَحُ الْحُسَيْنَ بْنَ عليّ الْهَمَدَانِي ويَمْدَحُ أَباهُ: وَأصْبَحَ شِعْرِي مِنْهُمَا فِي مَكَانِهِ ... وَفي عُنُقِ الْحَسْنَاءِ يُسْتَحْسَنُ الْعِقْدُ ما جاء في الشطر الثاني ليس تشبيهاً وفق المعروف من عبارات التشبيه، لكنْ يُفْهَمُ مِنْهُ ضِمْناً تشبيهٌ، وهو أنّ شِعْرَه في ممدوحَيْهِ يشبه الْعِقْدَ النفيس في عُنُق المرأة الحسناء. (2) قول المتنبي أيضاً يمدَحُ "أبا أيوب أحمد بن عمران": كَرَمٌ تَبَيَّنَ في كلاَمِكَ مَاثِلاً ... ويَبِينُ عِتْقُ الْخَيْلِ فِي أَصْوَاتِهَا عِتْقُ الخيل: كَرَمُها وأصالَتُها وتَفَوُّقُها في السَّبْق. في أصواتها: أي: في صهيلها، أي: إنّ الفرس الكريم إذا صَهَل عُرِف عِتْقُهُ وكَرَمُهُ بصهيله. ما جاء في الشطر الثاني ليس تشبيهاً وفق المعروف من عبارات التشبيه، لكن يُفْهَمُ منه ضمناً تشبيه، وهو أنّ كرَم ممدوحه يظهر في كلامه، كما يظهر عِتْقُ الخيل في صَهِيلها. (3) قول البحتري يَمْدَحُ "مُحَمَّد بْنَ عَلِيٍّ الْقُمّي": ضَحُوكٌ إلَى الأَبْطَالِ وَهُوَ يَرُوعُهُمْ ... وللسَّيْفِ حَدٌّ حِينَ يَسْطُو ورَوْنَقُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 يفهم من الشطر الثاني ضمناً تشبيهٌ، وهو أن ممدوح الشّاعر كالسيف له صفتان، يسُرُّ الأبطال بإشراقه وبسماته، ويروعهم بسطوة سلطانه. (4) قول أبي العتاهية (هو أبو إسحاق إسماعيل بن القاسم كوفي مولداً ونشأة - الولادة والوفاة "130 - 211هـ" معظم شعره مواعظ وحكم) : تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا ... إنَّ السَّفِينَةَ لاَ تَجْري على الْيَبَسِ الشطر الثاني تضمَّنَ تَشبيها، ولم يأت على نسق التشبيه المعهود من ذكر المشبّه والمشبَّه به. وإيضاح هذا التشبيه الضمني هو أنّ مَنْ لم يسْلُكْ مسَالِكَ النَّجَاةِ تكون حالهُ مثل حال السَّفينة البحريّة إذا وُضِعَتْ في البرّ على اليابسة، فإنَّها لا تجري. (5) قول أبي تمّام: اصْبِرْ عَلَى مَضَضِ الْحَسُو ... دِ فَإِنَّ صَبْرَكَ قَاتِلُهْ النَّارُ تأَكُلُ بَعْضهَا ... إِنْ لَمْ تَجِدْ مَا تَأْكُلُهْ البيت الثاني اشتمل على تشبيهٍ ضمني واضح الدلالة. (6) وقول أبي تمّام أيضاً: لَيْسَ الحِجَابُ بِمُقْصٍ عَنْكَ لي أَمَلاً ... إِنَّ السَّمَاءَ تُرَجَّى حِينَ تَحْتَجِبُ الشطر الثاني اشتمل على تشبيه ضمنيّ واضح الدلالة. (7) قول المتنبي من قصيدة يرثي فيها والدةَ سيف الدولة ويمدحُهُ فيها: فَإِنْ تَفُقِ الأَنَامَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ ... فَإِنّ الْمِسْكَ بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ الشطر الثاني اشتمل على تشبيه ضِمْنِيّ واضح الدّلالة، وقد ساقه مساق حُجَّةٍ يُثْبتُ فيها ما ادّعاه لسيف الدولة، من تفوّق على أنَام زمانه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 (8) قول أبي تمّام رثاء طفْلَيْن لعَبْد الله بن طاهر: لَهَفِي عَلَى تِلْكَ الشَّوَاهِدِ مِنهُمَا ... لَوْ أُمْهِلَتْ حَتَّى تَكُونَ شَمَائِلا إنَّ الْهِلاَلَ إِذَا رَأَيْتَ نُمُوّهُ ... أَيْقَنْتَ أَنْ سَيَصِيرُ بَدْراً كامِلا البيت الثاني اشتمل على تشبيه ضِمْنِيّ واضح الدلالة. *** ثامناً - "التشبيه المكني": هو تشبيه مُضْمَرٌ لم يُذْكر فيه لفظ المشبّه به، وإنّما ذُكِرَ فيه بعض صفاته، أو بعض خصائصه، أو بعض لوازمه القريبة أو البعيدة كنايةً عنه. وأصله تشبيه بليغٌ، إلاَّ أنّه بحذف لفظ المشبّه به والكناية عنه بما يدُلُّ عليه من صفاته، أو خصائصه، أو لوازمه، صار أدقّ وأبْلَغ وأكثر بُعْداً عن التعبير المباشر. وربّما كان أبلغ أيضاً من الاستعارات القريبة، إذا كانت حال المخاطب تقتضي كُلاًّ منهما. كأن يقول قائل: "ناديتُ خالداً فجاءني بجناح السُّرعة". فإننا نلاحظ في هذا المثال أنّ القائل يشبّه مجيء خالد أو سُرْعَته التي جاء بها بسرعة طائر يطير بجناحيه، لكنَّه حذفَ المشبّه به الذي لو صرَّح به لكان تعبيره من قبيل التشبيه البليغ كما هو ظاهر. إذ يكون الكلام كما يلي: فجاءني طائراً سريعاً، أو فجاءني مجيء طائر سريع. ثم حذف المشبّه به ورمز إليه بشيءٍ من صفاته وهو جناحه الذي هو أداة سرعة حُضُوره، فكان التعبير فجاءني بجناح السّرعة. أي: فجاءني كطائر يطير بالجناح الذي هو أداة سرعته في قطع المسافات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 ويقتضي وضع بعض صفات المشبّه به أو خصائصه أو لوازمه تصرفات في التعبير ملائمات لها، وهذه لا تغيّر من جوهر التشبيه المكنّي شيئاً. أقول: إنّ هذا التعبير وأمثاله فيما رأى هو من قبيل التشبيه البليغ المكني، ونقول فيه اختصاراً: "تشبيه مكني" كما قال البيانيّون في نظيره من الاستعارة: "استعارة مكنيّة". ولم يذكر البيانيّون هذا القسم من أقسام التشبيه، لكن يُفْهم من بعض كلام الخطيب القزويني، إذْ ذهبَ إلى غير ما ذهب إليه السَّكاكي في الاستعارة التخييليّة، كما سيأتي بمبحث الاستعارة إن شاء الله. وهنا ألاحظ أنّ أمثلة كثيرة اختلطت على الباحثين والكاتبين في علم البيان، هل يجعلونها من التشبيه أمْ من الاستعارة التي يسمّونها استعارة تخييليّة؟. وكان ذلك منهم بسبب عدم فَرْزِ قسم التشبيه المكنّي عن التشبيه البليغ الذي يُذْكَرُ فيه المشبَّهُ باللفظ الدّالّ عليه مباشرة، ويُغْضُونَ النظر عن الضابط الذي ذكروه للفرق بين الاستعارة والتشبيه، وهذا الفرق يقضي بأن لا يجتمع في الكلام المشبَّه والمشبَّه به على وجه يُنْبِئ عن التشبيه، في وجه من الوجوه السّتّة الآتي شرحُها مع أمثلتها، لدى الكلام على الاستعارة، وهي: "أن لا يكون المشبّه به خبراً عن المشبَّه - وأن لا يكون المشبّه به حالاً للمشبَّه - ولا صِفَةً له - ولا مضافاً إلى المشبَّه - ولا مَصْدراً مُبَيِّناً لنوعه - وأن لا يكون المشبَّهُ مبيِّناً في الكلام للمشبَّه به". فالعبارات التي يكون فيها شيءٌ من هذه الوجوه السّتّة تكون من التشبيه لا من الاستعارة، بحسب ما قرَّروا، وهو حقٌّ. غير أنّ كثيراً من الأمثلة الّتي يوردها بعض البيانيين في الاستعارة، ويعتبرونها من الاستعارة القائمة على التخييل، هي من التشبيه المكِنّي لدى التحليل. أمثلة: المثال الأول: "علي بن أبي طالب فارس شجاعٌ ذو بأْسٍ في الحرب يفترس أقرانه" في هذا المثال تشبيه "علي بن أبي طالب" بالأسد على طريقة التشبيه البليغ، لكن لم يُذكر لفظ المشبّه به في العبارة وهو لفظ "الأسد" وإنما ذكر بعض صفاته بأسلوب التشبيه المكنيّ. ولا غرو أنّ هذا التشبيه المكنّي أدقُّ وأبلغ من التشبيه البليغ، لابتعاده عن ذكر لفظ المشبّه به، وليس هو من الاستعارة لاجتماع المشبَّهِ وصفةٍ من صفات المشبَّهِ به، على وجْهٍ يُنْبِئُ عن التشبيه. المثال الثاني: قول الكُمَيْت: خَفَضْتُ لَهُمْ مِنّي جَنَاحَيْ مَوَدةٍ ... إِلَى كَنَفٍ عِطْفَاهُ أَهْلٌ ومَرْحَبُ الكنف: جانب كلّ شيء، والظِّلّ الذي يُسْتظلُّ به، ومن الإِنسان حِضْناه عن يمينه وشماله. الْعِطْف: من الإِنسان جانبه من لَدُنْ رأسِه إلى وَرِكه. شبه الكُمَيْتُ المودّة بالطائر، على طريقة التشبيه البليغ الذي أضيف فيه المشبه به إلى المشبَّه "طائر المودّة" أي: المودّة التي كالطائر، ثم حذف المشبَّهَ به، ورمز إليه بأخصّ صفاته الّتي تنخفض حناناً ومودّة، وهما الجناحان، فأضاف الجناحَيْن للمودّة، فقال: "جناحَيْ مودّة". وناسب هذا التشبيه استعمال فعل الخفض، فقال: "خَفَضْتُ" وجعل جناحي مودّته ينخفضان إلى كَنَفه، أي: إلى حضنيه عن يمينه وشماله. وبما أنّ كَنَفَه يشتمل على عِطْفَيْه فقد رأى أن يجعل أحد هذين العِطْفَيْن أهلاً، وأن يَجْعَلَ الآخر مرحباً، على طريقة التشبيه البليغ، أي: فهو لكثرة حسن استقباله لضيوفه كان أحَدُ عِطْفَيْه كالأهل الذينَ يستقبلون بغاية الودّ، وكان العطِفُ الآخر منه كالعبارات التي تُقَدَّم في الترحيب، أو كالمكان الرَّحْبِ الذي يَتَّسع لمن ينزل فيه، ولكن حذَف أداة التشبيه ليكون تشبيهاً بليغاً، بمعنى أنّ المشبَّه هو عَيْنُ المشبَّهِ به ادّعاءً. المثال الثالث: قول الله عزّ وجلّ في سورة (الرعد/ 13 مصحف/ 96 نزول) : {والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض أولائك لَهُمُ اللعنة وَلَهُمْ سواء الدار} [الآية: 25] . قوله تعالى: {يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ} . جاء في هذه العبارة تشبيه الْعَهْدِ بالْحَبْلِ الْمُبْرَمِ الّذِي أُحْكِمَتْ تقويته بالإِبْرام، وهو إيثاقه، أي: إحكام تقويته. ثُمَّ حُذِفَ المشبَّه به، ورُمِزَ إلَيْه ببَعْضِ صِفَاتِهِ، فجاء النقض الذي يشبه إبطال الْعَهْد في عبارة "يَنْقُضُونَ" وجاء الإِيثاق الذي يشبه إعطاء العهد للالتزام به، في عبارة "من بَعْد ميثاقه". وأصل الكلام: يُبْطِلُون العهد إبطالاً يشبه نقض الحبل الْمُبْرمِ الذي أُحْكِم إيثاقاً، الذي يُشْبِهُ إعطاء العهد الذي عاهدوا عليه مُوَثِّقين له بِالأيمان بالله. المثال الرابع: قول الله عزّ وجلّ في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول) بشأن الإِحسان إلى الوالدين: {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الآية: 24] . في هذا المثال تشبيه التَّذَلُّلِ لِلْوَالِدَيْنِ بتذّلل الطائر حين يخفض جناحَيْهِ أو جناحَه مُنْكَسِراً لفراخِه أو لزوجه أو لغيرهما، ولكِنْ أُضْمِر التشبيه، فلم يُذْكَرْ لفظُ المشبّه به، وإنّما كُنِّيَ عَنْه بشيءٍ من صفاته وهو الجناح، وأضيف هذا المكنَّى به إلى المشبَّه. وهذا على ما يظهر هو من التشبيه البليغ المكنّى فيه عن المشبَّه به ببعض صفاته. ومعنى الجملة على هذا التحليل: ليكُنْ ذُلُّكَ لوالِدَيكَ كطائرٍ يخفض جناحه تذلُّلاً من الرَّحْمَة، فَحُذِفَتْ أوّلاً أداة التشبيه فصار تشبيها بليغاً، ثمّ حُذِفَ لفظ المشبّه به، ورُمِزَ إليه بشيء من صفاته وهو الجناحُ الذي يُسْتَعْمَلُ خفضُه للدلالة به على التذلُّل والرَّحْمَة، فصار تشبيهاً مَكْنِيّاً. وناسَبَ هذا التشبيهَ استعمالُ فِعل "الْخَفْض" في عبارة {واخْفِضْ لَهُما} وظَاهرٌ أن هذا الْخَفْضَ يَشْتَركُ فيه المشبَّهُ والمشبَّهُ به، فالطائر يخفض جناحه، والإِنسان يخفض جانبه الجسدي، ويخفض جانبه النفسيّ. الخفض في اللّغة: التواضع ولين الجانب، والميلُ إلى المنخفض المطمئنّ من الأرض، وهو ضدّ الرفع. وجعل هذا المثال من قبيل الاستعارة المكنية مخالف للقواعد الّتي وضعها البيانيون. *** (6) مختارات من التشبيهات والأمثال * أسْمَى التشبيهات والأمثال وأبْدَعُها وأتْقَنُهَا ما جاء منها في القرآن المجيد، وقد بذَلْتُ في دراستها واستخراجها ما أمْلِكُ من طاقةٍ إنسانيّة، استقصاءً وتدبُّراً وتحليلاً، ودَوَّنْتُ ذلك في كتابي "أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع" فأُحِيل عليه من شاء أن يستمتع وينتفع بالروائع من التشبيهات والأمثال، وبطائفة من الصّور الأدبيّة العجيبة. * ويأتي من دونها ما جاء في تشبيهات الرسول محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد انتقيت منها طائفة مختارة، وشرحْتُها شرحاً فكريّاً وأدبيّاً، وجعلْتُها ضمن كتابي "روائع من أقوال الرسول" وأحيلُ عليه أيضاً من شاء أن يطّلع على طائفةٍ مشروحةٍ من تَشْبِيهاتِ الرسول وأمثاله. * وأقتصر هنا على عَرْض طائفة مختارة ممّا أبدعه المبدعون من الناس، من دون المصطَفَيْن الأخيار من الأنبياء والمرسلين: (1) الشاعر الوصّاف "أبو عُبَادة الوليد بن عُبَيْد" الطائي الملقّب "بالبحتُرِي" نسبة إلى "بُحْتُر" أحد أجداده - وهو مولود في "مَنْبِج" قُرْب "حِمْص" من بلاد الشام سنة "205هـ" والمتوفّى سنة "284هـ" وصَفَ بِرْكَة الخليفة "المتوكّل على الله" من قصيدة يمدحه بها فقال: يَا مَنْ رأَىْ الْبِرْكَةَ الْحَسْنَاءَ رُؤيَتُهَا ... وَالآنِسَاتِ إِذَا لاَحَتْ مَغَانِيها بِحَسْبِهَا أَنَّهَا فِي فَضْلِ رُتْبَتِهَا ... تُعَدُّ وَاحِدَةً والْبَحْرُ ثَانيِها مَا بَالُ دِجْلَةَ كَالْغَيْرَى تُنَافِسُهَا ... فِي الْحُسْنِ طَوْراً وَأَطْواراً تُبَاهِيها أَمَا رَأَتْ كَالِئَ الإِسْلاَمِ يَكْلَؤُهَا ... مِنْ أَنْ تُعَابَ وَبَانِي الْمَجْدِ يَبْنِيها كَأَنَّ جنَّ سُلَيْمَانَ الَّذِينَ وَلُوا ... إِبْدَاعَها فَأَدَقُّوا فِي مَعَانِيها فَلَوْ تَمُرُّ بِهَا بِلْقِيسُ عَنْ عَرَضٍ ... قَالَتْ هِيَ الصَّرْحُ تَمْثِيلاً وتَشْبِيهَا تَنْصَبُّ فِيهَا وُفُودُ الْمَاءِ مُعْجِلَةً ... كَالْخَيْلِ خَارِجَةً مِنْ حَبْلِ مُجْرِيها كَأَنَّمَا الْفِضَّةُ الْبَيْضَاءُ سَائِلَةً ... مِنَ السَّبَائِكِ تَجْرِي فِي مَجَارِيها إذَا عَلَتْهَا الصَّبَا أَبْدَتْ لَهَا حُبُكاً ... مِثْلَ الْجَوَاشِنِ مَصْقُولاً حَوَاشِيها فَحَاجِبُ الشَّمْسِ أَحْيَاناً يُضَاحِكُهَا ... وَرَيِّقُ الْغَيْثِ أَحْيَاناً يُبَاكِيها إذَا النُّجُومُ تَرَاءَتْ في جَوَانِبَها ... لَيْلاً حَسِبْتَ سَمَاءً رُكِّبَتْ فِيهَا لاَ يَبْلُغُ السَّمَكُ الْمَحْصُورُ غايَتَهَا ... لِبُعْدِ مَا بَيْنَ قَاصِيهَا وَدَانِيها يَعُمْنَ فِيَها بأَوْسَاطٍ مُجَنَّحَةٍ ... كَالطَّيْرِ تَنْقَضّ فِي جَوٍّ خَوَافِيها لَهُنَّ صَحْنٌ رَحِيبٌ فِي أَسَافِلِهَا ... إِذَا انْحطَطْنَ وبَهْوٌ في أَعَالِيهَا تَغْنَى بَسَاتِينُهَا الْقُصْوَى بِرُؤْيَتِها ... عَنِ السَّحَائِبِ مُنْحَلاًّ عَزَالِيها كَأَنَّهَا حِينَ لَجَّتْ فِي تَدَفُّقِهَا ... يَدُ الْخَلِيفَةِ لَمّا سَالَ وَادِيها مَحْفُوفَةٌ بِرِيَاضٍ لاَ تَزَالُ تَرَى ... رِيشَ الطَّوَاوِيِسِ تَحْكِيهِ وَتَحْكِيهَا هذه الأبيات من شعر البحتري بمثابة عقد منظوم من التشبيهات البديعة، فلا تكاد تجد بيتاً فيها إلاَّ معتمداً على وصْفٍ تشبيهي بديع، يسُرُّ أصحاب الأذواق الأدبيّة. وما أجدني بحاجة إلى الشرح والتحليل، لوضوح التشبيهات الصريحة والضمنيّة فيها، ويُعِينُ التعليق في الحاشية على فهم ما قد يكون غامضاً منه. والبحتري وصَّافٌ سَهْلُ العبارة واضح الأسلوب. (2) ومن التشبيه الحسن قول القاضي أبي القاسم التَّنُوخِي: ولَيْلَةِ مُشْتَاقٍ كَأَنَّ نُجُومَهَا ... قَدِ اغْتَصَبَتْ عَيْنَ الْكَرَى وَهْيَ نُوَّمُ كَأَنَّ عُيُونَ السَّاهِرِينَ لِطُولِهَا ... إِذَا شَخَصَتْ لِلأَنْجُمِ الزُّهْرِ أَنْجُمُ كَأَنَ سَوَادَ اللَّيْلِ والْفَجْرُ ضَاحِكٌ ... يَلُوحُ ويَخْفَى أَسْوَدٌ يَتَبَسَّمُ شبه عيون الساهرين في ليلة المشتاق الطويلة بالأنجم إذا شَخَصَتْ لْلأَنْجُم الزُّهْرِ في السماء. وشبه صورة سواد اللّيل عند بدايات الفجر الذي يظهر ويخفى بإنسان ذي جسم أسود يتبسم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 (3) ومن التشبيه الضمنّي البديع قول أبي تمَّام: وَإِذَا أراد اللَّهُ نَشْرَ فَضِيلَةٍ ... طُوِيَتْ أَتَاحَ لَهَا لِسَانَ حَسُودِ لَوْلاَ اشْتِعَالُ النَّارِ فِيمَا جَاوَرَتْ ... مَا كانَ يُعْرَفُ طِيبُ عَرْفِ الْعُودِ عَرْفُ الْعُود: رائحة العود الذي يُتَبخَّرُ به. (4) ومن التشبيه الصريح السَّهْلِ القريب ذي الطرافة، قولُ ابن الرومي يصف مُخْلِفاً بمواعيده في العطاء: يَذَلَ الْوَعْدَ لِلأَخِلاَّءِ سَمْحاً ... وَأَبَى بَعْدَ ذَاكَ بَذْلَ الْعَطَاءِ فَغَدَا كالْخِلاَفِ يُورِقُ لِلْعَيْـ ... ـنِ وَيَأْبَى الإِثْمَارَ كُلَّ الإِبَاءِ الخِلاَف: هو شجر الصَّفْصاف، له ورق، وظلُّ، ولَيس له ثمر. (5) ومن التشبيه الذي جاء فيه المشبَّه مفرداً والمشبّه به مُرَكّباً، قول الصنوبري: وَكأنّ مُحْمَرَّ الشَّقِيـ ... ـقِ إذا تَصَوَّبَ أَوْ تَصَعَّدْ أَعْلاَمُ يَاقُوتٍ نُشِرْ ... نَ عَلَى رِمَاحٍ مِنْ زَبَرْجَدْ مُحْمَرَّ الشقيق: أي: الشقيق الْمُحْمَرّ، والمراد به شقائق النعمان، وهو وردٌ أحمر في وسطه سواد. إِذَا تَصَوَّبَ: أي: إذا مال إلى أسْفل. أو تَصَعَّدَ: أي: أو نَهَضَ إلى الأعْلَى مستقيماً. شبّهَ شقائق النعمان تُحَرِّكُها الرّياح راكعةً ناهضة بأعلام من ياقوتٍ أحمر نُشِرْنَ على رِمَاحٍ من زبَرْجَدٍ أخضر. (6) ومن التشبيه القريب المبتذل الذي رفع قيمته ما أضيف إليه من تتمَّات، قول أبي تمَّام يمدح الحسَنَ بن رجاء: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 سَتُصْبِحُ الْعِيسُ بي واللَّيْلُ عِنْدَ فَتىً ... كَثِيرِ ذِكْرِ الرّضَا فِي سَاعَةِ الْغَضَبِ صَدَفْتُ عَنْهُ وَلَمْ تَصْدِفْ مَوَاهِبُهُ ... عَنِّي وَعَاوَدَهُ ظَنِّي فَلَمْ يَخِب كالْغَيْثِ إنْ جئْتَهُ وَافَاكَ رَيِّقُهُ ... وَإِنْ تَرَحَّلْتَ عَنْهُ لَجَّ فِي الطَّلَبِ صَدَفْتُ عَنْهُ: أي: أعْرَضْتُ عنه. رَيّقُهُ: أفضلُه وأصْفاه. لَجَّ في الطَّلُب: أي: لازمه وأبَى الانْصِرافَ عَنْه. تشبيه ذي الجود بالغيث مكرور مبتذل، لكن أبا تمّام أضاف إليه ما رفع قيمة تشبيهه، فجعله داخلاً في درجات المرتبة العليا، بقوله: إنْ جِئتَهُ وافاك رَيّقُه، وإن تَرَحَّلْتَ عَنْهُ لَجَّ في طَلَبِكَ ليمنَحَكَ عطاياه، فهذه فكرةٌ طريفة بديعة، رفعت قيمة التشبيه بالغيث. (7) ومن بديع التشبيه وصف ابْنِ الرُّمي عمَلَ خبّازٍ مرَّ به: مَا أَنْسَ لاَ أَنْسَ خَبَّازاً مَرَرْتُ بِهِ ... يَدْحُو الرُّقَاقَةَ وَشْكَ اللَّمْحِ بالْبَصَرِ مَا بَيْنَ رُؤْيَتِهَا في كَفِّهِ كُرَةً ... وَبَيْنَ رُؤْيَتِهَا قَوْرَاءَ كَالْقَمَرِ إِلاَّ بِمِقْدَارِ مَا تَنْدَاحُ دَائِرَةٌ ... فِي صَفْحَةِ الْمَاءِ تَرْمِي فِيهِ بالْحَجَرِ يَدْحُو: أي: يَبْسُط. وَشْكَ اللَّمْحِ بِالْبَصر: أي: كَسُرْعَةِ اللَّمْحِ بالْبَصَر. قَوْرَاءَ: أي: واسعةً منبسطةً مستديرة. تَنْدَاح: أي: تعظم وتكْبُر وتتوسع. (8) وقول ابن المعتز يصف غديراً تُشَكِّلُ الرّياح سطحه على شكل درعٍ مُذْهب، إذا كانت الشمسُ مُشْرِقَةً عليه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 غَدِيرٌ تُرَجْرِجُ أَمْوَاجَهُ ... هَبُوبُ الرِّياحِ وَمَرُّ الصَّبَا إِذَا الشَّمْسُ مِنْ فَوْقِهِ أَشْرَقَتْ ... تَوَهَّمْتَهُ جَوْشَناً مُذْهَباً هَبَوبُ الرّياح: أي: الرِّياحُ الْهَبُوبُ، وهي القويَّة الشديدة. الصَّبَا: ريحٌ مَهَبُّهَا مِنَ الشَّرْقِ. جَوْشَناً: أي: دِرْعاً. (9) المقطوعة المنسوبة إلى الشاعرة الأندلسيّة: حَمْدَة "أو حَمْدُونة" بنت زياد: وَقَانَا لَفْحَةَ الرَّمْضَاءِ وَادٍ ... سَقَاهُ مُضَاعَفُ الْغَيْثِ الْعَميمِ نَزَلْنَا دَوْحَهُ فَحَنَا عَلَيْنَا ... حُنُوَّ الْمُرْضِعَاتِ عَلَى الْفَطِيمِ وَأَرْشَفَنَا عَلَى ظَمَأٍ زُلاَلاً ... ألَذَّ مِنَ الْمُدَامَة لِلنَّدِيمِ يَرُوعُ حَصَاهُ حَالِيَةَ الْعَذَارَى ... فَتَلْمَسُ جَانِبَ الْعِقْدِ النَّظيمِ في هذه المقطوعة من الإِبداع تشبيهُ ظلال الدوح بحنُوّ المرضعات على الطفل الفطيم. ومع أن تشبيه الحصَى بجواهر العقود تشبيه مكرور إلاَّ أنه اقترن هنا بما جعله رائعاً، هو توهُّمُ صباحة العقد من العذارى أن عقدها انقطع نظامه وتساقطت حبّاته في النهر، فهي تضع يدها عليه تتحسَّسُه. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 "علم البيان" الفصل الثالث: المجاز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 المقدمة (1) تعريفات سبق في المقدمة العامّة لعلم المعاني تعريف كلٍّ من الحقيقة والمجاز في اصطلاح البيانيين. وإذْ جاء في هذا الفصل بحث المجاز بقسميه فإنّ من المستحسن إعادة ذكر تعريف كلٍّ من الحقيقة والمجاز اصطلاحاً مع إضافة بيان أصل معناهما في اللّغة. الحقيقة لغةً: الشّيء الثابت يقيناً. وحقيقة الشيء: خالصُهُ وكُنْهُهُ وعناصره الذّاتيّة. وحقيقة الأمر: ما كان من شأنه يقينا. وحقيقةُ الرَّجُلِ: ما يلْزَمُه حفظه والدّفاع عنه، يقالُ: فلانٌ يحمي الحقيقة. الحقيقة: "فَعِلية" من حقَّت الفكرةُ أو الكلمةُ أو القضيّةُ أو الْمُدْرَكَةُ الذّهنيّة أو نحو ذلك تَحِقُّ حقاً وحُقُوقاً إذا صحّتْ وثبتَتْ وصدقت واستقرت، فهي على هذا بمعنى "فاعله" أي: ثابتة مستقرة صادقة. الحقيقة اصطلاحاً: اللّفظ المستَعْمَل فيما وُضِع له في اصطلاحٍ به التخاطب. والمراد من الوضع تَعْيِينُ اللّفظ في أصل الاصطلاح للدّلالة بنفسه على معنىً ما، دون الحاجة إلى قرينة. المجاز لغة: مصدر فِعْلِ "جَازَ" يقال لغة: جاز المسافر ونحوه الطريق، وجاز به جَوْزاً وجوازاً ومجازاً، إذا سار فيه حتى قطعه. ويطلق لفظ "المجاز" على المكان الذي اجتازه من سار فيه حتى قطعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 ويقال: جازَ القولُ، إذا قُبِلَ وَنَفَذ. وكذا يقال: جازَ الْعَقْد وغَيْرُه، إذا نَفَذَ ومضَى على الصحّة. المجاز اصطلاحاً: اللَّفظ المستعمل في غير مَا وُضِع له في اصطلاحٍ به التخاطب، على وجْهٍ يَصِحُّ ضمْن الأصول الفكرية واللّغويّة العامّة، بقرينة صارفة عن إرادة ما وُضِع له اللّفظ. فالقرينةُ هي الصارف عن الحقيقة إلى المجاز، إذِ اللّفظ لا يَدُلُّ على المعنى المجازيّ بنفسه دون قرينة. *** (2) أقسام الحقيقة والمجاز اللّغوية والشرعية والعرفية كلُّ من الحقيقة والمجاز ينقسم إلى أربعة أقسامٍ متقابلة: (1) الحقيقة اللّغوية، ويقابلُها، المجازُ اللّغوي. إذا استعمل اللّفظ في مجالات الاستعمالات اللّغوية العامة بمعناه الذي وضع له في اللّغة، كان حقيقة لُغَوية. وإذا استعمل في هذه المجالات في غير معناه الذي وُضِع له في اللّغة، لعلاقة من علاقات المجاز، كان مجازاً لغويّاً. أمثلة: * لفظ "أسد" إذا استعمل في المجالات المذكورة للدّلالة على الحيوان المفترس المعروف فهو حقيقة لغوية. وإذا استعمل للدلالة به على الرجل الشجاع فهو مجاز لغويّ، وعلاقته المشابهة، فهو من نوع المجاز بالاستعارة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 * لفظ "اليد" إذا استعمل في العضو المعروف من الجسد، فهو حقيقة لغويّة. وإذا استعمل للدلالة به على الإِنعام، أو على القوة، أو على التسبُّب في أمْرٍ ما، فهو مجاز لغوي، وعلاقتُه غَيْرُ المشابهة، فهو من نوع المجاز المرسل. لفظ "النَّهْر" إذا اسْتُعمل في الشِّق من الأرض الذي يجري فيه الماء، فهو حقيقة لغويّة. وإذا استعمل للدلالة به على الماء الجاري فيه، فهو مجاز لغويّ، وعلاقته غير المشابهة، وهي هنا "المحليَّة" فهو من نوع المجاز المرسل. * وإذا قلنا مثلاً "سَالَ الوادي" فقد أسندنا السيلان إلى الوادي مع أن الوادي لا يسيل، لكن الذي يسيل هو الماء فيه، فهذا إسنادٌ مجازي علاقته المجاورة، وهو من "المجاز العقلي". (2) الحقيقة الشرعية، ويقابلها، المجاز الشرعي. إذا استعمل اللفظ في مجالات استعمال الألفاظ الشرعية بمعناه الاصطلاحيّ الشرعيّ كان حقيقة شرعيّة. وإذا استعمل للدلالة به على معنىً آخر ولو كان معناه اللغوي الأصلي كان بالنسبة إلى المفهوم الاصطلاحي الشرعيّ مجازاً شرعيّاً. أمثلة: * لفظ "الصلاة" إذا اسْتُعْمِل في مجالات الدراسة الشرعية للدلالة به على الركن الثاني من أركان الإِسلام والنوافل الّتي على شاكلته، فهو حقيقة شرعيّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 وإذا استعمل بمعنى الدعاء الذي هو الحقيقة اللّغوية، كان مجازاً شرعيّاً. * لفظ "الزّكاة" إذا اسْتُعْمِل في الركن الثالث من أركان الإِسلام في مجالات الدراسة الشرعية، فهو حقيقة شرعيّة. وإذا استعمل بمعنى النّماء والطهارة فهو مجاز شرعي. وهكذا إلى سائر المصطلحات الشرعيّة. (3) الحقيقة في العرف العام، ويقابلها، المجاز في العرف العام. يراد بالعرف العامّ ما هو جار على ألسنة الناس في عُرْفٍ عامٍّ على خلاف أصل الوضع اللّغويّ. إذا اسْتُعْمِل اللّفظ في مجالات العرف العامّ بمعناه الذي جرى عليه هذا العرف كان حقيقة عرفيّة عامّة. وإذا استعمل للدلالة به على معنىً آخر ولو كان معناه اللّغوي الأصلي، كان بالنسبة إلى هذا العرف مجازاً عرفيّاً عامّاً. مثل: لفظ "الدّابة" جرى إطلاقه في العرف العامّ على ما يمشي من الحيوانات على أربع، فإطلاق هذا اللّفظ ضمن العرف العام بهذا المعنى حقيقة عرفيّةٌ عامّة. وإطلاقة ضمن أهل العرف العامّ بمعنىً آخر ولو كان معناه اللّغوي الأصليّ، وهو كلّ ما يدبّ على الأرض من ذي حياة فهو مجاز في العرف العامّ. وكذلك إذا أطلق على ما يدبّ على الأرض من آلةٍ غير ذات حياة، ومثل هذا الإِطلاق يكون مجازاً في العرف العامّ ومجازاً لغويّاً. (4) الحقيقة في العرف الخاصّ، ويقابلها، المجاز في العرف الخاصّ. يراد بالْعُرف الخاصّ مصطلحات العلوم، إذْ لكلّ علْم مصطلحاتُه من الكلمات اللّغويّة ذات الدّلالات اللّغوية بحسب الأوضاع اللّغوية، وهي قد تخالف ما اصطلح عليه أصحاب العلم الخاصّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 مثل ألفاظ: "الفاعل - المفعول به - الضمير - الحال - التمييز - البدل - وغيرها" في علم النحو. ومثل ألفاظ: "الجمع - الطرح - الضرب - التقسيم - ونحوها" في علم الرياضيات. فإذا استعملت هذه الألفاظ ضمن علومها على وفق مفاهيمها الاصطلاحيّة كانت حقيقة في الْعُرف الخاص. وإذا استعملت في معاني أخرى ولو كانت معانيها اللّغوية الأصلية كانت مجازاً في العرف الخاص. *** (3) تقسيم المجاز إلى مجاز لغوي ومجاز عقلي ينقسم المجاز في الكلام إلى قسمين: القسم الأول: المجاز اللّغويّ، وهو الذي يكون التجوّز فيه باستعمال الألفاظ في غير معانيها اللّغوية أو بالحذف منها أو بالزّيادة أو غير ذلك، مثل: * استعمال لفظة "الأسد" للدلالة على الإِنسان الشجاع. * واستعمال الشراء والبيع بمعنى أخذ شيءٍ يلزم عنه ترك شيءٍ آخر. * واستعمال "اليد" بمعنى الإِنعام، أو بمعنى القوة والسلطان. * واستعمال "الإِصبع" وإرادة الأنملة التي هي جزء من الإِصبع. * واستعمال عبارة "أراك تقدّم رِجْلاً وَتؤخّر أُخرى" بمعنى: أراك متردّداً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 * ومثل حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وزيادة بعض الحروف للتأكيد أو التزيين. القسم الثاني: المجاز العقلي، وهو المجاز الذي يكون في الإِسناد بين مُسْنَدٍ ومُسْندٍ إليه. والتجوّز في هذا القسم يكون في حركة الفكر بإسناد معنىً من المعاني مدلولٍ عليه بحقيقة أو مجاز إلى غير الموصوف به في اعتقاد المتكلّم لمُلابَسَةٍ ما تُصَحِّحُ في الذّهن هذا الإِسناد تجوّزاً، بشرط وجود قرينة صارفةٍ عن إرادة كون الإِسناد على وجه الحقيقة، مثل ما يلي: * إسناد بناء الجسور ودوائر الحكومة ومنشآتها في الدولة إلى ملك البلاد، نظراً إلى كونه الآمِرَ ببنائها. * وإسناد القيام إلى ليل العابد لربّه، وإسناد الصيام إلى نهاره، مع أنّ الإِسناد الحقيقي يقتضي أن يُسْنَد القيام والصيام إلى شخص العابد. * وإسناد حُسْن التأليف والتصنيف إلى قلم الكاتب، مع أنّ القلب لا يُحْسِن تأليفاً ولا تصنيفاً، إنّما يُحْسِنُهما الكاتب به البارع. * وجعل المأكول في الرَّعْيِ الغيثَ النازل من السماء، مع أنّ المأكولَ هو الزرع الذي نبت في الأرض بسبب الغيث. إلى غير ذلك من أمثلة، وسيأتي إن شاء الله بيان وشرح المجاز العقلي في هذا الفصل. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 (4) تقسيم المجاز إلى مجاز في المفرد ومجاز في المركب ومجاز في الإِسناد ومجاز قائم على التوسّع في اللّغة دون ضابط معين ينقسم المجاز إلى الأقسام الأربعة التالية: القسم الأول: "المجاز في المفرد" وهو اللّفظ المفرد المستعمل في غير ما وضع له، كالأسد في الرجل الشجاع، وكاليد بمعنى الإِنعام. القسم الثاني: "المجاز في المركب" وهو اللفظ المركّب المستعمل بهيئته المركبة في غير المعنى الذي وضع له، لعلاقة ما، مع قرينة صارفة عن إرادة المعنى الأصلي، مثل: * أراك تقدّم رجلاً وتؤخّر أخرى، أي: حالك كحال المتردّد. * أنت تنفخ في رماد، أي: حالُكَ كحال من ينفخ في رماد، في ضياع الجهد. ومثل: * استعمال الْجُمَل الخبريّة بمعنى الإِنشاء. * استعمال الجمل الإِنشائية بمعنى الخبر. القسم الثالث: "المجاز في الإِسناد" وهو المجاز العقلي الذي يُسْنَد فيه الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له في اعتقاد المتكلم، مثل: * سالَ الوادي، بإسناد السيلان إلى الوادي، مع أنّ الذي سال هو الماء فيه، والعلاقة المجاورة. القسم الرابع: "المجاز القائم على التوسّع في اللّغة دون ضابط معين" وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 المجاز الذي يكون التوسُّع اللُغويُّ فيه بوجوه مختلفة لا يجمعها ضابط معين، كالزيادة أو الحذف في بعض الكلام، وكإطلاق الماضي على المستقبل والعكس، مثل: * حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، نحو: اسأل القرية، أي: اسأل أهل القرية. * زيادة حروف في ضمن الكلام للتأكيد أو للتزيين، نحو: لفظ "ما" بعد "إذا". *** (5) تقسيم المجاز اللّغوي إلى استعارة ومجاز مرسل ينقسم المجاز اللغوي بالنظر إلى وجود علاقة بين المعنى الأصلي والمعنى المجازي، أو بين الاستعمال الأصلي والاستعمال المجازي، أو عدم ملاحظة علاقة ما، بل هو مجرّد توسّع لغوي، إلى قسمين: القسم الأول: "الاستعارة" وهي المجاز الذي تكون علاقته المشابهة بين المعنى الأصليّ والمعنى المجازي الذي استعمل اللّفظ للدّلالة به عليه. وهذه الاستعارة تكون في المفرد، وتكون في المركب كما سيأتي إن شاء الله. القسم الثاني: "المجاز المرسل" وهو نوعان: * نوعٌ توُجَدُ فيه علاقة غير المشابهة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي الذي استعمل اللّفظ للدّلالة به عليه، كاستعمال "اليد" بمعنى النعمة لعلاقة كون اليد هي الوسيلة التي تستعمل عادة في عطاء الإِنعامات، وكإسناد الفعل أو ما في معناه لغير ما هو له. * ونَوْعٌ لا توجد فيه علاقة فكريَّةٌ ما، وإنّما كان مجرّد توسُّع لغوي، كالمجاز بالحذف دون ملاحظة علاقة فكرية، وكالمجاز بالزيادة، وغير ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 وسُمِّيَ هذا "مجازاً مُرْسَلاً" لكونه مُرْسلاً عن التقييد بعلاقة المشابهة، سواء أكان له علاقة غير المشابهة، أمْ لم تكن له علاقة ما. *** (6) فنُّ المجاز ودواعيه وأغراضه المجاز طريق من طُرُق الإِبداع البيانيّ في كلِّ اللّغات، تدفع إليه الفطرة الإِنسانيّة المزوّدة بالقدرة على البيان، واستخدامِ الحِيَل المختلفة للتعبير عمّا في النفس من معانٍ تُرِيدُ التَّعْبيرَ عنها. وقد استخدمه الناطق العربيّ في عصوره المختلفة، في حواضره وبواديه استخداماً بارعاً وواسعاً جدّاً، حتَّى بلغت اللّغة العربيّة في مجازاتها مبلغاً مثيراً للإِعجاب بعبقريّة الناطقين بها في العصور الجاهليّة، وفي العصور الإِسلاميّة، وكان لفحول الشعراء، وأساطين البلغاء، من كُتَّابٍ وخطباء، أفانينُ بديعة، عجيبة ومُعْجِبة من المجاز، لا يَتَصَيَّدُها إلاَّ الأذكياء والفطناء، المتمرّسون بأساليب التعبير غير المباشر عن أغراضهم. وليس المجاز مُجَرَّد تلاعُبٍ بالكلام في قفزاتٍ اعتباطيّة منْ استعمال كلمة أو عبارةٍ موضوعةٍ لمعنىً، إلى استعمال الكلمة أو العبارة بمعنى كلمة أو عبارةٍ أخرى موضوعة لمعنىً آخر، ووضع هذه بدل هذه للدّلالة بها على معنَى اللّفظ المتروكِ المستَبْدَلِ به اللفظ الآخر. بل المجازُ حركاتٌ ذهنيّة تَصِلُ بين المعاني، وتعقِدُ بينها روابطَ وعلاقاتٍ فكريّةً تسمح للمعبّر الذكِيّ اللّمّاح بأن يستخدم العبارة الّتي تدلُّ في اصطلاح التخاطب على معنىً من المعاني ليُدلَّ بها على معنىً آخر، يمكن أن يفهمه المتلَقِّي بالقرينة اللفظيّة أو الحاليّة، أو الفكريّة البحت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 * إنّه مثلاً قد يلاحظ انقطاع الصلة بين فئة من الناس وفئة أخرى، أو قومٍ وقوم آخرين، لعداوة قائمة بينهما، ويرى إصْرار كلٍّ من الفريقين على موقفه العدائي، ومجافاة الفريق الآخر، وعدم التلاقي به أو التعامل معه، فَيَلْمَحُ أنّ هذا الأمر بين الفريقين يشبه جبَلَيْنِ يفصل بينهما وادٍ سحيق ليس له قرار، ويلْمَح أنّ إقامة الصِّلاتِ بينهما متعذّرٌ أو متعسّر جدّاً ما دام هذا الفاصل السحيق بينهما، فيخطرُ له ان يتخذ وسطاء مقبولين، من كلٍّ من الفريقين، ليقوم هؤلاء الوسطاء بنقل المصالح والحاجات بينهما. ويَلْمح أن هؤلاء الوسطاء سيكونون بمثابة الجسور التي تُبْنَى فوق الوادي، ويكون أحد طرفيها على هذا الجبل، والطرف الآخر على الجبل الآخر، وعندئذٍ لا يحتاج المجتازُ أن يَعْبُرَ الوادي السحيق المتعذّر العبور أو العسير جدّاً. حيت تكتمل لديه الصورة على الوجه الذي سبق تفصيله يختصر في التعبير فيقول: "نقيم بين الفريقين المتعادِيَيْن جُسُورَ التواصل". إنّه يستخدم كلمة "جسور" استخداماً مجازيّاً، يدركه المتلقّي بالتفكّر، لأنّ الفئات المتخاصمة المتجافية لا تُقام بينها جسورٌ مادّيّة، بل يقوم الوسطاء بينها بحلّ كثير من المشكلات بينها. وتدلُّ كلمة "جسور" على صورة ذات عناصر كثيرة، وكلُّ من هذه العناصر ذو دلالة خاصة، وأبعادٍ فكريَّة متشعبة. ولا يصعُبُ على من يَعْتَاد مثلَ هذه التعبيرات أن يُدْرِكَ أنَّ صاحب العبارة قد شَبَّه حالة الفريقين المتجافيين بحال مُرْتَفِعَيْنِ من الأرض بينهما فاصلٌ يتعذّر أو يعْسُر جدّاً اجتيازه إلاَّ بمجازٍ يُقَامُ بينهما، وهو الجسْرُ الذي يمتَدُّ فوق الوادي، ويكون أحد طرفيه على هذا المرتَفع، والطرف الآخر على المرتَفع الآخر. * ويتكرّر مثلاً على ألسنة الناس استعمال عبارات: "أهل البلد - أهل القرية - أهل المدينة - أهل الدار" في جُمَل لا يَصْلُح فيها إلاَّ إرادة الأهل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 ثم يلاحظون أنَّه لا داعيَ لذكر كلمة "أهل" في هذه العبارات وأمثالها، لأنَّ المتلَقِّي لا يختلط عليه الأمر، فيختصرون في العبارة فيقولن مثلاً: "اسأل قرية كذا - أطْعِمْ هذه الدار - عاقب المدينة الظالمة - كرّم البلد الآمن" على تقدير مضاف محذوف هو كلمة "أهل". فيتجوَّزون في التعبير بداعي الاختصار والإِيجاز في الكلام، مع ملاحظة معاني بلاغية أخرى، كالإِشعار بأنّ كلَّ أهل المدينة يستحقُّون المعاقبة، وكلّ أهل البلد الآمن يستحقّون التكريم. وهكذا يحمل المجاز في العبارة من المعاني الممتدة الواسعة، ومن الإِبداع الفني ذي الجمال الْمُعْجِب، ما لا يؤدّيه البيان الكلامي إذا اسْتُعْمِل على وجه الحقيقة في كثيرٍ من الأحيان. مع ما في المجاز من اختصارٍ في العبارة وإيجاز، وإمتاعٍ للأذهان، وإرضاءٍ للنفوس ذوات الأذواق الرفيعة الّتي تتحسَّن مواطن الجمال البياني فَتَتَأَثَّرُ به تَأثُّرَ إعجاب واستحسان. ودواعي المجاز وأغراضه يمكن ذكر أهمها فيما يلي: أولاً: أنّ المجاز في الكلام هو من أساليب التعبير غير المباشر، الذي يكون في معظم الأحيان أوقع في النُّفوس وأكثر تأثيراً من التعبير المباشر. ثانياً: يشتمل المجاز غالباً على مبالغة في التعبير لا تُوجد في الحقيقة، والمبالغة ذات دواعي بَلاغيّة متعدّدة، منها: "التأكيد - التوضيح - الإِمتاع بالجمال - الترغيب عن طريق التزيين والتحسين - التنفير عن طريق التشويه والتقبيح -"إلى غير ذلك. ثالثاً: يُتِيحُ استخدام المجاز فرصاً كثيرة لابتكار صورة جمالية بيانيّة لا يُتِيحُهَا استعمال الحقيقة، فمعظم أمثلة التصوير الفني الرائع مشحونةٌ بالمجاز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 رابعاً: استخدام المجاز يُمَكِّنُ المتكلّم من بالغ الإِيجاز مع الوفاء بالمراد ووفرة إضافيّة من المعاني والصّور البديعة. خامساً: المجاز بالاستعارة أبلغ من التشبيه، فما سبق بيانه في دواعي التشبيه وأغراضه موجود في الاستعارة مع أمور أخرى لا تُوجَدُ في التشبيه. سادساً: المجاز المرسل أبلغ من استعمال الحقيقة في كثير من الأحيان إذا كان حالُ مُتَلَقِّي البيان ممّن يلائمهم استخدام المجاز، ويشدُّ انتباههم لتدبُّرِ المضمون وفهمه. إلى غير ذلك من دواعي وأغراض تتفتّق عنها أذهان أذكياء البلغاء. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 المقولة الأولى: الاستعارة (1) تعريفات الاستعارة في اللّغة: طلبُ شيءٍ ما للانتفاع به زمناً ما دون مقابل، على أن يَرُدَّه المستعير إلى الْمُعِير عند انتهاء المدّة الممنوحة له، أو عند الطلب. الاستعارة في اصطلاح البيانيين: استعمال لفظٍ ما في غير ما وُضِع له في اصطلاحٍ به التخاطب، لعلاقة المشابهة، مع قرينة صارفةٍ عن إرادة المعنى الموضوع له في اصطلاحٍ به التخاطب. وهي من قبيل المجاز في الاستعمال اللّغوي للكلام، وأصلُها تشبيهٌ حُذِفَ منه المشَبّه وأداةُ التشبه ووجْهُ الشَّبَه، ولم يبق منه إلاَّ ما يدلُّ على المشبّه به، بأسلوب استعارة اللفظ الدالّ على المشبَّه به، أو استعارة بعض مشتقّاته، أوْ بعض لوازمه، واستعمالها في الكلام بدلاً عن ذكر لفظ المشبَّه، مُلاَحَظاً في هذا الاستعمال ادّعاءُ أنَّ المشبَّه داخل في جنس أو نوع أو صِنْف المشبّه به، بسبب مشاركته له في الصفة الّتي هي وجه الشَّبَهِ بينهما، في رؤية صاحب التعبير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 وأركان الاستعارة على هذا أربعة: (1) اللفظ المستعار. (2) المعنى المستعار منه، وهو المشبّه به. (3) المعنى المستعار له، وهو المشبّه. (4) القرينة الصارفة عن إرادة ما وُضِع له اللّفظ في اصطلاحٍ به التخاطب. والقرينة دليلٌ من المقال، أو من الحال، أو عقليٌّ صرْف. ولم يذكر البيانيّون هذا الركن وقد رأيت إضافته لأنّه إذا فقدت القرينة لم تصحّ الاستعارة. وقد تطلق كلمة "الاستعارة" على اللّفظ المستعْمَلِ في غير ما وُضِع له في اصطلاح به التخاطب لعلاقة المشابهة. مثل: انطلق أسَدُ الكتيبةِ الخضراء، يصرع فُرْسَانَ الأعداء، أفراداً وأزواجاً. جاء في هذا المثال استعمال كلمة "أسد" في غير معناها الحقيقي على سبيل الاستعارة. هذا الاستعمال يسمَّى "استعارة" بمقتضى المعنى الأول الذي جاء في التعريف. ولفظ "أسد" في هذا الاستعمال قد يُطْلق عليه أيضاً في الاصطلاح "استعارة" بمقتضى المعنى الثاني. ومن لطائف التعبيرات قولُهُمْ في الاستعارة: تزوَّج المجاز التشبيه فتولّد منهما الاستعارة. فالاستعارة مجازٌ علاقته المشابهة. الفرق بين الاستعارة والتشبيه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 قالوا في التفريق بين الاستعارة والتشبيه أنّه يشترط في الاستعارة تناسي التشبيه، وادّعاءُ أنَّ المشبَّه فردٌ من أفراد المشبّه به، ولا يُجْمَعُ فيها بين المشبَّه والمشبَّه به على وجه يُنْبئ عن التشبيه، ولا يُذْكَرُ فيها وجه الشَّبه، ولا أداة التشبيه لا لفظاً ولا تقديراً. ومن الجمع بين المشبَّه والمشبَّه به على وجْهٍ يُنْبِئ عن التشبيه ما يلي: (1) أن يكون المشبّه به خبراً عن المشبَّه، مثل: وجْهُها قمر، وشعرُها ليل، وقدّها غُصْنُ بان، وعيناها عَيْنا ظبية. ومثل الخبر ما كان في حكمه، كخبر "كان" وأَخواتها، و"إنّ" وأخواتها، وكالمفعول الثاني في فعل "ظنَّ" وأخواته. (2) أن يكون المشبّه به حالاً صَاحِبُها المشبّه، مثل قول الشاعر أبي القاسم الزاهي يصف حسناوات: سَفَرْنَ بُدوراً. وانْتَقَبْنَ أَهْلَّةً ... ومِسْنَ غُصُوناً. والْتَفَتْنَ جآذراً جآذر: جمع جُؤْذُر، وهو ولد البقرة الوحشية. (3) أن يكون المشبه به صفة للمشبّه، مثل قولي صانعاً مثلاً: لاَ يَفْلِقُ الْهَامَ في سَاحِ الْقِتَالِ إذَا ... تَلاَحَمَ الْبَأْسُ إلاَّ الْفَارِسُ الأَسَدُ (4) أنْ يكون المشبَّه به مضَافاً إلى المشَّبَه، مثل قول الشاعر: والرّيحُ تَعْبَثُ بِالْغُصُونِ وقد جَرَى ... ذَهَبُ الأَصِيلِ على لُجَيْنِ الْمَاءِ أي: وقد جرَى شُعاع الأصيل الذي يُشْبِه الذهب، على الماء الذي يشبه اللّجين، وهي الفضة. (5) أن يكون المشبّه به مصدراً مُبَيِّناً للنوع مثل قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [الآية: 88] . أي: وهي تَمْرُّ كَمَرِّ السّحاب. (6) أن يكون المشبَّه بِهِ مُبَيَّناً بالمشبّه، وهذا البيان قَدْ يكون بياناً صريحاً، أو بياناً ضمنيّاً، مثل قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) بشأن ما يحلّ ليلة الصيّام: {وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل} [الآية: 187] . فقد جاء بيان الخيط الأبيض بالفجر بياناً صريحاً، وفي ضمنه جاء بيان الخيط الأسود باللّيل بياناً ضمنيّاً. والمعنى: حتَّى يتبيّن لكم أوّلُ النهار الذي يُشْبه الخيط الأبيض عند الفجر، من آخر اللّيل الذي يشبه الخيط الأسود. ومثل قول الشاعر: فما زِلْتُ فِي لَيْلَيْنِ شَعْرٍ وظُلْمَةٍ ... وشَمْسَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَوَجْهِ حَبِيبٍ فقد جاء بيانُ اللّيْلَيْنِ بياناً صَريحاً بكون أحدهما شَعْرَ من يحبّ والآخر ظلمة اللَّيل. وبيانُ الشمسين بأنّ أحدهما الخمر والآخر وجه من يُحبّ. أي: الشَّعر الذي يشبه اللّيل، والخمر الّتي تشبه الشمس، ووجه الحبيب الذي يشبه الشمس أيضاً. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 (2) هل الاستعارة مجاز لغوي أم مجاز عقلي؟ رأى جمهور البيانيين أنّ الاستعارة مجاز لغوي، وقيل: هي مجاز عقلي، بمعنى أنّ الاستعارة تعتمد على أمر عقليّ، لا لغويّ، واستدلّ القائلون بأنّ الاستعارة مجاز عقلي بما يلي: (1) أنّ اللّفظ المستعار وهو المشبَّه به للدلالة به على غير معناه الموضوع له في اصطلاح به التخاطب، وهو المشبَّه، لا يُطْلَقُ عليه إلاَّ بعد ادّعاء دخوله في جنس المشبَّه به، أو نوْعه، أو صِنْفِه، فيكون إطلاقُ لفظ المشبّه به على المشبَّه، حاصلاً على وجه الحقيقة لا على وجه المجاز، لأَنّ الادّعاء أدخلَ المشبَّهَ ضِمْنَ أفراد المشبَّه به. (2) ليست الاستعارة مجرّد إطلاق اللّفظ على غير ما وضع له في اصطلاحٍ به التخاطب، فهذا أمْرٌ لاَ بلاغة فيه، بدليل الأعلام المنقولة، لكنّ العمل العقليّ هو الذي أعطى الاستعارة بلاغتها. أقول: كلُّ المجازات اللّغوية سواء أكانت من قبيل الاستعارة أم المجاز المرسل، ليست مجرّد حركة آليّة لغويّة يتمّ بها استعمال اللفظ في غير ما وضِع له في اصطلاح به التخاطب. بل لا بدّ في المجاز من عمل فكري أو شعور نفسّي يُصَحِّحُ في تصوُّرِ المتكلّم استخدامَ اللّفظ في غير ما وُضع له. * فحين نتلو قول الله عزَّ وجلَّ: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ من الصوَّاعِقِ حَذَرَ الْمَوْت} [البقرة: 19] فإنّنا لا نشعر بأنّ لفظ الأصابع وُضِع بدل الأنامل وضعاً اعتباطيّاً في هذا المجاز المرسل، وليس مجرَّدَ حركة آليّة لُغَوِيّة، بل هو قائم على ملاحظة فكريّة، وهي أنّ الذين يحذرون الموت من الصّواعق ذواتِ الأصوات العظيمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 القاتلة، تندفع أيديهم إلى سَدِّ آذانهم بأصابعهم، فلو تمكنوا من إدخال كلّ أصابعهم فيها لفعلوا، فالعبارة تدلُّ على تَوَجُّهِ إرادتهم وما في أنفهسم من مشاعر، فكان هذا الإِطلاق المجازي، مع أنَّ الذي يضعونه في آذانهم هو رؤوس أناملهم. * وحين يقول قائل معبّراً عن العطاء الذي هو أثر رحمة المعطي الموجودة في نفسه ووجدانه: "أعطاني حتى ملأ بيتي من رَحْمَتِه" أي: من الرزق الذي هو أثر رحمته، فإنّه لا يَسْتَعْمِلُ كلمة الرحمة استعمالاً آليَّاً للدّلالة بها على ما ناله من رزقٍ أصابه، وإنّما يُعبِّر عن شعوره بأنّ جزءاً من رحمة المعطي انطلق من نفسه فتَجسَّد بصورة رزق مَلأَ بيْته. هذا مجاز مرسل من إطلاق السَّبَب وإرادة المسبَّب، والعملُ الفكري والشعور النفسيّ هو المقتضي لهذا الإِطلاق، ولا خلاف في أنه مجاز لغوي. * وحين يأتي التعبير عن تداعي الجدار إلى السقوط بأنّه يُريدُ أن يَنْقَضّ، فإنّ الأمر ليس مُجرَّدَ عمَلٍ آليٍّ تُوضَعُ فيه الإِرادة مكان ظاهرة التداعي، بل هو تعبيرٌ عمّا يَشْعُر به المشاهد له، من أنّه بمثابة شَيْخٍ هرِمٍ جدّاً انْحَنَى ظهْرُه، وليس بيده عصاً تسنده، وقد تعِبَ جدّاً من الوقوف فهو يريد أن ينقضّ بسرعةٍ انقضاضَ الطائر ليرتاح جسمه على الأرض، فهذا مجاز مرسل، والعمل الفكري والتصوّر الذهني هو المتقضي له. كذلك حال الاستعارة فهي ليست مجرّد نَقْلٍ آليّ للفظ المشبَّهِ به، وإطلاقِه على المشبَّه، بل لا بُدَّ بها من عَمَلٍ فكريّ أو شعورٍ نفسّي يُصَحِّحُ في تصوّر المتكلّم هذا الإِطلاق. والذين تَصَوَّروا أنّ الاستعارة هي من قبيل المجاز العقلي لهذا المعنى كان عليهم أن يَجْعَلُوا كُلَّ صُوَر المجاز اللغويّ من قبيل المجاز العقلي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 والتحقيق أنَّ المجاز العقلي لا يكون فيه نقْلٌ في استعمال الألفاظ، بل هو عمل فكري أو شعور نفسي بَحْتٌ، بخلاف المجاز اللّغوي فإنّ فيه هذا النّقل مع العمل الفكري أو الشعور النفسيّ. وبهذا ظهر الفرق بين المجاز العقليّ والمجاز اللّغوي، وكان ما ذهب إليه جمهور البيانيّين هو الرأي الأجدر بالاعتبار. *** (3) تقسيم الاستعارة إلى استعارة في المفرد واستعارة في المركب تنقسم الاستعارة انقساماً أوليّاً إلى قسمين: القسم الأول: الاستعارة في اللّفظ المفرد، وهي التي يكون المستَعارُ فيها لفظاً مفرداً، مثل: (1) لفظ: "اللّيث" في نحو جملة: "أقْبَلَ اللَّيْثُ مُدَجَّجاً بلأَمَةِ الحرْبِ فاخترق جيْشَ العدوّ". أي: أقبل الفارس الشجاع الذي هو كاللّيث. لأْمةُ الحرب: لباسُ الحرب وأدواته. (2) لفظ: "البدور" في نحو جملة: "بزَغَتِ البُدُور فوق شَفَقِ النُّحُور والصُّدُور". أي: أقبلت الحسناوات اللّواتي وجوهُهُنّ كالْبُدُور. القسم الثاني: الاستعارة في اللّفظ المركّب، وهي الّتي يكون اللَّفْظُ المستعار فيها كلاماً مركباً من عدّة ألفاظ مفردة، مثل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 (1) "لكلِّ جوادٍ كبْوَة - ولِكُلِّ صَارِمٍ نَبْوَة". هذان مُرَكّبَان من عدّة ألفاظ، يستعاران لمن يخطئ أحياناً، وليس من شأنه ولا من عادته أن يخطئ. (2) "أَعْطِ الْقَوْسَ بارِيها". هذا لفظ مركّب يستعار للدلالة به على أنه ينبغي إسناد العمل إلى من يُحْسِنُه ويُتْقِنُه لسابق خبرته به. ويُطلَقُ على هذا القسم الثاني عبارات: "استعارة تمثيليّة - استعارة على سبيل التمثيل - تمثيل على سبيل الاستعارة - تمثيل" والإِطلاق الأوّل أحسنها، أمّا الأخير فيَشْتَبِهُ بالتمثيل الذي سبق بيانه في التشبيه، فالأولى اجتنابه. وسيأتي إن شاء الله شرح القسم الثاني بعد استيفاء الكلام على تقسيمات القسم الأوّل. *** وبعد هذه المقدمة يأتي المبحثان المعقودان للاستعارة، وهما: المبحث الأول: الاستعارة في المفرد. المبحث الثاني: الاستعارة في المركّب. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 المبحَثْ الأوَّل الاستعارة في المفرد (أ) تقسيمات الاستعارة في المفرد تنقسم الاستعارة في المفرد إلى تقسيمات متعدّدات باعتبارات مختلفات، وفيما يلي تفصيلٌ وبيانٌ للمهمّ منها: التقسيم الأوّل تقسيم الاستعارة في المفرد إلى أصليّة وتبعيّة رأى البيانيون تقسيم الاستعارة في المفرد إلى قسمين: القسم الأول: الاستعارة الأصليّة، وهي التي يكون اللّفظ المستعار فيها اسماً جامداً، مثل: "أسد - بدر - شمس - ظبي" ونحوها. القسم الثاني: الاستعارة التبعيّة، وهي التي يكون اللفظ المستعار فيها فِعْلاً، مثل: أشْرَقَ - يُشْرِقُ - أَشْرِقْ" أو اسماً مشتقاً، مثل: "جَارِح - مَجْروح - جَرِيح - مَقْتَلَة - مَحْرقة -" أو حرفاً من حروف المعاني، مثل: "اللام الجارّة - مِنْ - في - لن -". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 لقد رأى البيانيّون أنَّ التشبيه الذي هو أصل الاستعارة وعلاقتها يكون أوّلاً في الأسماء الجامدة، ومنها المصادر. وبعد التشبيه الذي يكون في المصدر يُشْتَقُّ من المصدر الفعل الماضي، أو المضارع، أو الأمر، ثم يُشْتَقُّ اسم الفاعل، أو اسم المفعول، أو الصفة المشبّهة، أو اسم الزمان، أو اسم المكان، أو نحو ذلك. * وبناءً على هذا التصوّر اعتبروا استعارة الأفعال والمشتقات من الأسماء إنّما كانت تبعاً للاستعارة في المصادر، وأجْرَوا الاستعارات فيها على هذا الأساس. فإذا قال المتشكِّي من نوائب الدهر: "عَضَّنَا الدّهْرُ بِنَابِه" بمعنى أوقع بنا المصائب، قالوا: شَبَّه وقع المصائب بالعضّ الذي هو مصدر فعل "عَضّ" بجامع الإِيلام في كلٍّ من المشبَّه والمشبَّهِ به، ثمّ استعار كلمة "العضّ" للعمل المؤلم الذي تُحْدِثُه النوائب، ثمّ اشتَقَّ من "العضّ" الذي هو مصدرٌ فِعْلَ "عَضَّ" فكان هذا الاشتقاق أمراً تابعاً للاستعارة في الاسم الجامد الذي هو المصدر. فَسَمَّوا كُلَّ ما كان من هذا القبيل استعارةً تبعيّة. * وكذلك رأوا في استعارة الحرف للدلالة به على معنى حرف آخر. مثل: استعارة حرف "في" الجار الذي يدلُّ على الظّرْفية للدلالة به على معنى حرف "على" الذي يُدلُّ على الاستعلاء. ورأوا أنّ أصل هذه الاستعارة تشبيه العلوّ المثبّت بالشَّيْءِ تثبيتاً قويّاً بالشيء الدّاخل في شيءٍ آخر دخولاً انْدِمَاجيّاً، أو دخولاً ظرفيّاً، واسْتُعِير لهذا المعنى اسْمٌ يدلُّ على هذا الدخول، ثمّ استغني عنه بحرف الجرّ "في" الذي يدلُّ على الظرفية، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 استعارة تابعةً للاستعارة في الاسم الجامد، لأنّ معاني الحروف تابعةٌ لمعاني الأسماء. وتُلاحَظُ هذه الاستعارة فيما حكى الله عزَّ وجلَّ في سورة (طه/ 20 مصحف/ 45 نزول) عن قول فرعون لِسَحَرته متوعّداً لهم بعد أن آمَنُوا بِرَبّ موسى وهارون: {قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى} [الآية: 71] . لقد رأى البيانيّون في عبارة: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} استعارةَ حرف الجرّ "في" للدلالة به على معنى حرف الجرّ "على". ورأوا أنّ علاقة هذه الاستعارة تشبيه العلوّ المثبّت في الجذوع بدخول شيءٍ في شيءٍ آخر، لأنّ تثبيتهم في الجذوع قد يكون بمسامير تدخل فيها، ولمّا كان حرف "في" يفيد هذا المعنى فقد حَسُنَت استعارته على طريقة الإستعارة التبعيّة، باعتبار أنّ معاني الحروف تابعة للمعاني في الأسماء. مع أنّ مثل هذا المثال ليس من اللاَّزِم أن يكون وارداً على سبيل الاستعارة في الحرف، بل الأقرب أن يكون الكلامُ جَارياً على طريقة التَّضْمِين، وهو هنا تضمين فعل: {لأُصَلّبنكم} معنى فعل آخر يتعدّى بحرف الجرّ "في" فعُدِّي تعديته، وأصل الكلام: لأصلبنكم عَلَى جذوع النَّخْل ولأُثَبّتَنَّكُمْ فيها بالْمَسَامِير التي تَدْخُل في الجذوع، فَنَابَتِ التعدية بحرف الجرّ "في" مناب ذكر الفعل الذي حُذِف، وَضُمِّنَ الْفِعْلُ المذكُورُ معناه. مع هذه المعترضة المتعلقة بهذا المثال أقول: لاَ نجد متكلّماً فصيحاً بليغاً أديباً يُلاَحِظُ هذه التبعيَّة، لا في الأفعال ولا في المشتقات من الأسماء، ولا في الحروف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 إنَّما تَنْقدح في ذهنه صورةُ التشابه بين مَعْنَى فعلٍ ومَعْنَى فعلٍ آخر، أو بين معنى اسم مشتقٍّ ومعنى اسم مشتق آخر، أو بين معنىً يُدَلُّ عليه بحرف ومعنىً يُدَلُّ عليه بحرف آخر، فَيَسْتَعِيرُ الفعل أو الاسم المشتَقَّ أو الحرفَ، ولا تَخْطُر بباله سلسلة الإِجراءات التحليليّة التي ذكرها البيانيون. فما الداعي لاعتبار الاستعارة في الأفعال، والاستعارة في الأسماء المشتقَّةِ، والاستعارة في الحروف إنْ وُجدت، استعارة تبعيّة، مع إمكان أن نقول فيها جميعاً: استعارَ المتكلّم الفعلَ للدلالة به على معنى فِعْلٍ آخر، بجامع التشابه بين الفعلَيْنِ في حَدَثهما وفي زمانِهما، وكذلك يقال في استعارة الأسماء المشتقة، واستعارة الحروف إن وُجدت؟!. وعلى هذا نقول في مثال قَوْلِ المتشكّي من نوائب الدهر: "عَضَّنَا الدَّهْرُ بنابِهِ". إنّ ما تُحْدِثه النَّوائب من أعمال مُؤْلِمَةٍ قد يُعَبَّرُ عَنْها بفِعْلٍ أو أفعال مختلفة، مثل: "أتْلَفَتِ النوائبُ بَعْضَ زرعه - وأهلَكَتْ بعض ماشيته - ومسَّتْ بعض أهله وحاجاته بسُوءٍ - فتألم لذلك" يُمْكن أن يُسْتَعْمِلَ بَدَلَها فعل: "عَضَّ" على سبيل الاستعارة، إذْ تُشَبَّهُ هذه الأفعال الدّالّة على الحدث والزّمن، بفعل "عضّ" بجامع الحَدثِ المؤلم المقرون بِزَمَنٍ في كلٍّ من المشبَّهِ والمشبَّه به. ويُسْتَعَارُ هذا الفعل "عَضَّ" للدّلالة به على ما أحدثَتْهُ أفعال النوائب في أزمانها الماضية. وتطبيق هذا التحليل على المشتقّاتِ من الأسماء المستعارة لغير معانيها الأصليّة أيْسَرُ وأوضَحُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 وبناءً على هذا البيان أقول: لا داعي لإِطالة الطريق على الدارس لنصوص الاستعارة بإجراءات تحليليّة لا لُزُومَ لها، وما أحْسِبُ شيئاً منها يَخْطُرُ في ذهن شاعر أو ناثر يصوغ كلاماً يضمّنُه استعاراتٍ في الأفعال أو في الأسماء أو في الحروف. فالرأيُ الذي انتهيتُ إليه: أنْ نَصْرف النظر في بحوث الاستعارة عن تقسيمها إلى أصليّة وتبعيّة. وحسبنا في كلِّ ذلك أن نقول: استعارةُ كلمة بدل كلمة، سواءٌ أكانت اسماً أمْ فعلاً أمْ حرفاً. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 تقسيم الاستعارة في المفرد إلى تصريحيّة ومكنيّة نظر البيانيون في الاستعارات الواردات في المفرد فرأوا أنّ اللّفظ المستعار فيها للدلالة به على غير ما وُضع له في اصطلاحٍ به التخاطب، قدْ يُؤْتَى به صريحاً بذاته، وقد يُطْوَى فلا يؤتَى به بلفظه، ولكن يُكنَّى عنه بذكر شيءٍ من صفاته أو لوازمه القريبة أو البعيدة، فظهر لهم أن يُقَسِّمُوا الاستعارة إلى قسمين: القسم الأول: سمّوه "الاستعارة التصريحية" وهي الّتي يُصَرَّحُ فيها بذات اللّفظ المستعار، الذي هو في الأصل المشبّه به حين كان الكلام تشبيهاً، قبل أن تُحْذَف أركانه باستثناء المشبَّهِ به، أو بعض صفاته أو خصائصه، أو بعض لوازمه الذهنيّة القريبة أو البعيدة، مثل: (1) وقف الغضنفر على المنبر، وارتجل خُطْبَتَهُ العصماء، على عِلْيَةِ القوم والدّهماء، فبشّر وأنذر، وأطمع وحذّر، وقال: أنا أميركم المبعوث إليكم بالرحمة والسيف، والفضل والعدل، فمن أطاع واستقام، أصاب من الإِنعام والإِكرام، ومن عصى والْتَوى، فبنار إثْمِهِ احْتَرَقَ أو اكتوى. إنّ كلمة "الغضنفر" التي هي بمعنى "الأسد" قد استعيرت بذاتها من الحيوان المفترس، وأُطْلِقَتْ على الأمير المبعوث لقومٍ أهل شقاق وخلاف. فهي في هذا المثال استعارة تصريحيّة، إذْ جاء فيها التصريح بذات اللّفظ المستعار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 (2) قول الحريري: سَأَلْتُهَا حِينَ زَارَتْ نَضْوَ بُرْقُعِهَا الْقَانِي وإِيدَاعَ سَمْعِي أَطْيَبَ الْخَبَرِ فَزَحْزَتْ شَفَقاً غَشَّى سَنَا قَمَرٍ ... وسَاقَطَتْ لُؤْلُؤاً مِنْ خَاتَمٍ عَطِرِ نَضْوَ بُرْقُعِهَا: أي: إزَالَتَهُ وإلْقاءَه، والْبُرقُع قناع تُغَطّي به المرأة وجهها، يقال: نضا الشيءَ إذا نزعَهُ وألقاه. والمعنى سألتها أنْ تُزِيل القناع عن وجهها. القاني: أي: الأحمر. أطلق الحريري: كلمة "شَفَقاً" وأراد الْبُرْقُعَ، على سبيل الاستعارة التصريحيّه. وأطلقَ كلمة "قَمَر" وأراد وجْهَ حسنائه. وأطلَقَ كلمة "لُؤْلؤاً" وأراد كلامَها، وأطلق كلمة "خَاتم" وأراد فَمَها، كلُّ هذا على سبيل الاستعارة التصريحيّة، إذ جاء في هذه الإِطلاقات التصريح بذوات الألفاظ المستعارة. القسم الثاني: سمّوه "الاستعارة المكنيّة". وهي التي لم يُصَرَّح فيها باللّفظ المستعار، وإنما ذُكِرَ فيها شيءٌ من صفاته أو خصائصه أو لوازمه القريبة أو البعيدة، كنايةً به عن اللّفظ المستعار، مثل: (1) أن نقول من المثال الأول من مثالي الاستعارة التصريحيّة: "وقف ذو اللّبدة الأغبر - أو وقف أو الأشبال - أو وقف صاحب الزئير - أو وقف الذي تأكل السباع بقايا فريسته" أو نحو هذه العبارات. فذو اللّبدة صفة للأسد. ومثلها أبو الأشبال، وصاحب الزئير، ونحن باستعمال هذه العبارات نُكَنّي عن اللّفظ المستعار، وهو الغضنفر، أو الأسد. وأصل هذا المجاز تَشْبِيهٌ حُذِفتْ كلُّ أركانه باستثناء بعض صفات المشبّه به، فهو استعارة مَكْنيّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 (2) زُرْنا نقتبس عِلْمَ ذي فضْلٍ يأتي اللّيلُ إذا غاب، ويذهب اللّيلُ إذا حضر. أي نقتبس عِلْماً من الشَمْس، فالشمس من لوازم غيابها مجيءُ اللّيل، ومن لوازم حضورها ذهابُ اللّيل. فلفظ الشمس مستعارٌ من الكوكب المضيء للدّلالة به على الإِنسان الممدوح، والأصل في هذا تَشْبِيهُهُ بالشمس، لكن حُذِف اللّفظ المستعارُ ورُمِزَ إليه ببعض لوازمه كنايةً عنه. وأصل هذا المجاز تَشْبِيهٌ حذفت كلّ أركانه باستثناء بعض لوازم المشبَّه به، فهو استعارة مكنيَّة. وقد تلْتَبِسُ هذِه الاستعارة المكنيّة بالتشبيه المكنّي الّذي سبَقَ أنْ فَرَزْتُه بقِسْمٍ خاصٍّ عن التَّشْبيه البليغ، وذكرتُ طائفةً من أمثلته. والفرقُ بينهما أنّ التشبيه المكنيّ يأتي فيه المشبَّهُ ضمن العبارة بلفظه الصريح، أو بما يُكنَّى به عنه، من جهة، ويأتي فيه المشبّه به بلفظ الصريح أو بما يُكنَّى به عنه، من جهة ثانية، على وجه يُنْبِئ عن التشبيه. بخلاف الاستعارة إذْ لا يَجْتَمعُ فيها المشبَّه بلفظه الصريح أو بما يُكنَّى به عنه، مع المشبَّه به بلفظه الصريح أو بما يُكنَّى به عنه، على وجه يُنْبِئ عن التشبيه، وبهذا يصير الكلام مجازاً بالاستعارة، وإلاَّ فلا مجاز والكلام جارٍ وفق أسلوب التشبيه الْمُضْمَر الذي يُوجَدُ في العبارة ما يدلُّ عليه، ومعلوم أنّ عبارات التشبيه هي من الحقيقة ولا مِنَ المجاز. وبسبب هذا الالْتِبَاس تختلط الأمثلة على كثير من الباحثين والكاتبين في علم البيان، فيجعلون ما هو من التشبيه المضمر الذي هو تشبيه مكنّي ضمن أمثلة الاستعارة المكنيّة، مع أنّ المشبَّه فيها مذكورٌ بلفظه الصريح أو بما يُكْنَّى به عنه، وقاعدة البيانيين أن لا يجتمعا اجتماعاً يُنْبئُ عن التشبيه. وهذه دقيقة ينبغي للباحث أن يتَنَبَّه إليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 رأي السكّاكي: مع أنّ للسكّاكيّ نظرات ثاقبات في علوم البلاغة لكنّه فيما أرى أسرف هنا في التخيُّل وتعسّف، فعكس القضيّة، واعتبر التشبيه المضمر الذي هو من التشبيه المكنيّ على ما ظهر لي استعارةً تخييليّة، إذْ رأى أنّ لفظ "المشبّه" هو الذي استعمل في المشبّه به، بادّعاء أن المشبَّه هو عين "المشبه به" لا غيرُهُ بقرينة ذكر لازم المشبّه به. ففي قول الْهُذَلي: وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا ... أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لاَ تَنْفَعُ رأى أنَّ كلمة "الْمَنَيَّة" وهي الموت مُسْتَعارَةٌ للدّلالة بها على الحيوان المفترس "السبع" فلمّا صَارتِ المنيّةُ في تَصَوُّر الشاعر عين السَّبع الذي هو في الأصل مشبَّه به تخيّلَ أنّ للمنيّة أظفاراً تَنْشَب، فقال: أَنْشَبَتِ المنيَّةُ أظفارها، وصاغَها شعراً فقال: وإذا المنيّةُ انشبت أظفارها، وسمّى هذا العمل "استعارة تخييليّة". ومع أنَّ هذِه النظرة من السّكّاكي نظرةٌ بَدِيعَة وجميلة، إلاَّ أنها اعتمدت على تحليل متعسّف قلّما يخطر في ذهن أصحاب الكلام أنفسهم حين تجري ألسنتهم أو أقلامهم بمثل هذا الكلام. والطريق الأَقربُ الذي يفهمه أصحاب الكلام أنفسهم هو أن يكون الكلام من قبيل التشبيه البليغ الذي يُذْكَرْ فيه المشبَّهُ به بلفظه، إنّما ذُكِرَ بَدَلَهُ مَا يَدُلُّ عليه من صفاته أو خصائصه أو لوازمه. وأصل الكلام في عبارة "الْهُذَلِيّ" المنيةُ سَبُعٌ يُنْشِبُ أَظْفَارَه، فإذا أقلبتِ المنيّة لم تنفع التمائم. هذا تشبيه بَلِيغٌ، لكنّه حذف لفظ المشَبَّه به، وهو كلمة "سَبُع" واكتفى بذكر أداة افتراسه، وهي أنْ يُنْشِبَ أظفارَه، واسند هذا الإِنشاب إلى المنيَّة بَدلَ أن يُسْنِدَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 لفظ السَّبعِ إِليها، واقتضى هذا الإِسناد مقتضيات لفظيّة نحويّة، فجاء بتاء التأنيث وضمير المؤنث، مراعاة للفظ "المنيّة". وبهذا نكون قد أخذنا بالأظهر الذي لا تعقيد فيه ولا إبعاد، والتزمنا بقاعدة البيانيين بشأن الاستعارة، التي ذكروا لزوم عدم اجتماع المشبّه والمشبّه به فيها، أو ما يُكَنَّى به عنهما، على وجه يُنْبِئ عن التشبيه. أمثلة للاستعارة بقسميها التصريحيّة والمكنيّة: (1) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (إبراهيم/ 14 مصحف/ 72 نزول) خطاباً لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِرَاطِ العزيز الحميد} [الآية: 1] . في هذه الآية استعارتان تصريحيتان: الأولى: استعارة كلمة "الظلمات" للدَّلالة بها على الكُفْرِ والجهل بعناصر القاعدة الإِيمانيّة، والجهل بمفاهيم الإِسلام وشرائعه وأحكامه ومنهاج الله للنّاسِ. وأصلها تشبيه الجهل بهذه الأمور الجليلة الهادية للعقول والقلوب بالظلمات. الثانية: استعارة كلمة النور للدلالة بها على الإِيمان والعلم بعناصر القاعدة الإِيمانية، وبمفاهيم الإِسلام وشرائعه وأحكامه ومنهاج الله للناس. وأصلها تشبيه الإِيمان بعد العلم بهذه الأمور الجليلة الهادية للعقول والقلوب بالنور. والقرائن الفكرية واللّفظيّة تدلُّ على المراد من الكلمتَيْن، فكلُّ منهما مستعمل في غير ما وُضع له في اصطلاح به التخاطب، وعلاقته المشابهة، ولم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 يُذْكر في اللّفظ وجه الشَّبه ولا أداة التشبيه ولا لفظ المشبّه، فالاستعمال جارٍ على طريقة الاستعارة التصريحيّة. ونظائر هاتين الاستعارتين مكرّرة جدّاً في القرآن المجيد، حتّى صارتا بمثابة الحقيقة الشرعيّة. (2) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (فاطر/ 35 مصحف/ 43 نزول) : {إِنَّ الذين يَتْلُونَ كِتَابَ الله وَأَقَامُواْ الصلاة وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} [الآية: 29] . يرجون تجارة: أي: يتوقَّعون أَرْباح تجارة عظيمة. التجارة: هي أعمال البيع والشراء بممارسة وامتهان. لن تَبُور: أي: لن تكْسَدَ، ولن تتعطّل، ولن تَخْسَر أو تَهْلِك. جاء في هذه الآية استعمال لفظ "تجارة" مع وصفها بعدم البوار، على سبيل الاستعارة التصريحية. والمراد أنّ التعامل مع الله عزَّ وجلَّ بأعمال العبادات والقُرُبَات، التي منها تلاوة القرآن، وإقامة الصلاة، وإنفاق الأموال في سبيل الله سرّاً وعلانيَة تعاملٌ يجني منه العبْدُ خيراً عظيماً. وأصلها تشبيه ما يقدّمه المؤمنون من أعمال صالحة حَسَنَةٍ، يبتغون بها رضوان الله وثوابه العظيم بما يُقَدِّمُه التاجر في تجارته من سلعَة، مترقّباً من وراء ذلك ربحاً عظيماً. فتعامل العبد مع ربّه بالأعمال الصالحة تُشْبِه التجارة الرابحة دواماً. إذْ هُو تَعَامُلٌ مضمون الرّبح، مأمون الخسارة، فهو بمثابة التجارة التي لنْ تكسد ولن تخسر ولن تضيع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 (3) قول المتنبيّ من قصيدة يمدح بها "محمّد بْنَ سيَّار بْنِ مُكْرم التميمي، فيصف مسيره إليه، واستقبال ابْن سيّار له: سَرَى السَّيْفُ مِمَّا تَطْبَعُ الْهِنْدُ صَاحِبِي ... إلَى السَّيْفِ مِمَّا يَطْبَعُ اللَّهُ لاَ الْهِنْدُ فَلَمَّا رَآنِي مُقْبِلاً هَزَّ نَفْسَهُ ... إِلَيَّ حُسَامٌ كُلُّ صَفْحٍ لَه حَدُّ فَلَمْ أَرَ قَبْلِي مَنْ مَشَى الْبَحْرُ نَحْوَهُ ... وَلاَ رَجُلاً قَامَتْ تُعَانِقُهُ الأُسْدُ في هذه الأبيات عدّة استعارت تصريحية. يقول في البيت الأول: سَرَى السّيْفُ ممَّا تَطْبَعُ الْهِنْدُ صَاحِبي، أي: حالة كونه صاحباً لي. فأخَذَ المتنبّي من حَدَثِ سُراهُ هو حاملاً سيفه الذي هو من صُنْع الهند، لقطةً تصويريَّةً عَبَّرَ فيها أنَّ سَيْفَهُ هُو الّذِي سَرَى إلى شبيهه الممدوح مصاحباً له، فَأَسْنَدَ السُّرَى إلى السيف على طريقة المجاز العقلي "وهو هنا إسناد الفعل إلى غير ما هو له لعلاقة المصاحبة" توطئة للاستعارة التصريحيَّة التي أطلق فيها لفظة "السيف" على ممدوحه ابْنِ سيّار، فقال: "إِلَى السَّيف" ودلَّ على أنه أراد "ابْنَ سيّار" قوله: "ممّا يَطْبَعُ اللَّهُ لاَ الهنْدُ". وتابع يبني كلامه على اعتبار ممدوحه سيفاً، فقال: فَلَمَّا رَآنِيِ مُقْبلاً هَزَّ نَفْسَهُ إِلَيّ" فوصف حركة نهوضه وإقباله للاحتفاء بالمتنبّي بالسيف حين يهتزّ، فأطلق كلمة "هزَّ" على سبيل الاستعارة أيضاً بمعنى: تحرَّك يتلامع بإشراقه مقبلاً إلى زائره. وتابع تأكيد أنه سيف توطئة لوصفه بأنّه ذو حدّين، إذا نظرت إلى أحد صَفْحَيْهِ رأيْتَ حدّاً، وإذا أدرتَهُ إلى الصَّفح الآخر وجَدْت حدّاً ثانياً، فقال: "حُسَامٌ كُلُّ صَفْحٍ لَهُ حَدُّ". الصَّفْحُ: من السّيْف والْوَجْهِ عُرْضُه، ويجمع على صِفَاح وأصْفَاح. وبعد هذا أطلق على ممدوحه "ابْن سيّار" على سبيل الاستعارة التصريحيَّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 كلمة "الْبَحْر" إشارة إلى جوده، وكلمة "الأُسْدُ" إشارةً إلى شدّة شجاعته إذْ جعله كمجموعة أسود في شخصٍ واحد فقال: فَلَمْ أَرَ قَبْلِي مَنْ مَشَى الْبَحْرُ نَحْوَهُ ... وَلاَ رَجُلاً قَامَتْ تُعَانِقُهُ الأُسْدُ (4) قول "دِعْبِل الخُزَاعي" شاعر هجّاء، ولد بالكوفة وأقام ببغداد وتوفي عام "226هـ": لاَ تَعْجَبِي يَا سَلْمُ مِنْ رَجُلٍ ... ضَحِكَ الْمَشِيبُ برَأْسِهِ فَبَكَى يَا سَلْمُ: أي: يا سَلْمَى، مُسْتَثْنَى مُرخّم. شبَّه "دِعْبِل" حَدَثَ ظهورِ الشيب في رأْسِه بِحَدَثِ ظُهُورِ الأَسْنَانِ الضّواحِكِ في الفمّ، ودلَّ على هذا الحدث بشيءٍ من خصائصه وهو حُدُوث الضَّحك. واستعمل فعل "ضَحِكَ" للدّلاَلة على مُراده على سبيل الاستعارة المكنيَّة. (5) قول السَّرِيّ الرَّفاء يَصِفُ شِعْر نفسِه: إِذَا مَا صَافَحَ الأْسْمَاعَ يَوْماً ... تَبَسَّمَتِ الضَّمائِرُ والْقُلُوبُ شبّه سمَاعَ أبياتِ شِعْرِه بقادمٍ زائرٍ خفيف الظل محبوب يزور الأسماع، وحذف المشبّه به ورمز إليه بشيء من صفات قدومه زائراً، وهي المصافحة، وأطْلَقَ فِعْل "صَافَحَ" على طريقة الاستعارة المكنيّة. وشبّه الضمائر والقلوب بذي فَم يَتَبَسَّم حين سروره بأمر ما لكنه حذف المشبّه به ورمز إليه ببعض صفاته وهو التبسُّم، واستعمل فعل "تَبَسَّمَ" للدّلالة به على سرور الضّمائر والقلوب حين تستقبل عن طريق الأسماع شِعْرَه، على طريقة الاستعارة التصريحيّة. (6) قول البحتريّ يَصِفُ قصراً: مَلأَتْ جَوَانِبُهُ الْفَضَاءَ وَعَانَقَتْ ... شُرُفَاتُهُ قِطَعَ السَّحَابِ الْمُمْطِرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 شُرُفَاتُ البناء: ما يُبْنَى في أعلاه للزّينة، مفردها شُرْفَة. شبّه "البحتريُّ" دخول شرُفَاتِ القصر الذي وصفه في السحاب التي تموج، بِحَالَة تلاقي حَبيبَيْنِ في عناق. واستعار لهذا الدخول كلمة "عَانَقَ" على سبيل الاستعارة التصريحيّة الجاريَةِ في الفعل. (7) قول الحماسي يصف سُرعة إقبال ممْدوحِيه لدفع الشرّ عن أنْفُسهم: قَوْمٌ إذا الشَّرُّ أبْدَى ناجِذَيه لهم ... طَارُوا إِلَيْه زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانَا الناجذُ: الضرس، والجمعَ نواجذ. زَرَافات: أي: جماعات، الزّرافَة: هي الجماعة من الناس هنا، وتُطْلَق الزرافة على الحيوان المعروف. شبّه الشَّرَّ بحيوان مفترس، وحذف المشبّه به، وكنّى عنه بذكر "نَاجِذَيْه" لأنّ النواجذ أداةُ الْعَضّ، وهذا تشبيه مكني. وشبّه فعل إسراعهم إلى دَفْعِهِ وقمعه بفعل الطيران، واستعمل فعل "طَارَ" فقال: "طاروا إليه" أي: أسرعوا إليه إسراع طير يطير بجناحَيْهِ، على طريقة الاستعارة التصريحيّة. (8) قول الوأواء الدمشقي يصف حسناء تبكي: وَأَسْبَلَتْ لُؤْلُؤاً مِنْ نَرْجِسٍ فَسَقَتْ ... وَرْداً وَعَضَّتْ عَلَى الْعُنَّابِ بِالْبَرَدِ أطْلَقَ على سبيل الاستعارة التصريحيّة اللّؤلؤ على الدَّمْع، والنّرجسَ على العيون العسليّة، والوردَ على الخدود، والْعنَّابَ على الأنامل، والْبَرَدَ على الأسنان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 (9) قول المتنبّي يصف دخول رسول الروم على سيف الدولة: وَأَقْبَلَ يَمْشِيِ في الْبِسَاطِ فَمَا دَرَى ... إِلَى الْبَحْرِ يَسْعَى أَمْ إِلى الْبَدْرِ يَرْتَقِي أطلق المتنبّي في هذا البيت على سيف الدولة أنّه البحر، وأنّه البدر على سبيل الاستعارة التصريحية إذ صُرّح فيها بلفظ المشبّه به. والقرائن الحافّة من الحال ومن المقال دالّة على المراد، وأنّه لم يقصد البحر الحقيقي، ولا البدر الحقيقي. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 تقسيم الاستعارة إلى مطلقة ومُرَشَّحة ومجرَّدة تنقسم الاستعارة بالنظر إلى اقترانها بما يلائم المستعار منه "وهو المشبه به" أو المستعار له "وهو المشبّه" أو عدم اقترانها بشيءٍ من ذلك إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: "الاستعارة الْمُطْلَقة". وهي الاستعارة التي لم تقترن عِبَارَتُها بأوصاف أو تفريعات أو كلامٍ مما يُلائم المستعارَ منه، أو يلائم المستعارَ له، باستثناء القرينة الصارفة عن إرادة المعنى الأصلي للّفظ المستعار. مثل: "قطع وزير الداخليّة رأس الحيَّة الكبرى" بمعنى أنّه قطع رأس رئيس حزب الشرّ والفساد، إذا كانت قرينة الحال دالّة على المراد. فالحيّةُ لفظ مستعار للدلالة به على رئيس حزب الشرّ والفساد، ويُلاحظ أنّ العبارة لم تقترن بما يلائم لفظ الحيّة، ولا بما يُلائم رئيس حزب الشرّ والفساد. هذه الاستعارة استعارة تصريحيّة مطلقة. فإذا قلنا فيها: "قطع وزير الداخليّة رأس الناهشة ذات السُّمّ القاتل" كانت استعارة مكنيّةً مطلقة، إذْ لم يصرّح فيها باللّفظ الدالّ على المستعار منه صراحة، وإنما جاء فيها استعمال ما يدلّ على بعض صفاته وبعض خصائصه. القسم الثاني: "الاستعارة المرشحة". وهي الاستعارة التي اقترنت بما يلائم المستعار منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 وسمّيت مُرَشَّحة لأنّ ما اقترن بها يعطيها زيادة تقوية للمستعار منه بزيادة أَغْطِيَةٍ تحتاج زيادة عمل ذهني لكشف إرادة المعنى المجازي الّذي اسْتُعْمِل اللَّفْظ للدلالة عليه. الترشيح في اللّغة: التربيةُ والتنمية، فهي تفيد تقوية الشيء وتمكينه. مثل أن نقول في المثال السابق: "قطع وزير الداخليّة رأسَ الحيّة الكبرى التي باضَتْ وفرّخت صغار الحيّات والثعابين وسعت تنهش وتنفثُ سُمَّها". هذه العبارة اقترنت الاستعارة فيها بما يلائم المستعار منه، إذ الحيّة الحقيقيّة هي التي تبيض وتفرّخ وتنهش وتنفث سُمَّها. فالاستعارة في هذا المثال استعارة تصريحيّة مُرَشَّحة. ويمكن أن نبدّل فيها كما فعلنا في الاستعارة المطلقة فتكون مكنيّة مرشحة. القسم الثالث: "الاستعارة المجرّدة". وهي الاستعارة التي اقترنت بما يلائم المستعار له. وسمّيت مجرّدة لأنّ المقارنات الملائمات للمستعار له تُجَرِّدُ الاستعارة من أغطيتها الساترة، فيظهر المعنى المجازيّ المراد دون تأمُّلٍ فكريّ. كأن نقول في المثال السابق: "قطع وزير الداخليّة رأس الحيّة الكبرى الّتي حزَّبت أشرار الناس، وأرادت الفتنة، وسعت في إفساد الأفكار والنفوس". هذه العبارة اقترنت بما يلائم المستعار له الذي هو رئيس حزب الشرّ والفساد. فالاستعارة في هذا المثال استعارة تصريحيّة مجرّدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 ويمكن أن نبدّل فيها كما فعلنا في الاستعارة المطلقة فتكون مكنيّة مجرّدة. وإذا اجتمع في العبارة المشتملة على الاستعارة الترشيح والتجريد معاً، كانت الاستعارة بحكم الاستعارة المطلقة. وأبلغ هذه الأقسام الاستعارة المرشحة، فالمطلقة وما كان بحكمها، وتأتي المجرّدة في المرتبة الأخيرة، لأنّ التجريد، يُدْنِي الاستعارة من التشبيه، فيُضْعِفُ ادّعاء الاتحاد، بخلاف الترشيح، والإِطلاق فالترشيح يقوّي ادّعاء الاتّحاد بين المشبّه والمشبّه به، والإِطلاق يبدأ به. أمثلة للمرشحة وللمُجَرَّدة: (1) قول بشّار بن بُرْد: أتَتْنِي الشَّمْسُ زَائِرَةً ... وَلَمْ تَكُ تَبْرَحُ الْفَلكا فجاء بالشطر الثاني ترشيحاً للاستعارة، إذ استعار لفظ الشَّمْسِ لزائرتِه من النساء، فهي استعارة تصريحيّة مرشحة. (2) قول المتنبيّ يَمْدَحُ بني أوْس: أَمَّا بَنُو أَوْس بْنِ مَعْنِ بْنِ الرِّضَا ... فَأعَزُّ مَنْ تُحْدَى إِلَيْهِ الأَنْيُقُ كَبَّرْتُ حَوْل دِيَارِهِمْ لَمَّا بَدَتْ ... مِنْهَا الشَّمُوسُ ولَيْسَ فِيَها الْمَشْرِقُ وعَجِبْتُ مِنْ أَرْضٍ سَحَابُ أكُفِّهِمْ ... مِنْ فَوْقِهَا وصُخُورُها لاَ تُورِقُ استعار لرجال بني أوس كلمة "الشموس" وجاء بِما يُرَشِّح إرادة الشموس من الكواكب، بتعجبه الذي جعله يُكَبِّر إذ طلعت من منازلهم الواقعة في جهة المغرب، فالمشرق ليس فيها. واستعار لجودهم السخيّ لفظ السّحاب، وجاء بما يرشّح المستعار منه، إذ تعجب من أن صُخور أرضهم لا تُورقُ، مع أنّ سحاب أكفّهم من فوقها تَهْمي مطراً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 (3) قول كُثَيِّر عزّة بشأن معشوقته: رَمَتْنِي بِسَهْمٍ رِيشُهُ الكُحْلُ لَمْ يَضِرْ ... ظَواهِرَ جِلْدِي وهو لِلْقَلْبَ جَارْحُ استعار كُثَيّر عزّة لنظرتها الجميلة النافذة إلى القلب كلمة "سَهْم" وبعد استعارته جاء بترشيخ وتجريد. فجعل للسهم ريشاً، وهذا مما يلائم المستعار منه، وهو ترشيح، وأبان أنّ هذا الريش هو من الكُحْل وهذا مما يلائم المستعار له، وهو تجريد، وبعد ذلك أبان أن السّهم لم يَضِرْ ظواهر جلده بل جَرَحَ قلبه، وهذا مما يُلائم المستعار له، لأنّ النظر هو الذي يؤثر في القلوب، وهذا تجريد، إلاَّ أن كلمة جارح تلائم المستعار منه، وهو ترشيح. وهكذا مزج في كلامه ترشيحاً وتجريداً، وهو في نظري بليغ جدّاً في ادّعاء اتّحاد المشبّه بالمشبّه به، ولا ينطبق على استعارته أنها بحكم المطلَقَة. (4) قول ابن هانئ المغربي: وَجَنَيْتُمُ ثَمَرَ الْوَقَائِعِ يَانِعاً ... بالنَّصْرِ مِنْ وَرَقِ الْحَدِيدِ الأَخْضَر نلاحظ في هذا البيت أنّ ابن هانئٍ مَزَج ترشيحاً وتجريداً في مُقَارِنَاتِ استعارته. فالثمر الذي استعارة لما جاء به النّصر رشّحه بعبارة "جَنَيْتُمْ" وبكلمة "يانِعاً" وبعبارة "مِنْ وَرَق" وجاء بتجريدٍ في عبارة "الْحَدِيد الأخضر" إذ هو حديد السلاح الذي قاتلوا به. والقرينة الصارفة عن إرادة الثمر الذي يُجْنى من الشجر كلمتا "الوقائع" و"النَّصْر". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 (5) قول الله عزّ وجلّ في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول) : {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [الآية: 113] . جاء في هذه الآية استعَارة "اللِّباس" لما أنزل الله بأهل القرية من جوع وخوف، وقرنها بما يلائم المستعار له وهو عبارة "فأذاقها" وهذا تجريد، ولو أراد الترشيح لقال: فكساها، إلاَّ أنّ التجريد هنا بلغ، لما في الإِذاقة من إضافة معنى الإِيلام الذي يُحَسُّ به. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 تقسيم الاستعارة في المفرد بالنظر إلى كون كلٍّ من ركْنَيْهَا مما يدرك بالحسّ الظاهر أولاً بما أنّ الاستعارة فرع من فروع شجرة التشبيه، فلا بُدَّ أن تشتمل على ما يشتمل عليه التشبيه من كون كلٍّ من ركنيها ممّا يدرك بالحسّ الظاهر أو مما لا يدرك بالحسّ الظاهر، بل يُدْرَك بالفكر أو بالوجدان الذي هو حسٌّ باطنيّ. وترجع التقسيمات ضمن هذا الاعتبار إلى أربعة أصول ناتجة من ضرب اثنين باثنين: القسم الأول: استعارة مُدْرَكٍ بالحسّ الظاهر لِمُدْرَكٍ بالحسّ الظاهر. * كقول الله عزّ وجلّ في سورة (الكهف/ 18 مصحف/ 69 نزول) بشأن حَجْزِ يأجوج ومأجوج وراء السّدّ: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ... } [الآية: 99] . جاء في هذه الآية استعارة فعل "يَمُوجُ" من حركة أمواج البحار، التي يختلط فيها الماء بعضُه ببعض، وهو أمْرٌ مُدْرَكٌ بالحسّ الظاهر، للدّلالة به على حركة جماهير "يأجوج ومأجوج" وراء السّدّ في أحداث متجدّدة متكرِّرة كتكرّر حركة أمواج البحار، وهذا أمْرٌ مُدْرَكٌ بالحسّ الظاهر أيضاً، فكثرةُ القوم تُشْبه البحر إذا اجتمعوا، وحركتُهم إذا اتَّجَهُوا إلى مصالحهم المختلفة تُشْبه حركة أمواج البحر في مرأى الأبْصار. * وكقول الله عزّ وجلّ في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} [الآية: 37] . جاء في هذه الآية استعارة فعل "نَسْلَخُ" من عمليّة سَلْخِ جِلْدِ الذبيح من الحيوان بعد ذبْحِه، وهو أمْرٌ مُدْرَكٌ بالحسّ الظاهر، للدّلالة به على عمليّة إزالة ضوء النّهار شيئاً فشيئاً عن مواطن ظهوره على الأرض في حركات وأحداث متتابعات، وهذا أمْرٌ مُدْرَكٌ بالحسّا لظاهر أيضاً، فحركة ذهاب النهار عن المشارق وظهور اللّيل بالتدرج تُشْبه حركة سَلْخ الجلد شيئاً فشيئاً عن الحيوان المذبوح، فاستعير هذا لهذا بفنّيّة دقيقة جدّاً. القسم الثاني: استعارة مُدْرَكٍ فكريٍّ أو وجداني لِمُدْرَكٍ فِكْرِيٍّ أو وَجْدَاني. * كقول الله عزّ وجلّ في سورة (الملك/ 67 مصحف/ 77 نزول) في وصف نار جهنم وعذاب الّذين كفروا بربّهم فيها: {إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ ... } [الآية: 7 - 8] . أي: تكاد تتفاصل أجزاؤها من الغَيْظِ الّذي يُحْدِثُ حركاتِ تفجُّرٍ داخلها. فقد جاء في هذا النصّ استعارةُ كلمةِ "الغيظ" الّذي هو أَمْرٌ يُدْركُ دَاخِلَ النُّفوس بالحسّ الباطن، للدّلالة به على أمْرٍ يَحْدُث داخِلَ جَهَنَّمَ ممّا يُمْكِنُ أن يَتَخيَّلَهُ المخاطبون تخيُّلاً، ولكنّهم لا يُدْركونه بالحسّ الظاهر. الْقِسْمُ الثالث: استعارةُ مُدْرَكٍ فِكْرِيٍّ أَوْ وِجْدَاني لِمُدْرَكٍ بالحسّ الظاهر. * كأن نقول: "لمَّا اشتدّت الحرْب غَضَباً، دخَلَ فُرْسانُنَا الأبطال فجعلوا غَضَبَها لَهَباً على جَيْشِ الْعَدُوّ فاسْتَحَالَ رَمَاداً". جاء في هذه العبارة استعارة "الغضب" وهو أمْرٌ يُدْرَكُ بالحسّ الباطن داخل النفوس، للدلالة به على مشاهد تُدْرَك بالْحسِّ الظاهر في الحرب، من متفجّرات ناريّة تَقْذِف بشظايا الحديد، وحركة الأليَّات الموجَّهة ضِدَّ بعضها للتدمير والإِبادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 القسم الرابع: استعارة مُدْرَكٍ بالحسّ الظاهر لِمُدْرَكٍ فِكْرَيٍّ أو وجْدَاني. * كقول الله عزّ وجلّ لرسوله في سورة (الحجر/ 15 مصحف/ 54 نزول) : {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} [الآية: 94] . الصَّدْعُ: كَسْرٌ في الزجاج ونحوه لا يَبْلُغُ حدّ الْفَصْلِ الْكَامل. والصدع أمْرٌ يُدْرَكُ بالحسّ الظاهر، وقد اسْتُعِير هنا للدلالة به على التبليغ ذي التأثير في النفوس المشابه للتأثير الذي يُحْدِثُهُ من يَصْدَعُ الزجاج، وهذا أمر يُدْرَكُ بالفكر، وقد يُحِسُّ به مَنْ وجّه له التبليغ في وجدانه ومشاعر نفسه. ولمّا كان التبليغ مهما كان أسلوبه مؤثراً في النفوس لا يَبْلُغُ أن يُحَقِّق التحويلَ الفعليّ من الكُفْر إلى الإِيمان، كان تشبيهه بالصَّدْع تشبيهاً دقيقاً جدّاً. فالأمْرُ بالتبليغ يتضمَّن معنى اتخاذ الوسائل المؤثّرة في النفوس تأثيراً لا يَبْلُغ مبلغ التحويل، لأنّ التحوُّل من الكفر إلى الإِيمان إنّما يكون عن طريق إرادة المُتَبَلِّغ نفسه، وليس من شأن الوسائل أن تصنع تحويلاً، ولكن قد تُولّد إقناعاً أو إلزاماً جَدَلِيّاً، فتشبيه هذا التأثير بالصَّدْعِ هو بالغ الدقّة في التصوير، وجاءت الاستعارة تبعاً لهذا التشبيه. * وكقول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) : {بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ... } [الآية: 18] . القذف في اللّغة: رمْيُ شيءٍ مملوسٍ كحجَر ونحوه إلى جهة ما. وقد اسْتُعِير في هذه الآية فعل: "نَقْذِف" للدّلالة به على توجيه الحقّ الفكريّ وتوجيه أدلّته، للإِقناع بها أو للإِلزام أو للإِفحام، ضدّ الباطل الفكري الذي يُؤمِنُ به، ويجادل به الْمُبْطِلُون. والدّمْغُ في اللّغة: هو الشجُّ في الرَأسِ الذي يكسر الجمجمة ويَصِلُ إلى الدّماغ فَيُخْرِجه، وهذا عَمَلٌ قَاتِلٌ للْمَدْمُوغ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 وقد استعير في هذه الآية فعل: "يَدْمَغ" للدّلالة به على إبطال الباطل ببرهان الحقّ. ففي الآية استعارتان جاء في كلّ منهما استعارة مُدْرَكٍ بالحسّ الظاهر للدّلالة به على مُدْرَكٍ فِكْرِي. فإذا هو زاهق: أي: فإذا الباطل مستَبْعَدٌ أو مضمحلٌ أو زائل، لا تنخدع به الأفكار السّويّة، والعقول السَّليمة. تنبيه: أمّا الاستعارة التي يكون كلُّ من طرفيها صورةً تمتزج فيها الأشياء المدركة بالحسّ الظاهر بالمدركات الفكرية أو الوجدانيّة فهي تابعة للاستعارة في المركب الآتي بيانها إن شاء الله. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 التقسيم الخامس تقسيم الاستعارة إلى وفاقية وعنادية من متابعة الدقّة في التقسيمات التحليليّة قسّم البيانيُّون الاستعارة بالنظر إلى المضمون الفكريّ للمستعار له والمستعار منه، إلى قسمين: القسم الأول: "الاستعارة الوِفاقيَّة". وهي الاستعارة التي يمكن اجتماع طرفيها المستعار منه والمستعار له في شيءٍ واحد. كقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) : {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الآية: 122] . جاء في هذه الآية استعارةُ كلمة "أَحْيَيْنَا" للإِنسان الذي اهتدى إلى الحقّ وآمن به، ومعلومٌ أَنَّ الْحَيَاةَ بمعناها الأصلي تجتمع في شخصٍ واحد مع الحياة وفق المعنى المجازي وهو الهداية. فَبَيْنَ المعنيين وفاق. القسم الثاني: "الاستعارة العناديَّة". وهي الاستعارة التي لا يجتمع طرفاها المستعار منه والمستعار له في شيء واحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 كقول عمرو بن معديكرب: "تحيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ". فقد استعار التحيَّة التي تكون عند الإِكرام للدلالة بها على الإِهانة التي من مظاهرها الضرب الوجيع، والغرض الهزء والسخرية والتهكم. وظاهر أن الإِكرام والإِهانة أمران متعاندان لا يجتمعان. وكقول عنترة: وسَيْفِي كَانَ فِي الْهَيْجَا طَبِيباً ... يُدَاوِي رَأْسَ مَنْ يَشْكُو الصُّدَاعا الهيجاء: الحرب. استعار فعل "يُداوِي" لَيَدُلَّ به على قَطْعِ رأس المقاتل الذي يشكو الصُّدَاع، ومعلوم أنَّ المداواة بالدُّواء تنافي قَطْعَ الرأس، فهما أمران متعاندان لا يجتمعان. أقول: إنَّ هذا التقسيم وأمثاله ينبغي أن تكون مفاتيح للدراسات الأدبيَّة، لا قوالب جاهزة حتى يقاس عليها، فمن شأن القوالب أن تُمِيتَ قدرات الإِبداع والابتكار. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 (ب) قيمة الاستعارة في البيان ومراقيها (1) تحتلُّ الاستعارة في البيان مرتبةً أعلى من مرتبة التشبيه بحسب الأصل، لعدة أسباب: السبب الأول: أنّها أكثر من التشبيه توغُّلاً في أساليب البيان غير المباشر. السبب الثاني: ما فيها من تجاهل التشبيه الذي هو أصلها، إذ الاستعارة تُشْعِرُ بادِّعَاء اتِّحاد المشبّه بالمشبَّه به. السبب الثالث: ما فيها من استثارةٍ لإِعجاب أذكياء ذَوَّاقي الأدب، وَتَملُّكٍ لانتباههم وتأثيرٍ فيهم، ولا سيما حينما تكون استعارةً غريبة غير متداولة، ولا يتنبَّهُ لاصطيادها إلاَّ فُطنَاء البلغاء. لكن لا يُشْتَرطُ أن تكون كُلُّ اسْتِعَارة أبلغ من التشبيه، إذْ قد تقتضي حال المتلقّي، أو يَقْتَضِي الموضوع المطروحُ للبيان، أنْ يُسْتَخْدَم التشبيه، فيكونُ التشبيه عندئذٍ هو الأبلغ. (2) وتكون الاستعارة حَسَنَةً جميلة إذا كان التشبيه الذي هو أسَاسُها حَسَناً جميلاً، مستوفياً الشُّروط التي سبق بيانها في فصل "التشبيه والتمثيل" تحت عنوان "صفات وخصائص التشبيهات المثلى". وكلَّما قوي الشَّبه بين المشبَّه والمشبَّه به كان اللّجوء إلى الاستعارة أكثر فنيّة، وأرقى بياناً، وأبْعَد عن الإِطناب، وأرضى للأذواق الأدبيّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 أمَّا إذا كان الشَّبَه ضعيفاً فإنّ التشبيه الذي يُذْكَرُ فيه وجه الشبه يكون هو الأولى. (3) وترتقي الاستعارة حُسْناً وإبداعاً بمقدار ما تجمع من العناصر التالية ونحوها: * أن يخلو التعبير المشتمل عليها عمّا يُشْعر بالتَّشْبيه الذي هو الأصل، باستثناء القرينة الصارفة عن إرادة المعنى الأصلي. * أن يكون وَجْهُ الشبه أبعد عن الابتذال والتداول على ألسنة وأقلام الكتّاب والشعراء والخطباء. * أن تكون الاستعارة ذات غرابةٍ بالنظر إلى أصلها، أو بالنظر إلى ما اقترنت به من إضافات غريبةً رفعت من قيمتها. * أن تكون الاستعارة دقيقة لطيفة المأخذ مع ظهورها. * أن تكون الاستعارة ذات تفصيلات وتفريعات مبنيَّة عليها. * أن تقترن بالترشيح الذي يقوِّيها. كلَّ ما سبق مشروط بعد خفاء وَجْهِ الشّبه أو استهجانه. فمن الخفاء ما يُفْضِي إلى التعمية والإِلغاز، بسبب عدم ظهوره في المشبَّه به أو في المشبَّه، أو بسبب اتِّجاه البلغاء لاختيار وصْفٍ من أوصاف المشبّه به ليكُون هو وجه الشَّبه في استعاراتهم وتشبيهاتهم، ككَوْنِ الأسَدِ شجاعاً مقداماً، دون كونه أبْخرَ ذا رَائحة مُنَفِّرَة، وككَوْن الْبَدْرِ جميلاً منيراً، دون كونه كوكباً مؤلفاً من جبال ووديان وصحاري وعناصر مشابهة لعناصر الأرض. ومن الاستهجان انتزاع وجه شبه يكره الناس التَّنْبِيه عليه والتذكير به، كالمستقذرات والأشياء التي تتقَزَّز النفوس منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 المبحَثْ الثَاني الاستعارة في المركّب وهي "الاستعارة التمثليّة" سبق في مقدمة الكلام على الاستعارة أنها تكون في المفرد وتكون في المركّب، وأن الاستعارة في المركب تسمّى "الاستعارة التمثيليّة". وبعد أن انتهى المقصود عَرْضُه وبيانُه من صور الاستعارة في المفرد وتقسيماتها وأمثلتها، فقد جاء دور بيان القسم الآخر للاستعارة، وهو "الاستعارة في المركب". الاستعارة في المركب: هي كما سبق بيانُه في المقدِّمة استعارة يكون اللّفظ المستعار فيها لفظاً مُرَكَّباً، وهذا اللّفظ المركب يستعمل في غير ما وُضِعَ له في اصطلاح به التخاطب، لعلاقة المشابهة بين المعنى الأصليّ، ويسمّى "الاستعارة التمثيليّة" وقد يطلق عليه "الاستعارة على سبيل التمثيل" أو نحو ذلك من غبارات. وهذه الاستعارة يستعملها الناس في مخاطباتهم وأمثالهم الدارجة، في فصيح الكلام العربي، وفي اللِّسان العامّي الَّذي يتخاطبُ عامَّةُ الناس به، ويُسْتَعْمَل أيضاً في غير العربيَّة من اللُّغات الإِنسانيَّة الأخرى. * فمن العاميّ قول الناس إذا رأَوا صاحب صنعه أَوْ مَهْنة يُهْمِلُ أشياءه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 الخاصة التي يصنع مثلها لغيره بإتقان: "بابُ النجَّار مخلَّع" أو "السّكافي حافي والحايك عريان". وهذه الاستعارة قائمة على تشبيه حال هذا المُهْمِل لأشيائه الخاصة بحال النجّار الذي يصنع الأبواب المتقنة للناس مقابل ما يناله من أجر، ويُهْمِلُ باب داره إهمالاً مثيراً للانتقاد والتلويم، أو تشبيه حاله بحال الإِسْكاف الذي يُصْلح أحذية الناس ويمشي حافيّاً مُهْمِلاً إصلاحَ حِذَائه، أو تشبيه حاله بحال الحائك الذي يحيك الثياب للناس ويبيعها لهم، ويمشي هو كالعريان، بثيات مُمَزَّقة رثَّة. * وقول العامة إذا رأوْا إنساناً يعالج أمراً لا جدوى منه: "يَنْفُخُ في قِرْبة مَخْرُومَة". الأمثلة من الفصيح: (1) قول المتنبّي يصف الذي يَعِيب الشعر الرائع بسبب خَلَلٍ ذوقيّ لَدَيّه، يَجْعَلُهُ يرى الجميل قبيحاً، والكامل ناقصاً، والحسن سيِّئاً: وَمَنْ يَكُ ذَا فَمٍ مُرٍّ مَرِيضٍ ... يَجِدْ مُرّاً بِهِ الْمَاءَ الزُّلالَ هذا الكلام الذي يدلُّ معناه الأصلي على أنَّ المريض الذي يُفْرِزُ فَمُهُ مُفْرَزاتٍ مُرَّةً، يَجدُ الماءَ الزُّلال مُرّاً في فمه، وليس ذلك من مرارة الماء، بل من الأشياء المرَّة الَّتي يُفْرِزُها فَمُه. لكنَّ المتنّبي استعار هذا الكلام على طوله للدلالة به على حال من ليس لديه ملكة إدْراك الشعر الرائع النفيس، فهو بسبب ذلك يَعِيبُ الحسَنَ الجيّد منه، ويَنْتَقِدُه بغير فهم، ولا حُسْنِ تَذَوُّق. (2) قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ يُلْدَغُ المؤمن من جُحْرٍ مرَّتَيْن" هذه العبارة النبوية تُسْتَعْمَل على سبيل "الاستعارة التمثيليّة" للتحذير من تكرار العمل الذي جَرَّ مُصِيبة في نفسٍ أو مالٍ، أو أفضى إلى أمْرٍ غير محمود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 (3) إذا رأى الناس اجتماع جمهورٍ غفيرٍ على عالمٍ أو واعظٍ أو زعيم، أو كثرةَ إقبالهم على سوقٍ من أسواق التجارة، تمثّل قائلهم بقول الشاعر: "والْمَوْرِدُ الْعَذْبُ كَثيرُ الزِّحَام" هذا القول يُسْتَخْدَمُ على سبيل "الاستعارة التمثيليّة" مراداً به غير معناه الأصلي الذي قاله الشاعر للدلالة به عليه. (4) ويقال فيمن يعمل عملاً لا جدوى منه، ويَبْذُلُ فيه جَهْداً ضائعاً: * "ينْفُخُ في رماد". * "تَضْرِبُ في حَدِيدٍ بارِد". * "يَحْرُثُ في البحر". فتُسْتَعَارُ هذه الجمل وأمثالُها للدلالة بها على أنَّ العامل الَّذي يُتَحَدَّثُ عنه يَعْمَلُ عملاً ضائعاً عَدِيمَ الأَثَرِ والنفع. (5) ويُقال فيمن يَغْتَرُّ بمَنْ لا خير فيه، ولا نَفْعَ يُرْجَى لديه: * "يَسْتَسْمِنُ ذَا وَرَمٍ". أو قول المتنبي: أُعِيذُهَا نَظَرَاتٍ مِنْكَ صَادِقَةً ... أَنْ تَحْسَبَ الشَّحْمَ فِيمَنْ شَحْمُهُ وَرَمُ (6) ويُقال لِمَنْ يُدْعَى لتحصيل مطلوبه ضِمْنَ العاملين الكثيرين الذين يعملون في أَمْرٍ مَا ليَحْصُلوا منه على مطلوبهم المماثل لمطلوبه: "أَدْلِ دَلْوَكَ في الدِّلاَء". مع أنه لا دلْوَ ولا بئر. (7) ويُقالُ لِمَنْ يُنْصَحُ بأنْ يَتَّخِذَ من وسائل القوة مَا يَصْلُح لتحقيق تَغَلُّبه على الصِّعاب الشديدة الَّتي تواجهه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 "إِنَّ الحَدِيدَ بِالْحَدِيدِ يُفْلَحُ". يُفْلَحُ: أي: يُشَقُّ ويقطع. (8) ويقال لمن يعمل جاهداً في إقامة الفروع قبل العمل بتأسيس الأصول: "مَنْ بَنَى على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَبِنَاؤُه مُنْهَارٌ". أو "قَبْلَ أَنْ ترفع بناءَكَ أَرْسِ أُسُسَه ودَعَائِمه". (9) ويقال لمن يَتْرُكُ العملَ زاعماً أنَّ التوكُّلَ على الله يكفيه، ما قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأعرابي حين سأله: أأعْقِلُ ناقتي يا رسول الله أم أتوكّل: "اِعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ". (10) ويقال لمن يَنَالُ جَزَاءَ عَمَلِه الذي كان قد عمله خيراً أو شراً: "يَحْصُدُ ما زرع". أو "يَدَاكَ أَوْكَتَا وَفُوكَ نفخ". أَوْكَتَا: أي: شَدَّتَا الصُّرَّةَ أو القِرْبَةَ بالْوِكاء، وَهُوَ الخيطُ الذي يُشَدُّ به نَحْوُ فَمِ القِربة: (11) ويقال لمن يَنْقُل كلُّ ما يَسْمَع، أو يُدَوِّن في مؤلَّفَاتِه كلَّ ما يَطَّلعُ عليه دون تحقيق ولا تحرير ولا تمييز. "حَاطِبُ لَيْلٍ". إلى غير ذلك من أمثلة كثيرة جدّاً. تنبيه: حين تجري العبارة مجرى الأمثال، وتغدو مثلاً، فإنَّها تُسْتَعار بلفظها دون تغيير، فيخاطَبُ بها المفرد والمذكر وفروعهما: "المؤنث - المثنى - الجمع" وفق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 صيغتها التي وردت دون تبديلٍ ولا تعديل. ومنها الأمثال التالية: (1) قولهم: "أحَشَفاً وَسُوءَ كِيلَة". الْحَشَفُ: التمْر الردئ الذي فَقَدَ خصَائصه. الكِيلَةُ: هَيْئة الكَيْل. هذا مثل يضرب لمن يظلم من جهتين. (2) قولهم: "إنَّ الْبَغَاثَ بِأرْضِنَا يَسْتَنْسِرُ". البَغَاث: طائر أبْغَثُ اللَّون، أي: فيه بُقَعٌ بيضٌ وسود، والْبَغَاثُ نوعٌ من الطير أصغر من الرَّخَم بطيء الطيران وهو ممّا يُصاد، الواحدة منه "بَغَاثَة". يَسْتَنْسِرُ: أي: يصير كالنّسْر فلا يُستطاع صَيْدُه. هذا مَثَلٌ يُضْرَبُ ويرادُ به الدلالة على أنّ من نزل بأرضنا وجاورنا قَوِيَ بِنَا وَعَزّ. (3) قولهم: "الصَّيْفَ ضَيَّعْتِ اللَّبَنَ". هذا مثلٌ يُضْرَبُ لمن فرَّط بطلب حاجته عند تمكُّنه منها، ثمَّ طلبها بَعْدَ فواتِ أوانها. وأصل المثل أنّ امرأة طَلَبْتْ من زوجها ذي اليسار الطَّلاق، وكان ذلك في زمن الصَّيف، فطلَّقها، فتزوّجَتِ ابْنَ عمّها، وكان شابّاً مُعْدِماً، فمرَّت في الشتاء بأرضها إبلُ زَوْجها السابق، فأرسَلَتْ خادِمَها إليه تطلُبُ منه لَبَناً، فقال: "الصَّيْفَ ضَيَّعْتِ اللَّبَن" فسَارَتْ عبارتُه مثلاً. (4) قولهم: "أَنْ تَسْمَعَ بِالْمُعَيْدِيّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 هذا مثَلٌ يُضْرَبُ لمَنْ له ذِكْرٌ في النّاسِ كبير، ولكن ليس له جسْمٌ يملأُ عَيْنَ الناظر إليه. قاله "النعمانُ بن المنذر" أو "المنذر بن ماء السّماء" في رجُلٍ سَمعَ بذكْرِه ينتهي نسَبُه إلى "مَعَدِّ" وتصغيره "مُعَيْد" فلمّا رآه اقْتَحَمَتْهُ عَيْنُه، أي: ازدَرَتْه، فقال كَلِمَتَهُ: فذهبت مثلاً. قالوا: فقال الرَّجُلُ للمنذر بن ماء السماء: أبَيْتَ اللَّعْنَ، إنَّ الرّجَالَ لَيْسُوا بِجُزُرٍ تُرادُ مِنْهَا الأَجْسَام. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 المقولة الثانية: المجاز المرسل (1) التعريف سبق في مقدّمة فصل المجاز تعريف المجاز المرسل بأنه المجاز الذي تكون العلاقة فيه بين المعنى الحقيقيّ والمعنى المجازي الذي استعمل اللفظ للدلالة به عليه أمراً غير المشابهة، أو قائماً على التوسع في اللّغة دون ضابطٍ معيّن. وأنه سُمِّيَ "مجازاً مُرْسلاً" لكونه مرسلاً عن التقييد بعلاقة المشابهة. وقد أدْخَلْتُ في عموم عنوان المجاز المرسل المجاز العقلي، إذ هو مجاز في الإِسناد علاقته غير المشابهة. (2) تقسيم المجاز المرسل إلى مجاز في المفرد ومجاز في المركب ومجاز عقلي في الإِسناد ومجازٍ قائم على التوسَع في اللغة دون ضابط معين ينقسم المجاز المرسل إلى أربعة أقسام: القسم الأول: المجاز المرسل في اللّفظ المفرد، كاستعمال لفظ "الْيَد" مراداً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 بها النعمة، نظراً إلى أنّ اليد هي الأداة التي تُعْطَى بها عادةً عطاءات الإِنعام، وكاستعمال لفظ "العين" مراداً بها الجاسوس الذي يُكَلَّف أن يطلَّع على أحوال الْعَدُوّ، ويأتي بالأخبار عنها، نظراً إلى أنّ العين هي الأداة الكبرى التي تستخدم في هذا الأمر. القسم الثاني: المجاز المرسل في اللّفظ المركّب، وهي المركّبات التي تستعمل في غير معانيها الأصلية بهيئتها التركيبية لعلاقة غير المشابهة، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي. كاستعمال المركبات الخبرية في الإِنشاء، واستعمال المركبات الإِنشائية في الخبر. القسم الثالث: المجاز المرسل في الإِسناد، وهو المسمّى بالمجاز العقلي. وهو إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له في الظاهر من حال المتكلم، لملابسة بين ما هو له في الواقع وبين ما أسند له، من قرينة صارفة عن أن يكون الإِسناد إلى ما هو له. كقولنا: "بنى فلان عمارة عظيمة" مع أنّه لم يَبْنِها بعمل جسمه، وإنما اتّخذ الوسائل لبنائها، من استئجار المهندس، واستئجار العمال، وبذل الأموال، فالملابسة بين من بناها فعلاً وبَيْنَهُ هي كونُه صاحبَ الفكرة، والآمر بالبناء، وباذل المال، وربما كان المشرف على المتابعة ومراقبةِ الأعمال. القسم الرابع: المجاز المرسل القائم على التوسُّع في اللّغة دون ضابط معيّن، ومنه المجاز بالحذف أو بالزّيادة. فالحذف يكون للإِيجاز، كحذف كلمةٍ يوجد ما يَدُلُّ عليها، أو حذْفِ جُمْلةٍ أو أكثر. والزيادَةُ تكون للتأكيد، كزياده بعض الحروف التي تزاد لغرض التأكيد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 مثل: "ما" التي تزاد بعد "إذا" وكحروف الجر التي تزاد للتأكيد، وقد سبق بيان هذا في بحث الإِطناب. وقد سمّوا هذا القسم مجازا، وبعض الباحثين لم يره من قبيل المجاز. وفيما يلي مباحث أربعة لشرح هذه الأقسام الأربعة: *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 المبحَثْ الأوَّل شرح المجاز المرسل في اللّفظ المفرد المجاز المرسل في المفرد: هو اللّفظ المفرد المستعمل في غير ما وُضع له في اصطلاحٍ به التخاطب على وجْهٍ يَصِحُّ ضمن الأصول الفكريّة واللّغوية العامّة، لعلاقة غير المشابهة مع قرينة صارفة عن إرادة المعنَى الأصليّ. كاستعمال لفظ "الْيَد" بمعنى النّعمة، لعلاقة السببيّة. واستعمال كلمة: "الْعَيْن" مراداً بها الجاسوس، لأنّ أعظم أدوات تجسُّسه عيْنُه. واستعمال كلمة: "الأصابع" مراداً بها أطرافُها لعلاقة الكليّة والجزئيّة بينهما. واستعمال كلمة: "الناس" مراداً بها قِسْمٌ منهم للعلاقة الترابطيّة بين العام وبعض أفراده. وكتسمية الشيء باسم صانعه، للعلاقة الترابطيّة بين الصانع وما يصْنَعُ، كأن يُسْأَل طالب شراء سيارة: ما هي السيارة الّتي تُريد شراءها؟ فيقول: أُريد "شركة تيوتا" أي: أريد سيّارة من صنع هذه الشركة، وكتسمية الشيء باسم آلته، إلى نحو ذلك. والمقصودُ من العلاقة، أو ما يعبّر عنه أحياناً بالْمُلاَبَسَة، ما يكون من ارْتباط بين معنَيْين، وهذا الارتباط يسمح في مجالات التعبير التجوُّزيّ بإطلاق لفظ أحدهما على الآخر لغرض بلاغي. وقد أحصى البيانيون ما يزيد على عشرين علاقة من العلاقات التي يَسْمَحُ كلُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 واحد منها باستعمال المجاز المرسل، لدى وجوده بين المعنى الأصلي للّفظ، والمعنى الآخر الذي يُطْلَق عليه اللّفظ مجازاً. وإنيّ أذْكُر فيما يلي ما اصطفيتُه منها، مع إيرادِ طائفةٍ من الأمثلة عليها. علاقات المجاز المرسل: يكفي وجود علاقة من العلاقات الآتيات ونحوها لإِطلاق اللّفظ إطلاقاً مجازيّاً على غير ما وُضِعَ له في اصطلاحٍ ما يجري به التخاطب: (1) كون المعنى الأصليّ سَبَباً للمعنى الذي يُطْلَقُ عليه اللّفظ مجازاً، أو مُسَبَّباً عنه، مثل: * قول المتننبيّ يمدح محمّد بن عُبَيْد الله العلوي: لَهُ أَيَادٍ إِلَيَّ سَابِقَةٌ ... أَعُدُّ مِنْهَا وَلاَ أُعَدِّدُهَا أطْلَقَ لفظ "أيادٍ" وهي جمع "يَدٍ" بمعنى الإِحسان، لأنّ عطاءات الإِحسان تكون باليد، فهو من إطلاق السَّبَب وإرادة المسبّب. * قول الله عزَّ وجلَّ في سُورة (غافر/ 40 مصحف/ 60 نزول) : {هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السمآء رِزْقاً ... } [الآية: 13] . أي: ويُنَزّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً وَضِيَاءً مِنَ الشمس فيُخْرِجُ لكُمْ بهما نباتاً له ثمراتٌ مختلفات هي رزْقٌ لَكُمْ، فالرّزق مُسَبَّبٌ عَمَّا يَنْزِلُ مِنَ السّماء، وهذا من إطلاق الْمُسبَّب وإرادة السبب، وفائدة هذا المجاز الدلالَةُ على المعنيين مع كمال الإِيجاز. (2) كون المعنى الأصلي للّفظ كُلاًّ للمعنى الذي يُرادُ منه على سبيل المجاز، أو بعضاً له، مثل: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق حَذَرَ الموت ... } [الآية: 19] . أي: يجعلون بعض أصابعهم، وهي رؤوسُها، وهذا من إطلاق الكلّ وإرادة بعضه، وفائدة هذا المجاز الإِشعار بما في نفوسهم من الرغبة بإدخال كلّ أصابعهم في آذانهم حتى لا يصل إليها الصوت الشديد المميت الذي تحدثه الصواعق. * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول) : { ... فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ... } [الآية: 92] . أي: فعتْقُ رقيق مؤمن أو رقيقة مؤمنة، وهذا من إطلاق بعض العتيق وهو رقبته، وإرادةِ كلّه. وفائدة هذا الإِطلاق المجازيّ الإِيجازُ في التعبير من جهة، لأنّ الرقبة تكون بعض كلٍّ من الذكر والأنثى، والإِشارةُ إلى أنّ الأرقاء كانوا يُغَلُّون من أعناقهم، فإذا أُعْتِقُوا حُرِّرُوا من هذه الأغلال. (3) كون المعنى الأصليّ للّفظ لازماً للمعنَى الذي يُرادُ منه على سبيل المجاز، أو ملزوماً له، مثل: * أن يقول العامل المستأجَر من طلوع الشمس إلى غروبها، مشيراً إلى انتهاء وقت عمله: أقْبَلَ اللَّيْلُ إِلَيْنَا وَالشَّفَقْ ... أَفَأَبْقَى عَامِلاً حَتَّى الْغَسَقْ أي: غابت الشمس، فأطْلٌَ إقبالَ اللّيل مريداً غيابَ الشمس، وذلك لأنه يلزم من غياب الشمس إقبال اللّيل، فهذا من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم. وأن يقول القائل: هذه الأقلام تكتب في الصُّحف، أي: أخذ الكاتبون يكتبون، فأطلق الأقلام وأراد أيدي الكتّاب، إذ يلزم من حركة الأيدي في الكتابة حركة الأقلام، فهذا من إطلاق الّلازم وإرادة الملزوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 * قول القائل لصاحبه: هذا وقت زوال الشمس، أي: وقت وجوب صلاة الظهر، فهذا من إطلاق الملزوم وهو قت زوال الشمس، وإرادةِ لازِمه، وهو وقت وجوب صلاة الظهر. (4) كون المعنى الأصليّ للفظ مُطْلقاً، والمعنَى الذي يُطْلق عليه اللّفظُ مجازاً مقيداً، مثل: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ ... } [الآية: 222] . جاء في هذه الآية الأمر باعْتزَال النساء في المحيض، وهو مطلَقٌ ولكن أريد منه اعتزال مقيّد وهو اعتزال جِمَاعِهِنّ. وجاء في النهي عن الاقتراب منهنّ حتى يَطْهُرْن، وهو أيضاً مطلق، ولكن أريد منه اقترابٌ مُقَيَّدٌ، وهو الاقتراب منهنّ في الجماع. وفائدة هذا المجاز تأكيد النهي بطلب الابتعاد عن الدواعي التي تدعو إلى ارتكاب المنهيّ عنه. (5) كون المعنى الأصلي للفظ عامّاً، والمعنى الّذي يُطْلق عليه اللّفظ على سبيل المجَاز خاصّاً، أو عكس هذا، مثل: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) بشأن أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة أحد: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} [الآية: 173] . جاء في هذه الآية إطلاق اللفظ العام وهو كلمة "الناس" مرّتين والمراد ناسٌ خاصُّون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 فالقائل المبلّغ لمصلحة الناس المشركين أعرابيٌّ من خُزاعَة، وجاء التعبير عنه بلفظ "الناس". والمراد من "الناس" الّذين جمعوا جموعهم للمؤمنين هم مشركو مكة. فما في الآية هو من إطلاق العامّ وإرادة الخاص على سبيل المجاز المرسل، وفائدة هذا المجاز تدريب المؤمنين على التوكّلِ على الله، وعدم التأثر بأقوال الناس وجموعهم، ولو كانوا كلَّ الناس أو معظمهم. * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول) : {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الآية: 23] . جاء في هذه الآية نَهْيُ الولد عن أن يقول لأحد والديه كلمة "أُفّ" وهذه الكلمة كلمة خاصّة من عُمُوم الكَلِماتِ الّتي يكون فيها إيذاءٌ لهما، وهي أدناها، والكلام المؤذي أمْرٌ خاصّ من عموم ما يؤذيهما كالضرب، والمراد كلّ ما يؤذيهما، وهذا من إطلاق خصوص أذىً معين، وإرادةِ كلّ ما يؤذي على وجه العموم، فهو من إطلاق الخاص وإرادة العامّ. وفائدة هذا المجاز التنبيه بالأخفّ على الأشدّ، وتدريب المخاطبين على أن يُعْمِلوا عُقُولَهُمْ في فهم النصوص ليَقيسوا الأشباه والنظائر بعضها على بعض، ولِيعْلَمُوا أنّ النّهيَ عن الإِضرار أو الإِيذاء الأخف يَدُلُّ بداهة على ما هو أشدّ منه. (6) كون المعنى الأصلي للّفظ حالاًّ في معنى اللّفظ الذي يُرادُ استعماله بدله على سبيل المجاز، أو مَحَلاًّ له، مثل: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المؤمنون/ 23 مصحف/ 74 نزول) بشأن شجرة الزيتون: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بالدهن وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ} [الآية: 20] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 أي: تَنْبُت بناتٍ وثَمَرٍ فيه الدُّهْنُ وهو الزيت، فجاء في هذه الآية إطلاقُ الدُّهْنِ مُراداً به النَّباتُ والثَّمَرُ الذي يُوجَدُ في داخله الدّهن، وهذا من إطلاق الحالِّ في الشيء وإرادَة مَحَلِّه، إذ الّذي يَنْبُتُ هي الفروع والْوَرَقُ والثَّمَرات التي يوجد فيها الدُّهن. وفائدة هذا المجاز الإِيجاز، وتَوْجيهُ نظر المخاطبين لما في شجرة الزيتون من دُهْنٍ عظيم النفع للناس، كي يُولُوا زيتَ الزيتون اهتماماً خاصّاً، ويشكروا نعمة الله عليهم به. ومثله: {خُذُوا زينتكم} [الأعراف: 31] أي: خُذُوا الأشياء الّتي فيها زينتكم، فهذا من إطلاق الحالِّ على المحلِّ. * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (العلق / 96 مصحف/ 1 نزول) : {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزبانية} [الآيات: 17 - 18] فليْدعُ ناديه: أي: فلْيَدْعُ أهْلَ ناديه، وهذا من إطلاق المحلّ وهو النادي وإرادةِ الحالِّ فيه، وهم أهل هذا المحلِّ. وفائدةُ هذا المجاز مع الإِيجاز إرادةُ التعميم، لأنّ الناديَ يَحْوِي كلّ أهله، وإرادةُ أنصارِه المصطفين، لأنّ الإِنسان يصطفى لناديه الخاصّ أخلَصَ المخلِصين له الذين يُدافعون عنه بصدق. ومثله: {خذوا زينتكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجدٍ} [الأعراف: 31] : أي: عند كلّ صلاة، فهذا من إطلاق المحلّ على ما يجري فيه من عمل. (7) كوْنُ المعنى الأصلي للفظ والمعنى الذي يُطْلَق عليه اللّفظ على سبيل المجاز متجاوِرَيْن، مثل: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البلد/ 90 مصحف/ 35 نزول) : {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة * فَكُّ رَقَبَةٍ} [الآيات: 12 - 13] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 جاء في هذا النصّ إطْلاَقُ لفظ الرَّقَبَة عَلَى الْغُلِّ الّذِي يَكُونُ مجاوراً لها ومحيطاً بها، إذِ الرَّقبةُ ليست هي الّتي تُفَكُّ، إِنَّما يُفَكُّ الْغُلُ المجاورُ لَها والمحيط بها، فهذا من إطلاق اللّفظ وإرادة ما جاوره، وفَكُّ الرَّقبةِ كنايةٌ عن عِتقِ الرقيق. وفائدة هذا المجاز الإِشعارُ بأنّ فَكَّ الْغُلّ يُرادُ مِنْهُ إطلاقُ رَقبة المغلول به، لتحرير صاحب الرقبة من الأسْر، مع ما في هذا المجاز من إيجاز. (8) كونُ المعنى الأصلي للّفظ قد كان فيما مضَى على ما يُطْلَقُ عليه الآن، فيُطْلَقُ عليه مجازاً باعتبار ما كان عليه في الماضي. أو كون المعنى الأصلي للفظ سيكون فيما سيأتي في المستقبل على ما يُطْلَق عليه الآن، فيُطْلَقُ عليه مجازاً باعتبار ما سيكون عليه في المستقبل. مثل: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول) : {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} [الآية: 2] . حُوباً كبيراً: أي: إثْماً كبيراً مُهْلكاً. جاء في هذه الآية إطلاق لفظ "اليتامى" على من بلغوا رشدهم ممّن كانوا يتامَى قبل ذلك، لأنّ من بلغ رُشْده من ذكر وأنثى لا يُسَمَّى يتيماً، فهذا من إطلاق اللَّفظ مجازاً على الشيء بالنظر إلى ما كان عليه. وفائدة هذا الإِطلاق الإِيجاز من جهتين: الأولى: أنّ لفظ "اليتامى" يُطْلَقُ على المذكّر والمؤنث. الثانية: أنّ إطلاق هذا اللفظ مجازاً يغني عن عبارة طويلة يقال فيها: وآتوا الذين كانوا يَتَامَى فبلغوا رُشْدَهُمْ أَمْوَالهم. * وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (يوسف/ 12 مصحف/ 53 نزول) بشأن استفتاء أحد صاحبيه في السّجن عن رؤيَا رآها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 {وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً} [الآية: 36] . أي: أَعْصِرُ عِنَباً ليكون فيما بَعْدُ خَمْراً، فَأُطْلِقَ في هذه العبارة لفظُ الْخَمْر عَلى الْعِنَب باعتبار المقصود من عَصْرِه وهو أن يكون فيما بَعْدُ خمْراً. وظاهرٌ أَنَّ فائدة هذا المجاز الإِيجاز، وهو من الأغراض البلاغيّة الكبرى، فبدل أن يقول: إني أراني أعصر عنباً ليكون في المستقبل خمراً، قال: إني أراني أعْصِر خمراً. والقرينة الصارفة قرينة عقلية، لأنّ الخمر لا تُعْصَر. (9) كون المعنى الأصلي للّفظ آلة للمعنى الذي يُرادُ استعمال اللّفظ للدلالة به عليه، مثل. * أن نقول: ضَرَبَ المؤدّب تِلْميذه عشرين سَوْطاً. أي: عشرينَ ضرباً بالسّوط، فجاء في هذا المثال إطلاق لفظ السوط الذي هو آلة، وإرادةُ حدَثِ الضرب الذي كان بالسوط. وظاهرٌ ما في هذا المجاز من إيجاز. (10) كون المعنى الأصلي للّفظ مُبْدَلاً أو بَدلاً، والمعنَى الذي يُسْتَعْمَل للدلالة به عليه مجازاً بَدَلاً أو مُبْدَلاً، فالعلاقة هي: "الْبَدَليّة". مثل: * أن يقول العامل لربّ العمل الذي لم يُعطِه أجْرَ عمله: "أكَلْتَ عَمَلِي" أي: أكَلْت أجْرِي الي هو بدلُ عَمَلي. فهذا من إطلاق المبْدَل وإرادة البدل. ونظيرُهُ أن يقال: إنّ فلان أكلوا دَمَ القتيل الذي قتلوه، أي: أكلوا الديّة والتي هي بَدَلُ دَمِه الذي زهقت نفسه بإراقته. فهذا من إطلاق المبْدَل وإرادة الْبَدَلَ أيضاً. ومن عكس هذا أن يقال: دفع بنو فلان ديَةَ فلان، أي: قتلوه فدفعوا بدل إراقة دمه الدّية، إذَا دلّت القرينة على هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 فهذا من إطلاق البدل وإرادة الْمُبْدَل، وهو القتل. وظاهرٌ ما في هذا المجاز من إيجاز. (11) علاقة الإِضافة بين المضاف وبين المضاف إليه، وهذه العلاقة تتبع معنى الحرف المقدر في الإِضافة، فقد يُحذَف المضافُ أو المضافُ إليه ويُطْلَقُ لفظ الباقي منهما على المحذوف مجازاً. مثل: * أن نقول: فتح صاحب الدار دارَه وأذِنَ لقاصديه بالدخول. أي: فتح باب داره. فهذا من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، والإِضافة هنا على تقدير "لام" الاختصاص. والغرض الإِيجاز، مع الإِشارة إلى أنّ فتح الباب إنّما قُصِدَ منه إباحة دخول الدر لقصدي صَاحِبِها. * وأن نقول: "دخَلَتِ الوفودُ بابَ الملك" أي: دخلوا باب قَصْرِه. فقد حُذِفَ من هذه العبارة كلمة "القصر" وهي بالنسبة إلى الباب مضاف إليه، وبالنسبة إلى الملك مضاف. (12) علاقة الضّدِّية، فقد يُطْلَق اللّفظ للدلالة به على ضدّ معناه، ومن الأغراض الداعية لهذا الإِطلاق الاستهزاء والسخرية والتهكم. مثل: * أن يقول السلطان لأعوانه بشأن مُجْرمٍ حضر بين يديه: "خذو فأكرموه في السجن" أي: فاضربوه وعذّبوه. * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنفال/ 8 مصحف/ 88 نزول) خطاباً للمشركين الذي كانوا يسألون الله الفتح ضدّ الرسول والذين آمنوا معه قبل موقعة بدر، فجاء الأمر على خلاف ما طلبوا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح ... } [الآية: 19] . أي: إنْ تسْتَنْصِرُوا باللَّهِ على الرسول والمؤمنين، فقد جاءكُمُ نَصْرُ الله للرسول والمؤمنين، فحلَّتْ بكُمُ الهزيمة والذّلّة. فهذا من استعمال الضدّ للدلالة به على ضدّه. (13) توجد علاقة اشتقاقيّة عامّة قد تُطْلَقُ بملابَسَتِها صِيغَةٌ مَقام صيغة أخرى، فإذا لم يكن لها تأويل آخر غير الإِطلاق المجازي على سبيل المجاز المرسل، فهي لدى التحليل ترجع إلى علاقات فكرية، كاستعمال اسم الفاعل أو اسم المفعول مراداً به المصدر، لأنّ المعنى المصدري موجودٌ في كلٍّ منهما، وكذلك استعمال المصدر بمعنى اسم الفاعل أو اسم المفعول. (14) إلى غير ما سبق من علاقات تفيد ملابسةً ما، وتصحّح في نظر البليغ استخدام المجاز المرسل في عبارته. *** أمثلة تدريبيّة مختلفة للمجاز المرسل: (1) قول الشاعر: كَفَى بِالْمَرْءِ عَيْباً أَنْ تَرَاهُ ... لَهُ وَجْهٌ ولَيْسَ لَهُ لِسَانُ أطْلَقَ الشاعر لفظ "لسان" وأراد به القدرة على البيان الفصيح، والعلاقة هي الآليّة، لأنّ اللّسان هو آلة البيان الفصيح، فمن ليس له قدرة على هذا البيان فهو بمثابة من ليس له لسان. (2) قول الشاعر: إِذَا نَزَلَ السَّمَاءَ بأَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 أعاد الضمير في "رَعَينَاهُ" على السَّمَاء مريداً بالسّماء المطر لأنّه ينزل منها فالعلاقة هي "المكانية" أي: مكان نزول المطر. لكنّه في الضمير أراد أثر المطر وهو نبات الأرض، والعلاقة "السببيّة". وهذان الإِطلاقان من المجاز المرسل كما هو ظاهر. (3) قول ليلى الأخيليّة تتحدّث عن الإِبل وراكبيها: رَمَوْهَا بِأَثْوابٍ خِفَافٍ فَلاَ تَرَى ... لَهَا شَبَهاً إلاَّ النَّعَامَ الْمُنَفَّرَا أطْلَقَتْ كلمة "أثواب" وأرادت راكبيها من الرجال، والعلاقة كون الثياب ظرفاً للرجال، فهي التي تظهر للعيون. والْغَرَض البياني الإِشعار بأنْ الرجال من رقتهم وخفتهم لم يظهَرُوا، فلم يَبْدُ على ظهور الإِبل المنطلقة في الجرْي إلاَّ أثوابٌ مَرْمِيَّةٌ عليها. (4) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : { ... فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ ... } [الآية: 194] . فاعْتَدُوا عليه: أي: فجازُوه، أُطْلِقَ فعْلُ "اعتدوا" بمعنى جازوا، لأنّ هذا الجزاء كان سَبَبُهُ اعتداءَ من اعتدى، فأُطْلِق على المُسَبَّب اللفظ الدالّ على السَّبَب، فالعلاقة السببيّة. وفائدة استعمال هذا المجاز الدلالةُ على العدل الذي هو حق المعتَدَى عليه. (5) قول الشاعر الجاهلي "عمرو بن كلثوم": أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَد عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا فَنَجْهَلَ: أي: فنجازِيَه بمثل عمله، وإنْ كان هذا الجزاء لا يُسَمَّى جَهْلاً، لكن لمّا كانَ مُسَبَّباً عن جَهْلِ الجاهلين صَحَّ أن يُطْلِقَ عليه مجازاً الاسم الذي يُطْلَق على السبب. وفائدته الإِشارة إلى العدل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 (5) قول امرئ القيس يخاطب صاحبته: أَغَرَّك مِنّي أَنَّ حُبَّكِ قاتِلِي ... وأَنَّكِ مَهُمَا تَأَمُرِي الْقَلْبَ يَفْعَلِ أطلق "الْقَلْبَ" وهو جزء منه، وأرَادَ كُلَ ذَاتِهِ، وهذا من إطلاق الجزء وإرادة الكُلّ. والغرض البياني الإِشعار بأنّ حُبَّها الذي في قلْبِه، يجعله ذا سلطانٍ عليه، وهذا السلطان ينتقل من القلب المسيطر على ذاته لتكون ذاتُه كلُّها مُطيعة لأوامرها. (6) قول ابن المعتز في مَمْدوحه: سَالَتْ عَلَيْهِ شِعَابُ الْحَيّ حِينَ دَعا ... أَنْصَارَهُ بِوُجُوهٍ كالدَّنَانير أطلق لفظ "الوجوه" وأراد أنصاره من الرِّجَال، وهذا من إطلاق الجزء وإرادة الكُلّ على طريقة المجاز المرسل. والغرض البياني الإِشعارُ بأنّ الناس حين يُقْبِلون جمّاً غفيراً كالسيول المتحدّرة في الشعاب، إنّما تُرى منهم وجوههم، فلا يُدَقِّق الناظر إليهم النظرَ في سائر أجسامهم. (7) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الغاشية/ 88 مصحف/ 68 نزول) : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تصلى نَاراً حَامِيَةً} [الآيات: 2 - 4] . وقوله فيها: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الآيات: 8 - 10] . جاء في هذين النصَّيْنِ إطلاق كلمة وُجوه، والمرادُ أشخاصهم وذواتهم كُلُّها، فهو من إطلاق اسم الجزء على الكلّ. والغرض البياني من هذا الإِطلاق، الإِشارةُ إلى أنّ الوجوه هي التي تظهر عليها علامات البؤس من العذاب، وعلاماتُ السُّرور من النعيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 (8) قول الشاعر: بِلاَدِي وإِنْ جَارَتْ عَلَيَّ عَزِيزَةٌ ... وَأَهْلِي وَإِنْ ضَنُّوا عَلَيَّ كِرَامُ أطْلَق كلمة "بلاد" مضافة إليه، وأراد أهْلَها وَسُكَّانَها، والعلاقة المحليّة. والغرض البياني الإِيجاز، مع الإِشارة ضمناً إلى ذوي السلطة والنفوذ فيها، لأنَّهم هُمُ الّذين يمثِّلُونها، وبيدهم العدل والجور فيها. (9) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الحج/ 22 مصحف/ 103 نزول) بشأن الْمُضِلِّ عن سبيل الله: {لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق * ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ} [الآيات: 9 - 10] . وقول الله عزَّ وجلَ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) بشأن كفّار اليهود: {وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق * ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [الآيات: 181 - 182] . جاء في النصّ الأول إطلاق "اليدين" والمراد ما يكْسِبُ الإِنسان بكلّ جوارحه الظاهرة والباطنة. وجاء في النص الثاني إطلاق "الأيدي" والمراد ما يكسبون بكلّ جوارحهم الظاهرة والباطنة. وهذا من إطلاق الجزء وإرادة الكلّ، والغرض البياني الإِشارة إلى أنّ الأيدي هي أكثر الأعضاء كسباً للأعمال. (10) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول) : {وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ ... } [الآية: 33] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 أُطْلِقَ "النكاح" والمرادُ مؤونَتُه من مَهْرٍ ونَفَقةٍ وما لا بُدَّ مِنْهُ لطالب النكاح، وهذا من إطلاق المسبَّب وإرادة سبَبه. وفي هذا المجاز إيجاز في التعبير، مع الإِشارة إلى أنّ الرجال هم المسؤولون عن نفقات النكاح. (11) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هاذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين * فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [الآيات: 35 - 36] . فأَخْرَجَهُما: أي: أغْوَاهُمَا إغْواءً كانً السَّبَبَ في إخراج الله لهما من الجنة، فالعلاقة السببيّة. في هذا المجاز إيجاز في التعبير مع التنبيه على أنّ الشيطان قد توصَّل إلى هدفه من إغوائهما، وهو إخراجهما من الجنة. (12) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بالمعروف ... } [الآية: 232] . أَزواجَهُنَّ: أي: الّذين كَانوا أَزْوَاجَهُنّ سابقاً، وهذا من إطلاق اللَّفْظِ على الشْيءِ باعتبار ما كان عليه. (13) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (نوح/ 71 مصحف/ 71 نزول) : {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} [الآيات: 26 - 27] . أي: ولا يَلِدُوا إلاَّ مَوْلُودَاً يَؤُول أَمْرُهُ إلى أن يكون بعد بلوغه فاجراً كفّاراً. فهذا المجاز هو من تسمية الشيء باسم ما يؤُول إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 (14) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الحجر/15 مصحف/ 54 نزول) بشأن الملائكة الذين بشْرُوا إبراهيم عليه السلام بغلام: {إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الآيات: 52 - 53] . جاء وصف الغلام عند البشارة بما يؤول إليه أمرُه من أنه سيكون عليماً. وهذا من تسمية الشيء باعتبار ما يؤول أمره إليه. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 المبحَثْ الثَاني شرح المجاز المرسل في اللّفظ المركب المجاز المرسل في اللّفظ المركب: هو لفظ مركّب يستعمل بهيئته التركيبية في غير المعنى الذي وُضِعَتْ له صيغة جملته في اصطلاح التخاطب، لعلاقة غير المشابهة، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي. ويكون هذا المجاز في قسمين: القسم الأول: المركّبات الخبرية. القسم الثاني: المركّبات الإِنشائية. أمّا قسم المركبات الخبرية: فقد تخرج عن دلالتها الخبرية مجازاً للدلالة بها على معنىً آخر، فمنها ما يلي: (1) الخبر الْمَسُوق للتعبير عن التّحسر وإظهار الحزن، ومن أمثلته: * قول الشاعر: ذَهَبَ الشَّبابُ فَمَالَهُ مِنْ عَوْدَةٍ ... وَأَتَى الْمَشِيبُ فَأَيْنَ مِنْهُ المْهَرَبُ؟ والعلاقة بين المعنى الأصلي وهو الإِخبار، والمعنى المجازي وهو التحسّر وإظهار الحزن "اللّزوم" إذ يلزم من الإِخبار بذهاب الشيء المحبوب المعلوم للجميع التحسُّر والحزن عليه. إنّه يتحسّر ويحزن على ذهاب الشباب وإتيان المشيب ولا يخبر بذلك، وأصل صيغة الجملة موضوعة للإِخبار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 ونظير هذا أن تقف الثكْلَى على قبر ولدها وتقول: مَاتَ ولدي، مات ولدي، وتكرّر هذه العبارة وتبكي. (2) الخبر المسوق للدعاء، ومن أمثلته: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (يوسف/ 12 مصحف/ 53 نزول) حكاية لما قال يوسف عليه السلام لإِخوته: {قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين} [الآية: 92] . يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ: المعنى الأصلي الذي تدلُّ عليه الصيغة الإِخبار، وقد استعملت مجازاً في الدعاء، والعلاقة السببيّة على سبيل التفاؤل والطمع بكرم الله وفضله، إذ الدعاء الذي هو إنشاء طلب من الله سبب في تحقيق الاستجابة بمشيئة الله على سبيل التفاؤل والرجاء. ونظيره قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشأن المتحلّلين من إحرامهم بالحلْق أو التقصير على ما روى الإِمام أحمد بسنده إلى يحيى بن حُصَيْن، قال: سَمِعْتُ جَدَّتي تقول: سمعتُ نبيّ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعرفات يخطُبُ يقول: "غَفَرَ اللَّهُ لِلْمُحَلِّقِين، غَفَرَ اللَّهُ لِلْمُحَلِّقين، غَفَرَ اللَّهُ لِلْمُحَلِّقِين". قالوا: والمقصّرين؟ فقال: "والمقصّرينَ" في الرابعة. الصيغة صيغة إخبار، وقد استُعْمِلَتْ في الدّعاء. والغرض البياني الرجاء والتفاؤل بتَحقيق المدعوّ به. (3) الصيغة الخبريّة المسوقة للدلالة بها على إنشاء الأمر أو النهي، ومن الأمثلة: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج ... } [الآية: 197] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 فلا رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ في الحجّ: الصيغة موضوعة للنفي الخبري، وقد استعملت في النهي عن هذه الأمور مجازاً، والعلاقة المسببيّة لأنّ حصول النّفي في الواقع مُسَبَّبٌ عن طاعة المؤمنين في الحجّ لما ينهى الله عنه، وهذا هو المنتظر منهم، فأُطْلِقَ المسبّب، وأريد سببه. واستعمال الخبر في مثل هذا المقام أبلغ من إنشاء النَّهْي، إذْ يُشْعِر بأنّه ليس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 من شأن المؤمنين أن تكون منهم المخالفة في واقع حجّهم، الذي تحمَّلوا فيه المشقات الكثيرات، وبذلوا لأدائه أموالاً جمعوها بالجهد والكدّ وربما انتظروا سنين حتى تهيّأت لهم الاستطاعة. * وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/2 مصحف/ 87 نزول) : {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة ... } [الآية: 233] . الصيغة خبريّة في "يُرْضِعْنَ" واستعملت في الأمر الترغيبيّ أو الإِلزامي مجازاً، والعلاقة المسَّببِيّة، لأنّ الإِرضاع الفعلي مُسَبَّبٌ عن طاعة المؤمنات لأمر الله في شأن أطفالهنّ، وهذا هو المنتظر منهنَّ، فأُطْلِقَ المسبَّبُ وأُرِيد سبَبُه. واستعمال الخبر في مثل هذا المقام أبلغ من إنشاء الأمر، إذْ يُشْعِر بأنّه ليس من شأن الوالدات ذوات الحنان والشفقة على أطفالهنّ، وهُنَّ مؤمناتٌ بربِّهنّ أن يترُكْنَ إرْضاع أولادهنّ دون ضرورة، أو حاجة شديدة جدّاً. * وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء ... } [الآية: 228] . الصيغة خبرية واستعملت في الأمر الإِلزاميّ بالتربُّصِ، وهو الانتظار بعدم الزواج الجديد حتَّى تمضي العدة. واستعمال الخبر في مثل هذا المقام أبْلَغُ من إنشاء الأمر، للإِشعار بأنّه ليس من شأن المؤمنات المسلمات في مجتمعٍ إسلاميٍّ تكون المطلّقات فيه تحت المراقبة لمعرفة هل يوجد حمل ينسب إلى الزوج السابق أولاً؟ أن يُسْرِعْنَ إلى زواج من زوجٍ آخر قبل انقضاء مدّة العدّة. والعلاقة المسببّة، كما سبق في المثالَيْن السّابقين. إلى غيرها من الأمثلة، ومنها: {ومَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} -[البقرة: 272] {وإذْ أخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَعْبُدُونَ إلاَّ اللَّهَ} (4) الصيغ الخبرية المستعملة للدلالة على الامتنان، أو الترغيب والحضّ، أو التلويم، أو التحسير والتنديم، أو المدح، أو الهجاء، أو السخرية والاستهزاء، إلى غيرها من معانٍ سبق بيانها في مبحث الجملة الخبرية، ومعانٍ أخرى قد تَتَفَتَّق عنها أذهان البلغاء. وأمّا قسم المركبات الإِنشائيّة: فقد تخرج مجازاً عن معانيها للدلالة بها على معانٍ أُخرى، فمنها ما يلي: (1) إطلاق الأمر والنهي مراداً به الإِخبار مجازاً، ومن الأمثلة ما يلي: * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (مريم/ 19 مصحف/ 44 نزول) خطاباً لرسوله: {قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمان مَدّاً حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العذاب وَإِمَّا الساعة فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً} [الآية: 75] . فَلْيَمْدُهْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً: صيغة أَمْرٍ يُرَادُ بِهَا الإِخْبارُ عن سُنَّةِ اللَّهِ، وصيغة الأمر هنا مستعملَةٌ أوّلاً بمعنى الدعاء، والدُّعَاءُ مُسْتَعْمَلٌ بمعنى الخبر، أي: فالله يُمدُّ لَهُ مَدّاً. وفي هذا المجاز إيجاز بالغ، وإشعار بأنّ الرّسُول يدعُو على من كان في الضلالة، بأَنْ يُجْري الله فيه سنَّتَهُ، فَيَمُدَّ لَهُ، ولا يدعُو عليه بتعجيل العقاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (العنكبوت/ 29 مصحف/ 85 نزول) : {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ اتبعوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الآية: 12] . وَلْنَحْمِلُ خَطَايَاكُمْ: هذِه صيغةُ أمْرٍ، يُرادُ بِها الإِخبارُ على سبيل الوعد بأنّهم سيَحْمِلُونَ عَنْهُمْ خَطَايَاهُمْ إذَا اتَّبَعُوهم، وهم كاذبون بهذا الوعد، وغرضهم منه الاستدراج إلى الكفر. وصيغة الأمر في هذا المقام أبلغ من صيغة الخبر، لأنّ فيها معنى إلزام أنفسهم بتحقيق الأمر الذي وعَدُوهم به. * قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) بشأن المنافقين الذين تخلّفوا عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الآية: 82] . أي: هم يضحكون اليوم في دنياهم قليلاً ولكنّهم سيبكون في أخراهُمْ كثيراً جزاءً بِما كانوا في الحياة الدنيا يكسبون من آثام. جاء هذا الإِخبار بصيغة الأمر في {فَلْيَضْحَكُواْ - وَلْيَبْكُواْ} على سبيل المجاز المرسل، وعلاقته هنا السببيّة، لأنّ الأمر الرّبَانِيّ التكويني هو الذي مكَّنَهُمْ في الحياة الدنيا من أن يكونوا منافقين وعصاةً محتالين يضحكُون في سِرِّهم إذا قَدَّمُوا أعذاراً كاذبةً قَبِلَهَا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم معاملةً لهم بمقتضى ظاهر أحوالهم، فمن توابع الأمر التَّكْويني الذي جعلهم الله به مخيّرين أن يضحكوا، فأُطْلِقَ لفظ السّبب على المسبَّب. ولأنّ الأمر التكوينيّ الجزائيّ يَوْمَ الدّين هو الذي سَيَجْعَلُهُمْ يتَقَلَّبُون في العذاب الذي يجعلُهُمْ يَبْكُون من شدّة ما يلاقون من آلام، فأطْلِق لفظ السبب على المسبب على طريقة المجاز المرسل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 * قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما جاء في الحديث الصحيح: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". فَلْيَتَبَوَّأ: الصيغة إنشائيّة فيها معنَى الأَمر، والمرادُ الإِخبار بأنَّهُم سيَتَبَوَّؤُن مقعدهم من النار، أي: سَيُقِيمون به. يقال لغة: تبوّأ المكانَ وتَبَوَّأ به، إذ نزلَهُ وأقامَ به. والعلاقة السببيّة بين الأمر والخبر هنا، إذِ الأَمْر مستعمل أوّلاً بمعنى الدعاء، إذْ يطلب فيه الرسول من ربّه، ودُعَاءُ الرّسول على من كذب عليه متعمّداً بهذا التّبَوُّءِ مُتَحَقِّقُ الاستجابة فهذا الكاذب سيتبوّأ مقعده من النّار حتماً. أو نقول: صيغةُ الأمر مستعملةٌ بمعنى الوعيد، والعلاقة بين الأمر والوعيد أَنَّ أَمْرَ التَّنفيذ الجزائي يلزم عنه وعيد بالجزاء، فالعلاقة هي اللّزوم، فجرى استعمال الأمر في الوعيد بما سَيَحْدُث من جزاء، ولو كان مُقَرِّرُ الجزاء غيْرَ مُسْتَعْمِلِ صيغةِ الأمر. (2) وقد تُطْلَقُ الْجُمَل الاستفهامية مُراداً بها معانٍ أخرى غيرُ الاستفهام، مثل: "التقرير - الإِنكار - الامتنان - التمنّي - الترجي" إلى غير هذه المعاني من معاني خبريّة سبق بيانُها في بحث الجملة الإِنشائية وأقسامها، تحت بحث: "خروج الاستفهام عن أصل دلالته إلى معاني أخرى. (3) إلى غَيْرِ ذَلِكَ من معاني تتفتّق عنها أذهان البلغاء. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 المبحَثْ الثَالِثُ المجاز في الإِسناد وهو المجاز العقلي المجاز العقلي: إسناد المتكلّم الفعلَ أو ما في معناه إلى غير ما هو له في اعتقاده، لملابَسَةٍ بينهما، مع قرينةٍ صارفة عن أنْ يكون الإِسناد إلى ما هو له في اعتقاده. هذا المجاز هو في حقيقته تجوّزٌ في حركة الفكر بإسناد معنىً من المعاني إلى غير الموصوف به في اعتقاد المتكلّم، لملابَسَةٍ مَا تُصَحِّحُ في الذهن هذا الإِسناد، بشرط وُجود قرينة صارفة عن إرادة كون الإِسناد هو على وجه الحقيقة. وغالباً ما تكون القرينة الصارفة عن إرادة الحقيقة باعتقاد المتكلّم في هذا الإِسناد قرينة فكريّة، تُدْركُها الأذهان ولو لم يأت في العبارة ما يَدُلُّ عليها، وقد تكون قرينة لفظية أو حالية. وسُمِّيَ مجازاً عَقْلِيّاً وقد يُطْلَقُ عليه "مجازٌ حُكْمِيّ" لأنّ كلاًّ من ركنَي الإِسناد قد يكون مستعملاً في معناه اللّغوي بحسب وضعه، إنّما حصل التجوّز في الإِسناد وفي النسبة فقط، وقد يكون مستعملاً في معنىً مجازيً على طريقة المجاز اللّغوي، وأضيفَ إلى ذلك مجازٌ عقليٌّ حاصل في الإِسناد، أي: في نسبة المسند إلى المسند إليه، سواء أكانت الجملة فعليّة أو اسميّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 ما في معنى الفعل: المصدر والمشتقات التي تعمل عمل الفعل في الأسماء الظاهرة أو في ضمائرها، وهي اسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبّهة، واسم التفضيل، واسم المصدر. الملابَسَة: هي العلاقة التي سبق بيانُها في المجاز المرسل في المفرد، أو في المركب، كالسببيّة والمسببيّة، والكليّة والجزئية، واللّزوم، والمجاورة، والعموم والخصوص، والحالّية والمحليّة، واعتبار ما كان أو ما سيكون، والآليَّة، إلى غيرها من علاقاتٍ وملابسات. وليس بلازم في المجاز العقلي "كما قال عبد القاهر" أن يكون للفعل فاعل في التقدير إذا أُسْنِد إليه كان الكلام وارداً على وجه الحقيقة، إذْ لا يتأتَّى هذا في كلّ شيء، كأن تقول: ساقني إلى البلَد حقٌّ لي أطالب به. أمثلة: (1) قول القائل في وصف متعبّد يقومُ اللّيل ويصوم النهار اسْمُه عبد الله: "عبدُ الله ليلُهُ قائم، ونهارُهُ صائم". هذا الإِسناد قَدْ وُجِدَتْ نظائره في كلام بلغاء العرب، ويلاحظ في هذا المثال أنَّ كلَّ لفظة فيه مستعملة في معناها الأصليّ بحسب الوضع اللّغوي، لم يحدُث فيها تجوّزٌ ما، لكِنَّ الذي يحصل هو التجوُّز في الإِسناد، فبَدَل أنْ يُسْنَدَ القيامُ والصيامُ إلى المتعبِّد فيُقَالَ: "عبدُ الله قائِمٌ كُلَّ اللَّيْلِ، وصائمٌ كُلَّ النَّهار" أُسْنِدَا إِلى اللَّيْل والنّهار، والعلاقةُ هي الظرفيّة الزمانية. ومع ما في هذا الإِسناد من فَنِّيَّةٍ أدبيّة تُعْجِبُ مشاعر الأديب، فله غرض بيانيّ، وهو الدلالة بإيجاز على أنَّ عبد الله يستغرق ليلَه بالقيام متعبّداً، أو هو بمثابة المستغرق له، ويستغرق نهاره بصِيامٍ مستوفٍ لشروطِه من الناحيتين المادّية والمعنويّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 هذه العمليّة التجوُّزِيّة حركَةٌ فكريَّةٌ في الإِسناد والوصف، وليست تجوّزاً لُغَوِيّاً في استعمال الكلمة للدّلالة بها على غير معناها الأصليّ في الاصطلاح الذي يجري به التخاطُب. ولهذا كان جديراً بأنْ يُسَمَّى "مجازاً عقليّاً" أو "مجازاً فكريّاً" أو مجازاً في الإِسناد" أو "مجازاً حُكْمِيَّاً" أي: في الحكم، ونحو هذه العبارات، وقد اشتهر عند البيانيّين أنه مجاز عقليّ. (2) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) بشأن المنافقين: {أولائك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [الآية: 16] . نُلاَحِظُ في هذِهِ الآيَةِ أنَّ رُكْنَي الإِسْنَادِ حصَل فيهما مجازٌ لغويّ. فالرّبح المنفيُّ اسْتُعِيرَ للدّلالة به على عدم حُصُول الفائدة من عَمَل المنافقين، وهذا مجاز لغوي. والتجارة استعيرت للدلالة بها على أخذهم الضلالة وتَرْكِهم الهُدَى، كما يفعل التجّار في المبادلات عند البيع والشراء، وهذا مجازٌ لغويٌّ أيضاً. لكِنَّ الشاهد من إيراد الآية هنا ليس فيهما، إنّما الشاهد في الإِسناد الذي حصَلَ في الجملة، فبَدَلَ أنْ يُسْنَد نفْيُ الرِّبْحِ إلى المنافقين أُسْنِدَ إلى تجارتهم، أي: إلى أخذهم الضلالة وتركَهم الهُدى. والعلاقة التي صحّحت هذا الإِسناد هي كون هذا العمل عَمَل المنافقين أنْفُسِهم، إذْ قَصَدُوا مِنْه تحقيق الفائدة لهم، فلم يكن عمَلُهم سبباً لربحهم، بل كان سبباً لخسارتهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 والملابسة بين العامل وعمله من أقوى الملابَسات الّتي تُصَحّح في الأفكار مثل هذا المجاز العقلي. ولا يخفى ما في هذا المجاز من إيجاز، ومن فنيّة أدبيّة تُعْجِبُ أذواق الأدباء والْبُلَغاء. أمّا القرينة فهي قرينة فكريّة عقليّة، إذ التجارة ليست هي التي تربح أو تخسر، بل الرابح أو الخاسر هو صاحب التجارة. (3) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (القصص / مصحف/ 49 نزول) : {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين} [الآية: 4] . جاء في هذه الآية إسنادُ تذبيح أبناء المستضعفين إلى فرعونَ، مع أنَّه لم يكن هو الذي يقوم بأعمال التذبيح، إنّما كان يأمُرُ جنوده بذلك فيُطيعون أمره. والعلاقة أو الملابسة هي السَّبَبِيّة، فدلّ هذا المجاز العقلي بعبارته الموجزة على أمرين: الأول: أنّ فرعون كان هو الآمر الْمُطَاع في أعمال تذبيح أبناء المستضعفين في مصر. الثاني: أنّ جنوده كانوا يقومون فعلاً بهذا العمل الإِجراميّ الشنيع، طاعة لسيّدهم فرعون. والقرينة الدليل الفكري المستند إلى ما هو معلوم في عادة الملوك الجبَّارين. (4) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (غافر/ 40 مصحف/ 60 نزول) : {وَقَالَ فَرْعَوْنُ ياهامان ابن لِي صَرْحاً لعلي أَبْلُغُ الأسباب * أَسْبَابَ السماوات فَأَطَّلِعَ إلى إلاه موسى} [الآية: 36 - 37] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 أمَرَ فرعونُ وزِيرَهُ الأوّلَ هامان بأن يَبْنَي له صَرْحاً، معَ أنَّه لاَ يسْتطيعُ أن يبنيَهُ بنفسه، إنّما يُوجِّه أوامره للبنّائين ويتخذ الوسائل لذلك. والملابسة هي السببيّة، والقرينة دليلٌ فكريُّ يستند إلى العادة. (5) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (إبراهيم/ 14 مصحف/ 72 نزول) : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار} [الآيات: 28 - 29] . دار البوار: دارُ الهلاك المتجدّد الّذي يَذُوقُ أهْلُها بِه العذاب كلّما بدَّل الله جلودَهُمُ الَّتي نضِجَتْ جُلُوداً غيرها، فالْبَوارُ في اللّغة الهلاك، وهو يَحْمِلُ معنى العذاب، وفُسِّرَتْ دارُ البوار بقوله تعالى: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} . وجاء في هذا النصّ أن الّذين بدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً أحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ البوار لأنّهم كانوا من العوامل التي جعلت قومهم يكفرون بربّهم، فيدخُلُون جهنّم. فهذا مجاز عقليٌّ ملابسته التسبُّب عن طريق القيام بأعمال الإِغواء والإِغراء والمكر التي تغريهم وإن كانت استجابتهم تأتي من قبل إراداتهم الحرّة. (6) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المزّمل/ 73 مصحف/ 3 نزول) : {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً} [الآية: 17] . عبارة: {يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً} هو كنايةٌ عن شِدَّة الْهَوْلِ الذي يكون يوم الدين، ولكنّ الشاهد هنا ليس في كون هذه العبارة كناية، إنّما الشاهد هنا في إسناد الفعل إلى اليوم، واليوم ليْسَ هو الذي يجعل الولدان شيباً، والملابسة هي "الظرفية" لأنّ ذلك اليوم هو الظرف الزّمانيّ للأهوال التي من شأنها لو وُجِدَ نظيرها في الدنيا أَنْ تَجْعَلَ الوِلْدَان شيباً. (7) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الحاقة/ 69 مصحف/ 68 نزول) بشأن الذي يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابَهُ بِيَمِينِه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الآيات: 21 - 22] . جاء في هذا النّصِّ وصْفُ المؤمن في الجنّة بأنّ عِيشَتَهُ رَاضِية، والأصْلُ أنْ يكون هو الرّاضي بها، فأسْنِد الرّضا إلى العيشة، والملابَسَةُ أنّه هو صاحِبُ العيشة، فهي جزءٌ من ذاته. والغرضُ البيانيُّ الإِشعارُ بمصاحبة الرضا لكلّ أجزاء عيشة المؤمن في الجنّة، فلا يُوجَدُ عُنْصرٌ منها، ولا أجزاءٌ زَمَنيّةٌ مرافقة لها، تخلُو من الرّضا، وهذا المعنى لا تؤدّيه عبارة: فهو راضٍ عن عيشته، وذلك لأنّ الإِنسان قد يرضى عن عيشته ولو دخلت ضمنها منغِّصات، إذ هو ينظر إلى عيشته باعتبار الأغلب من أحوالها، بخلاف العيشة نفسها التي تمرُّ أجزاءً مع توالي الأزمان، إذْ كُلُّ جزء منها مُنْفَكٌ عن سابقه وعن لاحقه، فإسناد الرضا إليها يدلُّ على أنّ كلَّ أجزائها مغمورٌ بالرضا. (8) قول الله عزّ وجلّ في سورة (محمّد/ 47 مصحف/ 95 نزول) بشأن تخوّف الذين في قلوبهم مرض من أن يَنْزلَ قرآن يوجب عليهم القتال: { ... فأولى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأمر فَلَوْ صَدَقُواْ الله لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} [الآيات: 20 - 21] . العزْم على القتال والإِلزامُ به من شأن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم من شأن أولياء الأمر من بعده، فالأَمْرُ هُو أَمْرُهُمْ. وقد جاء في هذا النّصّ إسناد العزم إلى الأمر، بدلَ إسناده إلى صاحب الأمر على طريق المجاز العقلي، والملابسة تلاحظ من جِهَتَيْن: الأولى: أنّ فاعل العزم على القتال هو الذي يَمْلِك الأمر به. الثانية: أنّ الأمر بالقتال إلزاماً يكون معزوماً عليه. والغرض البيانيّ فنيَّةُ الأَداء، مع الإِيجاز، ويوجَدُ في هذا المجاز إشعارٌ بأنّ الضرورة أو المصلحة الشديدة لجماعة المسلمين هي الّتي تجعل وليَّ الأمر يَعْزِمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 على الأمر بِالقتال إلزاماً، حتَّى كأنَ أَمْرَ الْمُسْلِمين العامَّ هو صَاحِبُ العزم، وهذا معنى دقيق قد أدّته العبارة القرآنية بأبلغ إيجاز. (9) قول الله عزّ وجلّ في سورة (الرعد/ 13 مصحف/ 96 نزول) : {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ... } [الآية: 17] . جاء في هذا النصّ إسناد السّيلان إلى الأودية، مع أنّه للماء فيها، والملابسة المكانيّة أو المجاورة. والغرض البياني الإِشعار بأنّ الناظر إلى الأوديّة المغمورة بماء السّيول، يُخَيَّلُ إليه أنّ الوِدْيانَ تَسِيلُ أيْضاً مع المياه الّتي تسيل فيها. (10) قول الصَّلَتَان العَبْدي "هو قُثَمُ بْنُ خَبِيَّة" متوفى (80هـ) : أشَابَ الصَّغِيرَ وَأَفْنَى الْكَبِيـ ... ـرَ كَرُّ الْغَدَاةِ وَمَرُّ الْعَشِيّ أسند فِعْلَيْ "أَشَابَ" و"أَفْنَى" إلى كَرِّ الْغَدَاةِ ومَرِّ الْعَشِيِّ، وهما لا يفعلان ذلك، لكنّهما زَمَنَانِ لِمَا يَحْدُثُ من تغييراتٍ فيهما بفعل الرّبّ الخالق وسُنَنهِ في كونه، فالملابسةُ الظرفية الزمانية. (11) قول الشاعر يَصِفُ عين جَمَلِه بأنّه تجوبُ لَهُ في اللَّيْلِ الدّامِسِ الظلماء فيهتدي بهَدْيها: تَجُوبُ لَهُ الظَّلْمَاءَ عَيْنٌ كَأَنَّهَا ... زُجَاجَةُ شَرْبٍ غَيْرُ مَلأَى ولا صِفْرِ فأسند إلى عين الجمل أنّها تَجُوبُ للْجَمل الظَّلْماءَ، أي: تَخْرِقُ وَتَثْقُبُ لَهُ الظّلْماءَ فيرى بذلك طريقه، فجعل العين هي الّتي تفعلُ لصاحبها، والملابسةُ كَوْنُها أداة العمل. الشَّرْبُ: القومُ يَشْرَبون ويجتمعُون عَلى الشَّراب. والأمثلة على المجاز العقلي كثيرة جدّاً. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 تقسيم المجاز العقلي باعتبار طرفيه المسند والمسند إليه قسّم البيانيّون المجاز العقلي بالنظر إلى كون كلٍّ من طرفَيْه: "المُسْنَدِ والْمُسْنَدِ إِلَيه" حقيقةً لغويّة أو مجازاً لغوياً، إلى أربعةِ أقسام: القسم الأول: أن يكون الطرفان حقيقتين، مثل: "سَالَ الوادي". فالمسند وهو فِعْلُ "سَال" مستعملٌ فيما وُضع له لغة وهو السَّيَلان، ولا مجاز فيه. والمسند إليه وهو "الوادي" مستعمل أيضاً فيما وضع له لغة ولا مجاز فيه. لكنّ المجاز وقع في الإِسناد وهو نسبة السيلان إلى الوادي، وهذا من المجاز العقلي. * ومثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنفال/ 8 مصحف/ 88 نزول) : {إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الآية: 2] . زَادَتْهُمْ إيِمَاناً: فعل الزيادة حقيقة، والأيات حقيقة، وإسناد الزيادة إلى الآيات مجاز عقليّ، ملابسته السببيّة. * ومثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (الزلزلة/ 99 مصحف/ 93 نزول) : {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} [الآيات: 1 - 2] . أخرجت الأرض: كُلُّ من المسند والمسند إليه حقيقة، والإِسناد مجاز عقليّ، لأنّ الأرض ليست هي التي تُخْرِجُ أثقالها حقيقة. القسم الثاني: أن يكون الطرفان مجازيَّيْن، مثل: * "أحْيَا الأرضَ شبابُ الزّمَان". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 فعل "أحيا" مجاز يُرادُ به الإِنبات، و"شَبَابُ الزَّمان" مجازٌ يُرادُ به الْفَصْل الذي تَنْبُتُ فيه الزّروع، إذْ هو يشبه الشباب في الإِنسان، وكلاهما استعارة. وإسنادُ الإِحياء إلى شباب الزمان مجازٌ عقلي، لأنّ الْمُنْبِتَ في الحقيقة هو الله. * قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة) : {فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ} [الآية: 16] . نفي الرِّبْح: مجاز عن عدم تحصيلهم نفعاً من أخذ الضلالة وترك الهدى. تجارتهم: مجاز عن عملية أخذ الضلالة وترك الهدى. وإسناد نفي الربح عن تجارتهم مجاز عقلي، إذ المنافقون هم الّذين لم يربحوا، وقد سبق شرح هذا النص. * "أَنْطَقَتْ أيادي الإِحسان ورُودَ وجوه الحسان بالشكران" فالطرفان مجازان، والإِسناد مجاز عقلي. القسم الثالث: أن يكون المسند حقيقة والمسند إليه مجازاً، مثل: "أَنْبَتَ الْبَقْلَ شبابُ الزمان". الإِنبات: حقيقة. وشبابُ الزمان مجاز، والإِسناد مجاز عقلي، والملابَسَةُ السببيّة. القسم الرابع: أن يكون المسند مجازاً والمسند إليه حقيقة، مثل: * قول المتنبّي: وتُحْيِي لَهُ الْمَالَ الصَّوَارِمُ والْقَنَا ... وَيَقْتُلُ مَا تُحْيِي التَّبَسُّمُ والْجَدَا الإِحياء مجازٌ عن الإِنْماء والتكثير، والصوارم والقنا حقيقة، وإسناد الإِحياء إلى الصوارم والقنا مجازٌ عقلي، والملابسة السببيّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 * قول الله عزّ وجلّ في سورة (محمد/ 47 مصحف/ 95 نزول) : { ... حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا ... } [الآية: 4] . وضع الأوزار: مجاز عن انتهاء أعمال الحرب. الحرْبُ: حقيقة. وإسنادُ وَضْعِ الأوزار إلى الحرب مجازٌ عَقْلي. *** قرينة المجاز العقلي: تأتي قرينة المجاز العقلي علَى وَجْهَيْن: الوجه الأوّل: أن تكون لفظيّة، مثل: بنَى صَالحٌ بيته مستأجراً أمْهَرَ البنّائين، أيْ: لم يَبْنِه بيده، إنما اتّخذ الوسائل لبنائه. الوجه الثاني: أنْ تكون غير لفظية، وهذه القرينة: * إمّا أن تكون آتية من دليل العقل، مثل: محبتك جَاءَتْ بي إليك، فالمحبة ليست هي الفاعلة على وجه الحقيقة، لكنّها كانت الباعث النفسي، وهذا يُدْرَك بالعقل. * وإما أن تكون آتية من دليل العادة، مثل: طَبَخَ صاحب الوليمة لضيوفه طعاماً شهيّاً لذيذاً، أي: أمر بطبخ الطعام هذا، واتّخذ الوسائل لإِعداده، وهذا يُدْرَك بحسب العادة. * وإمّا أن تكون آتية من دليل الحال، مثل: كتب عبد السميع رسالةً مؤثرةً لولده المسافر، أي: أمر بأن تُكْتب له، إذا كان هذا الرجل أميّاً لا يَقْرأ ولا يَكْتُب، وكانت حاله معروفة. قيمة المجاز العقلي في البلاغة والأدب: كلُّ من يقرأ أو يسْمَع كلاماً بليغاً مؤثّراً إذا رجَعَ إلى تحليل عناصر التأثير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 فيه، القائمة على الإِبداع الرفيع يلاحظ أنَّ من أكثر هذه العناصر تأثيراً في نفسه، ما اشتَمَل الكلام عليه من مجاز بديع، وتكثُر فيه الفقرات التي تنتمي إلى قسم المجاز العقلي. ولا يُحْسِنُ الإِبْدَاعَ المؤثّرَ من هذا المجاز إلاَّ أذكياء البلغاء. قال "الشيخ عبد القاهر الجرجاني" متحدّثاً عن هذا النوع: "المجاز العقلي": "هذا الضّرْبُ من المجاز على حِدَتِهِ كَنْزٌ من كنوز البلاغة، ومادَّةُ الشاعر الْمُفْلِق، والكاتب البليغ، في الإِبداع، والإِحسان، والاتّساع في طُرُق البيان. ولاَ يَغُرَّنَّك مِنْ أَمْرِه أَنَّكَ تَرَى الرَّجُلَ يقول: أتَى بِيَ الشَّوقُ إلَى لقائك، وسارَ بيَ الحنينُ إلى رؤيتَك، وأَقْدَمَنِي بَلَدَكَ حَقٌّ لِي على إنسان، وأشباه ذلك، ممّا تَجِدُه لشهرته يجري مجرى الحقيقة، فلَيْس هو كذلك، بلْ يَدِقُّ ويلطُفُ، حتَّى يأتِيَك بالْبِدْعَةِ الَّتِي لَمْ تَعْرِفْهَا، والنّادِرَة تَأْنَقُ لها". *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 المبحَثْ الرَّابع المجاز المرسل القائم على التوسع في اللّغة دون ضابط معيّن توجد أنواعٌ وصُورٌ متفرّقة من المجاز لا يجمعها جامع، ولا يحصرها ضابط معين، وهي من التوسّع في اللّغة، وينطبق عليها بوجْهٍ عامّ تعريفُ المجاز، وهو "إطلاق اللّفظ للدلالة به على غير ما وُضع له في اصطلاحٍ به التخاطب، مع قرينةٍ مانعةٍ من إرادة المعنى الأصلي". وقد رأيت أن أجعلها داخلةً تحت عنوان "المجاز المرسل" أي: المجاز الذي لا تكون العلاقة فيه المشابهة، سواء أكان له علاقة غَيْرُ المشابهة، أم ملابسة ما، أم لمْ تظهر فيه ملابسةٌ فكرية. وقد يرجع بعض هذه الأنواع المتفرّقة أو بعض أمثلتها إلى أقسام المجاز التي سبق تفصيلها وشرحها. عرض لبعض هذه الأنواع والصور: * فمن هذه الأنواع والصور المجاز بالحذف أو بالزيادة. كحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، إذا لم تظهر ملابسة أو علاقة واضحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 وكزيادة بعض الحروف لمجرّد التأكيد أو التزيين اللّفظي، ومنها زيادة حرف "ما" بعد "إذا" الظرفية، وزيادة بعض حروف الجر للتأكيد. وقد سبق بيان الأمثلة في الإطناب. ومنها إطلاق وقوع الفعل للدلالة به على قُرْب وقوعه والإِشارة إلى أنه شَارَف أن يقع، أو للدلالة به على تحقُّق وقوعه في المستقبل، تنزيلاً لما سيقع أو سوف يقع منزلة ما وقع فعلاً، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول) : {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ... } [الآية: 1] . أي: سيأتي حتماً، فهو بسبب تحقُّقِ وُقُوعه مستقبلاً يُعَبَّر عنه بأنه "أتَّى". وقول المنادي لإِقامة الصلاة: قد قَامتِ الصّلاة، أي: حان وقت الشروع بأدائها وإقامتها. * ومنها إطلاق المصدر بدل اسم الفاعل، أو بدل اسم المفعول، ومن الثاني قول الشاعر: هَوَايَ مَعَ الرَّكْبِ الْيَمَانِينَ مُصْعِدُ ... جَنِيبٌ وجُثْمَانِي بِمكَّةَ مُوثَقُ أي: من أَهْواهُ. وقد سبق شرح هذا البيت. * ومنها إطلاق اسم الفاعل بدل اسم المفعول والعكس، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هاذا بَلَداً آمِناً} [الآية: 126] . آمِناً: أي: مَأْموناً فيه، هذا ما يقوله البيانيون، ويفسّره اللّغويوّن بقولهم: أي: ذا أمْنٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 * ومنها إطلاق اللّفظ الدالّ على المستقبل مراداً به الماضي، لإِفادة الدوام والاستمرار حَالاً فمستقبلاً، أو للدلالة على الاستعداد النفسيّ المستمرّ، كأن يقال لمن أُدِينَ بشُرب الخمر في الماضي: أنْتَ تَشْرَبُ الخمر، أي: هذا دَيْدَنُك في الماضي والحال والاستقبال. * ومنها وضع النداء موضع التعجّب، مثل: يَا سُبْحانَ الله. * ومنها وضع جموع القلّة بدل جموع الكثرة لغرض بلاغي، كتعظيم العدد القليل، والإِشعار بأنّ ما يشتمل عليه هذا العدد القليل من صفات جليلة وعظيمة يجعله معادلاً للعدد الكثير. * ومنها وضع جموع الكثرة بدل جموع القلّة، لغرض بلاغيّ، كتحقير العدد الكثير، والإِشعار بأنّ ما يشتمل عليه هذا العدد الكثير من تناقض في صفات كماله يجعله معادلاً للعدد القليل. * ومنها وضع المذكّر بدَل المؤنث والعكس، لغرض بلاغي أو لمراعاة دواعي جمالية في اللّفظ. * ومنها التغليب، كتغليب المذكر على المؤنث في الخطاب عند اجتماعهما، وخطابهما معاً بخطاب الذكور، للإِيجاز في اللفظ، أو لدواعي بلاغية أخرى، أو لمراعاة ما كان عدده هو الأكثر، كاستعمال اسم الموصول "ما" الموضوع لغير العاقل، في الكلام عن العقلاء وغيرهم، باعتبار أن المخلوقات غير العاقلة أكثر من المخلوقات العاقلة. وكتغليب الشمس على القمر، أو العكس، عند تثنيتهما معاً، فيقال مثلاً: الشمسان، أو القمران، أي: الشمس والقمر، والداعي الإِيجاز. * ومنها استعمال صيغة الأمر في غير الطلب، كالتخيير والتعجيز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 * ومنها استعمال أدوات الاستفهام في غير طلب الفهم، واستعمال أدوات التمنّي والترجّي في غير ما وُضِعَتْ له لأغراض بلاغيّة. وقد سبق شرح كثير من هذه الأمور في علم المعاني. * ومنها ما يُسمَّى "التضمين" وأظْهَرُهُ تضمين فعل أو ما في معناه، معنى فعل آخر، وتعديته بما يلائم الفعل الذي ضُمِّنَه، مثل: - قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ ... } [الآية: 187] . الرَّفَثُ: لا يتعَدَّى بحرف الجرّ "إلى" لكنّه ضُمِّنَ معنَى فعل "أفْضَى" فَعُدِّيَ تَعْدِيتَهُ، والمعنى: أُحِلَّ لكم الرفث مُفْضِين به إلى نسائكم، فأغنى هذا الأسلوب التضميني عن التعبير بجُمْلَتين، أو عن التصريح بالحال. - وقول الله عزّ وجلّ في سورة (النازعات/ 79 مصحف/ 81 نزول) في حكاية خطابه لموسى عليه السلام: {اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى * فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أَن تزكى} [الآيات: 17 - 18] . أصل التعبير: هَلْ لَكَ أن تتزكَّى، ولكن لمَّا تضمَّنَ الْعَرْضُ معنى الدعوة إلى التزكية، عُدِّي تَعْدِيَة أَدْعو، فالمعنى: هل يطيبُ لَكَ أنْ أدْعُوكَ إلَى أن تتزَكَّى. - وقول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) بشأن منافقي العرب: {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [الآية: 14] . فعل "خلا" لا يُعَدَّى بحرف "إلَى" لكنّ الفعل ضُمِّنَ معنَى الرُّجوع، فعُدِّي تَعْدِيته، والتقدير: فإذا خَلَوْ من جماعة المؤمنين ورجعوا إلى شياطينهم من اليهود أو قادَتِهم من المشركين قالوا لهم: إنّا معكم إنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِئون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 وقد بسطتُ الكلام على ظاهرة التضمين في القرآن، وأنها فنٌّ من فنون البيان الإِبداعي في المقولة الثالثة من القاعدة "الرابعة عشرة" من كتابي "قواعد التدبّر الأمثل لكتاب الله عزّ وجلّ". *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 "علم البيان" الفصل الرابع: نظرات تحليلية إلى استخدام الأشباه والنظائر والمجاز في التعبيرات الأدبيّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 يتضمّن هذا الفصل تحليل نظرات الأديب إلى الأشباه والنظائر في الوجود المادّيّ، وفي المعاني الفكريّة، وفي الحركات الاختيارية، وفي المشاعر الوجدانيّة، واستخدامها في تعبيراته الأدبيّة. إنَّ فكر الإِنسان بجولانه في مستودعات الذاكرة، وبقيامه بأعمال التحليل للصُّوَر الموجودة في جوانبها المختلفة، وللمعاني المجرَّدة الَّتي يستطيع إدراكَها، مع استخدام جهاز التخيُّل، قادرٌ بما وهبه الله عزَّ وجلَّ أن يلحظ بين الأفكار وبين الأشياء، وبين الاحتمالات الممكنة والاحتمالات غير الممكنة ممّا يتصوّره تخيُّلاً، أشباهاً ونظائر، وعناصِرَ قابلةً لأن يلتقطها، ويُخْرِجها فكريّاً من مُركّباتها، ثم يجمع متناثراتها ويؤلِّف منها مركّبَاتٍ وصُوراً جديدة يُعَبِّرُ بها عن فكرة يريد توصيلَها إلى غيره، أو إقناعَ نفسه بإبداعها، لأنه إذا لم يستطع أن يخلُقَ لعجزه عن الخلْق، فلْيُصَوِّرْ بخياله الذي مكَّنَهُ الرَّبّ الخالق من الإِبداع صُوراً جديدة، من أجزاءٍ متناثرة في مصوِّرَته الَّتي التقط أصولها عن طريق حواسّه الظاهرة أو الباطنة، وأدْخَلَها في المحفوظات لَدَيْه. إنَّ فكر الإِنسان بمساعدة المصوِّرة والمتخيّلة والذاكرة يستطيع أنْ يتصيّد أشباهاً ونظائر ويُبْدعَ صوراً لا حصر لها، ويتفاضلُ أفراد الناس بحسب ما لديهم من هباتٍ رَبَّانيّة في هذا المجال، حتَّى إنّ بعض الناس يستطيع بما وهبه الله أن يستدعي من المحفوظات المصنفة في حافظة الصور لديه ما لا يستطيع غيره، فهو يستدعي ممّا لا يرى الناس فيه أشباهاً ونظائر، عناصِرَ شَبَهٍ جُزْئِيّة، يتنبَّه إليها، بينما تخفى على معظم الناس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 فإذا استطاع بعبارته أن يدُلَّهم عليها وجَدوا في رؤيته شيئاً رائعاً، وتنبُّهاً عجيباً، وربَّما أمتعهم كثيراً بما التقط متنبّهاً إليه، وبما صوَّرَ بفكرته، ثم بما عبّر به في كلامه مُبْدِعاً. وأفلام الكرتون التخيُّلِيَّة هي من هذا القبيل، وكذلك الصُّوَرُ الشعريّة والأدبيّة الَّتي تُصَاغ بالكلام صياغةً أدبيّة. لمَّا ثَارَ الْعَجَاجُ في المعركة من حوافر الْخَيْل الَّتُي تكِرُّ وتفِرُّ تَحْتَ فُرْسَانِها رأى المتنبِّي أنَّ الخيْل صارت لا ترى بأعينها من كثرة الْعَجَاج، مع أنَّها ظلَّتْ تُحْسِنُ الكَرَّ والْفَرَّ، وأَدْرَكَ أنّها عن طريق السَّمْع تُوجّه حَرَكَتَها، فاسْتَدْعَى خيالُه المشابَهَة بين وظيفة الآذانَ في هذه اللحظة، ووظيفةِ العيون، إذْ أدَّتِ الآذانُ وَظيفة العيون بإتقان فَقَال في وصف الخيل من قصيدة يمدح بها سيف الدولة: فِي جَحْفَلٍ سَتَرَ الْعُيُونَ غُبارُهُ ... فَكَأَنَّما يُبْصِرْنَ بِالآذَانِ يقول البلاغيون: جعل السماع بالآذان مشابهاً للإِبصار بالأعين. وأقول: التقط بخياله حالة التشابه بين وظيفة الآذان من السمع، ووظيفةِ الأعين من الإِبصار، وقيام الآذان بوظيفة الأعين في تأدية الغرض المطلوب، ورأى في تلك اللَّحظة كأنَّ الآذان تُبْصِرُ، ولو أنَّه حذف أداة التشبيه وجعل آذان الخيُول تُبْصِر على طريقة الاستعارة لزاد كلامُهُ إبداعاً، فقد كان بإمكانه أن يقول: فَخُيُولُهُ تبصرن بِالآذَانِ. مثل هذا التعبير هو لدى التحليل الآليُّ للُّغةِ "استعارة" لكنَّه لدى التحليل الفكري تعبير عن التشابه في تأدية الوظيفة المطلوبة، والجهاز الذي أدرك هذه الرؤية الخيال البارع السَّريع الذي من خصائصه القدرة على الإِبداع. واستخدام الألفاظ ذوات الدلالات اللّغوية وسيلة لِلأَداء التعبيري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 والرسّام التخييليُّ يستخدم الخطوط والألوان والأشكال في اللّوحات وفي المجسَّمات. *** ولدى التحليل النفسيّ نلاحظ أنَّ التعبير الكلامي الأوليّ الكاشف للتشابه في الذهن، يجعل المعبِّر يضع أداة التشبيه، فيدُلُّ بعبارته على وجه الشبَه الذي رآه. وهذا يناسب الكلام العاديّ، ويكون بليغاً إذا كانت حال المخاطبين تستدعيه. وإذا كان وجه الشبه ممّا لا يَصْعُبُ على المخاطبين اكتشافُه بأنفسهم، كان من البلاغة عدمُ التَّنْبيه عليه بعبارة كاشفة. وإذا كان الإِخبار عن المشبَّه به على سبيل الادعاء، يكفِي لتَنْبِيه المتلقّي على المشابهة بينهما دون اللّجوء إلى ذكر أداة التشبيه، كان هذا في مثل هذه الحال أكثر بلاغة، لأنّه أكثر إرضاءً لذكاء المتلقِّي، لما في التصريح بالأداة من اتّهامه بأنّه لا يكفيه التعبيرُ بادّعاء أنَّ المشبَّهَ به يُخْبَرُ به عن المشبَّه دون التصريح بأداة التشبيه، وهنا يأتي الحدُّ الفاصل بين التشبيه وبين الاستعارة، فَيَنْظُرُ المحلِّل من جهة ذكر لفظ المشبَّه وحَمْل اسم المشبَّه به عليه، فيَرى أنّه تشبيه بليغ حُذِفَتْ منه أداةُ التشبيه، وينظر من جهة ذكر لفظ المشبّه به دون أداة التشبيه فيرى أنّه استعارةٌ للفظ المشبّه به، وإطلاقٌ له على المشبّه بادْعاء أنَّه هو، لتنبيه المتلقي على عنصر التشابه بينهما مدحاً أو ذمّاً أو غير ذلك من مقاصد التشبيه. ويرتقي الأديب ببيانه التعبيري درجةً أخيرة فيرى أنَّه لا داعيَ لذكر لفظ المشبَّه، ويكفي عن ذكره قرائنُ الحال أو المقال، فيكتفي بذكر لفظ المشبَّه به في عِبَارَته، أو بذكر صِفَاتٍ أو لوازم هي من خصائصه، ويَكُونُ في الكلام ما يمنع اللَّبْسَ، ويَدُلُّ على المراد، وهذه الدرجة العالية من البيان التعبيريّ عن التشابه تُنَاسِبُ من تُسْرِعُ أفهامُهُمْ لإِدْراك المراد، ويكون بالنسبة إليهم هو الكلام الأكثر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 بلاغة، لما فيه من إرضاءٍ لذكائهم اللّماح، واستئثارٍ بإعجابهم، إذْ يُعْجِبُهُمْ من صاحب البيان ما لديه من قدرة على تقديم تعبير مختصَرٍ جدّاً، مُحَقِّقٍ لغَرَضِهِ في دلالة الأذكياء على ما يُريد. وحين يكتفي الأديب المعبِّر بذكر اللّوازم البعيدة فقط، والصفات الغريبة للمشبَّه به، دُون ذكر اللَّفظ الخاصّ بالمشبَّه به، فإنَّه يكون بذلك قد ارتقى ارتقاءً جديداً، وأخَذَ في طريق الرَّمز. فمن ذلك ما هو قريب يَسْهُل على الذكي اللَّماح أن يتنبَّهَ له، ومنه ما هو بعيد لا يُدْرَكُ إلاَّ بالتأمُّل العميق، وقد يدركه العبقريّ. ويخصُّ البلغاء مخاطبيهم بالإِشارات واللّوازم البعيدة على مقاديرهم. وكلُّ كلام يكون هو الأنسب لحال المخاطب يكونُ هو الكلام الأبلَغَ بالنسبة إليه. وبدءاً من حذف وجه الشَّبه وأداة التشبيه، يكونُ الكلامُ قد انتقل من حُدُودِ التوجيه المباشر، إلى أَبْعَادِ التوجيه غير المباشر. وكلَّما توغَّل الكلام في الْبُعْدِ، مع بُعْدِ اللّوازم الَّتي يحتاج إدراكُها إلى فطنة الفطناء، كان الكلام ذا طبقةٍ أرقَى في طبقات التعبير، فإذا كان موجّهاً لمن يُدْرِكُه كان بالنسبَةِ إليه هو الأبلغ. لكنْ إذا كان موجّهاً لمن لا يُدْركه فإنَّه لا يكون هو الأبلَغ بالنسبة إلى حاله، لأنه لا يكون مطابقاً لمقتضاها، أمَّا الأبْلَغُ بالنسبة إليه فهو الأدنَى في الطبقة البيانيّة، ممَّا يلائم ويطابقُ حاله. ومن الخطأ بوجه عامّ أن نقول: هذه الطبقة البيانيّة أبلغ من هذه لمجرّد كَوْنِهَا أعلى مرتبةً، إذْ يحتاج فهمهما إلى ذكاء الأذكياء الفطناء، أو عبقريّات العباقرة، لأنَّ الكلام الأبلغ هو الأكثر مطابقةً لمقتضى حال المخاطب. لكن نقول: إنَّ الكلام على طبقات بعضُها أرْفَعُ من بعض: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 الطبقة الأدنى: هي طبقة التعبير المباشر دون استدعاء الأشباه والنظائر. وفي هذه الطبقة درجات الإِيجاز والإِطناب والمساواة، وهذه الطبقة تلائم أحواله فئة من الناس. الطبقة الوسطى: هي طبقة التعبير المباشر مع استدعاء الأشباه والنظائر. وفي هذه الطبقة درجات: "التشبيه المرسل المفصل - والمؤكّد المفصّل - والمرسل المجمل - والمؤكّد المجمل - "وهو التشبيه البليغ" -". وهذه الطبقة تلائم أحوال فئة من الناس. الطبقة العليا: طبقة التعبير غير المباشر. وفي هذه الطبقة درجات "التشبيه الضمني - الاستعارة التصريحيّة مع القرينة - الاستعارة المكنيّة مع القرينة -" وفي التصريحيّة والمكنيّة درجات: "الاستعارة المجرّدة الَّتي اقترنت بما يلائم المستعار له فوق القرينة الدّالّة على الاستعارة - الاستعارة المرشحة والتي اقترنت بما يلائم المستعار منه والمستعار له فوق القرينة الدّالة على الاستعارة - الاستعارة المرشحة التي اقترنت بما يلائم المستعارَ منه بعد القرينة الدَّالة على الاستعارة". وينضمّ إلى هذه الطبقة درجات المجاز المرسل، والمجاز العقلي. * فالتعبير الذي يُذكر فيه لفظ المستعار منه هو أدنَى درجات هذه الطبقة. * والتعبير الذي لا يذكر فيه المستعار منه بل لازمه الذهنيُّ الأوّل يحتلُّ الدرجة الثانية. * فإذا ذُكِرَ اللاّزم الذهني الثاني فقط ارتقى درجة. * وهكذا ترتقي الدرجات مع بُعْدِ اللَّوازم، الثالث، فالرابع، فالخامس، حتّى اللازم الذي يدخل في باب الرَّمزيّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 كذلك الحال في المجاز المرسل والمجاز العقليّ، فمنهما ما هو في أدنَى درجات طبقته، بحسب قُرْب إدْراكه، ومنهما ما هو أعلى درجةً وهكذا صاعداً بحسب بُعْدِ إدْراكه، ما لم يَخْرُجْ عما يُمْكن لأذكياء البلغاء أن يُدْرِكُوه. فإذا قُلْنا: بنى الحاكم القصر، أي: أمر ببنائه، كان هذا مجازاً عقليّاً من درجة دُنيَا. وإذا قُلْنا: سرق الحاكم بتهاونه أموال ذوي الأموال، أي: لم يحافظ على الأمن ولم يَقُمْ بواجباته، فمكَّنَ اللّصوص والمجرمين من العدوان على أموال ذوي الأموال، كان هذا مجازاً عقليّاً من درجة أعلى. ويأتي في دَرَجَة أعلى من هذه الدرجة وأرفع ما نجده في قول الباري عزَّ وجلَّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) : {يابنيءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً ... } [الآية: 26] . أي: أنزلنا مطراً فأنبت زرعاً فيه خيوطٌ تُغْزَل وتُنْسَجُ فتكون لباساً، لِبُعْدِ اللَّوازم. ولكل مقام مقال، ولكلّ مخاطَبٍ حال يلائمها طبقة من طبقات الكلام، ودرجة من درجاته. والكلام الأبلغ هو الأكثر مطابقةً لمقتضى حال مَنْ يخاطَبُ به فرداً أو جماعة، ذكوراً، أو إناثاً، أو عَامّاً لِكُلِّ من يَتَلقّاه. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 "علم البيان" الفصل الخامس: منهج البيان القرآني في التنويع والتكامل وفي حكاية الأقوال والأحداث والقصص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 مقدمة دارس كتاب الله عزّ وجلّ بتدبُّرٍ وتأنٍّ وتفكيرٍ عميق يكتشف مناهج بيانيّة رائعة انفرد القرآن المجيد بها، ثم أخذ أذكياء البلغاء يتأسَّوْنَ بها على مقادير أَوْعيتهم الفكريّة، وما وهَبَهُم الله عزّ وجلّ من قُدْراتِ بيانٍ رفيع، فمنهم المجلّي، ومنهم من يأتي في الدرجة الأدنى فالأدنى وهكذا تنازُلاً، حتى آخِر الْمُسْتَنِّين في مِضْمار الْبَيان الأدبي. وقد رأيت أن أضيف إلى علم البيان فصلاً يتعلّق بما اكتشَفْتُه في القرآن المجيد من ظاهرات بيانيّة يُفِيدُ منها متدبّر كتاب اللَّهِ عزّ وجلّ، الباحثُ في معانيه ومراميه، والمتذوّقُ لآدابه وفنونه البلاغيّة العجيبة الرائعة، ويهتدي بهديها البلغاء وأهل الأدب، فيما يُنْشِئونَ من كلام رفيع، يُحبِّرونه بأقلامهم من نثر أو شعر، وفيما يرتجلونه من قولٍ في خُطَبٍ ومحاضرات، أو دروس ومحادثات. وأعرض في هذا الفصل الظاهرات التي اكتشفتها في القرآن المجيد ضمن مقولتين، وهي ممّا سبق أن شرحته في كتاب "أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع": الأولى: حول منهج البيان القرآنيّ في التنويع والتكامل. الثانية: حول منهج البيان القرآني في حكاية الأقوال والأحداث والقصص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 المقولة الأولى: منهج البيان القرآني في التنويع والتكامل (1) التنويع في أساليب البيان القرآني يلاحِظُ الأديب ذو الحسّ الأدبيّ المرهف التنويعَ العجيبَ البَدِيع في أساليب الأداء البيانيّ القرآنيّ، حتَّى في عَرْض الأقسام أو الأنواع الّتي تدخُلُ في مَقْسِمٍ واحِدٍ، أو جنْسٍ واحد، أو تدخُل تحت عنوانٍ واحد، إيثاراً للجمال الْفَنّيِ بالتنويع الْمُجَدِّد لِتَنْبِيهِ الفكر، أو إيثاراً للتّجديد في الإِبداع الاختياريّ، مع كلّ نَوْعٍ أَوْ قِسْمٍ أو صِنْف، فمِنْ شأن التجديد تحريكُ الذهن في مُخْتَلِفَاتٍ من الأساليب، والتمكينُ من وضْعِ أفكارٍ وأغراضٍ بيانيّةٍ وتَرْبويّة في ظلال النَّصّ، تُكْتَشف حيناً بعد حين، كلّما تكرّرَتْ قراءة النّص، أو تكرّر سَمَاعُه، مع إعطاء النّصِّ في موضوعه تفرُّداً بصياغته الكليّة، كتفرُّد كلِّ مخلوقٍ من مخلوقات الله عزّ وجلّ بهَيْكلٍ وسِمَاتٍ خاصّةٍ تميّزه عن غيره من أفراد جنسه، ونوعه، وصنفه، مراعاةً للإِبداع الاختياريّ في الأفراد، والأصناف، والأنواع، والأجناس، وربّما في كُلّ جزءٍ من أجزاء الفرد الواحد. وقد يَقْتَرِنُ بإيثار الجمال الفنّيِّ غَرَضٌ بيانيٌّ آخر، كاخْتيار الأُسْلُوب الأَكثرِ مُلاءمةً للْقِسْم أو النَّوعِ أو الصِّنْفِ أو الْفَرْدِ الذي جرَى التنويعُ في الأسلوب عنْد ذكْرِه، أو الأُسْلُوبِ الأكثرِ مضامينَ فكريّةً يُرادُ الدَّلاَلَة عَلَيْها مَعَ ذِكْرِهِ، أو الأَكْثرِ بَلاغةً وإيجازاً واقتصاداً في العِبارَةِ بالنّسبةِ إلَى مَضَاميِنه الفكريّةِ الّتي يُرادُ بَيَانُهَا، إلى غير ذلك من أغراض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 والْغَفْلَةُ عن مُلاحَظَةِ هذا التنويع في أساليب الأداء البياني، تَجْعَلُ المتدبّرَ لكلام الله عزّ وجلّ لا يُدْرِكُ الترابُطَ الفِكْريَّ في موضُوع النَّصّ، فَيَفْهَمُه وحَدَاتٍ مُجَزَّآتٍ غَيْرَ مُتَرابِطاتٍ، وتَنِدُّ عنْه بسبب ذلك روائِعُ مَفَاهِيمَ، وقَدْ يَقَعُ في أغَالِيطَ، إذْ يُحَاوِلُ أنْ يَنْتَزِعَ ارتِبَاطاً منْ قَريبٍ أَوْ بَعيدٍ لأدْنَى مُنَاسبَةٍ، أوْ شُبْهَةِ مُنَاسَبَةٍ، أوْ يخْتَرِعَ منْ عنده أُموراً لا أصْلَ لها ولا دليلَ عليها. وفيما يلي طائفة من الأمثلة على ظاهرة التنويع في أساليب الأداء البيانيّ في القرآن: المثال الأول: عرَضَ القرآن المجيد ما كان في غزوة الأحزاب من المنافقين وضعفاء الإِيمان الذين في قلوبهم مرض، من أقوال وأعمال، هي مظاهر لما في قلوبهم، فقال الله عزّ وجلّ في سورة (الأحزاب/ 33 مصحف/ 90 نزول) : {وَإِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً} [الآية: 12] . هذا قِسْمٌ ممّا كان منْهم جاء بأسْلُوب: {وَإِذْ يَقُولُ} بإِذْ الظَّرْفِيَّة، أي: واذْكُرْ إذْ، وبالفعل المضارع {يَقُول} الذي يَدُلُّ على أنّ المقالة دارَتْ على الألسنة حتَّى شاعتْ، فقالها المنافقون، وقالَها تأثّراً بهمُ الّذين في قُلوبهم مرضٌ دُونَ النفاق، وهو مرضُ ضعيفِ الإِيمان. * أمّا القسم الثاني ممّا كان منهم فقد جاء أسلوب عرضه كما يلي: {وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ ياأهل يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فارجعوا ... } [الآية: 13] . فجاء بأسلوب: {وَإِذَ قَالَ} بإذْ الظرفيّة، أي: واذْكُرْ إِذْ، وبالفعل الماضي {قَالَ} الّذِي يَدُلُّ عَلى أَنَّ هذه المقالة قد قِيلَتْ منْ طائفةٍ منْهم، ثُمَّ لم تتكرّر، ولَمْ تَدُرْ عَلى الأَلْسِنة. * وأمّا القسم الثالث ممّا كان منهم فقد جاء أُسْلوب عرضه كما يلي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النبي يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} [الأحزاب: 13] . فجاء بأسْلوب: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ} بصيغة الفعل المضارع، للدلالة على تكرار الاستئذان من أفراد هذا الفريق، أو على الإِلحاح به، ولم يأتِ على النَّسَق السابق من استعمال كلمة {إذْ} قبله، لأنَّ حالتهم هذه كانت مستمرّة لا تستدعي التذكير بزمن حدوثها. واعتنى القرآن المجيد بتربيةِ هذا الفريق المستأذن، وببيان حالته النفسيّة وإقناعه، لتصحيح العناصر المختلّة لدَيْه من عناصر القاعدة الإِيمانيّة. * وأمّا القسم الرّابع ممّا كان منهُمْ، وهو التعويقُ والتثبيط عن الخروج مع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمواجهة عدوّه، فقَدْ جاء أسلوب عرضه كما يلي: {قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ والقآئلين لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ البأس إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 18] . فاختلف الأسلوبُ هنا اختلافاً كلّيّاً، إذْ نُلاحظُ أنَّ التعويقَ قد عرضه الله عزّ وجلّ وصْفاً ثابتاً لفريقٍ من المنافقين، ولم يَذْكُرْهُ عَلى أنَّه مُجَرّد عَرَضٍ طارئ استدعَتْهُ حالَةٌ مُزْعِجَة، وهو الأَمْر الذي كان في غزوة الأحزاب، فحصل فَهْمُ قِسْمِ التَّعْويقِ والتثبيط من ذِكْرِ المعوّقين. وقَبْلَ ذِكْر المعوّقينَ بيَّنَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ تَحَقُّقَ عِلْمِه بهم، لِيُشيرَ هذا البيان من طَرْفٍ خفِيٍّ إشارةَ تَهْدِيدٍ لهم، بأنَّهُمْ مَكْشُوفُونَ مَعْلومُونَ لله، وبأن عقاب الله يَتَرصَّدُهُمْ. فمع التنويع في الأسلوب لإِكساب التعبير جمالاً فنيّاً، وإبداعاً مُعْجِباً، اخْتِير لِعَرْض كلِّ قسم الأُسلوبُ الأكْثَرُ ملاءمةً له، والأَكْثَرُ مضامِينَ فكريَّةً يُرادُ الدّلاَلَةُ عليها مع ذكره، كإضافة أنّ المعوّقين معلومون لله عزّ وجلّ، وأنَّ تَعْوِيقَهُم لإِخوانهم صِفَةٌ ثابتَةٌ من صفاتهم، ومُلازِمَةٌ لهم في كلّ الأحوال، فهم معوّقّون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 دائماً، وقائلونَ في كلّ المعارك لإِخوانهم: هلُمَّ إلينا، لا تخرجوا مع محمّد إلى قتال. *** المثال الثاني: جاء في سورة (الماعون/ 107 مصحف/ 17 نزول) وهي من أوائل التنزيل المكّي بيانٌ لبعض صفات المكذّبين بالدّين، أي: بالجزاء الذي يُجْريه الله في الآخرة، بَعْد البعث ليوم الدين. أمّا الصفات التي ذُكِرَتْ فيها للمكذِّب بيَوْم الدين فهي ما يلي: (1) أنّه يَدُعُّ اليتيم، أي: يدفَعُه بعُنْفٍ وقَسْوة، بسَبَب أنّ الرَّحْمَة نُزِعَتْ من قَلْبه، إذْ هُو لاَ يُؤْمِنُ بيوم الدّين حتَّى يطْمَع بثواب الله، أو يخاف من عقابه. (2) أنَّه لا يحضُّ على إطْعَامِ الْمِسْكين، أي: فكيف يَبْذُل من طعامه أو ماله. (3) أنّه لا يهْتَمُّ بأنْ يُصَلِّيَ لِرَبّه، ولو آمن بوجوده، بلْ يظلُّ ساهياً، لأنّه مكذّبٌ بيَوْم الدّين، فإذا صلَّى أو عَمِلَ عملاً من أعمال الخير على عادة أهل الجاهليّة فإنّه يُرَائي الناسَ بذلك. ولا يَعْمَله لله عزّ وجلَّ، وَغَرَضُه ممّا يرائي به جَلْبُ مَغْنَم، أو دفْعُ مَغْرَم، على أنَّ ما يُرائي به لا يكلّفُه في الغالب مالاً، والأصلُ فيمن يُصَلِّي لله حقّاً أنْ تَدْعُوَه صلاتُهُ لفعل الخير وأنْ تَنْهاه عن الفحشاء والمنكر، لكنّ المكذّب بالدِّين يكون ساهياً عمّا تدعو إليه الصلاة، وعمّا تنهى عنه الصّلاة، لأنّه إذا صَلَّى مُرَائياً، فصلاتُه وعَدَمُها سواء. (4) أنّه شحيحٌ كزُّ النَّفْسِ، يَمْنَعُ أَيَّةَ مَعُونَةٍ، حتَّى الأمْتِعَةِ الَّتي تُسَمَّى "الماعون" عند العرب، والّتي يَتَساهَلُ البخلاء بإعارتها، يمنَعُها إذا لم يكن له في إعارتها منفعةٌ دُنيويّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 هذه الصفات الأربع جاءت في سورة (الماعون) على قِصَرها بأسْلُوبَيْنِ من الأساليب البيانيّة. * فالصفتان الأولَيَان جَاءَتَا بأسْلُوب توجيه النظر إلى رُؤْيَةِ صفاتِه المنكرة على طريقة الاستفهام الاستهجاني، مع ما يتضمّنُه مِنْ إقناعٍ بأنَّ الإِيمان بيوم الدّين يُصْلح في الأفراد صفاتِهم وأخلاقَهُم الاجتماعيّة، ويجعلهُمْ رُحَمَاءَ، يَفْعَلُونَ الخيرات، ويَحُضُّون على فِعْلِها، فقال اللَّهُ عزَّ وجلّ: {أَرَأَيْتَ الذي يُكَذِّبُ بالدين * فَذَلِكَ الذي يَدُعُّ اليتيم * وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين} [الآيات: 1 - 3] . أي: انظُرْ أَيُّها النَّاظِرُ أيّاً كُنْتَ إلى حال الذي يُكَذّبُ بيوم الدّين، تجدْ من صفاته أنّه يَدُعُ اليتيم، ولا يحضُّ على طعام المسكين. * والباقي من الصفات المذكورة في السورة للمكذب بيوم الدين جاءت بأسْلُوبِ التهديد والوعيد بالعذاب يوم الدّين، فقال الله عزّ وجلّ فيها: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ * الذين هُمْ يُرَآءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الماعون} [الآيات: 4 - 7] . أي: فويلٌ للمكذّبينَ بيَوْم الدّين، وإنْ صَلَّوْا على التقاليد والعادات الجاهليّة لله، لأنَّهم إذا صَلَّوْا فَهُمْ عن مَعَانِي صلاتِهم سَاهُونَ، إذْ هم بها يُرَاءُونَ، وأَدْنَى المعونات الاجتماعية بين الناس يَمْنَعُونَ. فحصل بهذا الأسلوب التَّنْويع الجماليُّ الفنّي، مع التهديد والوعيد بالوَيْل، وهو العذابُ الشديد، ووادٍ في جهنَّم فيه عذابٌ شديد أليم. *** المثال الثالث: يجد المتدبّر لسورة (ق/ 50 مصحف/ 34 نزول) تنويعاً عجيباً رائعاً، في عَرْضِ الأدلّة، لدفْعِ شُبُهاتِ مُنْكري البعث، فقد جاء فيها ما يلي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 (1) {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [الآية: 4] . هذا دفْع شُبْهة أنَّ ما يتَلاشَى من أجسادهم وصفاتها بعوامل الفناء في الأرض يَجْعَلُ إعادتَهُمْ إلى ما كانوا عليه أمراً غير ممكن للجهل به، فجاء البيان مُثْبِتاً عِلْمَ اللَّهِ بكلِّ حَرَكةِ تغيير تَحْدُثُ في أجساد الموتى، وهو مُسجَّلٌ في كتابٍ يحفظ كلّ صغيرة فلا يَضِلُّ عن عِلْمِ الله وعن كتابه الحفيظ شيء. (2) {أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} [الآية: 6] . قد جاء بأسلوب توجيه أنظار منكري الْبَعْثِ إلى أثَارِ قُدْرَةِ اللَّهِ في الكَوْنِ، في السماء والأرض، ممّا هو في المظهر أكبر من خَلْقِ الناس، للتنبيه على دليلٍ عقليّ يدُلُّ أهل البصيرة على أنَّ خالق السماوات والأرض، ومدبِّرَ أمورهما لا بُدَّ أن يكون قادِراً على بَعْث الأحياء بعْدَ مَوْتِها، فالإِنكار لا ذريعة له مع وجود هذا البرهان. وقد جاء توجيهُ الأنظار بأسلوب الاستفهام الذي فيه معنى التلويم والإِنكار عليهم إذْ لم يَتَنَبَّهُوا لهذا الدليل العقلي. (3) {أَفَعَيِينَا بالخلق الأول ... } [الآية: 15] . استفهامٌ يَتَضَمَّنُ التّنبيهَ على دليلٍ عقلِيّ بُرْهَانِيّ آخر، وهو قياسُ ما سيكونُ على ما كان، فالذي بدأ الخلْقَ الأوّل على غير مثال سبق قادرٌ على أن يُعِيدَهُ بعد فنائه، إنّه سبحانه لم يَعْيَ بالخلقِ الأول، أي: لم يعجز عن خلقه فكيف يَعْيَا بالخلق الثاني. ومع هذا الدليل نلاحظ في النص أيضاً أنّه يتضمن إشارةً إلى دَفْعِ شُبْهَةِ أنَّ الخلْقَ الأوّل قَدْ أصابَ الخالِقَ بالإِعْيَاء، وجاء النصّ بأسلوب الاستفهام الإِنكاريّ، وداعي الإِنكار أنّ الْخَلْقَ أوّلاً وثانياً وإلى غير نهاية لا يحتاج من الخالق إلاَّ أن يقولَ للشيء المراد: كُنْ فيكون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 (4) {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [الآية: 16] . جاء هذا البيان بأسلوب الإِثباتِ التقريريّ المؤكَّد، لِدَفْعِ شُبْهَةِ أنَّ أعْمَالَ الإِنْسانِ الباطِنَةَ وبَعْضَ أعْمَالِهِ الظّاهِرَةِ لا يُحيطُ بها الْعِلْمُ الرَّبَّانيّ، وهو تقريرٌ مسْبُوقٌ بالدّليل عليه، وهو كونُ الرَّبّ هو الخالق للإِنسان، والخالِقُ له لا بدَّ أن يكون عالماً بكلّ خصائصه النفسيّةِ وعناصره الّتي ركّبَهُ مِنْهَا، ومن لازم ذلك أنْ يَعْلَمَ مَا تُوَسْوِسُ به نفسُه، وأنْ يعلَمَ كُلَّ أعْمَالِهِ الظاهرةِ والباطِنة ويُحَاسبَهُ عليها. هذه أنواعٌ من الأساليب البيانيّة، جاءت لتَرُدَّ شُبَهاتِ المنكرين لقضيَّةِ البعثِ للحساب والجزاء، ومِنَ الملاحَظِ أنّ الموضوع فيها واحِدٌ، ولو عَالَجْنَاه بأساليبنا الإِنسانيّة لقال أحْسَن أديبٍ فينا وأَبْرَعُ كَاتبٍ مقالاً ذكر فيه أنَّ شبُهَاتِ المنكرينِ تَرجِعُ إلى عِدَّة توهمات: فالأول: جوابه كذا. والثاني: جوابه كذا. والثالث: جوابه كذا. والرابع جوابه كذا. أمّا أنْ يَطْوِيَ ذِكْرَ الشّبُهَاتِ والتَّوَهُّمات، ويأتي بالرُّدُود الإِقناعيّة ضمْن أساليبَ متنوّعة، فهَذَا ممّا يَنِدُّ عن الخواطر مهما كانَتْ لمّاحَةً ذاتَ فُنُونٍ أدَبيَّة. *** المثال الرّابع: قال الله عزّ وجلّ في سورة (الفرقان/ 25 مصحف/ 42 نزول) : {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الآية: 32 - 33] . اعْتَرَضَ الْمُشْرِكُونَ عَلى إِنْزَالِ القرآن مُنَجَّماً، وطَالَبُوا بتَحْضِيضٍ أنْ يُنَزَّلَ جُمْلةً واحِدَة. أي: ما الداعي إلى تنزيله مُفَرَّقاً مُنَجّماً؟ إِنَّ هذا الأسْلُوبَ التَّنْجيميَّ يَدْعُوا إلَى الشَّكِّ في أنّه كلامُ الله، ألَيْسَ اللَّهُ عليماً بكلّ شيءٍ، قديراً على أَنْ يُنَزّلَ الْقُرآن كُلَّه في وقْتٍ وَاحِدٍ؟! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 فجاء الرّدّ القرآنيُّ مُبَيِّناً ثَلاَثَ حِكَمٍ لتَنْزِيلهِ مُفرّقاً مُنَجّماً، ولكِنَّ بيان هذهِ الْحِكَم جاءَ مُنَوَّعاً بأساليبَ مُخْتَلِفة، قَدْ لاَ يَلْتَقِطُ منها التّالي للنصِّ إلاَّ الْحِكْمَةَ الأولى، لأنّ الحكمتَيْنِ الأخْرَيَيْنِ جاءتا بأُسلوبٍ آخر. فالحكمة الأُولى: نُدْركُها في قول الله عزّ وجلّ خطاباً للرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} . وتثبيتُ الْفُؤادِ يكُون بما يُورثُهُ السُّكُونَ والطُّمَأْنينَةَ تُجَاهَ مَا يُمْكنُ أن يَهُزّهُ ويُقْلِقَهُ ويُزْعجَهُ مِنْ أحداثٍ يوميَّةٍ غيرِ سارّة. وقد كان الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتَعَرَّضُ منْ قِبَل كُفَّارِ قَوْمِه لأحْدَاثٍ كثيرةٍ غير سارّةٍ تُقْلِقُ وتُزْعِجُ أفْئِدَة عظماءِ الرجال. فإذا وجَدَ نفسَه على صلةٍ بالْوَحْي من آنٍ لآخر بصُورَةٍ متكرِّرة، لمْ تُزْعِجْهُ ولمْ تُقْلِقْه الأحداثُ، إذْ يشْعُرُ حِسِّيّاً بأنّ الرّبّ الجليلَ الذي أرسَلَهُ وأنزل عليه جِبْريلَ بالْوَحي، لم يَتْرُكْهُ لِنَفْسِه يُؤدّي وظائِفَ رِسَالته، بل هو على صِلَةٍ به، يُنَزّلُ عليه الآيَاتِ القرآنيّة تِباعاً، ويُعالجُ الأحداثَ التي يتعرَّضُ لها تِبَاعاً، ويُقَدِّمُ لَهُ الوصايَا والتعليمات الهاديات له في مسيرته، وهو يقوم بوظائف رسالته، ويَشْعُر أيضاً بأنّه مدعومٌ بقُوَّةٍ عظيمةٍ من الغيب، تتابعُهُ في كُلّ صغيرةٍ وكبيرة. فلهذا الأمر شأنٌ عظيمٌ جدّاً في تثبيتِ فؤاده، ليقوم بجلائل الأمُور، ضِمْنَ قَوْمٍ يَخْشَى أَنْ يتألَّبُوا عليْهِ، ويَمْنَعُوهُ مِنْ مُتَابعةِ وَظائِفِ رسَالَتِه بالْقُوَّة. والْحِكْمَةُ الثَّانية: نُدْرِكُها في قول الله عزّ وجلّ في النصّ: [الآية: 32] . هذه الحكمةُ جاءتْ بأُسلوبٍ مخالفٍ لأسْلوبِ عَرْضِ الحْكْمَةِ الأولى، الأمْر الذي قد يجعل تاليَ النص لا يُدْرك أنّ النصّ يُتابعُ بيانيَ الْحِكَمِ منْ تنزيل القرآن مُنَجّماً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 التَّرْتِيل: هُو التَّمَهُّلُ والتَّأَنّي في الكلام، والتَّبْيِينُ له، للتَّمكينِ والتحقيق، وبناءِ الْمَعْرِفَة في المتَلَقّين بناءً تَكَامُلِيّاً، وذلك لا يحصُل بإنزاله جملةً واحِدةً، بل يحصلُ بإنْزَاله في دروسٍ تعليميّة قِسْماً بَعْد قِسْم، مع الاستفادة من الأحداث والمناسبات. وقد جاء شرح هذه الحكمة في قول الله عزّ وجلّ في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول) : {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [الآية: 106] . {فَرَقْنَاهُ} أي: جَزَّأْنَاهُ، وفَصَّلْنَاهُ، وبَيَّنَّاهُ، وأصْلُ معنَى الْفَرْقِ الفصْلُ بيْنَ الشّيْئَيْنِ أو الأشياء، وتمييزُ بَعْضِها عن بعْض. وأَوْضَحُ صُوَرِ هذا الْفَصل والتَّمييزِ أَنْ يُنَزَّلَ الكتَابُ على مراحِلَ زمَنيّةٍ مُتَفاصِلَةٍ مُتَباعِدَةٍ. {على مُكْثٍ} أي: عَلى تَمَهُّلٍ، وتَوَقُّفٍ، وانْتِظَارٍ، رَيْثَما تَثْبُتُ مَعْرِفَةُ الْقِسْمِ الْمُنَزَّلِ. يُقال لغة: مكَثَ بالمكانِ يمكُثُ مُكْثاً وَمَكْثاً ومُكُوثاً، إذا توقّف وانتظَرَ. {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} أي: ونَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً بأناةٍ وتَمَهُّلٍ وتَحْقِيقٍ مع كلّ قِسْمٍ يُنَزّل منه، فالتأكيدُ بالمفعول المطلَقِ للإِشارة إلى نوع التنزيل. والحكمة الثالثة: نُدْرِكُهَا من قول الله عزّ وجلّ في النصّ: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الآية: 33] . الخطاب هنا مُوجّه للرسول ليَسْمَعَ أصحابُ الاعتراض على تنزيله مُفَرَّقاً، وقد سبقَ في سورة (الفرقان) نَفْسِها عَرْض طائِفَةٍ من اعتراضاتِهِمْ ومقترحاتهم التي جاءت الإجابة عليها في السورة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 والمعنى أنّ من حِكَمِ تنزيل القرآن مُنجَّماً مُتَابَعةَ جَدَليَّاتِ الذين كَفَرُوا فيما يُقَدّمونَه من أمْثِلَةٍ يصْطَنِعُونها بآرائهم، ويقترحونها، ويَرَوْن أَنَّها هيَ الصُّوَر الأفْضَل الَّتي ينْبَغِي أنْ يكون عليها حالُ الرسُولِ، أو حالُ القرآن، أو حالُ أحكام الشريعةِ والمنهاج. فَبِهَذِهِ المتابعة يقدّم اللَّهُ عزّ وجَلَّ في النصّ اللاَّحق ما يكْشِفُ به وجْه الحقّ لمنْ يَطْلُب الحقَّ بصدْق، إذا كان ما اقترحه الكافرون من الأمور الباطلة. ويقدّم في النّصّ اللاّحقِ ما يتضمَّن تفسير وجْهِ الحكمة من الطريقة الرَّبانيّة المختارة، إذا كان ما اقترحه الكافرون إحدى الصُّوَر الممكنة غير المرفوضة عقلاً، لكِنَّ الاختيارَ الرّبّانيّ قد كان هو الأفضل والأَحْسَن والأحْكَم، فيكُونُ تَفْسيرُ ما جاء من عنْد الله في كلّ ذلك لمُلاَءَمَةِ الأفْضَلِ والأحْسَنِ والأحكم، هو الأحْسَن والأفضل والأحكَمَ من تفسير ما اقترحوه. وحينما يكون تفسير ما أنزل الله أحْسَنَ من تفسير ما افترحوه، يكونُ ما أنزل الله عزّ وجلّ أحْسَنَ ممّا اقترحوه حتماً، وهذا من الاستدلال بلازم الشيء عليه.. والمرادُ مِنَ المثَل هنا: النَّمُوذَجُ المقترحُ الذي يُقَدّمه الكافرون، في اعتراضاتهم وجَدَليّاتهم، حولَ ما ينبغي - بحَسَبِ آرائِهِمُ القاصرة - أنْ يكونَ عليه الرسولُ، أو القرآن، أو الْحُكْمُ الدينيّ، أو الطريقة الرَّبَّانيَّة في وسيلَةِ التبليغ، أو غير ذلك. ولمّا كانت مقترحاتُ الناس بمثابة صُوَرٍ مُرْسُومَةٍ يُقَدِّمونَها، ليكونَ الواقعُ التَّطبيقيُّ على وَفْقِها، كَانَ أَدَقُّ تَعْبِيرٍ جامع هو التعبيرُ عنْها بأنَّها أمْثال، والواحِد منها "مَثَل" فقال اللَّهُ عزّ وجلّ لرسوله: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الآية: 33] ، ومن الأمثال النماذج الّتي تُوضَع للمَباني التي ستقام أو يقترح المهندسونّ إقامتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 والغرض من خطاب الرسول مخاطبتهم تعريضاً، ولو يواجِهِهُم الله عزّ وجلّ بالخطاب، لأنّ النصّ جاء في مَعْرِض إجابة الرسول على شكواه من أقوال كُفّار قومه. والمعنى: ولاَ تأتُون الرّسُولَ بِمَثَلٍ تَقْتَرِحُونه، إلاَّ أَنْزَلْنَاه في نُجُوم التَّنزيلِ اللاّحِقِ ما يَكْشِفُ وجْه الحقّ، أو يُبَيّن أَنَّ اختيارنا هو الأحسن والأفضل والأحْكَمُ ممّا اقترحْتُمْ. *** المثال الخامس: عرَضَ الله عزَّ وجلَّ في سورة (القمر/ 54 مصحف/ 37 نزول) موجَزاتٍ مختزلاتٍ من قصة قوم نوح، وقصّة عادٍ قوم هود، وقصة ثمود قوم صالح، وقصة قوم لُوطٍ، وقصّة فرعون وآله. ويُلاَحَظُ في هذه المختزلاَتِ من قِصَصهم التَّنْوِيعُ في الأداء البيانيّ لدى عرضها، فلَمْ تُعْرَضْ فِقَراتُها على نَمَطٍ واحِدٍ. * ففي عرض قصة قوم نوح عليه السلام قال الله عزَّ وجلَّ مُتَحَدّثاً عن الّذين كذّبُوا محمّداً إبَّانَ التنزيل: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وازدجر * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر * فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} ؟؟ [الآيات: 9 - 16] . نُلاَحِظُ أنَّهُ بَعْدَ عَرْضِ قِصَّة إهْلاَكِهِمْ جاءَ تَوْجِيهُ السُّؤال الّذي يَلْفِتُ النظرَ إلى الاتّعاظ والاعتبار بما جرى لقَوْمِ نوحٍ. * أمّا عَرْض إهلاك عادٍ فقد جاء فيه توجيه السؤال نفسِه قَبْلَ ذكْرِ موجز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 إهلاكِهِم إعداداً لتَلقِّي الجواب، وبَعْدَهُ تَوْجيهاً للاتّعاظ والاعتبار، فقال الله عزَّ وجلَّ: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ * تَنزِعُ الناس كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [الآيات: 18 - 21] . ريحاً صَرْصَراً: أي: شديدة البرودة ذَات صَوْت. أعجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِر: أي: أصُول نَخُلٍ مُنْقَلِعٍ من مَنْبِتِه، بادِيَةٍ أَسَافِلُهُ المتشعّثة الممزّقة. * وأمّا عَرْضُ مُوجَزِ إِهْلاَكِ ثَمُودَ فَقد جاءَ بطريقةٍ مُخْتَلِفَة عمّا سبَق، فقالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ في هذا العرض: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر * فقالوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ * أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [الآيات: 23 - 25] . وبَعْدَ هذا يُقَدِّم النَّصُّ قولاً مُقْتطعاً من الحدَثِ إبّانَ حُدوثِهِ في الماضي فقال الله عزَّ وجلَّ فيه: {سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر * إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة فِتْنَةً لَّهُمْ فارتقبهم واصطبر * وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ المآء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} [الآيات: 26 - 28] . الشِّرْبُ: وقْتُ الشُّرْبِ، والنَّصِيبُ من الماء. هذا القول كان قد وجَّهَه الله عزَّ وجلَّ لرسولهم صالح عليه السّلام، قُدِّمَ هُنَا مقتطَعاً من الحَدَثِ الماضي، دون مقدّمَاتٍ تُشِيرُ إلى ذلكِ، وبعده عادَ النصّ، إلى حكاية القصّة، فقال تعالى: {فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فتعاطى فَعَقَرَ} [الآية: 29] . أي: فتمطَّى متطاولاً قائماً على أطراف أصابع رجْلَيْهِ رافِعاً يَدَيْهِ، فعقَرَ نَاقةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 الله، وبعْدَ هذا البيان وجّه الله عزَّ وجلَّ السؤال السّابق فقال تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} ؟؟ [الآية: 30] . وأجابَ عليه بقوله: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر} [الآية: 31] . إنّه مع التّشابُهِ في الْهَيكل العام، نُلاحظ أنّ الأساليب اختلفت وتنوّعَتْ. * وأمّا عرضُ مُوجَزِ إهْلاكِ قَوم لُوطٍ عليه السلام، فقد جاء أيضاً بطريقَةٍ مختلفة، مع التناظُرِ في الهيكل العامّ كما سبق، فقدّم الله عزَّ وجلَّ صُورة إهلاكهم قبْلَ عَرْضِ أعمالِهِم، على خلاف ما جاء في موجز قصّة ثَمُود، إذْ جاء عرضُ أعْمالهم قَبْل عرْضِ صُورةِ إهْلاَكهم، فقال الله عزَّ وجلَّ: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بالنذر * إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ * نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ * وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بالنذر * وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ * فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ} [الآيات: 33 - 39] . ولَمْ يُورِدِ اللَّهُ عزَّ وجلَّ هنا السؤالَ السابق، إذ جاء هُنَا تكْرِيرُ عبَارَة: {فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ} وهي عبارة مقتطعة من الحدَث الماضي. وأمّا إهلاكُ فرْعَوْنَ وآلِهِ وجُنُودِه، فقد جاء موجزاً جدّاً بعبارة: {وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ النذر * كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ} [الآيات: 41 - 42] . لقد جاء هذا البيان بطريقة مختلفة عما سبَق، مع بقاء التشابه والتناظُر في الهيكل العام، كما نشاهد اختلاف السِّمَاتِ والْخَصَائِصِ في أفراد المخلوقات، مع تشابه أفراد النوع الواحد في الهيكل العامّ. وهذا من إعجاز القرآن وأدبه الرفيع. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 (2) التكامُل في أساليب البيان القرآن بين الأشباه والنظائر من روائع الإِبداع في البيان القرآني ما يُمْكِنُ أن نُطْلق عليه اسم "التكامل في الدلالات بين الأشباه والنظائر" وهو تخصيص كلِّ صِنْفٍ من الأشباه والنظائر في النّصّ بتعبيرٍ يُفيدُ معنىً خاصّاً، وهذا التعبير يصْلُح اطّرادُه في سائر الأشباه والنظائر، وبتوزيع التعبيرات ذوات الدّلالات المختلفات على الأشباه والنظائر يحصُل الاستغناء عن إعادةِ كُلّ شبيهٍ ونظيرٍ عدّة بِعَدَدِ هذهِ التعبيرات، للإتيان به في كلِّ مرّةٍ مقترناً بواحدٍ منها حتى استغراقها. وفي هذا الاستغناء إيجازٌ رائعٌ، واقتصادٌ في التعبير من جهة، ومَسَرَّةٌ لنباهَةِ الأذكياء من جهةٍ أخْرى، وتخلُّصٌ من الرّكاكة التي يجلُبُها التكرير في طريقة التعبير من جهة ثالثة. وتتكامَلُ التعبيراتُ فيما بينها في أداء المقصود من دلالاتها المختلفات، ويُفْهَمُ هذا التكامل من قرينة جَمْع الأشباه والنظائر في نصٍّ واحدٍ، وقَدْ يَدُلُّ عليه بدءٌ وختام. وقد يُلاحظُ معَ هذا التنويع التكامليّ في العبارات ذوات الدلالات المختلفات براعَةُ انتقاءِ التعبير الأكثر مُلاءَمَةً للنوع الذي يُقْرَنُ به من الأشباه والنظائر، مع صلاحيّة التعبيرات الأخريات له. وأمثّل لهذا التكامل البديع بما يلي: المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الحجرات/ 49 مصحف/ 106 نزول) : {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان وَمَن لَّمْ يَتُبْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 فأولائك هُمُ الظالمون * ياأيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الآيات: 11 - 12] . يُدهشنا في هذا النّصّ ما اشتمل عليه من أدب التكامل البيانيّ البديع الذي سبق إيضاحُهُ، ففيه ينْهَى الله عزَّ وجلَّ الّذين آمَنُوا عن ستِّ قبائح اجتماعيّة، من شأنها بَذْرُ بُزور الفرقة والعداوة والبغضاء بين المسلمين، لما فيها من إيذاءٍ أو إضرارٍ من بعضٍ منهم لبعضٍ آخر. وهي قبائح تشتمل على ظلم من الإِنسان لأخيه الإِنسان، وكُلُّ ظُلْم بين الناس من شأنه أن يُورِثَ العداوة والبغضاء، ويوقع الفرقة بين الجماعة الواحدة، وهذه القبائح السّت هي: "السُّخرية - اللّمز - التنابز بالألقاب - اتّهامُ المؤمنين بالظّنون الضعيفة التي لا تقوى على الاتّهام - التجسُّس على المؤمنين - غِيبَة المؤمنين المتقين". من الملاحظ في هذا النصّ أنَّ كلّ نَهْيٍ فيه قد انْفَرد بلَوْنٍ تَعْبيريٍ ذي دلالة خاصّة قابلةٍ لأن تكون شاملةً لسائر القبائح الّتِي جاء في النصّ النَّهْيُ عنْهَا. (1) ففي السخرية جاء التعبير بأسْلُوب: {لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ... ولا نِسَاءٌ من نسَاء} (2) وفي اللّمز جاء التعبير بأسلوب: {وَلاَ تَلْمِزُوا أنْفُسَكُم} (3) وفي النبر بالألقاب القبيحة جاء التعبير بأسلوب: {وَلاَ تَنَابَزُوا بالألْقَابِ} . (4) وفي الظّن المنهيّ عنه جاء التعبير بأسلوب: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظّنّ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 (5) وفي التّجسّس جاء التعبير بأسلوب: {وَلاَ تَجْسَّسُوا} . (6) وفي الغيبة جاء التعبير بأسلوب: {وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} . ويُلاحَظُ أنَّه يَصِحُّ في كلٍّ منْها استعمالُ التعبيراتِ الأُخرى لتؤَدِّيَ فيه دَلاَلاَتِها. * فَيُقَالُ مثلاً في السُّخْرِية، مع ما جاء من تعبيرٍ حَوْلَها في النصّ: "لاَ تَسْخَرُوا من أنفسكم - لا تَتَساخَروا - اجْتَنِبُوا السُّخُرِية - لاَ تَسْخرُوا - لاَ يَسْخَرْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْض". * ويُقَالُ في اللَّمْز، مع ما جاء من تعبيرٍ حولَهُ في النّصّ: "لاَ يَلْمِزْ قَوْمٌ قوماً، وَلاَ نِسَاءٌ نِسَاءً - لاَ تَتَلاَمَزُوا - اجْتَنِبُوا اللَّمْزَ - لاَ تَلْمِزُوا - لاَ يَلْمِزْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً". * وَيُقَالُ في النَّبْزِ بالألْقَابِ القبيحة، مع ما جاء من تعبير حوْلَهُ في النّصّ: "لاَ يَنْبِزْ بالألْقَابِ قَوْمٌ قَوْماً، وَلاَ نِسَاءٌ نِسَاءً - لا تَنْبِزُوا بالألْقَاب أَنْفُسَكُم - اجْتَنِبُوا النَّبْزَ بالألْقَابِ - لاَ يَنْبِزْ بَعْضُكُمْ بعْضاً". وهكذا يُقَالُ في سائرها، فأغْنَى أسْلوبُ التعبير الذي جاء في واحدةٍ مِنْها عن إعادته في سائرها، فَتَكامَلَتِ التَّعَبِيراتُ في أداء المقصود من دَلاَلاَتها المختلفات. ومع هذا الأسلوب البديع الدّالّ على التكامل في الصِّيغ المختارة لكل صنف من هذه القبائح السّت، فقد اخْتِيرَ لكلّ قبيحةٍ منْها صيغَةُ التعبير الّتي تدُلُّ عَلى أبْرَزِ صُورَةٍ من صُورِها، وهذا من الدّقّةِ الفكريّة، والبراعةِ والإِبْدَاعِ الفّنّي. (1) فالسخريةُ تغلبُ فيها المشاركة الجماعيّة، إذِ السّاخِرُ يضْحَكُ بسُخْريتِه آخرون، فيكونون مشاركين له في عمله، فجاء التعبير فيها بأسْلُوب: "لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قوم ... وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 وجاء في هذا التعبير إفراد النساء عن الذكور، لأنّ الغالبَ أنْ لا يسْخَرَ الرّجالُ من النساء، ولا يسْخَرَ النساءُ من الرجال، وللإِشارة ضِمْنَاً إلى أنّ المجتمعات الإِسلاميّة هي مجتمعاتٌ غيرُ مختلطة في الغالب من الأحوال، فتقِلُّ فيها السُّخْريَةُ بيْنَ الصّنفين، والخطابُ في النّصّ قد بدأَ بنداءِ الّذين آمَنُوا. وأسلوبُ هذا التعبير يَصْلُحُ تَعْميمُهُ على القبائح السّت. (2) واللّمُزُ يَغْلِبُ فيه الْعَمَلُ الفرديّ الخفيُّ، الّذي يُدْرِكُهُ أهْلُ الفطانةِ والنَّباهة، فجاء التعبير بأسلوب: {وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} وللدّلاَلَةِ أَيْضاً عَلى أنَّ مَنْ لَمَزَ أخاهُ المؤمِنَ فكأنّما لَمَز نَفْسه، لأن المؤمنين هم بمثابة الجسَدِ الواحد. وهذا المعنى مع أسلوب التعبير يصْلُحُ تعميمُهُ على سائِرِ القبائح السّت، فنقول: "لاَ تَسْخُرُوا مِنْ أنفسكم - لاَ تَبْزوا أنفسكُمْ بالألقاب - اجْتَنُبِوا كثيراً منَ الظّنّ في أنْفُسِكُمْ - لاَ تَجَسَّسُوا على أنْفُسِكُمْ - لاَ تَغْتَابُوا أنْفُسَكُمْ". (3) والنَّبْزُ باللَّقَب، وهوَ الشَّتْمُ بالألْقَابِ القبيحَة، عَمَلٌ تَغْلِبُ فيه المشاركَةُ بيْنَ فَرِيقَيْن، فَمَنْ نَبَزَ غَيْرَهُ رَدّ عَلَيْهِ المنْبُوزُ غالباً بِمِثْلِ قَوْلِهِ، أَوْ بأقْبَحَ منْه، انتقاماً لنفسه، فالتنابُزُ كالتَّقَاتُل، من أجل ذلك جاء التعبير بأسلوب: {وَلاَ تَنَابَزُوا بالألقاب} . وهذا المعنى مع أسلوب التعبير يصْلُحُ تعميمه على سائر القبائح السّتّ، فنقول فيها: "لاَ تَتَساخَرُوا - لاَ تَتَلامَزُوا - لاَ تَتَرَامَوْا بكثير من الظّنّ - لاَ تتعامَلُوا فيما بينكُمْ بالتَّجَسُّس - لاَ تترامَوْا فيما بينكُمْ بالغيبة". (4) وأفضل وسيلة لترك الظنّ الذي يأثم به صاحبُه، هو اجتنابُ كثيرٍ من الظّنّ، لأنّ من جرى مع ظُنونه أو صلَتْهُ إلى ما يأثَمُ به حتماً، لمَا لاتِّباع الظنّ من مزالق، وتسلُّطٍ على النفوس، فجاء التعبير فيه بأسْلُوب الأمر بالاجتناب، أي: بالابْتعادِ عنْ كثيرٍ مِنَ الظّنّ: {ياأيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ} وأسلوبُ الأمر بالاجتناب يَصْلُحُ تعميمه على سائر القبائح السّتّ، ففي الابتعاد عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 حُدودها سلامةٌ وحفظ وورعٌ محمود، فنقول فيها: "اجتنوا السُّخْرية - اجْتَنبوا اللّمز - اجتنبوا التنابُزَ والنّبْزَ بالألقاب - اجتنبوا التجسُّس - اجتنبوا الغيبة". (5) والتجسُّس يغْلبُ فيه العملُ الفرديّ الذي يستخفي به فاعله فجاء التعبيرُ فيه بأسْلُوب: {وَلاَ تجَسَّسُوا} فالنهيّ للجماعة عمّا يمكنُ أن يقوم به كلّ فردٍ منْهُم هو نهيٌ موجّه لكل فرد، وأسلوبُ هذا التعبير يصْلُح تعميمُه على سائر القبائح السّتّ: فنقول فيها: "لاَ تَسْخَرُوا - لاَ تَلْمِزُوا - لاَ تَنْبِزُوا بالألقاب - لا تَتَّبِعُوا كثيراً مِنَ الظنّ - لاَ تغتابُوا". (6) والغيبة ظاهرة من ظواهر القبائح الاجتماعية، التي يؤذي أو يَضُرُّ بهَا النَّاسُ بعضُهم بعضاً، إذْ فيها مُغْتَابٌ وسامع مشاركٌ لَهُ أو أكثر، فجاء التعبيرُ في النهي عنها بأسلوب: {وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} وهذا الأسلوبُ من التعبيرُ يَصْلُحُ تعميمُه على سائر القبائح السّتّ، فنقولُ فيها: "لاَ يَسْخَرْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ - لاَ يَلْمِزْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً - لاَ يَنْبزْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً - لاَ يَتَّبِعْ بَعْضُكُمْ كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ بِبَعْضٍّ - لاَ يتجسَّسْ بَعْضُكُمْ عَلَى بعض". بعد هذا الشرح المفصّل أقول: إنّ المتدبّر الْفَطِن يكشفُ أنّ جمع هذه التعبيرات ذوات الأداء المختلف، في نصٍّ واحد قد جمع عدّة رذائل اجتماعيّة، هي أشباهٌ ونظائر فيما بينها ويُمْكن أن يوضع لها عنوان واحد، بغيَة النهي عَنْها والتحْذيرِ مِنْها، يُشْعِر بأنّ كلّ تعبير منها يَصْلُح تعميمُهُ واستعماله في سائرها. وهذا من روائع الإِيجاز والإِعجاز البيانيّ الّذي اشتمل عليه القرآن المجيد. *** المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) : {قُلِ الحمد لِلَّهِ وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ الذين اصطفىءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 السماوات والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السمآء مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أإلاه مَّعَ الله بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً أإلاه مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض أإلاه مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أإلاه مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض أإلاه مَّعَ الله قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الآيات: 59 - 64] . هذه الآيات تشتمل على بيانٍ تعليميٍّ لمناظرةٍ جدليّة مع المشركين، وهي تسير ضمن خطوات: (1) يأمُرُ هذا التعليم بافتتاح هذه المناظرة بعبارة: الْحَمْدُ لله وسَلاَمٌ على عباده الذينَ اصطفَى. أي: كلُّ الحمد لله وحده، وبعد توجيه الحمد لله، يوُجِّهُ سلاماً على عباده الذين اصطفى، وهم أنبياؤه ورسُلُهُ عبْرَ تاريخ الناس، وهم الذين حملوا لواء الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والنَّهْي عن الإِشراك به، وفي هذا تجرُّدٌ من معنى التعصّب للرسول الخاتم محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لشخصه. (2) وبعْدَ المقدّمة الافتتاحيّة يطرحُ المناظر المؤمن المسلم سؤالاً حول المقارنة بين الخالق الرّبّ وبين ما يتّخِذُه المشركونَ من شركاء على اختلاف أنواع شركهم، واختلاف ذوات شركائهم، وعبارة هذا السؤال: {ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} ؟؟. وتحليل هذا السؤال يقتضي بياناً تَفْصِيليّاً لصفاتِ الرّبّ الخالق الرازق المحيي المميت النافع الضارّ إلى سائر صفات الله عزَّ وجلَّ، وبَيَاناً تقصيليّاً لصفاتِ ما اتّخَذ المشركون من شركاء لله في العبادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 وبهذا البيان التفصيليّ المقارن يظهر أنّ ما اتَّخذهُ المشركون من شركاء لا يملكون شيئاً من خصائص الربوبيّة، فلا ينفعونَ أحداً ولا يضُرُّونَ أحداً، بل هم عاجزون عن أن يجلبُوا لأنفسهم نفعاً أو أن يدفَعُوا عن أنفسهم ضرّاً. وإذا كان هؤلاء الشركاء لا يملكون نفعاً ولا ضرّاً، فإنّ أحداً منهم لا يستحقُّ أنْ يُعْبَدَ من دون الله، ولا أن يكون شريكاً للهِ في كونه إلهاً معْبُوداً. (3) فإذا ادّعَى المشركون أنّ لشركائهم نفعاً أو ضرراً أو مشاركة للهِ في ربوبيّته، فإنّ على المناظر أن يدخُلَ في عرضِ مظاهر ربوبيّة الله في كونه، فيطْرَحُ تساؤلاته التفصيليّة كما يلي: * مَنْ خَلَق السّماوات والأرْضَ وأنزلَ لكُمْ من السماء ماءً فأنبتَ به حدَائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ؟. * مَنْ جَعَلَ الأرضَ قراراً وجَعَلَ خلالَهَا أنهاراً وجَعَلَ لها رواسِيَ وجَعَلَ بَيْنَ البحرَيْنِ حَاجزاً؟. *مَنْ يُجيبُ المضطّرّ إذا دعَاهُ ويكشفُ السّوءَ ويجعلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ؟. *مَنْ يَهْدِيكُمْ في ظُلُماتِ البرّ والْبَحْرِ ومَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رحْمَتِه؟. * مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ومَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ والأرض؟. هذه مجموعات خمس من الأسئلة التي تجري المناظرةُ حولها من شأْنها أنْ تُوصِلَ بَعْدَ تقديم الحجج والبراهين والأدلّةِ العلميّة إلى الإِقناع بأنّ كلَّ هذه الظواهر الكونيّة هيَ من آثار الرّبّ الخالق، وأنَّهُ ليس شيءٌ منْها من أعمال شركاء المشركين، لا على سبيلِ الاستقلال، ولا على سبيل المشاركة في الرّبوبيّة. وبما أنّ الإِلهيَّة لا يَصِحُّ عَقْلاً أنْ تكونَ إلاَّ لِمَنْ لَهُ الرُّبوبية، أو لَهُ مُشَارَكَةٌ مَا فِيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 وبما أنَّ أحداً غير الله عزَّ وجلَّ لَيْسَ رَبّاً ولاَ مُشَارِكاً لِلَّهِ في جُزْءٍ من ربُوبيّته. فإنَّهُ لاَ يَصِحُّ عَقْلاً أَنْ يُعْبَدَ مِنْ دُونَ اللَّهِ، ولاَ أنْ يُجْعَلَ مَعَ اللَّهِ شريكاً في عبادة العابدين. ويُلاحظُ أنّه قد جاء في النّصّ بعد كلّ مجموعةٍ من الأسئلة السابقة تعقيبٌ مبدوءٌ باستفهام إنكاريٍّ تَعْجِيبِيّ من شركِ المشركين، وبَعْدَهُ نوعُ بيان يتعلَّقُ بمذهبهم الباطل. (1) فبعد المجموعة الأولى جاء: {أإلاه مَّعَ الله بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} أي: يجعلون عباداً من عباد الله وخلْقاً من خَلْقِهِ مُعَادِلين لله في إلهيَّتِه الّتي لا يُشاركُهُ فيها أحَدٌ، لأنَّهُ لاَ يُشاركُهُ في ربُوبيّته، ولا في جزءٍ منها أحد. ويَعْدِلُونَ عن صراطِ الحقّ متخِذينَ مَذَاهِبَ شركيّةً باطلةً. (2) وبعد المجموعة الثانية جاء: {أإلاه مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} . (3) وبعد المجموعة الثالثة جاء: {أإلاه مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} . (4) وبعد المجموعة الرابعة جاء: {أإلاه مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} . (5) وبعد المجموعة الخامسة جاء: {أإلاه مَّعَ الله قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} . إنّ المتدبّر المتأنِّي لهذا النّصّ يُلاحظُ أنَّ كُلَّ تعقيبٍ من هذه التعقيباتِ الخمسة صالحٌ لأنْ يُعَمَّم علَى كُلّ المجموعات من الأسئلة الّتي تُطْرَحُ على المشرك كما جاء في المناظرة التعليميّة. وقد أغْنَى ذِكْرُ كُلِّ واحدٍ منها بعْدَ مجموعته عن ذكر سائرها معه، ودَلَّت قرينة كون هذه المجموعات من الأسئلة وإرادةً في مناظرة واحدةٍ، على أنَّ التعقيبات قد أريد منها صلاحيّتُها لأنْ تكونَ عامّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 واقتضت فنّيَّةُ الأداء البيانيّ أن لاَ تُكرَّرَ مع كُلّ مجموعة، وأن يُذْكَرَ كُلُّ منها عَقِبَ مجموعةٍ منها. ولَوْ تكَرَّرَتْ لضَعُفَتْ بلاَغةُ النصّ، وكذلك لو أُخِّرَتْ وجاءت على صِيغَةِ تعقيبٍ واحدٍ متتابع الجمل. فَمَا جاء في هذا النصّ هو من أمثلة التكامل الإِبداعي في أساليب البيان القرآنيّ المجيد. *** المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول) : {هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب وَمِن كُلِّ الثمرات إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الآيات: 10 - 15] . جاء في هذا النصّ ذِكْرُ مجموعاتٍ من آيَاتِ الله في كونه الدّلالاّتِ على صفات رُبُوبيّته، والهادية إلى إثبات ذاته جلَّ وعلا. وهذه الآيات إنما يستفيد من دلالاتها المتفكّرون فيها، الذين يعْقِلون النتائجَ بعد أن يتوصَّلُوا إليها بعقولهم الواعية، ثمّ بعد أن يعقلوها يعْمَلُون على تذكُّرِها آناً بَعْدَ آن للاستفادة منها في استنباط حقائق جديدة، وفي الهداية إلى ما يُحَقِّق رضوان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 الرّبّ الخالق، وبعد الاهتداء إلى ذلك تتحرّك الدوافع الخلقيّة الكريمة فيهم للقيام بشُكْرِ الله على نِعَمِهِ الكثيرة الَّتِي اشتملت عليها آياتُهُ في كونه. فالسلسلة التكامليّة الّتي يمرُّ بها الإِنسانُ السّويُّ حينما يُوجّه نظره الفكريّ إلَى آيات الله في كونه تأتي وفق الخطوات التاليات: الخطوة الأولى: التفكّرُ في آيات الله في كونه، وقد جاء بيان هذه الخطوة بعد ذكر المجموعة الأولى من آيات الله التي وجّه النصّ النظر لها، فقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . الخطوة الثانية: الْعَقْلُ بالإِمساك الواعي للنتائج التي أوْصَلَ إليها التفكر، وقد جاء بيان هذه الخطوة بعد ذكر المجموعة الثانية من آيات الله التي وجه النصّ النظر لها، فقال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . الخطوة الثالثة: التذكّر لمتابعة البحث التحليليّ، وللانتقاع عمليّاً وسلوكيّاً من النتائج الّتي تمّ التوصُّل إليها، وقد جاء بيانُ هذه الخطوة بعد ذكر المجموعة الثالثة من آيات الله التي وجّه النصُّ النظر لها، فقال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} . الخطوة الرابعة: التوجّه لشكر الله على نعمه الّتي اشْتَمَلَت عليها آياته في كونه، وقد جاء بيان هذه الخطوة بعد ذكر المجموعة الرابعة من آيات الله الّتي وجّه النصّ النظر لها، فقال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . ويُلاحظ متدبّر هذا النّصّ بأناةٍ أنّ هذه التعقيبات الأربعة صالحةٌ لأنْ تُذْكَرَ جميعُها عقب كلّ مجموعةٍ من المجموعات الأربع، ولكن جاء توزيعها عليها مراعاةً لفنّيّة الأداء البيانيّ، وابتعاداً عن تكريرها جميعاً مع كلّ مجموعة، أو حشرها جميعاً في آخر المجموعات، لأنّ كُلاًّ من التكرير والجمع أخيراً يُضْعِفُ بلاغة النصّ، ويُنْزلُ من قيمة صياغته الفنيّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 وقرينة توجيه النظر لكلّ هذه المجموعات من آيات الله في كونه ضمن نصٍّ واحد، مع صلاحيّة هذه الآيات فكريّاً لأن يأتي التعقيبُ عليها بأيّ واحد من التعقيبات الأربعة، قرينةٌ دالّة على أنَّ المراد تعميمها على الجميع، وأنّ التعقيبات متكاملاتٌ فيما بينها. فما جاء في هذا النصّ هو من أمثلة التكامل الإِبداعي في أساليب البيان القرآنيّ. ولهذا الفنّ الأدبيّ المبتكر نظائر أُخْرى في كتاب الله عزَّ وجلَّ، والحمد لله على فتحه وتوفيقه. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 المقولة الثانية: منهج البيان القرآني في حكاية الأقوال والأحداث والقصص يشتمل البيان القرآنيّ في حكاية الأقوال والأحْدَاثِ والْقِصَص على وجُوهٍ فنّيّةٍ مختلفة، فيها إبداعٌ رائع لم يُعْرَف في بيان بُلَغاء الناس قبل القرآن. ويُلاحِظُ مُتَدبّر كتاب الله عزَّ وجلَّ من هذه الوجوه المختلفة الفنون التالية: الفنّ الأول: ما قد يشمل عليه النّصّ من تصوير الحدث الماضي، والحدث الآتي في المستقبل، كأنه حدَثٌ آنيٌّ يجري الآن، والصُّوَرُ التمثيليّة المستقطعة من الماضي أو من المستقبل يُؤتى بكل ظروفها الزمانيّة والمكانيّة وبأحداثها، فتُقَدَّمُ كأنّها أحداثٌ قائمة فعلاً، للإِشعار بأنها حقائق قد حدثت فعلاً، أو لا بدّ أن تحدثَ مستقبلاً. الفنّ الثاني: ما قد يشتمل عليه النصّ من تصوير الحدث الذي سيأتي في المستقبل كأنّه حَدَثٌ جرى فعلاً فيما مضىَ، فهو يحكي أمراً قد وقع. الفنّ الثالث: ما قد يشتمل عليه النصّ من التقاط لقطاتٍ مثيرات ذوات أهميّة من الحدث، وترك الذهن يملأ الفراغات بين اللقطات، وهو نظير اللّقطات الفنيّة التي اكتشفها أخيراً أصحابُ الفنّ السينمائي والتيلفزيوني، إذ يقتطعون من الأحداث التي يُقدّمها المشهد التمثيلي المصوّر، لقطات منتقيات تدلُّ على ما قبلها وعلى ما بعدها، ويعرضونها على شكل فقرات متتابعات من المشهد المعروض، مع أنّها متباعدات جدّاً في الواقع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 الفن الرابع: قد لا يُبْدأ في النّص بعرض الحديث من نقطة بدايته وميلاده، وتَسَلْسُلاً معه حتى آخر إجابةٍ عن التساؤلات حوله. بل قد تستدعي فنّيّةُ الإِبداع بدْءَ العرض من أيّة فِقرَةٍ من أوساطه، والانْتِهاء عند أيّة فقرة، متى استوفى النبأ شروطه الفنيّة، أو استوفت القصّة شروطها الفنيّة وأدّت الغرض من عرضها في الموضع الذي عُرضَتْ فيه. الفنّ الخامس: قد تُعْرَضُ في النصّ الأوصاف وعناصر المشاهد والأحداث في لقطات مجزّآتٍ موزعات في السّور، وكلّ مجموعة من هذه اللّقطات قلّت أو كثُرتْ تُبْرِزُ ما تستدعيه المناسبة، أو فنيّة تجزئه العرض، وتوزيعه، وتأتَلِف مع سائر مجموعات اللّقطات لأوصاف الشيء أو عناصر المشهد أو الحدث ائتلافاً تكامليّاً لا تنافُر فيه، ولا تَخَالف. وتُؤدّي كلّ مجموعة منها أغراضها من فنيّة العرض وتقديم الصُّور الجمالية والبيان البليغ، وتربية الإِقناع، واستثارة العظة، والإِعلام بما يُقْصَدُ الإِعلام به من مسائل الدّين وقضاياه، وتأكيد العظة والتوجيه بما يشبه التكرار وليس هو منه، كمن يأتي للقضيّة الواحدة بعِدّةِ أدلّة أو شواهد مختلفة، فالأدلة غيرُ مُكرَّرَةٍ لكنّ القضيّة التي سيقتْ لأجْلِها قد تكرّر تأكيدها. وبهذا يتحقّق الغرضان الفنيّان: "التأكيد وعدم التكرير" مع جمال الأداء البيانيّ وكماله. الفنّ السادس: ظاهرة استقطاع النّصوص من أزمانهِا الماضية أو المستقبلة، وعرضُها بألفاظها دون الإِشارة إلى أنه كان كذا فيما مضى، أو سيكون كذا فيما سيأتي. الفنّ السابع: التنقُّلُ بين الأزمان والأمكنة بأسلوب المفاجأة دون مقدّمة تُشْعِر بالانتقال، وكذلك التنقُّلُ والتراوح بين عالم الابتلاء وعالم الجزاء، على سبيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 التعاقب في النصّ الواحد، ونظيره التَّنَقُّل والتراوُحُ بين المشاهد، من موقف الحساب مثلاً إلى مُسْتَقرّ الجزاء، إلى غير ذلك من مشاهد ومواقف أُخْرويّة، فإلى الحياة الدنيا وما فيها من أحداث، أو إلى ما تستدعي من خطاب، حتى كأنّ الزَّمَنَ كلَّه ماضيَه وحاضرَهُ ومُسْتَقبَلَهُ، مع الأمكنة كلّها من عالَم الابتلاء ومن عالم الجزاء على لوحة واحدة، تَتَنَقَّلُ عَليْها عدساتُ البيان حسب مقتضيات الإِثارة، ولَفْتِ النَّظر وشدِّ الانتباه. إنّ هذا التنقُّلَ والتراوح المفاجئ دون مقدّمة تُشْعِر الانتقال، هو من الإِبداع الفنّي الذي لم يكن معروفاً في فنون الأدب قبل القرآن المجيد. ففي طائفة من النصوص القرآنية نُلاحِظُ أنَّه بينما يكونُ النّصّ يخاطبُ الناس وهُمْ في عالم الابتلاء الدُّنيويّ، إذا به يَنْتَقِلُ مُفَاجأةً إلى مَشْهدٍ من مشاهدهم، وهُمْ في عالم الجزاء الأخروي، فإذا به يفاجئ بالحديث عنهم وهم في عالم الابتلاء الدنيويّ، مع التنويع في الأساليب، والتغيير في منهج الخطاب، الأمر الذي يشُدُّ الفكر من أعماقه، لدى من هو حريصٌ على تَلَقِّي المعرفة، وتَذَوُّقِ جمال البيان، وروعةِ الكلام البليغ، فَهُو بسبب ذلك يُتابعُ التَّدَبُّر بنشاطٍ فكريّ متجدّد. على خلاف النَّمطِيّة الوَاحِدَة في أسلوب تقديم الأفكار، وعرض المعارفِ وسَرْدِها على وتيرة واحدة، فإنَ هذه النمطيّة الواحدة تجلُبُ الفتور، وشرودَ الذهن، وربّما نام معه المتلقّي، ولو كان راغباً في التَّلقِّي وحريصاً عليه، وتكونُ حالُهُ كحال من ينام على نَعِيرِ الناعورة، وجعجعة الرَّحا. *** هذه الفنون القرآنيّة البديعة فنونٌ تُرْضي وتُعْجبُ مشاعر الأذكياء، وتشُدُّهم إلى المتابعة والتفكُّرِ والاستنباط، فالإِنسان مجبولٌ بفطرته على الرغبة في الاستنباط، واستخراج الأشياء وفهمها بنفسه، ويَنْفِر من تَعْلِيمِه ما يستطيع اكتشافه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 بنفسه، وينفر من إخباره بما يستطيعُ إدْراكَهُ وتصوُّرَه بنفسه، من سلسلة الأحداث والوقائع، ولا سيما دقائقها العاديّة التي تتكرَّر في الأشباه والنظائر. وأُقَدّم فيما يلي طائفة من الأمثلة القرآنية الّتي تشتمل على روائع وبدائع من هذه الفنون السَّبْعَة: المثال الأول: جاء في سورة (ص/ 8 مصحف/ 38 نزول) قول الله عزّ وجلّ: {واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [الآية: 41] . "بِنُصْبِ": هذه قراءة جمهور القرّاء، وقرأ أبو جعفر المدني: "بِنُصُبٍ" وقرأ يعقوب البصري: "بِنَصَبٍ" وهي لغاتٌ عربيّة للكلمة، والمعنى فيها جَمِيعاً: بِتَعَبٍ وإعْيَاءِ ومَشَّقَّة. في هذه الآية حكاية حدَثٍ مضى، وفق الأسلوب المعتاد في حكاية الأخبار، وعقِبَ هذه الحكاية للحدَث قال الله عزَّ وجلّ: {اركض بِرِجْلِكَ هاذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [الآية: 42] . الرَّكْضُ: ضرْبُ الشّيءِ بالرّجْلِ ونحوها من أعضاء الجسد. إنّنا نُلاحظ أنّ هذا مقطعٌ كَلامِيٌّ مُسْتقطعٌ من الماضي، محكيٌّ بصيغته الَّتي قيلت لأيّوبَ - عليه السلام - إبّانَ الحَدثِ الماضي، والذّهنُ يكشف أنّ الله عزّ وجلّ قال لأيّوبَ هذا القولَ، فَوْرَ ندائه رَبَّه: "أَنّي مَسَّنِي الشيطانُ بنُصْبٍ وعذاب" وطوى النصّ بعد ذلك ما فَعَل أيوبُ عليه السلام، من تنفيذ الأمر، وما أكرمَهُ به ربُّه من شفاء، وعطفَ الله عزّ وجلّ على هذا المطويّ قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وذكرى لأُوْلِي الألباب} [الآية: 43] . وعقبهُ مُبَاشرةً جاءَ نَصٌّ كلامِيٌّ مستقطعٌ من أحداث الماضي، محكيٌّ بصيغته التي قيلت لأيّوبَ عليه السلام، إِبّانَ الْحَدَثِ الماضي، فقال الله عزّ وجلّ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ ... } [الآية: 44] . هذا القول يشير إلى قِصَّةِ يَمِينٍ حَلَفَهَا أيُّوبُ على زوجته أن يَضْرِبَها مئة ضربٍ بالقضيب لأمرٍ مَا، فأفْتَاهُ الله بأنّ باستطاعته أن يَبَرَّ بيمينه دون أن يؤذيَ زوجته، وذلك بأن يأخُذَ حُزْمةً فيها مئة قضيب من القضبان الرّفيعة جدّاً، ويَضْرِبَها بِها ضربة واحدةً تقوم في وقت واحدٍ مقام ضربها مئة مرّة. المثال الثاني: جاء في سورة (ص/ 38 مصحف /38 نزول) بعد حكاية ما أعطى الله عزّ وجلّ داود عليه السلام من مِنَحٍ وهبات، وما امتحنه به، وبعد بيان أنّ الله عزّ وجلّ قد غفر له، تأتي المفاجأة بنَصِّ كَلامِيّ مقتَطَعٍ من أحداثِ الماضي، وهو نصٌّ كان قد خاطب الله به داود عليه السلام بعد أن غفر له، فقال تعالى: {ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الحساب} [الآية: 26] . إنّ المعنَى الذهْنِي الذي يَقْتَضِيه النصّ هو عَلَى تقدير: وَبَعْدَ أنْ غَفَرَ اللَّهُ لِدَاوُد قال له: {ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ ... } . ولكِنْ في التحليل الأدبيّ لفَنِّ حكاية الحدثِ لا يَصِحُّ تقديرُ مثل هذا الكلام، الذي قد يُلاحَظُ ذهناً بأسرع من توارد الخواطر، التي تستدعيها الأشباه والنظائر، لأنّ مثل هذا التقدير يُفْقِد المفاجأة جَمالَها الأدبيَّ، وفَنِّيَّتَها الإِبداعيّة. بل يَنْبَغِي أن تَبْقَى المفاجأةُ كاملةً في أدائها، ليَسْتَمْتِعَ مُتَذَوِّقُ الأدب بهذا اللّون من ألوان الجمال في أساليب الكلام الرفيع. ونظير هذا النداء المفاجئ ما جاء في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) خطاباً لموسى عليه السلام، يقول الله عزّ وجلّ فيها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ ياموسى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون} [الآية: 10] . إنّ المعنى الذهني هو على تقدير: فلمَّا وَلَّى مُدْبراً ولَمْ يُعَقِّبْ قُلْنَا لَهُ: {ياموسى ... } لكِنَّ مثْلَ هذا التقدير لا يُصَرَّحُ به لدى التحليل الأدبيّ لأنّه يُفْقِدُ المفاجأةَ جمالَها وفَنِّيَّتَها الإِبداعيّة. *** المثال الثالث: وجاء في سورة (ص/ 38 مصحف/ 38 نزول) قول الله عزّ وجلّ يحكي ما سيحدث للطاغين يوم الدّين من عذابٍ في جَهَنّم. {هاذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المهاد} [الآية: 55 - 56] . ففي هذا النصّ حكاية أمْرٍ سيحدث في المستقبل يومَ الجزاء الأكبر، وبَعْدَهُ مباشرة جاء كلامٌ مُسْتَقْطَعٌ من الحدث الذي سَيَحدُثُ مستقبلاً، وهو مذكور بصيغتِهِ نفسِها التي ستقال، فقال الله عزّ وجلّ: {هاذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [الآيات: 57 - 58] . حَمِيمُ: ماءٌ حارٌّ شَديد الحرارة. غَسَّاق: سائل أصفر يشبه الماء الأصفر الذي تُفْرِزُه الجلودُ إذا تقرَّحَت أو احترقت. وبعده جاء كلامٌ مستقطَعٌ أيضاً من الحدث الّذي سيكون، وهو كلامٌ سَيُقَالُ للطاغين وهم في جهنم: {هاذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ ... } [الآية: 59] لَقَد كان الطّاغون قادةً لجماهير تَبِعَتْهُمْ فِي طغيانهم، فيقالُ لهم هذا القول حِينَ يُلْحَقُ بهم أتباعُهُم، وجاء عَقِبة في النصّ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 {لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ النار ... } [الآية: 59] . وهذا قول مَسْتَقْطَعٌ من الحديث الذي سيكون، إذْ يجيبُ الطّاغون الأئمة بهذا القول، وظاهِرٌ أنّه قُدِّم في النّصّ على طريقة عرض المشاهد التمثيليّة، دون التصريح بأنّ الأئمة الطاغين يَرُدّون بهذا الرَّدّ. وعقبه مباشرة جاء في النّصّ: {قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ القرار} [الآية: 60] . هنا نلاحِظُ تنويعاً في الأسلوب، إذْ صُدِّر هذا الْمَقطعُ الكلاميّ بفِعْلِ: "قالوا" كأنّ الحدث أمْرٌ جرى ووقع، واقتضت فنّيّة الأداء البيانيّ ذكر فِعْلِ: "قالوا". وعقبَهُ جاء في النّصّ حكاية مقالٍ آخَر لِلْفَوج المقتَحِم من الأتباع، فقال الله عزّ وجلّ: {قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هاذا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النار} [الآية: 61] . دون حرف عطف، للدلالة على أنّ هذا القول والّذي قبله يُقالان يتعاقُبٍ دون عطفٍ، أو يقالان في وقتٍ واحد، على معنى أنّ بعضهم يقول القول الأول، وبعضَهُم يقول القول الآخر. ويستَقِرُّ الأتباعُ المقتحمون في دار العذاب، وبَعْدَ استقرارهم يفتِّشُونَ عن شركائهم فيها، ويتصوّرن أنّ الّذين كانوا يَعُدُّونَهُمْ أشراراً في الدنيا من الذين آمَنوا واتَّبَعُوا الرسول لاَ بُدَّ أنْ يكونوا معهم في دار العذاب، لكِنَّهُمْ لا يَرَوْنَهُم، كُلُّ هذا قَدْ طُوِي في النّصّ، لكن دلَّ عليه، ما جاء في السُّورَةِ من حكايَةٍ قولٍ قالوه بَعْدَ قولهم السّابق، فقال عزّ وجلّ: {وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشرار * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبصار} [الآيات: 62 - 63] . إنّهم بعْدَ البحث والتفتيش لا يَرَوْنَ في دار العذاب رجالاً كانوا يَعُدُّونهم في الحياة الدنيا من الأَشْرار، لكِنَّهُمْ آمَنُوا وصَلَحُوا واتَّبَعُوا الرسول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 فيذكرونَ احْتِمَالَيْن: الاحتمال الأول: أنّهم كانُوا يستضْعِفُونَهُمْ في الدّنْيا، فيتَّخِذُونَهُم سِخْريّاً، أي: مُسْتَذَلِّين مُسَخّرِينَ، يُكَلَّفُونَ حَمْلَ الأعباء والأعمال الشاقّة، مع السُّخْرِيَة بِهِمْ، وهم لا يستحقون هذه الإِهانة، ومَا كان يَصِحُّ اتّخاذُهم كذلك، لأنَّهم عند ربّهم مُكْرَمُونَ بإيمانهم. الاحتمال الثاني: أَنَّهُمْ مَوجُودُون معهم في دار العذاب، إلاَّ أنّ الأبصار زاغت عن رؤيتِهِمْ، لمَا في دار العذاب من سَمُومٌ ولَهَبٍ يَجْعَلُ الأبصار تزيغ فَلا تَرَى بعْضَ من هم في دار العذاب. ويقف النَّصّ هنا، ويطوي تخاصماً يجري بين أهْلِ النار، فلا تعرض السورة من مضمونه شيئاً، لكنْ يدُلُّ على حَدَثِ التخاصُم قول الله عزّ وجلّ عقب البيان السابق: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار} [الآية: 64] . وللذّهن أن يَنطَلِقَ في تَصْوِير ما يجري حولَهُ التخاصم، وأوّل ما يُدْرِكُهُ ما يكون بين الأتباع وقادتهم من تراشُقِ المسؤولية وتدافُعِها. *** المثال الرابع: وجاء في سورة (ص/ 38 مصحف/ 38 نزول) أيضاً بيانٌ عن هزيمة جندٍ من أحزاب المشركين، في المعارك التي سَتحْدُثُ مستقبلاً بينهم وبين المسلمين بقيادة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على طريقة الإِنباء بالغيب المستقبلي، فقال الله عز وجلّ فيها: {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الأحزاب} [الآية: 11] . وصف الله عزّ وجلّ جُنْد المشركين بأنَّهم مَهْزُومون، مع أنَّهم لم يُهْزَمُوا بَعْدُ، بل كانوا كما جاء وصفهم في صَدْر السّورة: {في عِزَّةٍ وشِقَاق} [الآية: 2] ، أي: في قُدْرَةٍ على التَّغَلُّب عَلى المسلمين، ووقوفٍ في شِقِّ المعادي المحارب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 وجاء هذا الإِنباءُ عنْ حَدَثٍ سيكونُ مستقبلاً على طريقة تصوير حالهم المستقطعِ من المستقبل، والمحكيّ عند التنزيل، باعتبار زمان ذلك الحال، ومكانه، لا باعتبار أنَّه خَبَرٌ يُذْكَرُ فيه ما سيَحْدُثُ مُسْتَقْبلاً. ومن المعلوم أنَّ تصوير الحال المستقطَعِ من المستقبل يتضمَّن الْخَبَرَ بما سيَحْدُثُ لزُوماً عقليّاً، مع تأكيد تحقُّقِ الوقوع بجعله كأنَّه أمْرٌ حاصل وحدثٌ قائم. كذلك شأن كلّ الصُّوَر التمثيليّة الْمُستَقْطَعة من الماضي أَوْ مِنَ المستقبل، إذْ يُؤْتَى بها مُحَاطةً بظروفِها الزمانيّة والمكانيّة، فتُقَدَّمُ كأَنّها أحداثٌ قائمةٌ فِعْلاً. وهذا العرضُ الفنّيُّ يُشعِرُ بأنّ ما جاء في العرض هو من الحقائق الّتي حَدَثَتْ فِعْلاً في الماضي، أو هو من الحقائق التي ستحدثُ فِعلاً في المستَقْبَل، لأنَّ الْقُرْآن حقٌّ لاَ يأتيِه الباطل من بَيْنِ يديْهِ ولاَ مِنْ خَلْفِه، بخلاف قِصَصِ الناس وحكاياتهم وتمثيليّاتهم، فمُعْظَمُها من صُنْع خيال كاتبيها. وقد تحقّق فيما بَعْد انْهِزامُ جُنْدِ كُفَّارِ قريشٍ في غزوة بدْرٍ الكُبْرَى، ثُمَّ في غَزْوةِ الأحزاب، إلى غير ذلك من غزوات، وكان هذا من معجزات القرآن الخبريّة الّتي أخْبَر عنها وتحقَّقَتْ كما جاء في خَبَرِه. *** المثال الخامس: وجاء في سورة (القمر/ 54 مصحف/ 37 نزول) حكايَةُ تكذيب ثمود بالنُّذُر، وحكايةُ بعض أقوالهم، فقال الله عزّ وجلّ فيها: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر * فقالوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ * أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [الآيات: 23 - 25] . وسُعُر: أي: وجُنُون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 بل هُوَ كذّابٌ أشِرٌ: أي: بل هو كذّابٌ في ادّعاء الرسالة، مُسْتكْبرٌ طالبٌ للسلطانِ والْمَجْد بهذه الدعوى. أشِر: أي بَطِرٌ مُسْتكبر. بَعْدَ هذا العرض الذي جاء بأسلوب حكايةِ خَبَرٍ، يُفَاجئ النّصّ بعرض صُورَةِ مقتطعةٍ من الحدث الماضي، دون أنْ تُقَدَّمَ بأسلوب حكاية خَبَرٍ، فقال الله عزّ وجلّ: {سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر * إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة فِتْنَةً لَّهُمْ فارتقبهم واصطبر * وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ المآء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} [الآيات: 26 - 28] . فِتْنَةً لَهُمْ: أي: امْتَحَاناً لَهُمْ. كُلُّ شِرْبٍ مُخْتَضَرٌ: الشِّرْبُ: النّصيب من الماء الذي يُشْرَب، ووقْتُ الشُّرب. والمعنى كلُّ ذي نصيب من الماء يحضُرُ في الوقْتِ المحدّد لأخذ نصيبه منه. هذا ما قاله الله عزّ وجلّ لصالح عليه السلام إبّانَ الحدَث، جاءَ مقْتطعاً ومُقَدَّماً ضمن عرض حكاية ما جرى من ثمود، وقد جاء في موقعه من القصّة. ويستأنِفُ النَّصُّ بعد هذا العرض المقتطع بصيغته من الحدث الماضي، دون أن يُورَدَ بأسلوب حكاية خَبَر، فَيَرْجِعُ إلى أُسْلوب حكاية مَا جَرَى حكايةً خبريّة، فقال الله عزّ وجلّ: {فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فتعاطى فَعَقَرَ} [الآية: 29] . أي: فتطاول فعقَرَ ناقَةَ الله. وبعده يَطْرَحُ تساؤلاً على متلقّي القرآن ومتدبّري ما جرى لثمود، فيقول تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [الآية: 30] ؟؟ وهذا التساؤل لا بُدَّ أن يَردَ في أذهان متلقيّ أحداث قصّة ثمود، ويأتي الجواب عليه بقوله تعالى: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر} [الآية: 31] . أي: كأكوام حطبٍ وشَوك أعدها صانِعُ حظيرة لدوابّه. *** المثال السادس: وجاء في سورة (يونس/ 10 مصحف/ 51 نزول) قولُ الله عزّ وجلَّ: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هاذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين * فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الحياة الدنيا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الآيات: 22 - 23] . الْفُلك: يطلق على الواحد فما فوق، والمراد هُنا الجمع بدليل: {وَجَرَيْنَ} . قال البلاغيّون: في هذا النصّ التفاتٌ من الخطاب إلى الغيبة، فبينما كان النصّ يخاطب المشركين بعبارة: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك} يتحوّل إلى الغيب بعبارة: {وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ... } . أقول: إنّ الخطاب كان موجّهاً للذين يمكُرُونَ في آيات الله، لتحويلها عن دلالاتها الإِيمانيّة، والمخاطبون عند نزول النصّ قد لا يكونون من الذين ركبوا الْبَحْرَ وتعَرَّضُوا لمثل ما وَصَفَ النصّ بعد ذلك، لكنَّهُمْ لو تعرّضوا لمثله لكان حالُهُمْ مثل حال من وصفهم الله، نظراً إلى أن أهْلَ الكُفْر أشْبَاهُ في تصرُّفاتِهِم، إذِ الفطرةُ تُلْجِئُهُمْ إلى الله عند الاضطرار وشدّة الخوف، ثمَّ إنَّ كبرهم ورغبتهم في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 الفجور لتلبية مطالب شهواتهم وأهوائهم، مع تعلُّقِهِمْ بالعاجلة وتشبُّثِهِمْ بزينتها، أُمُورٌ تَرُدُّهُمْ بَعْدَ الأمْنِ والاطمئنان والنِّعْمةِ والرَّخَاءَ، إلى مَا كانوا فيه من بغْي قبل ذلك. فاقتضى تشبيه حالهم بحال أمثالهم السابقين لهم حكايَةَ قِصَّةٍ مِنْ قِصَص الكافِرِين السّابقين. ولهذا توقّفَ النصّ عند الفِقَرةِ الأولى المتعلّقة بشأن المخاطبين إبَّانَ التنزيل وبَعْدَه، وانْتَقَلَ مُبَاشَرةً إلى تصوير مَشْهَد قومٍ كافِرينَ جرَتْ بهِمْ الْفُلْكُ بريحٍ طيّبة، فقال الله عزّ وجلّ بأسلوب حكاية خَبَرٍ عن حدَثٍ مضى: {وَجَرَيْنَ بِهِم} . واكتَفَى النّصّ بالمقدّمة الّتي وُجّهَتْ للمخاطبين، عن ذكر نظيرها ممّا يخصُّ المتحدّث عنهم بالغيبة، فكأنّه قال لهم: فسيكون حالُكُمْ كحال كافرين قبلكم رَكبوا في الْفُلْكِ. وحصل الاكتفاء بإشارةِ قول الله عزّ وجلّ للمخاطبين: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك} عن أن يقول لهم: إنّكُمْ لو تعرَّضْتُّمْ لمثل ما تعرّض له أصحابُ هذه القصّة لكنْتُمْ مثلَهُمْ، للتشابُه بينَكُمْ وَبينَهُمْ في أصْلِ الْفِطْرَةِ، وفي الدوافع إلى الكفر والبغي. هذا فنٌّ من الإِبداع في الإِيجاز بعرض المشاهد الماضية مع الإِشارة التعريضيّة الضمنيّة إلى أنّ المخاطبين مثل أصحاب هذه المشاهد، غير فنّ الالتفاتِ من الخطاب إلى الغيبة، إنّه من الصُّور الأدبيّة العجيبة في البيان. وإذْ تقرّر في هذا النصّ من سورة (يونس) هذا الوصف للمخاطبين، باعتبارهم نُظَراء أشباههم، أنزل الله بعده في سورة (العنكبوت/ 29 مصحف/ 85 نزول) قوله بشأن عموم الكافرين الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، وقد جاء في معرض الحديث عن مشركي مكة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ} [الآيات: 65 - 66] . أي: فإذا رَكبوا في الْفُلْكِ مُسْتَقْبلاً، وتعرّضُوا لمثل ما سبَقَ ذِكْرُه في سورة (يونس) {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} كما دَعَا الّذين ذكرنا قصّتَهُمْ سابقاً. {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} فَأَضَاف النّصُّ بيانَ كُفْرِ الشّرْكِ بالله، الذي يناسبُ حال المخاطبين. ومن لوازم كُفْرِ الشّرك هذا أن يُفْضِيَ بهم إلى البغي في الأرض بغير الحقّ. ودوافع الشرك الذي يختارونه، بعد إخلاص الدين عند الشدّة ترجع إلى أمْرَين: الأمر الأول: الكفر بما أنعم الله به عليهم، حتّى لاَ يؤدّوا واجب الشكر لله عليها بالطاعات والقربات. الأمر الثاني: الرغبة في أن يتمتَّعُوا بلذّاتِ الحياة الدنيا، دون أيَّة ضوابط أوْ قيود، ومن كان كذلك فلا بدّ أن يكون فاجراً، منطلقاً انطلاقاً كُلّيّاً وبوقاحة تامّة، لارتكاب كلّ المنكرات من الأخلاق والأفعال. *** المثال السابع: وجاء في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) وَصفُ أَحْدَاثٍ من أحداث يَوْمِ الدّين، وتقديم صُوَرٍ من صُوَرِ ما يَجْري فيه، وعلى اللّوحَةِ البيانيَّة التّنَقُّلُ والتَّرَاوُحُ العجيبُ بين عالم الابتلاء وعالم الجزاء، ومن موقف الحساب إلى مستقرّ الجزاء، مع التعاقب واستخدام أسلوب المفاجأة، في حركاتٍ بيانيّة بالغةِ الإِثارة، جاذِبَة للانتباه، مُعْجِبةٍ لأذواق أذكياء البلغاء. فبينما يقدّم النصّ لقطات من واقع حال الّذين كانوا في الدنيا قد آمَنُوا وعَمِلُوا الصالحات، وهم سُعَداءُ بالنعيم المقيم في الجنّة، بقول الله عزّ وجلّ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهاذا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق ... } [الآية: 43] . إذَا بالنَّصِّ انتقَلَ إلَى عَرْض مَشْهَدٍ مِنْ مَشَاهِدِ موقف الحشر بعد الحساب وفصل القضاء، وهو يتعلّقُ بأهل الجنّةِ أنفُسِهِمْ، دون أن تستكمل الآيَةُ فاصلَتها، فقال الله عزّ وجلّ: {ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الآية: 43] . دلَّنا على هَذا الإِشارةُ الخاصّة بالمشار إليه البعيد، ولو كانوا فيها لكان الظاهر أن يقال لهم: {هذِهِ الجنّة} . ودلّنا عليه أيضاً، ما جاء بعْدَ هذه العبارة من عَرْضِ لقطاتٍ موصولاتٍ بهذا النداء، وهي مقتطعاتٌ من عُمُومِ المشهد نَفْسِه في موقف الحشر بعد الحساب وفصل القضاء، وتشتمل هذه اللقطات على تخاطُبٍ بصوتٍ عالٍ بَيْنَ أصْحَاب الجنّة المطمئنّين بأنّهم سيَدْخلونَها، وأصحاب النّار الَّذينَ قَضَى اللَّهُ عليهم بأنَّهم داخلوها خالدين، فقال الله عزّ وجلّ: {ونادى أَصْحَابُ الجنة أَصْحَابَ النار أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [الآية: 44] . وبَعْدَ هذهِ اللّقطَةِ منْ مشاهدِ هذا الموقف، إذَا بالنصّ يتحدَّث عن هؤلاء الظالمين حَدِيث مُبيِّنٍ لبَعْضِ صفاتِهِمْ وهُمْ الآنَ في الحياة الدّنيا، فقال الله عزّ وجلّ: {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بالآخرة كَافِرُونَ} [الآية: 44] . وقد دلّ على أنّ هذا الحديث هو حديثٌ عَنْهُمْ وهم ما زالوا في عالم الابتلاء في الحياة الدّنيا، استعمالُ الفعل المضارع في عبارة: {يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} وفي عبارة: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} ونحن نَعْلَمُ أنَّ الفعل المضارع يدُلُّ على الحركة المتكرّرة المتجدّدة، بدءاً من الحاضر، فتكراراً في المستقبل، وممّا يُضْعفُ إبداعَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 النصّ أنْ نُقَدِّرَ: الّذينَ كانوا يصُدُّون عن سبيل الله، وكانوا يبغونها عِوَجاً. ويُضافُ إلى هاتَيْن الدّلالَتَيْن دلاَلَةُ عبارة: {وَهُمْ بالآخرة كَافِرُونَ} فهي واضحةٌ في أنَّها تُعبِّرُ عن حالهم في الدّنيا، نظراً إلى أنَّهُمْ يومَ الدّين صاروا مؤمنين به إيمان شُهودٍ حسِّيّ. وبعد هذه النقلة إلى الحياة الدّنيا، إذا بالنّصّ رجَعَ إلى عَرْض بقيّة اللّقطات المنتقيات، الّتي تحدث بعد أذان المؤذّن بين أَهْل الموقف في المحشر، فقال الله عزّ وجلّ: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ ... } [الآية: 46] . أي: ويوجَدُ في هذا الموقف في المحشر بعْدَ فصْل القضاء الْعَدْليّ حجابٌ، وهو نحو سُورٍ أَوْ جَبَلٍ مُمْتَدٍّ من أقْصَى الْمَوقِفِ إلى أقْصَاه المقابل له. وهو يفْصِل بَيْنَ زُمَر أهل الجنّة، الّذِينَ قَضَى اللَّهُ لهم بأنَّهُمْ من أهلها ابتداءً، وبَيْنَ زُمَر أصحاب النار الَّذين قضى اللَّهُ بأن يكونوا خالدين فيها. ويَقِفُ عَلى الأَعْرَافِ من هذا الحجاب رجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ مِنْ أهل هذا الجانب منه، وأهل هذا الجانب منه، بعلاماتهم، فأهل الجنّةِ بيضُ الوجوه، ولو كانوا في الدّنيا سوداً أو شيئاً آخر من سائر الملوَّنين، وأهْلُ النّار سُودُ الوجوه، ولو كانوا في الدنيا بيضاً شُقْراً. والأعراف هي مرتفعاتٌ مُشْرِفاتٌ عَلى الحِجَاب، يُشاهِدُ الواقِفُ عليْها أْصحَابَ اليمين، وأصْحَابَ الشِّمالَ. وأصْحَابُ الأعرافِ هُمُ الّذينَ لمْ تكُنْ حَسَناتُهُمْ كافياتٍ لأنْ يُقْضَى لهم بسببها ابتداءً أنَّهُمْ من أهل الجنَّة، ولم تكن سيّئاتهم بالمقدار الذي يستحقون بسببه أن يكونوا من الخالدين في النار، أو من الذين قَضَى الله بتعذيبهِمْ فيها تَعْذِيباً مؤقّتاً، فأمْرُهُمْ موقوفٌ مؤقتاً حتّى يقضي الله بشأنهم إمّا بالتعذيب المؤقّت في دار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 العذاب، أو بالتأخير والانتظار، أو بالغفران، وهؤلاء فيما ظهر لي هم من عُصَاة المؤمنين، الذين لم يتجاوز الله في محكمة العدل العامّة عن معاصيهم. هؤلاء أصْحَابُ الأعراف يَبْدُو لهم أن يَتَقَرَّبُوا إلى أصْحابِ الجنّة، الذينَ هُمْ على الجانب الأيْمَنِ من الحجاب، بالسَّلامِ عَلَيْهِمْ، فقال الله عزّ وجلّ بشأنهم: { ... وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الجنة أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ... } [الآية: 46] . ولم يذكُرِ القرآنُ رَدَّ أصْحَاب الجنَّة، ولعلَّهم لا يَرُدّونَ تحفُّظاً، ومخافة أن يكونَ هؤلاء الْمُسَلِّمُونَ منْ أهل النّار الذين لا يجوز الرّدُّ عليهم بالسَّلام، إذ الرّدّ عليهم بالسّلام دعاءٌ لهم. بَعْدَ هذا أَدْخَلَ الْبَيَانُ جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً تتعَلَّقُ بأصْحابِ الجنّة، فقال الله عزّ وجلّ: { ... لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الآية: 46] . أي: لَمْ يَدْخُلْ بَعْدَ أصْحابُ الجنّةِ الجنَّة، لكنَّهُمْ في حالَةِ طَمَعٍ مُتَجَدّدٍ بأَنْ يصْدُرَ أمْر تكريمِهِمْ بأنْ يَدْخُلُوا الجنَّة، لاَ أنَّهُم يَطْمَعُون بأن يُقْضَى لهم بدخول الجنّة، فهذا الأمْرُ قَدْ قُضِي الْحُكْمُ به سابقاً في محكمة العدل الرّبّانية، فهم أصحابُ الجنّة، وتذاكِرُ الدُّخولِ في أيديهم، إنّما طَمَعُهُمْ هُو طَمَع مُتَرقِّبِ إعْلاَنِ مُبَاشَرَةِ الدُّخول، كَمُنْتَظِرِي النداء بدخول بوّابَةِ الْعُبور إلى الطائرة، في الصّالة الدّاخليّة، بعْدَ استكمال كُلّ شروطِ الدُّخول ولوازمه. بعْدَ هذهِ المعترضَةِ تَابَعَ النّصُّ عرْضَ لقطاتٍ من الْمَشْهَدِ تتعلْقُ بأصْحَاب الأعراف، فقال الله عزّ وجلّ: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النار قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين} [الآية: 47] . هذا الدّاء يُناسِبُ أنْ يدعُوَ به مُشْفِقٌ خائف من العذاب، ينْظُرُ إلى سوابقِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 معاصِيه، فيخافُ أنْ يُقْضَى عليه بأنْ يكون مع الْقَوْمِ الظالمِينَ المخلَّدينَ في النّار، أو من المعذّبين فيها وَلَوْ تَعْذِيباً مؤقَّتاً. وتابع النَّصُّ الحديث عنْهُمْ فقال اللَّهُ عزّ وجلّ: {ونادى أَصْحَابُ الأعراف رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أهاؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ ... } [الآية: 49] . هذا البيان يحكي حدثاً بصيغة الْفِعْلِ الماضي، وهو مُقْتَطَعٌ مِنَ الْمُسْتقْبَل، ومَقَدَّمٌ في المشهد البيانيّ. أصْحَابُ الأعراف نَادَوا رجالاً من أصحاب النار الّذين هُمْ عَلَى شمال الحِجَاب، وهؤلاء الرّجال هُمْ من أئمة الكُفْر، ويَعْرِفونَهُمْ بعلاماتِهِمْ المميِّزَةِ لَهُمْ، فيقولون لهم مثيرين فيهم النّدمَ والتحسُّرَ: مَا أغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمُ الأموال والأنصار؟؟ ومَا أغْنَى عَنْكُمْ استكْبَارُكُمُ الذي كُنتُمْ تَسْتَكْبِرونه، وما كنْتُمْ تستكبرون به على عباد الله، وعن طاعة الله؟؟. ويقولون لهم أيضاً مُشِيرين إلى بَعْضِ الضُّعَفَاءِ من أصحاب الجنة: أهؤلاَءِ الّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ ينالُهُمُ اللَّهُ برَحمةٍ، وهُمُ الآن ينتظرون الإِذْنَ لَهُمْ بأن يَدْخُلوا الجنّة خالِدِين فيها. عِنْدَ هذا الْمَفْصِلِ قَطَعَ البيانُ القرآنيُّ اللَّقَطَاتِ الْمُتَعَلِّقَاتِ بأصْحَاب الأعراف، وقدّم عبارة النداء لأصْحَاب الجنّة، بأنْ يدخُلوا الجنّة، فقال الله عزّ وجلّ: {ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} [الآية: 49] . لقد صدَر الأمْر التكريميّ بالإِذْنِ لَهُم بدخول الجنّة. وطوى النصّ ما يتعلَّقُ بالأَمْرِ بِإدْخَالِ أهْلِ النار النارَ، وجَمْعِهِمْ رُكاماً، وكَبْكَبَتِهِمْ فِيها، اعْتِماداً عَلى أنَّه يُعْلَمُ ذَهْناً، ولَوْ لمْ يُذْكَرْ في النّصّ، وجاء البناء على الأمْرَيْنِ المذكُورِ والمطويِّ، فقال الله عزّ وجلّ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 {ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين} [الآية: 50] . هنا يتحدَّث الله عن سبَبِ كُفْرِهِمْ وَتَعْرِيضهِمْ أنْفُسَهُمْ للعذاب في النار، فقال الله عزّ وجلّ: {الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هاذا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الآية: 51] . ألَيْسَ هذا التّنَقُّلُ العجيب في الأزمنة والأمكنة والأحداث مع استخدام مُخْتَلِف الأساليب من الإِعجاز البيانيّ في القرآن، ومن قِمَّةِ الأدَب الّتي لاَ يَرْتقيها بشر؟!. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 علمُ البَدِيع وفيه مقدمة وثلاثة فصول: الفصل الأوّل: البدائع المشتملة على محسنات جمالية معنوية. الفصل الثاني: البدائع المشتملة على محسنات جمالية لفظية. الفصل الثالث: ملاحق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 "علم البديع" المقدمة (1) البواعث اكتشف البلاغيون في النصوص البليغة ذات البيان الرفيع منثورات جماليّة متفرّقة، لفظيّة ومعنوية، وهذا المتفرقات المتناثرات يعْسُر تأليفها في أبواب وفصول، ولا يتضح في معظمها إلحاقُها بعلمي المعاني والبيان، وسمّوا كلّ واحدٍ ممّا اكتشفوهُ منها باسم خاصٍّ به، وجمعوها في مُسَمَّى علم واحد، أطلقوا عليه اسم "علم البديع". وهذه الجماليّات البديعة التي يوجد فيها جماليّات معنويّة عبّروا عنها بعبارة "محسنّات معنويّة" ويوجد فيها جماليات لفظيّة عبَّروا عنها بعبارة "محسنّات لفظيّة" لها طبيعة مشابهة لأنواع الزينة التي تتزيَّن بها النساء، كقُرْطٍ، وسوارٍ، وخلخالٍ، وباقةِ وَرْدٍ، ونبات أخضر مزهر، وتَلْوين بصِبْغٍ أبيض أو أحمر أو أخضر أو أصفر أو غير ذلك، وتصفيف شعر وتثنيته أو إرساله أو رفعه أو خفضه، وتقصير ثوب أو إطالته، أو شقِّ جانب منه، أو تثقيبة أو توشيته وتطريزه وزخرفته، أو حركات خفَّة في الجسم، وتَثَنٍّ وتكسُّر في القامة وتضمير للخصْر وإبرازٍ وتعظيم لمواضع جماليّة، إلى غير ذلك مما يدركُه ذوّاقو الجمال، ويصعُبُ إحصاؤه، وقد أحسّ البلاغيون أنَّ الجماليات الَّتي اشتمل عليها علما المعاني والبيان جماليات ذاتية، أمّا جماليات علم البديع فهي جماليات عَرضية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 فإذا كانت هذه الجماليّات البديعة على اختلافها في الكلام أو في الأجسام، أو في غير ذلك منْ كلِّ ما يُرى أو يُسْمَعُ أو يُدْرَكُ بالفكر مصطنعةً متكلّفة، مُكْرَهةً إكراهاً على الدخول في مواضع غير ملائمة لها، أو مكْدُوسة كدْساً دون حسّ جماليّ رفيع، أعطت تأثيرات عكسيّة وربّما أفسدت الجوانب الجميلة الَّتي كانت تُلْحَظُ في المزيَّنِ بها قبل إضافتها للتزيين بها. فالبدائع الجمالية لا تُضافُ اعتباطاً دون حسٍّ رفيع بالجمال، ولإِضافتها شُروطٌ بالغة الأهميّة، ومن أوائل شروطها وأهمها ما يلي: الإِتقان البالغ، والطَّبَعِيَّة، والتِّلْقائية، وإخفاء قصد التجميل والتزيين بها، حتَّى لا يَشْعُر ذوّاقو الجمال الملاحظون لها في نظراتهم الأولى أنّها مصنوعة بتكلُّف، بل يشعرون أنَّها واردة بتِلْقائيّة السلوك المعتاد. وما اكتشفه البلاغيون من هذه البدائع لا نعتبره اكتشافاً جامعاً كليّاً وحاصراً، فالبدائع الجماليّة يصعُبُ إحصاؤها كلّها، وهي قابلة للإِضافات الابتكاريَّة الَّتي تتفتَّق عنها مواهبُ المبدعين. *** (2) تعريفات تعريف البديع لغةً واصطلاحاً: البديع في اللُّغة: كلمة "بديع" على وزن "فعيل" تأتي لغة بمعنى اسم الفاعل، وبمعنى اسم المفعول. يقال لغةً: بَدَعَ فلانٌ الشيءَ يَبْدَعُهُ بَدْعاً إذا أنشأه على غير مثال سبَقَ، فالفاعل للشيء بَدِيع، والشيء المفعول بديع أيضاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 ويقال أيضاً: أبْدَعَ، أي: أتى بما هو مُبْتكر جديد بديع على غير مثال سبق، فهو مُبْدِع والشيء مُبْدَعٌ. وقد أطلقت كلمة "البديع" على العلم أو الفنّ الجامع والشارح للبدائع البلاغية المشتملة على المحسنات المعنويّة، والمحسنات اللفظية، من منثورات جمالية في الكلام، ممّا لم يلحق بعلم المعاني، ولا بعلم البيان. فعلم البديع اصطلاحاً: هو العلم الذي تُعْرِف به المحسنات الجمالية المعنوية واللفظيّة المنثورة، الَّتي لم تُلْحَقْ بعلم المعاني، ولا بعلم البيان. المحسنات الجمالية المعنويّة: هي ما يشتمل عليه الكلام من زينات جمالية معنوية قد يكون بها أحياناً تحسينٌ وتزيين في اللفظ أيضاً ولكن تبعاً لا أصالة. المحسنات الجمالية اللفظيّة: هي ما يشتمل عليه الكلام من زينات جماليّة لفظيّة، قد يكون بها تحسين وتزيين في المعنى أيضاً، ولكن تبعاً لا أصالة. (3) واضع علم البديع (1) قالوا: إنّ أوّل من دوَّن في هذا الفنّ "عبد الله بن المعتزّ العباسي" المتوفى سنة (274 هجرية) إذْ جمع ما اكتشفه في الشعر من المحسنات وكتب فيه كتاباً جعل عنوانه عبارة: "البديع". ذكر في كتابه هذا سبعة عشر نوعاً، وقال: ما جمع قَبْلي فنون البديع أحد، ولا سبقني إلى تأليفه مؤلف، ومن رأى إضافة شيء من المحاسن إليه فله اختياره. وجاء من بعده من أضاف أنواعاً أُخَر، منهم على ما ذكر البلاغيون: (2) "جعفر بن قُدَامة" أديب بغدادي من كبار الكتّاب متوفي سنة (319هـ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 ألَّف كتاباً سمّاه "نقد قُدامة" ذكر فيه ثلاثة عشر نوعاً من أنواع البديع، إضافةً إلى ما سبق أن اكتشفه من قبل "عبد الله بن المعتزّ العبّاسيّ". (3) ثم "أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري" المتوفي سنة (395هـ) ، فقد جمع سبعة وثلاثين نوعاً من أنواع البديع. (4) "ابن رشيق الحسن بن رشيق القيرواني" فجمع في كتابه "العمدة" قرابة سبعة وثلاثين نوعاً من أنواع البديع. (5) ثم "شرف الدِّين أحمد بن يوسف القيسيّ التيفاشي" من أهل "تيفاش" وهي إحدى قرى "قفصة" بإفريقية، ولد فيها، وتعلَّم بمصر، وولي القضاء في بلده، له عدَّة مؤلفات، ولادته ووفاته في (580 - 651هـ) . (6) ثم "عبد العظيم المشهور بابْنِ أبي الإِصْبَع العدواني" البغدادي ثم المصري، شاعر من العلماء بالأدب، له تصانيف حسنة، منها كتابة "بديع القرآن ط" في أنواع البديع الواردة في القرآن، ولادته ووفاته (595 - 654هـ) وقد أوصل الأنواع إلى تسعين نوعاً". (7) ثم "صَفِيُّ الدين عبد العزيز بن سرايا السَّنْبسي الطائي الحِلّي" وهو معروف باسم "صفيّ الدين الْحِلّي" وُلد في الحِلَّة "بين الكوفة وبغداد"، ولادته ووفاته: (677- 750 هـ) فأوصل الأنواع إلى مئة وأربعين نوعاً، يمكن جمع بعضها في بعض. (8) ثم "عزّ الدّين علي بن الحسين الموصلي" شاعر، أديب، من أهل الموصل، سكن دمشق وتوفي فيها في (789هـ) له مؤلف سمّاه "بديعيّة" وشرحه، فذكر في كتابه ما ذكر صفي الدين الحلّي، وزاد زيادة يسيرة من ابتكاره. وإني أذكر وأشرح من هذه البدائع ما هو مشهور ومتداول عند البلاغيين مع جمع بعضها ما أمكن ذلك، للتقليل من التفرد في الأنواع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 "علم البديع" الفصل الأول: البدائع المشتملة على محسنات جمالية معنوية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 البديعة المعنوية (1) : التورية التورية: أن يَذكُرَ المتكلّم لفظاً مفرداً له معنيان، على سبيل الحقيقة، أو على سبيل الحقيقة والمجاز، أحدهما ظاهر قريبٌ يَتَبَادَرُ إلى الذهن وهو غير مراد، والآخَرُ بعيد فيه نوع خفاءٍ وهو المعنى المراد، لكن يُورَّى عنه بالمعنى القريب، لِيَسْبِقَ الذهن إليه ويَتَوهّمَهُ قبل التأمّل، وبَعْدَ التأمّل يَتَنبَّه المتلَقِّي فيُدْرَكُ المعنى الآخر المراد. وأصل التورية في اللّغة: إرادةُ الشيءٍ وإظهارُ غيره إيهاماً، وقد جاء في كتب السيرة النبويّة أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أراد غزاة أو سفراً إلى جهةٍ ورَّى بغيرها، ليعمّي الأخبار، حتَّى لا يترصَّد له الأعداء. قال الزمخشري: لا ترى باباً في البيان أدقَّ ولا ألطف من التورية، ولا أنفع ولا أعْوَنَ على تعاطي تأويل المتشابهات في كلام الله ورسوله منها. أقسام التورية: تنقسم التورية إلى ثلاثة أقسام: مجرّدة ومرشحة، ومبيَّنة. * فالتورية المجرّدة: هي التي لم تقترن بما يلائم المعنى القريب، ولا بما يلائم المعنى البعيد. * والتورية المرشّحة: هي التي اقترنت بما يلائم المعنى القريب، سواء أكان هذا المقارن قبل اللفظ المستعمل في التورية أو بعده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 * والتورية المبيَّنة: هي التي اقترنت بما يلائم المعنى البعيد المقصود باللّفظ. أقول: ولا يحسُنُ بلاغيّاً استخدام التورية إلاَّ إذا دعا داعٍ بلاغي يقتضيه حال المتلقّي، وهذا الداعي ممّا يُقْصدُ لدى أذكياء البلغاء، كإخفاء المراد عن العامة وإشعار الخاصة من طرفٍ خفي، وكالتعبير عن المقصود بكلام يتأتَّى معه الإِنكار عند الحاجة إليه، وكاختبار ذكاء المتلقّي والتأثير في نفسه بما يُعْجِبُه من أداءٍ فنّيّ يستخدم فيه الأسلوب غير المباشر حتى الإِلغاز، إلى غير ذلك من دواعي. فليس كلّ كلمة لها معنًى قريب ولها معنًى بعيد على وجه الحقيقة أو المجاز يحْسُنُ استخدامها، وقَصْدُ المعنى البعيد بها، على سبيل التورية، دون مراعاة أو ملاحظة داعٍ بلاغي يُقْصَد لدى البلغاء الفطناء. أمثلة: المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في حكاية قول بعض أولاد يعقوب عليه السلام له، حين أخذ يُحِسُّ بريح يوسف عليه السلام، ولم يكن قد وصل البشير إليه يحمل قميصه من مصر، ولم يكن قد علم بما حصل لباقي بنيه في مصر الذين ذهبوا ليطلبوا الإِفراج عن بنيامين شقيق يوسف، فقال الله تعالى في سورة (يوسف/ 12 مصحف/ 53 نزول) : {وَلَمَّا فَصَلَتِ العير قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ * قَالُواْ تالله إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القديم} [الآيات: 94 - 95] . تُفَنِّدُونِ: تُخَطِّئُوني بأنّي أُحسُّ بإحْسَاسِ من أصابَهُ الخرفُ وضعُفَ رأيُه، فصار يتصوّر تصورات باطلات. وتلاحظ التورية في عبارتهم: {إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القديم} فهذه العبارة لها معنيان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 المعنَى الأول القريب الذي أرادوا الإِيهام به: هو أنّه ما زال ضالاً مع أوهامه، طامعاً بعد نيف وثلاثين سنة من غياب يوسف في أن يعود إليه أو يلتقي به، وضالاً في شغل نفسه بالحزن عليه حتَّى يكون حرضاً (أي: شديد المرض) أو يكون من الهالكين. المعنى الثاني البعيد الذي قَصَدُوه: هو أنّه ما زال ضالاً في إيثاره يوسف وشقيقه بنيامين على سائر بنيه، وهذا المعنى هو المعنى الذي كانوا ذكروه قبل أن يُلْقُوه يوسُفَ في غَيابة الجبّ، وقَدْ أبانه الله بقوله في أوائل السّورة. {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الآية: 8] . والتورية في هذا المثال مجرّدة. المثال الثاني: قول الشاعر "صلاح الصفدي": وصَاحِب لمَّا أَتَاهُ الْغِنَى ... تَاهَ ونَفْسُ الْمَرْءِ طَمَّاحَهْ وَقيلَ: هَلْ أبْصَرْتَ مِنْهُ يداً ... تَشْكُرُها قُلْتُ ولاَ رَاحَهْ كلمة: راحة لها معنيان: أحدهما المعنى القريب وهو راحة اليد، وهو المعنى الذي تستدعيهِ عبارة "يداً تشكرها" والآخر المعنى المقصود وهو راحة الجسم من التعب. والتورية هنا مرشّحة لاقترانها بما يلائم المعنى القريب. المثال الثالث: قول الشاعر: أَيُّهَا الْمُعْرِضُ عَنَّا ... حَسْبُكَ اللَّهُ تَعَالَ كلمة "تَعَالَ" لها معنيان: المعنى القريب هو الثناء على الله بالعلوّ، وهو يلائم لفظ الجلالة "الله" والمعنى الآخر وهو الدعوة إلى الحضُور، وهو يلائم عبارة: "أيُّها المعرض عنّا". المثال الرابع: قول سراج الدين الورّاق شاعر مصري (615- 695هـ) . أَصُونُ أَدِيمَ وَجْهِي عَنْ أُنَاس ... لِقَاءُ الْمَوْتِ عِنْدَهُمُ الأَدِيبُ وَرَبُّ الشِّعْرِ عِنْدهُمُ بَغِيضٌ ... وَلَوْ وَافَى بِهِ لَهُمُ حَبِيبُ كلمة "حبيب" لا يريد بها المعنى القريب وهو المحبوب، بل يريد بها المعنى البعيد، وهو اسم أبي تمّام الشاعر: "حَبِيبُ بن أوس". وهذه من التورية المجرّدة. المثال الخامس: قول الشابّ الظريف "شمس الدين بن العفيف التلمساني" (662 - 687هـ) : تَبَسَّمَ ثَغْرُ اللَّوْزِ عَنْ طِيب نَشْرِهِ ... وأَقْبَلَ فِي حُسْنٍ يَجِلُّ عَنِ الْوَصْفِ هَلُمُّوا إلَيْهِ بَيْنَ قَصْفٍ ولَذَّةٍ ... فَإِنَّ غُصُونَ الزَّهْرِ تَصْلُحُ لِلْقَصْفِ كلمة "القصف" في قافية البيت الثاني لها معنيان: المعنى الأول هو الكسْرُ، فغُصُون الزهر تُكْسَرُ عن شجرتها، للاستمتاع بزينتها، وهذا المعنى غير مراد. والمعنى الآخر البعيد هو اللَّهْو واللّعب والافتنان بالطعام والشراب، وهذا هو المعنى المراد. وفي سوابق هذه التورية ما يلائم المعنيين، فهي بقوّة المجرّدة. المثال السادس: قول بدر الدين الذهبي: رِفْقاً بخِلٍّ نَاصِحٍ ... أَبْلَيْتَهُ صَدّاً وهَجْراً وَافَاكَ سَائِلُ دَمْعِهِ ... فَرَدَدْتَهُ فِي الْحَالِ نَهْراً كلمة "نهراً لها معنيان: الأول القريب هو النَّهْرُ واحد الأنهار. والمعنى الآخر البعيد وهو المراد: هو الزَّجر، ويشير إلى قول الله تعالى: وأمّا السائل فلا تنهر. وفيه أيضاً تورية بكلمة "سائل" من سال يسيل، ومن سأل يسأل، إذ الدمع الذي يسيل يتضمَّن سؤال الوصال. البديعة المعنوية (2) : الطباق الطباق وتسمَّى: المطابقة، والتكافُؤ، والتضاد الطِّبَاقُ في اللّغة: وضْعُ طَبَقٍ علَى طَبَقٍ، كوضْعِ غِطَاء الْقِدْر مُنكَفِئاً على فَمِ الْقِدْر حتَّى يُغَطِّيَهُ بإحكام، ومنه إطباقُ بطْنِ الكفِّ علَى بَطْنِ الكفّ الآخر، تقول: طابَقَ الشيءَ على الشيءِ مُطَابقةً وطباقاً، أي: أطبَقَهُ عليه، وهذا الإِطباق يقتضي في الغالب التعاكس، فبَطْنُ الغطاء على بَطْنِ القدر يقتضي أن يكون ظهر الغطاء إلى الأعلَى وظَهْرُ الْقِدْرِ إلى الأَسفل. والطباقُ في الاصطلاح: هو الْجَمْعُ في العبارة الواحدة بين معنَيْينِ متقابلين، على سبيل الحقيقة، أو على سبيل المجاز، ولو إيهاماً، ولا يشترط كون اللّفظين الدَّالَّيْن عليهما من نَوْع واحدٍ كاسمين أو فعلين، فالشرط التقابل في المعنييَيْن فقط. والتقابل بين المعاني له وجوه، منها ما يلي: (1) تقابل التناقض: كالوجد والعدم، والإِيجاب والسلب. (2) تقابل التضاد: كالأسود والأبيض، والقيام والقعود. (3) تقابل التضايُف: كالأب والابن، والأكبر والأصغر، والخالق والمخلوق. ومن الطباق نوع يختصُّ باسم "الْمُقَابلة". المقابلة: هي طباقٌ مُتَعَدِّدُ عَنَاصرِ الفريقَيْنِ المتقابلَيْنِ، وفيها يؤتى بمعنَيْين فأكْثر، ثُمَّ يُؤْتَى بما يُقابلُ ذلِكَ على سبيل الترتيب. والعنصر الجماليُّ في الطباق هو ما فيه من التلاؤم بينه وبين تداعي الأفكار في الأذهان، باعتبار أنّ المتقابلات أقرب تخاطراً إلى الأذهان من المتشابهات والمتخالفات. المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) : {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الآيات: 26 - 27] . في هذا النّصّ أَرْبَعَةُ أمثلةٍ من أمثلة الطباق: الأول: الطباق بَيْن: "تُؤْتِي"، و"تَنْزِعُ" فهذا متقابلان تقابل تضاد. الثاني: الطباق بين: "تُعِزُّ" و"تُذِلُّ" وهو كالأول. الثالث: الطباق بين: "تُولجُ اللَّيْل في النهار" و"تُولجُ النَّهار في اللّيْل". الرابع: المقابلة بين: "وتُخْرِج الْحَيَّ مِنَ الْمَيّتِ" و"تُخْرِجُ الْمَيِتَ مِنَ الْحَيّ"، ويلاحظ هنا أنّ في كُلٍّ من الجملتين طباقاً، وأن في الجملتين معاً مُقَابلة، فالحيُّ في الأولى يضادُّ الميّت في الثانية، والميّتُ في الأولى يضادُّ الحيَّ في الثانية، وقد جاء هذا التقابل في الثانية على الترتيب الذي جاء في الأولى. المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الكهف/ 18 مصحف/ 69 نزول) في قصّة أهل الكهف: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال ... } [الآية: 18] . في هذا النصّ طباقان: الأول: الطباق بين: "أَيْقَاظاً" و"رقود". الثاني: الطباق بين: "ذاتَ الْيَمِينِ" و"ذاتَ الشِّمَالِ". المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت ... } [الآية: 286] . في هذا النصّ طباق بين المعنى الذي دلّ عليه الحرف في [لَهَا] والمعنى الذي دلَّ عليه الحرفُ في [عَلَيْهَا] فَلفْظُ "لَهَا" على الثواب، ولفظ "عليها" دلَّ على المؤاخذة أو العقاب. وطباق بين المعنى الذي دلّ عليه فعل "كَسَبَ" وهو الطاعة وفعل الخير، والمعنى الذي دلَّ عليه فعل "اكْتَسَبَ" وهو المعصية والذّنب. المثال الرابع: أثنى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الأنصار بقوله كما جاء في بعض كتب السيرة والأخبار: "إِنَّكُمْ لَتَكْثُرُونَ عِنْدَ الْفَزَعِ وَتَقِلُّونَ عِنْدَ الطَّمَع". في هذا القول مقابَلَةٌ بين الكَثْرَةِ والْفَزَعِ مِنْ جهة، والقلّة والطَّمَعِ من جهة أُخْرى. المثال الخامس: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الروم/30 مصحف/ 84 نزول) : {ولاكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ} [الآيات: 7 - 8] . في هذا النّصّ طباق بين النفي في: "لاَ يَعْلَمُونَ" والإِثباتِ في عبارة: "يَعْلَمُون" وهو طباق سلْبٍ وإيجاب. ونظيره الطباق بين الأمْر والنهي، والترغيب والترهيب، والإِغراء والتحذير، ونحو ذلك. المثال السادس: قول "دِعْبل الخزاعي". لاَ تَعْجَبِي يَا سَلْمُ مِنْ رَجُلٍ ... ضَحِكَ الْمَشِيبُ بِرَأْسِهِ فَبَكَى في هذا البيت إيهامُ التضادّ بين بياض الشَّيْب والبكاء، إذْ استعار الشاعر لظهور بياض الشيب فعل "ضَحِكَ" فكان الضحك مقابلاً للبكاء مقابلة تضادّ. المثال السابع: قول أبي الطيّب المتنبيّ: فَلاَ الْجُودُ يُفْنِي الْمَالَ وَالْجَدُّ مُقْبلٌ ... وَلاَ الْبُخْلُ يُبْقي الْمَالَ وَالْجّدُّ مُدْبِرُ الْجَدُّ: الحظُّ والنَّصِيبُ من الْخَيْر. في هذا البيت مقابلة بين فريقين من المعاني يوجد بين عناصرهما طباق، وهي ثُلاَث: الفريق الأول: الجود - يُفْنِي - مُقْبل. الفريق الثاني: البخل - يُبْقِي - مُدْبِر. المثال الثامن: قول النابغة الجعدي مادحاً: فتَىً تَمَّ فِيهِ مَا يَسُرُّ صَدِيقَهُ ... على أنَّ فِيهِ مَا يَسُوءُ الأَعَادِيَا في هذا البيت مقابلة بين فريقين من المعاني يوجد بين عناصرهما طباق، وهي مثنىً: الفريق الأول: يَسُرُّ - صَدِيقه. الفريق الثاني: يَسُوءُ - الأعاديا. المثال التاسع: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الليل/ 92 مصحف/ 9 نزول) : {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى * وَصَدَّقَ بالحسنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى * وَكَذَّبَ بالحسنى * فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى} [الآيات: 5 - 10] . في هذا النصّ مقابلة بين فريقين من المعاني يوجد بين عناصرهما طباق، وهي رُبَاعٌ: الفريق الأول: أعْطَى - اتَّقَى - صَدَّق - الْيُسْرَى. الفريق الثاني: بخل - استَغْنَى، أي: طغَى فلم يَتَّقِ - كَذّبَ - الْعُسْرَى. المثال العاشر: قول أبي الطيّب المتنبيّ: أزُررهُمْ وَسَوادُ اللَّيْلِ يَشْفَعُ لي ... وَأَنْثَنِي وَبيَاضُ الصّبْح يُغْرِي بِي في هذا البيت مقابلة فريقين من المعاني يوجد بين عناصرهما طباق، وهي خُمَاسَ: الفريق الأول: أزورهم - سواد - اللّيل - يشْفَعُ - لِي. الفريق الثاني: أنثني، أي: أعود من الزيارة - بياض - الصبح - يُغْرِي بِي. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 البديعة المعنوية (3) : مراعاة النظير مراعاة النظير ومنها تشابُه الأطراف وتُسَمَّى: التناسُب، والتوفيقَ، والائتلاف مراعاة النظير: الجمع في العبارة الواحدة بين المعاني التي بينها تناسبٌ وائتلاف ما، لا على سبيل تقابل التناقض أو التضاد أو التَّضايُف، الذي سبق في الطباق، ويكون هذا التناسُب بين معنيَيْن فأكثر، فإذا كان هذا التناسب بين أول الكلام وآخره سُمّي: "تَشابه الأطراف". كالتناسب والتلاؤم بين الشمس والقمر، والظلّ والشجر، والزَّهْرِ والثَّمَر، والإِبلِ والبقر، والْقَوْسِ والْوَتَر، واللَّيْلِ والسَّمَر، والْوَعِلِ والجَبَلِ، والنَّعْجةِ والْحَمَلِ، والهوَى والشباب، والظّمأ والسَّراب، والعلم والكتاب، والضَّرْبِ والعذاب، إلى نحو ذلك ممّا لا يُحصْى. وعكس مراعاة النظير الجمْعُ بين غير المتناسبات المتلائمات، كالسّجْن والتّجارة، والنسيم العليل ولدْغ العقرب، والخشوع في الصّلاة والنّميمة، واللّعب مع الصبيان ومقابلة السلطان، وعَلْكِ اللُّبَان ومواساةِ الثَّكْلَى، إلى غير ذلك مما لا تناسب فيه ولا تَلاؤم، فهذا منافٍ لما تتطلّبُهُ هذه البديعة من البدائع المعنوية. أمثلة: المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الرَّحمن/ 55 مصحف/ 97 نزول) : {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ * والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الآيات: 5 - 6] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 النَّجْمُ: النباتُ الذي لا ساق له. والشَّجَر: النبات الذي له ساق. وفي هذه السورة أمثلة متعدّدة من أمثلة مراعاة النظير. وفي القرآن المجيد أمثلة كثيرة من هذه البديعة المعنوية. المثال الثاني: قول "البحتري" وهو أبو عبادة الوليدُ بن عُبَيْد الطائي، يَصِفُ الإِبل التي يهاجر على ظهورها من بلادٍ تنكّرَتْ له، بالهزال الشديد: يَتَرقْرَقْنَ كَالسَّرَابِ وقَدْ خُضْـ ... ـنَ غِمَاراً مِنَ السَّرَاب الْجَارِي كالْقِسِيّ الْمُعَطَّفَاتِ بَلِ الأَسْـ ... ـهُمِ مَبْرِيَّةً بَلِ الأَوْتَارِ فجمع في تَشبيهاته أشياء بينها تناسبٌ وتلاؤم، إذ "الْقِسِيّ" جمع "قوس" ويجمع على "أقواس" تناسب "الأسهم" وتُنَاسِبُ "الأوتار" لأنّها كلّها في آلة واحدة. المثال الثالث: قول ابن رشيق: أَصَحُّ وَأَقْوَى مَا سَمِعْنَاهُ فِي النَّدَى ... مِنَ الْخَبَرِ الْمَأْثُورِ مُنْذُ قَدِيمِ أَحَادِيثُ تَرْوِيهَا السُّيُولُ عَنِ الْحَيَا ... عَنِ الْبَحْرِ عَنْ جُودِ الأَمِيرِ تَمِيمِ نجد في هذَيْنِ البيتين التلاؤم والتناسب فيما يلي: * بين الصحة والقوة. * وبين السماع والخبر المأثور. * وبين السيول، والْحَيَا (أي: المطر) والْبَحْرِ، والجود أيضاً لأنّه يلائم المطر والبحر في تشبيهات الشعراء. تشابُهُ الأطراف: ومن أمثلة تشابه الأطراف قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) في وصف ذاته جلّ وعلا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار وَهُوَ اللطيف الخبير} [الآية: 103] . فقوله تعالى: {وَهُوَ اللطيف الخبير} الذي هو ختام الآية يُلاَئِمُ ما جاء قبله، إذْ كلمة "اللّطِيف" تُلائم وصْفَهُ تعالى بأنّه لا تُدْركُه الأبصار، وكلمة "الخبير تُلائم وصفه بأنّه يُدْرِك الأبصار جميعها. وألْحَقَ البلاغيون بمراعاة النظير ما فيه إيهام التناسب، كأن يكون اللّفظ مشتركاً بين معنيين: أَحَدُهُما يُنَاسب ما جاء في الكلام من معاني إلاَّ أنّه غير مراد، والآخر لا يناسِبُ وهو المراد. وضربوا مثلاً لما فيه إيهام التناسب قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الرحمن/ 55 مصحف/ 97 نزول) : {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ * والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الآيات: 5 - 6] . إنّ كلمة "النجم" تأتي بمعنى الأَجْرَام المضيئة في السماء، وهذا المعنى يُلائم ويُنَاسب كلمتي الشمس والقمر، فهما جرمان أحدهما مُضِيء، والآخر مُنير، لكن هذا المعنى للنجم غير مراد النَّصّ، فكان استخدامه من إيهام التناسب، إذْ كان يمكن استخدام كلمة أخرى تؤدّي المعنى المراد دون أن يكون فيها إيهام التناسب، ككلمة "النبت". وتأتي كلمة "النَّجْم" بمعنى النبات الذي لا ساق له، يقال لغة: نَجَمَ الشيءُ والنباتُ نجماً ونجوماً إذا طلَع وظهر، وهذا المعنى يناسب معنى كلمة الشجر. فناسبت كلمة "النجم" بمعناها غير المراد ما سبقها، وهما الشمس والقمر، وناسبت بمعناها المراد ما جاء بعدها وهو الشجر، وهذا فنٌ بديع، تنبّه له البلاغيُّون فألحقوه بمراعاة النظير على اعتبار أنّ فيه إيهامَ التناسب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 البديعة المعنوية (4) : الإِرصاد الإِرصاد وقد تُسَمَّى: التسهيم الإِرصاد في اللّغة: التهيئة والإِعداد، يقال لغة: أرْصَدَ الشيءَ للشيء إذا أعَدَّه له، ومنه: أرْصَدْتُ الجيش للقتال، والفرسَ للطِّراد. والإِرصادُ في الاصطلاح: أن يُجْعَل قَبْل آخر العبارة الّتي لها حرْفُ رَوِيّ معروف (وهو آخر حرف يُبْنَى عليه نسَقُ الكلام) ما يَدُلُّ على هذا الآخر. فقد يأتي به السامع قبل أن يَنْطِقَ به المتكلِمّ. وقالوا في الإِرصاد: إنّه من محمود الصنعة فإنّ خير الكلام مَا دلّ بعضه على بعض. وأطْلَقَ عليه بَعْضُهُم عنوان "التّسْهِيم" وهو مأخوذ من وضع صورة السّهم، للإِشارة به إلى المكان المقصود، أو المعنى المقصود، ومعلومٌ أنّ إعداد ما يلزم في أول الكلام لمعرفة ما سيأتي في آخره هو بمثابة وضع صورة السّهم الّتي يُشَارُ بها إلى المقصود. أمثلة: المثال الأول: قول اله عزَّ وجلَّ في سورة (سبأ/ 34 مصحف/ 58 نزول) : {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور} [الآية: 17] . إنّ مقدّمة هذه الآية يَدُلُّ المتلَقِّي على الكلمة الأخيرة منها، فمنْ سمع: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نجازيا} قال دون تفكير طويل: {إِلاَّ الكفور} إذا كان قد سمع آخر الآية قبلها وهو قوله تعالى: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبُّ غَفُورٌ} [الآية: 15] . المثال الثاني: قول عمرو بن مَعْد يكَرب: إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شيئاً فَدَعْهُ ... وجَاوِزْهُ إلَى مَا تَسْتَطِيعُ فكلمة "تَسْتطيعُ" يأتي بها السّامع قبل أن ينطق بها المتكلّم، لأنّ أوّل الكلام موطِّئٌ وممهّد لها، وفيه ما يشير إليها كإشارة السَّهمِ إلى الجهة المقصودَة. المثالث الثالث: قول زهير بن أبي سُلْمى: سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الْحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشْ ... ثَمَانِينَ حَوْلاً لاَ أَبَا لَكَ يَسْأَمِ فكلمة "يسأم" يأتي بها السامع قبل أن ينطق بها المتكلّم، لأنّ أوّل الكلام موطّئٌ لها. المثال الرابع: قول البحتري "الوليد بن عُبَيد": أَبِْكِيكُمَا دَمْعاً وَلَوْ أَنِّي عَلَى ... قَدْرِ الْجَوَى أَبْكِي بَكَيْتُكُمَا دَمَا الْجَوَى: شِدَّةُ الْوَجْدِ مِنْ عِشْقٍ أَوْ حزن. فلو وقف المتكلّم عند "بَكيْتُكُمَا" لقال السامع "دَمَا". المثال الخامس: قول البحتري أيضاً: أَحَلَّتْ دَمِي مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ وحَرَّمَتْ ... بِلاَ سَبَبٍ يَوْمَ اللِّقَاءِ كَلاَمِي فَلَيْسَ الَّذي حَلَّلْتِهِ بِمُحَلَّل ... وَلَيْسَ الَّذِي حَرَّمْتِهِ بِحَرَامِ فلو وقف المتكلّم عند "حَلَّلْتِهِ" لقال السامع "بِمُحَلَّلٍ". ولو وقف عند "حَرَّمْتِهِ" لقال السامع "بِحَرَامِ". لأنّ السّوابق تدُلُّ على كلمة الختام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 البديعة المعنوية (5) : حُسْنُ التعليل حُسْنُ التعليل: أنْ يَدَّعِيَ المتكلِّم مُزَخْرِفاً كلامَه عِلَّةً لِوَصْفٍ ما ثَابِتٍ أو غير ثابتٍ، وهذه العلَّة التي يدّعيها مناسبةٌ للوصْفِ باعتبار لطيفٍ غير حقيقيّ، والعلَّةُ الحقيقيَّةُ خلاف ما ادَّعَى، وقد يكون ذكْرُ الوَصْفِ على سبيل الادّعاء الذي لا حقيقة له أيضاً. فالوصف المذكور: إمّا أن يكون ثابتاً أو غير ثابت، والثابت إمّا أن تكون له علّة ظاهرة غير ما يدّعي المتكلِّم، وإمَّا أن لا تكون له علَّة ظاهرة. فَحُسْنُ التعليل يكون بأن يستبْعِدَ الأديب صراحةً أو ضمناً علَّة الشيء المعروفة، ويأتي بعلَّةٍ أدبيّةٍ طريفةٍ مُسْتَملَحة تناسب الغرض الذي يقصد إليه. أمثلة: المثال الأول: قول المتنبي يمدح "هارون بن عبد العزيز": لَمْ تَحْكِ نَائِلَكَ السَّحَابُ وإِنَّما ... حُمَّتْ بِهِ فَصَبِيبُهَا الرُّحَضَاءُ أي: لم تُرِد السُّحبُ أنْ تَتَشبَّه بعطائك المتتابع، وإنّما هو عَرَقُ الحمَّى الّتي نزلت بها حَسَدِها من جودك، وعلَّةُ السُّحبِ إذ تمطر معروفة. الصَّبيبُ: ما ينصبُّ من ماءٍ وغيره. الرُّخَضَاءُ: الْعَرَقُ الكثير، والْعَرَقُ إثْرَ الْحُمَّى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 ادّعى المتنبي أنّ السّحاب قد أمطرت بسبب ما أصابها من الْحُمَّى التي نزلت بها إذْ حَسَدَت جود ممدوحه. ونفى تعليلاً آخر كان يُمْكِن أن يُعَلِّلَ به، وهو أيضاً تَعْليلٌ ادِّعائي لا حقيقة له، وهو أنَّها أرادت أن تُحَاكِي وتُقَلِّد ممدوحه في الجود. المثال الثاني: قول أبي تمّام: لاَ تُنْكِرِي عَطَلَ الكرِيمِ مِنَ الغِنَى ... فَالسَّيلُ حَرْبٌ لِلْمَكَانِ الْعَالِي عَطَلَ الكريم مِنَ الغِنَى: أي: خُلوّ الكريم من الغنى، يقال: عَطِلَ يَعْطَلُ عَطَلاً، إذَا خلا. فعَلَّلَ فَقْرَ الكريم بعلَّةٍ ادَّعاها زُخْرُفيّاً في الكلام دون مستنَدٍ من الحقيقة. هو أنَّ ذا المكانة الرفيعة لا يكون غنيّاً، قياساً على أنَّ السَّيل لاَ يَصِلُ إلى المكان العالي، وعبَّر عن ذلك بأنَّه حَرْبٌ له. المثال الثالث: قول المتنبي من قصيدة يمدح بها بَدْرَ بن عمّار: مَا بِهِ قَتْلُ أَعَادِيهِ وَلَكِنْ ... يَتَّقِي إِخْلاَفَ مَا تَرْجُوا الذِّئَابُ أي: ما به رغبةٌ في قتل أعاديه حقداً عليهم وتخلُّصاً مِنْهُم، لكنَّه رجُلٌ جواد اتَّسع جودُه حتَّى صارت الوحوش ترجو عطاءه، فالذئابُ ترجو أنْ يَقْتُلَ لها الناسَ لتَنْعَم بلحوم الْقَتْلَى. لقد بالَغَ، فتخيَّلَ، فادَّعَى هذِه الدَّعْوى الزُّخْرُفيّة الباطلة، لَكنَّهَا تشتَمِلُ عَلَى فكرةٍ جميلةٍ لا يلتقطها إلاَّ ذو فطنة. المثال الرابع: قول مسلم بن الوليد: يَا وَاشياً حَسُنَتْ فِينَا إِسَاءَتُهُ ... نَجَّى حِذَارُكَ إنْسَانِي مِنَ الْغَرَقِ الأصلُ في الوشاية أنَّها تَسُوءُ الْمَوشِيَّ بِه، لكنَّ الشاعر رأى أنّ وشاية من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 وشى به كانت في نفسه أمراً حسناً، وعلَّلَ ذلِكَ بأنَّها دَفعَتْهُ إلى أن يَحْذَرَ الواشِيَ. وهذا الحَذَر جَعَلَه يتّقِي مَكْرَهُ وكَيْده، فَحَمَى بِذلِكَ إنسانَ عَيْنِه مِن الغَرَقِ في الدَّمْع، الذي تُسبِّبُه غَفْلَتُه وعَدَمُ حَذَرِه من مَكْرِهِ وَكَيْدِهِ لو أنَّه لم يطَّلع على وِشاياته، ويَعْرِفْ عداوته له. المثال الخامس: قول الشاعر مادحاً (وهو مُتَرْجَمٌ عن الفارسيّة) : لَوْ لَمْ تَكُنْ نِيَّةُ الْجَوْزَاءِ خِدْمَتَهُ ... لَمَا رَأَيْتَ عَلَيْها عِقْدَ مُنْتَطِقِ ادّعاءٌ زُخْرُفيٌّ لا أصل له، وهو غير ممكن في الواقع، لكنّه ظريفٌ مُسْتَمْلَح، فالشاعر يدّعي أنّ الجوزاء قد نوَتْ خِدْمَتَه فانتطَقَتُ بنطاق الخِدْمَة. الانتطاق: شدُّ الوسَطِ بالمِنْطَقَة. المِنْطَقَةُ والمِنْطَقُ: ما يُشَدُّ به الوسط. الجوزاء: "بُرْجٌ من بروج السّماء" يوجد حولها كواكب تُشْبهُ المنطقة، شَبَّهها الشاعر بالْعِقْدِ المنظوم من الّلؤلؤ. المثال السادس: قول "ابْنِ نُبَاتَة" في صفة فرس أدهم مُحَجَّل القوائم ذي غُرَة: وأَدْهَمَ يَسْتَمِدُّ اللَّيْلُ مِنْهُ ... وتَطْلُعُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ الثُّرَيَّا سَرَى خَلْفَ الصَّباحِ يَطِيرُ مَشْياً ... ويَطْوِي خَلْفَهُ الأَفْلاَكَ طَيّاً فَلَمَّا خَافَ وَشْكَ الفَوْتِ مِنْهُ ... تَشَبَّثَ بِالْقَوَائِمِ والْمُحَيَّا علّل ابن نباته بياض قوائم الفرس وبياض مُحَيَّاهُ (= وجهه) بأَنَّ الصّباح خافَ أن يفوتَه الفرس بسبب سُرعة جريه فتشبَّثَ بقوائمه ووجهه، فظهر بياض الصباح عليها، أي: يدخل في وقت الصباح بعبور سريع ويخرج منه دون أن يُرَى بياض الصباح عليه. كلُّ هذا التعليل تعليلٌ زخرفيٌّ لا نصيب له من الحقيقة، وهو مبنيٌّ على تخيُّلٍ أسَاسُه تشبيهُ بياضِ قوائِم الفرس وبياضِ وجْهِه ببياض الصَّباح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 المثال السابع: قول أبي تمّام: رُبىً شَفَعَتْ رِيحُ الصَّبَا لِرِيَاضها ... إلَى المُزْنِ حَتَّى جَادَها وَهُوَ هَامِعُ كَأَنَّ السَّحَابَ الْغُرَّ غَيَّبْنَ تحْتَهَا ... حَبيباً فَمَا تَرْقا لَهُنَّ مَدَامِعُ الْغُرّ: جمع "الأغرّ" وهو الأبيض. فما ترقا: أي: فما ترقأُ بمعنى، فما تسْكُنُ وما تجفّ. فبنى التعليل على توجيه الشكّ الاحتمالي، بأنّ بكاء السحاب يحتمل أن يكون على ما دفنت من حبيبٍ تحتها. المثال الثامن: قول المعرّي في الرّثاء: وَمَا كُلْفَةُ البَدْرِ المُنيرِ قَديمةً ... ولَكِنَّهَا فِي وَجْهِهِ أَثَرُ اللَّطْمِ الْكُلْفَة: ما عَلَى وَجْهِ القَمَر من كَلَف. اللّطْمُ: ضربُ الخدّ بباطن الكفّ، ومن عادته الحزينة أن تلطم خدّيها. يدّعي أبو العلاء أنّ الحزن على من يرثيه قد انتقل من الأحياء إلى الأشياء، حتّى إنّ الكلّف الذي يُرَى على وجه البدر هو من أثَرِ اللَّطْم حُزْناً عليه، ويستبْعِد السبب الطبيعي على الرغم من دوامه. المثال التاسع: قول ابن الرومي في المدح: أمَّا ذُكَاءُ فَلَمْ تَصْفَرَّ إذْ جَنَحَتْ ... طَبْعاً وَلَكِنْ تَعَدَّاكُمْ مِنَ الخَجَلِ ذُكَاءُ: اسم من أسماء الشمس. إذ جَنحت: أي إذْ جنحت للمغيب. تعَدَّاكم: أي: تتَعَدّاكم بمعنى تتجاوزكم يخاطب ممدوحه. فهو يدّعي أن اصفرار الشمس عند المغيب قد حصل بسبب أنها خجلت من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 ممدوحه، فهي تتجاوزه خَجْلَى منه، ويستبعد السبب الطبيعي مع دوامه كلَّ مساء عند المغيب. المثال العاشر: قول أحد الشعراء: سَبَقَتْ إلَيْكَ مِنَ الْحَدَائِقِ وَرْدَةٌ ... وأتَتْكَ قَبْلَ أَوَانِها تَطْفِيلاً طَمِعَتْ بِلَثْمِكَ إِِذْ رَأَتْكَ فَجَمَّعَتْ ... فَمَهَا إِلَيْكَ كَطَالِبٍ تَقْبِيلاً تَطْفِيلاً: التَّطْفيل والتَّطَفُّل حضور الولائم دون دعوة إليها. فهو يدّعي أن زِرّ الورد الذي لم يكتمل تفتُّحه قد جَمَّعَ فَمَه طالباً التقبيل. المثال الحادي عشر: قوليٍ: رَأَوْ بِيَدِي عُكَّازَةً ذات عَطْفَةٍ ... وظَهْرِي كظَهْرِ الْقَوْسِ يَهْوِي ويَنْحَنِي فَقُلْتُ: لَقَدْ كانَتْ عَصاً مُسْتَقِيمَةً ... فَجَمَّعْتُ عَزْمِي وانْحَنَيْتُ لِتَنْثَنِي *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 البديعة المعنوية (6) : تأكيد الفكرة بما يشبه تقرير ضدّها تَأْكيد الْفِكْرة بما يُشْبِهُ تقرير ضدّها وهي المُسَمّاة: تأكيد المدح بما يشبه الذّم وعكسه والعنوان الذي وضعته أولى تأكيد الفكرة بما يشبه تقرير ضدّها: هي أن يأتي المتكلّم بكلام يتضمَّنُ مَدْحاً، أو ذمّاً، إو إثباتَ صفةٍ أو حَدَثٍ، أو نَفْيَ صِفَةٍ، أو حدث، ويُتْبعَهُ بكلاَمٍ يَبْدَؤُه بما يُشْعِرُ باستثناءٍ أو استدراكٍ على كلامه السابق فإذا به يأتي بما يتضَمَّنُ تأكيد كلامه السابق. وهذا فنٌّ بديع في الكلام له حركة في النفس تَشْبِهُ الْجَزْرَ فالمدَّ السّريع الأقوى من الْجَزْرَ. أمثلة: المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الواقعة/ 56 مصحف/ 46 نزول) بشأن الجنة وما فيها من نعيم لأهلها: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً} [الآيات: 25 - 26] . إنّ الاستثناء بعبارة {إِلاَّ قِيلاً} يُشْعِرُ بأنّ نفي اللَّغو والتأثيم السابق سيأتي إثباتُ بعضِ ما هو ضدّه، فإذا بالمستثنى يوكِّد الفكرة السابقة، وهي أنّهم لا يَسمَعُونَ فيها لَغْواً ولاَ تأثِيماً، لأنَّ عبارات السلام التي يسْمَعُها أهْلُ الجنّة ليست من اللّغو ولا من التأثيم، الّذي هو الشتيمة بارتكاب الإِثم، بل هي تكريم ودعاء وتحيَّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (طه/ 20 مصحف/ 45 نزول) خطاباً لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {طه * مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يخشى} [الآيات: 1 - 3] . جملة: {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى} أي: ما أنزلْنَا عَلَيْك القرآن لتُتْعِبَ قلْبَكَ ونفْسَك بتَحَمُّل أعباء تحويل الناس من الكفر إلى الإِيمان، بل لتبلّغهم وتذكّرهم، وتريح قلبك ونَفْسَك بأنَّك أدّيْتَ واجبك. وجاءت بعدها كلمة [إلاَّ] تشعر بأنّه سَيَليها مستثنىً يُحمِّلُه تكليفاً فيه بعض شقاءٍ له، فإذا بالمستثنى يتضمّن تأكيد الفكرة التي جاءت في الجملة السابقة لأداة الاستثناء. المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (القيامة/ 75 مصحف/ 31 نزول) بشأن الكافر المَسُوق إلى عذاب ربّه: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى * ولاكن كَذَّبَ وتولى} [الآيات: 31 - 32] . قد تُشْعر كلمة [لَكِنْ] في الوهلة الأولى بأنّه فعل شيئاً من الخير استدراكاً على كونه كذّب بالرسول ولم يُصَلِّ للَّهِ عزَّ وجلَّ، فإذا بالمستَدْرَكِ به يتضَمَّن تأكيد ما جاء قبلَه، فقد كذّب الرّسول وكذّب بما جاء به، وتولَّى مُدْبراً فلم يُصَلِّ ولم يَعْبُدْ ربَّه بعبادةٍ ما. المثال الرابع: قول النابعة الذّبياني: وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ من قرَاعِ الْكَتَائِبِ فُلُول: جَمْعُ "فَلّ" وهو ثَلْمٌ يُصِيبُ حدّ السّيف من الضرب الشَّدِيدِ به. مِنْ قراع الكتائب: القِرَاع: التقاتل ضرباً بالسّيوف والرماح، والكتائب: الجيوش المحاربة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 إنّ تثلُّم سيوفهم من قراع الكتائب يتضمّن مدحاً لهم بالشجاعة والإِقدام، فهو ليس من العيوب، بل هو من المناقب، فَذِكره على أنّه هو العيب الوحيد لهم يؤكّد الثناء عليهم أبلغ تأكيد. المثال الخامس: قول "بديع الزمان الهمذاني" يمدح "خلف بن أحمد السجستاني": هُوَ الْبَدْرُ إلاَ أنَّهُ البَحْرُ زاخِراً ... سِوَى أنَّه الضِّرْغامُ لكنَّهُ الوَبْلُ زاخراً: ممتلئاً طامياً. الضرغام: الأسد. الوَبْل: المطر الشديد. فقد أكدّ المدح بأسلوب يُوهِمُ عند البدء به أنّه يريد أن يذكر له عيباً بعد أن شبّهه بالبدر. المثال السادس: قول النابغة الجعدي في المديح: فَتَى كَمُلَتْ أَخْلاقُهُ غيْرَ أَنَّهُ ... جَوَادٌ فَمَا يُبْقي مِنَ المَالِ بَاقِيَا المثال السابع: قول ابن الرومي في المديح: لَيسَ بِهِ عَيْبٌ سِوَى أنّه ... لا تَقَعُ الْعَيْنُ عَلَى مِثْلِهِ المثال الثامن: رُوي عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنّه قال: "أَنَا أفْصَحُ الّعَرَب، بَيْدَ أنِّي من قُرَيشٍ". فكونُه من قريش يؤكّد أنّه صلوات الله عليه أفصح العرب. المثال التاسع: قول المعرّي: تُعَدُّ ذُنُوبي عِنْدَ قَوْمٍ كَثِيرةً ... وَلاَ ذَنْبَ لِي إلاَّ العُلاَ والفَضَائِلُ المثال العاشر: قول صفي الدّين الحلّي: لاَ عَيْبَ فِيهِمْ سِوَى أنَّ النَّزِيلَ بِهِمْ ... يَسْلُو عَنْ الأَهْلِ والأَوْطَانِ والْحَشَمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 حَشَمُ الرَّجُل: خاصَّتُه الّذين يغضبون لغضبه ويرضون لرضاه ويدخل فيهم الأهل والعبيد والْجِيرَة. المثال الحادي عشر: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 13 نزول) بشأن المنافقين: { ... وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ... } [الآية: 74] . من شأن الإِغناء أن يكون سبب حُبّهم والباعث على طاعتهم، لا أن يكون سبب نقمتهم، فجاء ما بعد الاستثناء مؤكِّداً عدَمَ وجود سبب لنقمتهم. المثال الثاني عشر: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الحج/ 22 مصحف/ 103 نزول) : {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله ... } [الآيات: 29 - 30] . جاءَ ما بَعْدَ الاستثناء مؤكّداً أَنَّهم أُخْرِجوا من ديارِهِم بغَيْرِ حَقٍّ، لأنّ قولَهُم: {رَبُّنَا الله} لا يُعطي الكافرين أيَّ حَقٍّ في إِخراجِهم من دِيارِهم. المثال الثالث عشر: جاء في مادة (نمل) من لسان العرب، قول الشاعر: وَلاَ عَيْبَ فينَا غَيْرُ نَسْلٍ لِمَعْشَرٍ ... كِرَامٍ وأَنَّا لاَ نَخُطُّ عَلَى النَّمْلِ أي: لسنا بمجوس ننكح الأخوات، قال أبو العبّاس: وأنشدنا ابْنُ الأعرابي هذا البيت، وفسَّره: أنَّا كِرامٌ ولاَ نَأْتِي بُيُوتَ النَّمْلِ في الجدْب لِنَحْفِرَ على مَا جَمَعَ لنأكُلَه. المثال الرابع عشر: قول الشاعر في مدح بني أُمَيَّة: مَا نَقَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلاَّ ... أنَّهُمْ يَحْلُمُونَ إِنْ غَضِبُوا وَأَنَّهُمْ سَادَةُ الْمُلُوكِ وَلاَ ... يَصْلُحُ إلاَّ عَلَيْهِمُ الْعَرَبُ *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 البديعة المعنوية (7) : تجاهل العارف تجاهُل العارف: سَوْقُ الْمَعْلُوم مسَاقَ المجهولِ لنكتة تُقْصد لدى البلغاء. والدواعي لتجاهل العارف كثيرة، منها ما يلي: (1) التوبيخ: ومنه قول الخارجيّة "ليلى بنت طريف" ترثي أخاها الوليد: أَيَا شَجَرَ الْخَابُورِ مَالَكَ مُورِقاً؟ ... كَأَنَّكَ لَمْ تَجْزَعْ عَلَى ابْنِ طَرِيفِ فَتَىً لاَ يُريدُ الْعزَّ إلاَّ مِنَ التُّقَى ... وَلاَ الرِّزْقَ إلاَّ مِنْ قَناً وسُيُوفِ الخابور: اسمُ نَهْرٍ في ديار بني بكر. (2) المبالغة في المدح أو في الذمّ: * فمن المبالغة في المدح قول البحتري: أَلَمْعُ بَرْقٍ سَرَى أَمْ ضَوْءُ مِصْبَاحِ؟ ... أَمِ ابْتِسَامَتُهَا بِالْمَنْظَرِ الضَّاحِي الضّاحِي: الظاهر البارز للشمس. * ومن المبالغة في الذّمّ قول زهير: وَمَا أَدْرِي وسَوْفُ إِخَالُ أَدْرِي ... أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ؟! أي: أرجالٌ أَمْ نِسَاء؟!. (3) التَّدَلُّهُ في الْحُبّ: ومنه قول الحسين بن عبد الله الغريبي: بِاللَّهِ يَا ظَبَيَاتِ الْقَاعِ قُلْنَ لَنَا ... لَيْلاَيَ مِنْكُنَّ أَمْ لَيْلَى مِنَ الْبَشَرِ؟ القاع: أرضٌ مستويةٌ مطمئنّة عمّا يحيطُ به من الجبال والآكام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 وقوله ذي الرِّمّة: أيَا ظَبْيَةَ الْوَعْسَاءِ بَيْنَ جُلاَجِلٍ ... وبَيْنَ النَّقَا آأَنْتِ أَمْ أُمُّ سَالِم؟ الوعْسَاء: الأرض اللّينة ذات الرمل. (4) الإِيناس: ومنه قول الله عزَّ وجلَّ لموسى، كما جاء في سورة (طه/ 20 مصحف/ 45 نزول) : {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} [الآية: 17] . إلى غير ذلك من دواعي. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 البديعة المعنوية (8) : الهزل الذي يرادُ به الجدّ يتلطّف الأذكياء فيعبّرون عمّا هُمْ جادّون فيه بعبارات مُزاحٍ وهزلٍ خشية إثارة من يقصدونه بالخطاب، وليتأَتَّى لهم التنصُّل ممّا قالوا، بأنّهم يمزحون أو يَهْزِلُون، وأنّهم غير جادّين. وتقولُ العامّة في عباراتها الدارجة: بالضّحِكِ والْمُزَاح تشتفي الأرْواح. وهو فنُّ واسِعٌ جدّاً يعْتَمِدُ علْيْهِ التمثيلُ الهزليُّ، الّذي يتضمَّن ألواناً كثيرة من النّقدِ التوجيهيّ البنّاء لأفرادٍ أو مجتمعات، والنَّقْدِ اللاّذع الجارحِ أحياناً. وقد يُقْصَدُ به التذكير بواجب، أو التّنبيه على أمْرٍ، أو تَعْلِيمُ مُتَرَفّعٍ عن أن يجلس مجلس المتعلّم. أو حثٌّ وحضٌّ على فعل خير. وقد يُقْصد به المدح أو الذّمّ، إلى غير ذلك من مقاصد. ومن أمثلة هذا الفنّ في الأدب قول "أبي نُوَاس": إِذَا مَا تَمِيمِيٌّ أَتَاكَ مُفَاخِراً ... فَقُلْ: عَدِّ عَنْ ذا. كَيْفَ أَكْلُكَ للضَّبّ؟ إنّه يَعْرف كيف يأكُل التميميّون الضّبّ، لكنّه تساءل هازلاً، وغرضه تقريع بني تميم بأنّهم يأكلون الضبّ، وأشراف الناس لا يأكلونه، فليس من حق التميمي أن يفاخر. وقول "ابن نُباتة": سَلَبَتْ مَحَاسِنُكَ الْغَزَالَ صِفَاتِهِ ... حتَّى تَحَيَّرَ كُلُّ ظَبْي فِيكَا لَكَ جِيدُهُ ولِحَاظُهُ وَنِفَارُهُ ... وَكَذَا نَظِيرُ قُرُونِهِ لأَبيكَا فأورد الشطرة الأخيرة مورد الهزل وهو جادٌّ ضِمْناً. إذْ يَذُمُّ أبَاهُ بعدم مراقبة ابنه وحمايته من الْفُسَّاق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 البديعة المعنوية (9) : القول الدّال على المعنى وضدّه ويعبَّر عنه بالتوجيه - وبالإِيهام القول الدّالّ على المعنى وضدّه ويعبّر عنه بالتوجيه - وبالإِيهام والعنوان الذي اخترتُه أولى قد يقصد الأديب إيراد كلام يَصْلُح للمدح وللهجاء معاً، أو الإِيمان والكفر، أو الإِقرار والإِنكار، أو غير ذلك من المعاني المتضادّة، ليتأنَّى له ادّعاء إرادة أحد المعنيَيْن دون الآخر عند الحاجة. وذكر البلاغيّون أنّ السّابق إلى استخدام هذا الفنّ في الأدب "بشّارُ بن بُرْد" وأنّه كان كثير العبث به، ومن أخباره فيه أنّه أراد أن يخيط قباءً عند خيّاط قيل: اسمه "عَمْرو" وقيل: اسمه "زيد" فقال له الخيّاط ممازحاً سأخيط لك هذا الثوب فلا تدري أهو جُبَّة أَمْ قباء. فقال له بشار: إذاً أنظم فيك شعراً لا يعلم من سمعه أدعوت به لك أم دعوتُ به عليك، وكان الخيّاط أعْوَر، فلمّا فعل الخياط ما وَعَد به، قال فيه بشار: خَاطَ لِي "زَيْدٌ" قَبَاءْ ... لَيْتَ عَيْنَيْهِ سَوَاءْ قُلْ لمن يَعْرِفُ هَذَا ... أَمَدِيحٌ أَمْ هِجَاءْ ورُوي أنّ "محمد بن حزم" هنَّأَ الحسن بن سَهْلٍ بتزويج ابنته "بوران" للخليفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 المأمون مع من هنَّأه، فأثاب المهنِئين، ومنع ابن حزم، فكتب إليه: إنْ أنت تماديت في حرماني قُلتُ فيك شعراً لاَ يُعْرَفُ أمَدْحٌ هو أَمْ ذمّ؟. فاستحضره وقال له: لا أعطيك أو تفعل، فقال ابن حزم: بَارَكَ اللَّهُ للْحَسَنْ ... ولِبُورَانِ فِي الْخَتَنْ يا إمَام الْهُدَى ظفرْ ... تَ ولكِنْ ببنْتِ مَنْ؟ استفهام يحتمل أن تكون ابنة شريف أو وضيع، فاستحسنه "الحسن" وقال له: أمن مبتكراتك؟ قال: لا، بل نقلته من بشار بن برد. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 البديعة المعنوية (10) : الاستخدام الاستخدام: أن يُؤتَى بلفظ له معنيان فيرادَ به أوّلاً أحدهما، ويُعَادَ الضمير عليه أو يُشَارَ إليه باسم إشارة مراداً به المعنى الآخر، أو يُرادَ بأحد ضميريه أحَدُ معنَيَيْه وَيُراد بالآخر الآخَرُ منهما، سواءٌ أكان المعنيان حقيقيَّيْن، أم مجازيّيْن، أم مختلفَيْن. وهذا فنّ بديع يدعو إليه الإِيجاز من جهة، وتَقْدِيرُ ذَكَاء المتلَقِّي وإرضاؤُه من جهة أخرى. أمثلة: المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ... } [الآية: 185] . قالوا: {فمن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} أي: ثَبَتَتْ لديه رؤية هلال الشهر، {فَلْيَصُمْهُ} أي: فلْيَصُمْ في أيّامه، فأعيد الضمير على الشهر بمعنى الزّمَنِ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس في كلّ يومٍ من أيّامه. أُطْلِقَ لفظ الشهر على معنى ثبوت دخوله بظهور هلاله، وأعيد الضمير عليه بمعنى الأزمان المخصوصة. المثال الثاني: قول "جرير أو هو قول "معوّذ الحكماء": الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بأَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَاباً قصد بلفظ السماء أوّلاً المطر الّذي ينزل من الماء، وأعاد الضمير عليه مريداً به النبات الذي يَنْبُت في الأرض بسبب ارْتواء الأرض بالمطر. المثال الثالث: قول البحتري من قصيدة يمدح بها "ابْنَ نَيْبَخْت" كما في ديوانه: فَسَقَى الْغَضَا والنَّازِلِيهِ وإِنْ هُمُ ... شَبُّوهُ بَيْنَ جَوانِحٍ وقُلُوبِ لفظ "الْغَضَا" أراد به أوّلاً المكان، وأعاد الضمير عليه بعبارة: "والنّازِلِيه" على هذا المعنى، وأعاد الضمير عليه بعد ذلك على معنى شجر الغضا وحَطَبه الصّلب ذي النار الحارّة إذا اشتعل، فقال: "شَبُّوهُ" أي: أو قَدُوه. المثال الرابع: قول "ابن معتوق الموسوي" "1025هـ". تَاللَّهِ مَا ذُكِرَ الْعَقِيقُ وَأَهْلُهُ ... إِلاَّ وَأَجْراهُ الْغَرَامُ بِمِحْجَرِي أراد بلفظ "العقيق" أوّلاً الوادي الذي بظاهر المدينة المنورة، وأعاد الضمير عليه بمعنى "الدَّم" الذي يشبه حجر العقيق الأحمر. المثال الخامس: قولي صانعاً مثلاً للاستخدام، أُوَجِّهُه لأبي رحمة الله عليه: شَهْمٌ كَرِيمُ السَّجَايَا فَارِسٌ بَطَلٌ ... يَحْتَلُّ مِنْ ذُرُوَات الْمَجْدِ أَعْلاَهَا لَمْ أَلْقَهُ دُونَ أَنْ أَلْقَى نَوَائِلَهُ ... كَرَوْضَةٍ تَمْنَحُ الْعَافِينَ أَزْكَاهَا كَمْ صَافَحَتْ يَدُهُ عِنْدَ اللِّقَاءِ يَدِي ... ومُهْجَتِي بِجَزِيلِ الْحَمْدِ تَلْقَاهَا المقصود بعبارة "يَدُهُ" عُضْوُهُ من جسده، وأعيد الضمير عليها بعبارة "تَلْقَاها" على معنَى إنعامه وعطيّته، على سبيل استخدام اللفظ في حقيقته أوّلاً، وفي مجازه ثانياً. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 البديعة المعنوية (11) : ذكر المتعدّدات مع ذكر ما يتعلّق بكلّ واحد منها ذكر المتعدّدات مع ذكر ما يتعلّق بكل واحدٍ منها * إمّا لفّ ونشر.. * وإما تقسيم أمّا اللّفُّ والنّشر: فهو فَنٌّ في المتعدّدات التي يتعلّق بكلّ واحِدٍ منها أَمْرٌ لاحق، فاللّف يُشار به إلى المتعدّد الذي يؤتى به أوّلاً، والنشر يُشار به إلى المتعدّد اللاّحق الذي يتعلّق كلُّ واحد منه بواحد من السابق دون تعيين، أما ذكر المتعددات مع تعيين ما يتعلّق بكلّ واحد منها فهو التقسيم. فإذا أتى المتكلم بمتعدّدٍ، وبعده جاء بمتعدّد آخر يتعلّق كلّ فرد من أفراده بفرد من أفراد السابق بالتفصيل ودون تعيين سُمِّيَ صَنيعُه هذا "لفَّاً ونشراً". كأن نقول: "طلعت الشمس وبزع القمر نهاراً وليلاً" - عَمَّ السَّحَابُ والسَّيْلُ السّماءَ والواديَ" - "عاد الْفُرْسَانُ والْجُنْدُ والأَسْرَى مُقَيّدِين ورجالاً ورُكْبَاناً"، أي: فالْفرْسَانُ عادوا ركبانا، والجندْ عادوا مشاة، والأسْرَى جاءوا مقيّدين. والمتعدّد السابق له وجهان: إمّا أن يأتِي لَفُّهُ مُفَصّلاً، وإمّا أنْ يأْتِيَ لَفُّهُ مُجْمَلاً. اللّف المفصّل: إذا جاء لَفُّ المتعدّد السابق مفصّلاً، فالنشر اللاّحق له وجهان: الوجه الأول: أن يأتي النشر على وفق ترتيب اللَّف، ويُسَمَّى "اللّفَّ والنشر المرتَّبَ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 الوجه الثاني: أن يأتي النشر على غير ترتيب اللّف، ويُسمَّى "اللَّفَّ والنشر غير المرتّب" وقد يُعَبَّر عنه بعبارة "اللّف والنشر الْمُشَوّش". أولاً: فمن أمثلة اللّف والنشر المرتب ما يلي: المثال الأوّل: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (القصص/ 28 مصحف/ 49 نزول) : {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الآية: 73] . فقد جاء اللّفُّ بعبارة {جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار} إذْ جُمع اللَّيْلُ والنهار بحرف العطف. وجاء النشر وفق توزيع مرتب، فعبارة: {لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} تتعلّق باللّيل، وعبارة: {وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أي: كسْبَ أرزاقكم، تتعلّق بالنهار، مع الإِشارة بهذا الجمع إلى احتمال أن يسكن بعض الناس في النهار ويبتغي كسب رزقه من فضل الله في اللّيل، لكن هذا خلاف ما هو الأصلح للناس بمقتضى تكوينهم الفطري. المثال الثاني: قول ابنْ حَيُّوس: فِعْلُ الْمُدَامِ ولَوْنُهَا وَمَذَاقُهَا ... فِي مُقْلَتَيْهِ وَوَجْنَتَيْهِ وَرِيقِهِ الْمُدام: الخمر. فأورد النشر على ترتيب اللّف، إذْ فِعْلُ الْمُدام في مُقْلَتَيْه إسكار، ولونُها في وجنتيه حُمْرةٌ، ومذاقُها في رِيقِهِ لذّة. المثال الثالث: قولُ ابن الرومي: آرَاؤُكُمْ وَوُجُوهُكُمْ وسُيُوفُكُمْ ... في الْحَادِثَاتِ إِذْ دَجَوْنَ نُجُومُ فِيها مَعَالِمُ لِلْهُدَى. ومَصَابِحٌ ... تَجْلُو الدُّجَى والأُخْرَيَاتُ رُجُومُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 دَجَوْنَ: أي: أظْلَمْنَ. جاء اللّف في قوله: "آراؤُكم ووُجُوهكم وسُيُوفكم" وجاء النشر وفْقَ توزيع مرتب، فقوله: "فيها معالم للهدى" وصفٌ للآراء. وقولُهُ "ومَصَابِح تَجْلُو الدُّجَى" وصف للوجوه. وقوله: "والأخريات رُجُومُ" وصْفٌ للسُّيوف. المثال الرابع: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول) : {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} [الآية: 29] . الْمَحْسُور: المنهوكُ القوى، والّذي لم يَبْقَ معه مالٌ من كثرة الإِنفاق، يقال لُغةً: حَسَر القوم فلاناً، إذا سألوه فأعطاهم حتى لم يَبْقَ معه شيء. جاء اللَّفُّ المفصَّل هنا في النّهي عن البخل وعن التبذير بعبارة {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} . وجاء النشر مرتَّباً على وفق ترتيب اللّف، وذلِكَ لأنّ اللَّوْمَ يكون على البخل الذي جاء في العبارة أوّلاً، وإنْهاكَ الْقُوى وخُلُوَّ الْيَدِ من المال يكون بسبب التبذير. المثال الخامس: ما جاء في سورة (الكهف/ 18 مصحف/ 69 نزول) في قِصَّة موسى والخضر عليهما السلام، ففي عرض القصة جاء ترتيب عرض أحداثها بدءاً بحادثة خرق السفينة، فحادثة قتل الغلام، فحادثه إقامة الجدار. ولمّا أبان الخضر تأويلَ أعماله التي قام بها لموسى عليه السلام بدأ ببيان سبب خرقه السفينة، فبيان سبب قتله الغلام، فبيان سبب إقامته الجدار. ثانياً: ومن أمثلة اللّف والنشر غير المرتّب ما يلي: المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الضحى/ 93 مصحف/ 11 نزول) لرسوله محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى * وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى * وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فأغنى} [الآيات: 6 - 8] . هذه الجمل الثلاث تضمَّنَتْ أفكاراً ثلاثة مفصَّلة، فهي لفٌّ مُفَصَّل، وجاء بعدها نَشْرٌ غَيْر مُرَتَّب على وفق ما جاء في هذا اللّف: فجملة: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ} [الآية: 9] ملائمة للجملة الأولى ومتعلّقة بها. وجُمْلَةُ: {وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ} [الآية: 10] ملائمة للجملة الثالثة ومتعلّقة بها. وجُمْلَةُ: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الآية: 11] ملائمة للجملة الثانية ومتعلّقة بها، لأن معنى: {وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى} ووجَدَكَ جَاهِلاً فعَلَّمَكَ مَسَائل الدّين، وهي النّعمة الكبرى التي أنعم الله بها عليه وعلى الناس، وأتمَّها يوم أنزل على رسوله قوله في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول) : { ... اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً ... } [الآية: 3] . فالتحديث بِنِعْمَةِ اللَّهِ هو تَبْليغُ هذا الدّين وهدايةُ الناس إليه وتَعُلِيمُهم إيّاه. والحكمةُ في الترتيب الّذِي جاء في اللّف موافَقَةُ التَّرْتِيبِ الذي حَصَل في حياة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فالإِيواءُ من الّيُتْمِ كان أوّلاً، والهدايةُ جَاءَتْ ثانياً قَبْلَ النبوّة وبعدها، والغِنَى جَاء ثالِثاً. والحكمةُ في الترتيب الذي جاء في النشر على خلاف الترتيب الذي جاء في اللّفّ: أنَّه جاءَ بتكاليف يَحْسُنُ فيها قَرْنُ النظائر بعضها مع بعض، فالنَّهْيُ عن قهر اليتيم يلائمه النهي عن نَهْرِ السائل، وبَعْدَ ذَلِك يَحْسُن الختْمُ بالأمْرِ بتبليغ الدّين والتحديثِ بما أنعم اللَّهُ به على رسوله من عِلْمٍ وهُدى. المثال الثاني: قول "ابن حيُّوس": كَيْفَ أَسْلُو وأنْتِ حِقْفٌ وَغُصْنٌ ... وغَزَالٌ لَحْظاً وَقَدّاً وَرِدْفاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 الحِقْفُ: كثيبُ الرَّمْلِ، يَسْتَحْسِن الأدباء تشبيه الأرْدافِ به. جاء اللّفّ المفصّل في (حِقْف - غُصْن - غزال) . وجاء النشر على عكس ترتيب اللَّف، إذ اللّخط للغزال، والْقَدُّ لِلْغُصْنِ، والرِّدْفُ للحِقْف. اللّف المجمل: وإذا جاء لفُّ المتعدّد مجملاً فالنشر بعده مجرّد بيانٍ تفصيليّ للمجمل، ومن أمثلته ما يلي: المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ * فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَآ أَمِنتُمْ فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} [الآيات: 238 - 239] . جاء اللَّفُّ المجمل في عبارة: {فَإنْ خِفْتُمْ} خطاباً للمؤمنين حالة الحرب. وبعده جاء النشر المفصّل في عبارة {فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} . رِجالاً: جَمْع "رَاجل" وهو الماشي على قدميه، خلاف الراكب. أي: فالرجال منكم يُصَلُّون رجالاً، والرُّكْبَانُ منكُمْ يُصَلُّونَ رُكْباناً على قدر استطاعة كلٍّ مِنْهُم. المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الحج/ 22 مصحف/ 103 نزول) في حكاية قوله لإِبراهيم عليه السلام: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ} [الآية: 27] . جاء اللّفّ المجمل في عبارة: {وَأَذِّن فِي الناس} خطاباً لإِبراهيم عليه السلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 وجاء النشر المفصل في عبارة: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ} أي: يأْتِكَ فَرِيقٌ من الْمُلَبّين رجالاً مشاةً على أقدامهم، ويأْتِكَ فريق آخر من الْمُلَبِّين على كُلِّ ضَامِرٍ من الدّواب لطولِ السّير في السّفر إلى البلد الحرام. المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الآية: 111] . جاء اللّفّ المجمل في عبارة {وَقَالُوا} أي: وقال اليهود والنصارى. وجاء النشر المفصل بعد ذلك مع الإِيجاز البالغ فيه، والمعنى: قالَتِ الْيَهُودُ: لَنْ يَدْخُلَ الجنَّةَ إلاَّ من كان من اليهود، وقالت النصارى: لن يدخل الجنّة إلاَّ من كان من النصارى. ولم يحصل لَبْسٌ في اللّف للعلم بأنَّ كُلاًّ من الفريقين يعتبر الفريق الآخر ضالاًّ ومن أهل النار، وهذا هو المسوّغ للإِجمال في اللّف. المثال الرابع: قول الأعشى: يَدَاكَ يَدَا صِدْقٍ فَكَفٌ مُفِيدَةٌ ... وكَفٌّ إِذَا مَا ضُنَّ بِالْمَالِ تُنْفِقُ جاء اللّفُّ المجمل في عبارة: [يَدَاكَ يَدا صِدْقٍ] . وجاء النشر المفصّل في عبارة: [فكفٌّ مُفيدَةٌ وكَفٌّ إذا مَا ضُنَّ بالمالِ تُنْفِقُ] . *** وأمّا التقسيم: فله إطلاقات ثلاثة: الإِطلاق الأول للتقسيم: التقسيم الذي هو كاللّف والنشر: في ذكر متعدّد أوّلاً مفصَّلٍ أو مجمل، وإتباعه بمتعدّد آخر يتعلّق كلّ واحدٍ من أعداده بواحدٍ من المتعدّد السابق، باستثناء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 قَيْدٍ واحد، فالتقسيم فيه تعيين كلِّ واحدٍ من المتعدّد اللاّحق بصاحبه من المتعدّد السابق، بخلاف اللّف والنشر إذ القيد فيه أن يكون بدون تعيين، وأن يكون الاعتماد فيه على فهم المتلقّي، وهذا هو الفرق بينها، وللّفّ والنشر مقتضيات أحوال يَحْسُن فيها، وللتقسيم مقتضيات أحوال يَحْسُن فيها، ومن الأحوال الّتي يَحْسُن فيها التقسيم: الأحوالُ الّتي يُراد فيها النّصّ الواضح القاطع للاحتمالات، والأحوال التعليميّة، وأحوال المخاطبين الذين يعْسُر عليهم التوزيع الملائم بين المتعدّدات اللاّحقة والمتعددات السابقة، والأحوالُ التي يحصل فيها اللَّبْسُ لولا التعيين. ويحسن أن يُسَمَّى هذا التقسيم "تقسيم اللّف والنشر". أمثلة: المثال الأوَّل: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الحاقة/ 69 مصحف/ 78 نزول) : {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية * وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الآيات: 4 - 6] . جاء المتعدّد الأول مُفَصَّلاً، وجاء المتعدّد اللاّحق المتصل به والتابع له مفصّلاً مُعَيَّناً، لأمن اللّبس. المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الانشقاق/ 84 مصحف/ 83 نزول) : {ياأيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً * ويصلى سَعِيراً} [الآيات: 6 - 12] . جاء المتعدّد الأوّل مجملاً بعبارة: {ياأيها الإنسان ... } . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 وجاء تقسيمه وأحكام كلّ قسم بعبارة: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} وعبارة: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ} . المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) : {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ الله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 106 - 107] . جاء المتعدّد الأول مُفَصَّلاً بعبارة: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} . وجاء تقسيمه وبيان أحكام كلِّ قسم على التعيين بعبارة: {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} وعبارة: {وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ ... } . والأمثلة من القرآن على هذا كثيرة. المثال الرابع: قول أبي تمّام في بيان منهج الدعوة إلى قبول الإِسلام أو القتال بالسيف: فَمَا هُوَ إِلاَّ الْوَحْيُ أَوْ حَدُّ مُرْهَفٍ ... تُمِيلُ ظُبَاهُ أَخْدعَيْ كُلِّ مَائِلِ فَهَذَا دَوَاءُ الدَّاءِ مِنْ كُلِّ عَالِمٍ ... وهَذَا دَواءُ الدَّاءِ من كلّ جَاهِلِ الوحي: أي القرآن المجيد، وبيان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أو حَدُّ مُرْهَفٍ: أي: أَو حدُّ سيفٍ مرهف. المرهف الْمَسْنُون ذو الشفرة الرقيقة. ظُبَاهُ: الظُّبَةُ حَدُّ السيف والسّنان والخِنْجَرِ ونَحْوها وجَمْعُها "ظُباً" و"ظُبَاة" و"ظُِبُون". أخْدَعَيْ كُلِّ مائل: الأَخْدَعُ أحد عرقَيْنِ في جانِبَي الْعُنقُ، وهما الأخداعان.. جاء المتعدد الموصوف مفصّلاً بقسمي: "الوحي" و"حدّ مرهف". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 وجاء تعيين ما يتعلق بالقسم الأول بعبارة: "فهذا دواء الداء من كل عالم". وجاء تعيين ما يتعلق بالقسم الثاني بعبارة: "وهذا دواء الداء من كلّ جاهل". *** الإِطلاق الثاني للتقسيم: أن تُذْكَرَ متعدّدات ويُذْكَر إلى جانب كلِّ واحدٍ منها ما يَتَعَلَّقُ به، ويحسُن أن يسمَّى التقسيم "التقسيم المذيَّل". ومن الأمثلة على هذا الإِطلاق ما يلي: المثال الأول: ما رواه مسلم وغيره عن أبي مَالِكِ الأشعريّ أنّ النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الطَّهُورُ شَطْرُ الإِيمان، والْحَمْدُ للَّهِ تَمْلأُ المِيزَانَ، وسبحان اللَّهِ والحَمْدُ للَّهِ تَمْلآنِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ، والصَّلاةُ نور، والصَّدَقَةُ بُرْهانٌ، والصَّبْرُ ضِيَاءٌ، والقُرْآن حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْك، كُلُّ النَّاسِ يغدُوا فَبَائِعٌ نَفْسَهُ: فمُعْتِقُها أوْ مُوبِقُهَا". جاء في هذا الحديث وفق هذا الإِطلاق أقْسَامُ سبْعَة، آخرها: "والقرآن حُجَّةٌ لَكَ أو عَلَيْكَ". أمَّا عبارة: "كُلُّ الناس يَغْدُو فَبَائعُ نَفْسَه: فَمُعْتِقُها أو مُوبِقُهَا". فتَصْلُحُ مثالاً للإِطلاق الأول للتقسيم، والمتعدّد الأوّل منه جاء مجملاً، والمتعدّ التالي المتعلّق به جاء مُفَصّلاً، أي: فَقِسْمٌ مُعْتِقُ نفسه من النار بالعمل الصالح وقسم مُوْبِقٌ نفسه أي: مهلكها ومعرّضها للعذاب بالنار بما يكتسب من معاصي وآثام. المثال الثاني: قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "أَحْسِنْ إلَى مَنْ شِئْتَ تكُنْ أَمِيرَهُ، واسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْتَ تَكُنْ نَظِيرَه، واحْتَجْ إلى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَسِيرَهُ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 المثال الثالث: قول أبي الطيّب المتنبيّ: سَأَطْلُبُ حَقِّي بالقَنَا وَمَشَايخٍ ... كَأَنَّهُمُ مِنْ طُولِ ما الَثَمُوا مُرْدُ ثِقَالٍ إِذا لاَقَوْا خِفَافٍ إذَا دُعُوا ... كَثيرٍ إِذا شَدُّوا قَلِيلٍ إذا عُدُّوا الْتَثَمُوا: أي: وَضَعُوا اللّثَامَ على وجُوههم، فيظهرون كأنَّهُمْ مُرْد. إذَا دُعوا: أي: إذا دُعُوا لمناصرته في قتال. إذا شَدُّوا: أي: أقبلوا محاربين مقاتلين، يقال شَدَّ في الحرب، إذا أقبل بقوة. المثال الرابع: قول المتنبي أيضاً يصف حسناءه: بَدَتْ قَمراً وَمَالَتْ خُوطَ بَانٍ ... وَفَاحَتْ عَنْبراً ورَنَتْ غَزَالاً خُوطَ بَانٍ: الْخوطُ: الغُصْنُ الناعم اللّين. والْبَانُ: شجر سبط القوام لين، ورقه كوَرَقِ الصفصاف، واحدته "بَانَة". رَنَتْ: أي: أدامت النظر مع سكون الطرف. *** الإِطلاق الثالث للتقسيم: هو التقسيم الذي تُسْتَوفَى به أقسام الشيء الموجودة في الواقع، أو تُسْتَوْفَى به الأقسام العقلية، ويَحْسُنُ أن يُسَمَّى هذا "التقسيم المستوفي". أمثلة: المثال الأول: قول "أبي تمّام". إِن يَعْلَمُوا الْخَيْرَ يُخْفُوهُ وإِن عَلِمُوا ... شَرّاً أَذَاعُوا وَإِنْ لَمْ يَعْلموا كَذَبُوا المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الروم/ 30 مصحف/ 84 نزول) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً ... } [الآية: 24] . فجاء في هذه الآية استيفاء أقسام الغاية من ظاهرة البرق، إذْ ليس في رؤية البرق إلاَّ الخوف من الصواعق، والطّمع في الأمطار، ولا ثالث لهذين القسمين بالنسبة إلى الرّائين من عامّة الناس. المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (فاطر/ 35 مصحف/ 43 نزول) : {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير} [الآية: 32] . إنّ واقع حال المؤمنين المسلمين لا يخلو أحدهم من أن يكون واحداً من هؤلاء الأقسام الثلاثة: إمّا ظالم لنفسه بالمعاصي، وإمّا مقتصد بفعل الواجبات وترك المحرّمات، وإمّا سابقٌ في الخيرات بإذن الله بأعمال البر وأعمال الإِحسان، وهذه القسمة واقعيّة وعقليّة. المثال الرابع: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الواقعة/ 56 مصحف/ 46 نزول) بشأن أقسام الناس يوم القيامة: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً * فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة * وَأَصْحَابُ المشأمة مَآ أَصْحَابُ المشأمة * والسابقون السابقون * أولائك المقربون * فِي جَنَّاتِ النعيم} [الآيات: 7 - 12] . أزواجاً ثلاثة: أي أصنافاً ثلاثة. فالناس يوم القيامة يُفْرَزُون إلى ثلاثة أقسام: القسم الأوّل: الكافرون، وهم أصحابُ المشأمة. القسم الثاني: المؤمنون غير السابقين، وهم أصحاب الميمنة. القسم الثالث: المؤمنون السّابقون، ذوو الدرجات العليّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 وقد ذكر النصّ أصحاب الميمنة أوّلاً، وبعدهم أصحاب المشأمة، ثم فرز السابقين من أصحاب الميمنة تمييزاً لهم وإعلاءً لمكانتهم. المثال الخامس: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الشورى/ 42 مصحف/ 62 نزول) : {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الآيات: 49 - 50] . هذا النصّ استوفَى اقسامَ أحوالِ مَنْ يُولَدُ لهم مواليد أو يُحْرَمُونَ منها مع اتّخاذهم أسباب الإِنجاب، فهي أربعة أقسام لا خامس لها، وفق القسمة العقلية والواقعيّة. فإمّا أن تكون الذّرّية من الإِناث، وإمّا أن تكون من الذكور، وإمّا أن تكون من الصنفين، وإمّا أن يكون الإِنسان عقيماً لا يُنْجب. والأمثلة من القرآن على هذا الإِطلاق الثالث من التقسيم كثيرة، فمنها ما جاء في سورة (مريم) الآية (64) وسورة (الطور) الآية (35) وسورة (المزّمل) الآية (20) . *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 البديعة المعنوية (12) : بدائع متجانسة حول أحوال روابط المعاني بدائع متجانسة حول أحوال روابط المعاني ووجوه اجتماعها وافتراقها وتقسيمها وتَفَرُّعِها يتناول الكلام هنا الاختيارات البديعة التالية: (1) الجمع. (2) الجمع والتفريق. (3) التقسيم. (4) الجمع والتقسيم. (5) الجمع مع التفريق والتقسيم. (6) التفريع. البيان: تتوارد المعاني على فكر المتكلّم فيرى بينها مفردات قضايا قابلة للجمع في قضيّة كُلّيَّةٍ واحدة، فيدعوه الإِيجاز والاقتصاد في التعبير إلى جَمْعِها في قضيةٍ واحدة. فبدل أن يقول مثلاً: * الخيلُ تأكُلُ الْخَضِرَ من نبات الأرض والحبّ. * والبغال تأكُلُ الْخَضِرَ من نبات الأرض والحبّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 * والحمير تأكُلُ الْخَضِرَ من نبات الأرض والحبّ. * والإِبل تأكُلُ الْخَضِرَ من نبات الأرض والجبّ. * والبقر تأكُلُ الْخَضِرَ من نبات الأرض والحبّ. * والغنم تأكُلُ الْخَضِرَ من نبات الأرض والحبّ. يقول مثلاً: * الدوابّ والأنعام تأكُلُ الْخَضِرَ من نبات الأرض والحبّ. * أو الدواب والأنعام نباتّيّة. أو تأكُلُ النبات. فيقتصر على جملة واحدةٍ مختصرة يجمع فيها معاني جُمَلٍ عديدة، وهذا مسلك بديعٌ في جَمْعِ الأشباه والنظائر وإعطائها جميعاً حكماً واحداً إذا كانت مُشْتَرِكَةً فيه. ومن هُنا ظهرت في اللّغات الكلماتُ الكليّة الّتي تندرجُ تَحْتَها أفراد كثيرة يجْمَعُها جامعٌ ما، وهذه الكلمات الكلّيّة تجمع في مفهومها أجناساً وأنواعاً وأصنافاً. وظهر هذا بوضوح لعلماء المنطق فقسَّمُوا الكليات إلى خمس، هي: (1) "الجنس" مثل: جماد، نبات، حيوان. (2) "النوع" مثل: إنسان، فرس، غزال. (3) "الْفَصْل" مثل: مفكر، ناطق. (4) العرض الخاص" مثل: ضاحك، كاتب. (5) "العرض العام" مثل: ماشٍ، آكل، شارب. ويأتي تحت تقسيم علماء المنطق كليّات أخرى هي أصناف، وأقسام، وفئات، ونحو هذه الألفاظ الَّتي تُطْلَقُ على أفراد متعدّدة يجمعها جامعٌ ما، ففي نوع الإِنسان نجد أصنافاً كثيرة، مثل: العربي، الأروبّي، الفارسي، وهكذا في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 كلِّ كلّيّ نجد أصنافاً وأقساماً وفئات، هي في ذاتها كليّات مندرجةٌ في الكليّات الأكبر منها، والأكثر عَدَدَ أفراد، وتتنازل وتتصاغر دوائر الكليّات حتى أصغرها. والألفاظ الدّالّة على مَعَاني كليّة عند الأديب قد تكون دلالَتُها على سبيل الحقيقة، أو على سبيل المجاز، أو على سبيل الادّعاء لداعٍ بلاغيٍّ. وتوجد أمام المتكلّم الأديب في هذا المجال أحوال متعدّدة، ووجوه من الكلام مختلفة، ومتفاضلة فيما بينها بلاغيّاً وفنيّاً، وعليه أن يختار ما يراه منها أكثر ملاءمة لمقتضى أحوال المتَلَقِّين. ومن هذه الوجوه ما سبق بيانه في مبحث "اللَّف والنشر" وتابعه مبحث "التقسيم". ومن هذه الوجوه ما يأتي بيانُه وتفصيلُه هُنا، ولتحديد المعالم بوضوح أَعْرِضُ الحالات، والأسلوبَ البديع الذي يَحْسُنُ اختياره في كُلٍّ منها: الحالة الأولى: أن يجتمع مُعَيَّنَان أو صِنْفَان أو نوعان أو جنسان أو أَيُّ مختلفين فأكثر في حكم واحدٍ، وفي هذه الحالة يكون من الإِيجاز من جهة، ومن بديع الكلام من جهة أخرى، صياغَةُ تعبير واحد مختصر، تُذْكَرُ فيه المختلفات إمّا بأفرادها إذا كان كلّ فردٍ منها مُعَيَّنَاً، وإمّا بلفظ كُلّيّ يَجْمَعُها إذا لم يكن للمتكلّم غرضٌ في تعيين الأشخاص، أو كان الأفراد غير محصورين، وكان الغرض تعميم الحكم على كلّ الأفراد. وهذا مَا يُطْلَقُ عليه في فن البديع "الجمعُ في الحكم". أمثلة: لمثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 {ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الآية: 90] . هذه الأصناف المتعدّدة: "الخمر - الْمَيْسِر - الأنْصَاب - الأزلام" جُمِعَتْ في حكم واحد وهو كونُهَا رِجْساً معنويّاً، وكون الله قد أمر المؤمنين باجْتِنَابِها. المثال الثاني: قول "أبي العتاهيَة". إِنَّ الشّبَابَ والْفَراغَ والْجِدَةَ ... مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أيُّ مَفْسَدَةٍ الْجِدَة: السّعة في امتلاك المال، مصدر "وَجَدَ" وُجْداً وجِدَةً إذا صار ذا مالٍ. فاجتمعت هذه الثلاثة في كونها مَفْسَدَةً، فأعطيت في بديع القول حكماً واحداً. المثال الثالث: قول ابن الرومي: أرَاؤُكُمْ وَوُجُوهُكُمْ وَسُيُوفُكُمْ ... في الْحَادِثَاتِ إِذَا دَجَوْنَ نُجوم فجمع آراء الممدوحين ووجُوهَهُم وسُيُوفَهُمْ في حكم واحد، وهو كونها كالنجوم في الحادثات المظلمات. والأمثلة القرآنية على الجمع في الحكم كثيرة. *** الحالة الثانية: أن يكون بعضُ ما يَنْطَبقُ عليه اللَّفظ الْكُلّيُّ من أفراد له حُكْمٌ خَاصٌّ به، وبعضُهُ الآخَرُ لَهُ حُكْمٌ آخَرُ. وفي هذه الحالة يكون من الإِيجاز في التعبير من جهة، ومن بديع الكلام من جهةٍ أخرى، ذِكْرُ اللّفظ الْكُلِّي للدّلالة به على أنَّ أفْراده يجمعها معنىً جامعٌ، وبعد ذلك يُفرَّقُ في الحكم، فيُعْطَى لكلّ قِسْمٍ حُكْمُهُ الخاصّ به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 وهذا ما يُطْلَقُ عليه في البديع: "التفريق في الحكم". أمثلة: المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) بشأن يوم القيامة: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [الآية: 105] . لاَ تَكَلَّم: أي: لاَ تَتَكَلَّم. ففي هذه الآية تفريق في الحكم بين بعض النفوس وبعضها الآخر، بعد كونها داخلةً في عموم كلمة "نفس" التي هي كُلّيٌّ يشمل كلَّ فرْدٍ ذي نفس من خَلْقِ الله عزَّ وجلَّ مسؤولة عن اختياراتها. المثال الثاني: قول "الوطواط": مَا نَوالُ الْغَمَامِ وَقْتَ رَبِيعٍ ... كَنَوالِ الأَمِيرِ يَوْمَ سخَاءِ فنوال الأَمِيرِ بَدْرَةُ عَيْنٍ ... ونوالُ الْغَمَامِ قَطْرَةُ مَاءِ فبعد أن ذكر النوال الذي هو لفظٌ كُلّيٌّ يَجْمع في أفراده نَوالَ الأمير حين يعطي، ونوال الغمام حين يمطر، فرَّقَ في الحكم، فأبان أنّ نوال الأمير بَدْرَةُ عَيْن، أي: كيس مملوءٌ ذهباً، وأنَّ نوال الغمام قطرة ماء. المثال الثالث: قول "صَفِيّ الدّين الْحِلّي" في ممدوحه: فَجُودُ كَفَّيْهِ لَمْ تُقْلِعْ سَحَائِبُهُ ... عَنِ الْعِبَادِ وَجُودُ السُّحْبِ لَم يَدُمِ المثال الرّابع: قول "المتنبّي" يخاطِبُ سَيْفُ الدّولة، وهو من لطيف "التفريق في الحكم" لاقترانه بالاستدلال بالنظير: فَإِنْ تَفُقِ الأَنَامَ وأَنْتَ مِنْهُمْ ... فَإِنَّ الْمِسْكَ بَعْضُ دَمِ الغَزَال *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 الحالة الثالثة: أن تكون وحدات المعنى الْكُلّي الذي دلّ عليه المتكلم بعبارة ما، تجتمع في حكم وتفترق في حكم آخر يَلْمَحُه أديبٌ فطِن بفطنته البلاغيَّة، فيسوق تعبيره الأدبي البديع دالاَّ بِه على حُصُول الاجتماع من جهة الحكم الجامع، وحصول الافتراق من جهة الحكم المختلف. وهذا ما يُطْلَقُ عليه في البديع "الجمع مع التفريق". وإذا كانت جهة التفريق جهةَ تفاضل في نسبة الصفة لا جهة وجود الصفة وعدمها، فقد يطلقون عليه في البديع "جمع المؤتلف والمختلف" وهذا فيما أرى تدقيق لا لزوم له، ويُمثّلُون لهذا بقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) بشأن داود وابنه سليمان عليهما السلام: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ... } [الآيات: 78 - 79] . ففي هذا النّص تسويَةٌ بين داود وسُليمان بأنّ الله آتاهما حُكْماً وعلماً، وتفضِيلٌ لسليمان في تفهيمه الحكم الأكثر تحقيقاً للعدل في القضيّة الّتي جاء بيانها في النّصّ وقضى فيها داود بقضاء استدرك عليه فيه ابْنُه سليمان وكان صغير السّنّ. أمثلة: المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/50 نزول) : {وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ الليل وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الآية: 12] . أبانَ هذا النّصّ أنّ اللَّيْلِ والنَّهَارَ قد اجْتَمَعَا فِي كَوْنهما آيَتين من آيات الله عزَّ وجلَّ في كونه (هذه جهة اجتماع) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 وأنّ آية اللّيل آيةُ مَحْوٍ، أي: إزالةُ سبب رؤية ذوي الأبصار للأشياء، وهو الضوء، أمّا آية النهار فهي آيَةُ إبصار، أي: آيَةُ إيجادِ سبب رؤية ذوي الأبصار للأشياء (وهذه جهة افتراق) . وفي هذا النصّ من البديع أيضاً "لَفٌ ونَشْر": فاللّفُّ في ذكر اللَّيْلِ والنهار، والنشرُ في بيان الحكمة من النهار، وهي أن يبتغي الناس أرزاقهم وحاجاتهم من فضل الله، بقوله تعالى: {لِتَبْتَغُواْ مِنْ فَضْلِه} . وفي بيان الحكمة من التعاقُب بين اللَّيْل والنهار، وهي أن يَعْلَمَ الناس عدد السنين والحساب، عن طريق ما يجري فيهما من تغيّرات سببه حركة الأرض حول نفسها وحول الشمس، بإشارة قوله تعالى: {وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} . المثال الثاني: قول "رشيد الدّين الوطواط". فَوَجْهُكَ كَالنَّارِ فِي ضَوْئِها ... وقَلْبِيَ كالنَّارِ في حَرِّهَا فَجَمع بين قلبه ووَجْهِ محبُوبه في أنَّهما يُشْبهان النار. وفرّقَ بينهما في وجه الشَّبَه، فوجْهُ محبوبه يشبه النار في ضوئها، وقلب الشاعر يشبه النّار في حرّها. المثال الثالث: قول البحتري من قصيدة يمدح بها "أبا صقر" ويتغزّل في أوّلها: وَلَمَّا الْتَقَيْنَا "والنَّقَا" مَوْعِدٌ لَنَا ... تَعَجَّبَ رَائِي الدُّرِّ حُسْناً وَلاَ قِطُهْ فَمِنِ لُؤْلُؤٍ تَجْلُوهُ عِنْدَ ابْتِسَامِهَا ... وَمِنْ لُؤْلُؤٍ عِنْدَ الْحَدِيثِ تُسَاقِطُهْ تُسَاقِطه: تتابع إسقاطه. فجمع بين كلامها وأسنانها في أنَّهما يُشْبهَانِ الدُّرَّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 وفرّقَ بينهما بأنّ لؤلؤ أسنانها تَجْلُوه عند ابتسامها، أمّا لؤلؤ كَلاَمِهَا فتُتَابِعُ إِسقاطه من فمها ليلتقطه سَمْع من تحدّثه. *** الحالة الرابعة: أنّ يكون المعنى الْكُلّي الذي دَلَّ عليه المتكلّم الأديب بعبارة ماذا أقسام، يَحْسُن لديه فنّياً أن يبيّنها، ويرى أنّ لها حكماً واحداً، ويرى فنّيّاً أن يُبَيّن اجتماعها فيه، فيعبّر عن الأمرين معاً بكلامٍ واحدٍ، فَيُقَسِّم أوّلاً ويجمع ثانياً، أو يَجْمَعُ أوّلاً ويُقَسِّمُ ثانياً. وهذا ما يُطْلَق عليه في البديع "الجمع مع التقسيم". أمثلة: المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (فاطر/ 35 مصحف/ 43 نزول) الّذي سبق الاستشهاد به في التقسيم بشأن أمّةِ محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير أُمَّة أُخْرِجت للناس: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير} [الآية: 32] . جاء الجمع في هذه الآية ببيان أنّ أمّة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي الأمَّة الّتي اصطفاها الله وأَوْرَثَها الكتاب الجامع للكتب الرّبّانيّة السابقة وهو القرآن. وجاء التقسيم ببيان أنّ هذه الأمّة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: * قسم ظالم لنفسه بالمعاصي مع صدق الإِيمان والإِسلام. * وقسم مقتصد بفعل الواجبات وترك المحرمات دون توسُّع في النوافل والقربات، وهذه درجة سقف التقوى. * وقسم سابق في الخيرات بإذن الله، وأهل هذا القسم إمّا أبرار، وإمّا محسنون، وجاء في القرآن تكريمهم باسم "عباد الرّحمن". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 المثال الثاني: قول المتنبي يذكر الواقعة التي وقعت بين سيف الدّولة والرّوم في جمادى الأولى سنة (339هـ) : حَتَّى أَقَامَ عَلَى أَرْبَاضِ خَرْشَنَةٍ ... تَشْقَى بِهِ الرُّومُ والصُّلْبَانُ والْبِيَعُ للسَّبْيِ مَا نَكَحُوا والْقَتْلِ مَا وَلَدُوا ... وَالنَّهْبِ مَا جَمَعُوا وَالنَّارِ مَا زَرَعُوا عَلَى أَرْباضِ خَرْشَنَةٍ: أَرْبَاض: جَمْعُ "رَبَض" والرَّبضُ ما حول المدينةِ من العمارة. وخَرْشَنَة: اسم بلَدٍ من بلاد الرُّوم. البِيَعُ: جَمْعُ "البِيعَة" وهي معْبَدُ النصارى. جاء الجمع في البيت الأول ببيان شقاء الرّوم بإقامة سيف الدولة وجيشه على أرباض "خَرْشَنَة". وجاء التقسيم في البيت الثاني ببيان أنّ نساءهم للسَّبْي، ورجالَهم للقتل، وأموالهم المنقولة للنّهب، وما زَرَعُوا للنار تأكُلُها. المثال الثالث: قول حسان بن ثابت رضي الله عنه: قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا ضَرَّوا عَدُوّهُمُ ... أَوْ حَاوَلُوا النَّفْع في أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوا سَجِيَّةٌ تِلْكَ مِنْهُمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ ... إِنَّ الْخَلاَئِقَ فَاعْلَمْ شَرُّهَا الْبِدَعُ جاء في البيت الأول تَقْسيمُ صفات من يمدحهم حسان، فهم بالنسبة إلى عدُوّهم يضرّونَهُم إذا حاربوهم، وبالنسبة إلى أشياعهم ينفعونَهُمْ إذا حاولوا نفعهم. وجاء في البيت الثاني جمع الْوَصْفَيْن بأنَّهما سجيَّةٌ ثابتة من سجاياهم الأصلية غير المتكلَّفة تكلُّفاً مصطنعاً لأمر عارض، إذ هو يرى أن الخلائق المبتدعة المحدَثة التي لا تكون ثمرة سجايا ثابتة هي شرّ الخلائق، إذ تكون مدفوعة بأغرَاضٍ غير شريفة، ومنها النفاق. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 الحالة الخامسة: أن يكون المعنى الكلّيُّ الذي دلَّ عليه المتكلّم الأديب بعبارة ما، ذا أقسام يَحْسُنُ في نفسه فنيّاً أن يبيّنها، ولها حكْمٌ واحد يريد أن يُبَيّنَ اجْتماعها فيه، وبين وحداتها أو أقسامها افتراق في أمْرٍ آخَرَ يَرَى فَنِّيّاً أن يبيّنَهُ أيضاً، فيعَبِّر عن كلّ هذه الأمور الثلاثة في كلامه. وهذا ما يُطْلَق عليه في البديع: "الجمع مع التفريق والتقسيم". المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) بشأن اليوم الآخر: {ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ..} [الآيات: 103 - 105] . في هذا البيان جَمْعُ كُلِّ النَّفْسِ بأنّها لاَ تتكلَّم يوم القيامة إلاَّ بإذن الله. ويتابع النص فيقول الله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} . في هذا البيان تفريق في الْحُكْم، ففريق شَقِيٌّ وفَريقٌ سعيد. ويتابع النص فيقول اله تعالى: {فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [الآيات: 106 - 107] . في هذا بيان وشرح حال القسم الأوّل، وهم أهل الشقاوة. ويتابع النصّ فيقول الله تعالى: {وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [الآية: 108] . في هذا بيانُ وشرح حال القسم الثاني، وهم أهل السعادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 فظهر بهذا التحليل في النصّ "الجمع مع التفريق والتقسيم". المثال الثاني: قول "ابن شَرَف القيرواني" يمدح أميراً: لِمُخْتَلِفِي الْحَاجَاتِ جَمْعٌ بِبَابِهِ ... فَهَذَا لَهُ فَنٌّ وَهذا لَهُ فَنُّ فَلِلْخَامِلِ الْعُلْيَا وَلِلْمُعْدِمِ الْغِنَى ... ولِلْمُذْنِبِ الْعُتْبَى ولِلْخَائِفِ الأَمْنُ لقد جمع في حكم واحد، وهو أن مختلفي الحاجات مجتمعون في باب الأمير. وفرَّقَ بين المجتمعين بأن كلّ واحد له فَنٌّ مخالفٌ لفنّ غيره. وقسَّمَ في البيت الثاني: * فأبان أنّ خَامِلَ الذِّكْرِ ينال من الأمير إعلاء شأنه. * وأن الْمُعْدِمِ طالبَ المال يَنَالُ من الأمير الغنى. * وأن المذنِبَ الذي يرجو رفع العتب عنه ينال العتْبَى، أي: الرضا. * وأنّ الخائف الذي يرجو الأمن ينال من الأمير الأمْنَ. *** الحالة السادسة: أن يرى المتكلّم الأديب أنّ المعنى الذي يُعبّر عنه بعبارةٍ ما يتفرَّعُ عنه معنىً آخر، ويرى فَنِّيّاً أَنَّ من البديع في القول أن يُعبّر عمّا لاَحظهُ على سبيل التخيُّل أو الادّعاء. ومعلومٌ أنّ كون الشيء فرعاً لشيءٍ آخر ينتج عن ارتباطه به ارتباط الفرع بالأَصْل. والمتكلّم الأديب يَبْنِي على ما تَصَّور، فيفرِّعُ فِكْرَةً عَنْ فِكْرَة، ويبنيها عليها، كما يكون الولد فرعاً لأبويه، وكما تكون أغصانُ الشجرة ونواميها فروعاً لساقها وجذرها. وهذا ما يطْلَقُ عليه في البديع: "التَّفْريع". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 ومن الأمثلة على التفريع قول "الكميت" يمدح آل البيت: أَحْلاَمُكُمْ لِسَقَام الْجَهْلِ شافِيَةٌ ... كمَا دِمَاؤكُمُ تَشْفِي مِنَ الْكَلَبِ ففرّع على الحكم الأول الذي جاء في الشطر الأول، الحكْمَ الذي جاءَ في الشطر الثاني، وأوضح منه قولي ممثّلاً للتفريع: تَعَلَّمَ الْغَيْثُ مِنْكَ الْجُودَ مُنْهَمِلاً ... فَكَيْفَ لاَ تُرْتَجَى عِنْدَ الْمُلِمَّاتِ واللَّيْثُ يَحْلُمُ أَنْ يَلْقَاكَ قَائِدَهُ ... فَهَلْ لِبَأْسِكَ نِدٌّ فِي الْبُطُولاَتِ * ومن التفريع قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} [الآية: 59] . أي: فتفرع على فسقهم عن طاعة الله بتبديل القول الذي قيل هم معاقبتُهم بإنزالِ الرّجز (=العذاب) من السماء عليهم. * وقول الله عزَّ وجلَّ فيها أيضاً بشأن مزاعم اليهود: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الآية: 80] . أي: أتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فيتفرّعَ عند أَنْ لا يُخْلِفَ الله عهده؟. * وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (طه/ 20 مصحف/ 45 نزول) حكاية لما قال موسى عليه السلام لسحرة فرعون: {قَالَ لَهُمْ موسى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افترى} [الآية: 61] . أي: لا تفتروا على الله كذباً بأعْمَال السِّحْر الّتِي تخدعون بها أعْيُنَ الناس فيستأصِلَكُمُ بعذَابٍ شديد، والمعنى أنّ هذا الاستئصال يتفرَّعُ عن افترائكُمْ على الله كَذِباً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 البديعة المعنوية (13) الإِدماج الإِدماج في اللّغة: إدْخال شيء في شيء آخر، تقول مثلاً: أدْمَجْتُ متاعي، إذا أدخلتَه في ثوب أو حقيبة أو كيس أو نحوها، وأَدْمَجْتُ طَرَفَ الثوب، إذا لَفَفْتَ بعضه على بعض فأخْفَيْتَ مثْلاً المهترِئَ من هذا الطرف وجعلتَ له طرفاً سليماً. الإِدماج في الاصطلاح هنا: إدْخال فِكْرةٍ في فكرة، أو غرضٍ بلاغيّ في غرضٍ آخر، أو وَجْهٍ من وُجُوه الْبَدِيع في وجه منه آخر، بأسلوب من الكلام لا يظهرُ منه إلاَّ إحْدَى الفكرتين، أو أَحَدُ الغرضين، أو أَحَدُ الْوَجْهَين، فإذا تأمّل المتفكِّرُ ظهَرَ لَهُ الْمُدْمَجُ وسَرَّهُ هذا الإِدماج. وعرَفه القزويني بقوله: هُوَ أنْ يُضَمَّنَ كَلامٌ سِيقَ لمعنًى معنىً آخر. كأن يُوجَّه الكلام في القرآن لوعد الرسول والمؤمنين بالنصر والتأييد من الله عزّ وجلّ، ويُدْمَج فيه وَعِيدُ الكافرين بالهزيمةِ والانكسار والذّلّة والخذلان من الله عزّ وجلّ. ولدى تحليل كثير من النصوص يظهر بالتأمُّل ما فيها من الإِدماج في الأفكار، والأغراض البلاغية، ووجوه البديع. أمثلة: المثال الأوّل: قول المتنبّي يَصِفُ لَيْلَهُ الطَّوِيل بسبب تراكُم همومه عليه: كَأَنَّ دُجْاهُ يَجْذِبُهَا سُهَادِي ... فَلَيْسَ تَغِيبُ إلاَّ أَنْ يغِيبَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 أُقَلِّبُ فِيهِ أَجْفَانِي كَأَنِّي ... أَعُدُّ بهِ عَلَى الدَّهْرِ الذُّنُوبَا دُجَى اللَّيلِ: ظلمتُه الشديدة. والسَّهادُ: الأرَقُ. لقد صوَّر أن سبب طُول ليلهِ وبقاء ظلمته أنَّ أرقَهُ فيه يَجْذِبُ هذه الظلمة فيُبْقِى بها اللّيل، فلا تغيب ظلمة اللّيْل حتّى يغيب أَرَقُه ويأتيه النوم. وذكر في البيت الثاني أنَّهُ يُقَلِّبُ في دُجَى اللَّيْل أَجْفَانَهُ كأنَّهُ يَعُدُّ على الدَّهّر ذُنُوبَهُ ذاتَ الْعَدَدِ الكثير الذي لا يُحْصَى، وقد ترك ما يقول الأَرِقُون من أنّهم يَبِيتُون يَعُدُّون نجومَ السّماء، وشبَّهَ نَفْسَه بمَنْ يَعُدُّ ذنوبَ الدهر التي لا تُحْصَى، لأنَّه أراد أن يُدمِجَ شَكْوَاهُ مِنْ نوائب الدهر. المثال الثاني: قول ابن المعتزّ في وصف نبات أصْفَر يسمَّى "الْخَيْرِي": "فَقَدْ نَفَضَ الْعَاشِقُونَ مَا صَنَعَ الْهَجرُ بألْوانِهِمْ عَلَى وَرَقِهِ" أي: نفضوا صُفرة وجوههم التي صنعها الهجر على ورق هذا النبات، لقد كان يكفيه أن يَصِفه بالصفرة، ولكنّه ساق هذا المعنى ليدمج ما يعانيه من هجر الحبيب. المثال الثالث: قول ابن نُبَاتة: وَلاَ بُدَّ لِي من جَهْلَةٍ فِي وِصَالِهِ ... فَمَنْ لِي بِخِلٍّ أُودِعُ الْحِلْمَ عِنْدَهُ ضمَّن الغَزَلَ الّذي قد يجرُّه إلى ارتكاب جَهْلَةٍ ما في وصَالِ مَحْبُوبه، والخروج بها عَنْ حِلْمِهِ الذي هو وصفُهُ الدائم، الْفَخْرَ بأنَّه حَلِيمٌ لا يَجْهلُ في العادة، والشكوَى من فقد الخلِّ الوفيّ الّذي إذا أَوْدَعَ الحلْمَ عنده ساعة جَهْلِه استرَدَّه منه بعدها، فعادَ إلى سوائه المعتاد، وحِلْمِهِ ورُشْدِهِ. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 البديعة المعنوية (14) : الاستتباع الاستتباع: أَنْ يؤتَى بالكلام لغرضٍ ما، كمدح أو ذمٍّ، على وجه يَسْتَتْبعُ المدحَ أو الذّمَّ بشيء آخر، وهكذا سائر الأغراض. أمثلة: المثال الأول: سأل صديق صديقه: هل نجحت في شهادة الدكتواره؟ فقال له: نلتها - والحمدُ لله - بدرجة الشرف، وغدا العمل الممتاز بمرتَّب رفيع مُيَسَّراً، وأصبحت العروس التي تترقب نجاحي مستعدّة أن تنتقل إلى داري. لقد سأله صديقه عن النجاح، إلاَّ أن إعلانه الفرح بالنجاح استتبع إعلانه الفرح بالتفوّق، والفرح بتأمين العمل، والفرح بقرب انتقال العروس إلى داره. المثال الثاني: قول المتنبّي يمدح سيف الدولة بالشجاعة وكثرة من قتل من الأعداء: نَهَبْتَ مِنَ الأَعْمَارِ مَا لَوْ حَوَيْتَهُ ... لَهُنِّئَتِ الدُّنْيَا بأَنَّك خَالِدُ أي: لو أنّكَ حَوَيتَ الأعمار التي نهبتها من قتلاك في الحرب فضَمَمْتَها إلَى عُمْرِكَ لكُنْتَ خالداً، ولكان خُلُودُك نِعْمةً للدّنيا ولَهُنِّئَتِ الدُّنيا بذلك. فجعل مدحه إيّاه بالشجاعة وكثرةِ من قتل في الحرب على وجه يستتبع مدحه بأنَّ قَتْلَهُ للأعداء لم يكُن بطراً وكبراً، وإنَّما كان لصلاح الناس، وتأْمين سعادتهم. نقل "أبو البقاء" في شرح هذا البيت، عن الرّبعيّ أنه قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 المدحُ في هذا من وُجُوه، أَحَدُها: أنّه وصَفَهُ بنهب الأعمال لا الأموال. الثاني: أنّه كَثُرَ قَتْلاَهُ بِحَيْثُ لو وَرِثَ أعمارهم خلَد في الدّنيا. الثالث: أنّه جعل خُلودَهُ صلاحاً لأهل الدنيا بقوله: "لَهُنِّئَتِ الدُّنْيَا". الرابع: أنّ قتلاه لم يكن ظالماً في قتْلهم، لأنّه لم يَقْصِدْ بذلك إلاَّ صلاح الدنيا وأهلها، فهم مسرورون ببقائه، فلذلك قال: "لهنِّئَتِ الدُّنْيا" أي: أهل الدنيا. وقال أبو الفتح: لو لم يَمْدَحْهُ إلاَّ بهذا البيت لكان قد أَبْقَى له ما لا يمحوه الزَّمان. المثال الثالث: قولي صانعاً مثلاً لهذا النوع: "الاستتباع". أَسْعَدْتَ أَهْلِينَا بِفَرْطِ الْجُودِ ... والْجُودُ مِنْكَ لَنَا شَقَاءُ حَسُودِ جاء في الشطر الأول الثناء على الممدوح بالجود الذي أسْعد أهل المادح. واستتبع هذا مدحه أيضاً بأنّ جوده كان سبباً في شقاء الحسود. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 البديعة المعنوية (15) : التجريد التجريد في اللّغة: قَشْرُ الشيء، كَقَشْرِ اللِّحاء عن الشجرة حتَّى تكون مجرّدة من لِحَائِها، وإزالَةُ ما على الشيء من ثوب ونحوه، وتَعْرِيتُه، وإزالة ما على الجلْدِ من شَعَرٍ ونَحْوِه. التجريد في الاصطلاح هنا: أن ينتزع المتكلّم الأديب من أمْرٍ ما ذي وصفٍ فأكثر أمْراً آخر فأكثر مِثْلَهُ في الصفة أو الصفات على سبيل المبالغة. ويظهر لنا معنى المبالغة حينما نلاحظ أَنّها قائمة على ادّعاء أنّ الشيْءَ الّذي يُنْتَزَعُ منه مثله على سبيل التجريد هو بمثابةِ الذي يفيض بأمثال ما يُسْتَخْرَجُ منه دواماً. فمن قال: "لي من فلان صديق حميم" فكأنَّما جرَّدَ فُلاَناً من كُلٍّ ظواهره واستخرج منه صَدِيقاً حَمِيماً. قال "أبو عليّ الفارسي" في سبب تسمِيَةِ هذا النوع بالتجريد: "إِنَّ العرب تعتقد أنّ في الإِنسان مَعْنىً كامناً فيه، كأنَّهُ حقيقته وَمَحْصُولُه، فَتُخْرِجُ ذلِكَ المعنى إلى ألفاظها مُجَرّداً عن الإِنسان، كأنَّهُ غَيْرُهُ، وهو هو بعينه، كقولهم: لَئِنْ لَقيتَ فُلاَناً لَتَلْقَيَنَّ به الأسَدَ، ولَئِنْ سَأَلْتَهُ لَتَسْأَلَنَّ مِنْهُ الْبَحْرَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 وهو عينهُ الأسَدُ والْبَحْرُ، لا أنَّ هُنَاكَ شيئاً مُنْفَصِلاً عَنْهُ أو متميّزاً منه. ... وعلى هذا النّمط كوْنُ الإِنسان يخاطِبُ نفسه حتَّى كأنّه يُقَاوِلُ غَيْرَهُ، كما فَعَل "الأعْشَى" في قوله: "وَدِّعْ هُرَيْرَةَ إِنَّ الرّكْبَ مُرْتَحِلُ" ... ويكون التجريد بأساليب من التعبير، منها الأساليب التالية: الأسلوب الأول: التجريد باستخدام حرف الجرّ "مِنْ" داخلاً على المنتزع منه. أمثلة: المثال الأول: قولهم: "لِي مِنْ فُلاَنٍ صَدِيقٌ حَمِيم". أي: بلغ من الصداقة والمودة الصحيحة مبلغاً صحَّ معه أن يُسْتَخْرَجَ منه صَديقٌ آخرُ مثله في صفاته، فهو منْبَعُ أمثاله. المثال الثاني: قول الله عزّ وجلّ في سورة (آل عمران / 3 مصحف/ 89 نزول) : {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وأولائك هُمُ المفلحون} [الآية: 104] . أي: ولْتَكُونُوا يا أيُّها الّذِينَ آمَنُوا بمحمّد وبما جاء به عن رَبِّه أُمِّةً يَدْعُونَ إلى الخير ويأمرون بالمعروف ويَنْهَون عن المنكر. الأسلوب الثاني: التجريد باستخدام "الباء" الجارَّة داخلةً عَلى المنتَزَعِ منْه. أمثلة: المثال الأول: أن تقول: "لَئِنْ سَأَلْتَ فُلاَناً لَتَسْأَلَنَّ بِهِ البحْرَ، ولَئِنْ نَظَرْتَ إليه لترَيَنَّ به الْبَدْر، ولَئِنْ سَمِعْتَ كلامَه لتَجِدنَّ بِه السِّحْر". المثال الثاني: قولي صانعاً مثلاً: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 فَتَىً كُنْتُ أرْتَابُ في شَأنِهِ ... وأَحْسَبُهُ مَاكِراً فَاسِقاً فلَمّا تَقَصَّيْتُ أَسْرَارَهُ ... رَأَيْتُ بِهِ وَرِعاً صَادِقاً الأسلوب الثالث: التجريد باستخدام "الباء" الجارّة الداخلة على المنتزَع: ومنه قول الشاعر: وَشَوْهَاءَ تَعْدُو بي إلَى صَارِخِ الْوَغَى ... بِمُسْتَلْئِمِ مِثْلِ الْفَنِيقِ الْمُرَحَّلِ وشَوْهَاء: أي: ورُبّ فَرَسٍ شَوْهَاءَ قبيحة المنظر لِسَعَةِ أشداقها، وهذا مما يستحْسنُ في الخيل المعدَّة للحرب. تَعْدُو بي: أي تُسْرِعُ بي. إلى صَارخ الوغى: أي: إلى الصّارخ الذي يَصْرُخ داعياً إلى الحرب. بمُسْتَلْئِمٍ: الْمُسْتَلْئِم هو لابس لأمَةِ الحرب، أي: عدّة الحرب وسلاحها، ويقصد نفسه، إذ هو الْمُسْتَلْئِمُ، والفرسُ تَعْدُو به، وهذا على سبيل التجريد، والباء هنا داخلة على المنتزَعِ لا على المنتزَعِ منه. مِثْلِ الْفَنِيق: الْفَنِيقُ هو الْفَحْلُ المكرَّم عند أهله، شبّه نفسه به. الْمُرَحَّلُ: هُو البعيرُ الذي وُضِعَ عليه رَحْلُه وأرْسِلَ مُنْدَفِعاً في رِحْلَتِه. الأسلوبُ الرابع: التجريد باستخدام حرف الجرّ "فِي" داخلاً على المنتزع منه. ومن أمثلته قولُ الله عزّ وجلّ في سورة (فُصِّلَتْ/ 41 مصحف/ 61 نزول) : {ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله النار لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَآءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} [الآية: 28] . إنّ جهنَّمَ هي دَارُ الْخُلْدِ يوم الدّين لأعداء الله، ولكن جاء على طريقة التجريد، إذِ انْتُزِعَ من جَهَنَّمَ دَارٌ وجُعلَتْ داراً لهم، بأسلوب استخدام "في" الجارّةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 الظرفية دَاخلَةً على المنتزَعِ منه. الأسلوب الخامس: التجريد باستخدام العطف على الْمُنْتَزَعِ منه، مثل مرَرْتُ بالرَّجُلِ الكريم، والنّسَمَةِ المباركة، والعالم التقي. ففي هذا المثال عَطْفُ: النسمة المباركة، وعطف العالم التقيّ، على الرَّجُل الكريم، وهذا العطف يشعر بأنه عطفُ تغايُر، مع أنّ المعطوفين هما الرَّجُلُ الكريم نفسه، ولكن على طريقة التجريد، فكأنَّهُمَا شخصان مغايران له. الأسلوب السادس: التجريد باستخدام الكناية، ومن الأمثلة على هذا قول الأعْشَى: يَا خَيْرَ مَنْ يَرْكَبُ الْمَطِيَّ وَلاَ ... يَشْرَبُ كَأْساً بِكَفِّ مَنْ بَخِلاَ يريد أنّ ممدوحه لا يشرب كأساً بكفِّ بخيل، إنّما يشربُ بكف كريم، وبما أنّ هذا الممودح جوادٌ كريم فهو لا يشرب غالباً إلاَّ بكف نفسه، فقد جرّدَ الأعشى من مدوحه شخصاً كريماً ورأى أنه لا يشْرَبُ إلاَّ بكفّه. الأسلوب السابع: التجريد دون استخدام لفظ يَدُلُّ عليه، ومن الأمثلة على هذا قولُ مَسْلَمَةَ الحنفيّ: فَلَئِنْ بَقِيتُ لأَرْحَلَنَّ بِغَزْوَةٍ ... تَحْوِي الْغَنائِمَ أَوْ يَمُوتُ كَرِيمُ أي: تحوي هذه الغزوة الغنائم التي يَنَالُ منها ظافراً، أو يَموتُ هو فيها، فعبّر عن نفسه بقوله: "أو يَمُوتُ كريم" على طريقة التجريد، لِيُثْنِيَ على نَفْسِهِ بصفة الكريم. الأسلوب الثامن: التجريد عن طريق مخاطبة الإِنسان نفسه، ومنه قول "الأعشى": وَدِّعْ هُرَيرَةَ إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ ... وَهَلْ تُطِيقُ وَدَاعاً أَيُّها الرَّجُلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 ومنه قول الْبُوصيري في بُرْدَته يخاطب نفسه على طريقة التجريد: أَمِنْ تَذَكُّرِ جِيرَانٍ بِذِي سَلَمِ ... مَزَجْتَ دَمْعاً جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بدَمِ ومنه قول المتنبّي يخاطب نفسه على طريق التجريد: لاَ خَيْلَ عِنْدَك تُهْدِيهَا وَلاَ مَالُ ... فَلْيُسْعِدِ النُّطْقُ إِنْ لَمْ تُسْعِدِ الْحَالُ ومن التجريد فرع سمَّوهُ "عِتَابَ الْمَرْءِ نَفْسَه" وضَربُوا له أمثلةً منها: أن يقول النادم نحو: "يا ليتني" أو "يَا حَسْرتا على فرَّطْتُ في جنْب الله" وهما مما جاء في القرآن. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 البديعة المعنوية (16) : المزاوجة يقال لغة: زاوج بين الشيئين، إذَا قَرَنَ بينهما. والمزاوجة في الاصطلاح هنا: تَرْتِيبُ فِعْلٍ واحد ذي تَعَلُّقَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ عَلى شَرْطٍ وَجَزَائِهِ، لكنّه إذْ يُرَتَّبُ على الشرط يكون مقروناً بأحدهما، وإذْ يُرتّبُ على الجزاء يكون مقروناً بالآخر منهما. أمثلة: المثال الأول: قول البحتري يشكو هجْرَ سُعاد له: إِذَا مَا نَهَى النَّاهِي فَلَجَّ بيَ الْهَوَى ... أصَاخَتْ إلَى الْوَاشِي فَلَجّ بهَا الْهَجْرُ أي: إذَا نَهانِي الناهي عن حُبِّها فَلَجَّ (أي: تَمادَى) بِيَ الْهَوَى أصاخَتْ هي إلى الواشي (أي: اسْتَمَعَتْ إليه) فَلجّ بهَا الهَجْر. لقد زاوَجَ بَيْنَ نَهْيِ الناهي له عن حُبِّها الواقع في كلامه شرطاً، وبين إصاخَتِها للواشي به، الواقع في كلامه جزاءً، في أنْ رَتّبَ عليهما لَجَاجاً، لكنّ اللّجَاجَ الأول هو لَجَاجُ هواه بها، واللَّجَاجَ الآخر هو لَجَاجُها بهجره. وهذا فنُّ بديع. المثال الثاني: قول البحتريّ أيضاً من قصيدة يَمْدَحُ بها المتوكّل على الله، وفيها يَصِفُ فُرْسَانَ حَرْبٍ ثائرة للأخذ بالثأر من ذوي قُرْبَاها: إِذَا احْتَرَبَتْ يَوْماً فَفَاضَتْ دِمَاؤُهَا ... تَذَكَّرَتِ الْقُرْبَى فَفَاضَتْ دُمُوعُها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 إذا احْتَربَتْ: أي: حَارَبَ بعضُها بعضاً. لقد زاوج بين الاحتراب الواقع في كلامه شرطاً، وبين تذكُّر الْقُرْبَى الواقع في كلامه جزاءً، في أَنْ رَتَّبَ علَى كلٍّ مِنْهُما فَيْضاً، لكنّ الفيض المرَتَّب على الاحتراب هو فيض دماء، أمّا الفَيْضُ المرتّب على تذكّر القربَى فهو فيضُ دمُوَع. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 البديعة المعنوية (17) : المشاكلة المشَاكَلة في اللغة المشابهة والمماثلة. والمشاكلة في الاصطلاح هنا: ذكْرُ الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته. أمثلة: المثال الأول: قول "عمرو بن كلْثُوم": ألاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلينَا سَمَّى تأديبَ الجاهل على جَهْلِهِ جَهْلاً من باب المشاكلة، مع أنّ التأديب والعقاب ليسا من الْجَهْل. والمرادُ من الجهل هنا السّفَهُ والغضَبُ المنافي للحلْم وما ينتُجِ عنه من أعمال غَيْرِ حميدة. المثال الثاني: قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} [الآية: 194] . إنّ مقابلة الاعتداء بمثله لا يُسَمَّى في الأصل اعتداءً، ولكنْ سوَّغ هذا الإِطلاق داعي المشاكلة، ولِيُعْطيَ اللَّفْظُ معنى المماثلة في تطبيق العُقُوبَةِ دون زيادة، لأنّ معنى كلمة "اعتدى" في الأصل تجاوز حُدُود الحقّ، ومن العدل أن يُقَابَلَ التجاوز مماثل له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 المثال الثالث: قول "ابن الرَّقَعْمَق" مُتَظَرِّفاً: قَالُوا: اقْتَرْحْ شَيْئاً نُجِدْ لَكَ طَبْخَهُ ... قُلْتُ: اطْبُخُوا لِي جُبَّةً وَقَمِيصَا فطلبَ طَبْخَ جُبَّةٍ وقميص على سبيل المشاكلة لطلبهم أن يطبخوا له شيئاً يأكله، ودلّ بهذا على أنّه بحاجة إلى ما يَلْبَسُه. ويتسرّع بعض البلاغيين وغيرُهُمْ فيُمَثِّلُونَ بأمثلة قرآنية على المشاكلة، وهي لدى التحليل اللّغوي والرجوع إلى أصول المعاني لا يصحّ اعتبارها من المشاكلة، كألفاظ المكر، والكيد، والسيئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 البديعة المعنوية (18) : العكس المعنوي ويسمّى: التبديل العكس المعنوي: هو أن يُؤْتَى بأجزاء تالي الكلام على عكس ما جاء في أجزاء مُقدَّمِه. ويحْسُنُ هذا الفنُّ البديعيُّ حين يكونُ كلٌّ من مُقدّم الكلام وتاليه الذي هو عكْسُه مؤدِّيَيْن من المعاني ما يُقْصَدُ لدى البلغاء، كقولهم: كلام الأمير أميرُ الكلام. وللعكْس صُوَرٌ، منها ما يلي: (1) العكس بَيْنَ طَرَفَيْ جُمْلَةٍ واحدة، مثل: كَلاَمُ الأمِيرِ أَمِيرُ الكلام. (2) العكس بين مُتَعَلَّقَيْ فِعْلَيْنِ في جملتين، مثل: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِن الميّتِ ويُخْرِجُ الْميّتَ مِنَ الْحَيّ} [الروم: 19] . (3) العكْسُ بَيْنَ لَفْظَيْنِ في طَرَفَيْ جُمْلَتَيْنِ، مثل قول الأب لمعلّم ولَدِه الذّي أنْجَحَهُ في الامتحان بغير حق، فصار الولد يَسْقُطُ بعد ذلك في الامتحانات، أنْجَحْتَهُ بغير حقٍّ فَسَقَطَ، ولو أسقطته بحَقٍّ لَنَجَحَ. أمثلة: المثال الأول: قولُهم: عَادَاتُ السَّادَاتِ سَادَاتُ الْعَادات. كلُّ من مقدّم الكلام وتاليه الذي هو عكسه في هذا التعبير ذو معنىً مقصود، والمعنيان متكاملان في موضوعهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 المثال الثاني: قول الله عزّ وجلّ في سورة (فاطر/ 35 مصحف/ 43 نزول) : {يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل ... } [الآية: 13] . كلُّ من مُقَدَّم الكلام وتاليه الذي هو عكسه ذو معنىً مقصود، والمعنيان متكاملان في موضوعهما. المثال الثالث: قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) : {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظالمين} [الآية: 52] . جاء في هذه الآية العكس البديع في عبارة {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ} [الآية: 52] . المثال الرابع: قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ... } [الآية: 187] . المقدّم: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ} . وعكسه التالي: {وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} . المثال الخامس: قول الله عزّ وجلّ في سورة (الممتحنة/ 60 مصحف/ 91 نزول) {ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ فامتحنوهن الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ... } [الآية: 10] . المقدّم: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ} . وعكسه التالي: {وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 المعنى: ليس للكافر حقٌّ في أن يستمتع بامرأة مؤمنة في حكم الإِسلام، أي: ليس للمؤمنة أن تمكّنَهُ من الاستمتاع بها بزواج جديد، ولا بحقّ زواجٍ سابق، وليس للمجتمع الإِسلامي أن يمكّنه من الزواج بها، أو من بقاء زواجه منها إذا أسلمت وبقي هو على كفره. وكذلك ليس للمؤمنة حقّ في أن تستمتع بزوج كافر في حكم الإِسلام، وعلى الدولة الإِسلامية أنْ تُفَرّق بينهما إذا أسلمت هي وبقي هو على كفره. ونظير ما جاء في هذا النصّ ما جاء في قول الله عزّ وجلّ في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول) : {اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ... } [الآية: 5] . أي: يَحلُّ لَكُمْ أنْ تُطْعِمُوهُمْ من طعامِكُمْ، إذْ ليس هذا الحكم مُوجّهاً لأهل الكتاب الذين لا يؤمنونَ بالقرآن ولا بالإِسلام، إنما هو موجّه للمؤمنين. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 البديعة المعنوية (19) : الرّجوع الرّجوع: فنٌّ في مجرَى الكلام يَرْجِع فيه المتكلم إلى كلامه السابق فينقُضُه ويُبْطِله، لداعٍ بلاغي، كالتحسّر، والتحزّن، ودفع توهّمٍ قد يسبق إلى الذهن، واستدراكٍ بقيدٍ، وبيانٍ للمراد من الكلام السابق وغير ذلك. أمثلة: المثال الأول: قول "زُهَيْر بن أبي سُلْمَى": قِفْ بالدِّيَارِ الَّتي لَمْ يَعْفُهَا الْقِدَمُ ... بَلَى وَغَيَّرَها الأَرْوَاحُ والدِّيَمُ لَمْ يَعْفُها: أي: لم يَمْحُ آثارها. الأرْواح: أي: الرّياح، يقال لغة: ريح وجمعها رِيَاح وأَرْواح وأرْيَاح، والريح: الهواء إذا تحرّك. الدِّيَمُ: جمع "الديمة" وهي المطر الذي يدوم زَمَانُه طويلاً. نظر زهير إلى ديار مَنْ يُحِبُّ فتواردتْ عليه الذكريات، فتَمَثَّلَتْ صورتُها في نفسه كأنَّها مُشَاهَدَةٌ بعَيْنيه، فوصَفَ الدّيارَ بقوله: "لم يَعْفُهَا الْقِدَمُ" وما لَبِثَ طَوِيلاً حتَّى انجلَتْ تصوُّراتُه النفسيّة، وشاهد الواقع، فلم يَرَ في الدّيار أثراً، فقال: "بَلَى، وغَيَّرَها الأرواح والدّيم". أي إنّه أراد أن يُعَبِّر عن حالَتِه التي تعرَّض لها في النظرة الأولى ثم في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 النظرات التي جاءت بعدها، فصَاغَ كلامه بأسلوب الادّعاء أوّلاً، ونقضِ الادّعاء ثانياً. المثال الثاني: قول الحماسي "ابْن الطَّثْرِيّة": ألَيْسَ قِلِيلاً نَظْرَةٌ إِنْ نَظَرْتُهَا ... إِلَيْكِ وَكلاَّ لَيْسَ مِنْكِ قَلِيلُ رأى الشاعر أوّلاً أنّ صاحبته إذا سمحت له بنظرة ينظرها إليها فإنّها لا تعطيه إلاَّ عطاءً قليلاً، فأطلق عبارته فقال: "ألَيْسَ قَلِيلاً نَظْرَةٌ إِنْ نَظَرْتُهَا إِلَيْكِ" ولكن تَنَبَّهَ عَقِبَهَا إلَى أنّ القليلَ مِنْهَا بالنسبةِ إلَيْهِ شَيْءٌ كثيرٌ يكَثِّرُه حبُّهُ لها وشوقُه إليها، فاستَدْرَك على نفسه، فنقضَ قولَهُ بأُسلوبِ زَجْرِ نفسه زَجْرِ نفسه على أوّل تفكيره وتعبيرِه فقال: "وَكَلاَّ لَيْسَ مِنْكِ قَليلُ". كلُّ هذهِ كانت خواطِرَ مارّةً في نفسه، فرأى بأُسْلوبِه الأَدَبيّ أن يُعَبِّر عنها كما هيَ، ويُدَوِّنَها في شِعْرِهِ. ويُشْبِهُ قولَ هذا الحماس قولُ القائل: قَلِيلٌ مِنْكَ يَكْفِيني ولَكِنْ ... قَلِيلُكَ لاَ يُقَالُ له قَلِيلُ ونظيره قولُ المتنبّي من قصِيدَةٍ يُمْدَحُ بها سَيْفَ الدولة: وَجُودُكَ بِالْمُقَامِ وَلَوْ قَلِيلاً ... فَمَا فِيمَا تَجُودُ بِهِ قَلِيلُ قال العكبري: "وهو منقول من قول "أشْجَع": وقُوفُكَ بالْمَطِيِّ وَلَوْ قَلِيلاً ... وَهَلْ فِيما تَجُودُ بِهِ قَلِيلُ وكَقَوْل "إسْحاقَ الموصلي": إِنَّ مَا قَلَّ مِنْكَ يَكْثُر عِنْدِي ... وكَثِيرٌ مِمَّنْ تُحِبُّ الْقَلِيلُ وكقول "إسحاق" أيضاً: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 وحَسْبِي قَلِيلٌ مِنْ جَزِيلِ عَطَائِهِ ... وَهَلْ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ قَلِيلُ وكَقَوْل الآخر: وإنَّ قَلِيلاً مِنْكِ لَوْ تَبْذُلِينَهُ ... شِفَاءٌ، وقُلٌّ لَيْسَ مِنْكِ قَلِيلُ الْقُلُّ: الشَّيْء القليل. يُريد أن يقول: القُلُّ الذي لَيْسَ مِنْكِ هو القليل، أمّا مِنْكِ فَقُلُّكِ كثير. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 البديعة المعنوية (20) : المذهب الكلامي المذهب الكلامي: أن يأتي الأديب البليغ على صحّة دعواه وإبطال دعوى خصمه بحجّة عقليّة برهانيّة أو دُونَها. قالوا: هذه التسمية تُنْسَبُ إلى الجاحظ، والسبَبُ في إطلاق هذه التسميّة أنَّ عِلْمَ الكلام يَسْتَنِد في حُجَجه إلى الحجج العقلية، فإذا استخدم الأديبُ الحجج العقليّة في كلامه، فقد ذهب مذْهَبَ عُلَماءِ الكلام. أمثلة: المثال الأوّل: قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) : {أَمِ اتخذوا آلِهَةً مِّنَ الأرض هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ} [الآيات: 21 - 22] . هُمْ يُنْشِرُونَ: أي: هُمْ أرْبَابٌ يُحْيُونَ الْمَوْتَى. لَوْ كَان فيهما: أي: في السماوات والأرض. ففي قول الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} حُجَّةٌ عقليّة، ممّا يحتَّجُّ بِه عُلَمَاءُ الكلام. والدليلُ فيه يُسمَّى عند عُلَمَاء المنطق، "قياساً استثنائيّاً" وهو من قسم الشرطيّة المتصلة، فهو قياس استثنائيٌّ متّصِل، له مقدّم وتالي كما يلي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 مقدم التالي * لو كان فيهما آلِهَةٌ إلاَّ الله لفَسَدَتا (هذه القضية الكبرى) * لكنّهما لم تَفْسُدا، كما هو مشاهد في الواقع. (هذه القضية الصغرى) . إذن: فَلَيْسَ فيهما آلِهَةٌ بِحَقٍّ إلاَّ الله (هذه النتيجة - وقدْ رُفِعَ فيهما المقدّم) . المثال الثاني: قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنعام / 6 مصحف/ 55 نزول) : {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ} [الآية: 91] . قال اليهود في دعواهُمُ الكاذبة {مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} ليتَسَنَّى لَهُمْ إِنْكارُ كوْن القرآن مُنَزَّلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عزّ وجلّ. فجاء في النصّ تعليمُ الرسول وكلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَطْرَحَ عَلَيْهم سؤالاً يَتَضَمَّنُ حُجَّةً بُرْهَانِيَّةً ضِدَّهُم، وهو: {مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى} وهو التوراة؟. إِنَّهُمْ يؤمنون بأنّ اللَّهَ أنْزَلَه، وكتُبُهُمْ شاهِدَةٌ بذلك، فإذا جَحَدُوا أن يكون منزَّلاً من عند الله فقد نَقَضُوا قَضِيَّةً كُبْرى من قضايا إيمانهم في دينهم، وإذا قالوا كما يعتقدون: أنزلَهُ اللَّهُ على موسى، فقد نَقَضُوا قَوْلَهُمْ: {مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} . فالحجَّةُ البرهانيَّةُ دامِغَةٌ لهم. المثال الثالث: قولي من قصيدة بعنوان: "الصراع بَيْنْ الْحَقِّ والباطل": فَرِيقَانِ كُلٌّ لَهُ خِطَّةٌ ... تُدَنِّسُ في الأَرْضِ أَوْ تَغْسلُ نَقِيضَانِ مَا ائتَلَفَا طَرْفَةً ... وَجَمْعُ النَّقِيضَيْنِ لاَ يُعْقَلُ فمن القضايا العقليّة المنطقيّة أنّ النقيضَيْنِ لاَ يجتمعان في شيءٍ واحد، وإلى هذه الحقيقة أشار الله عزّ وجلّ بقوله في سورة (الأحزاب/ 33 مصحف/ 90 نزول) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ والله يَقُولُ الحق وَهُوَ يَهْدِي السبيل} [الآية: 4] . أي: فالقلب الواحد لا يقبل فكْرَتَيْنِ مُتَنَاقِضَتَيْن، والزوجات لا تكون أمُّهَات، والأدعياء لا يكونون أبناءً. المثال الرابع: قول "النابغة الذبياني" من قصيدة يعتذر فيها إلى "النُّعْمَان بن عَمْرو بن الْمُنْذِر" أحد ملوك آل غسّان في الجاهلية، كانت له حوران وعبر الأردن وتلك الأنحاء، وكان النابغة قد مدح آل جفنة بالشام، فسَاءَ ذلك النعمان: حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... ولَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ لِلْمَرءِ مَطْلَبُ لَئِنْ كُنْتَ قَدْ بُلّغْتَ عَنِّي خِيَانَةً ... لَمُبْلِغُكَ الْواشِي أَغَشُّ وأَكْذَبُ وَلَكنَّنِي كُنْتُ امْرَأً لِيَ جَانِبٌ ... مِنَ الأَرْض فِيه مُسْتَرَادٌ وَمَذْهَبُ مُلُوكٌ وإخْوَانٌ إِذَا مَا مَدَحْتُهُمْ ... أُحَكَّمُ في أَمْوَالِهِمْ وَأُقَرَّبُ كَفِعْلِكَ فِي قَوْمٍ أَرَاكَ اصْطَفَيْتَهُمْ ... فَلَمْ تَرَهُمْ فِي مَدْحِهِمْ لَكَ أذْنَبُوا رِيبَةً: أي شكاً. مُسْتَرَادٌ: مَكانٌ أَتَرَدَّدُ فيه لِطَلَبِ الرّزْق، يُقَال لغة: استرادَ الشيءَ، إذا طلَبَهُ مُقْبلاً مُدْبراً في مَكانِ الطَّمَع في الحصول عليه. يقول "النابغة" في اعتذاره "للنعمان": إنَّ لي مَصَالح في الأرض الَّتي أَخْتَلِفُ إليها، وأتردّدُ في أنحائها، ويُوجَدُ في هذه الأرض مُلُوك وإخوان، إذا أنَا مَدَحْتُهُمْ حَكَّمُوني في أموالهم وقرّبُوني إليهم، كَمَا تَفْعَلُ أنْتَ حِينَما يأتيكَ شُعَراءُ مِنْ غَيْرِ شُعرائِكَ الخُاصِّينَ بك، فيَمْدَحُونَكَ، فإنَّكَ تُكْرِمُهم، وتُجْزِلُ لهم العطايا، ولا تراهُمْ مُذْنبين، مع أنَّهم في الأصل شعراء لغيرك، فعاملين كما تعاملهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 الشاعر هنا يَقِيسُ حالَتَهُ على حالة شعراء آخرين، فعلوا مثله، ولم يعتبرهم النعمان مذنبين، وهذا الاستدلال المنطقيُّ في الشعر وارد على مذهب علماء الكلام في تقديم الحجج العقليّة، على أنّ النابغة جاهليٌّ جاء قبل عُلَماء الكلام بقرون، لكنّه ساق في شعره دليلاً عقليّاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 البديعة المعنوية (21) : المُبَالغة المبالغة في اللّغة: الاجتهاد في الشيء إلى حدّ الاستقصاء والوصول به إلى غايته، وتأتي بمعنى المغالاة، وهي الزيادة بالشيء عن حدّه الذي هو له في الحقيقة، يقال لغة: بالغَ في الأمر مُبالغةً وبلاغاً، إذا اجتهد فيه واستقصى، وإذا غالى فيه أيضاً. والمبالغة اصطلاحاً هنا: أن يدّعي المتكلّم لوصفٍ ما أنَّه بلغ في الشدّة أو الضعف حدّاً مستبعداً أو مستحيلاً. الآراء حول قبولها أو عدمه: * يرى بعض المتشدّدين رَفْضَها مطلقاً، لخروجها عن منهج الحقّ والصّدق. * ويرى المترخّصُون قبولها مطلقاً، في التعبيرات الأدبيَّة، بدعوى أنّ أعذب الشعر أكْذَبُه. * أمّا جمهور العلماء والأدباء فقد توسَّطُوا في الأمْر، فقبلوا من المبالغة ما كان منها حسناً جميلاً جارياً مجرَى الاعتدال الذي لا يراه الناس مستنكراً ولا مُسْتَهْجَناً، أو قائماً على التصوير الخيالي في سياق من الكلام يَسْمَحُ بذلك، بشرط أن لا يكون في المبالغة إيهامٌ بأنّ المتكلّم يُقَرّرُ حقيقةً واقعة بكلّ عناصرها، بل يُدْرِكُ المتلقِّي أنَّ الكلام مَسُوقٌ على سبيل المبالغة، فيأخذ منها المعنَى المعتادَ في الكثرة مع زيادةٍ مقبولة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 أقسام المبالغة: قسّم علماء البديع المبالغة إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: "التبليغ" وهي المبالغة الممكنة عقلاً وعادةً. القسم الثاني: "الإِغراق" وهي المبالغة الممكنة عقلاً لا عادةً. القسم الثالث: "الغُلوّ" وهي المبالغة غير الممكنة لا في العادة ولا في العقل. أمثلة: المثال الأول: قول امرئ القيس، يصفُ فرسه بالقدرة على العدو الشديد، والمتابعة في الطِّراد، والصّبر على التردّد السّريع مُدَّةً طويلة بين طريدتَيْن، دون أَنْ يَتَصَبَّبَ عرقاً: فَعَادَى عِدَاءً بَيْنَ ثَوْرٍ وَنَعْجَةٍ ... دِرَاكاً فَلَمْ يَنْضَحْ بمَاءٍ فَيُغْسَلِ فَعَادَى عِدَاءً: أي: وَالَى مُطَاردَتَهُ لِصَيْدَيْنِ، يُتابِعُ كُلاًّ مِنَ الطَّرِيدَتَيْن. والْعِدَاءُ: الشَّوْط الواحِدُ من الْعَدْو. بَيْنَ ثَورٍ وَنَعْجَةٍ: أي: بين ثور من بقر الوحش، وبقَرَةٍ وحشيّة. النَّعْجَةُ الأنْثَى مِنَ الضأن، والبقرة الوحشيّة، وهي المرادَةُ هُنَا. دِرَاكاً: أي: مُلاَحقَةً، يقالُ: دَارَكَ الطريدة من الصَّيْدِ مُدارَكةً وَدِراكاً، إذا لَحِقَهَا. فَلَمْ يَنْضَحْ بِمَاءِ فَيُغْسَلِ: أي: فلم يتصَبَّبْ عَرَقاً، كما يحدُثُ لغيره من الخيول. هذه المبالغة يمكن أن نعتبرها من القسم الأول "التبليغ" لأنَّها ممكنة في العقل والواقع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 أمّا قوله في وصفه: مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ معاً ... كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ فمن غير الممكن أن يكون في كرِّهِ إلَى الجهة الّتِي يُقْبلُ عَلَيْها فارّاً عنها، فهي مبالغةٌ من القسم الثالث "الغلوّ" لكنَّها مع ذلك مبالغةٌ مقبولة، لأنّ امْرأ القيس يُصوِّر مَشاعِرَهُ، ويُعَبِّر عمّا يَتَمَثَّلُ في خيَالِ الْمُشَاهِدِ حينَ يرى سُرْعَتَهُ الفائقة الّتِي يختَلِطُ فيها الكرّ والفرّ، حتى كأنّه يَكِرُّ ويَفِرُّ معاً، وهذا ما يُسَمَّى عند الأدباء المعاصرين "الصِّدْقَ الْفَنِّي". المثال الثاني: قول "المتنبّي" يصف فرسه: وَأَصْرَعُ أَيَّ الْوَحْشِ قَفَّيْتُهُ بِه ... وَأَنْزِلُ عَنْهُ مِثْلَهُ حِينَ أَرْكَبُ يقول: إذا طَرَدْتُ بفرسِي وَحْشاً أَيَّ وَحْشٍ بَلَغَهُ فتمكَّنْتُ منه، فصَرَعْتُه، وأَنْزِلُ عنه بعد ذلك، فأَجدُه مثْلَهُ حينَ أَرْكَبُه، أي: لم يَلْحَقْهُ التّعَبُ وَلَمْ يَكِلَّ، لقُوَّتِهِ وعِزَّةِ نفسه. قال العكبري: كقول ابن المعتزّ: تَخَالَ آخِرَهُ في الشَّدِّ أوَّلَه ... وَفِيهِ عَدْوٌ وَرَاءَ السَّبْقِ مَذْخُورُ أقول: المبالغة في هذين البيتين من قسم "التبليغ". المثال الثالث: قول "الحماسي": رَهَنْتُ يَدِي بالْعَجْزِ عَنْ شُكْرِ برِّه ... وَمَا فَوْقَ شُكْرِي للشكُور مَزِيدُ وَلَوْ كَانَ مِمَّا يُسْتَطَاعُ اسْتَطَعْتُهُ ... ولَكِنَّ مَالاً يُسْتَطَاعُ شَدِيدُ بالَغَ فادّعَى أنَّه قَدَّمَ غَايَةَ ما يَسْتَطِيعُ مِنْ شُكْر، وإِنْ كان ما قدّمَهُ لا يُسَاوِي مَا نَالَ من ممدوحه من برّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 هذه المبالغة من قسم "التبليغ" أيضاً. المثال الرابع: قول "ابن نُباتَة السعدي" في سيف الدولة: لَمْ يُبْقِ جُودُكَ لِي شَيْئَاً أُؤَمِّلُهُ ... تَرَكْتَنِي أصْحَبُ الدُّنْيا بِلاَ أَمَلِ هذه المبالغة ممكنة عقلاً، لكنّها مستبعدة واقعاً بحسب العادة، فهي "إغراق". المثال الخامس: قول المتغزّل: خَطَرَاتُ النَّسِيمِ تَجْرَحُ خَدَّيـ ... ـهِ ولَمْسُ الْحَرِيرِ يُدْمِي بَنَانَهُ هذه المبالغة من قسم "الإِغراق". المثال السادس: قول "عَمْرو بْنِ الأَيْهَم التَّغْلِبي": وَنُكْرِمُ جَارَنَا مَا دَامَ فِينَا ... ونُتْبِعُهُ الْكَرَامَةَ حَيْثُ مَالاَ هذه المبالغة من قسم "الإغراق". المثال السابع: قول ابن الرّومي يذمّ بخيلاً ببخله: لَوْ أنَّ قَصْرَكَ يَا ابْنَ يُوسُفَ مُمْتَلٍ ... إِبَراً يَضِيقُ بِهَا فِنَاءُ الْمَنْزِلِ وَأَتَاكَ يُوسُفُ يَسْتَعِيرُكَ إِبْرَةً ... لِيَخِيطَ قَدَّ قَمِيصِهِ لَمْ تَفْعَلِ هذه المبالغة من قسم "الغلوّ". ومثلُهُ قولُ ابن الرومي أيضاً يَصِفُ بخيلاً: فَتَىً عَلَى خُبْزِهِ وَنَائِلِهِ ... أَشْفَقُ مِنْ وَالِدٍ عَلَى وَلَدِهْ رَغِيفُهُ مِنْهُ حِينَ تَسْأَلُهُ ... مَكَانَ رُوحِ الْجَبَانِ مِنْ جَسَدِهْ المثال الثامن: قول "أبي نواس" من قصيدةٍ يمدح بها الرّشيد: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 وأَخَفْتَ أَهْلَ الشِّرْكِ حَتَّى إنَّهُ ... لَتَخَافُكَ النُّطَفُ الَّتِي لَمْ تُخْلَقِ هذه المبالغة من "الغلوّ". قالوا: إنّ "العتابي" لقي أبا نواس فقال له: أما اسْتَحْيَيْتَ من الله بقولك: "وأخَفْتَ أهلَ الشّرْك". فقال له "أبو نواس": وأنت ما استحييت من الله بقولك: مَا زِلْتُ في غمَرَاتِ الْمَوْتِ مُطَّرَحاً ... يَضِيقُ عَنِّي وَسِيعُ الرّأي مِنْ حِيَلي فَلَمْ تَزَلْ دَائِباً تَسْعَى بِلُطْفِكَ لِي ... حتَّى اخْتَلَسْتَ حَيَاتِي مِنْ يَدَيْ أَجَلِي المثال التاسع: قول البحتري في مدْح أمير المؤمنين "المتوكّل على الله": فَلَوَ أنَّ مُشْتَاقاً تَكَلَّفَ فَوْقَ مَا ... فِي وُسْعِهِ لَسَعَى إِلَيْكَ الْمنْبَرُ هذه المبالغة من "الغلوّ" المقبول. المثال العاشر: قول "المتنبّي" في صباه في المكتب: أَبْلَى الْهَوَى أسَفاً يَوْمَ النَّوَى بَدَني ... وفَرَّقَ الْهَجْرُ بَيْنَ الْجفْنِ وَالْوَسَنِ رُوحٌ تَرَدَّدُ في مِثْل الْخِلاَلِ إِذا ... أَطَارَتِ الرّيحُ عَنْهُ الثَّوْبَ لَمْ يَبِنِ كَفَى بِجِسْمِي نُحُولاً أَنَّنِي رَجُلٌ ... لَوْلاَ مُخَاطَبَتِي إِيَّاكَ لَمْ تَرَنِي الأسف: الحزن. والوسَنُ: النوم. في المبالغة هنا "غُلُوّ" مقبول. والأمثلة من شعر الشعراء على أقسام المبالغة كثيرة. المقبول من قسم "الغلوّ". قال البلاغيّون: والمقبول من قسم "الغلوّ" عدّة صُور، منها: (1) أن يدخل عليه مَا يُقَرِّبُهُ إلى الصحة، كقول الله عزّ وجلّ في سورة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول) في وصف زيت شجرة الزيتون التي ليست شرقيّة ولا غربية: {يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ... } [الآية: 35] . فعبارة: {يكاد} قرّبَتْ فِكْرَةَ إضاءَة الزّيتِ بِبَرِيقه الشدّيدِ من الصحّة، وجعلت المبالغة مقبولة. (2) أن يُقَدَّمَ في صُورَةٍ جميلة تخيُّليّة، كقول القاضي الأرجاني يصف اللَّيْلَ بالطّول على طريقة التخيُّل: يُخَيَّلُ لي أَنْ سُمِّرَ الشُّهْبُ في الدُّجَى ... وشُدَّتْ بأَهْدَابِي إلَيْهِنَّ أجْفَانِي (3) أنْ يكُونَ تعبيراً عن حالة الشعور النفسيّ، فيما يُسمَّى بالصدق الفني، كقول امْرِئ القيس في وصف فرسه: مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعاً ... كجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ (4) أن يُسَاقَ مَساقَ الْهَزْل، كقول الهازل الْخَلِيع: أَسْكَرُ بالأَمْسِ إِنْ عَزَمْتُ عَلَى الشُّرْ ... بِ غَداً. إِنَّ ذَا مِنَ الْعَجَبِ المبالغة بالصيغة: وذكر الباحثون في بدائع القرآن المبالغة بصيغةٍ أو لفظٍ من ألفاظ المبالغة السّماعية أو القياسية. وصيغ المبالغة هي: (1) فَعْلاَن: مثل: رحمن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 (2) فَعِيل: مثل: رَحيم. (3) فَعَّال: مثل: توَّاب - غَفَّار - قَهَّار. (4) فَعُول: مثل غَفُور - شَكُور - وَدُود. (5) فَعِل: مثل: حَذِر - أَشِر - فَرِح. (6) فُعَال: مثل: عُجَاب. (7) فُعَّال: مثل: كُبَّار. (8) فُعَل: مثل: لُبَد. (9) فُعْلَى: مثل: عُلْيَا - حُسْنَى - شُورَى - سُوأَى. وتوجد صيغ أخرى، مثل: رحموت، ورهبوت، مما هو سماعي. ودار نقاش حول استعمال صيغ المبالغة أو صافاً وأسماءً لله عزّ وجلّ: * فزعم بعضهم أنّها مستعملة بجانب الله على سبيل المجاز، إذ هي موضوعة للمبالغة، ولا مبالغة فيها حين يوصف الله بها. * وقال بعضهم المبالغة فيها بحسب تعدّد المفعولات التي تفوق تصوّرات الخلائق. أقول: هذا النقاش الذي دار حول هذا الموضوع سببه الفكرة الّتي سبقت إلى تصوّر الناس حول الصّيغ التي أسماها علماء العربية اصطلاحاً صِيَغَ مبالغة، مع العلم بأنّ العرب قد استعملوا هذه الصِّيغ ولو يقولوا: إنّها صيغ مبالغة، بمعنى أنّها تدلّ دواماً على ما هو زائد على الواقع والحقيقة حتى ترد الإِشكالات الّتي أوردها المستشكلون حول صفات الله عزّ وجلّ. وباستطاعتنا أن نقول: إنّ هذه الصيغ موضوعة في الأصل للدلالة على كمال الصفة، وهذا الكمال لا يوجد في الناس، أو للدلالة على الكثرة والوفرة في أجزاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 الصفة، دون أن يكون ذلك على سبيل المبالغة بمعنى الزيادة على الحقيقة والواقع دواماً، فإذا أطلقت على غير مستحقّ الكمال فيها كان هذا الإِطلاق على سبيل المبالغة، وإذا أطلقت على مستحقّ الكمال أو الكثرة فيها فهو إطلاق على وجه الحقيقة ولا مبالغة فيه، فما يسمَّى بصيغ المبالغة إذا أطلقت على الله عزّ وجلّ فهي مطلقة بحسب وضعها اللُّغوي، ولا مبالغة فيها، وبهذا ينحلّ الإِشكال من أساسَه، وسببُ الإِشكال التقيّد بتعريفات اصطلاحيّة جاءت على ألسنة علماء اللّغة، دون الرجوع إلى التبصّر بأصل الاستعمالات العربية، وتحرير المراد من الاصطلاح. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 البديعة المعنوية (22) : حول التتابع في المفردات والجمل يتناول الكلام هنا الاختيارات البديعة التالية: (1) الاطّراد. (2) الترتيب. (3) الترقّي والتدلّي. (4) حُسْنُ النَّسَق. (5) التعديد - أو "حُسْنُ التعديد". نظر علماء البديع إلى عناصر جمالية معنوية تتعلّق بتتابع المفردات والجمل في الكلام الواحد، فوضعُوا لما اكتشفوه منها أسماءً. أوّلاً - الاطّراد: قالوا: من البديع أن يذكر المتكلّم آباءَ من يَتَحَدَّثُ عنه متسلسلة على وفق الترتيب الطبيعيّ الذي هُوَلَهُمْ، في سلسلة نَسَبِهم، بدءاً من الجدّ الأعلى وتنازلاً إلى الأب المباشر، أو بالعكس، إذا كان له غرضٌ بذكرهم، وسمّوا هذا "الاطّراد" وهذه التسمية ملائمة للمعنى اللّغوي للكلمة، فالاطّراد في اللّغة: التتابُع والتسلسل، يُقَالُ: اطَّرَدَ النَّهْرُ، إذا تتابع جَرَيانُ مائة، واطَّرَدَ الكلامُ أو الحديثُ، إذا جرَى مجرى واحداً متَّسِقاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 ومخالفة الاطّراد هذا لاَ تَحْسُن إلاَّ لنكتَةٍ بلاغية يُريد المتكلم بها الإِشارة إليها. فالاطّراد يُلائم السّلسلة الفكريّة الطبيعيّة لدى المتلَقِّي. أمثلة: المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (يوسف/ 12 مصحف/ 53 نزول) حكاية لما قال يوسف عليه السلام لصاحبيه في السّجن: { ... إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ * واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَيْءٍ ذلك مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى الناس ولاكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} [الآيات: 37 - 38] . بَدَأَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِذِكْرِ جَدِّهِ العالي إبراهيم أوّلاً، لأنّه الأوَّلُ من آبائِهِ الأقربين الّذينَ حَمَلُوا الملّةَ الّتي يدعو صاحِبَيْهِ في السَّجْن لاتِّبَاعِهَا، فذكر بعده ابْنَ إبراهيم المباشر إسْحاق، فذكَرَ يعقوبَ بن إسْحاق، ويعقوبُ هو الأَبُ المباشر ليوسفَ عليهم السلام. المثال الثاني: قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينَ سُئِلَ عن أكْرم الناس: "الكريم ابْن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم". المثال الثالث: قول الشاعر: إنْ يَقْتُلُوكَ فَقَدْ ثَلَلْتَ عُرُوشَهُمْ ... بعُتَيْبَة بْنِ الحَارِثِ بنِ شِهَابِ ثَلَلْتَ عرُوشَهُم: أي: أذهبت سلطانهم، ويُقَالُ: ثَلَّ الدارَ إذا هَدَمَها. المثال الرابع: قول "دُريد بن الصِّمة": قَتَلْنَا بِعَبْدِ اللَّهِ خَيْرَ لِدَاتِهِ ... ذُؤَابَ بْنَ أسْماءَ بْنِ زَيْدِ بْنِ قَارِبِ لِدَاتِه: نظرائِه في السّن، لِدَةُ الإِنسان مَنْ وُلِدَ مَعَهُ في وقت واحد. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 ثانياً - الترتيب: وقالوا: من البديع إذا أراد المتكلّم أن يَذْكُر أوصافاً متعدّدة لموصوف بها واحد، أن يذكرها على وفق ترتيبها الطبيعيّ، دون إخلال، ما لم يَدْعُ داعٍ بلاغيٌّ آخر يَحْرِصُ المتكلّم أن يشير إليه بمخالفة الترتيب الطبيعي، وسمّوا ذكر الأوصاف المتعدّدة متتابعةً على وفق ترتيبها الطبيعيّ "ترتيباً". أمثلة: المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (غافر/ 40 مصحف/ 60 نزول) : {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن قَبْلُ ولتبلغوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الآية: 67] . جاء في الآية ذِكْرُ أطْوَارِ خلْقِ الإِنسان وفق ترتيبها الطبيعي، وهو أمرٌ مستحسنٌ بديع. المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الشمس/ 91 مصحف/ 26 نزول) : {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ * إِذِ انبعث أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله نَاقَةَ الله وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الآيات: 11 - 15] . جاء ترتيب الأحداث في هذا النصّ وفق ترتيبها في الواقع الذي حدَثَ، وهو أمرٌ مستحسن بديع. المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الرعد/ 13 مصحف/ 96 نزول) : {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} [الآية: 17] . جار الترتيب في هذه الآيَة وفق ترتيب الأحداث في الواقع وهو أمْرٌ مستحسنٌ بديع. *** ثالثاً: الترقّي والتدلّي: وقالوا: من البديع لدى ذكر المتعدّدات من جنس أو نوع أو صنف واحد، إذا كان بينها تفاضل في الدَّرَجات أو المراتب، أن تُذْكر إمَّا من الأدنى إلى الأعلى ترقّياً، أو من الأعلى إلى الأدنى تدلّياً، ما لم يدْعُ داعٍ بلاغي آخر يحرص المتكلّم أن يشير إليه بمخالفة هذا النظام، كمراعاة رؤوس الآي، وكالتنويع في نصوص متعدّدة. ووضعوا للالتزام بهذا النظام عنوان: "الترقّي والتَّدَلّي". أمثلة: المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) بشأن معبودات المشركين من الأصنام: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ} [الآية: 195] . جاء في هذه الآية الْبَدْءُ بالأَدْنَى لغرض الترقّي، إذ الْيَدُ أشرفُ من الرّجل، والْعَيْنُ أشرفُ من الْيَدِ، والسَّمْعُ أشرفُ من الْبَصَر، فالأعمى يستغني بالسَّمْع لتحصيل المعارف الكثيرة، لكن الأصَمَّ البصير دونه في ذلك. المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 {والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ يَخْلُقُ الله مَا يَشَآءُ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الآية: 45] . جاء في هذه الآية الْبَدْءُ بالأعلَى الأدَلِّ على قُدْرَةِ الرَّبّ الخالق، وهو المشي على البطن دون أرجل، فَالأدنَى وهو المشْيُ على رجلين، فالأدنَى وهو المشيُ على أرْبَع، لغرض الأَخْذِ بنظام التدلّي. *** رابعاً - حُسْنُ النّسَق: وقالوا: من البديع في الجمل المتتالية الّتي جاء بعضُها معطوفاً على بعضٍ أن تكون فيما بينها متلاحمة تلاحماً سليماً مستحسناً، وأن تكون كلُّ واحدة منها قابلةً لأن تستقلَّ بنفسها لو أُفْرِدَتْ وسَمَّوا هذا "حُسْنَ النَّسَق". أمثلة: المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) في عرض لوحة من قصة نوح عليه السلام وقومه: {وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي وَغِيضَ المآء وَقُضِيَ الأمر واستوت عَلَى الجودي وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين} [الآية: 44] . إنَّ جُمَل هذه الآية معطوفٌ بعضها على بعضٍ بواو عطف النسق على الترتيب الذي تقتضيه البلاغة. * فقد جاء فيه البدء بالأهمّ، الذي هو انحسار الماء عن الأرض، المتوقف عليه غاية مطلوب أهل السفينة، الذين يترقَّبُونَ الْخلاصَ من سِجْنِها. * وبعده جاء. بيان انقطاع مدَد الماء من السماء، الذي يتوقف عليه كمال المطلوب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 * وبعدهما جاء الإِخبار بذهاب الماء بعد الأَمْر بِالبَلْعِ والإِقلاع. * وبعد ذلك جاء بيان انقضاء الأمر كلّه الّذي من أجله حدَثَ الطوفان العظيم، وهو هلاك الكافرين ونجاة نوح والذين آمنوا معه. * وبعد ذلك جاء بيان استواء السفينة على جبل الجودي، الذي وقع فعلاً بعد أن قُضِي الأمر. * وأخيراً جاء الختم بإعلان طَرْدِ الكافرين بعبارة: [وقِيلَ: بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمين] للإِشارة إلى أنّ مَنْ أُبْعِدَ من الرَّحْمَةِ هُمُ الكافرونَ فقط. المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) : {وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} [الآية: 142] . جُمَلٌ ثَلاَثٌ قالها موسى لأخيه هارون تتضَمَّن مَرْسوم تعيين من ثلاث موادّ متلاحمة متفاصلة: المادة الأُولى: اخْلُفْنِي في قَوْمي. المادة الثانية: وأصْلِحْ: (أي: في إدارتك وخلافَتِكَ لي) . المادة الثالثة: وَلاَ تَتبعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِين (أي: مَهْما كانت كثرتهم، فاحْزِمْ أمْرَك ولا تتَّبِعْهُمْ مدارياً لهم) . أقول: ويمكن أن نُدْخِلَ تحت عنوان "حُسْنِ النَّسَق" ما يتضمّن مراعاة حالة أنفس المتلَقِّين، لدى ملاحظة المشهد الذي يعرضه المتكلّم في الصورة الكلاميّة. فمن حسن النَّسَق أنْ تكون الصورة الكلاميّة مطابقة لواقع حال المتلَقِّي لدى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 إدراكه المشهد في الواقع، ومن الأمثلة على هذا قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الغاشية/ 88 مصحف/ 68 نزول) : {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السمآء كَيْفَ رُفِعَتْ * وإلى الجبال كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأرض كَيْفَ سُطِحَتْ} [الآيات: 17 - 20] . أْقُلُ هُنَا ما سَبَقَ أن كتبتُه في كتابي: "أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع"، إذْ أعالج في هذا النصّ من جوانبه الأدبيّة فنّيَّةَ تَرْتِيب جُمَله فقط. قد يهدف ترتيب الجمل القرآنيّة إلى عَرْضِ لَوْحَةٍ فَنِّيَّةٍ مِنْ لَوْحَاتِ مَا خَلَق اللَّهُ في كونه، حتَّى كأَنَّها رسْمٌ قَدْ رُوعيَتْ فيه كلُّ الشّروط الفنّيّة الْتي تُراعَى في الرّسُوم والصُّورِ الرفيعة، فتَبْدُو الصورةُ مثالاً مطابقاً لحركة تَتَابُعِ المشْهَد في نَفْسِ المشاهد. تصَوَّرْ أَنَّكَ جالِسٌ في باديَةٍ في خَيْمَةٍ، كَوَاحدٍ من عُرْبانِ البادية، وَأمَامَكَ سَهْلٌ مُمْتَدٌّ، وبعْدَه سِلْسِلة جبالٍ متتابعة، ومرَّتْ قافلةُ جمالٍ في هذا السهل بينَكَ وبيْنَ الجبال. فكيف تتنقَّلُ نَفْسُك في هذا المشهد، بعْدَ هذا الحدَثِ المتحرّك المثير، وهو قافِلةُ الجمال؟. لقد تَمثَّلْتُ هذه الصورة، فَوجَدْتُ أَنَّنِي أتَنقَّلُ في متابَعَتِهَا مُرَكّزاً علَى بُؤْرَةِ المشهد مرحلةً فمرحلةً على الوجه التالي: اللّقْطَةُ الأولى: صورة قافلة الجمال السائرة، إذْ كانت أوّل لافتٍ لنظري، بسبب الحركة، وغرابَةِ المشهد، ورغبة النفس في متابَعةِ مُشاهدته قَبْلَ أن يغيبَ عن النظر، فكانَتْ في حِسِّي هي بُؤْرَة المشْهَد البارزة، وما سواها كانَ أرضيَّةً لها. اللقطة الثانية: صورةُ السَّمَاءِ مِنْ جهة الأفق الْبَعِيدِ ورَاءَ القافلة، إذْ شَبِعَتْ نَفْسِي من مُتَابعةِ التركيز على قافلة الجمال، فتركْتُها، وجَعلْتُها أرضيَّة الصورة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 وانتقَلْتُ للتأمُّل في السّماء، فكانت السماء في حسِّي هي بُؤرَة المشهد البارزة، وتَوجَّهَ بصَري للتَّرْكيزِ على السماء، بحثاً وتأمُّلاً، حتَّى إذا شَبِعْتُ من ذلك ظهَرَتْ فِي شُعُورِي لقطةٌ أخرى. اللقطة الثالثة: هي صورة الجبال المتتابعة، إذْ أَخَذَتْ تَبْرُزُ في حِسِّي، فتكونُ بُؤْرَةَ المشهد، وتوجّه بصري للتركيز على الجبال بحثاً وتأمُّلاً فيها. وأدركْتُ أنّ من طبيعة النفوس لدى مُشَاهَدةِ مشهد متعدّد العناصر، أن تبدأ بالمتحرّك لأنّه أكثر إثارةً، ثُمّ تنتقل إلى أعْلَى المشهد، ثمّ تتدلّى شيئاً فشيئاً حتّى أدناه. ولمّا شَبِعْتُ من التأمُّلِ في الجبال ظهرت في شُعوري اللّقطة الَّتي وراءها. اللقطة الرابعة: هي صورة الأرض المنبسطة الممتدّة أمامي كأنّها السَّطْحُ، أخَذَتْ تَبْرُزُ في حِسّي، فتكونُ بُؤْرَةَ المشهد، وتوجّه بصري للتركيز على الأرض بحثاً وتأمُّلاً فيها. عندئذٍ عَلِمْتُ الحكمة التي دعَتْ إلى ترتيب الجمل القرآنية، من سورة (الغاشية) في الآيات من (17 - 20) وما فيها من تصوير كلاميّ مُتَابعٍ لحركة النَّفْس لدى مُشاهَدَةِ مثلِ هذه اللّوحة التي عرضها النصّ. وقُلْتُ في نفسي: إنّها بهذا الترتيب تقدّمُ لوحةً فنّيَّة، تُطابقُ ما يَحْدُثُ لِمُشَاهدٍ واقعٍ في مثل هذا المشهد. إنّ العليم الحكيم الخبير يقدّم هذه اللّوحة الفنيَّة، ليلفت نَظَر الْمُشاهِدِ من خلالها إلى إدراكِ طائفةٍ من صفاتِ الخالق جلّ جلاله، الّتي تدلُّ عليها آياتُ هذا المشهد البديع، ومنها أنَّه عليم حكيم قدير بديع السماوات والأرض، قد أتْقَنَ كلَّ شيءٍ صُنْعاً. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 خامساً - التعديد أو (حُسْنُ التعديد) : وقالوا: من البديع في الألفاظ المفردة المتتالية أن يؤتى بها على سياق واحد، دون أن يكون بينها ما يَشِذُّ ويَنْبُو عن الذوق الأدبيّ الرّفيع، في دلالتها وفي ألفاظها، وأكثر ما يوجد هذا في الصفات المتتاليات. وسمّوا إيقاعَها على سياق واحد متلائم: "التعديد" والأحسن أن يُسمَّى "حُسْنَ التعديد". أمثلة: المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الحشر/ 59 مصحف/ 101 نزول) : {هُوَ الله الذي لاَ إلاه إِلاَّ هُوَ الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الآية: 23] . فجاء البَدْءُ بذكر اسم "الْمَلِك" إذ هُو مَالِكُ كُلِّ شيء وذو السلطان على كلّ شيء، والبدءُ به هو الملائم في السّياق بعد بيان اسمه (الله) ويبان أنّه لا إله بحقٍّ إلاَّ هو، وجاء بعد "الْمَلِك" اسمان من أسماء الله الحسنى متلائمان يتطلَّبهما السياق وهُمَا "القدُّوس" و"السّلاَم" فمعنى القدّوس: الْمُنزَّه عن صفات النقص الّتي لا تليق بالرَّبّ الخالق المعبود. ومعنى السّلاَم: ذو السلامة من كلّ نقص في ذاته وصفاته وأفعاله، فهما متلائمان، وبعد التنزيه يستدعي السياق إثبات صفات الكمال له، وأوَّلُها شُمُولُ علمه كُلَّ شيء، وأنّه يعْلَمُ كلّ شيء علماً يقينيّاً لا يُخَالطه أدنى شَكّ، والاسم الملائم لهذا "المؤمن" وبعد شمول علمه كلَّ شيء يستَدْعي الفكر إثبات هَيْمَنَتِه بقدرته وسلطانه على كُلِّ ما سواه مما هو خالق له، وممّا سيخلقه، فجاء الاسم الملائم وهو "المهيمن" ومن هيمنته بقدرته وسلطانه، أنْ يكون قويّاً ذا قوّة غالبة، لا يستطيع معارضٌ أن يعارضها، فجاء الاسم الملائم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 لهذا هو "العزيز" إذْ معناه القويّ الغالب، ومن عزّته أَنْ يكون إذا أراد شيئاً فعله بالْجَبْرِ، ضدّ أيّةِ قُوَّةٍ لها إرادةٌ معارضة، من خلقه الذين منحهم الإِرادات الحرَّة وسخَّرَ لَهُمْ في كونه بعض المسخّرات، والاسم الدالّ على هذا هو "الجبّار" ويُدْرِكُ الذهن أن من جَمَعَ الصفات السابقات لا بُدَّ أن يكون أكْبَر منْ كُلِّ كبيرٍ في الْوُجُود، وأن يكون عالماً بهذه الصفة من صفاته، فجاء الاسم الدَّالُّ على هذه الحقيقة "المتكَبِّر" أي: الْمُثْبِت لنفسه أنّه أكبر من كلّ كبير إثباتاً مؤكّداً. المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) في وصف المؤمنين الذين اشترى منهم أنفسهم بأنّ لهم الجنّة يُقَاتِلُون في سبيل الله فيقتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ: {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عَنِ المنكر والحافظون لِحُدُودِ الله وَبَشِّرِ المؤمنين} [الآية: 112] . وبالتأمُّل نُلاحِظُ أَنَّ هذِهِ الصِّفَاتِ المذكورات لخيار المؤمنين متعانقاتٌ تَعَانُقاً متلائماً يَسْتَدْعي سابقُها تالِيَهَا لدى التحليل الذهني. فالتوبة هي المطلوب الأوّل من الصفات، لأنّها بمثابة تنظيف الدار قبل جلْبِ الأثاث إليها، وبعد التوبة تأتي العبادة، وأوّلُ عناصر العبادة الْحَمْد، فالسّياحة بمعنى إطلاق الفكر في آياتِ الله وآلائه فكثرة الركوع والسُّجُودِ في الصلوات لله عزَّ وجلَّ، فالقيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالمحافظة على حدود الله عند كلّ عَمَلٍ لله فيه حُكْمٌ شَرْعِي ذو حَدٍّ من الحلال والحرام. وهكذا جاءت مفردات الصفات مُنْسَابَةً متلائمة على سياق واحد لا تنافر فيه ولا شذوذ. المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأحزاب/ 33 مصحف/ 90 نزول) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 {إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الآية: 35] . من الملاحظ في هذه المتعدّدات الانسيابيّةُ والتَّلاؤُمُ والتعانُقُ المتدرّج. الإِسلام هو يقدِّمُه الظاهر أوّلاً، وهل هو أثر إيمانٍ أم لاَ؟ فيأتي التدقيق عن الإِيمان ثانياً، وبعدهما يُنْظَرُ إلَى التزام الطاعة المعبَّرِ عنه بالّقُنُوت، فالقانت هو المطيعُ الخاضع، فيأتي البحث عن الصّدْقِ في الطَّاعة، أي: عن سلامة النيّة في ابتغاء مرضاة الله، فالتوسُّع في أعْمالِ البرّ فوقَ فِعْلِ الواجبات وترك المحرّمات، ويأتي في مقدّمته الصّبر، فَخُشُوعُ الْقَلْب لذكر الله، فبذلُ الصَّدَقَاتِ فَوْقَ الزكاة والنَّفَقَةِ الواجبةِ، فالصومُ زيادةً على الصوم المفروض، فالمحافظةُ التامّة على الفروج، فالذّكْرُ الكَثِيرُ لله عزَّ وجلَّ. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 البديعة المعنوية (23) : المراوغة: بالمواربة، أو مجاراة ظاهر القول المواربة: أن يقول المتكلّم قولاً يتضمَّن ما يُنْكَرُ عليه به، فإذا وُجِّه له الإِنكار استحضر بحذقه وجهاً من الوجوه يتخلّص به، إمّا بحمل الكلمة على معانيها، أو بتحريفها، أو بتصحيفها، أو نحو ذلك. والمواربة في اللغة: المخادعة والمخاتلة. كقول اليهود عند السَّلام: السّام عليكم، يُوهِمُون أنّهم يقولون: السّلام عليكم، وهم يقصدون: الموت، لأن السّام الموت. وحين أمرهم الله على لسان نبيٍّ من أنبيائهم أن يدخلوا باب القرية سُجَّداً ويَقُولوا: حطَّة، بمعنى: اللَّهُمَّ احْطُط عنَّا خطيئاتنا، حَرَّفوا الكلمة وواربوا فيها، وقَصَدُوا معنى غير الذي طُلِبَ منهم. *** المجاراة: هي مسايرة المخاطب بحسب ظاهر كلامه، والتغاضي عن مراده منه، والبناء على ظاهر كلامه كأنّه هو مقصودُه الحقيقي. ومن أمثله المجاراة حَمْلُ كلام الكافرين الذي طلبوا فيه من رسُلهم استعجالَ العذاب الّذي أنذروهم به، لا على معنى أنّهم يريدون إنزال العذاب بهم، ولكنَّهُمْ يُعَبِّرون بهذا الاستعجال عن تكذيبهمْ رُسُلَ رَبّهم، وأنَّهم ليسوا صادقين فيما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 يُخْبرونَهُم به من أنَّ الله يُنْذِرُهم بعذابه إذا أصرُّوا على تكذيبهم وكفرهم ومعاداتهم لرسُل ربّهم والّذين آمنوا معهم. ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (العنكبوت/ 29 مصحف/ 85 نزول) خطاباً لرسوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ العذاب وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} [الآيات: 53 - 54] . *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 البديعة المعنوية (24) : النزاهة النزاهة: هي خلوص ألفاظ الهجاء والذّم من الفحش. قيل لأبي عمرو بن العلاء: ما هو أحْسَنُ الهجاء؟ قال: هو الذي إذا أنْشَدَتْه العذراء في خِدْرِها لا يَقْبُح عليها. أمثلة: المثال الأول: ما جاء في سورة (المسد/ 111 مصحف/ 6 نزول) من ذمّ أبي لهب وامرأته. المثال الثاني: ما جاء في سورة (القلم/ 68 مصحف/ 2 نزول) من ذمٍّ للوليد بن المغيرة بصيغة عامّة، بقول الله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين * سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} [الآيات: 10 - 16] . يُلاحَظُ أنَّ هذا الهجاء خالٍ من أيّ كلام فيه فُحْشٌ. المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول) بشأن الذين يُدْعَوْنَ إلى الله ورسوله ليَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فَيُعْرِضُون حينَ لا يكون لهم الحقُّ في الخصومة: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارتابوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أولائك هُمُ الظالمون} [الآية: 50] . وهكذا سائر ما جاء في القرآن من ذمٍّ وهَجاءٍ يتحلّى بهذه النزاهة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 البديعة المعنوية (25) : نفي الشيء بصيغةٍ تشعر بإثباته، أو نفي الشيء بإيجابه وهو أن يكون ظاهر الكلام يفيد إثبات الشيء إلاَّ أنّ باطانه يفيد نفيه مطلقاً. والغرض تأكيد النفي. قال ابن رشيق في تعريفه: أن يكون الكلامُ ظاهره إيجابَ الشيء وباطنُه نفيَه، بأنْ يُنْفَى ما هو من سببه، كنَفْي وصفه، وهُو المنفيُّ في الباطن. وقال غيره: أن يُنْفَى الشيءُ مُقَيّداً والمرادُ نفيُهُ مطلقاً. أمثلة: المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المدثر/ 74 مصحف/ 4 نزول) بشأن الكفرة المكذّبين بيَوْم الدين، حين يُلاقونَ عذابهم يومئذٍ: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين} [الآية: 48] . أي: ليْسَ لَهُمْ شافعون يومئذٍ ولو كان لهم شافعون لَمَا نَفَعَتْهُمْ شَفَاعَتُهُمْ. ودلّ على أنّهم لا يجدون يومئذٍ شافعين يَشْفَعُون لهم قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) مخبراً عمّا يقولون يؤمئذٍ: {وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلاَّ المجرمون * فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الآية: 18] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (غافر/ 40 مصحف/ 60 نزول) : {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزفة إِذِ القلوب لَدَى الحناجر كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} [الآية: 18] . أي: لَوَ فُرِضَ وُجودُ شفيع لهم لَمْ يَكُنْ مُطَاعاً، فذكر احتمال وجود شفيعٍ غير مُطاع يؤكّد عدم وجود شفيع لهم، إذْ فائدة الشفيع الاستجابة لشفاعته، لكن إذا عُلِمَ ابتداءً أنّ شفاعتَهُ مَرْفوضَةٌ فإنّه لا يُعْتَبَرُ شفيعاً أصْلاً، ولا يُسْمَحُ لَهُ بأَنْ يكون شفيعاً. المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المؤمنون/ 23 مصحف/ 74 نزول) : {وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون} [الآية: 117] . إنَّ اتّخاذ إلهٍ مع الله عزَّ وجلَّ لا يُمْكِنُ أن يَدُلَّ عليه برهان، فلا يوجَدُ إله غير الله يوصَفُ بأنّ إلهيَّتَهُ ذَاتُ برهان. فقيد لا برهان به يُؤكِّدُ ضِمْناً عدم وجود شريك لله عزَّ وجلَّ في إلهيتّه. أقول: في هذا تكريم للفكر الإِنسانيّ أَنْ يبحث كلَّ أُصُول الإِيمان، وقضاياه الكبرى بالبراهين العقليّة، ولا يأخُذَها بمجرّد التسليم للخبر، فمن استطاع أن يأتي برهانٍ على أنّ لله شريكاً في رُبُوبيّتِهِ، أو في إلهيّته، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ يعطيه العُذْر في أن يُؤْمِنَ بما توصّل إليه بالدّليل البرهاني. على أن في التعبير معنى التحدّي بأن يأتي المشركون ببرهان يثبتون به ما يعتقدونه من شركٍ، وهذا التحدّي يتضمَّن تأكيد نفي وجود برهان يُثْبت ادّعاءهم، وبالتالي يؤكّد نفي وجود أيّ شريك لله عزَّ وجلَّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 المثال الرابع: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) : {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الآية: 21] . لقَدْ كان اليهود يَقْتُلُونَ النبيّين بغير حَقٍّ، ولا يُمْكِنُ أن يكون قَتْلُ النبيين بحقٍّ، لكنّ إثباتَ هذا القيد يُؤَكّد مَبْلَغَ جُرْمِهِمْ. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 البديعة المعنوية (26) : الافتنان هو الإِتيان في الكلام الواحد بفنّيْنِ مختلفين أو أكثر من فنون القول، كالمدح والهجاء، والفخر والتحدّي، والتهنئة والتعزية، والمدح والعتاب. أمثلة: المثال الأول: قول المتنبّي يعاتب سيف الدولة ويمدحه من قصيدة: يَا أَعْدَلَ النَّاسِ إلاَّ في مُعَامَلَتي ... فِيكَ الخِصَامُ وأنْتَ الخَصْمُ والحَكَمُ وقول فيها: أُعِيذُها نَظَراتٍ مِنْكَ صَادِقَةً ... أَنْ تَحْسَبَ الشَّحْمَ فِيمَنْ شَحْمُهُ وَرَمُ فقد جمع في هذا البيت بَيْن الثناء عليه بصِدْقِ الفِراسة، وتَحْذِيرِه من التَّورُّط في حُسْنِ الظّن بالمرائين المخادعين. المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (مريم/ 19 مصحف/ 44 نزول) بشأن المرور على الصراط القائم على متن جهنّم: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً} [الآيات: 71 - 72] . يلاحظ في هذا النص أنه جمع بين تَهْنِئَةٍ للمتّقين بالنجاة وإخزاءٍ للظالمين بالقعود في دار العذاب. المثال الثالث: قولي صانعاً مثلاً يجمع بَيْنَ الحُزْنِ والفرح والثناء: كَادَتْ تُفَارِقُنَا أَنْفَاسُنَا أَسَفاً ... لمَّا غَدَا خَيْرُ مَنْ يَحْمِي الحِمَى سَلَفَا لَمْ تَرْقَ أَدْمُعُنَا مِنْ حُزْنِ أَكْبُدِنَا ... عَلَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا نَجْلَهُ خَلَفَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 البديعة المعنوية (27) : حُسْن المراجعة هي أن يحكي المتكلّم مراجعةً في القول بينه وبين محاورٍ له بأوجز عبارة، وأعْدَلِ سَبْك، وأعذب ألفاظ. أقول: لا داعي لتقييد المراجعة بأن تكون بين المتكلم وبين مُحَاوِرٍ له، فلو حكى مراجعةً بين شخصين أو بين خصمين على الوجه الذي جاء في التعريف بيانه لكانت عملاً بديعاً يدخل في حُسْن المراجعة. أمثلة: المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [الآية: 124] . حوار مصوغ بأوجز عبارة، وأعدل سَبْكِ، وأعذب ألفاظ. المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (طه/ 20 مصحف/ 45 نزول) في قصة موسى وهارون عليهما السلام: {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى * قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى * قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى * فَأْتِيَاهُ فقولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ والسلام على مَنِ اتبع الهدى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى * قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى * قَالَ رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى * قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى * قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} [الآيات: 42 - 52] . *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 البديعة المعنوية (28) : التنكيت هو أن يقصد المتكلّم إلى كلمة أو كلامٍ بالذكر دون غيره ممّا يسُدُّ مَسَدَّه، لأجل نُكْتَةٍ في المذكور تُرَجِّحُ مجيئه على سواه. أمثلة: المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النجم/ 53 مصحف/ 23 نزول) : {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى} [الآية: 49] . الشِّعْرَى: نجم يقالُ له الشِّعْرَى الْعَبُور، وهو نجم نَيّرٌ يَطْلُع عنْدَ شدّة الحرّ، ولشِعْرَى العَبُور أخْتٌ يُقالُ لها: الشِّعْرَى الغُمَيْصَاء، قالوا: وهما أخْتا نَجْم سُهَيْل. والشّعْرَى الْعَبُور عبَدَها رجُلٌ ظهر في العَرَب يُعْرَفُ بابن أبي كَبْشة، ودَعا خَلْقاً من العرب إلى عبادتها، فخصَّ الله في هذه الآية من سورة (النجم) الشّعْرَى بالذّكر دون غيرها من النجوم، مع أنّه جلّ وعلا رَبُّ كُلّ النجوم وربُّ كُلّ شيء، لأنّ هذا الرجُل قد ظهر في العرب ودعا الناس إلى عبادتها، فمن أجل هذه النكتة خُصَّت الشِّعْرَى بالذكر. المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النجم/ 53 مصحف/ 23 نزول) أيضاً: {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} [الآيات: 21 - 22] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 الْقِسْمة الضِّيزَى: هي القِسْمَةُ الجائرة. ونلاحظ أنّ اختيار كلمة "ضِيزَى" في هذا الموضع دون الكلمات التي تُؤدّي معناها له نُكْتَتَان: معنوية، ولفظيّة. * أما المعنويّة فهي الإِشعار بقباحة التعامل مع الرّبّ الخالق بقسمة جائرة، يختار المشركون فيها لأنفسهم الذكور ويختارون فيها لربّهم الإِناث، عن طريق استخدام لفظ يدلُّ بحروفه على قباحة مُسَمَّاه. * وأمّا اللفظية فهي مراعاة رؤوس الآي، في الآيات قبلها، وفي الآيات بَعْدَها. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 البديعة المعنوية (29) : الإِرداف شبيه بالتنكيت إلاَّ أنّ الإِرداف يُتْرَكُ فيه اللّفظُ الذي يُدَلُّ به عادة على المعنى، ويُسْتَخْدَمُ تعبيرٌ غيره لتحقيق أغراضٍ فكريَّة ومعاني لا تُؤَدَّى بالتعبير المتروك. * ومن أمثلة الإِرْداف ما جاء في قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) : {وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي وَغِيضَ المآء وَقُضِيَ الأمر واستوت عَلَى الجودي وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين} [الآية: 44] . قالوا: إن عبارة: {وَقُضِيَ الأمر} اختيرت بإحكام بدل أن يُقالَ: وهلَكَ من قضى الله إهلاكَهُمْ، ونجا من قضى الله نجاتهم. وحصل العدول عن التعبير المتروك، واخْتِيرَ رَدِيفٌ لَهُ يُؤَدّي المقصودَ منه مع أغراض أخرى، منها: الإِيجاز في العبارة، والتنبيهُ على أنْ هلاك الهالك ونجاة الناجي كانَ بأمْرِ آمرٍ أمْرُهُ تكْوين، إذا أراد شيئاً فإنّما يقول له: كن فيكون، وكان بقضاء مَنْ لا رادّ لقضائه، ومنها توازن الفقرات في الآية. وإن عبارة: {واستوت عَلَى الجودي} اختيرت بإحكام بَدَل أن يقال: وجَلَستْ على الجودي. أو واسْتَقَرَّتْ على الجودي. لما في التعبير بالاستواء من الإِشعار بأنّها اسْتَقَرّت على جبل الجودي استقرارَ تَمَكُّنٍ لا زيغ فيه ولا مَيْلَ إلى جهة الأمام، إو إلى جهة الخلف، أو إلى اليمين، أو إلى الشمال، فالاسْتقرار المستوي لا تفيدُه عبارةٌ أُخرى كما تفيده عبارة: {واسْتَوَت} . * وذكروا من أمثلته قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (ص/ 38 مصحف/ 38 نزول) بشأن أهل جنات عَدْن: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف أَتْرَابٌ} [الآية: 52] . أتراب: أي: على سِنٍّ واحدة، وهنَّ الحور العين. جاء التعبير بعبارة {قَاصِرَاتُ الطرف} للكناية بها عن أنَّهُنَّ غفيفات، وقد عُدِلَ عن عبارة "عفيفات" إلى عبارة أُخْرى تؤدّي معناها لإِضافةِ معنىً آخر لا تؤدّيه العبارة المتروكة، وذلك لأنّ العبارة المختارة تدُلُّ على أنَّهُنَّ مع عِفَّتهنَّ لا تَطْمَحُ أَعْيُنُهُنَّ إلى غير أزواجِهِنَّ، ولا يَشْتَهين غَيْرَهُمْ. وهذا المعنى لا تَدُلُّ عليه عبارة "عفيفات" فالعفَّةُ التطبيقيّة قد تكون مصحوبة بتطلُّعٍ وتَشَهٍّ. * وذكروا من أمثلة الإِرداف قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النجم/ 53 مصحف/ 23 نزول) : {وَلِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى} [الآية: 31] . جاء في الجملة الأولى: {لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ} فاختير فيها التعبير بعبارة: {بِمَا عَمِلُواْ} دون عبارة: بالسُّوأى. مع ما في هذه العبارة من مقابلةٍ عَكْسِيَّة لعبارة {بالحسن} في الجملة الثانية يتحقق بها الطباق، لتأدية معاني لا تؤدّى بعبارة: بالسوأى، أو بالسّيئة، ومن هذه المعاني: أنَّ الجزاء على السيئة يكون بمِثْلِها تماماً، وهذا المعنى تؤدّيه عبارة {بِمَا عَمِلُواْ} أداءً وافياً، أمّا عبارة: بالسُّوأَى، فهي غير صالحة، لأن لفظ السُّوأى مؤنَّثُ أسْوء، والله لا يجزي على السَّيئة بالأسُوَءِ منها. وأمّا عبارة: بالسيئة، فهي عبارة عامّة لا تَدُلُّ على المماثلة، إذ قد تكون سيئة الجزاء أكثر من سيّئة العمل، وهذا أمْرٌ غير مُراد. مع ما في عبارة: {بِمَا عَمِلُواْ} من البُعْدِ عن نسبة فعْلِ السيئة إلى الله ولو كانت على سبيل الجزاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 البديعة المعنوية (30) : الإِبداع وهو أن يشتمل الكلام على عدّة ضروبٍ من البديع. ومن أمثلته قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) : {وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي وَغِيضَ المآء وَقُضِيَ الأمر واستوت عَلَى الجودي وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين} [الآية: 44] . ذكر ابن أبي الإِصْبع أنّ في هذه الآية قُرابَةَ عشرين ضرباً من ضروب البديع فذكر منها: الطباق، وحُسْنَ النَّسق، وحُسْنَ التعليل، وصحّة التقسيم، والتسهيم "=الإِرصاد"، والإِرداف. وذكر الإِيجاز، والمجاز، والاستعارة، إلى غير ذلك. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 "علم البديع" الفصل الثاني: البدائع المشتملة على محسنات جمالية لفظية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 البديعة اللفظية (1) : "الجناس" الجناس ويسمّى أيضاً "التجنيس" الجِنَاسُ في اللّغة: المشاكلة، والاتحاد في الجنس، يقال لغة: جانَسهُ، إذا شاكله، وإذا اشترك معه في جِنْسه، وجنسُ الشيء أصله الذي اشْتُقَّ منه، وتَفَرَّع عنه، واتَّحدَ معَه في صفاته العظمى التي تُقومِّ ذاته. والجناسُ في الاصطلاح هنا: أن يتشابه اللَّفْظانِ في النُّطْقِ ويَخْتَلِفَا في المعنى. وهو فنٌّ بديعٌ في اختيار الألفاظ التي تُوهِمُ في البدْءِ التكرير، لكنّها تفاجئ بالتأسيس واختلافِ المعنى. ويُشْترط فيه أن لا يكون متكلّفاً، ولا مُسْتكرهاً استكراهاً، وأن يكون مستعذَباً عند ذوي الحسِّ الأدبي المرهف، وقد نَفَر من تصنُّعه وتكلُّفِه كِبَارُ الأدباء والنُّقَاد. قال: "ابنِ حِجَّة الحموي" في كتابه: "خزانة الأدب": "أمّا الجناسُ فإنَّه غَيْرُ مذْهبي ومَذْهَبِ مَنْ نسجْتُ على مِنْوالِهِ مِنْ أهْلِ الأدب". وقال "ابن رشيق" في كتابه: "العمدة": "التجنيس من أنواع الفراغ، وقلّةِ الفائدة، وممّا لاَ يُشَكُّ في تَكلُّفِه، وقد أكثر منه السَّاقَةُ المتعقِّبُونَ في نَظْمِهم ونَثْرِهم، حتّى بَرَدَ وَرَكَّ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 يعني بالساقة الّذين لم يصِلُوا إلى أن يكونوا فُرْسانَ أدب في نَثْرٍ أو شِعْر، وأرى أنّه يَذُمُّ الجناس المتكلَّف المَمْجُوج. وقال "الشيخ عبد القاهر الجرجاني" في كتابه "أسرار البلاغة": "أمّا التجنيس فإنَّكَ لا تَسْتَحْسِنُ تجانُسَ اللَّفظتَيْن إلاَّ إذا كان مَوْقعُ مَعْنَيَيْهما من العقل موقعاً حميداً، ولم يَكُنْ مَرْمَى الجامع بينهما مَرْمىً بعيداً، أَتُراك استَضْعَفْتَ تجنيس أبي تمام في قوله: ذهَبَتْ بِمَذْهَبِهِ السَّمَاحَةُ فَالْتَوَتْ ... فِيهِ الظُّنُونُ: أَمَذْهَبٌ أَمْ مُذْهَبٌ واستحسنْتَ قول القائل: "حَتَّى نَجَا مِنْ خَوْفِهِ وَمَا نَجا" وقولَ المُحْدَث: نَاظِرَاهُ فِيمَا جَنَى نَاظِرَاهُ ... أَوْ دَعَانِي أَمُتْ بِمَا أَوْدعَاني لأمْرٍ يرجع إلى اللّفظ؟ أمْ لأنَّكَ رَأيْتَ الفائدة ضَعُفَتْ عنْدَ الأوّل، وقويتْ في الثاني؟ ورأيْتُك لم يَزِدْك بمَذْهَبٍ ومُذْهَبٍ على أن أسْمَعَك حُروفاً مكرَّرة، تروم لها فائدةً فلا تَجدُها إلاَّ مجهولة مُنْكرة، ورأيْتَ الآخَرَ قَدْ أعاد عَلَيْكَ اللّفظة، كأنَّهُ يخدَعُك عن الفائدة وقد أعطاها، ويُوهِمُك كأنَّهُ لم يَزِدْكَ وَقَدْ أحْسَنَ الزيادة ووفّاها، فبهذه السّريرة صار التجنيس - وخصوصاً المستوفى منه المتّفِقَ في الصورة - من حَلْي الشعر، ومذكوراً في أقسام البديع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 فقد تبيَّن لَكَ أنّ ما يُعْطي التجنيس من الفضيلة أمْرٌ لم يَتمَّ إلاّ بنُصْرَةِ المعنى، إذْ لو كان باللّفظ وحده لَمَا كان فيه مُسْتَحَسَن، وَلمَا وُجِدَ فِيه إلاَّ مَعِيبٌ مُسْتَهْجَن، ولذلِكَ ذُمَّ الإِكْثَارُ مِنْهِ والْوُلُوعُ به، وذلك أنَّ المعاني لا تدين في كلّ موضِعٍ لما يَجْذِبُها التجنيس إليه ... ". وهكذا أعطى "الشيخ عبد القاهر الجرجاني" الجناسَ قيمته، فلم يَبْخَسْهُ حقَّهُ، ولم يَغْلُ فيه. وقد اعتنى علماء البديع بتقسيم الجناس إلى أنواع، اعتماداً على استقراء الأمثلة، والنظر الفكري في احتمالات التقسيم، إلاَّ أنهم أسرفوا في وضع أسماء لكلّ فرع من فروع أنواعه، وهو أمْرٌ يُرْهِق محلّل النّصوص، ويصْرفه عن تذوُّق الجمال الأدبي، ليهْتَمَّ بالتحليل الآلي، وتذكُّرِ الاسم الخاصّ بكلّ فرع من هذه الفروع، وإنّي أوردها لا لأكلّف الدارس حفظَها وتطبيقها على ما يشرحه من الأمثلة في دراساته الأدبيّة، متذكّراً ما وُضِعَ لكلّ فرع منها من اسم خاصٍّ به، ولكن ليكتشف مدى الدقّة التي كانت لدى علمائنا الأقدمين، فيما قدّموه من دراسات تفصيليّة، وليكون لديه تصوّرٌ عامّ يَسّتَفيدُ منه لدى دراساته للنصوص الأدبيّة. *** أنواع الجناس وفروعها: / قسَّم علماء البديع الجناس إلى ستة أنواع ذوات فروع: / النوع الأول: "الجناس التام": / وهو ما اتفق فيه اللَّفظان في أربعة أمور: (1) في نوع الحروف. (2) وفي هيئتها (أي: في حركاتها وسكناتها) . (3) وفي عَدَدِها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 (4) وفي ترتيبها. مثل: "يَحْيَا" فعلاً مضارعاً مصدره الحياة، و"يَحْيَى" اسماً علماً لإِنسان، ومثل: "جَنَى" بمعنى ارتكب جناية، و"جَنَى" بمعنى قطف ثمرة من شجرتها. واشتقّوا من هذا النوع الأوّل خمسة فروع، وهي ما يلي: الفرع الأول: "المماثل" وهو الجناس التام الذي يكون اللّفظان المتشابهان فيه من نوع واحد من أنواع الكلام، كاسمين، أو فعلين، ومن أمثلته ما يلي: (1) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الروم/ 30 مصحف/ 84 نزول) : {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ ... } [الآية: 55] . المراد من لفظ "الساعة" ساعَةُ البعثَ إلى يوم الحساب والجزاء، والمراد من لفظة "ساعة" أنهم ما لبثوا في البرزخ بين الموت والبعث غير مدة زمنية من أزمان النهار واللّيل المقسّم إلى (24) ساعة أو نحوها. (2) وقول أبي تمّام يصف فُرْسَانَ ممدوحيه: إِذَا الْخَيْلُ جَابَتْ قَسْطَلَ الْحَرْبِ صَدَّعُوا ... صُدُورَ الْعَوَالي في صُدُور الكَتَائِبِ جَابَتْ قَسْطَل الحرب: أي: اخترقت وقَطَعَتْ غُبار موقعه الحرب من وسطه. صَدَّعُوا: أي: كَسَّروا. صُدُورَ العوالي: أي: المتقدّم من الرماح مما هو قريبٌ من السِّنان، فالعالية: هي النِّصْفُ الذي يَلي السّنان من قناة الرّمح، وجمعها العوالي. وصُدُور الكتَائب: هي صدور أفراد الجيش المحارب. صُدور وصُدُور: اسمان. (3) قول أبي نواس يمدح عبّاسَ بن فضل الأنصاري الذي ولي قضاء الموصل في عهد الرشيد، ويمدح الفضل بن الربيع بن يونس وزير الرشيد، ثم وزير الأمين، ويمدح الربيع بن يونس، وزير المنصور العباسي، في بيت واحد: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 عَبَّاسُ عَبَّاسٌ إِذَا احْتَدَمَ الوغَى ... والْفَضْلُ فَضْلٌ، والرَّبيعُ رَبيعُ الفرع الثاني: "الْمُسْتَوْفَى" وهو الجناس التامّ الذي يكون اللّفظان المتشابهان فيه من نوعين مختلفين من أنواع الكلام، كأن يكون أحدهما اسماً والآخر فعلاً، ومن أمثلته ما يلي: (1) قول أبي تمّام: مَا مَاتَ مِنْ كَرَمِ الزَّمَانِ فإنَّهُ ... يَحْيَا لَدَى يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الله (2) قولي صانعاً مثلاً: يَزِيدُ لَهُ أيَادٍ لاَ تُبَارَى ... ويَسْبِقُ مَنْ رَجَاهُ لِمَا يُرِيدُ "يَزِيدُ" عطاؤُهُ مَا جِئْتَ تَرْجُو ... نَدَاهُ بِكُلِّ آوِنَةٍ يَزِيدُ "يَزيدُ" الأول اسم علم. و"يزيد" الثاني فعل مضارع. الفرع الثالث: "المتشابه" وهو الجناس التام الذي يكون أَحَدُ اللَّفْظَين المتشابيهن فيه مركّبَاً من كلمتين فأكثر مع اتفاقهما في الخطّ، ومن أمثلته ما يلي: (1) قول أبي الفتح الْبُسْتِي: إِذا مَلِكٌ لَمْ يَكُنْ ذَا هِبَة ... فَدَعْهُ فَدَوْلَتُهُ ذَاهِبَة "ذا هبة" الأول: أي: صاحب هِبَةٍ. والثانية اسم فاعل من الذّهاب. (2) قول القاضي الفاضل: عَضَّنا الدَّهْرُ بِنَابِهْ ... لَيْتَ مَا حَلَّ بِنَا بِهْ لا يُوَالي الدَّهْر إلاَّ ... خَامِلاً لَيْسَ بِنَابِهْ "بنابِه" الأول: أي: بسِنَّهِ المعروف بالنَّاب. و"بِنا به" الثاني" الباء حرف جرّ و"نا" ضمير، و"به" حرف وضمير متصل يعود عل الدهر. و"بنابه" الثالث، الباء حرف جر، و"نابه" أي ذي شَرَفٍ وشُهْرَة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 (3) قول بعض البلغاء: "يَا مَغْرُورُ أَمْسِكْ، وقِسْ يَوْمَكَ بِأمْسِكَ". الفرع الرابع: "المفروق" وهو الجناس التامّ الذي يكون أحدُ اللّفظَينْ المتشابهين فيه مركّباً من كلمتين فأكثر مع اختلافهما في الخطّ، ومن أمثلته ما يلي: (1) قول أبي الفتح البستي: كُلُكُمْ قَدْ أَخَذَ الْجَا ... مَ وَلاَ جَامَ لنا مَا الَّذِي ضَرَّ مُدِير الْجَا ... مِ لَوْ جَامَلَنا الجام: إناء للشراب من فضَّةٍ أو نحوها. ولاَ جَامَ لنا: أي ليس لنا هذا الإِناء. لو جَامَلَنا: أي: لو عامَلَنا بالجميل. (2) قول أحدهم: لاَ تَعْرِضَنَّ عَلَى الرُّوَاةِ قَصِيدَةً ... مَا لَمْ تُبَالِغْ قَبْلُ فِي تَهْذِيبَها فَمَتَى عَرَضْتَ الشِّعْرَ غَيْرَ مُهَذَّبٍ ... عَدُّوهُ مِنْكَ وَسَاوِساً تَهْذِي بها "تهْذِي بها" الثاني من الْهَذَيان. والأول من التهذيب. الفرع الخامس: "المَرْفُوّ" وهو الجناس التّام الذي يكون أَحَدُ اللّفظين المتشابِهَيْن فيه مركَّباً من كلمة وبعض كلمة أخرى، ومن أمثلته ما يلي: (1) قول الحريري: والْمَكْرُ مَهْمَا اسْتَطَعْتَ لاَ تَأْتِهِ ... لِتَقْتَنِي السُّؤدُدَ والمَكْرُمَة (2) وقوله أيضاً: فَلاَ تَلْهُ عَنْ تَذْكَارِ ذَنْبِكَ وابْكِهِ ... بِدَمْعٍ يُحَاكِي الْمُزْن حَالَ مَصَابِهِ وَمَثِّلْ لِعَيْنَيْكَ الْحِمَامَ وَوَقْعَهُ ... وَرَوْعَةَ مَلْقَاهُ وَمَطْعَمَ صَابِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 حَالَ مَصَابِه: أي: حَال انصبابه، تقول: صَابَ المطر، إذا انصبّ. الحِمَام: الموت. ومَطْعَمَ صَابِه: أي: مَطْعَمَ شجرتِهِ المُرَّة، الصَّابُ: شَجَرٌ مُرٌّ لَهُ عُصَارَةٌ بيضاءُ كاللَّبَن بالغة المرارة، إذا أصابت العَيْنَ أتْلَفَتْهَا. (3) ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) : {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فانهار بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [الآية: 109] . *** النوع الثاني: "الجناس المحرّف": وهو ما اختلف فيه اللّفظان في هيئة الحروف، واتفقا في نوعها وعددها وترتيبها. مثل: "الْبُرْد" بمعنى الكِسَاء، وهو كِسَاءٌ مُخَطَّط يُلْتحف به، و"الْبَرْد" بمعنى انخفاض درجة الحرارة، و"الْبَرَد" بمعنى الماء الجامد الذي ينزل من السّماء، إنّ حروف هذه الكلمات متفقة في نوعها وعددها وترتيبها، لكنّها مختلفة في هيئتها، فالباء مضمومة في الأولى ومفتوحة في الثانية مع سكون الراء، ومفتوحة في الثالثة مع فتح الراء. ومثل: "الشِّرْك" بمعنى جعل شريك لله عزَّ وجلَّ، و"الشَّرَك" بفتح الشين والراء بمعنى الحبل الذي يضعه الصياد ويُخْفيه ليصيد به ما يترصّد من حيوان الوحش، كغزال، وتيْسٍ جبليّ. ومن أمثلة الجناس المحرّف ما يلي: (1) قولهم: "جُبَّةُ الْبُرْدِ جُنَّةُ الْبَرْد" فبين البُرْدِ والبَرْدِ جناسٌ مُحَرَّف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 (2) وقولهم: "الْبِدْعَةُ شَرَكُ الشِّرْك". (3) قول المعرّي: والْحُسْنُ يَظْهَرُ فِي بَيْتَيْنِ رَوْنَقُهُ ... بَيْتٍ مِنَ الشِّعْرِ أَوْ بَيْتٍ مِنَ الشَّعَر فبين الشِّعْرِ، والشَّعَر جناسٌ محرّف. (4) قولهم: "لاَ تُنَالُ الْغُرَرَ إِلاَّ بِرُكُوبِ الْغَرَر" الغُرَر: جَمْعُ أغَرّ، وهو الحَسَنُ من كُلّ شيء. الْغَرَر: الخَطَر، والتعرّض لِلْهَلَكَة. (5) قول ابن الفارض: هَلاَّ نَهَاكَ نُهَاكَ عَنْ لَوْمِ امْرِئٍ ... لَمْ يُلْفَ غَيْرَ مُنَعَّمٍ بِشَقَاءِ نَهَاكَ: ضدّ أمَرَك. نُهَاك: النُّهَى: العقل، والمعنى: هلاَّ زجرك عقلك عن لوم امْرِئٍ ... (6) قول الحريري يصف هُيَامَ الجاهلِ بالدنيا: مَا يَسْتَفِيقُ غَراماً ... بها وَفَرْطَ صبَابَة ولَوْ دَرَى لَكَفَاهُ ... مما يَرُومُ صُبَابة *** النوع الثالث: "الجناس الناقص": وهو ما نقصت فيه حروف أحد اللفظين عن الآخر، مع اتفاق الباقي في النوع والهيئة والترتيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 مثل: "جَوَابٍ" و"جَوَانح". ومثل: "صالحٍ" و"صوالح". ومثل: "سابح" و"مَسَابح". واشتقُّوا من هذا النوع الثالث أربعة فروع، وهي ما يلي: الفرع الأول: "الْمَرْدُوف" وهو ما كان الحرف الأوّل هو الناقص في أحَدِهما، مثل: "مَسَاق" و"ساق". ومثل: "باح - ربَاح" و"جَاء - رَجَاء" ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (القيامة/ 75 مصحف/ 31 نزول) : {والتفت الساق بالساق * إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق} [الآيات: 29 - 30] . ومنه: {كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَات} [النحل: 69] . ومثل: "سَاءَ مَسَاءُ المُجْرِمِ إذْ ضَاءَ مَضَاءُ سَيْفِ الْجَلاَّد". الفرع الثاني: "المكتَنف" وهو ما كان الحرف الناقص في وسط أحَدِهما، مثل: "حديقة مَطُوفَةٌ، وثِمَارُها مَقْطُوفة" - "السَّكْرَانَ بلَذَّاتِ دُنْيَاهُ هُوَ الْمَجْنُون، وهو لا يَصْحُو مَا لَمْ يَنْزِلْ بِه رَيْبُ الْمَنُوْن" - "مَنْ فَقَدَ بالسُّكْرِ عَقْلَهُ كُشِفَ سِتْرُهُ، واسْتُبِيحَ سِرُّهُ". الفرع الثالث: "الْمُطَرَّف" وهو ما كان الحرف الناقص في آخرِ أَحَدِهما، مثل: "سَارٍ" و"سَارِق". و"عَارٍ" و"عَارِف". و"قاضٍ" و"قاضِم". و"جَوارٍ" و"جَوَارِح"، ومنه قول أبي تمّام: يَمُدُّونَ مِنْ أَيْدٍ عَوَاصٍ عَوَاصِمٍ ... تَصُولُ بِأَسْيَافَ قَوَاضٍ قَوَاضِبِ عَوَاصٍ: جَمْعُ "عاصِيَة" من: "عَصَاهُ" إذا ضرَبَهُ بالعصا فَهُوَ عَاصٍ، وهي عَاصِيَة. عَوَاصِم: جمع "عاصِمة" وهي الحافظة الحامية. قواضٍ: جمع "قاضية" من "قضى عليه" إذا قتله. قواضِب: جمع "قاضِبَة" من "قَضَب" بمعنى "قطع" أي: قواطع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 ومنه قول ابن الفارض: أَشُكُو وَأَشْكُرُ فِعْلَهُ ... فَاعْجَبْ لشَاكٍ مِنْهُ شَاكِرْ الفرع الرابع: "الُمُذَيَّل" وهو ما كان الناقص في آخر أحدهما أكثر من حرف، فيكون مقابله بمثابة ما له ذيل، مثل: "الْجَوى" و"الجوانج". و"الصَّفا" و"الصّفائح". و"القَنا" و"القنابل" ومنه قول الخنساء من قصيدة ترثي فيها أخاها صخراً: إِن الْبُكَاءَ هُوَ الشِّفَا ... ءُ مِنَ الْجَوَى بَيْنَ الجَوَانِح الجوَى: الحرقَةُ وشدّة الوجد. الجوانح: الأضلاع التي تحت الترائب ما يلي الصدر. ومنه قول حسّان بن ثابت رضي الله عنه: وَكْنَّا مَتَى يَغْزُ النَّبِيُّ قَبِيلَةً ... نَصِلْ جَانِبَيْهِ بالْقَنَا والْقَنَابِلِ القنا: جمع "القَنَاة" وهي الرّمح. القنابل: جمع "الْقَنْبَلَة" وهي الطَّائفة من الناس، ومن الخيل. ومنه: {وانْظُرْ إلى إلهِك} [طه: 97] . *** النوع الرابع: "الجناسُ الْمُضَارع": وهو ما اختلف فيه اللّفظانِ المتشابهان في نوع حرف واحدٍ منهما مع تقاربهما في النطق، في الأول أو الوسط أو الآخر. مثل: "الخيل" و"الخير". و"دامس" و"طَامِس". و"البرايا" و"البلايا". و"صالح" و"سَالح" ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (غافر/ 40 مصحف/ 60 نزول) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 {ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} [الآية: 75] . "تفرحون" و"تَمْرحُون" متشابهان باختلافٍ في حرف واحد هو "الفاء" في اللفظ الأول، و"الميم" في اللفظ الثاني، وهما حرفان متقاربان. ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (القيامة/ 75 مصحف/ 31 نزول) : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [الآيات: 22 - 23] . ومنه ما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْخَيْلُ مَعْقُودٌ في نواصِيهَا الْخَيْرُ". ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) : {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الآية: 26] . *** النوع الخامس: "الجناس اللاّحِق": وهو ما اختلف فيه اللفظان المتشابهان في نوع حرف واحد منهما غَيْرِ مُتَقاربَيْنِ في النُّطْق، في الأوّل أو الوسط أو الآخر. مثل: "تَقْهر" و"تَنْهَر" فالقاف والنون غير متقاربين في النطق. ومثل: "تَلاَقٍ" و"تَلاَفٍ" فالقاف والفاء غير متقاربين، ومثل: "هُمَزَة" و"لُمَزَة". * ومن هذا النوع قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الضحى/ 93 مصحف/ 11 نزول) : {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ * وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ} [الآيات: 9 - 10] . * وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الهمزة/ 104 مصحف/ 32 نزول) : {ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الآية: 1] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 * وقول البحتري: أَلِمَا فَاتِ مِنْ تَلاَقٍ تَلاَف؟ ... أَمْ لِشَاكٍ من الصَّبَابَةِ شَافِ؟ *** النوع السادس: "الجناس المزدوج" ويُسَمَّى "المكرر" و"المردَّد" وهو أن يلي أحد المتجانسين الآخر، ومنه ما يلي: (1) قول الله تعالى في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) حكاية لما قال الهدهد لسليمان عليه السلام: {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [الآية: 22] . (2) وقولهم: "مَنْ جَدَّ وَجَد" - "من قرعَ باباً ولَجَّ وَلَجَ". *** النوع السابع: "جناسُ القلب". وهو ما اختلف فيه ترتيب حُروف اللَّفظَيْن، واتّفقَا في النَّوْع والْعَدَدِ والهيئَة. مثل: "حَتْف" و"فَتْح". ومثل: "عَوْرَة" و"رَوْعة". واشتقوا من هذا النوع ثلاثة فروع: الفرع الأول: "قَلْبُ الْكُلّ" وهو أن تكون حروف كلٍّ مِنْهُما على عَكْسِ حروف الآخر، مثل: "فتح" و"حتف". ومن أمثلة هذا الفرع قول الأحنف بن قيس: حُسَامُكَ فِيه لِلأَحْبَابِ فَتْحٌ ... ورُمْحُكَ فِيهِ للأَعَدَاءِ حَتْفُ ومثل: "ورَبَّكَ فكَبّر". الفرع الثاني: "قَلْبُ البعض" وهو أن يكون بَعْضُ حروفِ أحَدِهما على عكْسِ بعضِ حروف الآخر منهما، مثل: "عَوْرات" و"رَوْعات" ومنه قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض أدعيته: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 "اللَّهُمَّ اسْتُرُ عَوْراتِنَا وَآمِنْ رَوْعاتِنَا". الرَّوْعة: المرّة من الرَّوْع، وهو الخوف. ومنه قول بعضهم: "رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أمْسَكَ مَا بَيْن فَكَّيْهِ وأطْلَقَ مَا بَيْنَ كَفَّيْهِ". أي: أمسك لسانه وحفظه، وجَادَ بماله. الفرع الثالث: "المقلوبُ المجنّح" وهو أن يكون أحد اللَّفظين من "جناس القلب" في أوّل البيت من الشعر، أو الفقرة من النثر، والآخر في آخر البيت، أو في آخر الفقرة. * ومنه قولُ ابن نُبَاتة: سَاقٍ يُرِيني قَلْبُهُ قَسْوَةً ... وَكُلُّ سَاقٍ قَلْبُهُ قَاسٍ أي: وكلّ لفظ "سَاق" إذا قلبته بعكس حروفه فهو "قاس". * قولي صانعاً مثلاً: جَانٍ عَلَيْنَا فِي الهَوَى ظَالِمٌ ... هَلْ هُوَ مِنْ نَارِ الْهَوَى نَاجِ قَالَ: فَهَلْ يَلْزَمُنِي وَصْلُكُمْ؟ ... قُلْتُ: وحَقُّ الجَارِ واللاَّجي؟ فَجَارُ ذِي الْحُسْنِ ومَنْ عنْدَهُ ... فَيْضُ عَطَاءٍ طَامِعٌ رَاجِ *** النوع الثامن: "الجناسُ المصحَّف" ويسمى "جناس الخطّ". *وهو أن يتشابه اللفظان في الكتابة مع اختلافٍ في نقَط الحروف، مثل: "يَسْقي" و"يشفي". ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) حكاية لقول إبراهيم عليه السلام لقومه: {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الآيات: 79 - 80] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 ما يُلْحقُ بالجناس: يُلحقُ بالجناس ما يُسمَّى "الجناس المطلق" وهو قسمان: القسم الأول: "المتلاقيان في الاشتقاق". وهو أن يجمع بين اللَّفظين الاشتقاق، مثل قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الروم/ 30 مصحف/ 84 نزول) : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ القيم ... } [الآية: 43] . لفظ "أَقِم" ولفظ "القيّم" مشتقان من مادة لغوية واحدة ومنه: "تأخّر كليمُ الله في رحلة الميعاد أيّاماً قليلة فعَجِلَ بَنُو إسرائيل إلى عبادة العِجْل". القسم الثاني: "المتلاقيان فيما يشبه الاشتقاق". وهو أن يجمع بين اللَّفْظين ما يشبه الاشتقاق، مثل قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) حكايةً لما قال لوطٌ عليه السّلام لقومه: {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين} [الآية: 168] . فعل "قال" مشتقٌّ من "القول" وكلمة "القالين" جمع "القالي" وهو المبغض والهاجر، من "قَلاَهُ قِلىً" إذا أبغضه وهجره، ولكن جمع بينهما ما يشبه الاشتقاق، فقد اشتركا في القاف والألف واللاّم، وإن كانَا مِنْ مادّتين مختلفتين. ومنه: {وجَنى الجنتيْن دَان} [الرحمن: 54]- {ليُريَهُ كيْفَ يُواري} [المائدة: 31] {وإِنْ يُرِدْكَ بخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لَهُ} [يونس: 107]- {أثاقلتُم إلى الأَرْض أرَضيتُمْ بالحياة الدُّنيا} [التوبة: 38]- {وَإِذَا أنْعَمْنَا على الإِنْسَان أعْرَضَ ونأَى بجانِبِه، وإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت: 51] . *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 أمثلة مختلفة من أقسام الجناس وفروعها (1) قال شاعر في رثاء ولده يحيى: وَسَمَّيْتُهُ يَحْيَى لِيَحْيَا فَلَمْ يَكُنْ ... إِلى رَدِّ أَمْرِ اللَّهِ فِيهِ سَبِيلُ (2) وقال الشاعر: قالَ لِي والدَّلاَلُ يَعْطِفُ مِنْهُ ... قَامَةً كالْقَضِيب ذَاتَ لَيَانَهْ هَلْ عَرَفْتَ الهَوَى فَقُلْتُ وهل أُنْـ ... ـكِرُ دَعْوَاهُ قال: فاحْمِلْ هوَانَهْ (3) قول هَارون لأخيه موسى عليهما سلام الله كما حكى الله عزَّ وجلَّ: {خَشِيتُ أن تَقُولَ فرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيل} [طه: 94] . (4) قول أبي العلاء المعري: لَمْ نَلْقَ غَيْرَكَ إِنْسَاناً يُلاَذُ به ... فَلاَ بَرِحْتَ لِعَيْنِ الدَّهْرِ إِنْسَانَا (5) قول أبي الفتح الْبُسْتِي: فَهِمْتُ كِتَابَكَ يَا سَيِّدِي ... فَهِمْتُ وَلاَ عَجَبٌ أَنْ أَهِيمَا (6) قول ابن جُبَيْر الأندلسي: فَيَا رَاكِبَ الْوَجنَاءِ هَلْ أَنْتَ عَالِمٌ ... فِداؤُكَ نَفْسِي كَيْفَ تِلْكَ الْمَعَالِمُ (7) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول) : {وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ ... } [الآية: 83] . (8) قول النابغة في الرّثاء: فَيَا لَكَ مِنْ حَزْمٍ وعَزْمٍ طَوَاهُما ... جَدِيدُ الرَّدَى بَيْنَ الصَّفَا والصَّفَائح الصَّفَا: الحجارة العريضة الملساء، والواحدة منها صفاة. الصَّفائح: جمْعُ صفيحة، وهي كلّ عريضٍ من حجارة أو لوح أو نحوهما، وتطلَقُ على السيف، لأنَّه حديدة عريضة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 (9) قول الحريري: "لاَ أعْطِي زِمَامِي مَنْ يُخْفِرُ ذِمَامِي، وَلاَ أَغْرِسُ الأَيَادي فِي أرْضِ الأَعَادِي". يُخْفِرُ: أيْ ينقضْ. ذِمَامِي: أي عَهْدِي. الأيادي: أي النّعَم. (10) قول البحتري: فقِفْ مُسْعِداً فِيهنَّ إِنْ كُنْتَ عَاذِراً ... وسِرْ مُبْعِداً عَنْهُنَّ إِن كُنْتَ عَاذِلاً عاذلاً: أي: لائماً. (11) قول أبي تمّام: بِيضُ الصَّفَائحِ لاَ سُودُ الصَّحائِفِ في ... مُتُونِهِنَّ جَلاَءُ الشَّكِّ والرِّيَبِ الصَّفائح: يريد بها السّيوف. ومَتْنُ السيف حدُّه. (12) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (غافر/ 40 مصحف/ 60 نزول) : {ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} [الآية: 75] . (13) قول الشاعر: إِلَى حَتْفِي سَعَى قَدَمِي ... أَرَى قَدَمِي أَرَاقَ دَمِي فَمَا أَنْفَكُّ عَنْ نَدَمِي ... وَهَانَ دَمِي فَهَا نَدَمِي *** خاتمة: يحسُنُ تَرْكُ الجناس وإن تيسّرَ إذَا اقتضى معنىً مقصودٌ تَرْكَه وعَدَمَ الاحتفاء به، فمرعاةُ المعاني أولى من مراعاةِ الألفاظ. * ومن الأمثلة الكاشفة ما جاء في قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (يوسف/ 2 مصحف/ 53 نزول) حكاية لما قال إخوة يوسف عليه السلام لأبيهم يعقوب عليه السلام: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 {قَالُواْ ياأبانآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذئب وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [الآية: 17] . كان من الممكن أن يقولوا: وما أنْتَ بمصدِّقٍ لنا وإنْ كنّا صادِقين، فيصنَعُوا جناساً. لكنّ هذا الجناس يفوّتُ معنىً قَصَدُوا التعبير عنه، وهو أنَّ أباهم غَيْرُ مطمئن لمشاعرهم تُجاه أخيهم، إذْ هُو يعلمُ حسَدَهم له، فلو كانوا صادقين حقّاً وصَدَّقهم لما وصلَ تصديقه إلى درجةِ الإِيمان يُحْدِثُ في القلب الطَّمْأْنينة. ومن الأمثلة الكاشفة أيضاً قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الصَّافات/ 37 مصحف/ 56 نزول) حكاية لمقالة "إلياس عليه السلام" لقومه بشأن إلهِهِم "بَعْل": {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين} [الآية: 125] . كان من الممكن أن يُسْتَخْدَم في هذا التعبير الجناس، بأن يُقالَ: أَتَدْعُونَ بَعْلاً وتَدَعُونَ أَحْسَنَ الخالقين. لكنّ استخدام هذا الجناس يُفَوّتُ معنىً مقصوداً، والدّلالة عليه أولى من الاحتفاء بمُحَسِّنٍ لفظي، وذلِكَ لأَن كلمة "تَدَعُون" تدلُّ على أنّ المتروكَ شيءٌ معتنىً به، بشهادة الاشتقاق، إذْ مادّة الكلمة ليست موضوعة لمطلَق التَّرْك، بل هو ترك مقرون بالاعتناء بحال المتروك، ومنه ترك الوديعة، ولذلك يُختار لها من هو مؤتَمَنٌ عليها، وتُودَعُ لتُسْتعادَ بعد حين. والمخاطبون عُبَّادُ "بعل" غيْر مهتمّين ولا معتنين بالله ربِّ العالمين، أحْسَنِ الخالقين. بخلاف عبارة: "تَذَرُونَ" فإنّ مادَّتَها موضوعة لمطلق الترك أو للترك مع إعراضٍ وإهمال وعدم اعتناءٍ بالمتروك مطلقاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 قال الراغب: يُقالُ: فلانٌ يَذَرُ الشيء، أي: يَقْذِفُه لقلّة الاعتداد به، ومنه "الوَذْرَة" وهي القطعة الصغيرة من اللّحم لا عظم فيها، لقِلّة الاعتداد بها. ولمّا كان سياق النصّ يُناسبُه معنى: "وَتَذَرُونَ" دون "وتَدَعُونَ" كان الاختيار القرآني مُرَجَّحاً جانب المعنى على جانب المُحَسِّن اللّفظِيّ، إذْ حالُ المخاطبين من أهل الشرك والكُفر الذين كانوا يعبدون بعلاً حال المُدْبرِ المتولِّي الذي بلغ الغاية في تولّيه عن ربِّه وما جاء به الرسول. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 البديعة اللفظية (2) : "السّجْع" يقال لغة: سجَعَت الحمامَةُ أو النَّاقةُ سَجْعاً، إذا رَدَّدَتْ صَوْتَها عَلى طريقةٍ واحدة. ويقال: سجَعَ المتكلّم في كلامه، إذا تكلّم بكلامٍ له فواصل كفواصل الشّعر مُقَفّىً غير موزون. والسّجْعُ في البديع: هو تواطُؤُ الفاصلتين من النَّثر على حرف واحد، وهو في النثر كالقافية في الشعر. وأفضل السجع ما كانت فِقَرَاتُه متساويات، مثل: (1) قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دعائه المتضمِّنِ الحثَّ على الإِنفاق في الخير، والتحذيرَ من الإِمساك: "اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقاً خَلَفاً، وَأَعْطِ مُمْسِكاً تلفاً". (2) وقول أعرابي ذهب السَّيلُ بابْنِه: "اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ قَدْ أَبْلَيْتَ، فَإِنَّكَ طَالَمَا قَدْ عَافَيْتَ". يُقالُ لغة: بَلاَهُ وأبْلاَهُ، إذا اختبره، والمصائب من الأمور الّتي يختبر الله بها عباده كالنِّعم. (3) قولهم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 "الحرُّ إذَا وَعَدَ وَفَى، وإذا أَعَانَ كَفَى، وإِذَا قَدَرَ عَفَا". وقد جاء في كلام الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّهْيُ عن سَجْعِ الكُهَّان، إبعاداً عن التشبُّهِ بهم، وهُو غير السَّجْعِ الذي إذا كان تلقائياً غير متكلف ولا مُلْتزَمِ به في كلّ الكلام، كان من المحسِّنات اللفظيّة، وكان من البديع، لوروده في القرآن وفي أقوال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والأسْجَاعُ مبنيّةٌ على سكُونِ الأعجاز (أي: الأواخر) مثل: "مَا أبْعَدَ مَا فَاتْ، وَمَا أقْرَبَ ما هُو آتْ". والأصل في السّجع، أن يكون في النثر، لكنَّه قد يأتي داخل فِقَراتِ البيت من الشعر، فيزيدُه حُسْناً إِذَا كان مستوفياً شروطه الفنيّة غير متكلّف. وتأدَّب بعض العلماء فخصّ ما هو ملاحظٌ في القرآن من سجع باسم "فواصل". ويُطلق على الفِقَرَةِ المنتهية بالفاصلة: "سَجْعه" وجمعها "سجعَات" ويُطْلَق عليها "قَرينة" لمقارنَتها لأختها، وتجمع على "قرائن" ويُطْلَقُ عليها "فِقَرَة" وجمعُها "فقْراتُ" و"فِقَرَات" و"فِقَر". أقسام السجع: من الدقة في التقسيمات والتفصيلات لدى علمائنا الأقدمين تقسيمُهُمُ السّجع إلى عدّة أقسام هداهم إليها واقع الأمثلة التي نظروا في شرحها وتحليلها، مع النظر في الاحتمالات العقلية التي تتعرّض لها الْجُمَل المسجوعة في اللّسان العربي. فقسَّمُوا السَّجْع إلى عدّة أقسامٍ، ووضعوا لها أسماء اصطلاحية وفيما يلي بيانُها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 أوّلاً: فمن جهة بناء كلمات السجعتين واتّفاقها في الوزن والحرف الأخير منها أو عدمه ظهرت لهم ثلاثة أقسام: القسم الأوّل: "التَّرصِيع" ويقال فيه: "السَّجْعُ المرصَّع". وهو أن تكون الألفاظ المتقابلة في السَّجْعَتَيْن متفقةً في أوزانها وفي أعْجَازِها، "أي: في الحرف الأخير من كلّ متقابلين فيها" مثل ما يلي: (1) قول الله عزّ وجلّ في سورة (الغاشية/ 88 مصحف/ 68 نزول) : {إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الآيات: 25 - 26] . فالتقابُلُ في كَلِمَاتِ الفقرتين يُلاحَظُ فيه الاتفاق في الأوزان وفي الحرف الأخير. إنّ - إِلَيْنَا - إِيَابَهُمْ - ثم. إنَّ - عَلَيْنَا - حِسَابَهُمْ. أمّا كلمة "ثُمَّ" فهي بمثابة المشترك بين الفقرتين. (2) قول الحريري: "فَهُوَ يَطْبَعُ الأَسْجَاعَ بِجَوَاهِرِ لَفْظِهْ، ويَقْرَعُ الأَسْمَاعَ بِزَوَاجِرِ وَعْظِهْ". التقابل في كلمات هَاتين الفِقْرتَيْن تقابُلُ اتّفاقِ في الأوزان وفي الحرف الأخير: فهو: يَطْبَعُ - الأَسْجَاعَ - بِجَواهِرِ - لَفْظِهْ. و: يَقْرَع - الأَسْمَاعَ - بزَواجرِ - وَعْظِهْ. ويُلاَحَظُ فيهما مع التَّرْصِيع، تصَنُّع الجناس الناقص. القسم الثاني: "المتوازي" ويقال فيه: "السَّجْع المتوازي". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 وهو أن تكون الكلمتان الأخيرتان من السّجعَتَيْن متَّفِقَتَيْن في الوزن وفي الحرف الأخير منهما، مع وجود اختلافٍ ما قبلهما في الأمرين، أو في أحدهما، مثل ما يلي: (1) قول الله عزّ وجلّ في سورة (الغاشية/ 88 مصحف/ 68 نزول) في وصف الجنة: {فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ} [الآيات: 13 - 14] . كلمتا: "مَرْفوعَة" و"موضوعة" متفقان في الوزن والحرف الأخير، لكنّ ما قبلهما وهما: "سُرُرٌ" و"أَكْوَابٌ" غير مُتَّفِقَتين فيهما. (2) قول أبي منصور الثعالبي: "الْحِقْدُ صَدَأُ الْقُلُوبْ، واللَّجَاجُ سَبَبُ الْحُروبْ". اللَّجَاج: التمادي في الخصومة. كلمتا: "القلوب" و"الحروب" متفقتان في الوزن والحرف الأخير، لكنّ كلمتي "صَدَأ" و"سَبَب" مختلفتان في الحرف الأخير، وإن اتفقتا في الوزن، وكلمتي "الحقد" و"اللّجاج" مختلفتان في الأمرين كليهما. (3) قول الحريري: "ارْتِفَاعُ الأخْطَارْ باقْتِحَامِ الأَخْطَارْ" الأخطارْ الأولى: المنازل الاجتماعية. والأخْطَارُ الثانية: المهالك. (4) وقال أعرابي لرجُلٍ سألَ لَئيماً: "نَزَلْتَ بِوَادٍ غَيْرِ مَمْطُورْ، وَفِنَاءٍ غَيْرِ مَعْمُورْ، وَرَجُلٍ غَيْرِ مَيْسُورْ، فَأَقْدِمْ بِنَدَمْ، أو ارْتَحِلْ بِعَدَمْ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 (5) وقال أعْرابيّ: "بَاكَرَنَا وَسْمِيّ، ثُمَّ خَلَفَهُ ولِيّ، فالأَرْضُ كَأَنَّهَا وَشْيٌ مَنْشُورْ، عَلَيْهِ لُؤْلُؤٌ مَنْثُورْ، ثُمَّ أَتَتْنَا غُيُومُ جَرَادْ، بِمَنَاجلِ حَصَادْ، فَجَرَدَتِ الْبِلاَدْ، وَأَهْلَكَتِ الْعِبَادْ، فَسْبُحانَ مَنْ يُهْلِكُ الْقَوِيَّ الأَكُولْ، بالضِّعيفِ الْمَأْكُولْ". الوسْمِيُّ: مطر الربيع الأول. الْوَلِيُّ: المطر يسقُط بَعْدَ المطر. القسم الثالث: "المطرّف" ويقال فيه: "السَّجْعُ الْمُطَرَّف". وهو أن تكون الكلمتان الأخيرتان من السَّجْعتين مختلفتين في الوزن، متفقَتَيْن في الحرف الأخير، وعندئذٍ لا يُنْظَرُ إلى ما قبلهما في الاتفاق أو الاختلاف، مثل ما يلي: (1) قول الله عزّ وجلّ في سورة (نوح/ 71 مصحف/ 71 نزول) حكايةً لما قال نوحٌ عليه السلام لقومه: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [الآيات: 13 - 14] . كلمتا: "وَقَارا" و"أَطْوَارَا" مختلفتان في الوزن، متفقتان في الحرف الأخير. (2) قَوْلِ أحد البلغاء: "الإِنْسَانُ بآدَابهْ لاَ بِزِيِّهِ وَثِيَابِهْ". ثانياً: والسّجع في الشعر قد يأتي على وجوه السّجع في النثر، إلاَّ أنّه يختصّ بقسميْن لا يوجدان في النثر، هما: التصريع، والتشطير: * فالتصريع: يكون بجعل الْعَرُوض (وهي آخر المصراع الأوّل من البيت) مقفّاةً تقفية الضَّرْب (وهو آخر المصراع الثاني من البيت) ومنه أغلب أوائل القصائد، مثل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 (1) قول امرئ القيس: أَفَاطِمُ مَهْلاً بَعْضَ هَذَا التَّدَلُّلِ ... وَإِنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ صَرْمِي فَأَجْمِلِي صَرْمِي: أي: قطع وصالي. وقوله: قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ ... بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ (2) وقول أبي الطيّب المتنبّي: مَغَانِي الشِّعْبِ طِيباً في الْمَغَانِي ... بِمَنْزِلةِ الرَّبيعِ مِنَ الزَّمَانِ * والتَّشْطِير: يكون بِجَعْلِ كلِّ شَطْرٍ مِنَ شطْرَي البيت مسجوعاً سجْعاً مخالفاً للسّجع في الشطر الآخر، مثل قول أبي تَمَّام: تَدْبِيرُ مُعْتَصِمٍ: بِاللَّهِ مُنْتَقِمٍ ... لِلَّهِ مُرْتَغِبٍ. في اللَّهِ مُرْتَقِبِ فالسَّجْعُ في الشطر الأول على حرف الميم، وفي الشطر الثاني على حرف الباء. أمثلة على السّجع من الشعر: (1) قول أبي تمّام يمدح أبا العباس "نَصْرَ بن بَسَّام": سَأَحْمَدُ نَصْراً مَا حَيِيِتُ وإنَّنِي ... لأَعْلَمُ أَنْ قَدْ جَلَّ نَصْرٌ عَن الْحَمْدِ تَجَلَّى بِهِ رُشْدِي وَأَثْرَتْ بِهِ يَدِي ... وَفَاضَ بِهِ ثَمْدِي وأَوْرَى بِهِ زَنْدِي ثَمْدِي: الثَّمْدُ: الماء القليل. أَوْرَى الزَّنْدُ: خَرَجَتْ نارُه، والزَّنْدُ هُوَ العودُ الأعْلَى الذي تقْدَحُ به النار. (2) وقول الخنساء: حَامِي الحقيقةِ. مَحْمُودُ الْخَلِيقَةِ ... مَهْديُّ الطَّريقة. نَفَّاعٌ وضَرَّارُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 جَوَّابُ قاصِيَةٍ. جَزَّارُ نَاصِيَةٍ ... عَقَّادُ أَلْوِيَةٍ. لِلْخَيْلِ جَرَّارُ ثالثاً: والسَّجْع من جهة الطّول والقصر ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: "السَّجْعُ القصير". ومنه قول الله عزّ وجلّ في سورة (المرسلات/ 77 مصحف/ 33 نزول) : {والمرسلات عُرْفاً * فالعاصفات عَصْفاً} [الآيات: 1 - 2] . القسم الثاني: "السَّجْعُ المتوسط". ومنه قول الله عزّ وجلّ في سورة (القمر/ 54 مصحف/ 37 نزول) : {اقتربت الساعة وانشق القمر * وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُواْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} [الآيات: 1 - 3] . القسم الثالث: "السَّجْعُ الطويل". ومنه قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنفال/ 8 مصحف/ 88 نزول) : {إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر ولاكن الله سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} [الآيات: 43 - 44] . درجات السّجع في الْحُسْن: رتّب علماء البديع السَّجع من جهة الْحُسْن في ثلاث دَرجات: الدرجة الأولى "العليا": مَا تَسَاوَتْ سَجْعاته، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (الواقعة/ 56 مصحف/ 46 نزول) : {وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} [الآيات: 27 - 30] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 مَخْضُود: أي: منزوع الشوك. وَطَلْح منْضود: الطَّلْحُ: الموز. منضود: أي: مضموم بعضه إلى بعض بتناسُق. الدرجة الثانية "الوسطى": مَا طَالَتْ سجْعتُهُ الثانية، أو الثالثة، مثل ما يلي: (1) قول الله عزّ وجلّ في سورة (النجم/ 53 مصحف/ 23 نزول) : {والنجم إِذَا هوى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غوى} [الآيات: 1 - 2] . السجعة الثانية هنا أطول من الأولى. (2) وقول الله عزّ وجلّ في سورة (الحاقة/ 69 مصحف/ 78 نزول) بشأن من أوتي كتابه بشماله يوم الدّين: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ} [الآيات: 30 - 31] . السجعة الثالثة هنا هي الأطول. أقول: هذه الدرجة الثانية قد تكون في موقعها الملائم مثل الدرجة الأولى في الْحُسْن، وطولُ السجعة الثانية أو الثالثة قد يزيد السَّجْعَ حُسْناً، لأنَّه يُخْرجه عن النّمطيَّة المتناظرة، فيكونُ أكثر تنبيهاً وإثارةً لنفس الأديب الذّواق للجمال، وكتابُ الله مُتَشابه في الْحُسْن. الدّرجة الثالثة: مَا كانت سجعته الثانية أقصر من الأولى قصراً كثيراً، يُحسّ معه الذوق الجماليُّ عند الأديب بأنه كالشيء المبتور الذي قُطع قَبْل أن يسْتكْمل مَا كان ينبغي له. أقول: الْمُحَكَّمُ في كلّ ذلك الحسُّ الجماليّ لدى ذوّاقي الجمال في الكلام، لا التساوي في الفقرات المقترنات، ولا طول بعضها وقصر بعضها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 على أنّ المعاني ينبغي أن تكون صاحبة الحظّ الأوفر من الاعتبار، وما تستدعيه المعاني من تساوٍ في الفقرات أو تفاضل فهو الذي يَحْسُن أن يُصَار إليه دواماً، والقيود من وراء ذلك قيودٌ شكليّة لا لُزُوم لها. أخيراً: قد يلجأ البليغ إلى بعض تَصَرُّفٍ في الكلمة على خلاف قاعدتها في اللّسان العربي مراعاةً للسَّجْع المتناظر، ومنه ما جاء في قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّوَاتي كُنَّ يَخْرُجْنَ إلى المقابرِ للنُّواحِ على الموتى: "اِرْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُوراتٍ". أصل "مأزورات" أن يقال فيها "مَوْزورات" فحصل التصرف في الحرف الثاني، لِتُنَاظِرَ الكلمةُ السَّجعةَ الثانية "مَأْجُورَات". *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 البديعة اللفظية (3) : "الموازنة" الموازنة: هي تساوي الفاصِلَتَيْنِ في الوزن من الفِقْرتين المقترنتين، مع اختلافهما في الحرف الأخير منهما "=القافية في الشعر". ولولا أنّ السَّجْعَ يُشْتَرَطُ فيه الاتّفاقُ في الحرف الأخير من سجعاته لكانت الموازنة قِسْماً منه. واشتق أهل البديع منها فرعاً أطلقوا عليه اسم "المُمَاثَلَة" وهي الموازنة التي كون كُلُّ مَا في إحدَى الفقرتين المقترنتين أو مُعْظَمُه مِثْلَ مُقابِلِه من الفقرة الأُخرى في الوزن. أمثلة: (1) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الغاشية/ 88 مصحف/ 68 نزول) في وصف الجنة: {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الآيات: 15 - 16] . هذا مثال للموازنة، إذِ اتَّفَقت الكلمتان الأخيرتان في الوزن دون التقفية، فالأولى على الفاء، والثانية على الثاء. نمارِقُ: جَمْعُ "نُمْرُق"، وهي الوسادة الصغيرة يُتَّكَأُ عليها، ويقال فيها: نَمْرَقَة، ونُمْرُقة، ونِمْرِقَة. زَرابِيّ: جمع "زَرْبِيَّة" وهي حشيَّةٌ تُبْسَطُ للجُلُوسِ عليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 (3) قول أبي تمام: فَأَْحْجَمَ لَمَّا لَمْ يَجِد فِيكَ مَطْمَعاً ... وَأَقْدَمَ لَمَّا لَمْ يَجِدْ عَنْكَ مَهْرَباً هذا مثال للماثَلة، إذْ كُلُّ كلمات الفقرتين متفقات في الوزن. *فأحْجَمَ - لمَّا - لَمْ - يَجدْ - فِيكَ - مَطْمعاً. *وأَقْدَمَ - لمَّا - لَمْ - يَجِدْ - عَنْكَ - مَهْرَباً. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 البديعة اللفظية (4) : "ردّ العجز على الصدر" يكُون في النثر ويكون في الشعر: * أمَّا في النثر: فهو أنْ يَجْعَلَ المتكلِّمُ أحَدَ اللّفْظَيْنِ المكرَّرَين، أو المتجانسين أو مَا هو مُلْحقٌ بالمتجانِسَيْن في أوّل الفقَرَة، والآخر في آخِرِها، مثل ما يلي: (1) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأحزاب/ 33 مصحف/ 90 نزول) خطاباً لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشأن تزوجّه من زينب مُطَلَّقة متبَنَّاه زَيْد: {وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ... } [الآية: 37] . هذا مثال اللفظين المكرّرَيْن. (2) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (نوح/ 71 مصحف/ 71 نزول) في حكاية ما قال نوحٌ عليه السلام لقومه: {فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [الآية: 10] . هذا مثال للّفظَيْن المتلاقِيَيْن في الاشتقاق. (3) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) حكاية لما قال لوطٌ عليه السلام لقومه: {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين} [الآية: 168] . هذا مثال للّفظَيْنِ المتلاقِيَيْنِ فيما يشبه الاشتقاق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 * وأمّا في الشعر: فهو أن يجعلَ المتكلم أحد اللّفظين المكرّرين، أو المتجانِسَيْن، أو ما هو مُلْحَقٌ بالمتجانسين في واحد من الوجوه التالية: الوجه الأول: أن يكون أحدُهما في آخر البيت والآخر في أول البيت، مثل قول الأفيشر: سَرِيعٌ إلى ابْنِ الْعَمِّ يَلْطِمُ وَجْهَهُ ... وَلَيْسَ إلى دَاعِي النَّدَى بسَرِيعِ الوجه الثاني: أن يكون أحَدُهُما في آخر البيت والآخر في آخر الشطر الأول، مثل قول أبي تمام: وَمَنْ كَانَ بِالبِيضِ الكواعِبِ مُغْرَماً ... فَما زِلْتُ بِالبِيضِ القَوَاضِبِ مُغْرَمَاَ الكواعِبُ: جمع "كاعِب" وهي الجاريةُ حين يَبْدو ثدْيُها. بالْبِيضِ الْقَوَاضب: أي: بالسُّيوف القواطع. الوجه الثالث: أن يكون أحدهما في آخر البيت، والآخر في حَشْوِ الشطر الأول، مثل قول الصِّمَة بن عبد الله القُشَيْري: أقولُ لِصَاحبي والعِيسُ تَهْوِي ... بِنَا بَيْنَ المُنِيفَةِ فالضِّمَار تمَتعْ مِنْ شِميم عَرَارِ نجْدٍ ... فَمَا بَعْدَ العَشِيَّةِ من عَرَارِ العَرَار: وردة ناعمة صفراء طيّبة الرَّائحة. الوجه الرابع: أن يكون أحدُهُما في آخِرِ البيت والآخَرُ في أوّل الشّطْر الثاني، مثل قول ذي الرّمّة: ألِمَّا عَلَى الدَّارِ الَّتِي لَوْ وَجَدْتُهَا ... بِهَا أَهْلُهَا مَا كَانَ وَحْشاً مَقِيلُهَا وَإِنّ لَمْ يَكُنْ إلاَّ مُعَرَّجَ سَاعَةٍ ... قَلِيلاً فإنِّي نَافِعُ لي قَلِيلُهَا أَلِمَّا: أي: انْزِلاَ نُزُولاً قَلِيلاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 مُعَرَّج: يُقالَ: عرَّجَ عليه، إذا مَالَ إليه. وعَرَّجَ بالمكان. إِذا نَزَل به. قليلاً: أي: إلاَّ مُعَرَّجاً قليلاً. أمثلة متنوعة من ردّ العجز على الصدر: (1) قال القاضي الأرّجاني: دَعَانِي مِنْ مَلامِكُمَا سَفَاهاً ... فَدَاعِي الشَّوْقِ قَبْلَكُما دَعَاني (2) وقال الثعالبي: وإِذَا الْبَلاَبِلُ أفْصَحَتْ بِلُغَاتِهَا ... فَانْفِ الْبَلاَبِلَ باحْتِسَاءِ بَلاَبِلِ البلابل: الأولى جمع "بُلْبل" وهو الطائر المعروف بالتغريد. والثانية جمع "بِلْبَال" وهو الحزن. والثالثة: جمع "بُلْبُلَةْ" وهو إبريق الخمر. (3) وقال الحريري: فَمَشْغُوفٌ بآياتِ الْمَثَانِي ... ومَفْتُونٌ بِرَنَّاتِ الْمَثَانِي المثاني: الأولى: آيات القرآن. والثانية: أوتار المزامير التي ضُمَّ طاقٌ منها إلى طاق. (4) وقال القاضي الأرّجاني: أَمَّلْتُهُمْ ثُمَّ تَأَمَّلْتُهُمْ ... فَلاَحَ لي أنْ لَيْسَ فِيهِمْ فَلاَحْ (5) وقال البحتري: ضَرَائِبُ أَبْدَعْتَهَا فِي السَّمَاحْ ... فَلَسْنا نَرَى لَكَ فِيها ضَرِيبا ضرائب: جَمْعُ "ضَرِيبة" وهي ما طُبِعَ عليه الإِنسان. ضَرِيباً: أي مثيلاً ونظيراً. (6) وقال أبو العلاء المعرّي: لَوِ اخْتَصَرْ تُمْ مِنَ الإِحْسَانِ زُرْتُكُمُ ... والْعَذْبُ يُهْجَرُ لِلإِفْرَاطِ في الْخَصَرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 الْخَصَر: شِدَّةُ البُرُودَة. (7) وقال ابنُ عُيَيْنَة الْمُهَلَّبِي: فَدَعِ الْوَعِيدَ فَمَا وَعِيدُكَ ضَائِرِي ... أَطَنِينُ أجْنِحَةِ الذُّبَابِ يَضِيرُ (8) وقال أبو تمّام من قصيدة يرثي بها محمّد بن نَهْشَل حين اسْتُشْهِد: وَقَدْ كَانَتِ الْبِيضُ الْقَواضِبُ في الوغَى ... بَوَاتِرَ وهْيَ الآنَ مِنْ بَعْدِهِ بُتْرُ البيض القَوَاضب: السيوف القواطع. بَواتِر: أي: قواطع. بُتْرُ: جمع "أبْتر" وهي بمعنى: أقطع، أي: مقطوع. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 البديعة اللفظية (5) : "الانسجام" الانسجام: هو أن يكون الكلام في مفرداته وجُمَله منساباً انْسِيَاب الماء في مجاريه السَّهْلة، مُتَحَدِّراً ليّناً، بسبب التلاؤم بيْنَ كلماتِه، وجُمَلِه، وعُذُوبة ألفاظه، وجَمَالِ تمَوُّجَاتِ فقَراتِه، وخُلوِّه من التعقيد والتنافر، وخُلُوّه من كلّ ما يَنِدُّ عن النُّطْقِ، ويَنْفِرُ مِنْهُ السَّمْع. وإذا قوي الانسجامُ في النَّثْر جاءتْ قراءتُه موزُونة ترقُّبٍ ولا قَصْدٍ ولا تكَلُّفِ، بل يَنْدَفع بتِلْقائيَّة الذوقِ الأدبي، والحسّ الجماليّ المرهف. والقرآن المجيد كُلُّه مُنْسَجم، قد يسَّرَهُ الله للذِّكر، وفيه فقرات موزونة وزناً شعريّاً، وهي في مواضعها من القرآنِ ليْسَتْ بشعر، ومن هذه الفقرات الموزونة ما يلي: (1) {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] شطر من "الطويل". (2) {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بأَعْيُنِنَا} [هود: 37] شطر من "المديد". (3) {فَأَصْبَحُوا لاَ تُرَى إلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25] شطر من "البسيط". (4) {وَيُخْزِهِمُو وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمنِينَ} [هود: 37] . ويُخْزِهِمُو: على قراءة من يَضُمُّ الميم مع الصّلة. هذا بيت من "الوافر". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 (5) {وَاللَّهُ يَهْدِي من يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} [البقرة: 213] متفاعل - متفاعل - متفاعل - متفاعل. (6) ... [دَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُها ... وَذُلِلَّتْ قُطُونُهَا تَذْلِيلاً] هذا بيت من الرّجز. إلى غير ذلك من أمثلة كثيرة في القرآن. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 البديعة اللفظية (6) : ائتلاف اللّفظ مع اللفظ وائتلاف المعنى مع المعنى * من المحسّنات البديعيّة اللّفظية أن يكون اللّفظ مع اللّفظ المجاور له في الكلام مؤتَلِفَيْن، وهذا يلزم منه أن تكون الألفاظ في الكلام متآلفة يُلائِمُ بعضُها بعضها. ومن الائتلاف في الألفاظ أن يُنْتَقَى في النصّ من الكلمات ما يكون من نوعٍ من الكلام واحد، كأن تكون الكلمات من نَوْعِ الغريب، أو من نوع المتَدَاوَل، أو ممّا يلائم العامّة، أَوْ ممّا يلائم الخاصّة، أو ممّا يلائم مخاطبين مُعَيَّنِين ذوي تخصُّصٍ واحدٍ من تخصصات المعارف والعلوم والصناعات والمِهَن. * ومن المحسّنات البديعيّة اللّفظيّة أنْ تكون ألفاظ الكلام ملائمة للمعنى المراد منها، ومن هذه الملاءمة أن يحكي صوتُ الكلمة صوتاً يوجد فيما دلت عليه، مثل "حفيف" لحركة أوراق الشجر، و"فحيح" لصوت الأفعى، و"صَرْصَر" لصوت الريح الشديدة، والهمز للصوت الذي يصدر عنه إقفال القفل أو تحريك المزلاج في "مؤصدة" و"سلسبيل" لصوت الماء الذي يجري بيسر، و"خرير" للماء النازل في شلاّل، إلى أمثلة كثيرة. وإذا كان المعنى جزلاً اختيرت له ألفاظٌ جزلَةٌ تُلائمة. وإذا كان المعنى رقيقاً اختيرت له ألفاظ رقيقة تُلائمه. وإذا كان المعنى خَشِناً اختيرت له ألفاظ خَشِنةٌ تُلائمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 وإذا كان المعنى غريباً اختيرت له ألفاظٌ غريبة تُلائمه. وإذا كان المعنى متداولاً اختيرت له ألفاظٌ متداولة تُلائمه. وإذا كان المعنى متوسطاً بين الغرابة والتداول اختير له ما يلائمه. وإذا كان المعنى فخماً اختير له ألفاظ مفخمة تلائمه. وهكذا، فألفاظ الحب والْغَزَلِ، غير ألفاظ العتاب والتثريب، وألفاظ المدح غير ألفاظ الهجاء. إنّه ليس من المستحسن في المدح أن يُقالَ: ثَقِيلُ الجود، ولا أن يقال في الغزل: ثقيل الحبّ، أو عنيفُ الهوى، ولا أن يقال في الإِرهاب: لطيف العبور نافذ الإِرادة، إلاَّ في مُخَاطبة لمَّاحي الذكاء، وعلى سبيل الإِشارة، إلى غير ذلك من اختيار ألفاظ غير ملائمة للمعاني الّتي يُرادُ التأثير بها. أمثلة: المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (يوسف/ 12 مصحف/ 53 نزول) يحكي ما قال أولاد يعقوب عليه السلام بشأن يوسف عليه السلام: {قَالُواْ تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حتى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين} [الآية: 85] . في هذ النّص من الائتلاف جمع اللّفظ الغريب مع اللّفظ الغريب، وبيانُه "الْحَرَضَ" في اللّغة هو الّذِي أضناه الحزْنُ والعشقُ، فهو به شديد المرض، وهذا اللّفظ من الألفاظ الغريبة، وكان من فنيّةِ جمع الغريب مع الغريب اختيار أغرب ألفاظ القسم، وهي "التاء" فإنّها أقَلُّ استعمالاً وأبْعَدُ عن أفْهَام العامة من القسم، بحرف "الباء" أو حرف "الواو"، واختيار أغرب صِيغ الأفْعال التي ترفع الاسم وتنصِبُ الخبر من أخوات "كان" وهو فعل "تفتأ" وكان من الممكن اختيار فعل: "ما تزال" فهو أقرب إلى الأفهام، وأكثر استعمالاً من فعل: "ما تَفْتَأ" وهو بحذف "ما" منه أشدّ غرابة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 وهكذا رأينا أن من حُسْن الاختيار في نظم الكلام اختيارَ الألفاظ المتلائمة في الغرابة، توخّياً لحسن الجوار كما يُجْمَعُ في الحفل من الناس كلّ صنف من صنفه. المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول) : {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ بلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً ولاكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [الآية: 38] . ألفاظ هذه الآية كُلُّها مُتَداوَلة لا غرابة في كلمة منها، فكانت متلائمة حسنة التجاور. المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) : {وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النار} [الآية: 113] . في هذا النصّ تلاؤمٌ بديعٌ بين اللّفظ والمعنى المراد، وبيانُه أنَّ الرُّكُونَ إلى الذين ظَلَمُو نوْعٌ من الميْلِ إليهم والاعتماد عليهم، دون انغماس معهم في الظلم، فلاءم هذا المعنى أن يُخْتَارَ في بيان العقاب لفظ {فَتَمَسَّكُمُ النار} لأنّ المسّ فيه معنى ملاصقة النار دون الانغماس فيها. أي: فعذاب من يركَنُ إلى الظالمين هو من نوع عذاب الظالمين، لكنَّهُ دُونه في الكيف والكَمّ، إنّه للراكنين مسّ، لكنّه للظالمين انغماسٌ وحريق. المثال الرابع: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت ... } [الآية: 286] . جاء في هذا النصّ تلاؤم بين اللّفظ المختار والمعنى المراد به، إذْ جاء فيه التفريق بين ما يدلُّ على فعل الحسنات وما يدلُّ على فِعْلِ السيئات، فاختير فيه فعلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 "كَسَبَ" الذي يُسْتَعْمَل في مكاسب الحياة الدنيا من مالٍ وغيره مراداً به فعل الحسنات والخيرات، لأنها ثَرْوَةٌ يَدَّخرها الإِنسان، فتنفَعُهُ في دنياه وأخراه، وإنْ شقَّ فعلُهَا على نفسه. واختير فيه فعلُ "اكْتَسَب" الذي فيه معنى تَكَلُّف حَمْل الْعِبْء مراداً به فعلُ السّيئات والمعاصي والآثام، لأنّها أوزارٌ وأحمالٌ ثقيلة تأتيه بأنواعٍ من العذاب في دنياه وأُخراه، وإِنْ جلَبَتْ له لَذَّةٌ عاجلة، وهانَ فِعْلُها على نفسه. المثال الخامس: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) بشأن إدخال أهل جهنّم فيها: {فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ والغاوون * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الآيات: 94 - 95] . جاء في هذا النصّ اختيار لفظ [كُبْكِبُوا] ملائماً تماماً للمعنى المراد منه، وذلك لأنّ فعل: "كَبّ" يَدُلُّ على المرّة الواحدة، والمعنيّون لا يُجْمَعُونَ ويُكَبُّونَ كبَّةٌ واحدة. أمّا فعل: [كَبْكَبَ] فهو يَدُلُّ على معنى الكبّ المتكرّر المتتابع، وهو أمْرٌ تدلُّ عليه الصيغة الّتي فيها تكرير للحروف كدلالة "الوسوسة" على التكرير، ودلالة "السلسلة" على تتابع الحلقات، ودلالة "الصلصلة" على تكرار الصوت، كصَوت الجرس. إنّ الكَبْكَبَةَ الجماعيّة المتكرّرة أَدلُّ على الإِهانة، وأكثر ملاءمةً للمعنى المراد. المثال السادس: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة [طه/ 20 مصحف/ 45 نزول) : {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا ... } [الآية: 132] . جاء في النّصّ اختيار كلمة [اصْطَبِرْ] ملائماً للمعنى المراد، وهو تَكَلُّف الصَّبْر، بمغالبة النفس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 ولو اختير لفظ "اصْبِر" لما استفيد هذا المعنى. إلى غير ذلك من أمثلة كثيرة. *** خاتمة: لذَوّاقِي التلاؤم والائتلاف بين الكلمات من كبار البلغاء حِسٌّ أدبّي رفيع، قد لا يرقى إليه غيرهم من محبّي الأدب، وعُشّاقِ الكلام البليغ من شعرٍ أو نثر. وأذكر بهذه المناسبة ما رواه الواحدي في شرح ديوان المتنبّي أنّ المتنبّي لمّا أنشد سيف الدولة قولَهُ فيه: وَقَفْتَ وَمَا فِي الْمَوْتِ شَكٌّ لِوَاقِفٍ ... كَأَنَّكَ فِي جَفْنِ الرَّدَى وهْوَ نَائِمُ تَمُرُّ بِكَ الأَبْطَالُ كَلْمَى حَزِينَةً ... وَوَجْهُكَ وَضَّاحٌ وَثَغْرُكَ بَاسِمُ أنْكر عليه سيفُ الدولة تطبيق عَجُزَي الْبَيْتَيْن علَى صَدْرَيهما، وقال له: كان ينبغي أن تَجْعَلَ عَجُزَ الثانِي عَجُزَ الأوّل، والعكس، وأنْتَ في هذا مثْلُ امرئ القيس في قوله: كَأَنِّيَ لَمْ أَرْكَبْ جَوَاداً لِلّذَّةٍ ... وَلَمْ أتَبَطَّنْ كاعِباً ذَاتَ خَلْخَالِ وَلَمْ أَسْبَأِ الرَّاحَ الْكُمَيْتَ وَلَمْ أَقُلْ ... لِخَيْلِيَ كُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إِجْفَالِ قال سيف الدولة: وَوَجْهُ الكلام على ما قالَهُ الْعُلَماءُ بالشِّعر، أَنْ يكُونَ عَجُزُ البيتِ الأول للثاني، وعَجُزُ البيت الثاني للأوّل، ليكون ركُوبُ الْخَيْلِ مَعَ الأَمْرِ لِلْخَيْلِ بالْكَرّ، ويكونَ سَبَاءُ الْخَمْر مَعَ تَبَطُّنِ الْكَاعِب. فقال أبو الطيّب: "إنْ صَحَّ أَنَ الّذِي اسْتدرك على امرئ القيس هذا أعْلَمُ منه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 بالشعر فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطَأْتُ أنا، ومولانا الأمير يعلَمُ أنّ الثوب لا يَعْرفُه البزّاز معرفة الحائك، لأنَّ البزّاز لا يعرف إلاَ جملته، والحائك يعْرِفُ جُمْلَتَهُ وتفْصيله، لأنّه أخْرجه من الغزليّة إلى الثوبيّة، وإنَّما قَرَنَ امْرُؤُ القيس لذّة النساء بلذّةِ الرُّكُوب للصيْد، وقرنَ السماحة في شراء الْخَمْر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء. وأنَا لمّا ذكَرْتُ الموتَ في أوّل البيت أتبعتُهُ بذكْرِ الرَّدَى لتجانسه، ولمّا كان وجْهُ المنهزم لا يخْلُو من أن يكونَ عَبُوساً، وعينُهُ من أن تكون باكية، قُلْتُ: "وَوَجْهُكَ وضّاحٌ وثَغْرُكَ باسِم" لأجْمَعَ بَيْنَ الأضداد في المعنى.. ". أقول: لقد أدرك المتنبّي بما لديه من ذوقٍ فنّيّ رفيع لدقائق الجمال في قَرْنِ الأشباه والنظائر والأضداد، أنّ قرن الأضدّاد الفكرية في تتابع اللّوحة البيانية، أجْمَلُ وأكثر تأثيراً في النفس من قرن الأشباه والنظائر بعضها ببعض، لأنّ تخاطرُ الأضداد في الأذهان أقربُ من تخاطر الأشباه والنظائر. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 البديعة اللفظية (7) : "التعانق" وهو قسمان: القسم الأول: "اقتباس أوائل اللاّحق من أواخر السابق" ويُطْلَق عليه "تشابُه الأطراف". وهو أن يؤتَى بآخر الفِقَرَةِ السَّابقة من الكلام، أو بآخر الشطرة الأولى من البيت، أو بآخر البيت، فيُجْعلَ بدأَ للكلام اللاحق، وقد يُكَرَّرُ هذا في النصّ الواحد. * فمنه قول ليلى الأخيليّة في مدح الحجّاج بن يوسف الثقفيّ: إِذَا نَزَلَ الْحَجَّاجُ أَرْضاً مَرِيضَةً ... تَتَبَّعَ أَقْصَى دَائِهَا فَشَفَاهَا شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الّذِي بها ... غُلاَمٌ إِذَا هَزَّ الْقَنَاة سَقَاهَا سَقَاهَا فَرَوَّاهَا بِشِرْبٍ سِجَالُهُ ... دِمَاءُ رِجَالٍ يَحْلُبُونَ صَرَاها أي: إذا نزل بأرض فيها خارجون يُفْسدون تتبَّعَهُم حتَّى قَتَل الهاربين والمتخفين ورؤُوسَ الفتنة منهم، وأجهز عليهم. بِشِرْب: أي: بِشَراب. سِجَالُه: السِّجال جمع "السِّجْل" وهي الدَّلْوُ العظيمة، والضَّرْعُ العظيمة، ومرادُها هنا الضروع، تَشبيها لأوعية دماء الخارجين المسفدين بالضروع الممتلئة الْمُصَرَّاة (وهي التي حُبِسَ فيها لَبَنُها) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 يَحْلبُونَ صَرَاها: الصَّرَى ما طال مُكْثُه ففسد، تريد أنّ جنود الحجّاج يستخرجون برماحهم وسيوفهم الدّماء الفاسدة من الأشرار الخارجين المفسدين في الأرض. * ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول) : {الله نُورُ السماوات والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِي زُجَاجَةٍ الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ... } [الآية: 35] . يلاحظ في هذا النّص ثَلاثُ فقرات اشتملت على هذا النوع من أنواع البديع: كمِشْكاةٍ فيها مِصْبَاحٌ. الْمِصْبَاحُ في زُجاجَة. الزُّجَاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ. *** القسم الثاني: "اقتباسُ الرَّكَائِز". وهو أن يؤتى من الجملة السّابقة ما يُتَخَذُ رَكيزَةً في بناء الجملة اللاّحقة. الركيزة في اللّغة: ما يُرْتكَزُ عليه مما هو ثابت في الأرض وغيرها، يقال لغة: رَكَزَ شيئاً في شيء إذا أثبته فيه. وركز السَّهمَ في الأرض إذا غرَزَه فيها، ويقال ارْتكز على الشيء إذا اعتمد عليه. ومن "اقتباس الرّكائز" قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المؤمنون/ 23 مصحف/ 74 نزول) : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [الآيات: 12 - 14] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 في هذا النّص أُخِذَتِ الركيزة من جملة {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} وهي كلمة {نُطْفَةً} وبُنِيَ عَلَيْهَا الْجُمْلَةُ التي بَعْدها، وهي: {ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً} ، وأخذت الركيزة من هذه الجملة، وهي كلمة {عَلَقَةً} وبُنِيَ عليها الجملةُ التي بعدها، وهي: {فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً} وَأُخِذَتِ الرَّكيزة من هذه الجملة، وهي كلمة {مُضْغَةً} وبُنيَ عليها الجملة الّتي بعدَها، وهي: {فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً} وأُخِذَتِ الرَّكِيزَة من هذه الجملة، وأُخِذَتِ الرَّكِيزَةُ من هذه الجملة، وهي كلمة "عِظَاماً" وبني عليها الجملة التي بعدها، وهي: {فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً} . وهكذا تَعانق النصّ باقتباس الرَّكائز والبناء عليها، وساعد المعنى على إبداع هذا الفنّ. وهو فنٌّ يصلح في مجال التعليم والتفهيم، وبناء الأفكار بعضها على بعض وفي مجال الإِقناع وتثبيت الأفكار، كما تقول في الحساب مثلاً: خمسة أضف إليها خمسة تصير عشرة، عشرةٌ اضربها بعشرة تصير مئة، مئة قَسّمْها على خمسة يكون الحاصل عشرين. عشرون إذا قسمناها على أربعة يكون الحاصل خمسة إذن: (5+5×10÷5÷4=5) . *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 البديعة اللفظية (8) : "التفويت" هو أن يأتي المتكلم بمعاني شتى من موضوعات مختلفات، كالمدح، والوصف، والإِقرار، والإِنكار، والنُّصْح، والأمر، والنهي، وغير ذلك ويجعل ذلك في جُمْلٍ متفاصلة، مع تساويها في الوزن بوجه عام. ويكون في الجمل الطويلة والمتوسطة والقصيرة. ويبدو لي أنّ هذا العنوان الاصطلاحيّ مشتَقٌّ من كلمة "الْفَوْت" وهي الفرجَةُ بين كلِّ إصبعين، تشبيها للجمل المتفاصلة بأصابع الكفّ المتقاربة المتخالفة المتفاصلة. والأمثلة على هذا النوع من أنواع البديع في القرآن كثيرة منها ما يلي: المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) حكاية لأقوال إبراهيم عليه السلام لقومه: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأقدمون * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين * الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين * رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} [الآيات: 75 - 83] . المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) : {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الآيات: 26 - 27] المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلَّ في سُورَةِ (الرحمن/ 55 مصحف/ 97 نزول) : {الرحمان * عَلَّمَ القرآن * خَلَقَ الإنسان * عَلَّمَهُ البيان * الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ * والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الآيات: 1 - 6] . وهكذا إلى آخر السورة. المثال الرابع: قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دعائه: "اللَّهُمَّ احْفَظْنِي بِالإِسْلاَمِ قَائماً، واحْفَظْنِي بِالإِسْلاَم قَاعِداً، واحْفَظْنِي بالإِسْلاَمِ رَاقِداً، وَلاَ تُشْمِتْ بِيَ عَدُوّاً وَلاَ حَاسِدَاً، اللَّهُمُّ إِنِّي أسْأَلُكَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ خَزَائِنُهُ بِيَدِكْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ خَزَائِنُهُ بِيَدِكَ". رواه الحاكم عن ابن مسعود المثال الخامس: خطبة "قَسّ بين سَاعِدة الإِيَادِي" الذي كان أسْقُفَّ نَجْرَان، وخطيبَ العرب، وحَكِيمَها وحَكَمَها في زمانه، توفي سنة "600م". قال في خطبته التي خطبها في سوق عكاظ: "أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا وَعُوا، إِنَّهُ مَنْ عَاشَ مَاتَ، وَمَنْ مَاتَ فَاتَ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ. لَيْلٌ دَاج، ونهارٌ سَاج، وَسَمَاءٌ ذَاتُ أبْرَاج، ونُجُومٌ تُزْهِر، وبحَارٌ تزْخَر، وجِبالٌ مُرْسَاة، وَأَرْضٌ مُدْحَاة، وأَنَّهَارٌ مُجْرَاة، إنَّ في السَّمَاءِ لَخَبَرَا، وإِنَّ فِي الأَرْضِ لَعِبَرَا. مَا بَالُ النّاسِ يَذْهَبُونَ وَلاَ يَرْجِعُون؟ أَرَضُوا فَأَقَامُوا؟ أَمْ تُرِكُوا فَنَامُوا؟. يَا مَعْشَر إيَاد، أَيْنَ الآبَاءُ والأجْدَاد؟ وَأَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ الشِّدَاد؟ أَلَمْ يكُونُوا أَكْثَرَ منْكُمْ مَالاً؟ وأَطْوَلَ آجَالاَ؟ طَحَنَهُمُ الدَّهْرُ بِكَلْكَلِه، ومَزَّقَهُمْ بِتَطَاوُلِهِ". بِكَلْكَلِهِ: أي: بصدره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 البديعة اللفظية (9) : "التشريع" التَّشْرِيع ويسمّى: "التوشيح" وهو بناء البيت من الشعر عل قافيتين أولى يَصِحُّ الوقوف عندها، فثانية يُوقَف عندها، ويَطُولُ بها البيت، وتشتمل الزيادة على إضافة معنىً. وهو فنٌّ يَحْسُنُ مَا لَمْ يَكُنْ مُتكَلَّفاً تظْهَرُ فيه الصنْعَةُ الَّتي قد تُعْجِبُ الفكر، لكن لاَ تستأثِرُ بالحسِّ الأدبي الذَّوّاق للجمال، ومتَّى كثُرْتِ الأبيات الّتي نُظِمَتْ على هذا المنوال من قصيدة واحدة ظهرت فيها الركاكة، وبدَتْ مَمْجُوجَةً غَيْرَ مُسْتَساغة. أمثلة: (1) قول الحريري في بعض مقاماته: يَا خَاطِبَ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ إِنَّهَا شَرَكُ الرَّدَى. وَقَرَارَةُ الأَكْدارِ دَارٌّ مَتَى مَا أضْحَكَتْ فِي يَوْمِهَا أَبْكَتْ غَدَا. بُعْداً لَهَا مِنْ دَارِ غَارَاتُهَا لاَ تَنْقَضِي وَأسيرُها لاَ يُفْتَدَى. بِجَلائِلِ الأَخْطَارِ (2) قول أَحَدِهِمْ: اِسْلَمْ وَدُمْتَ عَلَى الْحَوَادِثِ مَارَسَا رُكْنَا ثَبِير. أَوْ هضَابُ حِرَاءِ ونَلِ الْمُرَادَ مُمَكَّناً مِنْهُ عَلَى كَرِّ الدُّهُورِ. وفُزْ بِطُول بَقَاءِ (3) قولي صانعاً مثلاً: مَنْ رَامَ أَنْ يَنْجَحَ في. مَقْصُودِهِ. فَلْيَتَّئدْ. وَلْيَتَّقِ الْجَبَّارْ ولْيِمْشِ فِي صَبْرٍ على. مِنْهاجِهِ. وَلَيَسْتَنِدْ. لِلْوَاحِدِ الْقَهَّارْ وَلْيَتِّخِذْ أَسْبَابَهُ. بِحَصَافَةٍ. وَلْيَسْتَفِدْ. مِنْ سَالفِ الأخْبَارْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 البديعة اللفظية (10) : "لزوم مالا يلزم" هو فنٌّ في الشعر وفي السجع يلتزم فيه الشاعر أو السَّاجع قبل الحرف الأخير من أبيات قصيدته، أو سجعاته ما لا يلزمه، كأن يكون الحرفان الأخيران متماثلين في كلّ القوافي، أو الثلاثة الأخيرة، أو تكون الكلمات مع ذلك متماثلة الوزن، إلى غير ذلك من التزام ما ليس بلازم في نظام التقفيات. قال "عبد القاهر الجرجاني": لا يَحْسُ هذا النوع إلاَّ إذا كانت الألفاظ تابعةً للمعاني، فإنَّ المعاني إذا أُرْسِلَتْ عَلى سجيّتِها، وتُرِكَتْ ومَا تُرِيدُ طَلَبَتْ لأنْفُسِها الألفاظ، ولم تكْتَسِ إلاَّ مَا يَلِيقُ بها، فإن كان خلاف ذلك كان كما قال أبُو الطيّب: إِذَا لَمْ تُشَاهِدْ غَيْرَ حُسْنِ شِيَاتِهَا ... وَأَعْضَائِهَا فَالْحُسْنُ عَنْكَ مُغَيَّبُ وقد يقع في كلام بعض المتأخّرين ما حَمَلَ صاحبَه عَلَيْه فَرْطُ شغفة بأمور ترجح إلى ماله اسمٌ في البديع، على أنَّه نَسِيَ أَنَّهُ يتكلَّمُ لِيُفْهِم، ويَقُولُ ليُبين، ويُخَيَّلُ إلَيْه أنّه إذا جَمَعَ عِدَّةً من أقْسام البديع في بيتٍ، فلا ضَيْرَ أن يَقَعَ ما عَنَاهُ فِي عَمْياءِ، وأن يجعلَ السامع يتخبّطُ خبط عَشْواء" هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 أمثلة: (1) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) : {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ} [الآيات: 201 - 202] . إنّ المماثلة بين: "مُبْصِرُون" و"يُقْصِرُون" في الوزن وحرفي الصّاد والراء مع الواو والنون من لزوم ما لا يلزم، وقد جاء حسناً بديعاً، لأنه جاء سلساً غير متكلّف، ولا مجلوب اجتلاباً، وجاء كُلُّ من اللّفظين ملائماً للمعنى المراد منه. (2) قول عبد الله بن الزَّبِير الأَسدي في مدح عَمْرو بن عثمان بن عفان رضي الله عنهما: سَأَشْكُرُ عَمْراً مَا تَراخَتْ مَنِيَّتِي ... أَيادِيَ لَمْ تُمْنَنْ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ فَتىً غَيْرُ مَحْجُوب الْغِنَى عَنْ صَدِيقهِ ... ولا مُظْهرُ الشَّكْوى إذَا النَّعْلُ زلَّتِ رَأَى خَلَّتِي مِنْ حَيْثُ يَخْفَى مَكَانُهَا ... فَكَانَتْ قَذَى عَيْنَيْهِ حَتَّى تَجَلَّتِ لَمْ تُمْنَنْ: أي: لم تنقطع. رَأَى خَلَّتِي: أي: رأى خَصاصتي وفقري. قَذَى عَيْنَيْه: القذى جمعٌ مفردُه "الْقَذَاة" وهي ما يتكوَّنُ في العين من رمصٍ وغَمَصٍ وغيرهما. في هذه الأبيات التزم الشاعر ما لا يلزمه فجعل قبل حرف الروي وهو التاء، حرفاً آخر يكرره مع كلّ القوافي وهو اللاّم المشدّدة. (3) قول الحماسي: إِنَّ الَّتِي زَعَمَتْ فُؤَادَكَ مَلَّهَا ... خُلِقَتْ هَوَاكَ كمَا خُلِقْتَ هَوىً لَهَا بَيْضَاءُ بَاكَرَهَا النَّعِيمُ فَصَاغَهَا ... بِلَبَاقَةٍ فَأَدَقَّها وَأَجَلَّهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 حَجَبَتْ تَحِيَّتَهَا فَقُلْتُ لِصَاحِبي: ... مَا كَانَ أَكْثَرَهَا لَنَا وَأَقَلَّهَا وَإِذَا وَجَدْتَ لَهَا وَسَاوِسَ سَلْوَةٍ ... شَفَعَ الضَّمِيرُ إلَى الْفُؤادِ فَسَلَّهَا فالْتَزم اللام المشدّدة قبل حرف الروي الذي هو "هَا". (4) قول الفرزدق: مَنَعَ الْحَيَاةَ مِنَ الرِّجَالِ وَنَفْعَهَا ... حَدَقٌ تُقَلِّبُها النِّسَاءُ مِرَاضُ وَكَأَنَّ أَفْئِدَةَ الرِّجَالِ إِذَا رَأَوْا ... حَدَقَ النِّسَاءِ لِنَبْلِهَا أَغْرَاضُ *** خاتمة: رأىْ أبو العلاء المعرّي ما لديه من قدرة شعرية، وثروة لغويّة واسعة، فاهتمّ لهذا الفنّ من فنون البديع، فجمع ما أَمْلَى من شعر فيه، ووضعه في ديوان خاص بعنوان: "لزوم ما لا يلزم" ويُعْرَف باللُّزوميات. واعتنى المتأخرون بهذا الفنّ اعتناءً بلغ حدّ الإِسراف، ولئن وجدنا فيه ما هو جيّد، ففيه أيضاً الغثُّ السَّمِج. فلا ينبغي تكلُّفُه، ولا توجيهُ الاهتمام له، لكن إذا جاء تلقائيّاً مُنْساباً على السجيّة كان فنّاً بديعاً. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 البديعة اللفظية (11) : "القلْب" أو "العكس اللّفظي" وهو أن يُقْرأ الكلام من آخره إلى أوّله كما يُقْرأُ من أوّله إلى آخره، والمعتبر فيه الحروف المكتوبة لا الملفوظة. وهو فنّ لا يَعْدو أن يكون مهارة شكليّة لفظيّة، لا يرتبط به معنى، وتكلُّفُه قد يُفْسِد المعاني المقصودة، أو يُلْجِئ إلى استجلاب معاني ليست ذات قيمة تُعْتَبَرُ لدى أهل الفكر، أو تَسْتَحِقُّ تخصيصَها بالذكر. * ومن أمثلته في القرآن مثالان لا ثالث لهما: 1- {كُلُّ فِي فَلَكٍ} [الأنبياء: 33] . 2- {رَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] * ومن الأمثلة قول بعضهم: *"أرانَا الإِلهُ هِلاَلاً أنَارَا"* * ومن الأمثلة قول الْقاضِي الأرّجاني: مَوَدَّتُهُ تَدُومُ لِكُلِّ هَوْل ... وَهَلْ كُلُّ مَوَدَّتُهُ تَدُومُ وقد تفنّن المتأخرون من الأدباء في صناعة أمثلة لهذا النوع الشَّكْليّ البحت، وللحريري في بعض مقاماته نَثْرٌ وشعر منه. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 البديعة اللفظية (12) : "الاقتباس" الاقتباس وما اشْتُقّ منه من فروع وهي: التضمين - العقد - الحلّ - التلميح الاقتباس: أن يُضَمِّنَ المتكلّم كلامه من شعر أو نثر كلاماً لغيره بلفظه أو بمعناه، وهذا الاقتباس يكون من القرآن المجيد، أو من أقوال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو من الأمثال السائرة، أو من الْحِكَم المشهورة، أو من أقوال كبار البلغاء والشعراء المتداولة، دون أن يعزو المقتبس القول إلى قائله. والاقتباس مِنْهُ ما هو حسن بديع يقوي المتكلّم به كلامه، ويُحْكِمُ به نظامه، ولا سيما ما كان منه في الخطب، والمواعظ، وأقوال الحكمة، ومقالات الدعوة والإِرشاد، ومقالات الإِقناع والتوجيه للفضائل في نفوس المؤمنين بكتاب الله وكلام رسوله. وبعض الأدباء يقتبس من القرآن المجيد أو من أقوال الرسول مستنصراً بما اقتبس لتقوية فكرته، أو لتزيين كلامه في أغراض مختلفة كالمدح والهجاء والغزل والإِخوانيات ونحو ذلك، فإذا لم يُحَرّف في المعنى، ولم يكن في اقتباسه سوء أدب مع كلام الله أو كلام الرسول فلا بأس باقتباسه، وإذا كان في اقتباسه تحريف في المعنى، أو سوء أدب فهو ممنوع ويأثم به المقتبس، وقد يَصِلُ بعض الاقتباس إلى دركة الكفر والعياذ بالله. أمثلة: 1) قال عبد المؤمن الأصفهاني: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 لاَ تَغُرَّنَّكَ مِنَ الظَّلَمَةِ كَثْرَةُ الْجُيُوشِ وَالأَنْصَارِ {إِنَّمَا نُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42] . (2) قول ابن نُباتة في بعض خطبه: فَيَا أَيُّهَا الْغَفَلَةُ الْمُطْرِقُون، أَمَا أَنْتُمْ بِهذَا الْحَدِيثِ مُصَدِّقُون، مَا لَكُمْ لاَ تُشْفِقُونَ {فوَرَبِّ السَّمَاءِ والأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23] (3) قول ابن سَنَاء الْمُلْك: رَحَلُوا فَلَسْتُ مُسَائِلاً عَنْ دَارِهِمْ ... أنا "بَاخِعٌ نَفْسِي عَلَى آثَارِهمْ" مقتبس من قول الله عزَّ وجلَّ لرسوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهمْ} [الكهف: 6] . باخِعٌ نَفْسَك: أي: قاتل نفسك غمّاً من أجلهم. (4) قول بديع الزمان الهمذاني: لآِلِ فَرِيغُونَ فِي الْمَكْرُمَا ... تِ يَدٌ أَوَّلاً واعْتِذَارٌ أَخِيراً إِذَا مَا حَلَلْتَ بِمَغْناهُمُو ... "رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً" الشطرة الأخير مُقْتَبَسَةٌ مِنَ القرآن. (5) قول الحماسي: إِذَا رُمْتُ عَنْهَا سَلْوَةٌ قَالَ شَافِعٌ ... مِنَ الْحُبِّ مِيعَادُ السُّلُوِّ الْمَقَابِرُ سَتَبْقَى لَهَا فِي مُضْمَرِ الْقَلْبِ والْحَشَا ... سَرِيرَةُ حُبٍّ "يَوْمَ تُبْلَى السَّرائَر" "يوم تُبْلَى السَّرائِرُ": عبارة قرآنيّة. (6) قول أبي جعفر الأندلسيّ: لاَ تُعَادِ النَّاسَ في أَوْطَانِهِمْ ... قَلَّمَا يُرْعَى غَرِيبُ الْوَطَنِ وَإِذَا مَا شِئْتَ عَيْشاً بَيْنَهُمْ ... "خَالِقِ النَّاسَ بُخُلْقٍ حَسَنِ" الشطرة الأخيرة مأخوذة من أقوال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 (7) قول الصّاحب بن عبَّاد: قَالَ لي: إِنَّ رَقِيبي ... سيِّيءُ الْخُلْقِ فَدَارِهُ قُلْتُ: دَعْنِي "وَجْهُك ... الْجَنَّةُ حُفَّتْ الْمَكارِه" العبارة الأخيرة مقتبسة من قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حُفَّتِ الجنَّةُ بالمكاره، وحُفَّتِ النّارُ بالشَّهَوات. ولست أرى استخدام مثل هذه المعاني الدينيّة في فانيات الدنيا ولو كانت خالية من المعصية، فلا يستقيم هذا إلاَّ بتحريفٍ في أصل المعنى. (8) قول الصاحب بن عباد أيضاً: أَقُولُ وَقَدْ رَأَيْتُ لَهُ سَحَابَا ... مِنَ الْهِجْرَانِ مُقْبِلَةً إلَيْنَا وَقَدْ سَحَّتْ غَوَادِيهَا بِهَطْلٍ ... "حَوَالَيْنَا" الصُّدُودُ "وَلاَ عَلَيْنَا" مقتبس من دعاء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا". (9) قول ابن الرّومي: لَئِنْ أَخْطَأْتُ فِي مَدْحِكَ مَا أَخْطَأْتَ فِي مَنْعِي لَقَدْ أَنْزَلْتُ حَاجَاتِي ... "بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعِ" مقتَبسٌ من دعاء إبراهيم عليه السلام كما جاء في القرآن: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكنْتُ مِنْ ذُرّيَتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّم} [إبراهيم: 37] استعمله ابن الرومي مجازاً في رجل بخيل لا خير فيه ولا نفع. (10) من كتاب لمُحْيِ الدّين عبد الظّاهر (من الكتّاب المقدَّمِين في دولة المماليك) : لاَ عَدِمَتِ الدَّوْلَةُ بيضَ سُيُوفِهِ الَّتِي {تَرَى بِهَا الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 (11) قول عمر الخيّام: سَبَقْتُ الْعَالَمِينَ إلَى الْمَعَالِي ... بِصَائِبِ فِكْرَةٍ وَعُلُوِّ هِمَّه وَلاَحَ بِحِكْمَتِي نُورُ الْهَدَى في ... لَيَالٍ لِلضَّلاَلَةِ مُدْ لَهِمَّهْ يُرِيدُ الْجَاهِلُونَ ليُطْفِئُوهُ ... "وَيَأْبَى اللَّهُ إلاَّ أَنْ يُتِمَّهْ" الشطرة الأخيرة مُقْتَبَسة من القرآن. *** ما اشْتَقَّ من الاقتباس من فروع اشتقّ البلاغيّون من الاقتباس أربعة فروع، وهي: (1) التضمين (2) الْعَقْد (3) الْحَلُّ (4) التلميح. الفرع الأول: "التضمين" ومنه: "الاستعانة"، و"الإِيداع" و"الرّفْو". التضمين: هو أن يُضْمِّنُ الشاعر شعرَه شيئاً مِنْ شعْرِ غَيْرِه، مع التنبيه عليه إنْ لم يكن مشهوراً عند الْبُلَغاء، ودون التنبيه عليه إنْ كان مشهوراً. * ومن هذا التضمين قول الحريري: عَلَى أَنِّي سَأُنْشِدُ عِنْدَ بَيْعي ... "أضَاعُونِي وَأَيَّ فَتىً أضَاعُوا" الشطر الأخير لِلْعَرْجِى، وبيت العرجى هو: أضاعوني وأَيَّ فَتىً أَضَاعُوا ... لِيَوْمِ كَرِيهَةٍ وَسِدَادِ ثَغْرِ وقد نبَّه الحريري على التضمين بقوله: "سأُنْشِد". * ومن هذا التضمين قول ابن العميد: وَصَاحِبٍ كُنْتُ مَغْبوطاً بِصُحْبَتِه ... دَهْراً فَغَادَرَنِي فَرْداً بِلاَ سَكَنِ هَبَّتْ لَهْ رِيحُ إقْبَالٍ فَطَارَ بِهَا ... نَحْوَ السُّرُور وَألْجانِي إلَى الْحَزَنِ كَأَنَّهُ كَانَ مَطْوِيّاً عَلَى إِحَنٍ ... وَلَمْ يَكُنْ فِي ضُرُوبِ الشِّعْرِ أَنْشَدَنِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 "إِنَّ الكِرَامَ إِذَا مَا أَيْسَرُوا ذَكَرُوا ... مَنْ كَانَ يَأْلَفُهُمْ فِي الْمَنْزِل الْخَشِنِ" البيت الأخير لأبي تَمَّام، وقد نبّه ابن العميد على التضمين بقوله: "ولم يكن في ضروب الشِّعْرِ أنْشَدَني". وأحْسَنُ التضمين ما زاد على الأصل أمراً حسناً، كتورية، أو تشبيه، ومنه قول ابن أبي الإِصبع مستغلاًّ شعر المتنبي لمعنى آخر غير الذي قصده: إِذَا الْوَهْمُ أَبْدَى لِي لَمَاهَا وَثَغْرَهَا ... "تَذَكَّرْتُ مَا بَيْنَ الْعُذَيْبِ وَبَارقِ" وَيُذْكِروني مِنْ قَدِّهَا وَمَدامِعِي ... "مَجَرُّ عَوَالينَا وَمَجْرَى السَّوابِقِ" الشطران الثانيان مطلع قصيدة للمتنبّي يمدح بها سيف الدولة، ولم يُنَبّه ابن أبي الإِصبع على التضمين لأن قصيدة المتنبّي مشهورة عند المشتغلين بالأدب. الْعُذَيب وبَارِق: موضعان بظاهر الكوفة مَجَرُّ عَوَالينا: أي: مكان جرّ الرماح، وحركة جرّها. ومَجْرى السَّوابق: أي: مكان جري الخيل السوابق، وحركةُ جريها. فأخذ ابن أبي الإِصبع من "الْعُذَيْب" معنى عذوبة ريق صاحبته، وأخذ من "بَارِق" البريق الذي يُرَى من ثغرها، على سبيل التورية. وشبّه قدّها بحركة جرّ الرّماح، وشبّه جريان دمعهِ بِجَرْيِ الخيل السوابق. قالوا: ولا يَضُرُّ التغيير اليسير عند التضمين. والتضمين على حَالتين: * فإِذا بلغَ مقدارُه تضمينَ بيت فأكثر، فقد يُطْلَق عليه لفظ "الاستعانه". * وإذا كان مقدارُهُ شَطْرَ بيتٍ أوْ دونه، فقد يُطْلَق عليه "الإِيداع" إذ الشاعر قد أودع شعره شيئاً من شعر غَيْره، وقَدْ يُطْلَقُ عليه "الرَّفْوُ" لأنّ الشاعر "رَفَا" خَرْقَ شِعْرِه بشيءٍ من شعر غيره. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 الفرع الثاني: "الْعَقْد": وهو أن ينظم الشاعر نثراً لغيره لا على طريقة الاقتباس. * ومن الْعَقْد قول أبي العتاهية: مَا بَالُ مَنْ أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ ... وَجِيفَةٌ آخِرُهُ يَفْخَرُ؟! عقد أو العتاهية في هذا البيت قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: "وَمَا لابْنِ آدَمَ والْفَخْرَ، وإِنَّمَا أَوَّلُهُ نُطْفَة، وآخِرُهُ جِيفَة". ومن الْعَقْدِ قول أبي العتاهية أيضاً: وَكَانَتْ فِي حَيَاتِكَ لِي عِظَاتٌ ... وَأَنْتَ الْيَوْمَ أَوْعَظُ مِنْكَ حَيّاً عقَدَ في هذا البيت قول بعض الحكماء في الإِسْكَنْدَرِ لمّا توفّي: كَانَ الْمَلِكُ أَمْسِ أنْطَقَ مِنْهُ الْيَوْم، وهُوَ الْيَوْمَ أَوْعَظُ مِنْهُ أَمْسِ". *** الفرع الثالث: "الحلّ": وهو أن يَنْثُر الكاتب أو المتكلّم شِعْراً لِغَيرِهِ، ويكون حَسَناً إذا كان سَبْكُ الحلِّ حسَنَ الموقع، مستقرّاً غير قَلِقٍ، وافِياً بمعاني الأصل، غَيْرَ ناقصٍ في الْحُسْنِ عن سَبْكِ أصْلِه، أو أن يكون بمثابة الشَّرْح لدقائقه، وإلاَّ كان عملاً غَيْرَ مقبولٍ في الأعمال الأدبية. * ومن أمثلة الحلِّ الَّتي ذكرها البلاغيون قول بعض المغاربة، يَصِفُ شخصاً بأنَّه سَيِّئُ الظَّنّ، إذْ يَقِيسُ غَيْرَهُ عَلَى نَفْسِه: "فَإِنَّهُ لَمَّا قَبُحَتْ فَعَلاتُهُ، وَحَنْظَلَتْ نَخَلاتُهُ، لَمْ يَزَلْ سُوءُ الظَّنِّ يَقْتَادُهُ، وَيُصَدِّقُ تَوَهُّمَهُ في الّذِي يَعْتَادُه". حلّ بقوله قول المتنبّي: إِذَا سَاءَ فِعْلُ الْمَرءِ سَاءَتْ ظُنُونُهُ ... وَصَدَّقَ مَا يَعْتَادُهُ مِنْ تَوَهُّم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 أي: ما يتوهُّمُه من أنّ الآخرين أساءوا يُصَدِّقُ توهُّمَهُ فيهم، لأنَّهُ يقيسُهم على نفسه، وما يَعْتَادُه من سوء عَمَل. * ومنه قول صاحب "الوشي المرقوم في حلّ المنظوم" يصف قلم كاتب: "فَلاَ تَحْظَى بِهِ دَوْلَةٌ إِلاَّ فَخَرَتْ عَلَى الدُّوَل، وَغَنِيَتْ بِهِ عَنِ الْخَيْلِ والْخَوَلِ، وَقَالَتْ: أَعْلَى الْمَمَالِكِ مَا يُبْنَى عَلَى الأَقْلاَمِ لاَ عَلَى الأَسَل". العبارة الأخيرة حلّ لقول أبي الطيّب مع ردّ لمقاله وجعل أعْلَى الممالك ما يبنى على الأقلام: "أَعْلَى الْمَمَالِكِ مَا يُبْنَى عَلَى الأَسَلِ" ... وَالطَّعْنُ عِنْدَ مُحِبِّيهِنَّ كَالْقُبَلِ. *** الفرع الرابع: "التَّلْمِيح": وهو أن يُشِيرُ الناثر أو الشاعر إلى قصة أو شعْرٍ أو نثرٍ ذكر ما أشار إليّه. * ومنه قول أبي تَمَّام: لَحِقْنَا بأُخْرَاهُمْ وَقَدْ حَوَّمَ الْهَوَى ... قُلُوباً عَهِدْنَا طَيْرَهَا وَهْيَ وُقَّعُ فَرُدَّتْ عَلَيْنَا الشَّمْسُ وَاللَّيْلُ رَاغِمٌ ... بِشَمْسٍ لَهُمْ مِنْ جَانِبِ الْخِدْرِ تَطْلُعُ نَضَا ضَوْؤُهَا صِبْغَ الدُّجُنَّةِ وانْطَوَى ... لِبَهْجَتِهَا ثَوْبُ السَّمَاءِ الْمُجَزَّعُ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَأَحْلاَمُ نَائِمٍ ... ألَمَّتْ بِنَا أَمْ كَانَ فِي الرّكْبِ يُوشَعُ فقد أشار إلى قصّة يُوشع عليه السلام على ما رُوي أنّه قاتل الجبّارين يوم الجمعة، فلمَّا أدبَرَتِ الشمس خاف أن تغيب قبل أن يفرغ منهم، ويدخل السبت فلا يحلّ له قتالهم، فدعا الله عزَّ وجلَّ فردّ له الشمس حتّى فرغ من قتالهم. ومنه قول أبي تمّام أيضاً: لَعَمْرٌو مَعَ الرَّمْضَاءِ وَالنَّارُ تَلْتَظِي ... أَرَقُّ وَأحْفَى مِنْكَ في سَاعَةِ الْكَرْبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 يشير إلى البيت المشهور: الْمُسْتَجِيرُ بِعَمْروٍ عِنْدَ كُرْبَتِهِ ... كَالمُسْتَجِيرِ مِنَ الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ وقصة ذلك أنّ عمرواً تَرصَّدَ كُلَيْباً حتى ابتعد عن الحمى، فركب فرسه فأتبعه فرمَى صُلْبَهُ، ثُمَّ وقَفَ عليه فقال له: يا عَمْرو أغِثْنِي بِشَرْبَةِ ماءٍ فَأَجْهَزَ عليه، فمات، فقيل هذا البيت. ونشبت العداوة بين تغلب وبكر أربعين سنة، وكان سببها ناقةً رماها كليب فقتلها، وكان اسم هذه الناقة أو اسم صاحبتها "الْبَسُوس" وفيها قيل: "أشأم من البسوس" وهذه الحادثة من حروب الجاهليّة قبل الإِسلام في قبائل العرب. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 "علم البديع" الفصل الثالث: ملاحق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 المقولة الأولى: السرقات الشعرية وتوافق القرائح كثيراً ما يحدث أن تتوافق قرائح الشعراء والكتّاب في إبداع فكرة، وفي أسلوب صياغتها، وقد يحدث أحياناً التوافق في الوزن والقافية وحرف الرّوي وكثير من الكلمات إذا كان الكلام من الشعر. وقد حدث لي وأنا في نحو العشرين من عمري أنّي نظمت قصيدة في الغزل، مبنيّة على حوارٍ: "قالت لي، وقلت لها" صَوَّرْتُ فيها تخيُّلاً مغامرة عاشق، اتفق مع معشوقته على أن يترصَّد غفلة الرّقباء في ليل ساتر، وتمّ لهما اللّقاء ثم تسلل إلى منزله دون أن يشعر بهما أحد. وبقيتُ مدّةً أقرؤها على أصدقاء المراهقة، وأنا أرى نفسي مبتكر طريقة الحوار ذي الفقرات القصيرات في قصيدة تزيد على عشرين بيتاً، مطلعها: قالت لي الحسناء: هل أنت لي ... قُلْتُ لها: مِلْكُكِ لي ظاهرْ قالت: وهل أنت مُطِيعٌ لَنَا ... قُلْتُ: وَهَذَا مَثَلٌ سَائِرْ وفي أحد الأيام أخَذْتُ جزءاً من كتاب الأغاني من مكتبة أبي - تغمّدَه الله برحمته - وَجَعَلْتُ أُقَلّبُ فيه، ففُوجئت بقصيدة على مثل قصيدتي وزناً وقافية وحرفَ رَوِيّ، وبعد أن استكملْتُ قراءتها وجدتها متماثلةً مع قصيدتي تماماً في موضوعها وأسلوبها وفي كثير جدّاً من عباراتها، وما كانت قبل ذلك قد قرأت هذه القصيدة ولا سمعتُها من أحد، فقلتُ في نفسي: لو اطّلع أحد قارئي كتاب الأغاني على قصيدتي لقال: سارقٌ انتحل القصيدة وهي ليست له، فاهملْتُ قصيدتي وطويتُها خشية أن أُتَّهَمَ بالسَّطْوِ على شعر غيري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 مثل هذا قد يحدث على سبيل الندرة، ولكنّ الشعراء والكتّاب كثيراً ما يَسْرِقُ بعضهم من بعض، ويدّعون لأنفسهم أنّهم مبتكرو الأفكار، ومبتكرو الصياغة الرفيعة، وليسوا ناقلين ولا مقلّدين ولا سارقين. ونظير هذا يحدث في كلّ الإِبداعات والابتكارات، كالألحان الموسيقية، والمكتشفات العلميّة والصناعية، والمؤلفات في الكتب. وقد اهتم علماء البلاغة بهذا الموضوع، فدوّنوا في علوم البلاغة بحثاً يتعلّق بالسّرقات الشعريّة وتواطؤ القرائح واتفاقها، ورأوا أنّ التوافق له حالات ثلاث: الحالة الأولى: "الْمُوارَدة": وهي أن يتّفق المتكلّمان في اللّفظ والمعنى، أو في المعنى وحده، ولا يُعْلَم أخْذ أحدهما من الآخر. قالوا: إنّ مثل هذا يمكن أن يكون من اتفاق القرائح وتوارد الأفكار من غير أن يَسْرِقَ أحَدٌ من الآخر، ولو كان أحدهما متأخراً زمناً. ومن أمثلة هذه الحالة أنّ ابن الأعرابي أنشد لنفسه قوله: مُفِيدٌ ومِتْلاَفٌ إِذا مَا أتَيْتَهُ ... تَهَلَّلَ واهْتَزَّ اهْتِزَازَ المُهَنَّدِ فقيل له: أَيْنَ يُذْهَبُ بِكَ؟ هَذا لِلْحُطَيْئَة. فقال ابن الأعرابي: الآن عَلِمْتُ أنّي شاعر، إذْ وافَقْتُهُ على قولِهِ ولم أسمعه إلاَّ السّاعة، أي: لم يَسْمَعْ قول الحطيئة إلاَّ في هذه الساعة. قالوا: وحين لا يُعْلَمُ أخذُ اللاّحق من السابق فالعبارة المهذّبة التي لا اتّهام فيها أن يُقال: قال فلانٌ كذا، وقد سبقه إلى هذا المعنى أو إلى نحوه فلان، فقال كذا. الحالة الثانية: "الاشتراك العامّ": وهي التوافق في الأغراض وفي الأفكار والمعاني المتداولة، الّتي يشترك معظم الناس بإدْراكها، سواء تناقلها بعضُهُمْ عن بَعْضٍ أو لم يتناقلوها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 وفي هذه الحالة لا يُعْتَبَرُ اللاّحق سارقاً من السابق، ولا معتدياً على حقّه الأدبي. الحالة الثالثة: "السّرقات الأدبيّة": وهي الّتي يسْطو فيها اللاّحقُ على ما أبدعه السابق، من المعاني والعبارات، والتشبيهات، والاستعارات، والمجازات، وغير ذلك من مبتكرات الأفكار. وهذه هي التي يُقال فيها: فلانٌ السابق، وفلانٌ سرَقَ منه، أو فلان السابق، وأخذ الَّذِين جاؤوا من بعده فكرتَه، أو عبارته، أو أسلوبه، أو نحو ذلك. وهي التي يقال فيها: فلانٌ جاء بفكرة كذا، وأخذها منه فلان، فزاد عليها، أو نقص، أو أحْسَنَ الصياغة أو أساءها، أو استغلّها في موضوع آخر غَيْرِ الموضوع الذي أوردها فيه مبتكِرُها الأوّل. ومن أمثلة الإِبداع الذي لم يُسْبَق إليه مُبْدِعُهُ من الشعراء، أنّ أبا تمّام أَنْشَدَ قصيدته السينيّة التي مطلعها: *مَا فِي وُقُوفِكَ سَاعةً مِنْ بَاسِ * نَقْضي حُقُوقَ الأَرْبُعِ الأدْرَاسِ* حتّى وصَلَ إلى قوله فيها: إِقْدَامُ عَمْرو في سَمَاحَةِ حَاتِم ... في حِلْم أحْنَفَ فِي ذَكاءِ إِيَاسِ عندئذٍ قال الحكيم الكِنْدِي: وَأيُّ فَخْرٍ في تشبيه ابْن أمير المؤمنين بأجلاف العرب؟!. فأطْرَقَ أبو تَمَّام ثُمَّ أَنْشَد: لاَ تُنْكِرُوا ضَرْبي لَهُ مَنْ دُونَهُ ... مَثَلاً شَرُوداً فِي النَّدَى والْبَاسِ فَاللَّهُ قدْ ضَرَبَ الأَقَلَّ لِنُورِهِ ... مَثَلاً مِنَ المِشْكَاةِ والنِّبْراسِ فابتكر بهذا معنىً لم يَسْبقْهُ إليه أحد، فمن أتى بعده بهذا المعنى أو ببعضه عُدَّ سارقاً، أو مُقْتَبساً، أو مُقَلِّداً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 أقسام السّرقات: ونظر علماء البلاغة والأدب في مختلف السّرقات الأدبيّة فرأوا أنّها تنقسم إلى ثمانية أنواع، ثلاثة منها ظاهرة، وهي "النسخ أو الانتحال - المسخ أو الإِغارة - السَّلْخُ أو الإِلمام". وخمسة منها غير ظاهرة، وهي "التشابه - النقل - التعميم - القلب - الالتقاط والإِضافة" وفيما يلي شرح هذه الأنواع الثمانية: أمّا الظاهرة من أقسام السّرقات فهي الأنواع التالية: النوع الأول: "النسخ" ويقالُ له "الانتحال": وهو أن يأخذ أحد الشاعرين أو الناثرين المعنى الذي سبق إليه الآخر ولفظه كلّه أو أكثره. وهذا النوع يكون بثلاثة وجوه: الوجه الأول: أن يأخذ المنتحل لفظ السابق ومعناه، ولا يخالفه في شيْءٍ ومن أمثلة هذا الوجه ما حُكي أنّ "عبد الله بن الزبير" الشاعر، دخل على معاوية فأنشده: إِذَا أَنْتَ لَمْ تُنْصِفْ أَخَاكَ وَجَدْتَهُ ... على طَرَفِ الهِجْرَانِ إنْ كانَ يَعْقِلُ ويَرْكَبُ حَدَّ السَّيْفِ مِنْ أَنْ تَضِيمَهُ ... إِذا لَمْ يَكُنْ عَنْ شَفْرَةِ السَّيْفِ مَزْمَلُ فقال له معاوية: لَقَدْ شَعَرْتَ بَعْدِي يَا أبا بكر. ولم يفارق "عبد الله بن الزبير" الشاعر مجلس معاوية حتَّى دخَلَ مَعْنُ بن أوس المزني، فأنْشَدَهُ قصيدته التي يقول في مطلعها: لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وإنِّي لأَوْجَلُ ... عَلَى أيِّنَا تَعْدو المَنِيَّةُ أَوَّلُ حتى أتمّها، وفيها البيتان اللَّذان أنشدهما "عبد الله بن الزبير". فأقبل "معاوية" على "عبد الله" وقال له: ألم تُخْبِرْني أنَّهُما لكَ؟! فقال "عبد الله": المعنى لي، واللَّفْظُ له، وبَعْدُ فهو أخي من الرضاعة، وأنا أحقُّ بشِعْرِه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 الوجه الثاني: أن يأخذ المنتحل لفظ السابق ومعناه، ولا يخالفه إلاَّ بالقافية أو نحوها، ومن أمثلة هذا الوجه قول امرئ القيس: وَقُوفاً بها صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ ... يَقُولُونَ: لاَ تَهْلِكْ أسىً وتَجَمَّلِ هذا البيت سَطَا عليه "طَرَفهُ بن العبد" فقال: وَقُوفاً بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ ... يَقُولُونَ: لاَ تَهْلَكْ أَسىً وتَجَلَّدِ فغيّر الكلمة الأخيرة من البيت، ليوافق رويّ قصيدته. الوجه الثالث: أنْ يأخذ المنتحل معنى السَّابق وأكثر ألفاظه، ومن أمثلة هذا الوجه ما رُويَ لِلأُبَيْرِد اليربوعي: فَتىً يَشْتَرِي حُسْنَ الثَّنَاءِ بِمَالِهِ ... إِذا السَّنَةُ الشَّهْبَاءُ أَعْوَزَها القَطْرُ وما رُوي لأبي نُواس: فَتىً يَشْترِي حُسْنَ الثَّنَاءِ بِمَالِهِ ... وَيَعْلَمُ أنَّ الدَّائِرَاتِ تَدُورُ فالشطران الأوّلان من البيتين متطابقان، والآخران مختلفان. *** النوع الثاني: "المَسْخ" أو "الإِغارَة": وهو أن يأخُذَ المُغِير بعض كلام السّابق، ولهذا النوع ثلاثة وجوه أيضاً: الوجه الأول: أن يكون ما جاء به المُغير أبْلَغَ من كلام السابق، لما فيه من تجويد في سبك الكلام، أو اختصارٍ، أو إيضاحٍ، أو زيادة معنى، أو نحو ذلك. وهذا الوجه مقبول ممدوح، ومن أمثلة هذا الوجه، قول الشاعر: خَلَقْنَا لَهُمْ فِي كُلِّ عَيْنٍ وَحَاجِبٍ ... بِسُمْرِ القَنَا والبِيضِ عَيْنَا وَحَاجِباً أي: فقأنا عيونهم برماحنا فصَارتْ كالعيون تنزف دماً، وضربناهم بالسُّيُوف على جباههم فجعلنا لهم مع كلّ حاجبٍ من الشَّعَر مثلهُ من ضربَةِ سَيْف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 أخذ ابْنُ نُباته هذا البيت وصاغَهُ صياغة أخرى فقال: خَلَقْنَا بِأَطْرَافِ الْقَنَا في ظُهُورِهِ ... عُيُوناً لَهَا وقْعُ السُّيُوفِ حَواجبُ فزاد ابن نباتة معنى انهزامهم لشدّة رُعْبِهِمْ، ومطاردتهم، ونَقَلَ من السابق فكرة فتح العيُونِ ولكن في ظهورهم، ورسم الحواجب بالسُّيُوفِ فوقها، فاستُحْسِنَ عَمَلُ ابنِ نباته. وقد يقال: إنّ بَيْتَ السّابق دلَّ على شدّة البأس، والسَّبْق إلى ضرب العدوّ قبل أن يتمكّن من الانهزام، وهذا أدَلُّ على الجرأة وسُرْعة الإِقدام. الوجه الثاني: أن يكون جاء به المغير مساوياً لما جاء به السابق في بلاغته. وهذا الوجه غير ممدوح ولا مذموم، على أنّ الفضل للسابق بلا ريب، ومن أمثلة هذا الوجه، قول أبي تمَّام وهو السابق: لَوْ حَارَ مُرْتَادُ المَنِيَّةِ لَمْ يَجِدْ ... إلاَّ الفِرَاقَ على النُّفُوسِ دَلِيلاً أي: لو حار طالب المنيَّة لأحدٍ في اتّخاذ وسيلة لا تُكلِّفهُ عنتاً لم يجد إلاَّ وسيلة فراق الأحبّةِ. أغار عليه المتنبي وصاغه بأسلوبه فقال: لَوْلاَ مُفَارَقَة الأَحْبَابِ مَا وَجَدَتْ ... لَهَا المَنَايَا إِلى أَرْواحِنَا سُبُلاً قالُوا: البيْتانِ متكافئان في بلاغتهما. أقول: بيت المتنبّي أدَقُّ وأوضحُ وأشْعَرُ، فقد خصّص الفراق بفراق الأحباب، ولم يتكلّف كما تكلّف أبو تمام بقوله: "مْرْتَادُ المنيّة" والمنايا لا تحتاج دليلاً يدلُّها على النفوس إنّما لها سُبُل، وهذا ما اختاره المتنبي، فهو في عمله مُغِيرٌ مُجِيد، ومُستَفِيد مُحْسِن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 الوجه الثالث: أن يكون ما جاء به المُغِيرُ دُونَ ما جاء به السابق في بلاغته، وهذا تقصير مذموم. قالوا: ومن أمثلة هذا الوجه قولُ أبي تمّام وهو السابق: هَيْهَاتَ لاَ يَأْتي الزَّمَانُ بِمْثْلِهِ ... إنَّ الزَّمَانَ بِمِثْلِهِ لَبَخِيلُ أغار عليه أبُو الطّيب فقال: أعْدَى الزَّمَانَ سَخَاؤُهُ فَسَخَا بِه ... ولَقَدْ يَكُونُ بِهِ الزَّمَانُ بَخِيلاً الشطر الثاني من بيْتِ أبي الطّيّبِ مأخُوذٌ مِنْ أبي تمّام، إلاَّ أنَّ قول أبي تمّام: "إِنَّ الزَّمَانَ بمثْلِهِ لبَخِيلُ" أبلغ من قول المتنبي: "وَلَقَدْ يكُونُ بِهِ الزَّمَانُ بخيلاً" ففي عبارة: "ولَقَدْ يكُون" قُصُورٌ عن المعنَّى المجزوم به المؤكَّد في عبارة أبي تمَّام: "إنَّ الزَّمَانَ بِمِثْلِهِ لَبخِيلُ" وهذا واضح. أما الشطر الأول من بيت المتنبّي فقد جاء بنحوه أبو تمّام في قوله: عَلَّمَنِي جُودُكَ السَّمَاحَ فَمَا ... أَبْقَيْتُ شيئاً لَدَيَّ مِنْ صِلَتِكْ ولأبي تمّام السبْقُ. *** النوع الثالث: "السَّلْخُ" ويقال له "الإِلمام": وهو أن يأخُذَ السَّالِخُ المعنى فقط دون اللّفظ، ولهذا النوع ثلاثة وجوه أيضاً: الوجه الأول: أن يكون ما جاء به السَّالخ المُلِمُّ أحْسَنَ سَبكاً وبلاغةً ورصانة تعبير، وهو عَمَلٌ رَشيد ومَسْلَكٌ حميد، ومن أمثلته على ما ذكروا قول "البحتري" وهو السابق: تَصُدُّ حَيَاءً أَنْ تَرَاكَ بِأَوْجُهٍ ... أَتَى الذَّنْبَ عَاصِيهَا فلِيمَ مُطِيعُها أي: من أجل ذنوب الوجوه العاصية تُلاَمُ الوُجُوه المطيعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 هذا المعنى ألَمَّ به المتنبيّ فأخَذَهُ وصاغهُ بأسلوب أحْسَنَ سبْكاً وأجْودَ تعبيراً فقال: وَجُرْمٍ جَرَّهُ سُفَهَاءُ قَوْمٍ ... وحَلَّ بِغَيْرِ جارِمِهِ العَذَابُ ولعلَّه مع نظره إلى قول البحتري نظر أيضاً إلى قول موسى لربّه في رحلة الوعد الثاني وعْدِ الاعتذار كما جاء في سورة (الأعراف/ 7) . { ... قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ ... } [الآية: 155] . الوجه الثاني: أن يكون ما جاء به السالخ الملِمُّ مساوياً لما جاء به السابق في بلاغَته. وهذا الوجه غير محمود ولا مذموم، ومنه كما ذكروا قولُ بعضهم يرثي ابْناً له: الصَّبْرُ يُحْمَدُ فِي المَواطِنِ كُلِّهَا ... إلاَّ عَلَيْكَ فإِنَّهُ مَذْمُومُ ألَمَّ به أبو تمَّام فقال: وَقَدْ كَانَ يُدْعَى لاَبِسُ الصَّبْرِ حَازِماً ... فأَصْبَحَ يُدْعَى حَازِماً حِينَ يَجْزَعُ ومن أمثلته قول بعض الأعراب: وَرِيحُهَا أَطْيَبُ مِنْ طِيبهَا ... والطِّيبُ فيهِ المِسْكُ والعَنْبَرُ ألَمَّ بِه بشّار بن بُرْدِ فأخَذَهُ وَقَصَّرَ عنه، فقال: وَإِذَا أَدْنَيْتَ مِنْهَا بَصَلاً ... غَلَبَ المِسْكَ عَلَى رَيحِ البَصَلْ *** وأمّا غير الظاهرة من أقسام السّرقات فهي الأنواع التالية: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 ومعظم هذه الأنواع مقبول، وبعضُهَا ممدوح يستحقّ التقديرَ والإِعجاب لما فيه من تصرّف حسن، وحُسْنُ التصرُّف فيه يخرجه من الاتّباع إلى حيّزِ الابتداع، وأكثره خفاءً أكثره قبولاً. *** النوع الرابع: "التشابه": وهو أنْ يتشابه النصّان المأخوذ والمأخوذ منه، ولو كانا في غرضين مختلفين من الكلام، كالمدح والهجاء، والنسيب، ومنه على ما ذكروا قول الطِرِمّاح بن حكيم الطائي: لَقَدْ زَادَنِي حُبّاً لِنَفْسِيَ أنَّنِي ... بَغِيضٌ إِلى كُلِّ أمْرِئٍ غَيْرِ طَائِلِ غَيْرِ طَائل: أي: غَيْرِ ذي نفع وفائدة. أخذ فكرته المتنبّي فقال، وأحسن: وإِذا أَتَتْكَ مَذَمَّتِي مِنْ نَاقِصٍ ... فَهِيَ الشَّهادَةُ لي بِأَنّي كَامِلُ *** النوع الخامس: "النقل": وهو أن ينقل الآخِذُ معنى المأخوذ منه إلى غير محلّه، ومن هذا النوع على ما ذكروا قول البحتري، وهو السابق: سُلِبُوا فأَشْرَقَتِ الدِّمَاءُ عَلَيْهِمُ ... مُحْمَرَّةً فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يُسْلَبُوا أي: سُلِبُوا ثيابهم، فكانت الدّماء التي غطَّتُ أجْسَادَهُمْ بمثابَة الثياب عليها، فكأنّهم لم يُسْلَبُوا. *أخَذَ المتنبّي هذا المعنى ونقلَهُ إلى السَّيْفِ، فقال: يَبِسَ النَّجِيعُ عَلَيْهِ وَهْوَ مُجَرَّدٌ ... عَنْ غِمْدِهِ فَكأنَّمَا هُو مُغْمَدُ النَّجِيع: دَمُ الجَوْف، يقال: طَعْنَةٌ تمُجُّ النَّجِيعَ، أي: تخرج دمَ الجوف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 النوع السادس: "التعميم": وهو أن يكون المعنى الِّذِي استفيد من كلام السابق أعمَّ وأشمل، ومنه على ما ذكروا قول جرير، وهو السابق: إِذا غَضِبَتْ عَلَيْكَ بَنُو تَمِيمٍ ... وَجَدْتَ النَّاسَ كُلَّهُمُ غِضَاباً أخَذَ أبو نواس هذا المعنى واستفادَ منه معنىً عامّاً شاملاً، فقال للرشيد يَسْتَعْطِفُه لمَّا سَجَن الفضل البرمكيّ: وَلَيْسَ عَلَى اللَّهِ بمُسْتَنكَرٍ ... أنْ يَجْمَعَ العَالَمَ فِي وَاحِدِ وقد أجاد أبو نواس في هذه الاستفادة، وهي استفادة ذكيّة بارعة. *** النوع السابع: "القلب": وهو أن يَنْظُر الآخِذُ ممن سبقه في معنى كلامه ويستفيدَ نقيضه أو ضدّه، ومن هذا النوع على ما ذكروا قول أبي الشّيص: أَجِدُ المَلاَمَةَ فِي هَوَاكَ لَذِيدَةً ... حُبّاً لِذِكْرِكَ فَليَلُمْنِي اللُّوَّمُ نظر في هذا المتنبّي فقلَبَهُ واستفاد المعنى المضادّ تماماً فقال: أَأُحِبُّهُ وأُحِبُّ فِيهِ مَلاَمَةً؟! ... إِنَّ الْمَلاَمَةَ فِيهِ مِنْ أَعْدَائِهِ أي: كيْفَ أُحِبُّ فيه الملامَة وأنَا أُحِبُّهُ، والمَلاَمَةَ فيه هي من أعدائه؟! هذه أمُورٌ لاَ تجتمع، لتناقضها أو تضادها. المتنبيّ ضَمَّنَ كلامه الاعتراض على أبي الشّيص. *** النوع الثامن: "الالْتقاطُ والإِضافة": وهو أن يأخُذَ المستفيدُ بعض المعنى الذي سبَقَ إليه غَيْرُه ويُضيف إليه زيادة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 حَسَنة، ومن هذا النوع على ما ذكروا، قولُ الأفْوَهِ الأَوْدِي يصف خروج قومه إلى الحرب: وَتَرَى الطَّيْرَ عَلَى آثَارِنَا ... رَأَيَ عَيْنٍ ثِقَةً أنْ سَتُمَارُ أي: إِنَّ الطَّيرَ آكِلَةَ اللُّحوم تَتْبَعُ جَيْشَهُمُ الخارج إلى القَتَال لأنَّها واثقة بحَسَبِ ما اعْتَادَتْ أنَّها ستُصيبُ ميرَتَها، أي: طعامها من لحوم القتلَى الَّذِين يقعون صرعى من الأعداء. يقال لغة: مَارَ أهْلَهُ إذا أعَدَّ لهم مِيرَتَهُمْ، أي: موادّ طعامهم. نظر أبو تمّام إلى هذا الشِّعْر فأخذ منه وأضاف فأحْسَن، فقال: لَقَدْ ظُلِّلَتْ عِقْبَانُ أَعْلاَمِهِ ضُحىً ... بِعِقْبَانِ طَيْرٍ في الدِّمَاء نَواهِلِ أقامَتْ مَعَ الرَّاياتِ حتى كأنَّهَا ... مِنَ الجَيْش إلاَّ أنَّها لَمْ تُقَاتِلِ عِقْبانُ أعْلاَمِه: أي: الأعلام التي تشبه العِقبانَ، أو الأعْلامُ التي عليها أمثلة العِقبان. العِقبان: جمع مفرده "العُقَاب" وهو من كواسر الطير، ذو مخالب قويَّة. أهمل أبو تمَّام بعض ما جاء في كلام الأفوه الأودي، وأضافَ أنّ العِقْبانَ مقيمة مع الرَّايات حتّى كأنَّها جزءٌ من الجيش، تترقَّبُ الصَّرْعَى من الأعداء لتَنْقَضَّ عليهم، فزاد الفكرة حسناً. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 المقولة الثانية: توجيه العناية في صناعة الكلام الأدبي توجيه العناية في صناعة الكلام الأدبيّ للبدء - والتخلّص - والختام نظر علماء البلاغة إلى الكلام الواحد الذي له مقدّمة تمهيديّة هي بدايته، وموضوع مقصود بالذات هو وسطه، وله مؤخّرة يكون بها ختامُه، فرأوا التَّنْبيه على لزوم توجيه العناية لثلاثة أمور. (1) البدء بالمقدّمة التي فيها براعة استهلال، وحُسْنُ التأثير في المتلّقي، مع خلّوها ممّا يُسْتَنكَرُ أو يُتَشَاءَمُ به وسمّوا حُسْن اختيار البدء البديع: "براعة استهلال". (2) التخلّص من المقدمة بأسلوب حَسَنِ بديع للدخول في الموضوع المقصود بالذّات، وسَمَّوا حُسْنَ الانتقال من المقدمة إلى الموضوع الرئيسي في الكلام: "حُسْنَ التخلّص". (3) الختام الذي ينقطع عنده الكلام، وسَمَّوا حُسْنَ اختيار الختام الحَسَنِ الجميل الملائم: "براعةَ المقطع" أو "براعةَ الختام". وقالوا: ينبغي للمتكلّم أنْ يتأنَّقَ في مقدّمة كلامه، وفي التخلّص منها إلى مقصود بالذات، وفي الختام. ونلاحظ أنّ القرآن المجيد يتحلَّى بأبدع وآنَقِ بدايات، وأبدع وآنَق أوساط، وأبدَعِ وآنَقِ نِهَايات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 فلنبحثْ بشيءٍ من التفصيل في: (1) براعة الاستهلال. (2) وحُسُنِ التخلّص. (3) وبراعة الختام. أمّا براعة الاستهلال: فتكونُ بالبدء بما يكون فيه إلماحٌ إلى المقصود الأول من النّص الأدبي، وإبداعٌ يَجْذبُ الانتباه، ويأسِرُ المتلَقِّي سامعاً أو قارئاً، مع حُسْنِ سَبْكٍ، وعذوبة لفظٍ، وصحَّةِ معنىً، ومن البديع في البدء ذكْرُ مُجْمل الموضوع أو مجمل القصة قبل التفصيل ومنه إجمال قصة أهل الكهف قبل تفصيلها في سورة (الكهف) : وينبغي للمتكلم أن يجتنب في بدء كلامه المواجهة بما يسوء، أو بما يُتَطَيَّر به، أو بما يُسْتكْرَهُ لفظُه أو معناه. فإذا لم يكُنْ في البدء إلماحٌ إلى المقصُودِ الأول الذي قد يُخَصُّ بعنوان "براعة الاستهلال" فلا أقلَّ من مراعاة الصفات الأخرى. * ومن أمثلة البدايات الحسنة ما يلي: 1- قولُ امرئ القيس في أوَّل معلقته: قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ ... بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ قالوا: إنّه في هذه البداية البارعة وقَفَ واسْتَوْقَف، وبَكَى واستَبْكَى، وذكَرَ الحبيبَ ومَنْزِلَهُ فِي مِصْراعٍ واحِد. 2- وقول النابغة الْجَعْدِي (شاعر مخضرم أدرك الجاهلية والإِسلام. وفَدَ مَعَ قومه على الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سنة تسع للهجرة مسلمين، وكان سيّداً فيهم، وأنْشَدَ الرَّسُولَ شعراً فأُعْجِبَ به) : كِلِيِني لِهَمٍّ يَا أُمَيْمَةُ نَاصِبِ ... ولَيْلٍ أُقَاسِيهِ بَطِئِ الْكَواكِب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 3- وقول أبي تمّام يُهنّئُ المعتصمَ بفتح عَمُّوِرِيّة، بادِئاً قصيدتَهُ باستهلالٍ بارعٍ يرُدُّ فيه على مزاعم المنجّمين الّذين زعَمُوا أنَّ عَمُّورية لا تفتَحُ في ذلك الوقت الذي تمّ فَتْحُها فيه: السَّيْفُ أصْدَقُ أنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ ... فِي حَدِّهِ الحدُّ بَيْنَ الْجدِّ وَاللَّعِبِ بِيضُ الصَّفَائِحِ لاَ سُودُ الصَّحَائِفِ فِي ... مُتُونِهِنَّ جَلاَءُ الشَّكِّ والرِّيَبِ 4- وقول أشْجَع السُّلَمي: قَصْرٌ عَلَيْهِ تَحِيَّةٌ وَسَلاَمُ ... خَلَعَتْ عَلَيْهِ جَمَالَهَا الأَيَّامُ 5- وقول المتنبّي: أَتُرَاهَا لِكَثْرَةِ الْعُشَّاقِ ... تَحْسَبُ الدَّمْعَ خِلْقَةً فِي الْمَآقِي 6- وقول المتنبي أيضاً يهنّئ سيف الدولة بالشفاء من مرض ألَمَّ به فيبدأ قصيدته باستهلالٍ بارع: الْمَجْدُ عُوفِيَ إِذْ عُوفِيتَ والْكَرَمُ ... وزَالَ عَنْكَ إِلَى أَعْدَائِكَ الأَلَمُ * ومن أمثلة البدايات السيّئة ما يلي: 1- قول ذي الرّمة حين دخل على هشام بن عبد الملك بن مروان: مَا بَالُ عَيْنِكَ مِنْهَا الْمَاءُ مُنْسَكِبُ ... كَأَنَّهُ مِنْ كُلىً مَفْرِيَّةٍ سَرَبُ سَرَب: أي: قناةٌ تَسِيل. وكان بعينيْ هشام رَمَشٌ فهيَ تدمَعُ أبداً، فظنَّ أنَّه يُعَرّض به، فقال: "بل عينك" وأمَرَ بإخراجه. 2- وقيل: لمَّا بنَى المعتصم قصْرَهُ بميْدَانِ بغداد، وجمع عظماء دولته، وجلس فيه في يوم الاحتفال به، أنْشَدَهُ إسحاقُ الموصلي: يَا دَارُ غَيَّرَكِ الْبِلَى وَمَحَاكِ ... يَا لَيْتَ شِعْرِي مَا الَّذِي أَبْلاَكِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 فتطيّر المعتَصِمُ بهذا الابتداء وأمَر بهدْمِ الْقَصْر. *** وأمَّا حُسْنُ التخلّص: فهو أن ينتقل الشاعر أو الناثر من فنّ من فنون الكلام إلى فنٍّ آخرَ، أو من موضوع إلى موضوع آخرَ بأسلُوبٍ حسَنٍ مستطاب، غير مستنكر في النفوس ولا في الألباب، وأحسَنُه ما لا يشعُرُ المتلقّي معه بالانتقال، لما أحدثه التمهيد المتدرّج من تلاؤم، أو لحُسْنِ اختيار المفصل الذي حصل عنده الانتقال، أو لغير ذلك، كاستغلال تقارُب الأشباه والنظائر بَعْضِهِا من بعض، ومن الانتقال البديع ما يشبه الانتقال من فرع من فروع الشجرة إلى فرعٍ آخر منها بينهما ملامَسَةٌ أو تراكُب، أو إلى فرع آخر من شجرة أخرى تلامست أغصانُهما أو تداخلت وتراكبت. ولم يكن هذا الفنّ متّبعاً عند شعراء وخطباء العرب القدماء، بل كانوا ينتقلون من الْغَزَل أو وصف أرضهم وأنعامهم، أو الحديث عن قومهم أو بطولاتهم أو غير ذلك، إلى المدح أو الاستجداء أو غير ذلك مما هو مقصودُهم الأساسي انتقالاً مفاجئاً، أو يفصلون بنحو قولهم: "دعْ ذا" و"عَدِّ عنْ ذا" أو بغير ذلك ممّا يُشْعِرُ بانتهاء كلام سابق وابتداء كلامٍ جديد في موضوعٍ آخر، ويُسمَّى هذا "اقتضاباً". ومن الاقتضاب المحمود الْفَصْلُ بعبارة "أمّا بَعْد" بعْدَ مقدّمة الحمد والثناء على الله عزَّ وجلَّ، والصلاة والسلام على نبيّه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومن الاقتضاب البديع الفصل بين قِسْمٍ وقِسْمٍ آخَرَ باسم الاشارة "هذا" أو "هذا ذكْرٌ" أو نحوهما ممّا يُشْعِر بالانتهاء من الكلام على الْقِسْم السابق للْبَدْءِ بالكلام على قِسْمٍ آخَر من أقسامِ موضوعٍ كُلّي ذي أقسامٍ متعدّدة، ومن أمثلته ما جاء في سورة (ص/ 38 مصحف/ 38 نزول) إذْ جاء فيها بيان ثلاثة أصناف من الرسل، وقد يُلْحَقُ بأصنافهم المحسنون والأبرار من غيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 الصنف الأول: صنف الأوّابين، وقد عرضت السورة ثلاثةً منهم، وهم: "داود وسليمان وأيوب" عليهم السلام والأوَّاب هو سريع الرجوع إلى الاستقامة المطلوبة منه بعْدَ انحرافه عنها. الصنف الثاني: صنْفُ المصْطَفَيْن الأخيار الذين لا يملأ ساحة تفكيرهم إلاَّ ذِكْرَى الدار الآخرة والعملُ لأعْلَى منازل الجنة فيها، وعرض الله في السورة ثلاثة منهم، وهم "إبراهيم، وإسْحَاقُ، ويعقوبُ" عليهم السلام. الصنف الثالث: صنف الأخيار، ومرتَبَتُهُمْ وسْطَى بَيْنَ الأوّابين والمصْطَفَيْن الأخيار، وعرض الله في السورة ثلاثة منهم، وهم "إسماعيلُ، والْيَسَعُ، وذو الْكِفْلِ" عَلَيْهِمُ السلام. وبعد أن انتهى الحديث عن مراتب الأنبياء ومن يُلْحَقُ بهم من المحسنين والأبرار، واقتضت الحكمة الكلامَ عنِ المتقين من غير الأنبياء فصَلَ اللَّهِ تعالى بقوله: {هاذا ذِكْرٌ} [الأنبياء: 24] وبعده قال تعالى: {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف أَتْرَابٌ * هاذا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الحساب * إِنَّ هاذا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} [الآيات: 49 - 54] . وبعد وصف حالة المتّقين في جنّاتِ عدن جاءَ دور الحديث عن الطاغين أهْلِ جَهَنُّم، ففصل الله عزَّ وجلَّ بقوله: {هذا} وبعده قال تعالى: { ... وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المهاد * هاذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ * هاذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ النار * قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ القرار * قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هاذا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النار * وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشرار * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبصار} [الآيات: 55 - 63] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 وقد علّمنا الله عزّ وجلّ في أداب المناظرة أن نبدأ بالحمد لله فالسلام على عباده الذين اصطفى، وننتقل مباشرة إلى أوّل فِقرَةٍ من فقرات المناظرة دون فاصل من الكلام، لأنّ عقد مجْلِس الْحِوَار قد كان لإِقامَةِ مُنَاظرةٍ بيْن فريقَيْن على موضوع معين، ولكن المسلم لا يبدأ بأيّ أمر ذي شأنٍ حتَّى يَحْمد الله ويُسَلّم علَى رُسُله، فإذا فعل ذلك بدأ موضوعه دون حاجةٍ إلى تمهيد، نظراً إلى أنّ النفوس مُهَيّأَةٌ لاستقبال أوّل فقرات المناظرة، بعد مقدّمة الحمد لله والسلام على رُسُله. نجد هذا التعليم في قول الله عزّ وجلّ في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) : {قُلِ الحمد لِلَّهِ وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ الذين اصطفىءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السمآء مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أإلاه مَّعَ الله بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً أإلاه مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض أإلاه مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أإلاه مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض أإلاه مَّعَ الله قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [الآيات: 59 - 65] . *** وأما براعة المقطع، أو "براعة الختام": فهي أن يختم المتكلّم كلامه بختامٍ حَسَن، إذْ هو آخِرُ ما يطْرُقُ الأسماع، أو يقع عليه نظر القارئ، فيَحْسُنُ فيه أن يكون بمثابة أطيب لُقْمةٍ في آخر الطعام، أو بمثابةِ آخر اللّمساتِ الناعمات المؤثرات الّتِي تعْلَقُ في النفوس، وتَسْكُنُ عندها سُكُونَ ارتياح، وتظلُّ لهَا ذكرياتٌ تُحرِّكُ النفوس بالشوق إلى المزيد من أمثال ذلك الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 ومن الحسن البديع في الختام أن يجمع خلاصة مختزلة لأمّهات الموضوع الذي سبق في الأوساط شرحه، مع التذييل بالعظة المقصودة، أو القاعدة الكليّة الاعتقاديّة الّتي بُنِيَ عليها الموضوعَ، أو اشْتُقَّ منها، أو اعتمد عليها. ومن الحسن في الختام أن يشتمل على الثناء على الله والصلاة والسلام على نبيّه، أو أن يكون مشعراً فكريّاً بانتهاء الحديث عن الموضوع الذي يتحدّث عنه المتكلّم، كأن يكون شرحاً لآخر الأقسام، وقد استوفى المطلوب فيه. وللبلغاء فنونٌ مختلفة كثيرة يختمون بها شعرهم أو نثرهم، ويكون آخِرُ كلامهم دالاًّ على أنَّهُمْ قد وصلوا فعلاً إلى آخر ما يقصدون من قول، وتتفاضل الخواتيم بمقدار ما فيها من إبداع دالّ على أنّها آخر القول. * ومن أمثلة "براعة المقطع" ما يلي: 1- قول أبي نُواس من قصيدة يمدح فيها المأمون: فَبَقِيتَ لِلْعِلْمِ الَّذِي تَهْدِي لَهُ ... وتقاعَسَتْ عَنْ يَوْمِكَ الأيَّامُ 2- وقول أبي تمّام في آخر قصيدته في ممدوحه: فَمَا مِنْ نَدىً إلاَّ إلَيْكَ مَحِلُّهُ ... وَلاَ رِفْعَةٌ إلاَّ إلَيْكَ تَسِيرُ 3- وقول الأرّجَاني في آخر قصيدته في ممدوحه: بَقِيتَ وَلا أَبْقَى لَكَ الدَّهْرُ كَاشِحاً ... فَإِنَّكَ في هذا الزَّمَانِ فرِيدُ كاشِحاً: أي: عَدُوّاً مبغضاً. 4- وقول الآخر: بَقِيتَ بَقَاءَ الدَّهْرِ يَا كَهْفَ أَهْلِهِ ... وَهَذَا دُعَاءٌ لِلْبَرِيَّةِ شَامِلُ *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 المقولة الثالثة: إعداد كلام أدبيّ في موضوع ما لا يُوجَد هيكلٌ واحد أو هياكلُ ذوات عدد محصور تُتَّخَذُ نماذج ثابتة يُنْتَقَى منها أحدها لتُوضَعَ على مُخَطّطة أفكار وعبارات كلام أدبيٍّ في موضوعٍ ما، شعراً كان أو نثراً، مهما اختلفت الموضوعات الفكريّة، وتنوّعت أغراضها، ومقتضيات أحوالها. وذلك لأنّ صور هياكل الكلام الأدبيّ تخضع للتّجْدِيد والابتكارات دون قَصْرٍ ولا حَصْر، وشأْنُها كشَأْن لوحاتِ الرّسّامين، ومخطَّطاتِ مهندسي الأبنية، فهي لا تقف عند حدود صُورٍ معيّنة وهياكل لا تتعدّاها. وعلى مقدار ما نجد في خَلْقِ الله من أشكال وصور مختلفة في أنواع الأشياء والأحياء، والأشجار والأزهار والثمار، نلاحظ أن الكلام الأدبيّ قابلٌ للتنوّع في صور لا حَصْر لها. وللإِبداع المقبول فيها شروطٌ عامّة لغويّة، وفكرية، وجمالية، وتلاؤميّة مع مقتضيات الأحوال. * فالشروط اللّغوية تأتي من قواعد اللّغة، في بناء كلمتها، ونحوها وصرفها، وبناء الجملة فيها، وأساليب الكلام بها. * والشروط الجمالية أمور خفيّة يصعب تحديدها، كما سبق في فصل "الجمال في الكلام" لكن يمكن استفادة عناصر كثيرة تكسب الكلام جمالاً أدبيّاً ممّا سَبَق بيانه في فنون "المعاني والبيان والبديع" وممّا جاء في فصل "الجمال في الكلام". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 على أنّ ذوّاقي الجمال الأدبيّ في الكلام يشعرون بتحقُّقِ الشروط الجمالية في الكلام، أو بتحقٌّقِ قِسْمٍ كبيرٍ منها، مَتَى أحَسُّوا بأذواقهم أنّه كلامٌ جميل، سواءٌ استطاعوا أن يكتشفوا العناصر الجمالية التي أمتعتهم في الكلام، أو لم يستطيعوا اكتشافها. * والشروط الفكريّة ترجع إلى كون العناصر الفكرية في الكلام عناصر منسجمة مع أصول شجرات الأفكار التي فطر الله عزَّ وجلَّ عليها مَدَارِك النفوس القابلة للعلوم والمعارف، أو إلى قدرة صاحب الكلام على سَتْر الثُّغَرات التي تكون في أبْنِيتِه الفِكْرِيّة، بالإِيهام والتمويه وزخرف القول، حتّى يَبْدُوَ الباطل الذي يقدّمه مُزَيّناً مَطْوِيَّ الثغرات، في صورة حَقٍّ متعانِقِ الفِقَرات، وهي في الحقيقة متباينات متضادّات متنافرات. * والشروط التلاؤميّة مع مقتضيات الأحوال، ترجع إلى أنّ لكلّ مقامٍ حالاً، وأنّ لكلّ حالٍ مقالاً، وقد سبق بيان هذا في المقدمات العامة أوّل الكتاب. وأنبّه هُنا على ضرورة التفريق بين الكلام الأدبيّ في الموضوعات الأدبية العامة، كالنسيب والمدح والهجاء والموعظة والنصيحة وما يتضمن استثارة للانفعالات والعواطف الإِنسانية، وبين المقال الصحفي، والخطبة، والمقال العلمي، إذْ لكلِّ مجالٍ من هذه المجالات أسلوبٌ من الكلام يلائمه، وما يصلُحُ في واحدٍ منها قد لا يصلحُ في سائرها. إنّ جدول الماء مثلاً قد يراه العاشق في تعبيره الأدبيّ مثل مجرى دموعه، وتدفق أشواقه، ومثل لين جسد التي يعشقها، وهو مشوق لوصالها. ويراه الأديب الوصّاف فيصف انسيابه كالثعبان، وحركته الجمالية، ويصف ما يحيط به من نبات وحيوان، وما يتدلّى عليه من أغصان الشجر، وما يمتد إليه من أشعة وأنوار، وما يتناثر عليه من زهر، وما يتلاعَبُ على سطحه وفي جوفه من سابح طير وسمك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 ويراه عالم الطبيعة من منظار ما درس في علوم الكيمياء والفيزياء والجغرافية وغيرها من علوم الطبيعة. ويراه الزارع من منظار الاستفادة منه في الزراعة وسَقْي الحقول، والأنعام التي يرعاها ويستثمرها. ويراع عالم الاقتصاد من منظار حاجة اقتصاديات البلاد إلى المياه ومصادرها. ويراه الواعظ الديني من خلال ما يُلاحظ فيه من طهارة ونقاء، وما يرى في مائه من نعمة الله على عباده بالرّيّ والتطهير، وتكون تعبيراته بشأنه مشتملة على ما يثير العواطف الدينيّة الإِيمانية، ويحثُّ على الالتزام بطاعة الله، والحرص على عدم إهدار نعمة الله والتبذير بها. والصحفيّ في مقاله يراه من خلال المناسبة الصحفيّة الزمنية التي استدعت ذكره، ويكون تعبيره بأسلوب المحادث الذي يؤنس محدّثه، ولا يُجْهِدُ فكره، ويتنقّل به من فكرة إلى فكرة بحسب مجاري أفكاره. ويشترط في كلّ كلامٍ أدبي في أيّ مجالٍ من المجالات المختلفات أن يكون بمثابة شجرة أو غُصْنِ من أغصانها معلوم الارتباط بها، أو بمثابة كائن حيٍّ أو عضْوٍ من أعْضَائه معلوم الارتباط به. ومعلومٌ أنّ كلّ كائن حيّ له أركان لكينونته تقع في المرتبة الأولى، وعناصر أخرى، منها ما يقع في المرتبة الثانية، ومنها ما يقع في المرتبة الثالثة، أو الرابعة، وله مظاهر جمالية تقع في المرتبة الأولى، وأخرى تقع في المرتبة الثانية، فالثالثة، فالرابعة ... فمن أركان الكائن الحيّ ذي الهيكل العظمي ما يلي: 1- الروح. 2- الرأس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 3- القلب. 4- الجملة العصبيّة. 5- الهيكل العظمي العامّ. 6- الكسوة الأساسيّة المتمّمة للهيكل، المالئة لأبوابه ومنافذه وعناصر قُوَّتِه. 7- الكسوة الجمالية التي تتكوّن من لحمه وشحمه وجلده وشعره وقسماته وألوانه. 8- الزينات الجمالية، وهي الألبسة من حُلَلٍ وحُلِيّ، وما يُضَاف إلى الجسم من تحسين وتشذيب وتهذيب ونحو ذلك. * فروح المقالة ما فيها من حياةٍ وحركةٍ يشعر بهما المتلقي. * ورأسُها ما فيها من نظامٍ فكريٍّ سَوِيّ وتعبيرٍ يَدُلُّ عليه. * وقلْبُها الغرض الأكبر الذي يقصد المتكلم توصيله للمتلقّي. * وجملتُها العصبية هي الروابط الفكريّة بين فقراتها وجُمَلها، ولو كانت روابط غيرَ مدلول عليها بكلماتٍ في النصّ. * وهيكلُها العامُّ الوعاء اللّغوي الذي تتألف منه كلماتها وجملها. * وكسوتها الأساسية هي الكلمات والجُمَلُ الفصيحة البليغة. * وكسوتها الجمالية هي الاختيارات الأدبية الملائمة لمعانيها، ولمقتضيات أحوال الموضوعات والمخاطبين. * والزينات الجمالية ما تشتمل عليه المقالة من فنون جمالية تستحوذ على إعجاب ذوّاقي الجمال الأدبي. ويتفاوت مؤلفو الكلام الأدبي في قدراتهم على صناعة الكلام الأدبي الرفيع، ويتفاضلون في درجات ما يصنعون منه تفاضلاً كبيراً، والارتقاء في هذه الدرجات يحتاج استعداداً فطريّاً، وممارسة طويلة الأمد، ونظراً تحليليّاً مُتَتَبِّعاً لروائع النصوص الأدبية، وكاشفاً للعناصر الجمالية فيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 خاتمة الكتاب هذا ما فتح الله به عليّ في تجديد هذا العلم النفيس (علم البلاغة العربية) الذي أسسه علماء المسلمين خدمة لكتاب الله المجيد المعجز في معانيه وفي مبانيه، وخدمة لأقوال الرسول محمّد بن عبد اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إنّه لمّا كانت شجرة هذا العلم قابلة للتنمية والإِضافات الاستنباطيّة والابتكارية، وقابلة لتلقيح فروعها بلقاحات أشجارٍ أُخرى عربيّة وغير عربيّة، طبيعيّة أو مُسْتَنْبَتة بأعمالٍ تَطْوِيريّة مختلفة. ولمّا كان هذا العلم يخْدُم رسالَتَي الدعوة إلى دين الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولمّا كانت لي اهتماماتٌ بهذا العلم منذ نشأتي مُتَلَقِّياً دروس البلاغة في حلقات مدرسة والدي تغمّده الله برحمته، ثم أستاذاً فيها لمادّة "علم البلاغة" مقرّراً لكتاب "تلخيص المفتاح" للعلاّمة الشيخ جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني الخطيب، الذي لخَّصَ فيه وهذّب كتاب "المفتاح" في علوم البلاغة لأبي يعقوب يوسف السّكَاكي، ومتَتَبِّعاً شرّاح كتاب "التلخيص" وناظراً في كثير من كتب البلاغة والحواشي والتقريرات. ولمّا كانت لدَيَّ بفضل الله موهبة فطريّة موروثة في الشّعر والأدب وشغَفٌ بكتبهما، وممارسَةٌ للكتابة بهما، ثمّ كانت لي نظرات تَدَبُّرِيّة فكريّة وبلاغيّة وأدبيّة في كتاب الله عزَّ وجلَّ، وروائع أقوال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اهتديت من خلالها إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 تطبيقات كثيرات، واكتشافات قيّمات لعناصر جمالية بلاغيّة وأدبيّة فيهما، كُنْتُ أدَوّنها وأشرحها فيما أكْتبُ من تدبُّرٍ لهما، وكنتُ أجْمَع ما أظفر به من متناثرات جماليّة وبلاغيّة وأدبيّة تَصْلحُ لأَنْ تُضاف إلى هذا العلم النّفيس. لمّا تجمّعت لديّ كُلُّ هذه العوامل والمُحَرِّضات، ورأيتُ معونة الله تُمِدُّني، وتَوفيقَهُ يَرْعاني، وجَّهْتُ عزيمتي متوكّلاً عَلَيْه لكتابة هذا السِّفر مُشْتَمِلاً على نُقَايَاتٍ مِنْ مُدَوَّنَاتِ فُنُونِ عِلْمِ البلاغة، وما فتح الله به عليَّ مما يَصْلُح لأنْ يُضافَ إليه. ولمّا فاض ما جَمعْتُ عمَّا كُنْتُ آمُل رأيْتُ أن أقْتَصِر عليه، وأُخْرجَهُ في هذا الكتاب، عسَى أن ينفع الله به متدبّري كتابه المجيد، وأقوال رسوله الخاتم، وأن يُوَفِّق للاسترشاد به الدُّعاة إلى سبيل ربّهم، والقائمين برسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتّى يُحْسِنُوا استخدامَ وسِيلَةِ الأدب الرفيع للتأثير فيمن يوجّهون لهم بياناتهم، ونصائحهم، ومواعظهم، بالحكمة والموعظة الحسنة. اللهم ربّ لك الحَمْدُ على ما وهبْتَ. اللهم ربِّ أوزعني أن أشكر نعمتَك التي أنْعَمْتَ بها عليّ وعلى والِدَيَّ، وأَنْ أعْمَل صالحاً ترضاه مخلصاً لك في أقوالي وأعمالي. اللهم ربّ اغفر لي واجْعَل ما أكتُب وأنْشُر وأُبَلِّغُ خَالصاً لوجهك الكريم بفضلك ومَنِّكَ وجُودِك، رَبِّ وَزِدْنِي من فيوض عطاياك وفضلك وجودك في الدُّنيا وفي جنّاتِ النعيم، وأصلح أحوال الدّعاة والقائمين برسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر المؤمنين المسلمين. وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى. مكة المكرمة في يوم السبت التاسع من ربيع الآخر لسنة 1414 هجرية. الموافق للخامس والعشرين من / 9 / 1993 ميلادية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570