الكتاب: خريدة القصر وجريدة العصر - أقسام أخرى المؤلف: عماد الدين الكاتب الأصبهاني، محمد بن محمد صفي الدين بن نفيس الدين حامد بن أله، أبو عبد الله (المتوفى: 597هـ)   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] ---------- خريدة القصر وجريدة العصر - أقسام أخرى العماد الأصبهاني الكتاب: خريدة القصر وجريدة العصر - أقسام أخرى المؤلف: عماد الدين الكاتب الأصبهاني، محمد بن محمد صفي الدين بن نفيس الدين حامد بن أله، أبو عبد الله (المتوفى: 597هـ)   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] قسم شعراء العراق فكتب إليه رسالته الشينيّة نظماً ونثراً. وورد شيراز، ومدح قاضي القضاة عماد الدين أبا محمد طاهر بن محمد الفَزاريّ - وكان مؤثل بني الرّجاء، ومقصِد الفضلاء، ومطلع السعود، ومنبع الجود - وصل إليه هذا الشاعر في عيد الأضحى، سنة تسع وخمس مئة، وخدمه بقصيدة زاييّة بعد مقامة مقدّمها وقطعةٍ نظمها. وعاد الى الحجاز. ثم قصده بشيراز سنة سبع عشرة، ومدحه. فأما المقامة، فأولها: حدثني بعضُ الإخوان، قال: نشّتْ بي قراراتُ الكرم ببُغْدان، لتواتر نوَب الزمان، واختلاف أرباب السلطان، وأنا يومئذٍ ذو غُلٍّ قَمِلٍ، ووِردٍ وشِلٍ، وقلبٍ وجِل، وهمٍ متّصلٍ، وجذَلٍ منفصل، فشحَذْتُ غِرارَ العزمة في ركوب غارب الغربة، والأخذ في تنفيس الكربة، وتحقيق الوثبة؛ وجعلت أرود الفكر في المسرح، وأناجي السِّرَّ في ارتياد المَطْرَح والمَنزَح، وأستشير الصديق الصدوق، وأتجنّب في الاستشارة العَقوق. فحين صَلدَ الزّنْدُ، ونبا الحدُّ، وعثَر الجدُّ، لاح بأفق المَراد، ووَفْق المُراد، خِدْنٌ حلبَ الدّهر أشطُرَهُ، واعتصر أعصُرَه، وحادثَ أحداثه، وبذّ كهوله وأحداثه. أخضرُ الجلدة من نسل العرَبْ ... يملأ الدلوَ الى عَقْد الكرَبْ ذو فطنة غالبة، وعزمة ثابتة. فضربتُ بقِداحه، واستصبحتُ بمصباحه، وقلتُ: أنا إليك مرتكن، وأنت ببذل المجهود في النصح زَكِن. فقال: ما عرا؟ فقلت: كلُّ الصيد في جوف الفَرا. فقال: هاتِ، ودَعِ التُّرَّهات. فقلت: إن الإفلاس، حكَم عليّ الوَسواس، فما يقول في امتداح الناس؟ فقال: لا بأس، ولكن ارتَدْ بقعة، تتّخذها نُجْعة. قلت: فلسطين. قال: بها الإفرنج الملاعين. قلت: فالشام. قال: أجفل منه الكِرام. قلت: فديار ربيعة. قال: معاقل منيعة، ذهبت جوثتها، وتصدّعت بيضتها، وتمزّق عُقَيْلُها، وطال حزنها ووَيْلُها. قلت: فديار بكر. قال: بلد قفر، وجبل وعر، عمي إنسانها، مُذْ ذهب مروانها. قلت: فشيْزَر. قال: انتقض حبلها المُشْزَر، وجاس خِلالَها العسكر، ونَغِلَ إهابُها، وغاب صالحها ووثّابها. قلت: فطرابلس. قال: ذهب عَمّارُها، وأُخرج عُمّارُها، وبقي أغمارها. قلت: فمصر. قال: دون التّيه بالتِّيه، ومرْتٌ يجُدّ قُوَى لاحقٍ ووجيه. قلت: فأصفهان. قال: قصدها هَوان، والأديب بها مهان. قلت: فخُراسان. قال: هي نصفها الأول، إذ ليس بها لأول النصف الثاني نون تُحمل. فحرت بخلوّ الأقطار من مُنتَجَع ينتجَعُ، ومُرتبَع يُرتبَعُ، وجعلت أرسُفُ في قيد الوجوم، وأرسب في يمّ الهموم، قد أُرتج عليّ بابُ الحيلة، لمُقامي بالبقعة المُحيلة. فحين رأى صلودَ زَنْدي، ونُبُوَّ حدّي، ورقودَ فكري، وخمودَ جمري، قال: إركب على البحر الى البحر ... ومِلْ مع المدّ الى الجَزْرِ واقصد الى البصرة، ثم اعتمد ... لقصد خُوزستانَ في البَرِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 وأهلُها لا تغشَ أبوابَهم ... فإنّهم خُوزٌ، وما تدري وشِمْ بروقَ الجودِ من فارس ... ففارسٌ مُرتبَعُ الفخرِ بيضتُها شيراز، فاعْمِدْ لها ... فإنّها طاردةُ الفقرِ بها عماد الدين خيرُ الورى ... ربُّ الندى ذو المنن الغُرِّ قاضي القضاة العلَمُ المرتجى ... مبشّرُ الآمال بالبشرِ فانهضْ لها منتضياً عزمةً ... وانظر الى شخصيَ في السَّفْرِ وها أنا إن كنت في حيرة ... يسفر عن مطلعها بدري فلما أبانت مشاورته عن مصاحبته، ونطقت أبياته بمحض صداقته، استنهضته فوجدته السُّلَيْكَ في عَدْوَته، وتأبّطَ في حيلته وجرأته، فنضينا الهمّ، وامتطينا ابنةَ اليَمّ، واتكأنا على الشِمال، فوق بساط الريح الشَمال، وتعاطينا كأس المنافثة، واقتدحنا نقص في الأصل والقصيدة طويلة بلا طائل، معانيها متكلّفة، ومبانيها مختلفة. على أنه ليس منها بيتٌ إلا وهو خالٍ غير حال، لم يخرج من التوسّط وإن لم يكن بعال ولا غال. وقد أوردت منها الأكثر، وأدنيت المعروف وأبعدت المنكر. ومنها: كأنّ عظامي غُدْوَةَ البيْنِ عادها ... لفَرْط الجوى والوَجْدِ، يا سلْمَ، منْحازُ ولي من عَفافي والتقنّع زاجرٌ ... ووجهيَ للماءِ الذي في كَنّازُ ومنها: وركْبٍ على مثل القِسيّ صحبتُهُم ... عليهنّ أكوارٌ تُشَدُّ وأحجازُ فرَوْا حُلّةَ الظلماءِ والشهبُ رُكَّدٌ ... الى أن بدا نجمٌ على الصبح غمّازُ إذا لهَواتُ البيدِ مجّتْهُمُ ضحى ... تباشرنَ آكامٌ بهنّ وأنشازُ أقولُ لهم: أعطوا المطامعَ حقّها ... فما أنا سألُ الدنيّة لزّازُ ولولا أيادي طاهرِ بن محمد ... لما حلُمَتْ بي قطُّ في النوم شيرازُ ولا حثّ بي لولاه في البرّ سابحٌ ... ولا رنّحتني في قَرا الكورِ أغرازُ ولكن حداني نحوَها جودُ كفّه ... ففُزْتُ كما قبلي به معشرٌ فازوا هو البحرُ لا يُفني عطاياه ماتحٌ ... لسَجْل العطايا بالمدائح نهّازُ له كلَّ يومٍ منّةٌ وصنيعةٌ ... بحمد الورى والشكر يحوي ويحتازُ سَبوقٌ الى الغايات لا يستحثُّهُ ... سوى مجدِه، والطِّرْفُ يُجريه مِهمازُ حماني نَداه من زماني وصانني ... فليس يرى وجهي أياز وقَيمازُ وشائجُ قربى قد رعاها بجوده ... وحمدٌ تلاه نازحُ الدارِ مجتازُ وقربى أصول بيننا عربيّة ... رعاها فَزاريُّ الأرومةِ ممتاز هنيّ الندى لم يذْمُمِ العيشَ جارُه ... له منه إكرامٌ يدومُ وإعزازُ له موردٌ عذْبٌ نُقاخٌ من الندى ... ووعدٌ تلاه للمكارم إنجازُ ففي كلّ جيد من أياديه منّةٌ ... يطولُ بها بين الأنام ويمتازُ يرى أنفس الأشياء ذكراً يحوزُه ... فليس له إلا المدائحَ إحْرازُ أعيذُ عطاياه من المسّ إنّما ... مدائحُنا سُخْبٌ عليها وأحْراز أسودُ الشّرى إنْ عاينته ثعالبٌ ... تضابَحُ فالرِئبالُ للخوف قَفّازُ أرى الناسَ طيراً قد أسفَّ ومجده ... تحلّق في أفق العلى فهوَ البازُ أقرّ له بالفضل سامٌ ويافِثٌ ... وعُجمٌ وأعرابٌ ورومٌ وأنحازُ ومنها: من القوم بالبيض المواضي وبالقنا ... وبالخيل والزّغْفِ الندى والعلى حازوا حووا بعمادِ الدين مجداً مؤثّلاً ... ونالوا المنى بل فوقَ غايتِها جازوا ومنها: تجمّعَ فيه ما تفرّق في الورى ... من الخيرِ فالشاني معاليه همّازُ ومنها: أقولُ لآمالي وقد جدّ جدُّها ... وقد بزّني قلبي من الهمّ بزّازُ أمامَكِ شيراز، فحُطّي بجوّها ... على ملك شكرَ البريّةِ يحتازُ ومنها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 على ماجدٍ رحْبِ النّديّ سماحُهُ ... نبا عنه إعدامٌ مضرٌّ وإعوازُ ومنها: ولا ينبِسُ النادي لهيبةِ مجدِه ... ومنطقُه فيه اختصارٌ وإيجازُ ومنها: بما شئتَ فأمُرْ، فالقضاءُ متابعٌ ... يصرِّفُهُ أمرٌ عُلاكَ وإيعازُ ودونَكَ فاشحَذْ بالنّدى غرْبَ صارمٍ ... إذا ما نبا عضْبٌ مضى وهْوَ حزّازُ وخُذ كلِماً يُسدي ويُلحمُ نظمُها ... مديحَكَ لم يلفِظْ بها قَطُّ رجّازُ فلما سمع الإنشاد، وفقِه الإرشاد، قال: ما يجبُ على سُعادَ، إلا الإسعاد، وقد بلغت المُراد في المراد. ثم غاب عن العِيان، بعدما صرت في الأمان، فما أعرِفُ أين سلك، ولا في أيّ نصاحٍ انسلك، ولا أعلم أحيٌّ هو أم هلك، فعلمت أنه ملكٌ دلّ على ملك، وبدرٌ طلع في فلك! وله قصيدة طائيّة في مدح وزير فارس ناصر الدين أبي العزّ عبد الله بن زيد في عيد الفطر، سنة سبعَ عشرةَ وخمسِ مئة، على وزن قصيدة المعرّي التي أوّلها: لمَن جيرةٌ سِيموا النّوالَ فلم يُنْطوا، وهي: أقول لسعدٍ والرِّكاب بنا تمطو ... ولابنِ ذُكاءٍ في قَذالِ الدُّجى وخْطُ أيا سعدُ كُرَّ الطّرفَ بالدّوِّ هل ترى ... بأرجائه ظُعْنَ الأحبّة أم شَطّوا فمن بعد لأيٍ قال والدّمعُ مائرٌ ... بعينيه يجري في الشؤون وينحطُّ أرى لهَواتِ الفَجّ غصّتْ بعِثْيَرٍ ... أثارته أيدي العِيسِ وهْيَ بهم تمطو ومن فوق هالات الخدور أهلّةٌ ... لها قِمَمٌ جُلْحٌ ذوائبُها شُمْطُ وحولَ طُفاواتِ الشّموسِ جآذِرٌ ... تتيهُ بهم سُخْبُ القَرنفُلِ واللّطُّ ومنها: وفي الهودج الإنسيّ للإنس غادةٌ ... كشمس الضُّحى يزهو بها القُلْبُ والقُرْطُ منعّمةٌ لم تدْرِ ما عيشُ شِقوَةٍ ... ولم يبدُ منها في جَنى خبَطٍ خبْطُ مليحةُ مجرى الطّوقِ أمّا وشاحُها ... فصادٍ وأما الحِجْلُ منها فمنغطُّ خدَلّجةٌ ملءُ الإزارِ خريدةٌ ... تكادُ أعاليها من الرِّدفِ تنحطُّ إذا هي قامت قلت: عُسْلوجُ بانةٍ ... وإمّا مشت عفّى على إثرِها المِرْطُ كأنّ لَماها والرُّضابَ وثغرَها ... حَبابٌ بكأسٍ فيه شُهدٌ وإسفِنطُ تتيهُ به عُودُ الأراكِ إذا جرى ... عليه ويزهو من ذوائبه المُشْطُ فمعصَهمُا حَلْيُ الأساوِرِ والبُرى ... وبالليتِ تزدانُ القلائدُ والسّمطُ وقد قلت لمّا أن بدت لي غُديّةً ... أذاتُ اللّمى هاتيك أم ظبيةٌ تعطو ومنها: وركبٍ على مثل القِسيّ صحبتُهُمْ ... نَشاوَى سقاهُمُ خمرةُ السّهْدُ والخبطُ رمَوْا بالمطايا ثُغرةَ الليلِ، وانبرت ... نواشط بالأفواهِ ما أمكنَ النّشْطُ ومنها: إذا كتبت أخفافُها بنجيعها ... حروفاً فمن وقع اللُّغام لها نَقْطُ ذوارعُ أثوابِ الفلاةِ بأذرع ... عراها نَشاطٌ قد نفى هجرَها النشْطُ الى أن نضَتْ ثوبَ الظّلامِ ومزّقت ... حواشي دُجىً عن غُرّةِ الصّبح تنعَطّ حكى ضوؤها من ناصر الدّين سُنّةً ... على الشمس بالأنوار غُرَّتُها تسطو أبو العزّ ذو المجد الصّريح الذي أبت ... عناصرُهُ عن أن يمازجَها خِلْطُ من القوم إن جادوا أفادوا وإن دُعُوا ... أجابوا وإن لم يُسألوا نائلاً يُنْطوا نقص في الأصل يجوسُ أقاليمَ البلادِ جميعها ... براحة مَنْ فيها له القَبْضُ والبسْطُ ومنها: بَراها وأجراها فجاءت بمُعجِزٍ ... كمعجز عيسى، والبنانُ لها قُمْطُ وبانت به الآياتُ حتّى كأنّها ... هِراوةُ موسى حين حفّ به السِّبْطُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وفي كلّ سطرٍ صفُّ جيشٍ عرَمْرَمٍ ... وبيضُ الظُّبا والذُّبَّلُ الشّكْلُ والنّقْطُ أرتنا وقد سالت بنِقْسٍ رؤوسها ... على الطِّرْسِ أنّ الحظّ يخدُمُه الخَطُّ جرى الرّزقُ منهابالغِنى لمؤمّل ... براحته مما ترقّشُهُ قِطُّ إذا قَطّها في مأزقٍ أو مُلمّةٍ ... فهاماتُ أرباب المَمالك تنقطُّ لها في رِقابِ المعتدينَ جوامعٌ ... وفي أرجُلِ العافينَ من مِنَنٍ رُبْطُ ألا يا قَوامَ الدّولةِ اسمع قصيدةً ... لها من توالي بِرّك القِسطُ والقِسطُ ومن قبلها أنكحتُ نجلَكَ أختَها ... ولم أرَ موْلَىً مثلَه في الورى قطُّ وأنت فتى في جنب ضَحضاحِ بحره ... من الفضل ما يحوي الفُراتانِ والشّطُّ أسرّتُه دلّت على طيب أصلِه ... وذاك الجبينُ الصّلْتُ والخُلُقُ السّبْطُ وعن غير قصدٍ آنس النّارَ في طوىً ... وأمّمَها موسى وقد ملّتِ الرّهْطُ فنبّاه لمّا جاءه خالقُ الورى ... وكلّمه والنُّطقُ منْ مثله شرطُ أيا ناصرَ الدين الوزيرُ ألوكةً ... لمغترب ألقاه في ربْعك الشّحطُ شددتَ بإدراك الوزارة أزْرَها ... وقد تثبُتُ الأرجاءُ ما حُفظَ الوَسْطُ ومنها بعدَ أبيات كثيرة واهية القافية، سقيمة المزاج، عديمة العلاج: نقص في الأصل بأناملٍ سُبْطِ الحواشي جودُها ... متبجّسٌ كالعارضِ الرّجّاسِ ومنها: والشّرعُ لدْنُ العودِ في أيّامِه ... والعدلُ أصبحَ مُشزَرَ الأمراسِ والدّينُ مرفوعُ الدّعائم والورى ... لنضارة الأيّامِ في أعراسِ ومنها: يا ابنَ الأئمةِ من قريشٍ والألى ... طالوا بطَوْدٍ من عُلاهم راسِ العصرُ عبدُك والقضاءُ متابعٌ ... طوعَ الإشارة منك والإنباسِ ومديحُ مجدِك في الكتاب مرتّلٌ ... جارٍ مع الأعشار والأخماسِ أنا عبدُك القِنُّ الذي مذْ لم أزلْ ... أسطو على أعدائك الأرجاسِ ما جالَ إلا في مديحك خاطري ... وبغير وصفك ما جرت أنفاسي مِلْكي وإرثي يؤخَذانِ كلاهُما ... وأعودُ مقرونَ الرّجاءِ بياسي وبذيلِ مجدِك قد علِقْتُ فلا تدَعْ ... ظنّي يعودُ ملازماً للياسِ وله من قصيدة في المعنى: ما بين رامةَ والكثيبِ الأعفرِ ... حيٌّ أقام قيامتي من يعْمَرِ فاحبِسْ به خوصَ الرِّكابِ إذا بدا ... وتوَقّ من لحَظاتِ ذاك الجُؤذَرِ ومنها: وانشُدْ أسيرَ غَرامِه فلعلّه ... عَطْفاً يُدَلُّ عليه مَن لم يؤسرِ وإذا مررتَ على الأراك فقل له ... لا زِلتَ تصقُلُ غرْبَ كلِّ مؤشَّرِ هل عهدُ ناقضةِ العهودِ بحاله ... أم قد رمت بالغدر من لم يغدُرِ فرَتِ الفؤادَ بصارم من لحظها ... مستوطنٍ في جَفْنِه لم يُشهَرِ وأمالَها سُكْرانِ سكرُ تدلُّلٍ ... يضْنَى الفؤادُ به وسكرُ تخَفُّرِ نقص في الأصل بعُلاكَ قد علِقَ الرّجاءُ وأنت يا ... خيرَ البريّةِ عُدّةُ المتحيّرِ ما شِمْتُ إلا برقَ جودِك بالنّدى ... ورجوتُ عارضَ وابلٍ لك مُمْطِرِ وحططْتُ آمالي ببابك راجياً ... بالحقّ إدراكَ النّجاحِ المثمرِ وصرفْتُ عن كلِّ السّماحِ مطالبي ... وعلى سماحِك كان عَقْدي خِنصَري ووجدْتُ في مجموع قصائد من شعره، وجمعها؛ من جملتها قصيدة نظمها باليمن، وأنشدها أبا شُجاع فاتكَ بن جيّاشِ بنِ نَجاح، صاحبَ زَبيد، في صفر سنة أربع وخمس مئة، أوّلها: أمالَتْ غصونٌ حملُهُنّ نهودُ ... ضُحىً أم تثنّتْ في البِطاح قُدودُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 وهذه القصيدة جيّدة بالإضافة الى شعره، وليست من أسلوبه. فما أدري كيف خبَرُه: أتقوّلها، أم انتحلها، أم نقلَها، أم أثّرت فيه تُربةُ اليمن، فأتى بالنّظم الحسن؟ وأرى يمانيّاته كاليمانيّات المطبوعة المصقولة عضْباً، وكاليمانيّات الموشيّة المحبّرة عصْباً. ما لَه بزَبيد زبد، بل كلّه دُررٌ وزُبَد. وجد في صنعاء الصّنيعة فأجاد الصّنعة، وأتاه اليُمْنُ باليَمن فنال شعره برفعته الرّفعة، وعرَقَهُ العِراق، فمحَق بدرَ خاطِره المَحاقُ، وما أراه فارساً بفارس، ولا جالياً لعرائس. ونَوْرُ أقاحٍ أم ثُغورٌ تبسّمتْ ... وذيّاكَ وردٌ أم حكَتْهُ خُدودُ وهنّ ظِباءٌ بالصّرائم سُنّحٌ ... لنا أم ربيباتُ المقاصرِ غيدُ بدَرْن كأمثال البُدورِ تؤمّهُمْ ... خدلّجةٌ ريّا المعاصِم رودُ عطَتْ فذكرنا مُطفِلَ الرّملِ إذ عطَتْ ... وجال لها طرْفٌ وأتلعَ جيدُ فلم يرَ ذو عينَيْنِ من قبل شخصِها ... مَهاةَ صريمٍ للأسودِ تصيدُ وبين الثّنايا واللِثاثِ مُجاجةٌ ... بها ضَربٌ حُلوُ المَذاقِ بُرودُ أقول لسعدٍ والرِّكابُ سوانحٌ ... وجيشُ الكرى للمُقلتَيْن يَرودُ ترفّقْ وقِفْ بي في اللِّوى عُمرَ ساعة ... فإنّك إنْ ساعَدْتَني لسَعيدُ لأنشُدَ قلباً ضلّ بالرّملِ غُدوةً ... ولم تُرْعَ فيه ذمّةٌ وعهودُ ومنها: طوت لوعتي ثوبَ الصّبابةِ في الحشى ... فوجْدي على مرِّ الزّمان يزيدُ وأذكى حَمامُ الأيكتيْن بنوْحِه ... لظَى كمَدٍ ما الزّندُ منه صَلودُ أيا أيكتَيْ وادي الغَضَى هل زمانُنا ... وعيشٌ مضى في ظلّكُنّ يعودُ أحِنُّ إليكم حنّةَ النّيبِ شاقَها ... الى مورِدِ جَمِّ النُّقاخِ وُرودُ وأصبو كما يصبو الى الجُودِ فاتكٌ ... وأُزْهى كأنّي دَستُهُ وزَبيدُ مليكٌ عطايا كفِّه تُبدي النّدى ... لمن أمّهُ مُستَرْفِداً وتُعيدُ فتىً مهّدَ الأقطار وهْوَ بمهدِه ... ودانت له الأقدارُ وهْوَ وليدُ ومنها: يبشّرُ راجي عُرفِه طيبُ عَرفِه ... ويُعطي ولو أنّ الأنامَ وفودُ له حسَبٌ صافي الأديم من الخَنا ... حمَتْ عنه آباءٌ له وجُدودُ ومجدٌ تَليدٌ راسياتٌ أصولُه ... بناه طَريفٌ من نَدَىً وتليدُ يلوحُ لنا في مطلَعِ الدّسْتِ وجهُه ... كما لاح من ضوء الصّبحِ عمودُ فما النّيلُ إن جاشت غواربُ مائِهِ ... ومدّتْهُ من بعدِ المُدودِ مُدودُ وعمّمَ هاماتِ التِّلاعِ بمُزبِدٍ ... به كلُّ ساقٍ لا يُطاقُ حَصيدُ بأغزرَ من تاج المفاخرِ راحةً ... وأندى بناناً منهُ حينَ يجودُ ولا مُخدِرٌ في أرض خفّان مُشبِلٌ ... أكولٌ لأشلاءِ الرّجالِ صَيودُ له كلّ يومٍ من غَريضِ فَريسةٍ ... قِرًى تغتذي منه لدَيْهِ أسودُ بأشجعَ منه والقنا تقرَعُ القنا ... وللبيض من هامِ الكُماةِ غُمودُ تنافَرَ عنه الصّيدُ خوفَ لقائِه ... تنافُرَ سرْحٍ فيه يعبَثُ سيدُ ويا رُبّ يومٍ قد ترامت الى الوغى ... به شُزَّبٌ قُبُّ الأياطِلِ قودُ كسا ركضُها نورَ الصّباحِ مُلاءةً ... من النّقْع تُخفي شمسَهُ وتذودُ يقودُ بها جيشَيْنِ في الأرض واحدٌ ... يسيرُ وهذا في السّماءِ يرودُ إذا خفَقَتْ هذي لغزْوِ قبيلةٍ ... خفَقْن لتلكَ الحائماتِ بنودُ وشُهْب من البيضِ الرّقاقِ متى هوتْ ... هوَى طامعٌ طاغٍ وخرَّ مريدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 ومن حوله من آلِ حامٍ عِصابةٌ ... أسودُ وغىً فوق السّلاهبِ سودُ إذا أضرموا نارَ الرّدى بحِرابهمْ ... فأرواحُ أبطالِ الكُماةِ وَقودُ هم الجُنْدُ إن ناداهمُ لمُلمّةٍ ... أجابته منهم عُدّةٌ وعَديدُ وللصُّبْحِ من نور الغَزالةِ شاهدٌ ... وللّيْلِ من ضوءِ النّجومِ شهودُ أيا ملِكاً لولا عوارفُ كفِّه ... لما كان يُدْعى في البسيطة جودُ لك اللهُ نهْنِهْ طِرْفَ عزمِك واتّئِدْ ... فما نِلتَهُ للواصفين يَؤودُ بلغتَ الذي لا يبلغُ الفِكرُ شأوَه ... ولا للتّمنّي في مداهُ مَزيدُ تحيّرتِ الأفهامُ فيك فكُنْ لها ... دليلاً وقُلْ للمدحِ أين تُريدُ أتبغي صعوداً يُعجِزُ الشّمسَ بعضُه ... أمن فوقِ هامِ النّيّرَينِ صَعيدُ لك الدّهرُ والأقدارُ والعصرُ والورى ... وكلُّ مليكٍ في البلادِ عبيدُ وكم لك في الأعناقِ منهم صنائعٌ ... بها تتباهى ثُغْرةٌ ووَريدُ فلو جحَدوا حسنَ الصّنيعِ لأذْعنت ... بشكرك منهم أعظُمٌ وجُلودُ إليك رمت بي العيسُ تنفُخُ في البُرى ... وقد شفَعت حسنَ الرّجاء قَصيدُ وقد رَجاني حُسْنُ ظنٍّ ظننتُه ... وأيقظَ آمالي وهنّ رقودُ وشعرٌ من السِّحر الحلال نظمتُه ... فريدَ معانٍ قد نماه فريدُ وحسبيَ من جَدْوى يمينكِ مِنحةٌ ... تخبّرُ عن نُعماك حينَ أعودُ عوارفُ يُعشي ناظرَ الشّمس نورُها ... ويُظهِرُها بالرّغم منه حسودُ وجودُك أدرى بالذي أنا طالبٌ ... وفضلك يا خيرَ الملوكِ أريدُ وما الحمدُ إلا حُلةُ الجود وشيُها ... مقيمٌ على مرّ الزّمانِ جديدُ وخيرُ ثيابِ المرء ذكرٌ مخلّدٌ ... ومدحٌ ضفتْ منه عليه بُرودُ خلالُك تُملي ما أقول فليس لي ... من الشّعرِ إلا وَقفةٌ ونشيدُ أين هذا النّفَسُ القوي من ذاك الهوس الغويّ؟ طوّحت هذه الدّالية بالطائيّة، واعتذرت عن الزّاييّة. لعل شيطانه باليمن عنا له فأعانه، أو كرَمُ ممدوحِه أحيا باعثَه فأذاب جُلمودَ خاطرِه وألانَه. أين هذه الصّنعة من تلك الشُّنعة؟ وهذه السِّمةُ من تلك الوصْمة؟ وهذه القوة من ذلك الوهْي؟ وهذا النّسيمُ من ذاك الهواء؟ وهذا الشعاعُ من ذلك الهَباء؟ وهذا البَهاء من ذلك الهُذاء؟ وهذه الغُررُ من تلك العُرَر؟ وهذا الصفو من ذلك الكدر؟ وتمام القصيدة: تعلّمُني أفعالُ مجدِك وصفَها ... وتُدني إليّ القولَ وهْوَ بعيدُ فخُذْ مِدَحاً يستغرقُ الحمدَ بعضُها ... تَبيدُ الليالي وهْو ليس يَبيدُ وذكر أنّ له في الأمير المفضّل المكين سيف الدولة أبي المكارم بن أبي البركات بن الوَليد الحِميَري، وهو من أولاد التّبابعة باليَمن، سنة خمس وخمس مئة، قصيدة؛ ويصف موضعاً له ذا جبال وأنهار، وأشجار وأزهار: أعِيابُ داريٍّ تُفضُّ وتُفتَقُ ... أم ذي الخَميلةُ عرْفُها يُتنَشُّقُ خلعَ العِهادُ على المعاهدِ حُلّةً ... يُزْهى بسُندُسِ نَورِها الإستبرَقُ طلّت دموعُ السُّحْبِ فوقَ طُلولها ... فرُبوعُها فيها الرّبيعُ المؤنِقُ وتفتّحت حدَقُ الرّياضِ نواضراً ... بنواظر نحو السّماءِ تحدِّقُ فإذا تعرّضَ للبسيطةِ عارضٌ ... فالنّجمُ تحمِلُه لريّ أسوُقُ ومنها: وكأنّما الرّبَواتُ وهْي نواضرٌ ... خيَمٌ يحُفُّ بها غديرٌ متْأقُ والماء يبدرُ في الوقائعِ لامعاً ... كالبحرِ مع نورِ الغزالةِ يُشرِقُ فإذا تخلّل في الخمائل خِلتَهُ ... صِلاً يحاذرُ وقْع نصْلٍ يمرُقُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 تتراقصُ الأغصانُ من فرَحٍ به ... ويمرُّ بالأنهارِ وهو يصفِّقُ صافٍ كأخلاق المفضَّل رفّةً ... ما في خلائقِه الحِسانِ تخلّقُ ملِكٌ يُقيمُ الحمد بين بُيوتِه ... وبه يعودُ المال وهو مفرَّقُ سبْطُ الأناملِ راحتاهُ كلاهُما ... مبسوطتان كما يحاول يُنفِقُ يعطي فإنْ نفِدَ السّؤال رأيتَه ... بتِلادِه متبرّعاً يتصدّقُ وترى غُرابَ الجودِ في أموالِه ... بسَماحِه في كلّ يومٍ ينغِقُ سيفٌ له ربُّ البريّةِ طابعٌ ... وغِرارُه هامَ الكماةِ يفلّقُ قد أخلصتْهُ دولةٌ نبويّةٌ ... فبِها الصّدا في متنه لا يعلَقُ بالجود طينةُ راحتَيْهِ كليهما ... والتّاجُ منه جبينُه والمفرِقُ آلت مكارمُه بغُزْرِ سماحِه ... ألا يعاوِدَ عن ذَراهُ مُملِقُ قد قُلتُ للمغرور يطلُبُ شأوَهُ ... والنّجمُ طالبُه به لا يلحَقُ أترومُ إدراكَ الذي قد نالَه ... هيهاتَ باعُك عن ذراه ضيّقُ ما ظالعٌ مثلَ الضّليعِ ولا ارتقى ... يوماً الى الجوزاءِ من يتسلّقُ يا أيّها الملكُ الذي لسماحِه ... بحرٌ مواردُ جودِه تتدفّقُ لا يرزُقُ الرّحمانُ منْ لم تُعطِه ... وكذاك ليس بمانعٍ من ترْزُقُ طوّقتَ أجيادَ الملوكِ عوارفاً ... فهُمُ عبيدُك بالعوارِفِ طُوِّقوا ورميتَ كلَّ معاندٍ ومكاشحٍ ... بعزيمةٍ هيَ حين تُعزى فيْلَقُ كم وقعةٍ لك لو همَمْتُ بشرحها ... قلّ اليراعُ بها وعَزّ المُهْرَقُ وإذا اللّواء غدا بنصرك خافقاً ... غدتِ القلوبُ من الأعادي تخفِقُ يجري القضاء بما تحبّ لأنّه ... برضاك من ربّ السماءِ يوفَّقُ ومنها يُغْريه بأخذ زَبيد: لا تُهملنّ جُعِلتُ قبلك للفِدا ... أمراً فقِدْماً قد تفرْزَنَ بيذَقُ واشحَذْ لأمرِ زَبيدَ عزمةَ عارفٍ ... بالحرب تقصِدُ شمْلَها فيمَزَّقُ واكتُب ببأسِك في القلوب حُتوفَها ... والسُمْرُ تنقُطُ والصّوارمُ تمشُقُ واجنُبْ لها جيشيْنِ جيشاً بالفَلا ... يسري وجيشاً في السّماء يحلّقُ وامطِرْ صواعقَك الصّوائبَ فوقها ... ليعودَ مُرعَدُها لقىً والمُبْرَقُ وامخُضْ لها وطْبَ المَنونِ مجاهِراً ... فزَبيدُ زُبدتُه عليها تبرُقُ تشتاقُهم سُمرُ الرّماحِ وتنثني ... وصُدورُها بصُدورِهم تتدفّقُ يا خيرَ من يُزْهى القريضُ بمدحه ... وأجلّ من بعُلاهُ يفخرُ منطِقُ لولاك لم أزجِ الرِّكابَ على الوجى ... والرّكْبُ يطفو في السّرابِ ويغرَقُ نقص في الأصل وأرحَلُها مثلَ البُدورِ كواملاً ... الى أن تراها كالأهلّةِ نُحَّلا إذا أوردت حِسْياً حسِبتَ رِقابَها ... حِبالاً وخِلتَ الهامَ فيهنّ كالدِّلا حواملُ آمالٍ ثِقالٍ تتابعت ... مع الحمدِ يطلُبْنَ المليكَ المفضّلا جعلتُ عليها الرّحلَ إمّا بلغتُه ... حراماً ووِرْدَ الجودِ عفواً محللا فحينَ أنخناها بمغْناهُ صادفت ... ربيعاً مَريعاً من نَداهُ ومنْهَلا ومنها: تتيهُ به قحطانُ فخراً إذا اعتزى ... ويُضحي مُعَمّاً بالفخارِ ومُخوَلا إذا ما احتبى أبصرتَ في الدّسْتِ ماجداً ... وإنْ سار نحو الحربِ عاينتَ جَحْفلا ويحْمي حِماهُ بالصّوارمِ والقَنا ... ولا يرتضي إلا ذَرا العِزّ منزلا وما تاهَ ملْكٌ بالفواضلِ والعُلى ... وجاراهُ إلاّ كان أوْفى وأنْبلا حلا عندَه طعمُ المديحِ فجودُه ... يبالِغُ في كسب الثّناءِ وإنْ غلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ومنها: ولستَ تراه لاهياً عن فضيلةٍ ... ولا لسوى جمعِ العُلى متبتِّلا يرى أنفسَ الأشياء حمداً يحوزُه ... ومكرُمةً تُغني وتُسعفُ مُرمِلا ومنها: ولا سارَ في جيشٍ يحاولُ غزوةً ... لأعدائه إلا غدا النّصْرُ أوّلا ولا جُرِّدَت أسيافُه يومَ مأقِطٍ ... فعوّضَها الأغمادَ إلا من الطُّلى ولا ظمِئَتْ أرماحُه في وقيعةٍ ... فأوردها إلا النّجيعَ من الكُلَى تولّى كُماةُ الحربِ عنه مخافةً ... كسِرْبِ قَطاً عاينّ بالقاعِ أجدلا إذا ما انتضى عزماً تباشرتِ الظُّبا ... وإمّا رمى بالرّأي صادفَ مقْتَلا حوى المجدَ واحتلّ الذُّرا من فخاره ... فأدْونُ وصفٍ من مناقبه العُلى يَميدُ ارتياحاً حينَ يغشاهُ مادحٌ ... فأشبهَ سيفاً والمدائحُ صيْقلا لو قال: ينير ابهاجاً، لسلم له المعنى، وصحّ منه المغزى. ومنها: أيا ملكاً لولاهُ في الأرض لم يكن ... لينظُرَ راجٍ مُنعِماً متفضّلا ولولا أياديهِ العَميمةُ لم يكن ... ليعرِفَ عيثاً بالمواهب مُسْبِلا نقص في الأصل وقد أخذَتْ مني الظُّباءُ بحقِّها ... وأصبحتُ فيها رازحَ الحالِ أعزلا ولولا أيادٍ أسعدتني لأسعدٍ ... غدوتُ بها من بعْدِ عُسْري مُجمّلا لما كنت من كسْر الزّمانِ وعرْقِه ... عظاميَ أرجو أن أخلّصَ مفصِلا وجودُك قد أعيا الوَرى في زماننا ... فلستُ أرى في الأرضِ ملْكاً مبخَّلا وفي المجموع، قال: وكتبت بهذه القصيدة من ذي جِبلَة الى الملك أبي شجاع فاتك بن جيّاش، من حضرة المفضَّل، أُثني عليه، في جُمادى الأولى سنة ستّ وخمس مئة: ذرَعَتْ بأذرُعِها المهارَى القودُ ... ثوبَ الدُجى ورِواقُه ممدودُ وتطلّعتْ بطُوَيْليعٍ فبدا لها ... بعدَ الأراكِ محَجَّرٌ وزَرودُ وتنسّمتْ هضَباتِ عالِجَ طُلَّحا ... ولهنّ من فرطِ اللّغوبِ قُيودُ أودى بهنّ هَجيرُ ناجرَ والسُّرى ... والقطعُ يقرَنُ بالبُرى والبِيدُ والخِمْسُ مشفوعٌ بخِمْسٍ بعدَه ... والوِرْدُ يُشفَهُ ماؤه المثمودُ فأتيْن أمثالَ القِسيّ نواحلاً ... منهنّ بادٍ أعظُمٌ وجلودُ يحمِلْنَ أمثالَ السّهام يؤمّهُمْ ... أملٌ مدَى ما يبتغيهِ زَبيدُ واجهن ذا السّعْدَيْن فاتكَ مالكاً ... بعُلاه جيّاشٌ سما وسعيدُ لا بانتقاصٍ منهما في رُتبة ... وإليهِما منهُ الفَخارُ يعودُ قد شاد إبراهيم مجدَ محمّدٍ ... وسما برُتبتِه ابنُه داوودُ شرفُ الأوائل والأواخر خيرُ مَنْ ... يُعطي إذا ضنّ الحيا ويجودُ ملكٌ به المعروف يعرَفُ والنّدى ... وسماحُهُ يُغني الورى ويَزيدُ متفرّدٌ بفَخارِه في عصرِه ... للمأثُراتِ بما حَواهُ مُشيدُ أحيا الأماني جودُه وسمَتْ به ... في المجدِ آباءٌ له وجدودُ نقص في الأصل جمال المُلك أبو القاسم عليّ بن أفلح العَبسي الشاعر من أهل بغداد، وأصله من الحِلّة السّيفية. شاعرٌ سائرُ الشّعر، طائر الذّكر، مرهوب الشّبا حديد السِّنان، شديد الهجاء بذي اللسان. إذا اتّضح له المعنى في هجو أحد، لم يبال به أكان محسناً أم مُسيّاً، عدوّاً أو ولياً. وقلّ من أحسن إليه إلا جازاه بالقبيح، وجاراه بالذمّ الصّريح. وكان من جملة منعوشي العمّ الشّهيد عزيز الدّين، فإنّه نوّه بذكره، ونبّه على قدره، وجذب بضَبْع فضله، وآواه الى ريع ظلّه، وولّى أشغاله جماعةً من أقاربه وأهله، حتى عُرِفوا وشرُفوا، وأثْرَوا واكتفوا. على أنّه لم ينجُ مع ذلك من قوارصه، وكان يحتمله لفضائله وخصائصه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ولما نقلني والدي من أصفهان الى بغداد حين نبا - بعد النّكبة - بِنا الوطنُ، وضاق العطَن، ولم نجد الأمن والسّلامة، واليُمن والكَرامة، إلا في ظل الدار العزيزة النبويّة الإمامية المقتفوية، فسكنّا مدينة السلام، واتّخذناها دار المُقام، وذلك في سنة أربع وثلاثين وخمس مئة، وقد بلغت سنّي خمسَ عشرة سنة - وكان هذا ابن أفلح يجتمع بوالدي، ويقصِدُ نحوَهُ، ويبثّه شجْوَه. وتوفّي بعد ذلك بسنتين أو ثلاث. وطالعتُ ما جمع من شعره، وهو قليل؛ لأن الخليفة نفّذ وأخذ من بيته أشعاره كلها. وكتبت منه قصيدتين في مدح عمّي، فأثبتُّهما، ولم أُلْغِ منهما شيئاً. إحداهما ما مدحه به وأنشده بأصفهان: هاتيك دجلةُ رِدْ وهذا النّيلُ ... ما بعدَ ذينِ لحائمٍ تعليلُ إن كان برْدُ الماءِ عندَك ناقعاً ... حرَّ الجَوى لا الأشنبُ المعسول عجباً لشأنك تدّعي ظمأً وفي ... جفْنيْكَ من سيلِ الجُفونِ سُيولُ وتنحّ من لفْح الهَجيرِ وحرِّه ... وحشاكَ فيه لوعةٌ وغَليلُ ما هذه آياتُ من عرَفَ الهوى ... وشجاه رَقراقُ الحياء أسيلُ لا تكذبنّ فما بهذا عندنا ... أهلَ الصّبابةِ يُعرفُ المتبولُ خلِّ الغرامَ لأهله فهمُُ به ... أولى لهنّكَ في الغرامِ دخيلُ أنسيتَني يومَ العقيق ونحنُ في ... واديهِ بين السَّرْحتيْن حُلولُ والحيُّ يهمِزُ بالرحيل ومُهجتي ... جزَعاً لمقترب الرّحيلِ تسيلُ والوجدُ محتدمٌ وبين أضالعي ... قلبٌ يضِجُّ به الغرامُ عليلُ وأقلُّ ما لاقيتُ من كُلَف الهوى ... بعدَ الصّبابةِ لائمٌ وعَذولُ ألا اقتديتَ بحُوَّلٍ في وجدِه ... قد عارك الأشجانَ وهْوَ نحيلُ أظننتَ أنّ العِشقَ سهلٌ بئس ما ... أوهمتهُ يا أيّها المخبولُ يا أختَ سعدٍ قد سننتِ شريعةً ... ما سنّها في الأنبياءِ رسولُ حلّلتِ سفكَ دمي ولم ينطِقْ به ... ذِكرٌ وتوْراةٌ ولا إنجيلُ وقصرتِ أجفاني فما إن تلتقي ... وأطلتِ ليلي فالعَناءُ طويلُ وقدحتِ ناراً في الحشا ومنعتِني ... إطفاءَها بالدّمعِ وهو هَطولُ سمعاً لأمركِ ما استطعتُ وكلّ ما ... حمّلتِ من عِبْءِ الهوى محمولُ قسماً بعصيان العذول فإنّه ... قسمٌ على حسن الوفاءِ دليلُ إنّي عليكِ وإن صدَدْتِ لعاطفٌ ... ولكِ الغداةَ وإن قطعْتِ وَصولُ يا صاحبيّ مضى الهوى لسبيله ... وأتى الصوابُ وقولُه المقبولُ أبثثكما عُجَري فما ترَيانِه ... لأخيكما فالرّأيُ منه أفيلُ طال الثّواءُ على المذلّة قانعاً ... بالدّون واستولى عليّ خُمولُ وغدا يزاحمُ منكبي في موقف ال ... علياءِ وغدٌ أخرقٌ وجهولُ في كلّ يوم يستفزّ سكينتي ... روعٌ يمَسُّ الحسَّ منه ذُهولُ ممّن عهِدتُ إذا ذُكِرتُ فؤادَه ... من صدره فرَقاً يكادُ يزولُ ما ذاك إلا أنّه لم يبقَ من ... هذا الأنام مسوّدٌ بُهْلولُ يأوي إليه المستجيرُ فيغتدي ... نعمَ النّصيرُ وبأسُه المأمولُ قالا: صهٍ هذا ابن حامدٍ الذي ... ما بعدَه لمؤمِّلٍ تأميلُ يمّمْه تلقَ اليمّ يزخَرُ طامياً ... والليثَ يزأرُ هيبةً ويصولُ وانزِلْ عليه تُنِخ بكِسْرِ فناءِ منْ ... ما ذمّ جيرتَهُ العشيَّ نزيلُ إنّ امرءاً كفَل العزيزُ بنصره ... وغدا يسالمُ دهرَهُ لَذليلُ نقص في الأصل لا الصّبرُ ناصرُهُ إن ضامه كمَدٌ ... يومَ الرّحيل ولا السّلوانُ مُنجِدُه فلم أطاع عذولاً ما يسهِّدُه ... إذا غفا كلُ طرْفٍ ما يسهِّدُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 هل حلّ بالعَذْلِ لاحٍ من أخي كمَدٍ ... ما ظلّ بالحبّ داعي الوجد يعقِدُه لولا الغُرورُ وما تجْني مطامِعُه ... لذَمّ طيْفَ الكرى من باتَ يحمَدُه وكلّ من لا يرى في الأمر مصدَرَهُ ... قبل الوُرودِ أراهُ الحتْفَ مورِدُه كحائنٍ ظنّ مولانا العزيز على ... إمهالهُ مُهمِلاً من بات يرْصُدُه الصّادق العزمِ لا جبنٌ يريّثُه ... إن رامَ أمراً ولا عجزٌ يفنّدُه في كلّ يومٍ له حمدٌ يجمّعهُ ... بما توخّاهُ من مالٍ يبدّدُه جمُّ المواهبِ ما ينفكّ من سرَفٍ ... لُجَينُه يشتكي منه وعسجَدُه غمْرُ الرِّداءِ وَهوبٌ ما حوته على ال ... أيّام من طارفٍ أو تالدٍ يدُه يعتدّ بالفضلِ للعافي ويشكرُه ... كأنّ عافيهِ يحبوهُ ويرفِدُهُ موفّقُ السّعي والتّدبيرُ منجِحُه ... وثاقبُ الرّأي في الجُلّى مسدّدُه حسنُ الرّشادِ له فيما يحاولُه ... من المقاصد هاديه ومُرشدُهُ فما يَطيشُ له سهمٌ يفوّقُه ... في كل ما يتحرّاهُ ويقصِدُه إذا تماثلتِ الأحسابُ فاخرةً ... أضاء في الحسَبِ الوضّاحِ محتِدُه يُزْهى بجدّيْنِ أضحى سامياً بهما ... فما ترى عينُه من ليس يحسُدُه يا أحمدُ الحمدُ ما أصبحت تكسِبُه ... بالفضلِ والفضلُ ما أصبحت توردُه ليَهْنِ مجدَك نُعمى ظلّ حاسدُها ... يغيظُه ما رأى منها ويُكمدُه جاءتك تسحَبُ ذيلَ العزّ من ملِك ... ما أيّد اللهُ إلا من يؤيّدُه لم يلقَ غيرَك كُفؤاً يرتضيهِ لما ... إليك أضحى من التّدبيرِ يُسندُهُ ألقى إليكَ زِمام الأمرِ معتقداً ... أنّ الأمانةَ فيمن طاب مولدُه فاجعَلْ عِياذَك شكرَ الناسِ تحرزُه ... وانظرْ لنفسك من ذكرٍ تخلّدُه وليَهْن جدَّك أعداءٌ ظفِرتَ بهم ... وقد عراهم من الطّغيانِ أنكدُه نوَوْا لك المَكرَ غدراً فاستزلّ لهم ... عن ذاك أيمنُ تدبيرٍ وأحمدُه من كلّ أخيبَ خانته مكايدُه ... فيما نواهُ وأرداهُ تردّدُه ما أبرموا الرّأيَ في سوء بغوْك به ... إلا وعاد سحيلاً منك مُحصَدُه ولا ورى زندُ كيدٍ منهمُ أبداً ... إلا وحدُّك بالإقبالِ يُصلِدُه نقص في الأصل فإنْ جحَدَتْ أجفانهُ سفكَها دمي ... فلي شاهدٌ من خدِّه غيرُ مُرقِش ومال بعِطفَيّ الغرامُ وقد بدا ... لعينيّ حتى ظنّ أنّيَ مُنتشي بريّان ما يحويه عقْدُ إزارِه ... وغَرْثان مِقلاق الوشاح معطّشِ ولما تلاقينا بقلبي وطرْفِه ... على حذَرٍ ممّن ينِمُّ ومن يشي ضعُفتُ وأعطاه الهوى فضلَ قوّةٍ ... فأوثقني أسراً ومن يقْوَ يبطِشِ ومن يتحرّشْ بالرّدى وهْوَ وادعٌ ... قريرُ الرّزايا يلْقَ غِبّ التحرُّشِ وكان هذا ابن أفلح فظيع المنظر، كما وصفه سديد الدّولة ابن الأنباري في قوله: يا فتى أفلح وإن ... لم يكن قطُّ أفلحا لكَ وجهٌ مشوّهٌ ... أسودٌ قُدّ من رَحى وكان هكذا ذكره قمر الدّولة بن دوّاس: هذا ابنُ أفلحَ كاتبٌ ... متفرّدٌ بصِفاتِه أقلامُه من غيره ... ودَواتُه من ذاتِه ومن جملة أشعار ابن أفلح، قوله: يا من إليه المشتكى ... في كلّ نائبةٍ تلوحُ ذا النّاصرُ المخذولُطولَ زمانِه نِضْوٌ طَليحُ ما إنْ يبِلُّ فيستري ... حُ ولا يموتُ فيستريحُ وقوله: سألتُك التّوقيعَ في قصّتي ... فاحتطتُ للآجلِ بالعاجلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وخِفتُ أن تُجريَ في قابِلٍ ... وقّعْ فما تبقى الى قابِلِ وقوله في أنوشَرْوان الوزير، وكان في غاية التواضع: إنّ أنوشَرْوان ما فيهِ ... سوى قيامٍ لمُرجّيهِ الجودُ كلّ الجودِ في رجله ... وإن تعدّى فإلى فيهِ روّجْ لراجيك ولو حبّةً ... واقعُدْ على العرشِ من التّيهِ وله في المعين المختصّ الوزير: إنّ عندي للمُعين يداً ... ما حَييتُ الدّهرَ أشكرُها صانَني عن أن تكونَ له ... منّة عندي أحبِّرُها فأنا ما عشتُ أعرِفُها ... أبداً من حيثُ أنكِرُها وله في الوزير أحمدَ بنِ نظام الملك: قصدْتُ أرومُ لقاءَ الوزير ... وقد منع الإذنَ بالواحده وكلٌّ على الباب يبغي الدّخو ... لَ والبابُ كالصّخرةِ الجامده ولم أعلمِ العُذْرَ في غلْقِه ... فكنتُ أعودُ على قاعدَهْ فصِحتُ محمّدُ ألاّ فتحتَ ... فقالَ الوزير على المائدهْ ومن دونِ فتحيَ فتحُ الوجوهِ ... فعُدَّ الرّجوعَ من الفائده وله فيه: شكرتُ بوّابَك إذ ردّني ... وذمّهُ غيري على ردِّه لأنّهُ قلّدني منّةً ... تستوجب الإغراق في حمدِهِ أعاذني من قُبح ملْقاكَ لي ... وكبرِك الزّائد في حدِّهِ فعُذْتُ أن أُضبرِعَ خدّي لمن ... ماءُ الحَيا قد غاض من خدِّهِ وله فيه: وزيرُنا ليسَ له عادةٌ ... ببذلِ إفضالٍ وإحسانِ قد جعلَ الكِبْرَ شعاراً له ... فليس يقْضي حقّ إنسان لو سلِمَ السّلطانُ من كِبْرِه ... عليه ما ردّ بإعلانِ كأنّه لا كان من تيهه ... مورّثٌ ملكَ سليمانِ أبوابُه مغلَقةٌ دائباً ... من دون وُفّادٍ وضِيفانِ الشريف أبو يعلى محمد بن محمد بن صالح ابن الهّبارية العباسي الشاعر من بغداد من شعراء نظام الملك. غلب على شعره الهجاءُ والهزل والسّخف، وسبك في قالب ابن الحجّاج، وسلك أسلوبه، وفاقه في الخلاعة والمجون. والنّظيف من شعره في نهاية الحسن. حكي عنه أنّه هجا بالأجرة النّظام، فأمر بقتله، فشفع فيه جمال الإسلام محمّد بن ثابت الخُجَنْدِيّ، وكان من كِبار العلماء، فقبِل شفاعته، فقام يُنشد نظام الملك، يومَ عفوِه عنه، قصيدةً، قال في مطلعها: بعزّةِ أمرِك دارَ الفلَكْ ... حَنانَيْك، فالخَلْقُ والأمرُ لكْ فقال النّظام: كذبت، ذاك هو الله عزّ وجلّ، وتمّم إنشادها. ثم أقام مدّة بأصفهان. وخرج الى كرْمان، وأقام بها الى آخر عمره. مات بعد مدّة طويلة. وذُكر أنّه توفّي في سنة أربع وخمس مئة. أنشدني شمس الدين أبو الفتح النّطْنَزيّ، قال: أنشدني أبو يعلى ابن الهبّارية لنفسه: وإذا البَياذقُ في الدّسوت تفرزنت ... فالرّأيُ أن يتبيذَقَ الفِرزانُ خُذْ جُملةَ البَلْوى ودعْ تفصيلَها ... ما في البريّةِ كلِّها إنسانُ وأُنشدت له بأصفهان من قصيدة نظام الملك: أنا جارُ دارِك وهْي في شرع العُلى ... ربْعٌ حرامٌ آمِنٌ جيرانُه لا يزهدنّك منظري في مَخْبَري ... فالبحرُ مِلْحُ مياهِه عِقيانُه ليس القُدودُ، ولا البُرود فضيلةً ... ما المرءُ إلا قلبُه ولسانُهُ وأُنشِدت له في الباقلاء الأخضر: فصوصُ زمرّدٍ في كيس دُرِّ ... حكتَ أقماعُها تقليمَ ظُفرِ وقد خاط الرّبيعُ لها ثِياباً ... لها لونانِ من بيضٍ وخُضْرِ وأنشدت له أيضاً بها في نظام الملك: نظامَ العلى، ما بالُ قلبك قد غدا ... على عبدِك المسكين دون الورى فَظّا أنا أكثرُ الورّادِ حقّاً وحرمةً ... عليكَ فما بالي أقلّهمُ حظّا وأُنشدت له أيضاً فيه: وإذا سخِطتُ على القوافي صُغتُها ... في غيره لأذِلَّها وأُهينَها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وإذا رضيتُ نظَمْتُها لجلاله ... كيما أشرّفَها به وأزينَها وله، وقد عُزِل ابن جَهير وتولّى أبو شجاع الوزارة: ما حطّ قدرَهمُ ولا أزرى بهِمْ ... عزلٌ عجِلتَ به وأنت سديدُ لكن به ظهرتْ حقائقُ سعدهم ... والسّيفُ يُبدي ماءَه التّجريدُ والأُسْدُ أولى بالعرين فكم غدا ... يختالُ في خِيس الخِلافةِ سيدُ وكذا سِرارُ البدرِ أصلُ كمالِه ... وبسوءِ فعلِ النّارِ يذكى العودُ وله في الأوصاف: وكأنّ السماءَ والنّجمُ فيها ... لُجّةٌ مات دُرُّها فهو طافِ أو كصرْحٍ ممرّدٍ من زُجاج ... نُثرت فيه خرقةُ الصّرّافِ تحت ظل الكروم بين رياضٍ ... وأغانٍ ونزهةٍ وسُلافِ فإذا راسل الهَزارُ أخاه ... رقص القلبُ من وراءِ الشِّغافِ وإذا فرّك النّسيمُ قميصَ ال ... ماءِ أضحى مكسّرَ الأطْرافِ وله في معناه، مطلع القصيد: أدرها من بنات الكَرم صِرْفاً ... معتّقةً تُريك النُّكْرَ عُرْفا فجيشُ الليلِ قد ولّى هزيماً ... وجيشُ الفجر قد لاقاه زحْفا وعبّا الشّرقُ للإصباحِ صفّاً ... وعبّا الغربُ للظلماء صفّا وطار النّسْرُ منحدراً فقصّت ... قوادِمُهُ الدّجى فانقضّ ضعفا وشدّ الليلُ من درَرِ الثّريّا ... على لِيتِ السُّها في الغرب شَنْفا كأنّ الجوّ صرْحٌ أو غَديرٌ ... صفاءً حين تنظرُه ولُطْفا كأنّ ذراعَه فيه ذراعٌ ... تمدّ الى صِفاح البدرِ كفّا وقد رقّ النّسيمُ وذاب لمّا ... تهلهَلَ بُرْدُ ليلتِه وشفّا وقد أكل المَحاقُ البدرَ حتّى ... غدا في معصَم الجوزاءِ وقْفا وقد راق المُدام ورقّ حتّى ... غدا من دمعة المهجور أصفى نقص في الأصل وصفت له الدّنيا وخُصّ ... أبو الغنائم بالكَدَرْ فالدّهرُ كالدّولاب لي ... سَ يدورُ إلا بالبَقَرْ فلمّا سمِع نظام الملك هذه الأبيات، قال: هذه إشارة إلى أنّني من طوس، فإنّه يقالُ لأهل طوس البقر. واستدعاه، وخلع عليه، وأعطاه خمس مئة دينار. فقال ابن الهبّارية لتاج الملك: ألم أقل لك؟ كيف أهجوه، وإنعامه بلغ هذا الحدّ الذي رأيته؟ وله أيضاً، أُنشدتها بأصفهان في ذمّ الدّهر: ومن نكد الدّنيا الدّنيّةِ أنّها ... تخُصّ بإدراك المُنى كلَّ ناقصِ وكم ذنَبٍ قد صار رأساً وجبهةٍ ... تودّ اضطراراً أنها في الأخامِصِ وما سادَ في هذا الزّمان ابنُ حرّةٍ ... وإنْ سادَ فاعلم أنّه غيرُ خالصِ لَحى الله عزماً حطّ رحلي لديهمُ ... وجعجع عن أرض العِراق قلائصي وله: كيف أصغيتَ للوشاة وألقي ... تَ زمام النُّهى الى الأغبياء فحذفتَ الإخاءَ والوُدَّ والصّح ... بةَ حذفَ النُّحاةِ حرفَ النّداء وله: صنَعتْ بي الأيام في أرض قاشا ... نَ صنيعَ الحروف بالأسماء بين قومٍ جميعُ حظّيَ منهم ... أنْ يسمّونني من الظُرفاء وله في وصف الذّكاء: وعنديَ شوقٌ دائمٌ وصبابةٌ ... ومن أنا ذا حتّى أقولَ له عندي الى رجلٍ لو أنّ بعضَ ذكائِه ... على كلّ مولودٍ تكلّم في المهدِ ولولا نداه خِفْتُ نارَ ذكائه ... عليه ولكنّ النّدى مانعُ الوَقْدِ هذا البيت ما سبق الى معناه. وله: أستغفرُ اللهَ من ظنّ أثِمْتُ به ... أحسنتُه في امْرئٍ في ذا الورى غلَطا ندِمْتُ بل تُبْتُ من ظنٍّ يقاربُه ... ك ... صُمَّ حياء بعدما ... وله وقد نفّد ولده الى نقيب النّقباء عليّ بن طراد الزّينَبي ببغداد: لُذْ بنظامِ الحضرتين الرِّضا ... إذا بَنو الدّهرِ تحاشَوْكْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 واجلُ به عن ناظريك القَذى ... إذا لئامُ القومِ أعشَوْكْ واصبِرْ على وحشة غِلمانه ... لا بُدّ للورد من الشَوْك وله: ما صغت فيك المدحَ لكنّني ... من غُرِّ أوصافِك أستملي تُملي سجاياك على خاطري ... فها أنا أكتُبُ ما تُملي وله قصيدة في هجو أرباب الدّولة الجلاليّة الملكشاهيّة، ومنها: لو أنّ لي نفساً صبرْتُ لِما ... ألقى ولكنْ ليس لي نفْسُ ما لي أُقيمُ لدى زعانفةٍ ... شُمِّ القُرونِ أنوفُهم فُطْسُ لي مأتمٌ من سوءِ فعلِهمُ ... ولهم بحسن مدائحي عُرْسُ ولقد غرسْتُ المدحَ عندَهُمُ ... طمعاً فحنظلَ ذلك الغرسُ الشيخُ عينُهُم وسيّدهُم ... خرِفٌ لعمْرُك باردٌ جِبْسُ كالجاثليق في عُصيّتِه ... يغدو وداراً خلفَهُ القَسُّ والنّاصحُ الهندورجيّ الى ... جنب الوزيرِ كأنّه جعْسُ نقص في الأصل أعلى أمورهم إذا نفقَ ال ... طّرّيخُ عنهم أو غلا الدِّبسُ واللهِ لو ملكوا السّماءَ لما ... عرفوا ولا اهتزّوا ولا انحسّوا أم باب إبراهيمَ أقصدُهُ ... هيهاتَ خاب الظّنُّ والحدْسُ قد كان محبوساً وكان له ... جودٌ وزال الجودُ والحبسُ أم أعتفي ابنَ أخيه مرتجياً ... علقاً له من ظهره تُرْسُ ندَفتْ ... التّرك فقْحتَهُ ... حتى ظننّا أنها بُرْسُ هذه القصيدة ألغيت منها أبياتاً كثيرة، لأنّه يعرض للسُّدّة الشريفة. وله: أرى الطّريقَ قريباً حين أسلُكُه ... الى الحبيبِ بعيداً حين أنصرفُ وله: نزورُكُم لا نُكافيكم بجفْوتِكم ... إنّ الحبيبَ إذا لم يستزر زارا وله: قد كنت أحرُسُ قلبي خائفاً وجِلاً ... من أن يكونَ بسيف الحبِّ مقتولا فلم يزلْ بلطيفِ القولِ يخدَعُني ... حتى جعلْتُ دمي في الحبّ مطلولا هذا فؤادي إليكم قد بعثتُ به ... ليقضيَ اللهُ أمراً كان مفعولا وله: ذكرتُكِ بالرّيحانِ لمّا شممْتُه ... وبالرّاحِ لما قابلتْ أوجهَ الشّرْبِ تذكّرتُ بالرّيحانِ منكِ روائحاً ... وبالرّاحِ طعماً من مُقبَّلِك العذْبِ وله: تُريدون منّي أن تسيؤوا وتبخلوا ... ويختصّ بالأيام دونَكُمُ الذّمُّ وما جارتِ الأقدارُ فيما جرت به ... ولا شاء بعضَ الفضلِ والأدبِ النّجمِ ولكنّكم أبغضتموه لجهلكم ... وأحببتُمُ المالَ الذي حُبُّهُ وصْمُ فأنتم عن العلياء عُمْيٌ لحبّه ... وعن سائل المعروفِ من أجله صُمُّ وما جارتِ الأيام إلا لميلها ... إليكم وفي تقديمها لكم الغشْمُ نقص في الأصل وله: قد قلتُ للشيخ الرّئي ... س أخي السّماح أبي المطهّرْ ذكّرْ معينَ الدّين بي ... قال المؤنّثُ لا يُذكَّرْ وله: هيهاتَ هيهاتَ كلّ الناسِ قد قُلِبوا ... في قالِبِ الغدرِ والإعجابِ والملَقِ فإن تخلّقَ منهم بالنُّهى رجلٌ ... عادت به نفسه لؤماً الى الخُلُقِ وله: يا أيها الصّاحبُ الأجلُّ ... إنْ لم يكن وابلٌ فطَلُّ المالُ فانٍ والذِّكرُ باقٍ ... والوفْرُ فرعٌ والعِرضُ أصلُ فاجعَلْهُ دونَ العيالِ ستراً ... فالصّوْنُ في أن يكون بذْلُ لا تحقِرَنْ شاعراً تراه ... فعُقْدَة الشِّعْرِ لا تُحَلُّ وله: خذا فُرَص اللّذّاتِ ما سمحَتْ بها ... صُروف الليالي فهي بَيْضُ أنوقِ ولا تعذُلاني في الصّبابةِ والصِّبا ... فلومي على أدهابها لعقوقي وما العيشُ إلا في الخلاعة والهوى ... وشُرْبِ طِلاً صافٍ ووصلِ عشيقِ ولا تأمنا سَلْمَ الزّمانِ فإنّهُ ... صديقٌ لما صافاه غيرُ صديقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 لقد جار في الأحكام حتى أغصّني ... وأشرَقَني في النّائبات بِرِيقي وله من قصيدة في المدح: وما الرّمحُ عرّاصُ الكعوبِ مثقّفٌ ... يخوضُ الكُلى في كلّ يوم لقاءِ بأمضى شَباً من ناحل الجسم ذابلٍ ... بكفّك في يوميْ وغىً وعطاءِ ولا المُزْنُ منهلّ الآقي كأنّه ... مودِّعُ حيٍ آذَنوا بثَناءِ تجمّلَ للواشين ثمّ تبادرت ... مدامعُهُ في إثرِهم ببكاءِ بأجوَدَ من أنواء كفّك ديمةً ... وأسخى بوَبْلَي نائلٍ وحِباءِ وله من قصيدة: طرَقَتْ وساريةُ النّجومِ هجودُ ... وسرت وشاردةُ الرِّياحِ ركودُ نقص في الأصل بيناهُ يرتقبُ المُنى ... حتّى تخطّفَهُ المنيّهْ تبّاً لدهرٍ دينُه ... إخمالُ ذي الهِمَمِ العليّهْ فالحُرُّ من دون الورى ... لرِماحِ قسوتِه دريّهْ وخطوبُه بذوي الفضا ... ئِلِ دونَ غيرِهِمُ غريّهْ ومنها: قد كان لي يا ابْنَ الهُدى ... والوحي والعتَرِ الزّكيّهْ بيت مذ عزمت هـ ... ذا الأمرَ في التّخفيفِ نيّهْ ورأيتُ مسألةَ الرّجا ... لِ حُطامَهُمْ حالاً رديّهْ وأنِفْتُ من ذلّ السؤا ... لِ بعِزِّ نفسٍ هاشميّهْ وظَننْتُ أني غِنَىً ... عن قصدِ حضرتِك العليهّ فاغتالني صرْفُ الزّما ... نِ فبِعتُ شعري بالنّسيّهْ وله: يقول أبو سعيدٍ إذ رآني ... عفيفاً منذُ عام ما شرِبْتُ على يدِ أيّ شيخٍ تُبْتَ قل لي ... فقلتُ على يد الإفلاس تُبْتُ وله في شكاية الفضل: تجاهلتُ لمّا لم أرَ العقل نافعاً ... وأنكرتُ لمّا كنتُ بالعلم ضائعا وما نافعي عقلي وعلمي وفِطنَتي ... إذا بتَّ صِفْرَ الكفّ والكيس جائعا وله من قصيدة يصِفُ الشّيب: نزَل الشّيبُ بفودِيَ ضيفاً ... يا سَقاهُ اللهُ ضيفاً وجارا وكساني وفْدُهُ كلَّ وصفٍ ... من صفاتِ الشّيخِ إلا الوَقارا وسقاني من أذاهُ كؤوساً ... مُرّةً تعقِرُ ليست عُقارا متّ إلا أنّ قلبيَ حيٌّ ... يعشقُ العِشقَ ويهوى الخَسارا يتصابى بعدَما ردّ كرهاً ... من غَيابات الصِّبا ما استعارا ما الذي تصنعُ باللهِ قُلْ لي ... ما أرى فيه عليك اقتدارا فأنا في جانبِ البيت نِضْوٌ ... ما أطيقُ الخطْوَ إلا قِصارا وله: ورقّتْ دموعُ العين حتى حسبتُها ... دموعَ دموعي لا دموعَ جُفوني همُ عذَلوني جاهليَ بقصّتي ... ولو عرَفوا ما نالَني رحِموني وأُنشدت له، بأصفهان، من قصيدة في مدح مجد الملك مستوفي الدّولة الملكشاهيّة: تجنّبَ في قرب المحلِّ وقصدِه ... وزارَ على شحْطِ المزارِ وبُعدِه خيالُ حبيبٍ ما سعِدتُ بوصله ... وزورَتِه حتى شقيتُ بصدّهِ تبسّم عن عذْبٍ شتيتٍ كشمْلِه ... وشملي يُذكي نارَ قلبي ببَردِه فلم أدرِ من عُجْبٍ تحليَ ثغرِه ... أم افترّ ضحكاً عن فرائِدِ عِقدِه وقابلَ نُوّارَ العَقيقِ وورْدَهُ ... بأنضرَ من نوْر الشّقيقِ وورْدِه ورُبّ بَهارٍ مثلِ خدّيَ فاقعٍ ... يُناجي شقيقاً قانياً مثلَ خدِّه سقاني عليه قهوةً مثلَ هجرِه ... وطعمِ حياتي مُذ بُليتُ بفَقدِه وما أسكرتْ قلبي وكيف وما صحا ... ولا زال سكراناً بسكرة وجْدِه ولو أنّه يسْقيهِ خمرةَ ريقِه ... لأطْفأ وجْداً قد كواهُ بوقْدِه سقاني وحيّاني بوردةِ خدِّهِ ... وريحانِ صُدْغَيْهِ وبانةِ قدِّه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 ومازَحَني بالهجرِ والهجرُ قاتلٌ ... وما مزْحُه بالهجْرِ إلا كجِدِّه وبِتْنا كما شئنا وشاءَ لنا الهوى ... يكُفّ علينا الوصلُ فاضلَ بُردِه زماناً نعِمْنا فيه بالوصل فانقضى ... وبانَ على رُغمي ومنْ لي بردِّه فلا تعذُلَنّ الدّهرَ في سوء غدرِه ... ولا تطلُبنْ منه الوَفاءَ بعهدِه وخُذْ ما أتى منه فليس بعامدٍ ... وما خطأُ المِقْدارِ إلا كعهدِه ورفقاً فم الإنسانُ إلا بجدّه ... وليس بمُغْنٍ عنه كثرةُ كدِّه فما يسبِقُ الطِّرفُ العَتيقُ بشدّه ... ولا يقطعُ السيفُ الذّليقُ بحدّه ولكنّ أقداراً تحكَّمُ في الورى ... فيأخُذُ كلٌ منهمُ قدرَ جدِّهِ وما أحدٌ نال العَلاءَ بحقّه ... وأدركه دونَ الرِّجالِ بجَهْدِه سوى الصّدرِ مجْدِ الملك فهْوَ سما له ... بجِدٍّ وجدٍّ مستقلٍ بسعْدِه فما قرّ صدرُ الدّين إلا بقلبِه ... ولا اشتدّ أزْرُ المُلكِ إلا بمجدِه وحنّ إليه الدّستُ مُذْ كان مرضَعاً ... ونافس فيه التّخْتُ أعوادَ مهدِه ومنها: على مجده من جودِه دِرْعُ نائل ... تكفّلَ كعبِيُّ السّماحِ بسرْدِه وله: أما إنّه لولا الهوى وجنونُه ... لما غلِقَتْ يومَ الرِّهانِ رُهونُهُ له اللهُ أما دمعُهُ فيُذيله ... غَراماً وأمّا وجدُه فيصونُه وإن هو أخفى وجدَهُ وشؤونَه ... حِذاراً أذاعتْهُ ضِراراً شؤونُه بنفسي بدراً يفضحُ البدرَ نورُه ... وغصنَ قوامٍ يُخجِلُ الغُصنَ لينُه عقاربُ صُدْغٍ ليس يرقى سليمُها ... ورمحُ قَوامٍ لا يبِلُّ طَعينُهُ وله: إسقني يا ضرّةَ القمرِ ... واسلُبِ اللّذّاتِ وابتدِرِ قهوةً حمراَ صافيةً ... تخضِبُ النُّدمانَ بالشّررِ سبَقَتْ نوحاً فلو نطقَتْ ... لرَوتْ ما مرّ في السِّيَرِ فجيوشُ الليلِ هاربةٌ ... وجُنودُ الصّبحِ في الأثرِ ونجومُ الجوِّ حائرةٌ ... والدُجى يبكي على القمرِ وغصونُ البانِ مائلةٌ ... طرباً من شدّة السُّكُرِ ولُحونُ الطّيرِ عاليةٌ ... والصَّبا تختالُ بالشّجَرِ ليلتي لا عيبَ فيكِ ولا ... خِلتُ أنْ تشني سوى القِصَرِ ليتَها طالتْ عليّ ولو ... كان ذاك الطّولُ من عُمُري لي حبيبٌ ليسَ يُنصِفُني ... مهجتي منه على خطَرِ مالك رِقّي يعذّبني ... كم مليكٍ سيّئ الظّفَرِ ثمّ وقعت بيدي مجلّدة مقفّاة من شعره، فأوردت منها ما انتخبتُه. فمن ذلك قوله: أخيطُ ... بتخريقه ... وليس إلا فَيْشتي إبْرَهْ ومنه في وصف غلام هنديّ: أخضرُ هنديٌ لمَىً كلُّه ... والصّارمُ الهنديّ ذو خُضرَهْ مُهفهَفُ الأعطافِ ممشوقُها ... مُبلبَلُ الأصداغِ والطُرّهْ وله: قُم يا غلامُ فهاتِها ... حمراء فالتّفاحُ أحمَرْ قانٍ كخدِّك بين ريْ ... حانٍ كعارضِك المسَطّرْ فكأنّها والمزْجُ يُل ... بِسُ رأسَها إكليلَ جوهَرْ بدرُ الدُجى صاغت له ال ... أفلاكُ نجمَ الجوِّ مِغفَرْ وكأنّ كفَّ مديرِها ... من لونيَ القاني معَصْفَرْ وقوله من قصيدة: لعلّ الخيال العامريّ إذا سرى ... يدلّ عيونَ الهاشميّ على الكرى ويا ربِّ إن روّحتَ فكراً من الهوى ... فزِدْ نارَ قلبي حُرقةً وتسعُّرا وإنْ كان في وصلي المَلالةُ والقِلى ... فأوْحِ إليها الهجرَ ربّي لتهجُرا ومنها: وإنّ ضلالي فيك أهدى من الهُدى ... وإنّ سُهادي فيك أحلى من الكرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ودِدْتُ وما تُغْني الوَدادة والمُنى ... لو انّي أرى قلباً يُباعُ فيشترى وقوله من أخرى: أيّ السِّهامِ بدتْ لنا ... يومَ اللّوى تلك المحاجِرْ غَرْثى الوِشاحِ شَبيعةُ الت ... حْجالِ مُفعَمةُ المآزِرْ في العدلِ أنّك راقدٌ ... عنّي وأنّي فيك ساهِرْ ساروا بقلبي في الرّكا ... بِ وسائري في الإثرِ سائِرْ وقوله من قصيدة في المدح: عشِقَتْ شمائلَه الوزارةُ فاغتدت ... شوقاً إليه وعن سِواهُ تنفِرُ ويجلّ عنها قدرُه مع أنّها ... لَتَجلُّ قدراً عن سواهُ وتكبُرُ وقوله من أخرى: قولي بغير الذي أوليت من حسَنٍ ... كقول أهل العمى في الشّمسِ والقمرِ فالشمسُ إن جحَدَ الأعمى فضيلتَها ... فإنّما قولُه عن آفة البصَرِ وقوله من أخرى: يبلبلُ منّي العقلَ صُدغٌ مبَلبلٌ ... ويملِكُ مني القلبَ أغيدُ أسمرُ وقدٌ كغصنِ البانِ يهتزّ مائلاً ... وخصْرٌ على الرِّدْفِ الثّقيلِ مزنَّرُ وخدٌ أسيلٌ تحت صُدغٍ مشوّشٍ ... على طرسِه سطرٌ من الحسنِ أخضرُ وقوله: أعورٌ مثلُ ... ... لا تَرُمْ نيلَ خيرِه شيخُ سوء عجوزُه ... أبداً تحتَ غيرِه وقوله في وزير: المُلكُ راسلَه بأني مَحجِرٌ ... يا ناظري فمتى تحلّ المحْجِرا والدولةُ الغرّاءُ قالت إنّني ... عينٌ مسهّدةٌ وأنت لها كرى وزَر الوِزارةَ إذ سواهُ بذكرها ... أزرى وبالوزَرِ العظيمِ تأزّرا وقوله من أخرى في العِذار: إني خلعْتُ عِذاري ... على المليح العِذارِ جار العِذارُ على ورْ ... دِ خدّه بالجِوارِ بنفسَجٌ فارسيٌ ... بادٍ على جُلَنار وقوله: ولو أنّني استمدَدْتُ من ماء مُقلَتي ... لجاءتك كتبي وهْي حُمرٌ سُطورُها وكيف تُلامُ العينُ إن قطرتْ دماً ... وقد غابَ عنها نومُها وسرورُها وقوله من قصيدة في مدح مكرم بن العلاء بكرْمان: رحيبُ رِواقِ الحِلم يكفي اعتذارُه ... الى المذنبِ الجاني اختلاقَ المعاذرِ فليس وحاشاهُ لإحسانِ محسنٍ ... بناسٍ ولا للمُحفِظاتِ بذاكرِ وقوله من أخرى: كفاني عجزاً أن أُقيم على الصّدى ... وبحرُ النّدى في بُردَسِيرَ غزيرُ وأعشو الى نارِ اللئيم سفاهةً ... وبدرُ العلى بادي الضّياء مُنير وقوله من أخرى: وكم ميّتٍ قد صار في التُّرْب عظمُه ... تراهُ عِياناً بالأحاديثِ والذّكرِ ويا رُبّ حيٍّ ميتٌ لخُموله ... فسيّان ذاك القصرُ والقبرُ في الفخرِ وقوله من أخرى: رقّ النسيمُ وغنّتِ الأطيارُ ... وصفا المُدامُ وضجّتِ الأوتارُ وصغا السِّماك الى المغيب وقد بدا ... نجمُ الصّباحِ كأنّه دينارُ وكأنّما الجوزاءُ مِعصمُ قَينةٍ ... والكفّ كفٌ والهِلالُ سِوارُ فكأنّما زُهْرُ النّجوم فوارسٌ ... تبغي السِّباقَ لها الدُجى مِضمارُ يا حبّذا أثَلاتُ رامةَ إنّها ... كانت لياليَ كلّها أسحارُ ومنها: إن لم تكن وطني فلي برُبوعِها ... وطَرٌ وأوطانُ الفتى الأوطارُ لا ذنْبَ إلا للقلوبِ فإنّها ... تهوى وإنْ لم تعلَمِ الأبصارُ أهدى لنا نفَسُ الصَّبا أنفاسَكُم ... سحَراً فقلت عسى الصَّبا عطّارُ وتمايلت للسّكر باناتُ الحِمى ... حتى كأنّ نسيمَه خمّارُ الزاي، وقوله في المدح من أخرى: فتىً يهتزّ للإحسان ظَرْفاً ... ومن فعل الدّنايا يشمئزُّ أغرّ مُحسَّدُ العلياء ندْبٌ ... محَلُّ علائِه في الجِدّ نشْزُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 له رأيٌ كنصْلِ السّيفِ ماضٍ ... غدا في مفصِل الجُلّى يحُزُّ مُذِلٌ للثّراء بجودِ كفٍّ ... نداها للعلى أبداً مُعزُّ لوْ أنّ لي في كلّ عضوٍ فما ... فيه لسانٌ ناطقٌ موجزُ السين، وقوله من قصيدة: مغنى الصّبا مالي أراك دريا ... ولقد عهدتُك آهلاً مأنوسا ما راح دمعي في عِراصك مُطلَقاً ... حتى غدا قلبي بهن حَبيسا حملَتْ أهلّةُ مُهرةٍ من عامر ... يوم الكثيبِ أهلّةً وشُموسا غرَبَتْ بهم في غُرَّبٍ يا من رأى ... شمساً يكون غُروبُها تعبيسا يا حبّذا المتحمّلون عشيّةً ... من بطنِ وجرَةَ يُعمِلون العِيسا متبارياتٍ كالسِّهام فأصبحت ... مما أضرّ بها الدّروبُ قُؤوسا لا دَرُّ درُّكِ من قِلاص قلّصت ... ظلّ الهوى فغدا حِماهُ وطيسا فلقد صدَعتِ ببينهم كبِد الهوى ... ونكأتِ قرْحاً في الحشا لا يوسى للهِ ليلٌ بالحريم خلَستُه ... والحزمُ كوْني للسّرور خَلوسا فجلوتُ فيه على الهموم وطوّفتْ ... بابنِ المُنى بنتَ الكروم عروسا وشموس راحٍ في سماء الرّاحِ قد ... جعلت لنا أبراجهنّ كؤوسا وقوله من أخرى: فتاة جسمُها كالماء رطْبٌ ... ولكنْ قلبُها كالصّخرِ قاسِ وفَتْ وهْناً فوافت وصلَ صبٍّ ... سقيمٍ في الغرامِ بغيرِ آسِ وقوله: أريدُ من الأيّامِ تطبيبَها نفسي ... ولا روحَ للمحبوس ما دام في الحبسِ أمِنْتُ سِباعَ الوحشِ وهْيَ مَخوفةٌ ... وخِفتُ سِباع الإنس والشّرُّ في الإنسِ وقوله من أخرى: بدت غُرّةُ النّيروزِ باللهوِ والأنسِ ... فقُمْ نجْلُ بنتَ الدّنِّ حمراءَ كالورْسِ معتّقةً في دنِّها قيصريّة ... توارثَها قَسٌّ من الرّوم عن قسِّ ومنها: وحرٍّ من الفِتيان حلو موافق ... مليح الثّنايا غير غثٍّ ولا جِبسِ ذكيّ عليم بالزّمانِ وغدرِه ... كأنّ به للعلم ضرباً من المسِّ يبادرُ أحداثَ الليالي وجورَها ... ويستلبُ اللّذّاتِ بالنّهبِ والخلْسِ يقول دعوني أنهزْ فُرَص المُنى ... فوالله لا ذُقتُ المُدامةَ في رَمسي أنِستُ به لما رأيتُ خِلالهُ ... توافقني والأنسُ من عادة الإنسيّ ومنها: أيعلمُ دهري أنّني غيرُ خائفٍ ... رَدايَ وأنّي من حياتي في حبسِ أريدُ بحرصي راحةً وسلامةً ... من الشرِّ بين الناس والأمرُ بالعكسِ ولستُ بشاكٍ صرْفَ دهري وأهلَه ... ولكنّني أشكو الى الدّهر من نفسي وقوله في أصفهان: بلدٌ أبو الفتح اللّئيم عميدُه ... والقاسمُ بنُ الفضلِ قيلَ رئيسُه وظريفُه الكافي الطويلُ وعرضُه ... رثُّ الرِّداءِ كما عرَفت لَبيسُه ونقيسبُه التّيسُ الرِّضا متبَظْرِمٌ ... مع أنّه دنِسُ المحلّ خسيسُه وابنُ الخطيبيّ الصّغيرُ لحكمِه ... زللٌ وجُرْوُ المندويّ جليسُه والوقف في أيدي العُلوجِ وكلّهم ... قد زادَ من مال المصالح كيسُه وأنا وسلمانُ الأديبُ إمامنا ... وجميعُ من صقلَتْ نُهاه دُروسُه نبكي على الفضل الذي قد صوّحت ... بسقوطهم أفنانُه وغروسُه الشين، وقوله: بأبي أهيفُ مهضومُ الحشا ... مستعارُ اللّحْظ من عين الرّشا يُخجل الأقمارَ وجهاً إن بدا ... وغصونَ البنِ عِطفاً إن مشى ثمِلُ الأعطافِ من خمر الصِّبا ... منتشي الألحاظِ صاحٍ ما انتشى آنِسٌ بالناس غيري فإذا اس ... تأنستْ عينيَ منه استوحشا أيّها المعرِضُ عنّي عبثاً ... من وشى بي ليت شعري لا وشى سوف أرشو عنك قلبي فعسى ... يقبلُ المسكينُ في الحبّ الرُّشا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الصاد، وقوله من قصيدة: أنا في أصفهانَ في تنغيصِ ... بين سعر غالٍ وشعرٍ رخيصِ قد تحيّرتُ في عِيالٍ وفقرٍ ... وغَلاء وليس لي من مَحيصِ لا مُقامٌ ولا رحيلٌ وقد عُدْ ... تُ أسيراً كالطائر المقصوص ولو أنّ الطريق سهلٌ كما كا ... نَ لقرّبتُ للبِعاد قَلوصي ضِعتُ في أصفهان بين رجالٍ ... سِفَلٍ بالعموم لا بالخوصِ كالتّعاويذِ والتّصاوير ما في ... هِمْ من الناس غيرُ حُسن الشّخوصِ ومنها: عجباً للذي يشحُّ ولا يُنْ ... فِقُ حتى إذا رأى الموتَ يوصي ذاك بذلُ المُضطرِّ بالرُّغم لِمْ لَمْ ... يكُ في البذْلِ قبلَ ذا بحريص كل شيء يفْنى ويبقى لك الأج ... رُ وحُسْنُ الثّناءِ خيرُ قَنيصِ وقوله في الخمر: نسيمُها كالمِسكِ في نشرِه ... وجسمُها روحٌ بلا شخصِ لو جمَدَتْ في دنّها لحظة ... خرَطْتُ من جامدها فَصّي وأهيف كالبدرِ في تِمّهِ ... على عذاب الناس قد وُصّي قامتُه كالغُصن مهتزةٌ ... في كفَلٍ يرتجّ كالدّعصِ طُرّتُه ليلٌ على غُرةٍ ... نوريّة تلمعُ كالقُرصِ يقتصّ ممّن كان ذا عفّةٍ ... يقولُ قد أذنبتُ فاقتصِّ تورّعاً من أن يُرى ظالماً ... تورّعَ الكافي أبي النّقص وقوله من قصيدة: يا دهرُ ما ازداد اللئيمُ لينقُصا ... كلاّ ولا أغلى نُهاه ليرخُصا قد كنتُ أطمَعُ بالفضائل في العلى ... فالآنَ جُلّ مُناي أن أتخلّصا لو كنتُ أعلم أنّ فضليَ ناقصي ... ما كنتُ من سفَهٍ عليه لأحرِصا كالمِسكِ يُسحَقُ بالصّلاةِ لنشْرِه ... والعودِ يحْرَقُ للنّسيم مُمحّصا والظّبيُ لولا حُسنُه لم يُقتنَصْ ... والبومُ يؤمنُه القَضا أن يُقْنَصا ومنها في المدح: قاسوك جهلاً بالملوكِ وظالمٌ ... من قاسَ عُلويّ الكواكب بالحَصا واستكثروا لك ما بلغتَ وإنّني ... مستنزرٌ لك منْ أطاعَ ومن عصى قلّت لك الدُنيا فكن لكنوزِها ... مترقّباً ولمُلكِها متربّصا الضّاد، وقوله من قصيدة: أنت كلّ الفضل والإف ... ضالِ والعالمُ بعضُ وأنا اليومَ كما تع ... لَمُ في بسْطيَ قبْضُ ما لِعرقِ الرّزقِ إن لم ... يُجْرِه جاهُك نبْضُ وقوله في الحمى: عادت فزارت وسادي ... بعد الفراقِ البغيضَهْ صديقةُ المُتنبّي ... تلك الوَقاحُ الحَريضَهْ وجمشتْني وكانت ... ثيابُ نومي رَحيضَه وخلّفت في ضُلوعي ... ما في الجفون المريضَهْ الطاء، وقوله من قصيدة: يا حبّذا أهيفُ خَطُّ ... حُسنِه حُلو النّمَطْ حُلو الصِّبا في خدّه ... بالمسك والعنبر خطْ رطْبُ الصِّبا عذْبُ اللّمى ... حُلو الرِّضا مُرّ السّخَطْ كأنّ برقَ ثغرِه ال ... واضح سيفٌ مخترَطْ سطر كأن در ثغره ... عقد لآل في سقط سرّحهُ الحسنُ بأم ... شاطِ التّصابي ومشَطْ وصاغه اللهُ من ال ... جَمالِ شخصاً وخرَطْ لهفي على عيشٍ مضى ... على اقتراحي وفرَطْ فالآن نجمي راجعٌ ... محترقٌ بلْ قد هبَطْ ومنها: أنعِم ببسط العُذر لي ... فأنت أولى من بسَطْ وامنُنْ برسمي عاجلاً ... نقداً ففضلي قد قنَطْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 بين كِلاب جيَف ... أعراضُهم ذاتُ نُقَطْ ترى الأديبَ بينهم ... كاللّصّ ما بينَ الشُرَطْ وقوله من قصيدة طويلة، على وزن طائيّة المعرّي: سواءٌ دنا أحياء ميّة أم شطّوا ... إذا لم يكن وصلٌ فقربُهم شحطُ إذا كان حظّي منهُمُ حظّ ناظري ... تعلّلْتُ منهم بالظِّباء التي تعطو فكم نازحٍ أدناهُ حسنُ وِدادِه ... وإن لم تزَلْ أيدي المطيّ به تمطو ودانٍ أبانَ الهجرُ قربَ جوارِه ... وإن ضمّنا في مضجَعٍ واحدٍ مِرْطُ ومنها: حلَفْتُ بها تهوي على ثفِناتِها ... عوائمَ تطفو في السّراب وتنغطُّ لما ظلْتُ في جَرباذَقان لحاجةٍ ... سوى مدحِ علياه ولا اخترتها قطُّ لإنعامِه في كلّ جيدٍ بجودِه ... قلائدُ في جيدِ الزّمانِ لها سِمْطُ له راحةٌ في المحْلِ يهْمي سحابُها ... ببحرِ نوالٍ ما للجّتِه شطُّ ومنها في القلم: براحتِه العلياء أرقشُ ضامرٌ ... تُناسبُه في لينِه الرُّقْشُ والرُقْطُ يمجّ رُضاباً بالمنايا وبالمُنى ... ففي جبهة الأيامِ من خطّه خطُّ ومنها في الدّواة: وتغذوه أمٌ في حَشاها تضمّه ... ويظهرُ أحياناً وليس به ضغْطُ عجوزٌ لها في الزّنجِ أصلٌ ومحتِدٌ ... ولكنّما أولادُها الرّومُ والقِبطُ إذا اعتاضَ عن جرْيٍ من الأينِ راضَهُ ... فأصحب في ميدانِه الحزُّ والقَطُّ له في ميادينِ الطّروسِ إذا جرى ... صريرٌ كما للخيل في جريِها نحْطُ وقوله من قصيدة مرثيّة في عليّ بن الإمام محمد بن ثابت الخُجَنديّ: سِهام المنايا لا تطيشُ ولا تُخطي ... وحادي الليالي لا يجورُ ولا يُبطي أرى الدهر يُعطي ثمّ يرجعُ نادماً ... فيسلِبُ ما يولي ويأخذُ ما يعطي ويستدركُ الحسنى بكلّ إساءةٍ ... كما استدرك التّفريطَ والغلطَ المُخطي ويختار للجهل الطّبيبَ تعللاً ... ويستفرغُ الأدواءَ بالفَصْد والسّعطِ ويجتابُ سرْدَ السابريّ وإنّه ... إذا ما رمى رامي المقادير كالمِرْطِ كأنّا ثمارٌ للزمانِ فكفُّه ... تعيث فتجني بالحصادِ وباللّقْطِ أفي قلبه حِقدٌ علينا ففتكُه ... بنا فتْكُ موتورٍ من الغيظِ مشتطِّ وما الكونُ إلا للفسادِ وإنّما ... حياتي كموتي كالجزاء مع الشّرطِ كذاك تمامُ البدرِ أصلَ محاقِه ... يكونُ وإشراقُ الكواكب للهَبطِ كوصل الفتاة الرّؤدِ للهجْر والقِلى ... يكون وقرب الدّار للبعد والشّحطِ وقد قيل إنّ النفسَ تبقى لأنّها ... بسيطٌ وما التّركيبُ إلا من البسطِ ستُفني المنايا كلّ شيء فلا تُرَعْ ... بما زخرفوا من نقطةٍ لك أو خطِّ فلا بدّ للموت المقيت وإن أبوا ... مقالك فيها من نصيب ومن قِسط أبى اللهُ أن يبقى سواهُ لحكمةٍ ... رآها وأقسامٍ تجِلّ عن القِسطِ فما لك تستدني المَنونَ جَهالةً ... ببيض الظُّبا مشحوذةً وقَنا الخطِّ لعلّك تستبطي حِمامَك شيّقاً ... رُويداً ستستوحي الذي كنت تستبطي عرفتُك يا دنيايَ بالغدر والأذى ... فما أنتِ من شأني ولا أنت من شرطي وقوله من قصيدة أخرى: الحِقفُ في مئزَرِه إن مشى ... والغُصُن الرّيانُ في المِرطِ أسخنُ من عيني على أنّه ... أضيقُ من رزقي ومن قِسطي زار وقد شاب عِذارُ الدُجى ... ودبّ فيه الصبحُ بالوخْطِ وقوله من قصيدة أخرى: من يَديْ أهيفِ الشّمائل بالخا ... لِ له نونُ صُدغِه منقوطُ يتثنّى سكرانَ من خمرة التّي ... هِ كما مال في النّسيم الخوطُ ومنها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 أسرفوا في الذّنوب فالله يعفو ... إنّ شرّ الورى اليَؤوسُ القَنوط وكذا الرّزقُ من يَديْ أسعدَ المس ... عودِ ظلٌ على الورى مبسوطُ كفّهُ للنّدى كما عِرضُه الطّا ... هرُ للمدحِ والثّناءِ ربيطُ وإذا غيرُه أبى المجدَ كسلا ... ناً أتاهُ جذلانَ وهْو نشيطُ لم أخَلْ قبل ربعِه أنّ ربعاً ... فيه بدرٌ زاهٍ وبحرٌ مُحيطُ لو بآرائِه الكواكبُ سارت ... لم يعُقْها وجوعُها والهبوطُ وقوله من أخرى: قد كانت الأرزاق محبوسةً ... فردّها بالجود منشوطَهْ له يدٌ في الشرّ مقبوضة ... وأختُها في الخيرِ مبسوطَهْ ومنها في الغزل: مبلبَلُ الطّرّةِ أصداغُه ... نوناتُها بالخالِ منقوطَهْ إذا بدا واختالَ قدّرتَه ... من حسنه بدراً على خوطَهْ الظّاء، وقوله: كبّرْ على الكلّ إذا لم يكن ... لي منهمُ معْ جودِهِم حظُّ ما نافعي رِقّةُ أخلاقِهم ... وقلبُ دهري يابسٌ فَظُّ وعظتُهم في النّثر لكنّهم ... ما هزّهم للكرم الوعْظُ العين، وقوله من قصيدة في نظام الملك: وأورَقَ أيكيٍّ من الطّير موجَعٍ ... بساعده شكْوٌ من الإنس موجِعُ سهرتُ له ليلَ التّمام فلم يزلْ ... الى أن تفرّى الصبحُ أبكي ويسجَعُ شَدا طرَباً أو ناح شجْواً ومُقلتي ... على كل حالٍ دون جفنَيْهِ تدمَعُ أعِدْ فكِلانا بالغصونِ متيّمٌ ... له كبدٌ حرّى وقلبٌ مفجّعُ وقود براها السّبرُ حتى تشابهت ... وأرسانَها مما تخبّ وتوضِعُ بأشلاءِ أسفارٍ كأنّ وجوهَهُم ... بلفح الحصا قطعٌ من الليل أسفعُ سهامُ حَنايا ناحلاتٍ رمت بهم ... مطامعُ في قوس المقاديرِ تَنزِعُ نَشاوَى على الأكوار من بين ساجدٍ ... ومُستمسك في رحله باتَ يركَعُ إذا ما ونتْ خوصُ النجائبِ تحتَهمْ ... حدَوْها بأوصافِ الرّضيّ فتُسرِعُ ومنها: ووجهُ العُلى في هالةِ الدّستِ ضاحكٌ ... وثغرُ المُنى في أوجهِ المدح يلمعُ وماءُ الندى للحائمين مصفّقٌ ... وروضُ الغِنى للشاتمين موسّعُ ومن قوله فيه: ما على الرّكب إن سمحْتُ بدمعي ... في رُبوع بين اللّوى والجِزعِ وعلامَ المَلامُ والقلبُ قلبي ... وغرامي الغرامُ والدّمعُ دمعي يا عذولي إليك عني فإني ... منك أدرى بوجهِ ضُرّي ونفعي كيف أصغي للّوم والحبّ قد ... سدّ بوقرِ الغرامِ طرْفي وسمعي هذه سُنّة الهوى لستُ فيما ... جئتُه من هوى الدّيار ببِدْعِ وله من أخرى في وصف القلم: في كفّه من اليرا ... ع ذابلٌ مزعزِعُ روعُ الزّمان أبداً ... من وقعه مروّعُ إذا انبرى لحادثٍ ... فهْوَ سنانٌ مشْرَعُ ليْنُ المجسِّ قاتلٌ ... والصِّلُّ ليْنٌ يلسعُ أخرسُ إلا أنّه ... في إصبعَيْهِ مصقَعُ فكم لسانٍ ناطقٍ ... أفصحُ منه إصبَعُ يعلمُ الورْقاءَ في ال ... أغصان كيف تسجَعُ وله: بأبي وجهُك ما أحسنَهُ ... كيفما دُرت به درتُ معهْ هو شمسٌ وأنا حِرباؤه ... فلذا أقبل وجهي مطلَعَهْ وقوله: لو قيل لي ما تمنّى ... لقلتُ قلبٌ قَنوعُ ومسكنٌ وفتاةٌ ... فيها تُقىً وخُشوعُ وقوله: ما كنت أعرفُ قدرَ أي ... امي ذهبَتْ ضَياعا حتى فجعتُ بها ولم ... أسطِع لذاهبها ارتجاعا ومن قصيدة أخرى: الحزنُ حزني والضّلوع ضلوعي ... والجفنُ جَفني والدّموعُ دموعي فعلام يعذلني على برْح الهوى ... من لا يقومُ نزاعُه بنُزوعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 ولعَ الفراقُ بشمْلنا ولعَ الهوى ... بقلوبنا وبمن أحبّ وَلوعي ولقد أُراني للعواذلِ عاصياً ... أبداً لنهْي نُهاي غيرَ مُطيعِ أودعتهم بالكُره إذ ودّعتُهم ... حُسن العزاء عشيّةَ التّوديعِ ووجدتُ حزنَ الحزنِ سهلاً بعدهمْ ... ومنيعَ فيض الدّمع غيرَ منيعِ وأذبتُ يوم الجِزعِ جزْعَ مدامعي ... جزَعاً ولم أكُ قبلَه بجَزوعِ سار الجميعُ فسار بعضي إثرَهُ ... وودِدتُ أنْ لو كان سار جميعي يا بانُ هل بان الصّباحُ فإنّني ... مُذْ بان بتُّ بليلة الملسوعِ زُمّا المطيّ عن الطّلول فإنّها ... بخلَتْ بردِّ جوابها المسموعِ لسفهتُ نفسي إذ سألتُ رُبوعَها ... عن ظاعنٍ مغْناهُ بين ضلوعي ما أنصفتك بذي الأراكِ حمامةٌ ... أبدت سرائرَ قلبِك المفجوعِ أبكي دماً وبكنِّها مكنونة ... لكنّها تبكي بغيرِ دُموع هيهاتَ لست من البكاء وإنّما ... هذا الغناءُ لشملِك المجموعِ ولكيْفَ يُنصِفُك الحمامُ وربّما ... جار الحميمُ عليك بالتّقريعِ لا ذنب عندي للزّمان فإنّه ... ما حالَ عن حالٍ يروّعُ روعي هو طبعُه ولضَلّ رأيُ معاتِبٍ ... يرجو انتقالَ طبيعةِ المطبوعِ وقوله من قصيدة: يبيتُ في كفّها تُشَمرِخُه ... تحُطّه تارةً وترفعُه كالطفل في حِجرها ترقّصُه ... تشبُرُه تارة وتذرَعُه لكنّه المرْدراك يُرضِعُها ال ... دّرّ وأمّ الصبيّ ترضِعُهُ وقوله من قصيدة: يُنشدني أشعارَه دائباً ... وشعرُهُ من طيبِه مُتعَهْ أضحكُ منه عند إنشادِه ... لأنّه ينطِقُ من قرْعَهْ وقوله من قصيدة: إحذَرْ جليسَ السّوء والبَسْ دونَه ... ثوبَ التّقيّة جاهداً وتدرّعِ لا تحقِرْنَ لين العدوّ فربّما ... قتل الكميَّ النّدبَ لينُ المِبضَعِ والصدقُ أسلمُ فاتخذْهُ جُنّة ... فالكذْبُ يفضَحُ ربَّهُ في المجمعِ والكذبُ شَينٌ فاجتنبْه دائماً ... والبغيُ فاحذَرْهُ وخيمُ المصرعِ حدّثهُم إن أمسكوا فإذا هُمُ ... ذكروا الحديثَ فأصغِ جُهدَك واسمَعِ وإذا هُمُ سألوا النّوالَ فأعطِهمْ ... وإذا هُمُ لم يسألوا فتبرّعِ لا تحرصنّ فإنّ حرصَك باطلٌ ... واصرِفْ بعزِّ اليأسِ ذُلّ المطمعِ ولقد تعبْتُ وما ظفرتُ وكم أتى ... ظفرٌ عقيبَ ترَفُّهٍ وتودُّعِ ولكم توقّعتُ الغِنى فحُرمتُه ... ولَقيتُه من حيثُ لم أتوقّعِ وقوله من قصيدة مرثية: أبني الأماني اللائذاتِ بجوده ... موتوا فقد ماتَ الأغرّ الأروعُ غاض النّدى مات العُلى ذهب النّهى ... هلك الوَرى ضاق الفضاءُ الأوسعُ عجَباً وأحوالُ الزّمانِ عجيبةٌ ... لفؤادِ دهرِك كيف لا يتصدّعُ ولشمسِ جوّك كيف لم تكسَفْ جوىً ... بل كيفَ بعدَ أبي الفوارس تطلُعُ ولحفرةٍ ضمّت مهذّبَ جسمِه ال ... قُدسيّ كيفَ الى العلى لا تُرفعُ أتضيقُ عنك الأرضُ وهيَ فسيحةٌ ... وتضمُّ جسمكَ بعد موتِك أذرُعُ فسقاك غيثٌ مثلُ جودِك صيّبٌ ... أبدَ الزّمانِ وديمةٌ ما تُقلِعُ فالدّهرُ بعدَك عاطلٌ من حلْيِه ... مستوحشٌ من أهله متفزِّعُ وقوله من مدح الشيخ الإمام أبي إسحاق، رحمه الله: هذه سُنّةُ أبناءِ النُهى ... لستُ فيما جئتُه مبتدعا أيّ صبٍّ لم يؤرّقْ جفنَه ... خفَقانُ البرقِ لما طلَعا أنشُدا قلبي بجَرعاء الحِمى ... فيها خلّفْتُه منقطعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ضاع بين الحدَقِ النّجلِ وكم ... قلبِ صبٍّ عندها قد ضُيِّعا الغين، وقوله في ذمّ المعلمين: ولكنّ المعلّمَ ذقنُ سُرمٍ ... خفيفُ الرأسِ ليس له دِماغُ وقد دُبِغت رؤوسُهم فأضحت ... نواشفَ قد تحيّفها الدّباغُ وما إنْ كان فيها قطّ شيءٌ ... فكيف تقول أدركها الفراغُ فما لعلوِّ مثلهِمُ مجازٌ ... ولا لنَفاقِ فضلِهمُ مساغُ وقد صيغوا من الحُمق المنقّى ... ففيهم كلُّ فاحشةٍ تُصاغُ وقوله في ذمّ الرّيّ: الرّيُّ دارٌ فارغَهْ ... لها ظِلالٌ سابغَهْ على تُيوسٍ ما لهم ... في المكرُماتِ بازغهْ لا ينفُقُ الشّعرُ بها ... ولو أتاها النّابغَهْ وقوله: قد قلتُ للشيخ الرّئيس الذي ... تُعْزى إليه الحكمة البالغهْ إن علوماً كنتَ أوضحتَها ... لنا بتلك الحجّة الدّامغهْ كادتْ تُضاهي الوحيَ لكنّها ... قد أُنزلت عن غرفة فارغهْ الفاء، وقوله من كلمة: وربّ فتاةٍ كرِئْمِ الصّري ... م يُسكرُ مَنْ راءَها طرفُها إذا رام قرنانُها كفّها ... تحكّم في رأسِه كفُّها سقتني بريقتها خمرةً ... يطيبُ لشاربِها صِرفُها فما ظبيةٌ من ظِباءِ العقي ... قِ ضلّ بذات الأضا خشفُها بأملحَ منها إذا ما رنت ... مدلّهةً قد سجا طرفُها ولا بانةٌ رنّحَتها الصّبا ... وهزّ ذوائبَها عصفُها بأحسنَ من قدّها قامةً ... إذا اهتزّ في مشيها عِطُفها تجلّ عن النّعت أخلاقُها ال ... حِسانُ ويُتعِبُني وصفُها كنظم مناقبِ تاج الملو ... كِ أصبح يُعجزُني رصْفُها وفيُّ العهودِ صَدوقُ الوعو ... دِ لا يتأتّى له خُلفُها وشمسُ عُلىً دائمٌ نورُها ... وإشراقُها لا يُرى كسْفُها إذا ما النّوائبُ حاولْنَه ... يصرَّفُ عن أمره صرفُها وإن أجلبتْ حادثاتُ الزّما ... ن فأهونُ ما عندَه صرْفُها خلائقُ كالماءِ معسولةٌ ... بل الرّاحُ ناسبَها لُطفُها وقوله من قصيدة: كأنّ غديرَ الماءِ جوشَنُ فِضّةٍ ... من السّردِ محبوكٌ عليها مُضاعفُ ومنها: يجورُ على العشّاق في الحكم مثلما ... تجورُ على تلك الخُصور الرّوادفُ ومنها في المدح: كأنّ رؤوس الصِّيد في ساحة الوغى ... هَبيدٌ له السيفُ الشِّهابيّ ناقفُ كأنّ رِماح الحظّ أقلامُ كاتبٍ ... براحة بدرٍ والقلوبُ معارفُ ويومٍ كأنّ النّقْعَ فيه ستائرٌ ... له وصليلُ المُرهَفاتِ معازفُ فيا فلَكاً بالخير والشرّ دائراً ... ويا ملِكاً في راحتيه العوارفُ وصفْتُك فاعذُرني على طاقتي ... وإنّك حقاً فوقَ ما أنا واصفُ ولما انتقدتُ الناسَ جمعاً نبذْتُهم ... كما نبذَ الفَلسَ الرّديءَ الصّيارفُ ولم أرضَ إلا القاسميّ لمقصِدي ... فتىً عندَه ظلُّ المكارمِ وارفُ ومن قوله في قصيدة: إنما المالُ منتهى أملِ الخا ... مِلِ والودُّ مطلبُ الأشراف لا أحبّ الفِجَّ الثّقيلَ ولو جا ... دَ ببذلِ المِئِينَ والآلافِ وأحبّ الفتى يهَشُّ الى الضّيْ ... فِ بأخلاقه العِذاب اللِّطافِ أريحيّاً طلْقَ المُحيّا حَييّاً ... ماءُ أخلاقِه من الكبرِ صافِ ولو انّي لم أحظَ منه بغير ال ... بِشر شيئاً لكان فوقَ الكافي ومن قوله: ومدلّلٍ دقّتْ محا ... سنُ وجهِه عن أنْ تكيَّفْ تركَ التصنُّعَ للجما ... ل فكان أظرفَ للتظرُّفْ لو أنّ وجهَ البدر يُش ... بِهُ وجهَهُ ما كان يُكْسَفْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الصُّدغُ مسكٌ والثّنا ... يا لؤلؤٌ والرّيق قرْقفْ والوردُ من وجَناته ... بأنامِلِ الألحاظ يُقطَفْ وقوله من قصيدة كتبها الى أبي الحسن ابن التّلميذ في مرضه: زعموا لي أنّ نفسي درّةٌ ... تُعجِزُ الوصفَ وجسمي صدَفَهْ وأنا واللهِ ما أعرفُها ... ليس في الأخلاق مثلُ النّصَفَهْ إنّما أعرفُ جسمي وحدَه ... وأرى أعضاءَهُ المؤتلفَهْ آه منّي أعمُرُ الحبسَ الذي ... هو لا شكّ لنفسي مَتْلَفَهْ يا بني التّلميذِ لو وافيتكُمْ ... لم تكن نفسي بأهلي شغِفَهْ إنّما أطلقتُ كَرمانَ بكم ... إنّكم لي عِوَضٌ ما أشرفَهْ ومن أخرى: ويا دهرُ لقد جُرْتَ ... الى النّكرِ عن العُرْفِ الى كم تنقُلُ الدوْل ... ةَ من جِلفٍ الى جِلفِ وقوله في بغداد: بغداد دارٌ رياضُها أنفُ ... والغيثُ في عُنفوانه يكِفُ ومع تصاريفِ طيبِ لذّتِها ... مُقامُ مثلي بمثلها شرَفُ إذ كلّ من حلّها وأُوطِنَها ... جواهرٌ عندَ كسرِها خزَفُ وإن رأيت الثّيابَ رائقةً ... فتلك دُرٌ في جوفها صدَفُ القاف، وقوله من قصيدة في مدح تاج الملك، وقد عاد الى الوزاة وخلص من النّكبة: لو أُعطيَ الدّسْتُ لساناً فنطقْ ... لقال: تاجُ الملكِ بي منكم أحقّ الآن قرّت عينُه ولم تزلْ ... مقسومةً بين البكاءِ والأرَقْ بعَودِ مولانا وهل من نعمة ... أكثرُ من خلاصِه مما طرَقْ جلا ظلامَ الخطْبِ نورُ رأيِه ... ووجهه كما جلا البدرُ الغسَقْ وكان في بحر الخطوب عائماً ... لا يختشي كالدُرِّ لا يخشى الغرَقْ كأنّه الدينارُ في النار إذا ... زادت لظىً زادَ صفاءً وبرَقْ والعودُ بالإحراق يبدو عرْفُه ... والمسكُ أذكى عبَقاً إذا سُحِقْ والسيفُ لولا مِدوسُ الصّيقلِ ما ... جذّ الرِّقابَ حدُّهُ ولا ذلِقْ ومنها: ما كان حبساً ذاك بل صيانةً ... والصّونُ للشيء النّفيسِ مستحقّ أمنكَرٌ صونُ الضّلوع القلبَ أم ... مستبدَعٌ صونُ الجفونِ للحدَقْ لولا سرارُ البدرِ ما تمّ فهل ... يؤيسُ من تمامه إذا امّحقْ وقد يُصانُ السّيفُ بالغِمدِ وقد ... يغيبُ عُلويُّ النّجومِ في الشّفقْ وقوله رداً علي من يقول إنّ السّفر، به يبلَغُ الوطَر: قالوا أقمتَ وما رُزقتَ وإنّما ... بالسّير يكتسبُ اللّبيبُ ويُرزقُ فأجبتُهم ما كلّ سيرٍ نافعاً ... الخطّ ينفعُ لا الرّحيلُ المُقلِقُ كم سفرةٍ نفعت وأخرى مثلها ... ضرّت ويكتسبُ الحريصُ ويُخفِقُ كالبدرِ يكتسبُ الكمالَ بسيره ... وبه إذا حُرِمَ السّعادةَ يُمحَقُ وقوله من قصيدة: سارَ يبغي باللُّها مُدّاحَهُ ... مُنجِداً عاماً وعاماً مُعرِقا لم يكلّفهم إليهِ رحلةً ... إنّ خيرَ الماءِ لا يستقَى فترى البُردَ الى مُدّاحِه ... بنَداهُ ولُهاهُ حِزَقا وقوله وهو مريض مرض موته: لم يبق من نفسي سوى نفَسٍ ... فانٍ ومن شمسي سوى فلَقِ جسدي الذي لعبَ السّقامُ به ... حركاتُه حركاتُ مختنقِ لم تتركِ الأسقامُ في بدني ال ... مسكين مُعتَرَقاً لمُعترِقِ فلقد طلبْتُ الصّبرَ محتمِلاً ... ما بي من البلوى فلم أُطِقِ يا عائدي والنّصْحُ من خُلُقي ... لا تدْنُ من نفَسي فتحترق وقوله: لهفي على بغدادَ دارِ الهوى ... فإنّني من حُبّها ما أفيقْ وكلّ وجهٍ مثلِ شمسِ الضُحى ... فوقَ قوامٍ مثلِ غصنٍ رشيقْ وكلّ رِدفٍ وافرٍ وارمٍ ... يحمِلُه بالظّلمِ خصرٌ دقيقْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وكل لفظٍ طيبٍ ممتعٍ ... يُسكرُ من قبلِ كؤوسِ الرّحيقْ ما شئتَ من دلٍّ ومن منظرٍ ... زاهٍ ومن حُسنٍ وطيبٍ وضيقْ ذات حِرٍ كالقَعْب في حَقْوها ... مقبّبٍ صُلبٍ نتيفٍ حليقْ ناشفة المدخلِ ما يغتدي ... في باب حِرْها ... إلا يُريقْ وقوله: سرى والليلُ ممتدُّ الرِّواق ... وحادي النجم محلولُ النِّطاقِ ومنها: خيالٌ في الظلام أتى خَيالا ... كِلا جسميهِما نِضوُ اشتياقِ فذادَهما الدموعُ عن التّشاكي ... وصدّهما النّحولُ عن العِناقِ ولو لم يُطفئا بالدّمع ناراً ... من الزّفرات هَمّا باحتراقِ كأنّ بوادرَ العبَراتِ خيلٌ ... مضمّرةٌ تَجارَى في السّباقِ ولم يستمتعا بالوصل حتى ... أنار الفجرُ يؤذِنُ بالفراقِ كأنّهما أنا وفتى سعيد ... أبو حزم تمنّينا التّلاقي وقوله: ملكتم القلبَ فلا تُعتِقوا ... واسطوا ولا تُبقوا ولا تَرفُقوا وحرّموا النّومَ على مُقلتي ال ... عَبْرى ووصّوا الطيفَ لا يطرُقُ وصدّقوا الواشي على علمكم ... بأنّه إنْ قال لا يصدُقُ فإنّني ما خُضتُ بحرَ الهوى ... مع اعتقادي أنّه مُغرِقُ إلا فِراراً من فؤادي الذي ... في كل يومٍ بالهوى يعلَقُ قد جرّب العشقَ وما ينتهي ... منه فيا لله كم يعشَقُ ولم يكنْ أوّلَ ذي حرفةٍ ... يسعى الى الرّزق ولا يُرْزَقُ وله: وجهي يرقُّ عن السؤا ... لِ وحالتي منه أرقُّ دقّت معاني الفضلِ فيّ ... وحِرفتي منه أدقُّ الكاف، وقوله: لكنّ دون الخبزِ في داره ... وقائعَ الدّيلم والتُرْكِ رغيفُه اليابسُ في جيبه ... كأنّه نافجةُ المِسكِ يرى صِيامَ الضّيفِ في بيته ... نُسْكاً ومن يزهَدُ في النُسكِ وصونَهُ اللّقمةَ دِيناً له ... وبذلَهُ شِرْكاً من الشِّركِ يوَدُّ من خِسّته أنّه ... أمسى بلا ضِرسٍ ولا فكِّ وقوله في الكافي الأصفهاني: غُلامُ زيدٍ شريكُهْ ... في عِرسِه ومليكُهْ ... زوجةَ زيدٍ ... لأنّ زيداً ... يكتالُ ما اكتال منه ... و ... مَكّوكُهْ وقوله في غلام أسود، اسمه مختصّ: أيا مَنْ حُبّهُ نُسكُ ... ومن قلبي له مِلْكُ ومن قلتُ لعُذّالي ... وزرْعُ العذْلِ لا يزكو رأيتم قبلَ مختصٍّ ... غزالاً كلّهُ مسكُ ترفّقْ بي أوِ اقتُلني ... فإني منك لا أشكو اللام، وقوله من قصيدة هزليّة: إني بحبّ الجبالِ بعتُ كما ... تعلمُ أرضَ العراق بالجبل مصارعُ العاشقينَ أكثر ما ... تكون بين العِذار والكفَلِ أحبّ بانَ القدودِ تعطِفُه ... صَبا الصِّبا بالغُدوِّ والأُصُلِ وكلّ طَفلٍ كأنّ غُرّته الشّم ... سُ أنارت من كِلّة الطّفَلِ مبلبلِ الصُدغِ وردُ وجنتِه ... أحمرُ من قبلِ حمرةِ الخجلِ ووجهُه البدرُ تحت طُرّته ... يبدو كصبحٍ بالليلِ مشتمِلِ وقوله: قد ضِعت في جَيٍّ لدى عُصبةٍ ... قِدري على أعراضهم تغْلي أصونُ سَلْحي عن لِحاهُم كما ... أُجِلّ عن آذانهم نعلي قالوا اهجُهُمْ قلت ومنْ ذا الذي ... يفسو على خرية منحلّ لا يشترونَ الفضلَ من جهلهم ... لأنهم عُميٌ عن الفضلِ من كلّ تيسٍ خرِفٍ باردٍ ... ثيابُه غِمدٌ بلا نصْلِ ومنها: ما صُغتُ فيك المدحَ لكنّني ... من حسن أوصافِك أستملي تُملي سَجاياك على خاطري ... فها أنا أكتُب ما تُملي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وله من قصيدة على قافيتين ووزنين: واخلَعْ عِذارَك في عِذارِ مُهفهَفٍ مثلِ القضيبِالنّاعمِ المتمايلِ أطِعِ الهوى واعْصِ النُهىوشرَبْ على وجه الحبيبِوروضِهِ المتكاملِ إهزِلْ فقد هزَلَ الزّمانُ وجدّ في حرب الأديبِمع الزمانِ الهازلِ ومنها: هي أصفهانُ وجنّةُ الفِردوسِ في حسنٍ وطيبِللخليعِ الفاعلِ حورٌ ووِلدانٌ ومانهواه من عِلقٍ غريبِكالغزالِ الخاذلِ قال اتّئدِ فلقد أشرْتَ عليّ بالرّأي المصيبِورُبّ رأيٍ فائِلِ لكنْ غلِطتُ وليس يأمَنُ عاقلٌ غلَطَ الأريبِالكيّسِ المتغافلِ لا يبذُلون متاعَهُمْإلا لمِتلافٍ وَهوبِللرّغائبِ باذلِ بالعين يصطادُ الظّباءَ العِينَ في تلك الدّروبِولا اصطادَ الباخلِ وأنا خفيفُ الكِيسِ فيأسر الحوادثِ والخطوبِحليفُ همٍّ شاغلِ أُضحي وأمسي طاوياً ... للضُرِّ في مرعىً جَديبِ: من رُباها ماحلِ سعري وشعري عندهمولديهمُ أعلى الذّنوبِوذاك جُلّ وسائلي قلت البشارةُ لي عليك فقد خلَصت من الكروبوكلِّ شغلٍ شاغلِ أعطاك صرْفُ الدهرِ منإحسانِه أوفى نصيبِبعدَ مَطْلِ الماطِلِ بنَدى الرّئيس أبي المكارِمِ سوف تظفَرُ عن قريبِبالنّدى والنّائل ندْب يُزيلُ بجودِهوسماحِه كلَّ النّدوبِعن النّزيل السّائل فجبينُه من بِشرِهكالبدرِ في فلكِ الجنوبأو الهلال الكاملِ ترْعى المدائحُ عندَهولدَيْه في مرْعىً خصيبِبالمكارمِ آهِلِ وقوله من قصيدة: جهَرْت وقلت للسّاقي أدِرْها ... فقد عزَم الظّلام على الزِّيالِ وقد ثمِلتْ غصونُ البانِ سكراً ... وغنّى الطيرُ حالاً بعدَ حالِ وأذّن للصّلاةِ وجاوبته ... نواقيسُ النّصارى في القَلالي وطابَ الوقتُ فازفُفْها عروساً ... تريدُ صِبا على هرَم اللّيالي سقانيها هَضيمُ الكشحِ طَفلٌ ... رخيمُ الحسن محبوبُ الدّلالِ أغنُّ مهفهفُ الأعطافِ يثني ... عقولَ الناسِ طُرّاً في عِقال على شكوى هوىً ونوىً ووجْدٍ ... وتجميشٍ وميْلٍ واعتدالِ شربت مع الغزالة والغزالِ ... جِهاراً قهوةً كدمِ الغزالِ وقوله من أخرى: ومجدولةٍ جدْلَ العِنان إذا رنت ... أقرّت لها في صنعة السِّحرِ بابلُ مهفهفة الأعطافِ لا الغصنُ مائسٌ ... إذا خطرتْ دَلاً ولا البدرُ كاملُ وقوله: عذْبُ اللّمى خنِثُ الصِّبا ... كالبدرِ في حُلَل الكمالِ نشوانُ من خمرِ الصِّبا ... ريّانُ من ماءِ الدّلالِ أنّى بدا قابلتُه ... من عن يمينٍ أو شمالِ فكأنّني الحِرباءُ وهْ ... وَالشمسُ جَلّ عن المثالِ وقوله: يا عاذلي كُفّ عن العذلِ ... واعدِلْ من الجورِ الى العدلِ قلبي أو قلبُك يلقَى الأذى ... وعقلُك الذاهبُ أو عقلي إني ل ... عابدٌ تابعٌ ... يخدُم بعضي في الهوى كلّي وكلّ لحظٍ فاتنٍ فاترٍ ... أكحلَ مستغنٍ عن الكُحلِ وكلّ خدٍّ أسمرٍ أحمرٍ ... عِذارُه كالماءِ في النّصلِ أعسرُ من رزقي ومن قصّتي ... معْ سيّدي الشيخ أبي الفضل وقوله: ما مُنِح الإنسانُ من دهره ... موهبةً أسنى من العقلِ يؤنسُه إنْ ملّهُ صاحبٌ ... فهو على الوحدة في أهلِ ما ضرّهُ عندي ولا عابَهُ ... إنْ غلَبَتْهُ دولةُ الجهلِ الأمير مجد العرب مُصطفى الدولة أبو فراس علي بن محمد بن غالب العامري شاعر مبرّز محقّق، وله خاطر معجِزُ مُفلق. هو الدّاهية الدّهيا، وأعجوبة الدنيا، وله العزّة القَعساء والغُرة الزهراء، والرتبة الشّمّاء. يصبّ الشعر في قالب السحر، ويباهي الفضلاء بالنّظم والنّثر، ويصوغه في أسلوب غري، ويمّهده في قانون عجي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 له اليد البيضاء في استخراج جواهر الأفكار من بحار الخواطر، والقدم الرّاسخة في اختراع معانٍ هي على فلَك الفضل بمنزلة النّجوم الزّواهر. كلماته متوافقة المعنى واللفظ، مستوفية من الحسن أكمل الحظّ. بدرٌ طالع من ديار بكر، وبحر طامٍ على كل بحر. إن جال في مِضمار القريض، وجرى في ميدانه الطّويل العريض، أفحم أبا الطيّب وأبا تمّام، وردّ عقودهم واهية النِّظام. ينسج على مِنوال أبي فراس، ويكنى بأبي فراس. قال في حقّه بعض شعراء أصفهان من قطعة: فأشعارُ الأمير أبي فراسٍ ... كأشعارِ الأمير أبي فراسِ هو في الطبع والمنشأ شاميّ، وفي النّظم والنشيد تِهاميّ، ومولده عراقيّ. قدم في شهور سنة سبع وثلاثين وخمس مئة أصفهان، وكان مقيماً بها الى سنة ثمان وأربعين، وانثالت التّلامذة عليه، ومالت أعناق المستفيدين إليه، ومدح بقصائده الصّدور، وشرح بفوائده الصّدور. ضاع بها عَرْفُه، ولكن ضاع فيها عُرفُه؛ فإنّه غير مجدود بفضله، وكذا الزمان غدّار بمثله، والحُرّ فيه مضيّع، والكريم مودَّع. لقيته يوماً بالجامع، في بعض المجامع، ضيّقَ الصّدر، متوزّعَ الفكر، مُطرقاً رأسه، مصعّداً أنفاسه. فسألته عن حاله، فأنشدني ما ذكر أنّه من مقاله: هجَرتُ للعُدم كلّ خِدْنٍ ... وصرتُ للإنقباض خِدنا فلا أعزّي ولا أُعَزّى ... ولا أهنّي ولا أهنّى وكان أملى ديوان على الأخ الهمام، الأجلّ الإمام، فخر الدّين نجيب الإسلام، محمد بن مسعود القسّام، الذي هو باكورة العصر، في النّظم والنّثر. فكتبَه، وجمعه، ورتّبه. وقصائده التي أنشأها بالشام أجزل وأحسن مما أنشأه بالعراق. وقِدْماً قيل: اللَها تفتَه اللَّها، والبِقاع تغيّر الطباع. وديوانه ضخم الحجم. لكنّي اخترت منه قصائد، وإن كان الكل فرائد. ولما وصلت الى الشام، لقيته بالموصل، وقد غيّر زِيّه، وهو يلبس الأتراك، جليس الأملاك، قريباً من صاحبها بعيداً من مذهب النّسّاك. وآخر عهدي به سنة سبعين. فمن شاميّاته: قال يمدح الأمير حسام الدين، تاج الدولة، قطب الملوك، أبا سعيد تمرتاش بن إيل غازي بن أرْتَق؛ ويذكر ظفره بالفرنج بعد عوده من الشّام، وأنشدها إياه بماردين في شوّال سنة أربع وثلاثين وخمس مئة: أطاعك فيما ساءَ حاسدَك الدهرُ ... ووالاك ما عادى مُعاديك العمرُ ولا استعرتْ إلا بحملاتك الوغى ... ولا سار إلا تحت راياتِك النّصرُ فأنت الذي أرضى عن الدهر قربَه ... وجمّلتِ الأيامَ أيامُه الغُرُّ كرُمتَ فمنْ كعبُ السّماحِ وحاتمٌ ... وصُلتَ فمن زيدُ الفوارس أو عمْرو ملوكُ البرايا أنجمٌ أنتَ شمسُها ... إذا الشمسُ ذرّت غابتِ الأنجمُ الزُهرُ هو من قول النابغة: وإنّك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ ... إذا طلعَتْ لم يبْدُ منهنّ كوكبُ حويت حسامَ الدين كلّ فضيلةٍ ... سِواك لها طيٌّ وأنت لها نشرُ فما ينتهي إلا الى كفّك الندى ... ولا يعزي إلا الى بيتك الفخرُ سُطاً كلّما تابعتَها جزِعَ الرّدى ... ونُعمى متى فرّقتَها جُمِع الشكرُ ونفسٌ كأنْ من طبعها خُلِقَ السّخا ... وبأسٌ كأنْ من حرِّه طُبِع الجمرُ الأبيات الأربعة حقّها أن تكتب بذوب التّبر، على صفحة الدهر، وترقم بسويداء الفؤاد على سواد الحدَق، وترتاح لها النفوس ارتياحَ الرّياض للدّيمة الغدَق. مناقبُ لا الغوثُ الذي شمخَتْ به ... على العُرْب طيٌ يدّعيها ولا النّضْرُ أنالك ما أعيا سواك من العلى ... بهنّ الطِّعانُ الشّزْرُ والنّائل الغمْرُ ومُقرَبةٌ شُقرٌ وماذيةُ خُضرُ ... وهنديةٌ حُمرٌ وخطيّةٌ سُمرُ نُصولٌ إذا استمطرتَها ذرّتِ الطُلا ... وخيلٌ إذا استحضرتَها أطلم الفجرُ معوّدةٌ ألا تجوسَ عمارةً ... فترجَلَ إلا وهي من سكنِها قفْرُ هزمْتَ بها جيشَ العدوّ مجاهداً ... فعزّ بك الإسلامُ وامتهن الكفرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وروّيتَ بيضَ الهندِ من مُهَجاتهم ... فهنّ قَوانٍ من دمائِهمُ حُمْرُ وهذه أيضاً في الغاية القُصوى والدّرجة العلي. بقيّة من نجّاه من سجنِك الفِدا ... وأعتقه من سيف والدِك الأسرُ تركت بأطراف اللُّقانِ جسومَهم ... تذُمّ من الأرماح ما يحمَدُ النّسرُ ما أحسن ذكرَ الذمّ والحمد في هذا البيت! وما عُدت مُذ عامين ثانٍ وأولٍ ... وما عاد عنهم من مَهابتك الذُعرُ فإنْ غرَبَ النّجمُ الذي انقرضوا به ... فقد كشف الظّلماءَ من نجمه بدرُ كان والد ممدوحه يلقّب بالنّجم. وقد سلك هذا الطريق قبلَه من قال: فإن يكُ سيّارُ بنُ مُكرمٍ انقضى ... فإنّك ماءُ الوردِ إنْ ذهبَ الوردُ رضعتم لُبان العزِّ يا آل أرْتَقٍ ... فلا دَرَّ إلا حيثُ كنتم لها دَرُّ عُلىً شاد منها ما بنته جدودُكم ... قِراعُكُم من دونها الخيلُ والكرُّ سحائبُ جذْبٍ لا يغبُّ لها حياً ... مُحاربُ حربٍ من جواشنها الصبرُ قوله: من جواشها الصبر، يكاد يُذهب الألباب، ويعيد سماعه الى الشيخ الفاني عهدَ الشّباب! مضوا لم يَضِفْ خبْلُ الغرامِ نفوسَهم ... ولم يخترقْ أخْراتَ أسماعِهم هُجْرُ أي: لم يصر لهم ضيفاً. ولم يذخَروا غير الصّوارم والثّنا ... كذا وأبي العلياء فليكنِ الذُخرُ فإن يذهبوا مثلَ الغمائم مُثْنياً ... عليها بما أهدت له البدوُ والحضرُ فقد لمّ أشتاتَ المكارمِ بعدَهم ... أغرُّ كريمُ الأصلِ فتكتُه بِكرُ جوادٌ يخافُ المالُ سَورةَ جُودِه ... إذا رنّحته الأريحيّةُ لا الخمرُ تملّكتَ يا قطبَ الملوكِ محامدي ... ورِقّي ولولا الطّوْلُ لم يُملَكِ الحُرُّ وهبتَ العلى والمجدَ فيما وهبتَه ... فما العسجد القاني وما النّشَبُ الدّثرُ هذه مدائح، لم تدرك شأوَها القرائح. عطاءٌ لو انّ القَطرَ كاثرَ بعضَه ... لأصبح قُلاً عندَ أيسرِه القطْرُ تعذّرَ إلا حين عُذْتُ بك الغنى ... وأقصر إلا عندَ مدحي لك الشّعرُ أبى قدرُه أن يسترِقّ قِيادَهُ ... ويملكَهُ إلا مليكٌ له قدرُ وقد زارَ منه البدرَ بدرٌ محجّبٌ ... وجاورَ منه البحرَ حين طما بحرُ مديحٌ هو السّحرُ الذي فُتقَتْ به ... عقولُ الورى من قبلُ أو دونَه السِّحرُ لقد أصاب شاكلة الصّدق، ونطق بالحقّ. وإني لأرجو أن يفخمَ أمره ... من النّاس من أمسى له النّهيُ والأمرُ فما لفقير ذيدَ عن نيله غنىً ... ولا لكَسيرٍ حاد عن ظلّه جبْرُ وقال يمدحه، ويصف بعض حروبه؛ وعرض فيه بما جرى لجدّه أرْتَق مع مسلم بن قريش وقومه بني بَدران، وأنشده بمَيّافارقين من رجب سنة سبع وعشرين وخمس مئة: سلْ بالكثيبِ سوانحَ الغِزلانِ ... أهي الموائسُ أم غصونُ البانِ واحفَظْ من الألحاظِ لُبَّك إنّها ... شغلُ الخَليِّ ولوعةُ اللهفانِ تلك السيوفُ البيضُ تُسْمى أعيناً ... للبيض والأجفان كالأجفانِ لقد وفّى التّشبيه حقّه لفظاً ومعنى. منْ جازئات ظِباءِ وجْرَةَ من لها ... فتكاتُ ليثِ الغابِ من خَفّانِ سعديّةٌ لولا هواها لم يشُقْ ... قلبي برامةَ منبِتُ السّعدانِ يدنو المزارُ ودون حُمرِ قِبابِها ... لحظُ الرّقيبِ وهبّةُ الغَيْرانِ ما للأقاربِ من ذويك تباعدوا ... حنقاً كأنهمُ ذوو شنآن عُربٌ أضاعوا فيك ذِمّةَ جارِهم ... والعُرْبُ تحفظُ ذمّةَ الجيران هذا من أحسن ما وقع للشّعراء في ردّ الأعجاز على الصّدور. فُنفِيتُ من عدنانَ إن جازيتُهم ... إلا بخُزْرِ أسنّةِ المُرّان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 متقدماً لجِباً يحلّقُ فوقَه ... مستبشراً لجِبٌ من العِقبان خُذْ بالشهامة لا الكرامة أهلَها ... تردَعْ عِداك بها عن العُدوانِ فالحزمُ أن تضَعَ العقابَ إذا فشا ... سرُّ المظالمِ موضعَ الغُفرانِ فاق الشعراء في إيراد هذا المعنى في هذا المعرِض، مع أنّه سبق إليه الأستاذ الشّهيد مؤيّد الدّين أبو إسماعيل رحمه الله حيث يقول: وما الجهلُ في كلّ الأمور مذمَّمٌ ... وما الحلمُ في كلّ المواطنِ محبوبُ مع أنّه سبق إليه المتنبي: ووضعُ النّدى في موضع السيف بالعُلى ... مُضرٌّ كوضع السيف في موضع النّدى وهو أيضاً أخذه من قول القائل: وبعضُ الحلمِ عندَ الجه ... لِ للذّلّةِ إذعانُ وفي الشرّ نجاةٌ حي ... نَ لا يُنجيك إحسانُ من سؤدَدِ الرّجلِ الكريمِ وفضلِه ... ما يستمرّ عليه من نقصانِ يعني: من نقصان حالٍ ومال، وهي من فِقَر الحِكم. لا يوكِسُ السيفَ الصّقيلَ غِرارُه ... شعْثُ القِراب إذا مضى الحدّان هذا مأخوذ من قول إمامنا الشافعيّ المطّلبيّ، رضي الله عنه: وما ضرّ نصلَ السيف إخلاقُ غِمدِه ... إذا كان عضْباً حيثُ أنفذتَهُ برى ما أجهلَ المتوعّدي ومُهنّدي ... والنّهدَ من صحبي ومن أخداني بين الهِجانِ وبين فتكي عزمةٌ ... تُدني الى نادي أغرَّ هِجانِ الهِجان: جمع هجين، ولد الأمَة. والهِجان: الكريم. حيثُ النّدى عذبُ الموارد رائقٌ ... للوارد المتهافتِ الظمآنِ والحُجْبُ تُرفَعُ عن أسرّة ماجدٍ ... كالنّصْلِ لم يكهَمْ له غَرْبانِ عن غُرّةِ التّاج الذي تعنو له ... غُرُّ الأماجدِ من ذوي التّيجانِ عن خيرِ من يردي به متمطّرٌ ... في يوم مكرُمةٍ ويومِ طِعانِ ملك متى هبطَتْ عروقُ أرومةٍ ... بمُمَلّكٍ بسقَتْ به العِرقانِ عافت قِرى الكومِ الأواركِ نفسُه ... وقَرى الضّيوفَ خزائنَ العِقيان وتحرّقت أسيافُهُ إذ فارقت ... أغمادَهنّ مفارِقَ الأقرانِ وتشكّتِ الأرماحُ إذ غشيَ الوغى ... مما يدقّقهنّ في الأبدانِ كم موقفٍ لك لو أراد توقّفاً ... فيه الرّدى زلّتْ به القدَمانِ هذه اللّمعة الغرّاء، التي دونَها الجوزاء، لو كشفت وجهَها في أفق السماء، كسف منه القمران، واستنار به الثّقَلان. طأطأتَ فيه الكفرَ بعدَ بُذوخِه ... ورفعتَ فيه دعائمَ الإيمانِ ولو رام شاعر توقفاً في هذا الموقف، زلّت به القدمان. جمعَتْ عليك به الفِرِنْجُ جموعَها ... وتفرّقتْ لمّا التقى الجَمعان ظنّوك ما لاقَوْا فأبطل ظنّهمْ ... طعنٌ أحقّ مظنّةَ السِّرحانِ بذوابلٍ أبدت أسنتُهُنّ ما ... أخفت قلوبُهمُ من الأضغانِ كأنّه فارس الميدان، ومبارز الشُجعان. ومُدَرّبينَ على القتال كأنّما ... شربوهُ وِلداناً مع الألبانِ من كلِّ مشبوحِ الذّراع يهُزّهُ ... قرْعُ العوالي هِزّةَ النّشوانِ نظروا الى البيضِ الخِفاف كأنّها ... بأكفّكم مشبوبةُ النّيرانِ والخيلُ قد عادت وِراداً شُهبُها ... مما لبِسنَ من النّجيعِ القاني يسبَحْن طوراً في الدِّماء وتارةً ... يركُضْنَ فوق جماجمِ الشّجعانِ هذه الأبيات كأنّها بيوت للكواكب. المعاني في كلّ بيتِ نظم، بيتُ نجم، وفي ضمن كل عبارة إشارة لطيفة، وتحت كلّ كلمة فِقرة شريفة، أو درّة يتيمة، ما لها قيمة، أو كأنّها خزائن دفائن الضّمائر، وسفائن زواخر السّرائر. في مأزقٍ ضنْكِ المجال كأنّه ... مغْنى المبخَّلِ أو فؤادُ العاني هذا المعنى مغْنى الحسنات، وقلب معاني الأبيات. ستر السّماءَ عجاجُه فسماؤه ... نقْعٌ وأنجمُهُ من الخُرصان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 فالصبحُ مما سُلّ فيه واحدٌ ... والليل مما ثار فيه اثنانِ والدهُ أخوفُ من به من فارس ... صبَّ الحِمام به على الفُرسان إحسانُه للمجتدي وجنابُه ... للملتجي وذِمامُه للجاني ناهيك يا قُطبَ الملوكِ من امرئ ... قطبَ النّهى بتنمّرِ الشّيْحانِ تركت به الأعرابُ للتُرْكِ العُلى ... وتعلّلت بعُلالة السُقْبانِ تخشى بوادرَهُ إذا ادّكرتْ له ... ما تمّ من دُكْر على بدران أيامَ خفّضَ جدُّهُ من جدِّهم ... ما كان معتلياً على كيوانِ أجرى دماءَهُمُ فسال بآمِدٍ ... منها ومن أمواهها مَدّانِ تَهْمي على أعدائه وعُفاته ... بثوابه وعقابه سَجْلانِ فسَحابُ ذاك بنانُه وسحابُ ذا ... تسديدُ كلِّ حنيّةٍ مِرْنان أغليتَ كاسِدةَ المحامدِ فاغتدت ... بعدَ الكسادِ غواليَ الأثمان ورفعتَ قدري عن ذويك مبجِّلاً ... حتى تمنّوا منك مثلَ مكاني فاكفُفْ أياديَ لم أطِقْ شكراً لها ... هل فيّ غيرُ إطاقة الإنسانِ أسرفتَ في الإحسان حتى ما أرى ... إحسانَك الضّافي من الإحسان هذا - لعَمري - مع مبالغته في المدح، أشبه بسلوك طريق القدح. وليس من الإنصاف، نسبة الممدوح الى الإسراف، وهو ذمٌّ في الحقيقة. قال الله تعالى في ذمّ فرعون: (إنّه كان عالياً من المُسرِفين) . وقوله: ما أرى إحسنك من الإحسان، وإن كان في أقصى غاية الحُسن، لكنّه معزيّ الى نوع من الهُجَن؛ فإنّه تصريح بكفران النّعم، الذي لا يليق بالكرم. وهو إنّما شرع مشرع المتنبي حيث قال: حتى يقول الناس ماذا عاقلاً ... ويقولَ بيتُ المل ماذا مسلما لكنّ أبا الطّيب أضافه الى قصور في الناس، وهذا أضافه الى نفسه. وأرى غرامي يقتضي فُرقةً ... هي والرّدى من قبحها سِيّان فإن استفدتُ الربحَ عندَك بُرهةً ... فالربحُ قد يدعو الى الخُسران ليَطُلْ مدى يومي القصير فما غداً ... إلا ردىً ألقاهُ أو يلقاني أنأى وشخصُك في فؤادي شاهدٌ ... بالغيب حين يَغيبُ عن إنساني يشير الى قول القائل: إن كنتَ لستَ معي فالذّكرُ منك معي ... قلبي يراك وإن غُيّبتَ عن بصري وتكادُ من حُبّيك كلّ جوارحي ... عند ادّكارِك أن تكون لساني هذه القصيدة فريدة، رصّعت بها الكتاب، وخَريدة، أتحفت بمحاسنها الألباب، ولم أتجنّب مما أوردته منها الصواب، وراعبت حقّ الفضل، بالإطراء والعذْل، تحقيقاً لقضيّة العدل. وهذه قصيدة أخرى، حقّها أن تحرّر بذوب اللُجين، على قرن الفرقدَين. مدح بها الأمير عز الدين، عماد الدولة، شرف الملوك، أبا العساكر، سلطان بن عليّ بن مُقلَّد بن مُنقِذ الكنانيّ؛ وأنشدها بشَيزَر سنة أربع وعشرين وخمس مئة: لمعتْ وأسرارُ الدُجى لم تُنشَرِ ... نارٌ كحاشية الرّداء الأحمرِ هذا مطلع، كأنّه للفجر مُطلِع. وللأبيوردي - رحمه الله - مطلع قصيدة، وافق هذا في الوزن والرّويّ واللفظ، وسأكتبها في موضعها إن شاء الله: لمعت كناصية الحِصان الأشقر ... نارٌ بمعتلِجِ الكثيبِ الأعفرِ تخبو وتوقدها ولائدُ عامرٍ ... بالمندليّ على القنا المتكسّرِ ولست أدري أيهما أحسن وأجود. رجعنا الى قصيدة العامريّ: فعلمت أنّ وراءَه من عامرٍ ... غيْرانَ يفرَح بالنّزيلِ المُقتِرِ يا أخت موقِدِها وما من مَوقِدٍ ... فوقَ الثّنيّةِ والكثيبِ الأعفرِ لسواي عندي من سوامِكُم قِرىً ... وقِراي قُبلة ناظرٍ أو مَحجِرِ وللأبيورديّ من تلك القصيدة، نسج على منواله: يا أختَ مقتحِمِ الأسنّة في الوغى ... لولا مراقبةُ العِدى لم تهجري هل تأمُرين بزورةٍ من دونِها ... حدَقٌ تشقّ دُجى الظلامِ الأخضرِ وللعامريّ منها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 فارعَيْ رعاك الله مُسعفةً به ... ضيفاً متى ما يُرْعَ يوماً يشكُرِ وافى يؤمّكِ راكباً جُنْحَ الدُجى ... متقلّداً ضوءَ الصباحِ المُسفِرِ أحسن الصنعة حيث شبّه أدهمَهُ بالدجى، وصارمَه بالصّباح، وإنْ طبعه في قالب الأبيوردي بقوله: فلكم هززتُ إليك أعطافَ الدُجى ... وركبتُ هاديةَ الصباحِ المسفِرِ والفضل للمتقدّم. ومنها للعامريّ: فالحُسن للحسناء نوءٌ مُقلعٌ ... لا تُحمَدُ الأنواءُ ما لم تُمطِرِ أنا ذو علمْتِ بلاغةً ونباهةً ... بين الأنامِ فخرتُ أو لم أفخَرِ لا تُعرَفُ الفحشاءُ في بيتي ولا ... تدنو الدّنايا من جلالة عُنصُري صارمتُ إذ صارمتُ ألأمَ معشرٍ ... ووصلتُ حينَ وصلتُ أكرمَ معشرِ ناسٌ إذا الدّاعي دعا لمُلمّة ... لبّاه منهم كلّ أغلب مُخدِر غضبانُ نصّل بالسّماكِ قناتَه ... عزاً وأنعلَ طِرفَه بالمشتري فلتعلمِ الأمراءُ أنّي بعدَها ... جارٌ لمولانا الأميرِ الأكبرِ للمنقِذيّ أبي العساكرِ والذي ... هو وحدَه من نفسه في عسكرِ من ذاتُه من جوهرٍ ويمينُه ... من كوثرٍ ونسيمُه من عنبرِ من لا يَني يستصغر النُعمى إذا ... أعطاكَها عفواً وإن لم تصغُرِ من لا تراه العينُ إلا خائضاً ... في عِثْيَرٍ أو صادراً عن عِثيَرِ بأسٌ لمستعر الضِّرامِ وهمّةٌ ... علياءُ أنست همّة الإسكندرِ ويدٌ لها في كل أرضٍ منةٌ ... إثْرَ الحيا في كلّ عامٍ أغبرِ أما الزمانُ فقد عنت أملاكُه ... طُرّاً لمَلْكٍ لا يُضامُ بشيزَرِ غَمْرُ الرِّدا جزْلُ العَطا غدِقُ النّدى ... ضافي التُقى، صافي العلى والمفخرِ قد خفّتِ الدنيا عليه لعُظمه ... حتى لكادَ يُقلّها بالخِنصَرِ وأراه صائبُ رأيِه في يومه ... ما كان في غدهِ الذي لم يقدرِ وأنشدني مجد العرب لنفسه: حمِدتُ رجالاً قبل معرفتي بهم ... فلمّا تعارفنا ندِمتُ على الحمدِ إبائي الذي لم يُبقِ لي الدهرُ غيرَه ... أبى لي مُقامي بينهم ضائعَ المجدِ إذا قلتُ دانت لي سما كلِّ قائلٍ ... وإن صُلْتُ هانت صولةُ الأسد الورْدِ وإلا فجانبت العلاءَ ونكّبتْ ... جَنابَ عميدِ الملكِ خيلي على عمدِ وأنشدني لنفسه: صبرنا على أشياءَ منكم مُمضّةٍ ... وما كلّ أبّاء مَضيمِ بصابرِ وكم قد حلُمنا قادرينَ عليكُمُ ... وما قدْرُ حِلمٍ لا يكونُ لقادِر وله في عمَر المَلاّ بالموصل: لا تُنكِرَنّ عليّ يا شمسَ الهدى ... أني مررتُ عليك غيرَ مُسلِّمِ فالشمسُ لا تخفى ولكنْ ضوؤها ... مُخْفٍ له عن ناظر المتوسّمِ وأنشدني لنفسه بأصبهان رُباعية: مالي ولمن أطاع عذْلي مالي ... القلبُ لمن يلومُ فيه لا لي لم يخطُر لي سلوّكم في بالِ ... من أقبح ما قيل محبّ سالي وأنشدني لنفسه من قصيدة: إن لم تمَلّ فقد ملِلْتُ من النّدى ... ومظنّةُ العجبِ النّدى المملولُ وقوله، وقد احتجب عنه بعض أكابرها: لا تحتجبْ عن قاصِديك فدون ما ... يرجون من جدْواك ألفُ حجابِ وعلى محيّاك الشّتيم جهامةٌ ... تغنيك عن بابٍ وعن بوّابِ وقوله: وفاتنِ الخلْقِ ساحرِ الخُلُقِ ... منتطق حيثُ حلّ بالحدَقِ خفتُ ضَلالاً في ليل طُرّته ... فنابَ لي وجهُه عن الفلَقِ بات ضجيعي وبتّ معتنقاً ... لطيفَ كشْحٍ شهيّ مُعتنَقِ وقد خفِيا عن الرّقيب فما ... نمّ بنا غيرُ نشرِه العَبِقِ وقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وأزهرَ مثلِ البدرِ قد طاف موهِناً ... عليّ بمثل الشمسِ من قرقَف الخمر فوالله ما أدري وقد علّني بها ... أمن طرْفه أم من مُدامته سُكري وقوله من قصيدة: شاهرٌ سيفين مشتبِهٌ ... منهما ساجٍ ومصقولُ فسلوه يُنبِ أيُّهما ... دمُه في الحيّ مطلولُ لحظُه أم ما تقلّدهُ ... فكِلا العضْبَينِ مسلولُ ومنها: يا رفيقيّ الطِّلاءَ ففي ... ليلِ منْ نادمتُما طولُ وقوله من أخرى: ما كذا يامن ألِفتُهُمُ ... تهجُرُ الأحبابُ من ألِفوا شدّ ما أغرى الملامُ بكم ... رفَقَ اللّوّامُ أو عنُفوا كلّما لجّوا لججْتُ هوىً ... إنْ نمى عذْلٌ نمى شغَفُ وبجسمي مَنْ كلِفتُ به ... والهوى عُنوانُه الكلَفُ رشأ إنْ أنكرتْ يدُه ... ما جنى فالعينُ تعترفُ غُصُنٌ أوفى به قمرٌ ... ضُمنَتْهُ روضةٌ أنُفُ إن يعِبْ قومٌ به هيَفاً ... فالذي أهوى هو الهيَفُ أو يكنْ في الحبّ منقصةٌ ... فهْيَ في حكمِ العلى شرفُ وقوله في شكوى الزّمان وفراق الخلاّن: في كلِّ يومٍ لي نحي ... بٌ قد علا في إثْرِ حِبِّ حتى كأن الهمّ لم ... يُخلَق لقلب غير قلبي يا دهرُ هل ألقاك مش ... هورَ السلاحِ لغيرِ حربي أم هل يكرّرُ صرْفُك ال ... مذمومُ شرباً غير شربي أقصيتَ أحبابي وهِضْ ... تَ قوادمي وفللْتَ غرْبي حسْبي وما تُجدي على ... خضِلِ المدامعِ قولُ حسْبي يكفيك خطبٌ واحدٌ ... إنْ كنتَ تقنَعُ لي بخطْبِ وقوله: سلمْتَ مما التقى السّليمُ ... يا جنّةَ دونَها الجحيمُ سلبْتَ نومي وأيّ نومٍ ... يعرِفُ من صحبُه النّجومُ أنت بقلبي وأنت أدرى ... بما به تصنَعُ الهمومُ فاعطِفْ وكن سيّدي رحيماً ... لعاشقٍ ما له رحيمُ أطعتَ فيه العَذولَ غدراً ... ولم يُطِع فيك منْ يلومُ فكلّ دمعٍ له نجيعٌ ... وكل جفْنٍ به كُلومُ ولم يكن مُسْقَماً ولكن ... أسقمه طرْفُك السقيمُ وقوله في محبوب خائن، وحمل نفسه على السّلوّ عنه: لما رأيتُ الغدرَ فيك سجيّةً ... ولمحْتُ منك أمارةَ الخوّانِ ألزمتُ نفسي بالسّلوّ حميّة ... فسلَتْ وكانت صعبةَ السّلوانِ والحُرّ يبعثُه على حُبّ الرّدى ... في الحبّ بعضُ مواقفِ الخِذلان وقوله في الحثّ على التغرّب. ولما جمع شعره، حذفها من ديوانه: ولا تجزَعْ لفُرقة من تُصابي ... ولو ردّتك أرديةُ السَّقامِ فلولا الافتراقُ لما أصابت ... مَراميَها مُقَرطِسَةُ السِّهامِ يَزيدُ الماء طيباً وهْو جارٍ ... ويفسُدُ غيرَ جارٍ في الجِمامِ وقد سار الهلالُ فصار بدراً ... وكم أجلى مَحاقٌ عن تمامِ وقوله في المعنى مما أثبته في ديوانه، وقد سار: فارِقْ تجِدْ عوضاً ممن تفارقُه ... في الأرض وانصَبْ تُلاقِ الرّفْهَ في النّصَبِ فالأُسدُ لولا فِراقُ الخِيسِ ما فرَسَتْ ... والسّهمُ لولا فراقُ القوسِ لم يُصِبِ وقوله: تُسهّلُ عندي كلّ صعبٍ أريغُهُ ... عزائمُ لا تمضي السّيوفُ كما تمضي ويحسَبُني فوق السماءِ جلالةً ... عدوّي وضدّي إن مشيتُ على الأرضِ وقوله: ما استحسنَ الناس من أُكرومةٍ سلفتْ ... إلا رأوها على استحسانها فيكا ولا تحلّوا بمعنى يُستحبُّ لهم ... إلا وكان مُعاراً من معانيكا وقوله: يا حاكماً ما مسلمٌ واحدٌ ... يسلَمُ من أحكامِه الجائرهْ إحتَلْت للدُنيا فحصّلتها ... والرأيُ أن تحتالَ للآخرهْ وقوله في دار الكتب التي بناها النّطنَزيّ بأصفهان، ونقضه مراراً وأعادها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 دارُ كتبٍ بغيرِ كتبٍ ومالٌ ... من ترابٍ أنفقتَه في تُرابِ أنت في عامرٍ بزعمك منها ... واللها كلَّ ساعةٍ في خرابِ وقوله: تركتُكِ للمُغضينَ فيك على القذى ... وأشفقتُ من لومِ اللوائم فيكِ فإنّي وإنْ قلّبتُ قلبي على لظًى ... لأرفَعُ نفسي عن هوىً بشريكِ وقوله: وصفوكِ عندي بالنِّفارِ وما درَوْا ... أنّ النِّفارَ سجيّةٌ للرّيمِ ورأوا مَشابِه منه فيك فقابلوا ... عِزَّ الخِلافِ بذِلّةِ التّسليم وقوله: إذا سُمتُما في سلوةٍ لم أُطعكما ... وإن سُمْتُما في الصبرِ كنتُ مطيعا ومن أملي أنْ يسترقّكُما الهوى ... فننجو جميعاً أو نُصاب جميعا وقوله: تهنّ بالمولود واسعَدْ به ... يا أكرمَ الناسِ على الناسِ ولو قبِلْتَ القصدَ من قاصدٍ ... جئتُ أهنّيك على الرّاسِ وقوله: تكلّفتَ إعطاءَنا مرةً ... فقلنا حبانا ولم يبخَلِ وعُدْنا نُحاولُ منك الحقي ... رَ فعُدْتَ الى يومكَ الأوّلِ وقوله يذمّ مدينة جَيّ: على جَيَّ العَفاء لقد لقينا ... بها أشياء كنّا نجتويها سكنّاها فكان الموتُ خيراً ... قُصارى حظّنا من ساكنيها وكانت من بضائِعنا اللآلي ... ولكنْ لم نجِدْ من يشتريها وهل فيها لإنسانٍ مقامٌ ... وأنتَ من الكِرام بها وفيها وقوله: يقدّمُ الدهرُ لا المساعي ... كلّ صغيرٍ على كبير ولو علا الناسُ بالمزايا ... لم يعلُ خلقٌ على الأمير وقوله: طال وجْدي حتى ألِفْتُ بك الوجْ ... دَ وسُقمي حتّى ألفت السّقاما وتجافى الملامَ قومٌ ومن حب ... ي لذكراك قد حبَيتُ الملاما أشبهَ البدرُ منك وجهاً وحاكى ال ... غصنُ لمّا انثنيت منك قَواما واستدمت الخلافَ رداً على منْ ... قال إنّ الرُضابَ يحكي المُداما وقوله، وكتب بها الى الفقيه الموفّق محمد بن الحسن يشكره ويستعين به في أمر عند قاضي أصفهان: خلاصاتُ المساعي للسُعاةِ ... وللمُعطينَ حظُّ الأُعطياتِ وفي الإخوان خوّانٌ ووافٍ ... ولكنْ أنت من أوفى الثِّقاتِ فقد أضحى لك اسمُ أبيك معنى ... أفاد وما المعاني كالسِّماتِ وبعد الموت لا يُجدي متابٌ ... ولكنْ نفعُهُ قبلَ المماتِ تملّكْ رِقّ أدعيتي وصرّحْ ... بأثنيتي على ملك القُضاة وخلِّ أبا المكارمِ والعطايا ... فلم يُخلَقْ لغير المكرُماتِ سحابٌ عمّ وابلُه البرايا ... وليس ينالُني بلُّ اللهاةِ وبدرٌ تُشرِقُ الآفاقُ منه ... ولكنّي به في داجيات على جَيّ العَفاء فإنّ جَيّاً ... عفت فيها رسوم المأثُراتِ تلاعبنا بناتُ الدهرِ فيها ... ومن عاداتنا وأدُ البناتِ ويكفينا من الذّمّ اقتصارٌ ... على ما قالاه كافي الكُفاةِ ...... التي سبق ذكرها، وقال تكتب على هذا الوجه: أثّر في وجهك النّعيمُ ... وطاب من طيبِك النسيمُ وهوّن اللومَ فيك حسنٌ ... يلومُ في الحبّ منْ يلومُ يا رحمة وهْو لي عذابٌ ... وجنّة وهْو لي جحيمُ طرْفُك فيما أرى وجسمي ... كِلهما فاترٌ سقيمُ وقوله: كلِفْتُ به وقلت بياضُ وجهٍ ... فقيل أسأتَ فاكلَفْ بالنهارِ فلما حفّ بالإصباحِ ليلٌ ... وعُذرٌ قام عُذري بالعِذار وقوله: أربى على سائر الرّجالِ ... تِربُ المعالي أبو المعالي مهذّبُ النفسِ والسّجايا ... محسّدُ الفضلِ والكمالِ يبدو لنا كلّما تبدّى ... منه سَنا البدرِ لا الهلال وكلما حاور النّدامى ... قبلَ كرى تُنثَرُ اللآلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 عمّركَ اللهُ إنّ عمري ... منك فما للورى ومالي يُذيلُ مالاً يصون عِرضاً ... ليس مَدى الدهرِ بالمُذالِ وقوله: مزجَتْ لنا الدنيا مُنىً بمَنون ... وسَطتْ فأخفت شدّةً في لينِ فليرْفَعِ اليقِظُ المهذّبُ نفسَه ... عن رقدةِ المتغافلِ المغبونِ وليغنَمِ الإمكانَ ندْبٌ عالمٌ ... أفضت إليه بسرّها المكنونِ استروحَ المكروبُ مما شفّه ... من كرْبه بتأوهٍ وأنينِ وأبى الفتى المصدورُ إلا نفثةً ... ما إنْ يَعيها غيرُ صدرِ الدّين يقظانُ يسحبُ في ميادين العُلَى ... أذيالَ صبٍّ بالنّدى مفتونِ وأغرّ تنتسبُ الزّكانةُ والحِجا ... منه الى ماضي الجَنان رَكينِ يا سيّد العلماء إنْ عُدّوا ويا ... أوْلاهُمُ بالحمدِ والتأبينِ قد خصّ جارَك جور عبدِك دهره ... بعدَ الغِنى وخصاصة بديونِ بخِلَ الغَمامُ وجُدْتَ فاستغنى الورى ... عن جَوْدِ ساريةٍ بجودِ يمين فلتحْمَدَنّ على جميل صنيعةٍ ... دهراً سخا بك وهْو جِدُّ ضَنينِ ثم فرّق الدهر بيننا، وطالبتُ الأقدارَ بلقائه، فأبيْنَهُ. وعاد الى الموصل، ولقيته بها في سنة ستّ وستين. وآخرُ عهدي به فيها سنة سبعين وخمسِ مئةٍ. المؤيّد الآلوسي بغدادي الدّار. ترفّع قدره، وأثرت حاله، ونفق شعره، وكان له قبول حسن، واقتنى أملاكاً وعقاراً، وكثُر رياشه، وحسُن معاشه، ثمّ عثر به الدّهر عثرةً صعُب منها انتعاشه، وبقي في حبس أمير المؤمنين المقتفي بأمر الله أكثر من عشر سنين، الى أن خرج في زمان أمير المؤمنين المستنجد بالله سنة خمس وخمسين وخمس مئة عند توليته، من الحبس. ولقيته حينئذ، وقد عشي بصره من ظلمة المطمورة التي كان فيها محبوساً، وكان زيّه زيّ الأجناد. سافر الى الموصل، وتوفّي - بعد ذلك - بثلاث سنين. وله شعر حسن غزِل، وأسلوب مطرب، ونظم معجب. وقد يقع له من المعاني ما يندر، فمن ذلك ما أنشدني له شمس الدولة عليّ، ابن أخي الوزير عون الدّين بن هُبيرة في صفة القلم: ومثقّفٍ يُغني ويُفني دائماً ... في طورَي الميعادِ والإيعادِ وهبَتْ له الآجامُ حين نشا بها ... كرمَ السّيولِ وهيبةَ الآسادِ وله هذه الأبيات السائرة التي يغنّى بها: لعُتبةَ من قلبي طريفٌ وتالدٌ ... وعتبةُ لي حتى الممات حبيبُ وعتبةُ أقصى مُنيتي وأعزّ منْ ... عليّ وأشهى منْ إليه أثوبُ غلاميّةُ الأعطاف تهتزّ للصِّبا ... كما اهتزّ في ريحِ الشّمال قضيبُ تعلّقتُها طفلاً صغيراً وناشئاً ... كبيراً وها رأسي بها سيشيبُ وصيّرتُها ديني ودنيايَ لا أرى ... سوى حُبِّها إنّي إذنْ لمُصيبُ وقد أخلقتْ أيدي الحوادث جِدّتي ... وثوبُ الهوى ضافي الدّروعِ قشيبُ سقى عهدَها صوْبُ العِهاد بجودِه ... ملِثٌّ كتيّار الفرات سكوبُ وليلتنا والغربُ مُلقٍ جِرانَه ... وعودُ الهوى داني القُطوفِ رطيبُ ونحن كأمثال الثّريّا يضمّنا ... ودادٌ على ضيق الزمان رحيبُ وبِتّ أديرُ الكأسَ حتى لثغرها ... شبيهاتُ طعمٍ في المدام وطيبُ الى أن تقضّى الليلُ وامتدّ فجرُه ... وعاودَ قلبي للفراقِ وجيبُ فيا ليتَ دهري كان ليلاً جميعُه ... وإنْ لم يكن لي فيه منكِ نصيبُ أحبّكِ حتى يبعثَ اللهُ خلقَه ... ولي منك في يوم الحسابِ حسيبُ وألهَجُ بالتّذكارِ باسمِك داعياً ... وإنّي إذا سُمّيت لي لطَروب فلو كان ذنبي أن أُديم لودّكم ... جنوني بذكراكم فلست أتوبُ إذا حضرت هاجت وساوسُ مُهجتي ... وتزداد بي الأشواقُ حين تغيبُ فوا أسفا لا في الدّنوّ ولا النّوى ... أرى عيشتي يا عتْبُ منك تَطيبُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 بقلبي من جُبيك نارٌ وجنّةٌ ... ولي منك داءٌ قاتلٌ وطبيب فأنتِ التي لولاكِ ما بتّ ساهراً ... ولا عاودتني زفرة ونحيبُ وطالعتُ في مجموع من مدائح المكين أبي عليّ، في دار كتبه بأصفهان للمؤيّد فيه قصيدة، أولها: باحَ الغرامُ من النّجوى بما كتَما ... ولْهانَ لو عطَفَتْ سلمى له سلِما مُغرىً بفاترةِ الألحاظِ فاتنةِ ال ... ألفاظِ يجلو سَنا لألائِها الظُّلَما ترنو بعينَين نجلاوَين لحظُهما ... أعدى الى جسدي من سُقمِه السّقَما وتستبيك برِيقٍ باردٍ شبِم ... أفدي بنفسي ذاك الباردَ الشّبِما لولاهُ لم ينْمِ حرُّ الوجدِ في كبِدي ... وليس حَرّ هوىً إلا لبرْدِ لَمى أستودعُ اللهَ في الأظعان ظالمةً ... أحبّها وألذُّ الحبِّ ما ظلَما سارت وعقلي بها في الرّكبِ معتقَل ... يقودُه حبُّها بالشّوقِ محتزما وأرسلتْ برسولٍ من لواحظِها ... مستورداً دمعيَ المهريّة الرُّسُما هيفاء مصقولة الخدّين تحسَبها ... إذا مشت قبَساً في البيت مضطرما تفترّ عن شنَبِ كالفجر مبتسماً ... والدُرِّ منتظماص والنجم ملتئما ضنّت بوصلي وقالت في الخَيال له ... غِنىً وفي زورةِ الأحلام لو علِما وكيف يطمَع مسلوبُ التّصبُّر لم ... يعرِفْ لذيذَ الكرى أن يعرف الحُلُما ومنها: ولي بعزّي لو أنصفته شُغُلٌ ... عن الدُّنا والعلى مُغرىً بغيرِهما عينُ الصوارمِ والأرماحِ طامحةٌ ... الى وُرودي بها الهيجاءَ مقتحما ومنها في المديح: سماحةٌ تشدَهُ الضّيفانَ إنْ دهمَتْ ... غُبرُ السّنين وبأسٌ يُشبعُ الرّخَما إذا تقاصرتِ الآمالُ مدّ لها ... يداً ببذلِ الأيادي تُخجِلُ الدّيَما كفٌ متى بسطَتْ كفّ الزمانِ بها ... فأوجدت وُجدةً أو أعدمت عدما لما رأى الدهرُ ما تجْني نوائبُه ... في الناس جاء به عذراً لِما اجترما يُنبيك عن فضله ماء الحياءِ ومن ... ماء الفرِنْد عرَفْتُ الصارمَ الخَذِما ذو همّةٍ تملأ الدّنيا محامدُه ... طيباً كما ملأ الدُنيا بها كرما ومنها: إسمَعْ غرائبَ شعرٍ يستقيدُ لها ... صعبُ المعادينَ إذعاناً وإنْ رغما أثني عليك به حتى تودّ وقد ... أنشدتُه كلُّ عينٍ أن تكون فما وما فضَلْتُ زُهيراً في قصائده ... إلا لفضلك في تنويله هرِما وله، أنشدنيها ولده محمد: ألمّ خيالٌ من لُمَيّاءَ زائرُ ... وقد نام عن ليلي رقيبٌ وسامرُ سرى والدُجى مُرخي الذوائب حالكٌ ... فخيّلت أنّ الصّبحَ دونيَ سافرُ وما زارني إلا ولِهْتُ وشاقني ... أوائلُ شوقٍ ما لهنّ أواخرُ وسمراءَ بيضاءَ الثّنايا إذا مشت ... تسابقُها وطءَ التّرابِ الغدائرُ تكامل فيها الحسنُ واهتزّ قدُّها ... كما اهتزّ مصقولُ الغِراريْنِ باترُ قوامٌ كخُوطِ البانِ هبّت به الصَّبا ... قويمٌ ولحظٌ فاتنُ الطّرفِ فاترُ إذا عذَلوا في حُبّها ووصفتُها ... فلا عاذلٌ إلا انثنى وهْو عاذرُ تَزيدُ نفوراً كلّما زُرتُ صبوةً ... إليها على أن الظِّباءَ نوافرُ وترنو بعينَي جُؤذرٍ من رآهما ... رأى كيف تصطادُ الرجالَ الجآذرُ وثغر نقيّ كالأقاحي وريقة ... كأنّ الحَيا للخمر فيها مُخامرُ وعهدي بها ليلاً وقد جئتُ زائراً ... إليها كما يأتي الظِّماءُ العواثرُ وبدرُ الدُجى يُغري بها كلّما ابتغت ... إليّ وصولاً والبدورُ ضرائرُ وإني لتُصبيني إليها صبابةٌ ... تُراوحُني في حبّها وتُباكرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 على أنّني خُضت الرّدى ولقيُها ... لِقاءَ محبٍّ أعجلته البوادرُ وعاتبتها حتى الصّباحِ وحولَها ... ميامنُ من نُظّارِها ومياسرُ فأصبحتُ ما بين المطامحِ والأسى ... فلا الوصلُ موجودٌ ولا القلبُ صابر أميّاسةَ الأعطافِ عطْفاً على شجٍ ... هواكِ له ما شئتِ ناهٍ وآمرُ يَبيتُ كما بات السّليمُ من الجوى ... ويُصبحُ كالمأسورِ عاداهُ ثائرُ أصخْتِ لأقوالِ الوُشاةِ فبِعتِني ... وبائعُ مثلي يا لُميّاءُ خاسرُ وهدّدني أهلوك فيك وإنّني ... لتَصغُر عندي في لِقاك الكبائرُ ولده محمد بن المؤيّد شابٌ ذكيّ. له شِعر حسن. ولو عاش، فضَل والده نظماً وذكاء. هاجر الى الملك العادل نور الدين بالشام، وأقام في خيمتي بالعسكر، سنة أربع وستّين وخمس مئة، وكنّا في صرْخَد، فمرِض، فنفّذناه الى دمشْق فتوفي في الطريق بضيعة يقال لها رشيدة. وله ما أنشدنيه لنفسه، وكان نور الدين - رحمه الله - سامه أن يتوجّه الى مصر مع العساكر الذين جهّزهم إليها، وكتب بها إليه: أيها العادلُ الذي ملأ الأرْ ... ضَ عطاءً غَمراً وأمناً وعدلا لم أسِرْ طالباً سِوى فضلِك الضّا ... في وحاشايَ لا أصادفُ ظِلاّ لستُ أرضى من بعدِ ظلِّ إمامِ ال ... حقّ ظلَّ الدّعيّ حاشا وكلاّ ظِلَّ قومٍ إذا تسنّنتُ فيهم ... سحَبوا لي كُمّاً وزيقاً ورجلا كلّ هذا إذا سلمْتُ ولا أو ... ثَقُ أسراً ولا أُبَضّعُ قتلا في يدَيْ كافرٍ إذا قلت فيه ال ... شِعرَ سهلَ المعنى وأعربتُ جزْلا لم يرقّقْه لي ولم يُعطِ إلا ... حِمل صخرٍ على اليديْن ونقلا ثمّ إنْ عدتُ بعد ذاك الى بغ ... دادَ صادفتُ ثمّ سجناً وغُلاّ كيف فارقتهم وصرت الى قو ... م يرونَ الحرامَ في الرّفضِ حِلاّ فاجبُرِ اليومَ منعِماً قلبَ عبدٍ ... مقبلِ العمر حظّه قد تولّى هو في العسكر المظفّر يُفني الدم ... عَ شُرباً ولحم كفّيهِ أكلا لا استردّ الإلهُ منك الذي أع ... طى ولا ذُقْت بعد أمنِك عزلا وله يهجو أبا المعالي ابن الذّيدان، وكان أصله يهودياً في دمشق، وكان قد وصل شِطرَنجي آخر يقال له ابن أبي زِنبيل: فتى الدّندانِ قد جا ... ءك منْ يقلَعُ دنْدانَكْ ومنْ يصفَع جالو ... تَك بالنّعل وحزّانَكْ فتى الزِّنبيل بالزِّن ... بيلِ قد خدّر آذانَكْ فإن عُدْتَ تُماريه ... وإنْ أكثرت بُهتانكْ فما يلعَبُ بالحظّ ... ولا يقبلُ فِرْزانَكْ وسبب ذلك وصول أبي الرضا بن أبي زِنبيل الى دمشق، وادّعى أنه يغلب ابن الذّندان، وطلب مجاراته في حلبة اللّعب بين يدي السلطان، فأبى أن يلعب معه إلا بحظّ الفِرْزان. الكامل أبو عبد الله الحسين بن أبي الفوارس قرأت بخطّ أبي المعالي الكتبيّ، وأنشدني أيضاً، قوله: صَبا الى اللهوِ في هُبوب صَبا ... وقال قُمْ فالصّبوحُ قد وجَبا ها أنجمُ الصبحِ من مخافتها ... مِيلٌ الى الغرب تطلبُ الهرَبا وأدهمُ الليلِ كلّما حاولَ ال ... حُظوةَ من أشهبِ الصّباح كبا والدّيكُ قد قام في مُمزّجةٍ ... شمّر أذيالَها وشدّ قَبا يَصيحُ إما على الدُجى أسفاً ... منه وإمّا على الضُحى طربا وقوله: وأغيدٍ خِلتُه والكأسُ في يده ... بدراً يُسيّرُ شمساً في دَياجيه أدارها فظننتُ الشرقَ في يده ... وعبّها فحسِبتُ الغربَ في فيهِ لو رأيتَ اللِّحاظَ تُنزلُ غدري ... يومَ ذي الأثلِ كنتَ تمْهَدُ عذري منها: إنّما فاتكَ الهوى فتعجّبْ ... تَ لكوني أسري له تحت أسري وقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 إشربْ فقد جادتِ الأوقاتُ بالفرح ... وأتحفتنا بأسبابٍ من المِنَح من كفِّ ظبيٍ تخيّلناهُ حين بدا ... يحثّ في شربنا والديكُ لم يصِحِ بدراً يُناولنا في الليل من يده ... شمساً من الرّاحِ في صبحٍ من القدحِ أبو عليّ الفرج بن محمد بن الأخوة المؤدّب البغدادي. من الشعراء المشهورين، مشهود له بالفضل الوافر، وحدّة الخاطر، واختراع المعاني الأبكار، وافتراع بنات الأفكار. كان أوحد عصره، في نظمه ونثره. سلس اللّفظ، رائق المعنى، سلس الأسلوب، ذو الدُرّ الجَلوب، والبِشر الخَلوب. توفّي يوم الجمعة، رابع عشر جمادى الآخرة، سنة ستّ وأربعين وخمس مئة. أنشدني الشيخ أبو المعالي الورّاق، قال: أنشدني أبو عليّ بن الأخوة لنفسه، وقد قصد بعض الرؤساء، فاحتجبه: شكري لمحتجبٍ عنّي بل سببِ ... خوفاً من المدحِ شكرُ الروضِ للسّحبِ أعادني والمحيّا ما أُريقَ له ... ماءٌ وخلّصني من كلفةِ الكذبِ وله في غلام نصراني، علي ثوبٌ أحمر: ومُزنّر فتنت محاسنُ وجهِه ... إذ زار في ثوب كلون العندمِ ما زال يجهَد في هلاك حُشاشتي ... متعمّداً حتى تسربلَ من دمي عاتبتُه يومَ الفِراق فقال لي ... أنا لا أرى رَعْيَ الذِّمامِ لمسلمِ وله من قصيدة في شرف الدين أبي القاسم عليّ بن طراد الوزير، الزّينبي: أقولُ لأحبابي وللعيسِ وقفةٌ ... وللبينِ فيما بيننا نظرٌ شزْرُ هَبوني لعينٍ مات فيكم رُقادُها ... فليس له فيها حياةٌ ولا نشْرُ لقد بلغتْ منّا النّوى ما تُريده ... وفرّقَ ما بيني وبينَكمُ الدّهرُ بكيتُ على عصرِ الشباب الذي مضى ... بكاءَ لَبيدٍ ضمّ أرْبدَهُ القبرُ فأثمر دمعي بالغرام كأنّما ... عليه لسِيما دمعه ورقٌ خُضرُ ومنها: إذا شرفُ الدّين استثار مدائحي ... تيقّنتُ أنّ الزّهرَ يُنبتُه القَطرُ يملّى من الأيامِ والمجدِ والعلى ... مكارمُه شفْعٌ ومحتدُه وِترُ وأدنيتَني حتى رفعتَ مكانتي ... كذاك بناتُ البحرِ موضعها النّحرُ إذا ما رجا الإنسانُ عمراً لنفسِه ... رجوتُ لنفسي أن يطولَ لك العمرُ ومنها: نوالُهمُ في عاجلِ الحالِ لي غنىً ... وحبُهُمُ في آجلِ الأمرِ لي ذُخرُ إليك ابنَ أعراقِ الثرى من قلائدي ... فرائدَ لا ينشقّ عن مثلِها البحرُ قصائدُ تأتيكُم بكلّ غريبةٍ ... وكلّ مديحٍ دون مسموعِها هُجرُ دقيقُ المعاني فيكمُ غيرُ ضائع ... كذا في دقيقِ السّلك ينتظمُ الدُرُّ تحيّر فكري في القَريض فما درى ... أشعريَ فيك الوصفُ أم وصفُك البدرُ وله: خُذْ من شبابِك نوراً تستضيء به ... فالشّيبُ إصباحُه في اللهوِ إمساءُ العمرُ عينان عينٌ منه مبصرة ... مع الشّبابِ وعينُ الشّيبِ عمياءُ وربّ ليلٍ مريضٍ كنتَ صحّتَه ... عزّت أواسيهِ أو عزّتْه أدواءُ يسيرُ فيه وفي قلبي أذىً وضنىً ... كأنّني دلَجٌ والسّوءُ إسراءُ والشّهبُ ثغْرٌ وآفاقُ الظّلامِ فمٌ ... والقذْفُ لفظٌ وضوءُ الماءِ سحْناءُ حتّامَ عينُك ما تنفكّ جاريةً ... ماءً ومُقلتُها بالبرقِ قمْراءُ تضرّم البرقُ فيها وهي باكيةٌ ... كأنّها قبَسٌ من حولِه ماءُ وله: يا حاملَ السّيفِ الصّقيل مجرّداً ... في جَفنِه المعشوقِ لا في جفنِهِ اللهَ في كلِفِ الفؤادِ كئيبِه ... والنارُ بين ضُلوعِه من حُزنِه وسجنتَهُ في ناظريك تعمُّداً ... لتُميتَه وحويته في سجنِه وله: ولما أسرّتْ بالوَداعِ وقد دنت ... إليّ ودمعي في ثرى الأرضِ واقعُ هو الدرّ لما أودعته بلفظِه ال ... مسامعَ ألقتها لدَيها المدامعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وله في وصف فرس أغرّ محجّل، وقد أجاد: لبِس الصُبحَ والدُجُنّةَ بُرْدَيْ ... نِ فأرخى بُرْداً وقلّص بُرْدا هذا البيت أنشدنيهِ غيرُ واحدٍ عنه. وله: وإنّ شباباً للغواني مُسالماً ... الى النّفس خيرٌ من مشيبٍ مُصانعِ تفرّقتِ الألاّفُ والحُبّ واحدٌ ... كما الأذُن أذنٌ وهْي شتّى المسامعِ وله: خليليّ صبغُ الليلِ ليس يحولُ ... وما للنّجومِ الطّالعاتِ أفولُ خليليّ قُوما فانظُرا هل لديكما ... لقلبي الى قلب الصّباحِ رسولُ لعلّ به مثلَ الذي بي من الهوى ... فتُخفيه عنّي دِقةٌ ونُحولُ ولما التقينا بين لُبنان فالنّقا ... وقد عزّ صبرٌ يا أميْمُ جميلُ ولاحت أماراتُ الوداعِ وبيننا ... أحاديثُ لا يشفى بهنّ غليلُ بكيتُ الى أنْ حنّ نِضْوي صَبابةً ... ورقّ وَجيفٌ للبُكا وذَميلُ وقال الهوى للبَين فيه بقيةٌ ... وقال الغواني إنّه لقَتيلُ وأنشدني الشيخ أبو المعالي الكتبيّ، قال: أنشدني أبو عليّ بن الأخوة لنفسه: أنا الحمامة غنّت في فضائلكم ... فكيفَ أرحلُ عنها وهْيَ بستانُ أخذه من قول ابن الهبّارية: المجلسُ التّاجيّ دام جمالُه ... وجلالُه وكمالُه بستانُ والعبدُ فيه حمامةٌ تغريدُها ... فيه المديحُ وطوقُها الإحسانُ وله: وشاعر تخدُمُه الأشعارُ ... له القوافي العونُ والأبكارُ فُرسانُه قد أنجدوا وغاروا ... في كلّ غارٍ لهمُ مَغارُ ومنها في غاية اللطف: أينَ أُهَيلوكِ الألى يا دارُ ... يبقى الأسى وتنفَدُ الأوطارُ وقرأت بخطّ السّمعاني أبي سعد: أنشدني الفرج بن أحمد لنفسه: ما لي وللدّهر لزّتْني إساءتُه ... كما تُلزّ الى الجرباءِ جرباءُ أساوِدٌ من مساويه تُناقشني ... إن فُهْتُ بيضاء فاهت منه سوداءُ والحظّ يرفعُني طوراً ويخفضُني ... كأنّني من قَوافٍ وهْوَ إقواءُ وبخطّه: أنشدني لنفسه من قصيدة: نعم هذه الدارُ والأنعُمُ ... أتُنجدُ يا قلبُ أم تُتهِمُ وقد يستفيقُ هوىً لا يُفيقُ ... ويشقى الفتى مثلما ينعَمُ وقفنا وقد ضرعَتْ للنّوى ... مدامعُ لو أنّها ترحَمُ وفوق الرِّكابِ غُلاميّةٌ ... كما ذُعِر الشّادِن المِرجَمُ تصابِحُ روضاً كأنّ الحبي ... رَ والوَشْيَ من حوْكه يُرقَمُ بكت لؤلؤاً كاد لو أنّه ... تماسَك في جيدِها يُنظَمُ وشتان ما بيننا في البكا ... ودمعُك ماءٌ ودمعي دمُ فقالَ الهوى لدواعي الغرا ... مِ إنّ بنا هلَكَ المغرَمُ من الرّكْبِ تلوي سناتُ الكرى ... رقابَهمُ كلّما هوّموا يناجون بالمُقَل الفاترا ... تِ سماءً مسامعُها الأنجمُ يقصّون من لفَظاتِ الجفو ... نِ أحاديثَ لو أنّها تفهمُ وله من قصيدة: دمي الذي صار مسكاً في نوافجها ... فكيفَ تنفِرُ عنه وهْيَ غِزلانُ ومنها: روضاتُ حسنِك في عينيّ مونِقةٌ ... تسقى بماء جفوني وهْيَ صِنْوانُ مقدار بن بختيار أبو الجوائز المطاميري شاعر الدولتين: المستظهرية، والمسترشدية. ومدح صدَقة. وكان له قبول عند الأماثل، خاصّة عند جمال الدولة إقبال الخادم المسترشديّ. أبو الجوائز مقدار ساعده المقدار في الأمور، ورُزق جوائز الأكابر والصدور. وسمعت أنّه كان يحبّ الخمول، ولم يزل خلَق الثّياب. شعره رقيق، بالثّناء عليه حقيق. وقد سارت له هذه القطعة، أنشدنيها، وهي: ومجدولةٍ مثلِ جدْلِ العِنانِ ... صبوتُ إليها فأصبَيْتُها إذا لام في حبّها العاذلا ... تُ أسخطتُهُنّ وأرضيتُها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 كأنّي إذا ما نهيتُ الجفونَ ... عن الدّمع بالدّمع أغريتُها فلو أنّني أستمدّ البحورَ ... دموعاً لعينيَ أفنيتُها ولو كان للنّفسِ غيرُ السّلوّ ... عنكِ دواءٌ لداويتُها وأخبرنا الشيخ أبو الحسن عليّ بن أحمد بن الحسين بن اليزْدي فيما أجازه لنا، قال: أنشدني أبو الجوائز: سرّ هوىً لم يذِعِ ... لولا وُشاةُ أدمُعي ينشُرن من داءِ الغرا ... مِ ما طوته أضلُعي قالوا جزِعْتَ والفِرا ... قُ آمري بالجزَعِ حتى استسرّ آفِلاً ... كلّ منيرِ المطلَعِ أنجدَتِ الدارُ بهم ... وأتهمَ الوجْدُ معي لم يكُ عهدي بالحِمى ... أوّلَ عهدٍ ما رُعي ولا وقوفي سئلاً ... ذاتَ خشوعٍ لا تعي كم شفَع الوجدُ بها ... من أنّةٍ بمصرعي لا رام قلبي سَلوةً ... عن ريم ذاك الأجرَعِ ولا أصاخَ سامعاً ... للعذْلِ فيه مسمعي لهفي على رُضابِه ... والبرَدِ الممتِّعِ لهفَ العطاشِ حُوّماً ... على بَرودِ المشرَعِ يا ليتَ إيماضَ البُرَيْ ... قِ عن يمين لَعْلَعِ لما بدا اختلاسُه ... لناظري لم يلمَعِ فلم أشِمْ وميضَهُ ... لمّا أقضّ مضجَعي وساجعٍ لولا اغترا ... بُ إلفِه لم يسْجَعِ يدعو فيستدعي الهوى ... لكلّ قلبٍ موجَعِ وله في غلام أمرد، مجروح الخدّ، وأحسن: وأغيدٍ تخجلُ شمسُ الضُحى ... من وجهه والغصنُ من قدّهِ جرّد سيفَ اللّحظِ من جفْنه ... فعادَ بالجرحِ على خدّه وله في العِذار، وأغرب: وكأنّ خيطَ عِذارهِ لما بدا ... خيطٌ من الظّلماء فوقَ صباحِ وكأنّ نملاً قيّدت خُطُواتِه ... في عارضيْهِ فدبّ في الأرواح هذا في رقّة الماء الزُلال، ودقّة السحر الحلال. وأنشدني أبو الفتح نصر الله بن أبي الفضل بن الخازن لمقدار بن المطاميري: إنْ حالَ في الحبِّ عما كنتُ أعهدُه ... وباتَ يرقدُ ليلاً لست أرقدُهُ فلا طويتُ الحشا إلا على حرَقٍ ... يبلى من الصّبرِ عنهُ ما أجدّدُهُ يا عاذلي إنّ يومَ البيْن ضلّ هوى ... قلبي المُعنّى فقل لي أين أنشدُه زار الخيالُ طَليحاً طالما أنِسَتْ ... جُفونُه بالكرى أو لانَ مرقدُه ألاً به زائراً تُدنيه من جسدي ... ضمائري وخُفوقُ القلبِ يُبعدُه وله في امرأة طويلة الذّوائب: وفَينانةِ الفرْعِ فتّانةٍ ... تُطيلُ على الهجْرِ إقدامَها تعجّبَ من مشيِها شعرُها ... فقبّلَ في المشي أقدامَها وله: لقد سلبَتْ عقلي الغداةَ وليتَها ... غديّةَ بانَ الحيُّ لم تستلبْ عقلي أرى العذْلَ يحلو عندَ سمعي لذكرها ... وإن كان لا شيءٌ أمرّ من العذلِ وله، وقد ألمّ فيم ببيتيْ ابن حيّوس: قرائنُ لا فَضَّ الزمانُ اجتماعَها ... ولا اخلفتْ ما راعَ أمنَ الدُجى فجرُ عُفاتُك والجدوى وقدرُك والعلى ... وعدلُك والدنيا ووجهُك والبِشرُ وبيتا ابن حيّوس، هما: ثمانيةٌ لم تفترقْ مُذْ جمعتَها ... ولا افترقتْ ما ذبّ عن ناظرٍ شفْرُ يقينُك والتّقوى وجودُك والغِنى ... وهمّكَ والعليا وعزمُك والنّصرُ وحكي عنه: أنّه كان واقفاً عند سيف الدولة صدَقة المزْيَدي، والقائد أبو عبد الله السِّنْبِسيّ يُنشده قصيدته التي منها: فعُدنا وقد روّى السلامُ قلوبَنا ... ولم يجرِ منا في خروقِ المسامعِ ولم يعلَمِ الواشونَ ما كان بيننا ... من السرِّ لولا ضجرةٌ في المدامعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 فطرِب لها سيف الدّولة، وما ارتضاها مقدار، فقال سيف الدولة: يا مُقَيدِيرُ، ما تقول؟ قال: أقول خيراً منه. قال: أخرج من عهدة دعواك. فأنشد مقدار في الحال هذه الأبيات على الارتجال، وهو سكران، وهي: ولمّا تناجَوا للفراق غديّةً ... رمَوا كلّ قلبٍ مطمئنّ برائعِ وقفنا ومنّا حنّةٌ بعدَ أنّةٍ ... تقوِّمُ بالأنفاسِ عوجَ الأضالعِ مواقفَ تُدمي كلّ عشواءَ ثرّةٍ ... صَدوفِ الكرى إنسانُها غير هاجعِ أمِنّا بها الواشينَ أن يلهَجوا بنا ... فلم نتّهم إلا وُشاةَ المدامعِ وأعطاني سديد الدولة بن الأنباريّ قصيدة لمِقدار فيه، في دَرْج بخطّه، فنقلتها منه. وهي: أهدى خَيالاً الى خيالِ ... محكِّمُ الهجْرِ في وِصالي فبات زُورُ الكرى يُريني ... مقتنصَ الأُسدِ في حِبالي يا ليلةً ساعفتْ مَشوقاً ... فداءُ ساعاتِك الليالي أعطيتِ كل المُنى فشكراً ... لِما توخّيتِ من فَعالِ وفي قِباب الرِّكابِ بدرٌ ... تاهَ جمالاً على الجمالِ هزّ قضيباً على قضيبٍ ... رغّب في الوجْدِ كلّ سالي كم راعني في الصّباح غدراً ... وفي ظلام الدُجى وفَى لي إذا رنا من كَحيل طرْفٍ ... أغزلَ من مُقلةِ الغزالِ أرخصَ قتلَ النّفوسِ عُجبً ... وهي على غيره غَوالي في خدّه للجمال خالٌ ... قلبي من الصّبر عنه خالي علّمني حُسنُه خضوعاً ... علّمهُ عِزّةَ الدّلالِ يا صاحبي والأبيّ منْ لا ... يُخطِرُ خوفَ الرّدى ببالِ كم يأكلُ الغِمدَ غرْبُ ماضٍ ... يَغْنى بغربَيْه عن صِقالِ ويشتكي والشّكاةُ مما ... ينوبُ عارٌ على الرّجالِ الفخرُ في كسبك المعالي ... والمجدَ ما الفخرُ كسبُ مالِ قد أمِنَتْ من خطوبِ دهري ... جوانحي عائرَ النِّبالِ أو ينتحيني الزّمانُ كيداً ... يُعيرُ إقدامه احتمالي واليومَ أعطى الأمانَ سرْبي ... من طُلسِهِ والقُوى حبالي لما تفيّأتُ ظِلّ عزٍّ ... غيرَ مُصيخٍ الى انتقالِ وعاد هَضْبي عن اللّيالي ... أمنعَ من أعصم الجِبالِ تستغرقُ السّهمَ لي حِذاراً ... يا نابلَ الدّهرِ عن نِصالي إنّ ابنَ عبدِ الكريم أحيا ... بجوده أعظُمي البوالي خوّلني أنعُماً جِساماً ... تصونُ وجهي عن السُؤالِ ونائلاً يفضُلُ الغوادي ... فضلُ يمينٍ على شِمالِ فما أُبالي أضنّ بُخلاً ... أم جاد بذلاً أخو نَوالِ يا راكباً يقطعُ الفَيافي ... وخْداً بمأمونة الكَلالِ ناجيةً تقصُرُ الموامي ... ذَرعاً على الأذرُع الطِّوالِ كأنّها مُعصفٌ طَلوبٌ ... تشرَعُ في عاصفٍ شمالِ تبغي النّدى والنّدى مُباحٌ ... حيثُ اطمأنّت به المعالي عندَ أمينِ الملوكِ أمنٌ ... لناشدِ الجودِ من ضلالِ لاذَ بنُعماهُ حسنُ ظنّي ... فآلَ منه الى مآلِ فانتاشني ناشطاً عِقالي ... وراشَني مُحسناً لحالي وعمّني سَيْبُ راحتَيْه ... لأنّه خصّ بالكمالِ مؤيّدَ الدّين دُمْ لعافٍ ... أشرفَهُ الدهرُ بالزُلالِ ناجاك عن كاهلٍ طَليحٍ ... عجّ بأعبائه الثِّقالِ فاستنقذْتهُ من اللّيالي ... يداك بالأنعُم الجِزالِ واستجلِ غرّاءَ بنتَ فكرٍ ... تُزَفّ معْ غُرّة الهلالِ تَزينُ ألفاظَها معانٍ ... تُلهي مَلولاً عن المَلالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 تضوعُ أنفاسُها فيُنسي ... نسيمُ أنفاسِها الغَوالي كأنّ كلّ القلوبِ قلبٌ ... صَبا الى سحرِها الحلالِ تسهُلُ ألفاظُها ولكن ... غايتُها صعبةُ المَنالِ تضمَنُ أمثالُها التّهاني ... لمُعوِزِ الشِّبهِ والمثالِ ما كرّ عامٌ عَقيبَ عامٍ ... بلا انتقاصٍ ولا زوالِ ونقلتُ من مجموع قصائد في مدح جمال الدّولة في الأيّام المسترشدية، منها: أذالَ صونَ أدمعي في الدِّمَنِ ... حبسُ المطيِّ بعدَ بيْنِ السّكَنِ أنشُدُ قلباً مُتهِماً أضلّه ... مُنجِدُه عنه شموسُ الظّعُنِ وفي القِباب غادةٌ محجوبةٌ ... بالصّافناتِ والعوالي اللُّدُنِ إن نظرت أراك رئماً طرْفُها ... أو خطرَتْ أرَتْك قدّ الغُصُنِ تبسِمُ عن ذي أُشُر رُضابُه ... صهباءُ شُجّتْ بضَريب المُزَنِ وإن رنت فمُقَلٌ عُذريةٌ ... تُقيمُ في الأحياء سوقَ الفِتنِ يعذُبُ لي فيها العذابُ والهوى ... يحسُنُ فيه كلّ ما لم يحسُنِ كم فرّقتْ من جلَد وجمعت ... يومَ النّوى بين حشا وشجَنِ لِظاعِنِ الصّبرِ حواه قاطنٌ ... مستأنسُ الدمعِ نَفورُ الوسَنِ ماذا على ذات اللّمى لو نقعَتْ ... ببرده غُلّةَ قلبي الضّمِنِ آهٍ لإيماض البُرَيْقِ كلّما ... عنّ لعيني موهِناً أرّقني وللنّسيم الحاجريّ كلّما ... صحّ سُرَى هبوبه أمرضني هذا اللِّوى وذاك عذبُ مائِه ... إن لم تذُدٌ عنه فرِدْه واسْقِني يدلّ أنفاسُ الصّبا طَليحَه ... عليه والعاذلُ قد أضلّني يزعُمُ أنّ لومَه نصيحةٌ ... وهْوَ بها مُناصحاً يغُشّني يا حاديَ العِيسِ وراءَ عيسِكم ... قلبٌ يُلَزُّ والشّجا في قرَنِ دُلّوا على جَفني الكَرى لعلّه ... على خَيالٍ منكم يدُلّني ليتَ حُلولاً باللِّوى تحمّلوا ... من الضّنى ما حمّلوه بدَني أعذِلُ فيه كبِداً مشعوفةً ... على السُلوّ عنهمُ تعذلُني يُنكرني الدّهرُ وسوفَ أمتطي ... غاربَ يومِ أيْوَمٍ يعرِفُني أشرفَ بي حتى إذا تنسّمت ... هضابَهُ أخامِصي أزلّني كم خفيت عنّي الأسودُ خيفةً ... فاليومَ كلّ أغضَفٍ ينبَحُني مالي أغالي في الصّديق تائهاً ... وهْو على سوْمِ العِدا يُرخصُني يفوِّقُ السّهمَ وسهمي أفوقٌ ... غدراً على بِرّي له يعُقّني فما أُبالي والوفاءُ شيمتي ... كيفَ ثَنى الزمانُ عِطفَ الأخوَنِ علّقتُ أطماعي فما تُسِفُّ بي ... ولا أمُدّ صفقةً للغبَنِ وشامَ طَرْفي والبُروقُ خُلّبٌ ... بارقةً وميضُها يصدُقُني شكراً لمن أنطقني سماحُه ... مُطّرداً والدهرُ قد أجرّني حسبي ندَى أبي السّعودِ نُجعةً ... فقد كفاني محسناً وكفّني مفرِّقٌ شملَ النُضارِ جامعٌ ... بين الفروضِ للعُلى والسُنَنِ يُسرفُ في الجودِ إذا ما حسّنتْ ... عُذْرَ الجوادِ حادثاتُ الزّمن غيثٌ إذا سُحْبُ الغيوثِ أجدبت ... طوّق أعناقَ الرّدى بالمنَنِ ذو عاتقٍ يضفو نِجادُ سيفِه ... بأساً على يعرُبَ أو ذي يزَن أثبتُ والموتُ يُزلُّ خطوَه ... يومَ يخوضُ غَمرةً من حضَنِ تحمَدُ منه الخيلُ ذا حفيظةٍ ... إذا الجيوشُ جبُنت لم يجبُنِ يجنُبُها نواصعاً حُجولُها ... وينثني وهي قواني الثُّنَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 لا تحْجِزُ البيضةُ من حُسامه ... ولا تُجِنّ ضافياتُ الجُنَنِ أقسمتُ بالعِيس تبارى في البُرى ... بين الوِهادِ لُغَّباً والقُنَن إنّ حُسامَ الدّين يومَ يجتدى ... في لَزْبةٍ أخو الغَمامِ الهتِنِ تفهَقُ بالعذب الرِّوَى حياضُه ... عامَ يُضَنّ بالأُجاجِ الأسِنِ الواهبُ النِّيبَ الوِقارَ كلّما ... ضنّ على إفالِها باللّبن حسبُ جمالِ الدولةِ احتلالُه ... مجداً على مفارقِ الزُهْرِ بُني وأنّ أنواءَ الغَمامِ تجتدي ... ندىً به عمّ الورى وخصّني لو أنّ ما تبذُلُه يمينُه ... من لُجّةِ البحر المحيطِ لفَني يصونُ أعراضَ العلى بربعِه ... مالٌ مباحٌ عرضُه لم يُصَنِ مُذْ أنزِلَ الدهرُ على أحكامِه ... عوّدَ يومَيْهِ ركوبَ الأخشنِ يمّمتُه أن عثَرتْ بي نكبةٌ ... لو عثرَتْ بيَذْبُلٍ لم يبِنِ فردّ كفّي ثرّةً بيُسرِها ... حتى كأنّ عُسْرَها لم يكنِ يا فارسَ الفيلَقِ أيُّ فارس ... على ظُباك في الوَغى لم يحِنِ ما كُلّ ذي شقاشقٍ إن هدرَتْ ... يُعرِبُ عن فصاحةٍ ولسَنِ أصْغِ الى غريبةٍ نظمتُها ... بغير دينِ خاطري لم تدِنِ يسهُلُ منها الصّعبُ عند خاطري ... ويستقيمُ ميلُها لفِطَني أسيرُ في السلامِ من نجومه ... إقبالُ إقبالٍ بها أنطقني وقال يمدحه: ألِفارطِ العيشِ الرّطيبِ معيدُ ... فيعودَ رثُّ هواك وهو جديدُ بزَرودَ لا برِحَ السّحابُ مروِّضاً ... أوطان باديةٍ تضمّ زَرودُ حيٌّ حمت شهُبُ الرماحِ شموسَه ... فشموسُهنّ أسنّةٌ وبُرودُ قِفْ ناشداً لي في قِبابِ عُرَيبة ... قلباً شجاهُ بها هوىً منشودُ ومسائلاً أغصونُ أحقافِ اللِّوى ... مرَحاً تَعيسُ أم القُدودُ تميدُ ومُطارح لي في السّلوّ وحبّهُمْ ... ينمي على جفَواتِهم ويَزيدُ خفِّضْ ملامَك يا عذولُ فطالما ... أيقظتَ أشجاني وهنّ رُقودُ كيف الجحودُ لصبوة عُذريّةٍ ... ومن النّحولِ بها عليّ شُهودُ ماء النُخَيلةِ أيُّ سُمْر ذوابلٍ ... تحمي نِطافَك شُرَّعاً وقُدودُ وأثَيْلَ نازلةِ الأَجيْرعِ هل وفت ... بعدي لخائنةِ العُهود عُهودُ حيّا عُهودَك عهدُ كلِّ سحابةٍ ... وطفاءَ مُرزِمُها المُلثُّ رَكودُ أسَناً تألّقَ في قِبابك موهِناً ... أم لاحَ من فرق الصّباحِ عمودُ أمثغرُ عَلوةَ شفّ تحتَ لِثامِها ... كالنَّوْر باتَ يرِفُّ وهْوَ مَجودُ أشتاقُ ظِلّكِ والهواجرُ تلتظي ... وثَراكِ رأدَ ضُحائه فأرودُ لا زال مطّردَ الهواملِ ماطراً ... دمعٌ إذا بخِلَ الغمامُ يجودُ تُرْباً إذا استنشى النّسيمَ أصيلُه ... مرِضَ النسيمُ وصحّ فيه صَعيدُ وإذا سرى طفَلَ العشيّ طليحُه ... أرِجاً تضوّع من سُراه البيدُ هزّت إليه جوانحي صبَواتُها ... شوقاً وعاودَ كلّ قلبٍ عيدُ أيُهوِّمُ الغَيرانُ فيك ويتّقي ... يقظان حالف طرْفَه التّسهيدُ ويحلّ ماء غديرِه لحلوله ... وعليه حائمُ غُلّةٍ مصدودُ وأغرَّ يبسِمُ عن أغرّ مُجاجُه ... يُذكي الضّلوعَ لَماه وهو بَرودُ أغفى وأسهرَني هواه تململاً ... وجزِعتُ يومَ نواهُ وهو جليدُ كالغصن أهيفُ إن تثنّى أو رنا ... فإليه تنتسبُ الظِّباءُ الغيدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 لو حُمّلت قودُ الجبالِ شوامخاً ... كلِفاً به هوت الجبالُ القودُ أصبحتُ أمنحُه الوِصالَ ودأبُه ... لمُواصليهِ تجنُّبٌ وصُدودُ يا موقِداً شُعَلَ الهُوى بجوانحي ... حتّام ليس لما تشُبُّ خُمودُ شكراً لعارفة الخيالِ فإنّه ... أدنى وصالَك والوصالُ بعيدُ قالوا المشيبُ طوى الشّبابَ وحبّذا ... ما بان وهْو من الشّباب حميدُ واسترجعت نُوَبُ الزمان عطاءَه ... مني ولانَ على الثِّقافِ العودُ فوسائلي عند الحسانِ أمينُها ... كلّ المُريب وشافعي مردودُ لا راقَ عاتِقيَ النّجادُ ولا ضفت ... كرماً عليّ من العفاف بُرودُ إن لم يبِت صدرُ القَناة مُضاجعي ... لتُغِبُّ زورتَها الفتاةُ الرّودُ ما أنصفتْ قِسَمُ الليالي مُفصِحٌ ... صِفرُ اليدين وثروةٌ وبليدُ حيثُ الفضيلةُ مهبِطٌ وخصاصةُ ... ومع النّقيصة كثرةٌ وصعودُ سأشيمُ بارقةَ النّدى من مُنعمٍ ... لولا صنائعُه لغاضَ الجودُ جذلانُ تحمَدُ مُعتَفوه حَياضَه ... وِرداً إذا رُفِضَ الصّرى المثمودُ لم تخْلُ من نُعمى يديْه مشارقٌ ... ومغاربٌ وتهائمٌ ونُجودُ خضِلُ الثّرى علِقت مواهبُ كفّه ... حُسنُ الثّناء عليه وهْو شَريدُ ألفَتْ حُسامَ الدّين حاسمَ خُطّةٍ ... شعواءَ مشهدُ خطبِها مشهودُ قامت به العَزَماتُ منتصراً لها ... وقيامُها المتناصرونَ قُعودُ في حيثُ يقصُرُ خطْو كلِّ مُدجّج ... والحربُ عارضُ نقْعِها ممدودُ فوقَ الجياد يحلّ أوصال الطُّلا ... تحت العَجاج لواؤهُ المعقودُ فعلا مَنارُ النّصرِ بعدَ هُبوطِه ... بأبي السّعودِ لها وتمّ سُعودُ وإذا غدا الأسدُ المُدلّ معبّساً ... عن غابِ أشبُلِه توارى السّيدُ الخائضُ الغمَراتِ غيرَ معرِّدٍ ... عنها غداةَ يُعرِّدُ الصّنديدُ تشكو مناصلُه الطُّلا وضِرابُه ... يُبدي خِضابَ نُصولِها ويُعيدُ ويرُدّ قائدَ كلِّ جيشٍ أرعنٍ ... ووريدُه بسِنانه مورودُ متنصّتٌ في الرّوعِ للدّاعي إذا ... حُطِم القَنا وتصامَمَ الرِّعديدُ فالبأسُ في لحَظاتِه متردّدٌ ... والبِشرُ في قسَماته معهودُ متفرّدٌ بطَريف كلّ صنيعةٍ ... شهِدتْ له أنّ الفخارَ تليدُ يا جامعَ المجدِ البَديدِ بجوده ... ومفيدَ من أعطا عليه مفيدُ شكرتْ مَقاماتُ النّبوّة موقفاً ... لك لو يقومُ بشكره مجهودُ هبّت زعازعُه العواصفُ وانتشت ... فيه بُروقُ صوارمٍ ورُعودُ فمن الكُماة مُعفّرٌ ومضرّجٌ ... بنَجيعِه ومصفّدٌ منجودُ ومن الصّفيح مفلّلٌ في قوْنَسٍ ... ومن القَنا متأوّدِ مقصود فحمَيْتَ مُسلمةَ الثّغورِ ولم يكن ... لولاك عن صَرَدِ النّبالِ مَحيدُ فعروشُه بك لا تُثَلّ وعزُّها ... أبداً تشُدّ بناءهُ وتَشيدُ شهِدتْ لرمحك يوم هزِّك صدرَه ... للطّعن ثُغرةُ باسلٍ ووريدُ وجيادُك المتمطّراتُ بأنّها ... للجيش تقتم تارةً وتقودُ ومُفاضة كالنِّهْي إلا أنّها ... مما تخيّرَ نسجَه داوود عضْبٌ ومطّرِدُ الكُعوبِ وسابحٌ ... قلِقُ العِنان ومُحكمٌ مسرودُ وكذاك رأيُك في الوقائع كلِّها ... خطِلُ القنا المهزوزِ وهو سديدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 لك يا جمالَ الدّولةِ الذّكرُ الذي ... بجميله حقَبُ الزّمانِ خُلودُ يا واحدَ الآحادِ إني في الذي ... تُصغي إليه من الثّناءِ وحيدُ لن أجحَدَ النِّعَم التي أوليتَني ... متبرّعاً وبها عليّ شهودُ وقال يمدحه: سفرَتْ فقال أدلّةُ السّفْرِ ... أشعاعُ شمسٍ أم سَنا بدرِ وتبسّمت والليلُ معتكرٌ ... فجلا دُجاهُ تألّقُ الثّغرِ خصِرُ المَذاقِ كأنّه برَدٌ ... عذْبُ المُجاجةِ طيّبُ النّشرِ فكأنّما عُلّت مراشفُه ... غِبَّ الكرى بسُلافة الخمرِ مهزوزةُ الأعطافِ إن خطرت ... فتنت بخوطِ أراكةٍ نضْرِ للهِ أيُّ عُرَيبِ باديةٍ ... أسَروا الأسودَ بأعيُنِ العُفْرِ كم باتَ دون قِبابِ غيدِهمُ ... قلبٌ تقلّبُه على الجمرِ عذراءُ كلّ شجٍ بها كلِفٌ ... رمِضُ الجوانحِ واضحُ العُذرِ تُصبي الحليمَ بمُقلَتَيْ رشأٍ ... هزأت لواحظُهنّ بالسّحرِ وتزيدُ قلبَ محبِّها قلَقاً ... قلقَ الوِشاحِ يجولُ في الخصرِ يلْحى العَذولُ على الوُلوعِ بها ... ويلومُ وهو بحبّها يُغري كم مُخدِرٍ شَئنٍ براثنُه ... ضرِمِ اللحاظِ يذُبّ عن خِدْرِ حيثُ الرّياضُ كأنّ زهرتَها ... تسِمُ الصّعيدَ بأنجمٍ زُهرِ والحيُّ تحميهِ أغيلمةٌ ... بالمُقرَباتِ لواحقِ الضُمْرِ عقدت سبائبَ كلِّ سلهَبَةٍ ... بذوئبِ الهنديّة البُتْرِ من كلّ رعّافِ السِّنانِ إذا ... حطم الطِّعانُ مثقّفِ الصّدرِ شزْرِ اللّحاظِ الى الكميّ إذا ... شرِقَ القَنا بطِعانِه الشّزْرِ ولقد أقول لركْبِ داجيةٍ ... يُنضينَ كلّ شمِلّةٍ عُبْرِ ومرنّحينَ من الكَلالِ وقد ... هزَم الظّلامَ طلائعُ الفجرِ يتناشدون الخِصْبَ حيث حمى ... شوكُ الرِّماح نقائعَ الغُدْرِ شيموا بُروقَ أبي السّعودِ إذا ... خلَبَتْ بُروقُ سحائب القَطرِ واستمطروا دُفُعاتِ جودِ فتىً ... غَمْرِ المواهبِ ليس بالغَمْرِ الأديب أبو طاهر محمد بن حيدر بن عبد الله بن شعيبان البغدادي الشاعر كان شاعراً بليغاً مُجيداً، حسن الشّعر، رقيقه. يسكن سوق الثّلاثاء. أعور. سمعت شيخنا عبد الرّحيم بن الأخوة البغدادي، بأصفهان، يقول: كان له شعر حسن، وكان من مادحي سيف الدّولة صدقة بن منصور. قال: أنشدني أكثر أشعاره، فما وجدت فيها أحسن من قوله في الخمر: ومُدامةٍ كدم الذّبيحِ سخا بها ... للشّرْبِ من لهَواته الإبريقُ رقّت، فراقَ بها السّرورُ ولم تزلْ ... نُطَفُ السّرورِ ترقّ حين تروقُ حتى إذا ضحِكَ الزُجاجُ لقربها ... منه بكى لفراقها الرّاووقُ وقوله: يا جاحدي فضلي وقد نطقت ... بفضائلي بدَهاتُه عنه هل أنت إلا البدرُ توضحُه ... شمسُ الضّحى وكسوفُها منه وقوله: ما لي إذا أنا لُمْتُ أُسرةَ مزْيَدٍ ... والغُرّ من سرَواتهم لم أُعذَرِ أم ما لقلبي كلّما كلّفتُه ... صبراً على فعَلاتِهم لم يصبِرِ وإذا هممتُ ببسط عذرِهمُ على ... منعي وهم سُحُبُ النّدى لم أقدِرِ وقوله في رقّاصة: رقّاصتي هذه لخفّتها ... تكادُ تحت الثّيابِ تنسبكُ خفيفةُ الجسم ما لها كفَلٌ ... يُثقلُها شحمُه ولا وَرِكُ كأنّما الأرضُ تحتها كُرةٌ ... تحمِلُها وهي فوقَها فلَكُ وقوله في صفراء: أنت يا لائمي على شعَفِ النّف ... سِ بحبّ الوليدةِ الصّفراءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 لا تلُمْني على صبابةِ قلبٍ ... ملكته مولّداتُ الإماءِ أيما في العيون أحسنُ لوناً ... صفرةُ الرّاحِ أم بياضُ الماءِ وقوله: فتى من نَداهُ الغمْرِ يسترسلُ الحَيا ... ومن وجهه الميمونِ يطّلعُ البدرُ وما سلّ سيفَ العزمِ إلا تجعّدت ... سِباطُ القنا واحمرّتِ الأنصُلُ الخُضرُ هو البحرُ يحلو في فم الخلقِ طعمُه ... ويصفو وماءُ البحرِ ذو كدرٍ مُرُّ وقوله: أراك إذا عددتَ ذوي التّصافي ... وجدتَهُم أقلّ من القليل كماءِ البحرِ تحسِبُه كثيراً ... وقلّته تبينُ مع الغليلِ ذكر صديقنا عمر بن الواسطيّ الصّفّار - ببغداد - سة إحدى وستّين، قال: دخلت على ابن حيدر الشاعر في أيام المسترشد، وأنا صغير، وعنده جماعة يعودونه في مرضه الذي مات فيه، وهو يُنشد، فحفظتُه بعد ذلك من بعض الحاضرين: خليليّ هذا آخرُ العهدِ منكمُ ... ومني فهل من موعدٍ نستجدّهُ لأنّ أخاكم حلّ في دار غُربةٍ ... يطولُ بها عن هذه الدّارِ عهدُه فلا تعجَبوا إذْ خفّ للبَينِ رحلُه ... وقد جدّ في إثر الأحبّةِ جِدّهُ على أنّ في الدّارينِ تلك وهذه ... له صاحبٌ يهْوى وإلفٌ يودّهُ وقد أزمع المسكينُ عنكم ترحُّلاً ... فهل فيكمُ من صادقٍ يستردّهُ وأُنشدت له ببغداد: خفِ الأمرَ وإنْ هان ... ولا يطْغَ بك الشِّبْعُ ولا تُصْدِ بك الكل ... فةُ ما يصقُلُه الطبْعُ فقد يُخشى من الفأ ... ر على من عضّهُ السّبْعُ وله في سيف الدولة: هواء بغداد أشهى لي ودجلتُها ... أمرا لغلّةِ صدري منك يا نيلُ لو لم يكن فيك من دودانَ بحرُ ندىً ... إنعامُه في بني الآمالِ مبذولُ تاجٌ ولكن على العلياءِ منعقدٌ ... سيفٌ ولكن على الأعداءِ مسلولُ وله من قصيدة في سيف الدولة صدقة، أوّلها: خُذ بي على قطَنٍ يمينا ... فعسى أريك به القَطينا حتّى إذا طلَعت به ال ... أقمارُ رنّحتِ الغصونا يُخلِفْن ميعادَ الوفا ... ءِ لنا ويمطُلْنَ الدّيونا من كلّ ذاتِ روادفٍ ... كالرّملِ رجرجةً ولِينا منْطَقْن بالنّحَفِ الخصو ... رَ وصُنّ بالتّرفِ البطونا وأقَمن من تلك العُيو ... نِ على خواطرِنا عُيونا ومنها: يا بانةَ العلَمَين من ... قرَنٍ كفى بكِ لي قرينا أأمِنتِ داعيةَ الصّبا ... بةِ لي وقولَك لي يمينا وعليّ أيمانٌ مغلّ ... ظةٌ أُجلُّك أن تَمينا أنْ لا أعُدّ سوى مَعي ... نِ الدّمعِ بعدَك لي مُعينا ومنها: يا من تسمّح للعوا ... ذِل بي وكنتُ به ضَنينا أحسنتُ ظنّي في هوا ... ك فلِمْ أسأتَ بي الظّنونا قد كان ما قد كنتُ خِفْ ... تُ من التّجنّبِ أن يكونا ورأيتُ فيك قبيحَ ما ... ظنّ الوُشاةُ بنا يقينا حتى كأنّك كنتَ لل ... هِجرانِ للواشي ضَمينا ولقد دعوتُك قبلَ غد ... رِك بي على قلبي أمينا جرّدتَ من حدَق القِيا ... نِ ظُباً ذعرْتَ بها القيونا حدَقاً جعلتَ فتورَ أع ... يُنِها لأنفسنا فُتونا وجعلْتَ من تلك الجفو ... ن على قواضبها جُفونا أو لم تخفْ سيفاً تخو ... نَ حدّهُ الزّمنَ الخؤونا سيفٌ تقُدّ صدورُه ... قمَمَ الفوارسِ والمُتونا وأنشدني - ببغداد - مَن نسبه إليه في الخمر: مرحباً بالتي بها قُتِل اله ... مُّ وعاشت مكارمُ الأخلاقِ وهي في رقّة الصّبابةِ والشّو ... قِ وفي قسوةِ النّوى والفِراقِ لستُ أدري أمن خُدودِ الغواني ... سلبوها أم أدمعِ العُشّاقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ابن الخيّاط البغدادي المعروف بالفاختة أنشدني له الشيخ محمد الفارقي من قصيدة: زارتْ وعقْدُ نِطاقِ الليلِ محمولُ ... وناظرُ الصُبحِ بالأنوارِ مكحولُ وذكر أنّه سافر الى آمِد، ومعظم شعره بها. وأنشدني له في الكامل بن بكرون بآمِد: قُل للأجلّ الكاملِ ... بحرِ النّدى والنّائل أنت الذي في قُمصِه ... مجتَمعُ الفضائلِ يحيى بن صُعلوك يلقّب بالحمامة. شابّ من أولاد حجّاب الديوان العزيز. وكان يتفقّه لأبي حنيفة، رحمه الله، وتعاطى نظم الشعر مُديدَة. وهو ذكيّ، له حسن إنشاء وإنشاد. فمما أنشدني لنفسه، بيتان، نظمهما في الوزير عون الدّين بن هُبَيرة لمّا حجبه: الذّنبُ لي وأنا الجاني على أدبي ... لما قصدتُك دون الخلقِ بالمِدَحِ رددتَني ووَقاري غيرُ منسرحٍ ... عنّي وماء حيائي غير منسفحِ وأنشدني لنفسه: قالوا ابنُ صُعلوكٍ به أُبْنة ... فقلت كلا وعليِّ الرّضا منزلةٌ ما خِلتُه نالَها ... ولو سعى بين يديهِ القضا وأنشدني لنفسه: قد كنتُ أثلِبُ نثراً ... أُلقيه درساً فدرسا فصرتُ أثلِبُ نظماً ... كيلا يشِذّ ويُنْسى الشيخ الأديب أبو محمّد الحسن بن أحمد بن حكينا من الحريم الطّاهريّ. ظريف الشّعر، مطبوعه. لم يجُدِ الزمان بمثله في رقّة لفظه وسلاسته. وقد أجمع أهل بغداد على أنّه لم يرزَق أحد من الشعراء لطافةَ طبعه. وله الأبيات النّادرة، المذهبة، التي من حقّها أن تكتب بماء الذّهب. أنشدني له بعض الأكابر ببغداد في عمي العزيز، رحمه الله، من قصيدة، هذا البيت، وهو: فميلوا بنا نحو العِراقِ ركابَكُمْ ... لنكتالَ من مال العزيزِ بصاعِهِ وطلبت هذه القصيدة، لأكتبها، فلم أجدها. وأنشدني بعض الفضلاء ببغداد لابن حِكّينا: قد كنتُ في أرغدِ ما عيشةٍ ... بمعزِلٍ عن كلّ بَلْبالِ تيّمني خالٌ على خدِّه ... الويلُ للخالي من الخالِ وله، وأظنّه في أنوشَروانَ الوزير: ومُظهِر وُدّهُ لقاصده ... يكُفّ عنه الأطماعَ بالياسِ يقومُ للنّاس مُكرِماً فإذا ... راموا نَداهُ يقومُ للنّاسِ وله: مدحتُهُمُ فازددتُ بُعداً بمدحهم ... فخُيّلَ لي أنّ المديحَ هِجاءُ يقولون ما لا يفعلون كأنّهم ... إذا سُئِلوا رِفداً هم الشّعراءُ وله في العذار: لافتضاحي بعدَ عارِضِه ... سببٌ والناسُ لُوّامُ كيف يخفَى ما أكتّمُه ... والذي أهواهُ نمّامُ وله: يا باعثاً طيفَه مثالاً ... حسنُك قد جلّ عن مثالِ وإنّما كان ذاك رَشْقاً ... بعثَ خيالٍ الى خيالِ وأنشدني بعض أصدقائي ببغداد لأبي محمد بن حِكّينا، في مدح عَوَرِ عينِ الحبيب، ولم يسبق إليه: يا لائمي والمَلومُ متّهمٌ ... حسبُك ما قلتَ فيه من عوَرِ يرشُقُ عن فردِ مُقلةٍ وله ... ألفُ جريحٍ منها على خطرِ لُم كيف شئتَ لستُ تاركَه ... الآن صحّ التّشبيهُ بالقمرِ وأنشدني له ببغداد الشيخ مجد القضاة، في بعض القضاة: وباردِ التّنميسِ بين الورى ... يفعلُ ما لا يفعلُ اللصُّ يصطادُ أموالَ الورى كلها ... بطرْحةٍ من تحتِها شِصُّ وله في قصد ابن التّلميذ، لمرض به. أنشدني مجد الدولة أبو غالب بن الحُصين، قال: أنشدني ابن التّلميذ له: لمّا تيمّمْتُه وبي مرضٌ ... الى التّداوي والبُرءِ محتاجُ آسى وواسى فعدت أشكرُهُ ... فعلَ امرئٍ للهمّ فرّاجُ فقلت إذ برّني وأبرأني ... هذا طبيبٌ عليه زِرباجُ وكتب الى الشّريف ابن الشّجَريّ النّحوي، وكان له شعر مقارِب: يا سيّدي والذي يُعيذُك من ... نظمِ قريضٍ يصدا به الفِكرُ ما فيك من جدِّك النّبيّ سوى ... أنّك ما ينبغي لك الشّعرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وأنشدني أبو المعالي الكتبي، قال: ذكر ابن الفضل أنّه كتب الشيخ أبو محمد بنُ حِكّينا الى ابن التّلميذ، وأراد أن يصالحه بعد خصومة، أبياتاً، منها هذا البيت: وإذا شئتَ أن تُصالحَ بَشّا ... رَ بنَ بُردٍ فاطرَحْ عليه أباهُ يقال: إطرح فلاناً عليه، حتى يصالحك. فما ألطفَ طلبَه منه بُرداً بهذا البيت المطبوع! وأنشدني له هذا البيت، وهو حسن: إرضَ لمن غابَ عنك غيبته ... فذاك ذنبٌ عِقابُه فيهِ وأنشدني له أيضاً: قسا ثمّ أجرى عبْرَني فكأنّني ... على فقدهِ الخنساءُ تبكي على صخْرِ وله في أنوشَرْوان الوزير: سألوني منْ أعظمُ الناسِ قدراً ... قلت مولاهمُ أنوشَرْوان لست أحوي صفاتِه غيرَ أنّي ... ما رأيتُ الإعسارَ منذُ رآني وإذا أظهر التّواضُع فينا ... فهو من آيةِ الرّفيعِ الشّانِ ومتى لاحِ النّجومُ على صف ... حةِ ماءٍ فما النّجومُ دَواني وله: ما بالُ أشعاري وقد ضُمّنت ... مدحَكُمُ ترجِعُ بالدّلْقِ ما فيكُمُ بخلٌ وما بي غنىً ... عن نائلٍ والنّجْحُ في الصّدقِ ولست أستبطي ولكنّني ... ينقطعُ الغيثُ فأستسقي وله في أمين الدولة أبي الحسن بن صاعد الطّبيب، ويعرف بابن التّلميذ، وقد نفّذ له شيئاً، وكان مريضاً: جاد واستنقذ المريضَ وقد كا ... د ضنىً أن يلُفّ ساقاً بساقِ والذي يدفَعُ المَنونَ عن النّفْ ... سِ جديرٌ بقسمة الأرزاقِ وله: ويكتبُ بالبيضِ الصّوارمِ أسطُراً ... على أوجُهِ الفرسان تنقُطُها السُمْرُ وينظِمُهُم في الرُمحِ نظماً وإنّما ... رؤوسُهُمُ من بعدِ نظمِهِمُ نثرُ وله: لو كنتَ أعلمتَني بهجرك لي ... لبِستُ من قبلِ صدِّك العُدَدا عيناك ترمي قلبي بأسهُمها ... فما لخدّيك تلبَسُ الزّرَدا ريقتُهُ الشُهْدُ والدّليلُ على ... ذلك نملٌ في خدِّهِ صعِدا وله في العِذار: لا تقولوا من بعد عا ... رضه قد تغيّرا إنّما الحسن حين م ... رّ به الحِبّ مسفرا رامَ تبخيرَهُ فذ ... رّ على الجمرِ عنبرا وله في المدح: أتاني بنو الحاجاتِ من كلّ وجهةٍ ... يقولون لي أينَ الموفَّقُ قاعدُ فقلتُ لهم فوقَ المجرّة دارُه ... ولكنّني فارقتُه وهْو صاعدُ فإن شئتُمُ ألا تضِلّوا فيمّموا ... الى حيثُ سارت بالثّناء القصائدُ وله في تأبين ميت: ومنتقلٍ بالإثمِ أرساهُ جُرمُه ... فلم يقدِروا من ثِقلِه أن يُقلّوه رأى أهلُه إبعادَه مَغْنماً لهم ... وكان كثيراً عندَهم فاستقلّوه ولم يسمعِ الحفّارُ ساعةَ دفنِه ... وتوسيدِه إلا خُذوه فغُلّوه وله في البخل: لمّا فشا البخلُ وصار النّدى ... ولا رغيفٌ كلّ أسبوعِ سرت مصاريعُ هجائي الى ... منْ خبزُه خلفَ المصاريع فقطّعتْ بالذّمّ أعراضَهُ ... وفرّقتْها في المجاميع وكتبت من الأجلّ شمس الدين وله سديد الدولة بن الأنباري قصيدة لابن حِكّينا بخطّه، في والده. وهي: أدِرْها مدعدعة يا نديمي ... بماءِ الكرومِ وبين الكُرومِ وكن أرفقَ الناس تحت الظلا ... مِ ببزْلِ الدّنان وفضّ الختومِ الى أن تُريكَ طلوعَ الصّبا ... حِ في حبَب كانقضاض النّجومِ ووكّلْ مصابيحَها الزاهراتِ ... بإحراقِ شيطانِ همّي الرّجيمِ وخُذْها على أنها لُقطةٌ ... إذا اشتُريتْ بدُخولِ الجحيمِ هي الرّوح أو مثلُها في القيا ... س مخلوقةٌ لقوام الجسوم ومن بعض أفعالِها في النّفو ... سِ عَوْدُ السّرورِ ونفيُ الهمومِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 بَزوغيّةٌ شغلَت فكرتي ... بوصفي لها عن بكاء الرّسومِ كُميتٌ ولكنّها لا تُردّ ... عن نيل غاياتِها بالشّكيمِ غذتها السّنون الى أن نشتْ ... بجري الهواءِ ولفْح السّمومِ أقرّ الشِّهادُ لها والعبي ... رُ بطيبِ المَذاقِ وعطر النّسيمِ يدورُ بها مستديرُ العِذا ... رِ أسلبَ منها لعقل النّديمِ يُضلّ البَصيرَ بوجهٍ منير ... ويُبري السّقيمَ بطرْف سقيم فمن لي بقلبي وقد فرّقَتْه ... يدُ الوجدِ ما بين بدرٍ وريمِ فيا صاحِ إن ساورتك الخطو ... بُ في كونِها عُدّه من خصومي ومنها في المخلص، وقد أجاد: فقل للزّمان اتّئدْ إنّني ... بأفضلِ أبنائه في حَريمِ وإني فلا تطمَعِ الحادثا ... تُ عبدُ الكريم ابنُ عبد الكريم ومنها في المدح: ترى الوفْرَ عند استماعِ المدي ... حِ في مُقعِدٍ من نَداهُ مُقيمِ يقول إذا ما رأى خلّتي ... لكِ الأمنُ منّي بألاّ تُقيمي من القومِ لولاهُمُلم تُقمْ ... وجوهُ العطايا وسوقُ العلومِ كم استعبدوا مُقتِراً بالنّوا ... لِ واصطنعوا جاهلاً بالحُلومِ وأضحوا يرَوْن تلافي الفقي ... رِ أولى بهم من تلافي العَديم ومنها: وأصبحَلا يقتني دِرهماً ... لغير قضاءِ دُيونِ الرّسومِ ومنها في صفة القلم: يُجيل غداةَ الوغى مُرهَفاً ... شديدَ الجِلادِ خفيّ الكُلومِ نحيفاً يردّ بإسهابِه ... وصولَتِه كلّ خطْبٍ جسيمِ فما يتميّز عبدُ الحمي ... دِ حين يراهُ من ابنِ الخطيم ومنها: فيا منْ تغمّدني بِرّه ... ونزّهني عن سؤالِ اللّئيم وسالت عِهادُ أياديه من ... خُراسان الى منزلي بالحَريمِ ولم ينسَني يومَ بثّ النّوا ... ل لا في الخوص ولا في العمومِ تهَنّ فمجدُك فوقَ النّجو ... مِ واسعَدْ فشانيك تحتَ التّخومِ وعِشْ في السّرورِ نعِش في السّرور ... ودُمْ في النّعيم ندُمْ في النّعيم وكتبت من مجموع بخطّ أبي الفضل بن الخازن: أنشدني الصبح أبو محمّد بن حِكّينا من قصيدة: لاقى طريقَ النُسْكِ شاسعةً ... فاستصحب اللّذّاتِ وانحرفا يهْوى كؤوسَ الراح تُذكِرُه ... قبَساً أضاءَ وبارقاً خطَفا يُهدي المِزاجُ لجيدِه حبَباً ... مثلَ السّهامِ تعاورت هدَف وإذا دعاهُ طرْفُ غانيةٍ ... للوصلِ بادره ولو زَحَفا ومنها: واسقِ النّديمِ تعُدْ حُشاشتَهُ ... مشمولةٌ لطُفت كما لطُفا واعقِدْ بطرفِك صُدغَ ذي ترَفٍ ... لمّا ألمّ بخصْرِه انعطفا كالنّون منحنياً فإنْ عبِثت ... كفّ أحالت شكلَهُ ألِفا ذهبت بصِرْفِ الرّاحِ نخوتُه ... فطفِقتُ محتضِناً ومرتشفا ومنها: لله أيامٌ طرَقْتُ بها ... قبلَ الصّباحِ الدّيرَ والخزَفا والماءُ تُطرِبُهُ منادمتي ... فلو استبدّ برأيه وقَفا ومنها في المدح: أهلاً بمن جُعِلت فضائلُه ... أهلاً لأنْ تستنفدَ الصُحُفا وخلائق مثل النّسيم جرى ... فإذا تعرّضَ للعِدا عصَفا ولقد عزمتُ بمن سواك على ... شيطان إعساري فما انصرفا فكما ذكرتُ له نداك مضى ... وكأنّه بالنّجمِ قد قُذِفا ومنها: وتراهُ يرفِدُني وأُنشدُه ... مدحي فيُظهِرُ بيننا الطُّرَفا ومنها في طلب كُسوة: إن لم تعاجلْهُ بكُسوتِه ... أودى فمنه الثّلج قد ندفا لو كان في النّيران مسكنُه ... قيظاً فأنشدَ شعرَهُ رجَفا فتلقّ بالإحسانِ ممتدحاً ... أعيا عليه الجِدّ فانقصفا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وأنشدني أبو المعالي له في الموجَّه: أراه لبُغضِه عَمراً ... يصغّرُه ويجلُدُه وذكر لي عبد الرحيم بن الأخوة: أنّه كان بزّازاً، وكان يمدح أنوشَرْوان بن خالد. وقال: وجدت له بيتين، وكتبتهما، وهما: قصدتَ ربْعي وتعالى به ... قدري فدتك النّفسُ من قاصدِ وما أرى العالم من قدره ... بحراً مشى قطّ الى واردِ وأنشدني أبو الفتح نصر الله بن أبي الفضل بن الخازن لأبي محمد بن حِكّينا، في واعظ: يُعيد ما قال أمسِ في غدِه ... بلا اختلافِ المعنى ولا اللفظ حضرتُ بعضَ الأيام مجلسَه ... فكلّ ما قاله على حفظي وله في أنوشروان الوزير، وقد ردّه: قد جئتُ بابني فاعرِفوا وجهه ... ليأخُذ النائلَ من بعدي فليس في التّقدير أني أرى ... قبلَ مماتي ساعةَ الرِفدِ وله: ولم أجْنِ ذنباً في مديحِ امرئٍ ... قابلَ شعري بالمواعيدِ إن قلت بحرٌ فبِما نالني ... من هولِه أيامَ ترديدي أو قلت ليثٌ فبتكليحه ... إذا أتاه طالبُ الجودِ وله في ولده: إبني بلا شكّ ولا خُلفِ ... في غاية الإدبارِ والحُرْفِ أنّه الحبّالُ في مشيهِ ... يزدادُ إقبالاً الى خلْفِ وله في أمين الدولة ابن التّلميذ: لموفّقِ المُلكِ الأجلّ يدٌ ... حسبي بفيض نوالِها وكفى سكن المجرّة واستهلّ ندىً ... وكذا الغمامُ إذا علا وكفا لم آتِ أستكفيهِ حادثةً ... إلا تهلّلَ بِشرُه وكفى ولولده فيه: إذا افتخر الناسُ في مجلس ... فإني بترك افتخاري خليقُ لقد جرّ كونُك لي والداً ... عليّ من الذُلّ ما لا أُطيقُ ولوالده أبي عبد الله أحمد بن حِكّينا قرأت في تاريخ السّمعاني بخطّه: كانت له معرفة بالأدب، وكان شاعراً تلميذاً لأبي علي بن شبل الشاعر، قال: قرأت بخطّ أحمد بن محمد بن الحُصَين، أنشدنا أبو عبد الله بن حِكّينا لنفسه: إذا جفاك خليلٌ كنتَ تألَفُه ... فاطلُبْ سواهُ فكلّ الناسِ إخوانُ وإن نبَتْ بك أوطانٌ نشأتَ بها ... فارحَلْ فكلّ بلادِ اللهِ أوطانُ لا تركَنَنّ الى خِلّ ولا زمنٍ ... إنّ الزّمان مع الإخوانِ خوّانُ واستَبْقِ سرّكَ إلا عن أخي ثقةٍ ... إنّ الأخِلاّءَ للأسرارِ خُزّانُ المهذّب بن شاهين كان ممن خدم عمي العزيز، وكان عاملاً بنهر فروة ونهر رجا، فبانت عليه خيانة، فكتب الى العزيز: قُل للعزيز أدامَ ربّي عزّه ... وأنالَه من خيره مكنونَهُ إني جنَيتُ ولم تزلْ نبَلُ الورى ... يهَبون للخُدّام ما يجنونَه ولقد جمعْتُ من الجنونِ فُنونَه ... فاجمعْ من الصّفْح الجميلِ فُنونَه من كن يرجو عَفوَ من هو فوقَه ... فليَعْفُ عن جُرْمِ الذي هو دونَه فعفا عنه، وأعاده الى شغله. أبو عبد الله محمّد بن جارية القصّار كتبت من خطّه أنّه: محمد بن المبارك، بن عليّ، بن القصّار. جارية القصّار: كانت عوّادة مُحسِنة، مستحسَنة، حافظة للأشعار، عارفة بالأدب. وكانت ممن يعقد عليها الخِنصَر في صِناعتها وبراعتها. ورأيتها في آخر عمرها. وكانت تزوّجت بابن حريقا، عاملِ الجوالي ببغداد، وماتت عندَه في سنة إحدى وخمسين وخمس مئة. وسمعت أبا المعالي الكتبيّ يقول: إنّه كان لها ابن، يكنى أبا عبد الله، ولا ينسب إلا إليها. وبلغ مبلغَ الشّباب، وجمع أدوات ذي الآداب، فاخترمته يدُ الحدثان في العُنفُوان، وهذه عادة الزّمان الخوّان، بعد سنة أربعين وخمس مئة. وأنشدني أبو المعالي لأبي عبد الله، في أخي البُدَيوي العوّاد، يهجوه، ويصف برد غنائه بأبيت أرقّ من السحر، وهي: يا بديويُّ قد نشا لك في العو ... دِ أخٌ يستغيثُ منه العودُ أنت تدري أنّ الشتاءَ على الأش ... جارِ صعبٌ إذا أطلّ شديدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 لو أرادَ الإلهُ بالأرضِ خِصْباً ... ما تغنّى من فوقِه محمودُ كلّما أنبتت يسيراً من العُشْ ... بِ وغنّى غطّى عليه الجليدُ وأنشدني أبو المعالي الكتبيّ، قال: أنشدني محمد ابن جارية القصّار لنفسه، ونقلتهما من خطّه: وأدهمِ اللّونِ ذي حُجولٍ ... قد عقدَتْ صبحَه بليلِهْ كأنّما البرقُ خاف منه ... فجاءَ متمسكاً بذيلِهْ وأتحفني الشيخ أبو المعالي الكتبيّ بكرّاسة من شعره بخطّه، ورواه لي عنه. فمن ذلك قوله من قصيدة: وصاحبٍ سُمتُه استرفاقَ مُهلتِه ... بأنْ يدومَ له رِقّي على الزّمنِ وما تحمّلتُ عِبْأَ من قوارصِه ... على وقوفي إلا ليحملَني وقوله في كُتّاب الديوان: الى كم أصون لساني ولا ... تصونونَ أعراضَكم بالجميلِ وكم تُحفِظوني ولا تحْفَظو ... نَ مكاني وأدرأ عنكم فُضولي فأقسِم إنْ خفّ حِلمي لكم ... وهمّتْ عواطفُه بالرّحيلِ لأنتصِفَنْ منكُمُ للقريضِ ... وللآملين ولابْن السّبيلِ وقوله يستهدي مِداداً: إليك اشتكائي يا ابنَ الكِرا ... مِ شَيبَ دواتي قبل الهرمْ وشيبُ الدّويّ كما قد علمْ ... تَ يعدِلُ في القبح شيبَ اللِّمَمْ فمُرْ بخِضابٍ كفيلٍ بردِّ ... شبابِ ذوائبِه المنعدِمْ وقوله في ذمّ الشّيب: أكرهُ فودي أن يشيبَ وإن ... قال جهولٌ في الشّيبِ توقيرُ المرءُ بدرٌ والشمسُ شيبتُه ... وما له في شُعاعِها نورُ وقوله في تمني الشيب: من خاف إن شاب هِجران الحسانِ وإص ... حارَ النّعيمِ ورفْضَ الكأسِ والنّغمِ فلي الى الشيبِ شوقٌ ما يُنَهنِهُهُ ... سعيٌ للُقْياهُ من عمري على قدَمِ ما أرغدَ الدّهرُ عيشي في الشباب ولا ... أحلى فأبكي شبابي حالةَ الهرمِ وقوله من قصيدة: راجع أناتَك أيها الغِرّيدُ ... هذا الفراقُ وما القلوب حديدُ واستوقفِ العيس المراسِل تدّخِرْ ... أجراً فما تُعيي عليك البيدُ إن كنتَ تخشى من ترفّعِ خِمسِها ... ظمأ فمنهَلُ مُقلتي مورودُ أو كان يُعجلُك المراد فإنّ لي ... نفَساً يُعيدُ الروضَ وهو صَعيدُ علّ البخيلةَ أنْ تجودَ بنظرة ... ولقد يجودُ بمائه الجُلْمودُ إن كان موعدنا برامةَ غالَه ... خُلفٌ فهذا موعدٌ وزَرودُ ومنها: وأراكةٍ نشرَتْ ذوائبها الصّبا ... حتى تعقّدَ ظلُّها الممدودُ ومنها في المدح: سودُ الأثافي وهْو عامٌ أشهبٌ ... بيضُ الأيادي والنّوائبُ سودُ وله: الى كم أعلّلُ بالباطلِ ... ولا أستقرّ على حاصلِ وأُدفَع من باخلٍ لا يَدينُ ... بدين السّماح الى باخِل يصون بِرضِ جبانِ الفؤادِ ... حِمى عرض بطل باسلِ أحلّيه بالدُرَرِ المُثْمِنات ... وأرجِعُ بالأملِ العاطلِ ومنها: إذا كان حظّ الفتى صاعداً ... فلا بأسَ بالأدبِ النازلِ أحِذْقاً ورزقاً لقد رُمتَ ما ... يزيدُ على أملِ الآملِ هما خلفان فهذا المقي ... مُ يُعقَبُ من ذلك الرّاحلِ لقد ألجأتني صُروف الزّمان ... لحكمِ ضَرورتِها الحاملِ الى معشرٍ قد أتمّوا الرّضا ... عَ من ضرْع لؤمهمُ الحافلِ شيوخُهمُ بعدُ لم يُفطَموا ... وعالمُهم ضُحكةُ الجاهلِ صُدورٌ ولكنّ أعجازهم ... صُدورٌ لوخْزِ القَنا الذّابلِ وقوم رأوا أنّني شاعرٌ ... فلم يرفعوني عن الخاملِ ولم يعلَموا ما رُواةُ القري ... ضِ عنديَ من آلةِ الكاملِ وما غايةُ الفضلِ نظمَ القريض ... ولكنّه نفثةُ الفاضل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وله الي ابن الدّواميّ أبي المعالي، يطلب منه شراب البلَح في مرضه من القيام: يا سيّداً جملةُ أوصافِه ... تُملي في ممتدحيهِ المِدَحْ قد سال واديّ بما فيه فاس ... كِرْه بشيء من شراب البلَحْ الرّبيب أبو المحاسن بن البوشنجيّ لهج اللهجة، بنظم الرُباعيات، أرِج البهجة، بعرْفِ الحسنات. كان والده وزيرَ أمير الجيوش نظر أمير الحجّاج. وورث هذا موضعه، ولم يزل وزير أمير الحُجّاج في آخر الدولة المقتفوية والدولة المستنجديّة. ثم ولي بواسط وزارة أميرها، وبقي مدّة بصفو العيش ونَميرها. وسمعت الآن - في سنة اثنتين وسبعين وخمس مئة - أنّه موسوم بالعطلة، ممنُوٌّ بالعزلة. وقد أوردت له، من فنه، ما يسبق إليه من لفظه وحسنه. فمن ذلك قوله: رقّت وتأرّجت برَيّا عبَقِ ... صهباءُ تخالُها شُعاعَ الشّفَقِ يا بدرُ أدِرعها قبَساً في الغسقِ ... تُهدي طرباً وهي ضلالُ الطُرقِ وقوله: رقّت وصفت واسترقّت ألبابا ... راحٌ لبِستْ من الضّنى جِلبابا يا بدرُ أدِر وعدِّ عمّن يابى ... كأساً طُرِد الهمّ بها فانجابا وقوله: ما أطيبَ ما زار بلا ميعادِ ... يختالُ كغصنِ بانةٍ ميّادِ ما طلّ ولا بلّ غليلَ الصّادي ... حتى قرُبَ البينُ ونادى الحادي وقوله: بِتنا وضجيعنا عفافٌ وتُقى ... نشكو أرَقاً ونستلذّ الأرَقا يا بدر دُجنّة ويا غصنَ نَقا ... لولاك لما عرفْتُ هماً وشَقا أبو علي بن الرئيس خليفة الدّوَوي كان يخدم شمس الملك بن النِّظام. كان خليفة الدّوَويّ، رحمه الله، من الموالين لعمّي العزيز، رحمه الله، المتعصّبين له. وهذا ولده أبو علي، حُكي لي عنه أنه برَع في الأدب، وأبرّ على أهله، وأرِجت أرجاء العِراق بنشر فضله. وله المقطّعات النادرة الدالة على ظَرْفه ولطفه، وحسن معرفته، وطيب عَرفِه. نضَب ماء شبابه، وأتاه نذير الأجل بكتابه، وعاجله من المنون ما لم يكن في حسابه. أُنشدت له بيتين يهجو بهما ابن كامل العوّاد، أحلى من نغَمات العود، وألطف من نغمة الرّود، وأطيب من وِجدان الحظّ المنشود، وأحسن من الرّوض المعهود، وهما: إن وفت لابن كاملٍ صنعةُ العو ... دِ فقد خانه غناءٌ وحلْقُ هو للضّرب مستحقٌ ولكن ... هو بالضّرب للغناء أحقّ وله رباعيات في حسن الربيع، بالمعنى البديع، واللفظ الرّصيع، فمنها: يا من هرَبي منه وفيه أربي ... ضدّان هما عذابُ قلبي التّعِبِ أحيا وأموتُ وهْو لا يشرُ بي ... كم وا حرَبي فيه، وكم وا حرَبي ومنها: يا من أدعو فيستجيبُ الدّعوى ... لا يحسُن بي الى سواك الشّكوى أنت المُبْلي فكن مُزيل البلوى ... لا مُسعِدَ للضّعيفِ إلا الأقوى أبو السّمح سعيد بن سمرة الكاتب من أهل الأدب والفضل، له اليد الطّولى في النثر البديع، والكلام الصّنيع، والتصريع والترصيع. يحذو حذو الحريري في ترسّله، وينسج على منواله. نظم رسائل على حروف المعجم، كلّ كلمة منها فيها الحرف الذي بنى الرسالة عليه، كرسالتي الحريري: السّينية والشّينية. وسأوردهما في كلام الحريري. وأبو السَّمْح سمحُ الخاطر، جواد القريحة، مجيب الرّويّة، مصيب المعاني الرائقة، مجيدٌ لنظم الكلِم الفائقة. أسلم في الدولة المستنجدية، وحسُن إسلامه، وعمل قصيدة في الرّد على اليهود وإظهار معايبهم، ورتّبه الإمام كاتباً بمَنثَره. فمما أنشدني له في الإمام المستنجد بالله، يهنّيه بعيد الفطر سنة إحدى وستين، أبيات، نظمها غير معجمة، وهي: ملِكَ الأمر دام أمرُك مسمو ... عاً مُطاعاً ما حال حوْلٌ وحالُ ورعاك الإلُ ما همَر الرع ... دُ وما دامَ للوَدودِ وِصالُ وأدام العلاّمُ مُلكَ محرو ... ساً محوطاً ما حُلِّلَ الإحلالُ عمّ أهلَ الإسلام طوْلُك طُراً ... وعداهم لعدلِك الإمحالُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ومحا رسمَ كل عادٍ مُعادٍ ... مُلحدٍ همّه الدّها والمِحالُ سرّ أهلَ الصّلاحِ عصرُ إمامٍ ... ما عراه لردْع روْعٍ مَلالُ عالمٌ عاملٌ معَمٌّ مُعِمٌّ ... عادلٌ عهدُ عدلِه هطّالُ ملكٌ راحمٌ لداعٍ ومملو ... ل لداه ردا الولاءِ طُوالُ حالُه حالكٌ وموردُه م ... رٌّ وأسما دُروعِه أسمالُ عمّه طَولُه وأعدمه الإع ... دامُ عمداً وما عَرا إهمالُ أسعدَ الله كلّ دهرٍ وعصرٍ ... سُدّة المُلكِ ما أهلّ هلالُ حاطها الله ما لحى طالحاً لا ... حٍ وما لاح للحُداة الآلُ وأنشدني له، وقد سامه بعد الصّدورِ أن يعمل شيئاً على نحو هذا البيت، وهو: زار داوودَ دار أرْوى وأرْوى ... ذاتُ دلٍّ إذا رأت داوودا وليس في هذا حرفان متّصلان. فقال: وادِدْ دُواداً وراعِ ذا ورَعٍ ... ودرِ دارا إن زاغَ أو زارا وزُرْ وَدوداً وأدْنِ ذا أدبٍ ... وذَرْ ذَراه إن زارَ أو زارا وأنشدني له، وقد ضمّنه رسالة: من الغريبِ المُعنّى ... تبغي غريبَ المعْنى هيهاتَ هيهاتَ ماذا ... حديثُ مَنْ هو مَعْنا أبو البقاء بن لُوَيزة الخيّاط من الحريم الطاهري. كان أمّياً لا يُحسن الخطّ، ولا يعرف الضّبط. وكانت أخته عوّادة، محسنة، أقامت عند أتابَك بن زنكي بالشام الى أن قُتل، ثم عادت الى بغداد، وصارت أستاذة بحكم صنعتها. ومن شعر أبي البقاء: تخرّصتِ الوُشةُ عليّ زوراً ... لقد كذَبوا وحقّك في المقالِ وقالوا إنّه سالٍ هواهُ ... وما خطرَ السّلوّ له ببالِ وله: من ساعة ساروا وزمّوا عيسَهم ... وخلّفوني في الدّيار وحدي أقبّلُ الأرض ودمعي ساجمٌ ... معفِّراً فوق التّرابِ خدّي يا ليت أنّ الراقصاتِ نُحِرَتْ ... وعُطّلتْ عن سيرها والوَخْدِ ولم تكن ترقِلُ والحِبُّ على ... أكوارِها قاصدةً لنجدِ لا دَرّ درُّ البيْن ما أظلمَه ... في حكمه بالجورِ والتّعدّي شتّت شملاً جامعاً مصطحباً ... وبدّلَ القُرْبَ بطول البعْدِ إنْ عادتِ الأحبابُ من غيبتها ... وواصلوا بعْدَ الجفا بالصّدِّ فمُهجتي نذْرٌ وما أملِكُه ... لمن أتى مبشّراً بالوفدِ أبو القاسم هبة الله بن الفضل الشاعر رأيته شيخاً مسناً، مطبوعاً، حاضرَ النّادرة. توفي ببغداد في شهور ثمان وخمسين وخمس مئة. وله شعر كثير، لم يدوّن، والغالب عليه الهجاء والمجون، وما خلا من ذلك لا يكون له طُلاوة. هجا الأكابر، ولم يغادر أحداً من أهل زمانه. سمعته يُنشد بيتاً له في نفي الخَيال الكرى، وهو: ما زارني طيفُها إلا مُوافقةً ... على الكرى ثم ينْفيه وينصرفُ ورأيته كثيراً يُنشد الوزير ابن هبيرة، ويمدحه، ويجتديه. وقال يوماً: إرحَمْ يتيماً في سنّي. وكان يتبرّم به الوزير، حتى حدّثني صديقي مجد الدولة أبو غالب بن الحصين قال: أنشد الوزير: شعريَ قد بطّ جُيوبَ الورى ... فلو أردتَ المنعَ لم تقدِرِ وأزهرُ السّمانُ لا ينثني ... ما دام حياً عن أبي جعفر وحكاية الأزهر السمّان مع المنصور، مشهورة، وهي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 أنّ هذا أزهر السمان رجل من أهل الكوفة، كان يصحب أبا جعفر، رضي الله عنه، في زمان بؤسه، قبل الخلافة. فلما فوّضت الخلافة الى المنصور، جاءه أزهر مهنّئاً بذلك، فحجبه. فترصّد له في مجلس حفْل، فسلمَ عليه، فقال له المنصور: ما جاء بك؟ قال: جئت مهنئاً بالأمر، فقال المنصور: أعطوه ألف دينار، وقولوا له: قد قضيت وظيفة الهناء، فلا تعُدْ إليّ. فمضى. وعاد في القابل، فحجبه، فسلّم عليه في مثل ذلك المجلس، فقال: ما الذي جاء بك؟ قال: سمعت أنّك مريض، فجئت عائداً، فقال: أعطوه ألف دينار وقولوا له: قد قضيت وظيفة العيادة، فلا تعُدْ إليّ، فإني قليل الأمراض. فمضى. وعاد في القابل، فقال له في مثل ذلك المجلس: ما الذي جاء بك؟ قال: كنت سمعت منك دعاءً مستجاباً، فجئت أتعلّمه منك. فقال: يا هذا، إنه غير مستجاب، إني في كل سنة أدعو الله تعالى به أن لا تأتيني، وأنت تأتي! وله القطعة التي يغنّى بها في بغداد، في غاية الحسن والرّونق، الصافي عن القذى والرّنَق: يا من هجرَتْ ولا تُبالي ... هل ترجعُ دولة الوصال ما أطمعُ يا عذاب قلبي ... أن ينعَم في هواكِ بالي الطّرفُ كما عهدتِ باكٍ ... والجسمُ كما تريْن بالِ ما ضرّكِ أن تعلّليني ... في الموصل بموعدٍ مُحالِ أهواكِ وأنت حظُّ غيري ... يا قاتلتي فما احتيالي أيامُ عنايَ فيك سودٌ ... ما أشبههنّ باللّيالي والعُذّلُ فيك قد نهوْني ... عن حبّك ما لهم ومالي يا مُلزمي السلوّ عنها ... الصّبّ أنا وأنت سالِ والقولُ بتركها صوابٌ ... ما أحسنَه لو استوى لي في طاعتها بلا اختياري ... قد صحّ بعشقها اختلالي طلّقتُ تجلّدي ثلاثاً ... والصبوةُ بعدُ في حبالي ذا الحكمُ عليّ من قضاهُ ... من أرخصني لكلِّ غالِ وقوله في ابن شماليق كَثير: ابنُ شماليقَ ليس فيه ... نفعُ صغيرٍ ولا كبيرِ فكيف أثني عليه يوماً ... بمنطِقِ الحامدِ الشّكور واللهُ قد قال فيه قبلي ... يهجوه لا خيرَ في كَثير وله في قصيدة يهجو فيها جماعة، منهم بعض الهاشميين، يطعن على نسبه: يكنى أبا العباس وهْو بصورة ... حكمت عليه وأُسجلت بمُغمِّرِ في كفِّ والدِه وفي أقدامِه ... آثارُ نيلٍ لا يزالُ وعُصفرِ وإذا رأى البركيلَ يخفقُ خيفةً ... ذي الهاشميّة أصلُها من خيبرِ نسَبٌ الى العبّاس ليس نظيرُه ... في الضّعف غير الباقِلاء الأخضرِ يُنادى، في بغداد، على الباقِلاء الأخضر، بالعبّاسي. وله: رنا عن الفاترِ الكحيل ... والحتفُ في سُمّه القَتولِ كم سلّ من مقلتيْه سيفاً ... تقبيلُه مُنيةُ القتيل أحورُ حرُّ القلوبِ فيه ... مولِّدٌ حيرةَ العقولِ لم يسْلُ فيه فؤادُ صبٍّ ... هام على خدّه الأسيلِ وا ويلتي قولُ مستغيثٍ ... من ظالم واهبٍ بخيلِ من سُقم جفنيه سُقم جسمي ... ومن ضنى خصرِه نُحولي وأنشدتُ له في أنوشروان الوزير، في ذمّ التّواضع: هذا تواضُعك المشهورُ عن ضعَةٍ ... فصرتَ من أجله بالكبر تُتّهَمُ قعدْت عن أمل الرّاجي وقمت له ... فذا وُثوبٌ على الطُّلاب لا لهُم وأنشدت له في أبي بكر وعمر ابني السّامري البيّع: أبو بكر أخو عُمر سباني ... بسهمَي مُقلتيه وحاجبيْهِ إذا مشَيا معي أبصرتُ أفقاً ... أحاطَ به السّنا من جانبيْهِ يموت الحاسدون إذا رأونا ... فنخرُج بالنّبيّ وصاحبَيْه إشارةً الى قول المشيعين للجنائز: النبي وصاحبيه. ومما أنشد الوزير ابن هبيرة، في آخر عمره، قطعة جيميّة، استحسنتُها، فكتبتها: أهلاً وسهلاً بمولانا فأوبتُه ... لكلّ شاك بها من ضُرّه فرَجُ لا أعدَم اللهُ فيك الخلْقَ نافعَهم ... يا من به تفخرُ الدُنيا وتبتهجُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 ودام جُودُك عون الدّين يغمرُنا ... يا مَنْ تعيشُ بما تسخو به المهجُ إصنَع لهمٍّ أخي همٍ تقلقله ... فصدرُه ضيق من رُعبِه حرِج ومنها: مولاي قد قصُرت بها نهضتي كبَراً ... فما عليّ بشكوى فاقةً حرَجُ يا خيرَ من لاحظَ المضطرّ نائلُه ... وخيرَ ذي كرم في بابه ألِجُ أنت المؤمّلُ للغمّاء تكشِفُها ... إذا تخطّفتِ المستصرِخ اللُّجَجُ يا محسناً طرَدت آلاؤه كرماً ... ما في فؤادي من اللأواء يعتلجُ طيّبْ بقيّة عمري بالتّعهد لي ... يا من له طيبُ ذِكر نشرُه أرِجُ يا من له حجّة بالعزّ قائمة ... إرحَمْ لك الخيرُ شيخاً ما له حُججُ فإنّ من جاوزَ العُمريْن قد خرِبتْ ... بالعجزِ منه أعالي القصرِ والأزَجُ ففيمَ تخدَعُني الدُنيا بزينتها ... والحَينُ قد حان والأحبابُ قد درَجوا والرّزقُ ما دمتُ حياً أبتغيه كما ... يرومُه يافعٌ في حرصه لهِجُ ومنها: آن الأوانُ وأعمالي التي سلَفت ... عِقدٌ يجاورُ فيه دُرّهُ السّبَجُ وذو الجلال إذا ما شاءَ محّصها ... برحمةٍ منه بالغفران تمتزجُ إنّ الذّنوب ذُنوبَ العفوِ يغسِلُها ... فطيمئنّ بها في الحشرِ منزعجُ وأنت واللهِ في علمٍ وفي عملٍ ... من يستقيمُ به في العالم العِوَجُ أولى بمجدِك أن تحنو على يفَنٍ ... مديحُه بالذي أوليتَ مبتهجُ فالعدلُ عندك والإحسان سوقُهما ... قامت على قدَمٍ ما شانَها عرَجُ وما أحاولُ من نَعمءَ تُسبغُها ... فثوبُها لي بما أرضاه ينتسجُ جنابُك الرّحبُ يا أندى الكرام يداً ... فيه بصنعك عنّي الضّيقُ ينفرجُ ومنك آمُلُ بعد الله عارفةً ... بها يزيّل عنا الشدةَ الفرَجُ فانظُرْ إليّ بإحسانٍ تحوزُ به ... حسنَ الثّواب الذي تعلو به الدّرجُ فليس إلاك مُجدٍ نستجيرُ به ... من الخطوبِ التي تنكيلُها سمِجُ فالناس بالناس في الأزمان بعضُهُم ... للبعض في ظُلَمٍ تغشاهُمُ سُرُج وله من قصيدة يشكو فيها قسمة الحظّ، من جملتها: يُعطي البُغا لابنِ السّمي ... نِ ويحرِمُ الفافا وقَيْلَقْ ابن السّمين: رجل شيخ، محدّث. والفافا وقيلق: كانا مملوكين لابن الأنباري، موصوفين بالحسن. وله في أمين الدولة، المعروف بابن التّلميذ: ليس يُعطي مَن يؤملُه ... غيرَ طلْقِ الوجهِ والقُبلِ ولُفيظاتٍ ينمّقُها ... خُدعةَ الجمّالِ للجمَلِ وقياماً ما يُخلّ به ... ذا يكدّي آخرَ العملِ وسمعت أن ابن التّلميذ نفّذ إليه ثوباً أسود في جوابه، وكتب معه: أحبّك في السّوداء تسحب ذيلَها ... خطيباً ولكن لا بذكرِ مثالبي ونقلت من خطّ ابن الفضل الشاعر قطعة، كتبها الى البُرهان عليّ الغزْنَويّ الواعظ، وكان يذكره ويتعرّض به: الى متى تجْني وتستعدي ... يا سيئَ التّدبيرِ والعهدِ فحاسبِ النّفسَ على ما كلّ ما ... تأتيه من جورٍ على عمْد ولا تُغاثثْ بعتابي على ... إغضاءِ وافٍ صالح الوُدِّ واترُكْ برأيي دسْتَنا قائماً ... واجعلْهُ بالشّطرنْجِ لا النّردِ ففصُّك المعلولُ في اللّعن لي ... يحرّم القمرَ بلا بُدّ وسالفُ الصُحبة لا تنسهُ ... ولا تثوّرْ بالأذى حِقدي ولا تجدّدْ بعتابي من ال ... إوان ما سكّنتَ من وجْدي دعني أُصادي النّفسَ عن غيظِها ... منك بشكرِ البِرِّ والرِّفدِ إنّ الأذى والمنّ قد صيّرا ال ... لِباس منه خلَق البُردِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وعاد واللهِ عُقوقاً به ... تأكُلُ يا سيّدنا كِبْدي وا عجباً من فطِنٍ كيّسٍ ... إيمانُه يأوي الى زُهدِ أبعْدَ عشرين خلت وانقضت ... بين العراقَين الى نجْدِ ما غيّرتْ بغدادُ في هذه ال ... مدّةِ سوءَ الخُلُقِ الجعْدِ والشّوكُ والثّلجُ على حالةٍ ... يشوبُ حرّ الوخْزِ بالبردِ كان أبداً يحدّث الغزْنويّ عن طريق غَزْنة، والبرد فيها والشوك، فيقول له: ما فارقتَ بعدُ تلك الطريقة. وأنت تنهى الناس عن غيبةٍ ... في مثلِها تأمُرُ بالرّدِّ إما بتخويفٍ من النارِ أو ... بنوعِ تشويقٍ الى الخُلدِ وبعدَ ذا تفعلُ بي هكذا ... زِنْهار من سالوسِك السّرْدِ وهذه العجمةُ من عندِك اقْ ... تبستها ما هي من عندي أنا وأغراضي على تركي ال ... جدالَ بين العكسِ والطّردِ إرجِعْ الى الله ودعْني ولا ... ترْمِ بسهمِ الطّيشِ من بُعْدِ منْ قطعَ الوصلَ بلا موجبٍ ... ذاك الذي يصلُحُ للصّدِّ هبْني كشيءٍ لم يكن أو كمن ... وسّدَه الحفّارُ في اللّحدِ وفّقنا اللهُ وإيّاكَ يا ... مولايَ للخيرِ وللرُّشْدِ لا تُصلحِ الفاسدَ منّي بما ... يخرُجُ من خردٍ الى شدِّ ودَرْدِسَرْ يا نور عيني مكُن ... لضيّقِ الأنفاسِ بالدّرْدِ ولا تنغّصْ من دِنانٍ خلت ... لبختيَ الأسودِ بالدّرْدي تُريد منّي بعدَ ويلٍ جرى ... سعياً الى الخدمة بالقصدِ هيهاتَ يأجوجُك في باطل ... باللّحْسِ للمُحْكَمِ من سَدّي أنت تُداجيني كذا ساخراً ... أنا الذي أخنَقُ بالزُبدِ وخاطري بالقدْح في كل ح ... رّاق سحيق واريَ الزّندِ إبليسُ في كل بلاء به اس ... تغوى بني آدمَ من جندي أنا الذي أمزِجُ خلّي إذا ... ما شئتُ للمُمْرَضِ بالشُهْدِ إيارَجي أخلِطُ أخلاطَه ... مُغالطاً للخصمِ بالفَنْدِ طِبٌ عراقيٌ على صورة الت ... حقيق لا برْخَشةُ الهندِ عليّ مَن يُقدمُ أن يجتري ... بصولة المولى على العبدِ عندي وفاءُ الكلب لكنّه ... مركّبٌ من قسوةِ الأسْدِ أغاضبُ الفيلَ على أنني ... عند الرِّضا أرقُصُ للفردِ ما لغزالِ السِّرْبِ حظٌ إذا ... ما عزّه المكروهُ بالفهْدِ وشفةُ الشّهم قبيحٌ بها ال ... لَثْمُ لنعلِ الفرَسِ الورْدِ يا نفْثةَ المصدور مني قِفي ... دونَ المناواةِ من الحدِّ فاسلَمْ وسالمْني فهزْلي هو ال ... سُمّ إذا أعربَ عن جِدِّ وقد أردف هذه القطعة بنثر، من جملته: إنّ الله تعالى بذل المغفرة رشوةً وبرطيلاً لعباده من عبادته في جزاء العفو والصّفح، بقوله: (ولْيَعْفوا ولْيَصْفَحوا. ألا تحبّونَ أن يغفِرَ اللهُ لكم؟) . وإذا وزنَ سيّدنا ديناره في قسطاس الإنصاف، موازناً له بصَنْجة الاعتراف، درى بما جنى، وبرئت من المعاتبة أنا. لكنه يدغدغ نفسه ويضحَك، وأسامحُه ويمْحَكُ. وقد توالى من نزَغات الشيطان أسبابٌ زعزعت أركان المودّة، وزلزلت أرضَ الألفة، ورنّقت مشرَبَ المحافظةِ، وجلّلت آفاق المصافاة بالكدورة، وأفسدت نظام الأخوّة حتى أجلت معانيَها، وأخلَت مغانيه، فعاد الالتفاتُ من الجانبين جميعاً الى المحافظة التفاتاً عنها، فتباعدتِ الضّمائرُ بعد تقاربها، وتناءت عقب تصاقبها، وانطبع في كل مرآة صورة الإيحاش، من غير مِراءٍ فيه ولا تحاش. وحصلْنا على نِفاق أجازي ... هِ بصبري عليه غصباً ورغْما والبصير الذي يُحابي بأن يُص ... بحَ عن رؤية المحاباة أعمى فإلى كم تكونُ حربي بلعني ... كلّما كنت بمالمداراة سِلْما علم الفضل أبو منصور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 المبارك بن سلامة المخلطيّ البغدادي من أهل الجانب الغربي، من مادحي الوزير جلال الدين بن صدقة. أنشدني صديقي مجد الدولة أبو غالب بن الحصين، قال: أنشدني خالي وابن عمّ أبي شمس الرؤساء، أبو الحسن، عليّ بن محمد بن الحصين، قال: أنشدني أبو منصور ابن سلامة لنفسه: وُجودُ الفتى فقدٌ إذا عدِم الشُكرا ... وثروتُه فقرٌ إذا لم تُفِدْ ذِكرا ثمارُ الثّنا من دوحةِ الجودِ تُجتَنى ... ولولا احتراقُ العود ما اكتسب العطرا ومن كان يرضى بالخمول مخيِّماً ... وإن كان حياً ميّتٌ ساكنٌ قبرا تغرّبْ عن الأوطان في طلبِ العلى ... الى نيلِ ما تهواه لا تكرهِ المسْرى فقد عاف دُرّ البحرِ فيه خمولَه ... ففارقَه حتى ارتقى التاجَ والنّحرا وإنّ اسوِدادَ المسكِ بعد احمرارِه ... بفُرقته للظّبي أعقبه النّشْرا ومن كان ذا جهلٍ بأبناء دهرِه ... فإني قد جرّبت أحوالهم خُبْرا فألفيتُهم أعداءَ من قلّ مالُه ... على غير ما جُرْم وأخلاّء من أثرى يكذّبني معروفُهم في مديحهم ... فأحتاجُ أن أبني لتقصيرهم عُذرا وأنشدت له في غلام، عرض عليه أن يشرب فأبى: وأعرضَ إذ عرَضْتُ عليه خمراً ... يروقُ الشَّرْبَ من شُربِ الظِّرافِ فيا متحاشياً من شُربِ راحٍ ... مع النّدماء صافيةِ النِّطافِ إذا ما كنت ذا ورَع ونُسْكٍ ... أرِقْ ما في لحاظِك من سُلافِ وله: بأنامل أصمت مَقاتلَنا ... فرؤوسُها بدمائِنا حُمْرُ محمود بن محمد بن مسلم الشّروطي البغدادي كان شاباً، رائق الشّعر، بديع النّظم والنّثر. أنشدني لنفسه من قطعة يغنّى بها: يا طُلولُ بعدَهمُ ... كيفَ حالُ ذي شجَنِ غيّرتْكِ حادثةٌ ... من حوادثِ الزّمنِ وكان يُنشدني من شعره كثيراً، ولم أثبته. وآخر عهدي به سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة. وتوفي بعد ذلك، وأنا بواسط. وله ديوان. وكان معظم مدحه في نقيب النُقَباء ابن الأتقى الزّينيّ. وله من قصيدة في مدحه، مستحسنة، أولُها: في حدّ رأيِك ما يُغْني عن القُضُبِ ... وفي سخائك ما يُرْبي على السُحُبِ وفي اعتزامِك ما لو شئت تُنفذُه ... أبادَ بالخوف أهلَ الدهرِ والرُعُبِ دانت لهيبتك الأيام خاضعةً ... وفلّ عزمُك حدّ الموكبِ اللّجِبِ وقال عنك لسانُ الدهر ما نطقت ... به على كل عودٍ ألسُنُ الخُطَبِ يا طلحةُ بن عليّ ما لائدِنا ... الى الغنى غيرُ ما توليهِ من سببِ جابت بنا البيدَ عيسٌ طالما غنِيَتْ ... براحتَيْك عن الأمواه والعُشُبِ حتى وصلنا الى ملْكٍ مواهبُه ... مقسومةٌ بالنّدى في العُجم والعرَبِ محجّب برِواق من مَهابته ... يلقى الوفود بمالٍ غيرِ متجِبِ ومنها: فجدّه في صعودٍ لم يزَلْ أبداً ... ومالُه بالنّدى المنهَلِّ في صبَبِ إن ساجَلوك وجاؤوا بانتسابِهم ... ففي السمء مقرّ الرّأسِ والذّنبِ أو شابهوا عاطفاتٍ منك طيّبةً ... فالعودُ والعودُ معدودانِ في الخشبِ وكلّه خشبٌ في الأرضِ منبِتُه ... لكنّ شتّان بين النّبعِ والغرَبِ أو كان أصلُك يا ابنَ المجد أصلهمُ ... فالنّخل لا شكّ أصلُ اللّيف والرُطَبِ لبّيكَ من منعِمٍ قال الزّمان له ... أنت المُعدّ لصَرْفِ الدهرِ والنّوَبِ ومنها: وكيف لا ترتضي الآمالُ رأيَ فتىً ... مذ كان في المهدِ أعطي الحكم وهْو صَبي وأجدرُ الناس بالعلياء من شهدتْ ... له العلى وعلى حُبِّ الإمام ربي يا من علت درجاتُ الفضلِ بي وبه ... شعري وجودُك رأسُ المجدِ والأدبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 لما غدوتَ من الأجوادِ منتخَباً ... أتاك شري بمدحٍ فيك منتخَبِ فلا مددتَ يداً إلا الى ظفَرٍ ... ولا وطِئْتَ ثرىً إلا على أرَبِ وله من قصيدة في مدحه: جرّبتُ أبناءَ هذا الدهرِ كلهمُ ... ولم أجِدْ صاحباً يصفو به الرّنَقُ إنْ حدّثوا عن جميلٍ من خلائقهم ... مانوا وإن حدّثوا عن ميْنِهم صدقوا هم العُدوّ فكن منهم على حذَرٍ ... لا يخدعَنْك له خلْقٌ ولا خُلُقُ تغيّر الدهرُ والإخوانُ كلهمُ ... مالوا عليّ فلا أدري بمن أثِقُ وله من قصيدة: أعنِ العَقيقِ سألتَ برقاً أومَضا ... أأقامَ حادٍ بالرّكائب أو مضى إن جاوز العلمَيْن من سِقْط اللّوى ... بالعيس لا أفضى الى ذاك الفضا وله: حيِّ جيراناً لنا رحلوا ... فعلوا بالقلب ما فعلوا رحلوا عنّا فكم أسَروا ... بالنّوى صبّاً وكم قتَلوا من لصَبٍّ ذابَ من كمَدٍ ... طرفُه بالدّمعِ منهملُ فهْو من شدْوِ النّوى طرِبٌ ... وهْوَ من خمرِ الهوى ثمِلُ واقفٌ بالدّارِ يسألُها ... سفَهاً لو ينطقُ الطّللُ لو تُجيبُ الدارُ مخبرةً ... أين حلّ القومُ وارتحلوا لتشاكَيْنا على مضضٍ ... نحن والأوطانُ والإبِلُ يا صَبا نجدٍ أثرتِ لنا ... حُرَقاً في القلب تشتعلُ غرّدَ الحادي ببَينِهمُ ... فله يومَ النّوى زجَلُ يا شُموساً في القِباب ضُحىً ... حجبْتها دوننا الكِلَلُ عجْن بالصبِّ المشوقِ فقد ... شفّه يومَ النّوى الملَلُ وله: ألِفْتُها وللحُدا تغريدُ ... عن رامةٍ إنْ وصلتْ زَرودُ فلاحَ برقٌ بثنيّاتِ الحِمى ... تُشيمُه للأعينِ الرّعودُ فمالتِ الأعناقُ منها طرباً ... كما يُميلُ الناشدَ المنشودُ أسكرها خمرُ السُّرى تحت الدُجى ... لا الخمرُ ما جاء به العُنقودُ وللنّسيم في الظلام يقظةٌ ... مسامرو الرّكْبِ بها رُقودُ نوقٌ إذا ما سلِمتْ من الوجى ... أذابَها التّسْآدُ والتّسهيدُ تبغي زَروداً حاجةً ممنوعةً ... ومقصِداً مرامُه بعيدُ لو خُلّيتْ نالت ولكنْ عافها ... أنّ امتناعَ ركبِها قُيودُ أو نطقت قالت كما قلت لها ... آهاً لهذا البينِ ما يُريدُ في كل يومٍ للفراق روعةٌ ... وللرّكاب سائقٌ غِرّيدُ دأبُ المحبّين الغرامُ والجوى ... ودأبُها الأنساعُ والقيودُ قد شابهَ الرّكبُ الرِّكابَ في الهوى ... فكلّهم بوجْدِه عميدُ ما للغمامِ لا عدا وادي الغضَى ... عليه من خِلاله يجودُ وهبّ خفّاقُ النّسيم فانثنت ... غصونُه مائسةً تَميدُ واكتستِ الكُثبانُ زهْراً مثلما ... بصِبغها لُوِّنَتِ البُرودُ وفاحَ نشْرُ الرّوضِ تحدوهُ الصّبا ... فطاب من ريّاهُما الصّعيدُ وابتسم النّوْرُ على هامِ الرُبا ... كما وهت عن نظمها عقود ومالتِ الأغصانُ روّاها النّدى ... كأنّما أوراقُها بُنودُ فلستُ أدري أغصوناً مِسْنَ لي ... أم خطرَتْ بلينِها القُدودُ هيهاتَ يُخفي ما به مُتيّمٌ ... دموعُه بوجْدِه شهود مجتمعُ الأضدادِ من جُفونِه ... بحرٌ ومن أحشائِه وَقودُ عاد الهوى فليتَ أيامَ الصِّبا ... مثلُ الهوى كما مضت تعودُ والشّعراتُ البيضُ شُبْنَ مفرِقي ... فليتَها عادت وهنّ سودُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 رُدّوا الصِّبا كردّ طرْفِ لحظةٍ ... إنّ الصِّبا زمانُه حميدُ وخلّصوني من تكاليفِ الهوى ... إنّ الهوى عذابُه شديدُ أو لا فنادوا ثم بيعوا مُهجتي ... بنظرةٍ فيمن عسى يَزيدُ أو فاجمَعوا شيبي وذُلّي في الهوى ... وطول تعذيبي بمن أُريدُ ما فعلت بالأنفُس البيض الظُّبا ... ما فعلت بنا الظِّباءُ الغيدُ سنَحْنَ بالوادي فماذا فعلت ... بالأنفُس الأجيادُ والخدودُ وله من قصيدة: أسيرُ هوى المحبّةِ ليس يُفْدى ... ومقتولُ التّجنّي لا يُقادُ ومن قد أمرضته وأتلفته ال ... عيونُ فلا يُفادُ ولا يُعادُ فقدْتُ الصّبرَ حين وجدْت وجْدي ... وجاد الدّمعُ إذ بخلَتْ سُعادُ وكنت أخافُ بُعدي يوم قُربي ... فكيف أكون إن قرُب البِعادُ ديارَهُمُ كساكِ الزّهرُ ثوباً ... وجادَ على معاهدِك العِهادُ ألا هل لي إلى نجدٍ سبيلٌ ... وأيامي برامةَ هل تُعادُ أقول وقد تطاول عمرُ ليلي ... أما للّيلِ ويحَكُمُ نفادُ كأنّ الليلَ دهرٌ ليس يُقضى ... وضوءُ الصُبح موعدُه المَعاد أعيدوا لي الرّقادَ عسى خيالٌ ... يزورُ الصبّ إن عادَ الرُقادُ وبيعوني بوصلٍ من حبيي ... وفي سوق الهوانِ عليّ نادوا فلو أنّ الذي بي من غرامٍ ... يُلاقي الصّخرَ لانفطرَ الجمادُ وثِقتُ الى التصبّر ثمّ بانوا ... فخان الصّبرُ وانعكس المرادُ وكان القلبُ يسكنُ في فؤادي ... فضاع القلبُ واختُلِس الفؤادُ وقالوا قد ضللْت بحبّ سُعدى ... ألا هذا الضّلالُ هو الرّشادُ وهل يسلو وِدادَهمُ محبٌّ ... له في كل جارحةٍ وِدادُ وآنفُ من صلاحي في بعادي ... ويُعجبني مع القربِ الفسادُ وبين الرملِ والأثلاتِ ظبيٌ ... يصيدُ العاشقين ولا يُصادُ أحمُّ المُقلتيْن غَضيضُ جَفنٍ ... تكِلّ لطرفِه البيضُ الحِدادُ أقولُ وقد تحجّبَ عن لِحاظي ... حبيٌ بالجَفا عنه أُذادُ أراك بمقلتي وبعين قلبي ... لأنّك من جميعهما السّوادُ لمن وأنا المَلومُ ألومُ فيما ... على نفسي جنيتُ أنا المُفادُ سعى طرْفي بلا سببٍ لقتلي ... كما لدمِ الحسينِ سعى زِيادُ وله: سترَ الغرامُ فهتّكته الأدمُعُ ... والدمعُ يُعلنُ ما تُجنّ الأضلع وأعار في الأغصان كلّ حمامةٍ ... نوحاً فرقّ له الحمامُ السُجّعُ واستنّ برقٌ بالحِجاز فشاقه ... ذاك الوميضُ وأقلقته الأربُعُ وكذا المشوقُ إذا تذكّر منزلاً ... هاجت بلابلَهُ البُروقُ اللُّمَّعُ يا قلبُ هل لك في السّلوِّ طَماعةٌ ... أم ما مضى لك من زمان يرجِعُ أم هل لمن أسرَ التّجني مُنقذٌ ... إنْ أنّ في قيدِ الصّبابةِ موجَعُ كيف السّبيلُ الى الحجاز ولعلَعٍ ... من بعدِها بعُدَ الحجازُ ولعْلَعُ أوطارُ شوقٍ في الفؤادِ مقيمةٌ ... وغليلُ حُبٍّ في الحشا لا ينقَعُ من للمحبّ ترحّلت أحبابُه ... بلِوى العقيق عن العقيق وودّعوا خذلَتْه أنصارُ التّصبّر في الهوى ... يومَ الفراقِ وساعدته الأدمعُ قِفْ وقفةً عنّي ببُرقةِ عاقلٍ ... وسلِ الطّلولَ وهل يُجيك بلقَعُ واستخبرِ الرّسمَ القديمَ وقل له ... أين الكثيبُ وأين ذاك الأجرعُ بل أين سكّان الحِمى فلئِنْ سرَوا ... عن مُقلتي فلهم بقلبي مربَعُ أضحت هوادجُهم لدُرِّ رُبوعهم ... صدَفاً وهنّ على الحدائجِ تُرفَعُ وله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 هل بعد إقرارِ الدموعِ جُحودُ ... غلبَ الكرى وتمكّن التّسهيدُ يا للرّجالِ لنازح متغرّب ... كثُر الغرامُ عليه وهو وحيدُ أنا بين حالَيْ مُقتِرٍ ومبذّرٍ ... مُضْنى الفؤاد متيّمٌ معمودُ صبرٌ ودمعٌ ليس لي بهما يدٌ ... فالصّبرُ يبخلُ والدموعُ تجودُ أمذكّري تلك العهودَ برامةٍ ... أنَسيتَ ما أهدت إليّ زَرودُ لا تثْنِ طرفَك عن ثنيّات اللّوى ... فلنا على تلك العهودِ عهودُ ولقد وقفنا للوداع وضمّنا ... يومٌ بمنعرجِ اللّوى مشهودُ جمعاً يفرّقنا الفراقُ ولم يزلْ ... شمْلُ الوداعِ يُبيدُه التّبديدُ بلّغْ هُديتَ تحيّةً من عاشقٍ ... بالنّفسِ دون لِوى العقيقِ تجودُ وأقرّ السّلامَ على الكثيبِ وقُلْ له ... هل ماءُ رامةَ بعدَنا مورودُ يا عاذلَ العُشّاق إنْ هجروا وإنْ ... وصلوا فكلٌ بالجوى مجهودُ دعهُمْ وما طُبِعوا عليه فإنّهم ... منهم شقيٌ في الهوى وسعيدُ وله: عتابٌ منك مقبولُ ... على العينين محمولُ ترفّقْ أيه الجاني ... فعقلي فيك معقولُ ويكفيني من الهِجرا ... نِ تعريضٌ وتهويلُ ألا يا عاذلَ المشتا ... قِ إنّي عنك مشغولُ وفي العشّاقِ معذورٌ ... وفي العشّاق معذولُ أسُلْوانٌ ولي قلبٌ ... له في الحبّ تأويلُ بمَنْ في خدِّه وردٌ ... وفي عينيه تكحيلُ وجيشُ الوجدِ منصورٌ ... وجيشُ الصّبرِ مخذولُ وله: جفْنُ عيني شفّه الأرَقُ ... وفؤادي حشوهُ الحُرَقُ من لمشتاقٍ حليفٍ ضنىً ... دمعهُ في الرّكبِ منطلقُ أنا في ضِدّين نارِ هوىً ... ودموعٍ سُحْبُها دُفَقُ بي حريقٌ في الفؤاد ولي ... مُقلةٌ إنسانُها غرِقُ وحبيب غابَ عن نظري ... فدموعي فيه تستبقُ غاب عن عيني فأرّقني ... فجفوني ليس تنطبقُ قلت إذ لمَ العواذلُ واص ... طلحوا في اللّوْم واتّفقوا وفؤادي فيه ذو قلقٍ ... ماعلى العُذّال لو رفَقوا مذ نأت عنّي منازلُه ... ليس لي خلقٌ به أثِقُ أخوه أبو المعالي ابن مسلم الشّروطي وكان أصغر من محمود. أذكره في أوان الصّبا، ودكّانه - في باب النّوبيّ - مجمع الظُرَفاء والأدباء، وهو يعمل شعراً، ويلقّنه صُنّاع الغِناء. وتوفي بعد سنة خمس وأربغين، وهو شابّ. ومن نظمه: جرى دمعُه يوم باتوا دَما ... على إثرهم بعَقيق الحِمى وصاحوا الرّحيل وزمّوا الرِّحالَ ... وساروا ووجدي بهم خيّما تولّى الفريقُ أوانَ الفِرا ... قِ واقتسموا مهجتي أسهُما وعيش علا يومَ صاحوا الرّحي ... ل صارت حلاوتُه علْقَما وما ضرّ من جرحَتْ مُقلتا ... هـ لو بعثَ الوصلَ لي مرهَما بلا في الهوى وابتلاني الجَوى ... وكان أساس بلائي هُما وكم لامني فيهمُ العاذلانِ ... فما سمِعت أذني منهما وله: نادى مُنادي البَيْن بالتّرْحالِ ... فلذلك المعنى تغيّر حالي زُمّتْ ركابُهمُ فلمّا ودّعوا ... رفعوا على الأجمالِ كلّ جَمالِ فجرت دموعي في خدودٍ خِلتُها ال ... ياقوتَ قد نُثِرت عليه لآلي وتفرّق الشّملُ المَصونُ وقبلَ ذا ... لم يخطُرِ البيْنُ المُشتُّ ببالي وله مسمّطة، يغنّى بها: يا ريمُ كم تجنّىلِمْ قد صددتَ عنّاصِل عاشقاً مُعنّىبالوصلِ ما تهنّا السّلسبيلُ ريقُوالشّهدُ والرّحيقُوالوردُ والشّقيقُمن وجنتَيْه يُجْنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 حتّامَ يا غزال ُذا التّيهُ والدّلالُوالصّدُّ والمَلالُأفنى ولي يَفْنى عذّبتَني فمهلالم ترْعَ فيّ إلاما كنتُ قطّ إلاأحسنتُ فيك ظنّا يا فتنةَ الفتونِيا نُزهةَ العيونِإرحَمْ أخا شُجونِما نال ما تمنّى يا بدرَ كلِّ بدرِفي نصفِ كلِّ شهرِيا منْ أطال فكرييا مَن به فُتِنّا لم يرْقَ فيك جَفْنيمن عُظم طولِ حُزنيناحَ الحمامُ عنيفي دوحِه وغنّى قد عيّروا ولاموامن شفّهُ السَّقامُما ينفَعُ الملامُمنْ في هواك جُنّا صبٌ بكم عميدُأشواقُه تَزيدُقد شفّه الصّدودُأضحى بكم مُعنّى فخر الدّين أبو شُجاع بن الدّهان الفرَضي البغدادي حبرٌ عالم، وبحر في الفضائل متلاطم، فقيه نبيه، نبيل وجيه. رأيته ببغداد، وهو شابّ، يتوقد ذكاء وفطنة. وله اليدُ الطّولى في النّجوم وحلّ الزّيجات. وله شر حسن جيّد، وخاطر مجيد، ونفَس في النّظم مديد. أنشدني لنفسه في قطب الدين بن العبّادي، وكان بينه وبين البرهان عليّ الغزْنَويّ الواعظ نوع منافرة، وكانت سوقه انكسرت به: للهِ دَرّ القطبِ من عالِمِ ... طَبٍّ بأدواءِ الورىآسِ مُذْ ظهرت حُجّتُه في الورى ... قام به البُرهانُ للنّاسِ في عرف أهل بغداد: إذا أفلس أحدهم، وأغلق باب دكّانه، قيل: فلان قام للناس. وأنشدني لنفسه: أبو سعيدٍ الحكيمُ حبْرٌ ... قد فاق في علمه البرايا إذا رأى الخطّ مستقيماً ... خرّ له قائمَ الزّوايا وأنشدني لنفسه في ثقة الدولة، أبي الحسن، عليّ بن الدُرَيْني، وقد مرض: نذَرُ الناسُ يومَ بُرئِك صوماً ... غيرَ أنّي نذرتُه أنا فِطْرا عالماً أنّ ذلك اليومَ عيدٌ ... لا أرى صومَه وإنْ كان نَذْرا وجرى حديثه عند الحكيم أوحد الزمان أبي الفرج بن صفيّة فذكر أنّه يعرف من الهندسة طرفاً صالحاً. وأما شعره، ففي غاية الجودة. وأنشد له من قصيدة في جمال الدين محمد بن عليّ بن أبي منصور بالموصل حين سافر إليه: قابلتُه فانجبرت كسوري ... وكنتُ في مُربّعِ التّعثيرِ وله في الوزير عون الدين بن هُبَيرةَ، وقد قرِّب حصانه - ليركب - فجمح، من قصيدة: وبالأمسِ لما أنْ بدت لطِمِرِّه ... مهابتُه أضحى من الوحش أنفرا على أنّه ما زال يغشى به الوغى ... ويُوطِيه أطرافَ الوشيجِ مُكسّرا جوادٌ علت منه الجوادَ مهابةٌ ... فأُرعِد حتى كادَ أن يتأطّرا وما الطِّرفُ عندي بالمَلومِ وخوفُه ... حقيقٌ به لما اجتلى منه قَسْوَرا وماجَ لأنّ البحر بعضُ صفاتِه ... فساحَ ولاقى من يمينَيْه أبحرا وله يهجو أعور: من عجب البحرِ فحدِّثْ به ... بفرْدِ عينٍ ولسانَيْنِ الأمير أبو شُجاع بنُ الطّوابيقي من باب العامّة ببغداد. له نظم رائق، وشعر فائق. وهو بالموصل. توفّي سنة تسع وستين. حكى أبو المعالي بن سلمان الذّهبي: أنّه كان صحبه لما قصد أمير قلعة فنَك، وبات ليلتين لم يدخل. فلما عاد الأمير من الصّيد، دخلها، وأنشده من قصيدة: يا ناصرَ الدّين سمعاً من فتى علِقَتْ ... يداهُ منك بحبلٍ غيرِ مُنبَتِك لئن غدوتَ لصيدِ الوحشِ في عُدَدٍ ... من النّيازكِ والبتّارةِ البُتُكِ لَصِدْتُ منك بلُقياك السّماحةَ وال ... إقدامَ والمجدَ في ثِنيَتيْ حِبا ملِك وعُدّني مدَحٌ تُلهيك عن غُررٍ ... لو ناجتِ الشمسَ لانحطّت من الفلَكِ أقِلْ وليّك قولَ الكاشحين له ... يا ويحَه عادَ بالحِرمان من فنَكِ ولا تكِلهُ الى عذرٍ تنمّقُه ... إذ ما عليه بترك العُذرِ من درَكِ فحسبُه ليلتا سوء غدا بهما ... نزيلُ مُلكك يا مولاي كالملكِ وأنشدني أبو المعالي الذّهبي، قال: أنشدني لنفس، يستهدي شراباً: مولايَ قد زارني غلامٌ ... ينظُرُ من مُقلتَيْ غزالِ يَميسُ كالغصن جاذَبْتُه ... في دَوْحِه نسمةُ الشّمالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 مزّق بالهجرِ ثوبَ عُمْري ... وعادَ يرفوهُ بالوِصالِ وهْوَ جليسي في صحنِ دارٍ ... من كلّ ما يشتهيه خالِ وقد تحيّلتُ في طعامٍ ... يُغني أكيلاً عن الخِلال والير في دارِه قُدورٌ ... فوق الأثافي بين المقالي قد أحكمت طبخَها طُهاةٌ ... وصُفِّقَ الخمرُ بالزّلالِ فانعَمْ بها قهوةً حراماً ... لزاهدِ الدّين في الحلالِ قال الشّاتاني: وكتب إليّ من قصيدة: الى حسنٍ نحتثّها لُغّباً حسْرَى ... حواملَ من حُرِّ المديحِ له وِقْرا ومنها: تجاوزتَ عن جُرمِ انبساطيَ مرةً ... وعدتَ فعاوِدْ بالنّدى مرةً أرى ولما سافر الى الموصل، مدح - بديار ربيعةَ وديار بكر - أكابرها، وأشاع أشعاره، وأقام شائرها. وكان له خاطر لأبكار القوافي خاطب غير خاطئ، لكنّما أخمَصُه لذُرا أشرافِها واطئ. ومن شعره، قوله: قامت تهزّ قوامَه يومَ النّقا ... فتساقطَتْ خجلاً غصونُ البانِ وبكت فجاوبَها البكا من مُقلتي ... فتمثّل الإنسانُ في إنساني ومنها: وأحبّكم وأحبّ حبي فيكمُ ... وأُجِلّ قدرَكمُ على إنساني وإذا نظرتكمُ بعينِ خيانةٍ ... قام الغرامُ بشافعٍ عُريانِ إنْ لم يخلّصني الوصالُ بجاهه ... سأموتُ تحت عقوبةِ الهِجْرانِ أصبحتَ تُخرجُني بغير جنايةٍ ... من دارِ إعزازٍ لدارِ هوانِ كدم الفِصادِ يُراقُ أرذلَ موضعٍ ... أبداً ويخرجُ من أعزِّ مكانِ قد نسب هذه الأبيات إليه من أنشدَنيها، وكنت أظنّها لغيره. وله من قصيدة: زارَ وجُنحُ الظلامِ مسدول ... طيفٌ له في الدُجى تخاييلُ والليلُ زِنجيُّ ليلِه حدَثٌ ... عليه من شُهْبه أكاليلُ والبدرُ وسْطَ السّماءِ معترضٌ ... قد أشرقَ العرْضُ منه والطّول ومنها: أينَ تسيرونَ بالرِّكاب فقد ... ملّ السُرَى حاملٌ ومحمولُ غزال من عامّة بغداد. أنشدني لنفسه: قد هاج ناراً بقلبي في الدُجى وَرْقا ... أنّت ورنّت ولم تلْقَ الذي ألقى أوصيكِ يا وَرْقُ رِفقاًبالفتى رِفقا ... الصّبُّ بعد فراق الحِبّ ما يبقى فارس المعروف بطَلّق ذكر لي بعض أصدقائي من أهل بغداد: أنّه رأى من عقلاء المجانين بها - في زماننا - رجلاً، يقال له طلّق، وأنشدني لنفسه: لا يغُرّنْك اللباسُ ... ليس في الأثواب ناسُ همْ وإنْ نالوا الثّريّا ... بُخَلاءٌ وخِساسُ كم فتى يُدْعى رئيساً ... وهْوَ الخسّة راسُ ويدٌ تصلُح للقط ... ع تُفَدّى وتُباسُ الحسن بن عبد الواحد الشهرباني المعروف بابن عجاجة المعلّم. أنشدت له في ابن رَزين: قبّح اللهُ باخلاً ليس فيه ... طمعٌ واقعٌ لمن يرتجيه سِفلةٌ إنْ قصدْتَه يتلقّا ... ك على فرْسخٍ بكبرٍ وتيهِ أحمقٌ رأسُه إذا فتّشوهُ ... وجدوهُ بضدّ إسمِ أبيه هذه الأبيات، مضطربة في نفسها لفظاً ومعنى، فإنّ ألف الاسم ألف وصل، وقد قطعه؛ ثم الهجو في غير موضعه. يوسف بن الدُرِّ البغدادي أنشدني محمد المولَّد له - وذكر أنّه مات في عُنفوان شبابه بطريق مكّة سنة تسع وأربعين وخمس مئة، وكان ذكيّاً - يهجو بعضم بالعين: إنّ أبا سعدٍ الممشّي ... زمانَه أنت حين يمشي مدوّرُ الكعبِ فاتّخذهُ ... لتلِّ غرسٍ وثلِّ عرشِ لو رمَقت عينُه الثريّا ... أخرجها في بنات نعشِ ما سمعت بألطف منها في هذا المعنى. وأنشدني له من قصيدة، وكأنه نطق بحالته: لهفي على أمل فُجِعت به ... في عُنفُوان شبيبةِ الأملِ وأنشدني أبو المعالي الكتبيّ له: عذرتُك لستَ للمعروف أهلاً ... ولومُك في قصورك عنه ظلمُ أتحسَبُني أقدتُ إليك نفسي ... ولي بك أو بما تأتيه علم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ظننتُ بك الجميلَ فخاب ظنّي ... وقال اللهُ بعضُ الظنِّ إثمُ وأُنشدت له: تِهْ علينا وتِهْ على الشمسِ حُسناً ... أنت أولى بالوصف منه وأحرى أنت بدرٌ يَسري ونحن أُسارا ... ك وأنّى يكون للبدرِ أسْرى لا وأجفانِك المِراضِ اللواتي ... سِحرُه لانعجامه ليس يُقْرا لو رأى وجهَك الخليلُ بعيني ... قال هذا ربّي ولم يتبرّا أوقعته هذه المبالغة فيما ترى، ونستغفر الله تعالى من مثل هذا القول. وأنشدني له أيضاً: ويْحي من المتوجّعين وأخذِهم ... روحي بكثرة قولهم ماذا وما وانظُر لنفسك قلتُ قد أكثرتمُ ... إنّي نظرتُ فما رأيتُ سوى العمى وأنشد له: تنقّل السُقمُ من جِلدي الى جلَدي ... كما تنقّل من جفنيك في جسدي وزاد ما بي وقلّ الصّبرُ واستعرت ... نارُ الغرام وفتّ الحُزنُ من عضُدي وما شكوتُ بِلى جسمي الى أحدٍ ... ولا الشّكيّةُ دارتْ قطّ في خلَدي يسُرّني سوءُ حالي في هواك وإن ... كلّفتَني في الهوى ما لا تنالُ يدي وأستلذّ الذي ألقاه من ألمٍ ... وإنْ حسسْتُ بوقعِ النارِ في كبِدي إني على حفظِ سرّي فيك مجتهدٌ ... وهكذا أنت فاحفَظهُ أو اجتهِدِ كيلا تُحيطَ بنا علماً ضمائرُنا ... ولا يَشيعَ حديثانا الى أحدِ وأنشد له: آمري بالصّبر سلِّ ال ... رّوحَ دون الصّبرِ عنكا فتْكُ أجفانِك بالعُش ... اقِ من سيفك أنكى عبدُك المرحومُ أضحى ... مستجيراً بكَ مِنكا نقص في الأصل إيّاك أن تُدخلَهُ مكةً ... فإنّه يُخرجُها من يدَيْكَ هذه، وإنْ كانت نادرة معجبة، غيرَ أنّ التّجرّؤ على مخاطبة الله تعالى بمثل هذا القول، يدلّ على اختلال الدّين والعقيدة. ونسأل الله أن يحفظ علينا الاعتقاد الصّحيح. وأنشدني له بعض أصدقائي - ببغداد - فيمن تزهد: قالوا تزّهدتَ فازدد ... تَ بالتّزهُّدِ بَرْدا ألبستَ نفسكَ لِبْداً ... والثّلجُ يُلبِسُ لِبْدا لكنّه يتندّى ... وأنت لا تتندّى أبو محمد محمد بن الحسين بن هِلال الدّقاق من أهل بغداد. ذكره السّمعاني في الذّيل، وذكر: أنّه لقيه شاباً، متودّداً، كيّساً، وذلك في سنة ستّ وثلاثين. لقِي أسعدَ الميهَنيّ الفقيه، وشدا عليه طرفاً من العلم. قال: سألته عن مولده، فقال: سنة اثنتين وتسعين وأربع مئة. ٍقال: أنشدني لنفسه قوله: أترى لوعدك آخِرٌ مترقّبٌ ... أم هل يمدّ بنا الى الميعاد فاليأسُ إحدى الرّاحتين لآمِلٍ ... قد ضمّ راحتَه على ميعاد وقوله: لولا لطافةُ عُذرِها لمُتيّمٍ ... بغريبِ ألفاظٍ وحُسنِ تلطّفِ لتقطّعتْ منه علائقُ قلبِه ... لولا مِزاجُ عتابها يتعطّفُ ابن قزمّي البغدادي أبو المظفّر محمد بن محمد بن الحسين بن خزَمِّي الإسكافي. من أهل بغداد، شيخ من باب الأزَج. كان أيامَ الوزير عليّ بن طِراد. وكان لي صديق من أهل باب الأزَج، يقال له الكافي أبو الفضل، ووعدني أن يمع بيني وبينه، فما اتّفق ذلك. وحمل إليّ بخطّه هذه الأبيات: مدامعُهُ تُغرِقُ ... وأنفاسُه تُحرِقُ وما ذاك أعجوبةٌ ... كذا كلّ من يعشَقُ بنفسي شهيّ الدّلا ... لِ إن مرّ بي يُطرِقُ فأُغضي له هيبةً ... وقلبي جوى يخفِقُ بوجهٍ كشمسِ الضُحى ... أساريرُه تبْرُقُ أكادُ لإشراقِه ... إذا ما بدا أصعَقُ إلامَ أداري الجوى ... وأمحَضُ مَن يمذُقُ وأُشفِقُ من لوعة الص ... : دود ولا يُشفِقُ سِهامُ لِحاظِ الحبي ... بِ في كبِدي تُرشَقُ وكاتبٌ خطّ العِذا ... ر في خدّه يمشُقُ وهذه الأبيات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 لي حبيبٌ لانَ عِطْفا ... ليتَه قد لان عَطْفا إنّ قلبي من هواه ... في حريقٍ ليس يُطْفا أشتهي تقبيلَ عيني ... هـ وصحنِ الخدِّ ألفا ثمّ ضِعفَ الشّفعِ والوَتْ ... رِ وضِعفَ الضِّعف ضِعْفا ثم طالعت مجموعاً، فوجدت له فيه هذه الأبيات المقطّعات، فمنها: مَن لنَجِيّ الفِكَرِ ... مَن لحليفِ السّهَرِ منْ للمَشوقِ المستها ... مِ الوالِهِ المُستَهتَرِ من للجفونِ قرّحت ... بدمعها المنهمرِ من لفؤادٍ نارُه ... راميةٌ بالشّرَرِ واهاً لقلبي من هوىً ... دهاهُ بعد الكِبَرِ واها له من خاطرٍ ... أسلمني للخطرِ واهاً له من موردٍ ... سهلٍ عسيرِ المصدِ أيُظلِمُ القلبُ وقد ... أشرق صبحُ الشّعَرِ جارَ عليّ الحبّ وال ... حُبّ لئيمُ الظّفَرِ ومن يذُقْ ما ذُقتُه ... من الغرامِ يعذرِ سباه ممشوقُ القوا ... مِ بابليّ النّظَرِ أهيفُ مهضومُ الحشا ... كالصّارمِ المذكّر يَبسِمُ عن مفلّجٍ ... مرتّلٍ مؤشّرِ وشفَتَيْن شفّتا ... كالأرجُوان الأحمرِ وخاتم الحسن الذي ... عِيلَ به مُصطَبَري يا حبّةَ القلبِ المَشو ... قِ يا سَوادَ البصَرِ ليَبلُغنّ الحبُ بي ... ما لم يَسِرْ في خبرِ حتى يقولَ قائلٌ ... كان أبو المظفّرِ ومن أخرى: لطفُ الخصورِ المُخطَفَهْ ... والطُرَرُ المُصفّفَهْ والوجناتُ البضّة ال ... مُشرِقةُ المترّفَهْ ولينُ أغصانِ القُدو ... دِ اللّدْنةِ المُهَفْهَفهْ أبقت قلوبَ العاشقي ... نَ صبّةً مختطَفَهْ فكم مريضٍ مدنَفٍ ... شِفاؤهُ لثمُ الشّفَهْ ولا يبالي أن يُع ... دّ فعلُه من السّفَهْ قالوا له الهائمُ لا ... يردعُه من عنّفَهْ ولا نصيحٌ مُشفِقٌ ... هدّدَهُ وخوفَهْ والنّفسُ للإنسان إن ... أنصفَ غيرُ منصِفَهْ يحظى بما قدّمه ... وهمّه ما خلّفَهْ وإنّما الدُنيا غرو ... رٌ خدَعٌ مُزَخْرفَهْ مثلُ حُطامِ الزّرعِ تذْ ... روهُ رياحٌ مُعصِفَهْ بعدَ أنيقٍ ناضرٍ ... أزهارُه مفوّفَهْ ومن أخرى: هاج له ذِكرَ الصّبا ... نسيمُ أنفاسِ الصّبا وعادهُ عيدُ الجوى ... فبتَ صبّاً وصِبا ولم يكن بعدَ النُهى ... أولَ ذي شيبٍ صبا لله ريْعانُ الشّبا ... بِ زائراً ما أعجبا أودتُه مآربي ... إذ لستُ أعصي أرَبا ومن أخرى: يا لجآذرِ العِينِ ... فِتنتي وتَحْييني ما تزالُ تقتُلُني ... تارةً وتُحييني والمُنى تقرّبُني ... والحِذارُ يُقصيني والوصالُ ينشُرُني ... والفراقُ يَطويني والبِعادُ يُمرِضُني ... والدنوّ يَشْفيني يكرهُ النّصيحةَ في ... غِلظةٍ وفي لينِ والمحبّ حالتُه ... حالُ الجانين والفراقُ أقتلُ من ... وقعِ ألفِ زُوبِين والحبيُ أحسنُ من ... زهرةِ البساتينِ وله في الزُهد: أستغفرُ الله الكريمَ الغفّارْ ... الواسعَ العفوِ الحليمَ السّتّارْ على هَناتٍ سلَفت وأخطار ... لم يرتكبْها قطّ أهلُ الأخطار طوبى لمن عقّبَه باستغفارْ ... فإنّ من شرِّ الذّنوبِ الإصرارْ يُضِرّ بالمذنِبِ أيَّ إضرارْ ... إذ كان يُنسيه العظيمَ الجبّارْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وهم كما قال العزيزُ القَهّارْ ... فيهم فما أصبرَهُم على النّارْ سيعلَمون مَنْ له عُقْبى الدّارْ أبو الفتح بنُ قران كان في أيّام المُقتفي شيخاً مطبوعاً، مربوعاً يختِضبُ، خليعاً يلعب ويطرَب، في زيّ المتنسّكين، وصبغ المنهتكين، حلوَ المنادمة والتمسخُر، وقفاً على اللهو والتعثّر. وسمعت: أنه تاب مرةً، ولبس الخِرقةَ، ثم عاد عن التّوبة في الحال، وقال: بَسّي من الزُهدِ بَسّي ... قامت من الزُهْدِ نفسي متى أراني صَريعاً ... مابين ج ... وك ... وسخفُه أسقطه، وحبَطه، وهبَطه. أحمد بن محمد بن شُميعة من باب الأزَج. رأيته ببغداد سنة إحدى وخمسين وخمس مئة في سوق الكتب، واستنشدته، ورأيت له خاطراً مطبوعاً، ورأيت من دأبه نظم قصائد مختلفة الأوزان والرويّ في قصيدة واحدة، يمدح بها الأعيان، ويكتب ذلك بالحمرة والألوان المختلفة. أنشدني له قصيدة، علق بحفظي منها هذه الأبيات، وهي: لا أشتكيها وإن ضَتْ بإسافي ... وإنّما أشكي من طيفه الجافي ومنها: حِقْفٌ لمُعتنِقٍ خمرٌ لُغتبِقٍ ... وردٌ لمنتشقٍ مسكٌ لمُسْتافِ ومنها: همُ الأحبّةُ إلا أنّ عندَهُمُ ... ما في المُعادينَ من خُلْفٍ وإخلافِ وأنشدني الشيخ أبو المعالي الكتبيّ لابْن شُميعة: وُدّ أهلِ الزّوراءِ زورٌ فلا يس ... كُنُ ذو خِبرةٍ الى ساكنيها هي دارُ السلامِ حسْبُ فلا مط ... مَعَ فيها في غير ما قيل فيها وتوفّي ابن شميعة بعد سنة خمس وخمسين. وإذا جئتم ثنيّاتِ اللِّوى ... فلِجوا رَبْعَ الحِمى في خطَرِ وصِفوا شوقي لسُكّان الحِمى ... واذكُروا ما عندكم من خبري وحنيني نحوَ أيامٍ مضت ... بالغَضى لم أقضِ منها وطَري فاتني فيها مُرادي وحلا ... لتمنّي القُرب منها سهَري كنتُ أخشى فوقَه قبلَ النّوى ... فرماني حذري في حذري آهِ وأشواقاً الى من بدّلوا ... صفْوَ عيشي بعدَهُم بالكدَرِ كلّما اشتقتُ تمنّيتُُهُمُ ... ضاع عمري بالمُنى وا عُمُري أبو الحسن عليّ بن أبي الفُتوح بن أحمد ابن بكري الكاتب من الحريم. والده مستعمل السّقلاطون لدار الخِلافة. وكان هو كاتباً في ديوان المجلس سنين، ثم صرفه الوزير. فيه فضل وأدب. وهو من طبقات الشَّطْرَنْجيين ببغداد. أنشدني لنفسه - ببغدادَ - سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة، بيتين له في سوداءَ، وهما: يا مَنْ فؤادي فيه ... مُتيّمٌ ما يزالُ إنْ كان للّيلِ بدرٌ ... فأنتِ للصُبحِ خلُ وأنشدني لنفسه يستعيرُ كتاباً ممّنْ ألزم نفسه ألا يُعير أحداً كتاباً: يا مَنْ أنابَ وتابا ... ألاّ يُعيرَ كتابا قد رُمْتَ ذاك ولكن ... محبّةُ الشُكْرِ تابى وأنشدني أيضاً لنفسه أبياتاً، عمِلها ارتجالاً بحماة حين كان بالشّام، وكان على شاطئ النّهر المعروف بالعاصي: قعَدْتُ على عاصي حماةَ وقد بكت ... نواعيرُه والماء يضحكُ فيه فهاج لقلبي صبوةً لم أصِبْ لها ... شبيهاً وهل يؤتى لها بشبيهِ وما زال يهتاجُ الفتى كلّ رنّةٍ ... إذا ما نوىً شطّت بدارِ أبيهِ وأنشدني لنفسه في بعض الأكابر، وكان بيده بنفسج: يا من عُلاه على السّماءِ مُطلّةٌ ... وبفضله تتحدّثُ الأمصارُ إن كان يظهَرُ للبنفسج خجلةٌ ... من طيب نشرِك راح وهْو بَهارُ وأنشدني لنفسه، وذكر لي أنّها من قصيدة: أمامكَ أوطارٌ وخلفَك أوطانُ ... فعزمك ما بين البواعثِ حيْرانُ إذا شمَلت هزّتْك للشّوقِ صبوةٌ ... وإن جنَبَتْ هزّتْك للإلْفِ أشجانُ وأنشدني لنفسه في الاشتياق، سنةَ إحدى وستّين وخمس مئة، قوله: الشوقُ ألوانٌ وأوفاهُ ما ... كان الى أهلٍ وجيرانِ لو قرّب الشّوقُ لإفراطه ... ناء الى ناءٍ لأدناني وقوله مما نظمه قديماً بدمشق: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 فتى الصوفيّ ما كان امتداحي ... لمثلك أنّني أرجو ثَوابا ولكني سخِطْتُ على القوافي ... فصيّرْتُ المديحَ لها عِقابا وقوله في مرأة عجوز، ولِعَتْ بدولابْ الغزْل والغزْلِ: قد ترك الدولابُ من حبّه ... سِتّ أبي بكرٍ بلا عقلِ لو كن دولاباً على دِجلةٍ ... يزرعُ زرعَ الهرْفِ والأفْلِ ما جاز أن تعشَقَهُ هكذا ... محبّة الأولادِ والأهلِ فكيفَ والدولاب من عتقه ... مكسّرُ الإجلِ والقتلِ قد سئِمَ الخرّاطُ من مرّه ... إليه واستغنى عن الغزْلِ وقوله في الأولاد: أدعو إلهي أنْ يَقي ... من فِتْنَتي في فِتيَتي فلدى الحياةِ وفي المما ... تِ تقيّتي وبقيّتي راحوا ثلاثةَ فِتيةٍ ... سمعي فؤادي مُقلَتي فهُمُ أصاغِرُ عِدّتي ... وهمُ أكابرُ عُدّتي وقوله، مما يُطرّزُ على سستجه: أنا في كفّ حاملي ... زينةٌ للأناملِ أنا في وقفةِ النّوى ... واشتكاءِ البلابِلِ إن جرَتْ سُحبُ دمعةٍ ... لحبيبٍ مُزايِلِ صُنتَهُ عن وُشاتِه ... وعُيونِ العواذلِ وله في تفاحة أُهديت له: حيّا بتُفّاحةٍ فأحياني ... مواصِلٌ بعدَ طولِ هِجران كأنّما ريحُها تنفّسُه ... ولونُها وردُ خدِّه القاني وقوله في قوس البُندُق: أنا في الكفّ هلالٌ ... وعلى الطّيرِ هلاكُ حركاتي تترُكُ الطّيْ ... رَ وما فيهِ حراكُ وقوله في الشّطرنْج: أحَبُّ دعاباتِ الرّجالِ الى قلبي ... دُعابةُ شِطرَنجٍ أغادي بها صحبي أُسالمُ فيها ثمّ أغدو محارباً ... فسلْمٌ بلا سِلمٍ وحربٌ بلا حربِ وقوله في الشطرنج: إنّما لعبُك بالشط ... رنْجِ للنّفسِ رياضهْ فاهجُرِ الهُجرَ لديهِ ... لا ترِدْ يوماً حِياضَهْ وتجنّبْ صاحبَ الجه ... لِ ومَنْ فيه غضاضَهْ لا تُجالِسْ غيرَ ندْبٍ ... زانَهُ العقلُ وراضَهْ وقوله من قصيدة، في مدح أمير المؤمنين المستنجد بالله، وقد خرج الى الصّيد: في حفظِ ربِّك غادياً أو رائحا ... ولك السّلامةُ دانياً أو نازحا أنّى حللت فروضةٌ مخضرّةٌ ... مما تُفيدُ نوافلاً ومنائحا لمّا غدوتَ الصّيدَ في ملمومةٍ ... ملأ الفضاءَ قوانساً وسوابحا جرتِ الظِّبا لك للعداة سوانحاً ... وجرت لأنفسها الظِّباء بوارحا ما جارحٌ أرسلتَهُ إلا غدا ... في الصّيدِ إمّا قاتلاً أو جارحا ماضي القوادم كاللهاذمِ لو بغَى ... سبْقَ الوَميضِ شأى الوميضَ اللائحا أو كلّ ممشوق رشيقٍ لا ترى ... منه الوحوشُ إذا رأته منادحا يجري فلا يدري بوطأته الثّرى ... فتخالُه ريحاًعليه رائحا متوسّعُ الشِدْقيْنِ ضاق بعدْوِه ... وُسْعُ الفَلاةِ جرى عليها جامحا أصبحتَ في جِدِّ الحروبِ وهزلِها ... متوحّدَ الإقدامِ فيه ناجحا فاسْلَمْ أميرَ المؤمنين لأمّةٍ ... أحييتَها عدلاً وفضلاً راجحا وهو مقيم ببغدادَ، يتولّى بعض الأشغال للخليفة. تمّ الجزء الأول بعون الله ومنّه من خريدة القصر وجريدة العصر للعماد الأصفهاني رحمه الله يتلوه، في الجزِء الثاني، إن شاء الله تعالى باب في محاسن أهل العلم والأدب والفقه والشّعر، وأولهم الشيخ أبو محمد بن الخشّاب النحويّ، والحمد لله وحدَه، وصلواته على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلامه بسم الله الرحمن الرحيم وبه الإعانة باب في ذكر فضائل جماعة من أعيان سواد بغداد وأعمالها شرقيها وغربيها منهم: السديد أبو نصر محمد بن أحمد بن محمود الفروخي الكاتب الأواني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 من قرية يقال لها أواني بدجيل. وهي ذات سوق كبير كبلدة كبيرة. كاتب بارع، عبارته فصيحة. حاسب صانع، جماعته صحيحة. ناظم، ناثر، عالم، شاعر. إذا أنشأ وشى، ومن كأسه الفهم انتشى. وإذا حرر حبر، وعن الحسن عبر. وإذا سطر سطا بحسام قلمه. وإذا ترسل أرسل برهام كلمه. وإذا نطق فتق ورتق، وكأن نجم الجوزاء بغرر منطقه تمنطق. وإذا سرد درس النثر درس ربع النثرة. وإذا أزهرت زهره ظهر خجل الزهرة. وإذا حلى، حوى القدح المعلى. وإذا نفش فصوص فصوله، هبت قبول قبوله، وإذا بعث كتاباً أتاه رسول رسوله. معرب موجز في نثره. مغرب معجز في شعره. رسائله متسقة الرسل، وفضائله مغدقة الوبل. ماهر، برهام إبداعه هامر. وحاذق، للضرب باللبن ماذق. عسلي الكلام، أسلي الأقلام، أسدي الإقدام. صوله بالقول، لا بالقوة والحول. من عبارته حميا أوانى عصرت، وألسنة الإطرء على فضله قصرت. غريب في الزمان ليس له ضريب. كلامه سهل ممتنع بديع بعيد قريب. فأين أنت من راحه واحتساء أقداحه، وقدح زناده؟ فهلم إلى ناديه وناده، تفز باقتباس أنوار أنفاسه، واختلاس آثار أنقاسه، وتصدر من مورده ريان، وتصبح بالاستفادة منه جذلان. كان شيخاً كبيراً، يفوح منسوجه عبهراً وعبيراً، ويلوح ممزوجه بطراز السجع منيراً. وكانت تلمع شيبته نوراً، قد استبدلت من المسك كافوراً. رتبه الوزير عون الدين بن هبيرة - سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة - في أعماله ب الهمامية وواسط، وأنا نائب الوزير بها - كاتباً معي مستوفياً، فاستسعدت بلقائه وكنت لحقوقه موفياً. فلم يلبث في العمل إلا مدة شهرين، فأصعد إلى بغداد صفر اليدين. وسمعت أن الوزير رتبه في موضعين، وأدركه حين الحين، بعد أن فارقته بسنتين. روح الله روحه، ونور ضريحه. أنشدني لنفسه ب الهمامية سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة: ما لعينٍ، جنت على القلب، ذَنْبُ ... إنّما يٌرسل الّلحاظَ القلبُ والهوى قائدُ القلوب. فإنْ سلّ ... طَ جيش الغرام، فالقلب نَهْبُ أحياة بعدَ التّفرُّق يا قل ... ب؟ فأين الهوى؟ وأين الحبُّ؟ كان دعوى ذاك التَّأوُّه للبَيْ ... نِ، ولم ينصدع لشملك شَعبُ إنَّ موت العشّاق من ألم الفُرْ ... قة والبَيْن، سُنَّة تستحبُّ وعلاجُ الهوى، عذاب المحبّي ... نَ. ولكنّه عذاب عَذْبَ زَوِّدِ الَّطرْفَ نظرةً، أو فمُتْ وَجْ ... داً، فهذا الوادي وذاك الّسِربُ واسألِ الرَّكْب وقفة، فسعى يُنْ ... جِدُك اللّحظُ إن أجاب الرَّكْبُ واستعنْ بالدّموع، فالدّمع عون ... لك إنْ ساعد المدامع سكبُ وتبصَّرْ نحوَ العَقيق جُذَيَا ... تٍ على بُعدها تلوح وتخبو فبذاك الجوّ الممنَّع أوْطا ... ريَ والقلبُ والهوى والصَّحْبُ وأنشدني لنفسه، وقال سئلت أن أعمل أبياتاً على هذا الاقتراح فعملت. وهي في غاية اللطف والرقة: يا صاحبَيَّ اسعِداني ... على الَّلَييْلِ الطُّوَّيِلْ وعلّلاني بَبرد ... من النَّسيم العُلَّيِلْ ويا حُداةَ المطايا ... رفقاً علي قليل في هذه الدار قلبي ... رهنٌ بحّبِ غُزَّيِلْ أسالَ دمعي، وألْوَى ... عنّي بخَدٍّ أُسَيِّلْ ما زحته، فرماني ... بسهمٍ طَرْفٍ كُحّيِلْ بُدَيْرُ تٍمٍّ، تراه ... تحتَ اللِثام هُلَّيِلُ يَميس مثلَ قَضيب ... من فوق رِدْفٍ ثُقَّيِلْ وله في مدح الوزير عون الدين تاج الملوك، سيد الوزراء، أبي المظفر يحيى، بن محمد، بن هبيرة ظهير أمير المؤمنين، وذلك في جمادى الأولى سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة، وأنشدني لنفسه القصيدة بالهمامية: سرى والليلُ غِربيبْ الإِهابِ ... وفرعُ ظَلامهِ نامي الخِضابِ فأذكرني ثغوراً من لآَلٍ ... تَبَسَّمُ عن سُلاف من رُضابِ هي الأحلام كاذبة الأماني ... فكيف أروم صدقاً من كِذابِ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وكيف أحوزِ خّلاً من خَيال ... وأطمَعُ في شراب من سَراب؟ سقى الله العِراقَ وساكنيهِ ... بَواكرَ مُسْبِلٍ داني الرَّبابِ وخصَّ بذاك ربعاً، حلَّ منه ... محلَّ الخالِ من خدّ الكَعابِ به خلّفت قلبي يومَ زُمَّتْ ... على عجل، لفُرقته، رِكابي فإنْ ظَفِر الزَّمان، بحدّ ظُفْرٍ، ... بقلبي، أو بنابٍ غيرِ نابي، فكم قد جاء بالعُتْبَى فأغنى ... وأغنى عن مطاوَلة العتاب إلامَ أبيِت في طمع ويأس، ... وأُصبح بين رَوْح واكتئاب؟ وأقتحم الظَّلامَ بلا دليل، ... وأعتسف البلادَ بلا صِحاب؟ ولي من جود عون الدّين عونٌ ... به يَغْنَى المشيب عن الشَّباب وطَرْفُ رجايَ، عنه غيرُ مُغْضِ ... وطِرْفُ نَداه عنّي غيرُ كابِ أقول لمشتكي الأزمان: صَمْتاً، ... فبحرُ نَوالِه طامي العُبابِ إذا ما البرقُ أخلفَ شائميه ... وضَنَّ بقَطره جَوْنُ السَّحابِ وأمحلتِ البلاد، وعُدَّ ظُلماً ... على ساري الدُّجَى ظُلْمُ الوِطابِ وعطِّلت القِداحُ، فعُدْنَ غُفْلاً ... وعُرِّيتِ الأكفّ من الرِّبابِ وعُطِّل موقد النّيران ليلاً، ... وبات بحرِّ ألْسِنةِ الكِلابِ وعزَّ الفَصدُ من عَجَف، وأمسى ... قِرى الأضياف أكباد الضِبّاب، فسمعك للنِّداء إلى طُهاةتُذيل نفائسَ الرُّدُح الرِّحابِ لَدى ملكٍ منيعِ الجارِ، حامي ال ... ذِمّارِ، معظَّمٍ، سامي القِبابِ ألا يا عاقرَ البِدَرِ العوالي ... إذا ضَنَّ الجوادُ بعَقْر نابِ، بدأتَ مؤمّليك بلا سؤال، ... وقابلتَ الوفود بلا حِجابِ. فما عَذْراءُ من جُون الغَوادي ... تَهادَى في سكون واضطرابِ، تكاد تَسِحُّ وجهَ الأرض، زحفاً ... عليها، في دُنُوّ واقترابِ إذا سحَّت مدامعها بكاءً ... تبسَّمَ ضاحكاً زَهَرُ الهِضابِ كأنَّ على الثَّرَى منها جُماناً ... تنظمه الرُّبا نظمَ السِّخابِ، بِأغزرَ من نَداك إذا توالى ... فأغنى وافِديك عن الطِّلابِ. وما قاضٍ على المُهَجات ماضٍ ... بأرواح الكُماة إلى ذَهابِ إذا ما قابلته الشَّمس، أجرت ... بِمَتْنَيْهِ شعاعاً من لُعابِ تقاسم خلفَه ماءٌ ونار ... أذيبا من صفاء والْتهابِ، بأمضى من يَراعك يومَ رَوْعتُفَلُّ به الكتائب بالكِتابِ. وما هُصَر أبو شِبلين ضارٍ ... يصول بِمْخَلب وبحدّ نابِ، له نَحْضُ الفريسةِ حينَ تبدو ... وأعظُمها لنَسْر أو عُقابِ ترى جُثَثَ الكُماة لديه صَرْعَى ... معفَّرةَ الجِباه على التُّرابِ إذا ما غابَ عن غابٍ، أحالت ... عليه من الطَّوَى طُلْسُ الذِّئابِ فتُصبحُ حوله الأشلاءُ نَهْباً ... مقسَّمة بأكناف الشِّعابِ، بأثبتَ منك جأشاً في مَقامينوب الرّأي فيه عن الضِّراب. وما عانِيّةٌ يَهْدِي سَناها ... لَدى الظّلماء ضُلالَ الرِّكاب، تَنَفَّسُ عن نسيم من عبير، ... وتبسِم عن ثغور من حَبابِ كأنَّ كؤوسها ماء جَمادٌ ... يَشِّف سَناه عن ذهب مُذابِ، بأحسنَ منك بِشراً وابتساماً، وأعذبَ من خلائقك العِذابِ. فكيف ينال شَأْوَك ذو فَخار؟ ... وأين ذُرا العِقاب من العُقاب؟ فَضَلْتَ بني الزَّمان عُلىً ومجداً ... كما فضَلَ الثَّواب على العِقابِ وزيرٌ، دوَّخَ الأملاك بأساً ... فقِيدَتْ بينَ طوعٍ واغتصابِ وبَزَّ عزيزهَا، فعَنَتْ إليه، ... ولم تطمَحْ لفَوْت من طِلابِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وذَلَّلَ للخِلافة كلَّ مولى ... عزيزِ الجارِ، ممنوعِ الجَنابِ وقاد لها الصِّعابَ مصعّراتٍ، ... وأبعدُ مطلبٍ قَوْدُ الصِّعابِ أمولانا أجِبْ عبداً، توالت ... سِنُوه بَيْنَ بَيْنٍ واغترابِ وعاد مُحَلأً عن كلِّ ورد ... أخا ظَمَأ، يُذادُ عن القِرابِ وأقسم ما جهِلتُ الحزمَ. لكن ... قضاءٌ، حِرت فيه عن الصَّوابِ وما ينفكّ مدحُ علاك ديني ... وما ينفكّ نَشْرُ نَداك دابي نهاري في ثناء مستطاب، ... وليلي في دعاء مستجابِ وكيف يحُدّ بِرُّك لي ثناءً، ... وقد أربى على حدّ الحسابِ؟ وليس سوى رجائِك، لي ملاذٌ ... يَمُنُّ بأوبة بعد اجتنابِ. قال ولده المهذب محمود: هذه القصيدة، نفذها من الموصل، يستأذن في العودة، وكان بعد لخوف. وله أرجوزة على نظم لفظاتٍ، إذا كتبت بالظاء كانت بمعنى، وإن كتبت بالضاد كانت بمعنى، خدم بها الوزير عون الدين بن هبيرة. كتبها لي - بعد موته - ولده محمود بخطه، وهي: أفضلُ ما فاه به الإِنسانُ ... وخيرُ ما جرى به اللسانُ حمدُ الإله، والصَّلاةُ بعدَهُ ... على النَّبيّ، فَهْيَ خير عُدَّه محمدٍ وآلِه الأبرارِ ... وصحبه الأفاضل الأخيار. وكلُّ ما ينظم للإفادَهْ ... فذاك منسوب إلى العبادَهْ لا سِيَّما في مدح عون الدِّينِ ... مخجلِ كلِ عارضٍ هَتُونِ مولىً، سمت بفخره جدودُه ... وابتسمت بنصره جدوده واستأنست بقصده الهَواجِل ... واستوحشت لوفده الهَواجِل مَنْ حكَّم الآمال في الأموال ... تحكُّمَ الآجال في الرِّجال ورَدَّ أزْلَ الحادثات دَغْفَلا ... فالدَّهرُ عن أبنائه قد غَفَلا. وقد نظمت عِدَّة من الكَلِمْ ... في الظّاء والضّاد جميعاً تلتئمْ لكنّها مختلفاتُ المعنى ... يعرِفها منْ بالعلوم يُعْنَى فاسمَعْ بُنَيَّ من أبيك سردَها ... وافهمْ هُديِتَ حصرَها وعَدَّها واشكُرْ لمن وسمتها بخدمتِهْ ... حتّى أتت عاليةً كهمَّتِهْ وابْدَأْ إذا قرأتَها بالظّاء ... وثنِّ بالضّاد على استواء تقول: هذا الظَّهْرُ ظهرُ الرَّجُلِ ... والضَّهْر أيضاً قطعة من جبلِ والقيظُ حَرٌّ في الزّمان ثائرُ ... والقيض في البيضة قشر ظاهرُ والظَّنُّ في الإِنسان إحدى التُّهَمِ ... والضَّنُّ نعت للبخيل فاعلمِ والحنظَلُ النّبتُ كثيرٌ معروفْ ... والحنضَلُ الظِّلُّ المديد المألوفْ والظَّبُّ وصف الرَّجُلِ الهَذّاءِ ... والضَّبُّ معروفٌ لدى البيداء والمَرَظُ الجوعُ المُضِرُّ فاعلمِ ... والمرضُ الدّاءُ الشّديدُ الألَمِ وهكذا الحجارةُ الظَّرِيرُ ... والرَّجُل الأعشى هو الضَّرِيرُ وفي النَّبات ما يُسَمَّى ظَرْبا ... وقد ضربتُ بالحُسام ضَرْبا وكلّ ذي وجه قبيح ظِدُّ ... والخصمُ في كلّ الأمورِ ضدُّ ومجمَعُ الحجارةِ الظِرابُ ... والنَّزْوُ في البهائم الضِّرابُ والضّربة النَّجْلاء تُسْمَى ظَجَّهْ ... وكَثرة الأصوات أيضاً ضَجَّهْ وزوجة المَرْء هيَ الظَّعِينَه ... والحِقدُ قد يعرف بالضَّعِينَه وهل يؤوب قارظٌ مفقود؟ ... وقارض بالسِّنّ هل يُفيد؟ وللرِجال والسّباع ظُفُرُ ... والرَّجُلُ القصير أيضاً ضُفُرُ ثمَّ سوادُ الليل أيضاً ظُلْمَهُ ... والسَّهَرُ المُفْرِط فَهْوَ ضُلْمَهْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وورمُ الأحشاء يكنَى فِظَّهْ ... والوَرِقُ اللُجَيْنُ أيضاً فِضَّهْ وكلُّ ما يفسد فَهْوَ ظِرُّ ... والصَّخرةُ الصَّمّاء أيضاً ضّر والنَّبْتُ ما بين الرِّمال ظعفُ ... والعجزُ في الشّيخ الكبير ضَعْفُ والجسمُ فيه جلدة وعظمُ ... ومَقْبِضُ القوسِ النّقيّ عَضْمُ واعلَمْ بأنّ البيظَ ماءُ الفحلِ ... والبيضُ لا يجهله ذو عقلِ وهكذا يكتب بيظ النَّمْلِ ... بالظَّاء، والبيض بضاد أُمْلِي والزَّرْبُ حولَ الغَنَم الحَظِيرَهْ ... والقومُ في مجمعهم حَضِيرَهْ والصَّفحةُ الصَّغيرة الظِّبارَهْ ... والكتب قد جَمَّعْتُها ضُبِارَهْ وقيل: أصلُ الحافرِ الوظيفُ ... وكلُّ وقف فاسْمُه وضَيِفُ والنَّصرُ فَهْوَ ظَفَرٌ وظَفْرَهُ ... والجَدْلُ في الشّعور أيضاً ضَفْرَهْ والغيظُ ما يَعْرِض للإنسان ... والغَيْضُ غيضُ الماء في النُّقصان والمنطق العَذْبُ الشَّهِيُّ ظَرْفُ ... وناعمُ العيشِ الرَّخِيّ ضَرْف وعَظَّتِ الحرب إذا ما اشتدَّتْ ... ثُمَّ السِّباع والذِّئاب عضَّتْ وحرَّم اللهُ الزِّنى وحَظَرا ... وغاب زيد بُرْهَةً وحَضَرا وجودُ مولانا الوزيرِ ظلُّ ... ينكره من قد عراه ضَلُّ مَن بات في جِواره وظَلا ... فعن سبيل رشده ما ضَلا فأعْيُنُ الوَفْدِ إليه ناظِرَهْ ... وأوجهُ الرِّفْدِ إِليه ناضِرَهْ لا مضمحلٌ جودُه ولا ظجرْ ... ولا أذىّ يفسده ولا ضَجَرْ قد بات في الفخر بلا نظير ... والصُّفْرُ لا يُعْدَلُ بالنَّضيرِ وفاظت الأنفس من أعدائه ... وفاض بحر الجود من عطائه والحظُّ حظّي عند فوز قِدْحِي ... يحُضُّه على استماع مدحي لا بَرِحَتْ تخدمِهُ الأيامُ ... وترتعي في ظِلّه الأنّامُ ما سَبَحَتْ بالأنجم الأفلاكُ ... وسَبَّحَتْ في الظُّلَم الأملاكُ وشرّقت في فَلَكٍ نُجومُ ... واتَّسقت في مسلكٍ رُجومُ وأنشدني لنفسه ب الهمامية، سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة، في تعريب معنى بيت بالفارسية، وكتب بها إلى الوزير: قل للوزير، أدام الله دولته: ... يا أعظمَ النّاسِ حظّي كيف يلتبس؟ هذا غلامي وبِرذَوْني على خطر ... من فرط جوعهما ما فيهِما نَفَسُ وإِنْ تدفَّعَ هذا اليوم بي، فغداً ... يمشي غلامي، ولا يمشي بيَ الفَرَسُ وسافر إلى بلد، فلم يحصل إلا على نزر يسير، وكان طامعاً بجود كثير، وحاسب نفسه، فوجده بمقدار نفقة الطريق، فقال: نادَوْا: هَلُمَّ إِلى النَّدَى، فتسابقتْ ... من كلّ ناحيةٍ بنو الآمالِ ثمَّ اعترتهم للسَّماح ندامةٌ ... وتفكّرٌ في حفظ بيت المالِ أعطوا محاسبةً، فما زادوا على ... زاد الطريق وأجرة الحمّالِ الشيخ أبو محمد العكبري عكبرا: قرية مجاورة ل أوانى. تلمذ له أبي منصور الجواليقي في الأدب، وقضى من فوائده جميع الأرب. لقيته ب بغداد، في سوق الكتب، عصراً: ينشد لنفسه شعراً، من قصيدة في مدح علي، بن طراد، الزينبي الوزير، يصف الفرس. فاستنشدته، فأنشدني: وما شازبٌ للعَسجَديّ إذا انتمى ... تُضَمِّرُهُ حَوْلاً غَزِيَّةُ أو زِعْبُ يطوف به الوِلدانُ في كلّ غُدوة ... تعّللُه بالقَعْب، يَتْبَعُه القَعْبُ طواه الطِّرادُ بالأصائل والضُّحَى ... وقد لحِق الإِطْلانِ واضطمرَ القُصْبُ فأخلاقه شَغْبٌ، وغايتُهُ نَهْبُ، ... وإِروادُهُ سَكْبٌ، وإِحضارُه صَبُّ بأسبقَ منه للمُغالِي، ورُبَّماكبا، وعليٌّ في المكارم لا يكبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 المغالاة: المسابقة في الرَّمي، ويستعمل في غيره استعارةً. أبو تراب علي بن نصر بن سعد بن محمد الكاتب العكبري ذكره السمعاني في تاريخه، وقال: ولد ب عكبرا، ونشأ بها. ثم انحدر إلى بغداد، وقرأ الأدب والنحو. ثم انحدر إلى البصرة، وصار كاتب نقيب الطالبيين بها، وأقام مدةً. ثم رجع إلى بغداد في سنة تسعين وأربع مئة، وأقام ب الكرخ وسكنها، وولي الكتابة لنقيب الطالبيين إلى أن توفي في جمادى الآخرة سنة ثمان عشرة وخمس مئة، وكان مولده سنة ثمان وعشرين وأربع مئة، فبلغ عمره تسعين سنة. قال: أنشدني ولده أبو علي لوالده علي العكبري، وذكر أنه أنشده لنفسه: لا يغتررْ مَنْ آمالُه طمَعٌ ... إلى الدَّنايا مُوَفِّراً مالَهْ فإِنَّ أعماله تورّطه ... حين يراها في الحشر أعمى لَهْ قال: وأنشدني أبو علي، بن أبي تراب علي، قال: أنشدني والدي لنفسه: حالي، بحمد الله، حالٍ ِجيدُهُ. ... لكنّه من كلّ حظّ عاطلُ ما قلتُ للأيّام قولَ معاتب ... فالرِّزق يدفع راحتي ويُماطِلُ إلاّ وقالت لي مقالةَ واعظٍ: ... ألرِّزقُ مقسومٌ، وحرصُك باطلُ الشيخ أبو المعالي سعد بن علي الوراق الكتبي الحظيري من الحظيرة مجاورة ل عكبرا. أبو المعالي ذو المعاني، التي هي راحة المعنى العاني؛ وراق، لفظه رق وراق، وكسا غصنه الأوراق، وهلال معناه الإشراق. ذو فنون، غضة الأفنان، وعيونٍ، تقر بها عيون الأعيان، ورهونٍ، يستبد بها عند الرهان. ضاع عرفه، وما ضاع عرفه، وسبق في إنشاء طرفه طرفه، وبخس حظه الزمان فجرعه صرفه صرفه. فهو بيع الكتب على يده متعيش، وعلى القناعة عن غيره منكمش، وعلى الأنس بالعلم بما سواه مستوحش. ذكيُّ، ذكاء ذكائه تطلع على نشر له في الأدب ذكي. ألمعي، يذيق كل فصيح ببلاغته ألم عي. حظيري، ينال الصادي من حظيرة دره حظ ري. كتبيٌّ، يعرف الكتب وما فيها، والمصنفات ومصنفيها، والمؤلفات ومؤلفيها. له التصانيف الحسنة، التي اتفقت على إطرائها الألسنة، وثنت إليها من الفضلاء عنانها الأثنية المستعذبة المستحسنة. نشر نثره وشي بوشيه، ونجم نظمه نجم في سماء وعيه، ونقاش الصين سرق من سرقه، وصناع صنعاء مطلقة بانقطاعها في طلقه. المسك في الطيب دون ذكره، والعنبر معرب عن بره. وجوده ب العراق بين الطغام، وجود الذهب في معدن الرغام. جامع الكتاب النفيس، الموسوم ب لمح الملح في التجنيس، ومؤلف كتاب الإعجاز، في الأحاجي والألغاز، وقائل القول المستجاد، والشعر المستفاد. نظمه بديع صنيع، وخاطره في إبداعه وإيداعه كل معنى حسن جريٌّ سريع، وشعار شعره المجانسة والمطابقة، والمبالغة في إعطاء معانه حقه والمحاققة. فشعره مصرع مرصع، معلم بالعلم ملمع. برده مسهم مفوف وسهمه مفوق، وعوده رطيب مورق وشرابه مروق، وبحره فياض، ودرعه فضفاض، وضرغامه للفضل فارس، وفرسه على طرف الفصاحة فارس، سمعت بشائر سيره الحجاز وفارس. سوق الأدب قائمة بمكانه في سوق الكتب، وإذا حاورته لا تسمع منه غير النكت والنخب. قلبه قليب المعنى، ونحره بحره، وصدره مصدره، وسحره سحره، وخاطره غيثه الماطر، وليثه القاهر، وجنانه من الجنان، فإنه معدن الغر الحسان، ولسانه كالسنان، والعضب اليمان، وخطه كنقش الممزج حلو، وكالممزوج المصرف صفو، ومن كل عيب خلو. رائق الكلام رائعه، وشائع في البلاد ما يطرز به وشائعه. عجيب الفن غريبه، غض الفنن رطيبه. مقطعاته أكثر من قصائده، فإنه يقع له معنى فينظمه بيتاً أو بيتين في فرائده. وقد ألف كل مؤلف طريف، وأودعه كل كلام لطيف، ولا يكون اعتناؤه - أكثر زمانه - إلا بالجمع والتأليف، وتصريف القول في التصنيف. ولم يزل مجمع الفضل دكانه، ومنبع الفضل مكنه. وكنت أحضر عنده، وأقدح زنده، وأستنشق بانه ورنده، وهو ينشدني ما ينشيه، ويسرح خاطري فيما يوشيه. أنشدني لنفسه في وصف العذار، مقطعاتٍ أرق من الاعتذار، غاص على ابتكار معانيها بالافتكار. فمنها، قوله من الأبيات العذاريات: مُدَّ على ماء الشّباب، الَّذي ... بخده، جَسْرٌ من الشَّعْرِ صار طريقاً لي إلى سَلْوَتي ... وكنت فيه موثَقَ الأَسْرِ وقوله أيضاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 إن لم يَنَمْ لك وهْوَ أَمْ ... رَدُ، نامَ وهْوَ مُعَذِّرُ فالنّومُ يعسُر في النَّها ... ر، وفي الدُّجَى يتيَسَّرُ قوله، وقد شبه العذار باللجام: ومُعَذِّرٍ: في خدّه ... وردٌ، وفي فمه مُدامُ ما لانَ لي حتَّى تَغَشّ ... ي صبحَ عارِضهِ الظَّلامُ والمُهْرُ، يجمَحُ تحتَ را ... كِبه، ويعطِفُه اللِجامُ وقوله: أحدقت ظلمة العِذار بخَّديْ ... هِ، فزادتْ في حبّه زَفَراتي قلتُ: ماءُ الحياة في فمه الآ ... نَ، فطاب الدُّخولُ في الظُّلُمات وقوله: قالوا: الْتَحى، فاصْبُ إلى غيره ... قلت لهم: لست إِذَنْ أسلو لو لم يكن من عسلٍ ريقُه، ... ما دَبَّ في عارضه النّمْلُ وقوله في المعنى: قلتُ، وقد أبصرته مقبِلاً ... وقد بدا الشَّعر على الخدِّ: صعودُ ذا النَّملِ على خدّه ... يشهَدُ أنَّ الرِّيق من شُهْدِ وقوله: ومُهَفْهَفٍ، شبَّهْتُه شمس الضُّحى ... في حسن بهجتها وبُعد مكانِها قد زاده نقش العِذار محبّةً ... نقشُ الفُصوص يَزيد في أثمانِها وقوله أيضاً في الخال والعِذار: شفَّني من سيّدي حَسَنٍ ... خالُ خدّ، زاد في أَلمي خِلته، إذْ خُطَّ عارضُه، ... نقطةً من عثرة القلمِ وقوله في مُخْتّطٍ: يا آمري بالصَّبر عن رَشَأٍ ... قلبي يَحِنّ إلى مَآرِبِهِ دعني، فصادُ الصَّبرٍ قد قُسمت ... ما بينَ حاجبه وشارِبِهِ وأنشدني لنفسه أيضاً مقطعات، في معانٍ شتى. فمنها، قوله في غلام تحت فمه شامة صغيرة: قل لمن عاب شامة لحبيبي ... دُونَ فيه: دَعِ الملامةَ فيهِ إنّما الشّامة التَّي عِبتَ فيه ... فَصُّ فَيْرُوزَج لخاتم فيهِ وله في غلام أشقر الشعر: وأشقر الشَّعرِ، من لطافته ... يجرَحُ لَحْظُ العيونِ خدَّيّه فإن بدا مَنْ يشُكّ فيه، فلي ... شاهدُ عدلٍ من لون صُدْغَيْهِ وقوله فيه: وأشقر الشَّعر، بِتُّ من كَلَفي ... به على النّار في محبَّتهِِ كأنّ صُدْغّيْهِ في احمرارهما ... قد صُبِغا من مُدام وَجْنَتِهِ وقوله فيه: ما اشْقَرَّ شعرُ حبيبي، إِنّ وَجْنَتَهُ ... سقته من خمرها صبغاً، ولا خجِلا وإِنّما لَفحت خدَّيْه من كبِدي ... نارٌ، ودبَّت إلى صُدْغَيْه فاشتعلا وقوله في غلام أعرج: قالوا: حبيبُك أعرج، فأجبتُهم: ... حاشاه أن تسطو العيون عليه ما آدَ من عَرَج به. لكنّما ... قَدَماه لم تنهَضْ برادِفَتَيْهِ وقوله في ثقيل الكفل: يقولون: ما فيه شيء يُحَبُ ... ويعشق،، إلاّ علوّ الكَفَلْ فقلت: و. . . . يُحِبُّ البكا ... ءَ، للزُّهد في كهف ذاك الجبلْ وقوله في المعنى هزلاً: ليس عيباً محبَّتي ... رَشَأَ راجحَ الكَفَلْ أنا دَأْبي أحِبُّ آ ... كُلُ من أَلْيَةِ الحَمَلْ ولِزُهْدي أرى عبا ... دةَ ربّي على الجَبَلْ فدعوني من العِتا ... ب، وكُفُّوا عن العَذَلْ وقوله في ثقيل الكفل أيضاً: وَيْلي على ذي كَفَل راجح ... رأيتُه في رَحْبَة المسجدِ قد وضَع الكَفَّ على كَشْحه ... وسمعُه مصغٍ إلى المُنشدِ خافَ من الرِّدف على خَصْره ... فقد غدا يُمْسِكه باليدِ وقوله في غلام به جدري: طاف بِحبِّي ألمٌ ... فزاد فيه حَذَري وصبَّ ماء الحسن في ... حُلَّة خدّ القمر فلاحَ فيه حبَبَ ... فقيل: هذا جُدَرِي وقوله فيه: ما عابه التَّجديرُ لمّا غدا ... في خدّه بعضاً على بعضِ وإِنّما غضض تُفّاحَه ... فلاحَ فيه أثر العضِّ له في غلام ساعٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وساعٍ سريع.. إذا ما عدا، ... لِقلبي سبى، ولِدمعي سَفَكْ يسابق في الجَرْي ريح الشَّمالِ ... ويَزْرِي على دَوَران الفَلَكْ له في غلام مغنٍ، بارد الغناء، مليح الوجه: وشادِنٍ، طال غرامي به، ... كالبدر أو أبهى من البدرِ غناؤه أبرد من ريقه، ... وريُقه أبرد من شعري إذا تغنّى لي، ونارُ الهوى ... تُحرقني، يثلجُ في صدري قوله في قبيح الوجه، مليح الغناء: مستهجَنُ الشَّخص، له صنعةٌ ... وَفَّتْه أقصى حظّه منّا كأنَّه شِعريَ في طبعه ... ليس يحليه سوى المعنى وقوله أيضاً: يا غزالاً. . منع الأَجْ ... فانَ أَنْ تطعَمَ غُمْضا أنا أرضي فيك أَنْ يُص ... بحَ خدّي لك أرضى وقوله في الطيف: طَيْفُ خَيال هاجري، ... أَلَمَّ بي، وما وَقَفْ وافقني على الكرى، ... ثُمَّ نفاه وانصرفْ وقوله: بدرُ تِمامٍ، وغصن بانِ ... اجتمعا منه في مكانِ يا موقدَ النّار في فؤادي ... سوادُ قلبي من الدُّخَان دعني أُمَتِّعْ لِحاظَ عيني ... من ورد خدَّيْك بالعِيانِ وقوله: وغزالٍ مُخْطَفِ الخَصْ ... رِ، له رِدفٌ ثقيلُ فاز من كان له من ... هُ إلى الوصل سبيلُ بينَ قلبي وَتَجِنِّي ... هِ إِذَنْ شرحٌ طويلُ وقوله: بنفسي مَنْ غدا يَعْجِ ... زُ عن إِدراكه الفهمُ غزال، كادَ للرِّقَّ ... ة أَنْ يجرَحَه الوهمُ وقوله: ومستحسَنٍ، أصبحتَ أهذي بذكره ... وأمسيت في شغل من الوجد شاغل وعارضني من سحر عينيه جِنَّةٌ ... فقَّيدني من صُدْغه بسلاسلِ وقوله: وبيضاءَ، مصقولةِ العارضَيْنِ ... تَصيد بسهم اللّحاظ القلوبا بدت قمراً، ورنت جُؤْذَراً، ... ومالت قضيباً، وولَّت كَثِيبا وقوله في مخضوبة الكف: وذات كفٍّ، قد خضَّرته، ... تَسبِق في الوهم كلَّ نَعْتِ كأنّه في البياض علمي ... قد اختبا في سوادَ بَخْتي وقوله: يا من تغافل عنّي ... وشفَّني بالتَّجَنِّي إِن كنتُ أعجِز عن بَ ... ثِّ بعض لوعة حُزني، فاسمَعْ حديثي من الدَّمْ ... ع، فَهْوَ أفصح منّي وقوله: يا غزالاً، فاترَ النَّظَرِ ... يا شبيهَ الشَّمس والقمر كيف يَخْفَى ما أُكتِّمه، ... وزفيري صاحبُ الخبرِ؟ وقوله: يقول: لي حين وافى: ... قد نِلْتَ ما ترتجيهِ فما لقلبك قد جا ... ءَ خفقة تعتريهِ؟ فقلتُ: وصلك عُرسٌ، ... والقلب يرقُص فيه وقوله: إذا ما تذكّرتُ مَنْ حسنُهُ ... يَكِلّ لسانيَ عن نعتهِ تناول قِرطاس خدّي البُكا ... وطالعَ بالحال في وقتهِ وقوله: تركتك، فامْضِ إلى مَنْ تُحِبُّ ... ففعُلك برَّدَ حَرَّ الجَوى وقَبَّحَك الغدرُ في ناظري ... وغُودر عُودُ الهوى قد ذَوَى فصِرت أراك بعين السُّلُوُ ... وكنت أراك بعين الهوى وقوله: لست أذُمّ الفراق دهري، ... كيف وقد نِلْت منه سُولي؟ قبَّلْته في الوَداع ألفاً ... وقد عزَمنا على الرَّحيلِ وقوله: وقالوا: قد بكيتَ دماً ودمعاً، ... وقد أولاك بعدَ العُسر يُسرا فقلت: لفرحتي برضاه عنّي ... نثرت عليه ياقوتاً ودُرّا وقوله: قيل لي: قد صار مبتذَلاً ... مَنْ حماه الصَّوْنُ في صِغَرِهْ كُفَّ عنه النّاسَ. قلتُ لهم ... قولَ مَنْ يُجرى على أثرِهْ: لا أذودُ الطَّيْرَ عن شجرٍ ... قد بَلَوْتُ المُرَّ من ثَمَرِهْ وقوله: واهاً على طيب ليَالٍ، مضت ... بالوصل، حتَّى فطِن الهجرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 ما كان أحلى العيشَ في ظلّها ... كأنّما كانت هي العمرُ وقوله، وهو مما يكتب على المراوح: بَدا يروِّح جسمي ... لمّا رأى ما أُلاقي وما ينفّس كربي ... إلاّ نسيمُ التَّلاقي وقوله: كُفَّ، يا عاذلي، فعَذلُك يُغري ... زادَ وَجْدي، وقَلَّ في الحّب صبري أنا أهوى سُعدى وتُنحل جسمي، ... وأُحِّب الدُّنيا وتَقْرِض عمري وأنشدني لنفسه أبياتاً في الشيب، منها قوله: بدا الشَّيب في فَوْدِي، فأقصَرَ باطلي ... وأيقنت قطعاً بالمصير إلى قبري أتطمَعُ في تسويد صُحْفي يدُ الصِّبا، ... وقد بيَّضَت كفّ النُّهَى حُسْبَةَ العمرِ؟ وقوله: صبح مشيبي بدا، وفارقني ... ليلُ شبابي، فصِحت: واقَلَقِي وصِرت أبكي دماً عليه، ولا ... بُدَّ لصبح المشيب من شَفَقِ وقوله: بِأَبِي مودِّعةً لوصلي، إذْ بدافي عارضي بعدَ الشَّباب قَتِيرُ كالطَّيْف، يطرُقُ في الظّلام إذا دجا ... وله إذا لاح الصَّباح نُفورُ ومما أنشدني له في أغراض مختلفة، قوله: نَقَصُوهَ حظَّهُ حسداً ... لكمال في خلائقه وعلوُّ النَّجم، أورثه ... صِغرَاً في عين رامقهِ وقوله: لا غَرْوَ إِن أَثرى الجهولُ على ... نقص، وأَعدم كلُّ ذي فهمِ إِنَّ اليدَ اليُسرى، وتفضُلُها ال ... يُمْنَى، تفوز بمُعْلَم الكُمِّ وقوله: أرى ذا النَّدَى والطَّوْل يغتاله الرَّدَى ... ويبقى الَّذي ما فيه طَوْلٌ ولا مَنُّ كما الورد. . يبدو في الغصون وينقضي ... سريعاً، ويبقى الشَّوْك ما بَقِيَ الغصنُ وقوله: كن ناقصاً تُثْرِ، فإِنّ الغِنَى ... يُحْرَمُهُ الكاملُ في فهمهِ فالبدرُ يحوي من نجوم الدُّجَى ... في النّقص ما يعدَمُ في تِمّهِ وقوله: يقولون: لا فقرٌ يدوم ولا غنى، ... ولا كُربة إلا سيتبعها كشفُ ولست أرى كَربي وفَقري بمنقضٍ ... كأنّي على هذين وحدَهُما وقفُ وقوله: لا تَحْقِرِنَّ وَضِعاً ... يُزري بصدرٍ شريفِ فرُبَّما خُفِض اسمٌ ... عالٍ بحرفٍ ضعيفِ وقوله، يخاطب بعض الصدور، وقد استخدم غلاماً عيب به: لمّا أضفتَ إليك نجل مسرّة ... حاربتَ مجدك بالحُنُوّ عليهِ وبه انخفضت، وكان قدرُك عالياً، ... فِعْلَ المضاف بما أُضِيف إليهِ وقوله: تعلّمن منه العلم، ثمَّ اطرَّحته ... وأوليته بعدَ الوِصال له هَجْرا وهل يقتني الأَصدافَ في النّاس حازم ... إذا هو من أجوافها أخَذ الدُّرّا؟ وقوله، يمدح الوزير عون الدين: بدأ الوزير بجوده متفضّلاً ... فنطقت فيه بأحسن الآدابِ والرَّوض ليس بضاحك عن ثَغْره ... إلا إذا روّاه صَوْبُ سَحابِ وقوله، يقيم عذراً لمن بخل عليه بجائزة شعره: لم يحبِسِ المولى الأجلّ نَوالَهُ ... بُخْلاً عليَّ، ولم أكن بالسّاخطِ لكنّني أنشدت شعراً بارداً ... والبردُ يَقْبِض كلَّ كفٍّ باسطِ وقوله: أَصِخْ لنظمي، ففيه معنىً ... بلا شبيه ولا نظيرِ وقد بدا في ركيك لفظي ... كعالم فاضل فقيرِ وقوله، وقد طلب من بعض الرؤساء كاغداً، فأعطاه نصف ما سأله، ووعده بالباقي: أعطيتني نصف الَّذي أملَّتْهُ ... من كاغَد، ووعَدتني بِسواهُ ورجَعتَ تأخُذه إليك تقاضياً ... منّي، وذاك الوعد لست أراه كالشّهر: يُعطي البدر من تَمامه، ... ويعودُ يأخُذ منه ما أعطاه وقوله فيه: مدَحت الأجَلَّ، وأمّلت في ... هـ إِنفاذَ دَسْت من الكاغَدِ فنفَّذ لي النِّصفَ ممّا طلَبْ ... تُ بعدَ تردُّديَ الزّائد فأفنيته في اقتضائي له، ... ومرَّ مديحي على البارد وقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 سَمَحت ببعض الَّذي أرتجي ... وألقيت حبلي على غاربي وإتمامُ نافلةِ المكرُما ... ت، بعدَ الشُّروع، من الواجب وقوله في ناعورة: رُبَّ ناعورةٍ. . كأَنَّ حبيباً ... فارقَتْه، فقد غدت تحكيني أبداً هكذا تدور وتبكي ... بدموع تجري، وفَرْطِ حنينِ وقوله في اللغز: وأهيف القَدّ، نحيف الشَّوَى ... معتدل، لم يَحْوِ معناه وَصْفْ وهْوَ، إذا أنت تأمّلته ... بفكرة، اسم وفعل وحَرْفْ أراد به الألف، فهو اسم إذا أعرب، وفعل إذا بني، وحرف بذاته. وقوله في قبور أهل البيت، عليهم السلام: إِنّ ب الطَّفّ والغَرِيّ وسامَرّ ... اوطُوسٍ ويَثْرِبٍ والحَرِيمِ لقبوراً لآل أحمدَ، لا زا ... لَ مُواليهِمُ بدار النَّعيمِ ومما أنشدني له في الهجاء والذم، قوله: ما كان بخلك بالنَّوال مؤثّراً ... فيكون هجوي فيك باستحقاق لكنّني أبصرت عِرضك أسوداً ... متميزِّقاً، فقَدَحْتُ في حُرّاق وقوله: منَع احتقار محمّد عن نفسهذَمِيّهِ، وهْوَ كما علِمْت خبيثُ والليثُ: يُنشب مِخْلَبي في جلده ... ظُفُراً، ويُفلت من يدي البُرغوثُ وقوله: قال: ألم تعلَمْ بلؤمي؟ فلِمْ ... كسوتَ عِرضي حُلَلَ المدحِ؟ قلت: أُرَبِّيك لسيف الهِجا ... كما يُرَبَّى الكَبْشُ للذَّبْحِ وقوله: ومُذْ صَحَّ لي جوده بالهِجا ... تَبَّيْنتُ أَنَّ مديحي هَوَسْ كذا الفّصُّ: ما بانَ لي خطُّه، ... ولا حسنُ معناه، حتّى انعكَسْ وقوله: هجوتك، إِذْ قطَعت البِرَّ عنّي ... وكنت أحوك فيك المدح حَوْكا كذاك الأرضُ: تزرَعُها فتزكو، ... وتقطَعُ زرعها فتجيء شوكا وقوله: بغربيّ بغدادٍ صديقٌ مذمَّمٌ ... كرامتُه للأصدقاء التَّمَلُّقُ تبسَّمَ لي من بعدِ غِلٍّ كأنّه ... ذُبالةُ مصباح تُضيء وتُحرِقُ وقوله: نصر علينا زاد في تِيِههِ ... وهجوُنا ينقُصُ عن مجدهِ والظُّفْرُ إِنْ أسرف في طوله ... يُرَدّ بالقصّ إلى حدّهِ وقوله: فلا تحتقرْ نصرَ الذَّميمَ، فإِنّه ... يَزيِد لفَرْط الثِّقْل منه على الوصفِ فرُمّانةُ القَبّانِ، يُحْقَرُ قدرُها، ... وتُخرِج عندَ الوزنِ أكثر من أَلْفِ وقوله: كم تَدَّعي كرمَ الجدو ... دِ، وأنت تَحْرِمُ مَنْ شكَرْ؟ وعلى فساد الأصل مِنْ ... كَ، يَدُلُّني عدمُ الثَّمَرْ وأنشدني لنفسه أيضاً في الهزل: قال قليبي، وقد حَظِيت بمن ... شَقٍِيتُ في حبّها مَدى العُمُرِ: قد اسكنتَنِي لَظَى. فقلت: كما ... عبدتَها دونَ خالق البشرِ وصُمْتَ عن غيرها، وكنتَ تقو ... مُ الليلَ في حبّها إلى السَّحَرِ فاصبِرْ على قُبح ما جنيتَ، فلم ... تَظْلِمْك إذْ خلَّدَتْك في سَقَرِ وأنشدني لنفسه: ترَحَّلْتُ عن أرض الحَظِيرة، هارباً ... من العشق، حتّى كادت النَّفْس تَزْهَقُ وأفلستُ، حتّى إنّ جِلْفاً مُغَفَّلاً ... خلا بالّذي أهواه: يَزني ويفسُقُ فلا أنا في بغدادَ روّيتُ غُلَّةً، ... ولا ثَمَّ واصلتُ الَّذي أتعشّقُ وأنشدني لنفسه في بعض عمال السواد أبياتاً، أعطى فيها صنعة التجنيس حقها، وهي: وما اسْودَّ فَوْدُك حتى نزلتَ ... من المقتفي في سواد الفؤادِ ورَدَّك ناظرَه في السَّوا ... دِ، إذْ كنتَ ناظره في السَّوادِ ولمّا أراد اختبار الرِّجا ... لِ، أَلْفَى مرادك فوقَ المراد وأعارني ما جمعه ثانياً من أشعاره ورسائله، وسح سحائب خاطره ووابله، فنظمت لكتابي هذا في سخابه، منخب ما سخابه؛ وختمته بعد ذلك بقصدتين نظمهما في الإمام المستنجد بالله يوسف، بن المقتفي لأمر الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 فأما منظوماته: قال أبو المعالي، سعد، بن علي، بن قاسم، الحظيري في صاحب المخزن زعيم الدين، أبي الفضل، يحيى، بن جعفر يمدحه ويهنئه بالحج: لقد برَّ حَجٌّ وحَجَّ بَرُّ ... وضَمَّ بحرَ العِراقِ بَرُّ عاد الزَّعيمُ الكريم يَطْوِي ... أرضاً، لها من تُقاه نَشْرُ صدر، نفى العجزَ عنه قلبٌ ... ثَبْتٌ، له همَّة وصبرُ إذا حبا واحتبى بنادٍ، ... تقول: بحر طَما، وبدرُ غَوْثٌ لمستصرِخ، وغيث ... إِن لم يكن في السّماء قَطْرُ يا مَنْ ضُروبُ الورى غُثاءٌ، ... وخُلقُه للجميع بحرُ أنت الّذي ديِنُه لَباب ... يبقَى، ودُنياه منه قشرُ قد طُلْتَ فَرعاً، وطِبْتَ عَرْفاً ... وأصلُ علياك مستقرُّ فاقْنَ لِما لا يَبيِدُ ممّا ... يَبيِدً ذُخراً، فالخيرُ ذُخْرُ إِن قلت شعراً، ففيه شَرْع ... والفكرُ في المستحيل كفرُ لكِن سَجاياك لُحْنَ غُرّاً ... حقيقةً، لا كما تغُرُّ فصاغها منطقي عُقوداً ... فوقَ جُيوب العلى تُزَرُّ تُضْحي لنَحْر الوليّ حَليْاً ... وَهْيَ لنَحْر العدوّ نَحْرُ كأنّما الشَّخص منك فَصّ ... من المعالي عليه سطرُ والشِّعر كالسَّمْع منه، يُقْرَا ... بالسَّمْع، والطّبع فيه شكرُ ولست فيما أحوك إلا ... حاكٍ، فمالي عليه أجرُ هذا. على أنَّ لي زماناً ... ما دارَ لي في القَريض فكرُ لأنَّه يستبيحُ منّي ... حِمىً، له في العَفاف سترُ وتسترقّ الأطّماع منّي ... حُرّاً، ولا يُسْتَرَقُّ حُرُّ فاستوجب الشُّكر. رُبَّ بَرٍّ ... على جميع الورى مُبِرُّ قلَّدني منه اِبتداءً ... فاقتادني، والكريمُ غِرُّ وزففّت دُونَه القوافي ... وشَفَّ وزن، وضاق بحرُ لكنْ خلَعْتُ العِذار حبّاً ... وكان لي في القصور عذرُ وكتب إلى ولد أخيه في صدر مكاتبة، وقد عاد إلى بلده، عند غرق بغداد في ربيع الأول سنة أربع وخمسين وخمس مئة: أصابت العينُ مثلَ عيني ... فصابتِ العينُ مثلَ عينِ مَنْ يرتشي في خلاص عيني. ... من أسر دمعي خلاص عيني. بَلَّ رِداء البكاء وِردي ... وفي الحشا للرَّدَى رُدَيْني زَمَّ زمانٌ نِياقَ بَيْن ... فَرَّقَ ما بينَه وبيني وصالَ فِرْعَوْنُ صَرْفِ دهر ... والصّبرُ عوني، ففَرَّ عوني لانَ لنا غيلةً، ووافَى ... من الرَّزايا بكلّ لونِ ودانَ، فالعيش فيه دانٍ، ... ثمَّ انثنى طالباً بدَيْنِ أدالَني اللهُ من زمانٍ ... جانٍ، جَهامِ الغَمام، جَوْنِ وكتب إليه أيضاً: ظهرت، يا بَيْنُ، في الكَميِنِ ... وكنت من قبلُ في الكُمونِ سار الذَّي سرَّ بالتَّداني ... ولم يكن ذاك في الظُّنونِ حالَ التَّقالي دونَ التَّلاقي ... فالقوم في مصرع الحُسَيْنِ كنّا من الدَّهر في أمانٍ ... نرى الأَماني على اليقينِ فبشَّرَ الماء حين وافَى ... قرائن الوصل من قَرينِ طَرا، ولكن طغى مَعِينٌ ... ولا مُعِينٌ على مَعِينِ يا وَلَدي البَرُّ أيُّ بحر ... مَدَّ فألقاك جوفَ نُونِ واهاً لأِيّامِنا الخَوالي ... منك، الحَوالي بك العُيُونِ زالت، فهدّت قُوىً، وأجرتْ ... منّا عُيوناً من العُيُونِ وقال على لسان بعض أصدقائه، يهنئ صاحباً للخليفة، جعله أميراً: سماءُ الفضل مُفْهَقةُ النَّشاصِ ... وأرضُ العدل مشرِقة العِراص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 بدولة سيّدِ الثَّقَلْينِ طُرّاً ... إِمامِ العصر، مُدركِ كلِّ قاصِ أتته خِلافة الدُّنيا انقياداً ... مسلِّمةً له، لا عن تعاص وقد طلَعت خصائصُه، وكانت ... تطالع قبلَ ذلك من خَصاصِ وصار خليفةَ لله فينا، ... وأنت به شديد الاختصاصِ فأعطاك الإِمارةَ مستحقاً ... مَزيدَ القدر منه بلا انتقاصِ وبأسُك يا أخا الفضل المُرَجَّى ... يُعيد الملكَ ممتنع الصَّياصي وقد مُلِّكت قاصيةَ الأَماني ... ولاتَ لها المَدى حينَ المناصِ فتى الفِتيان هذا اليومَ كنّا ... نرجِّي، فاصْغِ سمعاً لاقتصاصي أرى الأيامَ تأخُذ في انتقاصي ... مشرِّدةً، فهل لك في اقتناصي؟ لَعَلَّ فضائلي تبدو لِراء ... وعَلَّ الحظَّ يُسعِد بالخلاصِ وفضلي لم يزل يَجْني خُمولي ... عليه، وقد رجوتك للقِصاصِ فنّوِهْ بي، وخُذْ مدحي رخيصاً ... وليس على سواك من الرِّخاصِ وأما القصيدتان، فإحداهما أنشأها وقد بويع المستنجد بالله يوم الأحد ثاني ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمس مئة، واتفق ذلك اليوم ثالث عشر آذار عند الاعتدال الربيعي. ولما تولى، أخذ القاضي ابن المرخم وجماعة من أصحاب أبيه، اتهمهم بخيانة، وتولى عقد البيعة له أستاذ الدار أبو الفرج بن رئيس الرؤساء، فذكر الحال: بيعةٌ: شَدُّ عَقْدِها لا يُحَلُّ، ... وانقيادٌ لغيرها لا يَحِلُّ سفَرت شمسُها، وقد أسفر الصُّبْ ... حُ، فَحلَّ الضِيّاء حيثُ تَحِلُّ لم يَفِلْ رأيُ فَأْلِها، ولقد جا ... ءَ بعَضْب ماضي الشَّبا لا يُفَلُّ جاء تاريخها لخمس وخمسي ... ن وخمس من المِئِينَ يدلُّ إِنّه عَقْدُ بيعة، كُلَّما دا ... رَ عليه الزّمانُ لا يَضْمَحِلُّ عدّد ليس ضربه فيه إِنْ كُرِّ ... رَ مما يُحيله أو يَحُلُّ أَحَدِيّ الأيّام، وَهْوَ دليل ... أنّه أوحد الأنام الأجَلُّ ثانيَ الشَّهر من ربيع، وفي أَوَّ ... ل فصل الرَّبيع، فالفصلُ فصلُ وربيع فَأْلٌ بأنّ ربيعاً ... دهره كلُّه، وأَنْ ليس مَحْلُ واعتدالُ الرَّبيعِ مبدأُ عدلٍ ... يقصُرُ الليل عندَه ويَقِلُّ ويطول النَّهار، والطُّولُ طَوْل ... من يديه، ما فيه مَطْلٌ مُطِلُّ ليس في هذه الخِلافة من بع ... دُ خلافٌ يُخشى، ولا كان قبلُ ولقد صحّح التَّفاؤلُ فيها ... وغدا الحكم وَهْوَ حزم وفصل فَرَج، جاء من أبيه، فَجلَّى ... جَلَلاَ، دِقُّه على المُلك جِلُّ خَبَّ فيه خَبٌّ، فخاب رجاء، ... وخبا جمرُ كيدِه وَهْوَ جَزْلُ للإمام المستنجد المَلِكِ العا ... دل، والكالِئِ الّذي لا يَكِلُّ همّةٌ: تستقلُّ ما حوتِ الدَّنْ ... يا، وبالدِّين والعلى تستقلُّ ذا إمامٌ، بالعدل قام، فما يح ... كُمُ إلا بالعدل، والفضلُ فضلُ فالمُوالي لأمره، والمُوَلِّي ... عنه: يُقْلَى هذا، وذاك يقلُّ قام بالأمر، ثمَّ قوَّم قوماً ... لن يُقالُوا ذنباً، وإنْ هُمْ قَلُّوا قرن العقل بينهم، وقضى فص ... لاً بأنْ لا فضلٌ قرانٌ وعقلُ حِفظ الآلُ الآل إلا لَعِين ... آل ألا يعِزَّ منه الإِلُّ كان شرّاً قضاؤه وعدولاً ... فاقتضى أن يهان شرعٌ وعدلُ كم غليلٍ على غُلول بكَفَّيْ ... هِ، شفَاهُ فَكٌّ لها أو غَلُّ هاشِمي، هاشم الأَكارم يُحْسِي ... ك بسَجْل من النَّوالَيْنِ، سَجْلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 صُنت شعري، إذٍْ صدقه مستحيلٌ ... وحرامُ انتحالِه مُسْتَحَلُّ ثمّ أفصحت عن عُقود لآَلٍ ... يتحلّى فيها إِمام يُجَلُّ ملِك، راح بالجمال مُحَلّىً ... وله في ذَرا الجلال محلُّ ملك، يُسْتهالُ فَرْطُ سُطاه ... وحِباهُ إذا احتبى يَستهلُّ يا إِمامَ الزَّمان مثلُك مَنْ قا ... مَ بحقّ التَّقوى، ومالَكَ مِثلُ فاحفَظِ الله في الرَّعيّة، يحفَظْ ... ك، فإنَّ السُّلطان في الأرض ظِلُّ واخْشَ فيما أَزَلَّه من زَوال ... وتيقَّنْ أَنَّ المُزيِلَ المُزِلُّ وامرُؤٌ حلَّ قلبَهُ الغِلُّ، فاجعَلْ ... قلبَهُ الغُلَّ؛ إِنّه لك حِلُّ لم تَمِلْ حينَ قُمتَ بالحقّ فيها ... فتَمَلَّ النُّعمى التّي لا تُمَلُّ والقصيدة الثانية: ما قالها أيضاً فيه، ويذكر حال خلعٍ أفاضها على أصحابه، وأخذه ل ابن المرخم، ويذكر بعض من توقف من الملوك عن البيعة: عُلى هكذا، لا زال جَدُّك عاليا ... ولا ينتهي حتَّى ينال التَّناهيا وما المرءُ إِلا في الدَّناءة سائم ... إِذا لم يكن في مُرْتَقَى المجد ساميا يرى باديَ الدُّنيا أخو اللُبّ بائداً ... ويعرِف غاياتِ الأمور مَباديا فيُصبح منه الطَّبع للشّرع دائناً ... ويلمَحُ منه العقلُ ما غاب دانيا ركِبت مَطا الدُّنيا. فإنْ كنتَ رائضاً ... نجوتَ، وإلا كنت بالأرض راضيا وما هيّ إلا منزل لمسافر ... فَقِلْ ساعةً فيه، وفارِقْه قاليا وما يقنعنّ النّفسَ سائر ما حوت ... فإن قنَعَت ببعضه كان كافيا وما العمرُ إِلا ساعةٌ ثمّ تنقضي ... فطُوبى لمن أضحى إلى الخير ساعيا وما الحُرُّ إلا مَنْ إذا حاز فانياً ... نفى غَيَّه عنه، وحاول باقيا ومَنْ لم يكن عن سُنَّة الشَّرع حائداً ... وسار بتوحيد المُهَيْمِنِ حاديا، فقد فاز من جنّات مَحْياه راقياً ... وجاز إلى جنّات أُخراه راقيا وأنت، أميرَ المؤمنين، امرُؤٌ سمت ... به الهِمّة القُصوى، ولم يكُ وانيا طَمَحْت إلى الدُّنيا. فلمّا ملكتَها، ... سمَوْتَ إلى الأُخرى، فأصبحت حاويا ملأت الورى عدلاً، فعدَّلت مائلاً ... وفرَّقت مالاً، واسْتَمَلْتَ مماليا غدوت بحكم العدل في النّاس قاضياً ... ورُحت به حقَّ الخِلافة قاضيا بعدلِك ألبست النّهارَ نهاره ... وقلَّدت أجيادَ الليالي لآَلِيا فأصبح وجه الدَّهر بالزَّهْر حالياً ... ويا طالما قد كان من ذاك خاليا فإنْ كنت بالمعروف أصبحت هائماً ... فإنَّ نَداك بالحَيا ظلَّ هاميا وسَيْبُك مورود، ترى الكلَّ حائماً ... عليه، وما نلقى لمغزاه حاميا إذا ما طما سيلُ المظالم سائلاً، ... ترقَيت عن مَهْواه، بالعدل ساميا وإِمّا رأيت الخَطب قد جَدَّ هائلاً ... غدوت به من الشَّجاعة لاهيا وأيّ عدوّ غادرَ الدَّهرَ غادراً، ... عدوتَ له، مُدّارِئاً، لا مُدارِيا طرأت على الدُّنيا بأيمنِ طائر ... وطرَّيْت بالِيها، فبوركت طاريا وما زِلت نحوَ الشَّرع باللطف داعياً ... تروِّع بالإِبعاد من عادَ عاديا وها قد أرى أَنْ ليس في الأرض جائر ... وليس عليه سيلُ أمرِك جاريا ولم تعف إِذْ عفّيت مَنْ كان ظالِماً ... فأصبح نبت العدل في الأرض عافيا وثَبَّتَّ في دَسْت الوزارة أهله ... وزيراً لأحوال الرَّعايا مراعيا إذا الملْك أشفى من سَقامٍ صحيحه ... فإنَّ لديه من تلافٍ تلافيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 خصائصُه لم تلق ملقى خَصاصة ... بِوادي بَوادِيها، فلم تَعْدُ واديا أبوك الّذي أحيا، ليُحيي من العلى ... مَواتاً، فألفاه وزيراً مُواتيا على ملك الدُّنيا وَقَفْت مطامِعي ... وفي مدحه أمسيتُ أقفو القوافيا أَعُوم بِحارَ الشّعر، للدُّرّ صائداً ... شواردَه، فَأنثني عنه صاديا وأعجز عن آيات معناه تالياً ... ولو أَنّني أَغدو ل سَحْبانَ تاليا على أَنّني قد كنت حرّمن مدّةً ... مَواردَه، حتّى قرأت فَتاويا بعدل إِمام، يقصُر الوصفُ دونَه، ... ويرخُص غاليه وإن كان غاليا فإن شملتني من عطاياه نعمةٌ، ... تروّح لي بالاً، وتُنعش باليا أبانَ ضياءُ الشُّكر لي عن مديحه ... مَعانيَ، تَبني لي لديه المَعاليا وقد تمنَحُ الشَّمس الهَباء خَوافياً ... فيرقَى، وتبدي منه ما كان خافيا ومستنجداً بالله ظلَّ إِمامُنا ... فما ضَلَّ، بل أضحى إلى الحقّ هاديا عظيم المزايا، يبتني المجد عالياً ... كريم السَّجايا، يشتري الحمد غاليا له عزمةٌ، كالهُنْدُوانيّ ماضياً ... ورأيٌ، إلى رِيّ الهدى ليس ظاميا إمام هدى زاكٍ. فمن جاء جانباً ... لغير ثمارِ حبّه، جارَ جانيا ومَن جاءه يوماً على الملك صائلاً ... غدا في غَداة الهُلْك للنّار صاليا لقد قام بالحقّ الذي كان قاعداً ... وأورى زِناداً للهدى متواريا وردَّ مُعار المال، حتّى لقد غدت ... خزائنه من العواري عواريا فصار وليّاً للقلوب محبّةً ... وكان على أجسادها قبلُ واليا وأولى مواليه ملابس عزّة ... وكان لِما يولي الموالي مواليا سَرَوْا مَلْبَسَ الحُزنِ الّذي كان شاملاً ... وسُرُّوا، وأضحوا يُظهرون التَّهانيا أرى خِلَعاً، جاءت على إِثْر بيعة ... لخير إِمام يجعَلُ الرَّوْعَ باديا لِيَهْنَ مواليه عطاءً أَزَلَّهُ، ... أزال به حسّادهم والأعاديا وكم مائنٍ في العَقد، أشبه مانياً ... فما نال منه من أمان أمانيا عدا عادياً في الشَّرع، للشَّرّ واعياً ... وفي كل ما لن يُرضيَ الله غاويا يَبيت لِما يهوَى على النّاس قاضياً ... ويُصبح في الدُّنيا عن الدّين قاصيا فلمّا انجلت تلك الغيَابة، وانجلت ... مَخاريقُه، أضحى عن الأرض جاليا ولم يُلْفِ لمّا أَنْ رأيناه حانياً ... عليه امْرَءاً من سائر الناس حانيا وكم سُنَّةٍ كانت على الملك سُبَّةً ... وقد كان، لولاها، من العار عاريا وكم شائرٍ شُهْدَ الممالك غِيلَةً ... شَرى شَريْها، وضَلَّ إِذْ ظَلَّ شاريا ولم يَكُ للخيرات في الملك باغياً ... ولكنْ عدا في باغِ دنياه باغيا وعمّا قليلٍ يُصبح الأمر واهياً ... عليه، ويُمسي طَوْدُ علياه هاويا ويجعله خُلف الخِلافة عِبرةً ... لمن قد حكاه في المَساوي مُساويا وتغدو ملوك الأرض طوعَ خليفة ... شَفاها شِفاهاً حين قال مُناديا: ألا كلُّ ما لا يقتضي الشّرع فعله ... فليس به أَمري مدى الدَّهر ماضيا. فأصبح هذا القول في النّاس فاشياً ... وراح لأَدواء الرَّعِيَّة شافيا فلا زال هذا الملك في النّاس دائماً ... ونَحرُ الّذي يَشْناهُ بالسّيف داميا وأثبت من رسائله ما استملحته لما استلمحته، ولقطت من درر لفظه وما لفظه وخزنت من در مزنه إذ لحظته. فمنها، من خطبة له في هذا المجموع، وهي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 كنت، أيها الحبر البحر، والوالد البر، حين اقتدحت سقط زندي لشائم بروقه، وافتتحت سفط زبدي لشام سحيقه، استحسنته مذهباً، واستخشنته مركباً، وسألتني إتحافك برويته، وإسعافك بروايته، فانصببت في قالب غرضك، وأصبت قلب غرضك. ومن أخرى، جواباً عن كتاب: وصل كتاب فلان، أطال الله فروع دوحة مآثره، وأطاب ينبوع فسحة سرائره، ووارى نار نفسه، وأورى نور قدسه، وأحيا قلبه بورد الذكر، وحيا لبه بورد الفكر؛ وقرأت فصوله، وفهمت محصوله، من أبكار معانٍ زفت إلى غير كفو، وبرود وشيٍ أفيضت على جسد نضو. ولقد أذاقني بحلو خطابه، مر عتابه، وقد انشرح صدري، لشرح عذري، فتلقه مجملاً، تكن بقبوله مجملاً. إني مذ صرف بوجهي نحو الحقيقة، وقصد بي قصد الطريقة، فحدقت لقراءة سورةٍ تشهدها، وحققت استقراء صورةٍ تحمدها، ونار المجاهدة بعد في تصفي سبائك خلاصي، حتى أرى مسالك خلاصي بإخلاصي. ولقد كابدت من أول قرين، عدة سنين، ما بيض سود ذوائبي، وغيض مورد ذنائبي، حتى أذن في طلاقه، فأذن بانطلاقه. هي بخط من يضن بخطه، ويظن به صحة ضبطه. ومن أخرى إلى زاهد: كتابي إلى فلان، مد الله في مدد عمره، وأمده بمدد نصره، وأيد عزمه، وسدد سهمه، ورزقه عن الدنيا سلوةً، وبالمولى خلوةً، وصفى من شبه الشبه خلاص اعتقاده، وأضفى على شخص مجاهدته دلاص استعداده، ب محمد خلاصة الوجود، وخالصة المعبود. فلانٌ قصدني مسلماً، ولما استودع من التحية مسلماً، وعرفني كونه بالقلعة متزهداً، وللقلعة متزوداً، وبمطلب الاعتزال قائلاً، ولمذهب الاعتزال قالياً. كنت ذكرت له تجردي للحق، وتفردي عن الخلق، حتى أدركت من علمه ما في طاقة البشر، وأطمعني الشوق في الذوق والنظر، متى ارتفع عن النظراء والأشباه، واقتنع بالنضار لا الأشباه، زهد في الأعراض الذاهبة، ورغب في الأغراض الواجبة. فاعتزل - يا أخي - كل مشغلة، فعزلة المرء عزٌّ له، والخلطة مذلة، والمخلط مدله، والشواغل عن المقصود، للشوى غلٌّ وقيود. ولا يرد ذلك الحمى، إلا من احتمى، وماتت دواعى نزاعه، وعوادى طباعه، وطمع في جوار سلطانه، وطعم من ثمار جنانه. وإن أردت البقا، فعليك بالتقى، فسر مع اسكندر الدين، واسكن دار الطين. رأيت الثقيل - لكثافته - يهرب هوياً، والخفيف - للطافته - يطلب رقياً. وليس من استبقى أطمار الحرمة، واستسقى أمطار الرحمة، وخنست شياطين جوارحه، الكائدة استسلاماً، وحبست سلاطين جوارحه، الصائدة أثاماً - كم كرع في حياض المنى صادياً، ورتع في رياض الهوى متمادياً، واستبهمت جواد مذهبه، وانحسمت مواد مواهبه. فليس الوصول بهلك الأولاد، بل بفك الأقياد، ولا بترك ثراء الأموال، بل بسفك الآمال، ولا بإتلاف المرء جسده، بل ب تلافيه، فليس من أخرب مسجده، كمن تلافيه. فكم من يأسو الكليم، بقصة موسى الكليم، ويبرئ الهيم، بحديث إبراهيم. فإن موسى سار بأهله، وسر بفعله: غدا بنفسه مستقلاً، وراح لشخصه مستقلاً. ولما جمع رطب الطرب، رجع إلى النسب والنشب. هاجرهم لشانه، وما جاهرهم بلسانه، وقصد العود، ووعد العود، وجنى رطب الشجر، وجنى طلب النظر، واعترف بضعفه عن كنه الأمر، واغترف بكفه من وجه البحر، ولم يودع في وطاب، من ماء شرعه إلا وطاب. وإبراهيم - عليه السلام، أمر بذبح ولده في المنام. فلما حقق عزمه، وفوق سهمه، قيل له: غير مرامك، وعبر منامك. فهذا البلاء، وإلا فذا لذا فداء. وأنزل كبشاً، ملئ كبساً، فجمع الهم، وفرق اللحم. كم لهذا المعنى من أمثال، وعلى طريقه من أميال. والحق لا يشتبه، فانتبه أنت به، واشتر قطع الجواهر الرابحة سوماً، بقطع الهواجر اللافحة صوماً، واجعل قيام قلائل الليالي، قيم قلائد اللآلي. فمن فعل ذلك، وسلك هذه المسالك، فقد رأب شعبه، ورب شعبه، وشفع في القيامة لمن شفع وتره، ورفع بالكرامة من رفع وتره. إن العمر ذاهب نافق، وذهب نافق، وغنيمة تغل وتستغل، وغنيمة تستقل وتستحل. فخذ لنفسك منه أودع، واحفظ الوديعة لمن أودع. ومن أخرى إلى صديق ب واسط: وصل كتابٌ راقَ ألفاظاً ومعنىً ... وساقَ إليَّ إِحساناً وحُسْنا فكان عرائسَ الأفكار تُجْلَى ... وكان غرائسَ الأفكار تُجْنَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 استرجع الحسن العازب، وأطلع الأمن الغارب، ورفع من المجد ما هوى، ورقع من الجد ما وهى. لم أكن لأهدي حشف النخل، وحثالة النحل، إلى هجر الفضل العريق، ومغنى المعنى الدقيق. ومن أخرى إلى صديق ب واسط: وصل كتاب فلان، أطال الله مديد بقائه، وأدام مشيد علائه، وأمن مخافة لأوائه، وقمع كافة أعدائه - ففضضته عن مثل لطائم العطر ذكاءً، ونظائم الدر استجلاءً، وريق النحل استحلاءً، وريق الوبل صفاءً، فأطلع من البهجة ما غرب، واسترجع من المهجة ما عزب. ومنذ انحدر به سفينه، وترحل عنه قطينه، ما قام لنا نادٍ إلا بذكره، ولا حام منا صادٍ إلا على بحره. ومن أخرى إلى ولد أخيه: أوجب لبنات الصدر رقصاً، ولثبات الصبر نقصاً وللسكون تفلتاً، وللعيون تلفتاً، إلى من سلب النزوع عنه النزاع إليه، وأوجب الحنين نحو التحنن عليه. فإن كان صنوي مصدر نسبه جسماً، وصفوي بورد أدبه علماً، فأنا أحق بمصاقبته جواراً، وأرق في مصاحبته حواراً. وعمر الله أندية الأدب، بصائب قوله، وغمر أودية الأرب، بصوب طوله، ووفقه لفعل ما يجب، وأرانا فيه ما نحب، ما مكنته من النهوض عن أرضي، ولا سمح كلي بفراق بعضي. وقد كاتبته بكلمات ينزر عددها، ويغزر مددها، لتشير إلى العلم صنائع شوقه، وتثير من الجهل بضائع سوقه، وتعزف عما أسفر ليل الأسفار، إلى قراءة صبح الإسفار، ويقايس به نفائس ثمار الأدب، وخسائس أحجار الذهب. ومن أخرى إليه: وصل كتاب فلان، فكان لصبري منهجاً، ولصدري مبهجاً، وللسعود مجدداً، وللجدود مسعداً، وللنفوس من شكال الوحشة مخلصاً، وللنفيس من إشكال العجمة ملخصاً. وكنت أرتقب عوده المقترب، فحالت المقادير، دون التقادير، وجاء المكتوب، بغير المحسوب، وأرجو أن تأتي العاقبة بالعافية، فتغنى به الأطلال العافية. ولولا اشتهار جنوح الأمر، وانتشار جناح العذر، لقلت: قطعه الفضول عن الفضل، ومنعه العدول عن العذل، واقتنع ببياض بلح النخيل، عن رياض ملح الخليل، ومكابرة الأجباس، عن مكاثرة الأجناس، وأنا أخفض له الجناح، وأرفع عنه الجناح. فإذا شرب من العلم فوق طوقه، وشب عمره عن طوقه، واتسق در سخابه، وفهق در سحابه، وأعادته محبة التربة، ومحنة الغربة، إلى منبت غرسه، ومبيت عرسه، أرخى عزالي مزاده، وأرجى بلاوه بلاده. انتقش من شوك العجز في قدم تقدمك، وانتعش بالعلم قبل أن يحال بين لوحك وقلمك. ولم أجرك بسوط السوق، في شوط الشوق، لكوني ممن يعتقد خمود عزمك، لكن ليغدو إذكائي لضرمك، مقاوماً، لريح من يروح لك لائماً، فيقوم المنشط، حذاء المثبط. ومن أخرى إليه: كتابي، وعندي وحشةٌ لك فادِحَهْ ... ونارُ اشتياق في فؤاديَ قادحَهْ فنُحْتُ على ضَنّ بقربك في النَّوى ... فها أَدمعي بعد ارتحالك سافِحَهْ ورائحة البِرّ الّذي فيك والتُّقَى ... غدت بك عنّي، فلتكن بك رائِحَهْ لتعبَقَ بالعلم الذَّي اشتقت عَرْفَه ... وتفْغِم مَنْ وافاك يطلُب رائِحَهْ فبلّغك الله الذَّي أنت أهُله ... ولا بَرِحَتْ منك الفضائل رابِحَهْ كتابي، والأشواق إليه دائمة، والآماق عليه دامية، والهموم على الجوانح جوانح، والجوارح فيها جوارح، فبر الله رداء الردى عن منكبي برده إلي، وأفاض من قربه سابغ برده علي، شكرت الباريء دقت حكمته، وجلت قدرته، على ما أنعم به عليه من سابغ ثياب السلامة، وسائغ شراب الكرامة. ومن أخرى إليه: كتاب فلان، أحيا الله موات أرضه بجاري ماء علمه، وضوأ ظلمات بلاده بساري ضياء نجمه، وكسر بجلاده سوق سوق البدعة القائمة، وجبر بجداله عظم عظمة الشرعة السالمة، فهدى أبكار معانٍ سنية الألطاف، وأهدى ثمار بيان حسنة القطاف، بألفاظ تنقع الغليل، وتنفع العليل، ويهيج بهيج منثورها، بلابل بلابل مسحورها؛ ونشر من مطاوي التلف موتى أشواق، وقدح ولكن في حراق، فأعاده الله واضح الأسرة، وأعاد به نازح المسرة. كم نصيب مرفوض، من نصاب مفروض، ألعين إليه ممتدة، وعن سواه مرتدة، لا زال موفق العزم، مفوق السهم. ومن أخرى إلى الحكيم المغربي: وصل كتاب فلان، أطال الله فرع عود عمره، وأطاب عرف عود ذكره، وحلى جيد الزمان بفرائد فوائده، وحلأ تهذيبه الإنسان عن مصايد مكايده، ما استخرجت أسفار، وخرجت أسفار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وجدته أحلى من اللقاء بعد البين، والنجاء من يد الحين. وكأن أنواء بنانه حاكت وشي الربيع، وأنوار بيانه حاكت الروض الصنيع. والاستيحاش لبعد حضرته، أذوى عودي بعد خضرته. ولولا ارتقاب العين، اقتراب البين، لأخفقت وعود الجلد، وخفقت بنود الكمد، سيما وكتبه التي تسقي عللاً، وتشفي عللاً، يوردها إرسالاً، فترد علينا أرسالاً. لكن أحال القلب عن حاله، وأماله عن آماله، قوله إن النزوع يحارب النزاع، والقنوع يجاذب القناع. أو ما يعلم - أعاد الله به شمل الأنس جميعاً، وأزال بلقائه وحشة الحس سريعاً - أن الذي مرى أخلافه، واستمرأ خلافه، وأذهب ذهبه ونقاره، واستعذب صخبه ونقاره، وقد طعم بعد حلو العيش أمره، وبرم بما أبرم حبله وأمره، وعلم أنه أغاض مذنباً، وأغاظ مذنباً؟ والزمان يثقف المتأود، ويثاقف المؤيد. وهبه جنى وما أجنى، وبرى وما أبرا، وأكفأ وما أكفا، وأشفى وما شفى، وحلى وما حلا، وعفى وما عفا، وسلى وما سلا، ومل وما ملا، واشتف حتى اشتفى، وكف حتى انكفا.. أليس لأجله هاجرت إلى البلاد، وهاجرت مثل بغداد، مجمع سرورك، وموضع سريرك، ومطلع نجمك، وموقع سهمك، ودائرة نقطتك، وبيت شرفك، وليت أسفك، التي هي الروضة والحديقة، والدنيا على الحقيقة؟ سيما وقد ارتفع بها صوتك، واتسع صيتك، وعرفك الأماثل، واعترف بفضلك المماثل، وقد كاد جناحك يريش، ومعاشك يعيش. لكنك هربت من صرف الأيام، وطلبت صرف المدام. وهيهات لك وجه الخلاص، وأنى ولات حين مناص؟ والسماء ألجأتك إلى الصريفة، والحمى أحوجتك إلى القطيفة، وقد صحت الأدواء، وصحت السماء. وبغداد عقد أنت واسطته، وعقدٌ أنت رابطته، ومفرق فضلك تاجه، ومشرق مثلك سراجه، والعيش ها هنا أرغد، والعود إلينا أحمد. ومن أنت قائلٌ بفضله، وقائلٌ في ظله فعلمٌ معروف، وله علم ومعروف، وسيكفيك ويكفيك، ويجزل لك ولا يجزيك. ومن أخرى إلى والد هذا المويد، يستعطفه له: كتابي إلى فلان، أطال الله له طول البقاء، وأدام عليه ديم النعماء، وجعل مراده وفق المراد، واستسعاده بطاعته فوق الاستسعاد، وأفلته من حبس الحس، ولفته إلى قدس النفس، وأراه ما واراه من وجوده، وأورى له ما وراه من عدله وجوده، عن أشواق تحالفت علي فما تخالفت، وأتواق أضعفت القوى حين تضاعفت، إلى الاستئناس بروائه الروي البهجة، والاقتباس من رأيه الوري الحجة، والتروح بنسيم شمائله، والتلمح لكريم شمائله. فلو سلكت سبيل وصفها لضللت في سهوب الإسهاب، ولو أقمت عماد ذكرها لأطلت أطناب الإطناب. ولقد امتد إليه سبب نكيري، واحتد عليه لهب ضميري، كيف سمح بنتيجة عمره، وسبب بقاء ذكره، وقطع غصنه وقد أثمر، ومنع مزنه وقد أمطر، حين أشرق كوكبه الدري، واتسق عقده الدري، من الذي استرق قلبك واسترقه، وعرف منبعك فاستحقه؟ نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الرجوع بعد الطلوع. فبدار بدار، إلى القمر حين الإبدار. فالتلافي بالتلاقي غرةٌ تقتبل، وغرةٌ تهتبل. والعبارة تضيق عن البث، ضيق المصدور عن النفث. وما أظنك تقف على هذه النبذة فتقف، أو تقرأ هذه الأحرف فتنحرف. ومن أخرى: وصل كتاب الأخ، أطاب الله شراب الدعاء في سحرة تهجده، وأطار غراب الرياء عن شجرة تعبده، وجعل سهام عزائمه صائبة الرمي، وغمام مكارمه صائبة الأتي، وأسرح طرف طرفه في حلبات أزهار العرفان، وأسرج قنديل إيمانه في قبلة قلبه بأنوار الإيقان، وجمع بيننا في مستقر رحمته، ب محمد وعترته. ولولا أن القلوب تتلافى بعد المزار بقرب التذكار، وتتلاقى بعد البعد في سرار الأسرار، لما استقر بي بلد غربة، وما استفزني شوق الصحبة. واستيحاش العين لشخصه المبهج اللقاء، يضرم نار الشوق المزعج في الأحشاء. والمسؤول إتحافي بمكاتباته الحالية الطلى، وعقار مخاطباته الحلوة الطلا. ومن أخرى: وطأ الله أكناف ممالك المجد، وأوطأه أكتاف مسالك الحمد، وربط أسباب بقائه بامتداد الدهر، ونقط كتاب ثنائه بمداد الشكر. أكون لما يعرض من خدمه، كأحد خدمه. فإن شرح لي سوانح أغراضه، وصرح لي عن لوائح إيماضه، سلكت سبيل التحصيل، وتركت مضل التأميل، واجتهدت بقدر الوسع والإمكان، واعتمدت على مساعدة الزمان. ومن أخرى إلى ولد أخيه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 كتابي إلى فلان، أبان الله نقشة نفسه بكل معلوم، وأبان عن عين عقله كل موهوم، وشحا لسوغ أعماله فم القبول ومحا من لوح خياله رقم المعلول، وقد مسني من خبل الشوق إليه مس، وغشيني للبس ثوب الوحشة لبس، مستصرخاً بالتداني من خطب الفراق ومستروحاً إلى الأماني من كرب الأشواق، لا أجد نشراً من طي الأسف، ولا نشرةً من طيف اللهف. لكن أترجى بعد سيره مسار كتاب منه صادر، يتضمن سائر أخبار السائر، لا تعلل بورود وروده، وأعل من ورد موروده، فيبل غليلي، ويبل عليلي. وكنت بقربه برهةً من الدهر، في نزهة من الزهر، حتى غار القدر فأغار، ونكث من الحبل ما أغار، ونقد علي المغير المنجد، وبكى علي الغائر المنجد. وليس بناجٍ من علقته ضوابثه، وطرقته حوادثه، وعين التجربة تستشف كدره في الصفاء، وتستشرف إلى عذره حين الوفاء. والآن، فسبيله السكون حتى تركد أكداره، والخمول حتى يخمد شراره، حارساً لطرة دينه من الانحراف، حافظاً لقطرة علمه من الجفاف. ومن أخرى إليه: وصل كتاب الوالد، حرس الله واديه، وأخرس أعاديه، وجعل نبراس ذكره عالي المنار، وأساس قدره راسي القرار، وآيات محامده متلوة السور، وغايات مقاصده مجلوة الصور، بعد أن كان عقاب العقاب يطير إليه جناحه، وارتقاب الكتاب يطور به جناحه، فأصبح سفور صبحه، سفير صلحه، وراح نسيم راحه، ما حي عظيم اجتراحه، وأبدى من العذر فائح مسكة سحيقه، وأدنى من الصبر نازح مسكة سحيقه. وقد كان لظلالي متفيأً، ولأطلالي متبوئاً، مستقبلاً مصلى الأتقياء، ومستقبلاً مصلي العلماء، راقياً لواعج الإرادة، وراقياً معارج السعادة. أذكى مقادح إشعاله، لتبدو ذكاء ذكائه، ووالى مصالح أشغاله، ليعلو لواء لألائه. لكن، صل للقدر حسامٌ صل صله، وعقد للحذر حزامٌ جل حله، ونكث مفتول قطيع سيره، فبعث مقتول فظيع سيره، ليشتد بالمنع همه، ويستد في القطع عزمه. شعر: " وحب شيئاً إلى الإنسان ما منعا ". فلا تيأس من قرب عوده، وإن يبس رطيب عوده. فالدهر يجيء ويمر، والعيش يحلو ويمر، وحبل كل مرء ينكث ويمر. ووصيتي إليه إذكاء دراري علمه متى انطفت، وإرساء جواري عزمه وإن طفت، حتى تسكت هواتف القضاء، وتسكن عواصف الابتلاء، ويطيب جو الزمان، ويصوب نوء الإمكان، ويعود موسى عزمه، إلى ثدي أمه. فإذا قوي عظمه، وروي كرمه، أصبح نبي قومه، إلى ثدي أمه. فإذا قوي عظمه، وروي كرمه، أصبح نبي قومه، وأيقظ كلاً من نومه، وأمسى إلى الإيمان بالغيب داعياً، ولغنم شعيب الغيب راعياً. فاعرف هذه الأمور، وتفهم منطق الطيور. ومن أخرى إليه: كتابي إلى فلان، والشوق قد استحوذ على الجلد، واستنفد قوى الجلد، طبع الله في شمع سمعه، نقوش فصوص صنعه، ورفع عن قليب قلبه حجاب تراب طبعه، وناجاه بأسرار كنه ملكوته الصادعة النور، وأراه أسرار وجه ملكه الساطعة الظهور. ووصلني كتابه فكان لنور الأحداق، كنور الحداق، وفي ناظر العين، كناضر العين، وشفى قلباً أشفى على التلف تلافيه، ورقى سليماً للهف بما تلافيه، من طيب أخباره السارة الأوصاف، الدارة الأخلاف، واحتبائه بثوب العافية والعفاف، وارتوائه من سلاف أكرم الأسلاف. فإن لقح ناجم طلعه انعقد أرطاباً، وإن وضح طالع نجمه اتقد شهاباً. ومن أخرى إلى بعض العارفين: كتابي إلى معين الدين، ومعين طريق السالكين، وعلامة دهره، وعلامة سعادة أهل عصره، جعله الله لقلبه واجداً، وعلى نفسه واجداً، أشرح فيه ما أطوي من مصافاته وإيثاره، وأنشر من صفاته وآثاره، لإجرائنا جواد الإرادة، في جواد السعادة، واهتبالنا غرة دهره الهجود، واقتبالنا غرة فجر الوجود، وهو الأمر تدر أخلافه، ويدرأ خلافه، وإن كان قبلي في قبلة السبق مصلياً، وكنت على أثره مصلياً، وأصبح علم علمه في الناس منشوراً، وأمسى علم علمي مزوراً عنه لا مزوراً، والله المرشد إلى صوب الصواب، والمسعد بثوب الثواب، لأصد عن صدى الحق صدأه، ولأحد عن بلوغ أمله فيه ملأه، والسلام. ومن أخرى تعزية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 عوضه الله على عظيم مصابه، عميم ثوابه. إن لكل أجل كتاباً، ولكل عمل ثواباً، والإنسان رهن أيامٍ تطرقه نوائبها، وهدف أحكامٍ ترشقه صوائبها، وتزعجه عن استقراره، وتنهجه سبيل قراره، ليستعد لتزود معاده، ويستجد مركباً من أعواده، وهو كطير حبس في قفص بدنه، وبوعد عن وطنه، ونثر له حسنات تقواه، وأرسل من خشبات تقواه، ليرفع طائراً، أو يرجع إلى معاده آخراً. فإن أسف على جنة هواه مثل حائراً، أو أخلد إلى أرض دنياه عدل جائراً، وصائد الشيطان قد نثر أنواع حبوب الأطماع ليوثقه بحبله، وستر أشراك ضروب الإشراك ليوبقه بختله. فإن تم صيده، فهو صيده. وإن تذكر قصده، وتبصر رشده، ونزع عن غوايته، ونزع إلى هدايته، استبصر بغروره، واستنصر بنوره، واستقل ما حوى فيه، واستقل بخوافيه، ومالك رقه لشدة رأفته، وفرط مخافته، أرسل مذكرات النوائب، ومنفرات المصائب، يناديه بلسان الحال، لا ببيان المقال: ما يتهيأ لك ها هنا عش، ولا يتهنأ لك عيش، فعد إلى وطنك الوطي، وسيدك الحفي. وإياك أن يكون حاصل حوصلتك، حب حب عاجلتك، فيثقلك عن النهوض، وينقلك إلى الحضيض. وهذه أمثال لأمثالنا ضربت، واللبيب من تنبه واعتبر، وسلك سبيل من عبر، وتزود التقوى، واستعد للمثوى. فالدنيا قنطرة للجائز، ومقطرة للعاجز، ومركب للعاقل، وملعب للغافل. وحين وصلني خبر فقيدتك المتردية بالخفر، المتردية في الحفر، أقض مضجعي، وفض مدمعي. ولولا أني في عقابيل نوائب آلمت حين ألمت، وارتهنت ذمة الصبر وما أذمت، لكنت أنا الوافد إليك، والوارد عوض كتابي عليك. ومن أخرى: كتابي إلى فلان، أدام الله في معارج السيادة ارتقاءه، وأدام في معارج السعادة بقاءه، عن سلامةٍ حالية الجيد، جالبة المزيد، متهدلة الأغصان، معتدلة الزمان، لما نتداوله من تلاوة ذكره، ونتناوله من حلاوة شكره، ولما لاح لواء ولائه، وفاح نشر الثناء من أثنائه، فعم الداني والقاصي، وعم الدين والعاصي. ومن أخرى: وصل كتاب فلان، أطال الله له البقاء، طول يده بالعطاء، وأدام له القدرة، وبه القدوة، وإليه انصراف الآمال، وعليه اعتكاف الإقبال، ما أشرق طرس بذكره، ونطق جرس بشكره، وجلا منىً، وحلا جنىً. وفضضته عن لآليء در، ولألاء بدر، وسلاف خمر، وائتلاف شذر. له في كل فصلٍ بديع، فصل ربيع، يفوح قداحه، ويلوح مصباحه، وتجول قداحه، وتجود أقداحه. زاهر البهار، باهر الأزهار. قد اشتمل سواد الخط فيه، على بياض الحظ لمعتفيه، فروى دائم عهوده، ديم العهاد، وأروى حائم موروده، العذب البراد، وأبقى موارده عذاباً، وألفى معانده عذاباً، ما سمج وصف شحيح، وسجم كف سحيح. ووصل البر الذي أولاه ووالاه، والإنعام الذي ابتدأه وثناه، فتلقيته بيد الفائز بقمره، العاجز عن شكره. وكنت أعتقده ديناً مقترضاً، حتى جرى سيله فطم على القري، وخرج على مقابلته بالذكر القري، وإنما الوهاد إذا رضعت أخلاف الجود، بعد إخلاف الجود، ورصعت بلآلئ القطر منها أقطار الجيد، تفتقت أزهارها عن الأكمام، وأشرقت أقمارها من الظلام، فاستفرغت طاقات الدهر، طاقات الشكر، وكان ظهور أثر الندى، حقيقة شكر الندى. ومن أخرى: وصل كتاب فلان، وقفه الله على منهاج ثوابه، ووفقه لاستخراج كتابه، فكان كالزهر، أضحكه بكاء الغمام، أو الدر، أمسكه بقاء النظام، أو الذهب ذهب غشه صفاءً، فأعرب عن النسب انتماءً، أو سواد الحرق، على الفضة الحرق. لا، بل بنفسج غض، على الجيد الغض، فسرق اللحظ من الخط الحظ، وسبق إلى القلب موشي اللفظ، لأنه طلع قمرياً، وسجع قمرياً، فأذهب حراً، وجلب حراً. إن الدنيا عاريةٌ في نظر البصير، عارية في يد الخبير. فما لاق فيها لاقٍ لها، وما راق لديها إلا راقٍ عليها. ومن كان فيها على أوفاز، علا أو فاز. ومن أخرى: وصل كتاب فلان، ملأه الله تعالى بملاءة عمره، وأملاه في إضاءة فجره، ودرأ عنه شر ما ذرأ، وأبر بقدره على من برأ، فراق ما حاكه من الحبر، في البصر والسمع، وأراق ما حكاه من الخبر، مصون الدمع. ومن أخرى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وصل كتاب سيدنا، أرغد الله عيش الأسرة والخدم، بنضرة أيامه، وأنجد جيش العسرة والعدم، بنضرة إنعامه، ما فرع شجرة خلافٍ شعباً، وأوقع شجار خلاف شغباً. ولما أخذ الوداد برمته، وجبذ الفؤاد بأزمته، رحل ولم يرحل مثاله، واستقل وقل أمثاله، وسكن وما سكن خاطري من القلق، وهدأ وما أهدأ الإشفاق من الحرق. ومن أخرى إلى ابن أخيه، يحثه على الدخول بزوجته: ما دجا حبر، وداجى حبر، وأمح منهج ظلام، وانمحى نهج ظلام. ومنها: وصار كمين الوجد مكيناً، وحنين الغرام جنوناً، ووشيك العذر مستبعداً، والقلب بين الجوانح إليك جانح، وجوارحه لملتمسك جوارح. فاسترسل قلمه في لقمه، ورقم وصف قرمه، وحاكى ما حاك في الخلد، وكنى عما نكأ في الجلد. ووصل كتابك الشريف الموضع، اللطيف الموقع، فانتطق بشارة بشارةٍ، ونطق بإفصاح إشارة، فسروت قناعه فأقنعني بالمسرة، وقرأت عنوانه فملأ العين قرة، وأزال بلطف نقشه ونفسه، من الطرف وحشة حسه. ولما طرأ عاد الشوق طرياً، ومرى شأن الدمع فوجده مرياً. وكان كالماء الفرات، أو كلم ابن الفرات، وقمت له إجلالاً، وقلت ارتجالاً: وفى إِليَّ وفاءا ... منك الكتاب وَفاءا فشفّ قلبيَ، حتّى ... أشفى، وكان الشِّفاءا يا غائباً كان يروي ... صَدَى العُيون رُواءا لَقىً تركتَ اصطباري ... يرومُ منك لِقاءا " وأعذبت عنك - لا عذب قليبك - لا أعذب قلبك "، فقلت: يتبع راية آرائه، ويقع في هوة أهوائه، ورأي الفطرة فطير وخيم، وحجر الشريعة حجرٌ لكل طبعٍ وخيم. فمن مري خلفها غذوا، وأمر خلفها عدوا. وكنت حين طلبت سر هذا الأمر، وركبت ظهر هذا البحر، جعلت الإيمان أميني، والقرآن قريني، والشريعة ذريعتي، والسنة جنتي، مستمراً على أمرها، ومستمرئاً جنى مرها، حتى انفتحت لي مغالقها، واتضحت لعيني طرائقها، وأحدقت بي حدائقها. والفقه غرس ربما حنظل شجره، ودرس ربما درس أثره. والسنة ألجأتك إلى خبط الميس، والأئمة خيرٌ من قيس. ولنشرح لك حقيقة الخلاف، في المسألة الدائرة بين الأطراف: فإن الشافعي، شافي عي، بل أحمد، الذي أنت له أحمد: التفت عن الدنيا سالياً، ونظر نظراً عالياً، ومن سلا سلم، ومن علا علم، فقال: المقصود من هذا الوجود، الاشتغال بعبادة المعبود، والإقبال على النكاح يشغل، فالتخلي للعبادة أفضل. وذاك حين تسكن نوازع الشهوة، وتمكن منافع الخلوة. وأما النعمان فأنعم النظر، وأحكم المرر، ونظر محيطاً، وأفتى محتاطاً. ومن تخلى لنوافل الشرع، نوى فل الجمع. ومن أذهب الفرض للنافلة، ووهب الأرض للناقلة، فقد عند، وما عبد. يسكن من الطبع ما يرى مائراً، ويمكن من الشرع ما طرأ ماطراً. ومتى أرى ظل الهوى، أضل إراءة الهدى. ويرق لمن ملك رقه، ويوفي كل ذي حق حقه، فيضرب في نوافل العبادة بسهم، ويضرب عن وجه غرض النكاح بسهم، ويكون له في كل مشروع، بالقلب شعورٌ وبالقالب شروع، ويدق كل باب، ويذوق كل لباب، اتباعاً لقول الرب الواحد: " يا بني. لا تدخلوا من بابٍ واحدٍ ". وآداب الأنبياء، دأب الأولياء، وأقوالهم، أقوى لهم. النفوس إذا التحف صاحبها بأخلاق من أخلاق، أو فاق في أفعال على غير وفاق، أو رفض من الشرع ما رفض، وعرض بما هو له غرض، أو سرق طبعه ذميم الأخلاق، ممن ليس له خلاق، وأخلاق السوء من القرناء، أعدى من الثؤباء، وليس بين الأعداء، شيء من الإعداء؛ فشفاؤك إشفاؤها، وجلاؤك جلاؤها. فعاد الحكيم إلى النفس، واتخذ من الطب ومنهاجا وقانونا، وقال: الحكمة في سمك الماء، كهي في سمك السماء، والنفس كالشخص، في الصحة والنقص. فاجعل العقل إماماً، وقدمه أماماً، وفوض إليه التأمير، والسكنى في التامور. من ند عن الكمال ندم، ومن عد من الجهال عدم. فأخلد بخلدك إلى الخلد، واستعد لورود هذا العد. وإن عدت إلى عادية عادتك، واعتددت بغادية غادتك، وإن اتسع لك المجال، وامتنع منك المحال، تخلصت زبدتك عن المخض، وخلصت إلى الحق المحض، وأطفت بملكٍ لا يبلى. فإن أعادك إلى حبسك فلحكمته، وإن أرادك لنفع جنسك فلرحمته. وخذها طويلةً غير قصيرة، ومشورةً كالشهد مشورة، وعليك السلام، وأفضل التحية والإكرام. وتوفي أبو المعالي الكتبي ب بغداد في سنة ثمان وستين وخمس مئة. ابن الريفية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 من أهل الراذان. كان من رؤسائها. قعد به الزمان، وحاربه الحدثان، فقصد الأمير دبيس بن صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد، وكان لا يهب إلا وقت سكره، فأنشده قصيدةً. منها: فلم يبقَ، يا تاجَ الملوكِ، وسيلةٌ ... يَمُتُّ بها ذو حاجة وَهْوَ مُضْطَرُّ سِوى الخمرِ أَنْ أضحى لَدَيْك منارُها ... فوا سَوْأتا إِن قيلَ: شافِعُه الخمرُ وحاشا وكَلا أَنْ يقالَ: ابنُ مَزْيَدٍ ... كريمٌ إذا ما هَزَّ أعطافَهُ السُّكْرُ المهند أبو البركات بن بصيلة المزرفي من أهل عصري. ذو خاطر كالمهند الطرير، وعبارةٍ ذكية كالعبير. من ضامه منظومه لن يجار، ومن ثار بمنثوره لا يجد القرار. إذا شبب ونسب أطرب، وإذا عتب واستعطف استعتب، وإذا مدح وأطرى أعجز وأعجب، وإذا ذم وهجا ثلب وأغضب. هو من كتاب الرؤساء، ورؤساء الشعر. كيف يسمي أبوه بصيلة، وقد أجنى بولده عسيلة؟ سألت أبا المعالي الكتبي عنه، سنة سبع وخمسين وخمس مئة، فذكر: أنه حين عرفه ب العراق عارق العطلة ونكد العيشة، وشام ب الشام وديار بكر برق المعيشة. رحل مشيماً، وأبل بسفره مغيماً. وها هو الآن كاتب بلدة كذا مستقيم الجاه، في نعمة الله. وأنشدني من شعره ما نقلته من مجموعه. فمن ذلك له من قصيدة في الغزل: فَرْعاءُ. بالطُّول قد خُصَّت ذَوائبُها ... حُسناً، كما خَطْوُها قد خُصَّ بالقِصَرِ إذا تمشّت، لتقضي حاجةً عرَضَت، ... تمحو الذَّوائبُ ما بالأرض من اَثَرَ وله: أذاب قلبي بدرُ تِمٍّ، له ... أَلحاظ رِئم وقَوام القَضيبْ في خدّه وردٌ، وفي رِيقه ... شُهْدٌ، وفي النَّكْهَة للصَّبّ طيبْ يلحَظُني شَزْراً إذا جئتُه ... لأنَّه يعلَمُ أَنّي مُرِيبْ وله: أَفدي الذَّي زارني وَهْناً، وقد هجَعَت ... عينُ الغيور، ونام الحاسدُ الحَنِقُ فبِتُّ أَلْثِمُ كفَّيْهِ، وأُكبِرُهُ ... عن قُبلة الخدّ، حتّى قوَّض الغَسَقُ وله يصف الروض: الرَّوضُ بينَ متوَّجٍ ومُكَلَّلِ ... والماءُ بين مُكَفَّرٍ ومُصَنْدَلِ فانظُرْ إلى الوَسْمِيّ كيف كسا الثَّرَى ... ثوباً، يطرِّزُهُ مَعيِنُ الجدول تلحَظْ جِنانَ الخُلد في الدُّنيا، بلا ... شكّ، وتَرْنُ نزهةَ المتأمِّلِ فكأنَّ غَيْدانَ البَنَفْسَجِ عاشقٌ، ... بالصَّدّ والهجرِ المُبَرِّجِ قد بُلِي وكأنَّ زهرتَه بقيّةُ عضَّةٍ ... في خدّ رئِم ذي دلال أكحلِ والنَّرْجِسُ الغَضُّ الشَّهِيُّ، كأنّه ... حَدَقٌ. . أصابت بالصَّبابة مَقْتَلِي مالي وللآرام؟ قبّح حسنها ... حالي، وغالت بالجمال تجمُّلِي وتركنني غَرَضَ الرُّماةِ مُقَسّماً ... بينَ الوُشاةِ وبينَ عذلِ العُذَّلِ هذا البيت مطابق مجانس، وقد وقع اختياري عليه وما يتلوه. وله في الاستجداء استزادة: خليفةَ الله، إِمامَ الهدى ... رِقاعُنا لِمْ حُبِست عنّا؟ إِن أنت لم تَقضِ بها حاجةً ... لنا، فلِمْ تأخُذُها مِنّا؟ وله في الذم: اعتدلَ النّاس في النَّذالةِ والجه ... ل وضاقت مسالكُ السّالِكْ فمن جحيم إلى لَظَى سَفَرٍ ... ونحن من هالك إلى مالِك وله: كمالُ الدِّين نقصُ الدِّيِ ... نِ لا شَكٌّ ولا كذِبُ لئيمٌ. خانَهُ حسَبٌ، ... ولم ينهَضْ به أدبُ تراه يفور من غيظ ... على الرّاجي ويلتهبُ ويَهْوَى أَنّ آمِلهَ ... بكفّ الحَتْف مُسْتَلَبُ فلا دامت له الدُّنيا، ... ولا رقَدت له النُّوَبُ لو قال: " فلا انتبهت له الدنيا "، كان أحسن في المطابقة. وله أيضاً: إذا ما قَنَعنا باليسير، ولم يصل ... هنيئاً، قَنَعنا بالنَّزاهة والفقرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وحاشا أبا الفَيّاض ممّا يَشيِنُه ... يقول: نَصيحٌ غَشَّهُ، وَهْوَ لا يدري وسألت عنه ب الموصل سنة سبعين وخمس مئة، فقيل لي: إنه صاحب دارا ونديمه، ويواظب عمله ويديمه. دبيس المدائني من المدائن. ضرير، بالأدب بصير. لقيته، واستنشدته أشعاره. وهي في غاية الرقة، بعيدة عن التعسف وارتكاب المشقة. لما توفي ثقة الدولة بن الدريني، سنة تسع وأربعين وخمس مئة، رثاه بقصيدةٍ، أنشدني منها من حضر العزاء، وهو عز الدين البروجردي، قال: سمعته ينشد: قد قلت للرَّجُل المُوَلَّى غسلَهُ ... هَلاّ أطاع، وكنت من نُصَحائِهِ جَنِّبْهُ ماءَك، ثُمَّ غَسِّلْهُ بما ... تُجْريه عينُ المجدِ عندَ بكائِهِ وَأَزِلْ أفاوِيهَ الحَنُوطِ وطِيبَهُ ... عنه، وَحِنّطْهُ بطِيب ثَنائِهِ ومُرِ الكِرامَ الكاتبينَ بحَمْله ... أَوَ ما تراهم وُقَّفاً بإزائِهِ لا تُوهِ أَعناق الرِّجال بحمله ... يكفي الَّذي فيهِنَّ من نَعْمائِهِ وأنشدني مجد الدولة، أبو غالب، بن الحصين، من قصيدةٍ، سمعه ينشدها في الوزير، يصف الحرب: وفي قدود الرِّماح السُّمْر منعَطَف ... وفي خدود السُّرَيْجِيّات توريدُ تغنّتِ البِيض، فاهتزَّ القَنا طرباً ... مثلَ اهتزازِك إِذْ يدعو بك الجودُ القاضي أبو حامد بن الأشتري من المدائن. ذكر الأمير ابن الصيفي: أنه كان من معيدي المدرسة النظامية ب بغداد. من فضلاء أصحاب الشافعي. وكان له صديق من باب النوبي: يجتمعان كل ليلة عند ضوء المنار المنصوب، يتحادثان. فإن رفع المنار الذي يشعل، يفترقان. قال: أنشدني لنفسه في المنار: رِكابُ أدلَّة، كالسَّطْر حالا ... قوائمه مخالفة كلالا لكلّ مطيّةٍ منها ثلاثٌ ... وما عرَفَت قوائمُها كَلالا إذا ميِطت عمائمُهم أناخُوا ... وإِنْ نِيطت بهم ثُرْنَ اشتعالا مواقفُ للعتاب لنا حِذاهم ... نواعدهنَّ هَجراً أو وِصالا فيسكُنً صاحبي، وهُمُ وقوفٌ، ... ويقلَقُ كلَّما عزَمُوا ارتحالا المعلم أبو الأزهر الضحاك، بن سلمان، بن سالم، بن وهابة، المرئي. من أهل المحول. قال السمعاني في تاريخه المذيل: شيخ صالح. له حظ من اللغة والعربية. يعلم الصبيان ب المحول. وله يد باسطة في الشعر. وأورد مما أنشده لنفسه قوله: ما أنعم الله على عبده ... بنعمة، أوفَى من العافِيَهْ وكلُّ مَنْ عُوفيَ في جسمه ... فإنّه في عيشة راضيه والمالُ حلوٌ حَسنٌ جيّدٌ ... على الفتى، لكِنَّه عاريه وأسعدُ العالم بالمال، مَنْ ... أدّاه للآخرة الباقيه ما أحسنَ الدُّنيا ولكنّها ... مَعْ حسنها غادرةٌ فانيه وقوله: هَبُوا الطَّيفَ ب الزَّوْراء ليس يزورُ ... فما لنجوم الليل ليس تغورُ؟ تطاولَ بعدَ الظّاعنينَ. وطالما ... قضينا به الأوطارَ، وَهْوَ قَصِيرُ فإِن يُمْسِ طَرْفي ليس تَرْقَا جفونُهُ ... فيا رُبَّما أمسيتُ وَهْوَ قريرُ لياليَ يُلهيني وأُلهيهِ أَغيدٌ ... أَغَنُّ غَضيضُ المقلتين غريرُ هذا، ما اخترته. أبو القاسم عبد الغني بن محمد بن عبد الغني بن محمد بن حنيفة الباجسري رجل فاضل، صالح، متميز. من تناء بعقوبا، من أعمال طريق خراسان ب بغداد. توفي بها في شعبان، سنة إحدى وثلاثين وخمسة مئة. قال محمد بن ناصر، الحافظ البغدادي: ولي منه إجازة بجميع رواياته، وسمعت عليه أيضاً. أنشدني عبد الغني الباجسري لنفسه قوله: إِنْ تحاولْ علم ما أُضْمِره ... من صفاء لك، أو من دَخَلِ فاعبِرْهُ منك، واعلم أَنَّه ... لك عندي مثلُ ما عندَك لي وقوله: لا تَكُ ما بينَ الورى معلِناً ... بالأمر، إلا بعدَ إِبرامِهِ فمن وَهِي أمرٍ وإِفسادِه ... إعلانُه من قبل إِحكامِهِ وقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 لو كفى الله شرَّ أهلِ زماني ... مثلَما كُلَّ خيرِهم قد كفاني، سِيَّما منهم الّذي كنتُ أرجو ... هـ من الأَصفياء والخُلاّنِ، عشتُ في غِبطة وفي خفضِ عيشٍ ... آمناً من طوارق الحدثانِ فإِلى الله أشتكي جورَ دهر ... زائدِ السُّوء ناقصِ الإِحسانِ ويروى: فإِلى الله أشتكيهم، وأرجو ... هـ يُعافي منهم بما قد بلاني وبه أَستعين، إِذْ كلُّ راجٍ ... عونَ غيرِ الإِله غيرُ مُعانِ أبو علي الحسين بن جعفر بن الحسين الضرير البندنيجي الأديب المعروف ب ابن الهمذاني. من شعراء الدولة القائمية والمقتدية. نقلت من كتاب تكملة الذيل ل ابن الهمذاني من مدائحه في القائم بأمر الله من قصيدة، يهنئه فيها بعوده إلى دار الخلافة بعد ما تم الذي تم من البساسيري، وبعد أمير المؤمنين إلى الحديثة، وعوده في أيام طغرل بك سنة إحدى وخمسين وأربع مئة. منها: أقام ثِقافه الإسلام لمّا ... تأوَّد، إذْ بأمر الله قاما وعاد العدل، بعد بِلىً، قَشيباً ... به، والدِّيِنُ مقتبلاً غلاما. ولمّا أَنْ طغت عُصَبٌ، وطاشت ... حلومٌ. . أورثت لهم ضِراما وقادهم القضاء إلى عُتُّلٍ ... زَنيِمٍ، قاد للفِتن السَّواما أتاح الله ركن الدّين لطفاً ... وتأييداً، فأخزى من أَلاما وأردى العبدَ، لا جادت يداه ... سوى النّيرانِ تضطرمُ اضطراما وأتعسَ جَدَّه، وَأدال منه، ... وأقعصه وقد جَدَّ انهزاما ومنها: أميرَ المؤمنين رِضى وغَفْراً ... لعارضِ نَبْوَةٍ طرَقَت لِماما فإنّ الله أبلاك امتحاناً ... كما أبلى النَّبييّن الكراما صَفِيّ الله آدمُ إذْ عصاه ... فأهبطه إلى الأرض انتقاما غوى، ثمّ اجتباه، فتاب هَدْيا ... عليه، وعاضَهُ نِعماً جِساما وإِبراهيمُ لمّا راغَ ضرباً ... على أصنامهم، فغدت حُطاما وقال: ابْنُوا عليه، وحرِّقوه ... وقال لناره: كوني سلاما وأَيُّوبُ ابتلاه بطول ضُرٍّ ... وألبسه المذلَّةَ والسَّقاما فناداه، فأنعمَ مستجيباً ... له، وأتمَّ نعمته تماما ويوسُفُ حين كادَ بنو أبيه ... له كيداً، وما اجتنبوا الأَثاما فملَّكه، وجاء بهم إليه ... كما جاؤوك طوعاً أو رَغاما ولَمَّ الله شملَهُمُ جميعاً ... كذلك لَمَّ شعبكم انتظاما فأمسى الشَّمل ملتئماً جميعاً ... وزادَ ب عُدَّة الدِّين التئاما وليّ العهد، والملك المُرَجَّى ... لتقويم الهدى أَنَّى استقاما فبورك للرَّعيَّة فيه مولىً، ... ودُمتَ إمامها أبداً، وداما لقد قرَّت بأوبته عيونٌ ... تجافت، منذُ زايَلَ، أن تناما وأسفرت الخِلافة بعدَ يأس ... وحالَ قطوبُ دولتِها ابتساما فلا عَدِمَتْكُما ما لاحَ نجمٌ ... تَحُوطانِ الشّريعةَ والأَناما ولا زالت يمينُ الله تُهدي ... لعزّكما السّعادة والدَّواما وله من قصيدة، يهنئه بفتح بلاد الروم على يد ألب أرسلان سنة ثلاث وثلاثين وأربع مئة: عندَك يرجى العفوُ عن مذنبٍ ... أسلمه للحَتْف عُدوانُهُ ومن أياديك بحورِ العلى ... كلُّ مُدِّلٍ عزَّ سلطانُهُ هذا ابنُ داوودَ الَّذي قد سمت ... فوقَ نجوم الأُفق تيجانُهُ باسمك يسطو حين يلقى العدا ... فتَفْرِسُ الأملاكَ فُرسانُهُ أرهفتَه سيفاً صقيلاً، به ... ينقتل الكفرُ وأوثانُهُ واصطلم الأعداء، واستهدمت ... دعائم الكفر وأديانُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 تَبّاً لكلب الرُّوم إذْ غَرَّه ... تزاحمُ الجيش وصُلبانُهُ آلى يميناً أن ينالَ العلى ... فانعكست بالخِزي أَيمانُهُ ويلُ أمِّهِ في الأَسر، مستعبِراً ... يندَمُ إذْ منَاه شيطانُهُ لم يُغنِ عنه الجمعُ شيئاً، كما ... لم يُغنِ ذاك الجمعَ شجعانُهُ وسوف تلقى مصرُ من بعدها ... هولاً، يُشيب الطّفلَ لُقيانُهُ لا بُدَّ للقائم من أن تُرَى ... منشورةً في الغرب عِقبانُهُ يملِكها شرقاً وغرباً، على ... رُغْم العدا، والله مِعوانُهُ وعُدَّة الدِّين الإِمام الَّذي ... أهَّله للأمر رَحمانُهُ خِلافة بالدَّهر مقرونة ... لا تنقضي ما لاح كيَوانُهُ فدامَ للأمَّة، يرعاهُمُ ... موفَّقاً في العدل رُعيانُهُ وله من قصيدة في تهنئته بإقامة الخطبة ب الحرمين سنة أربع وستين وأربع مئة: بحبل القائم المهدي اعتصمنا ... فما نخشى نوائبَه الصِّعابا براه الله غيثاً للبرايا ... وغوثاً يَدْرَؤوُن به العذابا وقد خضعَت لهيبته البوادي ... وقد مدَّت، لخَشيته، الرِّقابا ألم تَرَ للمغارب كيف عاذت ... بمِلَّته، لدعوته انقلابا؟ وأَنَّ منابر الحَرَمَيْنِ أَنَّتْ ... لخطبة من تملّكها اغتصابا فلا زالت يمين الله تهدي ... لدولته السَّعادة والغِلابا وله يهنئ الإمام المقتدي بالخلافة، ويعزيه عن القائم، سنة سبع وستين وأربع مئة، من قصيدة: ولما انتهت ب القائم الطُّهْر مُدَّةٌ ... مقدَّرة، كالشمس حانَ أفولُها تسربلتَها أندى الخلائف راحةً ... وأجدرَ مَنْ أفضى إليه وصولُها وقمتَ بأمر الله، مقتدياً به، ... فقرَّت عيونٌ، نال منها هُمولُها لِيَهْنِ نفوساً، أمَّلَتْك، تيقُّناً ... بنيل العلى والفخر فيما تُنيلُها بجودك يستسقَى من المَحْل، كلَّما ... أَرَبَّتْ بأَقطار البلاد مُحولُها فلا يحسَبِ المغرورُ في مِصْرَ أَنَّه ... ستَعصِمُه منك الفَيافِي وطُولُها فلو بكتاب رُعْتَهُ، لا كَتيبةٍ، ... لَخَرَّتْ رواسي مِصْرَ، أو غارَ نِيلُها وله من قصيدة في بهاء الدولة، منصور، بن دبيس، بن علي، بن مزيد، الأسدي، والد صدقة، يهنئه بإفضاء الإمارة إليه، بعد وفاة والده في شوال سنة أربع وسبعين وأربع مئة، في أيام ملك شاه: جزى الله سلطانَ الملوك سحائباً ... من الرَّوح، تحبوه النّعيمَ، وتُزلِفُ جزاءً بما أبقت لنا مَكرُماتُه ... هًماماً، به تُزْهَى نِزار وخِنْدِفُ ولولاك، يا منصور، لم يُلْفَ بعدَه ... مُجيرٌ على خَطْب، ولا مُتَنَصَّفُ لَئِنْ شرُفت أرض بمَلْك، لقد غدت ... بك العُرب والدُّنيا معاً تتشرَّفُ فِدى لك مَن يبغي العلى وَهْوَ باخلٌ ... ويطلُب غاياتِ المَدى وَهْوَ مُقْرِفُ إِذا هُزَّ للمعروف، مال بعِطفه ... إلى اللُؤم طبعٌ في الدَّنايا مُلَفَّفُ إليك بهاءَ الدَّولة اعتسفتْ بنا ... أَمانٍ، لغير المجد لا تتعسَّفُ بقِيت لنا، ما حنَّتِ النِّيبُ، قاهراً ... عِداك، وما ضمَّ الحَجِيجَ المُعَرَّفُ وله في مدح الشيخ الإمام أبي إسحاق الشيرازي رحمه الله - قصيدة، منها: لتفخرِ الشّريعة كيف شاءت ... ب إِبراهيمَ إذْ يَشفي السِّقاما أعاد بهديه الإسلامَ غَضّاً ... وأنشر من معالمه الرِّماما به اتّضح الهدى والدِّينُ فينا ... وكان الحقُّ أعوجَ فاستقاما إِذا نصر الجدال، رأيت منه ... لساناً، يفضَح العَضْبَ الحُساما فأمَا في الدُّروس إِذا تلاها، ... فموجُ البحر يلتطم الْتِطاما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وله من تهنئة للوزير أبي شجاع بالوزارة، سنة ست وسبعين وأربع مئة: هنيئاً لك المنصِبُ الأرفعُ ... ولا زِلت بالملك تستمتعُ وَمَّلأَك الله ما فَوَّضَتْ ... هُ إليك الخِلافةُ، لا يُنْزَعُ مقام، يشُقّ على الحاسدينَ، ... رٍقابُ الملوك له تخضَعُ وأَعظِمْ به شرفاً باذخاً ... إلى مستقرّ الهدى يشفَعُ أتتك الوزارة مشتاقةً ... إليك، وأنفُ العلى أجدعُ أبَتْ أن تُقيم على ظالمم ... على المَكْرُمات، فتستشفعُ ومنها: فلولاكها كافلاً إِنّه ... تقلّدها ماجدٌ أَرْوَعُ بصَيرٌ بتثقيف أيّامها ... أمينٌ إِذا خانَ مستودَعُ وتحسَبُ سَحْبانَ في دَسْته ... وقُسّاً إذا احتشد المجمع وبين الجوانح من معشر ... غَليلٌ، بحَرّ الرَّدى ينقَعُ وهيهات يروى صَداهم بها ... وقد عزَّ دونَهم المَكْرَعُ أناسٌ ربيعُهُمُ مُجدب ... وأنتم ربيعٌ لهم مُمْرِعُ وباعُهُمُ في العلى ضيّقٌ ... وباعُك في المجد مستوسعُ لَشَتّانَ بينكما في القياس ... وهل يستوي النَّبْعُ والخِرْوَعُ وبيتُك من فارس دوحةٌ ... بِدَرّ المكارم تسترضعُ مَعالٍ من الله موهوبةٌ ... وما وهَب الله لا يخلعُ وكم قال ذو أدب، أمحلت ... مُناه: متى يُخصب المرتعُ؟ فبّلغه الله آماله ... بما طبّقت مُزنة تَهْمَعُ كفَلْتَ الرَّعيَّة من دهرها ... فلستَ لنائبه تخشَعُ ويُمناك باليُمن تَغْشَى البلاد ... أَماناً، ويا طالَما رُوِّعُوا وأحيا بك المقتدي أُمّةً ... يحرّمها كَلأ مُسبَعُ وما اختار للأمر إلا فتىً ... إليه قلوب الورى تَنْزِعُ فلا أعدم الله إحسانَه ... رعاياه، ما أشرقَ المَطْلَعِ وله في سيف الدولة، صدقة، بن منصور، بن علي، بن مزيد من قصيدة، يذكرها فيها فعله يوم آمد، في الوقعة بين شرف الدولة، مسلم، بن قريش وفخر الدولة، بن جهير. وكان سيف الدولة حاضراً، فوقف كرمه على فك الأسرى من بني عقيل، واستنقاذهم، وإغناء فقرائهم، وإعطاء عفاتهم: إنا نحن وافينا فِناءَ ابنِ مَزْيَد ... توالت لنا سُحبُ النَّدَى وانسكابُها فِناءٌ يَفِيْ المعتفونَ إلى الغِنى ... بنائله، حتّى يرجَّى ثوابُها يُجير إذا جار الزَّمانُ وريبُه ... ويُجْدِي إذا الأَنواءُ ضَنَّ سَحابُها إذا ورد العافون مَغْناه، صادفوا ... بحور عطاياه يَعُبّ عُبابُها تكاد مَقاريه، سروراً وبهجةً ... بِضيفانه، تسعى إليهم قِبابُها وتُمسي لهم في جِيد كلّ متوَّج ... صنائعُ، لم يَخْطِر ببالٍ حسابُها ويغشى الوغى واليومُ بالنَّقع مُسْدِفٌ ... وللحرب نارٌ لا يبوخ شِهابُها كيوم عُقَيْل والرِّماحُ شواجرٌ ... وبِيضُ الظُّبَى يُرْدي الكُماةَ ضِرابُها غَداةَ غدت للتُّرك في الحيّ وقعة ... أباحت حِمى دارٍ عزيزٍ جَنابُها فأُقسِمُ لولا نخوة مَزْيَدِيَّةٌ ... لباتت على حكم السِّباء كَعابُها ولكنّ سيفَ الدّولة ابنّ بهائِها ... حَمَى عِرضَها والتُّرك تَحْرَقُ نابُها تناشده الأرحامَ والنَّقْعُ ثائرٌ ... ولا يحفَظُ الأرحامَ إلاّ لُبابُها وكم ذاد عنها المَزْيَدِيُّونَ بالقَنا ... سُيوفَ العدا من حيثُ غَصَّ شرابُها عشيةَ لاذتْ بالفرار من الظُّبَى ... وذلّت سباع، طالما عزَّ غابُها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وجاست خلالَ المَوْصِل الخيلُ عَنْوَةً ... وعاثت بأسلاب الأسود ذِئابُها ولولا عوالي نورِ دولةِ خِنْدِف ... لمَا انجاب عن تلك الشُّموس ضبَابُها فلا زال منكم يا بني مَزْيَدٍ لها ... مُجيرٌ، إليه في الأمور مَآبُها إذا نابَها خَطْبٌ، فأنتم مَلاذها ... وإنْ رابَها جَدْب، فأنتم رَبابُها. وله يمدح الشيخ أبا إسحاق الشيرازي، رضي الله عنه، من قصيدة، ويذكر المدرسة النظامية ب بغداد، ويصفها: وهذا سيّدُ الوزراء، لمّا ... رآه يَجِلُّ عن نيل المُنِيلِ، بنى للعلم داراً، واصطفاه ... لها، فسمت، وعزّت عن بَدِيلِ نهنّيه بها، والدّارُ أَولى ... وأجدرُ أن تُهَنَّأَ بالنَّزِيلِ مشيّدة، تَتِيهُ على اللَّيالي ... بأعجبِ منظرٍ حَسَنٍ جميلِ يكاد يحُكُّ مَنِكْبُها الثُّرَيّا ... بفَرْعٍ مدهشِ الرّائي طويلِ ويفخَرُ سيلُ دجلةَ حين أمست ... له جاراً على كلّ السُّيولِ يقبّلُ حافَتَيْها الموجُ حبّاً ... لها، كمقبّلٍ خدَّيْ خليلِ تولاّها، فأغرب في بناها ... ذكيُّ القلب ذو رأيٍ أصيلِ وله في ألب قرا البكجي أمير التركمان، وقد قال له: سوغك نظام الملك خراجك. قال: لأنني مدحته. قال: فامدحني، حتى أفعل معك مثل ذلك. فمدحه بقصيدة، ذكر فيها الوقعة التي كانت بينه وبين خفاجة وكسره لها: ألب قرا البكجي الفارس البطل ال ... مُغْني بجود يديهِ كلَّ مرتادِ الذّائذُ، الضّاربُ الهاماتِ، مخترماً ... في الرَّوْع آجالَ أبطالٍ وآسادِ حامي الذِّمار، عزيزُ الجار، همَّتُه ... إِمّا لكَبْت عدوٍّ، أو لإِحمادِ يغشى الحروبَ بنفس غير وانية ... عن الطِّعان، وقلبٍ غير مُنْآدِ سهلُ الخليقة، ميمون النَّقيبة، مَرْ ... هُوبُ العزيمةِ، لا باغٍ، ولا عادِ سطا، فأشبه في إقدامه ملكاً ... وربمَّا ساد آباءٌ بأولاد يا خيرَ مَنْ ساد عزّاً في بني بكج ... سامٍ إلى خير آباء وأجدادِ إِنّ الخليفةَ مُذْ أدناك منتصراً ... أدناك مستيقناً منكم بإنجادِ نِداءَ ذي العرش موسى حين أرسله ... في آل فِرْعَوْنَ يدعوهم بإرشادِ أوحى إليهِ: أَنِ اضرِبْ بالعصا، فَهَوَوْا ... في إثمهم، وأراهم صدقَ ميعادِ واختارك الله للأَعراب مثلَ عصا ... موسى لِيَفْلِقَهم ضرباً على الهادي لمَا عبرت إلى غربيّ دجلةَ في ... جيش من التُّرك سيراً غير إِرْوادِ من خيل سلغرَ، لا زالت كتائبهم ... في الحرب منصورةً، مرهومةَ الوادي طارت خَفاجةُ في البَيْداء طائشةً ... خوفاً، تَقاذَفُ من شِعْب إلى وادِ فاستقدمت للوَغَى كعب وإخوتها ... بنو كِلاب بإبراق وإرعادِ والأشقياء بنو حرب وخِضْرِمة ... وبُحْتُر ورجال غير أوغاد حتّى إذا ما التقى الجمعانِ في رَهَج ... أقبلتَ تَخْلِطُ أعناقاً بأجياد أغرقتهم في بِحار من دمائِهِمُ ... كأنَّ أرضَهمُ جاشت بفِرْصادِ أتيت منهم ربيعاً في ديارهِمُ ... فالطّيرُ ترتَعُ في خِصْب من الزّادِ وبات يُثني عليك المادحونَ بما ... أبليتَ ما بين إِتهام وإِنجادِ وسار ذكرك في الآفاق منتشراً ... ذِكراً يغنّي به الغِرِّيدُ والشّادي فاشكر هنيئاً مَرِيئاً ما خُصِصتَ به ... عند الخليفة من شكر وإرفادِ وله في أبي سعد، عبد الواحد، بن أحمد، بن الحصين صاحب المخزن في الدولة المقتدية، عند عوده من الحج، من قصيدة، منها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وعلَّلْت قلباً بارتقاب مبّشِرٍ ... يبّشِر أَنَّ الرَّكْبَ في البِيد مُعْرِقُ فلمّا بدا وجهُ ابنِ أحمدَ، كبّرت ... رجالٌ، إلى لُقيانه تتشوَّقُ وأُفحمت عن بثّ اشتياقي مسرّةً ... وشاهدُ حالي عن ضميريَ ينطِقُ فظَلْتُ أقوتُ النَّفسَ ألفاظَه التّي ... شَفَتْ كِبداً، للبَيْن كادت تَمَزَّقُ وأَلْثِمُ أَخفافَ المَطِيّ التَّي خَدَتْ ... وأرضاً غدت فيها مَطاياه تُعنقُ فلا روضُ ذاك الأُنس فيها مصوِّحٌ، ولا بُرْدُه ما حنَّت النِّيبُ مُخْلِقُ لَئِنْ كنت أوحشتَ العِراقَ، لقد غدا ... ل مَكَّةَ أُنس في القلوب معشَقُ ونالت بها منك المُنَى، إذ دخَلْتَها ... ورُحتَ وواديها بفضلك يَنْطِقُ وأبدى لك البيت الحرام بشاشةً ... بها أَرَجٌ، من طِيب نَشْرِك، يعبَقُ ولَمَّا استلمتَ الرّ؟ ُكنَ، زاد بهاؤه ... وكاد، بما مسَّتْه يُمناك، يورقُ ولو نطَقت أعلام مكّةَ لاَنْتَشتْ ... بما عِلمتْ، تُثني عليك وتصدُقُ وقضَّيْتَ ما قضَّيتَ في كلّ موقف ... وحجُّك مبرورٌ، وأنت موفَّق ودونَ الَّذي تخشى، ولا مَسَّكَ الرَّدى، ... دعاءٌ، بأعناق السَّماء معلَّقُ يَبيت وجيِدُ الليلِ منه مُمَسَّكٌ ... ويُضحي ونَحرُ الصُّبحِ منه مُخَلَّقُ وأورده السمعاني في كتابه الموسوم ب المذيل، وأثنى عليه، وأسند إليه ما روي له عنه من شعره في نظام الملك: فلو أَنَّ يحيى كان يحيا، وجعفراً ... وفَضْلاً لقالوا: عندك الفضل موجودُ أسأتَ إليهم حينَ أخملت ذكرهم ... بفعلٍ لَدَيْه بِيضُ أفعالهم سُودُ وله فيه: عَمَّ معروفك غرباً، مثلَما ... عَمَّ شرقاً، وكذا الشّمس تَعُمّ بأَيادٍ، ملأت كلّ يد، ... فانثنى يُثني عليه كلُّ فَمْ خُلِقت يُمناك يُمناً للورى ... والمعالي والعَوالي والقلمْ وله في المدح: تواضعَ لمّا أَنْ تغلغل رفعةً ... وعُظماً، ومن مجد العظيم التَّواضُعُ ترى عُصَب الأملاك حولَ سريره ... وكلٌّ له في نخوة العزِّ خاضعُ أبو سعيد عقيل بن جعفر بن أحمد بن جعفر الهمذاني من أهل البندنيجين. من عصبة الشاعر السابق ذكره. وكان أحد الفضلاء المقدمين. وكان قيماً بصناعة الشعر والأدب، عالماً بالعروض والقوافي. روى السمعاني عن محمد، بن علي، بن جعفر، بن الحسين، البندنيجي أنه قال: سمعت والدي يقول: سمعت عم والدي يقول: أتاني أبي في المنام، وقال لي: هل لك في أن تمصرع وأتمم، أو أمصرع وتتمم؟ فقلت: لا، بل أمصرع وتتمم. فقال لي: يا عيار هربت من القافية، ولكن قل. فقلت: هل عندَكم رحمةٌ يرجو عواطفَها فقال: صَبٌّ، تشكَّت إلى الشَّكوى جَوارحُهُ فقلت: أغلقتُم كلَّ باب عن مسرَّته فقال: وفي يدَيْ ظبيِكم كانت مَفاتِحُهُ فقلت: ما أمسكتْ قلبه، إذْ لم يَطِرْ جزعاً فقال: من فَرْط بَرْح الجَوَى إلا جَوانحُهُ باب في ذكر فضائل جماعة من أعيان الحلة والكوفة وهيت والأنبار ملوك العرب وأمراؤها بنو مزيد الأسديون النازلون بالحلة السيفية على الفرات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 كانوا ملجأ اللاجين، وثمال الراجين، وموئل المعتفين، وكنف المستضعفين. تشد إليهم رحال الآمال، وتنفق عندهم فضائل الرجال، ويفوح في أرجائهم أرج الرجا، وتطيب بند نداهم أندية الفضلاء. لا يلفي في ذراهم البائس بؤس الباس، وكم قصم بجودهم الفقير فقار الفقر والإفلاس. بشرهم للمرتجي بشير، وملكهم للاجيء وأثرهم في الخيرات أثير، والحديث عن كرمهم كثير. ليوث الوغى، وغيوث الندى، وغياث الورى. سلكوا محجة الهدى والحجا، وأودعوا قلوب عداهم الشجن والشجا، وأحشاء حاسدهم بحسك الحسد قريحة، ونفوس مواليهم ومواليهم بدولتهم مستريحة. وما زال ذيل نعمهم سابغاً، ومشرب دولتهم سائغاً، وأمورهم مستقيمة، والجدود عندهم مقيمة، إلى أن قتل صدقة، وأظلمت أيامه المشرقة، وانتقلت الإمارة إلى دبيس ابنه، وإن أمر الإمارة على أساس أبيه لم يبنه، فتارةً يقيم وتارةً يخرج، ومرةً يمر وآونةً يدرج. ولقد بارز المسترشد بالله مراراً بالمحاربة، فهزم وكيل جنده كيل المحاربه. وما برحت دولتهم تنقص، وظلهم يقلص، إلى أن اضمحلت إلى زماننا هذا بالكليه، أعاذنا الله من مثل هذه البلية، فلقد كانوا ذوي الهمم العلية. ومنازلهم ب الحلة حلت، وبعدما كانت مصونة أحلت، وعقود سعودهم حلت. وما كانوا يعتمدون قول الشعر، إلا لحادثة على سبيل الندر. وسأذكرهم على الترتيب، وأقدم الأب البعيد على الأب القريب، وأسأل التوفيق من الله السميع المجيب: بهاء الدولة أبو كامل، منصور، بن دبيس، نور الدولة الأسدي، أبي الفتح والد سيف الدولة صدقة، من الطبقة الأولى. توفي أبوه أبو الأغر دبيس سنة أربع وأربع مئة. كان منصور منصوراً في الأمور، مقصوراً زمامه على إيواء طالب القرى المقرور، مخاطباً لدفع الخطوب، مجانباً عند لقاء زائري جنابه القطوب. فارس البيداء وشجاعها، وليث الهيجاء وشجاعها، ومجند العساكر وجماعها، دأبه لقاء الكتائب وقراعها. توفرت له الطاعة من العرب، وتوسلت إلى القرب منه بالقرب. وبينه وبين شرف الدولة، مسلم، بن قريش مكاتبات، ومخاطبات ومجاوبات، سأورد منها ما وقع إلي عند ذكر شرف الدولة. وأذكر ها هنا مقطعات من أشعاره، إبقاءً لجميل آثاره. فعزائمه: بها الدولة استقامت، وعيون الحادثات عنها نامت. له من قصيدة، يفتخر: أولئك قومي: إِنْ أعُدَّ الّذي لهم ... أُكَرَّمْ، وإنْ أفخَرْ بهم لا اُكَذَّبِ هُمُ ملجأ الجاني إذا كان خائفاً ... ومأوى الضَّرِيكِ والفقيرِ المُعَصَّبِ بِطاءٌ عن الفحشاء لا يحضُرونها ... سِراعٌ إلى داعي الصَّباح المثَوِّبِ مَناعِيشُ للمولى، مَساميحُ بالقِرى ... مَصالِيتُ تحتَ العارضِ المتلهِّبِ وجَدت أبي فيهم وخالي كِلَيْهِما ... يُطاع ويُؤتَى أمرُه وَهْوَ مُحْتَبِ فلم أتعمّلْ للسِّيادة فيهِمُ ... ولكن أتتني وادعاً غير مُتْعَبِ وقرأت في المذيل ل ابن الهمذاني: أنه أقام بقرب الحريم الطاهري، فعاشر الأذكياء من شارع دار الرقيق، وخرج بمقامه في الحضر عن عادة البادية. ومن شعره: فإِنْ أنا لم أَحمِل عظيماً، ولك أَقُدْ ... لُهاماً، ولم أصبر على فعل معظمِ ولم أُجِرِ الجاني وأمنع حَوْزَهُ ... غَداةَ أنادى للفخار فأنتمي وله: رعت مَنْبِتَ الضُّمْران من أَيْمَنَ الحِمَى ... إلى السِّدر من ذات الأَجارع فالوَهْدِ نعم، وسقى الله الحِمَى كلَّ مُزنةٍ ... مهدَّلةِ الأَطْباءِ صادقةِ الرَّعْدِ وحنّت إلى بغدادَ والغَوْرُ دُونَها ... ألا ليت شعري أينَ بغدادُ من نَجْدِ؟ وذكرَّني سعداً وأيّامَهُ الأُلى ... مضين. ألا واحَرَّ قلبي على سعد وقرأت في ذيل السمعاني، يقول: قرأت في كتاب سر السرور: الأمير منصور شعره مما يرتاح له الطبع السليم، ويهتز به القلب السقيم، اهتزاز الغصن القويم بعليل النسيم، نحو قوله: ما لا مِني فيك أعدائي وعُذّالي ... إلا لغفلتهم عنّي وعن حالي لا طيَّب الله لي عيشاً أفوزُ به ... إنْ دَبَّ سكرُ سُلّوٍ منك في بالي وقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ولمّا رأيتكِ صَرّاعةً ... ترين الخِداعَ مقالاً جميلا تسلّيتُ عنكِ بمن لا أُريِدُ ... فدَبَّ السُّلُوُّ قليلاً قليلا وله، قرأته من مجموع: يوم لنا ب النِّيل مختصَرُ ... ولكلّ يومِ لذاذةٍ قِصَرُ والسُفنُ تجري في الفُرات بنا ... والماءُ منخفِضٌ ومنحدرُ وكأنّما أمواجُه عُكَنٌ ... وكأنَّما أَسراره سُرّرُ قرأت في الذيل ل ابن الهمذاني: أنه توفي بهاء الدولة، منصور ثاني عشر ربيع الأول سنة تسع وسبعين وأرع مئة، وكانت إمارته بعد أبيه صدقة خمس سنين. وله في صاحبٍ، يكنى أبا مالك: فإن كان أودى خِدنُنا ونديمنا ... أبو مالك، فالنّائباتُ تنوبُ فكلُّ ابنِ أُنثى لا مَحالةَ ميّتٌ ... وفي كل حيّ للمَنُون نصيبُ ولو رَدَّ حزنٌ أو بكاءٌ لهالك ... بكَيناه ما هبّت صَباً وجَنُوبُ سيف الدولة أبو الحسن صدقة بن منصور بن دبيس الأسدي ملك العرب، من الطبقة الثانية. كان جليل القدر، جميل الذكر، جزيل الوفر للوفد، مجداً في حراسة قانون المجد. له دار الضيافة التي ينفق عليها الأموال الألوف، ويردها ويصدر عنها الضيوف. المعروف، بإسداء المعروف، وإغاثة الملهوف. من دخل بلده أمن مما كان يخافه، ودرت - لرجائه بجوده - أخلافه. ولقد كان بلد الحلة في أيامه حصناً حصيناً، وحمىً من الحوادث مصوناً، وحوزته لأنواع الخير حائزة، وأصحابه بطوالع السعد فائزة. محط رحل الأمل، ومخط الخطي والأسل، وغاب الليوث، وسحائب الغيوث، وسماء النجوم، ومنزل الحجاج القروم، وفلك الملك، وملك النسك، وسلك اللؤلؤ المنضود، ومسلك الآلاء والسعود، ومبرك البركات، ومناخ الخيرات. وصدقة أكرم به بحراً نازلاً على الفرات، مبرأ الساحة من الآفات وكان يلتجئ إليه الجاني العظيم الشان، على الخليفة والسلطان، فلا تطرقه طوارق الحدثان، ويقيم عمره في ظله تحت رفده آمن السرب، مشتغلاً بلذاته عن الأكل والشرب، واللهو واللعب. وكان شديد المحافظة على من يستجيره، كثير الحراسة لمن يجيره. ولم يزل معروفاً بالوفاء يشيد أساسه، حتى بذل في الحفاظ والوفاء راسه. استجاره سرخاب الديلمي الساوي فأجاره، فأشعل الشر ناره، وفرق في الآفاق شراره. وطلبه السلطان محمد، بن ملك شاه مراراً فما أجابه، ورام من السلطان العفو عنه فما أصابه. وما زال يلح والسلطان يلح، إلى أن تبدل الحرب عن الصلح، وعبر السلطان إليه محارباً. ولما التقى الصفان، لقي صدقة في القتلى لقىً جانباً، وأقطعت حينئذٍ بلاد الحلة، وأبدلت العزة بالذلة، وذلك في سنة إحدى وخمسين وخمس مئة فيما أظن. ثم استقام بعد حينٍ أمر دبيس ولده، فعاد وافر الحرمة إلى بلده. قال السمعاني: قرأت في كتاب سر السرور: لما خلع سرخاب ربقة طاعة السلطان، والتجأ إلى صدقة، وأجاره، كتب إلى السلطان يستعطفه على لسانه: هَبْنِي كما زعَم الواشونَ، ولا زَعَمُوا، ... أذنبتُ، حاشايَ، مُذْ زلَّتْ بِيَ القدمُ وهَبْك ضاق عليك العفو عن جُرُم ... لم أَجْنِهِ، أيَيقُ العفو والكرمُ؟ ما أنصفتْنِيَ في حكم الهوى أُذُنٌ ... تُصغي لواشٍ، وفي عذري. . بها صَمَمُ وقرأت في مجموعٍ هذين البيتين منسوبين إلى أبي سعد بن المطلب، والصحيح أنه كتبه صدقة. ومن لطيف محاضرته أنه استقبلته بغتةً هرةٌ، وثبت إلى أعطافه، وخدشت عرنينه، فقال أظنه متمثلاً: أما إنَّه لو كان غيرك أرقلت ... إليه القَنا بالرّاعفات اللَهاذِمِ وكان صدقة صديق الصادق، ولا تنفق عنده بضاعة المنافق، حسن الخلائق للخلائق. يهتز للشعراء اهتزاز الاعتزاز، ويخص الشاعر المجيد من جوده بالاختصاص والامتياز، ويؤمنه مدة عمره من طارق الإعواز. يقبل على الشعراء، ويمدهم بحسن الإصغاء، وجزيل العطاء. لا يخيب قصد قاصده من ذوي القصائد، ويبلغ آمليه أغراضهم والمقاصد. ولكل ذي فضيلة على طبقته في دستوره اسم، بأن يطلق له من خزانته رسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 سمعت مجد العرب العامري يقول: حكي لي أنه كان شاعر شريف من مداح بهاء الدولة، منصور والد صدقة، وله عليه رسم قدره كل سنة مئة دينار وثوب أطلس وعمامة قصب وحصان. فلما توفي بهاء الدولة، جاء الشاعر، ووقف على طريق صدقة وهو راجع عن الصيد، وأنشد متمثلاً بهذه الأبيات، وهي في الحماسة: لا تَقْرَبَنَّ الدَّهْرَ آلَ مُطَرِّفٍ ... لا ظالماً أبداً ولا مظلوما قومٌ: رِباطُ الخيلِ بينَ بُيوتِهم ... وأَسِنَّة زُرق تُخَلْنَ نُجوما ومخرَّقٌ عنه القميصُ، تَخالُهُ ... بين البُيوت من الحياء سقيما حتّى إذا رفع اللِواء، رأيتَه ... تحتَ اللِواء على الخَميس زَعيما فعرفه صدقة وقال: أنت الشريف؟ قال: أنا هو. قال: فأنشد في حالنا هذه شعراً. فأنشد أبياتاً، من جملتها: نزَلتُ بهم يوماً وراوُوقُهم يَشِي، ... ومِرْجَلُهم يَغْلي، وشادِيهِمُ يشدو وعندَهُمُ ما صرّع الخيل بالقَنا، ... وما خَطِف البازي، وما قنَص الفَهْدُ فأمر بأن يضاعف رسمه، واستحضر في الوقت مئتي دينار إمامية من خزائنه وثوبين وعامتين وفرسين، وقال: ارجع إلى وطنك، لأني أعلم أن خلفك من لا يعذرك. وفضائل سيف الدولة أكثر من أن تحصى، وفي ذكرها يستقصى. الأمير أبو الأغر دبيس بن صدقة بن منصور بن دبيس الأسدي لقب ب سيف الدولة. من الطبقة الثالثة. أكرم بالأغر أبي الأغر دبيس، أثبت في الهيجاء وأرزن في الوقار من أبي قبيس. أشجع من قيس، وفارس بني عبس. أسد أسدي، وضيغم مزيدي. طلب المزيد، ورام العز الجديد، ولم يرضَ بمنصب والده، وما ورثه من قديم المجد وتالده، فخرج على الإمام المسترشد نوباً، فانهزم ووالى هربا، وتفرق من نجا من جنده أيدي سبا. ثم قضت بينهما تصاريف الزمن، فتارةً إثارة فتن وإبداء إحن، وطوراً رفع ما حل من محن، بهدنة على دخن، إلى أن استشهد المسترشد، وظن أنه من بعده يخلد، فقتله السلطان مسعود صبراً بعد قتل الإمام بشهر ب المراغة. وذلك يوم الأربعاء، الرابع عشر من ذي الحجة، سنة تسع وعشرين وخمس مئة. قال الأمير أبو الفوارس بن الصيفي التميمي المعروف بن حيص بيص يشير إليهما، وكان الخليفة ودبيس أشقرين: تعنّفُني في شُرب كأسي ضلالةً ... أَقِلّي، فبينَ الأحمرَيْنِ هِلالُ وما حالة في الدّهر إلا ستنقضي ... ويعقُبُها بعدَ البقاء زوالُ فكُرِي علَيَّ الكأس، يا مَيُّ، واعلمي ... بأنّ تصاريفَ الحياة خَيالُ وكان دبيس ينشد كثيراً هذين البيتين: إِنَّ اللياليَ منَاهلٌ ... تُطوَى وتبسط بينَها الأَعمارُ فقِصارُهُنَّ مع الهموم طويلةٌ ... وطِوالُهنَّ مع السُّرور قِصارُ قال السمعاني في تاريخه: قرأت في كتاب الوشاح: كتب بدران بن صدقة إلى دبيس وإخوته: ألا، قُلْ ل منصور، وقُلْ ل مسيّب ... وقُلْ ل دُبَيْس: إنَّني لَغريبُ هنيئاً لكم ماء الفُرات وطِيبُه ... إذا لم يكن لي في الفُرات نصيبُ فأجابه دبيس: أَلا قُلْ ل بدرانَ الّذي حنَّ نازعاً ... إلي أرضه، والحُرُّ ليس يَخيبُ تمتَّعْ بأيّام السُّرور، فإنَّما ... عِذارُ الأَماني بالهموم مشيبُ ولله في تلك الحوادث حكمة ... وللأرض من كأس الكرام نصيبُ قال: وقرأت في الوشاح: أنشدني أبو الفتوح السرخسي، أنشدني دبيس لنفسه: حبُّ عليّ بن أبي طالبٍ ... للنّاس مِقياس ومِعيارُ يُخرج ما في أصلهم، مثلَما ... تُخرِج غِشَّ الذَّهبِ النّارُ قال السمعاني: أبو الفتوح السرخسي لم يكتب وفاته. الأمير منصور بن صدقة بن منصور الأسدي من الطبقة الثالثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 كان خرج على أمير المؤمنين المسترشد بالله العباسي، مع أخيه، ولم يستقم أمرهما. وجارت عليه صروف لياليه، وأسر منصور المسكين، وحبس إلى أن أتاه اليقين. ولحق دبيس ب سنجر في خراسان، لعله يلقى من جانب السلطان، ما يعود منه بإصلاح الشان. فأكرمه سنجر، ثم أجلسه ب مرو الروذ شبه محبوس، وخصه بمكان بالنعمة مأنوس، ثم أطلقه ورده إلى بلده، بعد أن أثقل ظهره برفده وصفده. قرأت في كتاب السمعاني: ذكر صديقنا أبو العلاء القاضي في كتاب سر السرور: أنشد ملك العرب دبيس بن صدقة لأخيه منصور: إنْ غاض دمعُك والرِّكابُ تساقُ ... مع ما بقلبك، فَهْوَ منك نِفاقُ لا تَحِبسَنْ ماءَ الجفون، فإنّه ... مُغزٍ، وظاهرُ عَذْلِه إِشفاقُ. لو حُمِّل العُذّالُ أَعباءَ الهوى ... أو جُرِّعوا غُصَصَ الملام وذاقوا، لتَيَقَّنُوا أَنَّ الجبالَ مُطاقَةٌ ... والعذل في المحبوب ليس يطاقُ شمس الدولة بدران بن صدقه بن منصور الأسدي أبو النجم شمس العلى، وبدر الندي والندى. ف بدران، لحسن منظره وطيب مخبره بدران، ولعلمه وجوده بحران. تغرب بعد أن نكب والده، وتفرقت في البلاد مقاصده. فكان برهةً ب الشام، يشيم بارقة السعادة من الأيام، وآونةً ورد بلاد مصر، فأولاده كانوا بها إلى هذا العصر، وعادوا بأجمعهم إلى مدينة السلام، وظهر عليه أثر الإعدام، وتوفي ب مصر سنة ثلاثين وخمس مئة. وله شعر، ماله - من جودته - سعر. يتيمة، ما لها قيمة. له في أبيه صدقة، أو صدقة، بن دبيس، بن صدقة: ولمّا التقى الجمعانِ، والنَّقْعُ ثائرٌ، ... حسِبت الدُّجَى غطّاهُمُ بجَناحهِ وكشَّفَ عنهم سُدفةَ النَّقْع في الورى ... أبو حسَن بسُمره وصِفاحهِ فلم يَسْتَضُوا إلاّ ببرق سيوفه ... ولم يهتدوا إلا بشُهْب رِماحهِ وله: لا والَّذي قصد الحجيج على ... بُزْل وما يقطَعْنَ من جَدَدِ لا كنت بالرّاضي بمنقصة ... يوماً، وإلا لست من أَسَدِ لأَقَلْقِلَنَّ العِيسَ داميةَ ال ... أَخفافِ من بلد إلى بلدِ إِمّا يقال: سعى فأحرزها، ... أو أن يقالَ: مضى ولم يَعُدِ وله: وغَرِيرةٍ، قالت ونحن على مِنَىوالليلُ أنجمُه الشَّوابِك مِيلُ: زعَم العواذل أَنْ مَلِلْت وِصالنا ... والصَّبرُ منك على الجفاء دليلُ. فأجبتُها، ومدامعي منهلَّة، ... والقلب في أسر الهوى مكبول: كذَبَ الوُشاةُ عليَّ فيما شنَّعُوا. ... غيري يَمَلُّ، وغيرُكِ المملولُ وله ب مصر، وقد ذكر المغني المعروف ب الكميت: اشْرَبِ اليومَ من عُقارٍ كُمَيْتِ ... واسْقِنِيها على غناء الكُمَيْتِ ثمَّ سَقِّ النَّدِيم حتّى تراه ... وَهْوَ حيّ، من الكُمَيْت، كمَيْتِ وله: يا راكِبَيْنِ من الشَّآ ... م إلى العِراق: تَحسَّسا لي إِن جئتما حِلَلَ الكرا ... مِ، ومركزَ الأَسَلِ الطِّوالِ قولا لها، بعدَ السَّلا ... مِ، وقبلَ تصفيفِ الرِّحالِ: ما لي أرى السَّعْدِيَّ عن ... جيش الفتى المُضَريّ خالِ؟ والقُبَّة البيضاء في ... نقص، وكانت في كمالِ؟ يا صدق لو صدقوا رِجا ... لُك مثلَ صدقِك في القتالِ أو يَحمِلون على اليمي ... ن كما حَمَلْت على الشِّمالِ دامت لهم بك دولةٌ ... تسعى لها هممُ الرِّجالِ عربيّة بدويّة ... تسمو على طول الليالي لكنّهم لمّا رأوا ... يومَ الوَغَى وَقْعَ العوالي فَرُّوا وما كَرُّوا، فتَبّ ... اً للعبيد وللمَوالي وله أيضاً: فواعَجَبا كيف اهتدى الطَّيْف في الدُّجَى ... إلى مضجَع لم يبقَ فيه سِوى الجَنْبِ؟ وله أيضاً: وصغيرةٍ عُلِّقتُها ... كانت من الفِتَن الكِبار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 كالبدر، إلا أنَّها ... تبقى على ضوء النَّهار وله في تشبيه القمر، وقد انكسف: وليلةٍ بِتُّها أُسَقَّى ... حمراءَ صِرْفاً كالأُرجُوان وانكسف البدرُ، فَهْوَ يحكي ... في الأُفْق مَرْآةَ هِنُدْوُاني وله: لي صاحبٌ ذو خِلال، قد غَنِيت به ... عن الورى، وَهْوَ بي عمّا ذكرتُ غني إن قلت: لا، قال: لا، مثلي، وقلتُ: نعَمْ، ... يَقُلْ: نعَمْ، أو أكُنْ في حادثٍ يكُنِ وله: ولائمٍ لامَني جهلاً، فقلت له والقلبُ في حَرَق والطَّرْف في غَرَقِ: يا لائمي كيف يسلو مَنْ تُقَلِّبُهُ ... أيدي السَّقامِ، وتَثْنِيهِ يَدُ الأَرَقِ؟ أما ورَبِّ المَطايا الواجفات ضحىً ... تَؤُمُّ بَكَّةَ بين الوَخْدِ والعَنَقِ لا زُلْتُ عن حبّ مَيّ ما حَييِت، وما ... زال الصبَّابةُ والأشجانُ من خُلُقي وله: مَنْ عَذِيري مِن صاحب سَيّئِ العِش ... رَةِ، لا يهتدي لأمرٍ مُسَدَّدْ؟ كخُيوط الميزانِ، في كل وقت ... ليس ينفكّ دائماً يتعَقَّدْ وله: إنّي من الشّاكرينَ، لكن ... بغير راءِ، فكن ذكيّا وإنّني مبغض معادٍ ... لكلّ من لم يُرِدْ عَليِّا ظَلْتُ ل آل النَّبيّ عبداً ... ومن مُعاديِهِمُ بَرِيّا وله: قال العواذلُ: لا تُوَا ... صِلْهُ، فقلت لهم: رُوَيْدا قالوا: احجُبُوه عن السَّواد ... دِ. أيحجُبوه عن السُّوَيْدا غيرهم من الحلة والنيل والكوفة وأعمالها الأجل أبو الغنائم حبشي بن محمد الملقب بشرف الدين من الحلة. كان أجل الكتاب قدراً، وإذا عدوا نجوماً عد بدراً. سمعت أبا البدر الكاتب الواسطي، وكان معي في عمل الوزير كاتباً: أن حبشياً كان ناظر واسط، غير ناظر فيها إلى قاسط. قال: وهو أكتب من رأيته، وأملأ ضرعٍ في الكرم مريته. وخدمته ب واسط مدة، وصادفت ظلاله بالنعم ممتدة. وما رأيت أحداً أوضح بهجةً، وأفصح لهجة، وأكثر منه بشراً للقاء العافي، وأرشد الناس إلى طريق المعروف الخافي. كهف الخائف، ولهف العائف. وسمعت مجد العرب العامري يترحم عليه، وإذا جرى ذكره تحدر دمع عينيه، ويقول: ما رأيت في الدنيا أجود منه يداً، وأعم منه ندىً، وأحسن منه رأياً، وأشمل منه عطايا، وأشعر منه بالشعر، وأعرف منه بالقيمة لأهله والسعر. وله ديوان، كأنه بستان. وزر لصاحب ماردين: تمرتاش، ومهد له ملكه تمهيد الفراش. ثم وزر في الشام ل زنكي، وصار يشبه ملكه الجنة ويحكي، إلى أن أدركته على الملا حدة الملاحدة وفتكت به، ومضى لسبيله شهيداً إلى منقلبه. وقال: حلي بتمائمه في الحلة، سامي المنزل والمحلة. وكان أبوه وزير صدقة ملك العرب، وربي حبشي في دولته وفاز منها بكمال الأدب. أنشدني العامري، قال: أنشدني حبشي الوزير لنفسه رباعيه: عيناي أباحتا لعينيك دمي ... حتى قدِمتْ على الرَّدَى بي قَدَمي بالشُّكر كما قيل دوامُ النِّعَمِأعطاك غنى حسنك، فارحَمْ عَدَمي وأنشدني له: هجرتكمُ إِن كنت أضمرت هجركمْ ... وسافرت عنكمْ إِن رجَعت إلى السَّفَرْ وإن خطَرت بالنَّفس صحبةُ غيرِكم ... فلا بَرِحَتْ محمولةً بي على الخطَرْ وأنشدني لنفسه: أطعتُ العلى في هجر ليلى، وإِنّني ... لأَضُمِرُ منها مثلَ ما يُضمر الزَّنْدُ قريبةُ عهد، لم يكن من رجالها ... سِوايَ من العشّاق قبلٌ ولا بعدُ رأيتُ فراق النَّفْس أهونَ لوعةً ... عليَّ من الفعل الَّذي يكرَهُ المجدُ وله أيضاً رباعية: الرَّوضُ غدا نسيمه وَهْوَ عليلْ ... والوُرْقُ شفَتْ بنطقها كلَّ غَليلْ قم فاغتنم الفُرصة، فالمكث قليلْ ... ما أغبَنَ من يسلب عنه التَّحصيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وأنشدني الشريف قطب الدين، محمد، بن الأقساسي، الكوفي ب بغداد، في ربيع الآخر سنة تسع وخمسين وخمس مئة، قال: أنشدني المهذب، أبو القاسم، علي، بن محمد ب الموصل، في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمس مئة، ل حبشي، بن أبي طالب، ابن حبشي: ما لي على صَرْف الزَّما ... نِ ورَيْبِه، يا صاحِ، أمرُ لو كان ذلك، لم يَبِتْ ... خلفَ الثَّرى والتُّرْبِ حصرُ واغتاله مع ذلك ال ... قَدّ الرَّشيقِ الغَضِّ عُمرُ لكنَّ ليلَ صبَابتي ... مُذْ بانَ لا يتلوه فجرُ ابن العودي النيلي أبو المعالي، سالم، بن علي، بن سلمان، بن علي، بن العودي، التغلبي. شاب شبت له نار الذكاء، وكأنما شاب لنظمه صرف الصهباء، بصافي الماء، ونثر فيه شؤبوب الفصاحة، يسقي من ينشد شعره راح الراحة. وردت واسطاً سنة خمسين وخمس مئة، فذكر لي أنه كان بها للاسترفاد، وقام في بعض الأيام ينشد خادم الخليفة فاتناً فسبقه غيره إلى الإنشاد، فقعد ولم يعد إليه، وسلم على رفده وعليه، وصمم عزم الرحيل، إلى وطنه ب النيل. ولقيته بعد ذلك سنة أربع وخمسين ب الهمامية. أنشدني القاضي عبد المنعم، بن مقبل، الواسطي له: هُمُ أقعدوني في الهوى وأقاموا ... وأبلوا جُفوني بالسُّهاد وناموا وهُمْ تركوني للعتاب دَرِيئةً ... أُؤَنَّبُ في حُبِّيهِمُ وأُلامُ ولو أنصفوا في قسمة الحبّ بينَنا ... لَهامُوا، كما بي صَبْوَةٌ وهُيامُ ولكنَّهمْ لمّا استدرّ لنا الهوى، ... كُرمْتُ بحفظي للوداد، ولاموا ولمّا تنادَوْا للرَّحيل، وقوِّضت ... لِبَنْهِمِ ب الأَبْرَقَيْنِ خِيامُ، رَميت بطَرْفي نحوَهم متأمِّلاً ... وفي القلب منّي لوعةٌ وضِرامُ وعُدت وبي ممّا أُجِنُّ صَبابةٌ ... لها بينَ أَثناءِ الضُّلوع كِلامُ إذا هاج بي وَجْدٌ وشوق، كأنَّما ... نضمَّن أعشارَ الفؤاد سهامُ ولائمةٍ في الحبّ، قلت لها: اقْصِري ... فمثليَ لا يُسلي هواه ملامُ أأسلو الهوى بعدَ المشيِب، ولم يزل ... يصاحبني مُذْ كنت وَهْوَ غُلام؟ ولمّا جزَعنا الرَّملَ، رملَ عُنَيْزَةٍ ... وناحت بأعلى الدَّوْحتين حَمامُ، صبوتَ اشتياقاً، ثمَّ قلت لصاحبي: ... ألا إِنّما نَوحُ الحَمام حِمامُ تجهَّزْ لبَيْنٍ، أو تَسَلَّ عن الهوى، ... فما لَكَ من ليلى الغَداةَ لمِامُ وكيف تُرَجّي النَّيْلَ عندَ بخيلةٍ ... تُرام الثُّرَيّا، وَهْيَ ليس تُرامُ مُهَفْهَفَةُ الأعطافِ: أَمّا جَبينُها ... فصبحٌ، وأَمّا فَرعُها فظلامُ فيا ليت لي منها بلوغاً إلى المُنَى ... حلالاً، فإنْ لم يُقْضَ لي فحرامُ وأنشدني الشريف قطب الدين، أبو يعلى، محمد، بن علي، ابن حمزة ب بغداد، في ربيع الآخر سنة تسع وخمسين وخمس مئة، قال: أنشدني الربيب الأقساسي، أبو المعالي، بن العودي لنفسه، ب الكوفة، في منزلي، مستهل صفر سنة خمسين وخمس مئة: ما حبَست الكتابَ عنك لهجر ... لا، ولا كان عبدُكم ذا تَجافِ غيرَ أَنَّ الزَّمانَ يُحْدث للمَرْ ... ءِ أموراً، تُنْسيه كلَّ مُصافِ شِيَمٌ، مَرَّتِ الليالي عليها، ... والليالي قليلةُ الإِنصافِ قال: وأنشدني أيضاً لنفسه في التغزل بامرأة: أبى القلب إِلا أمَّ فضلٍ وإن غدت ... تعدّ من النّصف الأخير لدِاتُها لقد زادها عندي المشيبُ مَلاحةً ... وإن رغم الواشي وساء عُداتها فإن غيَّرت منها الليالي، ففي الحشا ... لها حَرَق، ما تنطقي زَفَراتها فما نال الدَّهر حتّى تكاملت ... كمالاً، وأعيا الواصفين صفاتها سَبَتْني بفَرْع فاحم، وبمُقْلَة ... لها لَحَظات. . ما تُفَكُّ عُناتُها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وثغرٍ. . زهت فيه ثَنايا، كأنّها ... حصى بَرَدٍ، يَشْفي الصَّدَى رَشَفاتُها. ولمّا التقينا بَعْدَ بُعْدٍ من النَّوَى ... وقد حانَ منّي للسَّلام الْتفاتُها، رأيت عليها للجمال بقيَّةً، ... فعاد لنفسي في الهوى نَشَواتُها قال: وأنشدني أيضاً لنفسه: يقولون: لو دارَيْتَ قلبك، لارْعَوى ... بسُلوانه عن حبّ ليلى وعن جُمْلِ قال: وأنشدني له: يؤرّقني في واسط كلَّ ليلةٍ ... وَساوِسُ همٍّ من نَوىً وفِراقِ فيا للهوى هل راحمٌ لمُتَيَّمٍ ... يُعَلُّ بكأس للفراق دِهاقِ؟ خليليّ هل ما فات يُرجَى؟ وهل لنا ... على النَّأْي من بَعد الفراق تَلاقِ؟ فإن كنتُ أبدي سلوة عن هواكمُ ... فإنّ صَباباتي بكم لَبَواقِي ألا، يا حماماتٍ على نهر سالم ... سلِمتِ، ووقّاكِ التَّفُّرقَ واقِ تعالَيْنَ نُبدي النَّوْحَ، كلٌّ بشَجْوه ... فإِنّ اكتتامَ الوَجْد غيرُ مُطاقِ على أَنّ وَجْدي غيرُ وَجْدك في الهوى ... فدمعيَ مُهراقٌ، ودمعكِ راقي وما كنت أدري، بعدَ ما كان بينَنا ... من الوصل، أَنّي للفراق مُلاقِ فها أنتِ قد هيَّجْتِ لي حرق الجَوى ... وأبديتِ مكنون الهوى لوفاقي وأسهرتِني بالنَّوْح، حتّى كأنّما ... سقاكِ بكاسات التَّفُّرق ساقِ فلا تحسبي أَنّي نزّعت عن الهوى، ... وكيف نزوعي عنه بَعد وَثاقي؟ ولكنَّني أخفيتُ ما بي من الهوى ... لِكَيْ لا يرى الواشونَ ما أنا لاقِ ابن جيا الكاتب هو جمال الدولة، شرف الكتاب، محمد. من أهل الحلة السيفية ب العراق. ومسكنه بغداد. مجمعٌ ب العراق على بلاغته، مبدع للأعناق أطواق براعته. قد اتفق أهل العراق اليوم أنه ليس له نظير في الترسل، وأن روضه نضير في الفضل صافي المنهل. يستعان به في الإنشاء، ويستبان منه أسلوب البلغاء. وهو صناعة عراقية في الكتابة، وصياغة بغدادية في الرسالة. ولعدم أهل هذه الصناعة هناك عدم مثله، وعظم محله. لكنه تحت الحظ الناقص، مخصوص بحرفة ذوي الفضل والخصائص. اشتغاله باستغلال ملكه، وانتهاج مسلك الخمول والانتظام في سلكه. يعمل مسودات لمسودي العمال، وينشئ بما يقترح عليه مكاتبات في سائر الأحوال. وله مراسلات حسنة، ومبتكرات مستملحة مستحسنة. وله نظم بديع، وفهم في إدراك المعاني سريع. وهو إلى حين كتبي هذا الجزء، سنة إحدى وسبعين وخمس مئة، ب بغداد مقيم، وخاطره صحيح وحظه سقيم. ومن جملة شعره ما كتبه إلى سعد الدين المنشيء في أيام السلطان مسعود، بن محمد: هنِّئت في اليوم المَطِيرِ ... بالرّاح والعيش النَّضيرِ ومُنحت بالعزّ الَّذي ... يُعدي على صَرْف الدُّهورِ فاشرَبْ كُؤوساً، كالنُّجو ... م، تُديرُها أيدي البدورِ من كلّ أهيفَ، فاترِ ال ... أَلْحاظِ، كالظَّبي الغَرِيرِ يحكي الظَّلامَ بشَعره ... والصُّبحَ بالوجه المُنيرِ فانعَمْ به، متيقّنا ... إِحمادَ عاقبةِ الأمورِ فكبيرُ عفوِ الرَّبّ، مَوْ ... قُوفٌ على الذَّنْب الكبيرِ واسلَمْ على طول الزَّما ... ن لكلّ ذي أمل قصيرِ تُفني زمانَك كلَّه ... بالعزم منك وبالسُّرورِ ما بين حفظٍ للثُّغو ... رِ وبين رَشْفٍ للثُّغورِ ول ابن جيا في مدح الأمير أبي الهيج، بن ورام، الكردي، الجاواني: سرى مَوْهِناً طَيْفُ الخَيال المؤرِّقِ ... فهاج الهوى من مغرم القلب شَيِّقِ تخطَّى إلينا من بعيد، وبينَنا ... مَهامِهُ مَوْماةٍ من الأرض سَمْلَقِ يجوب خُدارِيّاً، كأنَّ نُجومَه ... ذُبالٌ، يُذَكَّى في زُجاج مُعَلَّقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 أتى مضجعي، والرَّكبُ حولي كأنَّهم ... سُكارى، تساقَوْا من سُلاف مُعتَّقِ فخيَّل لي طيفُ البخيلة أَنّها ... أَلَمَّتْ برَحْلِي في الظَّلام المروّق فأرَّقَني إِلمْامُها بي، ولم يكن ... سِوى حُلُم من هائم القلب موثَقِ أِسيرِ صبَاباتٍ، تعرَّقن لحمَه ... وأمسكن من أنفاسه بالمُخَنَّقِ إذا ما شكا العشّاقُ وجداً مبِّرحاً ... فكلُّ الذي يشكونه بعضُ ما لَقِي على أنّه لولا الرَّجاءُ لِأَوْبَة ... تقرِّبُني من وصل سُعْداه ما بَقِي نظرت، ولي إنسانُ عينٍ غزيرةٍ، ... متى يَمْرِها بَرْحُ الصبَّابة يَغْرَقِ، إلى عَلَم من دار سُعْدَى، فشاقني، ... ومن يَرَ آثارَ الأحبّة يَشْتَقِ فظَلْتُ كأنّي واقفاً عندَ رسمها طَعينٌ بمذروب الشَّباة مُذَلَّقِ وقد كنت من قبل التَّفَرُّق باكياً، ... لِعلمي بما لاقيت بعدَ التَّفرُّقِ وهل نافعي، والبعدُ بيني وبينَها، ... إِجالةُ دمع المُقلة المترقرقِ؟ وأشعثَ، مثلِ السَّيف، قد مَنَّهُ السُّرَى ... وقطعُ الفيافي مُهْرَقاً بعدَ مُهْرَقِ، من القوم، مغلوب، تَميل برأسه ... شُفافاتُ أَعجاز النُّعاس المرنِّقِ، طَردت الكَرى عنه بمدح أخي العُلَىأبي الهَيْج ذي المجد التَّلِيد المُعَرَّقِ حُسام الجُيوش، عزّ دولة هاشم، ... حليف السَّماح والنَّدَى المتدفِّقِ فتى مجدُه ينمي به خيرُ والد ... إلى شرف فوقَ السَّماء محلِّقِ على وجهه نورُ الهدى، وبكفّه ... مفاتيحُ بابِ المبهم المتغلِّقِ إذا انفرجت أبوابُه، خِلْت أنَّها ... تفرَّج عن وجه من البدر مُشرقِ وإن ضاق أمر بالرِّجال، توجَّهَتْ ... عزائكه، فاستوسعت كلَّ ضيِّقِ ترى مالَه نَهْبَ العُفاة، وعِرضَهُ ... يطاعن عنه بالقَنا كلُّ فَيْلَقِ جَمُوع لأشتات المحامد، كاسب ... لها أبداً من شمل مال مفرَّقِ سعَى وهْوَ في حدّ الحَداثة، حدّه ... له في مساعي كلّ سعي مشقَّقِ تلوح على أَعطافه سِمَةُ العلى ... كبرق الحَيا في عارض متألِقِ من النَّفَر الغُرّ الأُلى عمَّتِ الورى ... صنائعُهم في كلّ غرب ومشرقِ إذا فخَروا لم يفخَروا بأُشابةٍ ... ولا نسبٍ في صالحي القوم مُلْصَقِ هم الْهامةُ العُلْيا. ومن يُجْرِ غيرَهُمْ ... إلى غاية في حَلْبَة المجد، يُسْبَقِ إذا ما هضابُ المجد سدّ طلوعها ... ولم يَرْقَها من سائر النّاس مُرْتَقِ، توقَّلَ عبد الله فيها، ولم يكن ... يزاحمه فيها امْرُؤٌ غيرُ أحمقِ صفا لك، يا ابنَ الحارثِ القَيْلِ، في العلى ... مَشاربُ وِردٍ صفوُها لم يُرَنَّقِ متى رُمتُ في استغراق وصفك حَدَّه، ... أبى العجز إلا أن يقول ليَ: ارفُقِِ فلست، وإِنْ أسهبتُ في القول، بالغاً ... مَداه بنَعْتٍ أو بتحريرِ منطقِ إلا إنّ أثوابَ المكارم فيكُمُ ... بَواقٍ على أحسابكم لم تُخَرَّقِ يجدّدُها إيمانكم، ويَزِيدُها ... بَقاكم، على تجديدها، فضلَ رَوْنَقِ لك الخُلُقُ المحمودُ من غير كلفة، ... وما خُلُقُ الإنسانِ مثلَ التَّخَلُّقِ إذا ما نَداك الغَمْرُ نابَ عن الحَيا ... غَنِينا به عن ساكب الغيث مُغْدِقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 فما مدحُكم ممّا أُعاب بقوله ... إذا أفسد الأقوالَ بعضُ التَّمَلُّقِ ولكنْ بقول الحقّ أغربت فيكُمُ، ... ومن يَتَوَخَّ الحَقَّ، بالحَقِّ ينطِقِ فإِن نِلْتُ ما أمَّلْتُه من وَلائكمْ ... ومدحِكُمُ، يا ابنَ الكرام، فأَخْلِقِ وما دونَ ما أبغي حجابٌ يصُدُّني ... برّدٍ ولا بابٍ عن الخير مُغْلَقِ إذا أنا أحرزت المودَّةَ منكُمُ، ... فحسبي بها، إذْ كنتُ عينَ الموفَّقِ سعيد بن مكي النيلي من أهل النيل. كان مغالياً في التشيع، حالياً بالتورع، غالياً في المذهب، عالياً في الأدب، معلماً في المكتب، مقدماً في التعصب. ثم أسن حتى جاوز الهرم، وذهب بصره وعاد وجوده شبيه العدم، وأناف على التسعين. وآخر عهدي به في درب صالح ب بغداد سنة اثنتين وستين وخمس مئة، ثم سمعت أنه لحق بالأولين. أنشدني له ابن أخته عمر الواسطي الصفار ب بغداد، قال: أنشدني خالي سعيد بن مكي لنفسه، من كلمة له: ما بالُ مَغاني الحِمَى لشخصك أطلالْ؟ ... قد طال وقوفي بها، وبَثّي قد طالْ الرَّبْع دثور، ودِمْنَتاه قِفار ... والرَّبْع مُحيل، بعد الأَوانس بطال عفته دَبُور وشَمْأَل وجَنُوب ... مع مَرِّ مُلِّثٍ مُرخي العَزالِي مِحْلال يا صاحِ قِفاً باللِّوى نسأل رسماً ... قد حالَ، لَعلَّ الرُّسوم تُنْبِي عن حالْ مُذْ طارَ شجا بالفراق قلب حزين ... بالبَيْن، وأقصى بالبعد صاحبة الخال ما شَفَّ فؤادي إلا نَعيب غُرابٍ ... بالبَيْن يُنادي، قد صار يضرِب بالفال تمشي تتهادَى وقد ثَناها دَلّ ... من فَرْط حياها تخفي رنين الخَلخْال وله من قصيدة، يذكر فيها أهل البيت عليهم السلام: قمرٌ أقام قيامتي بقَوامهِ ... لِم لا يجودُ لمُهْجَتي بِذمامهِ ملّكتُه قلبي، فأتلف مُهْجَتي ... بجمال بهجته وحسن قَوامهِ وبناظر غَنِجٍ وطَرْف أحور ... يُصمي القلوبَ، إذا رنا، بسِهامهِ وكأنَّ خطَّ عِذاره في حسنه ... شمس تجلَّت وَهْيَ تحتَ لِثامهِ ويَكاد من ترف، لدقَّة خَصْره، ... ينقَدُّ عندَ قعودِه وقيامهِ وكأنَّه من خمرة ممزوجة ... بالرِّسْل عندَ رِضَاعِه وفِطامهِ ومنها في مدح أهل البيت عليهم السلام: دَعْ يا سعيدُ هواك، واستمسِكْ بمَنْ ... تسعَدْ بهم، وتراح من آثامهِ ب محمَّد، وب حَيْدَر، وب فاطمٍ ... وبوُلدهم عقدوا الولا بتمامهِ قومٌ، يُسَرُّ ولِيُّهم في بعثه، ... ويَعَضُّ ظالمُهم على إبهامهِ وترى وَلِيٌّ وَليِّهمْ، وكتابُه ... بيمينه، والنُّورُ من قُدّامهِ يَسقيه من حوض النَّبِيّ محمّد ... كأساً بها يَشفي غَليلَ أُوامهِ بيدَيْ أمير المؤمنين، وحَسْبُ مَنْ ... يُسقَى به كأساً بكفّ إِمامهِ ذاك الَّذي لولاه ما اتَّضحت لنا ... سُبُلُ الهدى في غَوْره وشَآمِهِ عَبَد الإِلهَ، وغيرُه من جهله ... ما زال معتكفاً على أَصنامهِ ما آصف يوماً، وشمعون الصَّفا ... مع يُوشَعٍ في العلم مثلَ غلامهِ من ها هنا دخل في المغالاة، وخرج عن المصافاة، فقبضنا اليد عن كتب الباقي، ووردنا القدح على الساقي. وما أحسن التوالي، وأقبح التغالي القائد أبو عبد الله محمد بن خليفة السنبسي سمعت أنه كان من شعراء سيف الدولة، صدقة، بن منصور، بن دبيس، وكان يحسن إليه. فلما قتل صدقة، مدح دبيساً ولده، فلم يحسن إليه. فوافى بغداد في الأيام المسترشدية، ومدح الوزير جلال الدين، أبا علي، بن صدقة، فأحسن إليه، وأجزل له العطاء. ومات ب بغداد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وكان مسبوك النقد، جيد الشعر، سديد البديهة، شديد العارضة. تتفق له أبيات نادرة، ما يوجد مثلها. فمنها، من قصيدة بيتان، وهما: فرُحْنا، وقد رَوَّى السَّلامُ قلوبَنا ... ولم يَجْرِ مِنّا في خُروق المَسامعِ ولم يعلَمِ الواشونَ ما كان بينَنا ... من السِّرّ لولا ضَجرةٌ في المدامعِ وهذان البيتان البديعان، من كلمة له في سيف الدولة، صدقة، بن منصور، المزيدي، الأسدي، وأولها: لِمَنْ طَلَلٌ بين النَّقا فالأَجارعِ ... مُحيِل، كسَحْق اليَمْنَة المُتَتايعِ؟ ومنها: وعهدي به والحَيُّ لم يتَحمَّلُوا ... أو انسَ غِيدٍ كالنُّجوم الطَّوالعِ من اللاءِ لم يعرِفن، مُذْ كُنَّ صِبْيَةً ... مع الليل، فَتْلاً غيرَ فَتْل المَقانعِ ومنها: نَبَذْت لهنَّ الصَّوتَ منّي، وقد جرى كَرَى النَّوْمِ ما بينَ الجُفون الهواجعِ فأقبلن، يسحَبْنَ الذُّيولَ على الوَجَى، ... إِلَيَّ، كأمثال الهِجان النَّوازعِ يُزَجِيّنَ مِكسالاً، يكادُ حديثُها ... يَزِلُّ بحِلْم الزّاهد المتواضعِ مليحة ما تحتَ الثِيّاب، كأنَّها ... صَفيحةُ نَصْل في حَرِيرَة بائعِ إذا خطَرت بين النِّساء، تأوَّدت ... برِدْف كدِعْص الأجرع المُتَتابعِ فَأبْثَثْتُها شوقي وما كنت واجداً ... فراحت وسِرّي عندَها غيرُ شائعِ ومَنْ يَنْسَ لا أنسَى عِشيّةَ بَيْنِنا ... ونحن عِجال بين غادٍ وراجعِ وقد سلَّمت بالطَّرْف منها، ولم يكن ... من النُّطق إِلاّ رَجْعُنا بالأصابعِ وبعدها البيتان: فرحُنْا، وقد رَوَّى السَّلام قلوبنا ... ولم يَجْرِ مِنّا في خُروق المسامعِ ولم يعلَمِ الواشونَ ما كان بينَنا ... من السِّرّ لولا ضَجْرَةٌ في المدامعِ انظر، هل ترى مثل هذين البيتين في القصيدة، بل في جمع شعره؟ وقوله: " لولا ضجرة في المدامع "، ما سبق إليه. وهو في غاية الحسن واللطافة. ومنها: فإنْ تَكُ بانَتْ بَيْنَ لا مُتَعَتِّبٍ ... فيرضَى، ولا ذو الوُدّ منها بطامعِ، فإِنّي لأَهْواها، وإِنْ حالَ دونَها ... سَوادُ رَغامٍ البَرْزَخ المتاوقعِ وأُقسِم لولا سيفُ دولة هاشمٍ ... ونشري لِما أولاه بينَ المجامعِ، لَقَرَّبُت رَحْلي عامداً فأتيتُها ... وإِن كان إِلمامي بها غيرَ نافعِ ومنها في المدح، وقد أحسن أيضاً: إذا جئتَه، لم تلقَ من دون بابِه ... حجاباً، ولم تدخُلْ إليه بشافعِ كماء الفُرات الجَمّ، أعرض وِردُه ... لكلّ أُناس، فَهْوَ سهلُ الشّرائعِ إذا سار في أرض العدوّ، تباشرت ... بأرجائها غُبْرُ الضِّباع الخوامعِ فتتبَعُه من كلّ فَجّ، فتهتدي ... طوائفها بالخافقات اللوامعِ فيُرمِلُ نِسواناً، ويُيْتِمُ صِبْيَةً، ... ويجنُبُ في الأَغلال مَنْ لم يُطاوعِ على أَنّه في السَّلْم عندَ سؤاله ... أَغَضُّ وأحيا من ذوات البَراقعِ ومنها: فما نِيلُ مِصر، والفُراتُ، ونِيلُهُ ... ودَجْلَةُ في نَيْسانَ ذاتُ الرَّواضعِ، تَرُدُّ لها الزّابانِ من كلّ مَنْطَفٍ ... ذَوائبَ أعناقِ السُّيُول الدَّوافعِ، بأسرعَ من يُمْناه فضلَ أَناملٍوأجرى نَدىً من سيله المتدافعِ إِليك ابنَ منصور تخطّت بنا الفَلا ... سفائنُ بَرٍّ غيرُ ذات بَضائعِ سِوى الحمدِ. إِنَّ الحمدَ أبقى على الفتى ... من المال، والأموالُ مثلُ الودائعِ وله من قصيدة في عميد الدولة، ابن جهير وزير الإمام المستظهر بالله، أولها: أمَنازلَ الأحباب بينَ مَنازلِ ... فالرَّبْوَتَيْنِ إلى الشَّرَى من كافلِ ومنها: ولقد جزِعت من الفراق وبَيْنِهِ ... جَزَعَ العليلِ من السَّقام القاتلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 تتلو، وتتبَعُها، الحُداة، كأنّها ... قَزَعٌ تقطَّعَ من جَهامٍ حافلِ فوقفت أنظُرها، وقد رُفِعت لنا، ... نظرَ الغريقِ إلى سواد السّاحلِ وتعرَّضت، لِتَشُوقَنا، مَعنيَّة ... كالظَّبْي أفلت من شِراك الحابلِ هيفاء. . ألْحَفَها الشَّباب رِداءَه ... كالغصن ذي الورقِ الرَّطيبِ المائلِ تهتزُّ بين قلائد وخَلاخل ... وتَميس بين مَجاسد وغَلائلِ وتقول: إنّ لقاءنا في قابلٍ، ... والنَّفسُ مولعة بحبّ العاجلِ ومضت، فأضمرها البِعادُ، فلم تكن ... خُطُواتُها إِلا كَفْيءٍ زائلِ ومنها في المخلص: يشكو معاندةَ الخطوبِ، ويرتجي ... عدلَ الزَّمانِ من الوزير العادلِ وله من قصيدة في مهذب الدولة، السعيد، بن أبي الجبر ملك البطيحة يطلب فيها شبارة: خَلِّياني من شقوة الادلاجِ ... وأصْبَحانِي قبل اصطخابِ الدَّجاجِ من كُمَيْت، ذابت، فلم يبقَ منها ... غيرُ نُور مستوقَدٍ كالسِّراجِ عتَّقتْها المَجُوس من عهد شِيثٍ ... بُرهةً بينَ مِخْدَعٍ وسِياجِ فبدت من حِجالها، وَهْيَ تسمو ... كالمصابيح في بطون الزُّجاجِ واقْتُلاها عنّي بمَزْج، فإِنّي ... لا أرى شُربَها بغير مِزاجِ يتهادَى بها إِلَيَّ غَضيضُ ال ... طَّرْف ما بينَ خُرَّد كالنِّعاجِ من بنات القصور، يَمشين رَهْواً ... بين وَشْي الحرير والدِّيباجِ وذَراني من النُّهوض مع الرُّكْ ... بانِ والعَوْدِ بالقِلاص النَّواجي ووقوفي على مَعاهدَ غُبْرٍ ... ليس فيها لِعائج من مَعاجِ إِنَّما بِغْيَتِي مصاحبة الصَّهْ ... باءِ مَعْ كلِّ أبلجٍ فَرّاجِ ومنها في المخلص: كامل في الصِّفات مثل كمال ال ... دِّينِ غَوْثِ الورى ولَيْثِ الهِياجِ ومنها: أيُّها الخاطبُ الَّذي بعَث المَهْ ... رَ إلينا، والنَّقْدَ، قبلَ الزَّواجِ قد زَفَفْنا إليك بِكراً لَقُوحاً ... غيرَ ما فارِكٍ، ولا مِخْداجِ حُرَّةً، لم تلِدْ جَنيناً، ولم تَنْ ... مُ قديماً من نُطفة أَمشاجِ غيرَ أَنّي إِخالُها، وَهْيَ حَمْلٌ، ... لَقِحَتْ من نَداك قبلَ النَّتاجِ فاشْرِ منها النِّكاحَ طِلْقاً، فإنّي ... بِعتُه منك بيعةَ المحتاجِ بَسُبوحٍ دَهْماءَ، مُسْحنَةِ البط ... نِ، خَرُوجٍ من كَبَّة الأمواجِ كالظَّلِيم المُغِّذِ، في الماء تبدو ... من لباس الظَّلْماء في دُوّاجِ شَخْتَة القَدِّ، من خِفاف الشَّبابِي ... ر المَقاصير، أو طِوال الوراجي الوراجي: جمع أرجية، وهي من سفن البطائح. بارزات أضلاعها فَهْيَ كُثْرٌ ... مُدْمَجاتٌ في قوَّة واعوجاجِ سيرُها دائباً على الظَّهر، لا يشْ ... كو قَراها من كدحة وانشجاجِ يلتقي جَرْيَةَ الفُراتِ فيُردي ... سيرُها كلَّ مُقْرِب هِمْلاجِ بلِسان مثلِ السِّنان طويلٍ ... طاعنٍ من حَشاه في الأَثباجِ ورِقاقٍ عُقْفٍ، كأجنحة الطِّيْ ... ر إِذا رفرفتْ على الأَبراجِ داجياتٍ، حُدْب الظُّهور، فإِنّي ... أبداً في هواك غير مُداجِ فتراها تمُرُّ في الماء كالسَّهْ ... مِ إِذا قصَّرَتْ نِقالُ الرَّماجِ ومنها: واغتنمْ فُرصة الزَّمان بنفعي ... فالليالي سريعة الاِنْدِراجِ وَلْيَكُنْ ذاك عن قريب، فإِنّي ... كلَّ يوم في رجفة وانزعاجِ وله في صفة الراح: وكأسٍ كمثل فَتِيق الضِّرام ... تُميِت الهموم، وتُحيي السُّرورا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 تُشَبُّ لِشَرْبٍ على مَرْقَب ... فتُعشي النَّديمَ، وتُغْشِي المديرا إذا شابَها شاربٌ مُعْتِمٌ ... ظننت بيُمْناه نجماً منيرا أنشدنيها ب البصرة زين الدين، ابن الأزرق. وله يصف روضاً، من قصيدة، أولها: يا راقداً، قد نفَى عن جَفْنه الأَرَقا، ... قُمْ للصَّبُوح، فهذا الصُّبح قد طَفِقا واشرَبْ على روضة، جازَ النَّسيمُ بها ... ليلاً، فأصبح من أَنفاسها عَبِقا فما يَمُرّ، إذا ما مَرَّ مبتكِراً، ... إِلا وأَرَّج من أنفاسه الطُّرُقا كأنّما نشَر العطّارُ عَيْبَتَهُ ... فيها سُحَيْراً مع الإِصباحِ إِذْ فُتِقا كأنّما السُّحْبُ تَهْواها، فقد نظَمت ... من لؤلؤ الطَّلّ في أوراقها حَلَقا ووكلت حولَها من نورها حرساً ... يظَلُ يرقُبُها، لا تَطْرِفُ الحَدَقا صُفْرُ الحماليق، لا تنفكّ ناظرةً ... وليس تنطقُ إِنْ ذو ناظر نطَقا كأنّما الكَرْمُ في أرجائها خِيَمٌ ... من سُنْدُس، ضُرِبت مسطورةً نَسَقا تبدي لنا من حواشيها، إذا كشَطت ... هُوجُ العواصِف عن قُضبانها الوَرَقا مثل التَّنابيلِ من حام قد اتَّخَذُوا ... خوفاً من السَّبْي في أيديِهِمُ دَرَقا وأنشدني أيضاً للسنبسي في صفة الخمر، وقد أحسن: فكأنّها والكأسُ تحت سُلافِها ... شَرَرٌ، على نار، على حُرّاقِ وكأنَّ أفواهَ الزُّجاج، وقد بدا ... منها المُدامُ، مدامعُ العشّاقِ ومنها في صفة الإبريق: جُليت علينا في مراكزِ محكَمٍ ... بغَلائلٍ مُلْسِ المُتُونِ رِقاق أنشدنيها أبو المعالي الذهبي، رحمه الله تعالى. ومنها، وهو أول الأبيات على الترتيب: ولَرُبَّ ديرٍ، قد قصَدنا نحوَهُ ... في فِتْيَة، ناءٍ عن الأسواقِ فطرَقْت بابَهُمُ، فقال كبيرهُمْ: ... أهلاً بزائرنا وبالطُّرّاقِ ومضى بمغِوَلِه، فغاب هُنَيْهَةً ... في مُخْدَع ناءٍ وَرا أَغلاقِ وأتى بها بِكراً، تخالُ حَبابَها ... فوقَ الدِّنان نواظرَ الأحداقِ حمراءَ، تَخْضِب في الظَّلام إذا بدت ... في كفّ شاربها، يمينَ السّاقي لم تُغْلَ في قِدر، فيَكْمَدَ لونُها، ... قبلَ انتهاكِ العصر، بالإِحراقِ فكأنَها، والكأس تحتَ سُلافها ... شَرَرٌ، على نار، على حُرّاق ومنها في صفة الأباريق: جُليت علينا في مراكز محكَم ... بغَلائلٍ مُلْسِ المُتون رِقاقِ وكأنّ أفواه الزُّجاج، وقد بدا ... منها المُدامُ، مدامعُ العشّاقِ فكأنَّها بين الحضور حمائمٌ ... حُمرُ الصُّدور لوامع الأَطواقِ قلت: اسْقِني منها بكأسٍ قَرْقَفاً ... صهباءَ لاحقةَ الشّعاع، دِهاقِ وخُذِ الَّذي نعطيك غيرَ مُماكسٍ ... يا عمُّ من ذهب ومن أَعْلاقِ فأبى عَليَّ، وقال: كلاّ، والّذي ... أهوى عبادَه مع الخَلاّقِ لا شَمَّ مَفْرِقَ رأسِهما ذو مَعْطِسٍ ... إلا بكَثرةِ رغبةٍ وصَداقِ ومنها في صفة الخمار، وسومه: فتعالت الأصوات فيما بينَنا ... حتّى أخَذْنا في مِرا وشِقاقِ أدنو، فيبعد في الكلام بسَوْمِهِ ... عنّي، فما ألقاه عندَ وِفاقي فكأنّما درَسَ الخِلافَ وحكمَهُ ... للشّافِعيّ على أبي إسحاقِ وله في المديح: فواللهِ ما حدَّثتُ نفسي بمدحة ... لذِي كرم، إلا خطَرت بباليا ولا سِرْتُ في وجه، لأِسأل حاجة ... أُسَرُّ بها، إلا جعَلْتك فاليا وإِنّي لَراجٍ أن أنالَ بك العلى ... وأبلُغَ من دهري ومنك الأمانيا وأنشدت له في الخمر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 أقول لصاحب، نبَّهْتُ وَهْناً، ... ونومُ العين أكثرُه غِرارُ: لَعلَّك أَنْ تعلِّلَنا بخمرٍ، ... فأيّامُ الشُّرور بها قِصارُ فقامَ يذودُ باقي النَّوم عنه، ... وفي أجفانِ مُقْلَتِه انكسارُ وعاد بها، كماء التِّبْر، صِرفاً ... على أَرجائها زَبَدٌ صِغارُ فلم أرَ قبلَ منظرِه لُجَيْناً ... رقيقَ السَّبْكِ، أخلصه النُّضارُ فما أدري، وقد فكّرتُ فيها، ... أنارٌ في الزُّجاجة؟ أَمْ عُقارُ؟ لِكُلّهِما ضياءٌ واشتعالٌ ... تطايرَ عن جوانبه الشَّرار سِوى أَنّي وجدت لها نسيماً ... كنَشْر الرَّوض، باكرَه القِطارُ وله: ولمّا تنادَى الحيُّ بالبَيْن غُدوةً، ... أقام فَريقٌ، واستقلَّ فَريقُ تَلفَّتُّ إِثْرَ الظُّعْنِ حتّى جهِلته ... فإِنسانُ عيني بالدُّموع غريقُ فيا مَنْ لِعَيْنٍ لا تَزالُ كأنَّما ... عليها غِشاء للدُّموع رقيقُ إذا البَيْنُ أدماها بأيدي سِفاره ... تحدَّر منها لؤلؤ وعَقيقُ وله: فَسِيحُ نواحي الصَّدر، ثَبْتٌ جَنانُه ... إذا الخيلُ من وقع الرِّماح اقشعرَّتِ جميل المُحَيّا والفِعَال، كأنّما ... تمنَّتْه أُمُّ المجد لمّا تَمَنَّتِ وأنشدني شيخنا عبد الرحيم بن الأخوة قال: أنشدني القائد أبو عبد الله، محمد، بن خليفة، السنبسي لنفسه: وخمّارةٍ من بناتالمَجُسِ لا تطعَمُ النّومَ إلاّ غِرارا طرَقْت على عجل، والنُّجو ... مُ في الجوّ معترضاتٌ حَيارَى وقد برد الليل، فاستخرجت ... لنا في الظَّلام من الدَّنّ نارا وله: لم أنسَ، يومَ رحيلِ الحيّ، موقِفَنا ... ب ذي الأراك وذيلُ الدّمعِ مجرورُ وقد لها كلُّ ذي حاجٍ بحاجته ... عنّا، فمُنْتَزِجٌ ناءٍ، ومنظورُ كم قد عزَمت على تَركي محبَّتكم ... يا أُمَّ عَمْروٍ، فتأباه المقاديرُ وله في النسيب: يَعشي العُيونَ ضياءُ بهجتِها ... تحتَ الظَّلامِ، ودُونَها السِّتْرُ وإذا تكلّمنا، ترى بَرَداً ... شَنَباً، تَرقرقُ فوقَه خمرُ قَصُرتْ عن الأَبواع خطوتها ... عندَ القيامِ، فقَدْرُها فِترُ وإذا مشت، مالت روادفُها ... بقَوامها، وتململ الخَصْرُ فجبينُها بدرٌ، ومَبْسِمُها ... فجرٌ، وحشوُ جُفونِها سحرُ فكأنّما كُسيت تَرائبُها ... زَهَراً، تَوَقَّد بينَه جمرُ قامت تودِّعُني، وما علِمت ... أَنَّ الوَداع لمِيتتي قَدْرُ وأنشدني مجد الدولة، أبو غالب، عبد الواحد، بن الحصين قال: أنشدني والدي مسعود، بن عبد الواحد، رحمه الله تعالى، للسنبسي من قصيدة في سيف الدولة، صدقة، أولها: قم فاسقنيها على صوت النَّواعيرِ ... حمراءَ، تُشرق في ظلماءِ دَيْجُورِ كانت سِراجَ أناسٍ، يهتدون بها ... في أوَّل الدَّهر قبلَ النّارِ والنُّورِ فأصبحت، بعدَما أفنى ذُبالتَها ... مَرُّ النَّسيمِ وتَكرارُ الأعاصيرِ، في الكأس تُرْعَدُ من ضُعف ومن كِبَر ... كأنَّها قَبَسٌ في كفّ مقرورِ فالظِّلُّ منتشرٌ، والطَّلُّ منتثِرٌ ... ما بينَ آسٍ ورَيْحانٍ ومنثورِ ونَرجِس خَضِل، تحكي نواظرُه ... أحداقَ تِبْر على أجفان كافورِ ما بينَ نَيْلَوْفَرٍ، تحكي تَمائمهُ ... زُرقَ الأَسِنَّة في لون وتقديرِ مغرورق، كرُؤوس البطّ مُتْلِعَةً ... أعناقَها، وهُمُ مِيلُ المناقيرِ كأنّما نَشْرُها في كلّ باكرةٍ ... مِسكٌ تضوَّعَ، أو ذِكرُ ابنِ منصورِ أبو عبد الله أحمد بن عمار الحسيني الكوفي مجد الشرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 كتب لي ولده شمس الشرف، عمار نسب والده، وهو: أبو عبد الله، أحمد، بن عمار، بن أحمد، بن عمار، بن المسلم، بن أبي محمد، بن أبي الحسن محمد، بن عبيد الله، بن علي، بن عبيد الله، بن علي، ابن عبيد الله، بن الحسين، بن علي، بن الحسين، بن علي، بن أبي طالب - عليهم السلام. وذكر: أنه توفي ب بغداد سنة سبع وعشرين وخمس مئة، وعمره اثنتان وخمسون سنة. علوي، نجم سعده في النظم علوي. وشريف شرى في سوق الأدب، فضله بكد النفس والنصب. شرفت همته، وظرفت شيمته، ولطف لنظم رقيق الشعر ذهنه، ولم يملك في مضمار القريض رهنه. مجد الشرف، مجيد لإنشاء الطرف. موفي كافٍ، خاطره صافٍ، ولفظه شافٍ، وفضله غير خافٍ. في حظه قانع، وفي شعره صانع، ومن الخطأ في نظمه مانع، فكأن كلامه ثمر يانع. كل شعره مجنس، لا كشعر غيره بالركة والعجمة مدنس. فهو بصنعته وقوة معناه مقدس، بنيانه على الفضل ممهد مؤسس. ف ابن عمار، لمودات القلوب بانٍ ومعمار. نبتت في أفنان أدبه أثمار، وتطلعت من مشرق فضله لقصائده أقمار، وستنقضي - إلى أن يسمح الدهر بمثله - حقب وأعمار. أغر، له الكلم الغر. حر، له النظم الحر، السهل الممتنع الحلو المر، كأنه الياقوت والدر. أنشدني الشيخ المؤدب المقرئ أبو إسحاق، إبراهيم، بن المبارك، البغدادي بها، في جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وخمس مئة - وكان راوية الشعراء، يتوب عنهم في الإنشاد بين يدي الكبراء - ل ابن عمار قصيدةً ألفيةً، أبياتها تشبه طلساً رومية. وكنت نظمت على روي الألف، وسمته أن ينشدها عني عند بعض ذوي الشرف، فتذكر ابن عمار وقال: ورد بغداد في الأيام المسترشدية، ومدح جلال الدين بن صدقة بتلك القصيدة المعنوية، ورويتها عنه إنشاداً بحضرة الوزير: وهي: خَلِّه، تُنْضِ ليلَهُ الأَنْضاءُ ... فعَساه يَشفي جَواه الخُوَاءُ ويُبِيد البَيْداء والعِيسَ. إِنّي ... مُشفقٌ أَنْ تُبيدَه البَيْداءُ فقد استنجدتْ حَياه رُبا نَجْ ... د، وشامت بُروقه شَيْماء وثَنَت نحوَه الثَّنِيَّةُ قلباً ... قُلَّباً، تستخفُّهُ الأَهواءُ عاطفاتٍ إليه أَعطافَها، شَوْ ... قاً، كما تَلْفِتُ الطُّلَى الأَطلاءُ دِمَنٌ دامَ لي بها اللهوُ حِيناً ... وصَفا لي فيها الهوى والهواءُ وأَسرْت السَّرّاءَ فيها بقلب ... أَسَرَتْه من بَعدِها الضَّراءُ فسقت عهدَها العِهادُ، ورَوَّت ... منه تلك النَّواديَ الأَنداءُ وأَربَّتْ على الرُّبا من ثَراها ... ثَرَّةٌ، للرِّياض منها ثَراءُ يستجمُّ الجُمام منها إذا ما ... نَزَح المُقْلَةَ البَكِيَّ البكاءُ زمنٌ، كان لي عن الهَمّ هَمّ ... بالتَّصابي، وبالغَواني غَناءُ ناضرٌ. كُلَّما تعطَّفتِ الأَع ... طافُ منه، تثنَّتِ الأَثْناءُ وإِذا هَزَّت الكَعابُ كِعابَ ال ... خَطِّ، سَلَّتْ ظُبَى السَّيوفِ الظِّباءُ في رياض، راضت خِلالَ جَلالَ ال ... دِّينِ أرواحهنَّ والصَّهْباءُ شِيَمٌ، شامَها النَّسيمُ، فرَقَّت ... وجَفَتْ عن سموّها الأسماءُ شابَ بالعُرْف عَرْفَهُنَّ، وقِدْماً ... خامر الخمرَ في الزُّجاجة ماءُ ملك، خاطبَ الخُطوب برمز ... خَطُبَتْ من شِياته الفصحاءُ وأمالَ الآمالَ عن كلّ حَيّ ... بعدَ أَنْ لم يكن لحَيّ رجاءُ أَلْمَعِيٌّ، لو شامَ لامعَ أمر ... لأَرَتْه غروبَه الآراءُ مُعرض العِرض عن عتاب، إِذا لم ... يَرُعِ الأروعَ الهِجانَ الهِجاءُ لك من وجهه وكفَّيْه ماءا ... نِ: فهذا حَياً، وهذا حَياءُ روَّض الأرضَ والنَّدِيَّ نَداه ... واعتفته الأَحياءُ والأَحياءُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 بِيَدٍ، أيّدت من الدَّهر ما انآ ... دَ، وكانت له اليدُ البيضاءُ ويَراع، راعَ الذَّوابلَ بأساً ... ورعى المجدَ حين قلَّ الرِّعاءُ كلَّما صلَّ، صالَ منه بِصّلٍ ... لا يُرَى للرُّقَى إليه ارتقاءُ وإذا ماجَ ثُمَّ مَجَّ لُعاباً ... كان منه الشِّفاءُ والاشقاءُ فعليه للسّائلين صِلاتٌ ... وعليه للصّائلينَ صِلاءُ قد أصابوا لَدَيْه صَوْباً وصاباً ... فيهما راحةٌ لهم وعناءُ ورَّثَته هَدْيَ الجدودِ جدودٌ ... ورَّثَتها آباءَها الآباءُ معشرٌ، عاشروا الزَّمانَ ووَلَّوْا ... وعليه رِيٌّ بهم ورُواءُ لو يُجارونَ جاريَ الغيثِ في الجو ... د، لمَا ناوَأَتْهُمُ الأَنواءُ أنت صُنت العِراق إِذْ عَرَقَتْهُ ... بيَدَيْها مُلِمَّةٌ دَهْياءُ وأَمامَ الإِمامِ قِدْماً تقدَّمْ ... تَ وأقدمتَ حينَ حانَ اللِقاءُ بجِنانٍ، ما حَلَّ جَنْبَيْ جَبانٍ، ... واعتزامٍ، للموت فيه اعتزاءُ أعربت عنه يَعْرُب وقُرَيْش ... واصطفته الملوكُ والخُلَفاءُ باسطاً في ذرّا البسيطة جيشاً ... جاشَ منه صدرُ الفَضاءِ الفَضاءُ نقع الجوَّ من جَواه بنَقْع ... نافسته على السًّموّ السَّماءُ لم يَرِمْ عاريَ العَراء إلى أن ... نُشِرت منه في مَلاهُ المُلاءُ كاد مَنْ كاده يَصُوب بِصَوْبٍ ... قَطْرُ أقطارِ دِيِمَتَيْه الدِّماءُ يا أخا الجودِ والسَّماحِ، نِداءً ... فوقَ سَمْعِيهِ من نَداك نِداءُ رائقاً، لا يُرِيقُ فيكم دمَ الأَمْ ... والِ، حتّى تحيا به العَليْاءُ كلَّما هزَّه السَّماحُ، تثنَّى ... بين أثنائه عليه الثَّناءُ مِن فتىً، فاتَ أقوم القوم بالقَوْ ... لِ، ودانت لفضله الفضلاءُ حاز صَفْوَ الصّفات، فالعِلمُ منه ... عَلَمٌ، والذَّكاء فيه ذُكاءُ لكُمُ منه ذِمَّة اللهِ. إِنَّ ال ... حمدَ والذَّمَّ من سِواه سَواءُ مستقلٌّ للمال، لا يَجْتَدِيه ... إِنَّما همَّةُ العليِّ العَلاءُ همّةٌ نالَها، الثُّرَيّا علوّاً ... واستوى عندَه الثَّرى والثَّراءُ لم يَطُلْها طَوْلُ السَّحاب، ولا جا ... زَتْ بمجرى أفلاكِها الجَوْزاءُ همَّةٌ، نازعت إليك، وفي ذا ... كَ دليلٌ بأنّها عَلْياءُ عزَفَت عن بني الزَّمان، ورامَتْ ... ك، فهم داؤها، وأنت الدَّواءُ كُلَّ يومٍ يؤُمُّها منك جودٌ ... أحقرُ الجودِ عندَه الإِجداءُ أمطرَ العِزَّ ناشئاً ومَلِيئاً ... واستوى المالُ عنده والماءُ تستميلُ الآمالُ عِطْفَيْه عَطْفاً ... ويهُزُّ الرَّجاءَ منه الرَّجاءُ أنا ذاك الدّاني البعيدُ مقاماً ... ومقالاً إِن أُفحِم الخُطَباءُ لا أرى الشِّعرَ لي شِعاراً إذا ما ا ... أخَذّتْهُ دَأباً لها الأدباءُ هو عندي نقصٌ وإن كان فضلاً ... وكثيرٌ من البحور الغُثاءُ وإذا أحكم الرِّجالُ مقالاً ... حكمت لي بسبقه الحكماءُ وقليلُ النَّوالِ عندي كثيرٌ ... وهِباتُ الدُّنيا لَدَيَّ هَباءُ وإذا كنتَ أنت ذُخريَ للأي ... امِ، هانت في عينيَ الأشياءُ وجدير أَنّي أنالُ بك المج ... دَ، فما للغنى لَدَيَّ غَناءُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 ويميناً ألا مددتُ يميناً ... ما دجا الليلُ، واستنار الضّياءُ غيرَ أنّي أغارُ للمجد أنْ لا ... تُدرِكَ المالَ غارةٌ شَعْواءُ وإذا القصدُ أخطأَ ابن عليّ ... فعلى الشّعر والعُفاةِ العَفاءُ هذه القصيدة، من حقها أن تكتب بسويداء القلوب على بياض الأحداق، وقد أحدقت بها حدائق من التجنيس والتطبيق والترصيع أحسن إحداق. ما يخلو بيت من تجنيس ومعنى نفيس، تخجل من نسجها صناع تونسة وتنيس. بكر مالها كفء فرضيت بالتعنيس. وعلى الحقيقة، لم أر كهذه الحديقة، ولم أسمع قبلها، في صنعتها مثلها، فهي غراء، عذراء حسناء، بل روضة غناء، أو غانية رعناء، خدرها الحياء. فلله در جالب درها، وحالب درها وأنشدني الشريف أبو القاسم، علي، بن محمد، بن يحيى، بن عمر، الزيدي، الحسيني، الكوفي ب بغداد، في ديوان الوزير عون الدين، بن هبيرة، ثامن عشر صفر سنة ست وخمسين وخمس مئة، ل ابن عمار الكوفي: وشادِنٍ، في الشّرب قد اُشرِبت ... وَجْنَتُه ما مَجَّ راوُوقُهُ ما شُبِهّت يوماً أبارِيقُهُ ... بريِقه، إلا أبى رِيقُهُ وقال لي الشريف الجليل: وله في عمك العزيز، رحمه الله تعالى، قصيدة، منها: إذا هاجه الأعداء، أو هزَّه النَّدَى ... فأيُّ حَيا نادٍ، وحيَّة وادِ وله في التجنيس، من قصيدة: في جَحْفَل متعاضد متعاقد ... في قَسْطَل متراكب متراكمِ ورأى العلى بلحاظ عاشٍ عاشقٍ ... ورمى العدا بشُوّاظ غاشٍ غاشمِ وله: يدٌ، لو تُباريها الرِّياحُ لغاية ... لَبَذَّ نسيمَ العاصفاتِ وَئيدُها إذا ما غَوادي المُزنِ أخلف جَوْدُها ... وصوَّحَ نبتُ الأرضِ، أخلف جُودُها ومنها: كتائبُ، لكنَّ الرَّزايا نِبالُها. ... كواكبُ، لكنّ العطايا سُعودُها وله: محمّد ودُبَيْس أوْرَيا لهما ... زَنْدَ المَنوُنِ، ونَقْعُ الليلِ معتكرُ برأي هذا وغيبُ الخَطْب مشتبه ... وبأسِ ذاك وغاب الخَطِّ مشتجرُ غدا عليهم وفي قلب الوَغَى غَرَرٌ ... وراح عنهم وفي وجه العلى غُرَرُ ولقيت ولده ب بغداد، في سنة تسع وخمسين وخمس مئة، وهو شمس الشرف، عمار، بن أحمد، بن عمار، وهو كهل، فروى لي عن والده ما سبق ذكره، وأنشدني ما نظمه والده في مدح عمي العزيز، رحمه الله تعالى، وكتبه لي بخطه: إليك، فما خَطْبِي بهَيْن من الأَمْرِ ... وعنك، فما فتكي ببِدْع من الإِمْرِ لَبِئْسَ الفتى مَن يردَعُ البؤسُ بأسَهُ ... وغَمْرُ الرِّجال مَنْ يبيت على غِمْرِ ألست حصَبْتَ القلب يومَ مُحَصَّبٍ ... وأوطأته ب الجَمْرَتَيْنِ على الجمرِ شنَنْت عليه ب الغُوَيْر إِغارةً ... سنَنْت بها سَبْيَ النُّفوسِ إلى الحشرِ وثنَّيْت في يوم الثَّنِيِّ بنظرة ... ثَنَت حِلمه لولا التَّمَسُّكُ بالصَّبْرِ حوادث، تُسليني عن الهجر والنَّوَى ... وأبرحُ شيءٍ ما جنته يدُ الهجرِ شكور على النُّعْمى، صبور على البَلا، ... ذلول على الحسنى، جموح على القسرِ وعُدْنا إلى القُربى، وعُذْنا من القِلى، ... وعُجْنا عن العُتبى، ومِلْنا إلى العُذرِ وما أنا بالسّالي الجَمُوحِ على الهوى ... ولا أنا بالغالي الطَّمُوحِ إلى الوِزْرِ ومثليَ مَن هبَّتْ به أَرْيَحِيَّة ... إلى اللهو، لكنّي أَغارُ على الفخرِ ولا أقتضي بردَ الرُّضاب، وإِنْ ورى ... شُواظَ الثَّنايا الغُرِّ في قلبيَ الغِرِّ ولي في ظُبَيّات العَقِيق وحسنِها ... مآربُ أُخرى غيرُ نُكْدٍ ولا نُكْرِ تذكّرني ألحاظُها وقُدودُها ... عِناقَ الصِّفاحِ البِيضِ والأَسَل السُّمْرِ وتُلهمني ألفاظُها وعُقودها ... بنظم القوافي في معاليك والشّعرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 إليك عزيزَ الدِّينِ قسراً تعَسَّفت ... بنا البِيدَ أَنْضاءٌ مِراحٌ على الضَّمْرِ مردَّدة بين الجَدِيل وشَدْقَمٍ ... كرائم يبدي سرّها كرم النَّجْرِ تطيرُ بأيدٍ، في الفضاء، خوافقٍ ... كما خفَقَت في الجوّ قادمِتا نَسْرِ مَرَقْنَ بنا من أرض كُوفانَ بُدَّناً ... خِفافاً، تَبارَى في الأَزِمَّة والضَّفْرِ ورُحْنَ عن الزَّوْراء زُوراً نَوافراً ... كما مَرَّتِ النَّكْباء بالبلد القَفْرِ ونكَّبْنَ أعلام العِراق ضَوارباً ... بأخفافها ما بينَ شِجْنَةَ والقصرِ تلاعب أيديها كَلالاً، كأنَّها ... كواسرُ طيرٍ، رائحات إلى وَكزِ تَتَبَّعُ آثار المكارم، مثلَما ... تَتَبَّعُ رُوّادُ الحَيا أثَرَ القَطْرِ إلى أن أنَخْناها بعَرْصَة ماجدٍ ... أخي يَقَظات، لا ينامُ على وِتْرِ طليقِ الغنى والوجه والكفّ والنَّدَى ... رَحيبِ الحِمى والحِلم والباع والصَّدْرِ وَصُولٍ قَطُوعٍ، باسمٍ باسرٍ، نَدٍ ... صَليبٍ، مُبيحٍ مانعٍ، سَهِلٍ وَعْرِ رقيقِ حواشي الحِلم، يعدو على الغِنى ... إذا ما سألناه، ويُعدِي على الفَقرِ بكيدٍ خفّيٍ، حُوَّلِ الرّأيِ قلَّبٍ ... يروح على سرّ، ويغدو على جهرِ وخَطْبٍ كجري السَّيْل، نَهْنَهْت غَرْبَه ... بعزمي، وأسبابُ القضاء به تجري دعوت له وُدَّ الأخِلاّء مرّةً ... وبأسَ الكُماة الصِّيد والعَدَد الدَّثْرِ فلمّا أبى نصري الزَّمان وأهلُه ... دعوت، على رُغْم الزَّمانِ، أبا نصرِ دعوت فتى، لم يُسْلمِ الدَّهْرَ جارَه ... ولا رمَقَ الأضيافَ بالنّظر الشَّزْرِ ولا حكَمت في قلبه سَوْرَة الهوى ... ولا رنّحت من عِطْفه نشوة الكِبرِ يروح ويغدو عند الجارُ آمناً ... وتُمسي خطوبُ الدَّهر منه على ذُعْرِ إذا انقبضت فوقَ اليَراعِ بَنانُه ... أرتك انبساطَ الجُودِ في سَعَة الوَفْرِ بَنانٌ. إذا جالت على الطَّرس، خِلْتَها ... بُحوراً ومُزناً جُدْنَ بالدُّرّ والدَّرِّ وما أنت إلا الشَّمسُ، تبسطُ نورَهانهاراً، وتُلقيه ظلاماً على البدر وكم ليَ في عَلْياك غُرَّة مدحة ... تَكَشَّفُ عن أوضاحها بُهَمُ الفكرِ غرائب. لو يُلْقَى الظَّلامُ بذكرها، ... لأَغنت قوافيها عن الأنجم الزُّهْرِ ولو فُصِّلت بالدُّرّ غُرُّ عقودِها ... وخُيِّرْت، لاخترت القَريض إلى الدُّرِ ومثليَ من أهدى لمثلك مثلَها ... فإِنّي رأيتُ الحمد أنْفَسَ للذُّخْرِ وأنشدني أيضاً لوالده، رحمه الله تعالى، في عمي الصدر والشهيد عزيز الدين رحمه الله تعالى: إِلامَ تَلَقّانا النَّوَى بعِنادِ؟ ... وترمي الليالي قُربنا بِبِعادِ؟ وحَتّامَ يَقضي البينُ فيَّ مرادَه ... وتمنَعُني الأيّامُ كلَّ مُرادِ؟ وما أشتكي إلا فراقَك، إِنَّه ... وَهَى جَلَدي عنه وقلَّ جِلادي ومثلُك مَن يَشْجَى الخليلُ ببَيْنِه ... وأكثرُ إخوانِ الزَّمان أعادي وأنت الفتى كلُّ الفتى، لا مضيِّعٌ ... لعهد، ولا ناسٍ لحفظ وِدادِ ولا شامخٌ إن زادك الدَّهرُ رتبةً ... ولا ضاربٌ دونَ النَّدَى بسِدادِ كريمٌ وأخلاقُ الزَّمانِ لئيمةٌ ... رَوِيٌّ وأخلافُ الغَمامِ صوادي وإن هاجك الأعداءُ، أو هزَّك النَّدَى ... فأيّ حَيا نادٍ، وحَيَّةِ وادِ وأنشدني أيضاً لوالده، كتبها إلى عمي العزيز: عز الدين، أحمد، بن حامد يستهدي منه فرساً، فنفذ له فرساً، يساوي خمسين ديناراً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 يا مَنْ ترى الغيب فينا أَلْمَعِيَّتُهُ ... فالبعدُ في وَهْمه أدنى من الكَثَبِ أما رأيت يدَ الدَّهْماء قاصرةً ... قد ناوشتْها فنالتها يدُ العَطَبِ كأنّما يَدُها، عن رجلها خلَف، ... فكلَّما أقدمت، عادت على العَقِبِ فما تَسير ببَرْحٍ غيرِ منقلِب ... فسيرُها راجع في كلّ منقَلَبِ حتّى إذا هملجتْ بالقوم خيلُهُمُ ... عدلت عجزاً إلى التَّقريب والخَبَبِ سارت بهم أنجم تنقضُّ مسرعةً ... وسار تحتيَ ليل العاشق الوَصبِ فجُدْ بأشهبَ، مثلِ النّجم مُتَّقداً ... أو أشقرٍ، كأُوار النّار، ملتهبِ أو أحمرٍ، كارعٍ في ماء غُرَّته ... كأنَّ كُمْتَتَهُ الإحراقُ في الذَّهَبِ يبدو فيَكسِفُ من أنوار شُهْبِهِمُ ... والشَّمسُ إِن طلَعت غطَّت على الشُّهُبِ مُجَنَّسٍ، مُعْلَمِ الجَدَّيْنِ، مفترع ... عالي المَناسِب بين التُّرْك والعربِ لا خالصٍ عربيٍّ في أَرُومَتِهِ ... ولا بليدٍ، لئيمِ النَّجْرِ، مُؤْتَشِبِ قد أخلصته بنو ذُهْل، وهذَّبه ... أبناءُ ساسانَ، فاستولى على الأدبِ تظَلُّ في حسنه الأبصارُ حائرةً ... فليس ينفكّ من عُجْب ومن عَجبِ يَزِين راكبه يوماً ومهديه ... كالرّوض يُثني على الأَنواء والسُّحًبِ هذا الجوادُ، الَّذي مَنَّ الجواد به، ... فافخَرْ بما شئت من مجد ومن حسبِ وأنشدني لوالده أيضاً في مرثية الوزير السميرمي، وهو علي، بن أحمد، والاستطراد بمدح عمي العزيز، أحمد، بن حامد رحمه الله تعالى: لقد هدَّ ركن الأرض فَقْدُ ابن أحمدٍ ... وهيهاتَ ما خَلقٌ عليها بخالدِ وما تُخْلف الأيّامُ مثلَ ابن أحمد ... على النّاس، إلا أن يكونَ ابن حامد وهَبْنِيَ طال الدَّهرُ واعتضتُ غيرَه ... أليس من المعروف نشرُ المحامدِ وأنشدني أيضاً لوالده، في التجنيس: قالوا: نرى قوتة مصفَّرة، ... وما دَرَوْا ما بك يا قُوتَهْ قد كنت بالأمس لنا دُرَّةً ... فصِرتِ فينا اليومَ ياقُوتَهْ أنتِ حياةُ القلب، بل قُوتُه ... فكيف يسلو عنكِ يا قُوتَهْ وأنشدني لوالده أيضاً: ورُبَّ إِشارةٍ عُدَّت كلاماً ... وصوتٍ لا يُعَدّ من الكلامِ وأنشدني له أيضاً: لَئِن بسَطَ الزَّمانُ يَدَيْ لئيمٍ ... فصبراً للذَّي صنَعَ الزَّمانُ فكم في الأرض من عبدٍ هَجِينٍ ... يقبِّل كفَّه حُرٌّ هِجانُ وقد يعلو على الرّأس الذُّنابى ... كما يعلو على النّار الدُّخَانُ وأنشدني لوالده أيضاً: لَئِن غدوتُ مقيماً في رُبوعكمُ ... وقد دعتني رُبوعُ المجد والشَّرَفِ فالماءُ في حجر، والتِّبْرُ في تُرُب، ... والبدرُ في سَدَف، والدُّرُّ في صَدَفِ وله: ولقد نظَرت إلى الزَّمان بمُقْلَة ... نظري إلى أهل الزَّمان قَذاتُها وعجِبت من أكل الحوادث للورى ... وهمُ بنو الدُّنيا، وهُنَّ بناتُها تنشو جُسومُهمُ بلحم أخيهِمُ ... مثل الرِّئال: غِذاؤها أخواتها أبو العز نصر بن محمد بن مبادر النحوي النيلي ذكره السمعاني وقال: كان شيخاً فاضلاً، عارفاً بالنحو واللغة. وأنشدني لنفسه على باب داره ب النيل: هل الوَجدُ إلا أن ترى العين منزلا ... تحمَّملَ عنه أهلُه فتبدَّلا؟ عَقَلْنا به غُزْرَ الدُّموعِ، وطالما ... عهِدناه للغِيد الأَوانس مُعْقِلا إذا نحن أَلمْمَنْا له، انبعث الجَوى ... يحمّلنا داءً من الهمّ مُعْضِلا أقول لمسلوب الجَلادة، لم يَقُلْ: ... خلا قلبُه من لاعج الشَّوْق، أولا: أظُنّك لو أشرفت ب النِّيل مائلا ... على سُبُل، أضحى بها الدّمع مُسْبَلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وآنست من آثار آل مُعَيَّة ... معاهدَ، كانت للمكارم منزلا، لأَلْفيتَ ما بين الجوانح والحَشا ... فؤاداً، بأسباب الغرام موكَّلا وغاديتَ يوماً بالكآبة أَيْوَماً، ... وساريتَ ليلاً بالصَّبابة أَلْيَلا ألا أيُّها اللاحي على ما أُجِنُّه ... هل أنْتَ مُعيِرِي ناظراً متأمِّلا؟ أُريك محلاً، ما أحاطت رُبوعُه ... من القوم إلا مُفْضِلاً أو مُفَضَّلا من الفاطميّين الَّذينَ وَلاؤهم ... عُراً لذوي التَّقْوى، نَجاءً ومَوْئِلا إلى الحسن، بن المصطفى طوَّحَتْ بهم ... عُلىً، شرُفت من أن تقاس بها عُلَى ابن الشريف الجليل أبو القاسم، علي، بن محمد، بن يحيى بن عمر، الزيدي، الحسيني، الكوفي. شيخ طويل، شريف جليل، نبيه نبيل. كأن نظمه نسيم عليل، أو تسنيم وسلسبيل. أرق عبارةً من عبرة من أرقه الشوق، وأحسن حليةً من جيد ورقاء حلاها الطوق. وفد على الديوان العزيز في صفر، سنة ست وخمسين وخمس مئة، يخاطب على ملك له قد انتزع، ورسمٍ له قد قطع. وكنا نجتمع في دار المولى الوزير عون الدين بن هبيرة كل غدوة، وننتظر إذنه للخواص في اللقاء، وجلوسه لأهل الفضل وأبناء الرجاء. فاستأنس الشريف بمحاورتي، استئناسي بمحاورته، وأتحفني من رقيق عبارته، بيتين له في عمي العزيز رحمه الله، في نكبته. وهما: بني حامد إن جارَ دهرٌ أو اعتدى ... عليكم، فكم للدّهر عندكمُ وِتْرُ أجرتم عليه مَنْ أخافت صُروفُه ... فأصبح يستقضيكُمُ وله العذرُ وذكر بعد ذلك أيادي عمي ونعماه، وما أولاه إليه وأسداه. ورق لفضلي وضياعه، وأشفق من اتضاعه، فذكرت له التفات الوزير إلي، وتحدثت بإنعامه علي. لولاه ذل أهل الفضل، وعز أولو الجهل، فهو الناقد البصير، العارف الخبير. عاش الفضلاء في ذراه، فيا ضيعة ذوي الأدب وأولي الحسب لولاه. رمقهم بعين القبول فحفظ رمقهم، وإن كان مقامهم - لولاه - ب العراق عرقهم، وخذل أهل الباطل بنصرة الحق وفرق فرقهم. ولم يزل الشريف الجليل لي جليساً، يهدي إلي من أعلاقه نفيساً، إلى أن نجز توقيعاً بما توقعه، واستخلص ملكه ورجعه. فركب إلى الكوفة مطا التنوفة. وعاد في سنة سبع وخمسين وخمس مئة إلى الوزير متظلماً، شاكياً متألماً، وأنشده - وأنا حاضر - قصيدةً مقتصدة في أسلوبها، مستجيراً به من الليالي وخطوبها، فيها بيتان جعلهما لتلك الكلمة مقطعاً، ما ألطفهما معاً وهما: أجِرْني على الدَّهرِ فيما بقي ... بَقِيتَ. فما قد مضى، قد مضى فلست أُبالي بسُخط الزَّمانِ ... وأنت تراني بعين الرِّضَى فاهتز الوزير لها اهتزاز مثله، وأثنى على الشريف وفضله، ووعده بقضاء شغله. ووددت لو أن لي مكنةً، أو أملك على إجازته وإجارته منةَ، فأتقلد له منةً. ثم أخذت القصيدة، فاخترت منها هذه الأبيات: أَمَا والقَنا شُرَّعاً، والظُّبَى ... تجور وقد حُكِّمت في الطُّلَى وشُعثِ النَّواصي، إذا ما طلَعْنَ ... عوابسَ، قُلْتَ ذِئاب الفلا وتقصُرُ عنهنَّ هُوج الرِّياح ... إذا ما اصطخَبْنَ وطال المَدَى عليها المَساعيرُ من هاشم ... تَخالُهم الأُسْدَ أُسْدَ الشَّرَى لقد خصَّك الله بالمَأْثُرا ... تِ دُونَ البَرِيَّة لمّا برا فأعطاك، وَهْوَ الجزيلُ العطا ... ءِ، لمّا رآك جزيلَ العطا وقابلتَ إِحسانَه محسناً، ... فنِلْتَ المُنَى، وأنلتَ المُنَى ومنها: وكفُّك في الجود فوقَ الغَمامِ ... وأرضُك في الفخر فوقَ السَّما ومنها: أما والعُلَى قَسَماً صادقاً ... لقد أنجبتْ بك أُمُّ العلى هُمَاماٌ، إذا صالَ صلَّ الحديدُ، ... وإن قال أسمعَ صُمَّ القَنا ومنها: فتىً، يُرخصُ النَّفْسَ يومَ الهِياجِ ... ويَشري الثَّناءَ إذا ما غلا أخو السَّيف والضّيف، من تَدْعُهُ ... ليومِ النِّزالِ ويومِ القِرَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 عظيمٌ، يهونُ عليه العظيمُ ... مُرَجّىً يصدقُ فيه الرَّجا تقلَّد بالمجد قبلَ النِّجاد، ... وقبلَ بلوغِ الأَشُدِّ استوى ومنها: أيا واهبَ الكُومِ تحتَ الرِّحا ... لِ، والمُقْرباتِ عليها الحِلَى سَوامي النَّواظر، قُبّ البطون، ... قِصار المُتون، طِوال الخُطا ومُعطي السَّوابغِ موضونةً ... تَرَقْرَقُ مثلَ مُتونِ الأَضا إلى كلّ مجدولةٍ كالعِنا ... نِ، رَيّا الرَّوادفِ، ظَمْأَى الحَشا تُرِيك القَضِيبَ إذا ما بدت ... تَميسُ دلالاً، وحِقْفَ النَّقا ومنها، في صفة القصيدة: إذا ما تغنَّى رُواة الثَّناءِ ... بها، وسرى نَشْرُها في المَلا تأَرَّجَ منها رِداءُ النَّسِي ... م طيباً، ورقّت حواشي الصَّبا وبعدهما البيتان اللذان سبق ذكرهما. وأنشد له الشريف قطب الدين، بن الأقساسي ابن أخته، رحمه الله تعالى: حَبَتْهُ نِجادَ السَّيف قبلَ التَّمائمِ ... فشبَّ عميداً بالعلى والمكارمِ ضَرُوباً إذا حادَ الدَّنِيُّ عن الرَّدَى ... رَكُوباً لأَثْباج الأمور العظائمِ مُطِلاً على الأعداء، أكثرُ هَمِّه ... وُلُوجُ الثَّنايا واطِّلاعُ المَخارمِ ومَنْ طلَب العلياءَ، كلَّفَ هَمَّهُ ... صدورَ العَوالي، أو شِفارَ الصَّوارمِ وخاض الدًُّجَى، ما تَمَّ فيه سِنانُه، ... وقلقل أعناقَ المَطِّيِ الرَّواسمِ إذا ما بناها النّيّ غِبَّ كَلالِها ... قصوراً، رماها من سُراه بهادِمِ ومنها: من القوم، يَنْهَلُّ النَّدَى من أكُفّهم ... إذا بخِلت بالقَطْر غُزْرُ الغَمائم وإن شمَّرُوا في ساحة الحرب، جَدَّعُوا ... بأسيافهم، رُعباً، أُنُوفَ المَظالمِ فما جارُهم في يوم حرب بمُسْلَمٍ ... ولا مالُهم في يومِ سلَمْ بسالمِ أُولئك قومي، طأطَؤُوا كلَّ شامخ ... إلى المجد، واعلَوْلَوْا على كلّ ناجمِ إذا لبِسوا الزَّغْفَ الدِّلاصِ، حسِبتَهم ... أسودَ عَرِينٍ في جلودِ أَراقمِ ومنها: وقوم رموني عن قِسِيّ ضَغائنٍ ... بأَسْهُمِ أحقادٍ وأَيْدٍ كَوالمِ إذا ما رأوني، قطَّعوا اللحظَ، وانثنَوْا ... من الغيظ، فاعتاضُوا بعضّ الأباهِمِ لهم عَلَمٌ يومَ النَّدَى غيرُ خافق ... وأَطلالُ مجدٍ دارساتُ المَعالمِ وموقدُ نارٍ لا تُضيء لطارق، ... وبرقُ سَماحٍ لا يلوحُ لشائمِ ولما أصلد زند رجائه، وأصلى جمر برحائه، وتبدد سلكه، ولم يعد ملكه، سافر إلى مصر، كأنما ساقه القدر بها إلى القبر. لكنه عاش فيها مديدةً قفي ظل الكرامة، وانتقل إلى دار الخلد والبقاء والسلامة. الشريف الجليل الكامل أبو نزار، عبد الله، بن محمد، بن يحيى، بن عمر، الزيدي، الحسيني الكوفي. هو أخو الشريف أبي القاسم. وكان كاسمه كاملاً، عالماً، فاضلاً. أنشدني الشريف قطب الدين، محمد، بن الأقساسي، العلوي، الكوفي ب بغداد، سنة سبع وخمسين وخمس مئة، لخاله الشريف الكامل، أبي نزار رحمه الله، مما نظمه عند كونه ب الجبل في أيام السلطان مغيث الدين، محمود، بن محمد، بن ملك شاه، وهو: وأرَّقَني بالدَّوْح نَوْحُ حمامةٍ ... مفجَّعَةٍ محزونةٍ، بهَدِيلِها تذكّرني داراً ب هَمْدانِ ناعطٍ ... تَقِرُّ بعيني وقفةٌ بطُلولها وقال رفيقي يومَ جُزْنا ب سَحْنَة ... وكان يرِجّي العَوْدَ عندَ وصولِها: أما آنَ للرَّكْب المُغذِّيِن أَنْ تَنِي ... قَلائصُهم من نَصِهّا وذَميِلها؟ أرى الأَرضَ قد بُدِّلتُ ضَيْقاً بِفيحها ... وبالوعر من بَطْحائها وسُهولها واللُكَناءِ الغُتْمِ من فصحائها ... وبالدُّلْبِ من رُمّانها ونخيلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وأنشدني أيضاً الشريف ابن الأقساسي لخاله الشريف أبي نزار: قَوِّض خِيامى عن ديار الهُونِ ... فلست ممن يرتضي بالدُّونِ واشدُدْ على ظهر الهَجِين رَحْلَه ... فقد شكاني غاربُ الهَجيِنِ وقرِّبَنْ من الحِصان زُلْفَةً ... فالحُصْنُ أولى بي من الحُصونِ فإِنْ أنا قصّرتُ عن شَأْو العلى ... فلا أقلَّتْ صارمي يمَيني ولا أهَلَّتْ بالسُّعود أنجمُي ... ولا أهَلَّتْ بالسُّعود أنجمي إِن لم أَنُطْ بالمأثُرات همَّتي ... حتَّى أَحِلَّ رتبةً تُرضيني، فهمَّتي لا ترتضي لي بعلى ... لأنّها ترى المَعالي دُوني أحكامَ دهري. ما أراك تُنْصِفي ... قدَّمْتِ غيري وتؤخّريني أنكرتِ منّي ما عَرَفتِ منهمُ ... ستعرِفيني حينَ تَسْبُرِيني لانُوا، فنالُوا ما بَغَوْا بلينهم، ... وكنت لا أرضَى على بلِينِ إِنّي، وإِنْ هان الكِرامُ، باخلٌ ... بماءِ وجهٍ وافرٍ مصونِ على تصاريفِ الليالي شَرِسٌ ... لم تَزُلِ النَّخْوَةُ من عِرنيني إنّيَ من قوم، إذا ما ذُكروا ... خَرَّ جميعُ النّاس للجَبِينِ يُسجَدُ للمولود منهم هيبةً ... ويوضع التّاجُ على الجَنيِنِ من دَوْحَة ميمونة، طاهرة ال ... أَعراق، تُؤتي الأُكْلَ كلَّ حينِ محمّد جدّي. وقُربي في العلى ... من النَّبيّ المصطفى يَكفيني وكان من ذي العرش، جَلَّ ذِكرُه، ... كقابِ قوسِ العَينِ، أو من دُونِ والمرتضَى أبي. وحسبي عقلة ... موصولة بالأَنْزَع البَطِينِ وأنشدني له أيضاً: أُنظُرْ إلى الرَّشَأ الغَرِير وَقِدّهِ ... وسوادِ طُرَّتِه وحمرةِ خدّهِ رَشأٌ، تكامل دَلُّه ودَلالُه، ... كالبدر أشرق طالعاً في سعدهِ ألقَى الظّلام على الضّياء فزانه ... والشيء يحسُنُ أَنْ يقاسَ بضدّهِ لم أدرِ حينَ بدا، وبهجةُ خِدِّهِ ... تُوفِي على لهب المُدامِ وحَدّهِ، هل خدُّهُ متجسّمٌ في كأسه؟ ... أم كأسُه متجسّمٌ في خدّهِ؟ لم يُبق من بُرْد الجمال بقيَّة ... للمكتسي فَضَلاتِه من بَعدِه قال: وكان قد خرج يوماً إلى أراضي خفان للصيد، فأمسى وقد أوغل في البرية، فعدل إلى جانب ونزل، وأمر أصحابه فأوقدوا النار، وشووا لحم الصيد، ليأكلوه، فارتفعت نارهم لقوم من عرينة، فوافوها، فأضافهم، وسألهم عن مقصدهم، فذكروا أنهم سفرٌ يمتارون، فحملهم معه إلى الكوفة، ورفدهم، وقال في ذلك: ومُدْلجِينّ مَقاوي، لا دليلَ لهم ... إلى مكان القِرى شيءٌ سِوى ناري باتت تُضيءُ، وباتُوا عامدينَ لها، ... وإِنّما رُفِعت للمُدْلِجِ السّاري لمّا أناخُوا بها، وَلَّى سُغُوبُهُمُ ... وبُدِّلوا بعدَ إعسارٍ بإيسارِ وأنشدني له أيضاً من قصيدته السينية السنية، التي هي في الذم على من هجاهم أمر من المنية، وفوت الأمنية، يعرض بسادات بني عمه من الكوفة والحلة. وهي في فنها مطبوعة، باللطف مشفوعة، مطلعها: نادى عقيلُ بأعلنِ الجَرْسِ: ... كم ذا يلينُ لِلامسٍ لَمْسِي مَنْ ذا يُناكحني، فينكحُنِي؟ ... وَيْلاهُ من. . . ومن. . .؟ ومخلّصي من كلّ بائقة ... سَمْجِ الخلائق ناقصِ الحِسِّ وله أَبٌّ. لو جاز بيعُ أَبٍ، ... لتركته في حُجرة النَّخْسِ مَلآْنُ من أكل الحرام، فما ... للخير في ناديه من حسِّ والشَّيخ عزّ الدِّين حجَّتُهُ ... ضاعت ضَياعَ الشَّمعِ في الشَّمسِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 قلَعَ الرَّواسيَ من عَشيرته ... حرصاً على التَّحويل والغرسِ وفتى المُعَمَّرِ لا يجود لمَنْ ... يرجو نَدَى كفَّيْه بالفَلْسِ يعني نقيب الطالبيين، والد النقيب الآن. ولهِ خُوَانٌ، ما عليه من ال ... إِدامِ غيرُ الخَلِّ والدِّبْسِ والشَّنْفقيّ، ثَكِلْت طلعته، ... في غاية الإِدبار والنَّحْسِ هو النقيب العمري ب سوراء. فكأنَّه، في لبس مِمْطَرِه ... والعِمَّةِ الصَّفراءِ كالوَرْسِ، شيخُ الْمَثِيبة في اليهود، وما ... بين النَّصارى موضع القَسِّ وفتى مُعَيَّةَ لو بَصُرتَ به ... لوجدتَه ذئباً من الطُّلْسِ هو الشريف أبو منصور بن معية، وزير دبيس المزيدي. هو في التَّذلُّل من سَلُولَ، وفي ال ... أَطماع والغارات من عَبْسِ متفنِّنٌ في الخُبث منه، فما ... كذَب الَّذي سمّاه بالنِّمْسِ والأَنكدُ المشؤومُ طلعتُه ... أدهى من الضًّرَبان في الضّرِسِ وأبو الحسين فكلُّه مَلَقٌ ... مَبْنَى عقيدتهِ بلا أُسِّ هو جال الدين، بن عز الدين بن أبي نزار. فكأنَّه دارٌ مجصَّصَةٌ، ... بيضاءُ، خاليةٌ من الإِنسِ وأنشدني له في جارية، كانت تسكن في جوار الجامع، بديها: نشَدْتُكِ يا جارةَ الجامعِ ... أهَلْ من قِرىً للفتى القانعِ؟ بعيشِكِ لا تَحْرِميهِ القِرى، ... فما دُونَ وصلكِ من مانعِ وَعَدْتِ ثلاثاً فأخْلَفْتِها، ... وحاشاكِ من موعد رابعِ يجوز الخلاف لرَبِّ الخلاف، ... فما العُذرُ للسّامع الطّائعِ؟ الشريف علم الدين بن الأقساسي من الكوفة. أبو محمد، الحسن، بن علي، بن حمزة أبي الحسين، بن أبي يعلى محمد، بن أبي القاسم الحسن، بن كمال الشرف أبي الحسن محمد، بن الحسن بن محمد، بن علي، بن محمد، بن يحيى، بن الحسين، بن زيد، بن علي، بن الحسين، بن علي، بن أبي طالب - عليهم السلام. استكتبت هذا النسب من أخيه الأكبر قطب الدين، أبي يعلى، محمد، بن الأقساسي. وكانا قد وصلا، في سنة ثمان وخمسين وخمس مئة، من الكوفة إلى ديوان الخلافة، يسألان إعادة الأملاك التي أخذت. وسمعت ابن الأقساسي الأصغر، وهو كهل، ينشد الوزير عون الدين بن هبيرة، غير مرة، من قصائده التي نظم فيه. وهو شاعر مجيد، حسن الأسلوب، متين النظم، سليم المغزى، قويم اللفظ والمعنى. ينطق شعره بحسبه، وشرف نسبه، وتعبر ألفاظه عن غزارة علمه وكمال أدبه. وللشريف أبي محمد، بن الأقساسي، العلوي، الكوفي يرثي الإمام المستنجد بالله، ويهنىء الإمام المستضيء بالله بالخلافة: رُزءٌ، تعاظمَ عن حدّ وعن أَمَدِ ... كادت تزول له الأفلاك من زُؤُدِ عمَّ الورى، فوَهَى حِلمُ الحليم به، ... وظلَّ مستضعَفاً عنه أخو الجَلَدِ ومارَتِ الأرضُ، إِعظاماً لموقعه، ... مَوْراً غدا راجفاً بالسَّهْل والجَلَدِ وأضحت الشَّمسُ منه وَهْيَ كاسفةٌ ... كأنّما طَرْفها مُغْضٍ على رمدِ بيومِ أعظمِ خلقِ اللهِ منزلةً، ... وخيرِ منفردٍ، بالعزّ مُتَّحِدِ من الرِّعان التّي لولا شوامخُها ... ما كان للأرض من صدف ولا وَتِدِ القائمين بأمر الله، دَأْبُهُمُ ... حياطةُ الدّين، كالحاني على الولدِ الآخذين من الأيّام ما احتكموا ... والنّائلي أَمَداً يُغنيك عن أَمَدِ هم الأئمَّةُ، ما إنْ زال مدحُهمُ ... دَأْبي، وحبُّهمُ ديني ومعتَقَدي آهاً لِداعي الرَّدَى، لو أَمَّ عَقْوَتَه ... في جَحْفَل حَرِجِ الأحشاء محتشدِ، له وَجِيفٌ على الثَّرْيا، يُظَلِّلُها ... بمثلها من صَفِيق النَّقْع منعقدِ، إِذَنْ لَلاَقى طِعاناً دُونَ بِغْيتِهِ ... مُواشِكاً، وضِراباً هاتِكَ الزَّرَدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وكلَّ ذِمْرٍ غَداةَ الرَّوْع تُعْظِمه ... إذا تنكَّر للأقران عن أسد يرى الحِمام حياةً في مُنازَلة ... بينَ الرِّقاق المَواضي والقَنا القِصَدِ لكنّه القَدَرُ الحتمُ الَّذي خَنَعَت ... له الملوك أُولوا الأَعدادِ والعُدَدِ فإِنْ تعاظمَ رُزْءاً يومُ مصرعهِ ... فقد أتانا من النُّعمى بأيّ غدِ وما نقولُ، وقد قامت سعادتُه ... لنا عن الوالد المحمود بالوَلَدِ؟ المستضيء الَّذي قد قام معتمداً ... على إِبالته بالواحد الصَّمَدِ هو الإمام الَّذي مَدَّت لبيعته ... قلوبُنا طاعةً من قبلِ مِدّ يَدِ مؤَيَّدٌ، ملَكَ الأهواءَ، فَهْيَ له ... تسعَى إليه، إذا نادَى، على جَدَدِ صحَّت عزائم أهل الأرض، واجتمعت ... على إِمامته في القُرب والبُعُدِ فما يقوم له داعٍ على بلد ... إلا وقد سبقته طاعة البلدِ وكيف لا تمِلكُ الدُّنيا، وأنت لها ... يا ابن الخلائفِ مثلُ الرُّوحِ في الجسدِ فقُم بها، يا أميرَ المؤمنينَ، ونَلْ ... ما شئتَ، وابْقَ على الأيّامِ والأَبَدِ وله فيه من قصيدة، يهنئه بالخلافة، ويطلب الشريف: تبسَّمَ الدَّهرُ عن ثَغْر الرِّضَى جَذِلا ... طَلْقاً، وأهدى إلينا السُّول والأَمَلا فقم لنفرحَ، وأعلم أَنَّ فرحتَنا ... ما قام يوماً بها أمرٌ ولا عَدَلا وجاءنا بالأمَاني غَضَّةً جُدُداً ... بِيضاً، وجادَ بها من بعدِ أَنْ مَطَلا وقام معتذراً ممّا أَلَمَّ به ... يُبدي حياءً، ويُخفي تارةً خَجَلا وأقبل الجودُ والإحسانُ في طرب ... بادٍ، وقد نَبُها من بعدِ ما خَمَلا واهتزّت الأرضُ، واخضرَّت هَوامدُها ... وأصبح الرَّوضُ فيها نابهاً خَضِلا واستبشر المجدُ والعلياء، فابتهجا ... حُسناً، وقد حَلِيا من بعدِما عَطِلا وحالَ لونُ الليالي فَهْيَ مشرقةٌ ... كأنَّما صِبغُها المعهود قد نَصَلا وأقشع الظُّلمُ عنّا والظَّلامُ، كما ... وَلَّى جَهامٌ، حَدَتْه الرِّيحُ فانجفلا ب المستضيء بأمر الله إِنّ به ... تُجلى الخطوب إذا ما ليلها اتَّصلا الكاشف الكُرَب الجُلَّى وقد عظُمت ... والفاعل الفعلَ في الأيّام ما فُعِلا خليفة، قيَّدَ الأَلحاظ يومَ بدا ... إلى مُنير، يضمّ البدر قد كمَلا أي: قيد نوره الألحظا عن النظر إليه. كأنّما قابل الرّاؤون غُرَّتَه ... شمساً، بدت طلعةً تستوقف المُقَلا يَوَدُّ مَنْ غاب عن مرهوب موقفه ... لو أنّه بالثَّرَى من تُربه اكتحلا ثَرىً، ترى بثُغور النّاس كلهِمُ ممّا تقبّله أفواهُهم بلَلا مَدَّت إليه قلوب النّاس طاعتها ... قبلَ الأَكُفّ، ومَدَّتْها له نَفَلا إلى يدٍ سَبْطَةٍ بالجود، مُنعِمةٍ ... تُعطي، فيخجَلُ منها الغيثُ إن هطَلا وما سمِعنا بغيث قبلَ نائلِه ... جادَ البلادَ، فأحيا السَّهلَ والجبلا سيلٌ، طما، فوُجوهُ الأرضِ سائرُها ... قَرارةٌ، ما علا منها وما سَفَلا وكيف يَسْقِي حَيا الأمطارِ حيث سقى ... حَياه، أو يصِلُ المَغْنَى الَّذي وصَلا؟ أم كيف يُحسن وصلاً كل مقتدر ... له، وقد غمرَ الأقطارَ والمِلَلا؟ أدنى وإن كان لا أدنى نوافله ... يستغرقُ القولَ، أو يستنفدُ المَثَلا قد بثَّ عدلاً وجوداً، يُوضحانِ لنا ... قصورَ مَن جادَ في الأزمان، أو عدَلا نكاد نظلِمُ ما يأتيه من حسَن ... بقولنا: زاد عمّن كان، أو فضَلا وأبلج من بني العبّاس أوسعَنا ... جوداً، زَوَى وصفُه التَّشبيبَ والغَزَلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 فكلَّما خطَرت في خاطر كِلفٍ ... حسناءُ، حايدَ عنها الشِّعرَ، فانعزلا وكلَّما جاوز المنطيقُ غايته ... في القول، أيقن بالتَّقصير، فانخزلا معظَّم، جازت الأهواءُ دولتَه، ... وأوضحت، لاِنقيادِ الأنفُس، السُّبُلا فالأرض تعنو ومَن فيها لطاعته ... وكلُّ جودٍ، يُلبّيه، وما حملا لو استطاعت أقاصيها، إِذَنْ جمعت ... لوطئه خدَّها فخراً إذا انتعلا يسنتشق التُّرْبَ ملذوذاً لعَقْوَتِه ... كأنَّما فُتَّ فيه المسكُ أو قُتِلا إليك يا خيرَ مَنْ مُدَّت إِليه يَدٌ، ... يداً، لها شرف في مدّها وعُلَى رأك باسطها الأَوْلَى بدعوته ... حقّاً، فلم يَأْلُ إِذْ ناداك أو سألا قد جُدتَ بالمال من قبلِ السُّؤال بلا ... مَنٍ، فسنَّ عليه الفخر والحُلَلا مَلابسٌ، تُبهجُ الدُّنيا، وسابغُها ... عليه يبقى جديدَ الفخرِ لا سَمَلا تظَلّ تعلو على الأعناق، من شرف ... بها، ويسمو إليه الطَّرْف إِنْ رَفَلا من الحِسان اللواتي لا يفوزُ بها ... إِلا الأفاضلُ، من جَدْواك، والنُّبَلا ودُمْ، نهنّيك بالنًّعمى التّي سبغت ... على الورى، وتَلَقَّ العيشَ مقتبلا فأنت للأرض ممَّنْ فاتَها بدلٌ، ... فلا رأتْ منك يا خيرَ الورى بدلا وله مما أنشدني أخوه الشريف قطب الدين، أبو يعلى، بن الأقساسي رحمهما الله تعالى: جاد الزمان، فلولا ما ابتدأتَ به ... كنّا حِسبنا الَّذي جاؤوا هو الكرمُ حتّى أتيتَ بمعنى غيرِ مُنْتَحَلٍ ... في الجود، لم يأتهِ عُربٌ ولا عجَمُ لولا اقتفاؤك فيما جئتَ من كرم ... لمَا علِمنا المعاني كيف تنتظم ابن الناقة الكوفي أبو العباس، أحمد، بن يحيى، بن أحمد، بن زيد، بن الناقة. من أصحاب الحديث العالي. من أهل الكوفة. عاش من بعد سنة خمسين وخمس مئة. وله شعر، قرأته من تاريخ السمعاني بخطه، قال: أنشدنا لنفسه ب الكوفة: إِذا ما انتسبت إلى دِرْهَم ... فأنت المعظَّمُ بينَ الورى وإِمّا فخَرتْ على معشرفبالمال إِن وهو علم العلم وعلامة الدهر، وذكاء الذكاء وذكي النشر. كنا نظمأ إلى سماع نظمه، ونؤثر تيمم مشرعه من يمه، إلى أن سمعنا مجد العرب، العامري يقول لقيته ب الأنبار في عنفوان شبابي، ولا يمكن أن يلحق أحد بطبقته. وأنشد لنفسه أظما، وغُدرانُ المَواردِ جَمَّةٌ ... حولي، وأسغَبُ، والمطاعمُ دوُني وأعافُ أدوانَ الرِّجالِ، فإِنّه ... لا يرتضي بالدُّون غيرُ الدُّونِ لا الفقرُ يَخفِضُ من تسامي ناظري ... فيَغُضُّ منه، ولا الغِنَى يُطغيني هذا البيت، أنشدنيه ب بغداد الرئيس أبو الفتح، نصر الله، ابن أبي الفضل، بن الخازن. وأنشدني الأديب مفلح، بن علي، وذكر أنه مطلع هذه القصيدة: وهواكِ حِلفةَ مغرمٍ مفتونِ ... وجفاك أصدق حالف ويمينِ َلأُكَلِفَنَّ الوجدَ نقضَ جوانحي ... وأُكَلِّفَنَّ الدَّمعَ نفضَ جُفوني ول أبي سعيد، أحمد، بن واثق، الأنباري، وقد أبدع فيهما: شكَرَتْك عنّي كلُّ قافية ... تختالُ بينَ المدحِ والغَزَلِ فلقد ملأتَ بكلّ عارفة ... كفَّ الرِّجاءِ وناظرَ الأمَلِ وله: إِما ترى غَرْبي سِجالاً في الصِّبا ... فِرشاؤها بيد العقاب متينُ ولقد أُفلُّ الخَطْبَ وَهْوَ مُصَمِّم ... وأُلِينَ عِطفَ الدَّهرِ وَهْوَ حَرُونُ بمُسَلَّطِ السَّطَوات، حيثُ دعوته ... خفَّتْ به العَزَماتُ وَهْوَ حَرُونُ عرَّفْتَني عِزَّ الغِنى، فكأنَّني ... لم أدرِ ذُلَّ الفقر كيف يكونُ وله: وقد زعَمُوا أَنّي وعدت بزَوْرة ... من الطَّيْف تأتي والصَّباحَ على قَدْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 فقلت لهم: ما ذاك إلا بأَنْ نمى ... إلى علم لَيْلَى أَنَّ لَيْلِي بلا فجرِ وله: في كلّ مضطَرَب، للمرء مكتَسَبٌ ... وللمطالب بابٌ غيرُ مسدودِ ومنها: جاورتُه، فازدريتُ الليثَ ممتنعاً ... ببأسه، وذمَمْتُ الغيثَ في الجودِ خلائقٌ منه، ما تنفكُّ طيّبةً، ... إِنَّ الخلائقَ عُنوانُ المواليدِ وأنشدني الرئيس أبو القاسم، عبد الله، بن علي، بن ياسر، الأنباري قال: أنشدني ابن واثق لنفسه: يُهدي الكَرى لعيون النّاس ليلُهمُ ... والليلُ يَنْفي الكَرى عنّي ويطرُدُهُ إذا سُهادُ جُفوني باتَ يَبْعَثُه ... إلَيَّ ليلي، فقل لي كيف أرقُدُهُ؟ وأنشدني له: لو كان غيرُ رُضابِه خمري ... يا عاذِلي لصحوتُ من سُكري أبو طاهر بن أبي الصقر الأنباري من الطبقة الأولى في العصر: شيخ من أصحاب الحديث. روى عنه الحافظ أبو الفضل، بن ناصر. ومات سنة ست وسبعين وأربع مئة. وله: نفسُ، كوني ذات خوفٍ ... واتِّقاءٍ واجتناب لا تظُنّي النّاسَ ناساً ... أَيُّ أُسْدٍ في الثَّيابِ أبو نصر مواهب بن يحيى بن المقلد الربعي الهيتي فاضل فقيه، نبيل نبيه، معروف وجيه. ذكره السمعاني في تاريخه، وقال: كتب عنه رفيقنا أبو القاسم الدمشقي أبياتاً من شعره وقت انحداره إلى بغداد، ورواها لنا، وهي: إذا ما هبَّ هِيتَ النَّسِيمُ ... تذكَّر مغرم بكمُ يَهيمُ وإنْ برقٌ تألَّق من ذَراها ... تجدَّد عندَه العهدُ القديمُ على مَنْ ب الفُرات أقام، منّي ... سلامٌ، ما تلألأت النُّجومُ وما فارقتُها لِقِلىّ، ولكنْ ... تأَوَّبَني بها الزَّمنُ الغَشُومُ ولم أطلُب بها عِوَضاً، ولكنْ ... إذا عُدِم الكَلا رُعِي الهَشيِمُ سقى الله الفُراتَ وساكنيه ... وطيبَ ثَراه وَبْلاً لا يَرِيمُ وحيّا حَيَّ بِسطامِ بْنِ قَيس ... ففي أبياته قلبي مقيمُ أَحِنُّ إلى التّي أَصْمَت فؤادي ... فأَصبحَ والغرامُ له غَرِيمُ رمتني من لواحظها بسهم ... أُصيبَ به من لقلب الصَّميمُ فما أنا، ما حَيِيتُ، لها بسالٍ ... ولا في التُّرْب إذْ عظمي رَميمُ الأديب أبو الفرج محمد بن الحسين بن خليل الهيتي لقيته بباب دكان أبي المعالي الكتبي، في سنة خمسين وخمس مئة، وكان كهلاً، للثناء أهلاً. وذكر أنه أكثر من خمسة وعشرين ألف بيت، وأنه صنف مقاماتٍ. واستنبطته، فوجدت فيه أدباً وفضلا، وأنشدني مما نظمه أبياتاً، ومما نثره فصلا. أنشدني لنفسه من قصيدة: أمُغْرىً بالمَلال، دَعِ المًلالا ... فمَنْ يُدِمِ السُّرَى يَجِدِ الكَلالا وإن تَكُ غيرَ مَنّانٍ بوصل ... فزُرْ بخَيالك الدَّنِفَ الخَيالا وله: وحُرِمْتُ طِيبَ العيش يومَ سرت بهم ... خيلُ الصُّدورِ بنِيَّة الهجرِ ولبِست ثوبَ تجلُّدي زمناً ... خوفَ الوُشاةِ، فخانني صبري وله: يا راقداً أَسهرَ لي مُقلةً ... عزيزةً عندي وأبكاها ما آنَ للهِجْرانِ أن ينقضي ... من مُهجةٍ هجرُك أضناها إِن كنت لا ترحَمُني، فارتقبْ ... ، يا قاتلي، في قتليَ، الله وله: إِذَنْ عَوِّضِي حُسنَ الثَّناء وأَجْمِلي ... فذاك لَعَمْرِي فُرصةُ المتعوّضِ وجُودي بموجود، فإنَّ قُصَارَهُ ... إلى اَجَل يُفضي إليَّ وينقضي أبو الخير المبارك بن نصر بن مسافر الحديثي أورده السمعاني في تاريخه، وقال: شيخ من أهل الحديثة. له معرفة بالأدب واللغة. ويقول الشعر. ورد علينا بغداد، وأنشدني لنفسه من قصيدة: أنارَ نهارُ الشَّيب ليلَ شبابي ... وطيَّرَ بازيُّ المشيبِ غُرابي وزايَلَني شَرْخُ الشَّباب وطِيبُه، ... وطاوعتُ عُذّال، وقلَّ عتابي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 ومنها: فيا رُبَّ يومٍ قد لَهَوْتُ بغادة ... منعَّمةٍ، غَرْثَى الوِشاحِ، كَعابِ أَناةٍ، يُضيءُ البيتَ لألاءُ وجهِها ... ولو سترت من دونه بنِقابِ لها جِيدُ أَدْماءِ المُقَبَّلِ مُغْزِلٍ ... ووجهٌ كبدر التَّمِّ غيرُ مَعابِ فيا لكَ لهواً في عَفاف لَهَوْتُه ... ولم تُدنس الفحشاءُ طِيبَ ثيابي ويا رُبَّ خَرْقٍ قد قطَعْتُ نِياطَه ... بوَغْلٍ جِيادٍ أو بِنَصِّ رِكابِ وما شِبْت من عمر طويل، فهذه ... سِنِيَّ، وهذا إن شككتَ حسابي ولكنْ رماني الدَّهرُ منه بأَسْهُم ... شقَقْنَ فؤادي قبل شَقِّ إِهابي فقلتُ، وقد أَصْمَيْنَ رَشْقاً مَقاتلي: ... أَهذاك دابُ النّائباتِ ودابي؟ قال: وتوفي في شعبان سنة ثلاثين وخمس مئة، بعد أن كتبت عنه الأبيات بيسير. ابن زكرويه الأنباري هو الحسن، بن محمد، بن زكرويه. من شعراء الأيام المقتدية. قرأت في ذيل التاريخ ل ابن الهمذاني، في حوادث سنة ثمانين وأربع مئة، ل ابن زكرويه، الأنباري، يمدح نظام الملك، ويهنئه عند عوده في السنة المذكورة من زيارة المشهدين ب الكوفة والحائر على ساكنيهما السلام، قصيدة، منها: زُرتَ المَشاهدَ زورةً مشهورةً ... أرضت مَضاجعَ مَنْ بها مدفونُ فكأنّك الغيثُ استمدَّ بتُرْبها ... وكأنّها بك روضةٌ ومَعِينُ فازت قِداحُك بالثَّواب، وأنجحت ... ولك الإِلهُ على النَّجاح ضَمينُ وله في هذه السنة، وقد خلع الإمام المقتدي على السلطان ملك شاه، وتوجه للإمامة: هنيئاً للإمامة ما أرتنا ... من الآيات في السُّوَر الفِصاحِ وحسبُ جلالِ دولِتها جلالاً ... وشائحُ هذه الرُّتَبِ الفِساحِ لقد توَّجْتَ مَفْرِقه بتاج ... يُقيم على الزَّمان بلا بَراحِ فحلَّ نهايةَ الشَّرَف المُعَلَّى ... ومازجَ صفوةَ الفخر الصُّراحِ وقرأت في مجموع شعراء عميد الدولة، أبي منصور، محمد، بن محمد، بن جهير فيه، ويهنئه بالعود إلى الوزارة: أبى الله إلا أن يُعِينَ بك الهدى ... وإنْ رُغم الحُسّادُ أو كرِه العِدا سعدت، عميدَ الدَّوْلَتينِ، بأَوبة ... إلى رتبة، مَدَّتْ إلى يدك اليدا ولو لم تكن موعودةً بك، غالَها ال ... لإِراقُ، وأبلاخا الحنينُ وأكمدا فدُونَكَها مسرورةً بك، أقبلت ... تَهادَى جلالاً لا يُبارَى وسوددا وها هيَ قد ألقتْ مَقاليدَ أمرِها ... إلى أمرك الأعلى، هَوىً وتَوَدُّدا وكم كُلِّفتْ عنك السُّلُوَّ، فزادها اشْ ... تِياقاً، وأذكى وجدَها فتوَقَّدا ومنها: ولمّا تبدَّت همّة تَغْلِبِيَّة، ... وعزم أقام الحادثات وأقعدا، تشوّفتِ الأخبار عنك، مَشُوقةً ... إليك اشتياقَ الرَّوْضِ حَنَّ إلى النَّدَى ومادت ب زَوْراء العِراقِ مَخاوِفٌ ... إذا ما رآها الثّابتُ الجَأْشِ عَرَّدا فلو لم تَصِلْها عائداً، لم تَجِدْ بها ... سريعاً إلى الدّاعي ولا متأيّدا قدِمتَ عليها، مستهّلاً بنائل ... نفى بنَدِاه جَدْبَها المتوقّدا أبو الحسن علي بن جد الهيتي رحمه الله. له في مدح الإمام المستضيء بأمر الله، ويصف هيت، ويشكو أهلها، ويذمهم: مَنازلُ هِيتٍ لا يوافقُها العدلُ ... إذا عدَل السُّلطانُ، جار بها الأهلُ وما هيَ إلا بلدةٌ جاهليّة ... أَمَرَّت على مَرّ الزَّمانِ فما تحلو تجمَّع أهلوها على الخُلْف والجَفا ... وبينَهما أخذُ الحرائبِ والقتلُ قلوبُهمُ من جَنْدَلٍ وصفائحٍ ... خُلِقن، وما في العالمين لهم شَكْلُ وأَيمانُهمْ غدرٌ إذا حلفوا بها، ... وقولُهمُ نُكْرٌ، ووعدُهُمُ مَطْلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وإِن عُوتبوا فالعتبُ فيهم مضيَّعٌ ... وإِن عُذِلوا يوماً فما ينفَعُ العَذْلُ أرى شيمتي تأبى بلادي وأهلَها ... فيا ليتَ أَنّا لم يكن بينَنا وصلُ وأُقسِمُ لولا بِنتُ عمٍّ شفيقةٌ ... إذا غِبتْ عنها، نالها منهم ثِقْلُ، لأَبْعدتُ أسفاري، وفارقتُ منزلي، ... ولم يَثْنِني كَرْمٌ بأرضي ولا نخلُ وخُذْ بيميني، إِنّنا شَرُّ جَِبْلَةٍ ... وما إِنْ لنا دِينٌ يَزينُ ولا عقلُ خُلِقنا بلا حِلم، ولا علمَ عندَنا، ... وإِنّا أناسٌ قد أضَرَّ بنا الجهلُ ولولا أميرُ المؤمنينَ وحلمُهُ ... لَحَلَّ بنا من قبحِ أفعالِنا نكْلُ ولكنّه عمَّ البَرايا بعدله ... فأمسى له في كلّ مَكْرُمَة فعلُ وأحيا به الأرضَ المَواتَ، وقد غدا ... لكلّ أَخي عُدو بأرجائها أُكْلُ وإنَّ الإِمامَ المستضيءَ فتى العلى ... هو الرُّكنُ للإسلام والفرعُ والأصلُ إِمامٌ، به دَسْتُ الخِلافة مُشرقٌ ... أضاءت به الآفاقُ والمُدْنُ والسُّبْلُ مطيعٌ لأمر الله في الجهر والخَفا ... سميعٌ إذا ناداه عانٍ به كَبْلُ تواضع للرَّحْمن خوفاً وخَشيةً ... وتابعَ ما قال النَّبِيُّونَ من قبلُ حمى حَوْزَة الإسلامِ من كلّ ظالم ... فلا ناصرٌ يُجْبَى بأرض ولا جَفْلُ هو العَلَمُ الفردُ الَّذي يُقْتَدى به ... إذا اختلف الأقوامُ في الأمر أو ضَلُّوا وقد سار فينا سِيرةً عُمَرِيَّةً ... فأربى على كِسرى، فسيرتُه عدلُ وفاق على كلّ البَرِيَّة فعلُه ... فليس له فيهم نظيرٌ ولا مِثلُ جَبَرْتَ البَرايا يا ابنَ عمِّ محمَّد ... وسِرت بإِنصاف كما سارت الرُّسْلُ وكنتَ على الإسلام وجهاً مُبارَكاً ... وأضحى بأرضٍ أنت مالكها الوَبْلُ الرئيس أبو علي يحيى بن محمد بن الشاطر الأنباري أنباريٌّ: أنبأ رائيه، أنه عز في زمانه من يباريه. إن باراه سحبان، قال: سبحان باريه. مقصد مقصده سليم، ومنهجه قويم. مقطع كأنه مقطع ديوان المعاني، بل ناظم لعقود هي قلائد المعالي لا الغواني. أسلوبه مطلوب، بالأرواح مسلوب. ومذهبه محبوب، بالقلوب منهوب. معناه شائق، ولفظه رائق، ونظمه فائق، ولفظه بالمعنى لائق. أنشدني الرئيس أبو القاسم، عبد الله، بن علي، بن أبي ياسر، الأنباري، في الديوان العزيز - مجده الله - ب بغداد، في شهور سنة سبع وخمسين وخمس مئة، قال: أنشدني ابن الشاطر لنفسه، وهي كلمة خالية من النقط غير معجمة، مطرزة بالحكم حالية معلمة، سلمت من التكلف، وخلصت من التعسف، لا يتفق لأحد مثلها في فنها، وسلامتها وحسنها. وهي: صارِمْ ملولاً كَدِراً وُدًّهُ ... ودُمْ لأهل الوُدِّ ما دامُوا وأَعطِ أموالَك سُؤّالَها ... ولو لَحى الحُسّادُ أو لامُوا وحَصِّل الحمدَ. ألا، كلُّ ماحُصِّل إلاّ الحمدَ، إِعدامُ السُّؤدَدُ المالُ، ولولاه ما ... رامَ أُولُو الأحوالِ ما رامُوا أولادُ حَوّاءَ وِهادٌ، ولو ... سادُوا، وأهلُ العلمِ أَعلامُ ما أمدح المرءَ، ولم أَدرِ ما ... أسرارُه، واللهُ علاّمُ ما مَسَّ حُرَّ الأصلِ عارٌ، ولو ... علاه أَسْمالٌ وأَهْدامُ كم صارمٍ، محمُله دارسٌ ... وهو حُسامُ الحدّ صَمْصامُ كم وَرِعٍ، حَسَّر أَكمامَه ... للمكر، وَهْوَ الصّادُ واللام وأنشدني له: إذا ما ألَمَّتْ شِدَّة، فاصطبِرْ لها ... فخيرُ سلاحِ المرء في الشِّدَّة الصَّبْرُ وإِنّي لأَستحيي من الله أَنْ أُرَى ... إلى غيره أشكو وإِنْ مَسَّني الضُّرُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 عسى فَرَجٌ به الله. إِنَّه ... له كلَّ يوم في خَلِيقته أمرُ قال: وتوفي رجل من بلده، فكتب على تربته: يا واقفين بنا، ألم تتَيقَّنُوا ... أَنَّ الحِمامَ بكم علينا قادمُ؟ لا تستغرُّوا بالحياة، فإِنَّكم ... تبنونَ، والموتُ المفرِّقُ هادمُ لو تَنزِلونَ بشِعبنا، لَعَرَفْتُمُ ... أَنَّ المفرِّطَ في التَّزَوُّد نادمُ ساوَى الرَّدَى ما بينَنا، فأحَلَّنا ... حيثُ المُخَدَّمُ واحدٌ والخادمُ الأديب أبو المظفر مفلح بن علي بن يحيى بن عباد الأنباري من شعراء الدولة المستنجدية. وقد مدح المقتفي أيضاً، رحمه الله تعالى. ذكر أنه من كلاب، بن ربيعة، بن عامر، بن صعصعة، بن معاوية، بن بكر، بن هوازن. وكان خصيصاً بالوزير عون الدين، بن هبيرة: يصلي به في السفر والحضر، ويتولى له أخذ الزكاة من غنم الخالدية، وهو عامل المنثر، وأكثر شعره فيه. فلما توفي الوزير، ونكب جماعته، رقي عنه أنه نظم شعراً يعرض فيه ببعض الصدور، فأخذ وحبس في حبس الجرائم، وعوقب مراراً، وأخرج ميتاً بعد سنة من حبسه يوم الاثنين ثاني عشر شعبان سنة إحدى وستين وخمس مئة. كان أديباً فصيح اللهجة، مليح العبارة، يتبادى في إنشاده وإيراده، ويسلك أسلوب العرب. ذكر أنه كان معلماً للأدب قبل اختصاصه بالوزير. فمما أنشدنيه لنفسه، من قصيدة يمدح فيها الوزير عون الدين، سمعته ينشد الوزير ثانياً سنة سبع وخمسين وخمس مئة: أثَغْرُكِ ثغرُ الأُقْحُوانةِ، أم دُرّ؟ ُ؟ ... وأَرْيٌ بفِيكِ الباردِ العَذْبِ، أم خمرُ؟ وصبحٌ بدا في جنْح ليلِ ذَوائبٍ، ... أمِ الشَّمسُ من تحت السِّجاف، أمِ البدرُ؟ وماذا الَّذي أدمى صحيفةَ خدِّها؟ ... أَلَحِظْي بها، أم دَبَّ من فوقِها الذَّرُّ؟ وما أثَرٌ فوقَ التَّرائبِ بَيِّنٌ؟ ... أَلِعقد لَمّا جال من فوقها إِثْرُ؟ أَناة من البِيض العِفاف، نِجارُها ... من العُرب يَنْمِيها غَزِيَّةُ أو عَمْروُ إذا الحَضَريّاتُ النَّواعمُ أشرقتبهِنّ وقد مِسْنَ الرُّصافةُ والحَسْرُ، سَنَحْنَ لنا ما بينَ فَيْدَ وحاجِر ... ظِباءَ نَقاً، يُزْهَى بها الضّالُ والسِّدْرُ يَمِسْنَ كأغصان من البان هَزَّها ... نسيمُ الصَّباحِ فَهْيَ مَجّاجةٌ خُضْرُ تقسَّم قلبي ب العُذَيْب وبانِهِ ... كواعبُ، لا نهيٌ عليها ولا أمرُ فلا أجرَ إلا في مُعاناة هَجرها ... ولا وِزْرَ إلاّ في الَّذي ضَمَّت الأزْرَ ومنها: ومَرْت، كظهر التُّرْس، زِيَزْاء مَجْهَل ... تَتِيهُ به، من دَرْس أعلامِها، السَّفْرُ ومنها: وليل، عَطَطْنا ثوبَه بقَلائص ... هِجانٍ، يُنَزِيّها التَّحَلْحُلُ والزَّجْرُ إذا انقضَّ فيه النّجمُ، آنسَ قلبُه ... من الفجر قُرباً، فاستطارَ به الذُّعْرُ أكان له بالفجر أقربُ نسبةٍ ... فصالَ عليه؟ أم له عندَه وِتْرُ؟ فلمّا نَزَلْ نَفْرِي حُشاشةَ قلبِه ... إذا ما خلا قفرٌ يعارضُنا قفرُ إِلى أنْ سمت خيلُ الصَّباحِ، فكشَفت ... أَدانيه عن قُطر، ورِيعَ لها قُطرُ كأنَّ ابيِضاضَ الفجرِ في أُخْرَياته ... مواهبُ يَحْيى، أو خلائقُه الزُّهْرُ فتى، أَنْشَرَ العلياءَ من بعدِ موتِها ... فعادَ لها من بعدِ ما طُوِيت نَشْرُ وجدَّد أيّاماً من العدل أخلقت ... فعادَ لها من بعدِ نسيانها ذِكرُ بطلعته تَثْني الخطوبُ نواكصاً، ... وتستبشرُ الدُّنيا، ويستنزلُ القَطْرُ أغَرُّ، تخالُ البِشرَ في قَسَماته ... وَمِيضَ حُسامٍ راق قي مَتْنه أَثْرُ وأعنقَ في سُبْل العلى وأخافَها ... فمسلكها صعبٌ على غيره وَعْرُ ومنها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 يجودُ بما تَحوِي يداه لوَفْده ... ويطلُبُ منهم أن يُقامَ له العذرُ وما وَفَرت يوماً مَحامدُ سيّدٍ ... من النّاس حتى لا يكونَ له وَفْرُ ومنها: يَزِيدُ على كُثْر الوفودِ سماحةً ... فتىً، عُذرُه قُلٌّ، وأنعُمه كُثْرُ يَبِيتُ، إذا ما نامَ ماليءُ بطنِه، ... أخا هِمَم يَسْري وصَيْقَلُها الفكرُ لإِعمالِ رأيٍ صائبٍ غيرِ فائلٍ ... فيُفْتَحُ فتح، أو يُسَدّ به ثَغْرُ. وإِمّا نَحَتْ أبناءُ فارِسَ أرضَنا ... كتائبَ للهيجاء ضاق بها البَرُّ، رماهم بآسادٍ، مَعاقلُها القَنا، ... وأَغيالُها البِيضُ اليَمانِيَةُ البُتْرُ نَضاهُنَّ بِيضاً، أخلصتها قُيُونها ... صِقالاً، وشِيمت وَهْيَ من عَلَق حُمْرُ إذا ذمَّها قومٌ، لسوء صنيعِها ... بهم، فسِباعُ الوحشِ تَحْمَدُ والنَّسْرُ وكانت طُلوعَ الشّمس بِيضاً وجوهُهم ... فما غَرَبَتْ إلا وأوجُههم صُفْرُ فما انتظمت أشتاتُ عدل تفرَّقت ... إلى أن غدوا قَسْراً ونظمهمُ نثرُ وما ابيضَّ وجهُ الحقّ بعدَ اسوِدادِه ... فأشرق، حتّى احمرَّتِ البِيضُ والسُّمْرُ وما صحَّتِ العلياءُ بعد اعتلالِها ... حَنانَيْكَ حتّى صارَ في الزَّمنِ الكسرُ وما افترَّ ثَغْرُ الدِّين بعدَ بكائه ... إلى أن بكى من وجه أعدائه ثَغْرُ وما مَلأَت أيدي الوفودِ رغائباً ... يمينُك إلا وَهْيَ ممّا حوت صِفرُ أرى البحرَ ذا مَدٍّ وجزرٍ يَشِينُه ... فلِلّهِ بحرٌ لا يكونُ له جَزْرُ فتىً، لو أصاب السَّدَّ صائبُ عَزْمِه ... دَحَاه، فلم يمنَع حديدٌ ولا قِطرُ إذا ما جرى في حَلْبَة الفخر مُعْنِقٌ ... جريتَ الهُوَيْنَى واقفاً ولك الفخرُ فكان لك الباعُ الطَّويلُ إلى العلى ... بأيسرِ ما تسعى، وكان له شِبرُ وأنشدني له من قصيدة فيه: سُقم أجفانِك، والسِّحرُ الَّذي ... صحَّ منها، زادَ شَجْوِي وسَقامي وفُتورُ العين، لمّا نظرت ... عَرَضاً، زادَ فتوراً في عِظامي سارَ قلبي معها إذْ وَدَّعَت ... فعليها وعلى قلبي سلامي ظَلَم الكاعبَ مَنْ قال لها، ... وَهْيَ بَرْدُ العيش: يا بدرَ التَّمامِ كالَّذي قاسَ نَدَى يحيى، وقد ... شَمَلَ الخَلْقَ، بمُنْهَلِّ الغَمامِ ملك. لوا هُداه في الورى ... خَبَط النّاسُ عَشاءً في ظلامِ وأنشدني له قصيدة، نظمها فيه، وأنشده إياها في شوال سنة سبع وخمسين وخمس مئة. وهي: أُخادعُ نفسيَ عن دارها ... وقد عرفتْ بعدَ إِنكارِها مخافةَ ذِكر النَّوَى فَجْأَةً ... فيَبْهَضُها حَمْلُ آصارِها مضى الشَّكُّ، فاعترفي باليقين ... وعينَك سحّي بمِدرارها فقد غلَبت سابقاتُ الدُّموع ... وجاشت غَواربُ تَيّارِها فذَرْها، تَبُحْ بهَناتٍ لها ... وتُبْدِ لهم بعضَ أسرارِها أَأُبْدي التَّجَلُّدَ من بعدِ ما ... رأيتُ مَعالمَ آثارِها؟ وما إِنْ أَرَى إِرَماً ماثلاً ... بها غيرَ موقدِ أحجارِها وأقنَعُ بالعَرْف من بانِها ... وسَوْفٍ، وبالسَّوْف من غارِها وقوليَ: يا سعدُ عَلِّلْ بها، ... وزِدْنيَ من طِيب أخبارِها ومَنْ لي بغفلة حُرّاسِها؟ ... ومَنْ لي بهَجْعَة سُمّارِها؟ إذا ما بدت بينَ أَتْرابِها ... ويَعْقِدْنَ مُنْحَلَّ أَزْرارِها، بدت شمسَ صحوٍ، سَنا نورِها ... رقيبٌ على هتك أَستارِها كأنَّ لَطِيمةَ مِسكٍ، غدت ... تقلّبُها يدُ عَطّارِها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 كأنَّ بِفيها، بُعَيْدَ المنام، ... خَلِيَّةَ شُهْدٍ لمُشتارِها فيا عجبا من قُوَى قلبِها ... ومن ضَعفِ مَعْقِدِ زُنّارِها تَحِلُّ ب فَيْد، وكم للنّوَى ... تقاضي الخطوبَ على ثارِها وجاور أهلك أهل العِراق ... وشَتّانَ دارُك من دارِها تقضَّى الشّبابُ وأَيّامُه ... وقلبي مُعَنّىً بتَذْكارِها وإِنّي لأَرْجو، على نَأْيِها ... وما فاتَ من رَجْع أَسمارِها، أَمُرُّ طليقاً بوادي الحِمى ... وترمُقُ ناري سَنا نارِها. وكم من طروبٍ ب نجد. وما ... جَنَى من جَناها وأشجارِها، ولا شمَّ نفحة جَثْجاثِها، ... ولا راقَه حسنُ أزهارِها، فكيف بمَنْ قد قضَت نفسُه ... بأَرْبُعِها بعضَ أوطارِها؟ وكيف بمَنْ لم يَزَلْ قومُه ... حُماةَ رُباها وأَغوارِها؟ يظُنُّ الهَزار بأرض العِراق ... مُجاوبَ صوتِ خشنشارِها قَمارِي النَّخيلِ وأَطيارُه ... يرنّحُها بَرْدُ أسحارِها كأنَّ البلابلَ شَرْبٌ، حَسَتْ ... دِهاقاً بكاساتِ خَمّارِها إذا لم تكن زينب في زَرُودَ ... فلا سُقِيَتْ صَوْبَ أَقطارِها ولا عَمَرتْ أربُعٌ بالحِمى ... إذا فارقتُ أمُّ عمّارِها. ويَهْماءَ، ليس بها مَعْلَمٌ، ... يَتِيهُ الدَّليلُ بسُفّارِها تجاوزتُها، ومعي فِتيةٌ ... تُراعي النُّجومَ بأَبصارِها، على ناجياتٍ، كمثل القِسِّيِ، ... يباشرُها طول تَسْيارِها تُسابقُ فُرّاطَ كُدْرِيّهِا ... فتحسو بقيَّة أسآرِها تُخالُ، وقد طال إِسآدُنا ... بها سُجَّداً فوقَ أكوارِها، حَنايا، ونحن لها أسهمٌ ... ونجدٌ رَمِيَّةُ أوتارِها فآضت وجوهٌ كمثل الوَذِيلِ، ... تُحاكي الحُلُوكةَ من قارِها فآوت إلى ظِلّ مأوى الضَّرِيكِ ... وحطَّتْ به ثِقْلَ أَوزارِها باب في ذكر محاسن أهل واسط والبصرة وما يتخللها ويجاورهما من البلاد والنواحي واسط أبو الحسن محمد بن علي بن أبي الصقر الشافعي الواسطي كان من شعراء الدولة القائمية والمقتدية والمستظهرية. وكان من شهود واسط وأعيانها. عاش تسعين سنةً، إلا شهوراً. قرأت في الذيل ل ابن الهمذاني: أنه توفي ب واسط يوم الخميس رابع عشر جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وأربع مئة. ومولده ذو الحجة سنة تسع وأربع مئة. وكان الرجل الذي لا يرى مثله في كمال فضله، وبلاغته، وحسن خطه، وجودة شعره. وله أبيات، قالها قبل موته. إن حصل رويها ضاداً معجمة، أو صاداً غير معجمة، لم يستحل معناها. وهي: خليلي الَّذي يُحصي عليَّ محاسني ... فأكرِمْ بذاك الخِلِّ من ماجد مَحْضِ محصِ وإن لامَه في خُلَّتي ذو عداوة ... فأَجْدِرْ به في ذلك الوقتِ أن يُغضِي يَعْصِي يَزيدُ على الأيّام حفظَ مَودَّةٍ ... به أَمِنت، والحمدُ لله، من نقضٍ نقصِ ومن شعره القديم، وهو مما يتغنى به، قوله: وحُرمةِ الوُدِّ مالي عنكمُ عِوَضُ ... لأنَّني ليس لي في غيركم غَرَضُ أشتاقُكم وبوُدّي أن يواصلَني ... لكم خَيالٌ، ولكن لست أغتمضُ وقد شرَطْتُ على قوم صحِبتُهُمُ ... بأنَّ قلبي لكم من دونهم، ورَضُوا ومن حديثي بكم، قالوا: به مرض، ... فقلت: لا زال عنّي ذلك المرضُ وله مما يكتب على فص عقيقٍ أحمر: ما كان قبلَ بكائي، يومَ بَيْنِكمُ، ... فَصِّي عَقيقاً، ولا دمعي استحال دما وإِنَّما من دُموعي الآن حمرتُه ... فانظُرْ إلى لونه والدَّمعِ كيف هُما وله في فص أصفر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 أظُنُّ بفَصّي، حينَ زاد اصفرارُه ... وعوداً لها بالوصل، طال انتظارُهُ وإن تَكُ هذي حاله، فَهْيَ حالتي ... بوعد حبيب عَزَّ منه مَزارُهُ وله في فص أزرق: أبدى الحبيبُ تغيُّراً وتنكُّراً ... من خاتمي وعليه فَصُّ أَزْرَقُ قلت: التَّفاؤلُ منه في تصحيفه ... عَلِيّ لوعدٍ منك، يوماً، أُرْزَقُ وله: عليك بحسن الصَّبْرِ في كلّ ما يَطْرا ... وقِفْ وِقفةَ المظلومِ، وانتظرِ الدَّهْرا وإن لم تنَلْ، في هذه الليلة، المُنَى ... سريعاً، فبِتْها، وانتظرْ ليلةً أُخرى فلو أَنَّ في النَّاس امرَأَيْنِ، تَمَنَّيا ... جميعاً مُنىً، لم تَعْدُ مَنْ أحسن الصَّبرا وله مرثية: كفانيَ إنذاراً وفاةُ قرِيني ... فكيف الّذي في السِّنّ أصبح دُوني؟ فكيف تراني أصحَب الدَّهرَ آمناً ... إذا هو أضحى فيك غيرَ أمينِ؟ وكنت أُناجي اللهَ، جَلَّ جلالُه، ... بأَنْ فيك مكروهَ القضاءِ يَقيني فبلبلتِ الأقدار قلبي، وولَّدت ... وساوسَ، أخشى أن تبلبلَ دِيني وإنَّك لم تبلُغْ من العمر غايةً ... تكون بها في النّائبات مُعيني فليت المَنايا نفَّستْ من خِناقها ... إلى أَمَد، أرجوه فيك، وحِينِ لئن صان منك الدَّمع حالاً تغيَّرَتْ ... ففائضُ دمعي فيك غير مصونِ ويأمُرني بالصَّبر عنك ذوو الحِجا، ... فقلت لهم: من ذا المقالِ دًعُوني فلي لَهْفُ مغصوبٍ، وحَيرةُ مُكْرَهٍ ... وأنفاسُ مكروب، ووَجْدُ حزينِ فلا قلت يوماً للكآبة: أَقْصِري، ... ولا لجُفوني: دمعَ عينِك صُوني وأستذنبُ الأيّامُ فيك جهالةً، ... وكم أهلكتْ من أُمَّة وقرينِ هو الموتُ، لم يَحْفِلْ بصاحبِ معقلٍ ... ولم يخشَ من حِصن عليه حصينِ ولا فاتَه سارٍ، يواصلُ سيرَه ... على ظهر سُرْحُوبٍ ومَتْنِ أَمُونِ وإِن تَكُ هذي الأرضُ غيرَكَ تبتغي ... كريماً، فما ترضَى إذَنْ بدفينِ عليك سلام. كم إليك جوارحٌ ... تَحِنُّ، ولكن ما لها كحنيني هذا ما علقته من كتاب التاريخ ل ابن الهمذاني. وأنشدني الشيخ أبو المجد، الواعظ، الواسطي بها، سلخ رمضان سنة أربع وخمسين وخمس مئة، قال: أنشدني الشيخ أبو الحسن، بن أبي الصقر لنفسه، زعم أنه قصد نظام الملك، فمنعه البواب، فكتب إليه: لِلهِ دَرُّك إِنَّ دارَك جنَّةٌ ... لكِنَّ خلفَ البابِ منها مالكا هذا نظامُ الملك ضدُّ المقتضى ... إذْ كان يَرْوِي عن جَهَنَّمَ ذالِكا أنعِمْ بتيسير الحجاب، فإِنَّني ... لاقيتُ أنواعَ النَّكالِ هُنالِكا مالي أُصادفُ بابَ دارِك جفوةً ... وأنا غنيٌّ، راغبٌ عن مالكا؟ فأذن له نظام الملك، وقال: إذا كنت غنياً عن مالنا، فانكفئ فقال: كلانا شافعي المذهب، وقد جئتك لمذهبك لا لذهبك. وأنشدني له بعض الشهود المشايخ، وهو الصائن، بن الأعلاقي ب واسط، وقد لقيته: بعدَ ثمان وثمانينا ... في مسكني قد صرت مسكينا لا أسمَعُ الصَّوتَ، ولا أُثْبِت الش ... خْصَ، فلا بُلّغِتُ تسعينا ويرحَمُ اللهُ تعالى امْرَءاً ... يسمَعُ قولي، قالَ: آمينا وقد استجيب دعاؤه، حيث توفي - رحمه الله تعالى - قبل أن يتم التسعين. وأنشدني له أيضاً، يعتذر عن ترك القيام لأصدقائه لكبره: علَّة، سُمِيّت ثمانين عاماً، ... منعتني للأصدقاءِ القياما فإِذا عُمِّرُوا تمهَّدَ عذري ... عندَهم بالَّذي ذكرتُ، وقاما وله في العذار: عِذارُ الحبيب على خدّه ... طِرازٌ، وزَيْنُ اللباسِ الطِّرازُ أرَدتُ سلوكاً إلى هجره، ... فسَدَّ طريقي، فما لي مَجازُ وله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 إذا ما مَرَّ يومٌ بعدَ يومٍ، ... ووجهي ماؤُه فيه مَصُونُ، وقُوتي قُرْصَتانِ إلى ثلاث ... بها مِلْحٌ يكونُ ولا يكونُ، وسِرْ بِي آمنِ، وأنا مُعَافىً، ... وليس عَلَيَّ في الدُّنيا دُيونُ، فما أَشكو الزَّمان، فإنْ شكوتُ ال ... زَّمانَ، فإِنّه منّي جُنونُ. وله: أَسُوق نفسي بعصاً في يدي ... تُبصرُ قُدّاميَ، لا خلفي يا رَبِّ. حتّى الشَّيخُ في سَوْقه ... مخالفُ العادةِ والعُرفِ وله في تفاحة حمراء: أَهدى لقلبي قمَرٌ، ... طالَ إليه قَرَمي، تُفّاحةً، أُحيي بها ... قلبي وكفّي وفمي فلستُ أدري، إذْ بدت ... ولونُها كالعَنْدَمِ، مِن نَفَسي تورَّدت؟ ... أم حَمَلَتْ وِزْرَ دمي؟ وله: لا تعجبَنَّ من الزَّما ... نِ، فهكذا قد كانَ يفعَلْ ما راسَ فيه سِفْلَةٌ ... إلا أصارَ الرَّأسَ أسفلْ فانظُرْ إلى النُّظّار في ... هـ آخِراً من بعدِ أوَّلْ مَنْ ليس من أهل الرِّئا ... سة، للرِّئاسة قد تأهَّلْ لا تَغْبِطَنَّ مُقَدَّماً ... تأخيرُهُ أَولى وأَجملْ منْ ليس ذا أهلٍ، فلي ... س على ولايته مُعَوَّلْ كمُؤَمَّرِ النَّيْرُوز، يَن ... ظُرُ بعضَ يوم ثُمَّ يُعْزَلْ وله: واللهِ، لولا بولةٌ ... تُحرِقُني وقتَ السَّحَرْ لمّا علِمتُ أَنَّ لي ... ما بينَ فَخْذَيَّ ذَكَرْ وأخبرني الشيخ كثير بن سماليق إجازةً، قال: أنشدني ابن أبي الصقر لنفسه، ب بغداد: مَنْ قال: لِي جاهٌ، ولي حِشمةٌ، ... ولي قبولٌ عندَ مولانا، ولم يَعُدْ ذاك بنفع على ... صديقه، لا كانَ ما كانا هذان البيتان، أوردهما أبو سعد، السمعاني في المذيل عن كثير، عنه، وأنا لي إجازة من كثير، وسمعت عليه الحديث أيضاً. وذكر ابن السمعاني في المذيل: أنه أنشده عبد السميع العباسي قال: أنشدني ابن أبي الصقر لنفسه: كلُّ أمر، إذا تفكّرت فيه ... وتأمَّلْته، رأيت طريفا كنتُ أَمشي على اثنتينِ قويّاً ... صرتُ أَمشي على ثلاثٍ ضعيفا وله: كلُّ رزقٍ، ترجوه من مرزوقِ، ... يعتريهِ ضربٌ من التَّعويقِ وأنا قائلٌ، وأستغفرُ الل ... هَ، مقالَ المجازِ لا التَّحقيقِ: لست أرضى من فعلِ إبليسَ شيئاً ... غيرَ تركِ السُّجودِ للمخلوقِ وله: أبَداً ما يقاسُ بالكلب إلاّ ال ... بُخَلاءُ الأراذلُ السُّفَهاءُ ومتى قلت: أنت كلبٌ؟ فللكل ... بِ وفاءٌ، وليس فيك وفاءُ وله - وقد دخل على سيف الدولة، صدقة واسطاً في سنة ست وتسعين وأربع مئة، وظفر بأعدائه، منهم القيصري، وعفا عنهم - فقال فيه، ودخل إليه وسنه سبع وثمانون سنة، وأنشده: ظفَّرَ اللهُ بالعُداة الأميرا ... مثلَما ظفَّرَ البشيرَ النَّذيرا يومَ بَدْرٍ، فإِنّه كان يوماً ... قَمْطَريراً على عداه عسيرا أيُّها المنعمُ الّذي واسط تَس ... كُرُ إِنعامَه عليه الكثيرا حين وافيتَها بفِتيانِ صِدقٍ ... لا يولُّونَ في اللقاء الظُّهورا طال للقيصريّ غَمٌّ بعفوٍ ... عنه، لم يرجُهُ، وكان قصيرا ولقد قال ناصحوه ب بَغْدا ... دَ وفيها يأوِي حريماً وسُورا: إنْ أردت الأمانَ من سيفِ سيفِ ال ... دَّوْلةِ اسكَنْ ب الجامِعَيْنِ وسُورا يا بني مَزْيَدٍ، لأِيّامِنا دُم ... تُمْ شموساً، ولليالي بدورا يا بني مَزْيَدٍ غُيوثاً بَقِيتُمْ ... ولُيوثَ الثَّرَى أميراً أميرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وكتب إلى نظام الملك عند وقوع الفتنة ب بغداد، وقصد العامة سوق المدرسة النظامية، وقتل جماعة. وكان السبب في ذلك أن أبا نصر، بن القشيري لما جلس للوعظ في المدرسة النظامية، كثر أتباعه من الأشعرية، وأزرى على غيرهم، وأدت إلى الفتنة من العوام، فنسب نظام الملك ما جرى إلى الوزير فخر الدولة، ابن جهير، في سنة سبعين وأربع مئة: يا نِظامَ المُلك قد خَ ... لَّ ب بغدادَ النِّظامُ وابنُك القاطنُ فيها ... مُستهانٌ مستضامُ وبها أودى له قَب ... لاً غلام وغلامُ والّذي منهم تَبَقَّى ... سالماً، فيه سِهامُ يا قوام الدِّين لم يَب ... قَ ب بغداد مقامُ عظُم الخَطْبُ، وللحر ... ب اتّصالٌ ودوامُ. فمتى لم يَحْسِمِ الّدا ... ءَ بكفَّيْك الحُسامُ، ويكفَّ القوم في بغ ... دادَ فتكٌ وانتقامُ، فعلى مدرسةٍ في ... ها، ومَنْ فيها، السَّلامُ. وكتب إلى الوزير أبي شجاع - رحمه الله - قصيدةً، يمدحه فيها، ويطلب شيئاً من شعره، يقول فيها: يا ماجداً، لو رُمْتُ مدحَ سِواه لم ... أَقْدِر على بيتٍ ولا مِصراعِ أُمْنُنْ عليَّ بشعرك الدُّرِّ الّذي ... شعرُ الرَّضيّ له من الأَتباعِ فأجابه الوزير: لو كنتُ أرضَى ما جمعت شَتِيتَه ... لَضَمِنت معرضه على الأَسماعِ لكنّ شعري شبه شَوْهاءَ اتَّقَتْ ... عيباً لها، فتستّرت بِقناعِ ومن قصيدة له في مدح عميد الدولة، ابن جهير، يطالب برسمه على الديوان، ويعرض ب ابن يعيش: يا مَن نلوذُ الزَّمان بظلّه ... أبداً، ونطرُدُ باسمه إِبليسا رسمي على الدِّيوان حُوشِيَ قدرُه ... أن يُسْتَقَلَّ وأن يكون خسيسا وعليَّ آخُذ شَطره من واسط ... دَيناً، أُؤَدِّي عينه محروسا وإذا شكا الدَّيْنَ الأديبُ، فإِنّه ... لم يَشْكُ إلا حظَّه المنحوسا والكلُّ في بغدادَ آكِلُهُ، وكم ... فرَّغت في بغدادَ كيساً كيسا ولَكم رفَعتُ لأجله من قِصَّة، ... أنفَدْتُ فيها كاغداً ونفوسا وبه توقّعُ لي، وكم مستخدماً ... يَدَهُ لَثَمْتُ، وحاجباً، ورئيسا قد صار إطلاقاً على ابن يعيش، لا ... ذاقَ الرَّدَى حتّى يقرَّ تعيسا فكأنَّما ابنُ يعيشَ صار لأِكله ... مالَ الخليفة مستبيحاً سُوسا وكأنّه، كَدّاً، حمارُ عُزَيْرَ لا، ... وتلقُّفاً للمال، حَيَّةُ موسى فأنا على وَجَل، لأجل إِحالتي، ... لو أَنّها كانت عليه فلوسا صَيِّرْ لك العمّالَ أقلاماً، إذا است ... تخدمتَها، طأطاتَ منها الرُّوسا وأنشدني الشيخ الفقيه العالم هبة الله، بن يحيى، بن الحسن، البوقي، الشافعي ل ابن أبي الصقر، روايةً عنه، كتبه إلى قادم من بغداد: من هدايا بغدادَ في ألف حِلٍّ ... أنت، إلا من باقَتَيْ كِبْريتِ إنَّه عندَ ربَّة البيتِ، ممّا ... ليس منه بُدٌّ، كشُرب الفَتيتِ وأنشدني القاضي يحيى، بن هبة الله، بن فضل الله، بن محمد ب بغداد في الديوان، سنة ستين وخمس مئة، قال: أنشدني والدي القاضي هبة الله قاضي الغراف لخاله أبي الحسن، بن أبي الصقر لما أخذ العكاز بيده عند الكبر: لو حُوِّلَتْ هذي عصايَ، الَّتي ... أحمِلُها في الكفّ، ثُعبانا تَلَقَّفُ الأَعداءَ، مثلَ الَّذي ... في مثلها من قبلُ قد كانا، كرِهتُ حَمْلِيها، ولو أَنَّني ... صرتُ بها موسى بن عِمْرانا وأنشدني له بالإسناد، فيها أيضاً: صرتُ لمّا كِبْرتُ ثُمَّ تعكَّزْ ... تُ، وما بي شيخوخةٌ، من حَراكِ كجِدارٍ واهٍ، أراد انقضاضاً ... فتلافاه أهلُه بسِماكِ وله أيضاً فيها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 مرض، صيّر اسمه الكبراثا ... قد أعاد الرِّجلينِ منّ؟ ي ثلاثا وَهْوَ داء، له دواءٌ: يُسَمَّى ... في الكَنانيش كلِّها القبراثا وبهذا الدُّعاءِ كم قد شفى الل ... هُ مريضاً منه إليه استغاثا وذكر أيضاً القاضي رضي الدين، هبة الله، بن فضل الله، بن محمد، النحاس، وكتبه بخطه، قال: أنشدني خالي أبو الحسن، محمد، بن علي، بن أبي الصقر، قال: كنت إذا ترقيت إلى سن، أعمل أبياتاً. فلما بلغت الستين، قلت: بعدَ سِتّينَ وسِتٍّ ... كلَّما زِدتُ، نَقَصْتُ أيُّ فخرٍ في حياة ... بَعناءِ؟ لَيْتَ مِتُّ ولما بلغ السبعين، قال: إِنَّ ابنَ سبعينَ عاماً ... ما بينَ سَبْعينِ يمشي للصُّبح منه غَداء ... وللعَشاء تَعَشِّي ولما بلغ الثمانين، قال: وقائلةٍ، لما عَمَرْتُ وصارَ لي ... ثمانونَ حَوْلاً: عِشْ كذا وابْقَ واسْلَمِ ودُمْ، وانتشقْ رَوْحَ الحياةِ، فإِنَّه ... لأَطَيبُ من بيتٍ ب صَعْدَةَ مُظلِمِ فما لم تكن كَلاًّ على ابْنٍ وغيرِه ... فلا تَكُ في الدُّنيا كثيرَ التَّبَرُّمِ. فقلتُ لها: عذري لَدَيْكِ مُمَهَّدٌ ... ببيت زُهَيْرٍ، فاعلَمي وتعلَّمي: سئِمتُ تكاليفَ الحياةِ. ومَنْ يَعِشْ ... ثمانينَ حَوْلاً، لا أبالَكَ، يَسْأَمِ وذكر القاضي يحيى عن والده: أنه كتب خاله ابن أبي الصقر إلى والده رقعة، يعرضها على مهذب الدولة، سعيد، بن أبي الجبر على يدي، فيها: يموتُ ولا تدري ويحيا ولا تدري ... مُؤَمِّلُكَ الدّاعي لك ابنُ أبي الصَّقْرِ وما لم تَزُرْ داري، وأنت ب واسِطٍ ... لِتُبْصِرَني مُضْنىً بها، لم تَزُرْ قبري فإِن أنت لم تُصلِحْ أموري ملاحظاً ... فسَلْ للأمير النّافذِ الأمر في أمري وخاطبْ كمال الدِّينِ فيَّ، فإِنَّ في ... يد ابن أبي الجبر السَّعيد أرى جبري قال: فوصله مذهب الدولة بصلة سنيةٍ، وعمره حينئذٍ ست وثمانون سنة. قال: ووجدت بخط خالي من شعره لغزاً، لم يفسره. فكتبت من ذلك ب البصرة إلى الأمير حسام الدولة أبي الغيث سنة تسع وثلاثين وخمس مئة، فكتب جوابها: فمن ذلك قول ابن أبي الصقر: وأيُ شيءٍ طولُه عَرضُه ... أضحى له عندَك مقدارُ؟ دلَّ عليه حسنُ طبعٍ له، ... ففيه للعالم أوطارُ تُمسكه الكفّ، ولا تشتكي ... منه احتراقاً، وبه نارُ وجواب الأمير أبي الغيث البصري، رحمه الله تعالى: يا مَنْ أتانا مُلغِزاً فكرَهُ ... لِلُّغْز يستفتي ويمتارُ أَلْغَزْتَ في الّدينار، فامتَرْ به ... إِنْ كنتَ مَنْ للعلم يمتار ومن ذلك قول ابن أبي الصقر: ما ذو عيونٍ سُودٍ مفتَّحةٍ ... أصمُّ أعمى إذا لَقِي بطلا؟ تَبْيَضُّ تلك العيونُ منه، إذا اس ... تكَدَّهُ مَنْ يسومُه العملا وما قضى منه حاجةً أحدٌ ... إلا ومِن بعد ذلك اغتسلا وبطشُه كلّ؟ ُه بفردِ يَدٍ ... وفردِ رجلٍ، كُفِيتَ كلَّ بَلا وجواب الأمير أبي الغيث: يا مَن أتى مُلْغِزاً ليُعجِزَنا ... وأعملَ الفكرَ منه والحِيَلا وزفَّ من نظم خالهِ طُرفَاً ... لم يلقَ خَلْقٌ لحسنها مثَلا وما درى أَنَّ سحرَ فطنتِه ... إذا رأى نفثَ سورتي بَطَلا عيَّن في لُغْزه على حَجَر الرِّ ... جْل، فأعيا، ولم يَرُزْ بَطَلا وقول ابن أبي الصقر عفا الله عنه: وما شيءٌ له رأسٌ وسنُّ ... وفي أسنانه قَلَحٌ ونَتْنُ؟ وقد كُسِيَ البياضَ، وليس فيما ... يُلابسُهَ دِبيقيٌّ وقُطنُ يُعَرِّيهِ ويَنْظِمهُ لأجلِ الث ... ياب، فمنه تَمَّ لهنَّ حسنُ يُقَلقَلُ منه سنٌّ بعدَ سنٍّ، ... ولا يبكي لذاك، ولا يَئِنُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وما هو عنبرٌ، وبه دَعاهُ ... ذوو فهمٍ كما لَهُمُ يَعِنُّ؟ وجواب أبي الغيث: ألا يا أيُّها الحَبْرُ المُوافِي ... بألغازِ لها في الحسن فَنُّ ظننتَ بأنَّ خالَك ليس يُلْفَى ... له نِدٌّ، وليس كما يُظَنُّ له زمنٌ مضى، ولنا زمانٌ ... وكلٌّ في صِناعته مُرِنٌّ برأس الثُّوم والأسنان منه ... عَنَيْتَ، فخُذْ وقلبُك مطمئنُّ فهاتِ اللُغْزَ ممتحناً، فقلبي ... إلى ما صاغَه منه يَحِنُّ وقوله: ومستعملٍ متساوي العملْ ... يضافُ إلى ما عليه اشتملْ ترى العينُ ما بينَ أعماله ... وما تتفاضل قدراً جَلَلْ إذا ما استقرَّت به بُقعةٌ ... من الأرض، حاصرها وارتحلْ ويأكلُ بالعَشْر والرّاحتينِ ... ويَخْرَى لموضعه ما أكَلْ وجواب الأمير أبي الغيث رحمه الله: أيا مَنْ على حذقِه يَتَّكِلْ ... إذا غامضٌ في العَوِيص اشتكلْ أتيتَ بلُغزٍ عسيرٍ، فما ... يكادُ يَبيِّنُه مَنْ عَقَلْ بقالب لَبْنٍ له قد عني ... تَ. أحسنتَ لمّا ضرَبْتَ المَثَلْ وقوله: ما ذاتُ أَنفاسٍ يصعِّدها، بها ... يبدو ويظهَرُ ما تُجِنّ وتستُرُ؟ معسولة، تُردي النُّفوسَ، ضئيلة ... ممشوقة، بقَوامها مُسْتَهْتَرُ مالت إلى حكم السَّفاهِ، ولم تَمِلْ ... نحوَ البلاغةِ، وَهْيَ لا تتصوَّرُ تبدي، بحال تأمُّلٍ في نفسها، ... عيناً تغمِّضُها، وأُخرى تُبصرُ وجواب أبي الغيث: يا مَن غدا بذكائه ملِكاً على ... أدباء أهلِ زمانِه يتبختَرُ وإذا رآه المُلغزونَ، بدا له ... كبراؤهم، فاستعظموه وقصَّروا للزَّرْ بَطانةِ قد عنيتَ، وإِنَّها ... لَغريبةٌ، معروفةٌ لا تُنكَرُ كم من يدٍ طَلَّتْ، وكم رأسٍ رمتْ ... بيد السَّفيهِ، وكم جَناحٍ تَكْسِرُ ولقد أجَدْتَ لها القَريضَ، وأعجزت ... فيها صفاتُك كلَّ حَبْرٍ يشعُرُ وقوله: ما ذاتُ رأسٍ وفمٍ واسعٍ ... بغير أَضراسٍ وأسنانِ؟ لا تلقُطُ الحَبَّ، ومِنقارُها ... أطولُ من مِنقارِ حَصّانيّ كأنَّها الهُدهُدُ، مِنقارُها ... فيه كتابٌ من سَلَيْمانِ ترضَعُ كالطّفل، ولو أَنّها ... مضى لها عُمرٌ وعُمرانِ لا تكتُمُ السِّرَّ، وسِرُّ الَّذي ... يُودعُها السِّرَّ كإِعلانِ والجواب عنه ل أبي الغيث: قَريضُك المهدى لنا لُغْزُهُ ... لم يَخْلُ من حسن وإحسانِ لو رامَ حَسّانُ جواباً له، ... قَصَّرَ عنه نظم حَسّانِ عَنَيْتَ فيه غيرَ مستشعِرٍأَنْ يعتريها فهمُ إِنسانِ مِحْجَمَةً، تُرْضِعُ حَجّامَها ... بالمَصّ شَخْباً من دمٍ قانِ وقوله: وما نائمٌ مُلْقىً، إذا ما أقمتَه ... بَلَلْتَ بأطراف الأصابع راسَهُ؟ يَصُبُّ، إذا استعملتَه، فضلَ مائِه ... ويعتادُ من بعد الفَراغِ نُعاسَهُ يحبُّ، إذا ما كان صُلْباً مدوَّراً ... طويلاً غليظاً، مِلكَه والْتِماسَهُ ويُمسي ويُضحي في الأنام مسوَّداً ... نرجِّي نَداهُ، أو نُخَوَّفُ باسَهُ وجواب أبي الغيث: لقد جئتَنا، يا مَنْ أجاد قياسَهُ، ... فخافَ ذَوُو الآداب في اللُغْز باسَهُ يُقِرّ؟ ُ له الرُّمْحُ الأَصَمُّ إذا جرى ... على الطِّرْس حتّى لا تُطيقُ مِراسَهُ وقوله: ومحبوس لضرب بعدَ ضرب ... تكرَّرَ منه، راعَ به القلوبا إذا أحرجتَه بعدَ احتياط ... عليه باليمين ترى عجيبا ترى فعلاً، يشُدُّ عليه منه ... حَنيفٌ مسلمٌ وَرِعٌ، صليبا وجواب الأمير أبي الغيث على غير وزنه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 أيا مَنْ إذا اللُغْزُ كان السَّقا ... مَ، أضحى له بذكاءٍ طبيبا عنيتَ بمحبوسك المِبْضَعَ ال ... ذي يَفْصِدُ العِرقَ لفظاً غريبا وذاك الصَّليب الَّذي قد عَنَيْ ... تَ، شَدُّ العصابة، فاخْشَ المجيبا وقوله: وشيء له بطنٌ ورأسٌ ومَخْرَجٌ ... ووجهٌ، تراه العينُ أبيضَ أحمرا يُحَلَّى ببِيضٍ كالدَّراهم، وجهُهُ ... فيجعَلُها مثلَ الدّ؟ َنانيرِ أصفرا وجوابه: أيا مُلغزاً في نظمه أعجزَ الورى ... وأخجلَ مَنْ جاراه في الفضل إذْ جرى تأمّلت في التَّنُّور والخبز فِضّة ... أتيتَ بها، ما البدر أبْهَى وأنورا ومن ذلك قوله: وأُنثى لها ذَكَرٌ، قَلَّما ... تغافلَ عن وطئها أو وَنَى وليس يُحَدُّ، إذا ما علا ... عليها وجهراً بها قد زَنى ومنه ومن غيره، بالذُّكو ... رِ قد صَيَّرَتْ حَمْلَها دَيْدَنا ومن شأنها أَنَّها قد تُضافُ ... وما دخَلت لاِمْرِئٍ مسكنا وليس يحرّكُها باليَدَيْنِ ... أشد؟ ُّ الرِّجالِ، وفيها منَى وجواب الأمير أبي الغيث عنه: أيا مَنْ أتى مُلغزاً بالعَوِيصِ ... وأخفى بقدرته ما عنى ولم يَدْرِ أَنَّ ضميري، متى ... يُسِرُّ امْرُؤٌ غامضاً، أعلنا عنيتَ منارةَ بيتِ الإِلهِ ... ومَنْ كان رأسها أذَّنا فخُذْها، وهاتِ العَوِيصَ الخَفِيَّ ... تَجِدْه لأفكارنا مُذْعِنا ومن ذلك، قول ابن أبي الصقر: وما شيءٌ، بفَلْس تشتريه ال ... كِرامُ أُولو المروءة، والشِّحاحُ؟ وفي باب الخليفة كلَّ وقتٍ ... تراه، وما له عِللٌ تُزاحُ وسائرُ جسمِه، ذَنَبٌ ورأسٌ ... وهذا وصفُه المَحْضُ الصُّراحُ وجواب أبي الغيث عنه: أيا جبلاً، لأهل العلم أضحى ... منيعاً، لا تزعزعُهُ الرِّياحُ أتيتَ بمعجِز، فلِقيتَ طَبّاً ... لَدَيْه الجِدُّ يحسُنُ والمُزاحُ يطير إلى الغوامض بافتكار ... له في كلّ ناحيةٍ جَناحُ عنيتَ بلُغْزك المِسمارَ، فاعلم ... وهاتِ المشكلاتِ، ولا بَراحُ وقوله: وما خِلٌّ يخونُ، ولم تخُنْهُ، ... يكلِّفُك الهَوانَ، ولم تُهِنْهُ؟ ذكيٌّ، هَمُّه الإِصغاءُ، حتّى ... يقومَ ببعض ما تبغيهِ منهُ يَسُرُّكَ أَنْ يغيبَ فلا تراه ... ويسألُ عنك حين تغيبُ عنهُ وجوابه: لقد أودعتَ منك الشِّعرَ لُغْزاً ... عجيباً، لَمْ تُذِلْهُ، ولم تُهِنْهُ وخِلُّك ذَبْذَبٌ، للبول منه ... خروجٌ والْمَنِيّ ولا يشنهُ إذا كان الأديبُ به عفيفاً، ... بخوف الله يَخْطِمُه، فكُنْهُ الرئيس أبو الجوائز بن بازي واسمه: هبة الله، بن بازي، بن حمزة، الواسطي. من شعراء الدولة القائمية. وأوردته، لكوني لقيت من روى عنه، وذكر لي أنه الشيخ الحافظ محمد، بن ناصر، رحمه الله، كان روى من شعره، ولي عن الشيخ محمد، بن ناصر إجازة. وقرأت من تاريخ ابن الهمذاني أنه توفي سنة ستين وأربع مئة. وله شعر مستحسن جيد، ونظم رائق رائع، بديع الصنعة، مليح العبارة، سهل الكلام ممتنعه، حلو المنطق مستعذبه. فمن ذلك، ما أنشدني أبو المعالي الكتبي قال: أنشدني له ابن أفلح: برى جسدي طول الضَّنَى، وأذابني ... صدودُك، حتّى صرت أمحلَ من أمسِ فلست أُرَى حتَّى أَراك، وإنّما ... يَبِينُ هَباءُ الذَّرّ في أَلَق الشَّمسِ وله في غلام، اسمه راح: بنفسي أفتدي ممّا ... يحاذرُ مالكي راحا: اسمه غزالاً، زَفَّ لي عَذْرا ... ءَ، صيَّرَ خِدْرَها راحا: الرّاحة شَمُولاً، ما غدتْ إلا ... رأينا الهَمَّ قد راحا: من الرَّواح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وما سكَنت حَشا سالٍ ... وإلا اشتاق أو راحا: من الارتياح لها ريح إذا بُزِلَتْ ... كعَرْف المسكِ إذْ راحا: من الرّيح إذا ما جَنَّ ليلٌ من ... هموم، فاقتبِسْ راحا: خمرة وله في غلام ألثغ: لِشقْوَتي بِتُّ مُسْتَهاماً ... بفاتر المُقْلَتَيْنِ لاثِغْ باكَرَني زائراً، ونادَى: ... ها أنا ذا قد أتيتُ زايغْ أي: زائر وهي لغة أهل بغداد. قلت له: قد صدقت، كرهاً ... فارفُقْ بقلبي، ولا تبالغْ يا مَنْ إذا سِرُّه صفا لي ... أصبحَ من لفظه مُراوِغْ وله في سوداء: سوداء، تَحكي المسكَ في ... إحراقِهِ ومثالِهِ لمّا رنتْ وتعطَّفتْ ... للمُسْتَهام الوالِهِ، رأت الظَّلامَ أبَرَّ من ... رَأْدِ الضُّحى بوصالِهِ فتلفَّعَتْ بأَدِيمه ... وتلثَّمتْ بهِلالهِ وله في غلام أصفر: وظبي أصفر، تُدْمِي ... لحاظُ محِبّه بَدَنَهْ تخالُ الَثّمَ في خَدَّيْ ... هِ ياقوتاً على بَدَنَهْ وله من التجنيس المطبوع المصنوع: أَرْدَتِ الصَّبرَ غادةٌ، وَجْنتاها ... لي وَرْدٌ، وثغرُها لي وِرْدُ كالقَضيب الرَّطيب حينَ تَصَدَّى ... والقضيبِ الرَّطيبِ حينَ تَصُدُّ تتجنَّى إذا جَنَتْ، وتَعَدَّى ... ثمَّ تنسى ذنوبَها وتَعُدُّ ذلَّ قلبي، وقلَّ صحبيَ، إِنْ لم ... يُمْسِ سهمي وَهْوَ الأسدُّ الأشَدُّ ليس يَحْظَى بصحبتي ووفائي ... من رِفاقي إلاّ المُغِذُّ المُعِدُّ ونجيبٌ، كأنَّه في ظهور الن ... جْب، من شدّة التوقُّد وَقْدُ وله: يا خليلاً صفا، ويا سيّداً أَص ... فَى، فأضحى به صفائي مَنُوطا وأرانا ابن مُقْلَة حائرَ المُق ... لَة غُفْلاً، وخَطَّهُ تخطيطا وله: بدرٌ، هواه مضلِّلٌ رائي. ... يدنو، ولكنْ وِصالُه ناءِ تفاوت في صفاته بِدَعٌ ... قد فتنتْ في رِضاه أهوائي لفظٌ وقلبٌ كالصَّخر، ضَمَّهما ... رِيقٌ وصدرٌ في رِقَّة الماءِ يُرِيك ناراً قد أُودِعت بَرَداً ... وشمسَ دَجْنٍ خِلالَ ظَلْماءِ وله: عَذيرِيَ من مالكٍ جائرٍ ... كثيرِ التَّفَنُّن في ظلمِهِ وداوِ محبّاً، ثَناهُ ضَناهُ ... إلى أن غدا جشمُه كاسمهِ فقال: أَرُوه طبيباً، عَسَى ... يرى النَّفْعَ فيه وفي علمهِ. فلو كنت بالطِّبّ ذا خِبرة ... لَدارَيْتُ طَرْفيَ من سُقمهِ وله: أذكت مِياهُ الصِّبا في خدّه نارا ... تَهْدي إلى وصله من ضَلَّ أو جارا ظبيٌ، تسافرُ في أردافه مُقَلٌ، ... أقلُّ أجفانِها تَكفيه زُنّارا وله: أقول، وجَرْسُ الحَلْيِ يمنَعُ وصلَها ... وقد عاد ذاك القُربُ وَهْوَ بِعادُ: هَبِي كلَّ نطقٍ يَغارُ عليكُمُ، ... فكيف يَغارُ الحَلْيُ وَهْوَ جَمادُ؟ وله من قصيدة: خَضَّبْنَ بالشَّفَقِ الأظافِرْ ... ومَشَطْنَ بالغَسَقِ الغَدائِرْ وتأوَّدتْ أغصانُهُ ... نَّ، فأغضتِ القُضُب النواظِرْ سِرب المَهاةِ العامريّ ... ة بينَ يَبْرِينٍ وحاجِرْ سودُ القُرونِ من النِّطا ... ح بها لحبّاتِ الضَّمائِرْ وضعائف يملِكن بال ... أَبصار أربابَ البصائرْ بِيض، شَهَرْنَ البِيضَ من ... أَجفانِ أَجفانٍ فَواتِرْ عَجَباً لجارية تَج ... رُّ على قبائلنا الجرائِرْ زانت يمينَ الحسنِ من ... أَلحاظها بأَغَرَّ باتِرْ ومثقَّف من قَدّها ... قد نَصَّلُوه بالنَّواظِرْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 واهاً أذكُرها، ولم ... أَكُ ناسياً، فأكونَ ذاكِرْ أَبَداً تشّخِصها الوسا ... وِسُ لي، وتُشْخِصها الخواطِرْ فأظَلُّ حاضرَ لذّةٍ ... وإِذا سُئِلْتُ، فغير حاضِرْ وله: لا هَجَعتْ أجفانُ أجفانا ... ولا رَقا إِنْسانُ أَنْسانا يا جافياً، يزعُم أَنّي له ... جافٍ، أَما تذكُرُ ما كانا؟ واللهِ ما أظهرتُ غدراً، كما ... قلتَ، ولا أضمرتُ سُلْوانا لكن وَشَى الواشونَ ما بينَنا ... فغيَّرُوا ألوانَ أَلْوانا وله: إِنّي لَتُعجبُني الفتاةُ إذا رأت ... أّنَّ المروءةَ في الهوى سلطانُ لا كالتَّي وَصَلت، وأكبرُ هِمّها ... في خِدرها النُّقصانُ والرُّجحانُ فكذاك شمسُ الدَّجْنِ، في اَبراجها ... تعلو، وبُرْجُ هبوطِها المِيزانُ وله في غلام هندي: أيحسَبُ أَنَّني ناجِ ... وبدرُ الهندِ لي شاجِ؟ بشَعرٍ آبِنُوِسيٍّ ... له، ومُقَبَّلٍ عاجي يُريك، إذا بدا، شمسَ ال ... ضُّحَى في الحِنْدِسِ الدّاجي كأنَّ القَرْصَ في خَدَّيْ ... هِ ياقوتٌ على تاجِ وله في غلام معذر: يا عاذلَ العاشقِ في حُبّ مَنْ ... عِذارُه يَعِذرُه في المِقَهْ إن كان قِدْماً فِضَّةً ... فقد غدا كالفِضَّة المُحْرَقَهْ أو كان غصناً أجردَ اللمس، مِن ... قبلُ، فسُبْحانَ الَّذي أَوْرَقَهْ وله في الأصداغ: ما زِلتُ أحسَبُ أَنَّ وجهَك مُشْبِهٌ ... يا فاترَ اللَحَظاتِ، بدرَ الغَيْهَبِ حتّى بدا، وعقاربُ الأصداغِ قد ... أذكت شعاعَ جمالِه المتلهِّبِ فعلِمت أَنَّ البدرَ يقصُرُ دُونَه ... لمّا وَجَدْتُ هبوطَه في العَقْرَبِ الشيخ أبو العز القلانسي المقرئ واسمه: محمد، بن الحسين، بن بندار. من أهل سط. هو الذي تفرد في زمانه بالقراءات العالية. ورحل الناس إليه من الأقطار. وقد لقيت ب واسط من مشايخ القراء من قرأ عليه. وكان مولده سنة ست وثلاثين وأربع مئة، وتوفي سنة إحدى وعشرين وخمس مئة. ولي إجازة من مشايخ، رووا عنه. وأورده السمعاني في المذيل، مسنداً إليه، مدح الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين: إِنَّ مَنْ لم يقدِّمِ الصِّدِّيقا ... لم يكن لي، حتَّى يموتَ، صَدِيقا والَّذي لا يقول قوليَ في الفا ... رُوق، أَنْوِي لشخصِه تفريقا ولِنار الجحيم باغِضُ ذي النُّو ... رَيْنِ يَهْوِي منها مكاناً سَحيقا مَنْ يوالي عندي عَلِيّاً، وعادَى ال ... قومَ طُرّاً، عَدَدْتُهُ زِنْدِيقا العدل أبو علي بن بختيار الواسطي وقيل: أبو السعادات، علي، بن بختيار، بن علي. قرأت في كتابه: أنه قدم بغداد سنة ثمان وخمس مئة. وكان شاعراً، كاتباً، له معرفة بالأدب، رقيق الطبع، حسن النظم. كان من المعدلين ب واسط. أنشدني المؤدب أبو سعيد، بن سالم بها، في شهر رمضان سنة خمس وستين وخمس مئة، قال: أنشدني القاضي العدل أبو علي، بن بختيار لنفسه في البرغوث والبق، وقد اقترح عليه بمحضر من الفضلاء: ولمّا انتحى البُرْغُوثُ والبَقُّ مَضْجَعي ... ولم يَكُ من أيدهِما ليَ مَخْلَصُ، زَفَنْتُ بكفّي، إِذْ مُدامُهما دمي، ... فزمَّرَ هذا، وابتدا ذاك يرقُصُ وكان قد أنشدني هذين البيتين القاضي عبد المنعم، بن مقبل، الواسطي، روايةً عن ابن أسلم، عنه. وذلك حين أنشدته أبياتاً لي عملتها في البق والبرغوث ارتجالاً، ليلة بت فيها ب نهر دقلى، وكنت قد فارقت أصفهان على طريق عسكر مكرم والحويزة، إلى واسط، عيد النحر الواقع في سنة تسع وأربعين وخمس مئة: يا لَحى اللهُ ليلةً قرَصَتْني ... في دياجيرِها البراغيثُ قَرْصا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 شرِبت بَقُّها دمي فتغنَّت ... وبراغيثُها تَواجَدْنَ رَقْصا قد تعرَّيْتُ من ثيابي لكربي ... غيرَ أَنّي لبِست منهنَّ قُمصْا كلَّما ازددت منعَهُنَّ بحرص ... عن فِراشي، شَرِهْن فازْدَدْنَ حِرْصا من براغيثَ، خِلْتُها طافراتٍ ... طائراتٍ، جَناحُها قد حُصّا عرَضَتْ جيشَها الفريقان حولي ... وَهْيَ أوفَى من أَنْ تُعَدَّ وتُحصى لو غزا سنجرٌ بها الغزَّ يوماً ... لم يَدَعْ منهمُ على الأرض شخصا وكنت أظن أن المعنى لم أسبق إليه، حتى أنشدني البيتين اللذين سبقا للعدل أبي علي، فأقررت له بالفضل. وأنشدني الشيخ الأفضل أبو الفضل، عبد الرحيم، بن الأخوة قال: أنشدني أبو السعادات، علي، بن بختيار، الواسطي، رحمه الله، لنفسه: لم يَتَعالَ المرءُ إلا نَزَلْ ... ولا تَناهَى المرءُ إلا اضمحلْ وكلُّ شيءِ يقتضي ضدَّه ... فانتظِرِ العطلةَ بعد العملْ وأنتِ، يا زُهْرَةُ لا تَبْذُخِي ... فبعدَ بُرج الحُوتِ يأتي الحَملْ وذلك أن المنجمين يزعمون أن شرف الزهرة في سبع وعشرين درجةً من الحوت، ووبالها في الحمل. وأنشدني أيضاً عبد الرحيم، بن الأخوة قال: أنشدني علي، بن بختيار لنفسه: لا تَلُمْني على تألُّم قلبي ... لِنَوَى مَنْ إليه قلبي يَحِنُّ فالحَنايا، وما لَها من نفوس، ... هي من فُرْقة السِّهام تُرِنُّ وأنشدني أيضاً عبد الرحيم، بن الأخوة قال: أنشدني علي، بن بختيار لنفسه: لا تَغْترِرْ بوِداد مَنْ ... لك وُدُّه أهلاً وسهلا يلقاك منه بُكلِّهِ ... ملقىً، ويمنَعُك الأَقَلاَ عبد السيد بن جكر الواسطي رحمه الله تعالى. كان أنشدني له ب أصفهان صديقي وأخي فخر الدين، أبو المعالي، بن القسام، وذكر أنه أنشده عبد الخالق، بن أسد، بن ثابت، الدمشقي ل عبد السيد الواسطي، رحمه الله تعالى: لو كان أمري إليَّ أو بيدي ... أعددتُ لي قبلَ بَيْنِك العُدَدا طَرفُك يَرْمي قلبي بأسهمه ... فما لِخَدَّيْك تلبَس الزَّرَدا؟ ريقتُك الشُّهْدُ، والدَّليلُ على ... ذلك نملٌ بخدِّهِ صَعِدا وكنت أسأل - لما جئت بغداد - عنه، فما يعرفه أحد، حتى أنشدني بعض النصارى العطارين ب بغداد يقال له ابن تومه، وكنت جالساً بباب دكانه، وذكر أنه كان شيخاً إسكافاً ب بغداد من واسط: قُمْ، نَصرِفِ الهمَّ بالصَّبُوحِ ... مَعْ كلِّ مستحسَنٍ مليحِ ظبيٍ من التُّرْك ذي معانٍ ... وِصالُه مَرْهَمُ الجروحِ أَشْرَبُها من يَدَيْهِ صِرْفاً ... كأنّها من دمِ الذَّبيحِ اعتُصرتْ قلَ عصرِ شِيثٍ ... وغُيِبّت قبلَ قومِ نُوحِ فبدّلتْها يهودُ موسى ... وصانَها أُمَّةُ المَسِيحِ ابنة كَرْمٍ، على كريم ... زِفافُها، لا على شَحيحِ وسألت عنه، في سنة خمس وخمسين وخمس مئة، ب واسط، فذكر لي أبو سعيد، المؤدب: أنه كان شيخاً حلاوياً، فترك الحلاوة، واشتغل بالشعر والتطايب. وكان خفيفاً على القلوب، مطبوعاً. وقرب من الأمير فاتن. وله مذ توفي أربع أو خمس سنين. وحكى لي بعضهم: أنه دخل على الأمير شمس الدين، فاتن يوم عيد، فقال: أَما في الجماعة من يَنْتَبِهْ ... يهنّي بك العيدَ، لا أنت بِهْ؟ وإن وقَعت شُبهة في الهلال ... فأنت على العين لا تشتَبِهْ وأظن أنه ذكر عن غيره: أنه أنشد في الأمير شمس الدين، فاتن هذين البيتين. ابن دواس القنا شهاب الأمراء علي بن محمد العنبري أبو الحسن توفي في آخر الأيام المسترشدية. أصله من البصرة، وسكن واسطاً. وله شعر كثير، متين. ولم يكن ب واسط من يجري مجراه في نظم الشعر. لم يمتع بفضله، ولا أسعف بأمله، واخترمته قبل الاكتهال يد أجله. أنشدني له ب واسط القاضي عبد المنعم، بن مقبل من قصيدة مشهورة له، يغنى بها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 هل أنتِ مُنجزةٌ بالوصل ميعادي؟ ... أم أنت مُشمِتةٌ بالهَجر حُسّادي؟ سألت طيفَكِ إِلماماً، فضَنَّ به، ... ولو أَلَمَّ، لأَرْوَى غُلَّةَ الصّادي يا ظبيةَ الحيّ، ما جِيدي بمنعطف ... إلى سِواكِ، ولا حبلي بمنقادِ لولا هواكِ، لمَا اسْتَلْمَعْتُ بارقةً ... ولا سألتُ حمام الدَّوْحِ إِسعادي ولا وقَفْتُ على الوادي أَسائلُه ... بالدَّمع، إلا رثَى لي ذلك الوادي رحَلْتُمُ، وفؤادي في رِحالكمُ ... موزَّعٌ بينَ اِتهام وإِنجادِ واللهِ، لو لم تَصيدوا يومَ كاظمةٍ ... قلبي، لَما عَلِقْتني كفُّ مُصطادِ إن تأسروا، فذَوُو عزٍّ ومقدرةٍ ... أو تُطلِقوا، فذَوُو مَنٍّ وإِرفادِ لا تُوهِنُوا زجرةَ الحادي بِعيسِكمُ ... فما الفجيعةُ إلا زجرةُ الحادي إذا سمَحْتُم بتقريبي، ولم تَصِلُوا ... حبلي، فسِيّانِ تقريبي وإبعادي وله: فاق الكرامَ، وأعطى غيرَ مكترثٍبالمال إِعطاءَ لا وانٍ، ولا بَرِمِ تكَّرمُوا، وهمى معروفُه كرماً، ... وما التكَرُّمُ في الإنسان كالكرمِ سمتْ به ذُرا العلياء همَّتُهُ ... والمجدُ أرفعُه ما شِيدَ بالهِمَمِ إذا الصِّفاحُ نَبَتْ عن قطعِ نائبةٍ ... سطا فقلَّمَ ظُفرَ الخَطْب بالقلمِ وله: ببابك يُغْلَقُ بابُ الرَّجاءِ ... وينكسرُ البالُ أَيَّ انكسارِ حجابٌ يَعُطُّ حجابَ القلوبِ ... وسِترٌ يمّزِق سِتْرَ اصطباري ولده أحمد بن علي بن دواس القنا لقيته ب واسط. وله، أيضاً، شعر صالح حسن. وسمعته كثيراً ينشد قصائده في الأكابر. وما اتفق لي إثبات شيء من شعره، لوثوقي بالزمان وامتداده، وأني ب واسط، ولا يفوت ذلك؛ ولم أدر أن الليالي في قصد المرء وتعويق مراده. وهو، إلى الآن - وهو سنة تسع وخمسين وخمس مئة - حي ب الكوفة. وسمعت له هذين البيتين في الخمر: أَدِرْ عليَّ مُداماً، كلَّما مُزِجت ... صاغ المِزاجُ لها تاجاً من الشُّهُبِ حمراءَ، بي شَغَفٌ منها؛ لأِنَّ لها ... رُوحاً من الطِّيب في جسم من الذَّهَبِ شمس الرؤساء أبو الفرج بن الدهان الواسطي مهياري النظم رقيقه، جليل المعنى دقيقه. لما انحدرت، في سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة، إلى معاملة ديوانيات واسط، كان حياً، وتوفي بعد ذلك بسنيات. وأنشدت له من قصيدة، يغنى بها: عادَ عيدُ الهوى بقلبي، فأبدى ... زَفَراتٍ، تُعْيي الحليمَ الجَلْدا ما يُريدُ الهوى؟ كأنَّ له عن ... دَ فؤادي المَشُومِ ثأراً وحِقدا أحمَدُ الصَّدَّ بالوِصال، ولولا ... لَذَّةُ الوصلِ ما حَمِدْتُ الصَّدّا يا طليقَ الفؤاد، حاجة مَأْسُو ... رٍ أبَى من وَثاقه أن يفَدَّى أينَ أيّامُنا ب سَلْعٍ؟ أعاد ال ... لّهُ أيّامَنا ب سَلْعٍ ورَدّا يا لَها نفحةً ب ذي البانِ يَزْدا ... دُ فؤادي لِبَرْدِها الدَّهْرَ وَقْدا وليالٍ بجوٍّ ضارِجَ صَيَّرْ ... نَ لحُزني أيّاميَ البِيضَ رُبْدا لا عدا الغيثُ من تِهامةَ رَبْعاً ... هامَ قلبي به غراماً ووَجْدا أتمنّى نجداً، ومن أينَ تُعطي ... ني الليالي بأرض نعمانَ نجدا؟ حَبَّذا رفقتي بوادي الأُثَيْلا ... تِ، وأظعانُهم مع الليل تُحْدَى ومُناخاً ب الأَبْرَقَيْنِ توَسَّدْ ... تُ بحَرّاتِه، فأحْسَسْتُ بَرْدا وثرى، نالتِ المَناسمُ، عَفَّرْ ... تُ عليه في ساعة البَيْن خدّا وكأنّا لمّا عَقَدْنا يميناً، ورَهَنّا رهائناً لن تُرَدّا كان رهني قلبي لَدَيْهِم على الوُدّ مقيماً، ورهنُهم طيفَ سُعْدَى يا لُوَاتي دَيْنَ الغرامِ، أَما آ ... نَ لِدَيْني عليكمُ أن يُؤَدَّى؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 يا ظِباءَ الصَّرِيمِ، لي فيكِ ظبيٌ ... صادَ قلبي يومَ الغَميِم وصَدّا لم أكُن عالماً، ب وَجْرَةَ يوماً، ... أَنَّ غِزلانَها يَصِدْنَ الأُسدا أخلقتْ جِدَّتي صُروفُ الليالي ... وأَرتني هَزْلَ المُلِمّات جِدّا مَلأَتْني يدُ الخطوب كُلُوماً ... أَنْ رأتني لصَرْفها مستعدّا رُبَّ ليلٍ، نَضَوْتُ فيه، وأنضي ... تُ به في الفَلاة سيراً وسُهْدا والدُّجَى روضةٌ، إِذِ الزُّهْرُ ظَلَّتْ ... زَهَراً في مُتونها ممتدّا وكأنَّ البدرَ المنيرَ كمالُ ال ... دِّينِ إذْ لاح وجهُه وتبَدَّى ملَكَ الأحسنَيْنِ: خَلْقاً وخُلْقاً، ... ورقا الأكرمينِ: جَدّاً ومَجْدا الرئيس أبو الفرج العلاء، بن علي، بن محمد، بن علي، بن أحمد، بن عبد الله، بن السوادي، الواسطي. للعلاء بن السوادي في الفضل والسؤدد العلاء، ولنفائس أعلاق شعره في سوق الأدب النفاق والغلاء. من بيت الكتابة، ومن غاب الرئاسة. شعره مقصور على هوى قلبه، ومذهب حبه. غنيٌّ بنفسه عن مدح ذوي الغنى للاجتداء، منقبض عن لقائهم طلباً للراحة والارتواء، مستوحش بالفضل مستأنس، بكر شعره في خدر عزة نفسه عانس. لم أسمع له مدحاً، إلا أن يكون في صديق له صدوق، أو شقيق له شفيق. هجوه موجع مؤلم، فهو ممن يجفوه بالثلب منتقم. لا يغضي على قذى، ولا يصبر على أذى. بيني وبينه في النظم والنثر مداعبات ومكاتبات، وما حضرت ب واسط إلا وجدته سابقاً إلى الزيارة، شائقاً بحسن العبارة، ولطيف الاستعارة. فهو في سن المشيب، شاب التشبب. فشيبٌ ثوب طربه، وإن أخلق برد عمره. وطريٌّ غصن وطره، وإن ذوى عوده لكبره. أمضى حداً من شبا سنان طرير، وأبهر بهاءً من بدرٍ ضياؤه منير. إن شاب شعره فشعره شابٌّ، وإن كهم حده فخاطره في القريض قرضاب. مغرىً بالحسان مغرم، يظن أنه متيم. ذكر لي في سنة ستين وخمس مئة: أن مولده في ربيع الآخر سنة اثنتين وثمانين وأربع مئة. أنشدني لنفسه ب واسط، في أوائل محرم سنة خمس وخمسين وخمس مئة، في الزهد ومدح أهل البيت، عليهم السلام، على مذهب التشيع: ما بقِي لي عذرٌ إلى الله فيما ... كان منّي ومنه في دُنْيائي عمَّ إحسانُه، وأمعنتُ في التَّقْ ... صير في شكره على النَّعْماء فبذاك الإحسانِ أرجو مع التَّقْ ... صير منّي النَّجاةَ في أُخْرائي هو عفوٌ، والعفوُ عن ذنب مثلي ... عندَهُ مثلُ ذَرَّة في هَباءِ وشفيعي مُحَمَّدٌ وعليٌّ ... والشّهيدانِ لي مع الزَّهْراءِ أهلُ بيتٍ، ما خاب فيهم رجاءٌ ... وكذا لا يَخِيبُ فيهِمْ رَجائي وأنشدني أيضاً ب العراق لنفسه: يا مَنْ أُباثِثُهُ شُجوني ... يَكْفيك جمعُ الشَّمْل دُوني لا زِل، ممّا غالَ قل ... بي البينُ، في دَعَة ولِينِ أنا للبِعاد، خُلقتُ عن ... سَكَنٍ أَلِفْتُ وعن خَديِنِ في كلّ يوم، للفِرا ... قِ علَيَّ دَيْنٌ يَقْتَضيني فأنا الطَّريدُ عن المُصا ... حِب والمُناسِب والقَرِينِ ولو استَنَمْتُ إلى يَمي ... ني، لم تُصاحبني يَميِني وَيْحَ الليالي كم تُنَقِّ ... صُ قيمةَ العِلْق الثَّميِنِ وإلامَ يُرْدِفُني زما ... ني غاربَ الحظّ الحَرُونِ؟ وإلى متى دهري بصب ... ري في النَّوائب يبتليني؟ ب عَسَى وليت وعَلَّنِي ... سَفَهاً تخادِعُني ظُنوني وأرى اللياليَ تقتضي ... عُمُري، وتُلْوِيني دُيوني وأنشدني لنفسه في توديعه ثلاثة أصدقاء إلى ثلاث أسفار في يوم واحد: يَفْدِيك مغلوبُ التَّجَلُّد، صبرُه ... عما يكابدُهُ قصيرُ الباعِ علم بتوديع الأحبّة، طَرْفُه ... يرعى الحُمولَ، وسمعُه للدّاعي وأنشدني لنفسه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 لو جازَ أن تتجسَّدَ الأشواقُ ... ضاقت بشوقي نحوَك الآفاقُ فأنا اللَدِيغُ، لَدِيغُ بَيْنِك، ليس لي ... إلا دُنُوُّ مَزارِك الدِّرياقُ وأنشدني أيضاً: ما أحدث البَيْنُ لي وَجْداً على سَكَنٍ ... خلوت منه، كأنّي لستُ أَعرِفُهُ فلو تجمَّعَ شَمْلِي، بعدَ فُرقتِه، ... وَلَهْتُ للبَيْنِ ممّا صِرتُ آلَفُهُ وأنشدني أيضاً لنفسه: ولمّا صفا وُدُّنا بينَنا، ... وكِدنا نحوزُ ثِمارَ المُنَى، وصِرنا جميعاً إلى غاية، ... لنا ما لَكُمْ ولَكُمْ ما لَنا، أثارَ بنا الدَّهرُ أَحقادَه ... فعاقب بالبَيْن مَنْ ماجَنا كأنّي خُلِقتُ ليوم الوَداع، ... وداعي الفِراقِ لقلبي عَنا ألم يَأْنِ للدّهر أن يستفيقَ ... فيَنْهَى التَّفَرُّقَ عن شَمْلنا فسِيّانِ عنديَ، بعدَ الفِراقِ: ... أساء بيَ الدَّهر أم أحسنا وأنشدني لنفسه، مما يغنى به: الوُشاةُ، قد صَدَقُوا ... في الَّذي به نطقوا إِنني، بكم كلِفٌ، ... مُدْنَفُ الحَشا، قَلِقُ بِنْتُمُ، ففارقَني ... قلبيَ الشَّجِي الفَرِقُ والرَّفيقُ، بعدَكمُ، ... لي السُّهادُ والأَرَقُ ناظرٌ، به دُفَعٌ ... من حَشاً، به حُرَقُ هل عليكُمُ حَرَجٌ؟ ... أو ينالكُمْ فَرَقُ؟ لو وَصَلْتُمُ كَمِداً ... قلبُه به عُلَقُ فاعطٍفُوا على دَنِف ... ما بَقِي به رَمَقُ ليس يستوي نظراً ... مُوثَقٌ، ومُنْطَلِقُ كلُّ مَنْ تقدَّمَني ... في الهوى وإن صدقوا، ما صَبَوْا، وحقِّكُمُ، ... صَبْوَتي، ولا عَشِقُوا وأنشدني لنفسه، وقد تكرر وداع صديق لصديقه، في مدح الفراق: مَن كان ذَمَّ الفراقَ، إِنّي ... مِن بعدِها أمدَحُ الفِراقا حظِيتُ فيه بوصلِ خِلٍّ ... سارقتُهُ لذَّتي استراقا أباحَنِي صدرَهُ وفاهُ، ... فذاك لَثْماً، وذا اعتناقا يا ليتَ كانت أيّامُ وصلي ... بقربه كلُّها فِراقا وأنشدني لنفسه من قصيدة: بكرَتْ تحُضُّ على الخلاعة زينبُ ... وتلومُ في ترك الصَّبُوح وتَعْتِبُ والليلُ طفلٌ في أَوانِ مَشِيبِه ... والصُّبحُ في عصر الشَّبِيبة أَشْيَبُ والجوُّ لابسُ حُلَّةٍ مِسكيّةٍ ... كادت، بلَمْعِ بُروقِها، تتلَهَّبُ والشّمسُ من خلف السَّحابِ كجذْوَة ... تطفو على طامي العُبابِ وترسُبُ لو قال: " من خلل السحاب "، كان أحسن: والأرضُ تبسِمُ عن ثُغور رياضِها ... والأُفقُ يَسْفِرُ تارةً، ويقطّبُ وكأنَّ مخضرَّ الرِّياضِ مُلاءَةٌ ... والياسمينُ لها طِرازٌ مُذْهَبُ ومحِدّق من نَرْجس، متوِجّس ... يرنو إِليك كخائف يترقَّبُ وأنشدني لنفسه في صفة الخمر، وقد أحسن فيها: أُبرِزت كالفتاة، وَهْيَ عجوزٌ ... تُجتلى بالأفراح في الأَكوابِ حُجبت في الزُّجاج عنا، كشمس ... حُجبت في ضَبابة من ضَبابِ وأنشدني لنفسه، وذكر: أنه عملها على أسلوب ابن حجاج في قوله: في ليالٍ، لو أنّها دفعتني ... بيديها، وقعتُ في رَمَضانِ فقال: الصَّبُوحَ الصَّبُوحَ في شعبانِ ... لا تُخِلُّوا به مع الإِمكانِ طمئِنوا بالمُدام جأشَ نفوسٍ ... رُوِّعت بالصِّيام في رَمضانِ إِدْهَقُوها بالطّاس والكاس حتّى ... لا يُحَقّ الصّاحي من السَّكرانِ واجْتلُوها بِكْراً، نَشَتْ ب أَوانَى ... حُجِبت عن خُطّا بها في أواني زفَّها القَسّ عامداً، بعدَما استظ ... هَرَ في مَهْرها على المُطرانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 عُصِرت، والزَّمانُ بعدُ دخانٌ، ... ما تجلَّتْ كواكبُ الميزانِ خَفِيت أَنْ تُرَى بعين، فيما تُدْ ... رَكُ يوماً بمنظر وعيانِ ليس إلا نَسيمُها وهو يا صاحِ دليلٌ منها على العِرفانِ أنحلت جسمَها الليالي، فما تف ... تقُ لوناً إلا بلونِ القَناني واسْقِنِيها من بعدِ تسعٍ وعشري ... نَ صباحاً، خَلَوْنَ من شعبانِ واسقِنِيها يومَ الثَّلاثينَ، في الشَّ ... كِّ، وبعدَ السُّحورِ، قبلَ الأذانِ وارصُدِ الوقتَ، لا تفرّط في سك ... ري، حتَّى يبيَّنَ الخيطانِ وأقمني إلى الصَّلاة، ولا تس ... رف في يقظة الفتى الوَسْنانِ أتصدَّى لها، وأسعى إلى المس ... جد جَهْدي، إِنْ كان لي رُكْبَتانِ نِيَّتِي غيرُ ما سمِعتَ، وما كا ... ن لساني عن نِيَّتِي تُرْجُماني وَيْحَ نفسي إِنْ لم يكن لي وَلاءٌ ... كان منّي في طاعة الرَّحْمنِ فعِمادي وعُدَّتي في مَعادِي ... عندَ حشري، إذا جثا الخَصْمانِ، يومَ عَرْضِي: مُحَمَّدٌ وعليٌّ ... والبَتُول الزَّهْراء والحَسَنانِ خمسةٌ في العَبا، استجار بهم جِبْ ... رِيلُ، يَبْغي الزُّلْفَى إلى المَنّانِ وأنشدني لنفسه: أقولُ اضطرامُ النّارِ وَهْيَ خُدودُ ... وهِيفُ غصونِ البانِ وَهْيَ قُدودُ وهم ألبسوا النّيرانَ ثوبَ احمرارِها ... وهْمُ علَّمُوا الأغصانَ كيف تَمِيدُ تنوبُ العُيونُ النُّجْل فيهم عن الظّ؟ ُبَى ... فكلٌّ صريعٌ باللحاظ شهيدُ وما المنعُ إلا ما أَبَتْه روادفٌ ... وما الرَّدْعُ إِلاّ ما نَهَتْهُ نُهودُ لَئِنْ نَزَلُوا حَبْلَيْ زَرُودَ وعالجٍ ... فما القلبُ إلا عالجٌ وزَرُودُ وأنشدني لنفسه: يوم، أظلَّ بحُلّة دَكناءِ ... فسماؤه حجوبةٌ بسماءِ ظلَّت ثُغورُ بُروقِه مفترَّةً ... لمّا استهلَّت سُحبُه ببكاءِ وأنت تحاكي الشَّمسَ فيه قَيْنَةٌ ... صفراءُ، في دِيباجة صفراءِ والكأسُ تُرضعني حُمَيّا، كلَّما ... نَوَتِ الفِطامَ، عَقَقْتُها بالماءِ راحاً، إذا ما الليلُ أظلم بينَنا ... أمست أَدِلَّتَنا على النُّدَماءِ يسعى بها في الشَّرْبِ أَلْمى، لو يَشَا ... لأَمَدَّها من وجهه بسَناءِ أغرى بنا أقداحَها، فكأنّه ... قمرٌ يُديرُ كواكبَ الجَوْزاءِ فشرِبتُها من كأسه، وشرِبتُها ... من لحظه رَشْفاً بغير إِناءِ وازدانَ مجلسُنا بكلّ مُسَوَّدٍ ... يُنْمَى إلى ذي سُؤْدَدٍ ونَماءِ يوماً، حَبانِيهِ الزَّمانُ، فيا لَها ... من مِنَّة وصَنيعة بيضاءِ وأنشدني لنفسه: النّاسُ، مشتقُّون من دهرهم ... طبعاً. فمَنْ مَيَّزَ أو قاسا يمتحن الدَهْرَ وأحوالَه ... إِنْ شاءَ أَنْ يمتحنَ النّاسا وأنشدني لنفسه: يميناً بما ضمَّ المُصَلّى وما حوت ... رِحابُ مِنَى إِنّي إليك مَشُوقُ وإِنّي متى فتّشتَ منّي طَوِيَّتي ... ومعتَقَدي في وُدّكم لَصديقُ وإنّي متى استنجَدْتَني لِمُلِمَّة ... أجابك مأمونٌ عليك شفيقُ وأنشدني لنفسه أيضاً، في الشوق: لي يروعُ الفراقُ بالافتراقِ ... ثمَّ يقضي عليَّ بالأشواقِ بي يسمَّى الفراقَ، لمّا تصَدَّى ... لي، وأبلى الأحبابَ بالافتراقِ وسلوه عنّي، خلوت من الشَّوْ ... ق، وهل ذُقتُ قَطُّ طعمَ التَّلاقي؟ وكذاك الأشواقُ، تأخُذُ من شو ... قي، وتُبلي الأُلاّفَ بالاشتياقِ وأنشدني أيضاً لنفسه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 تعيّرُني أَنّي جُنِنتُ ب عَزَّةٍ ... وما علِمتْ أَنّ الجنونَ بها عقلُ لَئِنْ كان حبُّ المالكيَّة مُورِثي ... خَبالاً، فلا أَنْفَكُّ يعتادني الخَبْلُ وإن شغَلَ النّاسَ الأماني ونيلُها ... فعندي عن نيل الأماني بها شغلُ وإن عافَ غيري المنعَ والبخلَ، إِنَّني ... يقرّبُها من قلبيَ المنعُ والبخلُ وأنشدني أيضاً لنفسه: تمنّ لعيني أَنْ تملَّتْ بنظرة ... وذاك لعيني من سلامَ كثيرُ غرامي بها مستحكم ومحكّم ... على مُهْجَتي، فيما تشاءُ، قديرُ لها، إِن تجنَّتْ، من فؤاديَ عاذرٌ ... وعندَ الرِّضا والٍ عليَّ أميرُ فقلبي على قرب المَزارِ وبُعدِه، ... إلى حبّها دونَ الأَنام يُشيِرُ هوىً، غارَ في قلبي، وإن انتزاعه ... عليَّ، وقد حكّمته، لَعَسيِرُ وأنشدني لنفسه إلى صديق، له جاريتان: تسمى إحداهما عوضاً، والأخرى نظاماً، من أبيات: قل لقلبينا ومَن عقَّهما: ... كيف يَبْرا الدّاءُ، والدّاءُ عُقامُ؟ هل لِما أتلفت إلا عِوَضٌ؟ ... ولشَمْلٍ بَدَدٍ إلا نِظام؟ وأنشدني لنفسه في المعنى: كَمَدِي عجيبٌ، ما سمِعتُ بمثله ... في يقظتي أبداً، ولا أحلامي تشتيتُ شملي في نِظامَ، وهل رُئِي ... جمعٌ تشتَّتَ شملُه بنِظامِ؟ وأنشدني لنفسه: قضى الدَّهرُ منّيَ أوطارَهُ ... وطاحت بقلبيَ أَخطارُهُ وغُودرتُ من بَعْد بَيْنِ الخَلِيطِ ... تَأَجَّجُ في كبِدي نارُهُ وأقدمَ بالبُعد أعوانُه ... وغابَ عن القرب أنصارُهُ وحقَّتْ من الهجر آياتُه ... ومَحَّتْ من الوصل آثارُهُ ومَن كان يُؤمنُني قربُه ... من البُعد شَطَّتْ به دارُهُ ولم يبقَ لي غيرُ تَذْكار مَنْ ... يهيِّج شوقيَ تَذْكارُهُ وعُدت أعاتبُ دهراً، يَزيدُ ... على الذَّنْب بالعتب إِصرارُهُ سقى الله ليلاً، تراخت على ... بلوغ الأمانيّ أستارُهُ نُفدَّى أوائلُه بالسُّرور ... وتُحَمدُ بالوصل أَسحارُهُ وتغبَطُ أقمارنا في الدُّجَى ... إذا سَفَرت فيه أَقمارُهُ وكلُّ شجي الصَّوت حلوِ الغِنا ... تحدّث باللحن أَوتارُهُ وراحٍ، ترِفّعُ ثوبَ الظَّلامِ ... إذا احلولكتْ فيه أَقطارُهُ عصاني النَّديمُ على شُربها ... وفي مثلها حلَّ إِجبارُهُ وزارَ على رِقْبَة الكاشِحِي ... نَ، تجلو الدَّياجيَ أنوارُهُ، غَرِيرٌ، حوى مُهْجَتي في يديه ... إذا ما حوى الخَصْرَ زُنّارُهُ أُفِيضت على الغُصن أَثوابُهُ ... وزُرَّتْ على البدر أَزرارُهُ تَجَلَّى لنا الشَّمسُ من وجهه، ... وِن رِيقه الشُّهْدُ نَشْتارُهُ ونقتطفُ الوردَ من خدّه، ... ومن طَرْفه الخَمرُ نَمتْارُهُ فما مالَ قلبيَ في رِيبة ... إليه، ولا عمَّني عارُهُ إلى أن طوى الليلُ أثوابَهُ ... ونَمَّت على الصُّبح أسرارُهُ وأنشدني لنفسه فيمن ينتحل الشعر ولا يحسنه: ينغّصُ الشَعِرَ في صدري أخو كذب ... يقولُ ما قاله من قبله النّاسُ ويدّعيه بلا فهم، يليم به، ... يعتلُّ منه على العِّلات أو ياسُو هو الغنيُّ ولكن في معيشته، ... وفي بصيرته فقر وإفلاسُ وله يهجو، أنشدنيه: بأيِّ جُرمٍ وذنبِ ... عرَفْتُ سعدَ بْنَ وَهْبِ؟ أنكرتُ فضل عليٍّ؟ ... أم قلتُ: فرعونُ ربّي؟ شخصٌ، يَعِزُّ على الكل ... ب أَنْ يقاسَ بكلبِ وأنشدني لنفسه أيضاً، في الهجو: رأيت النَّهْشَليَّ أخا مِحالٍ ... وتمويهٍ، يَزيدُ، ولا يَبيدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 نلقّبُهُ ب محمود مَجازاً ... وما يُلفَى له فعلٌ حميدُ بعيدٌ من ذوي الحسنَى، فقيرٌ ... من المعروف، مَنّاعٌ، شديدُ تعرَّضَ بي، ِلأَهْجُوَه، وبيني ... وبين هجائه أَحَدٌ بعيدُ وهَجْوِي، لا أُعرّضُه لقردٍ، ... مخافةَ أن تدنّسَهُ القرودُ وأنشدني أيضاً لنفسه: لو كان لله بابُ جنّتِهِ ... كما على بابكم من الرَّدّ، تكبَّرَ الخَلْقُ عن عبادته ... وجاهَرُوه بالكفر والجَحْدِ واقترَحُوا النّارَ والخلودَ بها ... على النَّعيم الباقي، من الدَّرْدِ وأنشدني أيضاً لنفسه: ما بِهِمُ، مَعْ سوءِ أخلاقِهمْ، ... إلى ارتتاج الباب من حاجِ وُجوهُهم أمنعُ من بابهمْ ... أين الصَّفا الصَّلْدُ من السّاجِ؟ لِلّؤم شرعٌ، وهُمُ رُسْلُهُ، ... وعنهُمُ جاء بمِنْهاجِ وأنشدني لنفسه، في الإلغاز في حكة الجرب: وما شيءٌ، نعوّذُ منه؟ حتّى ... إذا باشرتَه، استكثرتَ منه أَلَذُّ به، سِوى عيني وسمعي، ... فإِنّهما لَمُلْتَفِتانِ عنه وأنشدني أيضاً لنفسه، يلغز بالبرغوث: ما نائمٌ، إذا وَثَبْ ... يرقُصُ من غير طرَبْ؟ وإنّما رقصتُهُ ... تُظهرُ للغير الحَرَبْ مُعاشرٌ، لكنَّه ... يُكثر من سوء الأدبْ يُؤخَذُ في تهمته ... مَنْ لم يكن له الطَّلَبْ وعينُه إذا أَصا ... بَ قِرْنَه ينوي الهربْ يُقْدِمُ، والشَّمسُ لها ... صُبَابةٌ من اللهبْ يرحَلُ، والكَيّالُ يَهْ ... دِي، والقَفِيرُ ينقلِبْ في بغداد يكون أوان البراغيث من أول الربيع إلى حين وقوع قسمة الغلات. وأنشدني أيضاً لنفسه، يلغز بالكتاب: وذي غربةٍ، يُلْهيك عندَ قدومِه ... ويُلْقي إليه سِرَّه ويُذيعُهُ خفيفٌ، إذا استعبرتَه، وَهْو راجحٌ ... من الفضل، محبوبٌ إليه صَنِيعُهُ ويجفوه من بَعدِ البشاشةِ مُعرِضاً ... كأنّك لم يُبْهِجْك يوماً طلوعُهُ وأنشدني لنفسه: يا صاحِبَيَّ، إليكما عن شاني ... لا تُكْثرا عَذْلي، ولا تَسَلاني ما لي على البَيْن المُشِتّ سَلْمِتُمتا جَلَدٌ، ومالي بالفراق يدانِ فإِليكما عن مفرد، أَلِفَ النَّوَى ... تِرْبِ الهموم، مولَّدِ الأَحزانِ ضرَبَ البِعادُ عليه عُمْدَ قِبابِه، ... فطواه عن سَكَنٍ وعن إِخوانِ فإذا صبا، ولوى عِنانَ رحيلهِ ... بالقرب، مبتجهاً، إلى الأوطانِ ففراقُه المحتومُ موتٌ أوّلٌ، ... وصدوفُ نِيَّتِه حِمامٌ ثانِ ما لي وللبَيْنِ المصرّف صَرْفه ... من بعدِ أحبابي وهجر مكاني؟ كيف السَّبيلُ عليه، وهو محمِّلي ... ما لا أُطيقُ، وفي يديه عِناني؟ إلى هذا الموضع، أملاه علي في تلك السنة ب، واسط. وأنشدني لنفسه ب واسط في صفر سنة ثلاث وخمسين وخمس مئة: كم ذا الوقوف بنا على الإِبْلِ؟ ... أَوْرِدْ قَلُوصي ماءَ ذي الأَثْلِ واعدِلْ إلى ذات اليمين بنا ... واحطُطْ بربع بريكة رَحْلِي مَغنّىً، عَفَت آيات مَلُعَبِهِ ... ومحت مَعالمَه يَدُ المَحْلِ أودعتُ قلبي في رَبائبه ... وعقَلْتُ في عَرَصاته عقلي وبكَيْتُ حينَ رأيتُ ما صنَعت ... أيدي النَّوَى بالرَّبْعِ والشَّمْلِ أكبرته، فوَطِئْتُ تُربتَه ... بحَشايَ، لا بمَناسِمِ الإِبْلِ وطَفِقْت أُنشِدُ فيه، حينَ خلا ... منهم، بما يُغري، ولا يُسْلِي لا لبيضَّ لي، في الدَّهر بعدَهُمُ، ... يومٌ. وهل دارٌ بلا أهلِ؟ هذا البيت، ل مهيار. وهو، ها هنا، تضمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 أنا ذو المروءةِ والوفاءِ إِذا ... جُوزِي أَسيرُ الوعدِ بالمَطْلِ منّي استعار الحبُّ صبغتَه ... بالصَّبرِ، والكِتمانِ، والبذلِ أهلُ الهوى، عرَفُوا مقاصدَه ... بَعدي، وما عرَفُوه من قبلي أحلى شبابي، بعدَ بَيْنِهِمُ، ... شيبٌ يحُلًّ مَعاقِدَ الوصلِ وظلِلت أبكي صحبتي لهمُ ... وعلى الشَّباب الزّائل الظِّلِّ ورجَعْتُ أُخْلدِ بالعزاء إلى ... قلب، يرى نصحي سوى عذلي لي أُسْوَة فيمن تقدَّمَني ... وجرى على المِنهاج والشَّكْلِ قد مات مَنْ سُلِبَ الشَّبيبةَ، واس ... تَوْلى عليه تشتُّتُ الأهلِ كان الشَّبابُ أخا مَوَدَّتِهم ... فأُصِبت بالأَخَوينِ بالثُّكْلِ هذا البيت، تضمين أيضاً. وأنشدني لنفسه أيضاً: علامَ أُقالِسُ الأَيّامَ عَتْباً؟ ... وفيمَ أَلُوم دهري؟ لَيْتَ شعري وقد كثُرت إِساءتُه، فمالي ... سبيلٌ أَنْ أطالبَهُ بعُذرِ أُجِيلُ الفكرَ فيه، ولا أرى لي ... سِوى صبري عليه. وكيف صبري؟ يقدِّمُ مَنْ تقدُّمُه حرامٌ. ... على الإِطلاق لم يَغْلَطْ بُحرِّ ويصدُقُ في مُعاندتي، كأنّي ... أخو ذَحْلٍ، يطالبُني بوِتْرِ وأنشدني أيضاً لنفسه: ألا يا حماماتٍ تَجاوَبْنَ بالضُّحَى، ... كشَفتُنَّ مكنوني، فأعلنتُ بالشَّكوى إليكُنَّ عنّي، يا حماماتِ ضارجٍ ... عَداكُنَّ أَشجاني وما بي من البلوى ترفَّقْنَ بي فيما بِكُنَّ من الهوى ... كما بي، لا وَجْدٌ كوَجْدِي بمن أهوى تقضَّتْ ليالينا بِ لَيْتَ وعَلَّما ... وسوفَ، وما أَجْدَت عليَّ المُنَى جَدْوَى فلا اليأسُ يُسلي لو تعهّدت سلوةً، ... ولا الصَّبرُ تُلْفَى دونَه الغايةُ القُصْوَى وكان عند رباط قراجة ب واسط، يأوي إلى غرفة علي شاطىء دجلة، فجرت بينه وبين الصوفية منافرة، وخلى الغرفة. ثم أرادها، لإلفه بها، ولقربها من قلبه وحبه. فكتب إلي بأن آخذها له، وعاتبني في رقعته نظماً، فأجبته على وزن شعره بهذه الكلمة: يا مُهدِياً، بكتابه وعتابه، ... كَلِماً شَفَتْ، وكُلومَ لَوْمٍ شَفَّتِ حمَّلْتَني أثقالَ عِبْءٍ خِفْتُها ... لكن على قلبي، لِوُدِّك، خَفَّتِ وأراك لا يُؤويك إلا غرفةٌ ... تشتاقُها، أَطْيِبْ بها من غرفةِ وقَنِعتِ من طَيْف الخَيال بزورة ... ورَضِيتَ من برق الوِصال بخطفةِ فاكفُفْ، كُفِيتَ الذَّمَّ، كفَّ مَلامتي ... فالعذرُ مُتَّضِحٌ إذا م كُفَّتِ في غُرفةٍ، أنهارُها من تحتها ... تجري، ففُزْ منها، هُدِيتَ، بغَرْفَةِ هيَ جنّةٌ ِلأُولي المكارم هُيِّئت ... وكما تراها بالمَكاره حُفَّتِ لكن تُزَفّ إلى الكرام لحسنها ... وَلأَنْت أولى مَنْ إليه زُفَّتِ بالَغْتَ في عتبي، فهل من أَوْبَة؟ ... وعدَلْتَ عن وُدّي، فهل من عطفةِ؟ أنا مَنْ صفت لصديقه نِيّاتُه ... فحكى الّذي أبدته عمّا أخْفَتِ وعَفَت رُسومُ مطامعي إذْ عِفْتُها، ... فمطالبي عزَّت، ونفسي عَفَّتِ فاقبَلْ مَعاذِيري، وعُدْ نحو الرِّضا ... والحمدِ، واشْفِ مَوَدَّةً قد أشْفَتِ ولي إليه في المعنى، جواب قطعة مثلها: يا حاكياً فضلَ الخَلِي ... لِ، وناشراً عِلمَ المُبَرِّدْ وتجمّعتْ فيه الفضا ... ئلُ كلُّها، وبها تَفرَّدْ، أهديتَ لي شعراً، هُدِي ... تُ بنجمه لمّا تَوَقَّدْ نظم كدُّرِ الثَّغْر، أو ... زَرَدِ العِذار، أتى مُزَرَّدْ يُنْبِي عن الوجد الشَّدِي ... دِ لَدَيْك والصَّبرَ المُشَرَّدْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 أَقبِلْ، ولا تَحْرَدْ. ومُ ... رُّ القول منه المرءُ يَحْرَدْ أترومُ بالشِّعر المُنَى؟ ... هَلاّ وكان الشَّعْرُ أسوَدْ الشِّعرُ، لا تُصْغي له ... خَوْدٌ، ولا ينقادُ أمرَدْ اسمَعْ، هُدِيتَ، نَصيحتي ... فالنُّصحُ، لي بالصّدق يَشْهَدْ عُدْ، وارْضَ عن أهل الرِّبا ... طِ، وأَرْضِهِمْ، فالعَوْدُ أحمدْ لاطِفْهُمُ، فالمرءُ يب ... لُغُ بالتَّلَطُّف كلَّ مَقْصِدْ إِنْ كلَّفُوك غرامةً، ... فابْتَعْ لشيخ القوم مِقْوَدْ واطلُبْ جِوارَ بريكة ... فالدّارُ بالجِيران تُحْمَدْ ولِجِ الغُرَيْفَةَ، وارْقَ في ... ها حَسْبَ ما تختار، واصعَدْ قد أُكْرِيَتْ، فاقْعُدْ إلى ... وقت الفراغ، لها بمَرْصَدْ وهذه، كتبتها أنموذجاً لما كان بيننا من المكاتبات. ولم أثبت مكاتبته، فإني كنت أردها إليه في الجواب. وله: يا أُسرتي، إِن تَلِفَتْ مُهْجَتي ... لا تَهْزِلُوا بالنّاس في جِدِّها ودونَكم، يا قوم، معشوقةً ... يخجَلُ غصن البانِ من قَدِّها فإنْ خَفِي أمري، فلا تيأسوا ... واقتبِسوا الأَنباءَ من عندِها وفتِّشوها، تَجِدُوا من دمي ... وشاهدٌ منه على خدِّها وله: ما قَرَنْت المديحَ في ابن طِرادٍ ... مستطيعاً، بل كان في المسطورِ سوَّلَت لي نفسي ارتكابَ غرور ... فتورَّطْت في ارتكاب الغرورِ لستُ بِدعاً في الخَلْق، حتّى تشكَّرْ ... تُ ضلالاً عند اشتباه الأُمورِ قيل لي: ذا كان الوزيرَ، فما أَدْ ... رَكَ سمعي: ذا كان غيرَ الوزيرِ لست أدعو عليه بالموت، والمو ... تُ مَصِيرُ الأنامِ ثُمَّ مَصِيري بل دعائي دوامُ ما هو فيه ... من جُنوح في أمره وفُتورِ والتفاتُ السُّلطانِ عنه بطبع ... وانكماش في باعه وقُصورِ وانتفاءُ الدِّينار منه، إلى أن ... يتوارى في بيته بحَصِيرِ وأنشدت قصيدةً، على أنها ل ابن المندائي قاضي واسط. فلما أنشدتها ل السوادي، قال: هي لي، لا له. فمنها ما أنشدنيه: يا لائمي، خفِّضْ عليَّ مَلامي ... هيَّجْتَ وَجْدي، واستثرتَ غرامي لو سُغْتَ ما اسأرتُ من كأس النَّوَى ... لأَقَمْتَ عذري، واطَّرحتَ ملامي الشَّوْقُ أيسرُ ما تُجِنّ جَوانحي، ... والوَجْدُ أهونُ ما تُكِنُّ عِظامي ساهمت أيّامي، فأُبْتُ من النَّوى ... عمَّن أُحِبُّ بأوفر الأَقسامِ يا راكباً، يَسرِي على عَيْرانة ... يجتابُ ذاتَ سَباسِبٍ وإِكامِ عَرِّجْ على غربيّ واسِطَ، إنَّها ... دائي الدَّوِيُّ بها وبُرْءُ سَقامي أَهْدِ السَّلام إلى أُناس، عَرَّهُمْ ... بُعدي، إذا ما استرفدوك سلامي من عُصبة، ونَسابة، وصَحابة، ... وقرابة بِيضِ الوجوه كِرامِ واخصُصْ بمَحض تحيَّتي وطني الذي ... فيه مُنَى نفسي وجُلُّ مَرامي وطني الَّذي لم اَقضِ منه لُبانَةً ... ونزَحْتُ عنه وما شفيتُ أُوامي خلَّفتُ قلبي في ذَراه مقسَّماً ... ما بين جاريةٍ وبينَ غُلامِ وأشرَحْ لهم حالاً، متى نَصَتُوا لها ... سَتَرُوا رَشاشَ الدَّمع بالأَكمامِ وتأوَّهُوا، متوجعّينَ لِوامقٍ ... حَصَّتْ قَوادِمَه يدُ الأَيّامِ إن ناحَ خفَّضَتِ الحَمامُ، وإن بكى ... أزرى بعينَيْ عُروة بن حِزامِ لي عندَ دارِهِمُ فؤادٌ والِهٌ، ... وحَشاً بلَوْعات الصَّبابة حامِ وأضالعٌ، تَحوِي بقيَّةَ مُهجةٍ، ... تنهالُ من جَفْنٍ قَريحٍ دامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وإذا استنمتُ إلى الكَرَى، مسترفِداً ... رُؤياكُمُ صِلةً من الأَحلامِ، ناجتنيَ الأحلامُ ضِدَّ نَشِيدَتي ... فتَزِيدُني أَلَماً إلى آلامي ونَذَرْتُ إِن حُمَّ اللِقاءُ، وأثمرت ... دَوْحُ لمُنى لي منكمُ بمرامِ، لأُقَطِّعَنَّ على النَّوَى أَمراسَها ... ولأُسقِيَنَّ البَيْنَ كأسَ حِمامِ وأنشدني لنفسه، وقد عدت إلى واسط في سنة ستين وخمس مئة، في الولاية الوزيرية، فحضر عندي، فعرضت عليه هذه الأبيات التي أثبتها له، فقال: إن كنت تثبت لي شعراً، فاكتب لي هذه القطعة في استزادة الزمان: يا دهرُ، أَوْجِفْ في صُرُو ... فِك بي وبطشتِك القَوِيَّهْ واجْلُبْ عليَّ بما استطع ... تَ موافقاً حتمَ القضيَّهْ أَوْفِضْ سِهامَك راشقاً ... غَرَضَيْ حِفاظي والحَمِيَّهْ واغمِزْ على عُودي ثِقا ... فَك ما يَلينُ إلى الدَّنِيَّهْ تأبى الدَّنِيَّةَ لي، إِذا ... كلَّفْتَنِي، نفسٌ أَبِيَّهْ أتخالُني أَخشى المَنِيَّ ... ةَ؟ كلُّ أوقاتي مَنِيَّهْ ما عارَ سهمٌ من أذىً ... إلا وخاطريَ الرَّمِيَّهْ وإذا اتّخذتُك آسِياً، ... آسيت بالأَدْوا الدَّويَّهْ في كلّ يومٍ، طالع ... لي في خُطوبك من ثَنِيَّهْ ومجرّد من جيش صَرْ ... فِك، لافحِاً كَمَدِي، سَرِيَّهْ وجعَلْت قلبي للنَّوا ... ئب، في مقاصده، دَرِيَّهْ أترى لِمَنْ أسعفت حَتَّ ... ى أستزيدَك في العطيَّهْ ومن البليَّة أنْ يكو ... نَ عزايَ من نفس البليَّهْ هذا، وما لَكَ قبلَها ... عندي يَدٌ أبداً سَنِيَّهْ وغَصَبْتَ من حقّي، وأن ... ت على نِزاعي في البقيَّهْ ومنها: فعَلَوْتُ غاربَ وحدتي ... فوجدتُها نِعمَ المَطِيَّهْ واعتضت عن طمعي بيأ ... سي من مكاسبيَ الزَّرِيَّهْ ورِكبت ظهرَ الصّبرِ، مُدَّ ... رِعاً جلابيبَ التَّقِيَّهْ فوجدتُ ذِمَّتَهُ، على ال ... عُقْبَى، من الذِّمَمِ الوَفِيَّهْ وحمِدتُ فقري فيك، مَعْ ... نفسٍ بعِفَّتها غَنِيَّهْ وأنشدني لنفسه في سنة ستين وخمس مئة: قد وَصَّلُوا أَشراكَ حُبِّهِمُ ... وتعرَّضُوا في ذاك لِلتُّهَمِ ستَرت فُروعُهمُ بُدورَهمُ ... وقد استكنَّ الدُّرّ في العَنَمِ الدُّرُّ لا يخفى لجوهره ... وكذا البدورُ تُنير في الظُّلَمِ واستَرْهَفُوا أَسيافَ لَحْظِهِمُ ... وتعمَّدُوا قتلي من القسمِ فغدا فؤادي يشتكي نظري ... والحربُ بينَهما على قَدَمِ وأنا الأَخِيذُ بما جنَى بَصَري ... وَيْلاه م نظرٍ، أراق دمي الحكيم أبو طاهر بن البرخشي الطبيب موفق الدين، أبو طاهر، أحمد، بن محمد، بن البرخشي. فيلسوف العصر في الحكمة والطب. أوحد الزمان بديعه، قد برعت في العلم صناعته وبهر في الكرم صنيعه. كريم الشمائل، ظريف المخايل، متلطف في تطببه، متطرف لكل علم، عارف بكل فن. عزيز النفس عزوفها، لا يخالط إلا الأكابر، ولا يألف إلا الصدور. محله في صدور الصدور، وموضعه في قلوب ذوي الإقبال بالقبول. وهو مع ذاك مأوى الضعفاء، وملجأ الملهوفين. يبر من ماله وجاهه بما يمكنه، ويحسن إلى قاصديه بإفادة ما يملكه وما يحسنه. محبوب إلى كل قلب، محبوٌّ بكل حسنى. ومن فضائله أنه تندر له أبيات حكمية، هي في ثوب علمه بمنزلة الطراز المذهب. أنشدني له ب واسط، ليلة الخميس حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة ستين وخمس مئة، وكنا مجتمعين نتذاكر طرف الأشعار، ونتجاذب أطراف المعاني المستحسنة، في غلام ناوله خلالاً: وناوَلَني مِن كفّه شبهَ خَصْرِه ... ومثلَ محبٍّ ذابَ من طول هجرِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وقال: خِلالي، قلتُ: كُلٌّ حميدةٌ، ... سِوى قتلِ صَبٍّ حارَ فيك بأمرِهِ وأنشدني فيمن حج من واسط، وكان ظالماً: لمّا حَجَجْتَ، استبشرتْ واسِطٌ ... وفولسايا وفتى مَزْيَدِ ذكر أنه ابن سمكة، وفولسايا في إقطاعه، وابن مزيد رئيسها. وانتقل الوَيْلُ إلى مكّة ... ورُكنِها والحجرِ الأسودِ وأنشدني لنفسه في مكاتبة بعض الناس بعضهم ب العالم: لمّا انمحت سُنَنُ المكارمِ والعلى ... وغدا الأَنامُ بوجهِ جهلٍ قاتمِ ورَضُوا بأسماء، ولا معنى لها ... مثل الصَّديق، تكاتبوا ب العالِمِ أخوه: هذا، معروف بالشعر، مجتدٍ به. شمس القضاة أبو الفتح هبة الله بن سلمان الشاهد الواسطي كان من أعيان الشهود، وظرفاء واسط. صاحب حكايات ونوادر، لا تمل مفاكهته، ولا تسأم محاورته. وله مقطعات، مطبوعة في قوالب القلوب. صحبني ب واسط عند كوني بها في النيابة الوزيرية العونية، إلى أن انتقل إلى رحمة الله تعالى في سنة أربع وخمسين وخمس مئة. وأنشدني من أبياته النوادر، التي هي في العقود جواهر، كثيراً، ومع التذكر أثبتها. فمنها أنه قال: القصيدة التي منها هذان البيتان، لي، وهما: كلُّ مَنْ وَلَّتْ سعادتُه ... فإلى الغَرّافِ ينحدرُ وترى الغَرّافَ عن كَثَبٍ ... سيرةً يأتي بها الخبرُ وأنشدني لنفسه في القاضي الطيبي: قلتُ لقاضي الطِّيب في واسط ... مقالةً خِفت بها حَتْفي: أَمّا دُبَيْسٌ ودُيوني، فقد ... رضِيتُ من أجلك بالنّصفِ فقال لي، مبتسماً ضاحكاً، ... وكفُّهُ آخذةٌ كفِّي: لقِيتَ يُمْناً؟، قلتُ: واحسرتا ... من ردّ عطوانَ على ضعفي هذا يمنٌ كان غلام الطيبي. يشير إلى أنه كان يخدم على يده قبل. وكان قبله القاضي ب واسط الماندائي، وله غلام اسمه عطوان يخدم على يده. الشريف أبو هاشم إسماعيل بن المؤمل بن الحسين العباسي الرشيدي الواسطي من بيت الخطابة والنقابة ب واسط. سافر إلى كرمان، وكنت ب أصفهان عند عوده منها، وورد أصفهان سنة سبع وأربعين وخمس مئة. وقد جمع أشعاره التي نظمها ب كرمان في مجلدة، تنيف على ستة آلاف بيت. فطالتها، فلم أختر منها إلا هذه الأبيات؛ ثم أنشدنيها أيضاً ب واسط مع غيرها، سنة أربع وخمسين وخمس مئة: مضى الوُدُّ، والأيّامُ ما سَمَحتْ لنا ... بشُربِ مُدامٍ أو بقربِ نديمِ ونحن عِطاشٌ، والمواردُ جَمَّةٌ ... يوطِّدُها قومٌ لكلّ لئيمِ على الرّاح والأقداحِ منّي تحيَّةٌ ... إلى أن أراها في بَنان كريمِ البيت الأول والثالث، لا نظير لهما. عبد القادر علي بن نومة الواسطي الأديب لقيته ب واسط كهلاً، للفضل أهلاً. وله نظم رائق رقيق، بالتحسين والإحسان حقيق. وأنشدت له، ثم أنشدني لنفسه: قَسَماً بأغصانِ القُدو ... دِ تَهُزُّ رُمّانَ الصُّدورِ وبعَضِّ تُفّاحِ الخُدو ... دِ، ورَشْفِ كافورِ الثُّغورِ إنّي لَيَصْرَعُنِي الهوى ... بينَ الرَّوادفِ والخُصورِ بسُلافِ أفواهٍ، تسل ... سل في أباريق النُّحورِ وله في التجنيس: إنّ ارتشافي للعِذا ... بِ الغُرِّ تمحيصُ العَذابِ ذهبَ الصِّبا من حيثُ جا ... ءَ، فلا أَقَلَّ من التَّصابي وغريرةٍ، قلبي بها ... حيثُ انتهى بي، في انتهابِ ما للهوى بي، لا يرى ... إلا التَّقاذُفَ في الهَوَا بي؟ ولقد سرى بي مَوْهِناً ... طَيْفٌ أَغَرُّ من السَّرابِ ما زال يسهرُ سُمَّرِي ... حتّى خَلا بي في الخلابِ لِلهِ برقٌ، ما خفا ... إلا وزاد به الْتِهابي يبدو كحاشية الرِّدا ... ءِ لناحِلٍ تحتَ الثِّيابِ أبو شجاع محمد بن القلانسي من أهل وساط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 شاب مقلنس. ينظم طبعاً، ويرعي الأسماع من منظومه بحسن الإيراد أنضر مرعى. وفد، وأنا ب البصرة في النيابة الوزيرية العونية، ومدحني فمنحته، واستعدى بي على زمانه فأعديته، واستهدى بثنائه فأهديت له وهديته. وكان أمير المؤمنين نعتني ب عزيز الدين، نعت عمي، فمن كلمة له في: سمعاً عزيزَ الدِّينِ إِنّك واحدٌ ... عدِم النّظيرُ له، وعزَّ الثّاني أعرضتَ عن فعل الدَّنايا، مثلَما ... لم يلقَ فضلك في الزَّمان مُدانِ فُقتَ ابنَ مُقْلَةَ في الكتابة، مثلَما ... فاق السَّحائبَ منك فيضُ بَنانِ ورأيت أَنّ الحمدَ زينٌ، والثَّناباقٍ، ومالُك لا مَحالَةَ فانِ فهدَمْت أَرْوِقة اللُها متعمّداً ... وغدوت للذِّكر المخلَّد بانِ ورآك عونُ الدِّين أقطعَ مِخْذَمٍ، ... ضافي ظِلالِ الرّأيِ، غيرَ هِدانِ حسَنَ الطَّوِيّةِ، مُعْرِباً عن حكمة ... مأثورةٍ، تُتْلَى بكلّ لسانِ ومنها: فانجَحْ، فلستَ بعاجز عن مُشْكِلٍ ... يعرو، ولا عندَ المكارم وانِ ومن أخرى له في: لك الخيرُ، يا مَنْ وجهُه وسَماحُه ... تزولُ به البلوى وينكشفُ الضُّرُّ، لقد عادتِ الأيّامُ وَهْيَ منيرةٌ ... يقطّبُ فيها الجورُ، والعدلُ يَفْتَرُّ يوافقُ فيها فعلَك السَّعدُ، مثلَما ... يُلائم عالي مجدِك الحمدُ والشُّكرُ وله من أخرى، كتبها إلي: أشكو إليك من الأيّام، حيثُ نَبا ... صبري، وقَلَّ على تصريفها جَلَدِي ولستُ أَعرِفُ لي دُنيا، سِوى سَعَةٍ ... في الفضل ضاقَ بها صدري وذاتُ يدي الشريف علي بن أسامة العلوي الحسيني الضرير شاب ظريف، حسن الصوت. كان ينادم الأكابر بإنشاد الأشعار المطربة الغزلة، كأشعار مهيار والرضي ومن يجري مجراهما، ثم ابتدأ يعمل شعراً، ويتكلف الصنعة فيه بالتجنيس والتطبيق. وكثر ذلك منه حتى غلب عليه النظم، ومهر فيه، وتمهر في نظمه، وحسنت ألفاظه وراقت. فمما أنشدني من شعره، ما نظمه في عند ورودي واسط في عمل الوزير، سنة أربع وخمسين وخمس مئة: قدمتَ يا مَنْ رقاه في العلى قدمُ ... وقدمة شادَها التّأييدُ والقِدَمُ يا مَعدِنَ الحسنِ والإحسانِ، يا ملكاً ... يَعُمُّ منه الورى الإكرامُ والكرمُ يا عاقرَ البُدْنِ والأبدانِ، دامَ لك الْ ... إِنعام في الدَّهر، يا مَنْ قولُه نَعَمُ محمّد أنت محمودُ السَّجِيَّةِ، إِذْ ... نفت همومَ الورى عن عزمك الهِمَمُ وأنت في عالَم الدُّنيا، بفضلك وال ... عِلمِ الغَزيرِ وإدراكِ العلى، عَلَمُ هذا العزيز الَّذي ذَلَّت لِعزَّته ال ... عِدا، وعزَّ المُوالي فَهْوَ محترمُ يا مُعرِبَ اللفظِ، يا مَنْ في الورى شَهِدت ... بفضله وعُلاه العُرْب والعجمُ ومَنْ يقلّم أظفارَ الزَّمانِ، إذا ... أبدت له منه حُسنَ السِّيرة الشِّيَمُ كم خُلَّةٍ منه سَدَّت خَلَّةً بنَدىً ... ومِنّةٍ من كُلوم طيَّها كَلِمُ لا يملِكُ الذَّمُّ منه العِرضَ من أحد ... يوماً، ويملِكُه الميثاقُ والذِّمَمُ حرمانُ راجيهِ جُرمٌ عندَه، ولِمَنْ ... يلجا إلى ظلّه من رَبْعه حَرَمُ في الجود، سار أَمامَ النّاس عن أَمَم ... إلى مَدىً عجَزَت عن شَأْوه الأُمَمُ قدِمتَ كالأمن بعدَ الخوفِ، أو كنُزو ... لِ الغيثِ، من بعدِ ما ضَنَّتْ به الدِّيَمُ لا زِلتَ تبقى قَريراً في بُلَهْنِيَةٍ ... لخادم سَبقَت منه لك الخِدَمُ ومما أنشدنيه أيضاً لنفسه، وقصدني ب الهمامية، في صفر سنة ستين وخمس مئة: عَلامَ جَنَّبْتَ من السَّفْحِ العَلَمْوزُلْتَ بي سَلِمْتَ عن وادي سَلَمْ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وهذه الكُثبانُ من رمل الحِمى ... أَمامَ عينيك، تلوحُ عن أَمَمْ أما ترى القلبَ، وقد قام لِقُرْبِ الدّارِ من غرامه على قَدَمْ؟ يا حادِيَ الأَظعانِ، رِفقاً، لا تُطِلْ ... سيراً، أَقِلَّ الحَثَّ، واحبِسِ النَّعَمْ ففي الخِيامِ مُدْنَفٌ، تحسَبُهٌ ... من النُّحول بعضَ أَطنابِ الخِيَمْ هذا، أخذه من قول صردر: وكم ناحلٍ بين تلك الخِيا ... مِ، تحسَبُهُ بعضَ أطنابِها أصبح بينَ مُغرِقٍ ومُحرِقٍ: ... دمعٍ، ونارٍ في الفؤاد تضطرمْ كم جحَدَ السَّلْوَى فما أغنى، وكم ... كتَمها، والدَّمعُ يُبدي ما كتَمْ فلم يُجِبْ قولي، كأنَّ قلبَه ... صُمُّ الصَّفا، أو حشوَ أُذنيه صَمَمْ وراحَ يشدو، لا أُقِيلت عثرةٌ ... لِعيسِه، ولا سُقِي صَوْبَ الدِّيَمْ أقسمت بالجمع على جَمْع ومَنْ ... أقامَ في ذاك المَقام واستلَمْ ومَنْ صفا على الصَّفا وب مِنَى ... نالَ المُنَى، والمُحْرِمِينَ والحَرَمْ إِنّيَ، مُذْ فارقت سُكّانَ الحِمى، ... فارقَ عينيَّ الكَرى ولم أَنَمْ وإِنَّ قلبي، مُذْ نأى خُلاّنُه ... عن الحِمى، بينَ ضُلوعي لم يُقِمْ يا قلبُ، دَعْ عنك الهوى، وارجِعْ إلى ... حُسن التُّقَى، والبَسْ حميداتِ الشِّيَمْ فهذه الدُّنيا متى دانت نَبَتْ، ... وغيرُ فعلِ الخير يُورثُ النَّدَمْ كم غادرت بغدوها شَبِيبةً ... أَنيقةً، فبدَّلَتْها بالهَرَمْ وصرفت بصَرْفها عن ذي قُوَى ... صِحَّتَهُ، وعَوَّضتها بالسَّقَمْ ومن مديحها: واللهِ، ما نالَ العلى غيرُ امْرِئٍ ... أضحى وأمسى بالعَلاء ملتهم حَبْرٌ، فصيحٌ، لَسِنٌ، مُفَوَّهٌ ... أَحكامُه تنطِقُ فينا بالحِكَمْ سِيرتُه والوجهُ منه، كشَفا ... عن الورى الظُّلْمَ العَمِيمَ والظُّلَمْ في وجهه بدرٌ، وفي بَنانه ... بحرٌ من الجود، وفي الأنف شَمَمْ قد فاق قُسّاً في البيان، وشَأَى ... في البأس عَمْراً، والنَّدَى بَذَّ هَرِمْ يا صاحبَ الإِنعامِ، بل يا عاقرَ الْ ... أَنعامِ، يا ساحبَ أَذيال النِّعَمْ يا ابنَ العزيزِ، دُمت في العزِّ، فقد ... فاقت يداك بالنَّدَى صَوْبَ الدِّيَمْ وسمعت، بعد سفري إلى الشام، أنه لحق بالخبير العلام، وضمت عليه أضلاع الرجام. أبو العز المغني المعروف ب البقري العواد. وجدت له في بعض المجاميع هذين البيتين: ووردةٍ، غَضَّةِ القِطافِ، زَهَتْ ... بمنظر في العُيون مرموقِ كأَنَّها خدُّ عاشقٍ دَنِفٍ ... حُفَّ بلون من خدّ معشوقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 /// الأديب الغزي أبو إسحق إبراهيم بن عثمان بن محمد الكلبي ثم الأشهبي المعروف بالغزي . مولده غزة الشام، وانتقل إلى العراق وإلى خراسان وأصفهان وكرمان وفارس وخوزستان، وطال عمره، وراج سعر شعره، وماج بحر فكره، وأتى بكل معنى مخترع، ونظم مبتدع، وحكمة محكمة النسج، وفقرة واضحة النهج، وكلام أحلى من منطق الحسناء، وأعلى من منطقة الجوزاء. فكم له من قصائد كالفرائد، وقلائد كعقود الخرائد، وغرر حسان، ودرر وجمان. وله في خطبة ألف بيت جمعها من شعره يصف بها حاله نثراً، ويذكر فضيلة الشعر، ويقول: إن الشعر زبدة الأدب وميدان العرب، كانوا في جاهليتهم يعظمونه تعظيم الشرائع، ويعدونه من أعلى الذرائع. وجاء الإسلام فأجراه على الرسم المعهود في قطع لسان قائله بالجود. وإذا طالعت الأخبار، وصح عندك ما فاض من إحسان النبي صلى الله عليه وسلم على حسان، وثابت بن قيس، وخلعه البردة على كعب بن زهير، واهتزازه للشعر الفصيح، وقوله: إن من الشعر لحكماً علمت أن إكرام الشعراء سنة ألغاها الناس لعمى البصائر، وتركيب الشح في الطباع. وقد كنت في عنفوان الصبا، ألم بخزامى الربا، وأنظمه في غرض يستدعيه، لأذن تعيه، فلما دفعت إلى مضايق الغربة جعلته وسيلة تستحلب أخلاف الشيم، وتستخرج درر الأفعال من أصداف الهمم، حتى إذا خلا من راغب في منقبه تحمد، ومأثرة تخلد، وثبت من الانزواء على فريسة لا يزاحمني فيها أسد، ولا يرضى بها أحد. على أن من سالمه الزمان، أجناه ثمر الإحسان، ومن ساعدته الأيام، أعثرته على الكرام.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 هذا يقوله الغزي وفي الكرام بقية، والأعراض من اللؤم نقية، وقد ظفر بحاجته من الممدوحين: كعمي العزيز بأصفهان، والصاحب مكرم بكرمان، والقاضي عماد الدين طاهر بشيراز، الذي أمن بجوده طارق الإعواز، وكانت جائزته للغزي وللقاضي الأرجاني وللسيد أبي الرضا وأمثالهم المعتبرين، لكل واحد ألف دينار أحمر على قصيدة واحدة. فما أقول أناف ي زماننا هذا، وقد عدمنا فيه من يفهم، فضلاً عمن ينعم. ولقد صدق الغزي في قوله: قالوا: هجرتَ الشعر، قلتُ: ضرورةً ... باب الدواعي والبواعث مُغْلَقُ خَلَتِ الديار فلا كريمٌ يُرتَجى ... منه النوال، ولا مليح يُعْشَق ومن العجائب أنه لا يُشترى ... ويُخان فيه، مع الكساد، ويُسرق الغزي حسن المغزى، وما يعز من المعاني الغر معنى إلا يعزى، يعنى بالمعنى ويحكم منه المبنى، ويودعه اللفظ إيداع الدر الصدف، والبدر السدف. فمن أفراد أبياته التي علت بها راياته، وبهرت آياته، ولم تملل منها غاياته، قوله: مدحتُ الورى قبله كاذباً ... وما صدق الصبح حتى كَذَب وقوله: إذا قلّ عقل المرء قَلَّتْ همومه ... ومن لم يكن ذا مُقلةٍ كيف يرمَد وقوله: فقد تُصْقَل الضَّبّاتُ وهي كليلةٌ ... ويصدأ حَدُّ السيف وهو مُهَنَّد وقوله: تسمَّى بأسماء الشهور، فكَفُّه ... جُمادى، وما ضمّت عليه المحرّم وردده في معرض أحسن منه، فقال: أنت جُمادى إذا سُئلت ندىً ... ويوم تُدْعى إلى العلى رجبُ وقوله: لعلّ هدوءاً في التقلقل كامنٌ ... لأجل سكون الطفل حُرّكَ مَهْده أعاد هذا المعنى في قصيدة أخرى: سُكونٌ بِهزّ اليَعْمَلات اكتسبتُه ... كما سكَّن الأطفالَ هزُّ مُهودها وقوله: والناسُ أهدى في القبيح من القَطا ... وأضلُّ في الحُسنى من الغِربان وهذه وأمثالها كثيرة في شعره، منيرة في تباشير فجره. وقوله أيضاً في الشمع: إني لأشكو خطوباً لا أُعيّنها ... ليبرأَ الناس من لومي ومن عَذَلي كالشمع يبكي ولا يُدْرى أَعبرتُه ... من صحبة النار أم من فُرقة العسل روى بعضهم من حُرقة النار أو من فرقة العسل محافظة على التجنيس اللفظي، وأنا أرويه صحبة النار للتطبيق المعنوي. وسمعت أكثر أشعاره من جماعة من الفضلاء كابن كاهويه وابن فضلويه وسيدنا عبد الرحيم بن الأخوة وغيرهم. ومن جملة قصائده قصيدته التي أجاز بها المعري في كلمته: هاتِ الحديث عن الزَّوْراء أوْ هِيتا ... وموقِدِ النار لا تكرى بِتَكْريتا وقصيدة الغزي: أَمِطْ عن الدُّرَرِ الزُّهر اليواقيتا ... واجعلْ لحجّ تلاقينا مواقيتا فثغرُك اللؤلؤ المبيضّ لا الحجر ال ... مُسْودّ، لاثمه يطوي السَّباريتا واللثم يُجْحف بالملثوم كرّته ... حاشا ثناياك من وَصْمٍ وَحُوشيتا قابلتَ بالشَّنَب الأجفانَ مُبتسماً ... فطاح عن ناظريْك السحرُ منكوتا فكان فوك اليدَ البيضاء جآء بها ... موسى، وجفناك هاروتاً وماروتا جمعتَ ضدَّين كان الجمع بينهما ... لكلّ جمعٍ من الألباب تَشْتيتا جسماً من الماء مشروباً بأعيننا ... يَضُمُّ قلباً من الأصلاد منحوتا مِسْكاً حسبتُ فؤاداً صار فيك دماً ... فلا يغادَر مَسْحوقاً ومَفْتوتا لو كان كلُّ دمٍ مِسْكاً لصاك بنا ... ما يخضِب السمرَ والبيض المصاليتا كِباءُ ذكرك أذكى الطيبِ رائحةً ... سنا مُحَيّاكَ ردّ البدر مبهوتا فَضَحْت بالجَيَدِ الغِزلان مُلْتفِتاً ... ولم تكن عن صِيال الأُسد مَلْفوتا فهُنّ ينفِرن من خوف ومن وَجَلٍ ... لبعضهن ويسكنّ الأماريتا عَذَرْتُ طيفك في هجري وقلتُ له ... لو اهتديت سبيلاً في الكرى جيتا أنّى، ودونك من سمر القنا أَجَمٌ ... مَرَّ الشجاع بها فانصاع مسؤوتا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 ومنها في وصف الترك وما سُبق إلى هذا المعنى: وفتيةٍ من كُماة الترك ما تركت ... للرعد كبّاتهم صَوْتاً ولا صِيتا قومٌ إذا قُوبلوا كانوا ملائكة ... حُسناً وإن قوتلوا كانوا عفاريتا مُدّت إلى النهب أيديهم وأعينهم ... فزادهم قلق الأحداق تثبيتا بدار قارون لو مرّوا على عجلٍ ... لبات من فاقةٍ لا يملك القوتا بالحرص فَوَّتني دهري فوائده ... وكلما زدت حرصاً زاد تفويتا حبلُ المنى مثل حبل الشمس، متصلاً ... يُرى، وإن كان عند اللمس مبتوتا فلا تقل ليت صرف الدهر ساعدني ... فإنّ في لَيْتَ أَوْماً يقطع اللِيتا وشاوِرِ السيف فيما أنت مُزْمعُه ... فالله نبّت منه العز تنبيتا واحرّ قلباه من قوم سواسية ... لما دَعَوْني سُكَيْتاً ظِلْتُ سِكّيتا والجهل لو كان عوداً يجتني ثمراً ... للعندليب لأمسى فوقه حوتا دنيا اللئيم يدٌ في كفها بَرَصٌ ... وكل من لمسته صار ممقوتا كُفْرٌ رجاؤك مَنْ لا فهمَ يَصْحَبُه ... كان الغبيّ لمن يرجوه طاغوتا ما سامعٌ بيتَ شعرٍ ليس يفهمه ... إلا كطارق بَيْتٍ ما حوى بيتا لا تفخرنّ بما جاد الزمان به ... ما كلّ من جاب مَرْتاً كان خِرّيتا كم من بكور إلى إحراز مَنْقَبَةْ ... جَعَلْتَه لعُطاسِ الفجر تسميتا بعزمة لو غدا كيوان حاسدها ... لبات في الفلك العلوي مكبوتا يا خاطراً موته بالأمس أخرسني ... أُنْطِقْتَ بالحاجب الكافي وأُحييتا أغناك عن كل مِنطيق، ولا عجب ... وُرُودُك البحرَ ينسيك الهراميتا سلمان، سُلِّم، من عَزّت مطالبه ... بُعداً فخاف من الأعداء تبكيتا مَنْ زيّن الوزراء الشُّمَّ مجتبياً ... وشرّف الرؤساء الغرّ منعوتا في العلم والجسم لا تخفى زيادته ... فهل أعادت لنا الأيامُ طالوتا أقلامه الشَمَع المرغوب فيه ضُحىً ... ما صافحتْ نارُه زَنْداً وكبريتا أما ترى أن قطّ الرأس أصلحها ... فزاد جِرْمُ سناها بعد ما ليتا وحسبها من ضياء نسجُها حُلَلاً ... من منطق لم يكن بالهُجْر مسحوتا عبارة كزَليخا بهجةً، لقيت ... خطَّا كيوسف إذ قالت له هِيتا كن يا أبا الفتح مفتاح النجاح لنا ... وصارماً في خطوب الدهر إصليتا يا مَنْ هو البحر جوداً والأَضا نسباً ... جُدْلي بما شئت قد أدركت ما شيتا وله من قصيدة في مدح الصاحب مكرم بكرمان وقد قصد التجنيس في أوله: وُرود ركايا الدمع يكفي الركائبا ... وشَمُّ تراب الربع يَشْفي الترائبا إذا شِمتَ من برق العقيق عقيقةً ... فلا تنتجع دون الجفون سحائبا منازل أُنسٍ من رَبائب مازنٍ ... ألثَّ رَبابُ المزن فيهنّ ساكبا ومرّتْ عليها البيضً والسود برهةً ... فَبّدَّلْنَها بالبيض أسودَ ناعبا تفرّد واجتاب السواد فخلتُه ... من الزُّهد فيما يجمع الشمل، راهبا حملنا من الأيام ما لا نُطيقه ... كما حمل العظمُ الكسيرُ العصائبا وليلٍ رجونا أن يَدِبَّ عِذارُه ... فما اختط حتى صار بالفجر شائبا فلا تحمَدِ الأيام فيما تفيده ... فما كان منها كاسياً كان سالبا ومنها في صفة العيس: وعيسٍ لها برهان عيسى بن مريمٍ ... إذا قتل الفَجُّ العميق المطالبا يُرَقِّصهنَّ الآلُ إمّا طوافياً ... تراهُنَّ في آذيَهٍ أو رواسبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 سوابح كالنينان تحسب أنني ... مسخت المطايا إذ مسحت السباسبا تَنَسَّمْن من كِرمان عَرْفاً عَرَفْنَه ... فهنّ يلاعِبْن المِراح لواغبا ومنها: إلى ماجدٍ لم يقبل المجدَ وارثاً ... ولكن سعى حتّى حوى المجد كاسبا كأنَا بضوء البِشْر فوق جبينه ... نَرى دونه من حاجب الشمس حاجبا تُصيخُ له الأسماع ما دام قائلاً ... وتعنو له الأبصار ما دام كاتبا ولم أر ليثاً خادراً قبل مُكرَم ... ينافس في العليا ويعطي الرغائبا ولو لم يكن لَيْثاً مع الجود لم يكن ... إذا صال بالأقلام صارت مخالبا فكم قَطَّ رأساً ذا ذوائب، قَطُّهُ ... لهنّ رؤوساً ما حملن ذوائبا إذا زانَ قوماً بالمناقب واصفٌ ... ذكرنا له فضلاً يزين المناقبا له الشِّيَمُ الشُمُّ التي لو تجسمت ... لكانت لوجه الدهر عيناً وحاجبا ثنى نحو شمطاء الوزارة طرفه ... فصارت بأدنى لحظةٍ منه، كاعبا تناول أُولاها وما مدَ ساعداً ... وأحرز أُخراها وما قام واثبا وما دافِعُ القوسِ الشديدةِ مَنْزعاً ... برامٍ، ولكن مُخْرِجُ السهم صائبا غزير الندى، لولا ينابيع سَيبِه ... لأصبح ماء الفضل في الناس ناضبا عَريتُ من الآمال عِزاً وثروةً ... وكنتُ إلى ثوب المطامع ثائبا بكفٍ ترى فيْض الندى من بنانها ... على كلِّ مَنْ تحت السماوات واجبا عوارف من إحسان مذ عرفتها ... نوائب عني يوم أخشى النوائب ومن حسنات الواردِ البحر أنه ... يرى مُذْنِباً من لا يَعاف المَذَانبا ومنها: طلعتَ طُلوع الفجر، والليلُ غُيْهَبٌ ... فحلّيتَ بل جَلَّيْتَ تلك الغَياهبا وَرُقْتَ كتاباً يوم رُعْتَ كتيبةً ... فواقَعْتَ، مِتلافاً، وَوَقَّعْتَ، واهبا تَدقّ كعوب الرمح في كلّ دارعٍ ... وتقتضّ أبكار المعالي كواعبا وكم حَذِرَتْ منك المنيةُ حتفَها ... وقام القنا لما تنمرت هائبا ومنها يصف وقوعه بالخوارج: ويوم العُمانيّين، ماجُوا وفوقهم ... سماء قِسِيٍّ ترسل النبل حاصبا قلوبُهم اسودَّتْ، وصارمُك اشتكى ... مَشيباً، فلم تُعْدِمْهُ منهن خاضبا فأصبح جسمُ الجامد القلب منهم ... بقلب الحديد الجامد الجسم ذائبا وَهُمْ ذنبٌ بَتَّ المهلَّبُ رأسه ... فكنت لما أَبْقى المهلب هالبا رأَوْك ولم تحضر، ومن كان فضله ... محيطاً فما يُسْمى، وإن غاب، غائبا أشرتَ من التدبير، والبحر بينكم ... بنجمٍ رآه الجيشُ في البرّ ثاقبا ومِن قبلك الفاروق جاء بمثلها ... وكان على عود المدينة خاطبا دنت، يوم أَوْمى، من نهاوند، يثربٌ ... فنادى: ألا ميلوا عن الطود جانبا بدا بك وجه الدين أبيضَ مشرقاً ... ووجه عدوّ الدين أسودَ شاحبا شفى وصبَ الهيجاء سيفُكَ فلْيدُمْ ... لك العزّ، ما كرّ الجديدان، واصبا ومن قصيدة له في مدحه أيضاً: نُسِخَتْ برِفدكَ آيةُ الحرمان ... وعَلَتْ لوفدك رايةُ الإحسان يا ناصر الدين الذي أمطاه ظ ... هرَ المجد مظْهِرُه على الأديان يُمناك غيث ما استهلّ غَمامُهُ ... إلاّ غرقتُ بأيسر التَّهْتان وصِفات مجدِك لا تكلّف عندها ... ألفاظ من وصف الكرام معان خُلِقت مساعيك الشريفة في العلى ... بمثابة الأرواح في الأبدان وانقضّ عزمُك فوق كلّ مُلمَةٍ ... كالشهب أو كثواقب الشهبان أيَّدتَ فضلك بالتفضّل، والعلى ... شطران: خطُّ يدٍ وخطُّ لسان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 وأهنتَ ضدّك بالدليل، ومُكْرَمٌ ... ما ضدّه في اللفظ غير مُهان ولقيتَ وفدَكَ والرّكابَ، بطلعةٍ ... تُسْلي عن الأوطان والأعطان ومنها: معنى العُلى لك والدعاوى للورى ... سُؤْر الهِزَبْر وليمةُ السِرحان ولقد سَرَيْتُ وللكواكب في الدَجى ... سَبْحُ الغريق ومِشيةُ النَّشْوان والبرق ألمعُ من حُسامٍ هزّه ... بطلٌ، وأخفقُ من فؤادِ جبان حتى إذا نثر التبلّجُ وردَه ... متدارِكاً فطفا على الريحان حَيّيتُ أصحابي وقلت لَيَهْنِكمْ ... وَضَحَ الصباحُ لمن له عينان كَوُضوح فضل الصاحب، الغمر الندى ... لازال صاحب دولة وقِران مَسحَتْ قذى عينِ الزمانِ خلالُه ... فرأته وهي نقية الأجفان ومنها: إنّ استواءَ الدهرِ مِنْ تَثْقيفِه ... لا من نزول الشمس في الميزان ولذاك يزدحم الورى في بابه ... شَرْوى ازدحامِ الحَبّ في الرُمّان لا يترك الدينارُ ساحةَ كَفَّهِ ... حتى ينادى أنتَ رزٌ فلان وكأنه في كيسه عرض فما ... يبقى زماناً فيه بعد زمان ومنها: المجد كَفٌّ والسماح بنانها ... لا خير في كفٍّ بغير بنَانِ ومنها: أنا غَرْس نعمتك الشريفة فاسقني ... واجنِ المناقب من ِجنان جَناني من شكّ في أدبي فلستُ أَلومُه ... ما أجهلَ الإنسان بالإنسان ومنه: يا ابن الأُلى لمّا غدَوا وَصِاتهم ... كصَلاتهم، شمخوا على الأقران صِيدٌ إذا ركبوا لِصَيْدٍ شرّدوا ... بالأُسد لا بنوافر الغِزلان أبوابُهم قِبَلُ الملوك تَحُلُّها ... يومَ السلام جواهر التيجان ومنها: إني أراك بناظري فأَعُدُّه ... مِلكاً سُرادِقه من الأجفان وعليك أعقِد خِنْصَري ليصحّ لي ... عددي، فأعرف أولاً من ثان فاسلم فإنّ مَصون عرضك سالم ... وعُلاكَ باقيةٌ ومالُكَ فان وله من قصيدة في شكوى الزمان مَتى ينجلي ليلُ الظُنون الكواذب ... ويَبْدو صباح الصدق من جَدّ قاضب ومنها: وحَتّامَ أرجو دولَةٌ، وزراؤها ... يَردّون، إن حَيَّيْتَهم، بالحواجب مصيبون في تخجيلهم كلّ مادح ... وعين صواب الرأي تخجيل كاذب سَواءٌ لديهم ما حوى سِلك ناظِمٍ ... وما ضمّه في ظُلمةٍ حبلُ حاطِب شَرَوْا سفهاً بالثعلب الليثَ، واشتَرَوْا ... بصَرْصَرة البازي صَريرَ الجنادي ومنها: قَضَتْ عُنّة التمييز والفهم في الورى ... بتعنيس أبكار العلوم الكواعب شَوادر شعري يُفْتَرَعْنَ إغارةً ... ويُمْلَكْن سبياً كالإماء الجلائب ومنها: وإني لتُغنيني عن السيف عزمتي ... فهل فيه ما يُغْنيه عن كفّ ضارب وآنفُ من نومٍ يُقلِّد مِنَّةً ... بوصلِ خيالٍ من حبيبٍ مُجانِب ومنها: هو الفقر من كَسْرِ الفَقار اشتقاقه ... نِقابٌ به تخفى وجوهُ المَناقب ومنها: ولي أدبٌ زان الزمانَ اصطحابُه ... وقربُ التلاقي غيرُ قُربِ التناسب وفي صُحبة الضدّ الشريفِ تَزيّنٌ ... وما الليلُ من جنس النُّجوم الثواقب ومنها: عسى بين أحشاء الليالي عجيبةٌ ... حُبالى الليالي أُمهات العجائب ومنها: وبيدٍ تُبيد الصَّبر، أحسنتُ طيَّها ... فأُبْتُ، وما كانت تجود بآيب تمنَّيتُ مآء السيف فيها من الصَّدى ... ومأكل ما سميت مآءً بذائب ومنها: يضيق الفضاءُ الرَّحب في عين خائفٍ ... ويعظُم قدْرُ الفَلْس في قلب خائب وتهتزُّ بالقطر البحارُ وإنها ... لمستغنياتٌ عن نَوال السحائب وله من قصيدة في هجو شروانشاه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 قُمْ نفترعْها كأَنّها الذهبُ ... بِكْراً، أَبوها وأُمّها العِنَبُ أَرقّ من عَبرةِ اليتيم ومِنْ ... عبارةِ الصبّ قلْبُه وَصِبُ مُدامة تصقُل القلوب إِذا ... رانتْ عليها الهُمومُ والرِيَبُ كؤوسُها أَنجمٌ نَضِلّ بها ... لا يهتدي من تُضِلّه الشُهُبُ لا فَدْم فينا ولا فِدام لها ... عروسُ دَنّ عقودها الحَبَبُ مِنْ كفّ مَنْ كَفَّ حُسْنُه صِفَتي ... فما إِلى وصف حسنه سبب أَغيدُ، للعين حين ترمُقُه ... سلامةٌ، في خِلالها عَطب تبسّم السّحرُ في لواحظه ... لمّا بكى الناسُ منه وانْتحبوا واخْضَرّ في وجنتيه خَطُّهما ... بحافة الماءِ ينبتُ العُشُبُ يدير منها كخدِّه قدحاً ... يجتمع الماءُ فيه واللَّهب منتهزاً فرصة السرور بها ... فَمَقدَم الحادثات مُرْتقَب هذا البيت يعود إلى البيت الأول كأنه يقول: قم نفترعها منتهزاً لذة السرور بها. ومنها في هجو شروانشاه: رأَيتُ لؤماً مُصَوّراً جَسَداً ... مُهْجته الاحتيال والكذبُ على سريرٍ كالنعش، لا رَهَبٌ ... يَعْلوه من هيبةٍ ولا رغب وهو عبوس كالفهد مجتمعٌ ... يكاد من خُنْزُوانةٍ يثب إِنْ لم تكن همّةٌ فإِنّ له ... هَمْهَمَةٌ في خلالها صَخَب يَجْبَه بالهُجْر من يخاطِبُه ... بين السَّعالي وبينه نَسَب يَفْرقُه الناس للسّفاهةِ، وال ... عَقْرب يُخْشى وخدّه تَرِب مُحْتَجِباً لا يزالُ وهو إِذا ... رأَيتَه بالصُّدودِ مُحْتَجِب وإِنْ بدا سافراً لناظره ... فوجهه بالصّدودِ منتَقِب للجمع والمنع قائمٌ أبداً ... كالفيل لا تَنْثَني له رُكَب ومنها: يفرحُ ما صامَ ضيْفُه وبِشَمِّ الخُبْزِ، قبل الذواقِ، يكتئب يلتهب القلْبُ منه بالجُوع، والياقوت في التاج منه يلتهب ومن هذه القصيدة: أَنت جُمادى إِذا سُئلتَ ندىً ... ويومَ تُدْعى إِلى العُلى رجب ما لك عِرْضٌ تخاف وصْمتَه ... أَيُّ طلاق يخافه عَزَب وله من قصيدة: من عزّ بزّ وعِزُّ الحُرّ في ظَلَفِهْ ... وإِنما يَسْغَبْ الهِرْماس من أَنَفِهْ أَسِّسْ على العلم ما ترجو تثبُّته ... فالجهل ينقُض ما يُبْنى على جُرُفه ومنها في المدح: خِرْقٌ سَمَتْ كَفُّه أَن يُسْتعار لها ... وَصْفُ الغمام، جَلِيُّ القَدّ من هَيَفه فَبِتُّ أَنْظِم في فكري مناقبه ... متى سَمِعْتَ بنظم الدرّ في صَدفه ومنها في أن المستقيم لا يفوز بالغنى والحظ في الدنيا للمعوج: واسم الغِنى لا يفوزُ المستقيم به ... كذلك الخطّ لا عَجْمٌ على أَلِفه مُثَقّفُ الأَسَلِ الظمآن تُرْجعُه ... دِرْعُ الكَمِيِّ حَطيماً دون مُرْتَشَفه والسَّيْلُ من أَجل أَنَّ الرَّعن منتصبٌ ... أضاه في منحنى الوادي ومُنْعَطفه لأَياً تبيّن لي لما تقلّبت الأَيّ ... ام أَنّ بقاء المال في تَلَفه أَين الذي ملك الدّنيا وضّن بها ... مضى وما حملَ الدُّنْيا على كَتِفِه ومنها: بالشيب فارقني ذهني، ولا ثمرٌ ... في العود بعد اشتعال النار في طرفه وله من قصيدة في التسلية: خُذْ ما صفا لك فالحياةُ غُرورُ ... والدّهرُ يَعْدِل تارةً ويجور لا تَعْتِبَنَّ على الزمان، فإِنّه ... فَلَكٌ على قُطْبِ اللّجاجِ يدور أَبداً يُوَلِّدُ ترحةً من فرحةٍ ... ويصبّ غماً منتهاه سرور هو مُذْنبٍ وعُلاك من حسناته ... كالنار مُحْرِقةٌ ومنها النور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 تعفو السّطور إِذا تقادَمَ عَهْدُها ... والخلق في رِقّ الحياة سُطُور كلٌّ يَفِرّ من الرَّدى ليفوتَهُ ... وله إِلى ما فرّ منه مصير ومنها: فانظر لِنفسِكَ فالسلامة نُهْزَةٌ ... وزمانها ضافي الجناح يطير مرآةُ عَيْشِكَ بالشَّباب صَقيلةٌ ... وجَناحُ عُمرك بالمشيب كسير والحاضرون بلا حُضُورِك غُيَّبٌ ... والغائبون إِذا حضرت حُضور بادر فإن الوقت سيف قاطع ... والعمر جيش والشباب أمير وعوائق الأَيّام آيةُ بُخْلِها ... أَنْ يستريح بِنَفْثَةٍ مَصْدور ومنها: مَلِكٌ أقام وما أَقام ثناؤه ... ويَسيرُ ما فعل الملوكُ يَسيرُ أَعطى الكثير من القليلِ تَفَرُّداً ... مُعطي القليل من الكثير كثير ومنها: ومن العجائب أَن وَفْرَك قطرةٌ ... وَيَفيضُ منه على العُفاةِ بحور ومنها: كم وقعةٍ أَخمدتَ موقع بأْسها ... والأرضُ تَرْجُف والسماءُ تمور والموتُ جارٍ والقناة قناتهُ ... ولها بأَسماعِ الكُماةِ خرير ومنها: السّاترين من الحيآء وُجوهَهم ... والكاشِفوها والعَجاجُ سُتور غُرٌّ إِذا ركبوا الجِيادَ حَسِبْتَها ... شُهْبان رجم فَوقهنّ بُدور يَتزاحَمون على الحِمام كأَنَّه ... فَرْضٌ يُفَوِّتُ نَيْلَهُ التأْخير ومنها في وصف فرس طلبه: إِنْ شاء هَمْلَجَ بي جَوادٌ سابِقٌ ... كالنجم يَطْلُع ثاقباً ويغور قَلِقُ العِنان كأَنَّ فوق تَليله ... نَمْلٌ، وبين سَمِيعَتَيْهِ صفير هو جَنَّةٌ للناظرين إِذا مشى ... أَمّا إِذا ما جاش فهو سعير لو قيل ثِبْ، وثبيرُ مُعْتَرِضٌ له ... لِيَتِمَّ حُضْرك ما ثَناهُ ثَبير سَبَق الجِيادَ مَدىً، وواهبُه الأَنا ... مَ ندىً، فما للسابِقَيْن نظير وأعطاني سديد الدولة ابن الأنباري درجاً فيه هذه القصيدة في مدحه بخط الغزي وشعره فلا أرويها إلا عنه، عن الغزي: سَرَتْ أُمّ أَوْفى عاطلاً من فريدِها ... فوزَّعْتُ دمعي بين خَدّي وجِيدِها فباتَتْ تَحَلّى مِنْ فرائد عَبْرتي ... وتحسِب جِسْمي سِلْك بعض عقودها مُبَرْقَعَةٌ نَمَّ القِيام بقَدِّها ... فلم تُخْلِه من بُرْقُعٍ من قعودها ألَمَّتْ بنا ترنو بأَلحاظِ جُؤْذُرٍ ... مَناصِلُها في القَطْع دون غمودها وتَرْفُل في وشْيٍ إِذا اشتاق لمسَها ... تظلَّمَ من أَرْدافها ونُهودِها فبتْنا نَشاوى من مُدامةٍ وصًلِها ... وبات الكرى الساقي برغم صدودها فيا عجبا من رُؤيةٍ مستحيلة ... يحقّقها تغميضُ عَيْنَيْ مريدها خَليلَيّ يحْكين فِعْلَ عُيونِها ... وأَرماحُها يسْرِقْنَ وصف قدودها ذَراني وأَوهامَ المطامِعِ فالمُنى ... تقوم نَساياها مقام نُقودها ولا تَكْرَها لَيّان لُبْنى فإِنني ... رأَيت اخضِرار العيش بين وُعودها ولو حصل الإِنجاز لم يَبْقَ مَطْمَعٌ ... وَجودُ اشتعال النار داعي خُمودِها وكنتُ امْرءاً دُنياه دون اهتمامِه ... فما ذيُّها في ذوقه كَهَبيدِها متى جئتُ موماةً تفرَّدتُ واثقاً ... بصُحبة عَسّالَيْن: رمحي وسيْدِها طُمأْنينتي في أَن أَكونَ مُشَرَّداً ... طريدَ خُطوبٍ عزّ مأْوى طريدها سُكونٌ بهزّ اليَعْمَلات اكتسبتُه ... كما سَكَّن الأَطفالَ هزُّ مُهودها وَخَيْرُ مياهِ الوجْهِ ما كان راكداً ... وإِنْ أَفسدَ الأَمواهَ طولُ رُكودها أَرى كلَّ رَسْمٍ للمكارِمِ دارساً ... سلامٌ على أَيّامِها وعُهودها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 وكلّ من اسْتَشْرى بقوة حدّه ... تجاوَزَ في دَعْواه أَقصى حُدودها لقد ماتَت النُّعْمى التي ظفروا بها ... وفي المَيْتة الملقاة حَظٌّ لِدُودِها يقولون ما سَيَّرْتَ ما يُتَّقى به ... مَغانِيك غاباتٌ خَلَتْ من أُسودها وهل سالِبُ العُزْيان إِلاّ منبّهٌ ... على عَدمِ الأَشياءِ قبْلَ وجودها وقالوا هجرتَ الكُتْب، والعلمُ وجْهُهُ ... يزيد بياضاً مِنْ تَصَفُّحِ سُودِها وما الحفظُ إلاّ كالثّمار قطفتُها ... وعَلَّقْتُها بالخيط في غير عُودها طريق البلاغات التصرفُ زادها ... وفَخْرُ كُفاة العصر خِرّيتُ بيدها أَفادُ العُلى عبدُ الكريم محمّداً ... ولم نره يُعْزى إِلى مستفيدها فلم يَرْضَ حتّى نالها باْكتسابه ... طَريفُ العلى أَوْلى بها من تليدها كسا رؤساءَ العصر دام رئيسُهم ... مفاخِرَ يجتابُون أَسْنى برودها فتىً لا تَبُلُّ النَعلَ طشَّةُ حاله ... وجَدْواه قد عام الورى في مُدودها فصيحٌ، إِذا مدّ المِداد حِبالَهُ ... لِمَلْمومَةٍ لم يُعْيه صَيْدُ صِيْدها أَدِمْ ذِكره وانْسَ الأَوائل جُملةً ... مكارِمُه نَقْضٌ لبيتِ لَبيدها ولو لم تكن تُصْمي به الدولةُ العِدى ... سَما قدرُه عن نَعْته بسَديدها نشرتَ أَبا عبدِ الإِله مناقباً ... أُميتَتْ فَلاحتْ منك شُهْب سُعُودها وَجُدْتَ ارتجالاً، والغمامة طالما ... تكرّر يحدُوها ضجيج رُعودها فما يَقْتضي جَدْواك مُورِدُ مِدْحَةٍ ... لأَسلافِك الأَثمان قبل وُرودها وما زلتُ في بغداد بالذكر خادماً ... وخِدمةُ مثلي يُكْتَفى بزهيدها ولو سَمَحَتْ أرض العراق بمُسكةٍ ... تَرَفَّهْتُ عن جَيْ وأَكلِ قديدها وما أَنا إِلاّ الطيفُ يُنْسى فلا يُرى ... ومثلُك مَنْ جاء العُلى من وَصيدها أَطال اختراعي للمعاني تأَخّري ... وقُدِّمَ أَقوامُ بسَلْخ جُلودها ويكْفيكَ مجداً أَنّ نفْسَ مَطالبي ... بك اعتصمتْ مِنْ قطع حَبْلِ وريدها وأَنّ خيام الاهتمام بنُصُرتي ... يَلوحُ عَمودُ الفجْر تحتَ عمودها لِيَهْنِ أَميرَ المؤمنين سعادةٌ ... تَفيضُ بها الأَعراض بعد جُمُودها فلوْ لم يَصُلْ إِلاّ بيمناك وحدَها ... لأَمكنَ فتح الخافِقَيْن بجودها وله وكتبها إلى سديد الدولة ابن الأنباريّ وقد نقلتها من خطه أيضاً يهنئه فيها بخلعة: رئيسَ الفضْلِ والرؤساء إِني ... كتبت إِليك ما أَمْلى ضميري ولي فِكرٌ يوزِّعه التفاتي ... بصحّتِه إِلى أَملٍ كسير وليس تأَلُّمي من فَوْتِ رزقٍ ... ولا عجباً لإعراض الوزير ولكن من صُلود زِنادِ عزْمٍ ... تردَّدَ في الإِقامة والمسير هُمومي لا تفي هضباتُ رَضْوى ... بهنّ ولا تقوم ذُرى ثَبير لِيَفْدِكَ مَعْشَرٌ مُدِحُوا فسَنّوا ... نِكاحَ الشاردات بلا مهور متى تجري الخواطرُ في مديحٍ ... وإِيغارُ الصُّدورِ من الصدور سديدَ الدولة الأَمواهُ تُثْني ... على كرمِ المنابعِ بالخرير ومُدْمِنُ سَبْكِ عِقْيانِ المعاني ... بصيرٌ، والتأَمُّلُ للبصير كسوْت المُلكَ ثوباً من حروفٍ ... فقابِلْهُ بثوبٍ من حرير وَوَشْيُ الحِبْر في القِرطاس أَبْقى ... على الأَيّامِ من وَشْي الحبير وفي الخِلع الجمالُ ولست أَحْدو ... بتهْنِئةٍ بهنّ إِليك عِيْري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 وكيف وكانت الهالاتُ أَحْرى ... وأَجدرَ أَنْ تُهَنَّأَ بالبدور محبّتُكَ الأَفاضل في زماني ... شُعاعُ الشمسِ في الزمن المطير فَمَهِّدْ عُذرَ من أَمسى نزيفاً ... بترك الكأْسِ في كفّ المدير وَدُمْ ما أَطربَتْكَ صَبا صَباحٍ ... بخدشِ نسيمها وجهَ الغدير منابِتُك السفيرُ إِلى مُرادي ... وإِسفار المَطالب بالسفير وكانت بين الغزّي والأستاذ أبي الطغراني مكاتبات مفيدة وبينهما لنسب الفضل المودة الوكيدة. وكان في زمانه الغزي والأبيوردي والأرجاني كأنهم مع الأستاذ أربعة أركان الفضل، ولم يسمح الزمان لهم بالمثل؛ ولا يجتمع في قرن واحد أمثالهم، وقد عم الزمان فضلهم وإفضالهم، لكن الأستاذ كان من الصدور الكبار. فمن مكاتبات الغزي إلى مؤيد الدين أبي إسمعيل الطغراني اعتذاراً عن أمر نسب إليه وهو يستميحه: عليك مؤيّدَ الدين اعتمادي ... فلا تجنَحْ إِلى كَذِب الأَعادي تمادى المَطْلُ، والآمالُ زرعٌ ... وطولُ الانتظار من الجراد وقد أَزِفَ الرحيلُ وأَنت كهفي ... ومن جَدْواك راحلتي وزادي محلُّكُ في السماء فأَيُّ شَيْءٍ ... أمُتُّ به إلى السبعِ الشِداد وجدتُ جميع ما في الأَرض منها ... وليس المستعاد بمستفاد لسان الحسود، أدام الله أيام المجلس السامي دام سامياً، ولبيضة المجد حامياً؛ إذا علق بعرض الكرام كان كالنار في المندلي، يبوح بسرطيه الخفي. وهذا الخادم لم يزل في الثناء على الفضل المؤيدي أفصح من الوائلي. فإن وقع من السفهاء إفك فداعيته ما ظهر لهم من انتمائه، وانتساب مزنته إلى سمائه. والمجلس السامي جدير بأن يمج المحال سمعه، ولا يقبل التمويه طبعه، ورأيه في التأمل الصادق أسمى. وله: متى جاوَزَ الشوقُ حدّ النزاعِ ... وكان اللقاءُ عديم الدواعي جَعَلْتُ الصفاح بكفّ الضمير ... وشكْوى الهوى بلسان اليراع الحامل على تشعيث الخاطر الكريم، وتصديع المجلس السامي؛ لا زال سامياً، ولذمار العلم حامياً؛ ما فغم الأنف، وشغل الأذن عن الشنف، من أنباء ما اختص بملكه، وانخرط في سلكه، من وفور المجد، وبدار مقاطف ثمر الحمد، على أن التقاط الكواكب، ومباراة السحائب غير بدع ممن اجتمع له الكرم الطبيعي، والمجد المنيعي، والأدب السافر، والصيت المسافر، واعتمد على الهمة التي تجذب حديد الثناء بالجود، والشيمة التي ينسب إليها أرج العود. ولولا ما سدك بإحدى قدمي من وجع في الرجل، قام مقام الحجل، لكنت إلى خدمته أخف من الرجل وإن كنت منذ وطئت هذه البلاد أجوس غمارها ساكتاً كالحوت، أو كالتمثال المنحوت، لعلمي بكساد سوق الكلام، واعتلال الأفهام، وإن قوة البخت، تكسر العبل بالشخت، والمنشود، بعد القيام تحت راية رأيه المنصورة، وما أشبه فيه من كشف الصورة، تمهيد العذر في التأخر عن الاستسعاد باللقاء الحميد، والشفاء المفيد؛ ورأيه في اعتبار ذلك وتحقيقه موفق إن شاء الله. وسمعت للغزي في غلام سراج بيتين، لم أسمع بأظرف من معناهما. والبيت الأول منهما دخل في شفاعة الثاني: أَلاَ قُولوا لِذا السّراج إِني ... أَراكَ تجيء بالعجب العجيب إِذا ما كنتَ لا تُعطي قِياداً ... ففيم عَمِلت أَسباب الركوب قال مؤلف الكتاب: وسألني بعض أصدقائي ببغداد أن أعمل في معناه شيئاً فقلت بديهاً: وسَرّاجٍ سرى في القلب مني ... هواه، وحلّ مِنْ طرفي السَّوادا يُسَهّلُ للركوب لنا طريقاً ... بصنعته ولا يثعطي القِيادا وما يَفْري بشفرته أَديماً ... كما يفري بمُقْلَتِه الفؤادا وقلت أيضاً في غلام سراج: فَدَيْتُ سرّاجاً إِذا لم يَرُج ... للعِشْق عندي حَسَنٌ، راجَ هو يَقول لي اركبني ولا تُفْشِه ... يريد إِلجامي وإِسراجه وهذه نظمتها بديها. وفي إثباتها ها هنا التكشف لجهابذة الكلام، والتصدي للقرائح الصافية بقريحتي المشوبة. وما أوردتها لجودتها، على أنها ما تقصر عن دون الغاية، بل لمناسبتها وكونها لائقة بهذا الموضع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 وللغزي في التجنيس: وصُدورٍ لا يَشْرحون صدوراً ... شغلتهم عنّا صُدور الدجاج وللأديب الغزي في مدح نور الهدى أبي طالب الحسين بن محمد الزينبي أخي طراد قصيدة أوردها أبو سعد السمعاني في المذيل وذكر أنه قرأها بخطه. فمنها: جفونٌ يَصِحّ السُقْمُ فيها فَيُسْقِمُ ... ولَحْظٌ يناجيه الضمير فَيُفْهَمُ مَعاني جَمالٍ في عِبارات خِلْقةٍ ... لها تُرْجُمان صامِتٌ مُتَكَلِّم تَأَلَّفْن في عينيْ غَزَالٍ مُشَنَّفٍ ... بِفَتْواهما في مذهب الحبِّ يُحْكَم تَضاعَفَ بالشكوى أَذى الصَبّ، والهوى ... تَخَرَّصَ فيه الظالمُ المتظلم محا اللهُ نوناتِ الحواجب لم تزلْ ... قِسِيّاً، لها دُعْجُ النَّواظِرِ أَسْهُمُ وأَطْفاَ نيران الخُدود فقلّ من ... رأَى قبلها ناراً يُقبّلها فم سقاك الكرى من مَوْرِدٍ عزَّ ماؤه ... عليه القُلوبُ الهِيمُ كالطيرِ حُوَّمُ أَصادَك غِزلان الحِجاز، وطالما ... تَمَنَّى تَقِيٌّ صيدَها وهو مُحْرِم طَرَقْن ووجْهُ الأَرضِ في بُرْقُع الدُّجى ... وعُدْنَ، وكُمّ الليل بالفجر مُعْلَم ومنها: كفى بمُلوكِ الأَرضِ سُقماً حِذارهم ... وإِنْ ملكوا، أن يُسْلَب المُلكُ مِنْهم وَهَبْ جعلوا ما في المعادن جُمْلةً ... رهائن أَكْياسٍ تُشَدّ وتُخْتَم فلم يَبْقَ دينارٌ سوى الشمس لم يُنَل ... ولم يبق غيرُ البدر في الناس درهم أَليس أَخو الطّمريْن في العيشِ فوقهم ... إِذا بات لا يَخْشى ولا يَتَوَهَّم أَرى كلَّ من مدَّت بِضَبْعَيْه دولةٌ ... تعلَّم منها كيف في الماء يَرْقُم تحلّى بأَسماءِ الشهورِ فكفُّه ... جُمادى وما ضمت عليه المحرَّم من استحسن التقريظ واسْتقبح اللُّهى ... تَسَمّى بأَلْمى وهو أَفْلَحُ أَعْلَمُ سَرى الجَدّ حتّى في الحرُوف مُؤَثِّراً ... فمنهن في القرطاس غُفْل ومُعْجَم ولو قَدّمَ الإِحسانُ والفضلُ لم يَلِقْ ... بغير الحُسَيْن الزَّيْنَبِيّ التقدُّمُ إِمامٌ غدا بالعلم في العصر غُرّةً ... برغم العِدى والعَصْر بالجهل أَدهم بنُور الهُدى قد صحّ مَعنى خِطابه ... وكلّ بعيدٍ من سَنا النُّور مُظْلم وطالعت كتاب أبي سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني الموسوم بالمذيل لتاريخ مدينة السلام وقد أورد ذكر الغزي وأثنى عليه وقال: شيخ كبير مسن قد ناطح التسعين وكان أحد فضلاء الدهر ومن يضرب به المثل في صنعة الشعر. وكان ضنيناً بشعره ما كان يملي منه إلا القليل. ورد عليها مرو وكان نازلاً في المدرسة النظامية إلى أن اتفق له الخروج من مرو إلى بلخ فباع قريباً من عشرة أرطال من مسودات شعره بخطه من بعض القلانسيين ليفسدها، فحضر بعض أصدقائي وزاد على ما اشتراه شيئاً وحملها في الحال إلي، فطالعتها فرأيت شعراً دهشت من حسنه وجودة صنعته، فبيضت من شعره أكثر من خمسة آلاف بيت وبقي منه شيء كثير. وبقية شعره الذي كان معه اشتراه بعض اليمنيين واحترق ببلخ مع كتيبات له. وقال سمعت أبا نصر عبد الرحمن بن محمد الخطيبي الخرجردي يقول مذاكرة: ولد إبراهيم الغزي في سنة إحدى وأربعين وأربعمائة. قال: وسمعت أبا نصر الخرجردي يقول بمرو: إنا الأديب الغزي مات في سنة أربع وعشرين وخمسمائة في الطريق وحمل إلى بلخ ودفن بها. وكان يقول: أرجو أن الله تعالى يعفو عني ويرحمني لأني شيخ مسن جاوزت التسعين ولأني من بلد الإمام المطلبي الشافعي، يعني محمد بن إدريس. قال السمعاني في تاريخه: أنشدنا أبو علي الآدمي بأصفهان، أنشدنا عبد الواحد الحافظ الأصفهاني أنشدنا إبراهيم الغزي لنفسه في الأدب: الفضلُ فَضْلان: طبعيٌّ ومُكْتَسَب ... وقلّما اجتمعا في المرء واصْطحبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 مَنْ لمْ يكنْ أَدبُ الأَخلاقِ يصْحَبه ... فلا تعدَّنَّه من جُملة الأُدَبا قال: وأنشدني أبو طاهر أحمد بن حامد بن أحمد الثقفي، أنشدنا إبراهيم بن عثمان الكلبي ثم أشهبي لنفسه من قصيدة: يا عاذلي في عبرتي ... والصبّ في أُذنيْه وَقْرُ أَنا في كَرى وَلَهي، ودَمْعي في الكَرى فَرَحٌ يَسُرّ والغَيْم غَيْمٌ كشْفُه ... في أَن يَبُلَّكَ مِنْه قَطْرُ وسنورد من هذه القصيدة أبياتاً أخر. قال: وأنشدني أبو طاهر الثقفي بأصفهما، أنشدني أبو إسحق الغزي لنفسه من قصيدة طويلة: أَغْيَد، للعين حين تَرْمُقُه ... سلامةٌ، في خِلالها عَطَبُ واْخضَرَّ في وَجْنَتَيْه خَطُّهما ... بحافَةِ الماءِ ينبتُ العُشُب يُديرُ فينا بخدّه قدحاً ... يجتمعُ الماء فيه واللهب مُنْتهِزاً فُرصة السرورِ به ... فَمَقْدَمُ الحادثات مُرْتَقب وله يعاتب بعض الوزراء: نَمى لك ودّي منذ قَلَّمتَ رأْسَه ... قياساً على الأَقلام والشَمْع والظُفْرِ وقدَّمْتُ شكراً ما اقتضته صنيعةٌ ... وأَقبحُ ما يُهجى المقصِّر بالشكر قال: وأنشدني ابن عمي أبو منصور محمد بن الحسن بن منصور السمعاني بمرو، أنشدني الغزي لنفسه: طولُ حياةٍ ما لها طائلُ ... نَغّص عندي كلَّ ما يُشْتهى أَصبحتُ مثلَ الطّفل في ضعفه ... تَشابه المَبْدأُ والمُنْتَهى فلا تَلُمْ سَمْعي إِذا خانني ... إِنّ الثمانين وبُلّغتها قوله: إن الثمانين وبلغتها تضمين، من قول عوف بن محلم الشيباني، كان بين يدي عبد الله بن طاهر، وقد أسن فكلمه بشيء فلم يفهمه، فقال الحاجب له لما خرج: إن الأمير كلمك بشيء فلم تفهمه، فرجع ووقف بين يدي عبد الله، وأنشأ يقول: يا ابن الذي دان له المشرقانْ ... وأُلبس العدلَ به المغربانْ إِنّ الثمانين، وبُلِّغتَها، ... قد أَحوجتْ سمعي إِلى تُرْجُمانْ وقاربتْ مني خُطىً لم تكن ... مقارَبات، وثنتْ من عِنانْ وما بقى فيّ لمُسْتَمْتِع ... إِلا لساني، وبحسبي لِسانْ أَدعو به الله وأُثْني به ... على الأَمير المُصْعَبيّ الهِجان وهي أكثر من هذه، وإنما أوردت هذه الأبيات اختصاراً. قال السمعاني: ... أبو بكر محمد بن علي بن الحسن الكرجي ببغداد، وأبو بكر محمد بن علي بن ياسر الجياني الحافظ بسمرقند، أنشدنا إبراهيم بن عثمان الغزي لنفسه بهراة: إِنّما هذه الحياةُ مَتاعٌ ... والسّفيه الغَوِيّ من يَصْطفيها ما مضى فات والمُؤَمّل صَعْب ... ولك الساعةُ التي أَنت فيها قال: وأنشدني أبو الفضل عبد الرحيم بن أبي العباس بن الأخوة، أنشدنا أبو إسحاق الغزي: أَفدي الذي ضَمّني، والبَيْنُ يحْفِزهُ ... ولم يَرُعْه انحِناء الظَّهْر والشَظَفُ إِذا تعانق منآد ومُعْتدلٌ ... كانا كلا، ضاع فيها اللام والألف قال: وقرأت في جملة أشعاره بخطه: وقالوا بِعْ فؤادك حين تهوى ... لعلّك تشتري قلباً جليدا إِذا كان القديم هو المُصافي ... وخان، فكيف آتمن الجديدا قال: أنشدني أبو بكر محمد بن علي بن ياسر بمسرقند، أنشدني أبو إسحق الغزي لنفسه بهراة: وَخْزُ الأَسنَّة والخُضوعُ لناقصٍ ... أَمران، في ذوق النُهى، مُرّان والحَزْمُ أضن تختار فيما دونه المران وخز أَسِنّة المُرّان قال: أنشدنا أبو الفتح بن مسعود بن محمد بن أبي نصر، الخطيب، بكشميهن، أنشدني الغزي لنفسه في بعض الوزراء: مِنْ آلة الدستِ لمْ يُعْطَ الوزير سِوى ... تحريكِ لحيته في حالِ إِيماء إِنَّ الوزير بلا أَزْرٍ يُشَدّ به ... مثلُ العروض لَهُ بحرٌ بلا ماء قال: وفيما قرأت بخط إبراهيم بن عثمان الغزي بكرمان من غرر قصائده في مكرم بن العلاء الوزير بكرمان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 بالجَدّ لا بالكَدّ تنتظم المُنى ... نرجو الغِنى والفقر في طلب الغنى كلٌّ يعوذ بربّه من فِتنةٍ ... إِلاّ الحريص فسؤلُه أَن يُفْتَنا يا قلْبُ أَنت مُعَذَّلٌ ومعذّبٌ ... لِمَ لا تزال أَخا الجَوى وأَبا الضنا أَفرغْ عليك دِلاء صبرك وانتصر ... إِنّ السلاح لِدفع ضيمٍ يُقْتَنى صبراً، وإِن لم تستطع صبراً فذُبْ ... مَنْ فَرّ مما لا يُطاق فما ونى ليت الذي بالعشق دونك خصّني ... يا ظالمي قسم المحَبَّة بيننا أَنا في الهوى مثلُ الخِلال مُثَقَّفٌ ... ولقد أَضرّتْ بي مناسبة القنا أَلقى الهزبرَ فلا أَخاف نُيوبَه ... ويَروعُني نَظَرُ الغَزال إِذا رنا وكذاكَ في طلب المعيشةِ شِيمَتي ... بخلاف من شاهدْت من أَهْلِ الدُّنا لو نِلتُ منزِلةَ السِّماك مشارِكاً ... فيها، لأُبدلت العزاء من الهَنا لا تقنَعَنَّ من الأُمور بِمَنْسِمٍ ... إِنّ السَنام بحذف آخره سَنا النَّقْعُ شُبّه بالسماء لأّن علا ... والغيمُ منْ جنس الدُّخان إِذا دنا والنّخل ما ثمراتُه بقريبةٍ ... ويكون أَعذبَ كلّ عودٍ مُجْتَنى أَعْرِب جمالك بالمُجاملة التي ... هي نجوةٌ ودَع اللِّسان ليَلْحَنا فاليومَ نِمْتُ عن النوائب وانْبرتْ ... هِمم الوزير تنُوبُ لي فيما عنا وقنِعْت باسم مُؤَمَّلٍ جاوَرْتُه ... أَدعو لدولته مُسِرّاً مُعْلِنا مَلِك يُشير بكفّه لا سيفه ... فَيَرُدّ بالخمس الخميسِ الأَرْعنا ومن العجائِب أَنّ صُلْبَ نواله ... مُتَحَمِّلٌ ثِقل الرجاء وما انْحَنى يَثْني خُطُوب الدّهْر عن إقليمه ... قَلَمٌ جرى يومَ الهِبات فما انثنى مُتردّدٌ يسعى لحاجة غيره ... مُتَحَمِّلٌ عن قلب حامله العنا ذو الدُّرِّ مُفْتَقِرٌ إِلى سُبُحاتِه ... وعن الجُمان بها لحامله غنى يا مَنْ أَعار السيفَ شِدّةَ بأْسه ... وأَطاعه الفَلَكُ المُدار وأَذْعَنا أَنا من يفضله القبول على الورى ... أَمّا إِذا وَقع الصُّدود فمن أَنا ما بِعْتُ فيك الخلْق حتى زُرْتُهم ... فعلمتُ أضنك فوقهم متيقنا وَمَخافتي أضنْ لا يكون لرغْبتي ... أَثَرٌ فأَبقى لا هُناكَ ولا هُنا قد أَرْجف الحُسّاد أَنّي غَلْطَةٌ ... كُتِبت فأَصْبح كَشْطُها مُتَعَيِّنا والفضل يأْنف أَن تُصيخَ لناقصٍ ... حاشا لسمعك أَن يُشافَه بالخَنا لا ترْمِني رميَ القُلامة وارْمِ بي ... في مطلبٍ رَمْي الجمار إِلى مِنى إِني أَعوذُ بما حَوَيْتَ من العُلى ... مِنْ أنْ يُخَرَّب فيَّ رأْيُك ما بنى أَيروعني نَقَدٌ وأَنت جعلتني ... أَسداً، وأَنْبَتَ لي رجاؤك بُرْثنا أَعْرَضتَ، والغزّي أَنتَ غرسته ... فَعَلامَ تُعْرِض عن جَناه وما جنى جاءت مديتُه نِكاحاً جائزاً ... وأَتَتْ مودّتُه بلا مَهْرٍ، زِنا يا آل مُكْرَمٍ، المَكارِمُ لم تزلْ ... مُشتقةَ الأسماءِ منكم والكُنى نحن النّباتُ وأَنتمُ السحب التي ... تهْتَزّ تحتَ قِطارها أرض المُنى فصِفاتُنا في المدح لائقةٌ بكم ... وصِلاتُكم في الجود لائقةٌ بنا لمّا صفا أَدبي تبيّن مجدُكم ... لون المُدامة في الزجاج تبيّنا يا ابن العَلاءِ وما العلاء مُسَلَّماً ... لِسواك، زِدْ بالشارِدات تَيَمُّنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 حِرْباء رتبتك الحَسُودُ، فَوجهُه ... أَبداً يُقابل شَمْسَها مُتَلَوّنا أقْسَمتُ بالمُتَسَرْبلين من السُّرى ... حُلَلَ الدُّجى فهُمُ العُراةُ مِن الونى والباكياتِ من الفِراق بأَعينٍ ... يُجْرين منها في خُدودٍ أَعْينا وعهودٍ لذات الشباب، وإِنها ... ليَرى الخَليعُ قبيحَها مُسْتَحْسَنا أَيّامَ خَلْع عِذاره لا نعله ... يوطيه جانِبَ مُشْتهاه الأَيْمَنا إنّ الوزير المُكْرَميّ لَمَوْرِدٌ ... لِظِماءِ هذا الخلْق، مطروقُ الفِنا لا زال بالمنظوم من أَوصافه ... دون الممالك والغنى مُتزيّنا وله في القاضي زين الإسلام أبي سعد الهروي: تباً لإِسلامٍ غدا ... والأَعورُ الهَرَويّ زَيْنُه أَيُزَيّن الإِسلامَ مَنْ ... عَمِيَتْ بصيرَتُه وَعَيْنُه وله من قصيدة يمدح ابن مكرم: قُلوبُ الوَرى أَشْراكُهُنّ الشَمائلُ ... وشُهْبُ العُلى أَفْلاكُهُنّ الفَضائِلُ إِليكُمْ تُضافُ المَكْرُماتُ، ابنَ مُكْرَمٍ ... كأَنَّكُمُ الأَفْلاكُ وهي المنازل ومنها: صَقَلْتَ العُلى بالمَكْرُماتِ وإِنّما ... تَنِمّ بأَسرار السّيوفِ الصَّياقِلُ سَماحُك والتَّقريطُ زَندٌ وقادِحٌ ... وعَزْمُك والتوفيق فحلٌ وشائل ومنها: تقدَّمْتَ فضْلاً إن تأَخّرتَ مُدّةً ... هَوادي الحَيا طَلٌّ وعُقْباه وابِل وقد جاء وِترٌ في الصلاة مؤَخَّراً ... به خُتِمَتْ تِلك الشُفوع الأَوائل ومنها: وما أَنت إِلاّ النّصْلُ، والدّهْرُ غِمْدُهُ ... وما قيمةُ الأَغْماد لولا المَناصِلُ ولِمْ لا تَرى نَبْتَ المدائح نامياً ... وكَفُّكَ غَيْثٌ والرّياض الأَفاضل ومنها: ويلزَمَني لِمْ أَنت في الفضل طاعِنٌ ... وما أَنت جسّاس والفضْلُ وائل خُطوبُك نارٌ، والكريم وَذِيلَةٌ ... وتحت لهيب النّار تصفو الوذائلُ ويا همّتي لا تُنْكِري شَيْب لِمّتي ... فذا النّورُ بين الجهْل والحِلْم فاصل ومنها في المديح: هو السَّمْح إِلاّ بالمعالي فديح: هو السَّمْح إِلاّ بالمعالي فإِنّه ... بها باخِلٌ، والسّمْحُ بالمجدِ باخلُ إِذا زُرْتَه فاستغْن عن باب غيره ... فَساقِطَةٌ بالواجباتِ النّوافِل وَقِفْ تحت رأْيٍ منه أَو تحت رايةٍ ... فلا الحدّ مَفْلولٌ ولا الرأْيُ فائل إِليه مَرَدُّ الأَمْر، والأَمْرُ مُشْكِلٌ ... وفيه مَجالُ الفِكْر، والفكر ذاهل ومنها في صفة القلم: له ترجُمانٌ من بني الماء نَبَّهَتْ ... على فَضْلِها بالقُرْب منه الأَناملُ يَزينُ، وإِن لم يشك شيباً، قذالَه ... خِضابٌ، بمَسْح الرأْسِ في الحال ناصل وظمآن يَرْوى بعد شَقِّ لسانه ... ولو صحّ لم تَنْقَعْ صَداه المَناهِلُ تَوَهَّمَ أَنّ السِّفر بَحْرٌ فما له ... سوى موضع العُنْوان والختم ساحل إِذا سُقِيَتْ منه القراطيسُ أَحدقت ... وأَثمر عود المُبْتَغى وهو ذابل وأَلطفُ ما في صُنْعِه أَنّ رَمْزَه ... بمصر إِلى مَنْ بالعِراقَيْن واصِلُ وأَنّ الذي يسقيه حين يَمُجُّهُ ... لِجانٍ وعافٍ منهُ حَتْفٌ ونائل كَذا ثمراتُ الأَرْض، والماءُ واحد ... به اختلفتْ أَلوانها والمآكل ومنها في وصف الكتابة: كأَنّ المعاني في مَحاريبِ كُتْبِه ... قَناديلُ ليلٍ والسُّطورُ سَلاسلُ كَواكب عَجْمٍ في أَهِلّةِ أَحْرُفٍ ... بُدورُ المعاني بينهنّ كَوامِل ومنها: ولي عادةُ التخفيف، والوصلُ في الهوى ... لِكثرتِه يُقْلى الحبيبُ المُواصِل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 وقد تكْثُر الأَلفاظ من ذي فَهاهَةٍ ... وما تَحتها إِلاّ المعاني القلائل قَنا المجدِ ما ثَقَّفْتَ بالحمد والنُّهى ... أَسِنَّتَه، والمَكْرُماتُ العَوامِل ومنها: بَقيتَ بقاءَ الدَّهرِ يا كَهْفَ أَهلِه ... وهذا دُعاءٌ للبريّةِ شامل وله من قصيدة أولها: أَمامَكَ المُصْمِياتُ السُّمْرُ والحَدَقُ ... فَقَيِّدِ القَلْبَ إِنّ الظَّعْن مُنْطَلِقُ ومنها: جيرانَ سِقْطِ اللِّوى شَطَّتْ منازِلكم ... فليس يُدْركها وَخْدٌ ولا عَنَق هلاّ سَأَلتمْ على بُعدٍ بذي سَقَمٍ ... أَراق ماء الكرى مِنْ جفنه الأَرق ومنها في الشيب: ما اسودّ عيشي، وذهني والنُّهى كَمُلا ... حتى تَشَعْشَعَ هذا الأَبيضُ اليَقِقُ ومنها في المدح: تَبْدُو مناقِبُه من حَيْثُ يستُرها ... والمِسكُ من حُقّة الداريّ مُنْتَشَق حِدْ عن مُباراتِه واخْطُب مَبَرَّتَه ... فَعَزمُه البحر فيه الغُنْمُ والغرق تُمْسي خزائنه من جُودِ راحتِه ... بيداءَ، لا ذَهبٌ فيها ولا وَرِقُ وتحسبُ الوَفْرَ غُنْماً والعُلى أُفقاً ... إِذا انجلى الغَيْم أَبدى حَلْيَهُ الأُفُق أَمَا تَراني به استعصمْتُ من زمنٍ ... ثوب التَجَمُّلِ في أَحْداثِه خَلَق ومَن أَكابِرَ، عَنْ تَشْييدِ مَنْقَبَةٍ ... أَلهتهم الخيلُ والغِلمان والسَرَق وكُلُّهم يشتكي جوعاً ويَفْدَحُه ... خَرْجٌ وليس له رِفْدٌ ولا طَبَق فلستُ واللهِ أَدري بدر مكسبهم ... في أَيّ بُرْجٍ من الإنْفاق يَمَّحق من صاحبٍ، ربّ دست جدّ مُحتجبٍ ... وحاجبٍ عندها الإِمْلاق والمَلَق أَيدي سبا، غير أَنّ المنعَ يجمعهم ... كما تداخل في المسرودةِ الحَلَق ومنها: عجبت من جَهْلهم ما وافقوك، وإِن ... كان التخلّقُ لا يُنْسى به الخُلقُ وكيف قربُك لم يصْقُل خلائقهم ... وقد يُضيء بقُربِ الكوكبِ الغَسَق وله من أخرى: لولا مُزاحَمةُ الصَّباحِ، وإِنْ هدى ... كان الكرى، يا طَيْفُ، قد أَسْدى يدا فَرَسَيْ رِهانٍ كُنتما يَعْلوكما ... رَهَجٌ فما واجَهْتني حتّى بَدا والغَرْبُ مثلُ الغِمْد مُنْتَطِم الحُلى ... والشَّرق مثل النَّصْل مُنْتَثِر الصَدا والصُّبحُ مَلْكٌ والنّجومُ رعيّةٌ ... بَصُرت بغُرَّتِه فَخَرَّتْ سُجَّدا متأَلِّقٌ قابلتُه فكأَنّما ... قابلتُ تاج الحضرتين محمّدا صدراً أَراح المُعْتَفين رجاؤُه ... رَوْح العُفاةِ يَزيدُ في تَعَبِ العِدا أَغْنَتْهُ عن خِلَعِ الملوك سَجِيَّةٌ ... خَلَعَتْ عليه من الصّفاتِ السُؤْدُدا ومنها: مَنْ يكتَحِلْ بضياء وجهكَ لم يخفْ ... رَمَداً، وإِنْ عَدِم الجَلا والإِثْمِدا ومنها: وافي زمانُكَ آخِراً، وتقدَّمَتْ ... بكَ هِمَّةٌ، في كفِّها قَصَبُ المَدى فَغَدَوْتَ كالعُنوان يُكْتَب خاتِماً ... وبذاك في حالِ القراءة يُبْتَدى ومنها: لا أَقْتَضيكَ بما سماحُك فوقه ... فأَكون كالراجي من البحر النَّدا السّيفُ لولا أَنْ تُجَرِّدَه يدٌ ... أَكَلَ القِرابَ بحدّه فتَجَرّدا والبدْرُ لو لم أَلقه مُسْتَسْعِفاً ... مِن نوره لَلَقيتُه مُسْتَسْعِدا ومن قصيدة: وما الفضْلُ إِلاّ مُزنَةٌ أَنت ماؤها ... وإِن كان فيها للفصيح رعودُ وليس يفي لحن الهَزار وإِن شدا ... بصَرْصَرة البازي غداة يَسيدُ وكم قائلٍ أَلزمتَ نفسَك مذهباً ... يَشُقُّ، وحَمْلُ الفادِحات يؤود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 إِذا كنتَ صَبّاً لم تَصِفْ قمر الدُّجى ... ولم تكْتَرِثْ بالخُوطِ وهو يَميدُ فقُلتُ له ذَرْني أُفَضِّلُ كاملاً ... إِذا لمْ يكُن فوقَ الكمال مَزيد فما للغُصونِ المُسْتقيماتِ أَوْجُهٌ ... ولا للبُدورِ المُشْرِقات قُدود ولا لكريمِ المُلْكِ في أَهلِ عَصْره ... نظيرٌ ولا في السُّحْب يومَ تَجُود فَتىً، حَظُّهُ في ناظر الملك إِثْمِدٌ ... ومَسْعاهُ في جِيد الزّمان عُقودُ وله من قصيدة في التهنئة بعيد الفطر: صَوْمٌ أَغار عليه فِطْرُ ... كالنّجمِ بزَّ سَناه فَجْرُ بِنْ يا صيامُ فلمْ تزلْ ... فَرْعاً له الإِفطار نَجْر وله الشّهورُ وإِنما ... لك من جميع الحَوْل شهرُ ما كنتَ أَوَّلَ راحلٍ ... ودّعْتَ والزّفراتُ جَمْر ومنها: بدأوا بأَخذ قلوبنا ... زاداً وقالوا نحن سَفْر ومَضوْا وما لِقبابهم ... إِلاّ عَجاجُ الخَيْل سِتْر حذراً على بيضٍ وسُمْر دونها بيضٌ وسُمْر هذا مأخوذ، بل مسلوخ، من قول ابن صربعر البغدادي: بيضٌ وسُمْرٌ في قِبابهمُ ... ممنوعةٌ بالبيض والسُّمْرِ ومنها في المخلص: غُمْرٌ من انْتَجع الحيا ... وندى بهاء الدين غَمْر ومنها في المدح: صَدْرٌ يجود، وعزمُه ... قلبٌ له التوفيق صَدْرُ كتب الكواكبُ مدحَهُ ... فعلى المجرّة منه سطر يَلْقى المؤمِّلَ باسماً ... كرماً تهافت عنه كِبر والحبّ مَوْقوفٌ على ... بَشَر يقابل منه بِشْرُ في خَطّه دُرَرٌ يَجُو ... دُ بِهنّ يُمْناه بَحْر ولِكُلّ عافٍ عندَه ... معنىً من الإِحسان بِكْر نال العُلى كَسْباً وليس لوارث العلياء فخر كاللَّيْثِ علَّمه السُّطى ... نابٌ يصولُ به وظُفْر فسمَتْ به وسَما بها ... فكِلاهما عِقْدٌ ونَحْر فكأَنّه والمجد حين تمازجا ماءٌ وخمر ومنها في التهنئة والشكر: فاسعَد بعيدٍ رسمُه ... من جُود كفِّك مُسْتَمِرُّ منْ نُور وجهك يَسْتَمِدّ فأَنت شمسٌ وهو بدر قد جاءَتِ الصّلةُ التي ... تفصيلها خِلَعٌ وتِبْر فجمعتُ شكري كلَّه ... ووَسَمْته بك وهو كُثْر وأَخافُ أَن تُسدي يداً ... أُخرى وليس لديّ شُكْر يا مَنْ لنا مِنْ فتح با ... ب رجائه فتحٌ ونصر نظمُ المدائح دَيْدني ... والجُودُ مالك عنه صبر ومتى يقوم بحقّ من ... سَبقَتْ لُهاه الشِّعْرَ، شِعْر وله من قصيدة: أَين دَعواكَ والمَغاني مَغنِ ... والمعاني كاللفظ حاز المعاني ونواك الشَّطونُ إِزْماعُكَ الرّحْلةَ مِنْ غزّةٍ إِلى عَسْقلان ومنها: إنما كانت الحياةُ حياةً ... في ليالي وصْلِ الحِسانِ، الحسان يا خليليّ لو ملكتُ فؤادي ... جاز أَن يملك الصوابُ عِناني ظالمي من أَراد إِنصافَ نفسي ... مِنْ هَواها، وآمري مَنْ نهاني قد تورَّطْتُ في تعسُّفِ شَوْقي ... حيثُ لا يعرِفُ السُّلُوُّ مكاني ومنها: ربّ ليلٍ أَباحَ سفكَ دمِ الدّنِّ بضَرْبٍ تأْثيره في المثاني فُوِّقَتْ للسُّرورِ فيه سِهامٌ ... وقَعتْ في مَقاتِل الأَحْزانِ بين بيضٍ تجُودُ بالمُهَج الحُمْر، وصُفْرٍ تجود بالأبْدان وغزالٍ تَعَلَّم الناسُ من عينيه حِفظَ النُّصول بالأَجفان شفَع الضعف بالسُّطى، كالحُميَّا ... مَن مجيري في القَتُول الواني كَبِدي منه خِلْبها في مخاليبِ عُقاب الصُّدودِ والهِجران كُرةً صار كلُّ قلبٍ لصُدغٍ ... صار لمّا لواه كالصَّوْلجان وعجيبٌ من خدّه كيفَ يَبْقى ... ماؤه بين جَمْرةٍ ودُخان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 دعْ حديثَ الهوى فقد وثب العَقْلُ على الجهلِ وِثبة السِّرحان وسلِ الله أَن يَزيدَ بهاء الدين عزّاً حضيضُه الفَرْقَدانِ فهو من يحسب المَكارمَ ديناً ... ويَعُدُّ المديح عَقْد ضَمان ومنها: كلَّ يومٍ تعاقب المالَ يُمنا ... هـ بِسَوطِ النّدى وليس بجانِ لاقياً من جوارها ما يُلاقي ... طَرَفُ الرمح من جِوار السِّنان ليس يختصّ مدحُه بلساني ... مَدْحُ شمسِ الضُّحى بكلِّ لِسان ومنها: ما دعوناه من بني الدّهر إلاّ ... أَهَّلَ الدّهرُ نفسه للتهاني جُمِعَ الأُسْد والكواكب والأَبْحر والنّاسُ منه في إنسان واستجابت له مناقبُ شَتَّى ... لم تَجُلْ في خواطر الإِمكان هيبةٌ في طلاقةٍ، واهتزازٌ ... في ثباتٍ، وموجَزٌ في بيان شِيَمٌ رَوّتِ القواضبَ والسُّمْر، ظِماءً، في كلّ حربٍ عوان ومنها: يا أَبا جعفر، أَبو الجعفر البحرُ، وقد صحّ ما ادّعاه الكاني كيف يبقى ما أَثْبتته السجايا ... ولِكفَّيْك في النَّدى آيتان ثمرٌ لا يَقِلّ، والعودُ ذاوٍ ... وربيعٌ، والشمسُ في الميزان مالُكَن الدَّهْرَ، قِسْمَةٌ بعدَ وُفّا ... دِكَ بين الخُوان والإِخوان لا كمن عَزّ خُبزُه أَن ترى العينُ مُحَيّاه في سوى رمضان وله من قصيدة في وزير بعد سمل عينيه ويذكر ما جرى له في القلعة: اللهُ جارُك والنبيُّ الهادي ... يا من يُوالي فيهما ويُعادي كِلْ ما يَهولُ من الأُمورِ إِلى الذي ... عَلِمَ السَريرةَ فهو بالمِرْصادِ كم سَرّ آخرُ عارضٍ من بعد ما ... ساءتك منه طلائع وهوادي في كُلّ حُكْمٍ حِكمةٌ مدفونةٌ ... كشرارةٍ عطَّيْتَها برَماد ما النّاسُ إِلاّ جازِعٌ أَو طامعٌ ... خُلِقُوا عبيدَ السيف والإِرفاد لو كان يُنْجي الاعتزالُ نجا به ... مما دهاه، الحارثُ بن عَباد ومنها: تَبَّتْ يدُ الأَيام إنَّ صروفها ... سَقَمُ الكِرام وصِحَّةُ الأَوْغادِ لو أَنصَفْتك لكنتَ أَشرفَ رائحٍ ... في تاجِ مملكةٍ وأَكرمَ غادِ لكنْ خُلِقْنا في زمانٍ جاهلٍ ... بمواضع الإًصلاح والإفساد يصف عمى الممدوح: لِلهِ في إِبقاء عِزّك باذِخاً ... سِرٌّ حَداه من المشيئةِ حادِ مِنْ بعدِ ما ظنّ السَوادُ من الوَرى ... أَنّ العُلى في مُقلةٍ وسواد هيهاتَ خاطرُكَ المنير تخاله ... كالشَّمس أَو كالكوكب الوقّاد وعَمى العُيون، إذا البصائر أَبصرتْ ... كفٌّ عن النظر الطَّموحِ العادي أَصبحت كالفِردوس ليس ضياؤها ... بالنَّيِّرين ولا بقَدْحِ زِناد ومنها يصف القلعة: كم رام حربك من خميسٍ، قَلْبُه ... كاليمِّ، في التَّمويجِ والإِزباد سدّ البسيطة نازلاً من قُلّة الجبلِ الأَشَمِّ إِلى قرارِ الوادي حتّى غَدا الحَصن المُبارك خِنْصراً ... في خاتَمٍ من بُهْمَةٍ وجواد واشتدّ غيظ بني السخائم واغتدَوْا ... زُرّاع ما طمعوا له بحصاد قَصَموا الصّوارم حين يُكْرَه لَمْسُها ... من غيظهم وتَسَعُّرِ الأَكباد فكأَنّما كان الوَباءُ كمينَهُم ... بعثوه واتّفقوا على ميعاد ومنها: بارزتَهُمْ بكُماة رأْيٍ كَهْلُها ... وغُلامها من حيّ مَحْض سَداد ومنها: إِنّ الحصون تَحَصَّنَتْ برجالها ... همْ كالمناصِل وهي كالأَغْماد والفتحُ من ربّ السماءِ منالُه ... بالنصر لا بِتَكاثُر الأَجْناد أَخذ الفوارسَ فارسٌ، فلْيمتنع ... بأَبي الفوارس مُقْبِلُ الأَولاد ومنها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 إِن كان من أَهل الزمان، وجُلُّهُمْ ... للذَّمِّ، وهو يُخَصَّ بالإِجمادِ فمن الحدائد، وهي أَصلٌ واحدٌ، ... سيفُ الكَمِيّ ومِبْضَع الفَصّاد يا واحداً في أُمةٍ قد ساسها ... أُممُ الأَنام تُساس بالآحاد ومنها في الشعر والشعراء: أَما القصيدةُ فهي عِلْقٌ بِعْتُه ... في يومِ مَسْغَبَةٍ وسُوقِ كَساد ما كثرةُ الشعراءِ إِلا عِلَّةٌ ... مُشْتقّةٌ من قِلّة النّقادِ كُلٌّ يُهدِّد بالقريض وسيفِه ... والنَّصْلُ نَصْلي والنِّجاد نجادي فلكُ البلاغة والفصاحة خاطري ... أَهدى لمجدِكَ كلَّ نجمٍ هادِ ومنها في الشعر: إِني سُئلتُ عن المكارم والعُلى ... فأَجبتُ بالإِنشاء والإِنشاد نِعم الجوابُ لسائلٍ، جوّابةٌ ... كالرّيح في الإغْوار والإِنْجاد تَصْطادُ من صاد الأُسود وتمسح الدنيا وتَنْقَع من غليل الصادي وله من قصيدة في الوزير أبي المعالي ابن المطلب: تَجودُ الأَخيليَّةُ بالخيال ... وعِقْد الجوّ مُنْتَطِم اللآلي فيطرقنا فريداً من فريد ... وكم من عاطلٍ في حُسْنِ حال إِذا عِفْتَ الحليّ وخِفْتَ جِرْساً ... فكيف أَمِنْتََ رائحة الغوالي أَلم تعلم بأَنّ الريح إِلبٌ ... على سِرّ المَلاب بكلّ حال فَمُرْ مهما سريتَ اللُّوحَ يعقِدْ ... بأَزْرارِ الجَنوب عُرى الشّمال ومنها: عجبتُ لحبِّ أَفئدةٍ مصونٍ ... نُبدّده لنَمْل هوىً مُذال ومنها وقد أبدع في هذا المعنى: تبدّلني النوى لوناً بلونٍ ... فيُظْلِم خاطري بسَنا قَذالي كذاك المسك أَحمرَ كان قِدْماً ... ولكن سوّدته نَوى الغَزال وما خُلِق الفَراشُ وطار إِلاّ ... ليعلم كيف يَهْوى النارَ صالِ ومنها: أَمٍنْتُ حوادث الأَيّام لمّا ... غسَلت يَديَّ من جاهٍ ومال ملِلْتُ العيش حتّى كدتُ أَشكو ... جِنايات المَلال إِلى الملال وما اعتاص المَرام عليّ إِلاّ ... وجدت التَرْك يُرْخِص كلَّ غال تَحُلّ بي النوائب ثم تمضي ... وما نحتت خِلالاً من خِلالي وأَحملها كَحَمْل بَنانٍ كَفّي ... أُلوفاً في الحِساب ولا أُبالي وله من قصيدة في مدح الوزير أحمد ابن نظام الملك ويصف فتح البلاد المزيدية وقتل صدقة بن منصور: جَلا لكَ وَجْهَهُ الفتحُ المبينُ ... وَمَدّ بضَبْعِك السَبَبُ المتين وكان الخطب في التقدير صعباً ... فهانَ، وأَيّ صعبٍ لا يهُون ومنها: إِذا استغنيتَ عن جَدٍ بِجَدٍّ ... فكلُ يدٍ تصول بها يَمين صَوابُ الحال مَبْدا الأمرِ يَخْفى ... ولكنْ عند مَقْطَعه يَبينُ وقد تَدْنُو المَقاصد والمَباغي ... فتَعْتَرِض الحوادثُ والمنون وما اللَّجِب اللُّهام بذي امتناعٍ ... غداة يقوده الضَرَعُ المَهِين ومنها في الأمير صدقة: أَقام بأَرضِ بابلَ مُسْتَبِدّاً ... يُراسِلُه الإِمام فما يَدين ويُوسِعُه غياث الدّين حلماً ... وغَيْرُ مُثَقَّفٍ ما لا يلين يَتيهُ بِثرْوَةٍ وطنين صِيتٍ ... وأَجنحةُ البَعوض لها طنين ولمّا لم تَعِظْهُ من اللَّيالي ... قرائنُ، بعد ما خَلَتِ القُرون سَرى ورَمى الفُراتَ وراءَ ظهرٍ ... فُنوناً جمة كان الجُنون فأَقبل وهو لاسم أَبيه ضِدّ ... وأَدبر والبَوار له قرين حمى اللَّيْثُ العرينَ، وآلُ عوفٍ ... ليوثٌ كان يَحْميها العرين فلمّا أَصحروا صاروا نِقاداً ... ومن شَرّ الحَماسة ما يخون في الفرار: كأَنَّ الأَعوجيَّة يوم فَرّوا ... مُقَيَّدةُ القوائِم أَو صُفون ومنها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 دُعاء الخَلْق للسّلطان فرضٌ ... لأَن الشَّرْع ماءٌ وهو نون كأَنّ ركابه الأَفلاك تجري ... ومِنْ حركاتها حَصَل السّكون ومنها: خَلَتْ أَرض العِراق فلا هِجانٌ ... يَرُوق له الثَّناء ولا هَجين وَجَفّ النّاسُ حتى لو بَكَيْنا ... تعذّر ما تُبَلُّ به الجفون فما يَنْدى لممدوح بَنان ... ولا يندى لمَهْجُوٍّ جبين ولو أَطلقْتَني لهَربتُ مِنها ... أسيراً من جَوامِعه الدّيُون ومنها: فلا تُغْفِل ملاحظتي، فجاهي ... بما اكْتسبته آمالي رَهين وظنّي كان ضامنَ ما أُرجّي ... فإِنْ أَخّرْته أُخِذَ الضمين وله من قصيدة في الشيب في مدح القاضي ابن الخطيبي وأحسن في تشبيهه بالغبار: مَسَحَتْ عارضي وما ذاك إِلاّ ... أَنها ظنَّتِ القَتير غُبارا وأنا شبهته بالغبار في موضع آخر، وأظن أني ابتكرت المعنى، وهو من قصيدة طويلة: وما مشيب المَرءِ إِلا غُبْرَةٌ ... تعلقت من ركض عُمْرٍ قد غَبَر وذكرت المعنى في كلمة أخرى طويلة منها: ليْلُ الشّبابِ تَوَلّى ... والشّيْبُ صبحٌ تأَلّقْ ما الشَّيْب إِلاّ غُبارٌ ... من رَكْض عمري تَعَلَّقْ ما الشَّيْبُ إِلاّ غُبارٌ ... من رَكْضِ عمري تَعَلَّقْ ركبتُ لمّا تكهَّلْتُ بعدَ أَدهَمَ أَبْلَق وضاع مفتاحُ وصل الحسان فالبابُ مُغْلَق ولا حِزامي وثيق ... ولا عِنانيَ مُطْلق وشبّهت الشيب بتتريب الكتاب مبتكراً المعنى في قولي من كلمة طويلة: أَصُدوداً ولم يَصِدُّ التَّصابي ... ونِفاراً ولم يَرُعْك المشيب وكتابُ الشّبابِ لم يَطْوِه الشيْبُ ولا مَسّ نَقْشَه التَتْريبُ رجعنا إلى الغزي ومن قصيدة الغزي: يا شُموس الحِجالِ كان الشّبابُ الجَوْن ليْلاً يستصحب الأقمارا طَلَع الفجر فاطّلعن علينا ... إِنّما تَطْلُع الشموس نهارا ومنها: وسهَوْنا عن قَصٍّ أَجنحة العمر بما يُصْلِحُ المَعادَ فطارا ومنها في المدح: وَغَدا يُعتِق العبيد زماناً ... ثم أمسى يستعبد الأحرارا ومنها: يُفْحِم النّاطقين بالحرف، والكو ... كبُ مهما تَبَلَّجَ الصُّبْحُ غارا ومتى حَلَّ مُشْكِلاتِ الخَفايا ... حلّ عن جيد فهمك الأَزرارا ومنها في القلم: وله المزبر الذي ينظِمُ الأَحْرُف زَغْفاً، يثني بها الأَقدارا قلمٌ خِلْته لكثرة ما يأ ... سو كُلومَ الورى به مِسْبارا لو كتبنا إِليه عُونَ المعاني ... أصبحت في مديحه أَبكارا ومنها: دُمْتَ في وجنة الرياسة توريداً وفي ناظر العُلوم احوِرارا وإِذا كان دونَك اللهُ دِرعاً ... جَعَلَ الأَيديَ الطِوال قِصارا ومنها: ليس هذا بِمدْحَةٍ إِنَّما نكتُب أَمثال ذا إِليه اعتذارا وله من قصيدة في ظهير الدين ابن الفقيه صاحب المخزن بعد خلاصه من حبس السلطان محمد بن ملكشاه: كم ذا التَّجانُف، والصُّدود فِراقُ ... أَأَمِنْت أَنْ تَتَذَمَّمَ العُشاقُ أَطلقْتَهم باليأْس من صَفَدِ المُنى ... يأْسُ المُقَيَّدِ بالمُنى إِطْلاق للحُسن أَمواهٌ تروق بروضةٍ ... وعلى مواردها الدّماء تُراق سَكْرى الفِراق وإِن صَحَوْا مَرْضى الهوى ... والحبُّ ما لمريضه إِفراق نطقوا بأَعينهم وأَفصحُ صامتٍ ... دمعٌ يفُضُّ ختامَه الأَشواق ومنها: ما كان صفو العيش إِلا مَنْصِباً ... لمُخالف الأَيام فيه وفاقُ فعُزِلْتُ عنه، وللرجال بعزلها ... مثلُ الغواني، عِدّةٌ وطلاق أَنفقتُ من كيس الشباب على الهوى ... يبقى الغِنى ما أَمكن الإنفاق ومنها: صبراً فإِن الصبر فيه مشقةٌ ... فيها لِمعراج المُراد بُراقُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 وإِذا رنا طرْفُ النوائب فابتهج ... فمن الرُنوُّ تَوَلَّدَ الإِطراق ولقد صَحِبت الليل يسحبُ مِسْحَه ... والجوّ خَصْرٌ والنّجوم نِطاق ومنها: بخلاص خالصة الخلافة بعدما ... يئست قلوبٌ أَن يُحَلَّ خِناق إِحماد عاقبة العناء عِنايةٌ ... والمجد فيه السمّ والدّرْياق ومنها أيضاً: ثقُلت مغارمُه فزاد نوالُه ... كالعود ضاعف طيبَه الإِحراق ومنها: لا تَعْتِبنّ على الخطوب، فربّما ... خَفِي الصوابُ فأَخطأ الحُذّاق شُربُ الدواء المرّ يُعْقِب صحةً ... تحلو، وإِن لم يحلُ منه مَذاق ومنها: خِلَعُ الإِمام، ولم تزل أَهلاً لها، ... شرفٌ يُمَدّ له عليك رِواق وأَجلّ منها ذكره لك في النوى ... والاشتمال عليك والإِشفاق ما تنسج الأَيدي يبيد، وإِنما ... يبقى لنا ما تنسج الأَخلاق وله من قصيدة في الأستاذ أبي إسمعيل: لا تحسبوا فَيْض عبرتي عَجَباً ... لو قُيِّد الدمع بعدهم وَثَبا إِنّ المُغذّين بالدُّمى تَخِذوا ... خاورق الحجب دونها حُجُبا ومنها: وربّ خطبٍ حللتُ عُقدته ... بمنزلٍ لا تُحَلّ فيه حُبا ومَلِكٍ جُبتُ نحوه ظُلَماً ... فزرته مُشرق المنى، شَحِبا جاد بما يملأُ الحقائب لي ... وجُدتُ بالشعر يملأُ الحُقُبا وكم تصيَّدتُ والصِّبا شركي ... سِرْبَ ظِباء لحاظُهن ظُبا يصف الغدير: على غديرٍ برَوْضَةٍ نظمَتْ ... نُوّارُها حول بدره شُهُبا يدقّ فيه الغمامُ أَسهمه ... فيكتسي من نصالها حَبَبا ويَعْجُم الطلّ ما يَخُطّ على ... صفحته مَرُّ شَمْأَلٍ وصَبا بُرود نقشٍ كأَنما خلع الأَيْم عليهن بُرْدَهُ طربا لو كنّ يَبْقَيْن ظنَّهُن صفيُّ الدولةَ الأَحرف التي كتبا عاقلة الفضل وابن بجدته ... وقلب جسم الزمان، لا وَجَبا وله من قصيدة: بَيني وبين رضاهم مَهْمَةٌ قُذُفُ ... وعند بطء التلاقي يسرع التلفُ ومنها: أَفدي الذي ضمّني والبين يَحْفِزُه ... ولم يَرُعْه انحناءُ الظهر والشظفُ إِذا تعانق مُنادٌ ومعتدلٌ ... كانا كلا، ضاع فيها اللام والأَلِف والحظّ من جوهر الأَشياء سَلْه ولا ... تسأَل من الله قَدّاً زانه الهَيَفُ فالقوس، في قبضة الرامي، لعزّتِها ... والسّهم، من هُونه، يُرْمى به الهدف لم يُبْقِ لي زمني شيئاً أُسَرُّ به ... فالحمد للهِ لا فَوْزٌ ولا أَسَفُ عَرّى أَاكبِرَه من ثَوْبِ مَحْمَدةٍ ... فالقومُ في السّابغات اللُّبَّسُ الكُشُفُ لم يقنعوا بحجاب البخل فاحتجبوا ... كما غلا بعد سوء الكِيلَة الحَشَفُ وإِن جرى غلطٌ منهم بمكرُمةٍ ... فَبَيْضَةُ العُقْر لا يُرْجى لها خَلَف أَعجِبْ بهم قطُّ في الآراء ما اتّفقوا ... على صَوابٍ، وفي التقصير ما اختلفوا ومنها: حمى أَبو طالب طُلاّبَ نائِلهِ ... عن بِذلةٍ، للعلى من مثلها أَنَفُ ومنها: إِني لأَطمعُ في أَني بلمحتهِ ... يوم النّدى من صروف الدهر أَنتصف في فقر الممدوح وضيق يده عن الممنوح: لا عيْبَ فيه سوى ظلم الزمان له ... والدهرُ معتذرٌ يوماً ومُقْتَرِفُ وإِنما رام بالإِنفاض وَقفتهُ ... عن هزّة الجود، والأَفلاك لا تقف عَلياه تحت عَجاج الحالِ واضحةٌ ... كطلعة البدر ما أَزرى بها الكَلَف وربّما حال دون الجود ضيقُ يدٍ ... والغيثُ أَحواله في الجود تختلف ومنها: قد فلَّ غَرْب القوافي جهلُ سامعها ... ونالت المَهْرَ، دون الكاعب، النَّصَفُ وضاعت الأَرض بالأَحرار واتصلت ... نوائبُ الدهر حتى مالها طرف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 ومنها: لك الفصاحة ميدانٌ شأَوتَ به ... وكلنا بقصورٍ عنك نعترف فمهّدِ العُذر في نظمٍ بعثتُ به ... مَنْ عنده الدُّرُّ لا يُهدى له الصَّدف وللغزي: لا يَفْرَحَنّ بما أَتاه مُعَجَّلاً ... فلكلِّ تشبيبٍ طويلٍ مَخْلَصُ ولعلّ دولته جَناحا نملةٍ ... كم عاثرٍ بذُيولِ ما يتقمَّصُ وله من كلمة سبق ذكرها: فأَنت إِذا نطقت أَبو المعاني ... وأَنت إِذا كتبت أَبو المعالي صَلاة مكارم الأَخلاق فرض ... وما غيرُ الأَذان على بِلال وقد جاءتك مُحكمةٌ شَرودٌ ... تَمُتّ بنفثةِ السحر الحَلال لو امتلأَت بها أُذنُ ابنِ حُجرٍ ... لعلّقها مع السبع الطِوال وله: أَبو جعفرٍ في كفه أَلف جعفر ... يفيض، ويغنيينا عن الوشل البَرْضِ له الخُلُق المبنيّ في الجود لم يزل ... وما دونه للرفع والنصب والخفض يَهِشّ بمن يلقاه والدهرُ عابسٌ ... ويبسُط كفّ الجود في موضع القبض وله: جبانٌ عن الإِنفاق، والمال وافرٌ ... وربّ سلاحٍ عند من لا يقاتلُ وما الرزق إِلاّ طائرٌ أَعجب الورى ... ومُدَّتْ له في كل فنّ حبائلُ وله: كنتَ كالدرّة اليتيمة في العِقد ... وإِن كان كلُّه من لآلي وله من قصيدة: قومٌ كأَن ظهور الخيل تُنبتهم ... وما سمعتُ بإِنباتٍ بلا مطر لا يجسُر الطيفُ يسري في منازلهم ... مهابة خَيَّمت في مَطْمَحِ الفِكر ومنها: هذي الوزارة لا ما كنتُ أَعهده ... أَين اعتكار الدُّجى من بَلْجة السَّحَر ولستُ أَطعن في القوم الذين مَضَوْا ... ولا أُبرقع وجهَ الصدق بالطَّحَر أَبدى لنا عصرُهم من عوده وَرَقاً ... فالشهب، لولا ثبات القطب، لم تَدُر إِن كنتَ فرداً فضوء الصبح أَين بدا ... فردٌ يفيض على بادٍ ومُسْتَتِر وربّ وطفاء لم تُشْفَع بثانيةٍ ... تَهْمي فتُنْبِت أنواعاً من الزَّهَر فاسلم ودُم ليصير الملك ذا خطرٍ ... وقيمةٍ، قيمةُ الأَصداف بالدُّرر وله: يُشاركني في سيبه كلُّ ناطقٍ ... أَلا إِنما شِرْكُ المكارم توحيدُ كأنَّ محيّا الصُّبح قابلَ فضله ... ففي خدّه من خجلة النقص توريدُ يَزيدُ سماحاً والخطوب تُمِضُّه ... كما زاد طيباً، وهو يحترق، العود فَضَلْتَ الورى طُرّاً وإِن كنت بعضهم ... كما فضل الأَيامَ في السنةِ العيدُ وله: ولما دخلتُ الريّ قلت لرفقتي ... خذوا حِذركم من داغر وخؤون ففيها لصوصٌ في الدُّجى بخناجر ... وفيها لصوص في الضحى بعيون وله: لبستُ السّرورَ فأَبليته ... وبعدَ السّرور سيَبْلى الحَزَنْ وبُدِّلْتُ من سَبَجٍ لؤلؤاً ... فأَبغضتُ كلَّ نفيس الثمن سَنا الشيب رَحْضٌ يفيد البيا ... ضَ على أَنه لا يُزيل الدَّرن وله: إِن عاق فكري عن التجويد ضيقُ يدي ... فالشَّوكُ يُقْصِر خَطْوَ الراجل الحافي أَو قصّرتْ خدمتي فالجودُ أَفضلُه ... تجاوُزُ المرتجى عن هفوة الهافي وله: كن في زمانك جاهلاً لا عالماً ... إِنْ كنتَ تطمع في حصول مقاصدِ فالنار أَحرقت النضيج لأَخذه ... منها، وتُنْضج كلَّ نِيّ بارد ومنها: لعلوّه يدنو، وأَقرب ما تُرى ... شمسُ الضحى من أَوجها المتباعد إِن عدّ من صِيْدِ الملوك فما خلا ... أَسلافه من عالم أَو زاهد والعودُ يُعْرب فرعُه عن أَصله ... ويجيء من ثمراته بفوائد وله: لا أقتضيك بما سماحُك فوقَه ... فأَكون كالراجي من البحر النَّدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 السيفُ لولا أَن تجرِّدَه يدٌ ... أَكل القِرابَ بحدّه فتجرَّدا وله: يا مَنْ ذنوبي عنده الفضل الذي ... لولا مَزِيَّتُه لكان مُسالمي ومطلع القصيدة: أَنا ظالمي إِن عِفتُ سَطْوة ظالمي ... بل لائمي إِن خفتُ جَفْوَةَ لائمي ومنها: ومُحجّبٍ جاد الوداع بضمّهِ ... فحلبت غُنْمي من ضُرع مغارمي وظفرتُ من تقبيله متلثّماً ... بجَنى أَقاحٍ في بُطون كمائمِ يُسْقى القضيبُ إِذا ذوى، أَما إِذا ... أَبْدى الثمار فكم له من راجم خُفِض المنافس في انتصابك للنّدى ... فارفع دعائِمه بأَمرٍ حازم ما في كريم المُلْك دام جمالُه ... عيبٌ سوى كرم الطّباع الدائم شِمٌ كروْضات الرُّبى أَرَجاً إِذا ... لَطَم النَّسيمُ وجوهَها بلطائِم وشمائلٌ أَنطقْنني من بعد ما ... كان السكوت عليّ ضربةَ لازم ومتى اشتملتَ على العلوم وأَهلها ... أَيَّدتَ خافية العُلى بقوادم ما الملك إِلاّ صارمٌ تُحمى به ... الدنيا، وأَنت فِرَنْدُ ذاك الصارم جذبتْ بِضَبْعي بين قوم، فخرُهم ... في جرّ أَذيالٍ ولَوْث عمائِم قيِّدْ عدوَّكَ بين شَرْي مَخافةٍ ... من عزمك الماضي وأَرْي مكارم كلُّ القَنا حسنٌ ولا سِيَما إِذا ... خَلّيتَ أَطراف القنا بلَهاذِم وله: أَبو جعفر في كفّه أَلفُ جعفر ... من الجود ما فيهن للعَذْل مَوْرِدُ كريمٌ كأَنّ المال خالَف أَمره ... فعاقبه بالبذل، والشَّهم يحقِد حمى عن حروف النفي غَرْبَ لسانه ... مخافة لا، فالقول بالفعل يُنْجَد وإِن قالها عند الصّلاة فإنها ... لإِثبات وحدانيةٍ يتشهَّدُ وله: ولربّما ستر الحياءُ فضيلةً ... في المرء فانكشفت بهمزة ثالب كيتيمة الدُّرّ التي لم تنخرط ... في سلكها إِلاّ بطعنة ثاقب وله: لو لم أَمُتْ بهواك قال العُذَّل ... ما قيمةُ السيف الذي لا يَقْتُلُ ومنها: مُتَبَدِّلون لِوى العقيق من الحِمى ... إِنّ التبدّل للمصول تَبَذُّل حَتّامَ أَنتظر الوصال وماله ... سببٌ، وهل تلِد التي لا تَحبل ويَزيدني أَلم القطيعة رغبةً ... فيكم، ويُنْقِضُ مَنْكِبَيَّ وأَحْمِلُ والعاجزان الغالبان: مُعاقبٌ لا ينتهي ومعاتب لا يخجل وتغيُّرُ المعتاد يَحْسُنُ بَعْضُه ... لِلْوَرْدِ خدٌّ بالأُلوف مُقَبَّل ومنها في المدح: صَدْرٌ يُعير الشمسَ ضوءَ جبينه ... ودُوَيْن أَخْمَصِه السّماك الأَعزل يبغي ببذل المال إِحرازَ العُلى ... والعَرْف يبقى يوم يَفْنى المَنْدل إِن كان يستر بالتواضع مجده ... فالقلب تحت شَغافه لا يُجْهل والنّصر ليس يَبينُ حقَّ بيانه ... إِلاّ إِذا ستر الخميسَ القَسْطَل يا واحداً هو في المكارم أُمّةٌ ... وبجوده حسد الأَخيرَ الأَوَّلُ لمُساجليك من المعالي لفظُها ... ولك المعانين والمعاني أَفْضلُ فاسلم لهذا الملك فهو مفازةٌ ... جَدْواك للصادين فيها مَنْهَل وأنشدني بأصفهان الشاب أبو المحاسن بن فضلويه، وكان الغزي في داره عند كونه بها، قال أنشدني لنفسه في الكوفي الذي كان يحبه: ولما رأَيتُ الحُسْنَ عزّ مَرامُه ... عليّ وكان الاشتراك شنيعا عشقتُ قبيحاً كي أَفوز بوحدةٍ ... فشاركني فيه الأَنامُ جميعا وأنشدني أيضاً فيه: يقولون ماءُ الحسن تحت عِذاره ... على الحالة الأولى، فقُلتُ غرور أَلسنا نعاف الماء من أَجل شَعْرةٍ ... تُخالط عَذْب الماء وهو نمير وأنشدني له فيه وكان فقيهاً: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 سأَلت الكويفي في قُبْلةٍ ... فنام على وجهه وانبطحْ وقال فهمتُ دليل الخطاب ... ومن عَشِقَ الدَّنَّ باس القدح وفائدة الفقه أَن تهتدي ... إلى صورة الغَرض المقترح المهذب أبو الحسين أحمد بن منير الطرابلسي كان شاعراً مجيداً مكثراً هجاء معارضاً للقيسراني في زمانه، وهما كفرسي رها، وجوادي ميدان. وكان القيسراني سنياً متورعاً، وابن منير مغالياً متشيعاً، وتوفي بعد سنة خمسين. سمعت الأمير مؤيد الدين أسامة بن منقذ في دمشق سنة إحدى وسبعين، وهو يذكره، وجرى حديث شعر ابن مكنسة المصري وقوله: لا تخدعنَّك وَجْنَةٌ مُحمرّة ... رَقّتْ، ففي الياقوت طَبْعُ الجَلْمَدِ فقال من هذا أخذ ابن منير، حيث يقول من قصيدة له: خِدْعُ الخدود يلوح تحت صفائها ... فحَذارِها إن موّهت بحيائها تلك الحبائلُ للنفوس، وإنما ... قطع الصّوارم تحت رَوْنق مائها فقلت له: هذا شعر جيد، وأنت لأهل الفضل سيد. فاحكم لنا كيف كان في الشعر، وهل كان قادراً على المعنى البكر. فقال: كان مغواراً على القصائد يأخذها، ويعول في الذب عنها على ذمة للناقد أو للجاحد. وسمعت زين الدين الواعظ ابن نجا الدمشقي يذكره ويفضله، ويقرظه ويبجله ويقول: ما كان أسمح بديهته، وأوضح طريقته، وأبدع بلاغته، وأبلغ براعته. ورأيته يستجيد نثره، ويستطيب ذكره، ويحفظ منه رسائل مطبوعة، ويتبع له في الإحسان طرائق متبوعة، ويقول: كانت الجمهرة على حفظه، وجمة المعاني تتوارد من لفظه. ويصف ترفعه على ابن القيسراني واستنكافه من الوقوع في معارضته، والرتوع في مرعى مناقضته. ولقد كان قيماً بدمشق، إلى أن أحفظ أكابرها، وكدر بهجوه مواردها ومصادرها، فآوى إلى شيزر وأقام بها، وروسل مراراً بالعود إلى دمشق فضرب الرد وجه طلبها، وكتب رسائل في ذم أهلها، وبين عذره في تنكب سبلها. واتصل في آخر عمره بخدمة نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله، ووافى إلى جلق رسولاً من جانبه قبل استيلائه عليها وتملكه لها، وارتدى عنده من الوجاهة والكرامة حللها. ومحاسن أبي الحسين بن منير منيرة، وفضائله كثيرة، وقد أوردت منها ما قلب في قالب الظرف وظرفه، وانصرف قلب الارتياح إلى مزج صرفه، ولم ينحرف مزاج الاعتدال باعتلال حرفه. ولم يتفق لي ديوانه لأختار مختاره، وأمتار مشتاره، وأجني من روض حسنه ورده وبهاره، ورنده وعراره، وإنما التقطت أعلاقه من أفواه المنشدين، واستفتحت أغلاقه من أيدي الموردين. وسأثبت إن ظفرت بديوان شعره، كل ما يصدع به فجر فخره، ويطلع منه بدر قدره، ويدل على سمو مناره، ونمو أنواره، وعلو ناره، ورقة نسيم أسحاره، ودقة سر سحره في معاني أشعاره، وأخفر الخريدة من سخيفها، وأوفر لها الحظ من وافر رائقها ولطيفها، وأجلو لناظرها طرف طريفها، وأغني عن ثقيلها بذكر خفيفها. وذكره مجد العرب العامري بأصفهان، لما سألته عن شعراء الشام، فقال: ابن منير، ذو خاطر منير، وله شعر جيد لطيف، لولا أنه يمزجه بالهجو السخيف. قال: وأنشدني يوماً قصيدة له فما عقدت خنصري منها إلا على هذا البيت: أنا حزبٌ، والدهرُ والناسُ حزبٌ ... فمتى أغلِب الفريقَيْن وحدي شعره ككنيته حسن، ونظمه كلقبه مهذب، أرق من الماء الزلال، وأدق من السحر الحلال، وأطيب من نيل الأمنية، وأعذب من الأمان من المنية. وقع القيسراني في مباراته ومعارضته، ومجاراته في مضمار القريض ومناقضته، فكأنهما جرير العصر وفرزدقه، وهما مطلع النظم ومشرقه، وشى بالشام عرفهما، ونشا عرقهما، وكثر رياشهما، وتوفر معاشهما، وعاشا في غبطة، ورفعة وبسطة. وكنت أنا بالعراق أسمع أخبارهما، ثم اتفق انحداري إلى واسط سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، فانحدر بعض الوعاظ الشاميين إليها، منتجعاً جدوى أعيانها، راغباً في إحسانها، فسألته عنهما فأخبر بغروب النجمين، وأفول الفرقدين، في أقرب مدة من سنتين. وكانت وفاة القيسراني قبله سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. أنشدني الفقيه عبد الوهاب الدمشقي الحنفي ببغداد في جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وخمسمائة، قال: أنشدني الشيخ المهذب أبو الحسين بن منير لنفسه من قصيدة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 لا وحُبَّيْكَ لا عبدتُك سِرّا ... ليلُ صُدغَيْك صيّر اللّيل ظُهرا وَضَح الأَمر واستوى الناس فيه ... وافتضحنا فالحمد لله شكرا أَيّها الصاحيان من كأْس عَيْنٍ ... غازلْتني حتى تطفّحتُ سُكرا أعُذراً إِن أَردتما أَو فَلُوما ... في بديعٍ، حسبي عِذاراه عُذْرا واطلبا للجُحود غيري فإِني ... لست ممن يحبّ في الحبّ سَتْرا أَنا مِنْ أَجل خدّه دِنتُ للنا ... ر، وفي خاله عبدت الشِّعْرى فَضَلالي بَعْدَ الهدى في هواه ... هو عندي خيرٌ وأَعظم أَجرا وحكى الفقيه عبد الوهاب، أنه كان مولعاً يعرف بابن العفريت وفي خده خال، وأكثر أشعاره في الخال، وقد ردد المعنى فيها، فأحسن ما أنشدني له في هذا المعنى: أَنكرت مقلتُه سَفْكَ دمي ... وعلا وَجْنَتَه فاعترفتْ لا تخالوا خالَه في خدّهِ ... نقطةً من صبغ جفن نطفتْ تلك من نار فؤادي جذوةٌ ... فيه ساخت وانطفتْ ثم طفَتْ وأَبدع المعنى في هذه الأبيات وأغرب: عَطفوه فتمادى ولَها ... عَنْ حشاً أَسْعر الوَلَها رَقَدَتْ مُقلتُه عن مقلةٍ ... أَمَر الدمعُ عليها ونها قمرٌ ما طلَعت طلعتُه ... قطُّ إِلاّ سجد البدرُ لها لهبيّ السُّخْط، مائيّ الرِّضى ... فهو المعشوق كيف اتّجها نقش الحُسْن على وجنته ... شامةً، أَمتَ حُسّادي بها كان قد أَعوزها بستانه ... ثم لما أَشرقت فيه انتهى وأنشدني له من مقطوع مطبوع، بالرقة مشفوع، أطيب نظم في عصرنا مسموع، وأثبت شعر أثبت في مجموع، وهو: يا بأَبي من وَصَلا ... وملّ ممّا مطَلا زار وقد خاط الدُّجى ... على حُلاه حُلَلا فكدتُ، إِجلالاً له ... أُدمي يديْه قُبَلا فقلتُ: مولايَ أَلاَ ... غير اليدين؟ قال: لا ودار ماءُ الحسن فوْ ... ق وَجْنتيْه خَجَلا حتى إِذا سرّى سرى ... وحين أَحيا قتلا كما حلا طيف الخيا ... ل نفساً ثم انجلا يا حبَّذا ذاك الغزا ... لُ لو شفاني غَزَلا فديتُ من أَبيت منه وعليه وَجِلا بدرٌ إِذا البدر سرى ... فيه المحاق كَمُلا شمسٌ إِذا الشمس خبت ... تحت الكسوف اشتعلا إذا تلطفتُ قسا ... وإن سأَلتُ بخِلا ليت اعتدال قدّه ... عَطفَهُ فعدَلا بل ليت صَحْن خدّه ... من ذلك الخال خلا فهو الذي قلّب قلبي في قَواليب البلا يا سائلي عن الهوى ... وطعمِه سَلْ من سلا أَسكرني الحب فما ... أَدري أَمرّ أَم حلا ومن قطعة رقيقة، غريبة المعنى دقيقة، بالثناء عليها حقيقة، لا مجازاً بل عن حقيقة، وهي: أَترى يَثْنيه عن قسوته ... خدُّه الذائب من رقّتِه أَفأَستنجده وهو الذي ... لوّن الدّمعَ على صبغتِه أَوَ ما حاجبُهُ حاجبَهُ ... إِن تجافى عن مدى جفوتهِ فلهذا قَوْسُه موتَرةٌ ... تستمدّ النَّبلَ من مقلته قمرٌ، لا فخر للبدر سوى ... أَنّه صيغ على صورتِه صُدْغه كرْمةُ خمرٍ قسّمت ... بين خدّيه إِلى نكهتِه فتَّرتْ جفنيْه منها نشوةٌ ... تُوقِظ العاذل من سَكرتِه أَتخال الخال يعلو خدَّه ... نقطَ مِسكٍ ذاب من طُرّتِه ذاك قلبي سُلبتْ حبّته ... واستوتْ خالاً على وجنتِه ومن أخرى في هذا المعنى، أرق من الشكوى، وآنق من زخارف الدنيا، وأحسن من الحسنى: عاتبته فاستطالا ... وصدّ عنّي دَلالا وهكذا مَنْ تعالى ... في حسنه يتغالى مولايَ قد ذُبتُ صبراً ... وكم تذيب مِطالا ما كان عهدك إِلاّ ... مثل السلوّ محالا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 بل كان زُور خضابٍ ... نما، وفي الحال حالا سلبتَ حبة قلبي ... وصُغتها لك خالا فقد كستني نُحولاً ... كما كستكَ جمالا يا كاملاً وجهه علّم البدور الكمالا يا أَحسنَ الناسِ وَجهاً ... صِلْ أَسوَأَ الناسِ حالا حاشا جمالك من أَنْ ... يستقبح الإِجْمالا لم أَحظ منك بسُؤلٍ ... وقد فنيت سُؤالا أَما تعلّمتَ شيئاً ... من الكلام سوى لا ومن أبيات في وصف العذار، أخلع من خلع العذار، وأزهر من الأزهار، وأنور من النوار، وأعقر للألباب من العقار، وأنضر في النواظر من النضار، بيتان هما: سقاني العَسجَدِيَّةَ ذو عِذارٍ ... يُنمنمُ عَنبراً في صَحْن عَسجَدْ وحيذا باللآلئ في صِدافٍ ... من الياقوت طُرّز بالزَّبَرْجَدْ قد وصف الشارب والشفة والمبسم في هذا البيت المفرد، وأحسن نظمه والجمع بين اللؤلؤ والياقوت والزبرجد. وقد ألم بوصف الخط، في أبيات كاللآلئ في السمط، يصف فيها الخط والخد والوجنة، والصدغ والمقبل والنكهة، سماعها يذكر إليك الجنة، ويحدث لك إلى حورها الصبوة، ويحل لديك من هواك السلوة، وهي: روحي الفِداءُ لمن إِذا آلمتُهُ ... عتْباً تفضّض خدُّه وتذهّبا وتوقَّدَتْ في الروض من وَجَناته ... نارُ الحياء يَشُبّها ماء الصِّبا خطّت سَوالِفُه عليها رُقْيَةً ... لمّا تَثَعْبن صُدغه وتعقربا عَذْبُ المُقَبَّل، إِن تحدث أَسكرتْ ... أَلفاظهُ وإِذا تنفّس أَطربا متغضِّبٌ دَلاًّ، فلستُ بمدركٍ ... منه الرّضا إِلاّ بأَن أَتغضّبا ومن أبيات خفيفة، على القلب لطيفة، طريفة في المعنى ظريفة: أَين مني الصبر عن وجهك أَيْنْ ... بين قلبي وسلوّي عنك بَيْنْ واهن العزم إِذا استنجدته ... فتَّرته فتراتُ المقلتينْ صار من أَعوان عينيك، كذا ... كلُّ قلب في الهوى عوناً لِعَيْن أَيُّها الراقد عندي سهرٌ ... يُكْمِد الواشي ويُبكي العاذليْن متُّ سُكراً، أَفمِن كأْسِ طِلا ... راق لي ريقك أضم من شفتين أَنا لا أَصبر عمّن وجهُهُ ... فَلَقٌ مُبتسمٌ في غَسَقيْن تَطْلُعُ الشمس لنا من شَفَقٍ ... وهو يبدو طالعاً من شفَقيْن قلت للكاهن حين اختلست ... عينه عيني فجرّ الحين حَيْن قمرَ العقرب خوّفتَ، فمَن ... منقذي من قمر في عقربيْن وأنشدني الفقيه له، وجماعة من الشاميين أيضاً، ثلاثة أبيات كمثلثة الند في الطيب، في إعراض الحبيب: ويلي من المُعْرِض الغضبان إِذ نقل الواشي إِليه حديثاً كلُّه زورُ مقصّر الصُّدغِ، مسبول ذؤابته ... لي منه وَجدان: ممدود ومقصورُ سلّمتُ فازورّ يَزْوي قوس حاجبه ... كأَنني كأْسُ خمر وهو مخمورُ وله فيمن مل المطال في وعوده، وعطف إلى الوصال بعد صدوده: بأَبي مَنْ صدّ عنّي وصدَفْ ... ثمّ لمّا ملّ من هجري عطَفْ قلت: مولايَ أَحقٌّ ما أَرى ... بعد ما حكَّمت في روحي التَّلَفْ قال: مِنْ أَحْمَدِ شيءٍ في الهوى ... عُقَبُ الصبر وتأَميل الخلفْ نحن نُحيي مَنْ أَمتْنا، كرماً ... وعفا الله لنا عمّا سَلَفْ وله في المعنى من أول قصيدة مهذبة، أبيات منتخبة، غزلة طيبة، وهي: أَلِف الصدودَ وحين أَسرف أَسعفا ... فازْورّ عَتْباً ثم زار تَعَطفا لبِس الدُّجى في ليلةٍ هو بدرها ... والبدر أَشهر ما يكون إِذا اختفى طلَع الهلال وقد بدا مُتَلثّماً ... حتى إِذا حسر اللثام تنصّفا يا طرفه، مالي أَراك خلقت لي ... داءً فهلاّ كنتَ لي منه شفا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 واهي مَناط الخصر، سُنّةُ عينِه ... تُقْتَصُّ في قتل النفوس وتُقْتَفى يبدو فتقرأُ في صحيفة خدّهِ ... من مشق أَقلام الملاحة أَحرفا ذو وَجْنةٍ نُقشت بنقطة خاله ... ونبات عارضه فخِيلَتْ مُصْحفا وله، أنشدنيها زين الدين الواعظ: قِفْ قليلاً لأَسْأَلَكْ ... مَنْ مِنَ الأُفْقِ أَنزلَكْ صِرتَ في الأَرض ماشياً ... بعد ما كنت في الفلَكْ أَيُّها البدر، بالذي ... لمُحاقي قد أكمَلَكْ أَيُّ شرع أَباح طر ... فك إِتلاف ما ملَكْ وله: فَنائي فيك أَعذبُ من بقائِي ... ودائي منك أَنفعُ من دوائِي وذُلّي في هوان هواك عِزٌ ... وإِنْ طاحت عهودك في الهواءِ بنفسي من يحلّل عَقْد صبري ... إذا ما ماس في عُقَد القَباءِ ومَن يوهي قِواي بعطف صُدغ ... كما انعطف الظلام على الضياءِ أَقول وقد بدا ينهالُ ليناً ... كما ارتجَّ اللِّوى تحت اللواءِ أَتمثالٌ من الكافور طابت ... مَراشِفُ فيه، أَم تمثال ماءِ فقال بل الهلال، فقلت حقَّاً ... ولكن لِمْ نَزَلت من السَّماءِ وأنشدني له في اسم معمى وهو سر خاب: لي سيّدٌ بعض اسمه جَنّةٌ ... وبعضُه نارُ مُحبِيهِ مَنْ زاره كان كنصف اسمهِ ... أَو صدَّه كان كباقيهِ تقلّص العقرب من صُدغه ... عن خدّه خوفَ تلظّيهِ وكم له في كبدي لسعةٌ ... بَرودها الدرياق من فيهِ وأنشدني مجد العرب العامري بأصفهان في سلخ شعبان سنة ست وأربعين، قال أنشدني ابن منير لنفسه من قصيدة: سَعَوْا بنا، لا سعت بهم قدَمُ ... فلا لنا أَصلحوا ولا لَهُمُ ومنها: وقال للماء قِفْ بوَجنته ... فمازج النّار وهي تضطرمُ ولمحت في كتاب لمح الملح لأبي المعالي الكتبي في التجنيس، هذا البيت النادر النفيس: أَقول وقد بدا ينهال لينا ... كما ارتجّ اللّوى تحت اللواءِ وأنشدت له: لامُ عِذارٍ بدا ... عرّض بي للرَّدى أَسودَ كالكفر في ... أَبيضَ مثل الهدى يا فرقد اللّيل لِمْ ... أَرعيتني الفرقدا اليومَ تجفو فهل ... تجفو التَّجافي غدا حميلةٌ سيفها قد ... سُقيَ المُرْقِدا فالحَيفُ والحَتْف إِن ... أُغمد أَو جُرّدا وأنشدني المهذب علي بن هداب العلثي ببغداد، قال: أنشدني أبو الحسين أحمد بن منير الطرابلسي: أَخلى فصدَّ عن الحميم وما اختلى ... ورَأَى الحِمام يغصُّه فتوسَّلا ما كان واديه بأَوَّل مرتعٍ ... ذعَرَتْ طَلاوتُه طَلاهُ فأَجفَلا وإِذا الكريم رأَى الخمول نزيله ... في بلدة، فالحزم أَن يترحّلا ساهمتَ عيسَك مُرَّ عيشك قاعداً ... أَفلا فَلَيْتَ بهنّ ناصية الفَلا لا ترض من دنياك ما أَدناكَ من ... طمعٍ وكن طيفاً حلا ثم انجلا فارِق تَرُق، كالسّيف سُلَّ فبان في ... مَتنيْهِ ما أَخفى القِراب وأَخملا وَصِلِ الهجيرَ بهجر قوم كلّما ... أَمطرتهم عسلاً جَنَوْا لك حنظلا وأنشدني بمصر الشيخ الإمام زين الدين أبو الحسن علي بن إبراهيم بن نجا الواعظ الدمشقي سنة اثنتين وسبعين، قال: أنشدني أبو الحسن بن منير لنفسه: عذِّبوني بهجركم عذبوني ... واطرُدوا طارق الكرى عن جفوني أَو هَبوني دمعاً لعلّ مَعين الدّمع يوماً على هواكم مُعيني لم يَدَعْ مِنّي الضّنا غير شيء ... ستر الشكُّ فيه وجهَ اليقينِ كان وجدي بكم قضاءً قديماً ... أَفأَمحو ما خُطَّ فوق جبيني وله من قصيدة كتبت أولاً منها بيتين وهي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 أَحلى الهوى ما تحلّه التهمُ ... باح به العاشقون أَو كتموا أَغرى المحبين بالمحبة بالعَذْ ... لُ كِلام أَسماؤها كَلِمُ سَعَوْا بنا، لا سعت بهم قدمُ ... فلا لنا أَصلحوا ولا لهمُ ضرُّوا بِهجراننا وما انتفعوا ... وصدّعوا شملنا وما التأَموا بالله يا هاجري بلا سببٍ ... إِلا لقال الوشاةُ أَو زعموا بحقِّ مَنْ زان بالدّجى فلق الصّبح على الرمح إِنه قسمُ وقال للماءِ قِفْ بوجنته ... فمازَج النار وهي تضطرمُ هل قلتَ للطيف لا يعاودني ... بعدك، أَم قد وفى لك الحلمُ؟ فيك معانٍ لو أَنها جُمعت ... في الشمس لم يغش نورَها الظُّلَمُ تمشي فتُردي القضيب من أَسفٍ ... وتكسِف البدر حين تبتسمُ وتُخجِل الراحَ منك أَربعةٌ ... خدٌّ وثغرٌ ومُقلةٌ وفمُ يا ربّ خُذْ لي من الوشاة إِذا ... قاموا وقمنا لديك نحتكمُ واتفق انتزاح ابن منير من دمشق بسبب خوفه من رئيسها ابن الصوفي، ومقامه بشيزر عند بني منقذ. ووصل زين الدين ابن حليم إلى شيزر، فلقيه بها ورغبه في العود وخدمة معين الدين آتر الذي كان في الجود والحلم هامي الجود، سامي الطود. فلما فارقه كتب إلى ابن منير كتاباً يستنهضه إلى الرجوع ويستدعيه، ويذكر له مصلحته فيه، ويقول له لعلي أكون في إحضارك كآصف في إحضار عرش بلقيس، ويعدد له في الأوبة أسباب التأنيس، فكتب إليه ابن منير في جوابه كتاباً أملاه علي زين الدين ابن نجا الواعظ الدمشقي بمصر من حفظه وهو: وَرَدَ الكتاب، فداه أَسود ناظرٍ ... عكفت ذخائِره عليه تبدّدُ ليل من الأَلفاظ يشرق تحته ... فلق المعاني، فهو أَبيض أَسودُ يفترّ عن دُرَرٍ تكاد عقودها ... من لين أَعطاف تحلّ وتعقدُ سلام عرقوب عليك يا أشعب، وأن أعيا جوابك وأتعب، وحياك الله أيها المعصب، أنضيتنا جداً وأنت إلى السبق تلعب، أقسم بمفاتح الغيب، إنك مكبر شعيب، بلا ريب، أبن يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول، غالت دون ما تدعونا إليه غول، أنا والله أيها الصدر إلى ما تدعوني إليه من خدمة هذا المولى أحرص، وإلى اقتناء تلك اليتيمة أميل وعليها أغوص، وإن عز لقاؤها وأعوص، وما بعد العهد بعد مما كنت ألقيت إليك من أطراف الأعذار للتقلص عن خدمته، والتقمص للعزلة عن ناحيته، وإن جراحي إلى الآن لم تذق حلاوة الاندمال، وقروحها تزداد قرحاً مع الحل والترحال، وبين الجوانح من الأين، لما لقيت بدمشق من العين، ما لا يحله إلا عقد الكفن، ولا يرفعه حدثه إلا التيمم بصعيد المدفن. وسوى ذلك تصعد بسعادتك وتعاين، ما كان من أمر وما هو كائن، ويلقاك فلان وفقيهه ومهنان وتيهه، وزيزان ونبيهه، من كل ذي خلق ذميم، وخلق دميم، وأصل لئيم، وفرع زنيم، ووجه لطيم، وقفا كليم، وهلم جرا من عذاب أليم، وصراط في الود غير مستقيم، ومكاشر مجرمز للوثبة، ومعاشر متوقع للنكبة، ومضافر لكن للدهر عليك، ومدان لكن للشر إليك، وها وها والخطب أفدح، والسهب أفسح: قُلتُ لقوم كووا بنارهمُ ... مثلي وصاروا طرائقاً قِددا طيروا معي تسْعَدوا ولا تقعوا ... قوموا فإِنّ الشقيّ من قَعَدا قالوا عَجِزنا عن أَن نفارقهم ... قلتُ فلن تفلحوا إِذاً أبدا فحياتي يا حياتي إذا عاينت فخبرت، وباطنت فسبرت، وعرفت تأويل هذه الرؤيا، وجنيت زهرة هذه الريا، تصلي على الواصف الذي اقتصر ولم يجنف، وتترحم على من حرمه أولئك الأوغاد، ورود ذلك المراد، الذي هو أقصى المراد، وغاية المرتاد: فإِنّ عظيمات الأُمور مَنوطةٌ ... بمُستودَعات في بُطون الأَساودِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 ومن جملة ما أحكيه، لتحفظه عني وترويه، أن عطا عط الله فاه، كما عط بالدرة قفاه، وعن قليل يعيش فتراه، أفرط في ذمي، بعد أن ولغ أمس في دمي، وأخذ يفاضل بيني وبين كلب لو عقرني لأنفت أن أزجره، ولو عبدني لتعاليت أن أذكره، ولم يرض المأبون أن نتساوى عنده في المنزلة، حتى علي فضله، ولا شك أنه كشف عن شاقوله فشقله، ونسفه بعد ذلك وكربله، ثم إذا شاء أدخله، وبلغني فعل هذا المولى، وقطعه لسان من هو بما قال في أولى، وكنت على نية قصده إما للزيارة والإلمام، وإما للإتيان والمقام، فأذكرني أشياء كنت نسيتها، من هذا الفن بل تناسيتها، ورأيت مقامي حيث رأيت أني خالي البال، من ملامة هؤلاء الأنذال، محروس الجانب، من كل عات عاتب، ومعيب عائب، مقيماً بين أشكال. لا أزيدك شيئاً عما وقع عليه العيان، فأنت تدعوني إلى شوك، وأنا اليوم في سمك بلا شوك، كلا وحاشا لا ألبس هذا الحوك، إلا أن أكون ذلك الجاهل المائق، المستحق للمثل السابق، الفائز باللعنتين، الملسوع من جحر مرتين، فلعن الله أبا الحسين، إن عاد إلى لبس خفي حنين، بيد أن يجري القدر بإذهاب الجفا، وتقذيذ ما في العين من قذا، فهنالك ترى الثقيل من الرجال خفيفاً، والكثير من العوائق طفيفاً، وتغص دار الهجرة بما تقدم وتلا، ويغسل ما مر من العيش بما طاب وحلا، وأما على هذه الحال فلا. وبعد هذا، أستدعى لماذا، أنا في العر أسلح، وللكتابة لا أصلح، وبالدعابة لا أعذب، ولا أملح. وهبني كنت في زمن الشبيبة، لا أحرم أجر الغيبة، وأنفق على الحبيب والحبيبة، وأقنع بالطيبة، أنا اليوم شيخ خرف، وعود قرف، وعود أنف، وعبد كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير، ليس إلا الالتحاف بالجدار، والرضا بالإقتار، والتشبه بالأخيار، والوطء لأقدام الأبرار. أليس الزرع قد ناهز الستين، وحسبك به قاطعاً للوتين؟ إلام ألعب والشيب يجد، وعلام أخلق والدهر يجد، أما أنظر المصارع في سواي، والمقصود به شواي. وأعجب من هذه المواعظ، مخرقتي بها على واعظ. إنما أوجب هذه الفنون، وفتح عيون هذه الألفاظ العون، ما جرى من ذكر أشعب في كتابه الكريم، والسجدة بعد لربك العظيم. وبعد فأنا يقطينة، إن قلت إنك شيرازي الطينة، أو بغدادي المدينة، بل عفريت سليمان، ألقادر على إحضار الإيوان، وعبدك غرس إبليس، لا عرش بلقيس، ودق شبراً ودمسيس، لا دق تنيس. فإن ضمنت لي السلامة من اغتيال عدو دون خدمة المولى، شمرت إلى خدمته وذيلت، وحططت رحالي بفنائه وقيلت. فما غيري بلبس قميص الدعة مني أحرى. والسلام. الأديب أبو عبد الله محمد بن نصر بن صغير القيسراني العكاوي ولد بعكا، بلدة على ساحل بحر الروم، سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، ونشأ بقيسارية فنسب إليها، ثم انتقل عنها بعد استيلاء الأفرنج على بلاد الساحل. صاحب التطبيق والتجنيس، وناظم الدر النفيس، ملك القبول من القلوب والرغبة من النفوس، وأحب اللحاق بابن حيوس. سار شعره، وسافر إلينا ذكره، وغلا في سوق الأدب دره، ونفقت في متجر الرغائب غرائبه، واتسعت في مضمار القريض مذاهبه، وجادت بالبلاغة السحبانية سحائبه. ذكره مجد العرب العامري وأثنى عليه وعلى ابن منير، وقال إنه أخذ من كل علم طرفا، فنظم من الأبيات الأفراد طرفا. فمن ذلك بيت أنشدنيه، ألم ببيت المعري فيه، الذي شبه كلف البدر بأثر اللطم وهو: ألست ترى في وجهه أثر اللطم فأخذه القيسراني وشبهه بأثر الترب، في قوله وقد أحسن في النعة والمعنى، وهو: وأَهوى الذي يَهوِي له البدرُ ساجداً ... أَلست ترى في وجهه أَثر التُّرْبِ وأنشدني الفقيه علي الخيمي الواسطي بها، سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، قال: أنشدني القيسراني لنفسه بحلب بيتاً من قصيدة استدللت به على معرفته بالمنطق وكلام الأوائل، وقد أعجز وأعجب، وأبدع وأغرب، وهو: إِذا كانت الأَحداق ضَرْباً من الظُّبى ... فلا شكّ أَنّ اللحْظَ ضربٌ من الضَّرْبِ قوله: ضرب من الضرب، ضرب من الضرب، بل أحلى منه عند أهل الأدب، ونوع من محدثات الطرب، والقاضيات بالعجب، وما أحسن وقوع هذا التجنيس موقعه، ووضع المعنى فيه موضعه، حتى قلت في هذا البيت ما أصنعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 وأنشدني له الفقيه ابن الخيمي قطعة مجنسة في لطافة الهواء، مالكة رق الأهواء، خلصت من كلفة التكلف، وصفا مشربها عن قذى التعسف. فالأشعار المتكلفة المصنوعة، قلما يتفق فيها الأبيات المطبوعة، إلا أن يخص الله من يشاء بالخاطر العاطر، والفكر الحاضر، والقريحة الصافية، والآداب الوافرة الوافية، وربما يندر للناظم مقطعات يرزق فيها القبول، كهذه القطعة للقيسراني التي تسلب العقول، وهي: لا يَغُرَّنَّكَ بالسّيف المَضاءُ ... فالظُّبا ما نظرت منه الظِّباءُ حَدَقٌ صِحّتها عِلّتها ... ربّما كان من الدّاءِ الدّواءُ مُرْهَفاتُ الحَدّ أَمهاها المها ... وقضاها للمحبّين القضاءُ خَلِّ ما بينَ دُماها ودَمي ... فعلى تلك الدُّمى تجري الدِّماءُ بَزَّني مَن في يدي ما في يَدي ... يا لَقَوْمي أَسرتني الأُسَراءُ في لِقاء البيض والسُّمْر مُنىً ... دُونها للبيض والسُّمر لِقاءُ دلوِ أَنفاسي بأَنفاسِ الصَّبا ... فلتعليل الهوى اعتلَّ الهواءُ كيف تُشْفى كبدٌ ما برِحَتْ ... أَبداً تأْوي إِليها البُرَحاءُ يا نديميَّ وكأْسي وَجْنَةٌ ... ضرَّجتها باللِّحاظ الرُّقباء لا تَظُنّ الوردَ ما يَسْقي الحَيا ... إِنما الوَردُ الذي يسقي الحياءُ وأنشدني له أخرى مطبوعة مصنوعة: أَترى فَوَّق سهماً من حُسامِ ... يا لَهُ مِنْ ضاربٍ باللحظ رامِ لحظات بِتُّ منها طافحاً ... أَيُّ سُكرٍ دام من أَيِّ مُدامِ وبأَكناف المُصَلّى جِيرَةٌ ... لا يُجيرون مُحِبّاً من غَرامِ شَغَلوا كلَّ فُؤادٍ بهوى ... وأَمالوا كلَّ سَمْعٍ عن مَلامِ وأَباتوا كلَّ قَلْبٍ شاردٍ ... مِنْ هَواهم في عِقال وزِمامِ ما عليهم لو أَباحوا في الهوى ... ما عليهم من صِفات المُستَهامِ مِنْ خصورٍ وَشَّحوها بالضَّنا ... وعُيونٍ كحلوها بالسِّقامِ وحكى الفقيه عبد الوهاب الدمشقي ببغداد سنة خمسين وخمسمائة قال: دخل القيسراني سنة أربعين وخمسمائة بلد أنطاكية لحاجة عرضت له فنظم مقطعات، يشبب فيها بأفرنجيات. فمنها قوله في أفرنجية يصفها بزرقة العين: لقد فَتَنَتْني فرنجيّة ... نسيمُ العبير بها يَعْبَقُ ففي ثوبها غُصُن ناعمٌ ... وفي تاجها قمرٌ مُشْرِقُ وإِن تك في عينها زُرْقة ... فإِنّ سِنان القنا أَزرق ومنها يصف أنطاكية: واحَرَبا في الثُّغور من بلدٍ ... يضحك حُسْناً كأَنه ثَغَرُ ترى قصوراً كأَنها بِيَعٌ ... ناطقة في خِلالها الصُّورُ هالات طاقاتِهن آهلةٌ ... يَبْسِم في كلّ هالةٍ قمرُ سَوافرٌ كلّما شَعَرْنَ بنا ... بَرْقَعهنّ الحَياءُ والخَفَرُ مِن كلّ وجهٍ كأَنّ صورتَه ... بدرٌ، ولكنّ ليلَه شَعَرُ فهو إِذا ما السُلُوّ حاربَهُ ... كان لتلك الضفائِر الظَفَرُ فيا عَذولي فيهن، دعْ كَلَفي ... وانظر إِلى الشمس هل لها طُررُ وكُنْ مُعيني على ذوي خُدَعٍ ... إِن سالم القلبُ حارب النظرُ سِرْتُ وخَلَّفْتُ في ديارهُمُ ... قلباً تمنّيت أَنَّهُ بصرُ ولم أَزل أَغْبَطُ المُقيمَ بها ... للقرب، حتى غَبِطَت مَن أُسِروا ومن ذلك في كنيسة السيدة، وهي قبة شاهقة للنصارى بأنطاكية: متى عُجتَ يا صاح بالسَّيِّدَهُ ... فَسَلْ عن فؤاديَ في الأَفئِدهْ وقلبك حذّره عن أَن يصاد ... فإِنّ بها للهوى مَصْيَدَهْ وجوهٌ تُباهي قناديلَها ... ببهجةِ نيرانها الموقدَهْ ترى كلَّ مُستضعَفٍ خصرُه ... إِذا ما دعا طرفَه أَنجَدَهْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 وذات روادِف عند القيا ... م تحسَبها أَنها مُقْعَدَه وبدر، من الشَّعْر في غاسق ... يضاحك أَبيضهُ أَسودهْ قيا ليَ من ذلك الزَّبْرِقا ... ن إِذا زَرْفَنَ الليلَ أَو جعَّدَهْ محلّ خَيالٍ إِذا ما رأَيت أَمردَه، قلت: ما أَمردَهْ به كل نَشوانةٍ لحظُها ... يطرق بين يَديْ عربَدَهْ صوارمُ قاطعةٌ في الجفو ... ن فهي مُجرّدةٌ مُغمدَهْ فها أَنا مَن في سبيل الغرا ... م أَورده الحبُّ ما أَوردَهْ فهل لِدَمٍ فات من طالبٍ ... وهيهات أَعجز يومٌ غَدَهْ وكيف يُجازى بقتل النفو ... س من لم يمدّ إِليها يَدَهْ ومن ذلك في جارية حسناء اسمها ماريا تغني بالدف، خفيفة الروح في نهاية اللطف، ومن أصواتها التي تغايظ بها النصارى وتستميل بها قلوب المسلمين: علِقتُ بحبلٍ من حبال مُحمَّدٍ ... أَمِنتُ به من طارق الحَدَثانِ فقال فيها بعد البعد عنها: أَلا يا غزال الثَّغرِ هل أَنت منشدي ... علقتُ بحبلٍ من حِبال مُحمّدِ ويا هَلْ لِذاك اليوم في الدّهر ليلةٌ ... تعودُ ولو عادت عقيماً بلا غدِ فأَلقاك فيها هادي الكأْس حادياً ... وحسبك من ساع بها ومُغَرِّدِ أَلا حَبّذا عاري المحاسن عاطلٌ ... مُحَلّى بأَثواب الملاحة مرتدِ إِذا ما الأَماني ماطلتني بوَعْدها ... ذكرتُ له وصلاً على غير موعدِ وعهدي بماريّا سقى الله عهدها ... بما عندها من حاجة الهائِم الصَّدي وفي ذلك الزُنّار تمثالُ فضّةٍ ... تُنَقِّطُ خدَّيْه العيونُ بعَسْجَدِ وقد غلب المصباحُ فيه على الدُّجى ... سنا قميرٍ في جُنح ليلٍ مجعّدِ وكنت إِذا عِفْتُ الزجاجةَ مَوْرداً ... سقتْني رُضاباً في إِناءٍ مورَّدِ فيا ليَ من وجهٍ كقنديل هيكلٍ ... عليه من الصُّدغين مِحْرابُ مَسجِد لقد أَسرتني حيث لا أَبتغي الفدا ... فقلْ في أَسيرٍ لا يُسَرّ بمفتدي وقد قصد بقصائده، ووفد بفوائده، واسترفد بفرائده، ووصل إلى الموصل، لجتداء الجواد المفضل، منبع الجود، ومقصد الوفود، والبحر المورود، ومعدن الإفضال، وقبلة الإقبال، وكعبة الآمال، وكهف الملهوفين، وموئل المعتفين، وثمال المستضعفين، الذي لم يسمع له بقرن في القرون الماضية، ولم يسمح الزمان له بمثل في العصور الخالية، ذي الآلاء المتلألئة المتوالية، مستعبد الأحرار بإحسانه الغمر، ومطوق الأعناق أطواق البر، الجامع بين كسب الحمد والأجر، الصدر الكبير، الوزير جمال الدين أبي جعفر محمد بن علي بن أبي منصور، فنظم قصائد راغباً في جميل الجمال، وأم بها فناءه في جملة بني الآمال، ولم يزل يفد إليه ببضائعه، ويستفيد من صنائعه، ويستكثر من مدحه، ويستمطر مزن منحه، فتنجح مقاصده عنده بقصائده فيه. وقد أثبت منها ما عقدت عليه خنصر الاختيار، وثنيت إليه عنان الانتقاد، فذاك أجود ما سمعت من منظومه في الأفاضل، وأذعت من مكتومه في الفضائل. فمن جملته ما أنشدنيه الواعظ الرحبي في مدحته له، وذكر أنه أنشده بالموصل: ليت القُلوب على نظام واحدِ ... لِيذوقَ حَرّ الوجد غيرُ الواجدِ فإِلامَ يَهْوى القلْبُ غيرَ مُساعِفٍ ... بِهَوىً، ويَلْقى الصبُّ غيرَ مساعِدِ نِمْتُمْ عن الشّكوى وأَرَّقني الجَوى ... يا بُعدَ غايةِ ساهرٍ من هاجدِ أَضللتُ قلباً ظلّ يَنْشُد لُبّهُ ... مَنْ لي بِوجدان الفقيد الفاقدِ ونهت مدامعي الوشاةُ فرابَهُم ... شاكٍ صبابَتَه بطرفٍ جامدِ ولو أنهم سمعوا أَلِيَّةَ عَبرتي ... في الحبّ لاتَّهَمُوا يمين الشاهدِ أَشكو إِليك فهل عليك غضاضة ... يا مُمْرِضي صَدّاً لو أنك عائدي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 يا مَنْ إِذا نمتُ أَوقع بي الكرى ... غَضَباً لِطَيْفِ خياله المتعاهِدِ أَمّا الرُّقاد فلو يكون بصحةٍ ... ما كان ناظرك السقيم براقدِ أَهوى الغصون وإِنما أَضنى الصَّبا ... شوقُ النسيم إِلى القضيب المائِد ويَهيجني برق الثغور وإِن سما ... في ناظريّ خلال غيث ساهدِ بَكَرتْ على بالي الشّبابِ تلومُهُ ... عَدّي الملامةَ عن حَنين الفاقدِ ما زال صَرْفُ الدَّهْرِ يَقْصِر هِمَّتي ... حتّى صرفتُ إِلى الكرام مَقاصدي وإِذا الوفود إِلى الملوك تبادرتْ ... فعلى جمال الدين وفدُ محامدي فَلْتَعْلَمَنْ ظُلَمُ الحوادث أَنني ... يمَّمتُ أَزهرَ كالشِّهاب الواقدِ يُمْضي العزائمَ وهي غيرُ قواطعٍ ... ما السّيف إِلاّ قوةٌ في الساعدِ باقٍ على حكِّ الزّمان ونقدهِ ... ومن الصحيح على امتحان الناقدِ يلقاكَ في شرف العُلى مُتواضعاً ... حتى تَرى المقصودَ مثلَ القاصد وإِذا دنت يمناه من مُسْترفِدٍ ... لم تَدْرِ أَيُّهما يمينُ الرّافدِ أُمْنِيَّةٌ للمُعتَفي، وَمَنِيَّةٌ ... للمعتَدي، وشريعةٌ للواردِ وَلِعٌ بأَسهُم فكره، فإِذا رمى ... أَصْمى بها غرض المدى المتباعدِ يتصرف المتَصرّفون بأَمرِه ... عن حُكْم أَمرٍ نافذٍ لا نافدِ لا تحسَبوا أَني انفردتُ بحَمْدِه ... هيهاتَ، كم لمحمَّدٍ مِنْ حامدِ يا مُسْتَرِقَ الماجدين بفضلِه ... والفخرُ كلُّ الفخر رِقّ الماجدِ أَقلامُكَ القدَرُ المُتاحُ فما جرى ... إِلاّ جرت بفواقرٍ وفوائدِ مِنْ كلّ أَرقَشَ مستهِلٍّ، ريقُه ... أَفواه بيضٍ أَو ثغور أَساودِ تُزْجي كتائبُه الكتائبَ تلتظي ... لَهَباً أَمام مُسالِم لمُعانِدِ كم مِنْ وَلِيٍّ قَلَّدَتْهُ ولايةً ... عقد اللِّواءَ لها ثناءُ العاقدِ حتّى إِذا سَلَك العَدُوُّ سبيلَها ... فعلى طريق مَكامِنٍ ومكائدِ تستام أَمثالَ الكلامِ شوارداً ... فتبيتُ عندك في حِباله صائدِ تلك البلاغة ما تُمُلِّك عفوُها ... بِيديْك إِلاّ بَذّ جهدَ الجاهدِ ولقد لَحَظْتَ الملكَ مَنْهوب الحِمى ... مِنْ جانبيْه فكنتَ أَوّلَ ذائدِ ربَّيتَ بَيْت المالِ تربيةَ امرئٍ ... يحنو عليه بها حُنُوَّ الوالدِ أَشعرتَ نفسَك مِنْهُ يأْسَ نَزاهةٍ ... ومنحت هَمَّك منه بأْس مُجاهدِ فَممالِكُ السّلْطان ساكنةُ الحَشا ... مِنْ بعدِ ما كانتْ فريسةَ طاردِ عطفتْ على يدك المساعي رَغْبةً ... نظرت إلى الدّنيا بعين الزاهدِ وثنتْ أَعِنَّتها إِليك مناقِبٌ ... يا طالما كانت نشيدةَ ناشِدِ مَجْدٌ على عرشِ السِّماكِ وهمَّةٌ ... ترقى السُّها بجَناح جَدٍّ صاعدِ وعُلىً يجوز بها المدى حَسَدُ العِدى ... إِن العُلى مَنصورةٌ بالحاسدِ يا حبّذا همٌّ إِليك أَصارني ... وعزيمة تقفو رياضةَ قائدِ أَنا روضة تُزْهى بكل غريبةٍ ... أَفرائدي من لم يفرز بفرائدي؟ إِن ساقني طلب الغنى، أَو شاقني ... حُبُّ العُلى، فلقدْ ورَدْتُ مواردي ومتى عَددتُ إِلى نَدك وسائلي ... أَعْدَدْتُ قصدي من أَجلّ مقاصدي حتى أَعودَ من امتداحك حالياً ... وكأَنني قُلِّدتُ بعض قلائدي ما كانت الآمال تكذِبُ موعدي ... أَبداً، وحُسْنُ الظنّ عندك رائدي ومن جمالياته الفائقة، الرائعة الرائقة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 لِمَنِ القَوام السَّمْهَرِيُّ، سِنانُه ... ما أَرهفتْ من لحظِها أَجفانُهُ إِن كان نازَعَك الهوى إنكارُهُ ... فَمِنَ الذي بعث الهوى عِرفانُهُ ظَبْيٌ، صوارمُ مُقلتيْه أَسِنّةٌ ... فبناظريْه ضرابُه وطِعانُهُ لَهِجٌ بكأس جُفونه، وقَوامُه ... أَبداً نزيفُ رحيقها سكْرانُهُ كَفَلَتْ سُلافةُ خدّه من صُدغِه ... أَنْ لا يُفارق وَرْدَهات ريْحانُهُ وبنفسيَ الرَّشأُ المُتَرْجِمُ طَرْفُهُ ... عن بابل هاروتُها إِنسانُهُ لا وَصْلَ إِلاّ ما تَجود به النوى ... من طيفِه، فوِصاله هِجْرانُهُ حكَّمْتُه فقضى عليّ قضاؤه ... وهَوى الأَحبّةِ جائرٌ سُلطانُهُ أَدمى جُفونَ الصَّبِّ صَبُّ دموعهِ ... سَعةً، وضاق بسرّه كتمانُهُ ضمِن الفريق فراق أَغصان اللِّوى ... أَفبَيْنُهُ ضمن الجوى أَمْ بانُهُ يا فضلُ، ما للفضل هيض جناحهُ ... فَبَدَتْ زَمانته وضاع زمانُهُ قَعَد السّماحُ به، وكم من ناهضٍ ... ضاقت لُبانتُه فضاق لَبانُهُ ومخلَّفٍ، ما كان يبلغُ شَأْوَهُ ... لو لم يكن بيد القضاءِ عِنانُهُ ومروَّعٍ سكنتْ خوافقُ أَمنِهِ ... لولا جمالُ الدين عزَّ أَمانُهُ مَنْ نال قاصيةَ المطالب جودُهُ ... والغيث ما ملأَ الرُّبى هَطَلانُهُ واستوعبت غُرَرَ الكلام فُنونُه ... واستوسقت ثمرَ العلى أَفنانُهُ أَذكى الأَنامِ إِشارةً وعبارةً ... ما المرءُ إِلاّ قلبُهُ ولسانُهُ ففروعُه تُنْبيك عن أَعراقه ... وكفاك مِنْ خَبَر النسيبِ عِيانه وإِذا أَردتَ مَحَلَّه من مجده ... فترقّ حيث سماؤه إِيوانُه شرفٌ، تفيّأَتِ الملوك ظلالَه ... وعُلىً على هِمّاته بنيانُه ما أَغمدوا سيفَ ابن ذي يزنٍ به ... إِلاّ تقاصر عندها غُمْدانه جَدٌّ تمكَّنَ من ذُؤابة مَنْصِبٍ ... لو نالها العَيّوق جُنّ جَنانه فَلِبَيْتِ مال المُلك مِنْ عَزَماته ... طمّاحُ طَرْفِ كفايةٍ، يقظانُهُ يغدو عليه ثقيلةً أكمامُه ... ويروح عنه خفيفةً أَردانه لا تَجْزَع الأَهواءُ ثاقبَ رأْيه ... والرأْيُ مملوكٌ عليه مَكانه مُسْتَظْهِرٌ بوُلاته: فكُفاتُهُمْ ... نوّابُه، وَثِقاتهم أَعوانه يعْدوهُمُ تأْنيبهُ، ويَخُصُّهُمْ ... تهذيبُه، ويَعُمُّهُمْ إِحسانهُ وإِذا انتضوْا أَقلامهم لِمُلِمَّةٍ ... أَبصرتَ مَنْ كُتّابُه فرسانُه ميثاقهُ حَرَمٌ لخائف بأْسِه ... يُغْنيك عن أَيْمانِهِ إِيمانهُ وَقَفَ الحسابُ عليهِ رَكْضَ إِصابةٍ ... لا البرقُ يدركها ولا سَرْعانُه وثنى الخطابَ إِليهِ فضلُ فصاحةٍ ... لا قُسّها منهُ ولا سَحْبانهُ هذا وإِن تكن اتّصالات العُلى ... تقضي بسعدٍ فالقَران قَرانهُ أَمحمدُ بنَ عليّ اعتنقَ الأَسى ... فكري فضاق بفارسٍ مَيْدانهُ ما بالُ حادي المجد مغبرّ المدى ... وأخو الهُوَيْنا روضةٌ أَعطانهُ هَبْني جنيْتُ على نَداكَ جِنايةً ... تُقضى، فأَين جنونهُ وجَنانهُ وأَنا الذي لا عَيْبَ فيه لقائلٍ ... ما لم يقُلْ هذا الزمان زمانهُ فهلِ المحامِدُ ضامِناتٌ عنك لي ... مَعْنىً، على هذا البيانِ بيانهُ وهي القوافي ما تناظرَ بالنَّدى ... إلاّ وقام بفضلِها برهانهُ ما كان بيتُ فضيلةٍ في فارسٍ ... إِلاّ ومِنْ عربيَّتي سَلْمانهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 ومما أنشده بالرقة، قصيدة مزجت الجزالة بالرقة، يهنيه فيها بفتوح مدينة الرها، وذلك سنة وخمسمائة، وهي: أَما آن أَن يزهَق الباطِلُ ... وأَنْ يُنْجِز العِدَةَ الماطلُ إِلى كم يُغِبُّ ملوكَ الضلا ... لِ سيفٌ بأَعناقها كافِلُ فلا تَحْفَلَنَّ بصَوْلِ الذّئاب ... وقد زأَر الأَسدُ الباسِلُ كذا ما انثنتْ قطّ صُمُّ الرّما ... حِ أَو يَتَثَنّى القنا الذابل هو السيف إِلاّ تكنْ حامِلاً ... لِبِزَّتِهِ بَزَّك الحامل وهلْ يمنعُ الدينَ إِلاّ فتىً ... يصولُ انتقاماً فسيتاصل أَبا جعفر، أَشرقتْ دولةٌ ... أَضاء لها بدرُك الكامِل فإِما نُصِبتَ لرفعِ اسمها ... فإِنكما الفعلُ والفاعل بكَ انقادَ جامِحُها المُصْعَبِيُّ ... وأَخصب جانبُها الماحِلُ لِيَهْنِك ما أَفرج النصر عنه ... وما ناله الملكُ العادل فُتوح الفتوحاتِ، نظم القنا ... ة أَعلى أَنابيبها العامِلُ فقلْ للحِقاق الطريقَ الطريقَ ... فقد دلَف المُقْرَم البازِل وجاهد في الله حقَّ الجِها ... د مُحْتَسِبٌ بالعُلى قافِل بجيشٍ إِذا َمَّ وِرْدَ الثّغور ... يروّى به الأَسلُ النّاهِلُ إِذا شمَّرَ البأْس عن ساقه ... مضى وهو في نَقْعه رافل فيا نعمةً شَمَلَ الشاكرينَ فضلَكَ إِفْضالُها الشاملُ تَمَخَّضَ عزمٌ لها مُنْجِبٌ ... فيا سَعْدَ ما وَضَعَتْ حامِلُ غداةَ ولا رُمْحَ دونَ الطِّعا ... نِ إِلاّ وعَقْرَبُه شائلُ ولا نَصْلَ إِلاّ له بارِقٌ ... دِماء الطُّلى تحته وابل وقد قلَّدوا السيْفَ تحصينَهم ... ولكنّه الناصِر الخاذِلُ وهل يُمْنَعُ السُّورُ مِنَ طالعٍ ... يشايعُهُ القدرُ النّازِل شققتم إِليها بحارَ الحديد مُلْتَطِماً موْجُهُ الهاطِلُ وخُضتُمْ غِمارَ الرَّدى بالرَّدى ... وعن نَفْسِه يدفَعُ القاتل فإِنْ يكُ فتحُ الرُّها لُجَّةً ... فساحلُها القُدْسُ والساحل فهل عَلِمَتْ عِلْمَ تلك الديا ... ر أَنّ المُقيمَ بها راحل أَرى القَسَّ يأْمُلُ فَوْتَ الرِّماح ... ولا بدَّ أَنْ يُضْرَبَ السابل يُقوّي مقاعِلَه جاهِداً ... وهل عاقِلٌ بَعْدَها عاقِل وكيف بِضبطِ بواقي الجِها ... ت مَنْ فات حِسْبَتَه الحاصل بِرأْيِك في الحرب أَمْ لفظك استفادَ إِصابَتُه النابل وعن حَدِّ عزمِك في المُشْكِلاتِ ... قضى فَمضى الصّارِم القاصِل نشرتَ الفضائل بعدَ الخُمولِ ... أَلاَ رُبّما نَبُه الخاملُ وحُطْتَ البلاد على نأْيها ... كأَنك في كُلّها نازِل أَتَعْفو الممالكُ مِنْ حافِظٍ ... وصدرُك من حِفْظِها آهل وَلِمْ لا تُحيطُ بآفاقِها ... وفي يَدِك الصّامِتً القاتلُ إِذا ما عَلا الخَمْسَ في حَوْمَةٍ ... ففارسُ بُهْمَتها راجِلُ يُفيضُ على الطِّرس سحرَ البيان ... كأَنَّ بَنانَتُهُ بابِل متى تُرِكَ الحمدُ والمرْهَفاتِ ... فأَحْمَدُها القاطِع الواصل بسابقةِ العِلْم فُتَّ الأَنامَ ... وهل يُدرِكُ العالمَ الجاهلُ إِذا خطب الأَكرمون الثّناء ... فأَكرم أَصهارِك الفاضِلُ أَعِزَّ الكُفاةِ وتاجَ العراق ... ومَنْ كَفُّهُ بالنَّدى حافِلُ تأَمَّلْ مطالِعَ هذا الكلامِ ... وإِلاّ فكوْكبُهُ آفِلُ أَرى القومَ تَلْقَحُ آمالُهم ... وحاليَ مِنْ دُونه حائل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 فهل لي على البُعْد من قُرْبَةٍ ... يُديل بها فَضْلُك الدائل فإِنّ الغَمام بعيدُ المَنالِ ... وفي كلّ فَجٍّ له نائلُ وأَنتَ الزَّمانُ وأَنتَ الأما ... نُ مِنْ كلّ ما يَفْرَقُ الذّاهِل وأَنتَ الحُلِيُّ على المَكْرُمات ... فلا وُصِفَتْ أَنها عاطل وله في مدح الملك الغازي نور الدين محمود بن زنكي، صاحب الشام سنة أربع وأربعين وخمسمائة، قصيدة استحسنتها في فنها، لسلاستها في نظمها ورويها ووزنها، فكأنها عروس أبرزت من كنها، أو ديمة وطفت من مزنها، أو روضة أنف في حسنها، وهي: أَبْدى السُلُوَّ خديعة للاّئِمِ ... وَحَنا الضّلوعَ على فؤادٍ هائِمِ ورأَى الرّقيبَ يَحُلُّ ترجمةَ الهوى ... فاستقبلَ الواشي بثغرٍ باسم ومضى يُناضِل دونَه كتمانه ... ما الحبّ إِلاّ للمحب الكاتم من فَضَّ خَتْمَ لسانِه عن سِرِّه ... ختمت أَناملَه ثنيّةُ نادِم ومُهَفْهَفٍ لعِبَ الصِّبا بقَوامِه ... لَعِبَ النُّعامى بالقضيب الناعم حَرَمَ الوِصالَ وأُرْهِفَتْ أَجفانُهُ ... فأَتاك ينظر صارماً مِنْ صارم وَلَكَمْ جرى طرْفي يعاتِبُ طَرْفَه ... لو يسمعُ السّاجي حديث السّاجِم إِني لأرْحَمُ ناظريْه من الضَّنا ... لو أَنّ مرحوماً يَرِقُّ لِراحم للهِ موقفُنا وقد ضرَب الدُّجى ... سِتراً علينا من جُفون النائِم وفمي يُقَبّلُ خاتِماً في كفه ... قُبَلاً تغالط عن فمٍ كالخاتم كيف السّبيلُ إِلى مَراشِفِ ثَغْره ... عينُ الرّقيب قذاةُ عيْن الحائِم نَلْحى الوُشاةَ وإِنّ بين جُفوننا ... لَمَدامعاً تَسْعى لها بنمائِم يا أَيُّها المُغْرى بأَخبار الهوى ... لا تُخْدَعَنّ عنا لخبير العالم إِسْأَل، فَدَيْتُك، بالصبابة لِمَّتي ... واسأَلْ بنُورِ الدين صَدْرَ الصارِم ومُعَطّفاتٍ ترتمي بأَجنَّةٍ ... ومُثَقَّفاتٍ تهتدي بلَهاذِم ومُسَوَّمات لست تدري في الوغى ... بقوائِم يُدْرِكْن أَم بقوادمِ كلُّ ابن سابقةٍ إِذا ابتدر المَدى ... فلغير غُرَّتِه يمينُ اللاطم يرمي بفارسه أَمامَ طريده ... حتى يُرى المهزومُ خَلْفَ الهازم يُنْمى إِلى مَلِكٍ إِذا قُسِم النّدى ... والبأْسُ كان المُكتنى بالقاسم مُتَسَرْبِلٌ بالحزم ساعةَ تَلْتقي ... حَلَقُ البِّطان على جواد الحازم ما بَيْنَ مُنْقَطَع الرِّقاب وسيْفه ... إِلاّ اتصالُ يمينه بالقائِم سامَ الشآم ويا لَها مِن صفقةٍ ... لولاه ما أَعْيَتْ على يد سائم وَلَشَمَّرَتْ عنها الثّغور وأَصبحت ... فيها العواصم وهي غيرُ عواصم تلك التي جَمَحَتْ على مَنْ راضها ... ودعوْتَ فانقادتْ بغير شكائم وإِذا سعادتُك احتَبَتْ في دوْلةٍ ... قام الزّمان لها مَقام الخادم يا ابن الملوك، وحسبُ أَنصار الهدى ... ما عندَ رأْيك من ظُبىً وعزائِم قومٌ إِذا انتضت السيوفَ أَكفُّهم ... قلتَ الصواعقُ في مُتون غمائِم من كل منصور البيان بعُجمةٍ ... وهل الأُسود الغُلْبُ غيرُ أعاجم أَو مُفْصِحٍ يَقْري الصّوارم في الوَغى ... أَسخى هناك بنفسه من حاتِم حصِّنْ بلادك هيْبةً لا رهبةً ... فالدِّرعُ من عُدَدِ الشجاع الحازم وارْمِ الأَعادي بالعَوادي إِنها ... كَفلَتْ بفَلّ قديمهم والقادم أَهلاً بما حملتْ إليك جيادُهم ... ما في ظهور الخيلِ غيرُ غنائِم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 واسأَل فوارسَ حاكموك إِلى القنا ... في الحرب، كيف رأَوْا لسان الحاكم تلك العَواملُ أَيّ أَفعال العدى ... ما سكّنتْ حركاتها بجوازم هيهاتَ يَطْمَع في محلّك طامعٌ ... طال البناءُ على يمين الهادم كلّفتَ همتك العُلُوَّ فحلَّقتْ ... فكأَنّما هي دعوةٌ في ظالم قَطَنَتْ بأَوطان النجوم فكمْ لها ... من ماردٍ قَذَفَت إِليه براجم أَنشأْتَ في حلب غَمامة رَأْفَةٍ ... أَمددت دِيمتَها بنَوْءٍ دائِم أَلحقتَ أَهل الفقر فيها بالغِنى ... أَمْنُ المؤمَّلِ ثروةٌ للعادِمِ وأَظنّ أنّ الناس لمّا لم يرَوْا ... عدلاً كعدلك أَرجفوا بالقائِم فَتَهَنَّ أَوصاف العُلى منظومةً ... فالدُّرُّ أَنْفَسُه بكفّ الناظم جاءتك في حُلَلِ النّباهة حاسِراً ... تختال بين فضائل ومكارم عربية أَنسابُها لو أَنها ... لحقت أُميّةَ لانْتَمَتْ في دارم وَتَمَلَّ غُرَّةَ كلِّ فِطْرٍ بعدهُ ... مُتَسَرْبِلاً أَسنى ثواب الصائم لا زامل وجهُك في عقود سُعوده ... بدرَ التَّمام مُقَلّداً بتمائم وله قصائد في مدح آبق ملك دمشق وجده ممدوح ابن الخياط. ورأيته ببغداد بعد استيلاء نور الدين محمود بن زنكي على ولايته في الأيام الإمامية المقتفوية سقاها الله صوب الغفران، وحياها بحيا الرضوان، وذكر أنه أنشدها في سنة سبع وأربعين وخمسمائة، أثبت منها هذه القصيدة لاقتصادها في الصنعة والنظم، واعتلاقها لسلاستها بالفهم، وهي: أَقَدَّكَ الغصنُ أَم الذابلُ ... ومُقْلتاك الهندُ أَم بابلُ سِحْران: هذا طاعنٌ ضاربٌ ... وتلك فيها خَبَلٌ خابل واكبدي مِنْ فارغٍ لم يزل ... لي من هَواه شُغُلٌ شاغل ظبْيٌ متى خاتلته قانصاً ... رجعت والمُقْتَنص الخاتل لِمَّتُه أَم أَرقمٌ هائِجٌ ... ذا سائِف طوراً وذا نابل يشربُ كأْساً طلَعتْ في يدٍ ... كوكبُها في قمرٍ آفل كأَنه، والجامُ في كفه ... بدر الدُّجى في شَفَقٍ ناهلُ غصنُ النَّقا يحمل شمسَ الضحى ... يا حبّذا المحمول والحاملُ أَسمرُ كالأسمر من لحظه ... له سِنان جيدُه العامِلُ مَلاحةٌ بالبخل مقرونةٌ ... كلُّ مَليحٍ أَبداً باخلُ إِذا نأَى مثَّله في الكَرى ... هواه فهو القاطع الواصلُ أَشكو ضنا جسمي إِلى خصره ... وكيف يشفي الناحلَ الناحلُ يُنكِرُ ما أَلقاه من صَدِّهِ ... وأَيُّ فعل ما له فاعل مَنْ لي على البُعد بميعادِه ... وإِنْ لواني دَينِيَ الماطِلُ وكيف لي بالوَصْل منْ طيفه ... وذو الهوى يُقْنِعه الباطل أَرى دِماءَ الأُسْد عند الدُّمى ... أُنْظُرْ مَنِ المقتولُ والقاتل مِنْ كلّ لاهي القلب من ذاهلٍ ... به فسلْ أَيُّهما الذاهلُ يا صاحِ ما أَحلى مَذاقَ الهوى ... لو كان فيه عاذِلٌ عادِل ما لِيَ لا أَلحظ عينَ المَها ... إِلاّ دهاني سِرْبها الخاذل وما لَه ينْفِر من لِمَّتي ... كأَنه من أَسدٍ جافِلُ ما زال يُنْسي نأْيُه هَجْرهُ ... حتّى لأَنسى عامَه القابل قضيّة جائِرة ما لها ... غيرُ مُجير الدين مستاصِل وكيف أَخشى من لطيف الحشا ... ظُلْماً وتاج الدولة الدائل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 كثَّرَ حُسّاديَ حتى لقَدْ ... تنبّه الهاجد والغافل وكاد يُعْطي في نَداه الصِّبا ... لو أَنّ شيْباً بالنّدى ناصل القائدُ الخيلَ، مغافيرُها ... يزأَرُ فيها الأَسد الباسلُ مُشَمِّرٌ للبأس عن ساقه ... والجيش في عِثْيره رافلُ ماضٍ فما أَورد صادي القنا ... إِلاّ تروّى الأَسَلُ النّاهل يناهز الأَعداء مَنْ عُرْفُهُ ... غازٍ بأَنفال العُلى قافِل لم ينجُ مِنْ سطوته عاندٌ ... ولم يَخِبْ في ظِلِّه آمل يُزْجي الندى حتّى إِذا ما اعتدى ... فالدَّمُ من سطوته هاطلُ ما ساجَلَتْهُ المُزْن إِلاّ انثنى ... مُسْتحيِياً مِنْ طَلِّه، الوابلُ لا يتناهى فَيْضُ معروفِه ... وأَيُّ بحرٍ ما لَهُ سحلُ سَما به نابِهُ آبائِه ... حينَ أَسَفّ النسب الخامل وامتاز بالعلم على أَهله ... وهل يساوي العالمَ الجاهل يا مُحْييَ العدل ويا مُسْرِف البذل فأَنت الجائر العادل يا أَنصتَ الناسِ إِلى حكمةٍ ... يقبلها مَنْ سَمْعُه قابِل عَلا بك الفضلُ ذرى هِمَّةٍ ... عن غُرَّة الشِّعْرى لها كاهل لولا سنا فضلك يَجْلو الدُّجى ... ما عُرِف المفضولُ والفاضل ولم يغامر جودَك المعتفي ... ولم يجانب مجدَك العادل فمن يكن خَصَّ بمعروفه ... فأَنت مَنْ إِحسانُه شاملُ بوركتَ من غيثٍ إذا ما همى ... روَّض منه الأَمَلُ الماحِل إِنْ هزَّك العزمُ فيا طالما ... أُرهِف منك الصارمُ القاصِل سيفٌ متى أَمّ نفوس العِدى ... صمَّم، والنّصر بها كافل فكنتَ كالشّمس سمَتْ إِذ سَمتْ ... ونورُها في أُفقها ماثل وَأَيْنَ يَنْأَى من قلوب الورى ... مَن حُبّه في كلِّها نازل فابْقَ حَياً يُنْبِت رَوْضَ المنى ... وأَيْن مِنْ أَفعالك القائل ودُمْ فما دُمْتَ منارَ الهُدى ... فللمعالي سَنَنٌ سابل وأنشدني له بعض أصدقائي من فقهاء الشام، بيتين ألطف من نسيم الصبا، وأطرف من نعيم الصبا، في وصف مغن، وشادن شاد أغن، وهما: والله لو أَنصف الفتيان أَنفسَهم ... أَعطَوْك ما ادّخروا منها وما صانوا ما أَنت حين تُغنّي في مجالسهم ... إِلاّ نسيمُ الصَّبا والقومُ أَغصانُ ما أحسن تشبيهه الشادي بالنسيم للطافته، ورقة أنفاسه، وتقتير ألحاظه، وتكسير ألفاظه، وسلاسة خلقه، ورشاقة خلقه، والسامعين بالأغصان التي يرنحها النسيم لتمايلهم وتساكرهم، واهتزازهم لشدوه، وتطربهم لغنائه. وله في غانية رومية نصرانية: كم بالكنائِس مِنْ مُبَتَّلَةٍ ... مثل المَهاةِ يَزينُها الخَفَرُ مِنْ كلِّ ساجدةٍ لصورتها ... لو أَنصفت سجدتْ لها الصُوَر قدّيسَةٌ في حبل عاتقها ... طولٌ، وفي زُنّارها قِصَر غَرَسَ الحياءُ بصحن وَجْنَتِها ... وَرْداً سقى أَغصانه النَّظرُ وتكلّمت عنها الجُفون فلوْ ... حاورتَها لأَجابك الحَوَر وحَكَتْ مدارِعُها غدائرَها ... فأَراك ضعفيْ ليلةٍ قمرُ وأنشدني له الواعظ الرحبي من قصيدة: في طاعة الحب ما أَنفقتُ من عُمري ... وفي سبيل الهوي ما شابَ من شَعَري طال الوُقوف على ضَحْضاحِ نائلكم ... وغُلَّة الصّدر بين الوِرد والصَّدرِ كم قد أَماتَ الهوى شوقي وأَنشره ... عن يأْس منتظِرٍ أضو وعد منتظَر بمُهْجتي وبصَحْبي كلُّ آنسةٍ ... تبيت نافرةً منّي ومِنْ نَفَري أَما ترى سُنَّةَ الأَقمار مُشْرقةً ... في لِمَّتي، فبياض الليل للقمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 هَبْني أُخلِّصُ جسمي من مُعَذِّبه ... فمن يخلّص قلبي من يَدَيْ نظري فيا نسيم الخُزامى هُبَّ لي سَحَراً ... لعلَّ نَشْرك مَطْوِيٌّ على خَبَر واحذر لسان دُموعي أَنْ تَنِمَّ به ... فإِنَّ سرّيَ من دمعي على خَطَر وأنشدني له من أخرى: لله نِسبة أَنفاسي إِلى حُرَقي ... إِذا النسيم إِلى رَيّا الحِمى انتسبا أَهكذا لم يكن في الناس ذُو شجَنٍ ... إِلاّ صَبَا كلّما هبّت عليه صَبَا أَحبابنا عاد عيدُ الهمّ بعدَكمُ ... تباعدتْ دارُكم في الحُبّ واقتربا ما بالُ سَلْوةِ بالي لا تَسُرُّكُمُ ... حتى كأَنّ لكم في راحتي تعبا ما خانكم جَلَدي إِلاّ وَفى لكمُ ... قلبٌ متى سُمْتُه ترك الغرام أَبى ومن أخرى مجنسة سلسلة، مختلسة، وللعقول مفترسة: أَما وكأْسٍ تَشِفُّ عن ثَغَرِ ... يَبْسِمُ عُجْباً بوَرْدَتَيْ خَفَرِ يحميهما صارمٌ مضاربهُ ... مِنْ كَحَلٍ والفِرَنْدُ مِنْ حَوَرِ لقد عصيتُ المَلام في رشإٍ ... مَلَّكَه القلبَ طاعةُ البصر تُنافِسُ الخيزُرانَ قامَتُهُ ... ليناً ولوناً في اللّمس والنظر دِقّةُ كَشْحٍ، وبَرْدُ مُرْتَشَفٍ ... فوا غرامي بالخَصْر والخَصَرِ وذي سهام تُصْمي بغير يدٍ ... على قِسِيٍّ ترمي بلا وَتَرِ وكيف تُخْطى القلوبَ مُرهَفةٌ ... تُراش بين القضاءِ والقَدَرِ نوافذٌ تُنْهِر الفُتوقَ دماً ... ولا تَرى للجراح مِن أَثرِ يا مُسْهِري واصِلاً ومُجْتَنِباً ... والصبُّ ما بين ليلتيْ سَهَر إِذْ لا ترى العين فرقَ بينِهما ... إِلاّ بطُول السُّهادِ والقِصر لا عَذَلٌ فيك بات لي سَمَراً ... يا حبَّذا العذْلُ فيك من سَمَر ومن أخرى: أَما لو كان لحظُك نصلَ غِمْدي ... لَبِتُّ وثأْرُ صَرْفِ الدهر عندي ولو كان ابتسامُك حدَّ عزمي ... فللتُ نوائبَ الأَيّام وحدي إِذاً لَلَقيتُ عادِيةَ اللّيالي ... على ثقةٍ وجُنْدُ هواك جُنْدي ولكن أَنت والأَيّامُ جَيْشٌ ... على مُتخاذِل الأَنصار فَرْد عَذيري مِنْ هوَى ونوَى رمى بي ... عِنادُهما على وَجْدٍ ووَخْدِ وأَغْيَدَ بات مُتّشِحاً بثغرٍ ... على نَحْرٍ ومُبْتَسِماً بِعقْد أَصُدُّ عَذولَه ويصُدُّ عني ... فما أَنفكُّ من غَمَراتِ صَدّ وأَشكو ما لقيتُ إِلى سَقامٍ ... بِعَيْنيْه فلا يُعدي ويُعدي متى أَرجو مُسالَمة اللّيالي ... وهذا مَوْقِفي من أَهل ودّي ولو أَني أُلاقي ما أُلاقي ... بمَجْد الدين صُلْتُ بأَيِّ مَجْدِ ووجدت في كتاب لمح الملح لأبي المعالي الكتبي هذه الأبيات منسوبة إلى القيسراني من قصيدة في التجنيس: نافرته البيضاء في البيضاء ... وانفصال الشباب فصْلَ القضاءِ حاكمَتْه إِلى مُعاتبِة الشَّيْب لِتَستمطرَ الحَيا بالحَياءِ فاستهلّتْ لِبَيْنِها سحبُ عيْنيْهِ، ويومُ النَّوى من الأَنواءِ يا شباباً لَبِسْتُه ضافيَ الظلُّ، وتبلى مَلابس الأَفياءِ كان بَرْدُ الدُّجى نسيماً وتهويماً فأَذكته نفْحَةٌ من ذُكاءِ ومنها في المدح: مَنْ لهُ طاعةُ الصّوارِمِ في الحر ... ب ولَيُّ الأَعناقِ تحت اللّواءِ مِنْ مَساعٍ إِذا استغاث به الآ ... مِلُ لَبّى نَداه قبل النِّداءِ وكأَنَّ القَباء منكَ لما ضَمَّ مِنَ الطُّهْر مَسْجِدٌ بقُباءِ وكنت أحب أن تحصل لي قصيدته البائية التي أوردت بيتيها في صدر ذكره إلى أن طالعت المذيل للسمعاني، عند ذكره للقيسراني، وفيه: أنشدني محمد بن نصر العكاوي بنواحي حلب لنفسه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 سقى اللهُ بالزَّوْراءِ من جانب الغَرْب ... مَهاً وَرَدَتْ عين الحياةِ من القلبِ عفائفُ إِلاّ عن مُعاقَرَةِ الهوى ... ضعائف إِلاّ في مُغالبة الصَبّ عقائلُ تخشاها عُقيلُ بنُ عامرٍ ... كواعبُ لا تُعْطي الذِّمام على كَعْب إِذا جاذَبَتْهنَّ البوادي مَزِيّةً ... من الحسن شَبَّهْن البراقع بالنَّقْب تظلَّمْتُ من أَجفانهن إِلى النَّوى ... سفاهاً وهل يُعدي البِعاد على القُرب ولما دنا التوْديعُ قلتُ لصاحبي ... حنانَيْك، سِرْ بي عن مُلاحظة السِّرب إِذا كانت الأَحداقُ نوعاً من الظُّبى ... فلا شكّ أَن اللحظ ضَرْبٌ من الضَّرْبِ هَبُوني تعشَّقْتُ الفِراق ضَلالةً ... فأَصبحت في شِعبٍ وقلبيَ في شِعبِ فما لي إِذا ناديتُ يا صبرُ مُنْجِداً ... خُذِلتُ، وَلَبَّى إِن دعا حُرقةً لُبّي تقضّى زماني بَيْنَ بَيْنٍ وهِجْرَةٍ ... فحتّامَ لا يصحو فؤاديَ مِنْ حُبِّ وأَهوى الذي يهوي له البدرُ ساجداً ... أَلستَ ترى في وجهه أَثر الترب وأَعجبُ ما في خَمْر عَينيْه أَنها ... تُضاعف سُكْري كلما قلّلتْ شُرْبي إِذا لم يكن في الحُبّ عندي زيادةٌ ... تُرجّى فما فضل الزيارة عن غَبّ وما زال عُوّادي يقولون من بهِ ... وأَكتُمهم، حتى سأَلتهمُ من بي فصِرتُ إِذا ما هزّني الشوق نحوهم ... أَحلت عَذولي في الغرام على صَحْبي وقرأت في تاريخ السمعاني: أنشدنا أبو عبد الله القيسراني لنفسه بدير الحافر، منزل بين حلب وبالس: رنا وكأَنّ البابليّ المصفَقا ... ترقرق في جفنيْه صِرْفاً مُعَتَّقا وردّ يداً عن ذي حَباب مُرَنَّق ... وحيّا به مِنْ وَجنتيْه مُرَوَّقا وبات، وشمسُ الكأْس في غسق الدجى ... تقابل منه البدرَ في بانة النَّقا ولي عبرات تستهلُّ صَبابةً ... عليه إِذا برق الغمام تأَلّقا أَلفت الهوى حتى حلت لي صروفهُ ... وربّ نعيم كان جالبَه شقا أَلذّ بما أَشكوه من أَلم الجَوى ... وأَفْرَق إِنْ قلبي من الوجد أَفرقا وأَذهل حتى أَحسب الصَدَّ والنوى ... بمُعْتَرَك الذكرى وِصالاً ومُلْتقى فها أَنا ذو حالين: أَمّا تلدّدي ... فحيٌّ، وأَمّا سَلوتي فلكَ البقا ولما وصلت إلى الشام والتسبت بالتخدمة النورية، وجدت موفق الدين خالداً ولد القيسراني صدر مناصبها، وبدر مراتبها، ونجم كواكبها، بل شمس مواكبها. وجمعت بيني وبينه الصحبة، وضمتني إليه الرتبة، وتمهدت المحبة، وكان مستوفي المملكة وأنا منشيها تارة ثم مشرفها. ثم لما سيره نور الدين إلى مصر، قمت بعده بجميع الأمر، وكان نور الدين رفعه واصطنعه، وبلغ منه مبلغاً من الأمر كأنه أشركه في الملك معه، ولقد كان لبيقاً بذلك، حقيقاً به، وما زلنا سفراً وحضراً نتناشد ونتذاكر، ونتجاذب أطراف الحديث ونتحاور، ولعله قد أتى في الإنشاد على معظم شعر والده مذاكرة، وكنت أشاطره زماني في التصافي مشاطرة، وإنه قد بلغ إلى حد خدمه ممدوحو والده وقصدوه، ورجوه واجتدوه، وكأنه أنف من مدح والده لهم، وكره لنفسه كيف قصدهم وأملهم. ثم نظرت في ديوان القيسراني فألحقت بما سبق، وما وصل إلي من هذا النسق، وجلوت بزهر سوائره الأفق، وحليت بما راق ورق الورق. فمن ذلك قوله: عن خاطري نبأ الخيالِ الخاطرِ ... فأعجب لزورةِ واصلٍ من هاجرِ لم يعْدُ أَنْ جعل الرُّقاد وسيلةً ... فأَتى الجوانحَ من سَواد النّاظر ومنها: ولقد علمتُ على تباريح الجوى ... أَنّ السُّلُوَّ خرابُ قلبٍ عامر وإِذا استقلّ عن الفؤاد قطينهُ ... لم يبق منه سوى محلٍ داثر وله من قصيدة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 دعوا للحُمَيّا ما استباحتْه من عَقْلي ... فإِني رأَيت الحظّ في حيّز الجهل ومنها: وما زالت الأَيام يجري نظامُها ... على العكس حتى أُدْرِكَ الجِدُّ بالهزل وهل في فؤادي فَضلةٌ تَسَعُ الهوى ... وما العِشق إِلاّ شُغْل قلبٍ بلا شغل إِذا أَنت لم يصحبك إِلاّ مُهذَّبٌ ... فخِلُّكَ من أَمسى وحيداً بلا خِلِّ فَدَعْ لذوي الأَموال ما اغتبطوا به ... وَصُنْ ثمراتِ الفضل بُخْلاً على الفضل فإِنّ الفتى من غادرتْه خلالُه ... فريداً وإِنْ أَضحى من الناس في حَفْل وله من قصيدة: أَرضى اليسيرَ، وما رِضاكَ يَسيرُ ... أَنا في الهوى غِرٌّ، وأَنت غريرُ ولو اقتصرت على حُشاشة مُغْرمٍ ... وافاك من مأْسورك الميسور ما أَذعنتْ لك في فؤادي طاعةٌ ... إِلاّ وأَنتَ على القلوب أَمير ضمنتْ ثناياك العذابُ مَخافتي ... فهل الثّغور الضاحكات ثُغور وله من أخرى: خذوا حديث غرامي عن ضَنا بدني ... أَغنى لسانُ الهوى عن دمعيَ اللَّسِنِ وخبّرونيَ عن قلبي ومالِكِه ... فربّما أَشكل المعنى على الفَطِن ومنها: هذا الذي سلب العشّاقَ نومَهم ... أَما ترى عينَه ملأَى من الوَسَن أَمسى غرامي بذاك القدّ يوهمني ... أَنّ اعتلال الصَّبا شوقٌ إِلى الغُصُن ومنها في المدح: أَرى الوفودَ رباعَ الجودِ عامرةً ... من بعد ما وقفوا منها على دِمَنِ ومنها: قومٌ إِذا ناظروا عن سَرْح جارهُمُ ... تكلّمتْ أَلسنُ الخطيّة اللُّدُنِ وله من قصيدة في مدح وزير أولها: لو كان سِرُّك للوُشاة مُعَرَّضا ... لم أُغْض من دمعي على جمر الغَضا ومنها: وإِذا سقى فمُه الرحيقُ مُقَبَّلا ... حيّا بتُفّاح الخُدود مُعَضَّضا ما اسودّ في يوم الصُّدود فإِنهُ ... يلقاك في ليل التواصل أَبيضا هذا وكم جاريت في طَلَق الصِّبا ... سَلِسَ القياد وكان صعباً، ريّضا عاقرتُ مُبْهَمَ عَتْبه حتى بدت ... غُرر الرضاءِ على خلال أَبي الرضا هو جلال الدين أبو الرضا بن صدقة وزير المسترشد: لو لم يكن لِبَنانه شِيَمُ الحيا ... ما أزهر القرطاس منه وروّضا ما جاش في صدر المُلَطَّف صدرُه ... إِلاّ ظننت الجيش قد ملأَ الفضا وله من قصيدة: ما هذه الحَدَقُ الفواتنْ ... إِلاّ سهامٌ في كنائنْ ومنها: وأَغنّ غنَى مُحْسِناً ... فعجبت من شادٍ وشادنْ ما غرَّدتْ حركاتُه ... إِلاّ تراقصتِ السّواكنْ يا مودِعاً قلبي هوا ... هـ توقّ دمعي فهو خائنْ ومنها: وحللتَ قلباً خافقاً ... يا ساكناً في غير ساكن أَترى لمن أَوْليتَه ... حربَ العواذل أَن يُهادن إِنْ خاف قلبي في هوا ... ك فأَمرُ جاه الحبّ واهن وإِن استجار فإِنّ جا ... رك يا ضياء الدين آمن وله من قصيدة في سديد الدولة ابن الأنباري: مع الركب أَنباءُ الحِمى لو يُعيدُها ... لهيّج مفتوناً بها يستعيدها خليليّ، هل لي في الرفاق رسالة ... يذكرني العهدَ القديم جديدُها ومنها: تَهُبّ صَباكم ليس بين هُبوبها ... وبين رُكودِ النفس إِلاّ رُكودُها ومنها في المدح: ويسري هواكم في البُروق، وإِنما ... وَقود الحشا إِمّا استطار وقودها لِيَهْنِكَ مأثور الوغى عن خلافةٍ ... بك اخضرّ واديها وأَوْرقَ عودُها وأَنّى تخافُ الضيم دولةُ هاشم ... وآراؤك الأَنجاد فيها جنودها وكيف يغيب النصر عنكم بوقعةٍ ... ملائكةُ الله الكرامُ شُهودها إِذا فتنةٌ للحرب أُسعِر نارها ... فإِنّ ضِرام المُرْهَفات خمودُها ومنها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 بدأتَ بإِحسانٍ فَجُدْ بتمامه ... فمثلك مُبدي مِنّةٍ ومُعيدها وله من أخرى مطلعها: يَشيمُ هواكم مُقلتي فتَصُوب ... ويرمي نَواكم مُهجتي فتُصيبُ ومنها: تلقَّوْا تحياتي إِليكم عن الصَّبا ... إِذا حان من ذاك النسيم هبوب ومنها: وليلةَ بِتْنا والمهاري حواسِرٌ ... يُزَرُّ عليها للظلام جُيوبُ فبِتْنَ يُبارين الكواكبَ في الدُّجى ... لهنّ طُلوعٌ بالفلا وغروب نَواصِل من صِبْغ الظلام كما بدا ... لِعينكَ من تحت الخِضاب مَشيب خوافق في صدر الفضاء كأنها ... وقد وَجَبَتْ منها القلوب، قلوب سوانح في بحريْ سَرابٍ وسُدْفةٍ ... لهنّ اعتلاءٌ بالضحى ورسوب فليت ابن أُمّي، والكواكبُ جُنَّحٌ ... يرى أَنني فوق النجيب نجيب وأَني صرفتُ الهمّ عني بهمّةٍ ... تفرّى دُجىً عن صُبحها وكروب وأَن سديد الدولة ابنَ سديدها ... جلا ناظري منه أَغرُّ مَهيب نسيب المعالي، يطرب القومَ مدحه ... كأَنّ الثناء المَحْض فيه نسيب له خُلُقٌ تُبدي الصَّبا منه غيرةً ... يكاد إِذا هبت عليه يذوب وثغرٌ إِلى جَهْم المطالب ضاحكٌ ... وصدرٌ على ضيق الزمان رحيب وله من قصيدة في تهنئة عز الدولة ابن منقذ بالسلامة من جرح ناله: كلُّ دعوى شجاعةٍ لم تؤيّدْ ... بِكلامِ الكِلامِ دعوى مُحالُ لا يَرُعْك الصِّقال في السيف حتى ... يَنطِق الفَلّ شاهداً للصِّقال لو تكون السهام تُحسِنُ قصداً ... عرّجتْ عن مقاصد الآمال غادر البأْسُ في جبينك منه ... أَثراً لاح في جبين الهلال لا يجلّي دُجى الحوادث إِلا ... غُررُ الحرب في وجوه الرّجال في مقاديمها تُصاب المقاديمُ وتُرمى الأَكفال في الأَكفال وله من أخرى: لها من الرَّشإِ الوَسْنان عَيْناهُ ... وبي من الوَجْد أَقْصاه وأَدْناهُ ومنها: بِنفسيَ القمر المحجوب طلعتُهُ ... عنّي وإِن كان يَهواني وأَهواه إِذا عزمتُ على السُّلوان خادعني ... بثغره فثنتْ عنّي ثناياه وَليّ هواهُ على قلبي فَعذّبه ... وحكَّم الحبَّ في جسمي فأَضناه وله من أخرى في الأمير أبي سلامة مرشد بن منقذ: إِذا ما تأَملْت القَوام المُهَفْهَفا ... تأَمّلت سيْفاً بين جَفنيْه مُرْهَفا بُليتُ بقاسي القلب، لا عَطْفَ عنده ... أَما شِيمةٌ للغصن أَن يتعطَّفا وذِي صلفٍ يُغْريه بالتّيه صَمْتُهُ ... إِذا سُمْته ردَّ السلامِ تَكَلَّفا وَطَرْفٍ تجلّى عن سَقامي سَقامُه ... فهلاّ شفا مَنْ بات منه على شَفا أُحِبُّ اقتضاء الوَصْل من كلِّ هاجرٍ ... وإِنْ مَطَلَ الدينَ الغريمُ وسَوّفا وأَقْنعُ من وعد الحبيب بخُلْفِهِ ... ومِنْ كَلَفي أَن أَسأَلَ الوعد مُخْلِفا وما زلتُ موقوفَ الغرامِ على هوىً ... يُجدّد لي من عهد ظَمْياء ما عَفا أَخا كَلَفٍ لا يرهَب الليل زائراً ... إِذا ضلّ نهجَ الحيّ عنه تعسّفا ومنها: أُودّعُ لُبّي ذاهلَ القلب مُغْرَماً ... وأُودِع قلبي فاتر الطّرْف أَهْيفا تَقَضّى الصِّبا إِلاّ تذكُّرَ ما مضى ... وإِلاّ سؤالاً عن زمانٍ تَسَلَّفا وإِلاّ شباباً فلَّلَ الشيبُ حَدَّهُ ... إِذا ما هفا نحو التّصابي تَلَهَّفا وعاد عليَّ الدهرُ فيما سخا به ... فنغّص ما أَعطى وكدَّر ما صَفا ومنها في المخلص: على أَنني خلّفتُ خَلْفي نوائباً ... كفانيَ مجدُ الدين منهنّ ما كفى وله من قصيدة: يا أَهل بابل أَنتمْ أَصْلُ بلبالي ... رُدّوا فؤادي على جُثْمانيَ البالي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 لا، واعتناقِ هواكم بعد فُرْقتكم ... ما كان صَرْفُ النَّوى منكم على بالي وإِنّما اعترضتْ بيني وبينَكم ... نوائبٌ أَرْخصتْ من دمعيَ الغالي لولا مكانُ هواكم من مُحافظتي ... لما صرفتُ إِليكم وجه آمالي سَلوْتُ عن غيركم لمّا عَلِقْتُ بكم ... وَجْداً، أَلا فاعجبوا للعاشق السالي يا صاحِ إِنّ دموعي حرب زاجرها ... فامنَح هواملَها تركي وإِهمالي وانظر إِلى عبراتي بَعْدَ بُعْدِهمُ ... إِن أَنت لم ترَ حالي عند تَرْحالي لو كنتَ شاهدَنا والبينُ يجمعُنا ... على وداعٍ بنيران الهوى صال رأَيتَ حبّةَ قلبي كيف يسلُبها ... حدٌّ لها، ليس بالخالي من الخال وقد علاني فُتورٌ عند رؤيتها ... مُقَسَّمٌ بين عَيْنَيْها وأَوصالي أَقول للصاحب الهادي ملامتَه ... ضَلالةُ القلبِ في أَكناف دي ذال دعْني أَفُضُّ شُؤوني في معالمها ... فالدَّمعُ دمعيَ والأطلال أَطلالي وله من أخرى: أَما عند هذا القَوام الرُّدَيْني ... سجيّةُ عَطْف تقاضاه دضيْني وأَحسبُ ما طال هذا المِطا ... ل إِلاّ ليلحق حَيْناً بحَيْنِ ومن عَجَبٍ أَنني أَشتكي ... قساوةَ غُصنٍ من البان لَيْنِ رماني بسهميْن من ناظريْن عن مَتْنِ قوسيْن من حاجبينِ وإِنْ أَنكرت مقلتاه دمي ... فسائلْ به حُمرةَ الوَجْنتيْنِ وَلِمْ لا تُناكرُني عينُه ... وقد علمت كيف إِقرار عيْني وماليَ خصمٌ سوى ناظري ... فهل حاكم بين عَيْني وبيْني ومنها في المدح: أَصَبْتَ عِدىً فملأتَ القلوب ... وصُبْتَ يداً فملأْت اليديْن كأَنّك لستَ ترى راحةً ... سوى حَثْوِ مالِك بالرّاحَتيْن فداؤك باكٍ على ماله ... بكاءَ اليتيم على الوالديْن وله: خفضي الصوتَ يا حَمامَة مقْرى ... هاج شوقي دعاؤك المرفوعُ إِنّما تستثير رِقّةٌ شكوا ... كِ دموعي والوجدُ حيثُ الدموع طَرَّبتْ عند إِلفها، وشَجاني ... فَقْدُ إِلْفي فأَيّنا المفجوع وله: لا تناظرُ جاهلاً أَسندك الدهرُ إليه إِنما تُهْدي له علماً يُعادِيكَ عليه وله من قصيدة يصف إبريق المدام: ترى الإِبريقَ يحملُه أَخوهُ ... كِلا الظَّبْيَيْن يَلْثِمُهُ ارتِشافا يَظَلُّ كمُطرِقٍ في القوم يبكي ... دماً أَو ناكسٍ يشكو الرُّعافا ومنها: يكفِّ مُهفهَف الكَشْحَيْن يُنْمى ... إِلى الغُصْنِ اعتدالاً وانعطافا يُدير الكأْس من يده دِهاقاً ... ويَسْقي الرّاحَ من فمه سُلافا ويُهدي الوردَ لا مِنْ وَجنتيْه ... فَيَأْبى أَخذَه إِلاّ قِطافا ومنها في وصف المغني: ومُسْمِعُنا الأَغنُّ إِذا تَغَنّى ... خلعت على مَحبَّته العَفافا يُضاعِفُ من سرور القلب حتى ... يكاد يشُقّ للطرب الشَّغافا وله يصف الغدير وقد تدرج ماؤه بالنسيم: أَوَ ما ترى طرب الغدير إِلى النسيم إِذا تحرّكْ بل لو رأَيت الماء يلعب في جوانبه لَسَرَّكْ وإِذا الصَّبا هبّتْ عليه أَتاك في ثوبٍ مُفَرَّكْ وله من قصيدة: بما بعطفيك من تيهٍ ومن صَفَفِ ... مَنْ دَلّ ذلك يا هذا على تلفي ناشدْتُكَ الله في نفسٍ غَدَتْ فِرَقاً ... بين الجَوى والأَسى والبَثِّ والأَسفِ ومهجةٍ رفع التكليفَ خالقُها ... عنها لشدّة ما تلقى من الكَلَف أَستشعرُ اليأس في لا، ثمّ يُطمِعُني ... إِشارةٌ في اعتناق اللامِ والأَلِفِ إِنْ أَنت روَّيْتَ من أَلفاظه أُذُناً ... علمتَ كيفَ مَقَرُّ الدُّرِّ في الصَّدَفِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 وإِن نظرتَ إِلى القِرطاس في يده ... رأَيتَ كيف نباتُ الرُّوْضِ في الصُّحُف وله من قصيدة: أَوْطَنَ القلبَ من هواكم فريقُ ... ما لِصَرْفِ النَّوى عليه طريقُ كلّما امتدّ بيننا أَمَدُ البيْن تَدانى هواكُمُ المَوْموقُ طولُ عهدي بكم يضاعِفُ وَجْدي ... وكذا يفعلُ الشّرابُ العتيق حَجَبَ الدّمعُ مقلتي، فعداها ... أَن ترى ما يروقُها ما تُريقُ وأَرى البُعْدَ في الصَّبابة كالقُرْ ... بِ فقلبي على الزّمان مَشُوقُ ولآلي دُموعِ عيني طوافٍ ... فلماذا غَوّصُهُنّ غريق لا يُرَعْ في يد الفِراق زَمانٌ ... مرَّ لي مِنْ وِصالِكم مَسْروق حيثُ غُصنُ الشبابِ غضٌّ وَرِيقُ ... وتَحايا المُدام عَضٌّ وَرِيقُ وغَرامي لا يَستدِلُّ به الطيْفُ ولا تهتدي إِليه البُروق والليالي مثلُ الغواني إِذا أَسفرن لم تدر أَيُّها المعشوق في زمانٍ تضاعَفَتْ لعميدِ المُلك في ظلّه عليَّ الحقوق ومنها: لو شهِدْتُم صَبابتي لعلمتُمْ ... أَنّ قلبي بحبّكم مَعْذوقُ أَو وقفتم على غُلُوّيَ فيكم ... قام لي عندكم بذلك سوق رابني بَعْدَكم زماني فلا الأَيامُ بيضٌ ولا الربيعُ أَنيقُ ورأَيتُ الرَّحيقَ يجلُبُ همّي ... أَفحالت عن السُّرور الرحيق أَسلمتْني إِلى الأَسى، فهي في الكأْ ... سِ رَحيقٌ، وفي فؤادي حريق وبَلَوْتُ الورى قياساً إِليكم ... فاستمرت على قياسي فُروق وتصفَّحْتُ بَعْدَكم شِيَمَ النّا ... سِ وفيها الصَّريحُ والمَمْذُوق ومنها: يَعِدُ الدّهر باللّقاء فيُسْليني ويَرْوي أَخبارَكم فَيَشُوق سانحاتٍ يكاد يتّهم السمعَ عليها قلبٌ عليكم شَفيقُ ويُعاطينيَ الغرام أَفاويق هواكم فما أَكاد أُفيق غير أَني أَهيم شوْقاً إِذا هَبَّ نسيمٌ بنَشْركم مَفْتوق قد ملكتُمْ قلبي وسرَّحتُمُ جسمي فواهاً أَنا الأَسيرُ الطليق وله من قصيدة: مَنْ مُنْصفي من حُبِّ ظالمْ ... والحبُّ فيه الخصمُ حاكمْ ما كنتُ أَدري ما الهوى ... حتى بُليتُ بغير راحم قاسي الفؤادِ يبيتُ في ... رَغَدِ الكَرى وأَبيتُ هائم ومن العجائب أَن يرى ... مُتَيَقِّظاً في أَسْر نائم يا صارمي أَوَ ما كفى ... ما في جُفونك من صوارم لامُوا عليك وليس لي ... سمعٌ يعنّ على اللوائم لومَ الحسُود على مُظا ... هرة العميد أَبي الغنائم وله: يا معشَرَ الفتيان ما عندَكُمْ ... في حائمٍ ذيدَ عن الوِرْدِ آلى على الخمرة لا ذاقها ... ما عاش إِلاّ زمن الوَرْدِ وقد مضى الوَرْدُ فهل رخصةٌ ... في أن يكون الوَردُ من خدِّ وله: مَنْ رآني قبَّلْتُ عينَ رسولي ... ظنّ أَنّ الرسولَ جاء بسُولي إِنّ عَيْناً تأَمَّلَتْ ذلك الوجْه أَحَقُّ العُيونِ بالتّقبيل وله في غلام يهودي صيرفي: في بني الأَسباط ظبيٌ ... مالكٌ رِقّ الأسودِ يأْسِر الناس بقدٍّ ... وبخدٍّ وبجيدِ تُنْبِتُ الأَبصار في وجنته وَرْد الخُدودِ مَلِق الوعد متى طالبه اللَّحظُ بجودِ كفلت زهرةُ عينيه بأثمار الوعود صيرفيٌّ في غرامي ... في صُروف ونقود أَنا في الدين حنيفيٌّ وفي الحبّ يهودي وله من قصيدة في مجير الدين آبق وكان صاحب دمشق: كلّما غَصَّ هواكم من جفوني ... سكنَ اللَّوْمُ اغتراراً لسكوني ووراءَ الصَّدر مني لَوْعةٌ ... شانَها رَكْضُ دموعي في شؤوني يا لَدَمْعٍ حار في أَجفانه ... أَنْ يُسمّى بوفِيٍّ أَو خؤون فلئن دلّ على وَجْدي بكم ... فلَقد حامى عن السّر المصون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 فتأَمَّلْ عَجَباً من ناظرٍ ... خائنٍ يُخبر عن قلبٍ أَمين في سبيل الحبّ مني مُهجةٌ ... قُتِلتْ بين خدود وعيون يَئِستُ أَنْ تُفْتدى أَفئِدةٌ ... أُسِرَت بين فتور وفتون وقلوبٌ مَلَكَتْهنّ المَها ... فاتكاتٍ بالنُّهى، مُلْك اليمين جيرة ما زال قتلى دِينُها ... واعتصامي بمجير الدين ديني وله من قصيدة في الشيب: يا هندُ مَنْ لأخي غرامٍ، ما جرى ... بَرْقُ الثّغور لطرفه إِلاّ جرى أَبكته شَيْبتُه وهل من عارضٍ ... شِمْتُ البوارقَ فيه إِلاّ أَمطرا لا تنكري وَضَحاً لَبِسْتُ قتيرَه ... رَكْضُ الزمان أَثار العِثْيَرا وله من قصيدة فيم جير الدين أيضاً: أَتراك عن وَتْرٍ وعن وَتَرِ ... ترمي القلوبَ بأَسهم النظرِ كيف السبيلُ إِلى طِلاب دمي ... والثأْر عند معاقل الحَوَر هي وَقعة الحَدَق المِراض فمِن ... جُرحٍ جبارٍ أَو دمٍ هَدِر تمضي العزائِم حيث لا وَزَر ... وَتُفَلُّ دون معاقِد الأُزَُر يا صاحِ راجعْ نظرةً أَمماً ... فقدِ اتّهمت على المها بصري بكَرتْ تطاعننا لواحظُها ... فتنوب أَعيننا عن الثُّغَرِ وتُرِي مباسمها معاصمها ... مَجْلُوَّةً في لؤلؤ الثَّغَرِ لا لائم العشّاق إِنَّهمُ ... لَيَرَوْن ذنبك غيرَ مُغتفَر أَوما علمتَ بأَنها صور ... جادتْ بأَنفسها على الصُّور ومُدامة كالنار مطفِئها ... غرضٌ لها ترميه بالشَّرر يجري الحَباب على جاجتها ... والتّبرُ خيْرُ مراكبِ الدُّرَر كالجمر تلفح كف حاملها ... فتظنُّه منها على خطر والكأْس والساقي إِذا اقترنا ... فانظر إلى المرّيخ والقمر عَذَلا على طربي بجائرةٍ ... لولا مجير الدين لم تَجُر وله في مدح مجير الدين من قصيدة: أَرى الصوارم في الأَلحاظ تُمْتَشَق ... متى استحالت سُيوفاً هذه الحَدَقُ واويلتا من عيون قلّما رمقتْ ... إِلاّ انثنت عن قتيلٍ ما به رمق يا صاح دعني وما أنكرتَ من ولهي ... بان الفريقُ فقلبي بعدهم فرق أما ترى أَيَّ ليثٍ صاده رشأٌ ... وأَيَّ خِرْقٍ دهاه شادنٌ خَرِق في معركٍ لذوات الدَّلِّ لو شرِقت ... بحرِّه أَنفُسُ العُشّاق ما عشقوا من كلّ شمسٍ لها من خِدْرها فلَكٌ ... وبدرِ تِمٍّ له من فرعه غَسَق ومن كثيب تجلّى فوقه قمرٌ ... على قضيبٍ له من حُلَةٍ ورَق وغادةٍ في وشاحٍ يشتكي عطشاً ... إلى حُجُول بها من رِيِّها شَرَقُ تبسَّمتْ والنَّوى تبدي الجوى عجباً ... من لوعة تحتها الأحشاء تحترق وأَنكرت لؤلؤ الأَجفان حين طفا ... منها على لُجَّةٍ غوّاصها غَرِقُ ومنها: يا منْ لصبٍّ شجاه ليلُ صَبْوَته ... لمّا تبسّم هذا الأَبيضُ اليَقَقُ متى نهته النُّهى حنّت عَلاقته ... إِن الكريم بأَيام الصِّبى عَلِقُ صاحبتُ عمريَ مسروراً ومكتئباً ... كذلك العيش فيه الصَّفو والرنَقُ وعِشتُ أَفتح أَبواباً وأُغْلِقها ... حتى سمتْ بي عُلاً ما دونها غَلَق فسِرتُ مُغْتبِق الإدلاج مُعْتنِقاً ... ذرى عزائمَ من تعريسها العَنَق لا أَرهب الليل حتى شاب مَفْرِقهُ ... وهل يخاف الدُّجى من شمسه أَبق وله فيه من قصيدة هي آخر ما أنشده في شعبان سنة ثمان وأربعين: بين فتور المُقلتيْن والكَحَلْ ... هوىً له من كلّ قلبٍ ما انتحلْ تَوَقَّ من فتكتها لواحظاً ... أَمَا ترى تلك الظُّبا كيف تُسَلْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 يا ويحها نواطِراً سواحِراً ... ما عُقِل العقلُ بها إِلاّ اختبلْ لو لم تكن بابلُ في أَجفانها ... لما بَرَتْ أَسهمَها من المُقَلْ يا رامياً مسمومةً نصالُهُ ... عَيناك للقارَةِ، قُلْ لي، أم ثُعَل وعاذلٍ خوّفني من لحظها ... إِليك عني، سبق السيفُ العَذَل ذك على سَفْك دمي محبّبٌ ... أَنا القتيل مُغْرَمٌ بمن قتل لاحظت منه وجنتيْن، ما جرى ... ماءُ الصِّبا بجمرها إِلاّ اشتعل آه على ظمآنها ضَمانة ... لو كفل الخصر لِوَجْدي بالكَفَل ومنها: يا صاح حَلِّلْ من أَناشيط الأَسى ... إِذا حللت بين هاتيك الحِلَلْ سلْ عن رُقادي بالغضا أَين مضى ... وعن فؤادي بعدها ماذا فعل وإِن رأَتْ عيناك ربعاً خالياً ... فاسق حَيا طَلِّهما ذاك الطَّللْ وَعَدِّ عن مَحاجرٍ بحاجرٍ ... نظرتُها أَقربُ عهدٍ بأَجلْ واجْتَنِ أَثمار الهوى فباللَّوى ... غصنُ نقاً يَحملُ نُقّاحَ الخجل وإِنْ يغب عنك اهتزازُ قدّه ... فسل به أَترابه من الأَسَل كلُّ حَلالٍ عنده مُحَرّمٌ ... فليت شعري عن دمي كيف استحل إِيّاك أن تحمِل قتلي ظالماً ... فما لخصمي بقبيلي من قِبَل ترى وَليّ الثأْر إِن أَراده ... فهل مُجيرٌ من مُجير الدين هل وله في غلام صيرفي: ظَبْيٌ بسوق الصَّرْف، من أَجله ... مَهَرْت في الصَّرف وفي النقد ما كنتُ في صَيْدي له طامعاً ... لو لم يكن إِبليس من جندي يقول، والدينار في كفه: ... مَنْ عنده؟ قُلتُ له: عندي وكلّمتني عينُه بالرِّضا ... وانقد الوعد على الوعد وقوله في غلام التحى: يا عارضاً نفسَه، وعارِضُه ... يضرِب دون الوِصال بالحُجُبِ أَنْبتَّ منه لسُلوَتي سبباً ... يا هاجري قبل ذا بلا سببِ فالْقَ به قطعَ كلّ ذي صلة ... هذا كُسُوفٌ بِعُقْدَةِ الذَّنب وله في العذار: وقالوا لاح عارضُه ... وما وَلّتْ وِلايتُهُ فقلت عِذارُ مَنْ أَهوى ... أَمارتُه إِمارتُه وله: إِلاّ يكنْ قد هَوِيتُه بشراً ... فإِنّه فتنةٌ على البشرِ واحَرَبا من بياض وَجْنته ... تراكضتْ فيه ظُلْمَةُ الشَّعَرِ حين تبدّى سَوادُ عارضه ... كما تبدّى الكسوفُ بالقمر وله من قصيدة في الأمير مؤيد الدولة: أَين مضاءُ الصّارمِ الباتِر ... من لحظاتِ الفاتن الفاتِر وأَين ما يُؤْثَر عن بابلٍ ... مِنْ فعلِ هذا الناظر الساحر ظبْيٌ إِذا لوّح منه الهوى ... بواصلٍ صرّح عن هاجر يوهمني في قوله باطناً ... والحُكْم محمولٌ على الظاهر نام وأَغرى الوجدَ بي فانظُروا ... ما أَولعَ النائمَ بالسّاهرِ ثم اغتدى يقنِصُني نافراً ... يا عَجَباً لِلْقانص النّافر عاتبتُه في عَبْرتي زاجراً ... خوفاً على الأَسرار زاجر فاعتذرَتْ عيني إِلى عينِه ... معذرَة الوافي إِلى الغادر أَضنى الهوى قلبي ليطوي به ... مسافةَ البيْنِ على ضامر وطار فانقضّ عليه الجوى ... بكاسِر الجفن على كاسر وقهوةٍ تحسب كاساتِها ... كواكباً في فلك دائِر رَعَتْ بها لَيْلَ الهوى فانجلى ... عن شمس هذا الزّمن الناضر وأَبعَدَ الأَخْطارَ تقريبُها ... مؤيَّدَ الدُّوْلةِ من خاطري وله في سرج: حملتُ الجِياد فأَكرمْتَني ... ورحتُ وقد حملتني الجياد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 فَلِمْ لا أَتيه على العالمين ... وفَوقي جَوادٌ وتحتي جَواد وله أيضاً من قصيدة في مؤيد الدولة: كيف قلتُمْ ما عندَ عينيْه ثارُ ... وبخدَّيْه من دمي آثارُ لو شهدتم إِعْراضَه وخُضوعي ... لم يكنْ في قضيّتي إِنكار يا لَقومي وكيف تُنْكر قتلي ... لَحَظاتٌ جُحودُها إِقرار إِن تطلّبتُمُ من الطرْف والوجْنة عُذري ففيهما أَعذار أضو سأَلتُمْ أَيُّ البديعيْن أَذْكى ... جُلَّ ناري فذلك الجُلَّنار ما أَراني ليلي بغير نهارٍ ... غيرُ ليلٍ يلوح فيه نهارُ زاد إِراقُ وجهه بين صُدغيْه وفي الليل تُشْرق الأَقمار لا تسلْني عن الهوى فهو في الأَجفان ماءٌ وفي الجوانح نار ويظنّ العذولُ أَنّ مشيبي ... ضاحكٌ عنه لِمَّةٌ وعِذار لم أَشِب غير أَنّ نار فؤادي ... أُلهبت فاعتلى الدُّخان شرارُ وله من قصيدة: فمٌ وثَغْرٌ وشَنَبْ ... كأْسٌ وخمرٌ وحَبَبْ واحَربَاه مِنْ شادنٍ ... لم يُرْضه مني الحَرَب مُوَلَّد ليس له ... إِلاّ إِلى الحسن نَسَب يَضْحك من مُسَدّسا ... ت النحل فيهنّ الضَرَب ما إِن حماني ثغرَه ... إِلاّ سباني ونَهَب ولا مشى تهادياً ... إِلا مشى القلبُ خَبَبْ هل سببٌ إِلى الرِّضا ... يا عاتباً بلا سبب تُنْكِرني قتلي وفي ... يَديك من قتلي سَبَب ما ليَ أَبكي قاتلي ... يا لَلرجال لِلْعجب كأَنّ عينيّ إِذا ... دمي على دمعي انسكب يدا أَمين الدين تهمي باللُّجَيْن والذَّهَب وله من قصيدة: يا غريراً غَرّ الفؤادَ المُدَلَّة ... يا عزيزاً به عَرَفتُ المَذّلَّهْ بأَبي ذلك المَلاك وإِن أَصبح من قَتلتي على غير مِلَه كلّما ناظَرَ العواذلُ فيه ... رُحْتُ من دَلِّه قويَّ الأَدِلَّه أَيّها الشادنُ المحرِّمُ وَصْلي ... كيف أَغفلتَ مُقْلَةً مُسْتَحِلَّه وإِذا كان لحظها سببَ السُّقْم فلِمْ قيل إِنها مُعْتَلَّه ومن الوجد في العَلاقة أَني ... لا أَمَلّ الصُّدود حتى تَمَلَّه حَدِّثوه بعلَّتي وسَقامي ... فعسى أَن يَرِقَّ لي ولَعَلَّه آه مِمَّنْ إِذا رفعتُ إِليه ... من غرامي أَدقَّه وأضجَلَّه ردَّ رُزْمامَجَ الشَّكاةِ وقد وقَّع لي فيه: صحَّ والحمدُ لله نظراً عادلاً كأَنّ عماد الدّين من لفظه عليه أَمَلَّه أَلمعيّاً هواه عندي على البُعْد مُوَلّىً على فؤادي المُوَلَّه ذا يدٍ ذائِداً بها نُوَبَ الدَّهْر فكم ردّها بأَبرح غُلَّه وله من قصيدة: يذود الظُّبى عنهنّ والحَدَقُ الصِّيدُ ... أَمُرْهَفَةٌ بيضٌ ومُرْهَفةٌ سُودُ وعلى أَنّ أَوْحاهُنّ فتكاً صوارمٌ ... صياقلُها أَجفانها والمَراويد فلا جسمَ إِلاّ بالبواتر مُقْصَدٌ ... ولا قلبَ إِلاّ بالنواظر مقصود وما البارقاتُ الراعدات عواصف ... بهمّيَ لولا المُبْرِقاتُ الرَّعاديد وليس الهوى ما صدّني عنه غَيْرَةٌ ... ولا ما لواني عنه لَوْمٌ وتَفْنيد ولكنه الشّكوى إِلى من أُحبّهُ ... وإِن حال صدٌّ دونَها وصناديد هلِ الرَّوْضُ من تلك المحاسن مُجْتَنىً ... أَمِ الحَوْضُ من ذاك المُقَبَّل مَوْرود وهلْ ظِلُّ ريعان الشبيبة عائدٌ ... عليّ ولُقيان الأَحِبّة مَرْدود وِدادٌ بأَكناف الوفاء مُمَنَّعٌ ... وعهدٌ بأَنواءِ الصَّبابة معهود ومنها: وإِني لخوّوارُ الشكيمة في الهوى ... وإِنْ بات في خدَّيَّ للدَّمع أُخدود تَنَكَبُّ خوفاً من دمي البيضُ والقَنا ... وتُلْوى به في لِيِّهِنّ المواعيدُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 ويَنْزِل لي عن ثارها النَّفَرُ العِدى ... وتقتادني في دَلِّها البقرُ الغِيد ويقطع فيَّ الطَّرْفُ، والطرفُ فاترٌ ... فقلْ في مَضاءِ السيفِ والسيفُ مَغْمود وله من قصيدة مطلعها في الشيب: أَمّا الشبابُ فطَيْفٌ زارني ومضى ... لمّا تَبَلَّج صُبْحُ الشَّيْب مُعْترِضا ما كان أَبيضَ وجهَ الوَصلِ حين دجا ... وما أَشدَّ ظلامَ الهجرِ حين أَضا وما وجدتُ الصِّبا في طُول صُحبتِه ... إِلاّ كما لَبِس الجفنُ الكَرى ونَضَا فالآن صَرَّحَ شَيْبُ الرأس عن عَذَلٍ ... محضٍ، ولم يَزْوِ عنك النُّصْحَ مَنْ مَحَضا فإِن تَبِتْ سُحُبُ الأَجفان هاميةً ... فَعَنْ سَنا بارقٍ في عارِضٍ وَمَضا ومنها: ومن عجائبِ وَجْدي أَنه عرضٌ ... لم يُبْقِ منّيَ جسماً يحمِلُ العَرَضا ولم يدع ليَ مَوْتُ السرِّ من جسديد ... عِرْقاً إِذا جسّه آسي الهوى نَبَضا فإِن يكن دَلَّ إِعراض الدَّلال على ... غير المَلالِ فسُخْطي في هواك رضا وله من قصيدة: إِنّ الأُلى جمعتْهُمْ والنَّوى دارُ ... جارُوا فهل أَنت لي من ظلمهم جارُ ساروا على أَنهم قرباً كبعدهم ... فما أُبالي أَقام الحيُّ أَم سارُوا عندي على الوجد فيهم كلُّ لائمةٍ ... وعندهم للهوى العُذرِيِّ أَعذارُ ففي الصُّدور صَباباتٌ وَمَوْجِدَةٌ ... وفي الخُدور لُباناتٌ وأَوطار قد أَنكر الناس من دمعي ومن حُرَقي ... هوىً تهادَن فيه الماءُ والنار إِلامَ اُعلن أَسراري وأَكتمُها ... وآيةُ الشوق إِعلان وإِسرار دَيْنٌ، على عبراتي أَنْ تُقِرَّ به ... وإِنما غايةُ الإنكار إِقرار وله من قصيدة في ختان: وَنَجْلٍ تدرك الأَبصارُ منه ... سنا قمرٍ بتاج المجد حالِ حَبَتْه سُنّةُ الإِسلام طُهراً ... تكفَّل غَيْرَةَ الماءِ الزُّلال فيا لكَ من دمٍ يجري سُروراً ... وكَلْمٍ نقْصُه سِمَةُ الكمال وذي أَلم يلذّ به وجرحٍ ... يكون قصاصهُ جَذَلَ الرجال وأَيّ جناية تَرْضى المَساعي ... بها، ويُثاب جانيها بمال وله من قصيدة: لو أَن قاضي الهوى عليَّ وَلِي ... ما جار في الحكم مَنْ عَليَّ وَلي وكان ما في الدَّلال من قِبَلِ الحُسْن بما في الغرام من قِبَلي حسبي وحسبُ الجوى أُغالبه ... فيا عذولي ما لي وللعَذَل كيف يُداوى الفؤادُ من سَقمٍ ... تاريخُه كان وَقْعَةَ المُقَل لا تَسْقِيَنّي صريحَ لائِمةٍ ... فَصِحَّتي في سُلافة القُبَل بي من بني الترك شادِن غَنِجٌ ... يصيد لحظ الغزال بالغزل أَغْيَدُ يلقاك طرفُه ثَمِلاً ... وليس فيه سَماحةُ الثَّمِل مُبتسِمٌ والعيونُ باكية ... وفارغٌ والقلوب في شُغُل لاحظني كالقضيب معتدلاً ... وصدّ والصبرُ غيرُ معتدل وأَصبحتْ في الوَرى مَحَبَّتُهُ ... كأَنها دَوْلةٌ من الدُّوَلِ مَلاحةٌ دانت القلوبُ بها ... طَوْعاً كما دانت العُلى لعلي وله من قصيدة: ما استأْنفَ القلبُ من أَشواقه أَرَبا ... إِلاّ استفزَّتْه آياتُ الهوى طَرَبا لله نِسبةُ أَنفاسي إِلى حُرَقي ... إِذا النسيم إِلي رَيّا الحِمى انتسبا أهكذا لم يكن في الناس ذو شَجَن ... إِلاّ صَبا كلّما هبَّتْ عليه صَبا ما أَعجبَ الحبَّ، يُدْعى بأْسُه غَزَلاً ... جَهْلاً به، ويُسَمَّى جِدُّه لَعِبا ويْحَ الحَمام أَما تجتاز بارقةٌ ... إِلاّ بكا في مغاني الدار وانتحبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 كأَنه واجدٌ وَجْدي بجيرتها ... فكلّما خطرت في قلبه وَجَبا فموضعُ السِرّ مني يستضيء سَناً ... ومنبع الماءِ منه يَلْتظي لَهَبا ومنها: أَحبابَنا، عاد عيدُ الهمّ بعدَكُمُ ... تباعدتْ دارُكم في الحبّ واقتربا ما بال سَلوةِ بالي لا تسرُّكُمُ ... حتّى كأَنّ لكم في راحتي تعبا ما خانكم جَلَدي إِلاّ وفى لكُمُ ... قلبٌ متى سُمْتُه ترك الغرام أَبى عَلاقَةٌ غلبتْ صبري فلا عَجبٌ ... إِن الصّبابة خصمٌ طالما غلبا وله من قصيدة يهنئ فيها أتابك الكبير عماد الدين زنكي بن آق سنقر رحمه الله سنة تسع وثلاثين وخمسمائة بفتح الرها. أولها: هو السّيفُ لا يُغنيكَ إِلاّ جِلادُهُ ... وهل طوّق الأَملاكَ إِلاّ نِجادُهُ ومنها: فيا ظفراً عمَّ البلادَ صَلاحُه ... بمن كان قد عمّ البلادَ فسادُه غَداةَ كأَنّ الهامَ في كلِّ قَوْنَسٍ ... كمائمُ نبتٍ بالسُّيوف حَصَادُهُ فما مُطْلَقٌ إِلاّ وَشُدَّ وَثاقهُ ... ولا مُوثَقٌ إِلا وحُلّ صِفاده ولا مِنْبَرٌ إِلاّ ترنّح عودُه ... ولا مُصْحَفٌ إِلاّ أنارَ مِدادُه إِلى أَين يا أَسرى الضَّلالةِ بعدها ... لقد ذَلّ علويكم وعزّ رشادُه رويدَكُمُ لا مانعٌ من مُظَفَّرٍ ... يعانِدُ أَسبابَ القضاءِ عِنادُه فَقُلْ لملوك الكُفر تُسْلِم بعدها ... ممالكَها إِنّ البلاد بلادُه كذا عن طريق الصّبح أَيّتها الدُّجى ... فيا طالما غالَ الظّلامَ امتدادُه فلو دَرَجُ الأَفلاك عنه تحصّنت ... لأَمْستْ صِعاداً فوقَهنّ صِعادُه ومن كان أَملاك السموات جُنده ... فأَيّةُ أَرضٍ لم تطأها جيادُه ومنها: سمعت قِبلةُ الإِسلام فخراً بطَوْله ... ولم يك يسمو الدين لولا عمادُه وله وقد اجتاز بعزاز في عهد الفرنج بها، خذلهم الله، وأنشدنيها ولده موفق الدين خالد: أَين عِزّي من رَوْحتي بعَزازِ ... وجَوازي على الظِّباء الجَوازي واليعافيرُ ساحبات المغافير علينا كالرَّبْرَب المُجْتاز بعيونٍ كالمُرْهَفات المواضي ... وقدودٍ مثل القنا الهزّاز ونحورٍ تقلّدت بثغورٍ ... ريقُها ذَوْبُ سكَّر الأَهواز ووجوهٍ لها نُبُوَّةُ حُسْنٍ ... غير أَن الإعجاز في الأعجاز كل خَمْصانةٍ ثَنَتْ طرف الزُّنّار من سُرَّةٍ على هوَّاز ذات خَصْرٍ يكاد يخفى على الفا ... رس منه مواقعُ المِهْماز لاحظتني فانقضَّ منها على قلبيَ طرْفٌ له قَوادِمُ باز وسبتْني لها ذوائبُ شَعرٍ ... عقدتها تاجاً على ابرواز مَنْ مُعيني على بنات بني الأصفر غزواً فإِنني اليومَ غاز وله: إِذا ما خدمتَ كبار الملوك ... فأَولُّ ما تخدُمِ الحاشيه فكن جاري الماء يسقي الرياض ... فأوَّلُ ما تشرب الساقيه وله في العذار: يا مُطْلِعاً بصُدود في لِمَّتي ... ما غاب تحت عِذاره من خدّه لك عارضٌ أَلقى عليَّ بياضَه ... وأَغار من شعري على مُسْوَدِّه وأَظنُّ خدَّك مُذْ تخوَّف نَهْبَه ... ضَرَب السّياج على حديقةِ وَرده وله من قصيدة يهنئ نور الدين رحمه الله باستقرار أمر دمشق وأسر جوسلين وفتح عزاز وقورص والقلاع ويذكر قتل الإبرنس صاحب أنطاكية: لِيَهْنِ دمشقاً أَن كُرسيّ مُلْكِها ... حُبي منك صَدْراً ضاق عن هَمِّه الصَّدْرُ وأَنك، نورَ الدين، مُذْ زُرتَ أَرضها ... سمتْ بك حتى انحطّ نَسرها النسر هي الثَّغْر أَمسى بالكراديس عابساً ... وأَصبح عن باب الفراديس يَفْتَرّ فإِمّا وقفت الخيل ناقعة الصَّدى ... على بردى من فوقها الوَرَق النَّصْر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 فمن بعد ما أَوردتها حَوْمةَ الوغى ... وأَصدرتها، والبيض من عَلَقٍ حُمْر وجلّلتها نقعاً أَضاع شِياتِها ... فلا شُهْبُها شهب ولا شُقْرها شقر علا النهرُ لما كاثَرَ القصب القنا ... مكاثرةً في كل نَحْرٍ لها نَحْرُ وقد شرِقتْ أَجْرافه بدم العِدى ... إِلى أَن جرى العاصي وضحضاحه غَمر صدعْتَهمُ صَدْعَ الزُّجاجة لا يدٌ ... لجابرها، ما كلُّ كسرٍ له جَبْر فلا ينتحل من بعدها الفخرَ دائلٌ ... فمن بارز الإِبرنز كان له الفخر ومَنْ بزّ أَنطاكية مِنْ مليكها ... أَطاعته أَلحاظُ المُؤلّلَةِ الخُزْر أَتى رأسه ركضاً وغودر شِلْوُهُ ... وليس سوى عافي النسور له قبر كما أَهدتِ الأَقدارُ للقمص أَسْرَهُ ... وأَسْعَدُ قِرنٍ من حواه لك الأَسْر فأَلْقتْ بأَيديها إِليك حصونُه ... ولو لم تُجِبْ طوعاً لجاء بها القَسْر وأَمستْ عَزاز كاسمها بك عِزَّةً ... تشُقّ على النَّسريْن لو أَنها الوَكْر فسِرْ تملإِ الدُّنيا ضياءً وبَهْجةً ... فبالأُفُق الداجي إِلى ذا السَّنا فَقْر كأَني بهذا العزم لا فُلّ حَدُّه ... وأَقصاه بالأَقصى وقد قُضِيَ الأَمر وقد أَصبح البيت المقدَّسُ طاهراً ... وليس سوى جاري الدماء له طُهْر وإِن تتيمَّمْ ساحِل البحر مالكاً ... فلا عجبٌ أَن يملِك الساحلَ البحر سللتَ سيوفاً أَثكلت كلَّ بلدة ... بصاحبها حتى تخوفك البدر ومنها: إِذا سار نور الدين في عَزَماته ... فقُولا لِلَيْلِ الإِفك قد طلَع الفجر هُمامٌ متى هَزَّت مواضي سيوفه ... لها ذكراً، زُفّت له قَلْعةٌ بِكْر ومنها: خلعتَ على الأَيّام من حُلَلِ العُلى ... ملابِس من أَعلامها الحمد والشكرُ فلا تفتخر مصرٌ علينا بنيلها ... فيمناكَ نيلٌ كلُّ مِصْرٍ به مِصْرُ وله من قصيدة في مجير الدين آبق: بسيفك المُنْتَضى من الكَحَلِ ... ووَرْدِك المُجْتنى من الحجلِ وكأسك المُشْتَها مُقَبَّلُها ... أَنت لأَجلي خلقت أَمْ أَجَلي أَهوى لذِكراك كلًّ عاذلة ... حسْبك حبّاً محبّةُ العَذَل لولاك لم أَستلذّ لائمةً ... فليت مَنْ لامني عليَّ وَلِي كي لا يكون المَلام منه على ... مُعتدِل القدّ غير معتدِل مُبتهجٌ والنّفوس ذاهلةٌ ... وآِمنٌ والقلوب في وَجَل لو بان جسمي لِخصره لَشكا ... ذاك إِلى ذا ظُلامةَ الكَفَل وله: وحمائمٍ ناحتْ على فَنَنِ ... فبعثن لي حزناً إِلى حَزَنِ ناحتْ ونُحتُ، وفي البكا فرج ... فظللت أُسعدها وتسعدني شتَّى الهوى، والشوقُ يجمعنا ... كلٌّ بكى منّا على شجن وله: قل لمن أَطلع شمس الكأْس من أُفْق اليمينِ إِحبس الكأْس فقد عِفتُ سُلاف الزَّرَجونِ واسقني من خمر أَلحا ... ظك كأْساً من فتونِ أَنا لا أَشربها إِلا بكاسات الجُفونِ لا تلمني، أَين سُكْرُ الخمر من سُكْر العيونِ وله في العذار، وقد أعجب فيه وأغرب: يا مُسْكري وجداً بكأْس جفونه ... قل لي: أَتلك لواحظٌ أَم قَرْقَفُ بادر جمالك بالجميل فربّما ... ذَوَتْ الملاحةُ أَو أَبلَّ المُدْنَفِ بواسبق عذارك باعتذارك قبل أَن ... يأْتي بعزل هواك منه مُلَطَّفُ تشبيه العذار بالملطّف، في هذا المعرض، من نسيم الروض ألطف. باب في ذكر محاسن جماعة من الشعراء من أهل عصري الأقرب بدمشق عرقلة الكلبي وهو أبو الندى حسان بن نمير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 من حاضرة دمشق، من كلب وبرة من الجلاح وهي بطن منها. لقيته بدمشق شيخاً خليعاً ربعة مائلاً إلى القصر، أعور مطبوعاً، حلو المنادمة، لطيف النادرة، معاشراً للأمراء، شاعراً مستطرف الهجاء، لم يزل خصيصاً بالأمراء السادة بني أيوب، ينادمهم ويداعبهم ويطايبهم قبل أن يملكوا مصر، والملك الناصر صلاح الدين يوسف أشعفهم ينكته، وأكلفهم بسماع نتفه، وله فيه مدائح، ولديه منه منائح. فمن جملة قوله فيه، وكان قد وعده أنه متى ملك مصر يعطيه ألف دينار، فقصده ومدحه بأبيات، منها: قل للصّلاح مُعيني عند إِعساري ... يا أَلف مولاي أَين الأَلفُ دينار أَخشى من الأَسْر إِن حاولت أَرضكم ... وما تفي جَنّة الفردوس بالنّار فجُدْ بها عاضِديّاتٍ مُسطَّرَةً ... مِنْ بعض ما خلف الطاغي أَبو العار حُمراً كأَسيافكم غُرّاً كخيلكمُ ... عُتْقاً ثِقالاً كأَعدائي وأَطماري ومن جملة ما قال فيه: الحمد لله السّميع المجيبْ ... قد هلَك الشِّرْك وضلّ الصّليبْ يا ساكني أَكناف مصر أَنا ... أَبو نُوَاس والصلاحُ الخصيب ثم عاد إلى دمشق وهو مسرور محبور، وكان ذلك ختام حياته ودنا أجل وفاته، وذلك بعد سنة خمس وستين بدمشق في سنة ست أو سبع وخمسمائة. وقد أنشدني كثيراً من شعره. وسمعت من أصدقائي أيضاً. فمن ذلك قوله يشير إلى أنه أعور: أَقولُ والقلبُ في همٍّ وتعذيبِ ... يا كلَّ يوسفَ إِرحم نصف يعقوبِ وقوله في محبوب أحول، وهو أعور. وهو من قصيدة في مدح جمال الدين وزير الموصل: يا لائمي هل رأَيتَ أَعجبَ مِنْ ... ذي عَوَرٍ هائمٍ بذي حَوَلِ أَقِلُّ في عينه ويكثُرُ في ... عيني، بضدّ القياس والمَثَلِ ما آفتي غيرُ وَرْدِ وَجنته ... والوردُ لا شكّ آفةُ الجُعَلِ مهفهفٌ كالقضيب مُعتدلٌ ... وحكمه فيَّ غيرُ معتدل فلو رأَتْ حسنَه فلاسفةٌ ... لعوّذوه بعِلَّة العِلل كم قد سقاني مُدامَ فيه على ... غنائه وانتقلتُ بالقُبَلِ قد ذقتُ منه هجراً أَمرَّ من الصّبر وصلاً أَحلى من العسل أَهوى تَجَنِّيه والصدودَ كما ... يهوىالمعالي محمدُ بن علي محمد خاتَمَ الكرام كما ... سميُّه كان خاتم الرُّسُل وله في غلام يحبه اسمه يعيش: بأَبي قدُّ يعيش بأَبي ... حين يهتزُّ اهتزازَ القُضُبِ رشأٌ حاسدُه ضدُّ اسمه ... وإِذا ما عكسوه مَذْهبي وله في غلام قبله مودعاً: أَقسمتُ يا لائمي فيمن بُليتُ به ... وَمَنْ تحكَّم في هجري وإِبعادي لو أَنه كلّما سافرتُ ودّعني ... بقُبلةٍ لم أَزل في الرائح الغادي وله في المقدحة لغزاً: ومضروبةٍ من غير جُرْمٍ ولا ذنب ... حوى قلبُها مثلَ الذي قد حوى قلْبي إِذا ما أَتاها القابسون عَشِيَّةً ... حَكَتْ فلكاً يرمي الشياطين بالشُّهْب وقوله في طالب الصوري الشاعر ويستطرد بالهيتي الشاعر نصر: يا طالبُ الصوريُّ إِن لم تتبْ ... عن شعرك المنتَحَل الباردِ حَلَّ بأَكتافك في جِلِّقَ ... ما حلّ بالهيتيِّ في آمدِ وقوله في وحيش الشاعر: لا بارك الرّحمن في وُحَيْشِ ... فإِنه مُكَدِّرٌ للعَيْشِ كم قال، لا قُلْقِل غيرُ نابِه، ... أَبياتَ شِعْرٍ كبيوت الخَيْش وقوله من أبيات وقد أعطاه بعضهم شعيراً: يقولون: لِمْ أَرخصتَ شعرك في الورى؟ ... فقلتُ لهم: إِذ مات أَهلُ المكارمِ أُجازى على الشعرِ الشعيرَ وإِنهُ ... كثيرٌ إِذا استخلصته من بهائم وقوله، مما يغنى به: عندي إليكم من الأَشواق والبُرَحا ... ما صيّر الجسم من فرط الضَّنا شَبَحا أَحبابَنا لا تظنّوني سلوتُكمُ ... الحالُ ما حالَ والتبريحُ ما برِحا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 لو كان يسْبَحُ صَبٌّ في مدامعه ... لكنتُ أَولَ من في دمعه سبحا أَوْ كنت أَعلم أَن البيْن يقتلني ... ما بِنْتُ عنكم، ولكن فات ما ذُبحا وقوله: كتم الهوى فوشتْ عليه دموعُهُ ... مِنْ حرّ جمرٍ تحتويه ضلوعُهُ صبٌّ، تشاغل بالربيع وزهره ... قومٌ، وفي وجه الحبيب ربيعُه يا لائمي فيمن تمنَّع وصلُه ... عن صَبِّه، أَحلى الهوى ممنوعه كيف التخلُّصُ إِن تجنّى أَو جنَى ... والحسنُ شيء ما يُرَدّ شفيعه شمسٌ، ولكنْ في فؤادي حرُّها ... قمرٌ، ولكن في القَباء طلوعه قال العواذل: ما الذي استحسنتَه ... منه، وما يَسبيك؟ قلت: جميعُه وقوله في الشوق والفراق: كتبتُ إِليكُمُ أَشكو سَقاماً ... برى جسمي من الشوق الشديدِ وفي البلد القريب عدِمت صبري ... فكيف أَكون في البلد البعيد نوىً بعد الصدود، وأَيّ شيء ... أَمرُّ من النَّوى بعد الصُّدود ثم وقع بيدي بعد ذلك ديوان شعره فطالعته، وقصائده قصار وفي النادر أن تزيد قصيدته على خمسة وعشرين بيتاً، ومقطعته على عشرة أبيات، وكلها نوادر وكلام مضحك، فانتخبت منه هذه الأبيات واختصرت حذراً من التطويل: الهمزة فمن ذلك قوله من مقطعة: وَهَبْ ما قالت الواشون حقّاً ... مَنِ الراقي إِلى بدر السماء؟ لقد أَمسى الذي يبغي حبيباً ... مُحِبّاً طالباً للكيمياء ومنها: أَيجمُلُ أَن أُضامَ ودُرُّ نظمي ... أَحبُّ من الغنى عند العناء أَمالَ العُرْبَ عن شعر التِّهامي ... وأَغنى العُجْمُ عن شعر السَّنائي وقوله من قصيدة في حسام الدين صاحب ماردين: هذا الحبيبُ وهذه الصهْباءُ ... عَذْل المُصِرِّ عليهما إِغْراءُ والأَغْيدُ الأَلْمى يروقُك منظراً ... في سقيها والغادةُ اللَّمياءُ يا قاتلاً كأسي بكثرة مائِه ... ما الحيّ عندي والقتيلُ سواءُ بالماء يحيا كلُّ شيءٍ هالكٍ ... إِلاّ الكؤوسَ هلاكُهنَّ الماء والراح ليس لعاشقيها راحةٌ ... ما لم يساعدهم غِنىً وغِناءُ ومنها: وبوَجْنتي وبوجنتيْه إِذا بدا ... من فرط وجْدَيْنا حَياً وحياءُ كيف الوصولُ إِلى الوصال وبيننا ... بَيءنٌ ودون عِناقه العَنقاء لله جيراني بجَيْرونٍ، ولي ... بلحاظهم وبهم ظُبىً وظِباءُ وكأَنهم وكأَنّ حُمرةَ راحهم ... في راحهم، وَهْناً، دُمىً ودِماءُ وكأَنما سقتِ البلادَ مُلِثَّها ... كفّا حُسام الدين، لا الأَنواءُ الباء وقوله: خَرِف الخريفُ وأَنت في شُغُلٍ ... عن بهجة الأَيّامِ والحِقَبِ أَوراقُه صُفرٌ، وقهوتنا ... صفراءُ مثلُ الشمس في لهب ياتي بها غير وأَشربُها ... ذهباً على ذهبٍ بلا ذهبِ وقوله في الحث على السفر: ذَرِ المقام إِذا ما ساءك الطلبُ ... وسِرْ فعزْمُك فيه الحزم والأَرب لا تقعدنَّ بأَرضٍ قد عُرِفتَ بها ... فليس تَقْطع في أَغمادها القُضُب وقوله في مروحة: ومحبوبةٍ في القيظ لم تخلُ من يدٍ ... وفي القُرّ تشكوها أَكفُّ الحبائبِ إِذا ما الهوى المقصور هيّج عاشقاً ... أَتت بالهوا الممدود من كل جانب وله من قطعة: وكم ليلةٍ قد بِتُّ أُسقى بكفّه ... على وجهه نادمتُ بدراً وكوكبا حكت فَمَه طعماً وريحاً، وخدَّه ... إِذا مزجوها، رقَّةً وتلهُّبا ومن أخرى: ونادبةٍ ناحتْ سُحَيْراً بأَيْكةٍ ... فهيّجتِ الوَسواسَ في قلب نادب تنوح على غصن أَنوح كمثله ... وهل حاضرٌ يبكي أَسىً مثلُ غائب وقوله من قصيدة في الصالح بن رزيك بمصر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 لمن الخيلُ كلَّ أَرض تجوبُ ... صَحِبَتْها في كل شِعب شَعوبُ والجواري التي يضيق بها البحر على أَنّه فسيحٌ رحيب غير سيف الإِسلام خير فتىً عَزّ به دينُنا وذَلَّ الصليب مَلِكٌ منه في الخطاب إِذا شا ... ء خطيب وفي النِّزال خطُوب ومنها: وكأَني أَبو نُوَاسٍ إِذا ما ... جئتُ مصراً وأَنت فيها الخصيب ولئن كنتُ مخطئاً في قياسي ... إِنّ عذري ما قال قِدْماً حبيب ومنها: لو أَراد الرقيب ينظر جسمي ... ما رآه من النحولِ الرقيبُ مثل دار الزكيّ كيسي وكأسي ... وهي قَقْرٌ كأَنها مَلْحوب وقوله في ابن ثريا وكان دباباً: لا ترقُدنْ وابنَ ثريا معاً ... فإِنه أَطمع من أَشعب كم دَبَّ كالعقرب سُكراً، وكم ... قد قتلوه قِتلة العقربِ وقوله في أبي الوحش الشاعر: أَبا الوحش جَمّلتَ أَهل الأَدبْ ... لأَنك أَطولُ قومي ذنبْ وكيف تكون صغير المحلّ ... وبيتُك أَكبر ما في الخشب وله رباعية: أَقسمتُ بواوِ صُدغ هذا الحاجبْ ... في لام عِذاره ونونِ الحاجبْ لو عاينه ابنُ مقلةَ والصاحبْ ... قالا عجباً لديه: جَلَّ الكاتب التاء وله في غلام اسمه ياقوت: قلتُ: وقد أَقبل ياقوتُ ... في فمه دُرٌّ وياقوتُ أَسِنّةٌ زُرق بأَجفانه ... أَم جالت البيضُ المصاليتُ كأَنما أَلحاظُه بابلٌ ... فيهنّ هاروت وماروتُ الجيم وقوله في الططماج: أَلا رُبّ طاهٍ جاءنا بعد فترةٍ ... بأَطباق طُطْماج أَشَفَّ من الثَّلْج وقد غارت السيخات فيها كأَنها ... يغالِقُ ترك في طوارق إفرنج وقوله في ابن أبي طاهر الطبيب واسمه عباس: عُجْ على عبّاس تلقَ فتىً ... غير نَكْريشٍ ولا بَذَجِ فيلسوف ما يُريق دماً ... وبخدَّيْه دمُ المُهَج لو تَمعْناه السديدُ سلا ... قلبُه عن عشقه البكجي! قلتُ لما ظلّ مجلسنا ... مُشرقاً من وجهه البَهِج: إِنّ بيتاص أَنت ساكنُه ... غيرُ مُحتاج إلى السُّرُج وعليلاً أَنت عائده ... قد أَتاه الله بالفرج وقوله في مرثية: لقد حَسُنتْ به اليوم المراثي ... كما حسُنت به أَمسِ الأَهاجي ولكنْ لجَّ في شتم البرايا ... وكان القتلُ عاقبةَ اللَّجاج وقوله: كأَنّ احمرار الخدّ ممّنْ أُحبه ... حديقةُ وردٍ والعِذارُ سياجُها وقوله في أبي الوحش بن علان لما امتدحه وكلما اقتضاه حرك رأسه: يا من إِذا جئتُه سؤولاً ... ولستُ بالسائل اللَّجوجِ حرّك لي مُوعِداً بمَطْلٍ ... حاديَ عَشْرٍ من البُروج الحاء وقوله: حتى متى لا يَبْرَح التبريحُ ... وإِلامَ أَكتُم والسَّقام يبوحُ لا شرحُ كتبِ أَحبّتي يأتي ولا ... صدري بغير حديثهم مشروح يا برقُ حيِّ الغوطتيْن وسقِّها ... مطراً حكاه دمعي المسفوح كيف الحياة لمُستهامٍ جسمُه ... في بعلبكَّ وفي دمشق الروح ظبيٌ بها لم يَرْعَ إِلاّ مُهجتي ... والظبيُ ما مَرْعاه إِلاّ الشّيح تشتاقه عيني وتبكيه دماً ... والقلبُ وهو بصدّه مجروح مُتَعطِّف الصُّدْغين وهو مُجَنّبٌ ... مُتَمَرِّض العينين وهو صحيح لي من ثناياه العِذاب وريقِه ... أَبداً صباحٌ واضحٌ وصَبوح وَيْحَ العواذل هل يُغشّي نورُه ... أَبصارَهم، أَم كيف يخفى يوح لاموا وقد نظروا مَلاحةَ وجهه ... واللَّومُ في الوجه المليح قبيح وقوله في مجير الدين وقد اقترح عليه في ساق يهواه وزن: شربتُ من دِنانهمْ ... من كلّ دَنّ قدحا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 مَنْ لي بساقٍ أَغْيدٍ ... عِذاره قد سَرحا كأَنه بدرُ دُجَى ... في كفّه شمسُ ضُحا ما زلتُ من مُدامِه ... مُغْتَبِقاً مُصْطَبِحا حتى غدوْتُ لا أَرى النّدمان إِلاّ شبحا وقد عصيْتُ في الهوى ... من لام فيه وَلَحا يا قلبُ كمْ تذكره ... لا بارحتْك البُرَحا هذا الذي تعشقُه ... كم قلبِ صَبٍّ جرحا يا صاح يا صاح اسقني ... من راحَتيْه القَدَحا واغتنِم العيشَ فما ... تُبْقي الليالي فرحا كأَنما البدر وقد ... لاح لنا مُتَّضِحا وجهُ مجير الدين مو ... لانا إِذا ما مُدحا وقوله في ناصر الدين وفتح الدين ابني أسد الدين شيركوه: لله شِبلا أَسدٍ خادِرٍ ... ما فيهما جُبْنٌ ولا شُحُّ ما أَقبلا إِلاّ وقال الورى: ... قد جاء نصر الله والفتحُ وقوله رباعية: لا راحةَ لي بغير شُرب الرّاحِ ... من ذي هَيَفٍ يطوف بالأَقداحِ تبدو كالصّبح وهو كالْمصباحِ ... سكران الطرف ذو فؤادٍ صاح وقوله في أبي الوحش: قال وُحَيشٌ ليَ في منزلي ... مكبوبةٌ ظاهرة الملحِ فقلتُ: ما عندك مكبوبة ... إِن لم تكن أُم أَبي الفتح الخاء وله: صفات القويضي فتى مشرقٍ ... يَحار لها العالِمُ الراسخُ ذكيٌّ، ولكنّه لاذنٌ ... أَسيلٌ، ولكنه كامَخُ الدال وقوله من قطعة: قمرٌ يغيب إِذا بَدَأْتُ مَلامَةً ... وأَغيبُ من حذر الوُشاة إِذا بدا ناديت طُرّتَه وضوء جبينه ... سُبحان من قَرَن الضَّلالة بالهُدى وقوله في سيف الدين محمد بن بوران: لِمَنْ حِلّةٌ ما بين بُصرى وصَرْخَدِ ... تروح بها خَيْلُ الجلاح وتغتدي ونارٌ، بقلبي مثلها، لأُهَيْلها ... تُشَبُّ لضَيْف مُتْهِمٍ ولمُنْجِدِ وممشوقة رقّت ودقّت شمائِلاً ... إِلى أَن تساوى جِلْدُها وتَجلُّدي من الخَفِراتِ البيض تُغْني لحاظُها ... عن المُرْهَفات البيض في كلِّ مَشْهَد حجازيّة الأَجفان والخصر والحشا ... شآمِيَّة الأَردافِ والنهد واليد إِذا ابتسمت فالدُّرُّ عِقْدٌ مُنَضَّدٌ ... وإِن حدَّثَتْ فالدّرُّ غيرُ مُنضَّد وأَلْمى كمثل البدر تبدو جُيوبُه ... على مِثْلِ خُوط البانةِ المُتَأَوِّد له مقلةٌ سَكْرى بغير مُدامَةٍ ... ولي مُقْلةٌ شَكْرى بدَمعٍ مُوَرّد رعى الله يوماً ظَلَّ في ظِلِّ أَيْكةٍ ... نديمي على زهر الرياض ومُنشدي وكأْساً سقانيها كقِنْديل بِيعةٍ ... بها وبه في ظلمة الليل نهتدي معتَّقَةً من قبلِ شيثٍ وآدم ... مُخَلَّلَةً من قبٍلِ عيسى وأحمد صَفَتْ كدموعي حين صدّ مديرها ... ورقّت كَدِيني حين أَوْفى بمَوْعد وفي الشيب لي عن لاعجِ الحُبّ شاعلٌ ... وقد كنتُ لولا الشيبُ طلاَّعَ أَنْجُد رمى شَعَري بعد السَّواد بأَبيضٍ ... وحَظّيَ من بعد البياض بأَسود فلا وَجْدَ إِلاّ ما وجدتُ من الأَسى ... ولا حمدَ إِلاّ للأَمير محمّد وقوله في آمد: في آمِدَ السوداءَ بِيضٌ ما انثَنوْا ... إِلاّ حَكَوْا سُمْرَ الرّماح قُدودا تَخِذوا من الليل البهيم قلانِساً ... ومن النهار مباسماً وخُدودا يقال لآمد السوداء لأنها مبنية بحجارة سود، ولميافارقين البيضاء، ولنصيبين الخضراء، وللموصل الحدباء، ولحلب الشهباء، ولبغداد الزوراء، وللبصرة الفيحاء. وقوله في ذم العذار: إذا ما الأَمْردُ المصقول جاءت ... عوارضُه فنقْصٌ في ازْدياد يموت المَوْتَةَ الأُولى فتُمْسي ... على خدَّيْه أَثواب الحِداد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 وهل يَستحسِن الإِنسان روضاً ... إِذا ما حلّه شَوْكُ القَتاد وقوله في الغزل والعذار: لي حبيبٌ كالبدر حسناً وبُعْدا ... وقضيبِ الأَراك لِيناً وقَدّا قلت لما بدت له شعَراتٌ ... ليتها للوُشاة لن تتبدّا جَلَّ مَنْ أَنبت البنفسَج في الور ... د وسمّاها عِذاراً وخَدّا قمرٌ كلّما تبسّم قابلْتُ عقيقاً حوى من الدُرّ عِقدا حاك في وجهه الجمال كما أَلحَمَ في جسميَ السَّقام وأَسدى وقوله من قصيدة: مَنْ لي بمعسول الثَّنايا عَذْبِها ... لَدْنٍ كخُوط البانة المتأَوِّدِ أَبداً هواه لي مُقيمٌ مُقعِدٌ ... رُوحي فِداه من مُقيمٍ مُقْعِد ولقد نعِمْتُ بوَصله في نَيْرَبٍ ... أَلِف الربيع بروضه الغصن النّدي أَزهارُه من جَوْهرٍ، ونسيمه ... من عنبر، وثمارُه من عَسْجَد وعلى الغصون من الحمائم قَيْنَةٌ ... تُغْنيك عن شدْوِ الغَريضِ ومَعْبَد والماءُ في بردى كأَن حَبابَه ... بَرَدٌ حَبَتْهُ الريح غير مُجمَّد بينا تراه كالسَّجَنْجَل ساكناً ... حتى تراه أَجعداً كالمِبْرد ومن أخرى: دمشقُ حُيِّيتِ مِنْ حَيٍّ ومن نادِ ... وحَبَّذا حَبَّذا واديك من وادِ ليس النَّدامى نَدامى حين تَنْزِله ... يَعُلُّهم شادِن كأساً على شاد حقّاً وللوُرْق في أَوْراقه طربٌ ... كأَنَّ في كلّ عود أَلْفَ عَوّاد يا غادياً رائحاً عَرِّج على بردى ... وخلّني من حديث الرائح الغادي كم قد شربتُ به في ظِلّ داليةٍ ... من ماء داليةٍ تُنْبيك عن عادِ في جنْبِ ساقيةٍ من كفّ ساقيةٍ ... قامت تَثنّى بِقَدٍّ غير مُنْآد سَمْراء كالصَّعْدة السّمراء واضحة ... يَشفي لَمى شفتيْها غُلَّةَ الصّادي لها بعَيْني إِذا ماست عواطفُها ... جمالُ ميّاسةٍ في عيْن مِقْداد وله من قصيدة في مدح الملك الناصر صلاح الدين قبل ملكه مصر يحثه على قصدها: إِلامَ أُلامُ فيك وكم أُعادى ... وأَمرض مِن جفاك ولن أُعادَا لقد أَلِف الضَّنى والسُّقْمَ جسمي ... وعيناي المدامعَ والسُّهادا وها أَنا قد وهى صبري، وشَوْقي ... إِذا ما قَلّت الأَشواق زادا بقلبي ذات خَلخالٍ وقُلْب ... تملّك فَوْدُها منّي الفؤادا مهفهفة كأَنّ قضيب بانٍ ... تثنّى في غلائلها ومادا بوجهٍ لم يزد إِلاّ بياضاً ... وشَعرٍ لم يزد إِلاّ سوادا تعجّب عاذلي من حَرّ حبّي ... ومن برد السُّلُوِّ وقد تمادى ولا عجبٌ إِذا ما آب حَرٌّ ... بآبَ، ومن جَمادٍ من جُمادى وقد أضنسانيَ الشيبُ الغواني ... فلا سُعْدى أُريد ولا سُعادا وهل أَخشى من الأَنواء بخلاً ... ويوسُف لي، فتى أَيوب، جادا فتىً للدّين لم يَبْرَح صلاحاً ... وللأَموال لم يبرح فسادا هو المعروف بالمعروف حقاً ... جَوادٌ لم يهب إِلاّ جوادا به الأَشعار قد عاشت نَفاقاً ... وعند سواه قد ماتت كسادا إِلى كم ذا التواني في دمشقٍ ... وقد جاءَتكم مصرٌ تَهادى عروسٌ بعلُها أَسدٌ هِزَبرٌ ... يصيد المعتدين ولن يصادا ومن أخرى في الصالح رزيك ويذكر مذهبه في التشيع: قف بجَيْرونَ أَو بباب البريدِ ... وتأَمَّل أَعطافَ بان القُدودِ تَلْق سُمْراً كالسُّمْرِ في اللَّوْن واللين وشِبْهَ الشعور في التجعيد ومن البيض كالمُهَنَّدةِ البيض وشبه الخدود في التوريد من بني الصّيد، للمحبّين صادوا ... بعيون الظِبا قلوبَ الأُسود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 يا نديميّ غَنِّياني بشِعري ... واسقياني بُنيّة العُنقودِ عرّجا بي ما بين سَطرى ومَقرى ... لا بأَكناف عالِجٍ وزَرود سقّياني كأْساً على نهر ثورا ... وذراني أَبولها في يزيد أَنا من شيعة الإمام حُسَيْنٍ ... لست من سنة الإمام وليدِ مَذهبي مُذْهَب، ولكّنني في ... بلدة زُخرِفَت لكلّ بليد غير أَنّ الزمان فيها أَنيقٌ ... تحت ظِلٍّ من الغصون مَديد ورياضٍ من البَنَفْسَج والنَّرْ ... جِس قد عُطّرت بمسكٍ وعود كَثَنا الصالح بن رُزِّيك في كلّ قريبٍ من الدُّنى وبعيد ملك لم تزل ثيابُ عِداه ... من حِدادٍ وثَوْبُه من حديد وله من قطعة كتبها إلى ابن السديد وقد سافر إلى بغداد يطلب منه شقة: حاجتي شُقَّةٌ تَشُقُّ عهلى كلّ بغيضٍ من الورى وحَسودِ ذاتُ لَوْنٍ كمثل عِرْضك لا عر ... ضي وحظّي من القريب البعيد فابْعَثَنْها صفيقةً مثل مثل وجهي ... جَلَّ من صاغ جلده من حديد واجْعَلَنْها طويلةً مثل قَرْني ... ولساني لا مثل قَدّي وجيدي كَيْ أُرى في الشآم شيخاً خليعاً ... في قميصٍ من العراق جديد وقوله قديماً وقد تولى صلاح الدين الملك الناصر إيالة دمشق: لصوصَ الشّام، توبوا من ذُنوبٍ ... تُكَفِّرها العقوبةُ والصِّفادُ لئن كان الفساد لكم صلاحاً ... فمولانا الصّلاحُ لكم فساد وقوله في شمس الدولة وقد نزل دار عمه أسد الدين: قلتُ لحسّادك زيدوا في الحسدْ ... قد سكن الدّارَ وقد حاز البلدْ لا تعجَبوا إِن حَلَّ دارَ عمّهِ ... أَما تَحُلّ الشمسُ في بُرْج الأَسد وقوله في مرثية بعض المجان: يا خفيفاً على القلوب لطيفاً ... قد بكاه أَصادقٌ وأَعادي كنتً من مُهجتي مكانَ السويدا ... ءِ ومن مُقلتي مكان السّوادِ قد بكاك الرّاووق والكأْس والقَيْنة من لائطٍ إِلى قوّاد أَيّها الشيخ ما نهتك الثمانو ... ن وذاك البياضُ بعد السّواد لم تزل تلكمُ العَرامة حتى ... أَلحقتْه بالرّهط من قوم عاد لا عُوَيْسٌ يبقى وإِلاّ ابن العصيفير ولا ابنُ الصّمان في الأَنداد شمِتوا حين مات والموت ما تَنْفع فيه شماتةُ الحُسّاد رحم الله من رأَى مصرح الشيْخ وهيّا من التُّقى خيرَ زاد وقوله: شكا إِليّ أَمْرَد ... قد حثّه ضيق اليدِ فقلت لِمْ ضاقت وقد ... وسَّعت بابَ المقعد وقوله في شريف: وحِسْبةٍ نالها شريفٌ ... بلا طَريف ولا تليدِ ما إِن تأَملته عبوساً ... إِلاّ ترضيتُ عن يزيد الدال وقوله: أَصبح الملكُ بعد آل عليٍّ ... مُشْرِقاً بالملوك من آل شاذي وغدا الشّرقُ يحسُد الغربَ للقو ... م ومصرٌ تزهو على بغداذ ما حواها إِلاّ بحَزْمٍ وعزم ... من صليل الفولاذ في الفولاذ لا كفر عون والعزيز ومن كا ... ن بها كالخَصيب والأُستاذ الراء وقوله: نديمي قُمْ فقد صفتِ العُقارُ ... وقد غنّى على الأَيْك الهَزارُ إِلى كم ذا التواني في الأَماني ... أَفِقْ ما لعمر إِلاّ مُسْتعار وخذها من يديْ ظبي غريرٍ ... بِعيْنيه فُتورٌ وانكسار إِذا ما الليل جَنَّ على النَّدامى ... تَجَلَّى من ثناياه النهار يقول لي العَذول تسلَّ عنه ... وما عُذْري وقد دَبّ العِذارُ فَصَبْراً للنّوى بعد التداني ... فلولا الخَمر ما ذُمَّ الخُمار وقوله من أخرى: أَمّا دمشقُ فجَنّاتٌ مُعَجَّلةٌ ... للطالبين بها الوِلدانُ والحُورُد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 ما صاح فيها على أَوتاره قمرٌ ... إِلاّ وغناه قُمْرِيّ وشُحْرور يا حبَّذا ودُروع الماءِ تنسِجُها ... أَناملُ الرّيح لولا أَنها زُور ومنها: همْ عارضوني على حُبّي لعارضه ... ومن أَحبَّ عِذاراً فهو معذور ومن أخرى: وكم ليلةٍ قد لاح من صُدْغه الدُّجى ... ومن كأْسه الجَوْزا ومن فمه الفجرُ وكم أَخذت أوتاره الثأر من دمي ... سُحَيْراً، فقال النّاس هذا هو السِّحر يشاركني حِذقاً فَمِنْ عنده الغنا ... إِذا ما تنادمنا ومن عنديَ الشِّعْر وقوله: قوموا انظروا واعذِروا يا غافلين إِلى ... بدرٍ تبادر من أَفلاك اَزرار على قضيبِ أَراكٍ في كثيبٍ نقاً ... تهزُّه خَطَراتٌ ذات أَخطار ما رامت الروم، والأَتراك ما تركت ... أَدَقَّ من خصره في عَقد زُنّار الماءُ والنار في خدَّيْه قد جُمِعا ... جَلّ المؤلِّف بين الماء والنار وقد بدت شَعَراتٌ في عوارضه ... كأَنَّهن ليالٍ فوق أَسحار وقوله في العذار: دَبّ العِذار بخدّه فتعذَّرا ... مِن بعد ما قد كان بدراً نيِّرا وتناقصت أَحواله فكأَنه الحبّال يمشي في المعاش إِلى وَرا وقوله: قالوا بدا في خدّه الشَّعْرُ ... وأَنت لا عقلٌ ولا صبرُ واسودّ خدّاه، فقلت اقصُروا ... لولا الدُّجى ما حَسُن البدر وقوله: أَدِرْ يا طلعة البدرِ ... علينا أَنجُم الخمْرِ وقطِّع ليلنا بالكأْ ... س حتّى مطلَع الفجر على فتّانة العينين والخدَّيْن والثَّغْر لنا في وجهها قمرٌ ... ومن نغماتها قُمْري كذا فلْيشربِ الصهبا ... ءَ مثلي يا ذوي الشعر كذا في ليلة الجمعة بل في ليلة القَدْر مع الفتيان في الحانا ... ت بين الطَّبل والزَّمر بحيث ابن ملكداد ... وحيث ابن أَبي الدر حَرِيفان حُرافان ... بلا قَدْرٍ ولا قِدْرِ وله: نديمي داوِ بالخَمْرِ الخُمارا ... أَدرْ كأْسي يميناً أَو يسارا مُشَعْشعة إِذا ما صفّقوها ... بماءٍ خِلْتَها نوراً ونارا لها من مولِدَيْ موسى وعيسى ... شرابٌ لليهود وللنصارى ومُسْمِعَةٍ إِذا ما شئت غنّتْ ... أَلا حيّ المنازل والديارا بدتْ بدراً وماجت دِعْصَ رَمْلٍ ... وماسَتْ بانةً وشَدَتْ هَزارا إِذا غازلْتُها أَو غازلَتْني ... تأَمَّلْت الفَرَزْدَق والنَّوارا ويومَ غَدَتْ تعيِّرُني بشيْبي ... وقد رأَتِ السَّكينةَ والوَقارا وما في الشَّيْبِ عند الناس عيبٌ ... إِذا ما عاد ليلُهمُ نهارا ولكن في الشباب خَزَعْبلاتٌ ... لِمَنْ يهوى العَذارى لا العِذارا وقوله في مدح بني السلار: لا تلُمني على الدُّموع الجواري ... فهي عَوْني على فراق الجوارِ كم لئيمٍ يَلَدُّ بالعيش صفواً ... وكريمٍ يَغُصّ بالأَكدارِ لا يَفي الوَصلُ بالصُّدود خليليَّ كما الخَمْر لا يفي بالخُمار فاسقِنيها لعلّها تصرِف الهمّ على طيب نَغْمة الأَوتار خَنْدَريساً كأَنها في دُجى الليل بأَيدي السُّقاة شمسُ النهار إِنما العيشُ في رياض دمشقٍ ... بين أَقمارها وبين القَماري مثلما قد خلعتُ أَثواب مدحي ... باختياري على بني بختيار مَعْشَر كالغيوث في حَلْبة السّلْم وفي الحرب كاللّيوثِ الضَّواري بقلوبٍ كأَنها من جمالٍ ... وأَكفٍّ كأَنها من بحار وكأَنّ الإِلَه، جلّن بَراهُمْ ... من فَخار، والناسَ من فَخّار وقوله في ملك النحاة وكان يذكر مصر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 قد جُنّ شيْخي أَبو نزارٍ ... بذكر مِصْر وأَين مِصرُ والله لو حلَّها لقالوا ... قفاه يا زيدُ فهو عمرو وزيد كان محتسب دمشق فصار بمصر محتسباً. ومن جملة ما كتبه إلى الملك الناصر من قصيدة: إِليك صلاحَ الدين مولاي أَشتكي ... زماناً على الحُرِّ الكريم يجورُ تُرى أُبْصِرُ الأَلف التي كنت واعدي ... بها في يدي قبل الممات تصير وهيْهاتَ والإِفرنجُ بيني وبينكم ... سِياجٌ، قتيلٌ دونه وأَسيرُ ومن عجبِ الأَيّام أَنك ذو غِنىً ... بمصر، وأني في دمشق فقير السين وقوله في التشبيه: كأَنّ السماء وقد أَزهرت ... كواكبها في دُجى الحِندسِ رياضُ البنفسَج محميّةً ... يُفتِّح فيها جَنى النَّرجِس وقوله في ابن رزيك لما غلب على وزارة مصر بعد عباس الذي فتك بأهل القصر وقتلهم: طاف على النّدْمان بالكاس ... وَخَدُّه من لونها كاسِ مُهفهفُ القامةِ مَمْشوقها ... يخجل منه غُصنُ الآسِ كم أَتصدّى لِجَفا صدِّه ... وكم أُقاسي قلبَه القاسي دِعْصُ نَقاً تحملُه بانةٌ ... شمسُ ضحىً في زِيّ شَمّاس تحكي ثنا الصالح أَنفاسُه ... وصُدْغُه أَيامَ عباس وقوله: ما اجتمع الشِّطرنج في مجلِسٍ ... والنَّرْدُ، إِلاّ بَرَدَ المجلسُ لا سيّما إِن حضرتْ نَرْجِسٌ ... والبان والمنثور والنَّرْجِسُ وقوله في مغن اسمه علي: عليٌّ صوته سَوْطٌ ... علينا لا على الفَرَسِ وجُملةُ ضربه ضَرْبٌ ... لمدَّرعٍ ومتَّرس يقول السّامعون له: ... رماه الله بالخرس وخذ يا ربِّ مُهجتَه ... إِذا غنّى: خُذِي نَفَسي وقوله في صلاح الدين الملك الناصر بديهاً أوان الورد: يا حابس الكأء، خيلُ الوَرد قد وَرَدت ... شُهْباً وكثمْتاً، أَدِرْ يا حابس الكاس أَقسمتُ ما الورد في الأَزهار قاطبةً ... إِلاّ كمثل صلاح الدين في الناس الوارثِ المجدَ من آبائه أَبداً ... مثل الخلافة في أَولاد عباس وله رباعية: ويْلاهُ على المهفهف الميّاسِ ... ما أَحسنَه وهو بقلبٍ قاسِ يهتزّ كأَنه قضيب الآسِ ... سكران ولم يذق حُمَيّا الكاسِ الشين وقوله في طغريل السياف وهو جوباشي دمشق: قالوا يسبُّك طُغْريل وتُهمله ... فقلتُ أَخشى على عِرضي من الواشي كنّا نحاذِر منه وهو مِرْشَحَةٌ ... فكيف لا نتَّقيه وهو جُوباشي لي أُسوةٌ بجميع الخلق يشتُمهم ... جُكّا ودلماص والعوذ بن شواش الصاد وقوله في الملك الناصر وقد بعث لأهل دمشق السلام وله الذهب: صلاحَ الدين قد أَصلحتَ دنْيا ... شقّيٍ لم يبِتْ إِلاّ حريصا أَتى منك السّلامُ لنا عُموماً ... وجُودُك جاءني وَحدي خُصوصا فكنتُ كيوسُفَ الصدّيق لمّا ... تلقّى منه يعقوبُ القميصا وقوله في التشبيه: أَما ترى البدر في السماء وقد ... حاول من بعد تِمِّه نقصَهْ بينا تراه كخُشْكنانكةٍ ... حتى تراه كأَنه قُرصَهْ الضاد وله في مقلي بيض: أَأَحداقُ بَيْضٍ أَم حديقةُ نَرْجِسٍ ... أَتت بين مُصفرٍّ ومُبيضِّ شربنا على التِّبْرِيّ كأْساً كَلوْنه ... وأُخرى على الفضّيّ من ذلك الفضّي وقوله: جاءت بوجهٍ مُعْرِضٍ ... وطالما تعرّضا بيضاء ما أَبصرتُ منها قطُّ يوماً أَبيضا قالت: قلى؟ قلتُ: نعم ... قلبي على جمر الغضا العين وقوله في الشوق تُرى عند من أَحببتُه، لا عدمتُه، ... من الشوق ما عندي وما أَنا صانعُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 جميعي إِذا حَدَّثتُ عن ذاك أَلسُنٌ ... وكلّي إِذا حُدِّثتُ عنه مَسامع وقوله: وعِلْقٍ تعلّقته بعد ما ... غدا منه كلُّ جديدٍ خليعا له ضيْعةٌ كلّما أَمحلتْ ... يعيشُ، وإِن أَخصبت مات جوعا وقوله: بكا لي حاسدي مَيْناً، وأَدْري ... بِضَحْك فؤاده بين الضّلوعِ وأَكذَبُ ما يكون الحُزنُ يوماً ... إِذا كان البكاءُ بلا دموع وقوله في ابن مالك صاحب قلعة جعبر: لحا الله مُلْكاً يحتويه ابنُ مالكٍ ... وعاجَلَهُ في ساحة القَلْعة القَلْعُ فتىً لستَ ترجوه ولستَ تخافه ... كدُود الخلا ما فيه ضرّ ولا نفْعُ الفاء وقوله: حبيبٌ لنا واعدٌ مُخْلِفُ ... يجوز علينا وما يُنْصِفُ بكلّ قَباءٍ له صَعْدَةٌ ... وفي كل جَفْنٍ له مُرْهَلإ فيذْهَل من بأْسه عنترٌ ... ويخجل من حُسْنه يوسُف أَما وبروقِ الثنايا التي ... بها الشَّهْدُ والمِسْك والقَرْقَف لقد حِرْتُ في قمرٍ أَحْورٍ ... لنا ما يغيب ولا يُكْسَف شربنا على وجهه ليلةً ... عيونُ سحائبها تذرِف وحَرُّ الكوانين مستعذَبٌ ... ببرد الكوانين مُسْتطرَف لدى شمعةٍ مثل لون المحِبِّ وريح الحبيب إِذا ترشف تموت انطفاءً إِذا سولِمَتْ ... وتحيا وهامتُها تُقْطَف فقلت وقد غاب جيش السَّحاب ... وطرفي عن الحِبّ ما يَطْرِف كأَنّ الثريّا وبدرَ السماء ... وأَنجمُها طُلّعٌ تَرْجُف يدٌ قد أَشارت إِلى وردةٍ ... وحولهما نَرْجِسٌ مُضْعَف وقوله: أَما آن للغضبان أن يتعطّفا ... لقد زاد ظلماً في القطيعة والجفا بِعادٌ ولا قُرْبٌ، وسُخْطٌ ولا رِضا ... وهجرٌ ولا وَصْلٌ، وغدرٌ ولا وفا تكدَّرَ عَيْشي بعد ما كان صافياً ... وقلبُ الذي أَهواه أَقسى من الصَّفا فيا خدَّه لا زدتَ إِلاّ تَلَهُّباً ... ويا قدَّه لا زدتَ إِلاّ تَهَفْهُفا ويا رِدْفَه لا زال دِعْصُك مائلاً ... ويا طرفَه لا زال جفنُك مُدْنِفَا وقوله: نتفتُ السَّوادَ من العارضيْن عند الشبيبة نتفاً عنيفا فلما كَبِرْتُ نتفت البياض ... وقد صار بعد الجنى الغضّ ليفا ولو علم النّاس بالحالَتيْن ... لما لقّبونيَ إِلاّ نتيفا وقوله: قولا لطُغْريل ولا تَقْصُرا ... في سَبِّه عنّي وتعنيفِه قتلْتنا بالصِّرف سَكْرا، فلا ... برحتَ مقتولاً بتصحيفه وقوله في إنسان وعده بخروف وما وفى: يا أَبا الفضل بالنجفْ ... إِستمع كلّ ما أَصفْ لك وجهٌ كأَنه البدر لكن إِذا كُسِفْ وقَوامٌ كأَنَه الغُصْن لكن إِذا قُصِفْ وعِذارٌ كأَنه النَّمل لكن إِذا نُتِف وبَنانٌ كأَنّه البحر لكن إِذا نشِف وأَبٌ أَكذب الأَنا ... م ولكن إِذا حَلَف كم جوادٍ وهبته ... حين أَوْدى بلا علَف وقَباءٍ خلعته ... وهو خارا بلا أَلِف إِنّ مَنْ يرتجي خَرو ... فَكَ بالشِّعْرِ قَدْ خَرِفْ وقوله في إنسان يلقب بالعفيف: عُجْ بالعقيق وعَدِّ عن تَصْحيفه ... لا خير فيه إِذا استقلّ مُصَحَّفا يا كاتباً بخِلَتْ يداه بأَحرفٍ ... ماذا تجود إِذا منعت الأَحرفا القاف وقوله: صَدَّ الحبيبُ وذاك دون فِراقِهِ ... وَمَنِ الذي يَبْقى على ميثاقِهِ رشأٌ أَغارُ عليه من أَجفانه ... وأَظنّها، للسُّقْم، من عُشّاقِه وأَقولُ من سُكْري بخَمرة يَغْرهِ ... ويدي تُلِمُّ بحلّ عَقْد نِطاقه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 يا ساقيَ الصَّهْباءِ صِرْفاً لا تَجُرْ ... وامزُج لنا الصهباءَ من أَرْياقه جَلَّ الذي أَعطاه في الحُسْن المُنى ... وأَضاف خِلْقته إِلى أَخلاقه كالغصنِ في حركاته، والظبي في ... لَفَتاتِه، والبدرِ في إِشراقه قد ذُبتُ من شوقي إِليه صَبابةً ... وكذا المحبُّ يذوبُ من أَشواقه وقوله في الربيع ووصف دمشق: هذا هو الزّمن البديع المُونِقُ ... والعِيشَةُ الرَّغْدُ التي هي تُعْشَقُ فعلامَ تصحو والحَمام كأَنها ... سَكْرى تُغنّي تارةً وتُصَفِّق وتلوم في حبّ الديار جَهالةً ... هيهات يسلوها فؤادٌ شَيِّق والشام شامةُ وَجْنَةِ الدنيا كما ... إِنسان مقلتِها الغضيضة جِلِّق مِنْ آسِها لك جَنَّةٌ لا تنقضي ... ومن الشقيق جهنَّمٌ لا تَحْرِق سِيَما وقد رَقَم الربيعُ ربوعها ... وَشْياً، به حَدَقُ البرايا تَحْدِق في نَيْرَبٍ ضحكت ثُغورُ أَقاحِه ... لما بكاه العارضُ المُتَأَلِّق وقوله: وصاحبٍ يتلقّاني لحاجته ... بالرَّحْب، وهو مليح الخَلْق والخُلُقِ حتى إِذا ما انقضت وليّ وخلَّفني ... أَحسَّ من جُرَذٍ في بيت مرتَلإق كالماء، بينا ترى الظمآن يرشِفه ... حتى يبدّد باقيه على الطرق وقوله في غلام طويل وكان عرقلة قصيراً أعور: لي حبيبٌ قدُّه ... قُدَّ من السُّمْرِ الرِّقاقِ من رآه ورآني ... قال ذا غير اتفاقي أَعور الدَّجّال يمشي ... خَلْفَ عُوْجِ بن عُناق الكاف وقوله في المدرسة التي أنشأها الملك العادل رحمه الله بدمشق: ومدرسةٍ سيَدْرُس كلُّ شيء ... وتبقى في حِمى عِلْمٍ ونُسْكِ تَضوَّع ذكرها شرقاً وغرباً ... بنور الدين محمود بن زنكي وقوله رباعية: يا بدرَ دُجىً يحمِله غصنُ أَراكْ ... ما أَعجبَ ما يَحِلّ بي حين أَراكْ لا تقتلْ بالصدود صبّاً يَهواكْ ... ما للأَعراب طاقةٌ بالأَتراكْ اللام وِصالٌ ما إِليه من وُصولِ ... وسمعٌ ما يُصيخ إِلى عَذولِ لقد أَخفيتُ داءَ الحبّ حتى ... خفِيتُ عن الرقيب من النُّحول وكيف يَصِحُّ هذا الجسم يوماً ... وآفته من الجفن العليل وليلٍ مثل يوم العَرْضِ طولاً ... ومَنْ عَوْني على الليل الطويل؟ وما للصُّبح فيه من طلوعٍ ... ولا للنجم فيه من أُفول إِلى كمْ نحن في صدٍّ وهجرٍ ... وفي قالٍ من الواشي وقيل تُرى يوماً نَرى تلك الأَماني ... وتجمع شملَنا كأسُ الشَّمول وتعطِف لي عواطفُ مَنْ جفاني ... ويَشْفي من غَلائله غَليلي تصدّى للصدود قِلىً وبُعداً ... ولن تَخْفى علاماتُ المَلُول وفي صبري على التقبيح عُذْرٌ ... إِذا ما كان من وجهٍ جميل وقوله في الشيب: إِلى كم أُبيد البيدَ في طلب الغنى ... وأَقربُ رزقي فوق نجمِِ سُهَيْلِ وقد وخَطَ الشيْبُ الشبابَ كأَنه ... أَوائلُ صبحٍ في أَواخرِ لَيْل وقوله في العذار في غلام اسمه وهيب: قال قَوْمٌ بدا عِذارُ وَهَيْبٍ ... فاسْلُ عنه، فقلت: لا، كيف أَسْلو أَنا جَلْدٌ على لِقا أُسْد عينيْه، وأَخشى عِذارَه وهو نملُ! وقوله في امرأة يقال لها صفية، وقد عزمت على السفر: تقول صفيةٌ، والصًّفْوُ منها ... لغيري، حين قَرَّبَتِ الجِمالا وقد سفَرتْ لنا عن بَدر تِمٍّ ... غَداةَ البَيْن وانتقبت هِلالا أَتصبِرُ إِنْ هجرنا أو بَعُدْنا ... فقلتُ: نعم، وقال القلب: لا، لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 يخاف البُعْدَ من أَلِفَ التَّداني ... ويخشى الهجرَ مَنْ عَرَفَ الوِصالا وقوله من أخرى: ميلوا إِلى الدار من ذات اللَّمى ميلوا ... كحلاء ما جال في أَجفانها ميلُ هذا بكائي عليها وهي حاضرةٌ ... لا فَرْسَخٌ بيننا يوماً ولا مِيل ممشوقة القَدّ ما في شَنْفها خَرَسٌ ... ولا تَضِجّ بساقَيْها الخَلاخيل كأَنّما قَدُّها رُمحٌ، ومَبْسِمُها ... صُبْح، بنفسيَ عسّالٌ ومعسول ومنها: إِني لأَعشق ما يحويه بُرْقُعها ... ولستُ أُبْغِض ما تحوي السراويل وربّ كأْسٍ سقانيها على ظمأٍ ... مُهَفْهَفٌ مثلُ خُوطِ البان مَجْدول حتى إِذا ما رشفْنا راحَ راحتِه ... وَهْناً، وأَنقالُنا عَضٌّ وتقبيل جارت عليَّ يدُ السّاقي ومُقْلَتُه ... لكنني بزِمام العقْلِ معقول أَد وقوله في مدح الشيب: رصّعَ الشيبُ لِمّتي يا حبيبي ... بنُجومٍ طُلوعُهُنَّ أُفولي كان شَعْري كمُقلتيْك فأَضحى ... كثناياك، حَبَّذا من بديل وقوله في مدح ابن نيسان بآمد: قومي اسمعي يا هذه وتأَمَّلي ... رَقْصَ الغصون على غِناء البلبلِ فالطَّيرُ بين تغَرُّدٍ وتشاجُرٍ ... والماءُ بين تَجَعُّدٍ وتسلْسُل أَظِباءَ وَجْرةَ كم بشطَّيْ آمِدٍ ... من ظبْيةٍ كَحْلى وظَبيٍ أَكحل ومُدلَّلٍ ومذَلَّلٍ في حُبّهِ ... شتّان بين مُدّلَّلٍ ومُذَلَّل والعَيْش قد رقَّتْ حواشي حُسنِه ... ما بين دَجلتها إِلى قُطْرَبُّل رَقَم الربيع رُبوعَها فكأَنها ... زنجيةٌ تختال تيهاً في الحي ومنها في المدح: في حِصنه غَيْثٌ، وفوق حصانه ... لَيْثٌ يَكُرّ على الكُماةِ بِمِسْحَل متبسِّمٌ لعُفاته قبل النّدى ... كالبرق يلمَع للبِشارة بالوَلي يعطي المُحَجَّلَةَ الجياد وكم لهُ ... في الجُوْد من يومٍ أَغرَّ مُحَجَّل ويَرُدّ صدر السَّمْهَريِّ بصدره ... ماذا يؤثّر ذابلٌ في يَذْبُل وكأَنّه والمَشْرَفِيُّ بكفّه ... بحرٌ يكُرّ على العُفاةِ بجدولِ وقوله في الملك الناصر قبل ملك مصر وكان متولي دمشق: رويدَكُمُ يا لُصوصَ الشآم ... فإِني لكم ناصحٌ في مَقالي وإِياكمُ من سمّي النبيّ يوسُفَ ربِّ الحِجا والجمالِ فذاك مُقطِّع أَيدي النساءِ ... وهذا مقطع أَيدي الرجال وقوله في مغنية بمصر اسمها خراطيم: تقول خراطيم لما أَتيْتُ: أَهلاً بذا الشاعر الأَحْوَلِ وغنَّتْ فقلتُ لجُلاّسها: ... شبيهٌ بنصف اسمها الأَوَّل الميم وقوله من قطعة: أَمُوَلَّدَ الأَتراك إِن مُوَلَّدَ الأَعْراب أَضحى في هواكَ مُتَيَّما لو كان قلبُك مثلَ عِطْفِك لَيِّناً ... ما كان حظي مثلَ صُدْغكَ مُظلِما وقوله في مبارك بن منقذ: ضدُّ اسمه المُنقِذيّ، عن ثقةٍ ... فلا تلومَنّه على الُّوم كالجُدَرِيّ الذي يقال له ... مُباركٌ، وهو أَلف مشؤوم وقوله من قصيدة: سَلا هل سَلا عن رَبَّةِ الخال واللَّما ... مُحِبٌّ غدا من ظَلْمها مُتظلِّما وهل لاح برقٌ من تبسُّم ثغرها ... فأَمطر إِلاّ سُحْبُ أَجفانه دما مُهَفْهَفَةٌ كالخيزُرانة لَيْنَةٌ ... تزيد اعوجاجاً حين زادت تَقَوُّما ومنها: أَما آنَ أَن تدنو الديارُ بنازح ... وهل نافعي قوْلي بُعَيْدَ النَّوى أَما كأَنّ قِسِيَّ البين لم ترَ في الورى ... لأَغراضها إِلاّ المحبين أَسهما وقوله في المنثور: قد أَقبل المنثور يا سيِّدي ... كالدُّرِّ والياقوت في نَظْمِهِ ثَناك لا زال كأَنفاسه ... ومُخُّ من يَشْناك مثل اسمِه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 وقوله، ويكتب على سرج: أَنا سَرْجٌ لمليكٍ ... حِصنه في الشّام شامَهْ تحتيَ البرقُ وفوقي ... من أَياديه غَمامَهْ كتب اللهُ عليه ... كلّما سار السلامَهْ وله في شاعر يدعى الطائي قدم من بغداد: قد أَصبح الطائِيُّ في جِلَّقٍ ... بدُبْره أَكرمَ من حاتم يقول بالأَيْر الذي لم يزل ... يقوم، والناس مع القائم النون وله من قصيدة: يا غصنَ بانٍ تَثَنَّى وهو نَشْوانُ ... وبدرَ تِمٍّ لِحَظّي منهُ نُقْصانُ إِلامَ تَصْدَعُ قلبي بالصدود قِلىً ... وليس يسكنه إِلاّك إنسان من لي بذي شَنَبٍ يفترُّ عن بَرَدٍ ... ما إِن يذوب وفي خدّيْه نيران أَخشى على كتفيْه من ذَوائِبه ... وكيف لا أَتخشَى وهي ثعبان وقوله: يا غُرْبةً جعلتْ فؤادي للأَسى ... إِلْفاً، وخدّي للمدامع مَوْطِنا حتى أَلِفتُ حديثَ حادثة النَّوى ... يَلْقى الشدائدَ سهلةً مَن أَدْمنا وقوله في الشيب: وفي الشيب لي واعظٌ لو عقَلت ... قرعتُ على العمر سِنّي سنينا تراني وقد عارض العارضَيْن طوراً شمالاً وطوراً يمينا أُقلّع أَوَّلَ فرسانه ... ولكنّني أَتخشّى الكمينا وقوله: وفي دير مُرّانَ خَمّارةٌ ... من الروم في يومِ سَعْنينها سقتْني على وجهها المُشْتهى ... أَرقَّ وأَعتقَ من دِينها وقوله من أخرى: ومُهَفهَفٍ كالرّمح يحمل مثلَه ... قَتَلَ الورى وسْنانُهُ وسِنانُهُ فارقته وفرِقت عند وَداعه ... مِنْ صارمٍ أَجْفانُهُ أَجْفانُه في ليلةٍ طالت عليَّ كأَنّها ... عِطفاه أَو صُدْغاه أَو هِجْرانه حتى بدا فَلَقُ الصّباح كأَنّهُ ... وجهُ الأَمير وعِرضه وجِفانُهُ وقوله في غلام كمراني: وكيف يرانيَ الرُّقبا ... ءُ من سقمٍ بِجُثْماني وجسمي مثل ما يحوي ... كمران الكمراني وقوله في مدح شمس الدولة صاحب اليمن رحمه الله: تأَمَّلْ ولْتكنْ ثَبْتَ الجَنان ... نساء الحيّ أَم حور الجِنانِ بَدَوْن كأَنهنَّ بُدور تِمٍّ ... وَمِسْنَ كأَنهنّ غُصون بان وكم في الحيّ بَهْكَنةٌ ... مُبَرْقَعَة المُحَيّا والحصان ومخضوب القناة من الأَعادي ... لِعَيْنَيْ كلِّ مخضوب البنان أَتيْناهُنّ أَضيافاً ولكن ... شُغلنا بالجفون عن الجِفان يَقُلْن تَسَلَّ بالصَهْباء عنّا ... على ضرْب المَثالث والمَثاني فقلتُ وقد مضى نَوْءُ الثُّرَيا ... وجاءت بالسُّعود النّيّران عيونَ السُّحْب كم تبكين وَجْداً ... وقد ضحِكَتْ ثُغورُ الأُقْحُوان وفي ربْع الحبيب لنا ربيعٌ ... ونَوْرٌ ما حَوَتْهُ النَّيْربان وما شمسُ الضُّحى في الحُسْن إِلاّ ... كشمس الدولة المَلكِ الهِجان وقوله: كم أُمَشَّى كأَنني ذو طِحال ... وأُمُنى كأَنني كَمّون وقوله في ابن نيسان: كنت أَذُمّ ابنَ مالكٍ فإِذا ... ذاك سماءٌ عند ابن نيسان قد قيل ما يَحْمَد المجرِّبُ لِلأَوَّل حتى يجرِّب الثاني قَطَنْتُ في آمِدٍ أُؤمِّلُهُ ... وأَيُّ خيرٍ في ظِلِّ قطّان وقوله في ذم كتاب: وصَل الكتاب، عدِمت عشرَ أَناملٍ ... أَلَّفْنَ ما فيه من التضمين ما كان أَشبهه وقد عاينته ... بوثيقةٍ حَلّت على مديون الواو وقوله: عذلوني في الحبّ، والعَذْل يَغْوي ... ورمَوْني بالصَّدِّ والصدُّ يَكْوي واستحلّوا غَزْوي بكلِّ غَزالٍ ... حلَّ في حُبّه قِتالي وغَزْوي تركونا ما بين وَجْدٍ وشوقٍ ... والمطايا ما بين سَوْقٍ وحَدْوِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 يا أُحَيْبابنا بجَيْرون حتى ... ومتى للغرام نَهوى فنَهوي أُهْجرونا إِن شئتمو أو صِلُونا ... قد شربنا من كلِّ مُرٍّ وحُلو الهاء وقوله: جَنِّبْ عن الدنيا إِذا جَنَّبَتْ ... عنك بإِكبارٍ وتنزيهِ فما ترى فيها فتىً زاهداً ... إِن لم تكن قد زهِدَتْ فيهِ وقوله في أبي الحكم الطبيب: لنا طبيبٌ شاعرٌ أَشْتَرٌ ... أَراحنا من شخصه اللهُ ما عاد، في صُبْحة يوم، فتىً ... إِلاّ وفي باقيه رثّاهُ وقوله: يا بني الأَعراب إِنّ التُّرك قد جارت بنُوها عَقْرَبوا الأَصْداغ حيناً ... ولِحَيْني ثَعْبنوها الياء وقوله في طغريل السياف: أَيها السيّاف هيا ... لا تَدَعْ في البيت شَيّا داوِ قرناً صرا تُرْساً ... للدّبابيس مُهَيّا كم نصحناك وقلنا ... إِنتبه ما دُمتَ حيّا كلُّ نَحْسٍ أَنت فيه ... من حِراف ابن ثريّا نصر الهيتي الدمشقي هو نصر بن الحسن، من ضيعة يقال لها الهيت من أعمال حوران من ناحية اللوى. لقيته بدمشق، وتوفي بعد وصولي إليها بسنيات، بعد سنة خمس وستين وخمسمائة. أِنشدني له وحيش، وذكر أن شعره كان سالماً نقياً ما عليه غبار: كيف يُرْجى معروف قومٍ من اللؤ ... مِ غَدَوْا يَدْخُلون في كلِّ فنِّ لا يروْن العُلا ولا المجد إِلاّ ... بِرَّ عِلْقٍ وقَحْبَةٍ ومُغَنِّ يتمنَّوْن أضن تَحُلَّ المسامير بأَسماعهم ولا الصوت مني وأنشدني له بعض أصدقائي بدمشق: ما لي أَرى قوماً يروضُون العُلا ... وبها عليهم نفرةٌ وإِباءُ لن يشْرَكونا في القريض، وكلُّهم ... في بعض ما نأتي به شركاء زعموا بأَنّ المَيْن في أَقوالنا ... ونَسُوا بأَنّا في المقال سَواء إِن كان خُلْف القول في أِشعارنا ... نقصاً فنحن وهم به أَكفاء لا نحن نفعلُ ما نقول ولا همُ ... فإذا نظرتَ فكلّنا شعراء لكنْ لنا ولهم على أَقوالنا ... بين الأَنام مدائحٌ وهجاء فإِذا كَذَبنا، قيل عنا: أَحْسَنوا ... وإِذا همُ كذَبوا يقال: أَساءوا هذا وإِنّ لنا عيوناً مِلْؤها ... من كلِّ ما نُسِبوا إِليه حياء والله ما نسجوا على مِنْوالنا ... يوماً وإِنّا منهم بُرَآء ومن العجائب أَن يَرَوْنا دونهم ... وهمُ لنا أَرضٌ ونحن سماء وأنشدني أيضاً: لقد تعجَّبَتِ النُّظَام من مِدَحٍ ... أَزُفّها بين منظومٍ ومنثورِ أَبكار فكرٍ جلاها منطقي فأَتَتْ ... تختال ما بين تهذيب وتحبير ولا أَنال بها رِفْداً إِذا نُشِرت ... إِلاّ سوادَ خُطوطٍ في مناشير واخَيْبةَ الشِّعرِ أُهديه إِلى نفرٍ ... عليه يَجْزُون مَسْطوراً بمسطور رفاعُهم تملأُ الدنيا بما رحُبَت ... مَلأً من المَيْنِ والبُهْتان والزُّور تُطْوى وتُنْشَر والأَدْناس تشمِلها ... في كَفِّ كلِّ سَخين العَيْن مَعْرور كأَنها، وعطاياهم مُسَطَّرةٌ ... فيها، لفائِفُ مَيْتٍ غير منشور أَو ما يُقَلّعه البَيْطار مِن خِرَقٍ ... عن كلِّ أَعجفَ غثِّ اللحم مَعْقورِ فما لها مُشْبِهٌ في كلِّ مُخْزِيةٍ ... إِلاّ مناديلُ رَبّات المواخير لا تَطَّرِحْها إِذا جاءت فإِنَّ لها ... نفعاً ولكن لترقيع الطنابير ثم وقعت بيدي مسودات من شعر الهيتي بخطه عند وصولي إلى مصر، مما قاله بها وبالشام، فنقلت منها ما تحسد دررها الدراري، ويعشق إنشآءها المشحون فلك معانيه منشآت الجواري، فمن ذلك قوله من قصيدة في ابن رزيك: لم تدر ما طعم الكَلال ولا الوَجا ... لولا تدَرُّعُها الظلامَ إِذا سجا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 والسير تحت هواجر الشِّعْرى التي ... يلقى الوجوهَ أُوارُها متوهّجا بكواكب القَيْظِ التي قالت بها ... جُونُ الجَنادِب تستظِلُّ العَرْفَجا ذرْها وحاديَها وأَجوازَ الفلا ... وتحمّل الأَثقال فيها والنَّجا عوّامةٌ في الآل تحسب أَنه ... بحرٌ، وتحسبها السَّفينَ مُلَجّجا ومنها في الغزل: تجلو بِعيدان الأَراك مُعَلَّلاً ... بالراح مثلَ الأُقحوان مُفَلَّجا مُضْنىً يُريك مُوَشَّحاً ومُمَنْطَقاً ... عَبْلاً يريك مُخَلْخَلاً ومُدَمْلَجا وكأَنما ظبيُ الصّريم أَعارها ... جِيداً ومُلْتَفَتاً وطَرْفاً أَدْعجا عُلِّقْتُها تختال في بُرْدِ الصِّبا ... مَرَحاً، وبُرْد شبيبتي ما أَنْهَجا حتى تنفَّس من غياهب لِمَّتي ... فَلَقُ المشيب بمَفْرقي وتبلّجا وكففتُ عن غزلي بها وتهذَّبتْ ... مني القرائح للمدائح والهجا وحَلَبْتُ هذا الدهرَ أَشطُره فلم ... أَرَ فيه ذا خطرٍ يُخاف ويُرْتجى إِلاّ بني رُزِّيك أَرباب النَّدى ... والبأس والمجدِ المُؤَثَّل والحِجا وقوله من قصيدة: لئن أَمسكتْ عني سحائب جُودهِ ... فما أَنا للبِرّ القديم جَحودُ أَلم تر أَنَّ المُزْن يهطِل تارةً ... ويُمْسِك بعد الهَطْل ثم يجود وقوله من قصيدة أولها: تيمَّمِ النار تجلو عاكِفَ الظُّلَمِ ... يا مُدْلِجاً بطِلاح العيس لم ينمِ حُلَّ النسوع بمَغْنىً لم يزلْ أَبداً ... يُهَزّ بالمدح فيه نَبْعة الكرم واحطُط رِحال المطايا عن غواربها ... برحْب هذا الحِمى الممنوع والحَرَم جناب أَرْوَعَ ما استسقيت راحتَه ... تُفني العِدى واللُّهى بالسيف والقلم فعزمُه أَبداً بالنُّجْح مقترنٌ ... والرَّأْيُ بالرُّشْد، والأَلفاظُ بالحِكم مَنْ لم يزل يرعف الخَطيُّ في يده ... والمشرفيُّ دمَ الأَكباد والقِمَم ما قارعتْ يده إِلاّ بمُنْحَطِمِ ... كلاّ ولا جالدت إِلاّ بمُنْثَلِم ومنها: كأَنّهم والرَّدَيْنِيّاتُ تكنُفُهمْ ... يومَ الهياج غضابُ الأُسْد في الأَجَم ومنها: يا ابن الذين إِذا عُدَّتْ مناقبهم ... بين الورى ضاق عنها واسعُ الكَلِم وقوله من قصيدة في صاحب بُصرى أولها: خَلِّ الصَّريمَ لواصفي آرامِهِ ... وغَزالَه لِمُتَيَّمٍ ببُغامِه وَدَع الأَراك وما سما من دَوْحِه ... تدعو على الأَغصان حَمامِه ومنها في المدح: أَسدٌ ولكن من براثن كفّه ... بيضُ الظُّبا، والسُّمْرُ من آجامه لو لم يكن أَحدَ الضراغم لم يكن ... كسر الكُماةِ الشوس من إِلهامه سائلْ به يوم الظَّليلِ فإِنه ... يومٌ تجلّى عنه من أَيّامِه إِذا جاءه جيشُ الفرنج مُنَظَّماً ... فسما إِليه فحَلَّ عَقد نظامه وغدا يُحَدِّث في الجامع كفرُهُمْ ... بالبأس والسَّطَواتِ عن إِسلامه وله بأَرض القُدْس فيهم وقعةٌ ... سلبت مليكَهم لذيذَ منامِه كم جَحْفلٍ للشّرْك همَّ بحَرْبه ... فأَحَلَّ صدر الرُّمْح صدر هُمامِه فبنور شمس الدّين قد كُشِفت من الكُفْرِ المُرَوّع عاكفاتُ ظلامه فالّليْث في سِرْباله والغيث بين بنانه والبدر تحت لِثامه ماء المنايا والمُنى في كفِّه ... جارٍ، وفوق الطِّرْس من أَقلامه حازَ المفاخر والنُّهى في مَهده ... وسما إِلى العَلْياء قبل فِطامه لِلأريحيَّة والنَّدى في عِطفه ... فِعْلٌ يقصِّر عنه فعلُ مُدامه تهزُّ عِطفيْه المدائحُ هزةً ... كعواسل المُرّان يوم زحامه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 يُغنيك في العام الجديب بجُوده ... عن فيض أَبحره وجَوْد غمامه كَرَمٌ، غدا هذا الزمان لكل ذي ... أَملٍ يروض به نفوسَ كرامه وقوله من قصيدة: رداءَ اتِّباع الغيِّ هل أَنت نازِعُ ... وهل لك مما لاح بالفَوْدِ وازعُ فَحتّامَ تُصْبيكَ البُروق كأَنها ... لقلبك لا قلب الظَّلام صوادع فحلأَّ جفنَ العين عن مَنْهَل الكرى ... وقد شرَعتْ فيه العيون الهواجع أَوَجْدَك أَمْ إِلْفاً بنُعْمان في الدُّجى ... على أَيْكِهِ هاجَ الحمامُ السَّواجع أَمِ الطيف لما زار، وهْناً، مُسَلِّماً ... نبت بك لما سار عنك المَضاجع فبتّ سميراً للنجوم كأَنّما ... تضمَّنَ من تهواه منها المطالع فيا لابِساً ثَوبَيْ مَشِيبٍ وصَبْوةٍ ... صُنِ السّرَّ إِلاّ أَن تَنُمَّ المَدامِع فما لك في خَلْع العِذاريْنِ عاذرٌ ... ولُبْسِ قِناع اللَّهْوِ، والفَوْدُ ناصع ومُضطربِ الأَحشاء من أَلم الجوى ... نَبَتْ عن سماع العذل منه المسامع أَقام الهوى منه الفؤادَ رَمِيّةً ... لِما فوّقت يوم الوَداع البَراقع فلا الماء إِلاّ ما تَسُحُّ جُفونُه ... ولا النّارُ إِلاّ ما تَجُنُّ الأَضالع يَحِنُّ إِلى أَرض الشآم صَبابَةً ... كما حَنَّ مفقود القرينة نازعُ ديارٌ كساها القَطْرُ سِرْبال بَهْجَةٍ ... مصايفُها تُزْهى به والمَرابِع جَلَتْها الرياضُ الخُضْرُ في حُسْنِ حُلَّةٍ ... من النَّوْر حاكتْها الغُيوثُ الهوامِع سَقَتْها على تصفيق برقٍ تراقَصتْ ... بأَسيافها فيه البروق اللَّوامع وأَلبسها زهْرُ الربيع مَطارِفاً ... مِن الوَشي لاثتها الرُّبى والأَجارع تُرَجِّعُ فيه الطيرُ لحناً كأَنما ... يَجُسُّ به منها المثانيَ صانع تخال مناقير الهَزار بدَوْحِها ... مزاميرَ، لكن أَعوزتْها الأصابع بلادٌ لأُسْد الغاب في عَرَصاتِها ... بأَلحاظ أَحْداق الظباء، مَصارع فيا طِيبها لولا زَلازِلُها التي ... يروعُك منها هَزُّها المتتابع تَمُورُ كما مار السَّفيه بلُجَّةٍ ... تَلاطمَ فيها مَوْجُها المتدافع بأَقْطارها لا تطمئنُّ كأَنّما ... توعَّدهُنّ اللّوذعِيُّ طلائع ومنها: إِذا ملأَ الصدرَ النِّجادُ وصافحتْ ... متونُ القنا الخَطّارِ فيه الأَشاجع يقول: أَلا أَيْن المجالِدُ، عضبُه ... وذابله العسّال، أَين المُقارِع منازِلُه والمالُ والصَّدْرُ والجَدى ... على الخلْق، كُلٌّ في الإِضافة واسع وأَفعالهُ في المَكْرُمات كعزْمِه ... مواضٍ، فما فيهن فعلٌ مُضارعُ فما روْضَةٌ يُسْقى بماءيْنِ تُرْبُها ... وكلُّ نميرٍ في المَنابت ناجِع يمُجّ إِليها النيل من صاعِد النَّدى ... ويَشْفَعُه من نازل القطر شافع مُدَبَّجَةُ الأَرْجاء تُمْسي كأَنها ... عقيلة خِدْر سِرُّ ريّاهُ ذائع تَقابَلَ في المخضرّ أَبيضُ ناصِعٌ ... وأَحمرُ قانٍ منه أَصفر فاقع بأَحسنَ منْ يوم التهاني يَزُفُّها ... لمجدك نظّامٌ بليغ وساجع وله في كبير مرض: مَنْ مِثْلُه حين عاد مشتكياً ... والمجدُ والمَكْرُمات عُوَّدُهُ مدّ إليه الشفاءُ كلَّ يدٍ ... وعنه غُلَّتْ من الرَّدى يدُه وقوله في مرثية الصالح بن رزيك: جَلَّ ما أَحدثتْ صُروفُ الليالي ... عند مُسْتَعْظَم العُلى والجلالِ مَلِكٌ بعد قَبْضِه بَسَطَ الخَطْبُ يديْه إِلى بني الآمال جادتِ العينُ بعد بُخْلٍ عليه ... بيواقيتِ دمعها واللآلي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 وغدا كلُّ ناطقٍ بلسان ... مُوجَعاً فيه، قائلاً: ما احتيالي ذهب الصّالح الذي أَلبس الأَيّامَ مِنْ بعدِه ثيابَ الليالي والذي كَفَّ كفُّه أَيديَ الفقْر بما بثَّ من جَزيل النَّوال حَلَّ في التُّرْبِ منه من كان يرجو ... هـ ويخشاه كلُّ حيّ حِلال طوْدُ حِلْمٍ ما خَفّ إِلاّ إِذا قيل: أَلا أَين حامِلُ الأَثْقال مَنْ لِشَنِّ الغاراتِ بعد أَبيها ... ولِصَدْمِ الأَبطال بالأَبطال ولِنَظْمِ الصُّدور، تعتلجُ الأَحْقاد فيهنّ، في صُدورِ العوالي ولِفَصْلِ الخطاب في كلِّ أَمرٍ ... شيبَ منه الإِبهامُ بالإِشْكال ومنها: خَلِّ دَمْعي فإِنَّهُ غير راقٍ ... وفؤادي فإِنه غيرُ سالِ ليس يُطفي ناراً تَلَظَّى بقلبي ... سُحْبُ جفني بمائها الهطّال حُرِمتْ لَذَّةَ الكرى كلُّ عَيْنٍ ... لم تَجُدْ بعدَه بدمْعٍ مُذال وإِذا بان ساكنُ الرَّبْعِ عنه ... ما يَرُدُّ البكاءُ في الأَطْلال وقوله: طاف، وسِتْرُ الظَّلام مُنْسَدِلُ ... خيالُ مَنْ زان طرفَهُ الكَحَلُ يَعْجَبُ مِنْ طارق الرُّقاد وقد نا ... زَلَ جفني من بعد ما ارتحلوا ثُمَّت وليّ وَهْناً فأَتْبَعَهُ ... طيبَ كراه المُتيَّمُ الغَزِلُ ولو تَخَطَّى إِليه باعثُه ... لم تُخْفِه دُجْنَةٌ ولا طَفَلُ وكيف يُخْفي الظلامُ شمسَ ضُحىً ... غصَّتْ بأَنوارِ وجْهها السُّبُلُ الليلُ والصبحُ مِنْ مُرَجَّلِها ... على نَواصي جبينها خَجل وقدُّها عَلَّم الغصونَ ضُحىً ... تميلُ في البانِ ثم تعتدل جَيْداءُ قد نظّمت قلائدها ... دُرّاً يحاكيه ثَغْرُها الرَتَل لم أَدْرِ من قبل أَنْ تلاحظني ... أَنّ جفونَ الصّوارم المُقَل ولا علمتُ الظّباء كانِسَةً ... فوق المطايا وكُنسُها الكِلَل ومنها: منازلَ الحيِّ بالمُرَيج سقى ... ثَرى مَغانيكِ عارِضٌ هَطِلُ لولا ظِباء الطُّلول منك لما ... شجا فؤادي ظبيٌ ولا طَلل ولم يَرُضْني هوى الحسانِ كما ... يروضني للمدائح الأَمل من كلِّ سيّارةٍ مُحَبَّرةٍ ... دُرِّيّةِ اللفظ ما بها خَلَل عذراء، روضيَّة النسيم، على ... أَوصاف سيف الإِسلام تشتمل غدا لأَمر الإِِله مُمْتَثِلاً ... فأَمره في العباد مُمْتَثَل ملك تُقِرّ الملوك أَنهم ... له، إِذا ما تفاخروا، خَوَل تُهْدى إِلى التُّرْب في مجالسه ... مِنْ قبلِ تقبيل كَفِّه، القُبَل قائد جيشٍ إِلى العِدى لجبٍ ... صَرْفُ الرَّدى منه خائفٌ وَجِل قومٌ كأُسْدِ الشرى براثنها البيض المواضي وغابُها الأَسَل فَلِلْمَها ما تَقَلّدوه، وللأَحْداق يوم الهياج ما اعتقلوا مِن مَعشرٍ ما لذا الزمان يدٌ ... يفعل في الناس مثل ما فعلوا إِن سُئِلوا المجدَ والعُلى مَنَعوا ... أَو سُئلوا العُرْفَ والنَّدى بذلوا ومنها: يسأَله الوَفْدُ رِفْدَه فمتى ... تَرَحَّلوا عن جنابه سُئِلوا تفعل في عِطْفه المدائح ما ... يَعْجَزُ عنه الثقيل والرَّمَل ذِكْرُ النَّدى والعُلى يُرَنِّحُه ... كأَنه منه شارِبٌ ثَمِل فالْعلمُ والحِلمُ والشجاعة والعفّةُ فيه والقول والعمل وحيش الأسدي هو الأديب أبو الوحش سبع بن خلف بن محمد بن عبد الله بن أحمد بن زيد بن زياد بن المرار بن سعيد الأسدي الفقعسي، ومولده سنة أربع وخمسمائة. لقيته بدمشق شيخاً مطبوعاً، ومدحني بقصائد. ومن جملة ما مدح به الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب عند وصوله إلى الشام وملكه دمشق سنة سبعين من قصيدة أولها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 قد جاءك السَّعْدُ والتوفيقُ واصطحبا ... فكن لأَضْعافِ هذا النصر مُرْتقِبا ومنها: لله أَنتَ، صلاحَ الدين، من أَسدٍ ... أَدنى فريستِه الأَيّامُ إِن وَثَبا رأَيتَ جِلِّق ثغراً لا نظير له ... فجئتَها عامِراً منها الذي خَرِبا نادتْك بالذُّلِّ لما قلَّ ناصرها ... وأَزْمعَ الخَلْقُ منْ أَوطانها هَرَبا أَحْيَيْتَها مثلَ ما أَحييتَ مِصْر فقد ... أَعَدْت مِن عدلها ما كان قد ذهبا هذا الذي نصر الإِسلامَ فاتّضحتْ ... سبيلُه، وأَهان الكُفْر والصُّلُبا ويوم شاوَر، والإِيمانُ قد هُزمت ... جيوشُه، كان فيه الجحْفَلَ اللَّجِبا أَبَتْ له الضيْمَ نفسٌ مُرَّةٌ ويدٌ ... فعّالةٌ، وفؤادٌ قَطُّ ما وَجَبا يستكبر المدحَ يُتْلى في مَكارمه ... زُهْداً، ويستصغر الدنيا إِذا وهبا ويومَ دِمياط والإسكندرية قد ... أَصارهم مثلاً في الأرض قد ضُرِبا والشذامُ لو لم يدارك أَهلَه اندرستْ ... آثاره وعَفَتْ آياتُه حِقَبا ومنها: هو الجوادُ ولكن لا يُقالُ كبا ... وهْو الحُسامُ ولكن لا يُقال نَبا وهو الهِزَبْرُ ولكن لا يقال طغا ... وهْو الضِّرام ولكن لا يُقالُ خَبا فأَنتَ إِسكندرُ الدُّنْيا ووارِثُها ... فاقصِد ملوكَ خُراسان وَدَعْ حَلَبا وأنشدني لنفسه: رُبّ يَوْمٍ وليلةٍ بتّ أَقْضيها بلا مانعٍ غِناءً وسُكْرا أضجْتلي نَرْجِساً وأَلْثِمُ رَيْحا ... ناً وأَجني وَرْداً وأَرشُف خمرا إِنْ أَمِلْ يَمْنَةً أُعانق خَصْراً ... أَو أَمِلْ يَسْرَةً أُقَبِّلُ ثَغْرا وأنشدني لنفسه: وكم لَيْلَةٍ قَد بتُّ مُسْتَمْتِعاً بها ... إِلى أَن بدا من صبح سَعْديَ فجرُهُ وخمري جنَى فيه، ووَرْديَ خَدُّهُ ... وصُبْحي مُحَيّاهُ وليليَ شَعْرُه ورَيْحانُ نَقْلي من عِذارَيْه يانِعٌ ... وكأْسي إِذا ما دارتِ الكأْسُ ثَغْرُه وأنشدني أبو الوحش لنفسه من قصيدة بدمشق سنة إحدى وسبعين في نور الدين: انظرْ فهذا الرَّشَأُ الأَحْوَرُ ... يَرْهَبُ منه الأَسَدُ القَسْوَرُ يُقامِرُ القلْبَ بأَجفانه ... وغَيْرُ خافٍ أَيُّنا يَقْمَرُ وأَسمر تفعل أَلحاظُه ... بالقلْبِ ما لا يفْعَلُ الأَسْمَرُ تختلِبُ الأَنْفُسَ أَلفاظُه ... لا شكَّ عندي أَنه يَسْحَر قالت لُيوثُ الغاب: يا قومُ ما ... أَسرعَ ما يصرع ذا الجُؤْذَرُ يا بَدوِيّاً جارُه آمِنٌ ... لِمْ ذِمَّتي في حُبِّكُمْ تُخْفَر عِقْدُك من لفظك مُسْتَنْبطٌ ... فاتّفق الجَوْهَرُ والجوهر أُنظر إِلى مَيْتِ الجفا إِنّهُ ... مَيْتٌ هر أُنظر إِلى مَيْتِ الجفا إِنّهُ ... مَيْتٌ إِذا واصلْتَهُ يُنْشَر ما الليلُ ليلٌ عند هذا الورى ... إِذا تبدّى وجهُك المُسْفِر والوَجنةُ الحمراءُ مُذْ أَزهرت ... نَمْنَمَها ريْحانُها الأَخضر والغُصُنُ المُورِقُ خَجْلان مُنْذُ اهتزّ منك الغُصُن المُزْهِر واسَقمي مِنْ غصُنٍ مُزْهرٍ ... بغير هِجْرانيَ لا يُثْمِر لمّا عَلَتْ طُرَّتُه وجْهَه ... قلت: اعجَبوا هذا الدُّجى المُقْمِر كم لامَ قومٌ في هواه فمُذْ ... بدا لهم في زيِّه كبَّروا واسْتكبروا وجدي فناديتُهم ... قوموا انظروا، حُسْنُه أَكبر يا صاح قد رقّ نسيم الصَّبا ... آثِرْ بها إِنْ كنت مَنْ يُؤْثِر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 قم فاسقِنيها اليوم روميَّةً ... ممّا حبا القَسَّ بها قَيْصَرُ إِذا بدت في كفّه خِلْتَها ... مِنْ خدّه في كأْسه تُعْصَر إِنْ غُيِّبَتْ في فيه أَنوارُها ... فإِنها في خَدِّه تظهر أَو قيل عنها نَجَسٌ مُطلقٌ ... فإِنها من يده تَطْهُر وأنشدني لنفسه من قصيدة: وقد عَلِمَتْ أَبناءُ عَصْرِيَ أَنّني ... أَنا المِسْكُ لكن دهري الجائِر الفِهْرُ إِذا زادني سَحْقاً أَزيد تأَرُّجاً ... فمِنْ شَأْنِه ظُلْمي ومن شَأْنِيَ الصَّبْرُ وقصدني بقصائد مدحني بها، فأحسنت جائزته. وله في بعض الأكابر وهو كمال الدين بن الشهرزوري: حُبُّ الإِمام مُحَمَّدٍ لي مَذْهَبٌ ... ومطامِعي بمُحَمَّدِ بنِ القاسم وكِلاهُما في الانتظار عقيدتي ... فَنَداك مقرونٌ برُؤْيا القائم فتيان بن علي بن فتيان بن ثمال الأسدي الخزيمي الدمشقي المعلم سألت بدمشق سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، عند شروعي في إتمام هذا الكتاب، عمن بها من الشعراء وذوي الآداب، فذكر لي فتيان منهم فتيان، معلم الصبيان، وهو ذو نظم كالعقود، وشعر كمجاج العنقود، ومعنى أرق واصفى من معين العذب البرود، ولفظ أنمق وأشهى من وشي البرود. وأنفذ إلي مسودات من شعره ونفاثات من سحره، فكتبت منها ما يروق الأسماع، ويشوق الطباع. فمن ذلك: نَوْحُ الحَمامِ الوُرْقِ في أَوْراقِها ... دَلَّ أَخا الشوق على أَشواقِها فأَظهَر الدَّمْعَ وأَخفى زَفْرةً ... خاف على الباناتِ من إِحراقها لو بَكتِ الوُرْقُ ببعض دَمْعِه ... لامَّحَتِ الأَطواقُ من أَعناقها فاعْجَبْ لها شاكيةً باكيةً ... لم تَسْلُك الدُّموعُ في آماقها ما أَفْرقَتْ مُهْجَته من الجوى ... لكنه أَشْفى على فِراقها دضعِ العُرَيْبَ والنَّقا وزينباً ... تجذِب لِلْبَين بُرى نِياقها وَعُجْ على دمشق تُلْفِ بلدةً ... كأَنما الجنّات من رُسْتاقِها سقى دمشقَ اللهُ غيثاً مُحْسِباً ... من مُسْتَهِلّ ديمةٍ دفّاقِها مدينة ليس يضاهى حُسْنُها ... في سائر البلدان من آفاقها تودّ زوراء العراق أَنّها ... منها ولا تُعْزى إِلى عِراقها أَهْدتْ لها يدُ الربيع حُلَّةً ... بديعةَ التَّفْويف من خَلاّقِها بَنَفْسَجٌ مثل خُدودٍ أُدْمِيَتْ ... بالقَرْص والتَّجْميش من عُشّاقِها ونَرْجِسٌ أَحداقه رانِيةٌ ... عَنْ مُقَلِ الغِيد وعن أَحداقها تَنَزَّل المَنْثُورُ من رياضها ... تَنَزُّلَ الأَعلام من شِقاقها فأَرضُها مِثلُ السماء بَهْجةً ... وزَهْرها كالزَّهْر في إِشْراقها مياهُها تجري خِلال رَوْضها ... جَرْيَ الثعابين لَدى اسْتِباقها مُسْفِرةٌ أَنهارها ضاحِكة ... تنطلِق الوُجوه لانطِلاقها نسيمُ ريّا رَوْضها متى سَرى ... فَكّ أَخا الهموم من وَثاقها قد رَبَع الرَّبيع من رُبوعها ... وسيقت المُنى إِلى أَسواقها لا تَسْأَمُ العُيون والأُنوف من ... رؤيتها يوماً ولا استنشاقها فكم بها من شادنٍ تَحْسُدهُ ... لِحُسنه البدور في اتساقها كأَنّما رُضابُه الصهباءُ بلْ ... مَذاقه أَطيبُ من مَذاقها وَمِنْ بدورٍ في الخدور لم تَزَلْ ... كواملاً لم تَدْنُ من محاقها فأَيُّ أُنْسٍ ثَمَّ لم تلاقِه ... وأَيَّةُ الراحات لم تلاقها بعدل فخر الدين قَرَّ أَهلُها ... عيناً وزاد الله في أَرزاقها زوَّجَها الأَمْنَ، وناهيك به ... بَعْلاً، فطيبُ العَيْش من صَداقها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 فأَقسَمَتْ لا نَشَزَتْ عنه وقد ... أَقسم لا مال إِلى طَلاقها ومنها: ليس لفخر الدين ندٌّ في الوَغى ... إِذا الحروب شمرت عن ساقها تهابُه الأُسود في آجامها ... وَحَيَّةُ الوادي لَدى إِطراقها ويخضِب السُّيوفَ باصطباحها ... من عَلَق النَّجيع واغتباقها كأَنما أَعداؤه أَحبّةٌ ... يشتاق في الحرب إِلى اعتناقها والخيلُ لا تقتحم الموت إذا ... دارت رَحى الحرب سوى عِتاقِها سَحَّتْ بجَدْواه سَحاب كَفِّه ... فخافت العُفاة من إِغراقها عليه من حُسنِ الثناء حُلَّةٌ ... قَشيبةٌ لم يَخْشَ من إِخلاقها ومنها: أَمضى حسامٍ عقدته الدَّوْلة النّورية الغَرّاء في نِطاقها أَرسل نور الدين منها شُهُباً ... على العِجى لم يثن من إِحراقها وقال: رُوَيْدك كم تَجْني وكم تَتَدَلَّلُ ... عَلَيّ وكم أُغْضي وكم أَتَذَلَّلُ لَزِمْتَ مَلالاً ما تَمَلُّ لُزومَه ... فقلبي على جَمْر الغَضا يتَمَلْمَل وَوَكَّلْتَني بالليل أَرعى نجومَه ... وأَنت بطول الصَدّ عني مُوَكَّل ولا غَرْوَ إِن جادت جفوني بمائها ... إِذا كان مَنْ أهواه بالوَصل يبخل وقد صار هذا السُّخْط منك سَجِيَّةً ... فَليْتَكَ يَوْماً بالرِّضا تتجَمَّلُ فكُنْ سالكاً حُكمَ الزمان فإِنه ... يجورُ مِراراً ثم يَحْنُو فيَعْدل وقد كان حُسْنُ الصَّبْر من قبلُ ناصري ... فإِن دام ذا الإِعراض عني سَيَخْذُل وأَحْزَمُ خلق الله رأْياً فتىً إِذا ... نبا منزِلٌ يوماً به يتحوَّل فكم ملَّ منّي عائدي ومَلَلْتُه ... وعاصيت في حُبِّيك من كان يعذِلُ وأَيّامُنا تُطْوى ولا وَصْلَ بيننا ... وتُنْشَر والهِجران لا يَتَزَبَّلُ أَرى الحُسْنَ قد ولَّى عِذارك دَوْلَةً ... ولكنه عمّا قليلٍ سيُعْزل فأَحْسِن بنا ما كان ذلك ممكناً ... وأَجْمِل فقتلي عامداً ليس يَجْمُل وقال: ترنُّمُ الوُرْقِ على غصونها ... دَلَّ أَخا العِشق على شُجونها فجاد بالدَّمْع مَعين جفنِه ... ودَمْعُها لم يَبْدُ من عيونها دعْ عنك لَوْمَ عاشقٍ أَضْلُعُه ... تحسّ حرَّ النّار في مضمونها قد زاحم الوُرْقَ على رَنينها ... وشارَك النِّياق في حنينها وقد بكى شوقاً إِلى قرينه ... كما بكت شوْقاً إِلى قرينها وليس يبكي فقدَ ليلى أَحَدٌ ... في عَرْصَةِ الدّار سوى مَجْنونها أَفدي الذي تفعلُ بي جُفونه ... فِعْل الظُّبا تُسَلُّ من جُفونها ما ضَرَّه لو أَصْبحت أَخلاقه ... كَقَدِّه تُسعفني بلينها وقال، مما يكتب على خريطة: يا حاملي لا رأَيتَ الدهر إِقلالا ... وزادَك الله توفيقاً وإِقبالا أَعطاك رَبُّك أَموالاً تنالُ بها ... بين الوَرى من جميل الذِّكر آمالا الرزقُ يأْتيك والأَعمارُ ذاهبةٌ ... أَنْفِق ولا تَخْش من ذي العرش إِقْلالا وقال من قصيدة: وَمِيضَ بَرْقٍ أَرى في فيك أَمْ شَنَبا ... وهل رَشَفْتُ رُضاباً منه أَمْ ضَربَا أَفْدي الذي ما أَبى باللَّحظِ سَفْكَ دمي ... لكن متى ما طلبْتُ العَطْف منه أَبى ظَبْيٌ من الترك أَصْمَتْني لواحِظُه ... وأَسهم الترك إِن أَصْمَتْ فلا عجبا يبدو بضِدَّيْن في خدَّيْه قد جُمِعا ... ماء الشباب ونار الحسن فاصْطحَبا فذلك الماء أَبكى ناظريَّ دماً ... وذلك الجَمْرُ أَذْكى في الحَشا لَهَبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 شكا فؤاديَ مِنْ عِبْءِ الهوى تعباً ... كما شكا خصْرُه من رِدْفِه تَعبا يَهُزُّ أَعْطافَه دَلُّ الصِّبا فترى ... غُصْناً من البان يثنيه النسيمُ صَبا يا مُطْلِعَ البدر فوقَ الغُصْن معتدلاً ... يلوح ما بَيْنَ شُرْبوشٍ وطَوْقِ قَبا إِعْدِل فإِن رُسومَ الجَوْر قد دَرَسَتْ ... مُذْ صار فينا مَكينُ الدّين مُحْتَسِبا ثم سمع فتيان أنني أثبت شعره، وأجريت في الفضلاء ذكره، فقصدني بقصيدته وحضر عندي لزفاف خريدته، وسألني إثباتها في ديوان الفضل وجريدته، فحليته بفريدته. وذلك مما أنشدني لنفسه يمدحني به: نَعَشْتَ قوماً وكانوا قبْلُ قد دَثَروا ... لولا عُلاك، فطاب الوِرْدُ والصَّدَرُ أَحْيَيْتَ شعرهُمُ من بعد مِيتَته ... قِدْماً، وقد شعروا قِدْماً وما شَعُروا أٌقسمتُ ما رَوْضةٌ مُخضرَّةٌ أُنُفٌ ... بانَتْ تَسُحّ على أَقطارها القُطُر ذُبابُها هَزِجٌ، نُوّارُها أَرِجٌ ... نباتُها بَهِجٌ مُسْتَحْسَنٌ عَطِر كأَنَّ فاراتِ مِسْكٍ وَسْطها فُرِيَتْ ... فَنَشْرُها بأَماني النفسِ مُنْتَشِر شَقّ النسيم على رِفْقٍ شقائقها ... فضُرِّجَتْ بدمٍ لكنه هَدَرُ قَثْب الزَّبَرْجَد منها حُمّلتْ صَدَفَ الياقوت، فيها فتيتُ المِسْك لادُرَر أَحداق نَرْجِسها ترنو فأَدمُعُها ... فيها تَرَقْرَقُ أَحياناً وتَنْحَدِر وللأَقاصي ثُغورُ الغِيد باسمة ... سيكت بإٍسْحَلَةٍ أَنيابُها الأُشُرُ تُريكَ حُسنَ سَماءٍ وهي مُصْحِيةٌ ... والأَنْجُم الزُّهر فيها ذلك الزَهَرُ تبدو بها طُرَرٌ من تحتها غُرَرٌ ... يا حَبَّذا طُرَرُ الأَزْهارِ والغُرَرُ يوماً بأَحسنَ مِنْ خَطّ العماد إِذا ... أَقلامُه نُشِرَتْ عن حِبْرِها الحِبَرُ ولا العُقودُ بأَجيادِ العَقائل كالدُّمى فَمُنْتَظِمٌ منها ومنتثِر على ترائب كافورٍ تُزَيِّنُها ... حِقاق عاج عليها عاجَتِ الفِكَر تلك اللآلي تَروقُ النّاظرين فما ... يَسُومها سأَماً مِن حسنِها النظر يوماً بأَحسنَ من نظم العِماد ولا ... من نثره، فبه ذا العصرُ يفتخر أَضحت صِعاب المعالي عنده ذُلُلاً ... تحوي دقائقَها من لفظه الدُّرَرُ كأَنما لفظُه السِّحر الحَلال أَو الماء الزُّلال النَّقاخُ الطيِّب الخَصِر شِيبَتْ به قَهْوَةٌ حمراءُ صافيةٌ ... عُصارُها غَبَرَتْ من دونه العُصُر ولا السحائب بالأَنداء صائبةً ... فَجَوْدُها غَدِق الشُؤْبُوبِ مُنْهَمِر حتى إِذا انقشعت من بعد ما هَمَعَتْ ... أَثْنى عليها نباتُ الأَرض والشَّجَر يوماً بأَغْزَر من كَفِّ العماد ندىً ... فكلُّ أَنْملةٍ من كَفِّه نَهَر فلِلغمائم تقطيبٌ إِذا انْبَجَست ... وبِشْرُه دونه عند النَّدى القمر ما ابن العميد ولا عبد الحميد ولا الصابي بأَحسَن ذِكْراً منه إِنْ ذُكِروا ولو يناظره في الفقه أَسعدُ لم ... يَسْعَد، وأَحْصَره عن نُطْقِه الحَصَر هذا ومَحْتِده ما إِن يساجِلْه ... خَلْقٌ إِذا الصِّيدُ في نادي العلى افتخروا أَصِخْ محمَّدُ إِني جشدُّ معتذِرٍ ... إِنّ المقصِّر فيما قال يعتذر يا ابن الكِرام الأُلى سارتْ مكارمُهم ... حتى تعجَّبَ منها البَدْوُ والحَضَر راووق حِلْمِك فيها أَنت تسمعه ... يُبدي الجميلَ وفيه العيب يستتر وأنشدني لنفسه في غلام شواء: أَنا في الهوى لحمٌ على وَضَمٍ لِما ... عايَنْتُ من بَرْحٍ ومن بُرَحاءِ بِمُشَمِّرٍ عن مِعْصَمَيْه مُزَنَّرٍ ... يهتَزُّ بَيْنَ التِّيه والخُيَلاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 غَمِر اللِّباس، متى بدا لك وَجْهُه ... أَبصرتَ فوق الأَرض بَدْرَ سماء ما مَدَّ مُدْيَتَه لِقَطْع شِوائِه ... إِلاّ أَرانا أَعجَبَ الأَشياء ظَبْيٌ لواحِظُه أَشَدُّ مواقِعاً ... مِنْ شَفرةٍ بيدَيْه في الأَحْشاء يَسْطو على ما ليس يَعْقِل مثلما ... يسطو بمُدْيَته على العُقلاء فاعْجَبْ لِشوّاءٍ فَعالُ جُفونه ... في الناس ضِعْفُ فعال بالشاء وأنشدني أيضاً لنفسه: اقْدَحْ زِنادَ السُّرورِ بالقَدَحِ ... والمَحْ به ما تشاء من مُلَحِ صَهْباء قُلْ للّذي تَجَنَّبَها ... صَهْ، باءَ بالهَمِّ تاركُ الفَرَحِ وأنشدني لنفسه: وشادنٍ، صِبْغةُ شُرْبُوشِه ... في لَوْنها والفِعل، كاللَّهْذَمِ مُعْتَقِلٌ من قَدِّه ذابلاً ... ولَحْظُه أَمضى من المِخْذَم بلا غَرْوَ أَنْ راحَ ومَلْبُوسُه ... كأَنَّما أصدَرَهُ عن دمي كأَنَّهُ بدرٌ تَجلّى لنا ... من شَفَقٍ أَحمرَ كالعَنْدَم أبو الحسن علي بن جهير من الشعراء المعروفين بدمشق. وكان يغني بشعره، وله نظم مطبوع مقبول، عذب معسول، وإليه تنسب هذه القطعة التي يغنى بها: القلب مع الحبيب سائرْ ... والنوم من الجفون طائرْ ابن روبيل الأبار هو أبو محمد الحسن بن يحيى بن روبيل الأبار، من أهل دمشق. ذكره وحيش الشاعر وقال: كان شيخاً مطبوعاً ديناً ناسكاً لا يشرب الخمر ولا يقرب المنكر؛ وله دكان في سوق الأبارين يبيع الإبر. قال: ورأيت ابن الخياط جالساً على دكانه، وتوفي بدمشق سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة. قال: ومن شعره في مدح ابن الصوفي رئيس دمشق: يا مُحْيِيّ الدّين بعد ما دَثَرا ... ومُشْبِهاً في زمانه عُمَرا ومَنْ إِذا ما ذَكَرْتَ سيرَته ... سمعتَ ذِكْراً يُجَمِّل السِّيَرا أُنْظُر إِلى عبدك الحقير فقد ... جار عليه الزَّمان واقتدرا وخانه سَمْعُه وناظره ... مِنْ بعد ما كان يَثْقُب الإِبَرا وصار في السّوق كالأَجير، وهلْ ... يُفْلِح من صار يُشْبِه الأُجرا وماله موئلٌ يلوذُ به ... سِواكَ يا مَنْ يُجَمِّلُ الوُزَرا قال: وكان مع نسكه وعفته، مغرى بهجو زوجته. وذلك أنها أشارت عليه بمدح كبير فمدحه فما نفع، فهجاه فصفع، فقال: لولا زوجتي لما صفعت، ولولا تغريرها بي لما وقعت. فقال يهجوها: أُغْرِيَتْ زوجتي بشُرْب العُقارِ ... أَسكنتْني بجنب دار القِمارِ أَطعَمَتني مُخّ الحِمار فلمّا ... أَبصرتْني قد صِرْتُ مثل الحمار بذلتْ فرجها وصاحت إِلى النّا ... س هلمّوا يا مَعْشر الفُجّار وقال: لي قِطَّةٌ أَنظفُ مِنْ زوجتي ... ودُبرها أَنظفُ مِنْ فيها وكلّ ما صوّره ربُّنا ... من الخنا رَكَّبه فيها وقال: قرديَ في الأَقمين وَقّادُ ... وقِرْدُ إِمراتيَ عَوّادُ لأَنها مُغرمةٌ بالغِنا ... وتشرب الخمرَ وترتاد وجملة الأَمرِ بأَني لها ... ما دُمتُ طولَ الدهر، قوّادُ وقال فيها، وكان يسكن في درب صامت من دمشق: في دربِ صامتَ قَحبةٌ ... قد أَشبعت كلَّ المَدينه ولها أَخٌ في رأْسه ... قَرْنٌ ولا صاري السفينه يرضى بما ترضى به ... ويبيع عُنْبُلَها بتينه لو كان سلمانٌ يعيش لما رضي مِنْ ذا بسينه قال، وقلت له: ومن سلمان؟ قال: كان ضامن البد بدمشق قديماً. والبد هو الماخور. عبيد بن صفية جارية ابن الصوفي ذكر لي سالم بن إسحق المعري أن هذا عبيداً كان شاباً ذكياً، نشأ بدمشق، ولد مملوكة يقال لها صفية من إماء ابن الصوفي وزير صاحب دمشق، فمات في عنفوان شبابه. قال: وأنشدني لنفسه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 مدحتُ أَبا الفضل الأَمين، جهالةً ... بشعرٍ إِذا ما أَظلم الشِّعر أَشرقا فأَلبسني ثوباً خليعاً كعِرْضه ... فلم يبق إِلاّ ساعةً وتمزقا المشتهى الدمشقي أبو الفضل جعفر بن المحسن ذو النظم المشتهى، والفضل الذي له في فنه المنتهى، واللفظ الرائع، والخاطر المطاوع، نظمه معتدل المنهاج، صحيح المزاج، أحبر من الديباج، وأزهر من السراج الوهاج. له في الفستق: كأَنّما الفُسْتُق المُمَلَّحُ إِذْ ... جاء به مَنْ سَقاك صَهْباءَ مثلُ المَناقيرِ حين تفتحُها ... وُرْقُ حمامٍ لِتشربَ الماء وله فيه: أُنظرْ إِلى الفُسْتُق المَمْلوح حين بدا ... مُشَقّقاً في لطيفات الطيافيرِ واللُّبُّ ما بين قِشْرَيْه يلوح لنا ... كأَلسُنِ الطيرِ ما بين المناقير وله: دع حاسِدِيّ وما قالوا فقولُهم ... مما ينّبه بي في البدْوِ والحَضَرِ فليس يُرْمى من الأَغصان ذو ورَقٍ ... وليس يُرْجَم إِلاّ حامل الثمر وله: وكنت أَرجّي أَن أَرى منك رُقعةً ... أُنَزّه فيها ناظري بقراتِها ولكن قضتْ نَفْسُ المودَّةِ نحبَها ... لديك وما أَعلمتْني بوفاتها وله: وروضة أَبْذنج تأَمَّلتُ نَبْتها ... لها منظرٌ يزهو بغير نظير وقد لاح في أَقْماعِه فكأَنَّه ... قُلوبُ ظِباءٍ في أَكفِّ صُقور وله: ومعذِّرين كأَنَّ نبتَ خُدودِهم ... أَشْراكُ ليلٍ في عِراض نهار يتصيَّدون قلوبنا بلحاظهم ... مُتَعَمِّدين تصيُّدَ الأَطيار حتى إِذا اكتستِ الخُدودُ صنائعاً ... ناديتُ من شعفي وشدة ناري يا أَهل تِنّيس وتُونةَ قايسوا ... كم بين طَرْزِكُمُ وطَرْز الباري وله: وما قلتُ شعراً رغبةً في لِقا امرئٍ ... يُعوِّضُني جاهاً ويُكْسِبني بِرّا ولا طرَباً مني إلى شُرب قهوةٍ ... ولا لحبيبٍ إِن نأَى لم أُطِقْ صبرا ولكنني أَيقنتُ أَنيَ مَيِّتٌ ... فقلت عساه أَن يخلِّد لي ذِكرا وله في غلام عدل محنك: يا أَهلَ رحبةِ مالكٍ ... قلبي المشوق على المقالي مِنْ بعض أَولاد العُدو ... ل بقامةٍ ذاتِ اعتدالِ ما صار بدراً كاملاً ... حتى تحنّك بالهلال وله في الجرب، أبيات حقها أن تكتب بماء الذهب، وهي: رآني الفضلُ في فضلي سماءً ... فأَطلع ذي الكواكب فيّ حَبّا وكفَّ بها يدي عن كل وَغْدٍ ... يقبّلُ ظهرها وكساه رُعبا وأَوقع بين أَظفاري وبيني ... ليأخذَ ثأْرهنّ لديَّ غَصبا لأَني كنت أنهبهن قَصّاً ... فصيّرني لهنّ الدهر نَهْبا البديع الدمشقي أبو فراس طراد بن علي الدمشقي ذكره الشريف حيدرة العلوي الزيدي المصري المولد، وهو شيخ ورد واسطاً من جانب فارس سنة خمس وخمسين وخمسمائة، قال: وكان ينظم نظماً ركيكاً ينتجع به، فلما رأى أنه قلما ينفق نظمه صار رائضاً للخيل وصاروا يحسنون إليه لأجل الرياضة. قال: فارقت مصر منذ عشرين سنة وسألته عن الشعراء بها فذكر من جملتهم البديع الدمشقي، وقال: هو معدود في الشعراء، ووهب له صاحب مصر يوماً ألف دينار. فمما أنشدنيه من شعره، من قصيدة: هكذا في حبّكم أَستوجبُ ... كبِدٌ خحَرّى وقلب يَجِبُ وَجَزا مَنْ سهِرت أَجفانُه ... هِجرةٌ تمضي وأُخرى تعقِبُ يا لَقومي كلّ ما سهَّلْتمُ ... من طريق الصبر عِندي يصعُب كلُّ ما حلّ بقلبي منكمُ ... فالعيون النُّجْلُ فيه السبب وبقلبي بدرُ تِمٍّ طالِعٌ ... ما جرت قطُّ عليه السُّحُب وَجْهُهُ روضةُ حسنٍ أَسفرت ... خدُّه من وَردها مُنْتَقِب زفراتٌ في الحَشا محرقةٌ ... وجُفونٌ دمعها منسكِب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 قاتل الله عَذولي ما درى ... أَنّ في الأَعين أُسداً تثب لا أَرى لي عن حبيبي سلوةً ... فدعوني وغرامي واذهبوا قد قبلنا ما حكمتُمْ في الهوى ... ورضينا فعلامَ الغضب ومنها: يوَمِنَ الرَّيْحان في عارضه ... أَرجلُ النمل بمسكٍ تكتب فوحقِّ الحب ما أَدري: الدُّجى ... شَعرُه أَم صُدغه أَم عقرب وأنشدني من أخرى: يا نسيماً هبَّ مِسكاً عَبِقا ... هذه أَنفاس رَيّا جِلِّقا كُفَّ عنّي، والهوى، ما زادني ... بردُ أَنفاسك إِلاّ حُرَقا ليت شعري، نقضوا أَحبابنا ... يا حبيب النفس، ذاك المَوْثِقا يا لَصبٍّ أَسروا مُهجته ... بسهامٍ أَرسلوها حَدَقا وأَداروا بعده كأْس الكرى ... وهو لا يشرب إِلاّ الأَرَقا يا رياح الشوق سُوقي نحوهم ... عارضاً من سحب دمعي غدِقا وانثري عِقد دموعٍ طالما ... كان منظوماً بأَيّام اللِّقا ومنها: أَسروا قلبي جميعاً عندهم ... بأَبي ذاك الأَسيرَ المُوثَقا ليت أَيامَ التصابي تثبتت ... بالفتى أَوْ ليته ما خُلقا وأنشدني له في هجو الجبيلي الشاعر: أَتى الجبيلي بشعرٍ مثل شِعرته ... كالعَيْر ينهق لمّا عاين الأُتُنا فكم جهَدتْ بأَن أَهزو بحليته ... فصار يخرى عليها واسترحتُ أَنا الجبيلي أنشدني له الشريف حيدرة الزيدي في حمام يناها الأفضل بمصر، كتبت على بابها: يا داخلَ الحمّام مُستمتِعاً ... منها بريح المسك والمَنْدَلِ إِيّاك أَن تذهَل من حُسنِ ما ... تنظره في أَوَّل المنزل في كلّ بيت جَنّةٌ زُخرفت ... ما مثلها في الزمن الأول رقّتْ وراقتْ فهي في حُسنها ... تحكي زمان الملك الأَفضل البائع الأعور الدمشقي قرأت بخط أبي سعد السمعاني من تاريخه المذيل، للبائع الدمشقي في ذم الخلطة: تعجبني الوحدة حتى لقد ... يعجبني من أجلها لحدي فليتني إن كنت في جَنَّةٍ ... أَو في لظىً، كنتُ بها وحدي كيلا أَرى كلَّ أَخي فَعلةٍ ... مُستفحِلٍ مستكلِبٍ وَغْدِ باب في ذكر محاسن جماعة من العلماء بدمشق ومن أهل القدس ثقة الدين أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله ابن عبد الله بن الحسين، الدمشقي الشافعي الحافظ، من أصحاب الحديث. لقيته بدمشق وسمعت عليه من التاريخ الذي صنّفه. واتفق لي أيضاً سماع شيء مما ألفه. وذكر السمعاني أنه رفيقه، وقال: كان أبو القاسم بن أبي محمد من أهل دمشق، كثير العلم، غزير الفضل، حافظاً، متقناً، ثقة، ديناً، خيراً، حسن السمت، جمع بين معرفة المتون والأسانيد، مثبتاً، محتاطاً، رحل في طلب الحديث. ورد بغداد سنة عشرين وخمسمائة ورجع إلى دمشق، ورحل إلى خراسان على طريق أذربيجان. ثم وافيت نيسابور سنة تسع وعشرين، وصادفته بها، وكنت أسمع بقراءته، واجتمعت معه ببغداد سنة ثلاث وثلاثين، وبدمشق سنة خمس وثلاثين، وسألته عن مولده فقال: في العشر الآخر من محرم سنة تسع وتسعين وأربعمائة. وأنشدني لنفسه بالمزة من أرض دمشق: أَيا نفسُ ويْحكِ، جاء المشيب ... فماذا التَّصابي وماذا الغَزَلْ تولّى شبابي كأَنْ لم يكن ... وجاءَ مشيبي كأَن لم يَزَلْ فيا ليت شِعْريَ ممّن أَكون ... وما قدَّرَ اللهُ لي في الأَزَل!؟ قال السمعاني: وأنشدنا أبو القاسم الحافظ الدمشقي لنفسه ببغداد: وصاحبٍ خان ما استودعتُه وأَتى ... ما لا يليق بأَرباب الدِّياناتِ وأَظهر السرَّ مُختاراً بلا سبب ... وذاك والله من أَوفى الجنايات أَما أَتاه عن المختار من خبرٍ ... أَن المجالس تُغْشى بالأَمانات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 وذكر أنه كتب إلى أصحابنا من دمشق، في ابتداء كتاب، يعاتبني على ترك إنفاذ كتاب دلائل النبوة لأحمد البيهقي وغيره من الكتب، وقد لزم فيها ما لا يلزم: ما خلت حاجاتي إِليك وإِن نأَتْ داري مُضاعَهْ وأَراك قد أهملتها ... وأَضعتها كل الإِضاعه أَنسيتَ ثَدْيَ مودّةٍ ... بيني وبينك وارتضاعه ولقد عهِدتُك في الوفا ... ءِ أَخا تميم لا قُضاعه وأَراك بكراً ما تخا ... ف على الصّداقة والبضاعه فلما وصلت إلى الشام، وأقمت بدمشق، ترددت إليه، ورأيته قد صنف تاريخ دمشق. وذكر أنه في سبعمائة كراسة، كل كراسة عشرون ورقة. وسمعت بعضه منه. وأورد من شعره فيه. ودخل إلي بكرة يوم الأربعاء تاسع عشر شهر ربيع الأول سنة إحدى وسبعين فعرضت عليه ما أورده السمعاني في حقه، والآن أنت قد سمعته مني. ووعدني أن يكتب لي من شعره ما أورده في هذا الكتاب. وهو الحافظ الذي قد تفرد بعلم الحديث، والاعتقاد الصحيح، المنزه عن التشبيه، المحلى بالتنزيه، المتوحد بالتوحيد، المظهر شعار الأشعري بالحد والحديد، والجد الجديد، والأيد الشديد. ومما أنشدنيه لنفسه، وقد أعفى الملك نور الدين قدس الله روحه، أهل دمشق من المطالبة بالخشب، فورد الخبر باستيلاء عسكره على مصر، فكتبه إليه يهنيه، وأملاه علي في الثاني والعشرين من جمادى الأولى سنة أربع وستين وخمسمائة: لمّا سمحتَ لأَهلِ الشّام بالخشبِ ... عُوّضتَ مصر بما فيها من النَّشَبِ وإِن بذلتَ لفتح القدس مُحْتَسِباً ... للأَجر، جوزيت خيراً غير محتسَب والأَجْرُ في ذاك عند الله مرتٌََبٌ ... فيما يُثيب عليه خيرُ مرتقِب والذّكر بالخير بين الناس تكسِبه ... خيرٌ من الفضّة البيضاء والذهب ولستَ تُعْذَرُ في تَرك الجهاد وقد ... أَصبحتَ تملِكُ من مصرٍ إِلى حلب وصاحب المَوْصِل الفيحاء مُمْتَثِلٌ ... لما تُريد فبادرْ فَجْأَة النُّوَب فأَحزَمُ الناس من قوّى عزيمتَه ... حتى ينالَ بها العالي من القُرَب فالجَدّ والجِدّ مقرونان في قَرَنٍ ... والحزم في العزم والإِدْراك في الطلب وطهِّرِ المسجدَ الأَقصى وحَوْزَنَهُ ... من النَّجاسات والإشراك والصُّلُب عساك تظفر في الدُّنْيا بحسن ثَنا ... وفي القِيامة تلقى حُسنَ مُنقَلَب وتوفي رحمه الله بدمشق، بين العشائين، ليلة الأحد حادي عشر رجب سنة إحدى وسبعين، ودفن بمقبرة باب الصغير. وصلى عليه الملك الناصر صلاح الدين في ميدان الحصا، وكان الغيث قد احتبس في هذه السنة، فدر وسح عند ارتفاع نعشه، فكأن السماء بكت عليه بدمع وبله وطشه، بلت الأرض برشه. ورثاه جماعة من الفضلاء. أنشدني فتيان بن علي الأسدي الدمشقي المعلم الأديب لنفسه. وهذه القصيدة مشتملة على حقيقته وطريقته ووفائه ووفاته: أَيُّ ركنٍ وَهى من العلماء ... أَيُّ نجمٍ هوى من العَلْياءِ إِنّ رُزْءَ الإِسلام بالحافظ العا ... لم أَمسى من أَعظم الأَرزاء أَقفرتْ بعده رُبوعُ الأَحاديث وأَقوتْ معالمُ الأنباء أَيُّها المبتغى له الدهرَ مِثْلاً ... أَتُرجّي تَعانق العَنْقاء كان ناديه كالرّياض إِذا ما ... ضحك النَّوْر عن بُكا الأَنْداء كان حِبْراً يَقْري مسامعنا من ... أَسود الحِبْر أَبيضَ الآلاء كان من أَعلم الأَنام بأَسما ... ءِ رجال الحديث والعلماء فهي من بعدُ في المَهارق كالأَفْعال إِذا عُرِّيَتْ من الأَسماء كان من وَصْمة التغيّر والتَصحيف أَمْناً لخابط العَشْواء كان في دينه قويّاً قويماً ... ثابتاص في الضرّاء والسرّاء كان علاّمةً ونسّابةً لم ... يخْفَ عنه شيءٌ من الأَشياء يا لَها من مُصيبةٍ صمّاءِ ... لم يَحِدْ سهمها عن الإِصماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 هَدمت ذروة المعالي ووارتْ ... جسد المجد في ثَرى الغَبراء قد أَرانا سريرُه كيف كانت ... قبلُ تُجْلى أَسرّةُ الأَنبياء سيّرتْ نعشَه الملوكُ وأَملا ... كُ السّموات بالبُكا والدُّعاء وامترى حزنُه مدامعَ أَهل الأَرض حتى جرتْ دُموع السّماء حَسْبُه أَنّه بهِ استُسْقِيَ الغيثُ فجادتْ به يدُ الأَنواء نَعَش الله نعشه وسقاه ... رحمةً، بالغمامة الوَطفاء قد وددنا أَنّ العيون استَهلَّتْ ... عِوَض الدمع بعده بالدماء وَلتلك الدموع كانت نجيعاً ... قَصَرَتْه حرارةُ الأَحشاء ولقد قرّت الأَعادي عُيوناً ... طالما أُغضِيت على الأَقْذاء كم به جُرّع العدوّ ذُعافاً ... من أَفاويق البُؤْس والبأْساء لم يزل يرغَم العدوَّ ويسعى ... رافلاً في مطارف النَّعماء من يكن شامتاً فللموت بأْسٌ ... ليس يُثْنى بالعِزّة القعساء وله وثبةٌ تذِلّ لها أُسْدُ الشَّرى والجيوش في الهيجاء من يمت فَلْيمت مَمات أَبي القا ... سم عن عِفّةٍ وطيبِ ثناء كم حوى لحدُه من العلم والحلم وكم ضمّ من سناً وسناءِ إِن يكن في الموتى يُعَدّ فقد خلّف علماً أَبقاه في الأَحياء مودَعٌ في سَوادِ كلّ فؤادٍ ... بتصانيفه بياض وَلاءِ وإِليه تُنْمى بنوه وطيب الأَصل مستأْزرٌ بطيب الجَناء لكُمُ يا بني عساكر بيْتٌ ... سامِقٌ في ذُرى العُلى والعَلاء لم يزل مُنْجِباً أَبوكم فما بُشّر إِلاّ بالسادة النُّجباء ولكُم في الأَنام صيتٌ رفيع ... مُشرِفٌ فوق قِمّة الجوزاء فتعَزّوْا عنه بصبرٍ وإِن كا ... ن مضى باصطبارنا والعزاء نحن نبكي عليه حُزناً وكم قد ... صافحته في اللَّحد من حَوْراء يا أَبا عُذْرِ كل مَعنىً دقيقٍ ... جَلَّ قدراً كالدُّرَّة العذراء صَبْرُنا يا ابن بَجْدة العلم أَمسى ... عنك مستصعِباً شديد الإِباء علماءُ البلاد حلّتْ حُباها ... لك يا مَنْ عمّ الورى بالحِباء ما عسى أَن نقول فيك وقد فا ... تت أَياديك جُملة الإِحصاء أَنت أَعلى من أَن تُحَدَّ بوصفٍ ... بلغتْه بلاغةُ البلغاء أَنت أَولى بأَن تُرَثّيك حتّى ... يُبْعَثَ الخلقُ، أَلسنُ الشعراء فعليك السلامُ ما لاح وجه الصّبح من تحت طرَّةٍ سوداء وسقى التربةَ التي غبتَ فيها ... كلُّ جَوْنٍ ودِيمةٍ هَطْلاء الصائن ابن عساكر أخو الحافظ كان عزير العلم، كبير القدر، وافر المعرفة بجميع العلوم، متقناً، مفضلاً على أخيه. توفي بدمشق بعد وصولي إليها، ولقيته بها، وله شعر حسن. الحافظ أبو محمد عبد الخالق بن أسد بن ثابت الدمشقي له: قلَّ الحِفاظُ فذو العاهات مُحترمُ ... والشَّهْمُ ذو الرأْي يؤذى مع سلامتِهِ كالقوس يُحْفَظ عَمْداً وهو ذو عِوَجٍ ... ويُنْبَذ السَّهْم قصداً لاستقامته وله في فقيه: أَبدى خِلافاً لوعدِ وَصلٍ ... وهدّد الهجرَ بائتلافِ فلا عجيبٌ، نَشا فقيهاً ... والفقهُ يحلو مع الخلاف وله: قالوا ترى ماءَ وَجْنتيْه، به ... لهيبُ نارٍ ما ينطفي أَبدا فقلت لا تعجبوا فذا لهبي ... لاح بمرآة خدّه وبدا كمثل بدرٍ أَلقى تَشَعْشُعَه ... في الماء لمّا أَضاء مُتَّقِدا وله: قال العواذلُ ما اسمُ مَنْ ... أَضنى فؤادَك، قلتُ: أحمدْ قالوا: أَتحمَد وقد ... أَضنى فؤادك، قلت: أَحمد لقيته بالشام في دمشق. مدرس بالمدرسة الصادرية. وتوفي بها سنة أربع وستين. وكان يلقب بالحافظ وهو متطرف في كل فن. أبو علي الحسن بن مسعود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 ابن الحسن الوزير الدمشقي حافظ من أصحاب الحديث وذكره السمعاني في المذيل، وقال: كان متودداً مطبوعاً، حسن العشرة، دمث الأخلاق، سافر إلى أصفهان، ومنها إلى نيسابور، ومرو، وبلخ، وهراة، وغزنة، وبلاد الهند، وسمع الحديث. قال: وسألته عن مولده، فقال: خامس صفر سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، وتوفي بمرو سابع المحرم سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. قال السمعاني: أنشدنا لنفسه: يا سادتي ما عاقني عنكمُ ... قِلىً، ولكنْ قِلَّةُ الكُسْوَهْ بردٌ وثلجٌ ووُحولٌ ولا ... خُفّ ولا لِبْد ولا فَرْوَهْ فكيف مَن أَحواله هكذا ... بمَرْو في بُحْبوحَةِ الشَّتْوَهْ وأنشدنا لنفسه بمرو: ذكَّرتْني حَمامةُ المَرْوينِ ... حين ناحت لياليَ النَّيْرَبَيْنِ ورماني صرفُ الزمان ببَيْنِ ... فرَّقَ الله بين بَيْني وبَيْني قال وأنشدنا أبو بكر لامع بن عبد الله الصائغ بمرو، وأبو بكر محمد بن علي بن ياسر ببلخ، قالا: أنشدنا الحسن بن مسعود الحافظ لنفسه: أَخِلاّيَ إِن أَصبحتُمُ في دياركمْ ... فإِني بمرو الشّاهِجان غريبُ أَموت اشتياقاً ثم أَحيا بذكركم ... وبين التّراقي والضُلوع لهيب فما عجبٌ موتُ الغريب صَبابةً ... ولكن بقاه في الحياة عجيب المؤتمن الساجي من أصحاب الحديث هو المؤتمن بن أحمد بن علي بن الحسين بن عبد الله الشافعي المقدسي، من أهل بيت المقدس. سكن بغداد. وهو حافظ معروف كبير من أصحاب الحديث. قرأت في تاريخ أبي سعد السمعاني ببغداد يقول: سمعت عبد الله بن أحمد الحلواني بمرو يقول: سمعت والدك أبا بكر السمعاني يقول: ما رأيت بالعراق من يعرف الحديث ويفهمه غير رجلين، المؤتمن الساجي ببغداد، وإسماعيل بن محمد بن الفضل بأصفهان. وسمعت أنه توفي ثامن عشر صفر سنة سبع وخمسمائة. وله مقطعات من الشعر. قال: قرأت بخط أبي بكر محمد بن علي بن فولاذ الطبري. أنشدنا المؤتمن الساجي لنفسه: وقالوا كُنْ لنا خِدْنا وخِلاًّ ... ولا والله أَفعل ما يشاءوا أُحابيهم بكُلّي أَو ببعضي ... وكيف وَجُلُّهم نَعَمٌ وشاءُ قال: وقرأت بخطه، أنشدنا المؤتمن لنفسه: يا ربّ كن ليَ حِصْناً ... عند انثلام الحُصون فقد حَفِظْتَ كثيراً ... فوقي ومِثلي ودوني أبو المعالي المقدسي ليس من أصحاب الحديث، ولم يكن في زماني، واتفق ذكره ها هنا. وله في الورد: ووردةٍ غضّة القِطاف لها ... والليلُ بادي الظلام، أَنوارُ كأَنّها إِذا بدت تُغازلني ... وجهُ حبيبٍ عليه دينار وله: بكا على ما كان من مَردتِهْ ... بكاءَ داوُودَ على زَلَّتِهْ من يكن العِزُّ له في أستِه ... فذُلُّه بالشَّعر في لحيته القاضي شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن موسى يعرف بابن الفراش. من أهل دمشق، كبير المحل، كثير الفضل، صحيح العقد، رجيح العقل، مشمول الشمائل حلوها، مقبول الفضائل صفوها، جامع بين علم الأحكام والحكم، صانع في ترصيع البديع من الكلم، قد غلب عليه الوقار، وكأن كلماته يعصر منها العقار. كان قاضي العسكر في آخر عهد نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله بالشام إلى أن مضى لسبيله، وفاز في الخلد بسلسبيله. وولاه الملك الناصر صلاح الدين في دولته أمانة خزانته، وقرره على قضاء عسكره، وخاصته. وما زلنا ي الأيام المنورة النورية قرينين في المخيم، وقريبين في المجثم، وحلفي مجاورة، وإلفي محاورة، نتفق ولا نفترق، ونأتلف ولا نختلف، وأقتبس من نطقه وصمته، وأستأنس بخلقه وسمته، ونتواسى في المعيشة كالشقيقين الشفيقين، ونتساوى في العيشة كالصديقين الصدوقين، وهو أصدق من خطب إلي صداقته، وجعل صداقها صدقه، وأسبق من جرى في حلبة الوفاء فأعطى الكرم حقه، ما كسبت فيي الشام غيره، ولا حسبت إلا خيره، وما لقيت من لم ألق سوءه سواه، ولا ألفيت شرواه، وله في كل فن من العلوم يد قوية، وفكرة في النظم والنثر سوية، وقريحة في إبداع القافية والروي روية. ومما أنشدنيه من شعره: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 سضحاب النَّدِّ مُنتشِرُ الضبابِ ... وبنت الكأْس راقصةُ الحَبابِ وعينُ الدّهرِ قد رَقَدتْ فأَيقظ ... سروراً طرفُه بالهمّ كاب ولا تستصْرِخَنَّ سِوى الحُمَيّا ... إِذا باداك دهرُك بالحِراب إِذا مُزِجتْ يطير لها شَرارٌ ... يَفُلّ شَبا الهموم عن الضِّراب ولا تقلِ المشيب يعوق عنها ... فقد ضمِنَتْ لنا رَدّ الشباب ولا تبغ الفِرار إِلى لئيمٍ ... تُلاطفه فيخشُن في الجواب فلي هِممٌ، إشذا سطتِ الليالي، مجاثمها على هام السحاب هي الدنيا تَسُرُّ إِذا أَرادت ... وتَحْزُن مَنْ تريد ولا تُحابي إِذا انتبهتْ حوادثها لشخصٍ ... فليس يُنيمها سَمَرُ العِتاب فإِن زادت فأَوْسِعْها فُؤاداً ... قويّ الجأْش مُنْفَسِح الرِّحاب متى كَمُلَتْ رياض الفضل خِصْباً ... فأَرضُ الحظّ مُجْدِبة الجَناب تُضيءُ المُشْكلاتُ بفضلِ قَوْلي ... ويرتاع المُلاسِن في خطابي وإِن طال المُفاخِرُ بالمَعالي ... وحاولني تقاصر عن هِضابي وأَعْجَبُ كيف تخفيني اللّيالي ... ووجه الشمس يَخْفى في شِهابي وُجوهُ مَناقبي حَسُنَتْ ولكن ... بِذَيْل الحظّ قد طاب انتقابي ثياب العِرض إِن دَنِسَتْ لِقَوْمٍ ... فكن ما عشت مُبْيَضَّ الثياب وأَسلمني الزّمانُ إِلى أُناسٍ ... إِذا عُدُّوا فليسوا من صِحابي رَقُوا ظُلماً وأَنفسُهم ترامت ... بهم طبعاً إِلى تحت التراب عليهم للكلاب مزيدُ فضلٍ ... وليس لهم مُحافظةُ الكلاب لهم دون الرغيف سِهامُ لؤمٍ ... تَصُدُّ القاصدين عن الطِّلاب وكتب لي من نظمه بخطه، قال: وقلت في بعض الأغراض التي اقتضت ذلك، وكان سببه أنني أنشدت لبعض الأًدقاء شعراً لمهيار، فتبرم منه لضيق صدره بسبب من الأسباب، فمازحته ببعض هذه الأبيات كأنها على لسانه: لقد سمح الدّهرُ بالمُقْتَرحْ ... وكان السكوتُ تمامَ الفرَحْ وما زال إِنشادُك الشعر لي ... يَمُرُّ بسمعيَ حتى انقرَحْ ونغَصتَ عَيْشي بترداده ... وأَفسدتَ من حالتي ما صلضح فلا خير في نظم هذا القريض ... ولا في تغزُّله والمِدَحْ لحا الله قلباً يحبّ المِلاح ... ولثْمَ الأَقاحي ورَشْف القَدَحْ ويهتَزُّ عند اهتزاز الغصون ... ويعجبه ظَبْيُ سِرْبٍ سَرَحْ وتُطربه رَوْضةُ العارِضيْن ... وما في شمائِلها من مُلَحْ لئِن سَرَّكُمْ حُسنُ وَجْهِ الحبيب ... فما ذاك عنديَ إِلاّ تَرَح وللهِ دَرُّ عجوزٍ تروق ... لطرفِ الحكيمِ إِذا ما لَمحْ ويُعْجِبُه صِبْغُ حِنّائِها ... وما بين أَسنانها من قَلَح لها رَحِمٌ مثلُ حبل العِقال ... إِذا ما دنوت إِليه رَشَح وإِن حَرَّكتْه ذُكور الرّجال ... تخيَّلْت ذاك كنيفاً فُتِح فهذي مقالة هذا الحكيم ... ولا خَيْرَ فيمن إِلها جَنَح فَدَعْ قوله واختصر صورةً ... كأَنّ الجمال لها قد شرح إِذا ما استدارتْ نطاق الخصور ... وماستْ قُدودٌ بزَهْوِ المِدَحْ فكم من غريقٍ بماء الجفون ... وكم من زِنادِ فؤادٍ قَدَح أَدِرْها وروِّ بها حائِماً ... ودارِكْ بقيَّةَ عُمْرٍ نَزَح ولا تَجعلِ المزج إِلاّ الرُّضاب ... وواصل غَبوقك بالمُصْطَبَح أَطِعْ في حبيبك غِشّ الهوى ... وعاصِ العذول إِذا ما نصح ولُذْ بضلالك قبل الهدى ... وبادِرْ ظلامك قبل الوَضَح وَدَعْ عنك وَضْعَ شِباك المُحال ... ونَصْب الفخخ وعَدَّ السُّبَحْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 ولا تُغْلِقَنّ بحمْل الهمو ... م بابَ السّرور إِذا ما انفتح وإِنْ خِفتَ من عاتبٍ فاستترْ ... بليل الشَّباب إِذا ما جَنَح فَتَبّاً لدهرٍ يُعِزُّ اللئام ... وقدرُ الكرام به مُطَّرَحْ ذَلول إِذا ما امتطاه الجهول ... وما رامه الحُرُّ إِلا مُمْتَدَح وقد طُمِسَتْ أَوجهُ المَكْرُمات ... وقد عُطِّلَتْ هُجْنُها والصُّرُح ولا خير فيمن غدا طائِعاً ... للؤمٍ أَلَمَّ وبُخْلٍ أَلَحْ إِذا بهرجته عُقولُ الرّجال ... وأَخجله النّقْص لمّا افتضح لئن قَصَّرَتْ خُطوةُ الحظّ بي ... فماليَ عن هِمّتي مُنْتَزَح وإِن عَدَّ مُفْتخِرٌ فضلَه ... فبي يُخْتَمُ الفضلُ بل يُفْتَتَح وكم للفضائلِ من خاطبٍ ... وما كلُّ خاطب بِكرٍ نَكَح قال، وقلت: لا تَلْقَ دهرك بالعِتابِ ... فعُهوده ذات انقلابِ والبَدْ إِذا وَثب الرَّدى ... واصبر على مَضض المُصاب فالدّهرُ يخدع بالسرو ... ر كمثل تلميع السَّراب ما جئته مُسْترْوِحاً ... إِلاّ حصلت على اكتئاب فإِذا طلبت صفاءه ... فابشُر بأنواع العذاب لا تَشكُوَنَّ فما يُبا ... لي إِن شكوتَ ولا يُحابي يا صاحبي ماذا يَضُرّ الأُسْدَ من حَنَق الذِّئاب لولاكِ، غِزلانِ الفَلا ... ما هان مُرْتَكَب الصِّعاب أَلِفَتْ مُنازَلَة القلو ... ب فما تَمَلُّ من الحِراب يدنو فيمنعه الحَيا ... فيعود مَسدول الحجاب والبدرُ أَحسنُ ما يكو ... ن إِذا تنقَّب بالسَّحاب لله عيشٌ سالفٌ ... واللهو مَوْفورُ النِّصاب وسرورنا مُستيقِظٌ ... فرِحٌ، وطرف الهمّ كاب إِذا نُقْلنا لَثْمُ الخدو ... د وشُربنا خَمْرُ الرُّضاب إِذ نحن في جاه الصِّبا ... والعمرُ مجهول الحساب فارحلْ عن الدنيا وجِدَّ وَدَعْ مُلاعبة التَصابي دَعْها فقد جاء المشيب بعَزْلِ سلطان الشباب ما اللَّهْوُ بعدَ الأربعين وإِن قَدَرْت، بمُستطاب بعثتْ طلائِعَها المنو ... ن إِليك مُسْرَجةَ العِراب وقلت: لما ولي الملك السعيد رضي الله عنه لسيدنا الأجل عماد الدين أبي حامد محمد بن محمد، ابن أخي العزيز، الإشراف على ديوانه وسائر مملكته مضافاً إلى ما كان يتولاه من ديوان الإنشاء، وكان قد ولد له ولد بعقب ذلك. ولم يتفق إنفاذها إليه في ذلك الوقت بسبب رحيل اتفق للملك السعيد ورحلنا معه في سنة ثمان وستين وخمسمائة. وهي محتاجة إلى تنقيح: خان المُحالف والمُعاهدْ ... وجفا المُوالي والمُساعد سهِرت عيونُ فضائلي ... لكنّ طرف الحظّ راقد أخذ بصَفقةِ تاجرٍ ... طلب المقاصد بالقصائدْ فاخِرْ فإِنك في زما ... نك صالح، والوقتُ فاسد أَوَليس قومك معشرٌ ... كانت عوائِدهم عوائد لا تتعب الحسّاب في ... عدد الكرام فأَنت واحد فلئن فَخَرْتَ بمن مضى ... فلْتفخرنّ بك المَشاهد فابشُر بمولودٍ يجدّدُ ذكر آباءٍ أَماجد ولدٌ أتانا مُخبراً ... في مهده عن خير والد ما فتَّ في عضدٍ ولكن فتَّ أَكباد الحواسد رفعتْ دموعي بعدكم ... مما أُكابده جرائد أَين الذين نعدّهم ... عند النوائب والشدائد يَلْقَوك في شُوس الخطو ... ب مشمّرين عن السواعد نَفقت ملابيس النِّفا ... ق وسوق أَهل الفضل كاسد رُفعت دواوين الكفا ... ة وخُلْخِلَتْ منها القواعد واستبهمت حتى لقد ... أَيِس المُعَلِّل والعوائِدْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 فنهضتَ فيها قائِماً ... بسِدادها والغيرُ قاعد فَصَحَتْ وصحّ زمانها ... من ذا يُغشّ وأَنت ناقد وملأْتَ أَسماع الرُّوا ... ة من الفوائد والفرائد وحفِظت عَقد مودّتي ... فنشرت أَلوية المحامد سرقت عزيمتُك الرُّقا ... دَ فبتّ مهجور المَراقد غار الزمان فسلَّهُ ... سيفاً لأَهل الشرّ حاصد وقلت في سنة ستين وخمسمائة وكتبتها إلى بعض الأصدقاء: نواحي الأَرض ضاحكةُ الرُّبوعِ ... وعينُ المُزنِ هاطلة الدموعِ ووجه الأَرض بسّام المُحَيّا ... وشادي الدَّوْح ممنوعُ الهجوع وأَغصانٌ كأَنّ بها انتشاءً ... تصابت وهي شائبة الفروع لقد طالت ليالي الهمّ فائْذَنْ ... عَصيُّ الهجرِ ذو وصلٍ مُطيع ولا يسقيكها إِلاّ غزالٌ ... عَصيُّ الهجرِ ذو وصلٍ مُطيع عُقاراً لو سطت في يوم حربٍ ... لأَوْدت بالخُبَعْثِنَة الشجيع ولو مرّتْ على حلم ابن قيسٍ ... لأَضحى وهو كالطفل الرضيع وقلت بسبب صديق: إذا غرت خيولُ الهجر يوماً ... عليكَ، فكنْ لها ثَبْتَ الجَنانِ وإِن خان الصديق فلا عجيبٌ ... أَليس الأَصدقاء بني الزّمان وقلت لما كنت بحلب بعد وفاة الملك السعيد رضي الله عنه، وقد توالت الفتن، وحرجت الصدور، متشوقاً إلى دمشق ومتذكراً لها: عروسُ الكأْس يجلوها نديمي ... علينا في ثيابٍ من نعيم أَدِرْها واحْيِ أَباحاً تراها ... رَميماً بين أَجداث الهموم وداوِ بها جِراحات الليالي ... فلستَ على التّداوي بالمَلوم ولا تكسِر حُمَيّاها بمَزْجٍ ... فتضعُفَ عن مُقاومة الغريم وأَعجَبُ كيف تبرُز وهي شمسٌ ... مكلَّلةَ الجوانب بالنّجوم إِذا طافت همومُك حولَ كأْسٍ ... ترامتْ نحوها شُهْبُ الرُّجوم وقد زَفّ الربيع إِليك رَوْضاً ... قشيبَ الزَّهْر مُعْتَلَّ النسيم فَحُثَّ اليَعْمَلات إِلى دمشقٍ ... سقاها اللهُ هَطّال الغيوم فيا لله درُّكِ من ديارٍ ... تَراضَعنا بها حَلَب الكروم فما رقأَتْ دموعي حين غابت ... جواسقُها ولا اندملت كُلومي إِذا ما طُفت حول دروب مقرى ... فعرِّج بي إِلى دَيْر الحكيم وبادرْ نحو رَبْوتِها ففيها ... إِذا واجهتها بُرْءُ السقيم وحيِّ النّيْرَبين فكم مضى لي ... على الشرفَيْن من شجنٍ قديم إِذا الخُطباء في الأَغصان قامت ... تهُزُّ النائمين عن النعيم إِذا كأْس الصَّبا دارت سُحَيْراً ... تحُلُّ معاقد الدُرّ النظيم لقد أَهدت لها الخضراء بُرْداً ... بديع النَّسج مختلف الرُّقوم وفي تلِّ الثعالب راح عنها ... ففيها منشإي وبها تميمي لقد حلّت جِنانُ الخُلد فيها ... وفي حلبٍ هَوْت نارُ الجحيم إِذا عُرضت عليك رأَيت فيها ... عِراصَ الخير دائرةَ الرُّسوم مُناخُ للأَراذل منذ كانت ... محرَّمَةٌ على الحرّ الكريم أَقمتُ بها فلم يظفر طِلابي ... بذي أَدبٍ ولا خِلٍّ حميم وأَرذلُ من ترى فيها وأَخزى ... ذوو الأَقداء والحسب الصميم تُرى يحنو الزمان عليَّ يوماً ... فأَشكو ما لقِيت إِلى رحيم لعلّ الله أَن يُدني زماناً ... تَهُبّ لنا به ريحُ القُدوم وأبناء الزمان كما تراهم ... أَفاعٍ دأْبُها نَفْثُ السّمومِ فلا يحنو القويُّ على ضعيفٍ ... ولا يصل المَخوف إِلى رَؤوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 وسُقت إليهم الآمال حَثّاً ... فما وجدتْ سوى مرعىً وَخيم رأَيتُ سحائباً فظننتُ فيها ... رَذاذاً مُنْعِشاً لثرىً عديم يحاربني الزمان وأَيّ والٍ ... يناصفني وأَيامي خُصومي تَبَلَّغْ باليسير وعِش كريماً ... وغُضّ الطرف عن نظر اللئيم فقد عقمت عن الكرم اللّيالي ... فلا تَرْجُ الوِلادة من عقيم وناديتُ العفاف: إِذا اقتسمنا ... فكن ما عشتُ في الدنيا قسيمي وقلت لما خرجت من حلب متوجهاً إلى الملك الناصر صلاح الدين أدام الله دولته، وكان حينئذ بحمص، ولم يسمعها: سرى ما بيننا سِرُّ الغُيوبِ ... يُبَشِّرُنا بنصرك عن قريبِ ركبتَ إِلى الحروب جِيادَ عزمٍ ... مصرَّفةً عن الرأْي المُصيب تبسّمتِ البلادُ إِليك أُنساً ... وكانت قبلُ مُوحِشةَ القُطوبِ لقد ولّت شَمال الشِّرْك لمّا ... أَنار الدينُ من أُفقِ الجَنوب تركت صوارخَ الأَعداء فيها ... مُخَرَّقةَ المَدارع بالحريب تكاد قلوبُهم بالخوف منها ... تطير عن المساكن بالوَجيب وما سهِرتْ رماحُك فيه إِلاّ ... لترقُد في التَّرائب والجُيوب عصت حلبٌ وقاتل ساكنوها ... وليس قتالُهم لك بالعجيب لأَنك ناصرُ الإِسلام حقّاً ... وهم رهط المُغيرة أَو شَبيب وقد قالت سُعودك عن قريبٍ ... إِليك أَسوقهم سَوْق الجَنيب جِهادُك إِن طلبت الغزوَ فيهم ... أَهَمُّ إِليك من غزو الصليب فَزُرْ باب العراق وما يليه ... بكل مُزَنّرٍ طرِبِ الكُعوب وفَجِّرْ مَنْبَع الأَوْداج حتى ... تَخوضَ الخيلُ في العَلَق الصبيب ترى الإِسلام قد وافاك يعدو ... إِلى لُقياك مشقوق الجُيوب وقد نادى مُؤَذِّنهم، فنادى ... ليوثُ الغاب: حيَّ على الحروب أُناسٌ دَبّت الأَعلالُ فيهم ... وليس لهم كسيفك من طبيب وقد وَلّى الوزيرُ وعن قريبٍ ... سينقلب الوزير إِلى الَقليب أَحاط بجمعهم في كلِّ نادٍ ... ظلامُ الكفر في ليل الذُّنوب ومُذ أَطلعتَ شمس النَّصل فيهم ... علا أَعناقَهم شَفَقُ الغروب فلا يَغْرُرْكُمُ أَن كفّ عَنْكُمْ ... فإِنّ الأُسْدَ تجثِمُ للوُثوب إِذا ابتسمتْ سيوفُ الهند يوماً ... فمَبْسِمُها يدلُّ على النّحيب ولم يَذْخَرْك نور الدين إِلاّ ... لتدفع عنه نائبةَ الخُطوب فخلِّص ابنه بالسيف منهم ... فقد حبسوه في بلدٍ جديب يَبيتُ وقلبُه المحزون أشهى ... إِلى لُقياك من ضمِّ الحبيب صغيرٌ بينهم، لا بل أَسيرٌ ... غضيضُ الطرف مبخوس النصيب تذكَّرْ عهده واحْنُن عليه ... ونَفِّسْ عنه تضييق الكُروب ولا يَغْرُرْكَ من يُوليك وِدّاً ... ويَلْوي عنك أَجفان المُريب أَتيتُك والرِّماحُ تَخُبُّ نحوي ... وخُضت عَجاجةَ اليوم العصيب رأيتُ كواسرَ الأَبطال حولي ... مُحَدَّدة المخالب والنُّيوب وسِرتُ إليك محزوناً فلمّا ... رأَيتُك قلتُ للأَحزان: غيبي رأَيتُ المارقين ومَنْ يليهم ... جميعاً من عَصِيّ أَو مُجيب إِذا غنّت صواهِلهم وأَبدى ... لها الخطيُّ أَخلاق الطّروب فَراشاً عاينتْ ناراً فأَبدت ... تهالُكَها على جمر اللهيب فأَوْسِع طَعْنَ من عاداك ظُلماً ... كما وسَّعْتَ رِزق المُسْتَثيب أَماتتني الهمومُ بأَرض قومٍ ... بما فعلوا وأَخذلني كُروبي وها قد قمتُ من قبري لِتحيا ... بقُربك مُهجة الميت الغريب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 وقد هاجرتُ إِنكاراً لما قد ... رأيتُ من المثالب والعيوب ولي دهرٌ يُراقبني فأَرْمِدْ ... بلَحظٍ منك أَلحاظ الرّقيب وشمسي تحرُق الحُسّاد كَبْتاً ... وتُعيي وصفَ ذي اللَّسَنِ الخطيب عَلَتْ في أَوْجها وحَضيضُ حظّي ... يُجاذِبها بأَرسان المغيب وقلت في سنة سبع وخمسمائة، وكتبتها إلى بعض الأصدقاء في سبب اقتضاه: أَتطمعُ في عِقالك أَن يُحلاّ ... وتُدرك في ظلام الصُّدغ مَحْلا وكنتُ أَقول لي صبرٌ مُعينٌ ... فلمّا صحّ هجرُك لي تخلّى أَتسمع في مُحِبّك قولَ واشٍ ... وما سَمِع المُعَنّى فيك عَذْلا لقد حلّلتَ من قتلي حراماً ... وحرَّمتَ الوصال وكان حِلاّ وتسمح لي بخمر اللَّحظ صِرْفاً ... وتمنعني مِزاجَ الرّيق بُخلا لقد عذَّبْتني، وأَصبتَ فيه ... لأَنّ الحبّ بالتعذيب أَحلى لقد نصحت دعاوى العشق قوماً ... يظنّون البَلا في الحبِّ سهلا فواحدُهم يَلَذُّ له زماناً ... ويطمع أَن يرى أَمناً وعدلا إِذا ابتسم الوِصال يهيم عِشقاً ... وإِن عَبَس الصّدودُ سلا ومَلاّ وشرطُ العِشق أَن تبقى أَسيراً ... وتجعلَ حُبَّهم قَيْداً وغُلاّ فيا دهرُ ارتدِع عني وإِلاّ ... ستلقى من مُعين الدين نَصْلا فتى إِن زُرْتَه أَلفيتَ عزماً ... يدافع من كُروب الدّهر ثِقْلا وتلقى للخطوب حِمىً مَنيعاً ... وتُبصر جانباً للهْو سَهلا فآلاءُ المكارم منك تَتْرى ... وآيات المحامد فيك تُتْلى مدحتك لا لأَجلِ يسيرِ حَظٍ ... ولكن مطلبي أَوفى وأَغلى أُؤَمِّلُ همةً لك أَمتطيها ... وأَبلغ في خفارتها المَحَلاّ فَتنْعَشُ قوةً وتُزيلُ هَمّاً ... وتُحيي مَيِّتاً وَتَرُبُّ شَمْلا وأنشدني لنفسه: الصَّفْوُ من ماءِ العِنَبْ ... يا صاح أَحلى ما شُرِبْ راحٌ تُريك بمَزْجها ... في الكأْس سِلسلة الذهب طُبِخَتْ بنار الدّهر لا ... نارِ التَّضَرُّم واللَّهبْ لا يَمْنَعَنَّكَ شُرْبَها ... شهرُ المحرَّم أَو رجب وانهب زمانك إِنه ... لِشباب عمرك يَنْتَهب وأنشدني لنفسه: أَصوغ الحُلى في كلِّ يومٍ وليلةٍ ... وأُتْعِبُ منّي في صياغتها النَّفْسا ولو مُتُّ ضَرّاً ما عَقدْتُ قِلادةً ... على جيدِ مَنْ لا يستحقُّ لها لُبْسا وأنشدني أيضاً لنفسه بمصر: صَيْدُ السرور أَجلُّ في المعقولِ منْ صَيْد الطُّيور كم بين حَملك للكؤو ... س وبين حملك للصُّقور الفقيه الوجيه برهان الدين مسعود بن شجاع الحنفي مدرس المدرسة النورية بدمشق. قرأ على برهان الدين البلخي رحمه الله في عنفوان عمره ثم هاجر في طلب العلم إلى بخارى وسمرقند، فغاص من بحره في غمره، ثم عاد إلى الشام، وأقام بمدرسة حلب، وتنقلت به أحواله، وتحولت في البلاد رحاله، ورتبه نور الدين قاضياً بعسكره سنة، ثم توسلنا له عنده في تفويض التدريس بالمدرسة الكبيرة إليه، فحصل له ما لم يخطر بباله، وظهر بذلك حالي حاله، ورفع نفسه عن درجة الشعر، وكان له في الغربة أنجع وسيلة، وأنجح فضيلة. وسألته مراراً أن ينشدني ما أثبته، ويسمعني ما أطريه وأنعته، فماطل بما طلب منه بعد عدة، وادعى الإملاق عن جدة، ولم يخش من الصديق أثر موجدة. ووقفت على قطعة بخطه كتبها ببخارى إلى بعض علمائها وليست من جيد نظمه، ولا من النمط اللائق بعلمه، وإنما جنى هو على أدبه، حيث لم يرد أن ينوه به. فمن جملة أبياتها، وأنا مضطر إلى إثباتها: أَيصبر قلبي عنهمُ بعد ما ساروا ... ودمعي من الشوق المُبَرِّح مِدْرارُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 همُ جيرةٌ جاروا عليّ ببُعدهم ... فليتهُم عادوا إِليّ وإِن جاروا الفقيه سديد الدين أبو عبد الله محمد بن يوسف العقيلي الحوراني وعثقيل قرية من قرى اللوى بحوران. من فقهاء أصحاب أبي حنيفة رحمه الله، صحب برهان الدين أبا الحسن علي بن الحسن البلخي بدمشق، وأخذ عنه، واستفاد منه، ورسخت في العلوم قدمه، وسمت إلى الفضائل هممه، وهمت بالفوائد ديمه، ودرس بجامع قلعة دمشق الفقه، وعدم في مجاراته المثل والشبه. ذكره القاضي شمس الدين محمد بن محمد، وأثنى عليه، وعلى محاروته ومذاكرته. وقال: لم أر أكثر منه إنصافاً، وإمهاء للخاطر في البحث النظري وإرهافاً، وتوفي سنة أربع وستين وخمسمائة، وله شعر ما بجودته باس، وله من الأدب والحكم قاعدة وأساس. وأنشدني شمس الدين له من أبيات: ما أَليق الإِحسانَ بالأَحسن ... عقلاً إِلى الكافر والمؤمنِ وأَقبح الظلم بذي قُدرةٍ ... حُكِّم في الأَرواح مُستأْمن يا من تولّى عابتاً مُعرِضاً ... يُعْذَل في هجري فلا ينثني شمس الدين أبو الحسن علي بن ثروان بن الحسن الكندي كان أديباً فاضلاً، أريباً كاملاً، قد أتقن الأدب، وقرأ اللغة على ابن الجواليقي وغيره من صدور العلم وبحوره، ولم يزل الأدب بمكانه مشرقاً في دمشق بنوره، في آفاق ظهوره. وقد ذكرت تاج الدين الكندي ابن عمه من أهل بغداد، وهذا، لإقامته بدمشق، أوردته مع أهلها، والأصل من الخابور. رأيته بدمشق مشهوداً لفضله بالوفور، مشهوراً بالمعرفة بين الجمهور، موثوقاً بقوله، مغبوقاً مصبوحاً من نور الدين بطوله. وتوفي بعد سنة خمس وستين وخمسمائة. وله شعر كثير، وفضل نظم ونثير، ولم يقع إلي ما أشد يد الانتقاد عليه، وأصرف عنان الانتقاء إليه. ومن جملة ذلك أنه قصد بعض رؤساء الزبداني وهو الأمير حجي بن عبيد الله فلم يجده، فكتب على بابه هذين البيتين، أنشدنيهما التاج البلطي بمصر: حَضَر الكِنديُّ مَغْناكم فلم ... يَرَكم مِنْ بعدِ كدٍّ وتعبْ لو رآكم لتجلّى همُّه ... وانثنى عنكم بحُسن المُنْقَلَبْ وله أيضاً من قصيدة أولها: هتك الدَّمعُ بصوبٍ هَتِنٍ ... كلَّ ما أَضمرتُ من سِرٍّ خَفيّ يا أَخلاّي على الخَيْف أَما ... تَتَّقون الله في حَثِّ المَطيّ باب في ذكر فضائل جماعة من الفضلاء أيضاً بدمشق من الكتاب والأجناد وغيرهم ابن النقار الكاتب الدمشقي أدركت حياته بدمشق، وكان شيخاً قد أناف على التسعين وقيل على المائة. وكان مليح الخط حلوه، فصيح الكلام صفوه، وتولى كتابة الإنشاء بدمشق لملوكها إلى أن تملكها نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله، وكتب له أيضاً مدة يسيرة. وله نظم مقبول، وشعر معسول، وتوفي سنة ثمان أو تسع وستين وخمسمائة. فمن شعره السائر ويغنى به: الله يعلم أَنني ما خِلتُهُ ... يَصْبو إِلى الهِجران حين وصلتُهُ مَنْ مُنصفي من ظالمٍ مُتَعَتِّبٍ ... يزداد ظُلماً كلَّما حكَّمْتُهُ ملَّكتُه روحي ليحفظَ مُلكَه ... فأَضاعني وأَضاع ما ملَّكته لا ذنبَ لي إِلاّ هواه، لأَنّني ... لمّا دَعاني للسَّقام أَجبته أَحبابنا، أَنفقتُ عُمري عندكم ... فمتى أُعوّض قَدْر ما أَنفقته وبمن أَعود إِلى سواكم قاصداً ... والقلب في عَرَصاتكم خلّفته وَلِمَنْ أَلوم على الهوى وأَنا الذي ... قُدتُ الفؤاد إِلى الغرام وسُقته أَأَرومُ غيركمُ صديقاً صادقاً ... هيهاتَ، ضاق العمر عمّا رُمته ياذا الذي جعل الخلاف سجيّةً ... فعصيْتُ فيه عواذلي وأَطعته قد كنتُ أَعذِلُ كلَّ صَبٍّ في الهوى ... وأَلومه في العِشق حتى ذُقته ما لي سوى قلبي وفيك أَذبتُه ... ما لي سوى جمعي وفيك سكبته ومن جملة مولدي الأتراك الأجناد بدمشق أحمد بن طرخان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 سافر إلى ديار بكر، وصار والياً بقلعة قريبة من ميافارقين، وغزا الأرمن، وأبلى في جهادهم بلاء حسناً. وكان نحوياً ذكياً لسناً، وتوفي في سنة سبع أو ثمان وستين وخمسمائة، وله شعر. فمن ذلك قوله في أبيات يغنى بها: قلبي أَشارَ بِبَيْنِهِمْ ... وعليه كان وَبالُهُ فسَلوه بعد فِراقهم ... وبِعادهم ما حالُه ابن الزغلية الكاتب من أهل دمشق زين الكتاب أبو الحسن علي بن جعفر بن أسد بن علي المعروف بابن الزغلية، قال: جدي جوهري، وأبي صائغ، فلا جرم، ورثتهما في الصناعة والصياغة، والخط والبلاغة، فأنا فيهما مبالغ. منظوم طروسه كالجواهر، وعقود نقوده كالحلي الفاخر، بل كالنجوم والزواهر. شيخ بهي، رواؤه شهي، وخطه مقلي، للعلم طراز وللنظم حلي، لقلمه حلاوة، ولكلمه طلاوة. كان يكتب كل سنة لنور الدين مصحفاً، ويصير ببره في صرف الصروف عنه متصرفا، خطه كالروض الأنف، والوشي المفوف، والعذار المقتض عذرة الهوى العذري، والزلال الصافي لعين الحائم عند رؤيته في طلب الري. وقد نيف على السبعين، وتوفي بدمشق في شهر رمضان سنة إحدى وسبعين. وأنشدني بدمشق لنفسه سنة إحدى وسبعين من قصيدة زعم أنه مدح بها الصالح بن رزيك وأنفذها إليه إلى مصر سنة أربع وخمسين وهي: أَبُثّكما لو أَن نائبة تَعْرو ... تُفَرَّج بالشكوى إِذا غُلب الصبرُ ولكنّ داء الحُبِّ أَعيا دواؤه ... وما لي إِلى ما لست أَغنى به فقر خليليّ هل أَلفيتُما أَو أَلِفتُما ... سوى الوصل يشفي داءَ من شفَّه الهجر دعا للهوى مَنْ تَلْحَيان، فقد دعا ... مُجيباً، وكُفّا العَذْل إِن لم يكن عُذر ستُبدي شؤوني عن شؤونيَ كُلِّها ... وهل لامرئٍ نمّت مدامعُه سِرّ وخالبةٍ بالحُسنِ حاليةٍ به ... مُنىً صدقُها خَتْلٌ وصُحبتها خَتْر تَشابه جفناها وجسمي وخصرها ... وجانس منها لفظَها العِقد والثغر يهون عليها أضن يَعِزَّ رُضابُها ... بَروداً على مَنْ حَشْوُ أَحشائه جَمر مُنيتُ بما يُوهي الجليدَ وحبّذا ... لو انقاد لي ذا القلب أَو أَصحبَ الفكر ومنها في المديح: ولو شئتُ أَعداني على الدهر إِذْ عدا ... أَميرُ الجيوش المالك الصالح الغَمْرُ مليكٌ يَعُمّ الأَرضَ واكفُ كفّهِ ... ففي كل قُطرٍ من سحائبها قَطر ومنها: حوى قصباتِ السَّبْق في المجد والعُلى ... ومَنْ دونَه مِنْ دونِه المَسْلكُ الوَعْرُ فيُخفِق عن غاياته كلُّ من سعى ... ويَخفِقُ في راياته العزّ والنصرُ تمنَّتْ خراسانٌ سياسةَ عدله ... وتاهت على أَرض العراق به مِصر ومنها: وأَكرم نفساً أِن يُهَزَّ إِلى ندىً ... وأَكبر قَدراً أَن يُرى وبه كِبرُ يميلُ إِلى الشكر الجميل سيادةً ... ويأْبى، وَقاراً، أَن يَميل به السُّكر فلا طربٌ إِلاّ على نغم الظُّبى ... ولا سُكرَ إِلاّ أَن يُرنِّحه شُكر ومنها: أَرى ما وراء الحُجبِ عَيْناً بها عَمىً ... وأَسْمَعَ ما في النفس أُذْناً بها وَقْرُ إِذا ما دجا ليلٌ من الخَطب مُظلمٌ ... تَبلَّج من إيراء آرائه فجر ولا عَيْبَ في أَخلاقه غير أَنها ... صفتْ فَنَقَتْ ظنَّ الورى أَنها الخمر ولا تِيهَ فيه غير أن يمينه ... بها أَنَفٌ من أَن يُقاس بها البحر فقد غمر العافين ساكنُ يَمِّها ... فما ظنُّهم إِن هاج آذِيُّها الغَمْر فَمن في النُّهى قيسٌ وفي الجودِ حاتِمٌ ... وفي عدله كسرى وفي بأْسه عمر له قلمٌ يَعْنو له مُبرَمُ القضا ... وتعجِز عن أَفعاله البيض والسُّمرُ وساحةُ صدرٍ ضاق عن رُحبها الفضا ... وراحةُ جودٍ شحَّ عن سَحِّها القَطر ومنها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 مِنَ القوم إِن أَبدَوْا أَعادوا وإِن عَدَوْا ... أَبادوا، وإِن أَجْرَوْا إِلى غاية جَرّوا بُحورٌ إِذا أَجدّوْا، بدور إِذا بدَوْا ... لُيوث إِذا كرّوا، غُيوث إِذا برّوا إِذا قيل هذا صائلُ الدّهر أَقدموا ... وإِن عَرضت إِحدى الدّنايا لهم فرّوا تطيع المنايا والأَمانيُّ أَمرَهم ... فإِن حاربوا ساءوا وإِن سالموا سرّوا ومنها: أَيا كاشف الغماء إِن جلّ فادحٌ ... ويا مُسبغ النَّعماء إِن مَسّنا ضُرُّ حفِظتَ ثُغور المسلمين وصانعتْ ... صروفَ الرَّدى عنهم صنائعُك الغُرُّ فلا دعوةٌ إِلاّ وأَنت مُقيمها ... ولا دولةٌ إِلاّ وأَنت لها ذُخر ولا مُقتِرٌ إِلاّ وأَنت له غنىً ... ولا مُعْسِرٌ إِلاّ وأَنت له يُسر ومنها: فَهُنِّئتِ الأَيّام منك بمالكٍ ... به انتصر الإِسلام وانخذل الكفرُ ومنها: طوتني خطوبٌ للزمان شديدةٌ ... وأَنت امرؤٌ في كفّه الطيُّ والنَّشْرُ أَقمتُ على رَغمي وقلبيَ راحلٌ ... فجاء إِلى عُلياك يعتذرُ الشِّعر وأنشدني له في الصالح بن رزيك من قصيدة، في سنة ثلاث وخمسين: مُناصِح الفكرِ في نَجْواك مُتَّهَمُ ... وفاخر الشّعر مِنْ لُقياك مُحتشِمُ ومنها: يا أَيُّها الملك الأَعلى الذي شهدتْ ... بفضله الأُمّتان العُرْبُ والعجمُ أَنت الذي بك يَدري من له أَربٌ ... قَدْرَ الكلام إِذا لم تُعرَف القِيَمُ شَمْسٌ، وكلُّ ضياءٍ بعده ظُلَمُ ... بُرْءٌ، وكلُّ صلاحٍ بعده سَقَمُ ومنها: وحلّ في صدر دَسْت الملك منه فتىً ... يستوقف الطَّرْف، في عِرنينه شَمَمُ حالٍ بِدرِّ المعالي جِيدُ همّته ... عالٍ على رأسه من مجده عَلَم يُرجى نَداه ويُخشى حَدُّ سطوته ... كالغيث والليث، مِفْضالٌ ومنتقم ومنها: وهل يخاف صُروفَ الحادثاتِ فتىً ... أَضحى بحبل أَبي الغارات يعتصمُ بمطفئٍ جَمراتِ الرَّوْع وهي لظىً ... تُذْكى بوقع المواضي فهي تضطرم بخائِضٍ لججَ الهيجاء يسبحها ... وموجُها من قلوب الدَارعين دم بمُشْرقِ الرأْي، والآراءُ مظلمةٌ ... وثابتِ الجَأْش، والأَبطال تصطدم ومُبْصِر الأَمر، والأَقدارُ تستره ... عن أَن يراه البصير الحاذِق الفَهِم غيثٌ إِذا انهلّ روَى كلَّ ذي ظمأٍ ... له السّماح سماءٌ والندى دِيَم ليثٌ مَخالبه بيضٌ مُجَرَّدةٌ ... بُتْرٌ، وسُمْر العوالي حوله الأَجم ومنها: يا مالكاً في مواليه له نَعَمُ ... تَتْرى وعند مُعاديه له نِقَمُ ومنها: فمن يناوئك في هذا الأَنام وفي ... يمينك الماضيان: السيف والقلمُ أَمْ مَنْ يباريك في حزمٍ ومأْثَرَةٍ ... وعندك المُسْعِدان الرأْي والحِكمُ ومنها: إِنّي أُجِلُّك أَن أَلقاك مُشتكياً ... إِلى عُلاك هموماً كلّها هِمَمُ أُغالط النفسَ بالتسويف في زمني ... فعَيْن حاليَ تبكيني وأَبتسم وكم معافىً تروق العينَ صورتُه ... وحشْوُ أَحشائه من همِّه أَلَمُ وإِن قضى لي بتأخير الندى ومضى ... فمُقتضيك العُلى والجود والكرم وأنشدني له من قصيدة يهنئ فيها ببرء الملك العادل نور الدين رحمه الله: بُرءٌ أَبرَّ على إِرواءِ باكرةً ... من السّحائب ظمآنَ الثرى جَدِبا شفى به اللهُ مجداً قد أَلَمَّ على ... شَفاً، وأَحْيا حيَاً أَبلَلْتَ فانسكبا ومنها: يا أَفصح العَرب العَرْباء قاطبة ... وإِن غدا لملوك التُّرك مُنتسِبا ما جال طرفُ الكرى في جفنِ مأْثَرَةٍ ... حتى تصرّم عنك الداءُ وانجذبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 عفَّتْ عوافيك آثارَ الهموم فما ... أَبقت لها في فيافي فكرةٍ أَربا وردَّ دونك، نورَ الدين، قاصرةً ... أَيدي المُلِمِّ أَيادٍ تُخْجِل السُّحُبا يا رحمةً عمَت الإِسلام قاطبةً ... ونعمةً خصّتِ الأَهلين والقُربا حاشا جمالك أَن يكساه طيفُ ضنىً ... وثوب عزِّك أَن تُنضاه مُسْتَلَبا ولا عَرَتْك من الآلامِ حادثةٌ ... تَضْحي لها عن عيون الناس مُحْتَجِبا ومنها: وعش مُنيلَ ذوي ودٍّ، مُبيدَ عدىً ... ما شئت، مَرْجُوَ آلاءٍ، مَخُوف شَبا إِن أَمَّ سعدَك طرفُ الحادثات كبا ... أَوْ رام مجدَك نابُ النائبات نبا وأنشدني له من قصيدة في نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله وكان قد أهدى له مصحفاً بخطه: يا جُنَّةً إِن رماني سهمُ حادثةٍ ... وجَنَّةً ليَ إِن خُوِّفتُ بالنارِ وفي القناعة لي عِزٌّ أَصولُ به ... لكنّ عائلتي يهوَوْن إيساري إِذا ذكرتُ لهم فضل القناعة لم ... يسمَعْن وعظي ولم يقبلْن أَعذاري وليس لي شافع أَرجو النجاة به ... سوى كتاب عظيمِ المُلك جبّار لو أَن حظّي كخطّي كنت أَكسِب من ... دون الورى كلَّ يومٍ أَلف دينار فليت حظّي كخطّي في ملاحته ... وليت رزقي كآدابي وأَشعاري زيادةُ الحِذْق نقصُ الرزق فارْضَ بما ... تُؤْتى ولا تتكفّر فِعْلَ كفار وقد طوى الله سرّ الغيب مقتدِراً ... عنا لنيفذ فينا حُكمه الجاري يقوى رجائي وفرطُ اليأْس يَضعِفُه ... فتنقضي مُدَّتي في غير إِيثاري ذقتُ النعيم وذُقت البؤس في زمني ... فما وفى ليَ إِحلائي بإِمراري واحَسْرتا لتقضّي العمر في لعبٍ ... أَقضي ولم أَقضِ أَغراضي وأَوطاري عسى إِلهي، إِذا ما مِتُّ، يغفر لي ... فإِنه خير مَنّانٍ وغفّار وأنشدني له في المؤيد ابن العميد بدمشق من قصيدة: وله من ضوامر الصُّمِّ رُقشٌ ... جارياتٌ بوعده والوعيدِ فإِذا نمنم الكتابة في الطِّرْ ... س أَرانا وشياً كوشي البرود وإِذا أَنشأَ الكلام ووشّا ... هـ شأى فيه فنَّ عبدِ الحميد وأَبو الفضل ابن العميد مُقِرٌّ ... ذو اعترافٍ بالفضل لابنِ العميد وله في القريض غُرُّ مَعانٍ ... حار فيها الوليد وابنُ الوليد وأَيادٍ من الصنائع بيضٌ ... تَسترقُّ الأَحرار رِقّ العبيدِ عرَف العارفون فضلك بالعلم وقال الجُهّال بالتقليد وأنشدني له من قصيدة في مدح القاضي كمال الدين ابن الشهرزوري: بكُتْبك تَنْفَلُّ الكتائب نُكَّصاً ... مُنَكَّسةً راياتُها لا تُعَقِّبُ إِذا تُليت خال العدوُّ كلامها ... كِلاماً، وما عنها فؤادٌ مُحَجَّبُ وأَقلامُك اللاتي بها تَصْدَع القنا ... وتقضي على حدِّ السيوف وتقضِب إِذا ما علت فوق الطُّروس حِسبتها ... خطيباً على أَعلى المنابر يخطب بأَسودِها تبيذُّ كلُّ مُلِمَّةٍ ... وتخضرُّ منها الأَرض، والعامُ أَشهب وما طاب في الأَرض العريضة نفحةٌ ... لِعِرْض امرئٍ إِلاّ ونَشْرُكَ أَطيب وأنشدني له من قصيدة في كمال الدين ابن الشهرزوري: أَصلى فؤادَك ذكرُه أَهلَ الغضا ... لمّا استقلَّتْ عيسُهم جَمْرَ الغضا وحدا بركبهمُ شُروقاً سائقٌ ... عَجِلٌ، إِذا وَنَتِ الركائبُ حَرّضا وظللتَ تَتْبَعُهم وقلبك خافقٌ ... كالبرق في جُنح الدُّجَنَّةِ أَوْمضا ودموع عينك قد مَرَتْها زَفْرةٌ ... مُذْ خَيَّمَتْ رَحَلَ السّرورُ وَقُوِّضا وبأَيْمُن الأَظعان في اَحْداجهم ... نَجْلاءُ يَشْهَر لحظُها سيفَ القضا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 غرّاءُ تحكيها الغزالة في الدُّجى ... نُوراً ويحكيها الغزال تَعَرُّضا ميّالةُ الأَعطاف ناعمة الصِّبا ... لو لامستْ حجراً أَصمَّ لَرَوَّضا فتانةٌ مِلء المجاسد، أَوْدَعَتْ ... في القلب داءً للمنيَّة عرّضا نجني الشقيقَ مُذَهَّباً من خدِّها ... بلحاظنا، والأُقحوانَ مُفَضَّضا صَدَّ وشطّ مزارها وتنكَّرت ... وغدا مُمَرَّ عهودها مُتنَقَّضا قد كنت جاراً يا هنيدةُ برهةً ... ما بين كاظمةٍ إِلى ذات الأَضا لَهْفي على زمنٍ بقُرْبكِ فاتني ... يا ليتني استقبلت منه ما مضى واهاً لدهر غالنا بصُروفه ... وأَعارنا إِحسانه ثم اقتضى فسقى زمانَ وصالنا مُتراكِمٌ ... كندى كمال الدين أضعني المرتضى ومنها: لو لم يكن لِبنانه شِيَمُ الحيا ... ما أَزهر القِرطاسُ منه ورَوّضا ما جاش في صدر المُلَطَّف صدره ... إَلاّ ظننت الجيشَ قد ملأَ الفضا ومنها: قومٌ إِذا عبس الزّمان تهلّلوا ... بمكارمٍ زَخَرت بحوراً فُيَّضا شرعوا على دين السماح شريعةً ... قضتِ المكارمُ أَن تُسَنّ وتُفْرَضا نشو الدولة أبو الفضل أحمد بن عبد الرحمن بن علي بن المبارك السلمي من دمشق من بني نفاذة شاب محب للفضل، حريص على تحصيله، بجملته وتفصيله، وقد كتب ديوان شعري ورسائلي، وهو يتولى الإشراف على الهري بالقلعة. أنشدني له من قصيدة يمدح بها الملك الناصر صلاح الدين سنة سبعين حين أخذه دمشق: بدا في سماء المُلْكِ من شخصك البدرُ ... وقابله الإِقبال والفتح والنصرُ ومُذْ حلَّ برجَ السَّعْد في خير طالعٍ ... وأَيْمَنِه، مِنْ حوله الأَنْجُمُ الزُّهْر وجلَّى ظلامَ الشِّركِ إِقبالُ نوره ... فأَصبح مخذولاً له الذُّلُ والقهر أتى بعدما نادت دمشقُ لبعده ... إِلى ربّها: تالله مسّنيَ الضرّ شكت بعده لمّا توطّن غيرَها ... وقالت، وكم أَمثالها، ليتني مِصر وكانت له يعقوبَ إِذ هو يُوسُفٌ ... فأَضحت به تزهو وباشَرَها البِشْرُ ومنها: إِذا اسودّ خطبٌ دونه الموت أَحمرٌ ... أَتت بالأَيادي البيض أَلامه الصُّفْرُ فمذ ظهرت منصوبةً جُزِمَتْ بها ... ظهورُ العدى، من رفعها انخفض الكُفْر فلله حمدٌ لا يزال مُجَدَّداً ... على ما حَبا من فضله وله الشكر أَتاح لنا من بعد يأْسٍ مبرِّحٍ ... مليكاً غدا من بعض خُدّامه الدهر ومنها: ولِمْ لا يجوز الأَرض شرقاً ومَغرِباً ... ولله في إِعلاء تُتْبته سِرُّ وكم لصلاح الدين، مُذْ كان، من ندىً ... إِذا ضوّع النادي به خَجِل العِطْر فيا ملِكاً أَعيا الملوك اقتدارُه ... عَياناً، فقالوا: صغّر الخَبَرَ الخُبْر وقد أَدْنتِ الأَيام مَنْ كان يُرْتجى ... وَكَرَّ غِنى جَدْواك وانهزم الفقر ومدحني بدمشق، وقصدني بقصيدة نسج فيها على منوالي في طلب التجنيس أولها: إِنّ مَنْ أَمرضتُمُ لا يُعادْ ... فاستمعوا عنه حديثاً يُعادْ واستخبروا ريح الصَّبا هل صَبا ... إِلى سواكمْ أَو عنا لحدِّ حاد وهل هواءٌ مُخْبِرٌ عن هوىً ... يُقْصَر، فالوجد به ذو امتداد إِنْ قلّ يومَ البيْن صبري فقد ... أَضحى سَقامي بكم ذا ازدياد ومنها: أَظلُّ من فَرْط ضلالي أَسىً ... أَسأَلُ عن أَخباركم كلَّ غادْ ما ضَرَّكم لو طاف بي طيفكم ... وهل يزور الطيفُ إِلفَ السُّهاد فإِن سمحتم بِسُراه إِلى ... أَسيركم، فلْتأْذنوا بالرُّقاد يا ساكني قلبيَ، يا ساكبي ... ماءً بجفني، يا مُضيعي الوداد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 كيف تجورون على جيرةٍ ... وقد حَلَلْتُمْ منهم في السَّواد ضَنَّتْ سُلَسْماكم بتسليمها ... ولم تساعدنا بوصلٍ سعاد واهاً لوَصْلٍ بالجفا ما وفى ... منكم، وقُرْبٍ بالقِلى ما أَفاد إِذا دنوتم ونأَى وصْلُكم ... سِيّان عندي قُرْبُكم والبِعاد أَبلغتُمُ الأَعداء فيّ المُنى ... ونال منّي حاسدي ما أَراد يا طيبَ أَيامٍ مَضتْ بالحِمى ... وعَيْشنا بالخَيْفِ لوْ كان عادْ مرّ كأِيّام الصِّبا وانقضى ... وكان أشهى من بلوغ المراد وشادنٍ دام ثنائي على ... قَوامه لما تثنَّى وماد ريمٌ رماني بشَبا لحظه ... وصدّ عني حين للقلب صاد جرَّد سيفاً جفنُه جفنُه ... يَزينه من عارِضَيْه نِجاد قد كتب الحُسْنُ على خدِّه ... خطاً له أَسودُ قلبي مِداد ظبيٌ تصيد الأُسْدَ أَلحاظُه ... يا لأُسودٍ بظِباء تُصاد يقتل من أَضحى له عاشِقاً ... ولا يعاف القتل من لا يُقاد يا صنماً كلُّ محبٍّ له ... مِنْ حسنه يعبده أَو يكاد راقت معانيه وأَوصافُه ... فأَشبهت رِقَّةَ ماء الثِّماد دقَّتْ عن الأَفهام حتى حكت ... عبارةَ المولى الأَجلِّ العِماد الواضح المشكل من علمِه ... للخلق، والناهج سُبلَ الرشاد هَداه بل أَهداه ربُّ الورى ... فهو لمن ضلَّ عن الحق هاد جِداله يُنبيك عن خاطرٍ ... يَفُلُّ غَرْبَ العَضْب يوم الجِلاد يا مَنْ غدا دينهمُ واحداً ... واختلف المَذهب والاعتقاد دعوا الدعاوى وإِليه ادّعوا ... فإِنما تقليدُه الإِجتهاد واعتمدوا تسليم ما قاله ... لِتربحوا منه عناءَ العِناد كَبْتُ الأَعادي ما حوت كُتبه ... مِن حِكَمٍ تُحْييه حتى المَعادْ ما روضةٌ غنّاءُ، أَشجارُها ... أَضحى قريباً عهدُها بالعِهاد أَغاثها الغيثُ وأَحيا الحَيا ... ما كان منها قد تعفّى وباد إِذا بكى الغيثُ بها يلبس البنفسَجُ الغضُّ ثِياب الحِداد والقطرُ لمّا عمَّ أَقطارَها ... عمّم بالنبت رؤوسَ النِّجاد وكلُّ غُصن قد نشا وانتشى ... مُنذ تربّى في مُهود المِهاد تختالُ تيهاً بالصِّبا لا الصَّباد ... والزَّهر يُزْهى إِذا له الجَوْد جاد أَبهجَ مما أَوْدَعَتْ طِرْسَهُ ... يَدٌ لَها منه علينا أَياد وخاطر يُشهِدنا أَنه ... أَفصح من ينطِق علماً بضاد يقدَحُ فِكراً ما خَبتْ ناره ... قطُّ ولا تَصْلِد منه الزِّناد أَقلامه أَضحت بها قسمةُ الأَرزاق والآجال بين العباد طاب نِجاداً وزَكا مَحْتِداً ... وشاد بنيان المعالي وساد ومنها: أَيا عِماد الدين يا مَنْ به ... قد راج سوقُ الفضل بعد الكسادْ أَنتَ جوادٌ وِردُ إِنعامه ... واردُه لم يخش يوماً جُواد ومنها: وكيف أُهدي نحوه مِدْحةً ... ولفظها من فضله مُستفاد أَتته في وزنٍ سريعٍ إِلى ... خدمته تسعى بغير اتّئاد رَوِيُّها روّاه إِنعامه ... فما لها، لولاه، قوتٌ وزاد ومنها: فاسلم لعبدٍ أَنت أَنشأَته ... فهْو بما أَوْلتَه ذو اعتداد وعِش، سَمِيّ المصطفى، راقياً ... ذُرى المعالي، والعِدى في الوِهاد المهذب أبو طالب محمد بن حسان بن أحمد بن الحسن بن الخضر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 الدمشقي المولد، اليمني الأصل، كهل من أهل الفضل، عديم المثل، في النظم والنثر الممتنع السهل، الرائق الجزل، له الفصول المسجوعة في كل فن، والكلم المطبوعة بكل حسن، وكلامه بضاعة وعاظ دمشق وقصاصها، وهو مسبوك من إبريز الحكم وخلاصها، محوك من لب المعاني ومصاصها، ونثره كالدر النظيم، يرصعه بالنطق الإيادي، في نطاق كلام العبادي، وله مبتكرات رائعة، ومخترعات رائعة، ومبتدعات مليحة، ومذكرات صحيحة. زارني في دمشق في المدرسة التي أدرس فيها، لمودة يصفيها، في رابع عشر ربيع الأول سنة إحدى وسبعين وخمسمائة. وهو قليل الانبساط في قصد الناس، كثير الاحتراز والاحتراس. فحين ظفرت به شددت يدي عليه، وملت بجانبي إليه، وقلت له: طالما ماطلني الزمان بدين لقائك، وناضلني في دين إخائك، وعاقتني الأٌدار عنك، وراقتني الآثار منك، حتى صدق الخبر الخبر، وحقق النظر الأثر، والآن حين سمح القدر، ومنح الظفر، فنصرف هذه الأوقات إلى اقتناء أقوات الأرواح، وندير بمحاورتك لصرف هم الفضل من مغناك المستلذ صرف الراح. وجاذبته أطراف الكلام، وأعطاني المعاني الحسان الكرام، ونشدت عند إنشاده ضالة الفضائل، وحاورت منه سحبان وائل. فمما أنشدنيه لنفسه من قصيدة: أَظُبىً تُجَرَّدُ من عيون ظِباءِ ... يوم الأُبيرِق تحت ظِلِّ خِباءِ أَمْ أُسدُ خِيسٍ أُبرزت لطعاننا ... ورماحُهُنَّ لواحِظُ الأَطلاء عَلِقت أَسِنَّتُهنّ في عَلَق النُّهى ... منا، فلم تخرج بغير دماء وهززْنَ أَعطاف الغصون فَشُقْننا ... بل سُقْننا بأَزِمّة البُرَحاء والرَّكْب بين أُثَيْل مُنْعَرَج اللِّوى ... والجِزْع، مُزْوَرٌّ إِلى الزَّوْراء تخْفي هوادِجُه البدورَ وقلّما ... تَخْفى بدورُ التِّمِّ في الظلماء ويَلُحْنَ من خَلَل البَراقِع مثلما ... في الدَّجْن لاحتْ غُرَّة ابنِ ذُكاء بين الحواجب والعيون مَصارع العشاق لا في ملتقى الأَعداءِ وقُدود أَغصان الحُدوج كأَنها الأَلِفات فوق صحائف البيداء من كل هَيْفاءِ القَوام مُزيلةٍ ... باللحظ منها عَقْل قلب الرائي تُملي أَحاديثَ الجوى بجفونها ... سِرّاً، وتشكو الشوق بالإِيماء وحديث أَبناء الغرام بحاجبٍ ... أَو ناظرٍ، من خَشية الرُّقباء واهاً لقتلى عِشقِ كلِّ مُذيبةٍ ... بالصدّ قلبَ الصخرة الصمّاء قتلوا بأَسياف العيون، وضائعٌ ... دمُ من يطالب مُقلَة الحسناء وإِذا الهوى سُلَّتْ صوارمُه على ... قلبٍ فصاحبُه من الشهداء ومُهَفْهفٍ نَضِر الصِّبا، ثَنَتِ الصَّبا ... منه كقَدِّ الصَّعْدة السمراء مُتَلثّم بالشمس خَشيةَ ناظرٍ ... يُدميه منه بصارم الإيحاء قمر منازله القلوب، وشرقهُ ... فلك الجُيوب، وغَربه أحشائي سقت المَلاحةُ وَرْدَ روضة خدِّه ... طلَّ الحيا وسُلافة الصّهباء فحماه عن لثم الشِفاه بعقرب ... سوداء، في كافورةٍ بيضاء دبّتْ فأَحرقها الشُّعاع فأَمسكت ... عن سعيها من خيفة الألآء أَمُعيرَ غُصْنِ البان هَزَّة عِطفة ... تيهاً، ورقةَ جسمه للماء ومجرِّداً بيد الجمال على الورى ... هِنْدِيَّ لحظ المُقلةِ الحَوْراءِ أَترى ظهير الدين فيما ينتضي ... عيناك يوم تشاجُرِ الآراء وأنشدني له من قصيدة أولها: أَرأَيت أَحداقاً قُلِبْن قواضِبا ... يَفْلُلْن مُرْهَفَة السيوف مَضاربا تالله ما استصوبتُ رأْي أُولي نُهىً ... جعلوا مديح الباخلين مكاسبا واستمطروا سُحُب الأَكُفِّ فأُمطروا ... نِعماً، ولكن تستحيل مصائبا وقوله من قصيدة في المعنى أولها: أَذكى صَبابتك الخليطُ الرّاحل ومنها: لا أَبتغي عَرَضاً ولا تصحيفه ... والوُدّ منك يقلّ عنه النّائلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 فَعَلام يخضعُ ذو النُّهى لمحقَّرٍ ... فانٍ، وأَيام الحياة قلائلُ ومنها في المدح: ولرمحه وحسامه وسهامه ... رعدٌ وبرق في العَجاج ووابلُ وأنشدني له من قصيدة: هتك الدُّجى برقُ الخيالِ السّاري ... سَحَراً، فنارُ الشوقِ أَيّة نارِ سمحت به خِدَع المُنى فرأَيتُه ... وَهْماً بوحي لواحظ الأَفكار والليلُ ممدودُ الرُّواق مخيّمٌ ... مُرْخٍ ذوائبَه على الأَقطار فكأَنّه الزِّنْجيُّ جرَّ ذُيولَه ... مَرحاً، عليه حُلّةٌ من قار وأَلذُّ زَوْرةِ عاشقيْن تناجيا ... بعد الكرى في خَلْوة الأَستار حيث الجُسوم من الفُسوقِ طواهرٌ ... والفِسق في الأَرواح ليس بعار لا تُخْدَعنّ، فما البدور كواملاً ... إِلا بدور معاقد الأَزرار من كلّ خطّارِ القَوام إِذا انثنى ... أَزرى بقَدّ الأَسمر الخطّار حَمَلَ الدُّجى في طُرَّةٍ من تحتها ... فلق الصباح يضيء للنُّظَّار ومشى يُعربد بالعيون كأَنما ... سُقيت لواحظه كؤوسَ عُقار وَسْنان، في رشَفات بَرْد رُضابه ... حرُّ الجوى وتلهُّب التَّذْكار سلب القلوبَ بوَرْدِ خدٍّ أَحمرٍ ... وسُطورِ مسكٍ لُقِّبَتْ بعِذار فكأَنما أَضحى كمال الدين في ... نهب القلوب له من الأَنصار وأنشدني له في وصف الخصر من قصيدة أولها: قُضُب النَّقا هزَّتْ عليك قدودا ... وأَرتْك آرامُ الخيام خُدودا ومنها: وبمُهجتي مَنْ هزَّ تيهاً قدُّها ... بيد الجمال على النَّقا أُمْلودا هيفاء، جاذَبَ رِدْفُها من عِطْفها ... خصراً، تراه على الضَّنا مَعْقودا دَقَّتْ معاقدُه، ورقَّ فخِلْته ... عَدَماً يصارع في الظنون وُجودا ونقلت له من رسالة وَسَمها: بالنَّسْر والبُلبل فاختصرتها وأولها: طار طائر عن بعض الشجر، وقد هب نسيم السحر، وانفلق عمود الفلق، وانخرق قميص الغَسَق. مشهورٌ بالقَسْر، موسوم بالنَّسْر، والليل قد شابت ذؤابته، وابيضَّتْ قِمّته، وانهزم زِنْج الظلماء، من صَوْلة روم الضياء. والفجر مثلُ عِذار مَنْ صارت له ... سِتّون عاماً بعد حُسن سَواده أَو ثغرِ محبوبٍ تبسّم في الدَّجى ... إِذ زار من يهواه بعد بِعاده وعلا حتى صار روحاً لأجساد السحب، ونديماً لدراري الشُّهُب، وعديلاً للأَفلاك، ونزيلاً للأَملاك. فكأَنّه للشّمس جسمٌ، والسُّهى ... عينٌ، وللمِرِّخ قلبٌ يخفِقُ ولكلّ نجمٍ في السّماءِ شَرارةٌ ... تُردي شياطين الرُّجوم وتحرقُ غابوا لمطلِعه إِليهم واختَفوْا ... ورأَوْه يجمع نفسه فتفرّقوا كأنما أجنحته ركبت من العواصف، واستلبت من البروق الخواطف، وأخذت من رمز الألفاظ، واستعيرت من غمز الألحاظ. كأَنها مُقلة الحبيب إِذا ... خاف حُضور الرقيب أَوحَذِرا أَوحى بها والعيون ترمُقه ... وهماً إِلى من يحبّه فَدَرى منفرداً في طريق طلبه انفراد البدر، متوحداً في مضيق أربه توحد ليلة القدر، كأنه سهم رشق عن قوس القضاء، أو نجم أشرق في أفق السماء. والأرض تحته دخانية اللون، مائية الكون، مستبحرة الأكناف، متموجة الأطراف، كأنه صرح ممرد من قوارير، أو سطح الفلك الكري في التدوير. أَو لجّة البحر إِثر عاصفة ... صافحت المتنَ منه فاصطفَقا فطار عقل النُّوتيّ من فَرَقٍ ... وخرَّ موسى جَنانِه صَعِقا يقبض أجنحته ويبسط، ويصعد إلى السماء تارة ويهبط، يجرح بأسنة قوادمه أعطاف القبول وأطراف الصبا، ويقد الشمأل بخوالف كأنها غروب الظبى، ويفتق بخوافيه جيوب الجنوب، ويخرق بصدره صدر الرياح في الهبوب. فكأَنّ لمعَ البرق خطفُ هُوِيِّه ... وكأَنّ رشْق السهم نفضُ سُمُوِّهِ وكأَنما جعل الرّياح خوافياً ... لجناحه في خفضه وعُلوّهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 حتى أشرف من شرف مدائن الهواء، واطلع من رواشن أبراج السماء، على روض أريض، وظل عريض، وأنهار متدفقة، وأشجار مونقة، وطل منثور، وورد ومنثور؛ ومكان بهج، وزهر أرج؛ وحديقة ندية النبات، وبقعة مشكية النفحات، عنبرية الأرجاء، كافورية الهواء، قد صقلت بمصاقل القطر مرايا أزهارها، وعقدت لرؤوس أغصانها تيجان نوارها، وأكاليل جلنارها، ونشرت النسائم مطويات حللها من سفاطها، ورقصت حور نباتها على سعة بساطها. كليالي الوِصال بعد صُدودٍ ... من حبيبٍ كالبدر بل هو أَبهى إِن رأَيت الغنى ونيل المنى جَمْعاً وقابلتَه بها فهي أَشهى ذات نبات خضر، وماء خصر، ضاحكة القرار، مشرقة الأنوار، وكأن شجراتها عرائس أبرزت للجلاء، أو قباب زبرجد نصبت في الروضة الخضراء، وكأن الفلك دنا إشليها، فتناثرت نجومه عليها. رَوْضٌ أَريض وصوبٌ صائب وحياً ... مُحْيٍ، وغيثٌ مُغيثٌ دائم الدِيَمِ تبارك الله ذو الآلاء كم سَفَرَتْ ... وُجوه أَحكامه للخلق عن حِكَمِ فمن وَرْدٍ فِضّيّ الأَوراق، ذَهبيّ الأَحداق، كافوريّ الصبغة، مسكي الصيغة، مائي الجسم، هوائي الرسم، حاكت الصبا إهابه، وخاطب الشمال أثوابه، وفتحت الجنوب أكمامه، وحسرت الدبور عن وجه جماله لثامه، فظهر في أفق الشجر، كأنه شهب السحر، أو خدود الحور في القصور، ظهرت في غلائل من الكافور، أو أعشار المصاحف ذهبت أوساطها، أو غرر الوصائف عظم اغتباطها أو وجنة الحِبِّ قَرَّت في ملاحتها ... عينُ المُحِبّ فأَبدتْ حُمرةَ الخَجَلِ رقَّتْ فأَيسرُ وَهْمِ الفكر يجرحُها ... فكيف إِن لمستها راحة القُبَل ومن آمن زمردي الإهاب، زبرجدي الجلباب، ذي ورقكأسنة الصعاد، أو كالصفاح جردت للجلاد من الأغماد، قد أخذ خضرة الفلك لوناً، وحلة جبل قاف كوناً، أشبه في اخضراره مرائر قلوب العشاق، عقيب الانشقاق، لروعة يوم الفراق. كأَنه ودُّ مَنْ تمّت مودّته ... باقٍ مع الدّهر لا يَبْلى مدى الأَمد يُهجى إِلى مَنْ له حُسْنٌ يضنُّ به ... أَي قد غسلتُ بماءِ اليأْس منك يدي ومن نرجس كأجفان الملاح، أو كإشراق تبلج الصباح، منكس الأعراق، مطرق الأحداق، قائم على ساق خضرة، ألفية نضرة كأنه مدافات فضة قد رصعت خشية الانفطار، بمسامير من نضار. متشوِّفٌ كالصبّ خوفَ رقيبه ... إِذا حان وقت زيارةٍ لحبيبه فله إِلى جانيه نظرةُ خائفٍ ... منه، وشكوى مُدْنَفٍ لطبيبه ومن بنفسج استعير لونه من زرق اليواقيت، وأخذ من أوائل النار في أطراف الكبريت، أو ثاكلات الأولاد، أظهرن الحزن في ثياب الحداد، أو بقايا قرص في خد وردي، أو أثر عض في عضد فضي، ذي أوراق خمرية، وأعراق عطرية، صاغت الأنداء من الزمرد قوامه، ونسجت الأهواء من الطل أكمامه، وأخذت من نسمات المسك نسمته، ومن أنفاس العنبر رائحته. وكم في الرَّوْض من بِدَع وصُنْعٍ ... وآياتٍ تدل على القديمِ وأَسرارٍ يحار العقلُ فيها ... فليس تكون إِلاّ من حكيمِ ومن غصون تجتمع وتفترق، وتترنح وتعتنق، والنسائم تحل عقد أزرار الزهر، والأهوية تفتح أقفال أبواب الحصر، والشمس تسفر وتنتقب، وحاجب الغزالة يبدو ويحتجب، والعهاد يتعاهد بالقطار أكنافها، والسحب تطرز بالبروق عذبها وأطرافها. وهي آية من آيات الربيع أظهرها للعيان، ومعجزة من معجزات القدير أقامها على الزمان. تُجْلى عرائسها بكلّ مُصَبَّغٍ ... وتميس تحت غلائل الأَزهارِ فكأَنما فَتَقَ الربيعُ لأَرضها ... بيد النسيم نَوافِجَ العطّار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 فوقف في الهواء حين رآها، وقال: هذه غاية النفس ومناها، ها هنا ويلقي المسافر عصاه، وتستقر بالغريب نواه، وفي قرار هذا الوادي يثبت سيلي، ولمثله شمرت عن ساق الجد ذيلي. أين المذهب، وقد حصل المطلب، وأين الرواح، وقد أسفر الصباح! ومن بلغ غاية مراده، لم يلتفت إِلى حساده، ومن نال الأماني، لم يبالي بالمباني. ماء مصطخب الأوتار، وظل ممدود الإزار، وروض يمرح فيه الطرف، ولا يقطعه الطرف، وأزهار كقراضة الذهب، تناثرت من حرارة اللهب، أو كالفضة أخلصها سبك الكير، ونثرت في زوايا المقاصير، أو مصبغات أصناف الحلل، نشرت للناظرين بعد إتقان العمل. وخلوة من واش ورقيب، وبعيد يخشى أو قريب. على مثلها ظلت فرداً أهيم وجداً وأمعن وحدي المطارا فأَستخبرُ الشُّهُبَ النيّرا ... تِ عنها وأَقطع داراص فدارا فبينا هو صافُّ الأَجنحة عليها، ينظر من الأُفق بعين التعجّب إِليها، إِذ سمع صوتعاً من بلبلٍ سِحريّ، على وكرٍ شَجَريّ، يناغي النسائم بنعمة مِزماره، ورَنَّة أَوتاره، ودساتين حناجر كالحناجر، وأَلحانٍ أَعذب من نقرات المزاهر، ينثر دُرّاً من عُقود أَلحانه، ولؤلؤاً من أَصداف افتنانه بين أَفنانه، ويرجّع قراءة مكتوب غرامه، ويتلو آيات حزنه من مصحف آلامِه. ويهتف طوراً بذكر الفراق ... وطوراً بذكر بِعاد الحبيبْ ويغتنم الوقت وقت الوصا ... ل حين خلا من حضور الرقيب فقال هذه غريبة أخرى من غرائب القدر، وعجيبة ثانية لم ترها العين ولا هجست في الكر، وكاسات خمر تدار في الخمر، وعقود سحر تحل في السحر، ونغمة لم أسمعها من ذي منقار، وألحان ما رئي مثلها لسار ولا قار، كأنها ما قيل عن مزامير آل داوود، وتسابيحهم في الركوع والسجود، أو معبد والغريض، يتباريان في الطويل والعريض، أو إسحاق الفريد، يعدل عوده عند الرشيد، أو هزج شداة العجم، أو رجة حداة العرب في الظلم، أو أصوات رهبان الصوامع، أو تلاوة من تتجافى جنوبهم عن المضاجع. نغمة تجلِب السُّرور وتحيي ... ميَّت القلب من ثرى الأَحزانِ وتردّ الشباب بعد ثمانين وتُزري برنَّةِ العيدان ما أُدبرت إِلاّ وقيل اسمعوا دا ... وود يتلو زَبوره في الجِنان ثم هوى إلى القرار، لينظر من النافخ في المزمار، فرأى البلبل يتلو سور بلباله، في محراب وباله، ويرجع سجع ألحانه، في ربع أحزانه. فكأَنه ثَكْلى على ولدٍ ... فَقَدَتْهُ بعد الضَّعفِ والكِبَرِ فلها انتحابٌ حين تذكره ... ينسيك لذّة نغمة الوَتَرِ فقال السلام عليك من طائر صغير حقير، يظهر في صورة كبير خطير، وشاد ظريف طريف، بغير أليف ولا حليف، ذي جسم كأنه سواد خال في بياض خد الحبيب، أو ظلمة حال المحب شاهد وجه الرقيب، أنت صاحب هذا اللحن المطرب، والصوت المعجب، ما أراك إلا صغير الحبة، بادي المحبة، ضئيل الجسم، نحيل الرسم، ليلي الإهاب، ظلمائي الجلباب، تقتحمك العين لحقارتك، وتنبو عنك لصغرك ودمامتك، قد اصفر منقارك لأحزانك، ولبست حداد أشجانك، وصوتك والمسرة فرسا رهان، ونغمتك والطرب رضيعاً لبان. يُثير صوتك في القلب إِن ترنمتَ حُزْنا وتُخجل النايَ حُسْنا ... وتعجز العود لَحْنا وأنا مع عظم صورتي التي حازت خلال الكمال، وأحرزت خصال الجمال، صبحي الريش، لا أتغذى بالحشيش، ذو العمر الذي أفنى لبد، واستنفد الأبد، وقد تعجب منه لقمان، واحتاج إليه فرعون وهامان. ليس للطيور مطاري، عند طارئ أوطاري. أنا ملك الطيور، وسلطان ذوات الأجنحة على مر الدهور، ومالي حلاوة هذه النغمات، ولا لذاذة هذه الأصوات. ولِعمري كذلك الدهر لا ير ... فع إِلاّ مَنْ كان بالخفض أَوْلى ينظر العاقلُ اللبيب بعينٍ ... هي لا شكّ حن تنظر حَوْلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 ويحك! من أين لك هذه الملح المسكية النشر، والمنح العنبرية العطر، جبلتك عنصر هذه الفضائل، أم استمليت طرف أخبارها من قائل؟ فقال له البلبل: يا من سبح في بحر التخليلط وعام، وظن أن القدر يعطي ويمنع بالأجسام، فيعرض عن الصغار ويقبل على العظام.. أما صغري فلا أقدر على تغييره، والأمر للصانع الحكيم في تدبيره، أما علمت أن الأرواح لطائف وهي أشرف من الأجسام، والأجسام كثائف والمعتبر فيها جودة الأفهام، وإنسان العين صغير ويدرك الأكوان والألوان، والإنسان عظيم والمعتبر منه الأصغران: القلب واللسان، ما يكون الدر بقدر الصدف، وشتان ما بينهما في القيمة والشرف، ولا الآدمي كالفيل، وبينهما بون في التفضيل، واللؤلؤ قطر يقع في أعماق البحور، ويعلق بعد ذلك على الترائب والنحور، وليس الاختصاص بظواهر المباني، وإنما هو بلطائف المعاني. وكم من صغير وهو في عين ذي النهى كبير، وفي فكر اللبيب أخي الفضل خطير. وما نطق الفيلُ الكبير بعُظْمه ... وقد نطقت قِدْماً مُقَدَّمة النمِل كذلك ما أَوحى إِلى النَّسر ربُّنا ... وإِن كان ذا عُظْمٍ وأَوحى إِلى النحل وأما النغمة التي قرع طرف سمعك سوط لذتها، ورشق هدف قلبك نبل طيبتها، فإنني رصعت شذرها في عقد ألحاني، على نغم بعض الأغاني. وذلك أن هذه الروضة فجرت أنهارها، وغرست أشجارها، وفتقت نوافج عطرها، وأشرقت مباهج زهرها، وأقيمت عمد قبابها، وعلقت أستار أبوابها، وهيئت على أمر مقدر، لبعض ملوك البشر، فهو يأتيها كل ليلة إذا ولى النهار، وأظلمت الأقطار، وصبغ الليل ثوب الكون بظلمته، فأشبه لباس العباسي في خلافته مع من يختار من ندمائه، ويؤثر من أصفيائه، وقد أشعلت له فيها الشموع، واتقدت بأشعتها الربوع، ونصبت ستائر القيان، واصطفت صنوف الحور والولدان، وأفرغت شموس الخندريس في أفلاك الكؤوس، بأيدي بدور الرهبان ونجوم القسوس، وعقدت الزنانير على الخصور، وأسبلت طرر الشعور، على غرر البدور، ورجعت أناجيل الألحان، وقبلت صلبان الصور بأفواه الأشجان، ونقرت أوتار المثالث والمثاني، وقامت العقول ترقص في قصور الصور والمباني. وينقضي ليلهم في لهو وطرب، وجد ولعب، وهزج ورمل، واعتناق وقبل، وأحاديث كقطع الرياض، ومحادثات كبلوغ الأغراض، حتى يخرج الليل من إهابه، ويعرج على ذهابه، ويسفر الصباح، وقد هز عطفي ذلك الارتياح، وأنا خبير بشد دساتين عيدان الألحان، بصير بحل عرى النغمات الحسان، فمنهم تعلمت طرفها، وشددت وسطها وطرفها، وصرت فيها إلى ما ترى، وعند الصباح يحمد القوم السرى. فقال النسر: إنك سقيتني بحديثك أسكر شراب، وفتحت لي بأخبارك أغرب باب، كيف السبيل إلى المبيت لتعلم هذه النغم الشهية، والفوز بحفظ هذه الأصوات الأرغلية؟ فقال البلبل: بالجد والاجتهاد، تدرك غاية المراد، وبالعزمات من استوطأ فراش الكسل، وأم العجز أبداً عقيم، والخمول لا يرضى به إلا مليم، وبالحركات، تكون البركات، وثمار السعود، لا تطلع في أغصان القعود، وبالهز تسقط الثمار، وبالقدح توجد النار، والحياء توأم الحرمان، والهيبة والخيبة أخوان، ومن هاب أَمراً ثم لم يك مُقْدِماً ... عليه بصدق العزم والقول والفعلِ يفوت ولا يعطيه منه مُرادَه الزّمان، وبعد المَقْر يُجنى جَنى النحل إِذا تقوست قامة النهار، وجعلت رجل الشمس في قيد الاصفرار، وولت مواكب النور، لقدوم سلطان الديجور، وأنارت روضة السماء بزهر الكواكب، وطلعت الشهب فيها من كل أفق وجانب، فأت إلى هذا المكان، عسى أن تسعدك بمطلوبك عناية الزمان، واختف عن رامق يراك، فإنه أعون على مبتغاك، وإياك أن تقول: إن قدر شيء وصل، وإن كان في الغيب مقضي حصل، فكم قد غر سراب هذا المقال من العقال، وما حصلوا إلا على الآمال. ومُدْمِنُ القرع للأَبواب منتظرٌ ... بكثرة القرع للأَبواب أَن يلِجا فانهض إِذا ضقت ذَرْعاً بالأُمور ولا ... تقعد، وقم مستثيراً وانتظر فرجا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 فلما سمع النسر مقاله ودعه وطار، وقال لعل في الانتظار، بلوغ الأوطار. وأثبت في نفسه الرجوع، وقال أمنع عيني هذه الليلة لذة الهجوع، وقال أصبر على العذاب الأليم، ومن طلب عظيماً خاطر بعظيم، وبالصبر يحلو صاب المصاب، وبالجلد تصاب أغراض الصواب، ومن لم يتحمل أعباء الأثقال، ولم يصبر لصعاب الأهوال، تكدر صفاء مسرته وقعد قائم سعادته، وخذله الزمان، وقتله الحرمان. ثم سقط على بعض الأشجار، متوخياً بزعمه مضي النهار، وأدركه الليل فنام، وغرق في بحر الكرى وعام، وكلما حركت سواكنه داعيات الطلب، وأقامت قاعدة مزعجات الأرب. قال: الليل بعد في إبان شبابه، ولعله ما جاء الملك مع أصحابه، وساعة تكفي العاقل، ولمحة تشفي الفاضل، وكثرة الحرص سبب الحرمان، وربما أفضت فوارط الطلب إلى الهوان، واغتنام راحة ساعة من العمر، فرصة جاد بها بخيل الدهر، وكم نائم حصل مراده، وساهر أخطأه إسعاده. ولم يزل في رؤيا أحلام الأباطيل، وإقامة المعاريض الفاسدة التأويل، حتى وضح فلق الصبح من مشرقه، وتمزقت عنه جلابيب غسقه، وبدا حاجب أم النجوم، وامتدت أشعتها على التخوم، فتنبه من رقدة غفلته، وطار من وكر جهالته، وأم روضة البلبل طائراً، ونزل عليها دهشاً حائراً، وقد تفرق جمع الملك في السكك، تفرق الشهب في الفلك، وغلقت أبوابها، وتفرقت أصحابها. فقال له البلبل: يا هذا! ما الذي شغلك حتى أشغلك، وما الذي مناك، حتى عدمت مناك؟! وأن من شد وسط اجتهاده، وصل إلى بلوغ مراده، وبصدق الطلب، تدرك قاصية الأرب، ومن ركن إلى إطالة البطالة، استحالت منه صورة الحالة، والليل مطايا الأحرار، إلى بلوغ الأوطار، ونجائب ذوي الألباب، إلى بلوغ المحاب. فلما أكثر البلبل على النسر العتاب، وانغلقت عنه أبواب الصواب، ودعه وطار، وقد عدم الأوطار. وكذلك حال ذوي الأحوال، ومن له دعوى الصدق في المقال، والعقال يؤاخذون بخطراتهم، ويطالبون بعثراتهم، ويهجرون لأجل لحظة، ويقطعون بسبب لفظة، ويتكدر عليهم مشرب أوقاتهم لأجل هفوة، ويمر حلو خلواتهم بأقل جفوة، فكيف من تفرش له فرش الغفلة، ويتوسد وساد حب المهلة، ويلذ له كرى اللعب والبطالة، ويستمرئ مرعى الغي والجهالة، ويعتقد أنه بمثل ذلك لا يطالب، وعلى مثل ذلك الحال لا يعاتب، هيهات إن سعداً لغيور، وإن الله لأغير من سعد، نامت عين الخليل، فأمر بذبح إسماعيل، ونام يوسف متلقياً لأسرار الغيوب، ففرق القدر بينه وبين يعقوب، ونام محمد صلى الله عليه فقيل له: يا أيها المدثر، قم فأنذر. نحن لا نرضى لبعض أصحابك بالمنام، فكيف نرضاه لك وأنت سيد الأنام. وأم هذه الرسالة بفصل وعظي ليس من شرط الكتاب. الأمير يغمر بن عيسى ابن العكبري من موليد الأتراك بدمشق وأمرائها المعروفين. لقيته بدمشق، وهو ذو فضائل مقرظة، وشمائل حلوة وفظنة متيقظة. شاب من جملة الأمراء شجاع مقدم مقدام متظرف، من الأدب متطرف. خان أمله، وحان أجله، وفل الشبا الطرير من شبابه الطري، وجرى القدر بأفول كوكبه الدري، وكبوة جواده الجري، وذلك في سنة ثمان أو تسع وخمسمائة، وأخلفت وعود رجائه، وذوى عود بهائه. وجدت رسالة له بخطه ذكر فيها ما يتضمن معاشرة الإخوان، وتعب الزمان، والحث على اغتنام الفرص، ووصف الصيد والقنص، وشرب المدام، وتقلب الأيام. ونقحناها وصححناها، وحذفنا منها وأصلحناها، وكللناها ورصعناها، وأوردنا منها ما وقع الاختيار عليه نظماً ونثراً، وأحيينا له بإيرادها ذكراً. وهي: للصبا أطال الله بقاء مولاي الأخ الكامل الفاضل، روح جسد الإخاء وقلبه، وحلى معصم الصفاء وقلبه، ومدار فلك الوفاء وقطبه، وختام رحيق الحياء وقطبه، ويتيمة جيد الفضل وعقده، وفريدة حبل الطول وعقده، ويمين شخص البراعة وشماله، وجنوب مهب الشجاعة وشماله، وإنسان عين الزمان، والملاذ به من الحدثان. أَخ لي على جَوْر الزمان وعَدْله ... وعوني على استهضامه واشتماله إِذا غالني خَطْبٌ وقاني بنفسه ... وإِن نالني جَدْبٌ كفاني بماله فتىً جعل المعروف من دون عِرْضه ... ولم يقتنع عنه بزُرْقِ نِصاله أَباد أَعاديه بغَرْبِ حُسامه ... وجاد لِعافيه بسَيْب نَواله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 كريمٌ فما الغيثُ الهَتون إِذا همى ... يُباريه باسْتهلاله وانْهماله وكما الرِّزق إِلاّ من طَلاقةِ وَجهه ... وما الموتُ إِلاّ لمحةٌ من جَلاله وما البحر إِلاّ قطرةٌ من مَعينه ... ولا البدر إِلاّ دُرّةٌ من كماله وما العلمُ إِلاّ لفظةٌ من مقاله ... ولا الفضلُ إِلا خَلّةٌ من خِلاله وما الأَرض إِلاّ حيث مَوْطِئ نَعْلِه ... ولا النّاس إِلاّ من ذَوِيه وآله فلا زال مَعْمورَ الجَناب مُسَلَّماً ... ولا زالت الأَقدارُ طَوْعَ مقاله رب الفصاحة ومنشيها، ومعيد السماحة ومبديها، أخي المكارم وخدينها، رأس المفاخر وعرينها مسلماً من أوقات الزمن، معصوماً من إحنات المحن، ذا صبوة يؤذن باجتلاب السرور معينها، ويذعن لانتصاب الحبور معينها، ويحدو إلى اغتنام العمر حاديها، ويشدو بغرام الدهر شاديها. إذ هو دهر تدل أفعاله على غدره، وتنبئ أقواله عن مكره، يسترد ما وهب، ويعيد ما نهب ويفرق ما ألب، ويحمق من أدب. نَكِدٌ يُشتِّتُ ما التأَمْ ... وَيَلُمُّ شَعْباً مُنْثَلِمْ ويُكَدِّر الصافي ويمْزُجه لِوارده بِدَم ويُغِضُّ إِن هَنّا وليْس يفي وإِن أَعطى الذِّمم ذو النَّقْص مَرزوقٌ لديْه وذو الفضائل قد حُرِمْ فالحازمُ اليقِظُ الذي ... بعُهوده ما يَعْتَصِم ويفوز بالعيش اللذيذ وللمسرَّة يَغتنم من قبل أَن يُمْسي ويُصبحَ في حساب ذوي الرِّمَم وينالَ قِسْم تُراثِه ... عَصَباتُه وذوو الرَّحِم فاللبيب من انتهز فرصة، قبل أن تصير غصة، وبذل في نيل آرائه جهده وحرصه، وأنفق فاضل شبابه قبل أن يعاين فيه نقصه، قبل أن يصير ما كنزه لنفسه، وما أحرزه عن نابه وضرسه، بعد حلوله في رمسه، مأكلة لزوج عرسه. أيقظنا الله وإياك عن سنة الغفلة، ووفقنا لاستخدام المهلة، وأعاننا على دنيا لا يدوم نعيمها، ولا يبرأ سقيمها، ولا تندمل كلومها، ولا يسلم سليمها، غرارة تضل مبتغيها، مكارة تخيب روادها ومنتجعيها: دارُ سوءٍ فما تقيم على حا ... لٍ ولا تستقيم في الأَفعالِ طبعها اللُّؤْم والخِلابة والحِقد ونقضُ العُهود والأَحوال وانتزاعُ الغِنى بنازلة الفقر وحُلْوِ النَّعما بمُرّ الزوال فالأَريب اللبيب يستنفد الدنيا وأَعراضَها ببذل النوال فليس للمقيم بها مقام، ولا للمنتقم من صرفها انتقام، إلا بمداومة الصهباء، في الإِصباح والإمساء، لصرف الهم عن قلبه بصرف الراح، وجعل قدحه الكبير من الأٌداح، ومباكرة دنه وخماره، ومراوحة عوده ومزماره. ولقد استنفدت كل المجهود، في بلوغ المقصود، فرأيت تحصيل الجار، قبل الدار، والرفيق، قبل الطريق، إذ لا سبيل إلى جمع المسرة إلا بالمصافي من الإخوان، ولا إلى دفع المضرة إلا بالكافي من الأعوان، وفتح الله لي بسادة أمراء، وقادة كبراء، يجزون عن الإساءة بالإحسان، ويقابلون الذنب بالغفران، إن قطعوا وصلوا، وإن خزن عنهم بذلوا، وإن فوضلوا فضلوا، وإن نوضلوا نضلوا، وإن فوخروا فخروا، وإن جني عليهم اعتذروا. عِصابةٌ من سَراة الناس مُنْجِبَةٌ ... صِيدٌ، غطارفة، ليسوا بأَغمارِ غُرٌّ ميامينُ، وصّالون قاطِعَهم ... شُمْس العَداوةِ، أَخّاذون بالثار هُم، إِذا المَحْلُ وافى، سُحْبُ أَمطارِ ... وإِن رَحا الحرب دارتْ، أُسدُ أَخْدار المُنْعمون فلا مَنٌّ يُنَكِّدُه ... والمانعون حِمى الأَعراض والجار والطاعنون وساقُ الحرب قائمةٌ ... والمُطعمون على عُسْرٍ وإِيسار يُغْضُون عَمَّن أَتى ذنباً بِحِلْمِهمُ ... ولا يُجازون عن عُرْفٍ بإِنكار مَناظرٌ حَسُنتْ والفعلُ يَشْفَعُها ... منهم فنالوا بهذا طيب أخبار تراضعوا دَرَّة الإِنصاف بينهمُ ... فما يجول لهم جَوْرٌ بأَفكار تَجَلْببوا بِجَلابيب المكارم والآداب لكنهم عارون مِنْ عار من تَلْقَ منهم تَقُلْ لاقيتُ سيِّدَهم ... مثلُ النجوم التي يسري بها الساري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 آراؤهم سديدة، وأنباؤهم رشيدة، وأقوالهم مفيدة، وأفعالهم حميدة، وطرائقهم مستقيمة، وخلائقهم كريمة، يجودون إن ضنت الغيوم، ويكتمون السر إذا أذاعه النموم، وينيرون إذا جن الظلام، ويجيرون إذا جارت الأيام، ويغدقون إذا غبر العام. فَصِرْتُ من عَقدهم، وانتظمتُ في عِقدهم، فرأَيت كلاَّ منهم قد حاول من هذا الأَمر ما حاولت، وتناول في تحصيله أَكثر مما تناولت، وأجمعت آراؤهم على ما رأيت، ووافقت رواياتهم ما رويت. فلما اتفقت الشهوات، وزالت الشبهات، شرعنا في استدامة المدام، وأتبعنا الليالي فيها والأيام، لا نفيق من صبوح وغبوق، ولا نسأم من خلاعة وفسوق، ما بين نغم أوتار ودلف راووق، مستوطنين منزلاً للخلوة، وارتشاف القهوة. فاقتضى ما بيننا من اقتراح الألفة والتألف، واطراح الكلفة والتكلف، أن قسمنا الأيام والليالي بيننا أقساماً، فكل يعد في نوبته للاجتماع طعاماً ومداماً، ويعرف يومه وليلته، ويستعمل قدرته، ويستنفد طاقته في إظهار الأفانين العجيبة. ويجمع بين آلات الطرب والطيبة، وساعاتنا بالسرور تمضي، وأوقاتنا بالحبور تنقضي. ولم نزل على ذلك المنهاج، متمازجين بأعدل المزاج، حتى انتهت النوبة إلى سيد كريم من الجمع، ألف حلو العطاء وما عرف مر المنع، فنادى مناديه في نادينا، يجمع حاضرنا وبادينا: إلي، قدموا الحضور إلى المنزل الرحب، وثقوا بالأهل والرحب. فأجبنا المنادي، وحللنا النادي، وولجنا داراً قد دار على المكارم سورها، وأجد بالجد العامر معمورها. فلما اطمأن بنا المكان، وساعد الزمان والإمكان، جاء غلام حسن القوام، عذب الكلام، كأنه بدر التمام، ومصباح الظلام، إذا رنا فالربيب ينظر من عينيه، والقضيب يهتز من عطفيه. ما في الوجود له شَكْلٌ يُماثِلُهُ ... من البرية لا أُنْثى ولا ذَكَرُ تحيَّر الحُسْنُ في تكوين صُورتِه ... وأَظلم النيّران: الشمسُ والقمرُ إِذا تبدّى فبدرٌ طالعٌ حَسَنٌ ... وإِن تثنَّى فغصنٌ ناعمٌ نَضِر قد كمل حسنه وخلقه، وحسن زيه وخلقه، فقال بلسان عذب، وكلام كاللؤلؤ الرطب: عرفتم أيها السادة، ما جرت به العادة، وأكل الطعام، قبل شرب المدام، فاعزموا إذا دعيتم، ولا تأبوا إذا استدعيتم. فنهضنا ملبين نداه، مجيبين دعا، فسار أمامنا، واتخذناه إمامنا، إلى طعام تكل عن وصفه الألسن، ويشتمل على ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، فاعتمدنا مذهب الإيثار، وأكلنا حسب الاختيار، ورفعنا فاضل الخوان إلى الحاشية والغلمان، ثم استحضرنا الطسوت والأباريق، والغسول المتخذ من ماء الورد والمسك السحيق، فغسلنا الأيدي والأفواه، واستعملنا الطيب والأفواه. فلم نلبث حتى أقبل غلام أحسن من الأول وصفاً، وأكمل رشاقة وظرفاً. مُهَفْهَفٌ جَلَّ حُسناً أَن تُكَيِّفَه ... في الخَلْقِ دِقَّةُ أَفهامٍ وأَفكارِ حاز الجمال فكلُّ الخَلْق يَمْنَحُه ... مَحَبَّةً بين إِعلان وإِسرار في وجهه آيةٌ للحُسن باهرةٌ ... جَلَّتْ فَذَلَّ لديْها كلُّ جَبّار تمازَجَ المِسْكُ والكَافور واتفقا ... بِوَجْنَتَيْه ولاذ الماءُ بالنّار قد تحلى بالجمال، وتردى بالكمال، سكران من خمرتي صباً ودلال، يتمايل كأنه غصن عبثت بعطفيه ريحاً صباً وشمال، وفي يمينه ثلاثية ذات شعاع ونور، وفي يمينه كأس من بلور. حَمْراء في كأْسها السَّرَّاءُ تَطَّرِدُ ... فما تَحِلّ بها الضَّرّاءُ والكَمَدُ كأَنَّها جذوةٌ قد ضمها بَرَدُ ... إِذا صببتَ عليها الماءَ تتقدُ يسعى بها شادِنٌ أَلمى أَغَنُّ كحيل الطَّرْفِ نمّ به التَّوْريد والغَيَد فقال بلسان فصيح، وكلام عذب صريح، ولفظ مليح، ومعنى رجيح: السلام عليكم يا مسرة نفوس الأوطان، وقرة عيون الإخوان. فقلنا: وعليك السلام يا بدعة الزمان، ومجمع الحسن والإحسان، ويا مفحم قس وسحبان، فقال: اعلموا أحلكم الله دار الأمن والأمان، وأمتع ببقائكم الإخوة والندمان، أني رسول إليكم من جامع اللذات والأفراح، ومحلها في الكاسات والأقداح، بنت الكروم المنقذة من الهموم، المفرحة على الخصوص والعموم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 راح لا يلوذ النصب بساحتها، ولا يكدر التعب صفو راحتها، ولا يحل الحزن بدارها، ولا يطفئ الماء ضوء نارها. بكر ما أيمت، ومرة حلت لما حرمت، كلما عتقت زادت جدة، وإذا كسرت بالمزج ازداد حدة، قد قصر عن وصفها الواصفون، وحار في إدراك نعتها العارفون. وأنا أقول بلسانها، والذي في يدي عنوانها، وها هي الآن قد برزت من خدرها، وتجلت بحبابها لا بدرها، وقد أنالتكم رضاع درها، وأعفتكم من وزن جذرها، وكفي تدعوكم إلى نفسها، وتمنحكم ثمار غرسها، وتبيحكم حمى مسها وتنبيكم أن هذه ليلة عرسها، فهلموا، وألموا. وتقدم فسرنا خلفه، واجتنبنا خلفه، وهو ينحرف إلينا كالظبي الغرير، ويتعطف لدينا كالغصن النضير، ويشرق علينا كالبدر المنير. فأدخلنا مجلساً صغر عندنا ما رأيناه، وأنسانا كل ما رويناه. مجلِسٌ حُفّ بالسَّنا والسَّناءِ ... بايَعَتْنا فيه يدُ السرّاءِ في زمانٍ صفا وراق ورقّ الجوُّ لما وافى نسيمُ الهواء وكسا رَبْعَه الربيعُ وحلاّ ... هُ بلون الصفراء والحمراء ضاع عَرْفُ الصَّهْباء والوقت والنَّدْ ... مان فيه وطيبُ نَشْر الكِباء فبلغنا كلَّ المُنى والأماني ... وغَنينا عن الغِنى بالغِناء وشُغِلْنا عن القَنا بالقَناني ... والتَهَيْنا عن الظُّبى بالظِباء وانْعَكفنا على ارتشاف دم العنقود ضَرْباً عن قصد سفك الدِّماء بين إِخوان نَجْدةٍ وأُولى بأْ ... سٍ وفضلٍ ويقظةٍ وحِباء وسخاءٍ وحكمةٍ ووقارٍ ... ووفاءٍ وفطنةٍ وحياء وجمالٍ وحُسْن خَلْقٍ ولطفٍ ... وكمالٍ ونَخْوةٍ وذَكاء قد أطلعت بدر الكمال سماؤه، وأبرزت نجوم الإقبال أفناؤه، وحف بالنور والنور، والورد والمنثور، ونضد بالزهر والريحان، بين الحور والولدان، بكؤوس مدام كالأرجوان، بين اتفاق أوتار، واختلاف ألحان. وهم يسكرون بكاستهم قبل كاساتهم، وبسوالفهم لا بسلافاتهم، فناول كل واحد رطلاً، ولم يترك أحداً منا عطلاً، وقال: باكِرْ كُؤوسك يا نديمي ... وذَر الوُقوفَ على الرُّسومِ واشرب هنيئاً واسقِني ... كأْساً تُريح من الهُموم بِكراً مُعَتَّقَةً وِلا ... دَتُها من الدَّهر القديمِ من قبل مَهْبِط آدمٍ ... والكونُ في دار النعيم حمراء يُشرِق نورها ... في ظُلْمة الليل البهيم وتَخال نَظْمَ حَبابها ... في كأْسها زُهرَ النُّجومِ من كفّ أَحورَ يَنْثني ... كالغصن من مَرِّ النسيم رشأٌ مَلاحته تُحَيِّرُ كلَّ ذي لُبٍّ سليم أَحوى أَحمٌ عليه جلْباب النَّضارة والنّعيم في مجلسٍ مُسْتَنْزَهٍ ... ما بين كاعبةٍ ورِيم ونحن ما بين قيام وقعود، واشتمام رائحة ند وعود، واستماع ناي وعود، إلى أن أخذت الراح منا بعض حقها، وصرنا في قبضتها وتحت رقها، وتقضى أكثر النهار، ولاح علينا دلائل الفرار، وهدأت منا النزوة، وبان فينا الفتور والنبوة، ومالت الرؤوس طيباً وطرباً، وارتاحت النفوس عجباً وعجباً، فحينئذ قر لنا القرار، واطمأنت بنا الدار، فتذاكرنا الأخبار، وتناشدنا الأشعار، فقام فينا سيد القوم خطيباً، وأوسعنا لوماً وتثريباً، وعنفنا بالوعظ، وأغلظ في اللفظ، وقال: يا غافلين عن الزمن الأنيق، والعيش الرقيق، أما تستمتعون ما سمحت به يد الزمان البخيل، وتستلذون المقام قبل الرحيل. ثم تناول رطلاً كبيراً، وأطرق يسيراً، ونظر إليه شزراً، وأطال روية وفكراً، فتطاولت إليه الأعناق، ورمقت نحوه الأحداق، فقال: أُنطر إِلى الماء فيه النّار تلْتهبُ ... كأَنه فِضّةٌ قد شابها ذَهبُ واستغنم العيش واشربها مُعَتَّقةً ... وانهب زمانك واللَّذاتُ تُنْتَهَب من كفّ أَحورَ في أَجفانه مَرَض ... به قلوبُ ذوي الألباب تُسْتَلَب أَحمّ أَحوى رَخيم الدلّ مُنْفرد ... في حسنه، وإِليه الحسن يَنتسب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 للخمر من ذاته وصفٌ يشرِّفها ... ما لا يجود به من مائه العنبُ من خدِّه لونُها القاني، وسكرتُها ... من ريقه، ولها من ثغره حَبَبُ ونادى بلسان قد أطلقته النشوة، واعتقلته القهوة: يا إخوتي اشتغلوا بالعقار عن إنشاد الأشعار، وبسماع الأوتار، عن اتباع الأوتار، وبالإصغاء إلى الألحان، عن البكاء على من نفد عمره وحان، وتأملوا بدوراً يحملون شموساً، ويجلون لديكم عروساً، ويديرون لديكم خندرياً، ويغادرون رسم العقل بها دريساً، ويحيون بقتلها مزجاً مهجاً ونفوساً، إن أقبلوا فالبدور متجلية، وإن انثنوا فالغصون مائلة مستوية. وانظروا شعوراً زينها التجعيد، وخدوداً طرزها التوريد، وعيوناً صحتها السقام، ويقظتها المنام، ونظرتها الحمام، ولحافظها السهام، وأصداغاً مبلبلة، وقدوداً معتدلة، وأفواهاً ضمنت مسكاً وكافوراً ودراً ومداماً، وشفاهاً ضمنت شفاء وطيباً ومداماً، وخصوراً توشحت بالنحول، وأردافاً استغنت بالعرض عن الطول، فتلقينا قوله بالقبول، واشتملنا على ارتضاع در الشمول، وعدلنا إلى مشاهدة الشهود العدول، إلى أن بعث الليل رسوله، وأرخى علينا ذيوله، وزحف بعساكره، وخيم بدساكره، فنورنا ظلمه بغرر الجمع، وطعنا بهمه بأسنة الشمع. ولم نزل كذلك إلى أن هب النسيم، وسكر النديم، ورق من الليل الأديم، وامتد الضياء ولاح، وغرد الطائر وتاح، وانفرقت طرة الظلام عن جبين الصباح، ونادى المؤذن: حي على الفلاح، ونحن ما بين قتيل من كاسه، صريع من نعاسه، ساه عن جلاسه، لاه بوسواسه، همود جمود خمود، لا نسمع لنا ركزاً، ولا يكلم بعضنا بعضاً إلا رمزاً. غيَّبَتْنا شواهدُ الصَّهْباءِ ... وتلاها سَماعُ طيبِ الغِناء فبقينا صَرْعى سماعٍ وسُكْرٍ ... واعترانا خَطْباً بَقاً وفَناء مَنْ رآنا رأَى مناظر أَموا ... تٍ وفينا مَخابر الأَحياء قد كملت أدوات الفرحة، وعزمنا على الصبحة، إذ طرقنا مخبر، وبما شاهده لنا مبشر. فسألناه عن قصته وما رواه، وحقيقة ما عاينه ورواه، فقال: العجائب لا تورد على وهلة، والغرائب تفتقر في وصفها إلى مهلة، والعجول ما يحمد فعله، والرائد لا يكذب أهله. رأيت صيداً لا يصيده إلا الصناديد، ولا يناله إلا الصيد، في مكان لا أصفه إلا بالحصر عن صفته، ولا أعرفه إلا بالجهل عن معرفته. فأصغينا نحوه، ونحونا صغوه، وملنا عن الاصطباح إلى اللاصطياد، وأمرنا بإصلاح الزاد. فحين سفرت الشمس وحسرت نقابها، ورفعت عنها يد النهار حجابها، أسرجت الخيول، وأجريت كأنها السيول، واستصحبنا كل جارحة وجارح، وركبنا كل سابحة وسابح. فمن أدهم اجتاب برد الليل واتخذ الصباح غرة، وأحمر لبس قميص سهيل يملأ القلب مسرة، يسبقان في الشوط هبوب الرياح، ويطيران لوقوع السوط بغير جناح، ومن أشقر كلون المريخ أديمه، قد تم خلقه وكرم خيمه، وأبلق امتزج الليل فيه بالنهار، مأمون العثار، ميمون الآثار، لا يعرفان الوجى، وما ركبهما إلا من نجا. ومن أشهب موشي الإهاب، كأنه مشيب من باقي شباب، وأصفر كالشمس حين توارت بالحجاب، وكلون الحبين عند معاينة الأحباب، يفوتان البرق في لمعانه، ويفوقان الطائر في يطرانه. ومن كميت كالكميت لوناً وصفاء، وورد كالورد احمراراً وبهاء، ومن حصان كحصن، أو برق في مزن، ومن حجر ذات حجر، كأنها سحرة مسفرة عن فجر، ومن خضراء كستها خضرة الفلك أبهى وشاح، وأعارتها الريح سرعة بغير جماح، نادرة العينين، قليلة لحم الفخذين، واسعة المنخرين. ومن بيضاء قدت من فلق الصباح، وحكت ترائب الصباح. جيادٌ تفوتُ الطَّرْفَ سَبْقاً وسُرعةً ... عِتاقٌ عِرابٌ من مَعَدٍّ وعدنانِ يُنالُ عليها كلُّ صعبٍ مَرامُه ... ويغدو لها النائي، إِذا استُحضِرت، دانِ تَمُتُّ بأَنسابٍ كرامٍ، نجارُها ... نِجارٌ قديمٌ من جِياد سليمان ويمنعها من أَن تطير عَرامةً ... إِذا قُرِعَت بالسّوط، فَضلات أَرسان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 طول الدلائل، مشرقات الكواهل، دقيقات السوالف، لينات المعاطف، جَثْلات السَّبائب، قويّات المَناكِب، عظيمات الهياكل، قُبُّ الأَياطِل، تحثّ بنا المسير إلى حيث نصير، فكلما ننتهي إلى غدير، أن نمر بنمير، وقفنا عليه، وشربنا دوراً لديه، وإذا حللنا بمرج أقمنا فيه، ونهلنا القهوة في أرجائه ونواحيه. فما توسط نهارنا، إلا وقد انكسر بالخمر خمارنا، ونشأت نشوة النفوس، وتلاشت الدوخة من الرؤوس. وما حاولنا النزول، حتى قاربت الشمس الأفول، فوصلنا إلى الموضع الذي أعرب عنه، ولم نر أطيب منه، فألقينا به العصا، وما ألفينا من عصا، ونزلنا عن المراكب، إلى المراتب، وآثرنا مفارقة الجنائب، واخترنا مقارفة الحبائب، وقد أجهدنا اللغوب، واضطهدنا الركوب. فنلنا من الطعام، وملنا إلى المنام، في روضة أريضة، طويلة عريضة. أَقامت السُّحبُ فيها غيرَ وانيةٍ ... تَسْقي ثَراها بهطّالٍ من المَطَرِ مُخَيِّماتٍ عليها مُسْيَ ثالثةٍ ... لكنها قُوِّضَتْ محمودةَ الأثر أَدارها الفَلَكُ الدوّار مُحْتفِلاً ... بها فزيَّنَها بالأَنْجُم الزُّهُر زهت أزهارها، وبهر بهارها، وأنار نوارها، مهتزة أعطافها، معتزة أطرافها، صافية نطافها، ضافية أريافها، نضرة أكنافها، عطرة أردافها، قد سلت عليها يد الأفق، سيفاً من البرق، وصوت هنالك الرعد، فوفى له من السحاب الوعد، وحلت السماء أفواه عزاليها، فجادت عليها بكل ما فيها، فاهتزت الأرض وربت، وأخذت زخرفها وازينت، وأنبتت من كل زوج بهيج، وتنسمت بكل نشر أريج، من شقيق كالعقيق، في بهج الرحيق، ووهج الحريق، وأقاح كالثغور، ومنثور كالدر المنثور، وورد كالخدود، وبانات كالقدود، ونفل وحوذان، وشقائق نعمان، وخزامى وأقحوان، ما بين أبيض بقق، وأحمر قان، ضاحك من بكاء الغيوم، مفاخر بناجمات زهره زهر النجوم، دال على وحدانية الحي القيوم، إذا حاول الثناء على الحيا منعه الخجل والحياء، وحصره الحصر والإعياء، فشدا بذكر رائحته، مدحاً لغاديته ورائحته. وهذه في تقريظه وتحميده. قد أحدقت بها أشجار مختلفات الأجناس، مثقفات الأغراس، قد تساوين في الطول والطلل، وتسامين عن المثل والمثل، تسقى بماء واحد ويفضل بعضها على بعض في الأكل. دَوْحٌ زكا فعليه من أَوراقه ... كِلَلٌ ومن أَزهارها إِكليلُ تُصْبي الوَرى منه بدائعُ مَنْظرٍ ... بَهِجٍ يَرُدُّ الطَّرْف وهو كليل تَخِذَتْه أَصنافُ الطيور مواطِناً ... فَلهنّ فيه تنقُّلٌ ومَقِيل وتجاورٌ وتَزاورٌ وتذاكرٌ ... وتَحاوُرٌ وتَشاوُرٌ وهَدِيل شَدْوٌ وتسبيحٌ وبَثُّ صَبابةٍ ... وتسجُّعٌ وترنُّمٌ وعَويل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 كلما هب عليهن الهواء أمالهن كالشارب الثمل، وأدنى بعضهن إلى بعض للضم والقبل، وعطف على كل قضيب قضيبا، كما اعتنق محب حبيبا. والورق قد أخفين بأوراقهن بديع ألوانهن، وهتكن أستارهن بفنون ألحانهن في أفنانهن، ينحن ويبحن، ويغنين ويغردن، ويصدحن تارة ويسبحن، ويعجمن طوراً ويفصحن، كأنهن قينات حجبتهن ستور، أو قينات ضمتهن خدور، يتزاورن بلا رسل، ويتواصلن عن غير ملل، قد أمن المغيب، واطرحن الكاشح والرقيب، وسكن أطيب منزل، ووردن أعذب منهل. وهنالك نهر، كأن حصاه الدر والجوهر، وتراه المسك الأذفر، وماءه من نهر الكوثر، المدخر ليوم المحشر، مغدودق المشارع، سهل الشرائع. فبتنا بها ليلتنا، ونلنا أمنيتنا. فلما تبلد وجه الصباح، نادى منادي الراح: حي على الاصطباح. فقلنا ما قصدنا إلا الصيد، ولا كرامة ولا كيد. ونهضنا إلى خيولنا فركبناها، وإلى آلات القنص فاشتملناها، وإلى الجوارح فجردناها، وإلى المناهل فوردناها. فرأينا صيداً تحار لكثرته الأفكار، وتقصر عن إدراكه الأبصار. فمن أرانب وغزلان، وحبارج وكروان، وحجل ودراج، وطير مما قد هاج، وهي في عدد الرمل والنجوم. فجعل كل صنف من الجوارح جزء مقسوم، فأفردنا الكلاب للأرانب والفهود للظباء، والبزاة للحجل، والشواهين لطير الماء. وسرنا صفاً، كأننا نحاول زحفاً. والظباء في مرابضها نائمات، وعما يراد بها غافلات، في بلهنية من العيش ودعة، وخصب في المرعى وسعة، قد أمنت البوائق، ونسيت العوائق. والأرانب في مجاثمها لبود، تحسبها أيقاظاً وهي رقود. والحجل قد فارق ثبجه، وضيع مدخله ومخرجه، منتصباً على الإكام، لا يفتر عن الكلام، كأنه وامق مستهام، أو طافح خبلته مدام، في غفلة من فتكات القدر، وأمنة من آفات الغير. والدراج قد أخذ في الصياح، لما أحس تبسم الصباح، والبوزجات تجاوبه بالنباح، كأنما الدراج يدعوها إليه، أو كأن الكلاب تطلب ثأراً لديه. وطير الماء في ذلك النهر العجاج، المتلاطم الأمواج، قد شرع في الازداوج، يطرب مع إلفه ويمرح، ويختال عجباً به ويسبح، قد اتخذ الماء معقلاً يحميه، ولا يعلم أن حتفه فيه. فما كان إلا عن قليل، ولا سرنا إلا جزءاً من ميل، حتى نفرت الظباء من مرابضها وكنسبها، مستبدلة منا وحشة بعد أنسها. فمن غزالة تزجي خشفها، وتتشوف حذراً عليه وتقلب طرفها، وتود لو تحفظه وتقيه، وبروحها من البلاد تفديه. ومن فحل قد طار روقاه، واشتد أزره وقواه، وقد تقدم على السرب، كأنه طالب للحرب، غير محتفل بنا يمشي الهوينا ويرعى، ويلتفت تارة إلينا ويسعى، قد اعتمد على السبق في الإباق، وأمن من وشك الطلب واللحاق. ومن ظبيات يرتعن ويلعبن، ويجئن ويذهبن، غافلات عما يراد بهن، غير حافلات بما أتى إليهن. فعمدنا إلى الفهود، وهن خلف الرجال قيام وقعود، فما منها فهد إلا وقد سمي باسم، ووسم بوسم، فاستدعينا طريفاً، وكان خفيفاً ذفيفاً، إذا عدا سبق وميض البرق المتألق، وإذا نزا كان كالسيل المتدفق. كأَنّ الريح حين يلوحُ سِرْبٌ ... أَعارتْه مُعاجَلَة الهُبوبِ يُغير فيجعل النائي قريباً ... ويسلُب مهجة الظبي الرّبيب تُلاحِظ منه حين يَجُول جسماً ... تدرّع حالياً حَبَّ القلوب وجاء الفهاد بفهد نبيل، عريض طويل، صغير الراس، قوي الأساس، يقظ الحواس، صعب المراس، شرس الأخلاق، أهرت الأشداق، قد لبس حلة الأرقم، واقتبس خلة الضيغم، فأخذ جله وبرقعه، ولوهدة من الأرض أودعه، فانساب انسياب الصل مسرعا، وجد لما وجحد إلى مراده مشرعا، وهو يتستر استتار المريب، ويتبع الجري بالتقريب، وكلما حان من السرب التفات، وقف حتى يظن أنه نبات. فلم يزل على كلتا حالتيه، حتى دنا منه وشد عليه، ودخل في جمعه ففرقه، وعمد إلى شمله فمزقه، فطلب كل طريق النجاة، رغبة في الحياة، فما شاف، إلى الأخشاف، ولم يكن إلا أسرع من أن يرد الناظر طرفا، حتى جعل إهاب الفحل ظرفا. فجاء الفهاد إليه، ونزل عليه، وذبح ما صاده، وناوله فؤاده، وقال: ما تقولون في الشبعة، والعمل بمقتضى الصنعة، فقد أحسن الطريف، وصدر منه الفعل الظريف، ولم يبق عليه للذم مكان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان. فقلنا: الرأي ما تراه، فدونك وإياه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 ثم أحضر الفهاد فهدة وحشية، تخال ظهرها حشية، قريبة عهد بالبرية، قد جرعت الوحوش كؤوس المنية، طويلة الرقبة والظهر والفخذين، عريضة الأذنين والصدر قصيرة الساعدين، وجهها عبوس، مستوحشة لا أنوس، قد حل في براثنها البوس، فطريدتها من الحياة يؤوس. وَجْهٌ كأَنّ البدر حالة تِمّهِ ... أَهدى له تدويره وكمالَهُ وَجَناته مَنْموشةٌ فكأَنما ... أَلقى عليها كلُّ خدٍّ خالَه فاعترضتنا شاةٌ وطَلاها وهيَ بعينها تُراعيه، ومن أَطيب النبات تُرْعيه، فاستترنا منها، وتخفَّيْنا عنها، وقلنا للفهّاد: امض وانفرد، واقض واقتصد، فهذا مكان قصير النبات، قليل الشجرات، لا يتهيأ فيه النزول، ولا يمكن للفهد فيه الدخول، فنحن ندور عليها ونردها إليك، ولا شك أنها تطمع فيك وتحمل عليك. فلما عاينتنا وقفت، ولأغنها استوقفت، وهاج بها القلق، وبان عليها الفرق، فتشاغلنا عنها حتى قر قرارها، وسكن نفارها، وخمدت نارها، وتوارى أوارها، وانعكفت على مرعاها، ظناً أنه يخفى مرآها، ليتم ما قدر في الأزل، وتستوفي ما بقي لها من الرزق والأجل. ثم عدنا فيه راغبين، وللفتك بها راغنين، فقمصت مليا، وخلصت نجيا، وطلبت مخرجا، فلم تجد معرجا، فقصدت الجانب الخالي نحو الفهاد، وهو لها ولخشفها بالمرصاد، فلما تمكن من الإرسال، أخذ برقع الفهدة بلا استعجال، وأرسلها فشدت، وقويت واشتدت، فأشفقت الغزالة على خشفها، فرضيت دونه بحتفها، إذ كان غير عارفٍ بالهرب، ولا قادر على التعب. ونظرت مداها، فقصرت خطاها، وتثاقلت في عدوها، وتكاسلت عن نزوها، لتطمع الفهدة في صيدها، وتحظى بسلامة وليدها، ولم تعلم بماذا الدهر دهاها، وبأي فادحة رماها، وبأي لافحة أصلاها، وبأي دمنة طل دم طلاها، فاستقامت الفهدة على العنز، فلم ينجها سرعة العدو والجمز، فتلتها للجبين، وأخذت منها بالوتين، وشغلتها بحينها عن الحنين، وانفرد الخشف كالحزين، يتفلت، ويتلفت، ويتأسف، ويتخوف، فأدركتنا عليه الشفقة، وملكتنا له الرقة، وعزمنا أن نخلي سبيلها، ولا نفرد عنها سليلها، فتراكضنا إليها، وترامينا عليها، فوجدنا الفهاد قد ذكاها، وأباح الفهدة حماها، فقلنا فات ما ذبح، وفاز من ربح. ثم قال: ما ترون في الاقتصار على هذا الطلق، والاقتناع بما اتفق، فالفهود معكم كثيرة، ومدة نهار الصيد قصيرة، وإصلاح الجارح أصلح، والإحسان إليه أربح، فما تركتم فيه وجدتموه، وما شرهتم عليه حرمتموه. فقلنا: افعل ما بدا لك، ودع جدك وجدالك. ثم قدم الفهاد فهداً ربيباً، عاقلاً أديباً، كامل الأنس، كأنه من الإنس، قد هذبت التربية أخلاقه، وأذهبت شقاقه، وحلى الإصلاح مذاقه، فهو ولاج خراج، مهتاج كأنه محتاج، دخال إذا أدخل، نزال إن أنزل، مرواح إن أرسل. يَشُدّ على الطّريدة ثم يَهوي ... فليس ترى به إِلاّ التماحا فيُرديها مُعاجَلَةً كأَنْ قد ... تضمّن كفُّه القَدَرَ المُتاحا له خُلقُ اللّيوث فكلّ وقت ... يزيد على بَسالتها جِماحا وخَلْقٌ تنظر الأَبصار منه ... كأَنّ عليه من حَدَقٍ وِشاحا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 الريح حاسرة في مجراه، والظباء حائرة في مرجاه، قد نقي بياضه، وحلك سواده، وأمن إعراضه، فملك قياده، فأخذنا معنا، والتأمنا واجتمعنا، وجئنا إلى أرض سبخة لا حشيش بها ولا مدر، ولا شيح ولا حجر، وبها قطيع قد نيف على العشرين، ولم يبلغ الثلاثين، فلما قربنا من السرب، طبنا أنفساً بالخصب، ووثقنا بالكسب، وهو في الهرب، ونحن في الطلب، نخشى أن يفوتنا، ونحرم منه قوتنا، فأجمعنا على أن نطرحه وندور عليه، ونرده إليه. فتركنا الفهد من تحت الهواء، ومضينا في طلب الظباء، وهو قد لم بعضه في بعض، كي يخال قطعة من الأرض، وقورنا حتى جئناها من أمامها، كأننا نسوقها بزمامها، فانقلبت على أعقابها، ملتفة بأصحابها، ملتفتة إلى طلابها، ونحن نقودها إلى حتفها، ونذودها عن إلفها، فحين ضيقنا عليها الحلقة والخناق، اعتمدت على الإباق، وأمنت اللحاق، فرماها صرف القدر على الفهد، ووفى له فيها بالعهد، فقام عليها مستطيلاً مغيرا، فخلناه من سرعته برقاً مستطيرا، فأفرد منها عنزاً حائلا، رعت العشب حولاً كاملا، فنظرنا وإذا بالعجاج قد ثار، ودم الأدماء قد فار، فأسرعت بنا إليه الجياد، وقد سبقنا عليه الفهاد، وهو يرقص فرحاً، ويرتجز مرحا؛ ويقول: ما في الحق مرية، وليس بعد عبادان قرية، ولا بد أن نكتفي بالحصة من خلاله وحلاله، ونكفيه الغصة في خطاه وملاله، فالشقي من طمع، والسعيد من قنع، والرزق مقسوم، والحريص محروم، والتلويح يغني عن التصريح، وهل جزاء الجميل غير الجميل، وما على المحسنين من سبيل. فقلنا إليك فوضنا أمره، ومنك نطلب نفعه وضره. فلما قضينا من الفهود الوطر، أفضينا إلى المرج ويممنا النهر، وجعلنا طريقنا مظنة الأرنب، وتقاسمنا لصيدها جياد الأكلب. شَمَرْدَلاتٌ واسِعاتُ الآماقْ ... سُودُ الزلاليم وَشُهْلُ الأَحْداقْ غُلْبٌ مَهاريت طِوالُ الأَعناقْ ... قُبٌّ سَواطٍ شَرسات الأَخلاقْ يلثُمن تُرْبَ الأَرض لَثْمَ المُشْتاق ... كأَنهن يستَمِحْن الأَرزاق للوحش من سُلْطانهن إِفراق ... لا عاصمٌ منها له ولا واق ولا مجيرٌ لا ولا شافٍ راق فجر كل واحد منا كلبا، وتفرقنا كأننا نحاول نهبا، فطفقت الأرانب نافرات، والكلاب لهن كاسرات، فحصلنا منهن على الفرج والنزه، ونكبنا عنهن وتركنا إلحاح الشره. واستحضرنا البزاة والشواهين، وعرضناهن علينا أجمعين. فاستدعى النقيب بالكلاب، فجيء بباز أصفر نقي، شاطر ذكي، طويل عريض، أزرى بلونه على البيض، نادر الأحداق، طويل الساق، قصير الجناح، يسبق في الطيران عاصف الرياح، صحيح سمين، قوي أمين، لا يرجع عن كل ما يرسل عليه، ويسبق حمامه إليه. شَهْمٌ غدا يَزينه اصفرارُهُ ... محمودةٌ في صَيْده آثارُهُ طائرُه لم يُنْجِه فِرارُه ... ولم يُوَقِّ نفسَه فرارُه ولم يردّ فتكه حِذارُه ... كأَنّما سفكُ الدِّما شِعارُه أَو حلَّ في مِنْسره شِفارُه ثم استدعى بالفاره، فأتي بباز أحمر، أسود المنسر، رحب المنخر، مليح المنظر، أزرق الحجر، أسود القفا، أحدب الظهر، شديد القوى حديد البطش والقهر. فاق البُزاةَ بلَوْنِه المتمرّجِ ... وعلا بحمرته على الإصبهرجِ ذو مِنْسرٍ رَحْبِ المَناخِرِ أَسودٍ ... شمطاءُ هامته كرأس الزُّمَّج وكأَنّ زُرْقَة عينه في ماقها ... سَبَجٌ أَداروه على فَيْروزج سَلَبَ العُقاب سَوادَه فتراه من ... كلّ الجاورح حالياً بنَموذج غطراف عريض الصدر قوي الأكتاف، من أحسن الأنواع والأصناف، يحسن النزول، ولا يعرف عما يرسل إليه النكول. ثم استدعى بالفاتك، فجاءوا بالباز الأسود الحالك، قد ادرع بحلة الغراب، وارفتع عن خلقة العقاب، زمجي الراس، قوي الأساس. جَوْنٌ تُلاحِظ منه منظراً حسناً ... له تَصيرُ البُزاة البيض كالرَّخَمِ يَنال حامِلُه من حَمْله تعباً ... يَفِرّ منه إِلى الإِعراض والسَّأَم كأَنّ ما بين هاديه ونَيْفَقه ... تَلَهُّبُ النّار في دِقٍ من الفَحَم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 مقرنص حيل، في كل خصاله مكمل، لا يستنكف من صيد السمانى والحجل، ولا يضعف عن الكركي والحرجل. ثم استدى بالجسرة فحضر زرق أبيض لطيف، رشيق ظريف، كبير الراس، سهل المراس، قد حير عقول الناس، أحمر العينين، قصير الجناحين، غليظ الساقي، حسن الكف، مدور ملتف. مُوَضَّنٌ، كبياض الثّلج ما سمحت ... بمثل صورته كلُّ الأَعاصيرِ كأَنّ حُمْرَة عينيه وهامته ... سُلافةٌ فَضِلتْ في كأْس بَلُّور فانظر إِلى نُقَطٍ في جُؤْجؤٍ لطُفَتْ ... كأَرجل النَّمل في تِمْثال كافور مقرنص بيت، قد سلم من لعل وليت، تصير الطيور له كسيرة، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة. ثم استدعى بالشهاب فأقبل بشاهين بيضاء كافورية، من كل عيب برية، مدنرة الصدر مدرهمة القفا، شيمتها ترك الغدر والأخذ بالوفا. بيضاء كافوريّة اللون ما ... تنجو سباع الطير من كَيْدها إِن أُطْلِقَتْ فالطيرُ من خوفها ... حاصلةٌ بالرّغم في قيْدها وكلُّ ما يعلوه ريشٌ ففي ... قبضتها كرْهاً ومن صَيْدها فكلية الدوران، بريقية الطيران. ثم استدعى بالصاعقة فرأوا شاهين حمراء كالدينار، شديدة الاحمرار، طويلة الجناحين، قصيرة الساقين. بحريّة أَرْبَتْ على العُقْبانِ ... جَلَّتْ عن الأَشكال والأَقرانِ تَرْقى فما تُدْرَك بالعِيان ... الطائرُ القاصي لها كالدَّاني تنقضّ كالنّجم على الشيطان عريضة بعد الأكتاف والصدر، غير متعرضة للخلاف والغدر. ثم استعدى بالمنجنيق فحضرت شاهين صفراء محية، نادرة بحرية، كثيرة النشاط، كبيرة الأقراط، طرية الأرياش، فرية الاستيحاش. بُحَيْرِيةٌ مُحِّيَّةُ اللّوْن طُرِّزَتْ ... بأَفعالها المُسْتحسناتِ نُعوتُها إذا أُرسِلتْ رامت عُلُوّاً كأَنما ... أُعدّ لها في منتهى الجوّ قوتُها فإِنْ نحن أَقلعنا الطيور تحدَّرت ... كصاعقةٍ حِرصاً عليها تُميتها صيدها الخفاف والثقال، وعثرة طائرها ما تقال. ثم استدعى بالحطام فعبر بكرك أسود بحري، حسن سري، مردد ملتف، واسع الصدر قوي الكف. مُشْرَئِبٌ ماضي البراثن ساطٍ ... مُستحيلٌ للطَّيْر منه النَّجاءُ مُسْتَحِلٌّ سفك الدماء فما يسكن يوماً حتى تُراق الدِّماء كم وكم لاذ بالهواءِ عِتاقُ الطّير منه فلم يَصُنْها الهواءُ وكذاك استجار بالماء طير الماء خوفاً فما أجار الماء مشمر عن ساق، كأنه متنمر لإباق، يثب إلى فوق، كأن به إلى السماء داعي شوق. فلما استكملنا العدد، واستتممنا العدد، أخذ كل واحد منا بسباقة بازه وشاهينه، وسرنا على التؤدة والهينة، والسواعد والأنامل، لهن قواعد وحوامل، وحذرنا السهو والتغافل، وتحريق اليد والتراسل، وكل من طار بين يديه طائر أرسل عليه، والباقون ينظرون إليه، والبوزجات على الخيل قيام وقعود، كأنهن فهود. فمِنْ أَبيضٍ ساطس أَقبَّ شَمَرْدَلٍ ... يفوق بياضَ الأُقْحُوان المُنَضَّدِ ومن أَبلقٍ يلقى العيونَ بحُلَّتَيْ ... بياضٍ نقيٍّ واحمرارٍ مُوَرَّد إِذا طائرٌ رام النَّجاة تبادرا ... إليه كسهمَيْ قوسِ رامٍ مُسَدّد فإِن غاب شمّا التُرْبَ قصّاً كأَنما استعانا عليه بالدّليل المُجَوِّد فهي تنظر طائراً تبيره، أو كامناً في نبجة تثيره، فطار بين يدي صاحب الزرق حجلة، وارتفعت إلى السماء فأرسله، فلزم لها وجه التراب ينظر إليها بإحدى عينيه شزرا، ويخفي نفسه عنها نكراً، فلما بعدت همت بالنزول، وأرخت رجليها، فنزا طالعاً إليها، فلقفها ونزل، وحسن فيما فعل، وسارع صاحبه إليه، وذبح في رجليه، ولم يقم حتى أشبعه، وبالشقة رفعه، وقال: ما كل من وعد وفى بالوعد، وليس في كل واد بنو سعد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 ثم طار عن يسار صاحب الباز الأصفر فحل دراج وعلا، ولحق بأعنان السماء فأرسله عليه فتواطى واعتنق الكلا، يجر فاضل سباقيه، ولا يفتر من النظر إليه، فعاين الدراج مدرجا، ورأى نبجا، وعزم على النزول به، طمعاً في حمايته وتأشبه، وشآه الباز محلقا، وتلقفه متعلقا، فقال صاحبه قد حصل، فقرط من كفه ونزل، وولج النبج، وأقسم أن لا يخرج، وانغمس الباز معه في العوسج، انغماس القرم المحوج، فدنا منه صاحبه وقرب، وأقام يده له فركب، فصرنا بأجمعنا نطلبه، وألقينا الكلاب لعلها تجذبه، وهن ينشقنه، كأنهن يشتقنه، ينبحن ويشخرن، ويبصبصن بأذنابهن ويكشرن، وقد قاسين محنا، كأن له عندهن إحنا، فعجبنا من كيده، وعجنا عن صيده، والكلاب تشم رائحته ولا ترى له جرما، كأنما أتى إليها جرما، تجد الفتك به غنما، والترك له غرما، فوقفنا حوالي النبجة، ونظرنا من خلال العوسجة، فإذا هو فيها كامن، وبها واثق آمن، فوكزناه بمنسأة فطار، وعجل الفرار. فأرسل الباز في كتفه، فأذاقه مر حتفه، ونزل عليه، وذبح في رجليه، وأطعمه ما اشتهى، وخلص منه الباقي لما اكتفى، وتمثل بقول من نطق بالحكمة، ما كل بيضاء شحمة. وانحرفنا فأقلع من ورائنا ديك حجل، كمذعور وجل، يجد في الطيران، مرتفعاً إلى كيوان. فنام الغطريف له ففتح يده عليه وأرسله، فخرج مبرياً إليه وواصله فحصله، فأعجبنا ما رأيناه، وعوذناه بالله وفديناه، فمضى صاحبه وذبح في كفه، وأشبعه إلى أنفه، وقال: ليس الخبر كالعيان، ماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدان. وسرنا فرأينا من بعد أشباحا، فقربنا إليها ارتياحا، فألفينا كراكي، كأنهن بخاتي، واقفات على غدير الماء، متعلقات على المرعى، فرمقننا بأحداقهن، وتطاولن بأعناقهن، ولما رآهن صاحب الباز الأسود ستره، وما أظهره. فقام الباز على دابرتيه إليهن، وحملق عينيه عليهن، فقال: أرى بازي تقاضاهن، لما ضاهاهن فما ترون في الإرسال، وعلى نتكل في جميع الأحوال. فقلنا: بازك قادر، وأنت به خابر، فأرسله إن قوي العزم، وأسرع فهو الحزم، فأنزل يده له فسقط عنها كالورقة، يفتح جناحيه ويقلقهما كالبوتقة، وأطلق فرسه، خلفه ليحرسه. فأقلعن، وعن الأرض ارتفعن، فحصل بينهن، وقصد حينهن، وسلب أكبرهن وأصلبهن، فصار صاحبه إليه، وجعل رجله على رجليه، وفتح فكيه، وذبح في كفيه وكتف جناحيه، وناوله رأسه وأشبعه عليه، وهو يقول: زاحم بعود أو دع، إذا قالت حذام فصدقوها، إن الجبان حتفه من فوقه. وانتهينا إلى مظنة طير الماء فوجدنا نقيعاً كبيرا، وطيراً كثيرا، فتقدم الذي على يده الشهاب وصفر لها، وخلى سبيلها، فدارت أضيق حلقة، وأخذت أوفى طبقة، ولحقت بالحبك، ولاحقت قبة الفلك، فأقلعنا إليها الديازج مع الملاعق، فانقلبت أسرع من نزول الصواعق، فزجت ديزجا وعلقت ملعقا، فجاء وشق لها جنبه، وأطعمها قلبه، وقال: الخير لا يؤخر، والمحسن بالإحسان إليه أجدر، فقلنا له: رأيك صائب، ومخالفك خائب. ومشينا قليلا، فألفينا فيضاً عريضاً طويلا، وعاينا طيراً مهولا، فأرسل الصاعقة عن يده فأسرعت في الدوران، وارتفعت في الطيران، كأن لها في السماء أربا، أو كأن بينها وبين الملائكة نسبا. فطيرنا لها الذكور والإناث، واعتمدنا في إطارتها الاستحثاث، فانقلبت أسرع من الكوكب المنقض، والشؤبوب المرفض، فصادت أنثى، فعاد فحلها إليها حثا، ليخلصها منها، ويذود دونها عنها، وجاء إليها ضرباً بالجناحين، فلم يعلم أنه جان جنى الحين، فعلق الشاهين برجله رأسه، وجرعه من الحتف كأسه، فأسرع صاحبه النزول، وذبحهما وهو يقول: على مثل ليلى يقتل المرء نفسه، ما كل غانية هند، فتى ولا كمالك، لكل مقام مقال، ولكل مقال رجال، ولكل رجال فعال، ولكل فعال مآل، وما بعد الهدى إلا الضلال. وسقنا فرأينا نهرا، ووجدنا عنده إوزا، فأطلق المنجنيق، فارتفعت إلى العيوق، فأقلعنا لها الإوز، وقلنا: من عز بز. فانقلبت كالبرق الخاطف، بدوي الرعد القاصف، وهبوب الريح العاصف، وقصدت سمتهن، وصارت من إشفاق الغرق تحتهن، وحملت عزة، واحتملت إوزة. فقال صاحبها: كل الصيد في جوف الفرا، والحق ما فيه مرا، وفي اللجاج حرمان، والزيادة ما لها نقصان. وفداها وعوذها، وأشبعها وأخذها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 ثم أتينا إلى ساقية فرأينا فرافير فرفعنا الحطام عليهن فارتفع، ودار وما وسع، يحفظ رؤوسنا، ويطيب نفوسنا، إلى أن غاب عن الأبصار، وتوارى عن النظار، فأشفقنا من أفوله، وشككنا في نزوله، فطيرنا له الفرافير وكانت عشرا، فنزل كأن له عندهن وترا، فصاد واحداً فأخذناه وخلصناه، ثم عدنا وأرسلناه، فأعاد من دورانه أحسن مما أبدى، ثم انقلب إلى الطيور ولآخر أردى. ولم يزل كذلك يصيد ونرفعه، ويحسن وما نشبعه، حتى أتى على الجميع، وأبدع في الصنيع، فعند ذلك وفيناه طعمه، ووفرنا قسمه. ثم عدنا إلى المضارب، لقضاء المآرب، فوجدنا من تخلف من الأصحاب، قد أعد يابس الأحطاب، فأضرمت النيران، وقدم الخوان، وحضر عليه الإخوان، وشرعنا في تناول ما أعده الطاهي وهياه، وحضرنا ما قنصناه فاشتويناه، ثم شرعنا الخيام، وأقعدنا القيام، وأحضرت الراح وآلاتها، ودارت بالأقداح سقاتها، فاجتلينا شموس العقار، من أيدي الأقمار، وحركت الأوتار، وجاوبتها الأطيار، وعلت الأصوات، وحلت الأوقات، والقمر طالع، والماء للنسيم دارع، والغدير لمقابلة النجوم له كأنه سماء، ونحن إلى ما في أيدي السقاة ظماء، نستجلي محياها، ونستحلي حمياها. نستغنم العمرَ والأَقدارُ غافلةٌ ... عنّا، وغَرْبُ شَبا الأَيام مكفوفُ ونقطع الدَّهر ف أَمنٍ وفي دَعةٍ ... وَصْلاً، وطَرْفُ صُروف الدهر مَطْروف وأَطيبُ العيش ما جاد الزمان به ... مُسَلَّما، ليس تعروه الأَراجيفُ فما الحياة ولو طالت بدائمةٍ ... فلا يَغُرَّكَ تعليل وتسويف وما برحنا كذلك إلى أن غرب القمر، ودنا السحر، وكره السهر، فأخذنا من النوم نصيبا، وضاجع كل محب حبيبا، فلام طوى الليل سرادقه، ونشر الصبح بيارقه، انتبهنا من الرقاد، وانتهبنا آلات الاصطياد، وفزنا في اليوم على الأمس بالازدياد. ولم نزل عشرة أيام، في صيد وشرب مدام، حتى مللنا ما كنا فيه، وعزمنا على ما ينافيه، فملنا عن الحركة إلى السكون، وانتقلنا من الصحاري إلى الوكون، وقلنا: إلى متى سفك الدما، والفتك بالدمى، وحتمام نفرق بين الألاف، ونفوق سهم البين إلى الأحلاف، فهل وثقنا بالأقدار، ونسينا تقلب الليل والنهار، وهل أمنا أن نصاب بما أصبنا به، وننتاب بظفر الزمان ونابه، فرجعنا نطلب منازل، خوالي منالمكاره حوالي بالمكارم أواهل، فلما دنونا من العمران، ووجدنا رائحة الأوطان، قال بعض الإخوان: ما ترون في النزول بالبستان؟ فامتثلنا أمره، والتثمنا صدره، والتزلمنا حكمه، وارتسمنا رسمه، ودخلنا إلى بستان، كأخلاق الجان، معمور بالروح والريحان، تتشاجر الورق في اوراق أشجارها، وتنفث في عقد سحرها نفحات أسحارها، وتتجاوب البلابل ببلابل أشجانها، وتتناوب العنادب بفنون ألحانها في أفنانها. فمن فائزٍ بالوَصْل لم يذق النَّوى ... يُناغي جِهاراً إلفَه وينوحُ وراقٍ ذُرى غُصنٍ رطيب فدأَبه ... ينادي إِلى محبوبه ويصيح وذاتِ قرينٍ لم تفارقه لحظةً ... فمِنْ شَعفٍ تغدو به وتروح ومِنْ فاقدٍ إِلفاً يَهيم صبابةً ... إِليه ويُبدي حُزنَه وينوح وانتهينا منه إلى قصر قصرت عن نعته الهمم، وصغرت عنده إرم، شاهق البناء، رائق الفناء، فائق الأرجاء، فاستدللنا بالظاهر على الباطن، ويحسن المسكون على إحسان الساكن، فيه بركة قد حركت راؤها، وفي وسطها فوارة قد ارتفع إلى السماء ماؤها، كأنها رمح قد طعن به في نحر السحاب، فجاد عليها بواكف الرباب، قد أديرت بأكواب وأباريق، مملوءة من سلسبيل ورحيق، فاستوينا في الإيوان، وتناولنا ما حضر من الألوان، وارتحنا إلى الراح، واستهدينا كيمياء الأفراح. فأقبل شادن رخيم الدلال، عديم المثال، منتشي الطرف، متثني العطف، فصيح اللهجة، مليح البهجة، خفيف الخصر نحيفه، ثقيل الردف كثيفه، ساجي اللحظ، شاجي اللفظ، متأود القد، متورد الخد، قد أطلع البدر من أزراره، وأودع الدعص في إزاره. رَشَأٌ يتيه بحُسنِه وجَمالِهِ ... فاق البدور بِتِمِّه وكمالِهِ أَزْرى بكل مُوَحَّدٍ في حُسْنه ... حتى ببهجة شمسه وهلاله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 يسقي الشَّمول بلحظه وبلفظه ... ورُضابه ويَمينه وشِماله فالسُّكر من لحظاته وفُتورها ... لا ما يعاطي الشَّرْب من جِريالِه حيّا فأَحيانا بوَردة خدِّه ... وشدا فأَطربنا بسحر مقاله ريا من ماء نضارة ونعيم، وفي يده كأس مزاجها من تسنيم، فأسكرنا النظر إليه، قبل تناول ما في يديه، وحيانا بنرجس عينيه، وحبانا بورد خديه، فعقرنا الألباب بالعقار، وخلعنا العذار في حب العذار، وقضينا الأوطار بالأوتار، وتوفرنا على معاطاة الشراب، ومناغاة الأحباب، وما توقرنا عن الرضا برشف الرضاب، والاقتضاء بكشف الحجاب. وما زلنا على تلك الحال، حتى استهلت من رجب غرة الهلال، فخالفنا الهوى، وحالفنا التقى، وانتجعنا صوب الصواب، وادرعنا ثوب الثواب، واستدركنا فارط الزلل، وخفنا حابط العمل، ومنينا من تلك الرفقة بالفرقة، ودقعنا من تلك الصحبة إلى الغربة، وتفرقنا في البلاد، وتشتتنا في الأغوار والأنجاد. وهذه سيرة الأيام في الأنام، وفعالها بالخاص والعام، لذتها كالأحلام، ويقظتها كالمنام، جعلنا الله من الفائزين بالخلود في دار السلام. قد كتبت هذه الرسالة على ما بها، ورددت غلطها إلى صوابها. ومن شعره في غير الرسالة قوله في حبيب حرم وداعه، نقلته من خطه: وكنتُ إِذا ذِكْرُ التفرُّق راعني ... أُطمِّن قلبي منكم بوَداعِ فحالتْ أُمورٌ دون نفسي وسُؤلها ... فقنَّعْتها من ذكركم بسماع وقوله يذم صاحباً له: وصاحبٍ لا أَعاد الدهرُ صُحْبته ... صَحِبْتُه، وأَراه شَرَّ من صُحِبا لا يستقيم على حالٍ فأَعرفَه ... ولا يفوه بخيرٍ، جَدّ أَو لعِبا إِن زرتُه قاضياً حقَّ الإخاء له ... غاب احتجاباً وإِن أَهملتُهُ عَتِبا وإِن تنصَّلتُ مما قال مُعتذِراً ... أَبى القَبُول، وإِن عاتبتُه غضبا أبو طالب بن الخشاب وهو عقيل بن يحيى، من أهل باب شرقي من دمشق من عوامها. رأيته شيخاً في دار العدل بدمشق في شعبان سنة إحدى وسبعين. وقد خدم الملك الناصر بقصيدتين. فمما أثبته له من القصيدتين قوله: من لي بِخِلٍّ جائر في حبِّهِ ... أَبداً يعنّفني بكثرة عَتْبِهِ إِنْ بان آلم مُهجتي بِبِعاده ... أَو آب أَوْدعني الأَسى في قُربه لو كان يعلم ما أُلاقي في الهوى ... من صدِّه لانتْ قَساوة قلبه ومنها: والدهر لا يبقى على حال فلا ... تأْمن لياليَ جَدْبه أو خِصْبه ومنها في المدح: وقد ظمئتُ فلم أَجد بدلاً من الماء الزُّلال سوى مَواطِر سُحْبه ومن القصيدة الأخرى: أَطاعتك أَطراف الرُّدَيْنية السُّمْرِ ... وسالمك التوفيق في البرّ والبحرِ وعشتَ مدى الأَيّام لا قال قائل ... كبا بك زَنْدٌ في عظيمٍ من الأَمر وكان عرقلة الشاعر ينبزه بالرقبة. وله فيه شعر. أبو الحسن بن أبي الخير سلامة النصراني الدمشقي كاتب تاج الملوك أخي الملك الناصر. فيه أدب وذكاء. كتب لي من شعره قوله: يا حبّذا يومنا، والكأْس ناظمةٌ ... نظمَ الحَباب عليها شَمْلَ أَحبابِ ونحن ما بين أَزهارٍ تحفّ بأَنْهارٍ وما بين أَقداح وأَكواب والماءُ تلعب أَرواحُ النسيم به ... ما بين ماضٍ وآتٍ، أَيَّ تلعاب كأَنه زَرَدُ الزَّغْف السوابغ، أو ... نقش المَبارد، أَو تفريك أَثواب وقوله: سَلِ الحبيب الذي هام الفؤاد به ... هل يذكر العَهد، إِنّ العهد مذكورُ أَيّام نأخذُها صَهْباءَ صافيةً ... يُمْسي الحزين لديْها وهو مسرور يسعى بها غُصن بانٍ في كثيب نقاً ... له على القوم ترديد وتكرير إِذا أَتاك بكأْسٍ خِلْتَها قَبَساً ... يسعى به في ظلام الليل مَقْرور يُعْطيكه وهو ياقوتٌ، ويأْخذه ... إِذا أَشرت إليه، وهو بَلُّورُ والأَرضُ قد نَسَجتْ أَيدي الربيع لها ... وشْياً تردَّتْ به الآكام والقُور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 كأَنّ منثورها، والعينُ ترمُقه ... دراهمٌ حين تبدو أَو دنانير ما شئتَ من منظرٍ في روضها نَضِرٍ ... كأَنما نَوْرُه من حسنه نُور تظلُّ أَطيارُها تشدون بها طرباً ... إِذا تبدَّتْ من الصبح التباشير من بُلبلٍ كلّما غنّاك جاوَبَه ... فيها هَزارٌ وقُمْرِيّ وشُحْرور كأَنما صوت ذا صَنْجٌ، يجاوبه ... من ذاك نايٌ، وذا بَمٌّ، وذا زِير وله في مدح تاج الملوك أيضاً في زمن الربيع: تاجُ الملوك، أَدامَ الله نعمته، ... أَسْخى البريَّة من عُجْم ومن عَرَبِ مولىً، أَياديه في أَرض يَحُلُّ بها ... أَجدى وأَحسن آثاراً من السُّحُبِ يُفَتِّح النَّورُ فيها من أَنامله ... فتنجلي منه في أَثوابه القُشُبِ حتى ترى روضَها يحكي مواهبَه ... فالبعض من فضّةٍ والبعض من ذهب وله من قصيدة فيه بعث بها إليه في المعسكر في أيام الربيع: مولايَ، مجدَ الدين، قد عاودتْ ... دمشقَ مِنْ بعْدِك أَشجانُها نَيْرَبُها قد مات شوقاً إِلى المَوْلى وواديها ومَيْدانُها مالتْ إِليه في بساتينها ... من شدَّ الأَشواق أَغصانُها وأَقسمْت من بعده لا صحا ... من لوعةِ الأَشجان نَشْوانها وماسَ من أَشواقِه آسُها ... واهتزّ إِذْ بان له بانُها وغنَّتِ الأَطيارُ من شَجْوِها ... واختلفت في الدَّوْح أَلحانها واصفرّ في الرَّوْضة مَنْثُورها ... مِنْ شوقِه واخضرّ رَيْحانها رقرقت الدمعَ عليه كما ... ترقرقت بالماء غُدرانها فلا خَلَتْ يا خيرَ هذا الورى ... بُطْنانها منك وظُهْرانها تلك هي الجنة، لكنّها ... مُذْ غِبْتَ عنها غاب رضْوانها وله فيه وقد وعده بخلعة: يا من له الشُّكر، بعد الله مُفْتَرَضُ ... عليّ، ما عِشْتُ في سِرّي وفي علني إِن كان غيرُك لي مولىً أُؤَمِّلُه ... وأَرتجيه، فكانت خِلعتي كفني وله يقتضيه بالخلعة وقد عزم على المسير إلى العسكر المنصور: مولايَ جُدء لي بوَعْدي ... من قبل سَيْرِ الرِّكابِ أَنعِمْ عليَّ بثوبٍ ... تَرْبَحْ جزيل الثواب ثوب تكاملَ حُسْناً ... كخُلْقِك المستطاب كأَنّه زمن الوصْل في زمان الشباب وفوطة مِثل شَعْري ... رقيقة أَو شرابي طويلة مثل ليلي ... لمّا جفا أَحبابي كأَنها رَمَضان ... إِذا أَتى في آب وله فيه: يا حبَّذا أَبواه إِذ ... وَلَداه من كرمٍ وخِيرِ وكذاك قد يُستخرج الدُّرّ النفيس من البحور والشّمس من أَنوارِها ... يبدو سَنا القمر المُنير ما زال مُنذُ فِطامه ... في عَقْلِ مُكْتَهِلٍ كبيرِ مولىً حوى فضل الأَكا ... بر وهو في سنّ الصغير ولقد رَقى دَرَج الأَوا ... ئل وهو في الزمن الأخير وله فيه: يا مَنْ يَعُمُّ سَماحُه ونوالُه ... كرماً كما عَمَّ السَّحابُ المُمْطِرُ ويفوح ما بَيْنَ الأَنام ثناؤه ... فكأَنه في كلّ حيٍّ عَنْبَرُ إِني شقيتُ وفي ظِلالك أَنعُمٌ ... ولقد ظمئت وفي يمينك أَبْحُر ولقد ذَلَلتُ وأَنت حِصْنٌ مانعٌ ... ولقد ضَلَلْت وأَنت بدرٌ نَيِّر أَغنى نداك الناسَ إِلاّ فاقتي ... فاللهُ يُغني من يشاء ويُفْقِر فلئن نظرتَ إِليّ نظرة مُجْمِلٍ ... فلأَنت أَولى بالجميل وأَجدَر ومدحني في مصر بهذه القصيدة، وهي في حسن الفريدة، في ذي القعدة من سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة: أَمُطيلَ عَذْلي في الهوى ومُفَنِّدي ... هل أنت في غَيِّ الصَبابة مُرْشدي هيْهاتَ، ما هذا المَلامُ بزاجري ... فانقُض، أَبَيءتَ اللعن، منه أَو زِد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 أَنت الفِداء ومَنْ يلوم لشادنٍ ... أَنا في هواه مضلَّلٌ لا أَهتدي يجلو لعينك غُرَّةً في طُرّةٍ ... فيُريك أَحسن أَبيضٍ في أسود يسطو على عُشّاقه من قَدّه ... وجفونِه، بمُثَقَّفٍ ومُهَنَّد قمرٌ يظَلُّ الماءُ في وَجَناته ... والنارُ بين تَرَقْرُقٍ وتَوَقُّد ومن العجائب أَنّ ناراً خالطت ... ماءً وأَن ضِرامها لم يَخْمَدِ وكذاك ماءُ الدَمع إِن أَنْضَجْ به ... نارَ الصَّبابة والأَسى، تَتَوَقَّد فصَبابتي لمّا تَخِفَّ، وأَدمُعي ... لمّا تجِفّ، وزفرتي لم تَبْرُد كم بِتُّ أَرعى الفَرْقَدَيْن كلاهما ... شَعفاً بمن يرنو بِعَيْنَيْ فَرْقَد آليتُ أَرقُدُ في هواه، ومن يكن ... ذا لوعةٍ وعلاقةٍ لم يَرْقُد علّ الليالي يكتَسِينَ بشاشةً ... يوماً فتُنْجِز بعد مَطلٍ موعدي إِنْ رقّ لي بعد القساوة قلبُه ... فالماء يقطُر مِنْ صِفاح الجَلْمَد فأَجِلْ لحاظَك في محاسن وجهه ... إن تستطع نظراً إِليه وَرَدِّد تنظرْ إِلى الأَنوار بين مُمَسَّكٍ ... ومسبج ومُنَرْجَسٍ ومُوَرَّج فكأَنها نَوْرُ الربيع إِذا بدا ... أَوْ حسنُ خَطِّ محمَّدِ بن محمد هذا عماد الدين والدنيا معاً ... وملاذُ كلِّ مُؤَمِّلٍ أَو مجتدي هذا الذي ما أُغْلِقَتْ أَبوابُه ... من دون مُسْتَجْدٍ ولا مُسْتَنْجِد هذا الذي أَحْيا العُلومَ وأَهلَها ... بعد الرَّدى، والعُرْفُ إِحياءُ الرَّدي وأَبان منها كلَّ نَهْجٍ دارسٍ ... دَرْسَ الرُّسُوم من الدِّيار الهُمَّد بيضاء حسنٍ ما دجت إِلاّ بدا ... فأَضاء مثلَ الكوكب المُتَوَقِّد لو عاش حينئذٍ فرام تشبُّهاً ... عبدُ الحميد بخطِّه لم يُحْمَد يَقِظٌ له القلمان في إنشائِه ... وحسابه، في مَصْدَرٍ أَو مَوْرِد إِن حاول الإنشاء يوماً ما، فيا ... ناهيك من دُرٍّ هناك مُنَضَّد ويُضَمِّنُ اللفظَ البديع معانياً ... أشهى من الماء الفُراتِ إِلى الصَّدى وكأَنّ خطَّ حِسابه في طِرْسِه ... شَعرٌ تَنَمْنَمَ في عوارضِ أَغْيَدِ لو قُلِّدَ الدُّنْيا كفاها وحدَه ... في الحالتين، ولم يُرِدْ من مُسْعِد ولقام منتهِضاً بكلّ عظيمةٍ ... فبعلمه في الفقه كلٌّ مقتدي فلوَ انّ أسعد عاش بعد وفاته ... يوماً فساجله به لم يَسْعَد وإذا انبرى للشعر خِلْتَ قريضَه ... أَطواقَ دُرٍّ في نحورِ الخُرَّد شِعْرٌ ترشَّفُه النفوس كأَنّه ... لفظُ الحبيب مقرِّراً للمَوْعِد أو طيبُ وَصْلٍ بعد كُرْهِ قطيعةٍ ... من ذي انبساط بعد طولِ تَجَعُّد وإِذا تفاخر بالأرُوم مَعاشِرٌ ... فله العلاءُ عليهم بالمَحْتِد مازال يُخْبِر فضلُه بل نيلُه ... عن حُسْنِ شيمته وطيبِ المولد جَلَّ الذي أَعطاك يا ابن محمّدٍ ... في كلّ فضلٍ باهرٍ طولَ اليد أَقسمتُ بالكرم الذي أُوتيتَه ... لولاك ما اتّضحتْ سبيلُ السُّؤْدُد وكتب إلي أيضاً: أَلا قُلْ لمن ذَمّ الزمان جَهالةً ... وَعَنّفه فيما جَناه وفَنّدا دَعِ العجز وانهض غير وانٍ إِلى امرئٍ ... يكُنْ لك فيما أَنت راجيه مُسْعِدا فإِنّك لم تبلغ من الدهر طائلاً ... وتحمَدُه حتى تزورَ مُحَمّدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 وإِنّ عماد الدين أضمنعُ مَعْقِلٍ ... إِذا ما رَماك الدَّهرُ يوماً تَعَمُّدا وأَسيرُ هذا الناس فضلاً وسُؤْدُداً ... وأَعوزُهم نِدّاً وأَكثرهم نَدى تَفَرَّدَ إِلاّ أَنه الناسُ كُلُّهُم ... وإِن كان في عَلْيائه قد تفرّدا مُعِزٌّ مُذِلٌّ مانِح مانعٌ معاً ... يُرَجَّى ويُخْشى واعِداً مُتَوَعِّدا إِذا ما رمى يوماً بإيعاده العِدى ... أَقام لخوف الانتقام وأَقْعدا جديرٌ بحلّ الأَمر أَشكل حلُّه ... برأيٍ به في كل عَشْواءَ يُهْتَدى له قلمٌ ما هزّه في مُلِمَّةٍ ... من الدهر إِلاّ هزّ سيفاً مُهَنّدا إِذا انْسَلَّ من بين الأَنامل خِلْتَهُ ... يُنَظّمُ في القرطاس دُرّاً مُبَدّدا إِذا ما رنا يوماً بعين كحيلةٍ ... رأَيتَ لَدَيْه ناظرَ الرمح أَرْمدا وإِن يتحرَّكْ يسكُنِ الخطْبُ فادحاً ... ويبيضُّ وجهُ الرُّشْدِ إن هو سَوَّدا لأَنت عماد الدين أَحسنُ شيمةً ... وأَطيبُ هذا الناسِ أَصلاً ومَحْتِدا فلو جاز يوماً أَن يُخَلَّدَ سيِّدٌ ... كريم بما أَسدى لكنتَ المُخَلَّدا باب في ذكر محاسن جماعة من الفضلاء من حمص وحماة وشيزر حمص القائد أبو العلاء الحمصي المحسن بن أحمد بن الحسين بن معقل الأزدي، من أهل حمص، سمعت وحيش الشاعر بدمشق يقول: إنه توفي سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وله ثلاثة أولاد فاقتسموا ديوانه أثلاثاً، وظنوه تراثاً، فقلت لهم: هذا لا يجديكم نفعاً، وإثبات شعر والدكم يوجد لكم رفعاً، فما قبلوا مني وتفرقوا به وفرقوه، ولا ثبتوا على حفظه ولا أثبتوه. له من قصيدة: هل لسارٍ في دُجى هجركَ هادِ ... أَم لعانٍ أَسَرَتْ عيناكَ فادِ قد تعدَّيْتَ فأَشمتَّ العِدى ... وتمادَيْتَ فجاوزتَ التَّمادي يا صحيحَ الجسم من داء الضَّنا ... وَخَلِيَّ القلب من ضَرِّ البعاد خَفْ مع القُدْرة من ظلمي فقد ... نُهِي القادر عن ظلم العباد نِمْتَ عما بي وجَفْني أَرِقٌ ... لم يَدُق من كَلَفٍ طيبَ الرُّقادِ وثَنَيْتَ العِطف عنّي لاهياً ... مُؤثراً عكس طِلابي ومُرادي فأَبِنْ لي مُخْبِراً بالله هل ... أَنت من أَولاد شَدّادِ بن عاد وَيْحَ قلبي ما الذي أَوْقعه ... في هوى صَعْبِ الرِّضا صعب القياد يتجنَّى والتجنّي أَبداً ... سببٌ داعٍ إِلى نقض الوداد وله: دَعا مُهْجَتي رَهْنَ أَوصابها ... وَحِلف هواها وأَطرابها وَكُفّا فلي عنكما شاغِلٌ ... بتسهيد عَيْني وتَسْكابها فَيا لِيَ من ظبيةٍ بالحِمى ... تَتيهُ بإِفراط إِعجابها مُقَسَّمة الحُسْن بين القِناع ... وبين اللِّثام وجِلْبابها فبدْرُ الدُّجى فوق أَطواقها ... وحِقْف النَّقا تحت أَثوابها ولو أَنّ يوسُف في عصرها ... لأَصبح مِنْ بعض حُجّابها رُوَيْدكُما بو قِيذ الصُّدود ... ومُدْوى لواعجِ أَوْصابها فأَيْن السُّلوُّ وأَين الخلاصُ ... لنفسٍ أُصيبت بأَحبابها تملَّكها مَنْ لأَجفانه ... نِصالُ الرُّماة ونُشّابها هذه رقيقة، رفيقة، لطيفة، طريفة، ولعل ناظمها قصد بها معارضة الرئيس أبي منصور بن الفضل الكاتب المعروف بصر بعر فيكلمته التي أولها: تفيض نفوس بأوصابها ... وتكتمُ عُوّادَها ما بها وما أَنصفتْ مُهجةٌ تشتكي ... هواها إِلى غير أَحبابها ومنها: ومن شرف الحبّ أَنّ الرِّجا ... ل تَشْري أَذاه بأَلبابها وفي السِّرْب مُتْرِبةٌ بالجمال ... تُقَسِّمه بين أَترابها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 فللبدر ما فوق أَزرارها ... وللغُصن ما تحت جلبابها كأَني ذَعَرْتُ بها في الخِبا ... ءِ وَحْشيةً عند مِحرابها أُتَبِّعها نظراً معجلاً ... يُعَثِّر عيني بُهدّابها متى شاء يقطِف وردَ الخدود ... وَقَتْهُ الأَكُفِّ بعُنّابها وكم ناحلٍ بين تلك الخيا ... م تحسِبه بعض أَطنابها لا يعارض هذا السحر، ولا يناقض هذا الشعر، إلا من يفتضح، وبينة قصوره تتضح، فإن الشاعر المفلق، إذا في قصيدة ووفق، فالألسنة تصقلها، والرواة تنقلها، ولا يتفق لشاعر في مدة عمره إلا قصائد معروفة، وهمته لاستحسان الناس لها مصروفة، فالأريب، اللبيب الأديب، ذو القريحة الصحيحة يتعرض لقبول النصيحة، ولا يعرض بمعارضتها نفسه للفضيحة، فإن نظم مثلها، واحكم صقلها، فمن أين له قبولها، ومتى ينفق ويتفق سوقها وسولها، وما كل حسن مبخوت، وإن نظم دونها فهو ممقوت، ومن ملك القدرة على حر الكلام في سر البلاغة، وسحر الصياغة، غاص بحر الفكر، لاستخراج الدرر، ولم ير من همته إلا التفرد بالثناء الغرر، لتتفرد بالقبول فرائده، ولتفد العقول فوائده، وتنير بالإشراق مقاصده، وتسير في الآفاق قصائده. سعادة بن عبد الله الأعمى من أهل حمص يعرف بسعادة، ويكتب على قصائده سعيد بن عبد الله، وكان مملوكاً لبعض الدمشقيين مولدا. شاب ضرير، شبا خاطره طرير، قد توفرت بصيرته وإن ذهب بصره، وأقرحت قريحته وشبت فكره. لقيته بحمص مراراً، وسافر إلى مصر في أول مملكة السلطان الملك الناصر، وعاد بوفر وافر، وغنى ظاهر، وحصلت له زيادة على ألف دينار، وهو محظوظ مرزوق من نظم الأشعار. كتب جالساً بين يدي الملك الناصر صلاح الدين بدمشق في دار العدل، أنفذ ما يأمر به من الشغل، فحضر سعادة الضرير ووقف ينشد هذه القصيدة في عاشر شعبان سنة إحدى وسبعين: حَيَّيْتك أَعطافُ القُدود ببانها ... لمّا انثنتْ تيهاً على كُثْبانها وبما وقى العُنّابُ من تُفّاحها ... وبما حماه اللاّذ من رُمّانها من كلِّ رانيةٍ بمُقلةٍ جُؤْذَرٍ ... يبدو لنا هاروت من أَجفانها وافَتْك حاملة الهلال بصَعْدَةٍ ... جعلت لواحظها مكانَ سنانها حوريّةٌ تَسقيك جَنَّةُ ثغرها ... من كوثرٍ أَجْرَتْه فوق جُمانها نزَلت بوَاديها منازلَ جِلَّقٍ ... فاستوطنت في الفِيحِ من أَوطانها فالقصرِ فالشَّرَفَيْنِ فالمرجِ الذي ... تحدو محاسنه على استحسانها فجِنان برْزَتها فيا طوبى لمن ... أَمسى وأصبح ساكناً بجِنانها بحدائقٍ نُظِمت حليُّ ثمارِها ... نظمَ الحليّ على طُلى أَغصانها فكأَنهنّ عرائس مَجْلُوَّةٌ ... وكأَنها الأَقراط في آذانها ومرابع تُهدي إِلى سُكّانها ... طيباً إِذا نَفَحت على سكّانها أرجاً لدى الغَدَوات تحسب أَنه ... مِسْكٌ إِذا وافاك من أَردانها فالنَّوْر تيجان على هاماتها ... والنُّور أَثواب على أَبدانها والوُرْق قَيْناتٌ على أَوراقها ... تَفتَنّ بالألحان في أَفنانها أَحنو إِلى الهَضبات من أَنشازها ... لا بل إِلى الوَهَدات من غيطانها وأَحنّ من شوقٍ إِلى مَيْطورها ... وأَهيم من توْقٍ إِلى لَؤانها وأَبيتُ من وَلَهٍ وفَرْط صبابةٍ ... أَبكي على ما فات من أَزمانها أَيّام كنتُ بها وكانت عيشتي ... كالرَّوْضة المَيْثاء في إِبّانها والربوةُ الشماء جنّتيَ التي ... رضوان منسوب إِلى رضوانها دارٌ هي الفردَوْس إِلاّ أَنها ... أَشهى من الفردوس عند عِيانها ومنها يصف البركة والفوارة: لنُهود بركتها قدودٌ، رقصها ... أَبداً على المزموم من أَلحانها ومعاطفٌ عَطَفَ النسيمُ قِسِيَّها ... فَهَوَتْ بنادقها على ثعبانها دُحِيَتْ كُراتُ مياهها بصوالجٍ ... جالت فوارسهنّ في مَيْدانها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 واعتدَّ شاذروانها بعساكرٍ ... لمعت جواشنها على فرسانها وتقلَّدت أَجيادُها بقلائدٍ ... نُثرت نظائمُهنّ فوق جِرانها وتضاحكت أفواهها بمباسمٍ ... تُرْوي مَراشفُها صَدى ظمآنها بمروَّقٍ صاف كأَنَّ زُلاله ... مُتَدَفِّقٌ من راحتيْ سلطانها سلطانِها الملك ابن أَيوب الذي ... كفّاه لا تنفك عن هطلانها بمواهبٍ لو لم أكن نوحاً لما ... نُجّيتُ يوم نداه من طُوفانها سَمْح يروح إلى النّدى براحةٍ ... قد أَعشب المعروف بين بَنانها وفتىً إِذا زخَرت بحارُ نواله ... غرقت بحارُ الأَرض في خُلجانها غيث يكُرّ من الظُّبى بصواعق ... ماء الرَّدى يجري على نيرانها بصوارمٍ أَجفانها قِمم العِدى ... لا ما كساها القَيْنُ من أَجفانها فضيّةٍ ذهبية فلُجَيْنها ... يختال يوم الرَّوع في عِقيانها محمرّة بدم الفوارس خُضْرها ... فالوَرْد منثور على رَيْحانها من كلّ لامعةٍ بليلِ قَتامها ... كالنّار لامعةٌ بليلِ دُهانها تلك السيوف المُرْهَقات بكفّه ... أَمضى على الأَيّام من حدثانها قُطُبٌ إِذا اقترنت كواكب بيضها ... بكريهةٍ كانت ردى أَقرانها مهزوزةٌ للضرب في يد ماجدٍ ... ضرب أَطاح الروس عن أبدانها ملك إِذا جُلِيتْ عرائس ملكه ... رصعت فريدَ العدل في تيجانها وإِذا جحافله أَثَرْنَ سحائباً ... لمعت بُروق النصر في أَحضانها من كل شهباء الحديد كأَنما الأَمواج مائجة على شجعانها وكتيبةٍ كم قد كتبن لها الظُّبى ... كتباً يلوح العِزُّ من عُنوانها وإِذا ذوابله هُزِزْن رأَيتها ... والموت مُشْتَمِلٌ على خِرصانها من كلّ جاعلةٍ بكلِّ كريهةٍ ... رأسَ الفتى رأساً على جُثمانها سمراء لا يثني حطيماً صدرّها ... إِلاّ ومن نَحْرٍ فمٌ للسانها وإِذا صواهله مَزَعْن حسِبتها ... ما دقَّ يومَ الرَّوْع من أَرسانها من كلَ سَلْهَبةٍ أَلحّ بها الطّوى ... حتى طواها الضُّمْر طيّ عِنانها جرداء تطّرِح البروق إِذا دَنَتْ ... وتفوت ما قد فات من لمعانها خيْلٌ هي العِقبان في طيرانها ... لا بل هي السِّيدان في عَسَلانها فالشُّهْب ما حملتْه في أَرماحها ... والغُلْب ما نقلته في عَدَوانها كم قُدْتَّهُنَّ أَبا المظفر ظافراً ... والأُسْدُ صائلةٌ على عِقْبانها متواثباتٍ للطِّعان، فلا كبَتْ ... تلك العِتاق الجُرْد يومَ طِعانها عثقِدتْ سبائبُهنّ بالهمم التي ... أَشطانُهُنّ تنوب عن أَشطانِها هِمَمٌ رَقَتْ بك فارتقيت من العُلى ... رُتباً، مكانُ الشمس دونَ مكانها أَقسمتُ ما هَدَّمْنَ أَركان العِدى ... إِلاّ بما شَيَّدْتَ من أَركانها فكواكب الأَفلاك من خُدّامها ... وعصائب الأَملاك من اَعوانها فلذاك بَهْرام إِلى بَهْرامها ... يُعْزى، وكِيوان إِلى كيوانها فإِذا سَلَلَتْ سَللتَ بيض حِدادها ... وإِذا هززت هززت سُمْر لِدانها فافْخر فلو رَوَّعْتَ روميةً بها ... خَرَّتْ كنائسها على رُهبانها أَو لو بها صبّحتَ قُسطنطينةً ... خفّضتَ ما رَفعتْه من صُلبانها فانهض إِلى فتح السواحل نهضةً ... قادتْ لك الأعداء بعد حِرانها واسلم صلاحَ الدّين وابقَ لدولةٍ ... ذَلّت لدولتها ملوكُ زمانها خضعتْ لها الشُّجْعان عند صِيالها ... وَعَنَتْ لها الأَقران عند قِرانها فَلَكَ ابنَ أَيّوب بن شاذي ملكها الضّافي وللشّاني قذى شَنَآنها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 ولك الذي قد سرَّ من أَفراحها ... وله الذي قد ساء من أَحزانها فاسعدْ بها يا أَيُّها الملكُ الذي ... دانتْ لديْه على جلالة شانها واستجْلِ من مِدَحي الحسانِ خريدةً ... حَسّانُ مفتقرٌ إِلى حُسّانها وافَتْكَ ترفُل في ثياب بهائها ... وإِبائها وحيائها وصِيانها كالكاعب العذراء حين تبخترتْ ... في دُرّها المنظوم أَو مَرْجانها وأَتَتْكَ تنشرُ ما طواه حَسُودها ... من فضلها وسَدادها وبيانها في دارِ عدلٍ مُذْ طلعتَ بأُفْقِها ... بدراً جَلوْتَ الظُّلْم عن سُكّانها فبقيتَ مُعْتَصِباً بتاج بهائها ... في دَسْتِ مجلسها وفي إِيوانها ما أَصبحت أَيدي الرعيّة تجتني ... عَفْواً ثِمار الأَمْن من بستانها وقام إليه اليوم الذي يليه، وقد جلس السلطان في دار العدل، وقد احتفل الحفل، بحضور أهل الفضل، فأنشده: لا يُقْعِدَنّك ما حَلُّوا وما عَقَدوا ... هُمُ الذئاب وأَنت الضَّيْغَمُ الأَسدُ كم يخطِفون بروقاً ما بها مَطكَرٌ ... ويقصِفون رُعوداً ما بها بَرَدُ والقوم قد قعدوا عمّا نهضتَ به ... من السِّداد، فلا قاموا ولا قعدوا فلا ثيابُ المعالي فوقَهُم جُدُدُ ... ولا طريق الأَماني نحوهم جَدَد إِيّاك تغفُل عنهم مثل ما فعَلوا ... إِيّاك ترقُد عنهم مثل ما رَقدوا ماذا الكرى يا صلاح الدين عن أَرِقٍ ... من قبل سيفك قد أَودى به السَّهَد ولْهان تَزْفِر نارٌ في جوانحه ... يَشُبُّها القاتلان: الخوفُ والحَسَدُ لا يستطيع اهتداءً فهو مرتبكٌ ... حيران، فيه وفي آرائه أَوَد مخيَّبُ السَّعْي لا يعتاده ظَفَرٌ ... مُضَلَّلُ الرأي لا يقْتاده رَشَد فكيف يَرْقَع خَرْقاً وهو مُتَّسِعٌ ... أَم كيف يُصْلِح أَمراً وهو مُنْفَسِد لمّا رآك وقد أَقبلت تَقْدُمُها ... أُسداً عرائنها الإِقدام والعدد أَلقى السلاح وما فُلّتْ ظُبى قُضُبٌ ... تَفْري الرؤوس، ولا دُقَّت قَناً مُلُد وراح مِنْ بعد ذاك الجمع مُنفرداً ... وَمَنْ نَحاك بِجَمْعٍ سوف ينفرد يَطوي الحُزونَ فيَطويه ويَنْشُرُه ... حُزْنٌ له منه وَجْدٌ فوق ما يَجِدُ وفي شَباه الذي أَغْمدتَهُ فَلَلٌ ... وفي حشاه الذي أَقلقته كَمَدُ وحوله عُزَّلٌ لو أَنهم قصدوا ... أَضحى القنا وهو في لَبّاتِهم قَصَد خانوا فخانوا، وما حازوا الذي طلبوا ... خابوا فآبوا وما نالوا الذي قَصَدوا لمَّا دَعَوْك أَجبت القوم في لِجَبٍ ... السيفُ ناصره والواحدُ الصَّمَد حتى إِذا ما رأَوْا في الدِّرع منك فتىً ... كأَنه من ثباتٍ في الوغى أُحُد صَدُّوا وما عَطَفُوا، أَلوَوْا وما وقفوا ... ولَّوْا وما رجَعوا، ذلّوا وما أَسِدوا فرّقتهم فِرقاً، فاستسلموا فَرَقاً ... بِظاهر القَرْن، والأَقرانُ تطّرِد صدَعْتَ ما شعبوا، قطعتَ ما وصلوا ... فَلَلْتَ ما شَحَذوا، حللتَ ما عقدوا حقَنْتَ منهم دِماءً لو تُراقُ جَرَتْ ... منها مُدودٌ لها من هامِهم مَدَد عَفَفْت من قتلهم يومَ الوغى فنجَوْا ... ولو ترى القتلَ رأياً ما نجا أَحد فهم عبيدُك إِن لانوا وإن خَشُنوا ... وإِن أَقرّوا بما أَوليتَ أَو جَحَدوا وهم أَساءوا فأَحسنتَ الغَداةَ بهم ... صُنْعاً يُحَدِّث عنه الفارس النَّجِدُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 أَوْسعتَ فِرْعونهم لما طغى غَرَقاً ... بزاخرٍ: لُجَّتاه النَّقْعُ والنَّجَد حَبابُه البَيْضُ، والبِيضُ الحداد له ... خُلجٌ، وأَمواجُه لما طَغى الزَّبَدُ إِذا تلامعَ مَوْجُ السّابغات به ... على الكُماةِ عَلاه من دَمٍ زَبَدُ عَرَمْرَمٌ كالدَّبى الطيّار مُنْتَشِرٌ ... تُحْصى الرِّمال ولا يُحًصى له عدد إِذا نَهَدْتَ إِلى أَرض العدوِّ به ... لم يَبْق من مائها غَمْرٌ ولا ثَمَدُ تسمو عليه سَماءٌ من عَجاجته ... مبنيَّةٌ من قناه تحتها عُمَدُ سماءُ نَقْعٍ لشيطان العدوّ بها ... من الأَسنّة شُهْبٌ كلُّها رَصَد وفي دياجيه نارٌ من صوارمه ... تكاد تقطُر ماءً وهي تَتَّقِد نار تُشَبّ على أَيدي غطارِفةٍ ... لا يَبْرُق الجوّ إِلاّ كلّما رَعَدوا شُمّ الموانيف في أَفعالهم رَشَدُ ... في النائبات وفي أَقوالهم سَدَد ما جِنّ عبقرَ جِنٌّ كلّما عَزَفوا ... ما أُسْدُ بِيشَة أُسْدٌ كلّما حَرِدوا من كلِّ أَرْوَعَ، أَمّا رُمْحُه ثَمِلٌ ... لا يَسْتَفيق، وأَما سيفه غَرِد في كلِّ يومِ جِلادٍ لو أَلمّ به ... عَمرو بن وُدّ عَداه الصَّبْر والجَلَد شِمْ بالشآم سيوفاً من عزائمهم ... إِذا غَمَدْتَ المواضي ليس تنغَمِد ولا تَخَفْ فالعوالي شوْكُها ثَمَرٌ ... حُلْوُ الجَنا، والمعالي صابُها شُهَدُ واخْطُب بحدّ المواضي كلَّ شامخةٍ ... في أَنْفِها شَمَمٌ في جِيدها غَيَدُ فمن يكن بالمواضي خاِباً أَبداً ... زُفَّت إِليه بلادٌ كُلُّها خُرُد هل بعد جِلّق إِلاّ أًَنْ ترى حَلَباً ... وقد تَحَلَّلَ منها مُشْكِلٌ عَقد وقد أَتتك كما تختار طائعةً ... وقد عنا لك منها الحِسن والبلد أَبا المُظَفَّر كم قد نلتَ من ظَفَرٍ ... لؤلؤه بلواءِ المُلْك مُنعقِد وكم هززتَ قُدوداً من رِفاقِ ظُبىً ... بها رِقابُ الأَعادي في الوَغى قِدَد وكم شَهِدْتَ جِلاداً فاسْتَلَبْتَ به ... حُشاشةَ الجَلْد والشُّجعان تَجْتَلِد بصارمٍ مُرْهَف الحَدَّيْن ذي شُطَبٍ ... كأَنّها شُعْلةُ البرقِ التي تَقِد صافي الحديدة لا يعْتاقُه عَذَلٌ ... عن المَضاء ولا يعتادُه فَنَد وتحت سَرْجِك ممّا أَنتَ راكبُه ... رُوحٌ من البرق، من مُزنٍ لها جَسَد أَمَقُّ أَجْرَدُ صُلْب الصُلْب مُنْدَمِجٌ ... أَصكّ لا صَكَكٌ فيه ولا جَرَد مُلَمْلَمُ الرِّدْف مَحْبُوك القَرا مَرِجٌ ... يَزِينه الثابتان الرُّسْغ والعضد سَهْل القياد على ما فيه من شَرَسٍ ... صعبٌ ففيه الرِّضى المحبوب والحَرَد وفي الصَّفاة وفي أَردافه زَلَقٌ ... وفي القناة وفي أَعطافه رَوَد ترمي به الأَملَ الأَقصى فتدركه ... حتى كأَنّك فوق الريح مُقْتَعِد وكيف لا تدرك الآمال يا أَسداً ... له الرِّماح عَرينٌ والظُّبا لَبَد يا ابن الذين إِذا ما استُمْنِحوا مَنَحوا ... وابنَ الذين إِذا ما استُرْفِدوا رَفَدوا هذي صفاتُك إِلاّ أَنها دُرَرٌ ... غُرٌّ فمنتثرٌ منها ومُنْتَضِد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 مواهبٌ هُنّ في ثغر النَّدى شَنَبٌ ... مناقبٌ هنّ في جيد العُلى جَيَد رغائب لك لا تفنى غرائبُها ... فعند كلِّ يدٍ من بيضهن يَد فللمُحاسِن منها نافِخ صَرِدُ ... وللمُخاشن منها لافِحٌ وَمِد فاسلم وجيشُك لا يُنْنى له عَلَمٌ ... واسعد وبيتُك لا تهوي له عُمَدُ بحيثُ من مُخْطَفٍ لَدْنٍ له طُنُبٌ ... وحيث من مُرْهَفٍ عَضْبٍ له وَتَد وحيث شأنُك سامٍ ما له صَبَبٌ ... وحيث شانيك هاوٍ ما له صُعُد ثم لقيت سعادة الضرير فاستنشدته الكلمة الطائية التي مدح بها الملك الناصر بمصر، لما وفد إليه بها في مبدإ الأمر، وقد حبي بالنصر، فأعطاه ألف دينار من التبر. وأملى من حفظه: وقفتُ وأَنضاءُ المَطِيّ ضُحىً تُمْطُو ... وُقوفَ جَوٍ أَنْحى على قُرْبِه الشَّمْطُ على دارساتٍ من رُسومٍ كأَنّها ... صحائف كُتْبٍ لا يَبينُ لها خَطُّ معالم دارٍ بل معاهد عَرْصةٍ ... بها للقَطا من بعدِ ساكِنها لَغْط فلو لَقَطَتْ يوماً عقيقَ مدامعي ... بدِمْنَتِها ظمياءُ أَمْلَلَها اللَّقْط ولو سفَح الكِنديُّ بالسِقْط مثلَ ما ... سَفَحْتُ بها أَثنى على دَمعه السِقْطُ خليليّ هلْ مِنْ حاملٍ لي تحيّةً ... إِلى قمرٍ نجمُ الثريّا له قُرْط نَشَدْتُكما بالشام عُوجا فسَلِّما ... على ظَبَياتٍ أُسْدُ أَلحاظها تَسْطو على المائسات اللاءِ رَنَّحها الصِّبا ... على الآنسات اللاءِ نَفَّرَها الوَخْط وقولا لِمَنْ يَعْطو إِليها صَبابةً ... فتنفِرُ عنّا كالمَهاةِ ولا تَعْطو أَشَرْطُك يا ظمياء أَن لا تهاجرٌ ... مُقيمٌ لِمَنْ يَهْواك أَم عُدِم الشَّرْط بنفسي وأَهلي أَنتِ مِنْ بابليّةٍ ... لها وإِليها الحَلُّ، في السِّحْر، والرَّبْط وبي دُمْيَةٌ مِنْ دونها تُحْطَمُ القنا ... ويجري على أَعطافهنّ دمٌ عَبْط مُخَفَّفَةُ العِطْفين مَهْضُومة الحَشا ... مُثَقَّلَةُ الرِّدْفَيْن يوهِنُها المِرْط أَتَتْ بين حِقْفِ مائج وأَراكةٍ ... مُنَعَّمَةٍ أَوراقها الشَّعَرُ السَّبْ فنصّت على الكافور منها سوالفاً ... على الجُلَّنار الغضّ من مِسْكها نَقْط وعَنّتْ بِعُنّابٍ تَنوء بحمْله ... أَنابيبُ دُرٍّ زانها الخَلْقُ لا الخَرْطُ ونار شفاهٍ حَوْلَ جَنَّةِ مَبْسِمٍ ... مَزاجاهما شَهْدٌ جَنِيٌّ وإِسْفَنْط فلا، ولمّاها العذبِ، لا كنتُ ناقضاً ... عهودَ هواها لا ولا سالياً قطّ وكيف وعندي من هواها صَبابةٌ ... تكاد بها مني الجوانح تنقطُّ ووَجْدٌ كوَجْد الناصر المَلْك بالعُلى ... وبالشَّرف السامي الذي ما له هَبْط فتىً مُهْتَدي الآراء في كلِّ حادثٍ ... مُضِلٌّ لآراءِ الملوك بها خَبْط له هَيْبَةُ الليث الذي ما به ونىً ... وأُكْرومةُ الغَيْثِ التي ما لها غَمْط وما كُتْبُه، مُذْ كان، إِلاّ كتائبٌ حُروفُ ظُباها في الطُّلى ما لها كَشْطُ وليس له، ما عاش، إِلاّ من القَنا ... قَنا الخطِّ، أٌَلامٌ إِذا ذُكِرَ الخَطّ يَخُطُّ بها ما شاء من صُحُف الظُّلى ... فطوراً لها شَكْلٌ وطَوْراً لها نَقْط أَنابيب تجري كالأَنابيب من دَمٍ ... إِذا بَرْيُها في الرَّوْع أَتْبَعَهُ القَطّ أَفاعي رِماحٍ أُضْرِيَتْ في عُداتِه ... فليس لها من غير أَرواحهم نَشْط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 يُجيدُ بهنّ الطعنَ ضَرْبٌ بضربه ... غداةَ الوغى ينقدّ هامٌ وينعطّ فتىً من بني أَيّوب إِن همَّ أَوْ همى ... فما الغيثُ إِذ يحبو وما الليث إِذ يسطو وما يُوسُفٌ في الملك إِلاّ كيوسُفٍ ... ولكن له من غير إِخوته رَهْط ملوكٌ حُجورُ الأَرْيحيّات مذ نَشَوْا ... مُهودُهم، والمَكْرماتُ لهم قِمْطُ شبابٌ وشيبٌ مذ تسامَوْا ومذ عَلَوْا ... على صَهَواتِ السَّبْعَة الشُّهْبِ ما حَطّوا شبابٌ وشيبٌ مذ تسامَوْا ومذ عَلَوْا ... على صَهَواتِ السَّبْعَة الشُّهْبِ ما حَطّوا ومذ أنبضوا رَمْياً بنَبْلِ ذكائهم ... أَصابوا المعاني المُبْهَماتِ ولم يُخْطوا شآبيبُ في سِلْمٍ، محاريب في وغىً ... يطير لِقَدْح المُرهَفات بها سِقط ومنها يصف غارته على غزة، وعوده من تلك الغزوة بالعزة: فتىً مُذْ غزا بالخيل والرَّجْل غَزَّةً ... نأى عن نواحيها الرِّضا ودنا السُّخْط رماها بأُسْدٍ ما لهنّ مَرابِضٌ ... ولا أُجُمٌ إِلا ّالذي يُنْبِت الخَطّ وعاث ضواحيها ضُحىً بكتائبٍ ... من التُّرك، لا رزمٌ طَغامٌ ولا قِبْط رماهم بأَمثال السَّراحين شُزَّباً ... عليها أُسودٌ بل أَساوِدَةٌ رُقْط وطاحت على تلك الرمال جُسومُهم ... ففي كل سَقْطٍ من جماجمهم سُقْط ومنها: أَلا أَيُّها الصّدّيق يوسُف مَسَّنا ... من الضُّرِّ ما لا نستطيع به نخطو فأَوْفِ لنا كَيْل النَّدى متصدِّقاً ... فإنّ جزاء المحسنين هو الشَّرْط فأنشد، ليلة أخرى بدمشق وأنا حاضر، فيه هذه القصيدة. منها: في أَعين البِيض والأَسَلِ ... صِيدَ الرِّجال بأَشراكٍ من الحِيَل فالأَعينُ النُّجْل داءٌ لا دواءَ له ... فكن عليماً بداء الأَعيُنِ النُّجُل ومنها: بواضحات الثّنايا ما ثَنَيْنَ فتىً ... على الثنيّة إِلاّ وهو غير خلي أَقْبلْن يضحكن عن بيضٍ لآلِئُها ... أَصدافهنّ شِفاهٌ حُلوةُ القُبَل من كلِّ هيفاء في أَوراقِ حُلَّتِها ... غصن من القدِّ في دِعْصٍ من الكَفَل كالخيزُرانة وافتْ وهي حاملةٌ ... روضاً من الحسن في روضٍ من الحُلَل فما ترى سَوْسَناً يُصْبيك من طُرَرٍ ... حتى ترى نَرْجِساً يُضْنيك من مُقَل فإن ضممتَ ضممتَ البان من هَيَفٍ ... وإِن لَثِمتَ لثمت الورد من خجل وإِن شربتَ شربت الرّاح من شَنَبٍ ... يجري على واضحٍ عَذْب اللَّمى رَتِل وَرُبَّ باديةٍ من بيت باديةٍ ... في ريقها عَلَقٌ يَشْفي من العِلَل وخَمْرَةٍ عندنا منها خُمارُ هوىً ... وعندها حين تمشي نَشوة الثَّمِل صهباء ممزوجة بالمسك أو بشذى ... ذكر ابن شاذِي صلاح الدين والدُّوَلِ القائدِ الخيلَ تهوي في أَعنّتها ... مثلَ الأَجادل، والأَبطالُ في جدل والليلُ من رَهَجٍ والصبح من قُضُبٍ ... والبحر من مُهَجٍ والبرّ من قُلَل والأَرضُ من نَزَوات اللَّمْ في شُعَلِ ... والجوّ من هَفَواتِ النَّقْعِ في طَفَل والبيضُ من عَلَق الأَقران في حُلَلٍ ... حُمْرٍ، ومن قُمَم الشُّجْعان في خِلَل والشمسُ، شمس الضحى، في النَّقْع آفلةٌ ... وشمسُ هِمَّتِه الغرّاء لم تَفِل كالغيث والليث، هذا منه في خَجَلِ ... عند العطاء، وهذا منه في وَجَل يلقى القنا وهو أمضى من عواملها ... في القول والفعل والآراء والعمل ويَنْثَني ولها في كفّه قَصَدٌ ... يُثْني عليه ثناءً غير مُنفصِل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 تُثْني على مَلِكٍ أَعطى أَسنّتَها ... من الفوارس أَقصى السُؤْل والأَمل مُعَذَّلٌ في النَّدى صَبٌّ به أَبداً ... وكيف يُعْذَل صَبٌّ غير مُعْتَذِل أَغرُّ يَعْذُبُ صابُ الحادثات له ... فصابُها عنده أَحلى من العسل جَذْلان، أَبهج في الظَّلْماءِ من قمرٍ ... يقظان، أَثبت في الهيجاء من زُحَل صعب العريكة، سَهْل الرّاحتين، له ... رأيٌ حصيفٌ قويمٌ غيرُ ذي مَيَل رأيٌ شديد القِوى، ما فيه من خَوَرٍ ... لا بل سدي النُّهى ما فيه من خَلل ورايةٌ ما هَفَتْ يوماً ذوائبها ... إِلاّ على قدّ عَسّالٍ من الذُّبُلِ صفراءُ، خافقةٌ بالنّصر، حائزةٌ ... بالحَوْل ما لم يَحُزْه الغير بالحِيَل منشورة ليس يُطوى عزمُ ناشرها ... حتى ينالَ مكاناً قطّ لم يُنَل وصارمٌ مُرْهَفٌ خَفَّتْ مضاربُه ... فليس يَسْبق إِلاّ سُرعةَ الأَجل سيفٌ ليُوسفَ ما قُدَّت حديدتُه ... إِلاّ من الظَّفَر المقرون بالجَدَل محمرّةٌ بالدَّم المسفوح خُضرته ... فآسُها نابتٌ في وَرْدِه الخَضِل كأَنّه وهو في يُمْناه مُنْصَلِتٌ ... برقٌ جلا عارضاً في عارضٍ هَطِل وذابِلٌ عَطْفُه يهتزّ من طَرَبٍ ... إِلى الطِّعان ولا يهتزُّ من خَطَل صُلبُ المَكاسِر، لَيْن المَتْنِ، فارسُه ... له من الجيش ما يَهْوى من النَّفَل بلَهْذَمٍ من نجوم القذف، طاعنُه ... يكاد يُنْفِذُه من صَفحة الجبل يزداد من طَوْله طُولاً براحته ... إِذا طِوال الرُّدَيْنِيّات لم تَطُل وسابحٌ لو يُجاري الريحَ عاصفةً ... لقُيِّدَت خطوات الرّيح بالفشل سهلُ القياد فما يُعزى إِلى شَغَبٍ ... جَمُّ النَّشاط فما يُدْعى إِلى كسل ثَبْتُ الشَّوى والقَرا، والرِّدف مجتمعٌ ... مُلَمْلَمٌ مُشمخرُّ المَنْكِبَيْن عَلي إِذا تَأَمَّلْتَ أَعلاه وأَسفلَه ... رأَيت حُسْناً مقيماً غير مُرْتَحِل صافي الأَديم صقيل، لونُ كُمْيَتِه ... من الكُمَيْت فلم يَنْقص ولم يَحِل بادي الحُجُول تُريك النجمَ غُرَّتُه ... بواضحٍ كصِقال المشرفيّ جَلي إِذا دنى وَجَرى من تحتِ راكبه ... نال المُنى بين ذاك الرَّيْثِ والعَجَل نجمٌ يمرّ ببدرٍ في دُجى قَتَمٍ ... صقرٌ يكُرّ بليثٍ في شَرى أَسَل بماجدٍ من بني أَيّوبَ طينَتُه ... من طينة الجود لا من طينة البَخَل بواحدٍ حَوْلَه في كلّ نائبةٍ ... من العزائم جيشٌ غيرُ مُنْخَذِل ومنها: يا أَيّها البطلُ المعروف بالكرم الموصوف، والرّجل المُوفي على الرَّجل يا أَيُّها النّاصِرُ المَلْك الذي قَهَرَتْ ... بسيفه مِلَّةُ الإِسلامِ للمِلَل ومنها: فلا بَرِحْتَ لدُنْيا أضنتَ مالكُها ... شمساً مدى الدهر لا تنأَى عن الحَمَل وأنشدني لنفسه قصيدة فيه، منها في صفة الجيش والخيل: جيشٌ تَجيش على مِثْل الصُّقورِ به ... أُسْدٌ بارثِنُها من كلّ ذي شُطَبِ في صفة الخيل: من كلِّ مُنْجَرِد الخدَّيْن تحسبه ... رُوحاً من البرق في جسمٍ من السُّحبِ وأنشدني لنفسه في الشمعة: وقائمةٍ لا تَمَلُّ القيام ... على بِرْكةٍ من لُجَينٍ بديعِ إِذا ابتسمتْ بين جُلاّسها ... حَباها التَّبَسُّمُ فَيْض الدموعِ وأنشدني لنفسه أيضاً في الشمعة: وشادنٍ نادمتُه ... تحت رُواق الغَيْهَبِ بدرُ دُجىً مُقترِنٌ ... من كأسه بكوكب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 يطعن أَحشاء الدُّجى ... عند الرِّضا والغضب بصَعْدَةٍ من فضّةٍ ... لَهْذَمُها من ذهب وأنشدني لنفسه في النار: يا حُسْنَ نارٍ أَتَتْنا ... في حِنْدِس الظَّلْماءِ وافتْ إِلينا تَهادى ... في حُلَّةٍ حمراءِ حتى إِذا ما توارت ... عن ذلك الإِيراء أَبدتْ قُراضةَ تِبْرٍ ... في خِرْقَةٍ دَكْناءِ وأنشدني لنفسه في كانون النار: وجاثمٍ بيننا على الرُّكبِ ... لا يتشكَّى الغَدَاةَ من تَعَبِ مُسَلْسَلٌيَعْذُبُ العَذابُ له ... فهو كقلبِ المُتَيَّم الوَصِبِ بينما أن تراه في سَبَحٍ ... يختال، حتى تراه في ذهب وأنشدني لنفسه في قصيدة أولها: كم بين شَدّي بأَشْطان النَّوى عِيري ... وبين شُربي على شَدْوِ النَّواعيرِ ما بين مُنْتَسِجٍ ضافٍ ومُطَّرِدٍ ... صافٍ كمِثْل الصَقيلات المباتير ومنها: ونَرْجِسٍ أَدمعُ الأَنداء حائرةٌ ... منه على عَسجَدٍ في وَسْط كافور ومنها في صفة الورد، وقال هذا معنى ما سبقت إليه: والوردُ ما بين أَغصانٍ تُحارِبنا ... عند القِطاف بأَظفار السَّنانير ومنها: قُمْ للصَّبوح فقد لاح الصَّباح لنا ... وبَشَّر الدّيكُ عنه بالتباشير وقامَ مُرْتَقِصاً ما فوق مِنْبَرِهِ ... مُصَفِّقاً بين تهليلٍ وتكبيرِ يقول هُبُّوا إِلى الّلذات وابتدِروا ... فقد صفا عَيْشُكم من كلِّ تكدير إِيّاكمُ أَن تَعُقُّوا بنتَ خابيةٍ ... كانت وِلادتها من عهد سابور كأَنّها ونَميرُ الماء يُرْهِقُها ... نارٌ تَسَرْبَلُ سِرْبالاً من النُّور كأَنّها، وَيَدُ الساقي تكُرّ بها ... ياقوتةٌ رقصت في ثوب بَلُّور وأنشد الملك الناصر أيضاً قصيدة منها: جِبالُ عُلاً تُطاوِلُها هِضابُ ... وأُسْدُ وغىً تُواثِبها ذئاب وكيف تساجِل الصُّبْحَ الدّياجي ... وكيف يُماثِلُ البازَ الغراب سيُخْمِدُ نارَ هذا الخطب مَلْكٌ ... لنيرانِ الحروب به التهاب فتىً للمُعْتَدين به عِقابُ ... كما للمُجْتَدين به ثواب فتىً دانتْ لِعِزَّتِه الليالي ... وذَلَّت تحت أَخْمَصِه الصِّعاب ومنها: سيَرتُق فَتْقَ هذا المُلْك منه ... قواضبُ، للرؤوس بها انقضابُ ويمرِعُ بالبَوار جَنابُ قومٍ ... لهم عن نُصْرة الدين اجتنابُ فلا تقبل لهم، ما عِشْتَ، عُذراً ... وإِنْ خضعوا لَدَيْكَ وإِن أَنابوا همُ حَشضدوا عليك بكلّ وادٍ ... عصائبَ، بالضَّلال لها اعتصاب وجيشاً مُذْ دعاك على اغترارٍ ... صلاحَ الدين، عاجَلَه الجواب بأَرعنَ مثلِ رُعْن الطَّوْد مَجْرٍ ... تَضيق به من الأَرض الرِّحاب خميس سوف ترضى البيض عنه ... إِذا زأَرت ضراغِمُه الغِضاب تكُرّ على الصُّقور به أُسودٌ ... عليها للقَنا الخَطِّيِّ غاب كأَنّ مُثار قَسطَلِه عليهم ... إِذا طلَعت شُموسُهم ضَباب فلمّا أَقدموا للطعن وَلَّوْا ... ولمّا أَيقنوا بالنُّجْح خابوا ظفِرتَ أَبا المظفّر بالأَعادي ... وفُلِّلَ منهمُ ظُفْرٌ وناب وكانوا كالحديد، فحين أُصْلُوا ... صلاحَ الدين، نارَ سطاك ذابوا أَصابوا بالهزيمة حين وَلَّوْا ... ولو وقفوا الغداةَ لما أَصابوا غداةَ هزمتَهم فلَوَوْا وقالوا: ... غنيمتُنا السَّلامةُ والإِياب ومنها: وما ضَحِكتْ ثُغور الشام إِلاّ ... وفيها من مَحاسِنكم رُضاب فأَوجُهُكم كواكبُها الدّراري ... وأَيديكم مشارِبُها العِذاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 عَصَمْتُم بالعَواصِم كلَّ ثَغْرٍ ... بِذَبٍّ لا يُفَلّ له ذُبابُ أَطَرتم عنه عاديةَ الأَعادي ... كما طارتْ من الرّيح الذُّباب وَصَلْتُمْ فالعذاب بكم نعيمٌ ... وصُلْتُم فالنَّعيم بكم عذاب سيشكُر صُنْعَك عنه رِجالٌ ... فهم فيكم دعاءٌ مُستجاب وأنشده في تلك الأيام قصيدة أخرى موسومة، أولها: أَلا حبّذا وصْلُ الحبيب الذي شفا ... مُحِبّاً من الداء الدّويّ على شَفا ومنها: ويا حَبّذا صِرْفٌ من الرّاح قَرْقَفٌ ... صَرَفْتُ بها عني الأَسى فَتَصَرَّفا عفا الله عنها من كريمةِ كَرْمَةٍ ... بها منزل الأَحزان والهمّ قد عفا يطوف بها ساقٍ رشيقٌ مُهَفْهَفٌ ... تكامَلَ فيه الحسن لما تَهَفْهَفا غزالُ نَقاً، لمّا براه إِلهُه ... بَرى جسمَ ماءٍ فيه قلبٌ من الصَّفا من الغيد أَجْزيه عن الغَدْرِ بالوفا ... صفاءً، فَيَجْزيني عن الوَصْل بالجَفا ومن عجبٍ أَن لا يزيد تَعَطُّفاً ... ومن شِيَمِ الأَغصان أَن تتعطفا فواشَقوتي إِن لم يكن ليَ مُسْعَداً ... وواضَيْعَتي إِن لم يكن لي مُسْعِفا وقائلةٍ ماذا الكَلال عن السُّرى ... وعزمُك عَضْبٌ كلّما هُزَّ أُرْهِفا وقد أضجزلت كفُّ ابن أَيذوب للوَرى ... عَطاءَ إِذا ما أَشفق السَّمْحُ أَسرفا فقلتُ لها: إِني كيعقوب أَكمَهٌ ... فقالتْ: لك البُشْرى إِذا زُرْتَ يُوسُفا إِلى ملكٍ إِن جاد زاد، وإِنْ سطا ... أَبادَ، وإِن أَعطى أَفاد وأَتْحفا ومنها في صفة السيف والقلم: إِلى مَن له باعٌ طويلٌ، وصارمٌ ... صقيلٌ، إِذا ما أَنصفَ الهامَ نَصَّفا وأَرقشُ من صُمِّ اليراع مُثَقَّفٌ ... إِذا هزّه فاق الوَشيجَ المُثَقَّفا فهذا من الأَعناق يكشِط أَحرفاً ... وهذا من الأَرزاق يَسْطُر أَحرفا فذاك الذي يُجري نَجيعاً مُضَرَّجاً ... وذاك الذي يُسْدي صنيعاً مُفَوَّقا ومنها: كريمٌ إِذا ما جاءه معدِمٌ حبا ... حَليمٌ إِذا ما جاءه مُجْرِمٌ عَفا ومنها: أَيا مَنْ يخاف الشِّرْكُ عَزْمتَه التي ... بها أَمِنَ التوحيدُ لمّا تَخَوّفا ويا من إِذا ما ضَلَّ عن سنَن الهُدى ... سِواه، قضى بالعدل فينا وأَنصفا أَثِرْها نِحافاً كالسَّراحين سُزّباً ... وَقُدْها خِفافاً كالشّواهين شُرَّفا عليهنّ من راياتك الصُّفْر رايةٌ ... إِذا زحفت لم تُبْقِ في الأَرضِ مَزْحَفا وغابُ قناً سُمْرٍ إِذا طَعَنَتْ به ... أسودُ بني شاذي الحُماة تَرَعَّفا وكُنْ قائداً أَعلام جيشٍ عرموم ... كأَعلام رَضْوى كلّما سار مُوجِفا لهُامٍ إِذا ما رفرف النَّقْعُ فوقه ... رأَيت له فوق السِّماكَيْن رَفْرَفا فما إِن ترى صُبْحاً من اللَّمْعِ فوقه ... إِلى أَن ترى ليلاً من النَّقْع مُسْدِفا بكلِّ صقيلٍ يقطُر الدمَ حَدُّه ... كأَنّ على مَتْنَيْه حمراءَ قَرْقَفا شَققتَ به لمّا تبسّم ثغرُه ... عيونَ جِراحٍ في الجماجم ذُرَّفا ستُنْصَر نصرَ المُصْطفى يوم بدرِه ... وما يَنْصُر الرَّحْمنُ إِلاّ مَنِ اصطفى ولسعادة الضرير الحمصي من قصيدةٍ أنشدها للملك الناصر بحماة في ثامن صفر سنة اثنتين وسبعين أولها: يا وابلَ المُزْنِ إِن حَيَّيْتَ حُيِّيتا ... عنّا العِراق وإِن رَوَّيْت رُوِّيتا ومنها: للهِ كم من فتاةٍ في مَرابعها ... تَهْدي إِلى كَبِد العُشّاق تَفْتيتا ومِنْ مَهاةٍ مَهاةُ الرَّمْل تُشْبِهها ... عَيْناً وتشببهاً أُمُّ الطَّلى لِيتا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 بيضاء تُسْبِلُ سُوداً من ذوائبها ... ما زال منهنّ ذَوْب المِسك مَفْتوتا وتنِفُث السِّحرَ من أَجفان فاتنةٍ ... تُعَلِّمُ السّحرَ هاروتاً وماروتا ومنها في صفة السيف: كم زُرْتُها والقنا من دونها أُزُرٌ ... فما نَكِلْتُ ولكن زِدْت تَثْبيتا ولي خليليٌ خَلِيٌّ أَستعينُ به ... عَضْبٌ به الماذِيُّ مَبْتوتا يرعى نبات الطُّلى في كل مُعْتَرَكٍ ... وليس ترعى المنايا فيه تَنْبيتا أَجرى الفِرَنْدُ على صَفْحَيْه جَدْوَلَه ... وصافح الحتفُ حتفاً فيه مَسْؤُوتا وأَشبه الذَرَّ ذَرٌّ فيه مكتَمِنٌ ... لا يرتضي غير أَرواح العِدى قُوتا أَجاده بسَرَنْديب وأَخْلَصه ... قَيْنٌ فجاء صقيل المَتْن إِصْليتا يَظَلُّ يُرْعِدُ لا من خِيفةٍ فإِذا ... سَقْيتَه من دمٍ غَنّاك ما شِيتا ومنها: ورُبّ ليلٍ جعلنا في دُجُنَّتِه ... كأْسَ المُدامِ إِلى اللذات خِرِّيتا كأْساً تُجَمِّعُ أَشتاتَ السرورِ لنا ... كما تُشتِّت شملَ الهمِّ تَشْتيتا فَسَقِّنيها بلا رَيْثٍ ولا مَهَلٍ ... ولا ازورارٍ إذا زُرْت الحوانيتا واضرِم بنار السواقي نار ساقيةٍ ... لم نَكْرَ عَن شربها ليلاً بتكريتا وغَنِّني ومغاني اللهو آهلةٌ ... هاتِ الحديثَ عن الزَّوْراء أَوهِيتا وعَنْ سميّ ابن يعقوبَ الذي حِجَجي ... إِلى أَياديه لا يَلْزَمْن توقيتا الناصرِ العادلِ المَلْكِ الذي بشَبا ... إِنصافه عاد عُود الظلم مَنْحوتا والطاعِن الغرّ آلافا مَصاليتا ... والواهب الْحُمر آلافاً يواقيتا حماة ابن قسيم الحموي هو أَبو المجد مسلم بن الخضر بن مسلم بن قسيم الحموي التنوخي. أبو المجد مجيدٌ للشعر، وحيدٌ للدهر، فريدٌ للعصر، ذو رقةٍ للقلوب مسترقة، وللعقول مسترقة، ولطفٍ للب سالب، وللخلب خالب، وللصبر غالب، ولدر البحر جالب، ولدر الفكر حالب، وفي عقد السحر بعقوده نافث، وبنسيم السحر في نسيبه عابث، نهجه محكم، ونسجه معلم، ومذهبه مذهب، وأسلوبه مهذب، وحوكه رفيع، وسبكه بديع، وسلكه متسق، ومطلعه مشرق، وروضه مونق، وعود فضله مورق. كان ثالث القيسراني وابن منير في زمانها، وسبقهما في ميدانهما، نبغ في عصر شيخوختهما، وبلغ إلى درجتهما، وراق سحرهما سحره، وفاق شعرهما شعره، لكنه خانه عمره، وفل شبا شبابه، وحل حبي آدابه، وأمر جنى جنابه، وحل شعوب بشعابه، وذلك في سنة نيفٍ وأربعين وخمسمائة. ووجدت في ديوانه لحناً فاحشاً، ووهناً بالخطل جائشا، ونظرت في ديوان شعره، فالتقطت فرائد دره، وقلائد سحره، وشحذت من غراره ما قبل الشحذ، وأخذت من خلاصته ما استوجب الأخذ، وأوردت لمحاً من ملحه، ونبذاً من منتقاه ومنتقحه. الباء فمن ذلك قوله: أَهلاً بطيف خيالٍ زارني سَحَراً ... فقمتُ والليلُ قد شابت ذوائبهُ أُقبّل الأَرضَ إِجلالاً لزَوْرته ... كأَنْما صَدَقت عندي كواذبه وكِدتُ لولاه وُشاةُ الصُّبح تُزْعجه ... بالبَيْن أُصغي لما قالت خَوالبه ومودِع القلبِ من نار الجوى حُرَقاً ... قضى بها قبل أَنْ تُقْضى مآرِبه تكاد من ذِكْر يوم البين تَحْرُقه ... لولا المدامعُ، أَنفاسٌ تُغالبه وصار من فَرْط ما أَضناه يَحْذَره ... فَرْطُ الضَّنا، فهو بالي الجسم ذائبه فللمدامع ما تُخفي ضمائره ... وللضَّنا منه ما تُخْفي جلاببه ومنها في مدح الرقيب: عابوا الرّقيب ولولاه لما حُمِدتْ ... عواقبُ الحُبّ وانساغت مَشارُبُه ولست أعذِلُه فيما يحاول من ... حفظ الأَحبّة بل لا كان عائبه إِني لأَعشقُ عذّالي على كَلَفي ... به ويحسُن في عيني مُراقبه ومنها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 لم تُبق عندي النَّوى لُبًّا أَحارُ به ... يوم الفِراق ولا قلباً أُحارِبُه ومنها: وُمْنَتضٍ صارماً من لَحظ مُقلتِه ... على مُضاربه تُخْشى مَضاربُه بدرٌ كأَن الثريّا في مُقَلَّدِه ... نِيطت بأَحسن ما ضَممَّتْ ذَوائبه يا وَيْحَهُ أَنجومُ الليل تعشقه ... أَم قُلِّدَتْ مِدَحي فيكم ترائبه وقال من قصيدة: أَما والذي أَهدي الغرام إِلى القلبِ ... لقد فتنتني بالحِمى أَعينُ السِّرْبِ رَمْتنا ولكن عن جُفونٍ مريضةٍ ... عَرَفْن مكان الحُبِّ من كَبِدِ الصَّبّ وَأَطْلعنِ مِنْ سِجَفْ الخُدور أَهِلّةً ... جَعَلْنَ سماء الحسن أَسِنمَة النُّجْب وما كنت أَدري أَنّ غِزلان عالجٍ ... مَراتعُها بين الأَكِلَّةِ والحُجْب لقد أَخذوا بالبَيْن من كلّ عاشقٍ ... بَقِيَّةٍَ نَفْسٍ لا تُفيق من الحُبّ رأَتْهُنّ من حَمْل السِّهام عوارياً ... وما عندها أَنَّ الكنائن في النَّقْبِ ولو علم المُشتاق أَنّ حِمامه ... مع الرَّكْب لم يقرأْ سلاماً على الرَّكْب ولمّا رأَيْنَ القُرْبَ عَوْناً على الجَفا لِذي الحُبِّ سَلَّطْنَ البِعاد على القُرْب قيا قُرْبَ ما بين الصَّبابة والحَشى ... ويا بُعدَ ما بين المَسَرَّة والقلب وما صَدّ عني النومَ مثلُ مُهَفْهَفٍ ... كأَنَّ به معنىً من الغُصُن الرَّطْب ثنى عن نفيس الدُّرِّ فضلَ لِثامِه ... كما افترّ بدرٌ في الدُّجُنَّةِ عن شُهْب ومنها: تَقَلَّد من أَلحاظه مِثْلَ عَضْبِه ... فأَصبح يعتدّ الجُفونَ من القُربِ وقد كنت أَخشى السيفَ والسيفُ واحدٌ ... فما حيلتي إِذ قلد العَضْب بالعضب خليليّ هل أَلقى من الدَّهر مُسْعِداً ... يعرّفني مُرَّ الزَّمان من العَذْب وقال من أبيات: يا مالكَ القلبِ أَنت أَعلمُ مِنْ ... كلِّ طَبيبٍ بعلَّةِ القلبِ إِن كنتُ أَذنبتُ في هواكَ فقد ... أَصبح هجري عقوبَة الذنب إِنّي لأَرضى البِعاد منك إِذ ... كنتَ له مُؤثراً على القُرْب وهجرُك المُرُّ إِن رضيتَ به ... أَطْيبُ عندي من وَصْلك العَذْب ولائمٍ في هواك قلتُ له ... قبلَ سماعِ الكلامِ والعَتْبِ قُمْ يا عَذولي فإِنّ قلبك لا ... تخِطُرُ فيه وَساوسُ الحبّ جسمَك أَبلى السَّقامُ أَم جسدي ... وقلبُك المُسْتهام أَم قلبي دَعْني بِداء الهوى أَموت فما ... أَطيبَ في الحبّ مِيتَةَ الصَّبّ وقال في غلامٍ مجدورٍ: رأَوا جُدَرِيّاً لاح في صَحْنِ خَدّه ... كدُرِّ العقود في نُحور الكواعب وما هو إِلاّ البدرُ لمّا تكاملت ... مَحاسُنه نقَّطْنه بالكواكب وقالوا رمتْه النائبات ضَلالةً ... وماعلموا أَنّ العُلى بالنوائب الجيم وقال يصف الشقيق: وترى الشقيق كأَنّ روضتَهُ ... لمّا سقاه مُضاعفُ النَّسْجِ حُلَلٌ مُعَصْفَرةٌ شُقِقْن على ... مُتَقابلاتِ ثَواكِلِ الزَّنِجْ وله في زهر الباقلاء: لله في زمن الربيع وصائفٌ ... حُفَّتْ بزَهْرَةِ باقلاءٍ مُبْهِجَهْ وَلَوَتْ بمَفْرَقِهِا عِصابَة لؤلؤٍ ... فكأَنّ شمساً بالنجوم مُتَوَّجَهْ وكأَنّ أنملها حَبَتْكَ بدُرّةٍ ... بيضاء مُطْبِقَة على فَيْروزَجه الحاء وله من قصيدةٍ: بِمثلِ ذا لا يُعالَجُ البَرْحُ ... كيف يُداوي بقاتلٍ قَرْحُ عابو ضلالي به فلا رَشِدوا ... واستقبحوا عِلّتي فلا صَحّوا يا وَجْبَةَ القلب حين قُلتُ له ... علّك من نشوةِ الهوى تصحو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 هذا وكم لي أرَاك تنصحُه ... فما ثنى من عِنانه النُّصْحُ لكنه ينطوي على حُرَقٍ ... لِنارها في فؤاده قَدْح وكلما زُيِّن السُّلُوُّ له ... قال أَعنديَ يَحْسُن القُبْح ويا مُمِيتي بالهجر حَسْبُك قد ... أَتْعَبَني قصدُك الذي تنحو وكان مَزْحاً هواك أَمْسِ فيا ... هَوْلة ما جرّ ذلك المَزْح ومنها في وصف فرس: ومُقْرَبٍ لو أَعرتَه اللَّمْحَ بالعي ... ن كبا في غُباره اللَّمْحُ على الدُّجى منه مَسحةٌ وعلى ... مَتْن الضيا من يمينه مَسْح أَغرّ، صافي الأَديم أَدهم لا ... يخجل إلّا من لونه الجُنِح كأَنما قُدَّ جسمه من دُجا ال ... ليل ومنوجهه بدا الصُّبح قصّر عن شأوه الجِياد كما ... قصّر عن مَكْرُماتك المَدْحُ ومنها في المدح: كأَنني البُحتِريُّ أُنْشِدِه ... وهو على عِظْم شأنه الفتح فكلُّ مجدٍ لمجده تَبَعٌ ... وكلُّ طَوْدٍ لِطوده سَفْح ومنها: قد كنتُ خرباً للدهر قبلُ وفي ... أَيّامه تم بيننا الصُّلْح ومنها: فاْسلم فأَنت السواد من مقلة الدّ ... هر ومن بَيْضة العُلى المُحّ وقال من قصيدة: سَلْه مِنْ سُكْرِ الهوى كيف صَحا ... فسقى الدَّمْعُ الجفونَ القُرَّحا زاده في الحبّ وَجْداً بكم ... لائمٌ لام عليكم ولحا فاستلذّ الهجر واستدنى النّوى ... وارتضى السُّخْط وخان النُّصَحا وسقى الأَطلالَ مِن أَجفانه ... مَدْمعاً لولاكمُ ما سفحا لا رَعاهُ الله إن مال إِلى ... سَلْوَةٍ بعدكمُ أو جَنَحا وصحيح الشَّوْق مصدوع الحشا ... نَطَق الدَّمْع به فافتضحا بات لا يطرُقُه طَيْفُكمُ ... ربَّ طَيْفٍ ضَلَّ لمّا سَنَحا وقال من أبياتٍ في وصف كتاب: حَيِّ كتاباً فَضَضْتُ خاتِمَه ... عن مثل وَشْي الرّياض أَو أَملحْ يا كرّم الله وجه كاتبه ... عرّض لي بالجَفاء أَو صَرَّح شحّ بأَلفاظه وخاطِرُه ... بالدرّ من كلّ خاطرٍ أسمح حتى أَتاني كتابُه فشفا ... كلَّ فؤادٍ بِبَيْنِه مُقْرَح الدال وقال من قصيدة: وَحَقِّ الهوى لا خُنْتُ ميثاق عهدِهِ ... وإِني لأُغري من فُؤادي بوجدهِ وخَلْفَ الثنايا الغُرِّ ما يَبْرُدُ الجَوى ... ويَذْهب من جَمْرِ الغرام بوَقْدِه ومنها: وَحَيٍّ على الماء النّميرِ طرقْتُه ... وقد مَلَّ ساري الليل من طُول وَخْدِه فلم تر عيني والخيامُ كأَنّما ... تُزَرّ على غِزْلان خَبْتٍ وأُسْده بأَصبرَ من قلبي على فَقْدِ صبره ... ومني على فَقْد الحبيب وبُعْده ومنها: وقد كان مفتوناً بمُرْسَلِ صُدْغه ... على وَجْنَةٍ كالبدر ليلةَ سَعدِهِ فلما رأَت أَن ليس في حِمْص عَقْرَبٌ ... مَواشِطُه أَخْفَيْنَ عقرب خدّه وَقُلْن لساقيها ودُرُّ حَبابها ... مُوَكَّلَةٌ أَيدي المِزاج بنَضْده: أَأَنْتَ أَعرتَ الكأْسَ واضحَ ثغره ... أَمِ انتثرت فيها فرائد عِقده؟ وقال من أخرى: هذا الفِراق وأَنت شاهُدُه ... فإِلامَ تكتمُ ما تكابِدُهُ خَلِّ السُّلُوَّ لمن يَليق به ... ولْيُبْدِيَنَّ هواكَ جاحِدُه فالبيْنُ ما ظهرت علائمه ... والحبّ ما نطقت شواهده ومنها: ولقد رقَبْتُ الطَّيْفَ أَسأَلهُ ... عنكم فما صدَقت مواعدُهُ والمستمرُّ على قطيعتهِ ... في الحبّ فاسدةٌ عقائده ومن العجائب أَن يَزيد به ... داءُ السَّقام وأَنت عائده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 ومنها في المدح: مُتَيَقِّظٌ ورِث الكمال فما ... يخَشى اعتراضَ النقص زائدُهُ فالرِّزق والأَجلُ المُتاحُ معاً ... في ضمن ما رَقَشَتْ أَساوِده وتكفَّلَ الفَلكُ المُدارُ له ... بأَسدَّ ما يَقضي عُطارِدُهُ ومنها: لو قاستِ الكُرَماءُ حاتِمها ... بك أَيُّها المقصودُ قاصدُه لتَستَّرْت خجلاً مكارمُه ... وتحَوّلت بُخْلاً عوائده لم يَرْقَ مجداً أَنت فارعُه ... من نام ليلاً أَنت ساهده وقال من أخرى في ابن منير: وأَين البِيض من لحظاتِ بيضٍ ... قطعتُ بها الليالي غيرَ سُودِ وفي الحيّ المُمَنَّع من عقيلٍ ... عقائلُ كالصَّوارم في الغُمود نواعمُ مثلُ أَيّام التداني ... قُرِنَّ بمثل أَيّام الصُّدودِ تَذُبّ عن اللِّحاظ بكل عَضْبٍ ... وتُدْني للقلائد كلَّ جيد ومنها: ودونَ مَها الخُدورِ أُسودُ حربٍ ... تواثَبُ في الكريهة كالأُسود فوارسُ تَجْتنى ثمرَ المعالي ... بأَيدي النصر من ورق الحديد ومنها: وما وادٍ كأَنّ يد الغوادي ... كَسَتْهُ قلائد الدُّرِّ النضيدِ حَلَلْن فما حَلَلْن به نِظاماً ... وقد غادَرْنُه أَرِجَ الصَّعيد يضوع تُرابه مِسْكاً إِذا ما ... سَحَبْنَ عليه أَذيالَ البُرود فَبِتْنَ وما حَطَطْنَ به لِثاماً ... يَخْلْنَ حَصاه من دُرِّ العقود بأَحسنَ من صفاتك في كتابٍ ... وأَنفسَ من كلامك في قصيد وقال يصف الرمانة: ومُحْمَرَّةٍ من بنات الغصو ... ن يمنعها ثِقْلُها أَن تميدا مُنَكَّسة التّاجِ في دَسْتها ... تفوق الخُدودَ وتحكي النُّهودا تُفَضُّ فَتَفْتَرُّ عن مَبْسِمٍ ... كأَنَّ به من عَقيقٍ عُقودا كأَنّ المقابل من حَبِّها ... ثُغورٌ تُقَبِّل فيها خُدودا وقال من قطعة: مَنْ لِصَبٍّ مَسَّهُ فَرْطُ الكَمَدْ ... وفؤادٍ خانه فيك الجَلَدْ أَنا مأسورٌ وما أَرجو فِدىً ... ومريضٌ غير أَني لم أُعَد أَنا مقتولٌ ولكن قاتلي ... في الهوى ليس عليه من قَوَد يا قضيباً ماس في دِعص نقاً ... وغزالاً بين جَفنيْه أَسد سُقْم جفنيْك الذي أَلبسني ... ثوبَ سُقْم وعذابٍ مُسْتَجَدّْ لك وجهٌ جَلَّ مَنْ صوَّره ... لو رآه بدرُ تِمٍّ لسجد وقال، وهذه الأبيات على خمسة أوزانٍ وخمس قوافٍ: قل للأَمير أَخي الندى والنائل ... الهطّال للشعراءِ والقُصّادِ لا زلتَ تنتهك العِدى بالذابل ... العسّالِ في الأَحشاءِ والأَكباد ووُقيتَ من صَرْف الرّدى والنازِلِ ... المُغتالِ بالأَعداءِ والحُسّاد وقال في قصيدة: يا باكي الدارِ بكاظمةٍ ... وبكاءُ الدّارِ من الكَمَدِ أَفنيتَ الدَّمْعَ على حجرٍ ... وأَضعت الصبر على وَتَدِ فاذخَرْه مخافَةً نازِلةٍ ... أَأَمنتَ اليومَ صُروفَ غَد هي عينُك لو لم تَجْن لما ... عاقبتَ جفونك بالسَّهد ومنها: فأَتيتَ الماء تحاوله ... والماء مُنْيَةُ كلِّ صَدِ فالوَيْلُ لنفسك إِن وردتْ ... والويل لها إِنْ لم ترد أَقبلتَ فقلت أُقبّلهُ ... ولو أنّ الموت على الرَّصَد فرشفت مُجاجَةَ مُبْتَسَمٍ ... أَشهى وأَلَذَّ من الشَّهد ومنها: يا أَين الصبرُ فأَنْشُدَه ... وعساي أُدَلُّ على الجَلَد ظَعَنَ الأَحبابُ وعندهم ... قلبي سَلبوه ولم يَعُد وبراني السُّقْم بهم فبق ... يتُ بلا قلبٍ ولا جسد الذال وقال: الوصلُ من الحياة أَحلى وأَلذّ ... لو يُنْصِف من أَضاع عهدي ونَبَذْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 لم يَشْقَ بحُكْمه الذي فيّ نَفَذْ ... لو رَدّ إلى المحبّ ما منه أَخذ الراء وقال: وأَهيفِ القدِّ سهل الخد أَسمر كال ... خَطِّىّ صِرتُ به بين الورى سَمَرا إنّ القلوب لتَهواه وما برِحت ... منه على خطرٍ إِن ماس أَو خَطَرا وكان غير عجيبٍ من ملاحته ... أَن يجمع الحُسْنُ فيه الغُصْنَ والقمرا عاثتْ لِحاظُكَ في بُستانِ وَجْنَتِه ... فقام مُفْتَرِساً باللَّحظِ مُنْتَصِرا وقال لي القلبُ لمّا صار في يده ... هذا الذي لُمْتني فيه فكيف ترى دَعْني أُهَتّكُ سِتري في مَحّبته ... وما أُبالي ألآمَ الخَلْقُ أَم عَذَرا وقال من قصيدة: وأَشهى ما إِلىَّ إذا أَضاءَت ... سماءُ الكأْس من شمس العُقارِ وأَغْيد مثل مَتْن الرِّيح لِيناً ... تَفُلّ جُفونُه جَفْنَ اصطباري كأَنّ بخدّه ماءً وناراً ... تولّد منهما ليلُ العِذار وتَسْكَر مُقْلتَاه براح فِيهِ ... ففي لحظاته أَثر الخُمار سقاك على تورُّد جُلَّنار ال ... خدود مُدامةً كالجُلنَّار ومنها في المديح: أَفِرُّ إِليك من وَشَل العطايا ... وأَسْبح من نوالك في الغِمار وإِنكمُ إذا طلَعت نجوم الْأ ... سّنة في دُجى ليل الغُبار لَآباءُ المكارم والمعالي ... وأَبناء الضَّراغِمَة الضّواري فأَنت الشمس لم يكْفُرْك ليلٌ ... دَجا والبدرُ جَلّ عن الِسَّرار وقال، وقصد أن لا تخلو كلمةٌ من صاد وكلمة من سين، وفي الأبيات تعسف: تُصْغي لتستمع اصطِخا ... بَ لسانه الصُّمُّ السَّوادِرْ وَصَل السَّجاحَة بالصَّبا ... حِة سالبٌ بالصوتِ ساحِرْ صَلَتان يَسْتَثْنى لعْصم ... ته وسيرته الخَناصر ساعٍ لمصلحة المُجا ... لس والمُصاحب والمُسامِر مُتَوَصِّلٌ سرَّ الصد ... يق وآسِفُ الخَصْمِ المُساورِ وَلَصيتُه السامي الصّفا ... ت بسائر الأمصار سائر صَدَقَتْ فِراسةُ واصفيه ... فسَلْ بمُصْمي السهم ناصر نِدْسٌ بصائب حِسِّه انْت ... صر السَّوالف والمُعاصِر وَسَما بأَخْمَصِه سما ... ءَ الخالصين سَنا العناصِر وقال من أبياتٍ يصف المطر ووقوعه على الماء: والغيثُ منسكِبٌ كأَنّ حَبابه ... دُرٌّ يُبَثُّ على المياه وُيْنَشرُ فحسِبْتُ أَنّ الروض منه مُنَوِّرٌ ... والأَرض غَرْقى والغدير مُجَدَّر وقال من قصيدة: أَلآلٍ ضَواحِكٌ أَمْ ثغورُ ... وليالٍ حَوالِكٌ أَمْ شُعورُ وشمُوسٌ من القَراطق تبدو ... سافراتٍ وجوهُها أَم بدور كتَمَتْها الخدُور عنّا غداةَ الب ... ين يا حُسْنَ ما كَتَمْنَ الخُدور وتراءتْ لنا فَخِلْنا بأَنْ قد ... وُشِّحَتْ بالثُّغور منها النُّحور حاسرات سُجْفَ الأَكِلَّة تيهاً ... ولها من قَنا الوشيج سُتور ومنها: وقفوا للْوَداع والَأرضُ من ثِقْ ... ل التّشاكي يوم الفِراق تمورُ ثم ساورا والعيسُ من وَلَه البْي ... ن على أَنْفُسِ الكُماةِ تسير آه يا مُلْبسي السُّهادَ لِمَنْ بَعْ ... دَهُمْ حُلَّةَ الرُّقاد أُعير كدّر العَيْشُ عيشتي واللّيالي ... رُبّما شابَ صَفْوَها التكدير ومنها في المدح: صاحَ بالسيف مُصْلَتاً في الأَعادي ... فأَجابته هامُها والنُّحورُ ولو أنّ الأرواحَ تُعْطى أماناً ... منه كانت خوفاً إليه تطيرُ وكأَنّ الطُّلى تفاريد لفظٍ ... وكأَنّ السّيوف فيها ضمير وقال، وقد أوردت هذه الأبيات لبعض المغاربة فوجدتها في ديوان ابن قسيم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 ما كنتُ لولا كَلَفي بالعِذارْ ... أَصبو إِلى الشُّرْب بكأْس العُقارْ سال كَذَوْبِ المِسْكِ في وَجْنةٍ ... وَرْدِيّةٍ تجمع ماءً ونار هذا وما دبَّ جُنوني به ... فكيف إن تَمَّ به واستدار وفاتِر المُقْلَة ما زِلتُ من ... نواظر الخلقِ عليه أَغار ملّكتْهُ رقِيّ على أَنه ... يُجيرُ قلبي فتعدّى وجار وَيْلاهُ من صِحَّةِ أَجفانه ... وما بها من مَرضٍ واحوِرار وآهِ من وَجْنَتِه كّلما ... تعقربَ الصُّدْءغ عليها ودار أَهْيَفُ ما تحت مَزَرِّ القَبا ... أَبْلَجُ ما تحت مَدَبِّ العِذار مثلُ قضيب البانِ لكنّه ... يحمل في أَعلاه شمسَ النهار وكلّما تاه عليّ اسْمُه ... وجدته في الورد والجُلَّنار وقال: خير ما أَصبحتَ مَخْلوعَ العِذارِ ... فانِفِ عنك الهمَّ بالكأْسِ المُدارِ قُمْ بنا ننتهبِ اللذَّة في ... ظلِّ أَيام الشّباب المُسْتعار إِنما العارُ الذي تحذَره ... أَن تراني من لباس العار عاري لا وَمَنْ داويتُ قلبي باْسمه ... لا تَدَرَّعْتُ بأَثوابِ الوَقار وَلَخَيْرٌ منه أَنْ أَشرَبها ... في سَنا الصُّبْح على صَوْتِ القَمارِي قهوة تُعْشَق مِنْ ذي هَيَفٍ ... قَمَرِيِّ الوجهِ ليْليِّ العِذار تَسْكَرُ الأَلبابُ من أَلفاظِه ... فهي تُغْني الشَّرْب عن شُرْبِ العُقار وإِذا حدَّثْتَه عن وَصْلِه ... راح لا يلْقاك إلاّ بازوِرار قمرٌ قبَّلْتُ منه وَجْنَةً ... حَشْوُها ما شئتَ من ماءٍ ونار نالَ منه اللَّحْظُ ما نال به ... فهو فينا أَبداً طالبُ ثار تفِرس الصهباءُ منه فارساً ... بَدويَّ اللَّفظِ تُرْكِيَّ النِّجار وإِذا طاف بها تحِسَبُه ... بدرَ ليلٍ حاملاً شمسَ نهار وسعيدٌ مَنْ تقضَّي عُمْرُه ... بين كاساتِ رُضابٍ وعُقار في اصطباحٍ واغتباقٍ واقترا ... بٍ واغترابٍ وانتهاكٍ واستتار شغلتْه الراحُ أَن تُبْصِرَه ... واقفاً يندب أَطلال الديِّار نِعْمَ دُنْياه التي راح بها ... طرباً يعثر في فَضْل الإِزار فإِذا ماتَ التْقى من ربَّه ... رحمةً تُسْكِنه دارَ القَرار وقال من قصيدة: سَفَرَتْ فخِلْتُ سَوادَ مِعْجَرِها ... ليلاً تَقَنَّعَ جُنْحَه بَدْرُ برزت لنا يومَ الوَداعِ وقدْ ... بَهَرَ الكواعبَ حَوْلَها الخَطْر من كلِّ جائلة الوِشاح إِذا ... قامت وناءَ بِرِدْفها الخصرُ فكأَنها شمسُ الضُّحى طَلَعَتْ ... وكأَنهنّ كواكِبٌ زُهْر نَفِد الزّمانُ ولم أَنل أَرَباً ... مِنْ وصِلهم وتصرَّمَ العُمْر كم أَجتنى ثمر الوفا ويدي ... مِنْ فضلِ ما عَلِقَتْ به صِفر وإِذا الهوى عَذُبَتْ موارده ... للعاشقين فَحُلْوُه مُرُّ يا مَنْ جفا طَرْفي فأَرَّقَهُ ... وخلا بقلبٍ حَشْوُه جَمْر عاقِبْ بسلبِ سوى الرُّقادِ فلي ... إلاَّ على فَقْد الكرى صَبْر فلعلّ طيْفاً منك يَطْرُقني ... تحت الظّلام فيُحَمَد الهَجْرُ ومنها في المخلص: أَأَلُوم دهراً ما لِحادثِه ... نَهْيٌ عليّ ولا له أَمرُ أَم كيف أَشكو صَرْف نائبةٍ ... ونَوالُ نصرِ الله لي نصر وقال: كم يهتِك الدهرُ سِتري ثم أَسْتُرُهُ ... وكم يقابل إِقبالي بإِدبارِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 وكلّما رُمْت منه مَخْلَصاً قعدت ... بيَ العوائقُ بين الباب والدار ؟؟؟ السين وقال: يا مَنْ يَعيب عليَّ حُبَّ مُدَلَّلٍ ... تَرِفٍ بأَردية الجمالِ نفيسِ لا دَرَّ دَرّكُ هل أَصابك عارضٌ ... حتى رجَعتَ بصورة المَنْكوس قمرٌ عصْيتُ اللهَ من كلَفي به ... وتبِعت طاعة شيخنا إبليس ونقضتُ توبتيَ التي أَبرمتُها ... نقضاً أَباح مُحَرَّماتِ كؤوسي يسطو وتفرِسه المُدامةُ بغتهً ... فَفَديتْهُ من فارسٍ مَفْروس قد كان يعتقد المسيحَ ويرتضي ... عند الصّباح بضجةً النّاقوس ولَطالمَا حمل الصليبَ وَعظَّمَ ال ... هوت بالتسبيح والتقديس وأَتى على مَهْلٍ يَقُصُّ طرائق الإْن ... جيل بين شَمامسٍ وقُسوس كالبدر كالطّاووس إلاّ أَنه ... في الحُسن فوق البدر والطّاووس وبسينِ طُرَّتِه من التعويج ما ... في نُون حاجبه من التّقْويس يرضى ويغضب فهو في حالاته ... حُلْوُ التبَسُّم قاتلُ التعبيس إن زار نلتُ به المرادو إِن يَغِبْ ... فالذِّكر منه مُضاجعي وجَليسي وإذا رمى باللَّحظ قال قتيلُه ... والدَّمْعُ في الوَجناتِ غيرُ حبيس: لولاك يا سَقِم النواظر لم يكن ... ظبْيُ الكِناس يصيد لَيْثَ الخِيس وقال: يا قلْبُ على فِراقهم لا تاسا ... تُخْطي وتلوم في خَطاك النّاسا لو كنتَ زجَرتَ طَرْفك الخَلاّسا ... ما رُحْتَ لأَسْهُم الهوى بُرجاسا الشين وقال: كَمْ ذي جَلَدٍ حَشاه بالوَجْدِ حَشا ... مَنْ طَرَّز بالعِذار خدّاً ووشى سْطَرا شَعَرٍ كلاهما مُنْذُ نشا ... بالمِسْك على حديقِ وردٍ نُقِشا الصاد وقال: ما مِنْ أَحدٍ يَزيد إلاّ نَقَصا ... فارحم أَسفي وَداوِ هذي الغُصَصا لم تَلْقَ فُديتَ مثلَ قلبي قَنَصَا ... الشوقُ أَطاع فيكَ والصبرُ عَصى الضاد وقال في حب أهل البيت عليهم السلام: ويدٍ بآلِ مُحّمدٍ عَلِقَتْ ... مِنّي فلستُ بغيرهم أَرضى جعل الإلهُ عليَّ حُبَّهُمُ ... وعلى جميع عباده فَرْضا فأَثارَ ذلك مِنْ زنادقةٍ ... حَسَداً فسَمَّوْا حُبَّهْم رِفضا وعَجِبْتُ هل يرجو الشَّفاعة مَنْ ... ينوي لآلِ محمدٍ بُغْضا وقال في صديقٍ له مرض وشفي: تَمَرَّض الجُودُ لمّا اعتادك المَرَضُ ... وأَصبح الدّهرُ للعلياء يعترِضُ أَضحى قذًى في عيون المكرُمات كما ... أَمسى يُرى وهو في أَحشائها مَضَض مَهْلاً شقيقةَ نفسِ المجد كلُّ أَذىً ... بالأَمس أُبْرِم عاد اليوم ينتقِض سهمٌ رمته الليالي وهي غافلةٌ ... فما تمكَّنَ حتى فَلَّه الغَرَض وقال رباعية: يا مَنْ سلب الفؤادَ أَين العِوَضُ ... أَصْمَيْتَ وقلّما أُصيب الغَرَضُ إِن كان بكيده لك المُعْتَرِض ... فالجَوْهر أَنت والأَنام العَرَض الظاء وقال من قصيدة: يا مُسْعِراً بالعَذْل أَثناءَ الحَشا ... عذلاً أَضرَّ على الجوانح مِنْ لَظى ما الوَجْدُ إلاّ أَنْ تُقَبِّلَ مَبْسِماً ... خَصِراً فيوسعَ نارَ شوقك مُلْتَظى ما نام عَزْمي عن مُعاودةِ السُّرى ... إلاَّ وجدتُ من الصَّبابةِ مُوقِظا ومنها في المدح: جمع المَهابَة في طلاقة وَجْهه ... كَمَلاً فكان الحازِم المُتَيَقِّظا وثَنا نداه له ثَنايَ فلن أُرى ... يوماً بغير مديحه مُتلِّفظا وقال في الغزل: ومُهَفْهفٍ جعل الغرامُ مَحله ... قلبي فخِفْتُ عليه حَرَّ شُواظِه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 قمر هجرتُ لهجره سِنَةَ الكرى ... وسئمتُ من بصري ومن إيقاظه تخشى القلوبُ عليه فاترَ طَرْفِه ... فكأَنهنّ نَفَرْنَ من أَلحاظه ما شِمتُ وَجَه البدر من أَعطافه ... حتى جَنَيْتُ الدُّرَّ من أَلفاظه هذا الذي لمّا استمال قلوبَنا ... قامتْ بخالص ودّه وحِفاظه العين وقال: وَصَلَ الكتابُ فما فضَضتُ خِتامَه ... حتى تأَرَّجَ طِيبُه وتضوَّعا كالرَّوض إلاَّ أَنّ وَشْيَ سُطوره ... أَسنى ندًى عندي وأَحسنُ مَوْقِعا فأَزَرْتُ منّي الطرفَ أَحسنَ ما رأَى ... منشورُه والسمعَ أَطيبَ ما وعا الغين وقال: ولقد سَنَحْنَ لنا بِحْمصَ جآذِرٌ ... عُقِدَتْ ذوائبهن بالأَرْساغِ وما بالهم حُجِبتْ عقاربُ أَرضهم ... وقتْلَننا بعقارب الأَصداغ الفاء وقال: أَسيرُ حُزْنٍ كَلِفُ ... نِضْوُ سَقامٍ دَنِفُ لم يَخْلُ جَفْنُ عينه ... من عبراتٍ تَكِف قد فعل الحبُّ به ... أَكثرَ ممّا أَصف بين ضلوعي كَبِدٌ ... حَرّى وقلبٌ يَجِف والنفسُ بالذُّلِّ لكمْ ... مُقِرَّةٌ تعترف كأَنّ قلبي كُرةٌ ... يخطَفها مُخْتَطِف أَصرِف همّي بالمُنى ... لو أَنه ينصرف والحبّ لا يعرفه ... إلاّ المُحبُّ الكَلِف يعلمُ مَنْ يظلمني ... أَنّيَ لا أَنتصف سَقْياً لأَيِام مضتْ ... وليس منها خَلَف وعيشنا مجتمعٌ ... وشَمْلُنا مُؤْتَلِفُ وقال: أَنت لي غيرُ مُنصِفِ ... يا كثيرَ التَّعَسُّفِ يا هِلالاً مُرَكّباً ... في قضيبٍ مُهَفْهَفِ أَنت ناري وجَنّتي ... وطبيبي ومُدْنِفي أَنت يا قاتلي بسف ... ك دمي غيرُ مُكْتَف وعلى العهد لا تدو ... م وبالوعد لا تفي وإذا زُرْتَ بان في ... ك دليلُ التَكَلُّف والذي بان مِنْ غرا ... مِيَ بعضُ الذي خفِي أَنت غرَّرْتني بصَفْ ... حة خّدٍ مُزَخْرَف وَجْنَةٌ مثل ما يُصَفَّ ... ق ماءٌ بقَرْقَف فمتى يكمُلَ العِذا ... رُ عليها وأَشتفي وقال من أخرى يمدح بها معين الدين انر بدمشق سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة: وكم ليلةٍ عاطانيَ الراحَ بدرُها ... ونادمني فيها الغزالُ المُشَنَّفُ ومنتَقش بالمِسْك وَشْيُ عِذاره ... كما انتظمتْ في جانب الطِّرْس أَحرفُ وقد يتبادى لفظُه وهو أَعجم ... كما يتقاوى خَصْرُه وهو مُخْطَف أَدقّ من المعنى الغريبِ وفوقه ... أَرقُّ من الماء المَعين وأَلطف معانٍ من الحسن البديع كأَنها ... خِلالُ مُعينِ الدين تُتْلى وتُوصف ومنها في المدح: ومُسْتَصِغْرٍ في الله كلَّ عظيمةٍ ... ولو أَنه منها على الموتِ مُشْرِفُ كأَنّ الملوك الغُرَّ حول سريره ... نجومٌ على شمس الظهيرة عُكَّفُ ومنها: فإن تَلْقَهُ تَلْقَ ابنَ هيجاءَ دهُره ... يريك عِنان الدَّهر كيف يُصَرَّف سَخِيٌّ جَرِيٌ لَوْذَعِيٌّ كأَنه ... إِذا ما بدا، غَيْثٌ ولَيْث ومُرْهَف ومنها: وقد هتف الداعي إلى الحمد باسمِه ... وقام مُنادى النصر باسمك يهتِفُ تألَّفَ شَمْلُ الدين عندك والعُلى ... وشَمْلُ العِدى والمال لا يتأَلَّف القاف وقال من قصيدة: أَبَتْ عبارت العَيْن بعدك أَن تَرْفا ... ولوعُة ما بين الجوانح أَن تُرْقى أَعُدُّ لقاء الحتف من بعض ما أَرى ... ويَصْغُر عندي الخطبُ في جَنْب ما أَلقى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 ويخِطُر في معنًى البانِ منكمُ ... فأَبكى وأَستبكي حمائمَه الوُرْقا ومنها: ووَجْدٍ إلى يوم الفراق شَكَوْتُهُ ... فلا لانَ لي قلبُ الفِراق ولا رَقّا وَلِمْ فرّقوا بين المَنّيِة والنَّوى ... ولم يجدوا في الفعل بينهما فَرْقا أَأَحبابنا واللِه ما رُمت عنكم السُّ ... لُوَّ ولا عَوَّدْتُ حُبَّكم المَذْقا ولا لمحتْني مُقلةُ الشوق قائلاً ... لحادثِة الأَيام بعدكمُ: رِفقا ومنها: وأَذكر أَيام الوِصال وطيبَها ... وتلك الليالي البيضَ والزمنَ والطَّلْقا فأَلزَمُ أَحشاءً أقام بها الجوى ... وقلباً أَبى إلا الصَّبابَة والخَفْقا وما كنتُ أَبقى ساعةً لا أَراكمُ ... ولكنّ دهراً سدّ دوَنكُمُ الطُرْقا فصِرْتُ إذا ما ازدَدْتُ شَوقاً إِليكمُ ... أُعِّللُ قلبي بالخيال الذي يلقى وقال في جواب كتاب ابن منير الشاعر وشعره على الوزن والقافية: بعثتَ الكتابَ فأَهلاً به ... يَسُرّ النواظرَ تنميقُهُ لئن أَخْجَلَ الرَّوْضَ مَوْشِيُّه ... لقد فَضَحَ الدُرَّ مَنْسوقه غريبُ الصناعة تجنيسُه ... نفيسُ البِضاعة تطبيقه ومنها: وواصلني بعد طول الجفا ... كما وصل الصَبَّ معشوقُه فزايلَ جفنيَ تأريقُهُ ... وعاود غُصْنِيَ تَوْريقه وَبِتُّ أُراقب مَسْطورَه ... كما راقب النجمَ عَيّوقُه فلمّا بدتْ ليَ أَلفاظُه ... تستّرَ فِكري وتلفيقه وكاسدُ نقصيَ أَخشى يُرا ... م في سوق فَضِلك تنفيقه أَما خاف يُهْتَك مَسْتوره ... أَما خاف يظهر مسروقه وقال من أخرى: صدَقوا ما لأَنْفُسِ العُشّاقِ ... قَوَدٌ من قواتِلِ الأَحداقِ ومنها: أَنت صَبٌّ وتلك أُولى المطايا ... فامزُج الدَّمعَ بالدم المُهْرَاَقِ يا مريضَ الجُفون إنّ سَقام الْأع ... ين النُّجْلِ صِحَّةُ العُشّاق شغلتني الأَيام أَن أتلقَّى ... زائراً من خيالِكَ الطَرَّاق ومنها: يا رعى اللهُ سالِفاتِ الليالي ... بالحِمى والزمانُ حُلْوُ المَذاقِ وسقاها مُنْهَلُّ دمعي إِذا لم ... يَجْرِ دمعُ السّحابة الغَيْداقِ ومنها: لستُ مِمّنْ يَثْني على كبدٍ حرّ ... ى يداً منه أو حشًى خفّاقِ كَذَبوا هلْ رأَيتَ مُهْجَةَ صَبٍّ ... قطُّ تجري في إثِر دمَعٍ مُراق إنّما الوجد أَن تَرَدَّدَ نفسُ المَ ... رءِ شوقاً بين الحَشى والتراقي ولهذا أَبيت أَرتقب الطَّيْ ... فَ وأَشتاقُ بَرْقَ أَهل البُرِاق وقال من قصيدة: مُتَيِّقظ لولا تضرُّم بأسه ... كاد الوشيج على يَدْيه يُورِقُ لو لم يَشُبْ فَرْطَ الشجاعة بالنَّدى ... لأَثار من سَطَواته ما يُحْرِق وقال: هل لك من داءِ الفِراق إِفراقْ ... يا صاحبَ القلبِ الشديد الأَشواقْ إيّاكَ والطَّرْفَ الكثير الاعلاق ... فإنِه آفةُ قلبِ المشتاق ومنها: أَهْيَفُ القامة حُلْو الَأخلاقْ ... له إِذا مال الكرى بالأَعناقْ حِجْلٌ صَموتٌ ونِطاق نطّاقْ ... والله لو عيشٌ صفا لي أَو راقْ ما قلت من أَجل غُصون تُشْتاق ... لها من الَجْعدِ الأَثيثِ أَوراق هلْ من طبيبٍ لسَقامي أَوْ راق الكاف وقال من قصيدةٍ يمدح بعض الأمراء، ويلقب ببدر الدولة: بكتِ الخُطوبُ وثغرُ مجدك ضاحكُ ... ونبا الحُسامُ وسيفُ عزمك باتِكُ يا ابن الأُلى اغتصبوا الممالك بالقَنا ... وإلِى العُلى لهمُ الطريقُ السالك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 ولقد عِجَرْتُ عن الهناء بدولةٍ ... نحن العبيدُ لها وأَنت المالك عربّية الأَوصاف ذات مكارمٍ ... جُبِرَ الكسيرُ بها وعاش الهالك عجميّة قُرِنتْ بخيرِ مُتَوَّجٍ ... زُفَّتْ إليه مدائحٌ وممالك ملكٌ إذا برَقتْ أَسِرَّةُ وجهه ... ضَحِك المُقَطِّب واسنتار الحالك فكأَنه فوق الحشّية جالساً ... أَسدٌ على مَتْنِ الفريسة بارك فيغارُ منه البدرُ وهو سمُّيهُ ... ويخاف فَتكته الشجاع الفاتك ومنها: فاسلم فما لكَ في الشّجاعة والنَّدى ... مِثْلٌ ولا لك في الجَمال مُشاركُ وسَقَتْكَ غاديةُ الشّباب كما سقى ... راجيك صَوْبُ نَوالك المُتدارِك فنداك مبذولٌ ومدحك سائر ... وحِماك ممنوع وطيبك صائكُ وقال من قصيدة أخرى: سرى مَوْهِناً واستكْتَمَتْهُ المهالكُ ... حبيبٌ أضاء الليلَ والليلُ حالكُ ومنها: وكم من قَوامٍ في الأَكلّةِ مُرْهَفٍ ... يُضي له بدرٌ ويرتجّ عانكُ من اللاءِ لا تلك الزيانب تنتمي ... إِليها ولا تلقاكَ منها العواتك تصُدُّ الفتى عن قلبه وهو حازمٌ ... وتَثْنيه عن سُبل الهدى وهو ناسك كأَن ضنى أحداقها وخُصورها ... تقاسَمَه عُشّاقُها والبواتك ومنها في المخلص: ويهماءَ باتتْ كالقِسِيِّ ضوامراً ... من الأَيْنِ فيها اليَعْمَلاتُ الرّواتِكُ وأَصبحْن من جذب البُرِين حواكياً ... أَِزَّمَتُهَّن المُسْنَماتُ التَّوامِك ولما أَحسّتْ أَنها من قواصدِ ... نَدى بنِ عليّ لم تَرُعْها المَهِالك ومنها: لقد جادَ لي حتى توهَّمتُ أنَني ... له في الذي تحوي يَداه مُشارِكُ وخَوَّلني فوقَ الذي كنتُ آمِلاً ... فعُدتُ ونظمُ الشعر للجودِ مالك فلا ناكبٌ عن سُبل ما أَنا قائلٌ ... ولا آخِذٌ إلاّ لما أَنا تارك ومنها في صفة الحرب: إذا اليومُ أَذْكى نارَ حربٍ تصافحتْ ... بساحته هامُ العِدى والسَّنابك وللشمس لأَلاءٌ يلوح كأَنّهُ ... على البِيَض من تحت العَجاج سبَائك وتُضْحي عِتاقُ الأعَوْجِيّاتِ ضُمَّراً ... يَعِلُ دماً منها القنا المُتشابك لها لُجُمٌ زُرْقُ الأسنَّةِ في الوغى ... فهنَّ لأطراف العوالي عَوالِكِ إذا صادفتْ جَلْداً من الأَرض رفَّعتْ ... بأَيدٍ وفيها أَوجهٌ وترائك وضاقت خُروق الأَرض وهي فسيحةٌ ... عليها وما ضاقت عليها المعارك لِيَهْنِ المعالي والعوالي وما حوَتْ ... سُروج المَذاكي منكمُ والممالك تزولُ الجِبال الصُّمُّ وهي رصينةٌ ... ومجُدكمُ باقٍ على الدهر آرِك لك العيدُ لا بل فيك للعيد رؤيةٌ ... أتيناك نستجدي بها ونُبارك وأَنت أَمَتَّ البخل وهو مُخَلَّدٌ ... عطاءً وأَحْيَيْتَ النَّدى وهو هالك وَجُدْتَ ولم تُسأَل وغيرُك واهبٌ ... إِذا سيل من دون العَطِيَّةِ ماحِك وقال من أبيات: مُلِّكوا حتى إِذا مَلَكوا ... أَخذوا فوق الذي تركوا ما على الأحباب إِن تلِفت ... مُهجتي في حُبِّهم دَرَكُ عاقَبوني بالجفا ويدي ... بذُيول العفوِ تَمْتِسك هتكوا سِتر الوِصال فوا ... حَرَبا من عُظِمْ ما هتكوا وطريقُ الحبّ واضحةٌ ... فلماذا غيرَها سَلَكوا ثم عادوا بالوِصال كما ... عاد بدرُ الدولة الملك اللام وقال من قصيدةٍ أولها: متى نَجَعَتْ في لوعتي وبلابلي ... نميمةُ واشٍ أَو نصيحةُ عاذلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 وحسبُ الهوى أَني إذا رُمتُ نُصرةً ... من القلب لَبّاني بِنِيَّةِ خاذل كأَنّ نسيماً من صَباً وشمائلٍ ... أَلمَّ بمعشوقِ الصِّشبا والشمائِل فرنَّح في ثوب المَلاحة قَدَّه ... تَرَنُّحَ خُوطِ البانَةِ المُتمايل ولمّا رمى باللَّحْظِ قلتُ لِجَفْنِه ... أخَلْفَك طَرْفٌ أَم كِنانُة نابِل وما هي إلاّ مُقْلةٌ رَشَيِئَّةٌ ... أَصاب بها طَرْفي خَفِيَّ مَقاتلي ومنها: وإنّ بقاء النفس بعد فِراقه ... دليلٌ على أَنّ الهوى غيرُ قاتل ومنها في المدح: وكمْ قائلٍ لمّا فَضَضْتُ حقائبي ... لَدَيْكَ وسارتْ في عُلاك عقائلي أَأَنتَ الذي صُغتَ النجوم قِلادةً ... ليَلْبَسَها في الحفل شَمْس الأَفاضل وللهِ أَخلاقٌ إذا شئت أَنتجتْ ... فصاحَة قُسٍّ من فَهاهِة باقِل سعى الدّهر في هضمي فلما كفَلْتني ... إِليك تناهى في نُموّ فضائلي فها أَنا منه بين شاكٍ وشاكرٍ ... وَجُودُك فيه خيرُ كافٍ وكافل ومنها في التهنئة بالعيد ووصف الهلال: وقد زارك العيدُ الذي أَنت عيدُه ... بأَبلجَ في بيتِ السّعادة نازِل براه إِليك الشَّوقُ حتى أَصاره ... بِفَضْلَة جِسمٍ كالقُلامِةٍ ناحل وقال من أبيات في ممدوحٍ اسمه عبد الله: وحقِّ نصف اسمه الأَخير لقد ... كنتُ له قديماً كأَوَّلِه لا تُولِني من نَداك فوق مَدى ... شُكري فتوهي قِوُى مُحَمَّلِه وقال: ما لِمَنْ مَلّني ولي ... ساءه قَوْلُ عُذَّلي لَيْتَه بالذي بُلي ... تُ به في الهوى بُلي يا خَليلَّي والمَلو ... لُ كثيرُ التنقُّل آه من سَطوة الحبي ... ب وفَرْطِ التَّدلُّل وقال في غلامٍ مُغرى بالبدال: ومُغْرَمٍ بالبِدال قلتُ له: ... صِلْني فكان الجواب: لا أَفعلْ كأَنّه والذي يديم له النّع ... مة مني يخاف أن يَحْبَل لو قيسَ بالرُّمْح قَرْنُ والده ... لكان منه بمثله أَطْول يأتي ويؤتى إذا مخافة أَن ... يقالَ هذا عليه قد أفَضْل فهو قليل الخلاف لو شئت أَن ... يبِذُلَ عَشْراً بالفَرْد لم يَبْخل لا يعرِف الغدرَ بالحَريف ومِنْ ... عادته أَن ينام في الأوّل لكلِّ مِيلٍ بِعَيْنِه أَثَرٌ ... وكلُّ عَيْنٍ بِمِيله تُكْحَل أَحسن ما كان رامحاً يَقِص الْأب ... طال حتى رأَيته أَعزل يكون من فوقُ راكباً فإذا ... تمَّ له الدَّسْتُ صار مِنْ أَسفل ومنها: فاغتنِم الوقتَ قَبْلَ ينبُت في ... خدَّيْك ما لا يُحَشَّ بالمنِجْلَ فاستعِمِل النَّتْفَ ما استطعت فما ... أَقبحَ زَرْعَ اللِّحى إذا سَنْبَل وإنّ وجهَ الإقبال عنك إذا ... وَلى رأَيت التَّعذير قد أَقبل الميم وقال من قصيدة: سقاني على عَينْيه كأْسَ رُضابِه ... فأَسكرني أَضعافَ سُكرِ مُدامِه وَأحسسُت قلبي بِداراً إلى الهوى ... فقلتُ له كُنْ منهما في ذِمامه وما كنتُ أدري أَنّ خَمّار طَرفِهِ ... يُرَوِّق لي ما خَلْف دُرِّ لثِامه هبوه أَعار الشمسَ ضوءَ جَبينه ... فمِنْ أَين للخَطِّيِّ حُسْنُ قَوامه وإِن أنَتمُ أَنكرتمُ أَنّ قَدَّه ... تَقَلَّدَ مِنْ عينيه مثلَ حُسامه فلا تنكروه إنّ حِلْيَةَ جِيده ... مُفَصَّلةٌ من ثَغْره وكَلامه ومنها: كأَنّ العيون النُّجْلَ قاسَمْنَه الهوى ... لأِنْ عليها مَسْحةً من سَقامِه ومنها في المدح: فتىً لم تزل أموالُه وعُداتُه ... على خَطَرٍ مِنْ بَذْله وانتقامِه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 ولو خاف مَنْ يسري إلى ظِلِّ مجدِه ... ضَلالاً لنَاداه النَّدى مِنْ أَمامه ولم أَكْسُه دُرَّ المديح وإِنما ... أَعرتُ نجوَم الليلِ بَدْر تَمامِه وقال ملغزاً بالسفرة: وجائِلة الوِشاح تُريكَ وَجْهاً ... جِنانِيَّاً تكوّن في الجحيمِ فتاةُ السِّنِّ صاحَبَها كثيراً ... سَراةُ الناس في الزمن القديمِ وكم جعل النِّطاقُ لها عِناناً ... تُقاد به إلى دار النعيم حياةٌ في البِعاد وفي التداني ... وأُنسٌ للمُجالس والنديم تجيء إِليك مُفْعَمةَ النّواحي ... وترجِع وهي ذاتُ حَشاً هَضيم وأَحسن ما تكون إِذا أَتتْنا ... أَناةَ الخَطْو حالِيَةَ الأَديم وقد كتبتْ أنَاملُنا عليها ... أَساطيراً مُلَوَّنَة الرُّقوم إِذا هي أَقبلت تسعى إِلينا ... رأَيت الشمسَ تُحْمَلُ بالنّجوم وقال في القطائف: ومجدَّرٍ عذُبَتْ مَراشفُ ثَغرِه ... فغدَوْتُ أَلِثَمُها ولستُ بآثمِ مُترقِرقٌ ماءٌ الجمالِ بوجهه ... أَندى وأَكرم راحةً من حاتِم يبدو فتمَحقُه الأكفّ تَناولاً ... وهو الحبيب إلى نفوس العالَم قَسَماً به وبما تجنّ ضُلوعُه ... يا خيرَ من جُذِبت إِليه عزائمي ما كنتُ قبل نَداك أَلمحُ شخصه ... إلاّ بأَعيادٍ لنا ومواسم ومنها في المائدة والسفرة: ورأيَتُ في دارِ الحبيب وصيفةً ... كالشمس تُحْمَل وهي ذاتُ قوائمِ وكثيرة الأَحداق تحت وِشاحها ... شمسُ الظهيرة في عُقود الناظم ولربّما جاءتك بينَ وَصائفٍ ... نَقَّطْنَ دائرَ وجهها بدراهم وقال من قصيدة يمدح بها أتابك زنكي بن آقٍ سنقر، أولها: بعزمك أَيها الملكُ العظيمُ ... تَذِلُّ لك الصِّعابُ وَتستقيم إِذا خَطَرتْ سيوفُك في نفوسٍ ... فأَوّلُ ما يفارقها الجُسوم ولو أَضمرتَ للأَنواءِ حَرْباً ... لما طَلَعْت لهَيْبَتِك الغيوم أَيَلْتَمِس الفِرنج لديك عَفْواً ... وأَنت بقَطْع دابِرِهِا زَعيم وكم جَرَّعْتَها غُصص المنايا ... بيومٍ فيه يَكْتَهِل الفطيم فسيفُك من مَفارِقهم خَضيبٌ ... وذِكْرُك في مواطنهم عظيم وكلُّ مُحَصَّنٍ منهم أَخيذٌ ... وكلُّ مُحَضَّنٍ منهم يَتيم ولمّا أَنْ طلبتَهُمُ تمنَّى المَنِيّ ... ة جُوسَلِينهُم اللئيم أَقام يطوّف الآفاق حيناً ... وأَنت على معاقله مُقيم فسار وما يُعادِلُه مَليكٌ ... وعاد وما يُعادلِهُ سَقيم أَلم تَرَ أَنّ كلب الروم لمّا ... تَظَنَّن أَنك المَلِك الرحيم فحينَ رَمْيَته بك في خميسٍ ... تيّقن أنّ ذلك لا يدوم كأَنّك في العَجاج شِهابٌ نورٍ ... تَوَقَّدَ وهو شيطانٌ رجيمُ أَراد بَقاء مُهْجته فَوَلَّى ... وليس سوى الحِمام له حَميم يؤمِّلُ أَن تجودَ بها عليه ... وأَنت بها وبالدُّنيا كريم رأَيتُك والملوكُ لها ازْدحامٌ ... ببابك لا تزول ولا تَريم تُقَبِّل من رِكابك كلَّ يومٍ ... مكاناً ليس تبلُغه النُّجوم تَوَدُّ الشمسُ لو وَصَلْت إِليه ... وأَين من الغَزالة ما تروم أَردتَ فليس في الد؟ ُّنيا منيعٌ ... وجُدْتَ فليس في الدُّنيا عديم وما أَحْيَيْتَ فينا العدل حتى ... أُمِيتَ بسيفك الزَّمن الظَّلوم وصِرتَ إلى الممالك في زمانٍ ... به وبمثلك الدُّنيا عقيم تزَخْرَف للأَمير جِنانُ عَدْنٍ ... كما لِعِدَاه تَسْتَعِرُ الجحيم أَقرّ الله عينك من مَليكٍ ... تُخامِرُ غير هِمّته الهموم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 فلا برِحت لك الدُّنيا فِداءً ... ومُلْكك من حوادثها سليم وإن تَكُ في سبيل الله تَشْقى ... فعند الله أَجرُك والنّعيم وقال من أخرى في الشيب: ومُرْتَدٍ بقِناعِ الشّيْبِ جاذَبَهُ ... من أَطْيَبَهْ عِنانَ اللَّذة القِدَمُ قضى ولم يَقْضِ من عَصْر الصِّبا أَرَباً ... كأَنّما هو في أَجفانه حُلُم ومنها: لو كنت أَعلم أَنّ الدهر يَعْقِبُنُي ... بُؤسي لما اختَرتُ أَنْ تُهدي ليَ النِّعَم وحاسدٍ سرّه أَني ابتدأتُ به ... لما تيقَّن أَني منه مُنتقم لقد سعى طالباً نَقْصي فزِدتُ به ... فضلاً وكان دليلَ الصِّحةِ السَّقَم النون وقال من قصيدة يهني بالبرء: زعموا أَنك اعتللتَ وحاشا ... ك وقالوا زلَّتْ بك القَدمانِ كذَبَ الحاسدون ما بك داءٌ ... غيرَ بَذْل اللُّهى وعِشق الطِّعان وقال من أخرى: أَلزمتَ طَرْفَك حِفظَ قلبك ضِلَّةً ... لقد ائْتمنتَ عليه غيرَ أَمين لا تُنْكِرَنَّ عليّ فَيْضَ مَدامعي ... فالدَّمعُ يَنْقَع غُلَّة المحزون بَخِل الغَمامُ وما حَلَلْت بمَعْهدٍ ... إلاّ حللتُ عليه عَقْد جُفوني ومنها: وبمهُجتي يا صاحبيَّ مُدَلَّلٌ ... أَنا بالحياة عليه غيرُ ضنين وأَبيك لو تُسْقى المُدامَ وريقَه ... لجهِلتَ أَيّهما ابنة الزَّرَجون وقال من قصيدة في مدح نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله: قِفْ حيث تُخْتَلَس النفوسُ مُهَابةً ... ويَغيض من ماء الوجوه مُعينُه فمن المُهنَّدِة الرِّقاق لَبوسُه ... ومن المُثقفة الدِّقاق عرينه تبدو الشجاعُة من طَلاقِة وَجْهه ... كالرُّمْح دَلّ على القَساوةِ لِينُه ووراء يَقْظته أَناةُ مُجَرِّبٍ ... لله سَطْوةُ بأْسه وسُكونه هذا الذي في الله صحّ جهادُه ... هذا الذي في الله صحّ يقينه مَلَك الورى مَلِك أَغرُّ مُتَوَّجٌ ... لا غدرُه يُخْشى ولا تلوينُه إن حلّ فالشَّرفُ التليد أَنيسُه ... أَو سار فالظفرُ العزيز قرينه والدّهر خاذِلُ من أَراد عِناده ... أَبداً وجَبّارُ السّماء مُعينه والدّينُ يَشْهَدُ إنّه لَمُعِزُّه ... والشِّرْك يعلم إِنّه لَمُهِينه وقال من أخرى: أَما ومكانِ خَصْرك من قَوامٍ ... ضعيفٍ عن مُعاقرةِ التثنّي لقد أَجللتُ وجهكَ أَن يُباري ... ببدرٍ في الدُّجُنَّةِ مُرْجَحِنِّ وَهَبْكَ أَعرتُ فيك العَذْلَ سمعي ... أَيدري العَذْلُ أَين هواك منّي أَبَعْدَ البُعْدِ أَطمعُ في التّواني ... وبعد الوصل أَقنع بالتمنّي وقد هتك العَواذِلُ فيك سِتري ... وأَخْلَفَتِ المَواعِدُ فيك ظنّي وقال من أخرى: مُدامي من مُقَّبِله ... ومن صُدْغَيْه رَيْحاني تكاد الرّاح تُطْلِعه ... على سِرّي وإِعلاني أَلا لله ليلَة با ... ت يأْمرني وينهاني وواظمأي للذّةِ ما ... قُبيل الصُّبح سَقّاني وذي مَرَضٍ بمُقلته ... صحيح اللحظ وَسْنان أَقَرِّبه فيُبْعِدني ... وَأَطلُبه فيأباني وكم يَجْني فأَعْذِرُه ... ويزعم أَنّيَ الجاني أُمُتّهمي بما قد قيل ... من زُورٍ وبُهتانٍ سعى دمعي بسفك دمي ... وهَتْكي سِرَّض كتمِاني فلا واللِه ليس الغدْ ... رُ في حُبِّيكَ مِن شاني وقال: باكِرا شمسَ القناني ... تُدْرِكا كُلّ الأَماني وخُذا في لذّةِ العْي ... ش على رغم الزمان من عُقارٍ تبعث النَّجْ ... دَةَ في قلب الجبانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 قهوة أَلبسها المز ... جُ قميصاً من جُمان فهي من أَبيضَ صافٍ ... لاح في أَحمرَ قان كخُدودِ الوَرد من تح ... ت ثُغور الأُقْحُوان عاصِيا الخَلْقَ إِذا الخْل ... قُ عن الغَيِّ نهاني وإِذا الله إِلى الرُّشْ ... د دعاني فَدَعاني إنّما البُغيةُ أَن أُصب ... ح مخلوعَ العِنان ساجداً في قِبلة الكأْ ... س لتسبيح المثاني حيث لا يعلم دهري ... أَبداً أين مَكاني وتكاد الكأْس أَن تخ ... ضِب أَطراف البَنان يا غزالاً شرِبَ الرّا ... حَ ثلاثاً وسقاني آه للرّيق الرَّحيق ... ي على الثَّغْر الجُماني ولِطَرْفٍ هتكتْ أجفانُ ... هـ سِتْرَ جِناني ليس يا قُرَّةَ عيني ... لك في العالم ثان قمرٌ بان لنا في ... غُصُنٍ ليس ببان جَلَّ من أَهبط ذا الحُو ... رِيَّ من دار الجِنان وأَرانا البدر من جي ... ب القَباء الخُسْرواني فتعالى الله ما أحس ... نَ هذا التُّركُماني وقال من قصيدة: ومن الحبائب في الرَّكائب هاتِكٌ ... بجبينه ظُلَمَ اللّيالي الجون ما شامَ صارمَ جَفْنه وجُفونه ... إِلاّ لسفك دمي وماءِ جفوني هتك الظلامَ وسار من أَترابه ... في الرَّكب بين أَهِلَّةٍ وغصون يَبْيرن أَفئدةَ الرّجال بما حَوَتْ ... أَعطافُهنّ وليس من يَبْرين ومنها في المدح: ولقد بَلَوْتُ خِلالَه فوجدتُه ... لَدْنَ المَهَزَّة شامخ العِرْنين يُنْبيك عن وَثباتِه وثَباتِه ... ما عنده من يَقْظة وسكون الواو وقال في جواب أبياتٍ لابن منير، من أبيات: لو كان إِبليس قبلُ لاح له ... آدمُ من نقش فصِّكِ الغروي لَخَرَّ ما شئتَ ساجداً وَعَنا ... للهِ طَوْعاً وكان غيرَ غَوِي والدّهرُ قد ماتَ منهُ حادثُه ... خَوْفاً فأَنىّ يكونُ غيرَ سَوِي الهاء وقال من قصيدة: حَتْامَ أَنتَ عن الذي بك ساهِ ... وإِلامَ قلبُك بالصَّبابِة لاهي ومنها: لِلّه أَيامُ الوِصال فإِنّها ... أَمَلُ النّفوس وطيبُ لَهْوِ الّلاهي أَيّام صُحْبَتِناالمِلاحَ ودأْبُنا ... فيها اعتناقُ ظِبا ورَشْفُ شِفاه وَمَهاً تُضاحكها البدور مَلاحَةً ... معدومة الأَمْثال والأَشباه من كلِّ فاتكة اللِّحاظِ إذا انثنت ... فتكتْ بقلب الخاشع الأوّاه ومنها في المخلص: وَتَعَمَّدَتْني النائباتُ ولم تزل ... حَتى انتصرتُ بنصر نصِر الله ومنها: ما زلتَ تلهو بالمَكارِم واللُّهى ... حتى ظَننّا أَنّهن مَلاهي وإِذا تناهى جُودُ كلِّ مُتَمّم ... فنوالُ كفِّك ليس بالمُتناهي كم مِنْ ندًى خلفي الغَداةَ نَبَذْتُه ... وأَرى نوالك لا يَزال تَجُاهي يا مَنْ إذا مَطَرَتْ سحائبُ جُودهِ ... جاءت بلا مَطْلٍ ولا استِكْراه ما زِلتُ أَفُتِك بالزمان بِعِزِّ ما ... أَوْلَيْتَنيه وللكرام أُباهي ومنها: فاقبل به دَعْوى ابنة الفكر التي ... جاءتك في ثَوْبَيْ حِجىً وتَناهى لا تُشْتِمَتنَّ بها الحَسودَ فإنها ... ذهب القلوب وجوهر الأَفواه أَلبستُها دُرَّ المديح قِلادةً ... فاضمن لها بلِباس ثَوْبِ الجاه ابن رواحة الحموي الفقيه أبو علي الحسين بن عبد الله بن رواحة، ذكر أنه من ولد عبد الله بن رواحة صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وشاعره الذي يقول: وفينا رسولُ الله يتلو كتابهَ ... وقد لاح مفتوقٌ من الصُّبْح طالعُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 يَبيت يُجافي جَنْبَه عن فِراشه ... إِذا اسْتَثْقَلَتْ بالمُشركين المَضاجِع لقيته كهلاً، لكل فضيلةٍ أهلاً، وهو مقيم بحماة للاحتساب، وإقراء فقة الشافعي والآداب، شعر ابن رواحة روح الشعر، وروح السر، وريحان أهل الأدب، وراحة ذوي التعب، معنى لائق، ولفظٌ رائق، ورويٌ شائقٌ، وكلام فائق، وأسلوب موافق، سمح الغريزة، سهل النحيزة، معسول الكلم، مغسول الحكم، لا يتكلف صنعةً، ولا يتعسف صيغةً، ولا يركب إلا الذلول، الذي يسلب العقول، إن أقصد، بلغ المقصد، وإن أقطع أحسن المطلع والمقطع، وإن نسب أهب نسيم النسيب متأرج الريا، وإن تغزل شبه بالغزالة والغزال الحبيب المتبلج المحيا. رأيته في سني صحبتي لنور الدين يتردد في كل سنةٍ ويمدحه، وهو بتشريفه وبجائزته يمنحه، وكان ينشده قصائد فيما يتفق من الوقائع، وينشد لديه مقاصد بما يتسق له في تلك الصنائع، وسافر إلى مصر في زمان الصالح ابن زريك، فنفقت بضائع رجائه في سوق الرواج، وظفر داء أمله عنده من دواء النجح بالعلاج. ولما أراد الرجوع إلى الشام ركب البحر إليه، فقطع فرنج صقلية الطريق عليه، وحملوه إليها أسيراً، وأقام هناك في الأسر كثيرا، حتى توصلب بسحر الشعراء إلى حل عقدته، ونشط عقلته، وعاد إلى حماة في حمى من السلامة منيع، وذرى من الكرامة مريع، وجعل نور الدين له من إنعامه إدراراً يكيفيه، وكان يقبله ويقبل عليه ويروي فيه، أنشدني لنفسه في قلعة حلب سنة ثلاث وستين في ذي الحجة: يا ماطلاً لا يرى غَليلي ... لديه ورداً سوى السراب تَعَلَّمَ الطَّيْفُ منك هجري ... فلا أَراه بلا اجتناب كم كتبَ الدَّمعُ فوق خدي ... إِليك شكوى بلا جواب أَغلقتَ باب الوِصال دوني ... فَسُدَّض للصّبر كلُّ باب إِن كان يحلو لديْك ظُلْمي ... فَزِدْ من الهجر في عذابي عسى يُطيلُ الوقوفَ بيْني ... وبَيْنَك اللهُ في الحساب وأنشدني لنفسه أيضاً: من لِعْينَّي بالكَرى ... فأَرى الطيفَ إِن سرى طال عهدي فعاد قلْب ... ي لِطَرْفي مُخَبِّرا كُلَّما اشْتَقْتُ أَن أَرا ... ك أَطلتُ التَّفكُّرا يا هِلالاً وبانةً ... وكَثِيباً وجُؤْذُرا لم أَبُحْ بالهوى الخف ... يّ اختياراً فأُهْجَرا إِنما السُّقْم نمّ عنه ... ودمعي به جرى أَنت أَبديتَ لي بوجه ... ك عُذراً إلى الورى أَنت فرّقت بين أَجف ... ان عَيْنَيَّ والْكرى دَعْ نُوَدِّعْ خَدَّيْك لَثْم ... اً وإنْ شئتَ مَنْظرا قبل أَن يكْمُل العِذا ... رُ عليه فما يُرى وأنشدني له من قصيدة في العذار: قمرٌ أَعار الصُّبْحَ حُسنَ تَبَسُّمِ ... وأَعار منه الغصنَ لِينَ تَأَوُّدِ واخْضَرَّ شارِبُه فبان لغُلَّتي ... منه اخضِرارُ الرَّوْض حَوْلَ المَوْرِد ومتى يُباحُ لعاشقيه مُقَبَّلٌ ... كالدُّرِّ في الياقوت تَحْتَ زَبَرَجْدَ وأنشدني لنفسه سنة أربعٍ وستين: مالي على السُّلْوانِ عَنْك مُعَوَّلُ ... فإِلامَ يَتْعَبُ في هواك العُذَّلُ يزدادُ حُبُّكَ كلَّ يَوْمٍ جِدَّةً ... وكأَنّ آخِرَه بقلبي أَوَّل أَصبحتَ ناراً للمُحِبِّ وَجَنَّةً ... خَدَّاك جَمْرُ غَضاً وريقُك سَلْسَل لك لِينُ أَغصان النَّقا لو لِنْتَ لي ... ولك اعتدالُ قَوامِها لو تَعْدِل يا راشقاً هَدَفَ القلوبِ بأَسهمٍ ... خَلِّ السِّهامَ فِسْحُر طَرْفِك أَقْتَلُ ما لِلْوُشاةِ سَعَوا بنا يا لَيْتَهْم ... ثَكِلوا أَحِبَّتَهم كما قد أَثْكَلوا جَحَدوا الذي سمعوا وقالوا غيرَه ... ولو انَّهمْ لا يسمعون تَقَوَّلُوا هَبْ أَنَّ أَهلك أَوْعدو وتهدَّدوا ... مَنْ يَرْعَوي مِنْ ذاك أَوْ مَنْ يَقْبَل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 وَيْلاهُ منهم يُشْفِقون عليك مِنْ ... أَجْلي، وإِشفاقي أَشَدُّ وأَكمل مالي أُعاينُ وجهَ ودِّكَ مُعْرِضاً ... حَذَرَ الرَّقيب وَوَجْهُ ودّي مُقْبِل وأنشدني له في غلامٍ لبس الكحلي: برزتَ للنّاسِ في قميصٍ ... أَكْحَلِ مِنْ طَرْفِكَ الكحيلِ فيك من الحُسْنِ كلُّ فنّ ... وفيك للنفس كلُّ سُول كيف اتَّخَذْتَ الحِدادَ لُبْساً ... ولستَ تَأْسى على القتيل وأنشدني لنفسعه في موفق خالد بن القيسراني مستوفي نور الدين: دَعَوْتُك مُشتاقاً لِنَيْلِ صَنيعةٍ ... فكنتَ إِلى بذل الصنائع أَشْوَقا وكم عُقَدٍ حُلَّتْ بعزمك لم تكن ... تُحَلُّ بعزمٍ مِنْ سِواك ولا رُقا تفاءل نورُ الدّين باسمك مثلما ... حَوى بك نَعْتاً في الأُمور مُحَقّقا فأَصبح في الملك المُخَلَّضد خالداً ... كما كان في الرأي السعيد مُوَفَّقا وأنشدني لنفسه في العذار: لا تلوموا عليه قلبَ مُحِبٍّ ... فجميع القلوبِ طَوْعُ يَدَيْهِ لا تظنّوا عِذاره طرّز الخدّ ... فما كان ذا افتقاراً إليه إنما لحظُه أَراق دماءً ... وبدا أُثْرها على وَجْنَتَيْه فرأى وَردَها بقتليَ نمّا ... ماً فأَوْلى بنفسَجاً عارِضَيْه فتيقنتُ أنني ضاع ثأْري ... حين لم يبق شاهدٌ لي عليه وأنشدني أيضاً له من قصيدة: تودُّون عَوْدي لو قَدَرِتْ إِليكم ... وقد أَبْعَد المِقْدار في الَبْين شُقِتّي كأَنّيَ سَهْمٌ كلّما جرّني الهوى ... إِليكم رمتْني الحادثات فأَقصتِ ومن الغزل: كأَني سأَلتُ الرّيح عن لين قَدِّها ... فهزّت قضيبَ البان لي حين هَبَّتِ ومن مديحها: له سائِلاً عِلْمٍ وجود يُجيب ذا ... على عَجَل منه وذا عن تَثَبُّتِ فذا بنوالٍ للمُؤالف مُنْطِقٍ ... وذا بمَقالٍ للمُخالِفِ مُسْكِت وأنشدني له في صبي مقرئ في سنة سبع وستين: تلا فدعا قلبي إلى حُبِّ وَصْلِه ... وعهدي بما يتلوه يَنْهى عن الحبِّ فكيف اصطباري عنه لو كان مُسْمِعي ... غِناءُ الغواني من مُقَبَّلِه العَذْبِ وأنشدني له في غلامٍ أهدى له ورداً: أَقول للوَرْدِ ونَشْرُ الذي ... أَهداه لي أَذْكى مِنَ الوَرْدِ أَشْبَهْتَه في النَّشْرِ طِيباً فِلْم ... خالفَتُه في الحفظ للعهد ومن مقطعاته في الألغاز والمعمى: أنشدني لنفسه قوله في الجلنار ملغزاً: وما تاجُ رُومّيٍ لبَيْضَةِ باسلٍ ... عليها دَمٌ إِذ فَلَّلَتْها المَضارِبُ تُناسِبُ أَقراط الدُّيوكِ ذُيولها ... كما العُرْفُ للتَّشْريف منها مُناسِب لها باطنٌ كالزَّعْفَرانِ تَعَلَّقَتْ ... به من شَرارٍ أَوْ نُضارٍ كواكب حَكَتْها صِغاراً بالخُدودِ شَبيه ما ... حَكَتْها كِباراً بالنُّهودِ الكواعِب إذا فُرِطَتْ فهْي العَقيقُ مُبَدَّداً ... وإِن رُشِفَتْ فالشهْدُ بالثَّلْجِ ذائب وقوله في مليحٍ اسمه إبراهيم: صدَّني بعد اقترابٍ وجفاني ... قَمَرٌ يخَجلُ منه القَمرانِ لستُ أَدعو باسمه ضَنّاً به ... غير أَني الذي أخْفِيه كانِ ظَمَأي فيه ظَما آخِره ... ليتين أَوَّلُه ممّا عَراني وقوله في اسم مبارك: وأَغَيَدلا تحكي الأَسِنَّةُ لَحْظَه ... ولا يَمْلِكُ الَخطِّيُّ لِيناً بِقَدِّهِ تألفَّنَي قُرْبُ السَّقام لبُعْدِه ... وحالفني وَصْلُ الغَرام لصِدَهَّ صباحي إذا ما زارني فيه مثلهُ ... وعَيْشي إِذا ما صدَّ عني بِضِدِّه وقوله في اسم إلياس: أَتَيْتُ مَنْ أَهواه عَكْسَ اسمِه ... فلم أَنَلْ منه سِوى الإِسمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 وكلَّما أَطْمَعني ضدُّه ... عاد به التيهُ إلى الرَّسْم وقوله في إسماعيل بن بكار: أَسْمَرُ عِيلَ الصَّبْرُ في حُبِّه ... ليس له في الحُسْن من مُشْبِهِ إِنْ شِئْتَ أَنْ تَعْرِفَه باسْمِه ... أَفْرِدْه من رابِع حَرْفٍ به طُوبى لِمَنْ بات لهُ ليلةً ... عكس أَبيه لهِوى قلبه وقوله في اسم يحيى بن عطية: مَنْ نال مِنْ يَحْيى اسمَ والدِهِ ... أَيْقَنْتُ حقّاً أَنّه يحيا وَمَنِ ابتلاه بطُولِ هِجرته ... وجفا عليه فليس في الأَحْيا وأنشدني له في الاستطراد بمن كان زاهداً في شبابه ثم حرص في مشيبه ورغب في الدنيا: تَجَلَّدْتُ عنها في الشّبابِ لِعِزَّةٍ ... وأَبْدَيْتُ بعد الشَّيْب ذِلَّة مَفْتونِ فقالتْ: أَزُهداً في شَبابٍ، ورغبةً ... بِشَيْبٍ أَنا المشتاق وأنت ابنُ فضلون وأنشدني له في هجو إنسانٍ بمصر: أَحكمتْ عِرسُه ضُروبَ الأَغاني ... من ثقيلٍ في رأسه وخفيفِ وتمنّتْ عليه كلَّ الملاهي ... غيره وحدَه لمعنًى لطيف فقضيباً لاسمٍ وناياً لشكلٍ ... ورَباباً للجرِّ والتصحيف وله من قصيدة: عُدني وإلاّ فِعْدني ... إنْ صحّ جسمي تزورُ تاريخُ وَصلك عندي ... مُذْ لَمْ أَنَلْهُ شُهور وإِنّ هِجرانَ يومٍ ... على المحبّ كثير وأنشدني لنفسه: قُلْ للرّوافض: إنّكُمْ في سَبِّكم ... أَهلَ الهدى مَع حُبّنا عَلَم الهُدى مِثْلُ النّصارى لا نَسُبُّ لأَجلهم ... عيسى وقد سَبُّوا النَّبَّي مُحَمَّدا ثم سافر إلى مصر وأقام في ظل الملك الناصر، وإنعامه الوارف الوافر، وفاز بالجاه الظاهر والإحسان المتدارك المتواتر، وكنا مخيمين بمرج الفاقوس، مصممين على الغزاة إلى غزة، مرنحين أعطاف نشاطنا المهتزة، وقد وصلت أساطيل ثغري دمياط والاسكندرية بسبي الكفار، وقد أوفت على ألف رأسٍ عدة من وصل في قيد الإسار، فحضر ابنر رواحة منشداً مهنئاً بالعيد، ومعرضاً بما وهبه الملك الناصر من الإيماء والعبيد، بقصيدةٍ منها، وذلك في عيد النحر سنة اثنتين وسبعين: أَيَحْسُن بعد ضَنِّكَ حُسْنُ ظنّي ... فأَجمعَ بين يأسي والتَّمنّي وما نَفْعي بعَطْفِك بعد فَوْتٍ ... كَرِقّة شامتٍ من بعد دفن أَأَطْمَعُ أَن أَكون شهيدَ حُبٍّ ... فأَصْحبَ منك حُوريّاً بعَدْن قيل له هذا البيت حسنٌ لولا أن الحوري مذكر. ملكتَ عليَّ أَجفاني وقلبي ... فأَبعدتَ الكرى والعَذْل عنّي فكم أَرعيتَ غير اللَّوْمِ سمعي ... وكم أَوْعيتَ غير النوم جفَني صَدَدْتَ وما سوى إِفراطِ وَجْدي ... لك الداعي إلى فَرْط التجنّي لقد أَبديتَ لي في كلّ حُسْنًٍ ... ضروباً أَبدعت كلَّ حُزن فكم فنٍّ من البلوى عَراني ... لِعْشق الوصفِ منك بكلِّ فنِّ كأَنّكَ رُمْتَ أَن أَسلوك حتى ... أَقمتَ الشِّبْه في بَدْرٍ وغُصْن فأَلْبَسَ وجهُك الأَقمارَ تمّاً ... وعلَّم قَدُّك البانَ التثنّي رماني في هواك طِماحُ طَرْفي ... إلى حُسْنٍ فأَخلف فيك ظنّي فكم دمعٍ حَمَلْتُ عليه عيني ... وكم نَدَمٍ قَرَعْتُ عليه سِنّي غدرتَ وما رأَيتَ سوى وفاءٍ ... فهّلا قبل يَغْلَقُ فيك رَهْني ولو حكم الهوى فينا بعدلٍ ... لكنتَ أَحَقَّ بالتعذيب مِنّي ومنها: أَقمتَ الموتَ لي رَصَداً فأَخشى ... زيارتَه وإِن يك لم يَزُرني كما رَصد العِدى في كلِّ يومٍ ... صلاح الدين في سَهْلٍ وحَزْن يَرَوْن خياله كالطيف يَسْري ... فلو هَجَعوا أَتاهم بعد وَهْن أَبادَهُمُ تَخَوُّفُه فأَمسى ... مُناهُمْ لو يُبَيِّتُهم بأَمْن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 تملَّكَ حولهم شرقاً وغرباً ... فصاروا لاقتناصٍ تحتَ رَهْنِ يشير إلى أنه مالك مصر ومالك الشام والإفرنج بينهما: أَطاف عليهمُ مِنْ كلِّ فَجٍّ ... قبائلَ يُقبلون بغير وَهْنِ أَقام بآل أَيوب رِباطاً ... رأَت منه الفَرَنْجُ مَضيقَ سِجن فهم للدّين والدُّنيا جبالٌ ... رواسٍ لا تُرى أَبداً كَعِهْن إذا اتبّعوا له عَزماً ورأْياً ... غَنُوا في الحرب عن ضربٍ وطعن وإِنْ نادى: نَزَالِ، فلن يُبالوا ... قتالَهُمُ لإِنسٍ أَو لجنّ رجا أَقصى الملوكِ السّلمَ منهم ... ولم ير جهده في البأس يُغني وخافتهم ملوك الناس جَمْعاً ... فلم تقِلب لهم ظَهْرَ المِجَنِّ لهم من بأسه رُكْنٌ شديد ... ولو طُلِبوا لما آوَوْا لِرُكْن حِوتْ آفاقُ مِصْرِهُمُ حُصوناً ... فكيف إِذا أَداروا كُلَّ حِصْن غَطارِفَةٌ لهم سُلْطانُ عَدْلٍ ... يَسُنُّ لهم مَكارِمَهم ويُسْني ومنها: وكم معنًى من الإِحسان فاقوا ... به كرماً على كَعْبٍ ومَعْنِ لهم من يوسفَ الدُّنيا جميعاً ... وليس له نصيبٌ غيرُ مُثْنِ أَرى رأى التناسخ مِصْرَ حقّاً ... بضمّ اسمٍ إِلى عَدْلٍ وحُسْن ولم أَر مثله ملكاً جواداً ... خزائنُه قِفارٌ وهو مُغْن غدا كالشمس يوم وغىً بنَقْعٍ ... فَشَقّ النورُ منه مِلاءَ دَجْن ومنها يصف الداوية من الفرنج، وهو لا يرون مقاربة النساء لترهبهم: أَرى داويَّةَ الكفّار خافت ... به داءً يُضَعِّف كُلَّ مَتْنِ أَبَوْا نَسْلاً مَخافَة نَسْلِ بنتٍ ... تُفارِق دينَهم أَو قَتْلَه ابن فقد عقموا به من غير عَقُمٍ ... كما جَبُنوا به من غير جُبْن ومن أَفناهم عدماً حقيقٌ ... بِحَمْدٍ مثلما وجدوا ويغني ومنها يصف الأساطيل المنصورة والسبايا المأسورة: لقد خَبر التجارِبَ منه حَزْمٌ ... وقلّبَ دهَره ظهراً لبطن فكفَّ الكفرَ أَن يَطْغى بمَكْرٍ ... يُحَيِّرُ كلَّ ذي فكرٍ وذهن فساق إلى الفرنج الخيلَ برّاً ... وأَدركهم على بحرٍ بسُفْنٍ لقد جلب الجواري بالجواري ... يَمِدْن بكلّ قدٍّ مُرْجَحِنِّ يَزيدُهُم اجتماعُ الشَّمْل بُؤْساً ... فمِرنانٌ تنوح على مُرِنٍّ فما مِنْ ظبيةٍ تُفْدى بليثٍ ... ولا ليْثٌ فِدى رشإٍ أَغَنِّ زهتْ إِسكندرِيَّةُ يومَ سيقوا ... ودِمياطٌ فما مُنِيا بِغَبْن وخَيْرُهما هناءً ما أَتاها ... بقُرْب الملك كلُّ عُلىً يُهَنّي فلو لَبِسَتْ به للفخر بُرْداً ... لجرّت فَضْلَ أَذيالٍ ورُدْن لقد سبق النَّدى منه السَّبايا ... فكم عَزَبٍ بأَهلٍ بات يبَنْي وأَعْجَلُه السّماحُ عن ادّكاري ... ولو أَلقاه مَنَّ بغير مَنِّ فأَسْلِحةٌ تَخافُ لَدَيْه خَزْناً ... وأَموالٌ تطير بغير خَزْن وكيف يصون بحراً جودُ بحرٍ ... فيحمِل مِنّةً لأخٍ وخِدْن وإِن الناصر الملك المُرجّى ... لَأْولى من وَلي حَيّاً بَهتْن يُبيد عدُاته ويَشيد مَجْداً ... لآلٍ فهو يُفْني حين يُقني إذا لاقى العِدى فأَشدُّ لَيْثٍ ... وإِن بَذَل النَّدى فأَسحُّ مُزْن ومنها في التهنئة: يُهنّي الملك عيداً لو عداكُمْ ... لما ظَفِرَ المُهَنّا بالمُنَهّي الأمراء بنو منقذ الكنانيون من شيزر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 كانوا من أهل بيت المجد والحسب، والفضل والأدب، والحماسة والسماحة، والحصافة والفصاحة، والفروسية والفراسة، والإمارة والرئاسة، اجتمعت فيهم أسباب السيادة، ولاحت من أساريرهم وسيرهم أمارات السعادة، يخلفون المجد أولاً لآخر، ويرثون الفضل كابراً عن كابر، أما الأدب فهو شموعه المشرقة، ورياضة المونقة، وحياضة المغدقة، وأما النظم فهم فرسان ميدانه، وشجعان فرسانه، وأرواح جثمانه. قال مجد العرب العامري بأصفهان في سنة نيفٍ وأربعين وهو يثني عليهم، ويثني عنان مجده إليهم: أقمت في جنابهم مدة، واتخذتهم في الخطوب جنة، وللأمور عدة، ولم ألق في جوارهم جوراً ولا شدة. وممدوحه منهم، الأمير عماد الدولة أبو العساكر سلطان بن علي بن مقلد بن منقذ، وما زالوا مالكي شيزر ومعتصمين بحصانتها، ممتنعين بمناعتها، حتى جاءت الزلزلة في سنة نيفٍ وخمسين فخربت حصنها، وأذهبت حسنها، وتملكها نور الدين عليهم وأعاد بناءها فتشعبوا شعباً، وتفرقوا أيدي سبا، فمنهم: الأمير مؤيد الدولة أبو المظفر أسامة بن مرشد ابن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ بن محمد بن منقذ بن نصر بن هاشم بن سوار بن زياد بن رغيب بن مكحول بن عمرو بن الحارث بن عامر بن مالك ابن أبي مالك بن عوف بن كنانة بن بكر بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة بن مالك ابن حمير بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر بن ارفخشذ بن سام بن نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ بن يرد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام. أسامة كاسمه، في قوة نثره ونظمه، يلوح من كلامه أمارة الإمارة، ويؤسس بيت قريض عمارة العبارة، نشر له علم العلم، ورقي سلم السلم، ولزم طريق السلامة، وتنكب سبل الملامة، واشتغل بنفسه، ومحاورة أبناء جنسه، حلو المجالسة، حالي المساجلة، ندى الندي بماء الفكاهة، عالي النجم في سماء النباهة، معتدل التصاريف، مطبوع التصانيف، أسكنه عشق الغوطة، بدمشق المغبوطة، ثم نبت به كما تنبو الدار بالكريم، فانتقل إلى مصر فبقي بها مؤمراً مشاراً إليه بالتعظيم، إلى أيام ابن رزيك فعاد إلى الشام، وسكن دمشق مخصوصاً بالإكرام، حتى أخذت شيزر من أهله، ورشقهم صرف الزمان بنبله، ورماه الحدثان إلى حصن كيفا مقيماً لها في ولده، مؤثراً بلدها على بلده، حتى أعاد الله دمشق إلى سلطنة الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن أيوب في سنة سبعين، ولم يزل مشغوفاً بذكره، مستهتراً بإشاعة نظمه ونثره، والأمير العضد مرهف ولد الأمير مؤيد الدولة جليسه، ونديمه وأنيسه، فاستدعاه إلى دمشق وهو شيخ قد جاوز الثمانين وكنت قد طالعت مذيل السمعاني ووجدته قد وصفه وقرظه، وأنشدني العامري له بأصفهان من شعره ما حفظه، وكنت أتمنى أبداً لقياه، وأشيم على البعد حياه، حتى لقيته في صفر سنة إحدى وسبعين بدمشق وسألته عن مولده، فقال: سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، يوم الأحد السابع والعشرين من جمادى الآخرة، وأنشدني لنفسه البيتين اللذين سارا له، في قلع ضرسه: وصاحبٍ لا أَمَلُّ الدَّهْرَ صُحْبَتهُ ... يشقى لنفعي ويسعى سَعْيَ مُجْتَهِد لم أَلْقَه مُذْ تصاحَبْنا فحين بَدا ... لناظريَّ افترقنا فُرقَةَ الأبَدِ لو أنصفت فهمك إن كنت منتقداً، فرقيت عن مرقب وهماك مجتهداً، وغصت بنظر فكرك في بحار معانيه، لغنمت من فرائد درره ولآليه، ولعلمت أن الشعر إذا لم يكن هكذا فلغوٌ، وأنه إذا لم يبلغ هذا الحد من الجد فهجرٌ ولهو، ومن الذي أتى في وصف السن المقلوع، بمثل هذا الفن المطبوع، فهل سبقه أحدٌ إلى معناه، وهل ساواه في هذا النمط سواه. وأنشدني أيضاً لنفسه، في معنى قلع ضرسه: وصاحبٍ صاحبني في الصِّبا ... حتى تَرَدَّيْتُ رِداءَ المشيبْ لم يَبْدُ لي ستين جَوْلاً ولا ... بَلَوْت من أَخلاقه ما يَريب أَفْسده الدَّهْرُ ومن ذا الذي ... يحافظ العهدَ بظَهْر المَغيب ثم افترقا لم أُصِبْ مِثْلَه ... عُمْري ومثلي أَبداً لا يُصيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 فاعجب لها من فُرْقة باعدتْ ... بين أَليَفْين وكلٌّ حبيب وأنشدني لنفسه من قديم شعره: قالوا نَهَتْهُ الأربعون عن الصِّبا ... وأَخو المَشيب يجور ثُمَّتَ يَهْتدي كم حار في لَيْلِ الشَّبابش فَدَلَّهُ ... صُبْحُ المَشيب على الطريق الَأْقَصد وإذا عَدَدْت سِنِيَّ ثم نَقَصْتها ... زَمَنَ الهُموم فَتِلْك ساعُة مَوْلِدي تعجب من مقاصد هذه الكلم، وتعرض لموراد هذه الحكم، واقض العجب كل العجب، من غزارة هذا الأدب، ولولا أن المداد أفضل ما ترقم بن صحائف الكتب، لحررت هذه الأبيات بماء الذهب، فهذا أبلغ من قول أبي فراس بن حمدان: ما العمرُ ما طالتْ به الدّهورُ ... العمرُ ما تَمَّ به السرورُ أَيّامُ عِزّي ونَفاذ أَمري ... هي التي أَحْسُبها من عمري فالفضل للمُتقدِّم في ابتكار المعنى وللمتأَخر في المبالغة، حيث ذكره في بيتٍ واحد ولم يجعل له نصيباً من العمر إلاّ ساعةَ مَوْلِده. فجميع الحياة على الحقيقة نصب، وألم وتعب. وأنشدني أيضاً لنفسه من قديم نظمه: تَجَرَّمَ حتى قد مَلِلْتُ عِتابَهُ ... وأَعرضتُ عنه لا أُريدُ اقترابَهُ إذا سقَطتْ من مَفْرَقِ المرء شَعْرَةٌ ... تأَفَّف منها أَن تَمَسَّ ثِيابَه وأنشدني من قديم قوله في السلوان أيضاً: لم يَبْقَ لي في هَواكُمُ أَرَبُ ... سَلَوْتُكُمْ والقُلوبُ تَنْقَلبُ أَوْضَحْتُمُ ليَ سُبْل السُّلُوِّ وقد ... كانت ليَ الطُّرْق عنه تَنْشَعِبُ إلامَ دَمعي من هَجْركمُ سَرِبٌ ... قانٍ، وقلبي من غَدْرِكم يَجِبُ إِن كان هذا لِأَنْ تعبَّدني ال ... حُبُّ فقد أَعْتَقَتْنِيَ الرِّيبَ أَحْبَبْتُكُمْ فوق ما توهَّمَه ال ... نّاس وخُنْتُمْ أَضعافَ ما حَسبوا تأمل هذه المعاني والأبيات، بعين التأني والثبات، تعرف أن قائلها من ذوي الحمية، والنفوس الأبية، والهمم العلية، وكل من يملكه الهوى ويسترقه، قلما يطلقه السلو ويعتقه، إلا أن يكون كبيرا غلب عقله هواه، واستهجن في الشهوات المذمومة نيل مناه. وقوله: " فقد أعتقتني الريب " في غاية الجودة ونهاية الكمال، أعذب من الزلال، وأطيب من السحر الحلال، وألعب بقلوب المتيمين من نسيم الشمال. وقوله أيضاً من قديم شعره: إذا اختفت في الهوى عني إساءتُهُ ... أَبدى تَجَنِّيه ذنبي قَبْل أَجْنيه كذاك إنسانُ عيني لا يزال يرى ... عَيْبي، ولستُ أَرى العيبَ الذي فيه وقوله أيضاً: يا دهرُ ما لك لا يَصُ ... دُّك عن إساءَتيَ العِتابُ أَمْرَضتَ من أَهوى ويأْ ... بى أَن أُمَرِّضَهُ الحِجابُ لو كنتَ تُنْصِف كانت ال ... أَمراض لي وله الثّوابُ قد قيل في مرض الحبيب كل معنًى بكر، مخترع لديه ومبتدع فكر، إلا أن هذه الأبيات لطيفة المغزى طريفة المعنى، مقصدها سهيل، وموردها سهل، لو سمعتها في البادية عقيل لم يثبت لها عقل، ولا شك أن حبيبه عند استنشاق هوائها، فاز ببرء مهجته وشفائها. هذه الأبيات كنت نقلتها من تاريخ السمعاني فلما لقيت مؤيد الدولة قرأتها عليه وكنت أثبتها على هذا الوجه. أبصر مني العينان، وإن لم يحط السمعان، من أنباء تاريخ السمعاني، الحاوي للمعاني، أبياتاً رواها، وناظمها بماء الحكمة رواها، وقد بددتها في كتابي هذا غيرةً من الملتقط، وحفظا لها من العيي المشتط المشترط. وأما أشعاره التي أنشدنيها بدمشق سنة إحدى وسبعين من نظمه على الكبر قوله حين قلت له: هل لك معنًى مبتكرٌ في الشيب: لو كان صَدَّ مُعاتِباً ومُغاضِبا ... أَرضيتُه وتركتُ خَدّي شائبا لكن رأى تلك النَّضارة قد ذَوَتْ ... لمّا غدا ماء الشّبيبِة ناضِبا ورأى النُّهى بعد الغَواية صاحبي ... فثنى العِنان يُريغ غيري صاحبا وأَبيه، ما ظَلَم المَشيبُ وإِنّه ... أَمَلي، فقلت عساه عني راغبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 أَنا كالدُّجى لما تناهى عُمُره ... نَشَرتْ له أَيدي الصّباح ذَوائبا وهذا معنًى مبتكرٌ في الشيب لم يسبق إليه. وقوله: أَنْستنَي الأيّام أَيامَ الصِّبا ... وذَهَلْت عن طِيب الزّمان الذّاهِب وتنكَّرتْ حالي فكلُّ مآربي ... فيما مضى ما هُنّ لي بمآرب وقوله: نهارُ الشَّيْبِ يكشِف كُلَّ رَيْبٍ ... تَكَفَّلَ سَتْرَه لَيْلُ الشَّبابِ يَنِمُّ على المَعايب والمَساوي ... كما نَمّ النُّصُول على الخِضاب فهل لي بعد أَن ضَحَّى بِفَوْدي ... نهارُ الشَّيْب، عُذْرٌ في التّصابي وقوله: أَفْدي بُدوراً تمالَوْا ... على المَلال ولجوّا قد كنت أَحسب أَني ... من هجرهمْ لست أَنجو هذا الذي كنتُ أَخشى ... فأَين ما كنت أَرجو وقوله: قُلْ للذي خَضَب المَشيبَ جَهالةً ... دَعْ عنك ذا فلكلّ صِبْغٍ ماحِ أَوَ ما ترى صِبْغَ اللّيالي كلّما ... جَدَّدْنَه يَمْحُوه ضَوْءُ صباح وقوله في محبوس: حَبَسوك والطَّيْرُ النواطق إِنّما ... حُبِسَتْ لِمِيزتها على الأنَدادِ وتهيبَّوك وأَنت مُودَعُ سِجْنهمْ ... وكذا السُّيوف تُهابُ في الأَغماد ما الحبسُ دارُ مَهانةٍ لِذوي العُلى ... لكنه كالْغِيلِ لِلْآساد وأنشدني قوله في الشمعة: أُنظر إلى حُسنِ صبرٍ الشمعُ يُظْهِرُ للرّ ... ائين نُوراً وفيه النار تَسْتَعِرُ كذا الكريم تراه ضاحكاً جَذِلاً ... وقلبُه بدخيل الهَمّ مُنْفَطِر وقوله: لَأَرْمِيَنَّ بنفسي كُلَّ مَهْلَكَةٍ ... مَخُوَفةٍ يَتَحامها ذَوو الباس حتى أُصادِفَ حَتْفي فهو أَجملُ بي ... من الخُمول وأَستغني عن الناس وقوله: العجز لا يَنْقُصُ رِزْقاً ولا ... يَزيدُه حَوْلٌ ولا فَحْصُ كلٌّ له رِزْقٌ سيأْتيه لا ... زيادةٌ فيه ولا نَقْص قد ضمِن اللهُ لنا رزقَنا ... جاءت به الآثار والنَّصّ فما لنا نطلبُ من غيره ... لولا قنوطُ النَّفس والحِرْص وقوله في نفاق الدهر: نافقتُ دَهْري فوجهي ضاحِكٌ جَذِلٌ ... طَلْقٌ وقلبي كئيبٌ مُكْمَدٌ باكِ وراحَةُ القلب في الشَّكْوى ولَذَتُها ... لو أَمكنت لا تُساوي ذلِةَّ الشاكي قد تمكنت كلمة لو أمكنت فما أحسنها موقعا، وأجملها موضعا، ثم قارن اللذة بالذلة وهما متجانسان. وقوله: إِذا حال حالِكُ صِبْغِ الشَّباب ... سقى عَهْدَه الغيثُ من حائلِ فماذا الغُرور بِزُورِ الخِضا ... ب لولا التَّعَلُّلُ بالباطل وقوله من قديم شعره: أَأَن غَضَّ دَهْرِي من جِماحِيَ أَو ثَنى ... عِنانَي أَوْ زَلَّتْ بأَخْمَصِيَ النَّعْلُ تظاهر قَوْمٌ بالشَّماتِ جَهالةً ... وكم إِحْنَةٍ في الصدر أَبرزها الجهلُ وهل أَنا إلاّ السَّيْفُ فَلَّلَ حَدَّه ... قِراعُ الأعادي ثم أَرْهَفَهُ الصَّقْل وقوله: لا تُوصِ عند المَوْت إِل ... لا بالوديعة والدّيونِ وَدَعِ التَّشاغُل بالحُطا ... م كفاكِ شُغْلُك بالمَنون فَوَصِيَّةُ الأَموات بالأ ... حياء من شُعبٍ الجُنون وما أحسن بيت المعري: يُوَصّي الفتى عند المَماتِ كأَنه ... يَمُرُّ فيَقْضي حاجةً ويعودُ ورأيته وقد أهدي له دهن البلسان، فسألت عنه، فقال: كتبت إلى المهذب الحكيم ابن النقاش هذه الأبيات على لسان: رُكْبَتي تَخْدم المهذَّبَ في العِلْم ... وفي كلّ حِكمةٍ وبيانِ وهي تشكو إِليه تأْثير طولِ الْعُم ... ر في ضَعْفِها وَمَرّ الزمان فَبِها فاقةٌ إلى ما يُقَوِّيها ... على مَشْيِها من البَلَسان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 كلُّ هذا عُلالةٌ ما لمن حا ... ز الثمانين بالنُّهوض يدان رَغبةٌ في الحياة من بعد طول العُمْ ... ر والمَوْتُ غاية الإنسان وقوله: لا تَحْسُدَنّ على البَقاء مُعَمَّراً ... فالموتُ أَيْسَرُ ما يؤول إليه وإذا دعوتَ بطول عُمْرٍ لامرئً ... فاعلم بأَنك قد دَعَوْتَ عليه وقوله: يا ربّ عفواً عن مُسي ... ئً خائفٍ ما كان منهُ مُتَيَقِّن أَنْ سوف يَصْل ... ى النارِ إِن لم تَعفُ عنه لما أنشدني في الشيب أنشدته لنفسي: ليلُ الشَّباب تولىّ ... والشيْب صُبْحٌ تأَلّقْ ما الشَّيْبُ إِلا غُبارٌ ... من رَكْضِ عُمري تعَلّقْ وقلت: ما أظن أني سبقت إلى هذا المعنى. فأنشد لبعضهم بيتين وهما: قالوا غبارٌ قد عَلا ... كَ فَقلتُ: ذا غيرُ الغُبارِ هذا الذي نقل الملو ... كَ إلى القبور من الديار قلت: ولكن حققت أنه من غبار ركض العمر، وهو معنى مبتكر. وحضرت عند الأمير مؤيد الدولة أسامة يوماً آخر بدمشق سنة إحدى وسبعين، فأنشدني قوله في القديم في استدعاء صديقٍ إلى مجلس المنادمة بالموصل وقد غاب عنها: أَمُهَذَّبَ الدين استمِعْ من عاتبٍ ... لولا وِدادُك لم يَفُهْ بِعتابِ أَتُطيعُ فيَّ الدهرَ وهو كما ترى ... يقضي عَلَيَّ بفُرْقة الأَحباب أَمَلْلَتني وجعلتَ سُكْرك حُجَّةً ... ونهضت أَم لم تستحلَّ شرابي قَسَماً لئن لم تأْتني مُتَنَصِّلاً ... مُتَبرِّعاً بالعُذْر والإِعتاب لأَحُرَمِّنَّ الخَنْدريس وأَغتدي ... مُتَنَسِّماً بالماء والمِحراب وتَبُوءُ مُعْتَمِداً بإِثْمِ تَنَسُّكي ... وَبِعابِه، أَعظم به مِنْ عاب وقوله في الشوق والمكاتبة: لو أَن كُتْبي بقَدْر الشَّوْقِ واصلةٌ ... تَتَابَعَتْ كَدُموعي أَو كأَنفاسي وإِن وجدتُ سبيلاً أَو قَدِرَتْ على ... خلاص عَقْلِ أَسيرٍ في يد الكاسِ أَجْرَيْتُ أَسودَ عَيْني فوق أَبيضها ... بمائها لا مِداداً فوق قِرطاسِ وقُلتُ للشَّوق يا سَحبانُ أَمْلِ على ... يدي، أُعيذُكِ مِنْ عِيّ وإِبلاس حتى أَبوحَ بما أَشكو إِليك كما ... باح المريض بَشْكواه إلى الآسي وقوله في العذار: أُنظر شَمَاتَةَ عاذلي وسُرورَه ... بكُسوف بَدْري واشتهار محاقِهِ غطَّى ظلامُ الشِّعْرِ من وَجَناته ... صُبْحاً تُضيءُ الأَرضُ من إِشراقه وهو الجهول يقولُ هذا عارضٌ ... هو عارضٌ لكن على عُشّاقه وأنشدني أيضاً لنفسه: ما أَنت أَوّل مَنْ تناءَتْ دارُه ... فَعَلامَ قلبُك ليس تخبو نارُه إِمّا السُّلُوُّ أَو الحِمام وما سِوى ... هذَيْن قسمٌ ثالث تختاره هذا وُقوفُك للوَداع وهذه ... أَظْعان مَنْ تَهْوى وتلك دياره فاستَبْقِ دمعك فهو أَوَّلُ خاذلٍ ... بعد الفِرَاق وإِن طما تَيّاره فَذَرِ الدُّموعَ تَقِلُّ عن أَمد النَّوى ... إِن لم يكن من لُجَّةٍ تَمْتاره لَيْتَ المطايا ما خُلِقْن فكم دمٍ ... سَفكَتْه يُثْقِلُ غيرَها أَوزراه ما حَتْفُ أَنفِسنا سواها إنها ... لَهِيَ الحِمام أُتيح أَو إِنذاره لو أَنّ كلَّ العِيس ناقةُ صالحٍ ... ما ساءني أَني الغَداة قُداره وتناشدنا بيتاً للوزير المغربي في وصف خفقان القلب وتشبيهه بظل اللواء الذي تخترقه الريح وهو: كأَنَّ قلبي إِذا عَنّ اذّكاركُمُ ... ظِلُّ اللواء عليه الريحُ تَخْتَرِق فقال الأمير مؤيد الدولة أسامة: لقد شبهت القلب الخافق وبالغت في تشبيهه وأربيت عليه في قولي من أبياتٍ هي: أَحبابَنا كيف اللقاءُ ودُوَنكُمْ ... عرضُ المَهامِه والفيافي الفيحُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 أَبْكَيْتُمُ عيني دماً لفِراقكم ... فكأَنّما إِنسانها مجروح والبيت المشار إليه: وكأَنّ قلبي حين يَخْطُرُ ذكركُمْ ... لَهَبُ الضَّرام تعاورته الرّيح فقلت: له صدقت، فإن الوزير المغربي قصد تشبيه خفقان القلب وأنت شبهت القلب الواجد باللهب، وخفقانه باضطرابه عند اضطرامه لتعاور الريح، فقد أربيت بالفصاحة على ذلك الفصيح. وأنشدني أيضاً من قوله أيام شبابه وهو مُعْتَقَلٌ وقد جرى ذكر الخيال: ذَكَر الوفاءَ خيالُك المُنْتابُ ... فأَلَمّ وهو بودّنا مُرْتابُ نفسي فِداؤك من حبيبٍ زائرٍ ... مُتَعَتَّبٍ عندي له الإعتاب مُسْتَشْرِفٍ كالبدر خَلْفَ حجابِه ... أَوَ في الكرى أَيضاً عليك حِجاب ودّي كعهدِك والدّيارُ قريبةٌ ... من قبل أَن تتقطَّع الأَسباب ثَبْتٌ فلا طولُ الزّيارة ناقِصٌ ... منه وليس يزيده الإِغْباب حَظَر الوفاءُ عليّ هَجْرَك طائعاً ... وإذا اقُتِسرتُ فما عليّ عِتاب قلت له أحسنت، وتذاكرنا قول أبي العلاء المعري في الخيال: لو حَطَّ رحليَ فوق النجم رافعُه ... أَلفيتُ ثَمَّ خَيالاً منكَ مُنْتَظِري وأبلغ من هذا في بعد المسافة: وذكرتُ كم بين العَقِيق إلى الحمى ... فَجِزْعُت من أَمد النَّوى المُتَطاوِل وعَذَرْتُ طَيْفَك في الجفاء فإِنه ... يَسْري فيُصْبِحُ دونَنا بمراحِلِ ثم أنشدني الأمير أسامة قصيدةً نونية، لنفسه، منها: مُحَيّاً ما أَرى أَمْ بَدْرُ دَجُنْ ... وبارُق مَبْسِمٍ أَم برقُ مُزْنِ وثغرٌ أم لآلٍ أَم أَقاحٍ ... وريقٌ أَم رَحيقٌ بنت دَنّ ولحظٌ أَم سِنانٌ ركّبوه ... بأَسمرَ من نبات الخَطّ لَدْن ومنها: فيا مَنْ منه قلبي في سعيرٍ ... وعيني منه في جَنّاتِ عَدْنِ إِذا فكَّرتُ في إِنفاق عُمري ... ضَياعاً في هواك قَرَعْتُ سِنّي وآسَفُ كيف أَخْلَق عهدُ ودّي ... وآسي كيف أَخلف فيك ظنّي وأَعجبُ ما لقيتُ من الليالي ... وأَيُّ فِعالها بي لم يَسُؤْني تَقَلُّبُ قَلْبِ مَنْ مَثْواه قلبي ... وجَفْوَةُ مَنْ ضَممتُ عليه جفني وأنشدني لنفسه من قصيدة: حتّامَ أَرغبُ في مَودَّة زاهدِ ... وأَروم قُرْبَ الدّار من مُتباعِدِ وإِلامَ أَلتزمُ الوفاء لغادرٍ ... جانٍ وأُسْهِرُ مُقْلَتَّي لراقد وأَقول هِجْرَتُه مَخافَةَ كاشحٍ ... يُغْري بنا وحِذَارَ واشٍ حاسِدِ وأَظُنُّهُ يُبدي الجفاءَ ضَرورةً ... وإِذا قطيعُته قطيعةُ عامد يا هاجراً أَفنى اصِطباري هَجْرُه ... وابتَزَّ ثوبَ تَماسُكي وتَجالُدي كيف السّبيلُ إلى وِصالك بعدما ... عَفَّيْتَ بالهِجران سُبْلَ مَقاصدي ويلومُني في حَمْلِ ظُلْمِك جاهلٌ ... يَلْقى جَوى قلبي بقلبٍ باردِ يَزْري على صَبْري بصبرٍ مُسْعِدٍ ... ويَصُدُّ عن دمعي بطرفٍ جامد أَتُراك يعطِفُك العِتابُ وقلّما ... يَثْني العِتابُ عِنانَ قلبٍ شارد هَيْهات وصْلُك عند عَنْقا مُغْرِبٍ ... ورضاك أَبْعدُ من سُهًى وفراقد وَمِنَ العَناءِ طِلابُ ودٍّ صادقٍ ... من ماذقٍ وصلاحُ قلبٍ فاسد وأنشدني لنفسه في الحباب من أبيات: وقدعلاها حَبابٌ ... كاللؤللؤ المنظومِ رأَيت شمسَ نهارٍ ... قد رُصِّعتْ بالنُّجوم واجتمعنا عند الملك الناصر صلاح الدين بدمشق ليلةً، وكان يلعب بالشطرنج، فقال لي الأمير أسامة: أما أنشدك البيتين اللذين قلتهما في الشطرنج. فقلت: هات فأنشدني لنفسه: أُنْظُر إلى لاعبِ الشِّطْرَنْج يجمعُها ... مُغالِباً ثم بعد الجمعِ يَرْميها كالمرءِ يكدحُ للدُّنْيا ويجمعُها ... حتى إِذا مات خَلاّها وما فيها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 وأنشدني لنفسه، وقد نظمه في غرضٍ له في نور الدين رحمه الله: سلطانُنا زاهِدٌ والناس قد زهَدِوا ... له فكلٌّ على الخيراتِ مُنْكَمِشُ أَيّامُه مثلُ شهِر الصوم طاهرةٌ ... من المعاصي وفيها الجوع والعطش وأنشدني لنفسه: أَأَحْبابنا هَلاّ سَبَقْتُمْ بوَصْلِنا ... صُروفَ اللّيالي قبل أَن نتفرّقا تشاغلتمُ بالهَجِر والوَصلُ مُمْكِنٌ ... وليس إِلينا للحوادث مُرْتَقى كأَنّا أَخذنا مِنْ صُروفِ زماننا ... أَماناً ومن جَوْرِ الحوادثِ مَوْثِقا وقال: قمرٌ إذا عاينتُه شَغَفاً به ... غَرَسَ الحياءُ بوجْنَتَيْه شَقيقا وتلهّبتْ خجَلاً فلولا ماؤُها ... مُتَرَقْرِقا فيها لصار حَرِيقا وازورّ عني مُطْرِقاً فأَضّلني ... أَنْ أَهتدي نحو السُّلُوِّ طريقا وقال: صَدَّ عنّي وأَعْرَضا ... وتناسى الذي مضى واستمرّ الصدود وانْ ... قطع الوصلُ وانقضى واختفتْ في الهوى ذُنو ... بٌ بَدَتْ حين أَبْغضا صرَّح الآن هَجْرُه ... لي بما كان عَرَّضا كلُّ عَيْبٍ يبين في السُّ ... خْط يخفى مع الرِّضا وإِذا اسُتْعِطف المَلو ... لُ تجنّى وأَعرضا ليتَ مَنْ مَلّني وأَنْ ... حَل جِسْمي وأَمرضا عاد بالوصلِ أَو قضى ... فيَّ بالعدل إِذْ قضى وقال: أَقولُ للعينِ في يومِ الوَداعِ وقدْ ... فاضتْ بدمعٍ على الخدَّيْنِ مُسْتَبِقِ تَزَوّدي اليومَ مِنْ توديِعهم نَظَراً ... ثم افَرُغي في غدٍ للدَّمْعِش والأَرق وقال في المعنى: يا عينُ في ساعِة التَّوْديع يَشْغَلُكِ الْبك ... اء عن آخر التّسْليم والنّظَرِ خُذي بحَظِّكِ مِنْهمْ قبلَ بَيْنِهِم ... ثم اجهَدي بعدَهُمْ للدَّمْعِ والسَّهَر وقال: يا مُدَّعي الصَّبر عن أَحبابه ولهُ ... دَمْعٌ إذا حَنَّ ذِكْراهُمْ يُكَذِّبُهُ خَلَّفَتْ قلبك في أَرضِ الشآم وقد ... أَصبحتَ في مصر يا مغرورُ تَطْلُبه هلاّ غداةَ النّوى استصحبته وإِذا اخْت ... ار المُقامَ فهّلا كنتَ تَصْحَبُه أَفردتَه بالأَسى في دار غُرْبَته ... وعُدتَ لا عُدتَ تَبْكيه وتَنُدُبه هَيْهاتَ قد حالتِ الأيّام بَيْنَكُما ... فَعَزِّ نَفْسَك عمّا عَزَّ مَطْلَبه وقال: صبري على فَقْدِ إِخواني وفُرْقَتِهمْ ... غَدْرٌ وأَجْمَلُ بي من صَبْرِيَ الجزَعُ تقاسَمَتْهُمْ نوًى شَطَّتْ بهم ورَدًى ... فالحيُّ كالمَيْتِ ما في قُرْبِه طَمَعْ وأَصبحتْ وَحْشَةُ الغَبْراء دونَهُمُ ... مِنْ بَعْدِ أُنْسي بهم والشَّمْلُ مُجْتَمِعُ وعِشْتُ مُنْفِرداً منهم وأُقْسم ما ... يكاد مُنْفَرِدٌ بالعيش ينَتْفع وقال: ما حِيلتي في المَلول يَظْلِمُني ... وليس إن جار منه لي جارُ وِدادهُ كالسَّحاب مُنْتَقِلٌ ... وعهده كالسَّرابِ غَرّارُ آمَنَ ما كنتُ منه فاجأَني ... بغدره والمَلولُ غدّار عَوْني عليه مدامِعٌ سُفُحٌ ... وزَفْرَةٌ دون حَرّها النار وقال: أَصبحتُ لا أَشكو الخطوبَ وإِنما ... أَشكو زماناً لم يَدَعْ لي مُشْتكى أَفنى أَخّلائي وأَهلَ مَوَدَّتي ... وأَباد إِخوانَ الصّفاء وأَهلكا عاشوا براحَتِهم ومُتُّ لِفَقْدِهم ... فَعَليَّ يَبْكي لا عليهم مَنْ بكا وبَقِيتُ بعدَهُمُ كأَنَّي حائرٌ ... بمفَازةٍ لم يَلْقَ فيها مَسْلَكا وقال: ونازحٍ في فُؤادي مِنْ هَواه صَدًى ... لم يُرْوِ غُلَّتَه عَلِّشي ولا نَهَلي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 في فيهِ ما في جِنانِ الخُلْد من دُرَرٍ ... ومن رُضابٍ ومن خمرٍ ومن عسل لو كنتُ أَعلمُ أَنّ البين يفجَؤني ... رَوَّيْتُ قبلَ النَّوى قَلبي من القُبَل وقال: إِن يحسُدوا في السِّلْم مَنزِ ... لتي من العِزّ المُنيفِ فبما أُهين النَّفْس في ... يومِ الوغى بين الصُّفوف ولطالما أَقدمتُ إِقد ... ام الحُتوفِ على الحُتوف بعزيمةٍ أَمضى على ... حدِّش السيوف من السيوف وقال: إِلقَ الخُطوبَ إِذا طرقْ ... نَ بقلبِ مُحْتَسِبٍ صبورِ فسينقضي زمنُ الهمو ... م كما انقضى زمنُ السّرور فمن المحال دوامُ حا ... لٍ في مدى العُمْرِ القصير وقال: بكاءُ مِثْلِيَ مِنْ وَشْك النَّوى سَفَهُ ... وأَمرُ صَبْرِيَ بعد البَيْنِ مُشْتَبِهُ فما يُسَوِّفُني في قُرْبِهمْ أَمَلٌ ... وليس في اليأس لي رَوْحٌ ولا رَفَه أُكاتِمُ الناسَ أَشْجاني وأَحِسَبُها ... تَخْفى، فيُعْلِنُها الِإْسقامُ والوَلَه كأَنني من ذُهول الهمّ في سِنَةٍ ... وناظري قَرِحُ الأَجفانِ مُنْتَبِه أَذنبتُ ثم أَحلتُ الذنبَ من سَفَهٍ ... على النَّوى وَلَبِئْس العادُة السَّفَه أَقمتُ طَوْعاً وساروا ثم أَنَدُبُهمْ ... هلاّ صَحِبْتُ نواهم حيثُ ما اتّجهوا أضرَّ بي ناظرٌ تدمى مَحاجِرُه ... وخاطرٌ مُذْ نَأَوْا حَيْرانُ مُنْشَدِه فما يلائمُ ذا بعد النّوى فَرَحٌ ... ولا يروق لهذا منظرٌ نَزِه سَقُيْاً لدهرٍ نِعْمنا في غَضارته ... إذ في الحوادث عما ساءنا بَلَهُ وعيشُنا لم يخالط صفوَه كَدَرٌ ... وودُّنا لم تَشُبْ إِخلاصَه الشُّبَه مضى وجاء زمانٌ لا نُسَرٌّ به ... كلُّ البريَّةِ منه في الذي كرهوا وقال في الزهد: مَثُوبةُ الفاقِد عن فَقِده ... بصبره، أَنفعُ مِنْ وَجْدِه يَبْكيه في حُزْنٍ عليه فهل ... يَطْمَعُ في التّخليد منْ بَعْدِه ما حيلةُ النّاس وهل مِنْ يدٍ ... لهمْ بدفع الموت أو صَدِّه وُرودُه لا بدّ منه فما ... يُنْكَرُ مالا بُدَّ مِنْ وِرْده سِهامُه لم يَسْتَطِعْ رَدَّها ... داوودُ بالمُحْكَمِ من سَرْدِه ولا سليمانُ ابْنُه ردَّها ... بِمُلْكِه والَحْشِد من جُنْدِهِ عَدْلٌ تساوى الخَلْقُ فيه فما ... يُمَيَّزُ المالِكُ من عبده كلٌّ له حَدٌّ إِذا ما انتهى ... إِليه وافاه على حَدِّه تجمعُنا الأرضُ وكلُّ امرئٍ ... في لحده كالطفل في مَهده أَما ترى أَسلافنا عَرّسوا ... بمنزلٍ دانٍ على بُعْدِه تَبَوّءوا الأرضَ ولم يُخبِروا ... عن حَرِّ مَثْواهُمْ لا بَرْدِه لو نطَقوا قالوا التُّقى خيرُ ما ... تَزَوَّد العبدُ إلى لَحدِه فارجِع إلى الله وثِقْ بالذي ... أتَاك في الصّادقِ مِنْ وعده للصابرين الأَجرُ والأَمْنُ مِنْ ... عذابه والفوزُ في خُلْده وقال: أَيُّها المَغْرورُ مَهْلاً ... بَلَغَ العُمْرُ مَداهُ كم عسى مَنْ جاوز السب ... عين يبقى كم عساه أَنَسِيتَ الموتَ أَم، أَمَّنَ ... ك الله لظاه تظِلمُ الناسَ لِمَنْ تر ... جوه أو تخشى سطاهُ أَنت كالتَّنور يَصْلى الن ... ار في نفع سِواه وقال يرثي ولداً له: أَزور قبرك والأشجانُ تمنعُني ... مِنْ أَن أَرى نَهْجَ قَصْدي حين أَنصرفُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 فما أَرى غير أَحجارٍ مُنَضَّدَةٍ ... قد احْتَوَتْكَ ومأْوى الدُّرَّةِ الصَّدَفُ فأَنْثنى لستُ أَدري أَين مُنْقَلَبي ... كأَنّني خائف في الليل يَعْتَسِف إِن قصّر العُمْرُ بي عن أَن أَرى خَلَفاً ... له ففي الأَجر عند الله لي خَلَف أَقول للنفس إِذ جدَّ النِّزاعُ بها ... يا نفسُ ويَحْكِ أَين الأهلُ والسَّلف أَليس هذا سبيل الخَلْق أَجمِعِهم ... وكلُّهُم بوُرودِ الموت مُعْتِرف كم ذا التأَسُّفُ أم كم ذا الحنين وهل ... يَرُدُّ مَنْ قَدْ حواه قَبْرُه الأَسَف وقال: تَقَلُّبُ أَحوالِ الزّمان أَفادني ... جميلَ الأسى في يَنُوب من الخَطْبِ إِذا حَلَّ ما لا يُستطاع دِفاعُه ... فما أَجملَ الصبرَ الجميل بذي اللُّبّ وقال: صَبْراً لأَيامٍ تنا ... هتْ في مُعاندتي وعَضّي فالدَّهْرُ كالميزان ما ... يَنْفكُّ مِنْ رفعٍ وخَفْضِ هذا مع الأَفْلاكِ مُرْ ... تفعٌ وذا بحَضيض أَرْضِ وإِلى الفناء جميعُ مَنْ ... خَفَضَتْه أَو رَفَعَتْهُ يُفْضي وقال: أَرجأْتُ كُتْبي إِلى حين اللقاءِ فقد ... أَكْدى رَجائي وزاد الشوقَ إِرجائي وأَلجأَتْني إِلى صبري مَوانِعُ أَيّ ... امي فلم يُسْلِني سَعْي وإِلجائي حتى أَحاطَتْ بيَ الأشواقُ واشْتملتْ ... عليَّ واسْتحوذَتْ مِنْ كل أَرجائي فهل سبيلٌ إِلى قُربٍ يُميط شَجَا ... صَدْري فقد طال تَبْريحي وإِشجائي وقال: حُسْنْ التّواضعُ في الكريم يَزيدُه ... فَضْلاً على الأَضْراب والأَمْثالِ يكْسُوه مِنْ حسن الثَّناءِ مَلابِساً ... تَنْبو عن المُتَرَفِّع المُخْتال إِنّ السيول إِلى القَرارِ سَريعةٌ ... والسّيْل حَرْبٌ للمكان العالي وقال وكتب بها إلى ولده الأمير مرهف من حصن كيفا جواباً عن كتاب أنفذه إليه مع مستميحٍ لم يتمكن من بلوغ مآثره من بره: أَبا الفوارس ما لاقْيتُ من زمني ... أَشدَّ من قَبضِه كَفّي عن الجُودِ رأى سَماحي بِمَنْزورٍ تجانفَ لي ... عنه وُجُودي به فاجْتاح مَوْجُودي فِصرْتُ إِن هَزّني جانٍ تَعَوَّدَ أَنْ ... يَجْني نَدَايَ رآني يابِسَ العُود وقال في المعنى: أَبا الفوارس إِن أَنكرتَ قَبْضَ يَدي ... مِنْ بعد بَسْطَتِها بالجُودِ والكَرَمِ فالذَّنْبُ للموتِ أَرجاني إِلى زَمنٍ ... غَلَّتْ أَكُفَّ النّدى بُؤْساه بالعَدَم وقال: حَذَّرَتْني تَجارِبي صُحْبَةَ الع ... لَمَ حتّى كَرِهْتُ صُحْبَة ظّلِي ليس فيهم خِلٌّ إِذا ناب خَطْبٌ ... قلتُ ما لي لدِفَعْه غيرُ خِلّي كُّلُهْم يَبْذُل الوِداد لدى اليُسْر ... ولكنهم عِدىً للمُقِلِّ فاعْتَزِلْهُم ففي انفرادِك مِنْهُم ... راحةُ اليَأْسِ من حِذار وذُلٍ وقال: سُقُوفُ الدُّورِ في خَرْبِرْتَ سُودٌ ... كَسَتْها النّارُ أَثوابَ الحِدادِ فلا تَعَجبْ إذا ارتفعتْ علينا ... فلِلْحَظِّ اعتناءٌ بالسَّواد بياضُ العَيْنِ يكسُوها جَمالاً ... وليس النّورُ إلاّ في السَّواد ونور الشَّيْب مكروهٌ وَتْهوى ... سوادَ الشَّعْرِ أَصنافُ العِباد وطِرْسُ الخطِّ ليس يُفيدُ عِلْماً ... وكلُّ العِلْم في وَشْي المِداد وقال يرثي ولده عتيقاً: غالَبَتْني عليك أَيدي المَنايا ... ولها في النّفوس أَمرٌ مُطاعُ فَتَخَلَّيْتُ عنك عَجْزاً ولو أَغ ... نى دِفاعي لطال عنك الدِّفاعُ وأَرادتْ جَميلَ صَبْري فرامَتْ ... مَطْلباً في الخُطوب لا يُسْتطاع وقال فيه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 كلما امتدّ ناظري ردّهُ الدَّمْ ... عُ حَسِيراً عن أَن يرى لكَ شِبْها لم يَرُقْني مِنْ بعد فَقْدِك مَرْأًى ... فيه للعَيْنِ مُسْتَرادٌ وَمْلهى كنتَ عندي أَلذَّ مِنْ رَغَد العَيْ ... شِ وأَحلى من الحياة وأَشهى وقال في مدح الملك الناصر صلاح الدين سلطان مصر والشام واليمن: سَمِعَتْ صُروفُ الدَّهْرِ قولَ العاتِبِ ... وَتَجَنَّبَتْ حَرْبَ المَليكِ الحارِبِ وَتجافتِ الأيّامُ عن مَطْلوبه ... ومُرادِه، أَكْرِمْ به من طالب هُوَ مَنْ عَرَفْنَ فلوْ عَصاهُ نهارُه ... لرماه نَقْعُ جُيوشِه بَغياهِب وإِذا سَطا أَضْحَتْ قلوبُ عُداتِه ... تُلْوى كَمِخْراقٍ بِكَفَّيْ لاعِبِ مَنْ ذا يُناوي النّاصرَ المَلك الذي ... في كفه بَحْراً ردًى ومَواهِب وإِذا سرى خِلْتَ البَسيطَة لُجَّةً ... أَمواجُها بَيْضٌ وبيضُ قَواضِب مَلَكَ القُلوبَ مَحَبَّةً وَمهابةً ... فاقتادَها طَوْعاً بَهْيَبِة غاصِب وله في الشيب والانحناء والعصا: حَنانيَ الدَّهْرُ وأَب ... لَتني اللّيالي والغِيَرْ فصِرْتُ كالقَوْسِ وَمِنْ ... عَصَايَ للقوْسِ وَتَرْ أَهْدِجُ في مَشْي وفي ... خَطْوي فُتورٌ وَقِصَر كأَنني مُقَيَّدٌ ... وإِنّما القَيْدُ الكِبَرُ والعُمْرُ مِثْلُ الماء في ... آخره يأْتي الكَدَر وله في الخيال: يا هاجِراً راضياً وغَضْبانا ... ومُعْرِضاً هاجِداً ويَقْظانا هَجَرْتَ إِمّا لِهَفْوَةٍ فَرَطَتْ ... منّي وإِمّا ظُلْماً وعُدْوانا طَيْفُك ما باله يُهاجِرني ... مَنْ أَعْلَمَ الطَّيْفَ بالذي كانا وله: يُهَوِّنُ الخطبَ أَنَّ الدهرَ ذُو غِيَرٍ ... وأَنّ أَيامَه بَيْنَ الوَرى دُوَلُ وأَنّ ما ساء أَو ما سَرّ مُنْتَقِلٌ ... عنّا وإِلاّ فإنّا عنه نَنْتَقِل وله: تناسَتْنِيَ الآجالُ حتى كأَنّني ... رَذِيَّة سَفْرٍ بالفَلاةِ حَسِيرُ ولمّا تَدَعْ مِنْي الثّمانُون مُنَّةً ... كأَني إِذا رُمْتُ القِيام كَسِيرُ أُودّي صَلاتي قاعداً وسُجودُها ... عليَّ إِذا رُمتُ السُّجودَ عَسير وقد أَنذرتْني هذه الحالُ أَنني ... دَنَتْ رِحْلَةٌ مني وحان مَسِير وله من قصيدةٍ يصف ضعفه في كبره من قطعة: فاعجبْ لضعفِ يدي مِنْ حملِها قلماً ... مِنْ بعد حَطْمِ القَنا في لَبَّةِ الأسَدِ وأنشدني أيضاً لنفسه: ليَ مَوْلىً صَحِبْتُه مَذْهَب العُمْ ... رِ فلَمْ يَرْعَ حُرْمَتي وذِمامي ظنّني ظِلَّه أُصاحِبُه الدَّهْ ... رَ على غير نائلٍ واحترام فافْترقنا كأَنّه كان طَيْفاً ... وكأَني رأَيْتُه في المنامِ وللأمير مجد الدين مؤيد الدولة ابن منقذ في مدح الملك الناصر: لَهْفي لِشْرخِ شَبِيبتي وزَماني ... وتَرَوُّحي لفُتُوَّةٍ وطِعانِ أَيّامَ لا أُعطي الصَّبابَة مِقْوَدي ... أَنَفاً، ولا يَثْني الغَرامُ عِناني وإذا اللّواحي، في تَقَحُّمِيَ الوَغى ... لا في المُدامِ ولا الهوى تَلْحاني وإِذا الكُماةُ على يقينٍ أَنَّهُمْ ... يَلْقى الرَّدى في الحرب مَنْ يَلْقاني أَعْتَدُّهُمْ وهُمُ الأُسُود فرائِسي ... فهمُ دَرِيئةُ صارِمي وسِناني والأُسْدُ تلقى مِثْلها مني إِذا ... لاقَيْتُها بقُوى يدٍ وجَنانِ كم قد حَطَمْتُ الرُّمْحَ في لَبّاتِها ... فَتَرَكْتُها صَرْعى على الأَذقان حتى إذا السَّبْعُون قَصَّرَ عَشْرُها ... خَطْوي وعاث الضَّعْفُ في أَركاني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 أَبْلَتْنِيَ الأيّامُ حتى كلَّ عَنْ ... ضَرْبِ المُهَنَّدِ ساعِدي وَبناني هذا وكمْ للدّهرِ عندي نَكْبَةٌ ... في المال والأَهلين والأوطان نُوَبٌ يَروض بها إِبايَ وقد عَسا ... عُودي فما تَثْنيه كَفُّ الحاني لا أَستكينُ ولا أَلينُ وقد بَلا ... فيما مضى صَبْري على الحِدْثان فالآن يطمَع في اهتضامي إنه ... قد رام أَمراً ليس في الإِمكان والناصرُ الملك المُتَوَّجُ ناصِري ... وعُلاه قد خَطَّتْ كتابَ أَماني قد كنتُ أَرهَبُ صَرْفَ دَهْري قبلَه ... فأَعاد صَرْفَ الدَّهْرِ من أَعواني أَنا جارَه ويدُ الخُطوبِ قصيرةٌ ... عن أَن تنال مُجاوِرَ السُّلطْان مَلكٌ يَمُنُّ على أسارى سَيْبِه ... فيُعيدهُم في الأَسر بالإِحْسان خَضَتْ له صِيْد المُلوكِ فِمِنْ بُرى ... أَقلامِه غُرَرٌ على التيجان مَلأَ القلوبَ مَحبَّةً وَمهابةً ... فَخَلَتْ من البغضاء والشَّنَآن لي منه إِكرامٌ عَلَوْتُ به على ... زُهْرِ النُّجوم ونائلٌ أَغناني قَرَنَ الكَرامَة بالنَّوالِ مُوالياً ... فعَجِزَتْ عن إِحصاء ما أَولاني فَنَداهُ أَخْلَفَ ما مضى مِنْ ثَرْوَتي ... وبقاؤه عن أُسْرتي أَسْلاني فَلأَهْدِيَنَّ إِلى عُلاه مَدائحاً ... تَبْقى على الأَحْقاب والأَزْمان مِدَحاً أَفوقُ بها زُهَيْراً مثْلَما ... فاقَ المليكُ الناصرُ ابنَ سِنان يا ناصِرَ الإِسلام حينَ تخاذَلَتْ ... عنه الملُوك ومُظْهِرَ الإِيمان بك قد أَعزّ اللهُ حِزْبَ جُنودِه ... وأَذَلَّ حِزْبَ الكفرِ والطُّغْيان لمّا رأَيْتَ النّاسَ قَدْ أَغواهمُ الشّيْ ... طانُ بالِإلْحادِ والعِصْيانِ جَرَّدْتَ سَيْفَكَ في العِدى لا رَغْبَةً ... في المُلكِ بل في طاعِة الرَّحمانِ فضربْتَهم ضَرْبَ الغرائب واضِعاً ... بالسَّيْفِ ما رفعوا من الصُّلْبان وغَضِبتَ للهِ الذي أَعطاك فَصْ ... لَ الحُكْمِ غِضْبَةَ ثائرٍ حَرَّان فقتلتَ مَنْ صَدَق الوَغى ووسَمْتَ مَنْ ... نجَّى الفِرارُ بِذِلَّةٍ وهَوان وبذلتَ أمَوالَ الخَزائن بعد ما ... هَرِمَتْ وراء خَواتمِ الخُزَّان في جمع كلِّ مُجاهدٍ ومُجالِدٍ ... ومبارزٍ ومُنازِلِ الأَقران من كلِّ مَنْ يَرِدُ الحروبَ بأَبيضٍ ... عَضْبٍ ويصْدُرُ وهو أَحْمَرُ قان ويخوض نيران الوغى وكأنّه ... ظَمْآنُ خاضَ مَوارِدَ الغُدْران قومٌ إِذا شِهدوا الوغى قال الورى ... ماذا أَتي بالأُسْدِ مِنْ خَفّان؟ لوْ أَنهم صَدَموا الجبال لَزَعْزَعوا ... أَركانها بالبِيض والخِرْصان فهمُ الذّخيرةُ للوقائع بالعِدى ... ولفتحِ ما اسْتَعْصى من البُلدان أَنت الذي علمتهم ... فارس الفرسان فاسلم مدى الأيام يا مَنْ ما له ... ثان واسْعَد بشهر اللِه فهو مُبَشِّرٌ ... لعُلاكَ بالتَّأْييد والغُفْران في دَوْلةٍ عَمَّتْ بنائلها الورى ... فدعا لها بالخُلْدِ كلُّ لِسان وله في الهزل: خَلَعَ الخَليعُ عِذاره في فِسْقِه ... حتى تَهَتَّك في بُغًي ولِواطِ يأْتي ويُؤْتى ليس يُنْكِر ذا ولا ... هذا كذلك إِبرُة الخيّاط وله: يا عاتِبينَ عِتابَ المُسْرتيب لنا ... لا تَسْمَعوا في الهوى ما تَدّعي التُّهَمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 مَنْ لي بأَنّ بَسيطَ الأَرض دوَنكُمُ ... طِرْسٌ وأَنّيَ في أَرجائه قَلَم أَسعى إِليكم على رأَسي ويمنعني ... إِجلاليَ الحُبَّ أَنْ يَسْعى بيَ القَدَم وله قصيدة مشهورة كتبها إلى دمشق بعد خروجه منها إلى مصر في زمان بني الصوفي كتبها إلى الأمير أنر، ويشير إلى بني الصوفي، أنشدنيها لنفسه وهي ذات تضمين: وَلُوا ولمّا رَجَوْنا عَدْلَهُمْ ظَلَموا ... فليتَهُمْ حَكَموا فينا بما عَلمِوا ما مَرّ يوماً بفكري ما يَريُبُهمُ ... ولا سعتْ بي إلى ما ساءُهمْ قَدَمُ ولا أَضَعْتُ لهم عهداً ولا اطّلَعَتْ ... على ودائعهم في صَدْرِيَ التُّهَم فليتَ شِعْري بِمَ استْوجَبْتُ هَجْرَهُمُ ... مَلُّوا فَصَدَّهُمُ عن وَصْلِيَ السَّأَم حَفِظْتُ ما ضَيَّعُوا أَغضيْتُ حينَ جَنَوْا ... وَفَيْتُ إِذ غدروا واصلتُ إذْ صَرَموا حُرِمْتُ ما كنتُ أَرجو مِنْ وِدادِهمُ ... ما الرّزقُ إلّا الذي تَجْرِي به القِسَم مَحاسِني مُنْذُ مَلُّوني بأَعْيُنِهِمْ ... قَذًى وِذكرِيِ في آذانِهمْ صَمَم وبعدُ لوْ قيلَ لي ماذا تُحِبّ وما ... هَواكَ من زِينة الدُّنْيا لقلتُ هُمُ هُمُ مجالُ الكَرى من مُقْلَتَيَّ ومن ... قلبي مَحَلُّ المُنى جارُوا أَوِ اجْتَرَمُوا تَبَدَّلُوا بي ولا أَبغي بهم بَدَلاً ... حسبي هُمُ أَنصفوا في الحُكمِ أَو ظلموا يا راكِباً تَقْطَعُ البْيداَء هِمَّتُه ... والعِيسُ تعِجَزُ عمّا تُدْرِكُ الهِمَمُ بَلِّغْ أَميري مُعينَ الدّين مَأْلُكَةً ... مِنْ نازح الدار لكن ودُّه أَمَم وقُلْ له أَنتَ خَيْرُ التُّرْك فَضَّلَك الْح ... ياء والدّينُ والإِقدام والكَرَم وأَنتَ أَعدلُ من يُشْكي إِليه ولي ... شَكِيَّةٌ أَنت فيها الخصمُ والحَكَمُ هَلْ في القضّية يا مَنْ فَضْلُ دَوْلَتهِ ... وعدلٌ سيرته بين الورى عَلَم يضيعُ واجِبُ حقّي بعد ما شَهِدَتْ ... به النّصيحةُ والإخِلاصُ والخِدَم وما ظنَنْتُك تنسى حقَّ مَعْرِفتي ... إِن المعارف في أَهل النُّهى ذِمَم ولا اعتقدتُ الذي بيني وبينك مِنْ ... ودٍّ وإِن أَجلب الأعداءُ ينَصَرِم لكن ثِقاتكُ ما زالوا بعَتْبِهِمُ ... حتَّى استوتْ عندك الأنوارُ والظُّلَم باعُوك بالبَخْس يَبْغُون الغِنى ولهمْ ... لَوْ أَنَّهم عَدِمُوك الوَيْلُ والعَدَم وللهِ ما نصحوا لما استشرتَهُمُ ... وكلُّهمْ ذو هوًى في الرأي مُتَّهَم كم حَرَّفوا من مَعانٍ في سَفِارتَهِمِ ... وكم سَعَوْا بفسادٍ ضَلّ سَعُيُهُم أَين الحِمَيَّةُ والنفسُ الأَبِيَّةُ إِذ ... سامُوكَ خُطَّةَ خَسْفٍ عارُها يَصِم هَلاّ أَنِفْتَ حياء أَو مُحافظةً ... من فعل ما أَنكرته العُرْبُ والعَجَم أَسْلَمْتَنا وسُيوفُ الهندِ مُغْمَدَةٌ ... ولم يُرَوِّ سِنان السَّمْهَرِيِّ دَم وكنتُ أَحسِبُ مَنْ ولااك في حَرَمٍ ... لا يعتريه به شَيْبٌ ولا هَرَم وأَنَّ جارك جارٌ للسَّمَوْأَلِ لا ... يَخْشى الأعادي ولا تَغْتالُه النِّقَم وما طُمانُ بأَوْلى من أُسامةَ بالْو ... فاءِ لكن جرى بالكائن القلمُ هَبْنا جَنَيْنا ذُنوباً لا يُكَفِّرُها ... عُذْرٌ فماذا جَنى الأطفالُ والحُرَمُ أَلقيتَهُمْ في يد الإِفْرَنْج مُتَّبِعاً ... رضى عِدًى يُسْخِط الرَّحْمنَ فِعْلُهُم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 هُمُ الأعادي وقاك اللهُ شَرَّهُمُ ... وهمْ بَزْعِمهمُ الأعوانُ والخَدمَ إذا نهضتَ إِلى مَجْدٍ تُؤَثِّلُهُ ... تقاعدوا، فإِذا شَيَّدْتَه هَدَموا وإِن عَرَتْكَ من الأَيّام نائبةٌ ... فكُلُّهُمْ للذي يُبْكيك مُبْتَسِم حتّى إِذا ما انْجَلَتْ عنهم غَيابتَهُا ... بِحَدِّ عَزْمِك وهو الصّارِمُ الخَذِم رَشَفْت آخر عَيْشٍ كُلُّه كَدرٌ ... وَوِرْدُهُمْ مِنْ نَداك السَّلْسَلُ الشَّبِم وإِن أَتاهُمْ بقَوْلٍ عنك مُخْتَلَقٍ ... واشٍ فذاك الذي يُحْبى وُيْحَتَرم وكُلُّ مَنْ مِلْتَ عنه قَرَّبوه وَمَنْ ... وَالاكَ فَهْو الذي يُقْصي ويُهْتَضَم بَغْياً وكُفْراً لِما أَوْلَيْتَ مِنْ مِنَنٍ وَمَرْتَعُ البَغْي لولا جَهْلُهُمْ وَخِم جَرِّبْهُمُ مِثْلَ تجريبي لِتَخْبُرَهُمْ ... فللرّجال إِذا ما جُرّبوا قِيَمُ هل فيهمُ رُجُلٌ يُغْني غِنايَ إِذا ... جَلَّى الحوادثَ حَدُّ السَّيْفِ والقلم أَمْ فيهُم مَنْ له في الخَطْبِ ضاق به ... ذَرْعُ الرجال يَدٌ يَسْطو بها وَفَمُ لكنّ رأيَك أَدْناهُمْ وأَبْعدني ... فلَيْتَ أَنّا بقدر الحُبّ نَقْتَسِم وما سَخِطْتُ بِعادي إذْ رضِيتَ به ... وما لِجُرْحٍ إذا أَرضاكم أَلم ولستُ آسى على التَّرْحال من بلدٍ ... شُهْبُ البُزاةِ سَواءٌ فيه والرَّخَم تعلَّقَتْ بحبال الشَّمْسِ فيه يدي ... ثم انثنتْ وهي صفْرٌ مِلْؤُها نَدَم فاسلم فما عشْتَ لي فالدَّهْرُ طَوْعُ يدي ... وكلُّ ما نالني من بُؤْسِه نِعَم وأردت أن أورد من نثره ما يزهر فجره ويبهر سحره، فوجدت له جواب كتابٍ كتبه القاضي الفاضل ابن البيساني إليه من مصر عند عوده إليها ونحن بدمشق سنة إحدى وسبعين، وأثبت أولاً الرسالة الفاضلية وهي أديبة غريبة، صنيعةٌ بديعة، جامعة للدرر، لامعة بالغرر، وهي: وصل كتاب الحضرة الشامية الأجلية، المؤيدة الموفقة المكرمة، مجد الدين، قدوة المجاهدين، شيخ الأمراء، أمين العلماء، مؤيد الدولة، عز الملة، ذات الفضيلتين، خالصة أمير المؤمنين، لا زالت رياض ثنائها متناوحة، وخطرات الردى دونها متنازحة، والبركات إلى جانبها متوالية، والليالي بأنوار سعادتها متلالية، والأيام الجافية، عن بقية الفضل بها متجافية، وأحكامها الهافية، تاركةً للمجد فيها فئةً تتحيز إليها المكرمات إذا لم يكن لها فيه. فأنشده ضالة هوى كان لنشدانها مرصدا، ورفع له ناراً موسويةً سمع عندها الخطاب وآنس الخير ووجد الهدى، وكانت نار الغليل، في فؤاده بخلاف نار الخليل، فإنها لا تقبل ندى الأجفان بأن يكون برداً وسلاما، ولا ترى بمائها إلا أضرى ما كانت ضراما، وشهد الله حوالةً على علمه بما هو فيه، لا إحالةً بما يخالفه الضمير وينافيه، ولقد كان العبد ناكس الرأس خجلاً، غضيض الطرف حياء، مقيد النظر إطراقاً، حصر القول تشورا منه، فارقها على تلك الصفة فلا هو قضى من حقها فرائض لزمت، والله وتعينت، ولا الضرورة في مقامها بحيث تبلغه أنسها أذنت، ولا مدت هذه الطيفية والسحابة الصيفية بالنوى المستأنفة ما اقتربت، ولا الأيام بالبعد ما أساءت فإنها بالقرب ما أحسنت: وإن امرءًا يَبْقى على ذا فؤادُه ... ويُخْبِرُ عنه إِنه لصبور ويعود إلى ذكر الكتاب الكريم، وسجد لمحرابه وسلم، وحسب سطوره مباسم تبسم، ووقف عليه وقوف المحب على الطلل يكلمه ولا يتكلم، وهطل جفنه وقد كان جمادى ودمعه وقد كان على صفحة المحرم، وجدد له صبابةً لا يصحبها أمل، وخاف أن لا يدرك الهيجاء حمل، وقال الكتاب: إنّا مُحَبُّوكَ فاسْلَمْ أَيُّها الطَلَلُ وعز والله عليه أن يدخل كاتبه القلوب ويخرج من المقل، وأنشد نيابةً عنها: وإِن بلاداً ما احْتَلتْ بي لعاطِلٌ ... وإنّ زماناً ما وفى لي لَخَوّانُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 وما يحسب العبد أن الملك يعجزعن واحدٍ وهو بالورى مستقل، وأن السحاب يعرض عن ذكي الروض وهو على الفلا مستهل. ولقد كتب في هذا المعنى بما يرجو أن لا يرجا، وأنهى منه ما اقتضى الصواب أن ينهى، والله المسؤول لها في عاقبةٍ حميدة، وبقيةٍ من العمر مديدة، فإنها الآن نوح الأدب وطوفانها العلم الذي في صدرها، ولا غرو أن يبلغ عمره بعمرها، على أن يتحقق خلودها في الجنة بعملها، وفي الدنيا بذكرها، فإن الدارين يتغايران على عقائل فخرها، ولا يتعيران عن إجرائها على رفع قدرها، وعلى أنها طالما أقامت الحد على الدنيا السكرى حتى بلغت في حدها من العمر الثمانين، وآذنت الأيام بسلاح الحرب من سيفها وسلاح السلم من قلمها تأديب الجانين، وما حملت العصا بعد السيف حتى ألقت إليها السلم فوضعت الحرب أوزارها، ولا استقلت بآية موسى إلا لتفجر بها أنوار الخواطر وتضرب بحارها، وما هي إلا رمحٌ وكفى بيدها لها سنانا، وما هي إلا جواد يجنب السنين خلفها فتكون أناملها لها عنانا. وعلى ذكر العصا فإن تيسر الكتاب المجموع فيها حسب أنه ثانية العصا، وأضيف إلى محاسنها التي لا تحصى أو يحصى الحصا. وكان من مدةٍ قد شاهد بحلب كتباً بخط المولى الولد دلت على مضضٍ ومرض، ولعله الآن قد عوفي من الأمرين، وقرت بوجهه العين، وجددت عهداً بنظره، وقرت عليها لسانه إسناد خبره، وبلت غلة الحائم، ورأت منه هلال الصائم، وطالعها وجه الزمان المغضب منه بصفحة المباسم، وفي مواعيد الأنس منه الضامن الغارم، وهو يسلم عليه تسليم الندى على ورق الورد، ويستثمر الوفاء من غرس ذلك العهد، ولكتاب الحضرة العالية من الخادم موقع الطوق من الحمام يتقلد فلا يخلع، ويعجبها فلا تزال تسجع، بحلبه طوقاً على الأسى إلا أنه بدر الدمع مرصع، ولا يمنعه منه شعار السرور أن يحزن لفرقتها ويجزع، فإذا أنعم به فمع ثقةٍ ويخشى أن يكون هذا الشرط له قاطعا، بل مع من اتفق فإنه كالمسك لا يدعه العرف الضائع أن يكون ضائعاً: أُكْتُبه تكتبْ لي أَماناً ماضياً ... وابعثه تبعث لي زماناً راجعا إِن أَشتريه بِمُهجتي فقليلةٌ ... فاسمَح به فمتى عرَفْتُك مانعا وجواب مؤيد الدولة، وقرأته عليه فسمعه: وَصَل الكتابُ أَنا الفِداءُ لِفْكَرةٍ ... نَظَمَتْ نفيسَ الدُّرِّ فيه أَسْطُرا وَفَضَضْتُه عن جَوْنَةٍ فتأَرَّجَتْ ... نَفَحاتُه مِسْكاً وفاحَتْ عَنْبرا وأَعدْتُ فيه تأَمُّلي مُتَحيِّراً ... كيف استحال اللفظُ فيه جَوْهرا الخادم يخدم المجلس العالي الأجلي الأوحد الصدر الفاضل، فضله الله برفع درجاته في الجنان، كما فضله بمعجز البلاغة والبيان، وبلغه من الخيرات أمله، وختم بالحسنى عمله، وجمل ببقائه الدنيا، وأجزل حظه من رحمته في الأخرى، بسلامٍ يغاديه نشره ويرواحه، ودعاءٍ لا يحجب عن الإجابه صالحه، وثناءٍ يضيق عن حصر فضائله منادحه، وما عسى أن يقول مطريه ومادحه، والفضل نغبةٌ من بحره الزاخر، وقطرةٌ من سحابه الماطر، تفرد به فما له من نظير، وسبق من تقدمه في زمانه الأخير، فتق عن البلاغة أكماماً تزينت الدنيا منها بالأعاجيب، وأتى بآيات فصاحةٍ كادت أن تتلى في المحاريب، إذا استنطقت ازدحمت عليه العقول والأسماع، ووقع على الإقرار بإعجازها الاتفاق والإجماع، فسبحان من فضله بالبلاغة على الأنام، وذلل له بديع كلامٍ ما كأنه من الكلام، تعجز عن سلوك سبيله الأفهام، وتحار في إدراك لطف معانيه الأوهام، هو سحرٌ لكنه حلال، ودرٌ إلا أن بحره حلوٌ سلسال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 ولا يظن، أدام الله ببقائه جمال الزمان وأهله، ويسر له إظهار مكتوم فضله، أن الخادم يسلك سبيل النفاق في مقاله، ولا إعارة شهادةٍ في وصف كماله، لا والله ما ذلك مذهبه، ولا هو مراد المجلس العالي ولا أربه، ولكنها شهادة ولا يحل كتمها، وقضيةٌ جرى بقول الحق فيها حمكها، ولولا أن الخادم قد بقي فيه أثرٌ من إقدام الشباب، لأحجم عن إصدار كتابٍ أو رد جواب، لكنه على ثقةٍ من كريم مساهلة المجلس العالي وحسن تجاوزه، ويقينٍ أن فضله جدير بستر نقص الخادم وسد معاوزه، وهو يضرب عن ذكر ما عنده من الشوق إلى كريم رؤيته، والوحشة بمحبوب خدمته، ويقتصر على ما قاله زهير: إن تُمْسِ دارُهُم منّي مُباعَدةً ... فما الأَحبّةُ إلا هُمْ وإِنْ بَعُدوا فأما ما أنعم به من ذكر الخادم في مطالعاته، فهو كذكر موسى أخاه هرون عليه السلام في مناجاته، ولا سواء، موسى ذكر شقيقه، والمجلس العالي ذكر رفيقه، وهذه اليد البيضاء مضافةً إلى سالف أياديه، مقابلةٌ بالاعتراف بالمنة لساميه، فلقد شرفه بذكره في ذلك المقام العالي، وإن كان لا يزال على ذكر الإنعام المتوالي، تقريب مالك رقه وإكرامه قد شرفاه، وإنعامه قد أغناه عن الخلق وكفاه، وإن سأله أجاب سؤاله، بما يحقق رجاءه وآماله، وإن أمسك عن غنى فضله بفضله، فاجأه بتبرع مواهبه وبذله، فالخادم من تشريف مالك رقه ذو تاج وسرير، ومن غزير إنعامه في روضةٍ وغدير، وذلك ببركات المجلس العالي ويمن نقيبته، وجميل رأيه في الخادم وحسن نيته، لكن يشوب ما هو فيه من إنعام لم تبلغه أمانيه أسفٌ قد أقض لين مهاده، وسلك من القلب حبة سواده، على ذاهب عمره، وقوة أسره، إذا لم يكن أبلاهما في خدمة مالك رقه، وبذل رأسه بين يديه إبانةً عن صحة ولائه وصدقه، والخادم يتسلى عما فاته من الخدم في المهم، بخدمته بصالح دعائه في الليل المدلهم، والله سبحانه يتقبل من الخادم فيه صالح دعائه، وينصره على جاحدي نعمائه، بمحمدٍ وآله. فأما ما أنعم به من ذكر أصغر خدمه مرهف فهو يخدم بتقبيل قدمه، والخادم يقول ما قاله أبو الفتيان ابن حيوس عن خدمة أبو الحسن رحمه الله لمحمود بن صالح. على أَنه لا فُلَّ غَرْبُ لسانه ... مَدى الدَّهْرِ لا يَحتاجُ مِنّي مُتَرْجما وهو يقوم بالجواب عن شريف الاهتمام، وجزيل الإنعام. وأما ما تطول به من ذكر كتاب العصا وشرفه، حتى توهم أنه أحسن فيما صنفه، وعند وصوله من ديار بكر، لا يلقي عصا تسياره إلا بمصر، يقتفي أثر عصا الكليم، إلى جنابه الكريم، إلا أنه آية إقراره بالربوبية لفضله وإفضاله، ساجدٌ سجود السحرة لتعظيمه وإجلاله، يتلقف من إنعامه حسن التجاوز عن نقصه، ويعوذ بكرمه من منافثة علمه وفحصه، وتشريف الخادم ولو بسطرٍ واحدٍ عند خلو البال، والفراغ من مهم الاشتغال، يرفع من قدره، ويوجده أنه بالمكان المكين من حسن ذكره ورأيه، أدام الله أيامه في ذلك أعلى إن شاء الله تعالى. وكتب إلي وقد رحلنا من دمشق في خدمة الملك الناصر إلى حلب في شوال سنة إحدى وسبعين: عِمادَ الدين أَنت لكل داعٍ ... دعاك لِعَوْنه خيرُ العِمادِ تقومُ لنصره كرَماً إذا ما ... تقاعد ذو القَرابة والوداد قضى لك بالعُلى كرمُ السّجايا ... وما أُوتيتَ من كرم الوِلاد أَبُّثك وَحْشتي لك واشتياقي ... إِليك وما لقيتُ من البِعاد وإِني في دمشق ومَنْ حَوَتْهُ ... لبُعدِك ذو اغتراب وانفراد ومثلُك إِن تطلَّبَه خَبيرٌ ... بهذا الخَلقْ ليس بِمُستفاد أَنار بك الزمانُ فلا عَلَتْهُ ... لفَقد عُلاك أَثوابُ الحِداد وكتب إلي أيضاً في ابتداء مكاتبة: يا عِمادي حين لا مُعْتمَدٌ ... وصَدى صوْتيَ في الخَطْب المُلِمِّ والذي بَوَّأَني من رأَيه ... في أَعالي ذروة الطَّوْد الأشَمِّ مُنذُ فارقُتك أُنْسي نافرٌ ... وسَنا صُبحي كليلٍ مُدْلَهِمّ فإِلى من أَشتكي شيئاً إِذا ... غاب عني مُشتكي طارقِ غمّي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 وإِذا كنتَ مُعافىً سالماً ... في اعتلاءٍ وسُعودٍ هان هَمّي خادم المجلس العالي يخدم بالثناء والدعاء: ويومئُ بالتحيّة من بعيدٍ ... كما يومي بأصبعه الغريقُ وعنده من الشوق مع قرب العهد إلي شهي رؤيته، والوحشة لخدمته، ما يعجز الأقلام شرحه، ويحرق الطرس لفحه، وهو ينحرف من مقام الاشتكاء، إلى مقام الدعاء، ويرغب إلى الله أن يكلأه بحفظه في سفره ومقامه، ويجزل حظه من فضله وإنعامه. ووصلت منه مكاتبةٌ إلى الملك الناصر صلاح الدين في صفر سنة اثنتين وسبعين فقال لي القاضي الفاضل: خذها وأوردها في الخريدة والجريدة وهي: لا زِلتَ يا مَلِكَ الإِسلام في نِعَمٍ ... قرينُها المُسْعِدانِ: النَّصْر والظَّفَرُ تُرْدي الأَعادي وتَسْتَصْفي ممالكَهمْ ... وعونُك الماضيانِ: السَّيْفُ والقَدَر فأَنت إِسكندرُ الدُّنْيا، بنُورِك قد ... تضاءل المُظْلمان: الظُّلْم والضَّرر أَعدْتَ للدَّهر أَيّام الشباب وقد ... أظلَّه المُهْرِمان: الشَّيْبُ والكِبَر وجاد غَيْثُ نَداك المسلمين فمِنْ ... سحابه المُغْنِيان: الدُّرُّ والبِدَر وسِرْتَ سِيرةَ عَدْلٍ في الأَنام كما ... قضى به الصَّادقان: الشَّرْع والسُّوَر فَفُقْ بنصرٍ على الكفار إنّهم ... يُرْديهمُ المُهْلِكان: الغَدْرُ والأَشرُ ثَناهُمُ إِذْ رأَوْا إِقبالَ مُلْكهمُ ... إِليهمُ المُزْعِجان: الخَوْف والحَذَر وما الفِرار بمنُجْيهم وخَلْفَهُمُ ... مِنْ بأسه المُدْرِكان: السُّمْرُ والبُتُر وسوف يعفو غداً منهم بصارِمه ... وجيشِه المُخْبِران: العَيْنُ والأَثَر ولو رَقُوا في ذُرى ثَهْلانَ أَسْلَمَهُمْ ... لسيفه العاصمان: الحِصْنُ والوَزَر قضى بتفضيله عمَّنْ تقدّمه ... ما اسْتُودِع المُخبران: الكُتْبُ والسِّيَر عَدْلٌ به أَمِنَ الشاءُ المُهَمَّل أَن ... يروعَه الضّاريان: الذئبُ والنَّمِر وَجُودُ كَفٍّ إذا انْهَلَّتْ تفرَّقَ في ... تيّارها الزاخِران: البحرُ والمطر مكارمٌ جُمِعَتْ فيه، توافَقَ في ... تَفْضيلها الأَكرمان: الخُبْرُ والخَبَر فاسلم وعِشْ وابقَ للِإسلام ما جَرَتِ الْأ ... فلاك والنَّيِّران: الشمسُ والقمر بنَجْوَةٍ من صورف الدهر يقصُر عن ... مَنالها المُفْسدان: الخَطْبُ والغِيرَ المملوك لبعده عن خدمة مولاه قد أنكر الزمان، فما هو الذي كان، وأوهت الأيام ما أبقته من يسير قوته، واسترجعت ما أعارته من ضعيف نهضته، وأذاقته طعم الاغتراب، وأدخلت عليه الهم من كل باب، فهو في زاوية المنزل، عن كلمات الناس فيه بمعزل، فهو كما قال: أَنا في أَهِل دمشق وهُمُ ... عددُ الرَّمْلِ وحيدٌ ذو انفراد ليس لي منهم أَليفٌ وشَّجَتْ ... بيننا الأُلْفةُ أَسبابَ الوِداد يحسبوني إنْ رأَوْني وافداً ... قد أَتاهم من بقايا قومِ عاد وانفِرادي رَشَدٌ لي والهوى ... أَبداً يصرِف عن سُبْل الرَّشاد وقد سألني أن أنتجز له مطلوباً عند الملك الناصر فكتب إلي يستحثني: عمادَ الدّين مَوْلانا جَوادٌ ... مَواهبه كمُنْهَلّ السّحابِ يُحكِّم في مَكارمه الأَماني ... ولو كلَّفْنَهُ ردَّ الشباب وعُذرك في قضا شُغلي قَضاءٌ ... يُصرِّفه فما عُذْرُ الجواب أخوه الأمير أبو الحسن علي بن مرشد بن علي بن مقلد بن منقذ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 وسيأتي ذكر جده الأمير الأكبر مفردا، أمير العصابة، كثير الإصابة، سيد بني منقذ، ذو بأس مردٍ وندىً منقذ، كبير آل مقلد، لم يثن أحد جيده من عارفته غير مقلد، وهذه شيمته، مذ فارقته مشيمته، ونيطت به تميمته، فارس الخيل فارس الخير، طاهر الذيل عالي الطير، سمي جده، ووارث جده، شيزريٌ ما أحد بشيٍ زرى عليه، بل كل لسانٍ ثاني الثناء إليه، كنانيٌ ملأ بالأدب كنانته، وشفع بعلمه عفافه وديانته. ورد بغداد حاجاً بعد العشرين وآب، وأقام بها فصلي تشرين وآب، وعاد إلى بلده وأقام ولم يرمه، وساعده القدر بما رامه وما لم يرمه، فشعره كالشعرى علوا، ونثره كالنثرة سموا، ذكره السمعاني في تاريخه فقال: أنشدني أبو الحجاج يوسف بن مقلد التنوخي الدمشقي الجماهيري، أنشدني الأمير أبو الحسن بن مرشد بن منقذ لنفسه ببغداد: ودَّعْتُ صَبْري ودمعي يوم فُرْقَتِكم ... وما علمتُ بأَنّ الدَّمع يُدَّخَرُ وضَلَّ قلبيَ عَنْ صَدْري فُعْدتُ بلا ... قلبٍ فيا وَيْح ما آتي وما أَذَرُ ولو علمتُ ذَخَرْتُ الدَّمْع مُبْتَغِياً ... إِطفاء نارٍ بقلبي منك تَسْتَعِرُ وقال: سمعت أبا الحجاج يقول: سمعت الأمير علي بن مرشدٍ يقول: سمعت دراجاً يصيح بدرب الحبيب، فعملت فيه هذه الأبيات فأنشدنيها: يا طائراً لعبتْ أَيدي الفِراق به ... مثلي فأَصبحَ ذا هّمٍ وذا حَزَنِ داني الأسى نازحَ الَأوطان مُغْترِباً ... عن الأحبّة مَصْفُوداً عن الوطن بلا نديمٍ ولا جارٍ يُسَرُّ به ... ولا حَميمٍ ولا دارٍ ولا سَكَن لكنْ نطَقتَ فزال الهمُّ عنك ولي ... همٌّ يُقَلْقِلُ أَحشائي ويُخْرِسُني وكلُّ مَنْ باح بالشَّكْوى استراح ومَنْ ... أَخفى الجوى نَثَّ عنه شاهِدُ البَدَن أَرَّقْتَ عيني بِنَوْحٍ لستُ أَفهمُه ... مَعْ ما بقلبَي مِنْ وَجدٍ يُؤَرِّقني وما بَكَيْتَ ولي دمعٌ غواربُه ... إِذا ارْتَمَتْ منه لم تَنْشَقَّ بالسُّفُن وقال: حدثني أبو الحجاج، حدثني الأمير أبو الحسن بن مرشد، أنه كتب إلى صديقٍ له: ما فُهتُ مع مُتَحِّدثٍ مُتشاغِلاً ... إلاّ رأَيتُك خاطِراً في خاطري ولو استطعتُ لزُرتُ أَرضَك ماشياً ... بسواد قلبي أَو بأَسودِ ناظري وله كتب بها إلى أخيه مؤيد الدولة أسامة وهو بالموصل: أَلا هل لمخزونٍ تذكَّر إِلْفَهُ ... فَحَنَّ وأَبدى وَجْدَه مَنْ يُعينُهُ وعَيْشاً مضى بالرَّغْم إِذ نحنُ جِيرةٌ ... تَرِفُّ على رَوْض الوِصال غُصونُه لَدى منزلٍ كان السرورُ قرينَكم ... به فتولَّى إِذ تولَّى قرينُه فلو أَعْشَبتْ مِنْ فَيْض دمعي مُحولُه ... لما رَضِيَتْ عن دمع عيني جُفونُه وأنشدني له ابن أخيه الأمير عضد الدولة مرهف: لأَشْكُرَنَّ النوى والعِيسَ إِذ قَصَدتْ ... بي مَعْدِن الجُودِ والِإحسان والكرَمِ فسِرتُ في وطني إِذ سِرْتُ عن وطني ... فمَنْ رأَى صِحَّةً جاءتْ من السَّقَم وقد ندمتُ على عُمرٍ مضى أَسفاً ... إِذ لم أَكُنْ لك جاراً منه في القِدَم فاسلم ولا زلتَ محروسَ العُلى أبداً ... ما لاحتِ الشُّهْب في داجٍ من الظُّلَم الأمير عز الدولة سديد الملك أبو الحسن علي بن مقلد بن منقذ، من الطبقة الأولى، جد الجماعة، موفور الطاعة، أحكم آساس مجده وشادها، وفضل أمراء ديار بكرٍ والشام وسادها، ذو المجد الباذخ، والجد الشامخ، والمحتد الراسخ، والفطنة واللسن، والمنظر الحسن، والنظم الذي هو ألذ عند المسهد من لذيذ الوسن، وهو من جلالته في النفوس، ومنزلته عند الرئيس والمرؤوس، ممدوح فحول الشعراء، ومنهم ابن حيوس، ولابن حيوس فيه من قصيدة طويلة، اقتصرت منها على أبيات قليلةٍ، كتبها إليه من طرابلس إلى ثغر حلب، مطلعها: أَمّا الفِراقُ فقد عاصَيْتُه فأَبى ... وطالتِ الحربُ إلّا أَنَّه غَلَبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 أَرانيَ البَيْنُ لَمّا حُمَّ عن قَدَرٍ ... وَداعُنا كلَّ جِدٍّ قبله لَعبِا ومنها: يا ابنَ المُقَلَّد قد قلَّدْتَني مِنَناً ... ما قاربَ الحمدُ أَدناها ولا كَرَبا وَيُمْنُ جَدِّك أَفضى بي إِلى مَلِكٍ ... ما ابتَّزهُ الشِّعْرُ إلاّ هَزَّه طَرَبا ومنها: يَعِنُّ ذِكْرُك أَحياناً فيُخْبِرُني ... فَرْطُ الإِصاخَةِ عن قلبٍ إِليكَ صَبا أُثْنى فيُعْجِبه قولي وُيكْثِرُ من ... سَلامتي بعد إِذ فارقْتُك العَجَبا وكلُّ ما نلْتُ من عزٍّ وَمكْرُمَةٍ ... وثروةٍ فإِلى آلائك انتسبا ومنها: يا بنَ الذين إِذا شَبِّتْ وغًى ملأُوا ... دُروعَهم نَجْدَةً واستفرغوا العَيِبا وخَوَّفوا النّاسَ فارتاعَتْ مُلوكُهمُ ... تَرَوُّعَ السِّرْبِ لمّا عارَضَ السُّرَبا مَنْ أَمَّ مَسْعاك أَنضى فِكْره سَفَهاً ... ولستَ تلقاهُ إِلاَّ خائباً نَصِبا وكم حَلَلْتَ بثَغْرٍ عَزَّ ساكنُه ... سَدَدْتَه بسَدادٍ صَحَّح اللَّقَبا ضافَرْتَ مالكَه، دامتْ سعادتُه ... بِمَحْضِ ودٍّ أَزال الشَّكّ والرِّيَبا فأَنتمُا فيه سَيْفا عِصمةٍ ورَدًى ... أَمضى مِنَ الباترات المُرْهَفات شَبا إِنْ طاوَلا عَلَوا أَو فاضَلا فَضَلا ... أَو حاربا حَرَبا أو خاطَبَا خطَبَا إِني أَقول لي المَيْنُ من شِيَمي ... إِني شريكُك فيما عَنَّ أَو حَزَبا لمّا اشتكى مُرْشِدٌ أَعْظَمْتُه نَبَأً ... ذادَ الكَرى واستثار الهَمَّ والوَصَبا حتَّى إذا جاءتِ البُشْرى بصحَّته ... قَضَتْ بتسكين قلبٍ طالما وَجَبا فلا بَرِحْتَ وإِنْ سيء العِدى أَبداً ... تلقى الخُطوبَ بِجَدٍ يخْرُق الحُجُبا فالأمير أبو الحسن علي، له فضلٌ جلي، وشعرٌ كأنه في نضارته حلي، وهو وفي، بعلمه ملي، قديم العصر من الطبقة الأولى، لكن رأيت ذكر مثله أولى، فأدبه في سوق الفضائل أروج وأغلى، ونسبه عند الأفاضل أبهج وأعلى، وسأورد من شعره ما شددت عليه يدي، وهو منتقحي ومنتقاي ومنتقدي. أنشدني مجد العرب العامري بأصفهان قال: أنشدني الأمير أبو سلامة مرشد لأبيه الأمير أبي الحسن علي بن مقلد بن منقذ لنفسه في غلامٍ ضربه، وما أبدع هذا المعنى وأغربه، وأعجزه وأعجبه: أَسْطو عليه وقلبي لو تمكَّن مِنْ ... كَفَّيَّ غَلَّهما غَيْظاً إِلى عُنُقي وأَسَتِعزُّ إِذا عاتَبْتُه حَنَقاً ... وأَين ذُلُّ الهوَى من عِزَّةِ الحَنق استعارة الحنق في هذا الموضع، معنىً مبتكر له حسن الموقع، فما أقوى هذا التحقيق، وما أحسن هذا التطبيق. قال وأنشدني أيضاً لنفسه: ماذا النَّجيعُ بوجْنَتَيْك وليس مِنْ ... شَدْخ الأنُوف على الخُدود رُعافُ أَلحاظُنا جَرَحَتْك حين تَعَرَّضَتْ ... لك أَم أَديمكُ جَوْهَرٌ شضفّاف وقرأت له من مجموع: إِذا ذكرتُ أَياديكَ التي سَلَفَتْ ... مع سُوءِ فِعْلي وزَلاّتي ومُجْتَرمي أَكادُ أَقُتل نفسي ثم يمنعني ... عِلْمي بأَنك مَجْبُولٌ على الكَرَم وله: مَنْ كان يرضى بِذُلٍّ في وِلايته ... مِنْ خوفِ عَزْلٍ، فإني لستُ بالرّاضي قالوا فتركب أحياناً فقلتُ لهم: ... تحت الصّليبِ ولا في موكب القاضي وله: ألَا حَبَّذا رَوْضَتا نَرْجِسٍ ... تُحَيّا النَّدامى بِرَيْحانها شرِبنا عليها كأَحْداقِها ... عُقاراً بكأْسٍ كأَجفانِها ومِسْنا من السُّكْر ما بَيْنَها ... نُجَرِّرُ رَيْطاً كقُضْبانها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 وذكر سيدنا صفوة الدين البالسي، وقد حكي لي أن الأمير أبا الحسن بن منقذ كان راكباً في جماعة، فنزلوا بروضةٍ فيها الشقائق والأقحوان فاستحسنوها، فقالوا: تعالوا ننظم فيه شعراً، وزعم أن منهم ابن حيوس، فقالوا: ابدأ أنت، فقال: كأنَّ الشَّقائق والأُقْحُوان ... خدودٌ تُقَبِّلُهُنَّ الثُّغُورُ فهاتيك يُخْجِلُهُنَّ الحَياء ... وهاتيك يُضْحِكُهُنّ السُّرورُ الأمير مجد الدين أبو سلامة مرشد بن علي والد أسامة: لئِن نَسِيَ امرؤٌ عَهْداً فإِني ... لِعهدِ أَبي فِراسٍ غيرُ ناسِ وما عاش الأَميرُ أَبو فِراسٍ ... فما مات الأميرُ أَبو فِراس كان يقول العامري كنيتي أبو فراس، وأراد في البيت أن أبا فراس بن حمدان ما مات وهذا يعيش، فإن شعره كشعره، وكان العامري يتبجح بالبيتين. وقال السمعاني في التاريخ: أنشدني ولده الأمير أبو عبد الله محمد بن مرشد بن علي بن مقلد بن منقذ من حفظه، عند القبة التي فيها قبر أيوب النبي عليه السلام عند عقبة أفيق بنواحي الأردن. قال: وأنا قائم أكتب وهو وغلمانه على الخيل. قال: أنشدني والد مرشد بن علي لنفسه بشيزر. وحضرت عند الأمير أسامة بدمشق في صفر سنة إحدى وسبعين واعترف بأن هذه القصيدة لأخيه: ظَلومٌ أَبَتْ في الظُّلْمِ إِلاّ تَمادِيا ... وفي الصَّدِّ والهِجْران إِلاّ تَناهِيا شَكَتْ هَجْرَنا والذَّنْبُ في ذاك ذَنْبُها ... فيا عَجَبا مِنْ ظالمٍ جاء شاكيا وطاوَعَتِ الواشين فيَّ وطالما ... عَصَيْتُ عَذولاً في هواها وواشيا ومال بها تِيُه الجمال إلى القِلا ... وهَيْهاتَ أَنْ أُمسي لها الدهرَ قاليا ومنها في العتاب: ولا ناسياً ما اسْتَوْدَعَتْ من عُهودها ... وإِن هي أَبْدَتْ جَفْوَةً وتناسِيا وقلتُ أَخي يرعى بَنِيَّ وأُسرتي ... ويحفظ فيهم عُهْدتي وذِماميا ويَجْزيهمُ ما لم أُكَلِّفْه فِعْلَه ... لنفسي فقد أَعْدَدْتُه مِنْ تُراثيا فأَصبحتُ صفْرَ الكفّ ممّا رجَوْتُه ... أَرى اليأْس قد غَطَّى سبيل رجائيا فما لَك لمّا أَنْ حَنى الدَّهْرُ صَعْدَتي ... وثَلَّمَ مني صارماً كان ماضِيا تنكَّرْتَ حتى صار بِرُّك قَسْوَةً ... وقُرْبُك منهم جَفْوةً وتنائيا على أَنني ما حُلتُ عمّا عَهِدْتَه ... ولا غَيَّرَت هذي الشُّؤونُ ودِادِيا فلا زَعْزعَتْك الحادثاتُ فإنّني ... أَراك يَميني والأَنام شِماليا وقرأت في بعض الكتب كلمةً نظمها الخطيب أبو الفضل يحيى بن سلامة الحصكفي في جواب رسالةٍ وصلت من الأمير علي بن مرشد من سيزر، وإنما أوردتها هاهنا لكونها في مدح بني منقذ، وقد ذكرت ما فيه كفاية من شعر الخطيب الحصفكي عند ذكره وهي: حوى مُرْشِدٌ وابناه غُرَّ المَناقِبِ ... وحَلُّوا من العَلياء أَعلى المَراتِبِ ذوائبُ مجدٍ ما علمتَ بأَنهم ... من العلم أَيضاً في الذُّرى والذوائبِ أَتَتْ مِنْ علّي روضةٌ جاد رَوْضَها ... سحائبُ فضلٍ لا كَجَوْدِ السَّحائب أَلم تر أَنّ المُزْن فاضت فَنُوِّلَتْ ... رَبابٌ وأَروى منه حَلْيَ الكواعب بأَبياتِ نظمٍ أَفحمتْ كلَّ شاعرٍ ... وآياتِ نثَرٍ أَعجمتْ كُلَّ خاطِب وغُرِّ مَعان أَعْجَزَتْ كلّ عالمٍ ... وأَسطرِ خَطٍّ أَرعشتْ كلَّ كاتب ربيعٌ بِوَرْدٍ وافدٍ لمُطالعٍ ... ورَبْعٌ لوَفْدٍ وارد بمطالب وخو درمت بالسحر عن قوس حاجب ... لها في العلى فخرٌ على قوسِ حاجِب فلو قَطَبَتْ راحا لما قطَّبتْ لها ... وُجوهٌ ولا غطّت على حِلْم شارب مناقبُ نَدْبٍ قال جدّي ابن مُنقذٍ ... عليٌ وعمي نجمه ذو المناقب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 وبيتي كبيتي في القريض مُؤَسَّس ... بغير دَخيلٍ فهو إِحدى العجائب بنى منقذٌ مجداً تلاه مُقَلَّدٌ ... وقصّ عليٌّ نهجَه في المذاهب ولم يأْلُ جهداً مُرْشِدٌ في اقتفائهم ... وأَبناءُ ذاك البدر زُهْرُ الكواكب إِليهم نوى إِرْقالَه كلُّ خائفٍ ... ومنهم حوى آمالَه كلُّ راغب وفيهم روى أوصافَه كلُّ مادحٍ ... وعنهم زوى أَوْهامَه كلُّ عائبِ لهم نارُ حربٍ أَطفأَت حربَ وائلٍ ... ونارُ قرىً أَوْفَتْ على نار غالب مغارِسُهم طابَتْ وطابَ حديثُهم ... وأطيبُ مَسْمُوع حديثُ الأَطايب مناسِبُهم غُرٌّ وأَكثَرُ فخرهِم ... بما استأْثروه لا بِغُرِّ المَناسِب مكاسِبُهم حُسْنُ الثَّناء فما ابَتَغْوا ... به كبني الرعي دَنيَّ المَكاسِب متاعب دُنْيا أَوْ بقَتْ بمَتاعها ... وأَيُّ سُرورٍ في مَتاعِ مَتاعب رآني عليٌّ لاعِباً بقرائنٍ ... فجاء بأُخرى مثلِها غيرَ لاعب تحدّى كلامي فاعْترفتُ بفَضْلِه ... وأَين الحِقاق من مِصاع المَصاعِب الأمير شرف الدولة أبو الفضل إسماعيل بن أبي العساكر سلطان بن علي بن منقذ، كان أبوه ابن عم مؤيد الدولة أسامة أمير شيزر، وسمعت أنه كان شابّاً فاضلاً، وسكن بعد أخذ شيزر منهم بدمشق، وتوفي سنة إحدى وستين قبل وصولي إليها بسنة، سمعت من شعره قوله: ومُهَفْهَفٍ كتب الجَمالُ بِخَدِّه ... سطراً يُحَيِّر ناظِر المُتَأَمِّلِ بالغتُ في استخراجه فوجدتهُ ... لا رأيَ إِلاّ رأي أَهِل المَوْصِل وأثني عليه الأمير مرهف بن أسامة بن منقذ، وأنشدني له أشعاراً مليحة، ومن جملتها بيتان في النحل والزنبور، وهما: ومُغَرِّدَيْن ترنَّما في مجلسٍ ... فنفاهُما لِأذَاهما الأَقوامُ هذا يجودُ بما يجودُ بعكسِه ... هذا فيُحْمَد ذا وذَاكَ يُلام يعني العسل من النحل، وعكسه اللسع من الزنبور. وأنشدني أيضاً لابن عمه شرف الدين من أول قصيدة: سَقام جَفْنَيْك قد أَفضى إِلى بدني ... فَمَنْ لجفني بما فيه من الوَسَن وأنشدني أيضاً لابن عمه المذكور شرف الدولة إسماعيل: سُقيتُ كأْسَ الهوى عَلاًّ على نَهَلِ ... فلا تَزِدْنَي كأْسَ اللَّوْم والعَذَلِ نأَى الحَبيبُ فبَي مِنْ نَأْيِه حُرَقٌ ... لو لابستْ جَبَلاً هدّت قوى الجبل ولو تطلبَّتُ سُلواناً لزِدتُ هوىً ... وقد تزيد رُسوباً نهضُة الوَحِل عَفَتْ رُسومي فعُجْ نحوي لتَنْدُبَني ... فالصَبُّ غِبَّ زِيال الحِبِّ كالطَّلَل صحوتُ من قهوةٍ تُنْفى الهمومُ بها ... لكنّني ثَمِلٌ مِنْ طَرْفِه الثَّمِل وما اعتبرتُ الذي استأْنفتُ من حَزَنٍ ... إِلاّ وطاح بما استسلفتُ من جَذَل أُصَبِّرُ النَّفسَ عنه وهي قائلةٌ ... ما لي بعاديةِ الأَشواقِ من قِبَل كم مِيتةٍ وحَياةٍ ذُقتُ طَعْمَهُما ... مُذْ ذُقتُ طعم النَّوى لليأْس والأَمل وكم رَدَعْتُ فؤادي عن تَهافُتِه ... إِلى الصَّبابة رَدْعَ الحازِم البَطَل حتى أَتاحتْ ليَ الأَقدارُ غُرَّتَهُ ... وكنتُ من أَجَلي منها على وَجَل فطار لُبّي وطاحتْ شِرَّتي ووهى ... حَوْلي وعَزَّ عزائي وانقضتْ حِيَلي والنفسُ إِن خاطَرتْ في غَمْرةٍ وَأَلَتْ ... منها وإِن خاطرت في الوَجْدِ لم تَئِل لها دُروعٌ تَقيها من سهامِ يدٍ ... فهل دروعٌ تَقيها أَسْهُمَ المُقَلِ وزاد وجديَ أَن زادت مَلاحَتُه ... كلٌّ بما هو فيه غايُة المَثَل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 فانظر إِليه تَرَ الأَقمار في قمرٍ ... وانظر إليّ تَرَ العُشّاق في رَجُل بأَيِّ أَمْريَّ أَنجو من هوى رَشإٍ ... في جَفِنه سحرُ هاروتٍ وسيفُ علي تالله لا مَنْظَرٌ للعين أَحسنُ مِنْ ... عَيْنٍ تُظاهِرُ بين الكُحْل والكَحَل ووجنةٍ تَعِبتْ بالَّلْثم فامتزجتْ ... بحمُرِة اللّونِ فيها حُمْرةُ الخَجَل ظبيٌ إِذا استلّ سَيْفَيْ مُقلَةٍ ويَدٍ ... ذَلّتْ لديه أُسوُد الغابِ والأَسَل تأَبَّط الرُّمْح إِذ وافاه مُعْتدلاً ... ولو تَثَنَّي رآه غيرَ مُعتدِل إذا رمى طرفهُ باللَّحْظِ قال له ... قَلبي: أَعِدْ لا رَماكَ اللهُ بالشَّلَل أَمِنْ بني الروم ذا الرّامي الذي فَتَكتْ ... سِهامُه بالورى أَم من بني ثُعَل يُزْهي بوَجْنته خالٌ غَدوتُ به ... مِن الصَّبابِة مَحسوباً من الخَوَل خالَسْتُه ضَمَّةًَ عند الوَداع له ... زالتْ ولذَّتُها في القلب لم تَزُل ونِلتُ من ثَغْرِه رشْفاً على حَذَرٍ ... من الرقيب وتَقْبيلاً على عَجَل ولست أُنِكْرُ بعد الوصل فُرقَتَهُ ... لأنَّ عُمْرَ الفتى مُفْضٍ إلى أَجَل إنْ خِفتُ رَوْعةَ هِجران الحبيب فقد ... أَمِنْتُ في حُبِّه من رَوْعَة العَذلَ أخوه الأمير أبو الفتح يحيى بن سلطان بن منقذ لقبه فخر الدين، ذكره لي الأمير مرهف بن أسامة، وذكر أنه قتل على بعلبك في سنة أربعين وخمسمائة. وأنشدني من شعره ما كتبه إلى أبيه يطلب منه رمحاً: يا خيرَ قومٍ لم يزل مَجْدُهمْ ... في صفحاتِ الدَّهرِ مَسْطورا عبدُك يبغي أسمراً ذِكْره ... ما زال بين الناس مَذْكورا مُسدَّدٌ والجَوْرُ من شأْنه ... إِن نال وِتراً صار مَوْتورا وإِن تفضّلتَ به عاد عن ... صُدور أَعدائك مَكْسورا الأمير عز الدولة أبو المرهف نصر بن علي بن مقلد: عم مؤيد الدين أسامة، كنا قد حضرنا عند الملك الناصر ليلةً بدمشق سنة إحدى وسبعين، والأمير مؤيد الدين أسامة حاضر، وتناشدنا ملح القصائد، ونشدنا ضالة الفوائد، وجرى حديثٌ اقتضى إنشاد الأمير أسامة بيتين لبعضهم في المشط الأسود والمشط الأبيض وهما: كنتُ أَستعمل السّواد من الأَم ... شاط والشَّعْرُ في سَواد الدّياجي أَتلقىّ مِثْلاً بِمِثْلٍ فلما ... صار عاجاً سَرَّحْتُه بالعاج ثم قال الأمير أسامة: أخذ هذا المعنى عمي نصر وعكسه وقال: كنتُ أستعمل البياض من الأَمش ... اط عُجْباً بِلّمَتي وشَبابي فاتَّخَذْتُ السَّوادَ في حالة ال ... شيب سُلُوَّا عن الصِّبا بالتّصابي وقال لي الأمير أسامة: كان عمي نصر قد أخرج حجةً عن والدته فرآها في النوم كأنها تنشده، فانتبه والأبيات على حفظه: جُزِيتَ مِن وَلَدٍ بَرّ بصالحةٍ ... فقد كَسَبْتَ ثواباً آخر الزَّمَنِ وقد حَجَجَتَ إِلى البَيْتِ الحارم وقد ... أَتَيْته زائراً يا خَيْرَ مُحْتَضن فلا تَنَلْك يدُ الأيّام ما طَلَعَتْ ... شَمْسٌ وما صَدَحَتْ وَرْقاءُ في فَنَن وكان هذا نصر صاحب قلعة شيزر بعد والده سديد الملك، وكان كريماً ذا أريحية. قال الأمير مرهف بن أسامة، وهو بمحضرٍ من والده يحدثني أنه كتب القاضي أبو مسلم وادع المعري إلى الأمير أبي المرهف نصر في نكبةٍ نالته: يا نصرُ يا ابن الأكْرَمِين ومَنْ ... شَفَعَ التِّلادَ بطارِف الفَخْرِ هذا كتابٌ من أَخي ثِقَةٍ ... يَشْكو إِليك نوائب الدَّهْرِ فامْنُنْ بما عَوَّدْتَ مِنْ حَسَنٍ ... هذا أَوانُ النَّفْع والضرِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 فكتب إليه الأمير نصر إنه لم يحضرني سوى ما هو مودعٌ عندك، وكان ستة آلاف دينار، فاصرفها في بعض مصالحها واعذر. وذكر أن نصراً كان براً بوالده سديد الملك. ولوالده فيه: جزى الله نصراً خَيْرَ ما جُزِيَتْ به ... رِجالٌ قَضَوْا فَرْضَ العَلاء ونَفَّلوا هو الولَدُ البَرُّ العَطوفُ فإِن رمى ... به حادثٌ فَهْو الحِمامُ المُعَجّلُ يُفَدِّيك يا نَصْرٌ رِجالٌ مَحَلُّهُمْ ... من المجد والإِحسان أَنْ يَتَقَوَّلُوا سأُثْني بما أَوْلَيْتَ بالْمَوْقِف الذي ... تَقِرُّ به الأَقدامُ أَوْ تَتَزَلْزَل وأَلقاكَ يومَ الحَشْرِ أَبيضَ ناصِعاً ... وأَشكرُ عند اللهِ ما كنتَ تَفْعَل الأمير عضد الدولة أبو الفوارس مرهف بن اسامة بن منقذ ذو المجد الأثير، والفخر الأثيل، والبيت الأصيل. أنشدني بدمشق سنة إحدى وسبعين لنفسه: سَمَحْتُ بُروحي في رِضاكَ ولم تكُنْ ... لتُعْجِزَني لولا رضاك المَذاهِبُ وهانَتْ لِجَرّاكَ العظائمُ كلُّها ... عَلَيَّ، وقد جَلَّتْ لَدَيَّ النّوائب فكان ثَوابي عن وَلائي تَجَهُّمٌ ... رَمَتْني به منك الظُّنُونُ الكَواذِبِ فَمَهْلاً فلي في الأَرض عن منزل القِلا ... مَسارٍ إذا أَخْرَجْتَني ومَسارِبُ وإِن كنتَ ترجو طاعتي بإِهانتي ... وقَسْري فإنَّ الرَّأْي عنك لَعازِب وأنشدني أيضاً لنفسه وهو حاضر عند والده، وذكر أنه مما كتبه إلى والده: رَحَلْتُم وقلبي بالوَلاء مُشَرِّقٌ ... لديْكُمْ وجسمي لِلْفَناء مُغَرِّبُ فهذا سعيدٌ بالدُّنُوِّ مُنَعَّمٌ ... وهذا شَقِيٌّ بالبِعاد مُعَذَّب وما أَدَّعي شَوْقاً فَسُحْبُ مَدامعي ... تُتَرِجمُ عن شوقي إِليكم وتُعْرِب ووالله ما اخْتَرُت التَّأَخُّر عنكم ... ولكن قضاءُ اللهِ ما مِنه مَهْرَب الأديب أبو عبد الله محمد بن يوسف بن منيرة الكفرطابي ذكر أنه كان قرأ على الطليطلي، لقيت من قرأ عليه وهو أبو الثناء محمود ابن نعمة بن أرسلان الشيزري بدمشق. واستنشدته من شعر أستاذه، فأنشدني له بيتين لم تخل كلمةٌ منهما من زاي وهما: قال أنشدنيهما لنفسه: تجاوزْتُ أجواز المَفاوِز جازياً ... بأَزرق عَزَّته نزوع النواهزِ وزَجَّيْتُ بُزْلاً كالجَوازي مُجَهّزاً ... وأَزْجَيتُ عَزْم الهِبْزِرِيّ المُناجِز وأنشدني أيضاً قال أنشدني أستاذي ابن منيرة لنفسه في السيف: ومُهَنَّدٍ تقْفو المَنُونُ سَبيلَه ... أَبداً فكيف يُقال رَيْبٌ مَنونِ شَرِكَ المنايا في النّفوس فَرُحْنَ عَنْ ... غَبْنٍ وراحَ ولَيْسَ بالمَغْبُونِ لو أَن سيفاً ناطقاً لتحدَّثَتْ ... شَفراته بسرائرٍ وشُجون فكأنّما القَدَرُ المُتاح مُجَسَّمٌ ... في حَدِّه أَو عزم عزّ الدين الأديب أبو الثناء محمود بن نعمة بن أرسلان الشيزري لقيته بدمشق سنة ثلاثٍ وستين وخمسمائة، وأنشدني من أشعاره، وأجناني من ثماره، ونزهني في أزهاره، وكتب القصيدة الميمية بخطه، وأبرز لي من سفط تبريزه در سمطه، ووعدني أن يكتب لي من شعره ما أوشح به كتابي هذا وأطرزه، وأحرزه في كنز الفضائل وأكنزه، فعاقه القدر عن نجاز وعده، وطرق الكدر، بطرق ثمد صفو ورده، وتوفي بعد سنة خمسٍ وستين وخمسمائة بدمشق. ومن مشهور شعره بيتٌ جمع فيه ست تشبيهات ولم يسبق إليه، فإن أكثر ما جمع خمس تشبيهات بيت القائل: فأَمْطَرَتْ لُؤْلؤاً مِنْ نَرْجِسٍ وسَقتْ ... ورْداً وعَضَّتْ على العُنّاب بالبَرَدِ وبيت محمودٍ الشيزري: تَنْضُو السَّحائبَ عَنْ بدرٍ وأَنْجمِه ... وتمسَحُ الطَّلَّ عَنْ وَرْدٍ بِعُنّابِ فشبه النقاب بالسحاب، والوجه بالبدر، والحلي والشنوف بالنجوم، والعرق بالطل، والخد بالورد، والأنامل المخضبة بالعناب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 وله في كافات الشتوة: يقولون كافاتُ الشّتاءِ كثيرةٌ ... وما هي إلاّ فَرْدُ كافٍ بلا مرِا إِذا صَحّ كافُ الكيس فالكُلُّ بَعدَها ... يَصِيحُ: وكلُّ الصَّيْدِ يُوجَدُ في الفَرا وللأمير الأديب أبي الثناء محمود بن نعمة بن أرسلان الشيزري، أنشدني لنفسه بدمشق في وزن قصيدة عملها مؤيد الدين أسامة بن منقذ يشكو ابن الصوفي بدمشق وهذا يجيبه عن تلك القصيدة: يا ظالِماً نارُه في القلبِ تَضْطَرِمُ ... مَهْلاّ فظُلمُك تَغْشى نُورَه الظُلَمُ كأَنَّك القوسُ تُرْدي وهي صارخةٌ ... وما أَلمَّ بها من غيرها أَلَم تَجْني وتُلزِمني ذنباً أَتيتَ به ... ووجهُ غَدْرِك بادٍ ليس يلتثم فكم تُحيلُ على الأَيّام صُنْعَك بي ... ودونَه تَعْجز الأيّام والأُمَم والبُعْدُ أَيْسَرُ ما استوجبتَ من جهتي ... والهَجْرُ واللَّوْم والتفنيدُ والسَّأَم يا مَنْ وهبتُ له قلبي فعذَّبَه ... وما اعتراني على إِعطائه ندم بِئْس الجزاءُ بما أَوْلَيْتُ عَوَّضني ... والله يكرهُ ما يَأْتيه والكَرَم قُل للذي باعني بَخْساً بلا ثمنٍ ... بأَيِّ عُرْوَة رِبحٍ أَنت مُعْتَصِمٍ وعاذلٍ بات يَلْحاني على قمرٍ ... أَهوى الوفاءَ وأَنْ تُرْعى له ذِمم فقلتُ والعَذْل يَطْويني وَيْنُشُرني ... أُكْفف فَهَمُّك لا تُثْني له الهِمَم لا تُهْدِيَنْ ليَ نُصْحاً لستُ أَقبلُه ... واعلم بأنك في ذا النصح مُتَّهَم مَنْ يتركُ العَيْنَ مُعْتاضاً بها أثراً ... عَمْداً ويُكذِبُ سَمْعاً ما به صَمَم يا أَيُّها الرّاكِبُ الطاوي لِطِيَّتِه ... أَرضاً تَكِلُّ بها الوَخّادَةُ الرُّسُم أَبلغ أُسامَةَ عن ذي النّصح مَأْلُكَةً ... فيها البصائر والآداب والحِكَم في أَيّ دينٍ يُجازي المحسنون بما ... يَسُوءهم ولماذا تُجْحَد النِّعَم أَتيتُمونا وقد ضاق الفضاء بكم ... ولم يَقَرِ بكم قُورٌ ولا أَكَم والسُّمْرُ قد شَرَعَتْ فيكم أَسِنَّتُها ... وأُرْهِفت لكم الهِنْديَّةُ الخُذُم وقد تَبَرَّأَ منكم كلُّ ذي نَسَبٍ ... وما أَجارَكُمُ عُرْبٌ ولا عَجَم أَلْفَيْتُمونا لكم خيرَ المُجير وقد ... طافت بكم نُوَبُ الأيّام والنِّقَم أَتَتْكُمُ رَوْضَةٌ غَنّاء مُزْهِرةٌ ... من جودنا وغَديرٌ مُتْرَعٌ شَبِم ومَنْزِلٌ عند خير المُنْزِلين لكم ... رَحْبُ الذُّرى ومُقامٌ طاهر حَرَم وأُطرِفَتْ أَعيُنُ الأعداء دوَنكُمُ ... ولم تَطُلْ نحوَكُمُ كَفٌّ ولا قَدَم فحين أَدركَكمْ ما تأْمُلون بنا ... وما أَصابَكُمُ عارٌ ولا سَقَمُ كفرتُمُ صُنْعنا المشكورَ أَنْعُمُهُ ... بِلُؤْمِكم وهو ما بين الورى عَلَم وكنتمُ عَوْنَ مَنْ يبغي عَداوتَنا ... والله عونٌ لِمَنْ بالحقّ يَعْتَصِم بَغْيٌ تُشَيِّده الأَطماعُ كاذِبةً ... وكلُّ مالا يَشيدُ اللهُ ينهدم كما بغى ابن أبي سُفيان حين بغى ... ما ليس فيه له إِرْثٌ ولا قِسَم ولو نشاءُ سَلَقْناكم بأَلِسنةٍ ... لُدٍّ بها تلتقى الأَقدام والِقمَم لكن أَجارَتْكُمُ منّا مُحافَظَةٌ ... لها المُقاتل والأَطفْال والحُرَمُ فأَين كُنتْم، وبيضُ الهِندِ مُصْلَتَهٌ ... والسَّمْهَرِيَّةُ والأَكباد تَنْحَطم والأعْوَجِيَّةُ بالأَبطال مُقِبلَةٌ ... والخَلْقُ صِنْفان: مَقتولٌ ومُنْهَزِم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 والخَوْفُ قد طَبَّق الأقطار أَجْمَعَها ... فالهامُ تُفْلَق والأَصْلاب تَنْفَصِم هناك تأْتي المنايا طَوْعَ بُغْيِتَنا ... فلم تزل في نفوس القَوْم تَحْتَكِم ونحن أُسْدُ وغىً أَرماحها أَجَمُ ... وَمِنْ فوارسها الأَبطال والبُهَم ومثل يومٍ فَشَتْ في النّاس روعتُه ... من الفَرَنْج وموجُ المَوْتِ مُلْتَطِم قُمْنا وقد قَعَد الأَقوام أَجْمَعُهُمْ ... فما تَساوَتْ به العِقْبان والرَّخَم والباطنيَّةُ مُذْ هَمُّوا بأَجْمَعِهم ... وأَظهروا بفَساد الدّين ما كتَموا وغَرَّهُمْ عَدَدٌ جَمٌّ وداخَلُهْم ... عُجْبٌ بما اجتمعوا فيه وما اجْتَرَموا وأَيْقَنوا أَنّ صُبْحَ الحقّ لاحَ لَهُمْ ... والخَلْقُ دونَهُمُ تغشاهُمُ ظُلَمُ ثُرْنا لهم ثَوْرةً في الله صادِقةً ... وَهَتْ عُرى عُرِفْهم فيها وما عَزَمَوا هذا وإِنْ رابَتِ السُّلْطانَ حادِثَةٌ ... واستعجمتْ وقَضاءُ الله يَنْعَجِم قُمْنا لها فكفَيْناها بأَنْفُسِنا ... وما تُساعِدنُا الأَعْوان والخَدَم وإنْ أَتى المَحْلُ يوماً صاب صَيِّبُنا ... وجاد فيه إِذا ما ضَنَّتِ الدِّيَم وإِنْ تقاسَمْتُمُ بالحُبِّ كان لكم ... منه النَّصيبُ الحقيرُ التّافِهُ الزَّنِم فكم أَتَيْتَ بقولٍ منكَ مُخْتَلَقٍ ... ومال له قَدَمٌ صِدْقٌ ولا قِدَم وما نَزَلْتَ على قومٍ ذَوي رَحِمٍ ... إِلاّ وشُتِّتَ مِنْ جَرّاك شَمْلهُمُ إنِي لأَخْشى على مصرٍ وإِن عَمُرَتْ ... تُضْحي وأَبياتُها من رَأْيِكُمْ رُمِمَ فالله يَكْفي أَميرَ المُؤمنين شَدِي ... فَسادَ فِعلكُمُ ما أَوْرَق السَّلم ///أهل معرة النعمان وقد غلب عليهم الشعر منهم: بنو سليمان من أهل المعرة التنوخيون هم من البيت القديم، والمجد الصميم، وما زالوا القضاة بالمعرّة، القُصاة من المعرة، ومنهم أبو العلاء الشاعر المُفلِق، الذي امتلأ بفضله المغرب والمشرق، وكان سليمان بن أحمد بن سليمان جد جد أبي العلاء قاضي المعرة في سنة تسعين ومائتين، ثم بعده ولده محمد أبو بكر، وفيه يقول أبو بكر الصنوبري الشاعر: بأبي يا ابنَ سُلَيْما ... ن لقد سُدتَ تَنوخا وهمُ السادةُ شُبّا ... ناً لَعَمْري وشيوخا أدركَ البُغيةَ مَن أض ... حى بناديك مُنيخا وارِداً عندك نِيلاً ... وفُراتاً وبَليخا واجداً منكَ متى استصر ... خَ للمجد صَريخا في زمانٍ غادر الهِم ... ماتِ في الناسِ مُسوخا ثم بعده ولده سليمان، أبو الحسن، ومن شعره في الناعورة: وباكيةٍ على النّهر ... تنوحُ ودمعُها يَجري تُذكِّرُني أحِبّائي ... وحالي ليلةَ النَّفْرِ وتولى قضاء حمص أيضاً. ثم عبد الله أبو محمد ولده وهو والد أبي العلاء، ولعبد الله شعر في مَرثية والده وقد توفي بحمص سنة سبع وسبعين وثلاثمائة: إنْ كان أصبح مَن أهواهُ مُطَّرَحاً ... ببابِ حِمص فما حُزني بمُطَّرَحِ لو بان أَيْسَرُ ما أُخفيه مِن جَزَعٍ ... لمات أكثرُ أعدائي من الفرحِ وله: سمعتُم بأَجْوَرَ مِن ظالمٍ ... أَعَلَّ الفؤادَ وما عادَهُ وقد كان واعدني زَوْرَةً ... فَأَخْلفَ يا قوم ميعادَهُ ثم ولده أبو العلاء أحمد، وهو المعروف المشهور الفضل والفضيلة، وأخوه أبو المجد محمد بن عبد الله، وله أيضاً شعر، وهو أكبر من أبي العلاء، ومن شعره: كَرَمُ المُهَيمِنِ مُنتَهى أَمَلي ... لا نِيَّتي أرجو ولا عملي يا مُفْضِلاً جَلَّتْ فواضِلُهُ ... عن بُغيَتي حتى انقضى أَجلي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 كم قد أَفَضْتَ عليَّ مِن نِعَمٍ ... كم قد سَتَرْتَ عليَّ مِن زَلَلِ إنْ لم يكن لي ما ألوذُ به ... يومَ الحسابِ فإنَّ عَفْوَكَ لي وعبد الواحد أبو الهيثم، أخو أبي العلاء وله شعرٌ، منه في الشمعة: وذاتِ لونٍ كَلَوْني في تغَيُّرِهِ ... وأَدمُعٍ كدموعي في تحَدُّرِها سهرتُ ليلي وباتَتْ بي مُسَهَّدَةً ... كأنَّ ناظِرَها في قلبِ مُسْهِرِها ولعبد الواحد أيضاً: قالوا تراه سلا لأنّ جفونَهُ ... ضَنَّتْ عَشِيَّةَ بَيْنِنا بدموعِها ومنَ العجائبِ أنْ تفيضَ مَدامِعٌ ... نارُ الغرامِ تُشَبُّ في يَنبوعِها والذين هم من أهل هذا العصر من شرط كتابنا هذا من ولد محمد أخي المعري أبي العلاء أولهم: القاضي أبو المجد محمد بن عبد الله بن محمد أبي المجد أخي أبي العلاء بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان بن أحمد بن سليمان بن داود بن المُطهِّر بن زياد بن ربيعة بن الحارث بن ربيعة بن أنور بن أرقم بن أسحم بن النعمان، وهو الساطع وسمي بذلك لجماله، بن عديّ بن عبد غطفان بن عمرو بن بَريح بن جَذيمة بن تَيْم اللات، وهو مجتمَع تَنوخ. وتمام النسب مذكور في نسب أبي يعلى بن أبي حُصَيْن فإنهما مجتمعان في داود بن المطهّر. ذكر لي ابن ابنه القاضي أبو اليسر الكاتب أنه كان فاضلاً أديباً، فقيهاً أريباً، نبيهاً لبيباً، مفتياً على مذهب الشافعي رضي الله عنه قاضياً بالمعرة إلى أن دخلها الفرنج خذلهم الله تعالى في سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة فانتقل إلى شيزر وأقام بها مدة، ثم انتقل إلى حماة وأقام بها إلى أن مات في محرّم سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، ومولده سنة أربعين وأربعمائة، وأدرك عم أبيه أبا العلاء، وقرأ عليه أشعاره ومصنفاته وأخبرني أن له ديوان شعر ورسائل. ومن منثور كلامه: الصنعة مُحكمة، والمرجِّمون كثير، والدلائل قائمة على الصانع، والسعادة والشقاء سابقان، والفكرة حسيرة، والعاقل كالجاهل تحت القدر، والحريص تَعِب، وجِماع الخيرات مراقبة الله، والشرع أولى مُتَّبَع، والخير حميد، والشر وخيم، وأخلاق الرسول صلّى الله عليه وسلَّم من اقتدى بها اهتدى ونجا من الحَيرة والضلال، وليس للعِرض ثمن يكافيه، والسؤال ثمن النوال، وسعة الأخلاق رحمة من الخلاّق، والصبر عَونٌ حاضر، والقناعة ثروة لا تنفد، ولتكن لك نفس ترفعك عن دَنيّات الأمور، وعِرض ينجو بك من ذم الناس، وصدق يستريح إليه من يخشى الكذب؛ وحافظ على دينك حفاظ الخيل على موضعها من الأرض، وإياك والجزع على ما فات، والتفريط فيما بقي؛ ودافِع ما لا بدّ منه من غدٍ إلى غدٍ فإن الدهر لا يُعتِب في فعله، ولا تجمع على من ضيّع أمره ولا تُمكِّن فيه الفُرص في كل وقت، ولا تدنِّس المروءة فإنها تجمع أبواب المحاسن وتؤلف بين أشتات الفضائل. من عظُمتْ في نفسه الدنيا صغُر عند الله وعند الناس قدرُه. ومن شعره ما أنشدنيه أبو اليسر الكاتب لجدِّه هذا أبي المجد: رأيتُكَ في نومي كأنّكَ مُعرِضٌ ... مَلالاً، فداويْتُ المَلالةَ بالتَّرْكِ وأصبحتُ أبغي شاهداً فعدِمتُه ... فعُدتُ فغلَّبْتُ اليقين على الشكِّ وعهدي بصُحْفِ الودِّ تُنْشَرُ بيننا ... فإنْ طُوِيَتْ فاجعلْ خِتامَكَ بالمِسكِ لئن كانت الأيام أبلى جديدُها ... جديدي، ورَدَّتْ من رحيبٍ إلى ضَنْكِ فما أنا إلا السيفُ أخلَقَ جَفْنُه ... وليس بمأمونِ الغِرارِ على الفَتكِ وأنشدني أيضاً له: وقفتُ بالدارِ وقد غُيِّرَتْ ... معالِمٌ منها وآثارُ فقلتُ والقلبُ به لَوْعَةٌ ... تحرقُه، والدمعُ مِدرارُ أَيْنَ زمانٌ فيكِ قَضَيْتُه ... وأين سُكّانُكِ يا دارُ وأنشدني له بعض أهل المعرة: جَسَّ الطبيبُ يدي جَهْلاً، فقلتُ له: ... إليك عني، فإنّ اليوم بُحْراني فقال لي: ما الذي تشكو، فقلتُ له: ... إني هَوِيتُ، لجَهلي، بعضَ جيراني فقامَ يَعْجَبُ من جهلي، وقال لهمْ: ... إنسان سَوْءٍ فداووه بإنسانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 وأنشدني الأمير مُؤيّد الدولة أسامة بن مُرْشد بن مُنقذ بدمشق سنة إحدى وسبعين قال أنشدني القاضي أبو المجد لنفسه: وقائلةٍ، رَأَتْ شَيْبَاً علاني: ... عَهِدْتُكَ في قميصِ صِباً بديعِ فقلتُ وهل تَرَيْنَ سوى هَشيمٍ ... إذا جاوزتِ أيامَ الربيعِ قال الأمير أسامة: لما فارق أهله بالمعرة وبقي منفرداً وله غلام اسمه شَعْيَا فقال: زمانٌ غاض أهلُ الفضلِ فيه ... فَسُقْياً للحِمام به ورُعْيا أسارى بين أتراكٍ ورومٍ ... وفَقدِ أحبّةٍ ورِفاقِ شَعْيَا قال وقد سبقه إلى هذا المعنى الوزير المغربي فإنه لما تغيرت عليه الوزارة وتغرّب كان معه غلام اسمه داهر فقال: كفى حَزَنَاً أني مقيمٌ ببلدةٍ ... يُعلِّلُني، بعد الأحبّةِ، داهرُ يحدِّثني ممّا يُجَمِّعُ عَقْلُه ... أحاديثَ منها مستقيمٌ وجائر قال الأمير أسامة: ولما بُليت بفُرقة الأهل كتبت إلى أخي أستطرد بغلامَيْ أبي المجد والوزير المغربي اللذين ذكراهما في شعرهما: أصبحتُ بعدَك يا شقيق النفسِ في ... بَحرٍ من الهمِّ المُبرِّح زاخِرِ مُتفَرِّداً بالهمّ، مَن لي ساعةً ... برفاقِ شَعْيَا أو عُلالةِ داهرِ وناولني القاضي أبو اليسر الكاتب كرّاسة بخط جده أبي المجد من مسوّدات شعره كتبها وقد أناف على الثمانين، فنقلتُ منها على ترتيب حروف المعجم ما انتخبته. فمن ذلك قوله: الهمزة تولَّى الحكمَ بينَ النّاس قومٌ ... بهم نزلَ البلاءُ من السّماء كأنَّهمُ الذِّئابُ إذا تعاوتْ ... سَواغِبُها على آثار شاءِ يقولُ القائلونَ إذا رأَوهُم ... لقد جارَ القضاءُ على القضاءِ وقوله: قال الطبيبُ أرى سَقامَكَ من دَمٍ ... فأجَبْتُهُ ما بي سوى الصَّفراءِ وأطالَ في أوصافِه، فعذَرْتُهُ ... في جهلهِ، إذ ليسَ يعلَمُ دائي قُمْ يا طبيبُ فليسَ طِبُّكَ كاشفاً ... ضُرِّي ولا هذا الدَّواءُ دوائي وقوله: غدَرَ الزَّمانُ بنا فغَيَّرَ وُدَّه ... مَنْ كانَ يُعرَفُ بالصَّفاء إخاؤُهُ وإذا حكَتْ أفعالُهُمْ أفعالَهُ ... فهو الزَّمانُ وكلُّهُم أبناؤُهُ وكذاكَ عادتُهُ وعادةُ أهلهِ ... فمُريدُ صِدقهما يطولُ عناؤه فلأصبِرَنَّ على أليم سِهامِه ... وسهامه وإن استمرَّ بلاؤه الألف وقوله: صَدَّ الهوى عنّي فواصَلَني الأسى ... وخَفيتُ حتّى ما أَبينُ من الضَّنا ويُطيلُ عَذْلي جاهلٌ أنَّ الهوى ... ليست تجوزُ عليه أحكامُ النُّهى ومن الدَّليل على اقتِداريَ أنَّني ... أرضى من التَّسويف ما لا يُرْتَضى وقوله: أَأَحْبابَنا كنتُ أرجو اللِّقا ... وآمُلُ أَلاّ تَشُطَّ النَّوى فقد حال من دون ذاكَ الزَّمانُ ... وطالَ طالَ عليَّ المدى ومُضمَرُ حُبِّكُمُ لا يُذاعُ ... فلا تَعكِسوا لفظَه في الحَشا الباء قالت رأيتُكَ لمْ تَشِبْ ... والشَّيبُ يُسرِعُ في المُحِبِّ فأجَبْتُها يا هذه ... ما الذَّنْبُ إنْ أَنْصَفْتِ ذَنبي أنتِ التي عَوَّقْتِ جَيْ ... شَ الشَّيبِ عن رأسي بقلبي وقوله: وقائلَةٍ ما بالُ ليلِكَ ساهراً ... وقد نامَ فيه كلُّ ذي شَجَنٍ صَبِّ فقلتُ لها كيف السَّبيلُ إلى الكَرى ... وفي بلدةٍ جسمي وفي غيرها قلبي الثاء وقوله: تُرى مَجْمَعُ الحَيِّ الذينَ صحِبتُهُمْ ... على عهدِنا أمْ غَيَّرَتْهُ الحوادثُ وهل يَبرُدُ الشَّوقَ الذي ضَرَّمَ الحشا ... بنار الأسى أنْ يَنْفُثَ البَثَّ نافِثُ وهل يرجِعَنْ ذاكَ الزَّمانُ وطِيبُه ... وأيَّامُهُ المُسْتَعْذَباتُ الدَّمائثُ الجيم وله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 لا تسْتَعِنْ إلاّ الإلهَ فإنَّهُ ... عَونُ الضَّعيفِ ومُستَجارُ اللاّجي ومتى عَرَتْكَ من الخُطوبِ مُلِمَّةٌ ... فدفعتَها بالله كنتَ النّاجي هو عُدَّتي في كلِّ يومِ كريهةٍ ... ومَلاذ آمالي ومَولى حاجي وقوله: يا هِمَّةً ألحِقَتْ بالشَّمسِ غايتُها ... لمّا تناهَتْ بها في أَوْجِها الدَّرَجُ سئمتُ منكِ ومن جَدٍّ لنا تَعِسٍ ... كم ذا العناءُ فلا موتٌ ولا فرَجُ الحاء وقوله: قد أوسَعَ اللهُ البلادَ ولِلفتى ... إلى بعضِها عن بعضِها مُتَزَحْزَحُ فخَلِّ الهُوَينَى إنَّها شَرُّ مركَبٍ ... ودونَكَ صعبَ الأمر فالصَّعبُ أَنجَحُ فإنْ نِلتَ ما تَهوَى فذاكَ، وإنْ تَمُتْ ... فلَلموتُ خيرٌ للكريم وأَرْوَحُ الدال وقوله: يا مُخلِفي ما كانَ من وَعْدِ ... ومُعَذِّبي بالهَجر والصَّدِّ كالشَّمس أنتَ ودونَ وَصلِكَ لي ... كمسيرها يوماً من البعد وقوله: أنا في حُبِّكَ يا مَوْ ... لايَ في قُربي وبُعدي مثلَما كنتُ وَودّي ... لكَ في الحالين ودّي وقوله: سلوت عنكم لأني في محبتكم ... ما فزت إلا بتسويف وترديد ولا ظفرت بشئ من نوالكم ... غير المنى وأكاذيب المواعيد وقوله: ألا يا ساحِرَ الطَّرفِ ... متى تُنجِزُنا المَوعِدْ فمَنْ حرَّمَ أنْ تَرْحَ ... مَ مَنْ يَهواكَ أو تُسْعِدْ الراء وقوله: يا مريضَ الوَعدِ والنَّظَرِ ... أنتَ مِنْ وعَدي على خطَرِ خُذْ بقلبي كم تُعَذِّبُه ... بأليمِ الشَّوقِ والفِكَرِ جُدْ بنَومي كمْ تُشَرِّدُهُ ... وتُعَنِّي العينَ بالسَّهَرِ وقوله: إذا ضاقَ صدرِيَ بالعاذلات ... وحرَّقني الشَّوقُ في نارهِ وناديتُ هيهاتَ منِّي الحبيبُ ... وهيهاتَ داريَ من دارهِ رجعتُ إلى الله رَبِّ العباد ... وأحسنتُ ظَنِّي بإقرارِه وقوله: أبا حَسَنٍ جزاكَ اللهُ خَيراً ... فقد أَوليتَ إحساناً كثيرا صَحِبْتُ خلائقاً لكَ زاهِراتٍ ... نجوماً في المعالي بل بُدورا خلائقَ لو مزجتَ البحرَ يوماً ... بها لَغَدا بها عَذْباً نَميرا وقوله: مَنْ كانَ يشكو مِنْ أَحِبَّتِهِ ... هَجراً فلستُ بمُشْتَكٍ هَجْرا سمحوا فما سمحَ الزَّمانُ بهم ... ووَفَوا ففَرَّقَ بينَنا غَدْرا فَلأُوسِعَنَّ مَذَمَّةً زَمني ... ولأُوسِعَنَّ أحِبَّتي عُذرا وقوله: ولمّا رأيتُ المالَ كالظِّلِّ زائلاً ... ومَيلَ بني الدُّنيا إلى جانبِ الغَدْرِ أَنِفْتُ من الحِرْصِ الدَّنِيِّ تَقُنَّعاً ... وأَقعدَني خُبري بضُرِّي على قَتْر فلمّا تَعَفَّفنا نُسِبْنا إلى الغِنى ... ولمّا تَقَّبَضْنا نُسِبْنا إلى كِبْرِ وقوله: قالوا نراكَ ببيتٍ واحدٍ ولقدْ ... تضيقُ عنكَ على رُحْبٍ بها الحُجَرُ فقلتُ ذاكَ على قدري ورفعته ... دليلُ صِدقٍ إذا ما أُنعِمَ النَّظَرُ كُلٌّ منَ السَّبْع بالبيتين مُشتهِرٌ ... وخُصَّ بالفرد منها الشَّمسُ والقمرُ كذا الجوارحُ من فَضلٍ ومن شرَفٍ ... يَحُلُّ أَضْيَقُهُنَّ السَّمعُ والبصرُ وقوله: قالوا اصْطَبِرْ تَحْظَ بما ترتجي ... والحُرُّ من شيمته الصَّبرُ وقد تصبَّرْتُ ولكِنَّني ... أخافُ أنْ لا يصبرَ العُمْرُ وقوله: وبِيضٍ أَوانس عُلِّقْتُهُنَّ ... مثلَ الغصونِ إذا تُثمِرُ شَكَونَ من الوَجْدِ ما أَشتكيه ... وأَضمَرْنَ منه كما أُضْمِر ولكنَّهنَّ منعنَ الوِصالَ ... حِذارَ الرَّقيبِ الذي أَحذَرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 الزاي وقوله في العِذار: ومُهَفْهَفٍ يُردي بصارِمِ لحظِهِ ... مَنْ غَرَّهُ طمَعٌ بضَعف جِهازِهِ كم واثقٍ بفؤاده في صَبرهِ ... عنه ففرَّ الصَّبرُ عندَ بِرازِهِ كمُلَتْ مَحاسِنُهُ بخَطِّ عِذارِهِ ... والثوبُ يَكمُلُ حُسنُه بطِرازِهِ السين وقوله: قصرْتُ رَجائي على خالقي ... ومَنْ يرتجِ اللهَ لَنْ يَيأَسا عسى لطفُهُ كاشِفاً كُربَتي ... كما كشَفَ الكربَ عن يونُسا وقوله: من شاءَ أنْ يعرف ما قدرُه ... عندَ الغَواني شائِبَ الراسِ فلْيَعتَرِضْ سوداءَ نُوبِيَّةً ... كالقِرْدِ في حُجرة نَخّاس فكيف لو رامَ بها كاعِباً ... سمراء تَحكي غُصنَ الآس أو وَردَةً، تُحسَبُ من حُسنِها ... حُوريَّةً وهي من النّاس إذاً لراحَ الشيخُ من كلِّ ما ... وسوسَ في الصَّدر على ياس لا سيَّما إنْ حسَّنَتْ شيبَهُ ... في عينِها حالةُ إفلاس وقوله: ورائقِ الحُسنِ لا انحرافَ له ... عن التَّجافي وقِلَّة الأُنسِ خليفةَ البدر في الكمال إذا ... أمرضَهُ الإجتماعُ بالشَّمس الصاد وقوله: جوارحي قد أصبحت كلُّها ... ناقصةً عن عهدها ناكِصَه فليتَ روحي وبها مُسْكَةٌ ... من عنَتِ الدُّنيا غدَتْ خالصه الطاء وقوله في الخريطة " مُعَمَّى ": وحافظَةٍ للسرِّ ما شئتَ حِفظَه ... مَسيحيَّةٌ ما شرَّفَتْ بِيعَةً قَطُّ ومن جنسها فيها ذوائبُ أربَعٌ ... فما شَعِثَتْ يوماً ولا مَسَّها مشْطُ الظاء وقوله: وكتابٍ نزَّهْتُ طَرفِيَ فيه ... مالكٍ للقلوبِ والألحاظِ ذي فنونٍ كأَنَّهُ زَهَرُ الرَّوْ ... ضةِ، عَذبِ الأغراضِ والألفاظ فتراهُ يُصبي الحليمَ وقد كا ... ن أراهُ فظاظَةَ الوُعَّاظِ العين وقوله يرثي والده: لمثلِها كنتُ أصونُ الدُّموعْ ... فلْتذرِفِ العينُ ويَنْأَ الهُجوعْ وإنْ يَغِضْ ما فاضَ من أَدْمُعي ... مَزَجْتُهُ من مُهجَتي بالنَّجيعْ قد كنتَ نجماً هادياً فالورى ... في حَيرَةٍ منذُ هجرتَ الطُّلوع وقوله: لم يدرِ ما طعمُ الفِراقِ المُوجِعِ ... مَنْ لم يَبِنْ عن إلْفِهِ ويُوَدِّعِ هيهاتَ وَصْلُ العامرِيَّةِ بعد ما ... حلَّتْ بوادٍ من سَبيعةَ مُسْبِعِ بيضاء فاترة اللِّحاظِ إذا مَشَتْ ... ماسَتْ كغُصنِ البانَةِ المُترعرِعِ وتبرْقَعَتْ خَفراً فتَمَّ جمالُها ... لا يُستَرُ الصُّبحُ المنيرُ ببُرقُعِ لو أنها زارتْ وغابَ وُشاتُها ... نَمَّ النَّسيمُ بنَشرها المُتَضَوِّعِ وتَصيدُني بحِبالَتينِ: حِبالَةٍ ... من ناظري، وحِبالَةٍ مِن مِسمَعي لا نلتقي إلاّ بجسمٍ ناحِلٍ ... أبداً وقلبٍ بالفراق مُروَّعِ أبكي إذا بعُدَتْ فإنْ دنَتِ النَّوى ... يوماً جرَتْ خوفَ التَّفرُّقِ أدمُعي ومنها: لو أنَّ عينك أبصرت ما في الحشا ... عند اذّكار فراقهمْ لم تهجَعِ وعلمتَ أَنِّي لا أخونُ ولا أُرى ... إلاّ على شرف الوفاء الأرفَعِ مِن شيمتي حِفظُ الوِدادِ وصَوْنُهُ ... لا شيمةِ المُتَمَوِّهِ المُتَصَنِّعِ وافٍ إذا غدرَ اللِّئامُ، مُكاثِرٌ ... عدد الكرام بعَزْمَةٍ لمْ تُصرَعِ وقوله: كتبتُ إليكَ كَلاكَ الإلهُ ... بحِفظٍ وأحسنَ فيكَ الصَّنيعا وعنديَ مِن بعدِكم لوعَةٌ ... تُقيمُ الضُّلوعَ وتَمري الدُّموعا واسأَل مَن قد قضى بالفرا ... قِ، قُرباً يَسُرُّ وشَمْلاً جميعا الغين وقوله في الحكمة والقناعة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 للهِ أَمرٌ لا يُغالِبُه ... في الرِّزْقِ يَقدِرْهُ ويُسْبِغهُ فاقْنَعْ بأَيسر ما به قنع ال ... مُجتازُ من زادٍ يبلِّغُهُ الناسُ في الدُّنيا على سَعَةٍ ... فعليكَ ما التَّقوى تُسَوِّغُهُ الفاء وقوله: ومُرهَفِ الخَصرِ عَذْب اللَّفظِ ما نظرت ... عيناه إلاّ إلى صَبٍّ به كَلِفِ لا يَصدقُ القولَ في صَدٍّ ولا صِلَةٍ ... ولا يدوم على وُدٍّ ولا شَنَفِ كالظَّبي لولا الذي بالظبي من خَنَسٍ ... والبدر لولا الذي بالبدر مِنْ كَلَفِ شبَّهْتُهُ في اعتدال القَدِّ بالألِفِ ... وبالقضيب قضيب البانَةِ القَصِفِ وما تجَمَّعَ نَوْرُ الأرضِ في غصُنٍ ... ولا أُجِمَّتْ مياهُ الحسن في ألِفِ وقوله في التوكُّل: لي في التوَكُّلِ مذهَبٌ ... لا أستطيع له خِلافا أرجو القويَّ ولستُ أَرْ ... جو من بني الدُّنيا ضِعافا ما لي رجاءٌ في سوا ... هُ إذا الزَّمانُ عليَّ حافا إنِّي جعلتُ توكُّلي ... أمني إذا ما القلبُ خافا وقوله يرثي أباه: طَرفِيَ مِنْ بعدِكَ مَطروفُ ... ودَمعُهُ للبينِ مَذروفُ يلومني الناس على أنَّني ... بطول حُزني بكَ مَشعوفُ والدَّمع لا يمنعُ من فَيضِهِ ... عَذْلٌ ولا يَردَعُ تعنيفُ فلْيجزَعِ النّاسُ عليه فقد ... أسلمهمْ لِلُّجَّةِ السَّيفُ لا يُنكَرُ المُنكَرُ مِنْ بعدِه ... فيهم ولا يُعرَفُ مَعروفُ وقوله: للوصل بعد الصَّدِّ فضلٌ، من درى ... كيف الغرامُ فليسَ عنه بخاف وإذا الفتى لم يلقَ يوماً جفوةً ... هانتْ عليه فضيلةُ الإنصافِ القاف وقوله: لا تَعذُلاني في اشتياقي ... ودَعا دُموعي والمآقي قد ضاقَ صدري بالشَّتا ... تِ وعِيلَ صبري بالفراق وأشَدُّ مِمّا بِتُّ في ... هِ من غَرامٍ واشْتِياقِ علمي بأنَّكَ تشتكي ... ما بي وتلقى ما أُلاقي وقوله: لا يَزَعْكَ العُذَّالُ عن طلبِ المَجْ ... دِ ولا يَطَّبيكَ عَيشٌ أَنيقُ وارْكَبِ الليلَ إنْ نهى عنه جُبْنٌ ... فمُعاني السُّرى بنُجْحٍ حَقيقُ رُبَّ جهلٍ أَدنى إلى النُّجْحِ مِنْ حِلْ ... مٍ إذا ما أَعانَهُ التَّوفيقُ وقوله: ولقد لقيْتُ الحادثاتِ فما جرى ... دمعي كما أجراهُ يومُ فِراقِ وعرَفتُ أيّامَ السّرور فلم أجِدْ ... كرُجوعِ مُشتاقٍ إلى مُشتاقِ وقوله: لا يَبلُغُ المخلوقُ ما هو طالبٌ ... من أمره إلاّ بأمر الخالقِ ومن العجائب أن تُرى مُتَطَلِّباً ... رزقاً وتتبَعُ غير أمر الرّازِقِ وقوله: إن كان طَرفي عارماً في لحظِهِ ... فلعفَّتي من غَيِّه إطراقُ أو رُحْتُ في سَمَلٍ فليس بعائبٍ ... للبِيضِ أنَّ جُفونَها أَخلاقُ ما للزّمان يَحولُ دونَ مطالبي ... ومناقبي في جِيدِهِ أطواقُ إن كان يبغي الدَّهرُ إصداقي لها ... وَجهي، فوفَّرَها عليه طلاقُ والمرءُ إن نالَ السّعادةَ أنجَحَتْ ... آمالُهُ وتيسَّرَ المُعتاقُ ومتى تولّى عنه الحَظُّ فإنَّما ... خَفقُ الرِّكاب وراءه إخفاقُ وقوله: ليتَ شِعري متى يكونُ التّلاقي ... وفِراقي لِطول هذا الفِراقِ لستُ أشكو إليكَ مثلَ الذي تش ... كو من الوَجْدِ ألسُنُ العشّاقِ إنَّما يُنجِدُ الفؤادَ على الشَّوْ ... قِ فؤادٌ خالٍ من الإشتياقِ فإذا ما تواقفا يومَ بينٍ ... شرِبا مُرَّهُ بكأسٍ دِهاقِ الكاف وقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 ما زال يخدَعُ قلبي سِحرُ مُقلتِهِ ... ويستقيدُ له حتى تملّكَهُ وإنَّ يوماً أراه فيه أحسِبُه ... أسرَّ يومٍ من الدنيا وأبركَهُ وقوله: يا مغاني الصِّبا بباب حُناكِ ... لا بوادي الغضا ووادي الأراكِ لا تَخَطَّتْكِ غادياتُ الثُّريّا ... إنْ تعدَّتْكِ رائحاتُ السِّماكِ أسلفتني الأيامُ فيكَ سُروراً ... فاستردَّ السرورَ ما قد عراك وعزيزٌ عليَّ أنْ حَكَمَ الدَّهْ ... رُ على رَغْمِ ناظِري ببِلاك بكِ وَجدي إذا النّجومُ استقلَّتْ ... كهمومي في كَثرةٍ واشْتباكِ وقوله: ويومِ دَجْنٍ خانتْهُ أَنْجُمُهُ ... في الصّحو والغيمِ فهو مُشترَكُ كأنّما الشمس والرّذاذ معاً ... فيه بكاءٌ يشوبُهُ ضحِكُ اللام وقوله: قولا لمولاي الذي صُدغُهُ ... مُبلبِلٌ قلبي ببَلْبالِهِ عبدُكَ قد أنهى إليكَ الهوى ... يرجوكَ أن تنظرَ في حالهِ فإن جفا في قوله واعتدى ... وذاك من شيمة أمثالِهِ فأوهِماهُ أنَّ ما قالَهُ ... في غيظِه ضِدٌّ لإفضالهِ وعاوِداهُ فعسى مُهجَتي ... يشملُها السَّعْدُ بإقبالِهِ وقوله في الرضا والقنوع: رَضِينا وسلَّمنا لمالِكِ أمرِنا ... وهل يملكُ العبدُ الخيارَ على المَولى زمَنْ لم ينَلْ من دهرهِ ما يريدُهُ ... وحاولَ عِزّاً فالقنوعُ به أولى وليس لِلَيْتٍ إن أطلتَ بها المُنى ... غَناءٌ ولا لَوٌّ تفيد ولا لولا وقوله في ضد القناعة: رأيتُ كثير هذا الخَلقِ يرضى ... لِقِلَّتِه بمَيسورٍ قليلِ فلا تقنعْ من الأيام إلاّ ... بلُقيا الموتِ أو حَظٍّ جَزيلِ وقوله: وكنتُ أُطيلُ الهَمَّ بالعزمِ كلَّما ... سَما وكَبا دونَ اللَّحاقِ به مالي فَهَوَّنَ ما ألقاهُ أنِّيَ واجِدٌ ... كِرامَ الوَرى مِثلي وحالُهُمُ حالي فيا عَزْمُ لَمْ تُمدَدْ لِحَظٍّ فَخَلِّني ... أبِتْ خالياً ممّا يمُرُّ على بالي وقوله: أَمِنَ المَوتِ فاجِعِي بالعراني ... نِ من الأهل، أم ذَهاب المالِ أم فِراقِ الأوطانِ أم قِلَّةِ المُسْ ... عِدِ عندَ النُّهوضِ في كلِّ حال لست أدري من أيِّ ذلكَ أبكي ... ليت شِعري، ما للزَّمانِ وما لي وقوله من قصيدة: حيِّ العُذَيْبَ وأهلَهْ ... وارْبَعْ لديهِ وقُلْ لَهْ لا زال فيكَ شِفاءٌ ... لكلِّ قلبٍ مُدَلَّهْ وابْلِغْ، هُدِيتَ، سلامي ... شموسَه والأهِلَّهْ وخُصَّ بالعَذْبِ منهُ ... واقصُر عليه أَجَلَّه مَنْ مِلَّتي في هواه ... والسَّتْرُ أحسنُ مِلَّهْ نظرتُه وفؤادي ... لم يعرف الحبَّ قبله له من الظّبي جِيدٌ ... زانَ العُقودَ ومُقلَهْ وقَدُّهُ غصنُ بانٍ ... ورِدْفُهُ دِعْصُ رَمْلَهْ كأَنَّ جمرةَ خدَّيْ ... هِ في فؤاديَ شُعلَهْ ومنها: كأنَّ حَظِّي سَوامٌ ... قد أحسنَ الدَّهرُ شَلَّهْ كأنَّني السّيفُ يَخشى ... حَدِّي فيَكرهُ سَلَّه وقوله: العِزُّ لي وطَنٌ لا الأرضُ أسكنُها ... وفخريَ المجدُ لا دَثْرٌ من المالِ وما مآثِرُ آبائي وإنْ كَرُمَتْ ... وكان أخفضُها يعلو على العالي بمانعاتِيَ من أُخرى أحاولُها ... حتى يكونَ لها شَدِّي وتَرحالي وكيفَ أرضى بمجدٍ ماتَ صاحبُه ... إن لم يُبِرَّ عليه آخَرٌ تالي وليس يقضي فُروضي مَنْ تكلَّفَها ... ولا يُنَوِّهُ باسمي غير أفعالي ومنها: والموتُ راحةُ ما بالنفس من حُرَقٍ ... أو رتبةٍ تنظرُ الجوزاء من عال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 وما أرى نخَواتي قَطُّ تترُكُني ... حتى أكونَ من الحالين في حال الميم وقوله: هل من سبيلٍ إلى ظَبيٍ كَلِفْتُ به ... مستوطِنٍ خلَدي مُستعذِبٍ ألمي غضبان يطرد عن عيني الكرى حَذَراً ... من أن يُلِمَّ خيالٌ منه في الحلُمِ ما زرتُ أطلب ما في الثغر من شَبَمِ ... إلاّ رجعتُ بما في الطرف من سقَمِ هَبْ أنَّ تعذيبَ قلبي قد أُحِلَّ له ... فمن أحلَّ له أن يستبيحَ دمي وقوله في الزهد: إذا جانبْتُ، مقتدراً عليها ... كبائر ما جنَتْ كَفُّ الأثيمِ فلا تستكثري لمَمي فإنِّي ... سأَقدَمُ في الحساب على كريم وقوله: إلا إنَّ عُقبى لذَّةِ المرء عكسُها ... إذا نام عمّا تقتضيه المكارمُ وما لذَّتي إلاّ انتباهي لصاحبٍ ... أُشَرِّدُ عنه همَّهُ وهو نائمُ وقوله: رأيتُكَ ذا بشْرٍ يروقُ لحُسنِه ... متى طمِعَتْ نفسي بها ردَّها عِلمي وما كلُّ غصنٍ راقَ نَوراً بمُثمرٍ ... لِجانٍ، وليست كلُّ بارقَةٍ تَهمي النون وقوله: يا واعِدينا بالوِصا ... لِ وبَذلِهِ كم تَمطُلونا وتوافقون وتَغدُرو ... نَ فتُذنِبونَ وتَعْتِبونا وأراكُمُ لا ترحمو ... ن وباللِّقا لا تسمحونا فبعيشكم رُدُّوا القلو ... بَ وأمسِكوا عنها العيونا وقوله: كن ساجداً للقِردِ في زمانِه ... ومُدَّ للجاهل في عِنانِه ودارِهِ وخَلِّه لشانِه ... فإنه يعثُرُ في ميدانِهِ الهاء وقوله: لي حبيبٌ أغارُ من كلِّ طَرفٍ ... ولِسانٍ إذا أشارَ إليه أجمعَ النّاظِرونَ في كلِّ ظَرفٍ ... وجَمالٍ، دونَ الأنام، عليه وقوله: إن تولَّتْ عنكَ دُنيا ... كَ فلا تحزنْ عليها إنَّما تَخرُجُ منها ... مثلما جئتَ إليها وقوله في الرَّمَد: ما رَمِدَتْ عيني ولكنَّه ... لمّا جفا من كنتُ أهواهُ مزجتُ دمعي بدمي بعدّهُ ... فاحمرَّ من دمعيَ مجراهُ الياء وقوله: أقصِرا مِن ملامَتي عاذِلَيّا ... وأقِلاّ فالوَجْدُ وقفٌ علَيّا فرَّقَ الشَّملُ حينَ جمَّعَهُ اللَّيْ ... لُ وضَمَّتْ يدايَ قلبي إلَيّا واقتنصنا بدرَ السّماءِ اقتِناعاً ... وغَنينا من قُرطِهِ بالثُّرَيّا واجْتنينا من خدِّهِ الوردَ غَضّاً ... ورشفنا من الرُّضاب الحُمَيّا صوتُ داعٍ ببينِهِم فاسْتَقَلّوا ... واستقلَّ الفؤادُ يحدو المَطِيّا وقوله: إنَّ المُروَّةَ والفُتُوَّ ... ةَ عند ذي النفس الأبيَّهْ أنْ لا يَفِرَّ عن المَخو ... فِ من الحِمام إلى الدَّنِيَّهْ وأُنشِدْتُ له من قصيدةٍ نظمها عند موته وأُنشِدَت على قبره في عَزائه: أشفقتُ من موتي ويومَ مَعادي ... غُصصاً أُكابدُها وقِلَّةَ زادِ ومنها: وخَفيتُ بعدَ ثلاثةٍ أو سبعةٍ ... من كاشحٍ لي أو صحيح وِدادِ يعني به رسمَ العَزاء وهو إمّا ثلاثة أيام أو سبعة أيام: ولقد علمت وما عملتُ، ولم أزلْ ... تبَعاً لغيّي تاركاً لرشادي أثقلتُ بالآثام ظهريَ عامِداً ... حتى رثا لي حاملو أعوادي كم من شريفٍ ماتَ عن خلَفٍ له ... فأضاعَهُ خَلْفٌ من الأولادِ ولده أبو محمد عبد الله ابن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان هو والد تقي الدين أبي اليسر الكاتب، أنشدني لوالده عبد الله قوله: يا مَن تنكَّب قوسَه وسهامه ... وله من اللحظِ السقيم سيوفُ تُغنيك عن حملِ السلاح إلى العدى ... أجفانكَ المرضى فهُنَّ حُتوفُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 ذكر انه سافر إلى مصر ولقي الأفضل وأقام عنده مكرّماً إلى أن توفي سنة ست عشرة وخمسمائة وقبره في جانب المقطم بها، ورثاه ابن عمه أبو عديّ النعمان ابن وادع بقوله: لعَمرُكَ ما مَن مات والقومُ شُهَّدُ ... كآخرَ منّا ماتَ وهو غريبُ كأنّ النوى آلتْ عليه أَلِيّةً ... بأنك، عبَد الله، لستَ تؤوبُ ألم يكفِ أنّ البينَ شَعَّبَ شملَنا ... وشتَّتَ حتى شَعَّبَتْه شَعُوبُ وكان مولده معرة النعمان سنة سبع وستين وأربعمائة. ولأبي المجد، أبيه، فيه وقد حُمّ: قالوا تألّم عبُد الله، قلتُ لهم ... رَضيتُ فيه الذي يرضاه مولاهُ إن حاد بالسُّوء عنه فهو جادَ به ... وليس عندي سُخطٌ إنْ تَوفّاهُ ولده القاضي أبو اليسر شاكر ابن عبد الله بن محمد أبي المجد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان شيخ كبير، كان منشئ الملك العادل نور الدين رحمه الله قبلي، فلما استعفى وقعد في بيته توليتُ الإنشاء. كتب إلي في ذي الحجة سنة سبعين بدمشق وقد شربتُ الدواء: كيف أمسيتَ بعد شرب الدواءِ ... يا سليلَ الأبدال والنُّجباءِ دفع اللهُ عنك ما تتوقَّى ... من جميع الشرور والأدْواءِ إنّ قلبي عليك منذ افترقنا ... مُشفقٌ من كراهةٍ في الدواءِ غير أني أرجو من الله أن تُ ... عْقَبَ منه بصحةِ الأعضاءِ ودعائي واصلته لك وال ... له جدير بأن يجيب دعائي فكتبت إليه في جوابها أبياتاً، منها: إن ودّي هو الدواء وشربي ... من وَلاءٍ يجري بماء الصفاءِ بركاتُ الإشفاق منك أعا ... دتْني بعد الإشفاء حِلْفَ الشِّفاءِ وجديرٌ بمن يُواليكَ أن يصب ... ح بين الورى من السُّعداءِ أنت فأْلي في اليسر والشكر والص ... حّة والوجد والغنى والثراءِ ورجائي ما زال يَعْبَق طيباً ... أَرَجُ النُّجح منه في الأرجاءِ فتقبَّلْ واقبلْ مديحي وعُذري ... قَبِلَ الله في عُلاكَ دعائي وذكر لي أن مولده بشيزر في جمادى الآخرة سنة ست وتسعين وأربعمائة. وأنشدني بدمشق سنة إحدى وسبعين: وَرَدْتُ بجهلي مَوْرِدَ الحبِّ فارتوتْ ... عروقيَ مِن مَحْضِ الهوى وعظامي ولم تكُ إلاّ نظرةٌ بعد نظرةٍ ... على غِرّةٍ منها ووَضْعِ لِثامِ فحلّت بقلبي من بُثَيْنَ طِماعةٌ ... أقرّت به حتى الممات غرامي وقوله: لا تخدمِ السلطانَ وانصح إذا ... خدمتَه في مدّة الخدمَهْ أَقِمْ له الحُرمة في أنفس ال ... خدّام فالصُّحبة بالحُرمَهْ واجلُبْ له بالعدل شكرَ الورى ... فالعدلُ فيهم يُسبغُ النِّعمَهْ واعلمْ بأن الظلمَ في عصره ... يقضي له في اللَّحدِ بالظُّلمَهْ والعدل في أيامه مُؤنسٌ ... في قبره بالنور والرحمَهْ وقوله: وجدتُ الحياة ولذّاتِها ... مُنَغَّصةً بوقوعِ الأذى إذا استحسنَتْ مُقَلُ الناظرين ... ففي الحال يظهر فيها القذى وأطيبُ ما يُتَغذّى به ... ففي وقته يستحيل الغذا فلا حبّذا طول عمر الفتى ... وإن قَصُرَ العمر يا حبّذا تولّى ديوان الإنشاء بالشام سنين كثيرة وله مقاصد حسنة في الكتب، وهو حميد السيرة جميل السريرة. ولداه أبو البركات محمد وأبو المجد سليمان ذكر القاضي أبو اليسر أن مولد ولده أبي البركات بحلب في ذي الحجة سنة خمس وأربعين وخمسمائة وهو يسكن المعرة وأنشدني له: نظرَ المُحِبُّ إلى الحبيب فتاقا ... ورَنا إلى ذي وَجْدِه فأفاقا سُبحانَ مَن جمع المحاسنَ كلّها ... فيه فضاهى خَلْقُه الأخلاقا وأنشدني لولده سليمان وذكر أنه كتب إليه من المعرة في عيد الفطر سنة سبعين ومولده بدمشق سنة خمسين وخمسمائة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 تَهَنَّ بالصوم وبالفِطرِ ... وعش سعيداً آخر الدهرِ يا سيّداً فاق جميع الورى ... بالعلم والزُّهد وبالذِّكْرِ إني جدير أن أنال الذي ... آمُلُ من نُعماكَ يا ذُخْري إني إذا نافستُ لا أرعوي ... لأنني نجلُ أبي اليسرِ القاضي أبو مسلم وادع ابن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان أخو القاضي أبي المجد جدّ أبي اليسر. كان أبو العلاء عمّ أبيه. ذكر أنه تولى القضاء بمعرة النعمان وكَفَرطاب وحماة وكان مشهوراً بالكرم. وله رسائل عذبة الألفاظ وشعر، منه قوله: وقائلةٍ ما بال حِبِّك أرمداً ... فقلتُ وفي الأحشاءِ من قولها لَدْغُ لئن سَرَقَتْ عَيْنَاه من لون خدِّه ... فغير بديعٍ ربما نفض الصِّبْغُ وقوله: ولمّا تلاقَيْنا، وهذا بناره ... حريق، وهذي بالدموع غريقُ تقلّدتِ الدُّرَّ الذي فاض جَفْنُها ... فرصَّعهُ من مُقلتَيَّ عَقيقُ وقوله: وقفنا وقد غاب المُراقبُ وقفةً ... أمِنّا بها أن يفتِك السُّخطُ بالرِّضا على خلوةٍ لم يجرِ فيها تنَغُّصٌ ... بها عاد وجهُ الليل عنديَ أبيضا تعيد حديثاً لا يُمَلُّ كأنّه ... حياةٌ أُعيدتْ في امرئٍ بعد ما قضى مولده سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة. ولده أبو عديّ النعمان بن وادع معروف بالشعر. أنشدني له القاضي أبو اليسر يرثي أباه وادعاً وجماعة من بني سليمان: سقى اللهُ قبراً بالمعرّةِ مُفْرَداً ... سَحاباً من الغُفران ليس بمُقلِعِ ثوى من بلادِ الله في خير بُقعةٍ ... وأُودِعَ فيها وادِعاً خَيْرَ مُودَعِ فتىً شَغَلَتْ أخلاقُه ثم خَلْقُه ... بها عن سِواها كلَّ مرأى وَمَسْمَعِ وحَيّا قبوراً بالمُقَيْبِرة التي ... حَوَتْ من تَنوخٍ كلَّ قَرْمٍ سَمَيْدعِ وخَصَّ به الشيخ النبيه أبا العلا ... أخا العلم، تِرْب المجد، حِلْف التورُّعِ وثانيه عبد الله جدّي فقد مضى ... كريمَ المُحيّا، أَرْوَعاً وابنَ أَرْوَعِ وشخصين قد حلاّ بأعلى جرنجس ... شريفَيْن قد حلاّ بأَشرفِ مَوْضِعِ ومسجد قيسٍ لاعدته سحابة ... تُساجِلُ في تَهْتَانِها فَيْضَ أدمعي إلى أن يضاهي حَوْلَةَ المِسْكِ رادعاً ... خمائلُ رَبْعِيٍّ من الروضِ مُمْرِعِ فثَمَّ رِمامُ ابني وعمّي ومعشرٍ ... عليّ كرامٍ صُرّعوا خَيْرَ مَصْرَعِ وأنشدني الأمير مؤيد الدولة أسامة بن منقذ لأبي عديّ، وذكر أنه كان صديقه: يا أيها المُلاّك لا تر ... تجوا الأمْلاكَ وارْجُوها إلى القابلِ فالعامَ قد صحّتْ ولكنها ... للعدلِ والمُشْرِف والعامل أنشدني أبو جعفر محمد بن حواري المعري للقاضي أبي عدي النعمان بن وادع قصيدة، وذكر أنه توفي سنة نيف وخمسين وخمسمائة: أهلاً وسهلاً بالخيال الوافي ... إذ سارَ في سَدَفٍ من الأسدافِ مُتَجَلْبِباً ثَوْبَ الظلام ليختفي ... فيه، ونورُ الشمس ليس بخاف أهدَتْ بأطراف البنانِ تحيّةً ... قُرِنَتْ بأطراف القَنا الرَّعّافِ بدويّةٌ لا سترَ تَلْقَى دونها ... بَعْدَ الصوارم غير بُعْدِ فيافي أَلِفَتْ بها الظَّبياتِ حتى أنها ... كادتْ تُناجيها بعقد القاف حُبٌّ تمكن في الفؤاد فلا أرى ... حتى المَعاد لدائِه مِن شافِ ليسَ الرُّقى برُقىً لصاحبه ولا ... عَرّافُ نجدٍ فيه بالعرّافِ جاءَتْ تَلافى القلبَ منه فعَزَّها ... أن يستردّ الشيء بعد تلافِ مشياً على أقدامِها وبودّها ... لو بُدِّلَتْ بقوادمٍ وخَوافِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 كالروضةِ المِئْناف زارتْ في الكَرى ... أَهْلَ الهوى في روضةٍ مِئْنافِ جَرَّتْ على أفواف بُرْد بهارِها ... أَذْيَالَ بُرْدِ حريرها الأفوافِ فتأرّجا حتى كأنَّ قسيمةً ... مرّت بذال الروضِ للمُسْتافِ وتوفي أبو عدي بعد سنة خمسين وخمسمائة. بنو علي بن محمد بن عبد الله بن سليمان ابن أخي أبي العلاء وتولّى أيضاً بمعرة النعمان القضاء. فمنهم: أبو مرشد سليمان ابن علي بن محمد بن عبد الله بن سليمان ابن عم أبي المجد جد أبي اليسر انتقل إلى شيزر بعد أخذ الفرنج المعرة وتوفي بها. له رسائل وشعر من جملته قوله وقد لزم حرف النون في كل كلمة منه، أنشدنيه أبو اليسر لابن عم جده هذا سليمان: نَزِّهْ لسانَك عن نفاقِ مُنافقِ ... وانصحْ فإنّ الدين نصْحُ المؤمنِ وَتَجَنَّبِ المَنَّ المُنَكِّدَ للنَّدى ... وأَعِنْ بنَيْلِكَ مَن أعانكَ وامْنُنِ وتَناهَ عن غَبَنٍ وَغَبْنٍ واغْتنِمْ ... حسن الثناء من الأنام وأحْسِنِ واسْتغْنِ عمّن ضَنَّ وانْأَ بجانبٍ ... عن ناكب جانٍ خَؤونٍ مُدْهِنِ واسْتَأْنِ إنْ نَبَذَ الأناة مُعاندٌ ... ونأى بجانب شانئٍ مُتلَوّن واقْنَ القناعةَ جُنّةً مأمونةً ... تَحْصُنْكَ مانِعةً نبالَ الألسُن وأَنِلْ وأحسِنْ فالنباهةُ والثّنا ... وسَنا المناقب للمُنيل المُحْسن والمَيْنُ مَنْقَصةٌ تَشينُ وإنها ... لنتيجةُ الوَهِنِ المَهينِ الهَيِّن وانظُرْ مواطِنَ من نُسِبْتَ لنَسلِه ... من لَدْنِ نوحٍ نِظْرَة المُتَبيِّن فلعنّ نفسك أنْ تيَقَّنَ كَوْنَها ... ممّن نَأَتْهُ مَنيّةٌ عن مَوْطِن فتُنيبُ مُحسِنةَ الإنابة والثنا ... وتَجُنّ نِيّةَ ناسِكٍ مُتدَيِّن والناسُ منذ تكوّنتْ دُنياهمُ ... يَمْضُون بَيْنَ مُؤَبَّنٍ ومُؤَبِّن وكأنّ مدفوناً ينادي دافِناً ... بلسان مُنْطَلِق الإبانةِ مُعْلِن إنّ المنايا قدَّمَتْنا فانتظرْ ... نَبَأَ المَنيّةِ بعدنا وَتَيَقَّن مِحَنُ النفوسِ نصائحٌ منبوذةٌ ... ومن العناء نصيحةُ المُتحيِّن ابن أخيه أبو سهل عبد الرحمن ابن مدرك بن علي بن محمد بن عبد الله بن سليمان مولده ومنشؤه بشيزر وحماة، وتوفي في الزلزلة التي كانت بحماة سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة. ومن شعره قوله، أنشدنيه أبو اليسر: جرحتُ بلحظيَ خدّ الحبيب ... فما طالَبَ المُقلةَ الفاعِلَه ولكنه اقْتصّ من مُهجَتي ... كذاك الدِّياتُ على العاقله وقوله: رضيتُ به مولى على كُرْهِ فِعلِه ... وإن كان لا يرضى بكونيَ عَبْدَهُ وملَّكْتُه قلبي لأحفظ ودَّه ... فخان ولم يحفظ لقلبيَ عَهْدَهُ سأصبرُ حتى يحكمَ اللهُ بيننا ... ويُنجز من مستعمِل الصبر وَعْدَهُ وأنشدني له جمال الدين أبو علي بن رواحة الفقيه الشاعر: بالله يا صاحبَ الوجه الذي اجتمعتْ ... فيه المحاسنُ فاستولى على المُهَجِ كيف التخلُّصُ من جفنيْك إنهما ... حَتفٌ لكلّ خَلِيٍّ في الهوى وَشَجِ خُذني إليك فإن لم ترض بي صَلَفَاً ... فاطرُدْ بيَ العينَ عن ذا المنظرِ البَهِجِ وقوله: ولمّا سألتُ القلبَ صَبْرَاً عن الهوى ... وطالبته بالصدقِ وهو يَروغُ تيقَّنْتُ منه أنه غيرُ صابرٍ ... وأنّ سُلُوّاً عنه ليس يَسوغُ فإن قال لا أسلوه قلتُ صدقتَني ... وإن قال أسلو عنه قلت: دروغُ أخوه: أبو المعالي صاعد ابن مدرك بن علي بن محمد بن عبد الله بن سليمان مولده ومنشؤه بشيزر وحماة، وتوفي بمعرة النعمان، ومن شعره ما أنشدنيه القاضي أبو اليسر قوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 ألا أيها الوادي المَنِينيُّ هل لنا ... تلاقٍ فنشكو فيه صُنعَ التفرُّقِ أبُثُّكِ ما بي من غرامٍ ولوعةٍ ... وفرطِ جوىً يُضْني وطولِ تشوُّقِ عسى أن تَرِقّي حين مُلِّكتِ رِقَّهُ ... وتَرثي له ممّا بهَجرِك قد لقي بوَصْلٍ يُرَوِّي غُلَّةَ الوَجدِ والأسى ... ويُطْفى به حَرُّ الجوى والتحرُّقِ أبو الحسن علي ابن مَرْضِيّ بن علي بن محمد بن عبد الله بن سليمان مولده ومنشؤه بشيزر وحماة، أنشدني القاضي أبو اليسر قوله: تولّى الشبابُ وحانَ المماتُ ... وقرّبَ لي الشَّيبُ إتيانَهُ وينظر ما في الكتاب الذك ... يي من حيثُ ينظرُ عُنوانَهُ إذا مِتّ جاوَرْتُ مَن لم يزل ... يُجيرُ من النارِ جيرانه فأسألُ توفيقَه في المَعادِ ... ورحمتَه لي وغفرانَه فليس الموفَّق إلاّ الذي ... يُوفّقه اللهُ سبحانَه جماعة من أهل معرة النعمان هبة الله بن مُيسر بن مِسعر المعري كان في زمان أبي المجد، جدّ أبي اليُسر الكاتب، وهو من بني عمه. ذكر لي أبو اليسر أنه قال في جدّه وهو محبوس يستغيث به من كلمة: لِمَن طَلَلٌ بأعالي زَرودِ ... مَعاهِدُهُ ماثِلاتُ العُهودِ ومنها: أُنادي وقد أَصْمَدتْني الخُطوبُ ... أخاكم، وَمَنْ للقتيلِ الشهيدِ أبا المجدِ، والمجدُ منك اسْتمَدَّ ... عُلاً ونُهىً ضافياتِ البُرودِ فيا مُنتهى غاية المستغيث ... ويا مَفْزَع المُستَجيرِ الطَّريدِ دعوتُك لمّا بَراني البِلى ... وأَثْقَل رِجْلَيَّ حَمْلُ الحديدِ وما أرتجي في سِواكَ الصلاحَ ... لحالي ولا عنك لي من مَحيدِ أحمد بن علي بن عبد اللطيف المعروف ب ابن زريق أنشدني تقي الدين أبو اليسر الكاتب لأحمد بن زريق يرثي عمه شكر بن أبي المجد وكانت وفاته في سنة تسعين وأربعمائة: ما لِذا الدهر صَرْفُه لا يغِبُّ ... كلَّ يومٍ يروعُنا منه خَطْبُ نَكْبَةٌ ثم نكبةٌ ثم أُخرى ... قَدْكَ رفقاً جُرحٌ وَكَلْمٌ وَنَدْبُ أَأَبا طاهرٍ نَعِيُّكَ أذكى ... لهباً في جوانحي ليس يَخْبُو أنت من أُسرةٍ لهم قصبُ ال ... سَّبْقِ إلى الفضل، والكواكب صَحْبُ أَأَبا المجدِ إنَّ نَهْيَك عمّا ... أنا منه على الغرام مُلِبُّ لعجيبٌ مني سوى أن عليا ... كَ إلى حُسْن مَرْجِع الصبر تَصْبُو مَسْلَكٌ نَهْجُه على الناس وَعْرٌ ... هو، إلاّ عليكَ وَحْدَكَ، صَعْبُ ابن الدُّوَيدة هو أبو الحسن عليّ بن أحمد بن محمد بن الدويدة. شعراء بني الدويدة فيهم كثرة، قد أورد منهم الباخَرْزي في دُمية القصر جماعة، فمن جملتهم أحمد أبو هذا، ومنهم محمد جده كان في زمان أبي العلاء. وهذا علي هو أقربهم عصرا، فقد أنشدني القاضي أبو اليسر الكاتب له من قصيدة يرثي عم أبيه أبا مسلم وادعاً: يَدَ البين واصلَكِ القاطِعُ ... وعاجلَكِ الأجلُ الرائعُ ومنها: أبت ما يحطّ العلى منك ما ... أباه أبو مسلمٍ وادعُ فتىً تجتليه لِحاظُ الرجاء ... كما يُجْتَلى القمرُ الطالِعُ وله يمدح أبا المجد أخاه: يا أبا المجد يا محمدُ يا ابن ال ... مُفْضِلينَ الذين شادوا الفخارا يا شريفَ المَقال والفِعلِ أَسْعَدْ ... تَ بذَيْنِ الأسماعَ والأبصارا وحيث ذكرنا بني الدويدة فلنورِدْ من شعرهم نُبَذا، ولنور من زناد فضلهم جذا، وكانوا ثلاثة أخوة شعراء أحدهم علي، والآخر محمد، والآخر عبد الله الملقب بالقلق. ووالدهم: أبو الحسين أحمد بن محمد بن الدويدة وكان في عصر بني صالح، وهذا البيتان له، وأوردتهما في موضع آخر لغيره على حسب الراوي: كنتُ أستعمل السّواد من الأم ... شاط، والشَّعرُ في سواد الدياجي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 أتلقّى مِثْلاً بمثْلٍ، فلمّا ... صار عاجاً سرّحته بالعاجِ ومن شعر ولده: أبي البركات محمد من قصيدة يرثي بها أبا العلاء المعري: الآن غاض المجدُ فِضْ يا مَدْمَعُ ... كان الذي كُنّا نخاف ونجزَعُ كَسَفَ الحِمامُ بأحمدٍ شمساً لنا ... في الخافقيْن منَ المعرّة تَطْلُعُ ومن شعره ولده: أبي سالم عبد الله المعروف بالقاق الأبيات التي قالها في ابن صالح حيث أعطى ابن حيّوس وحرم الشعراء وهي سائرة في الآفاق: على بابِكَ المَيمونِ مِنّا عِصابَةٌ ... مفاليسُ فانظر في أمورِ المفاليسِ وقد قنعتْ منّا العصابةُ كلُّها ... بعُشْر الذي أعطيتَه لابْن حيّوس وما بيننا هذا التفاوتُ كلُّه ... ولكن سعيدٌ لا يُقاس بمنحوس ومن شعر الخليعة: والدتهم في والدهم أحمد: قم يا عليلاً عليه قلبي ... من كلّ ما راعه مَرُوعُ قم لستُ أخشى عليك شيئاً ... الدِّرهمُ الزَّيْفُ ما يَضيعُ الناظر وأنشدني الأمير مؤيد الدولة أسامة بن منقذ للناظر المعري أبياتاً كتبها إلى جده: حاشاك يا ابن أبي المتوّ ... ج أن تَهُمَّ بقَطْعِ رَسْمي أهلُ المعرّة من عرفْ ... تُ ومن قتلتُهم بعِلمي وأخاف أن يَرْمِي سِوا ... يَ بسَهمِه ويُقال سَهْمِي قال: فأضعف رسمه. عبد الكريم بن عبد المحسن أنشدني له أبو اليسر في مدح عمّ أبيه أبي مسلم: يا وادعُ اسْلَمْ في السرو ... ر مهنَّئاً أبداً بنجلكْ ما في القُضاة كمثلِ عب ... دِ الواحد الزاكي ومثلك سعيد بن عبد المحسن أنشدني أبو اليسر له من قصيدة في مدح جده القاضي أبي المجد: لم تُنْصِفي أَسْرَفْتِ في إيعاده ... وَوَعَدتِهِ فَغَدَرْتِ في ميعادِهِ واصلتِ بين غرامهِ ودمائه ... وقطعتِ بين جفونه ورُقاده ومنها: ما زالَ رَيْبُ الدهر يكسِر جانبي ... حتى لَجَأْتُ إلى ظلال جوادِه بذُرى أبي المجد الذي من حِلمهِ ... عفَّى الرواسي الشُّمَّ في أطواده سُبحانَ مازِجِ خلقه وخِلالِه ... بسَماحِهِ ووفائه وسَدادِه بنو أبي حصين من معرة النعمان ويجتمعون مع بني سليمان في داود بن المطهَّر. فمنهم الكبير السيد والشاعر المجوّد: القاضي أبو يعلى عبد الباقي بن أبي حصين وهو أبو يعلى بن عبد الله بن المحسِّن بن عبد الله بن محمد بن عمرو بن سعيد بن محمد بن داود بن المطهِّر بن ربيعة بن زياد بن ربيعة بن الحارث بن ربيعة بن أنور بن أرقم بن أسحم بن الساطع، وهو النعمان بن عدي، بن عبد غطفان بن عمرو بن بَريح بن جَذيمة بن تيم اللات، وهو مُجتمَع تَنوخ، ابن أسد بن وَبْرة بن تغلِب بن حُلوان بن عمران بن الحاف بن قُضاعة بن مالك بن حمير، وقال ابن الكلبي مالك بن عمرو بن مُرّة بن زيد بن مالك بن حِمير بن سبأ بن يَشجُب بن يعرب بن قحطان بن عابَر، وهو هود عليه السلام، بن أَرْفَخْشَذ بن سام بن نوح بن لمك بن مَتُّوشَلَخ بن أخنوخ، وهو إدريس عليه السلام، بن يارد بن مَهْلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام. حسن السبك، متَّسِق السِّلك، متفنّن في ضروب الشعر ومعرفة صناعته، يكاد يقطر ماء اللطافة من شعره، قضيتُ له بالتقدّم على بيته، في حسن مَقْصِده في قصيدته وجودة بيته. له من قصيدة: بانوا فَجَفْنُ المُسْتهام قَريحُ ... يُخفي الصبابةَ مَرّةً ويبوحُ مِن طَرْفِه وَصَلَتْ جراحةُ قَلْبِه ... وإليه فاض نجيعُها المَسفوحُ ومنها، وأحسن: لم يُبْقِ بُعدُهمُ له من جسمه ... شيئاً فواعَجباه أين الرُّوحُ ومنها في الاعتذار عن ترك التصرف: يا مَن رَقَدْتُ وباتَ ليس براقدٍ ... عما يُزيلُ مكارهي ويُريحُ لا تطلُبَنَّ ليَ التَّصَرف إنني ... لعسى، وفي تصريفها تقبيحُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 وقد استعنتُ على الحياة بأنني ... تغدو عليَّ قناعةٌ وتروحُ والعمر قد ذهب البقاء بشَرْخِهِ ... عني، وأخلس عارضٌ ومَسيحُ فإذا كنى رجلٌ طلاقَ معيشةٍ ... يوماً، فتسريحي لها تصريحُ لم يُدْنني طمعٌ إلا طَبَعٍ ولا ... شِعري لجائزة عليه مديحُ أغلقتُ باب الحِرص خَشيةَ وَقفةٍ ... بفِناء مَن ما بابه مفتوحُ وعفوتُ عن جُرم الزمانِ ولم أُرِدْ ... منه القِصاص وفيّ منه جروحُ وله من قصيدة أولها: أبدى الفِراقُ كواكبَ الأغلاسِ ... فانقادَ صَعْبُ مُناك بعد شِماسِ جعلوا الوداعَ لنا مَواعِدَ نلتقي ... فيها، فكان رجاؤُنا في الياسِ ولَرُبَّ نَاْيٍ كان فيه من الضَّنا ... شافٍ، ومن كَلْمِ الصّبابةِ آسِ ومنها في صفة القلم: لا يبلغُ الشرفَ اليراعُ وإنما ... خَيْرُ الرِّياسة ما أتى برئاسِ بمُهنّدٍ في جسمه من جَوْهَرٍ ... ما في الفتى من جوهرٍ حسّاس وأَصمَّ رَعّاف وليس بذي دمٍ ... فتراه يَرْعَفُ من دماء الناس أَظْمَى، كَصِلِّ الرمل، يُؤمَنُ مَتْنُه ... والحَتفُ راسٍ في شَباةِ الراس كلاّ مَنارُ العلم أرفعُ والعُلى ... مقرونةٌ منه إلى أمراس فُرسانُه فوق الدُّسوتِ وما همُ ... كمُلازمي سَرَواتِها الأحْلاسِ إن طاعنوا فبألسُنٍ، أو ناضلوا ... أغنى قياسهمُ عن الأقواس أفراسُهم قَصَبٌ، لها قصبُ المدى ... فضلاً إذا مَزَعَتْ مع الفرّاس رُقْشٌ يذوبُ لُعابُها، أفواهُها ... لا ذاتُ أنيابٍ ولا أضراس مَبئرِيّةٌ فإذا تبارَتْ قَطَّرَتْ ... عَرَقَاً من الأنقاسِ في الأطراس تجري إذا هي بالشباب تلفّعت ... ونقوم إن بلغت إلى الأحلاس أكياس مالهمُ القلوب، وهكذا ... خُلقُ السَّراةِ وشيمة الأكياس وبحارهُمْ كُتب العلوم فكلما ... قرأوا أصابوا الدُّرَّ في قرطاس وهي الحُلِيّ لهم ولكن ربّما ... فُقِدَتْ فأعطتهم من الوسواس وله: ولما التقينا للوداع، وقلبُها ... وقلبي يفيضان الصَّبابةَ والوَجْدا بكتْ لؤلؤاً رَطْبَاً ففاضَتْ مَدامعي ... عَقيقاً، فصار الكلُّ في نَحْرِها عِقْدا وله من قصيدة في ولد له مات فرآه في النوم: أهلاً بطيف خيالِكَ المُعتادِ ... شَقَّ الترابَ إليَّ شِقُّ فؤادي أهدى الثرى لي في الكرى شخصاً له ... أهديتُه حَمْلاً على الأعوادِ شتّانَ بين الحالتين قَبَرْتُه ... في يقظتي، ونشرتُه برُقادي ومصائبُ الآباء بالآحادِ إن ... يوجدْ لها جَلَدٌ ففي الآحادِ أنشدني القاضي الصفيّ أبو غانم بن حُصَيْن قال: أنشدني والدي أبو البيان محمد قال: أنشدني عمّي أبو يعلى في الزلّي والمنشفة الرومي عند دخول الحمام: وروميٍّ خلعتُ عليه يوماً ... ثيابيَ كلَّها مع طيلساني فلا بالمنطق الروميّ أثنى ... عليّ وقال هذا قد كساني ولا قال اشكروا عني فلاناً ... فإني لا يُطاوعني لساني فعُدت لأخذها فتشبّثتْ بي ... له أختٌ من البيض الحسانِ وأنشدني بالإسناد له في الوسخ والمُدَلِّك مُلغِزاً: رُبَّ قميصٍ مكَّنْتُ منه فتىً ... مَزَّقه فاستبانَ للعَينِ وكان يَخْفَى عنها فأظهره ... وحاكه كلّه طِرازَيْنِ هذا معناه أن المُدلِّك في الحمّام يجمع الوسخ كله على العضدَيْن كأنه طِرازيْن. أخوه أبو سعد عبد الغالب بن أبي حُصَيْن عبد الله ذو سعد، وجد له طالب، ذكره السمعاني في تاريخه وذكر أنه أنشده له ابن أخيه أبي البيان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 قَلبٌ وقُلْبٌ في يَدَ ... يْكَ مُعَذَّبٌ ومُنَعَّمُ ظمآنُ يطلب قطرةً ... تَشْفِي صَداهُ ومُفْعَمُ هذان البيتان كنت استلمحتهما من بعض الكتب فاستملحتهما، فإنهما جمعا التجنيس والتطبيق والموازنة ولزوم ما لا يلزم واللطافة والرقّة والمعنى واللفظ ولم أعرف قائلهما إلى أن طالعت المذيّل فشعرت بالشاعر، وعرفت عرف عُرفه العاطر، وسجّلت له بخطر الفكر والخاطر. ونسب أيضاً إلى عبد الغالب هذين البيتين: رأيتُ مِرْآتها تُقابلها ... فقلتُ والقلبُ في تلهُّبِهِ كأنّما الشمسُ عند مَشْرِقها ... قابلها البدرُ عند مَغْرِبه لقد أبدع في تشبيه المرأة والمرآة المتقابليْن بالقمرين إذا تقابلا في المَطلع والمغيب، محاكمييْن للمحب والحبيب. وله: جَسَّ الطبيبُ يدي وقال بنَبضِه ... معنىً يدلُّ على دَمٍ فَلْيُفْصَدِ فأجبتُه يكفيك ما أبصرتَه ... متحدِّراً من دمعيَ المُتوَرِّدِ فأشار بالعُنّابِ فاهتاجَ الهوى ... إذ كان مِن شكوايَ عُنّابُ اليدِ وأتى بوَرْدٍ في الصفات فزادني ... قلقاً على قلقي وبان تجَلُّدي وأَمَرُّ ما قاسيتُه ولَقيتُه ... حُجَجٌ أُلَفِّقُها، حَياءَ العُوَّدِ وأنشدني أبو اليسر الكاتب له يرثي بعض بني سليمان: لم يَكْفِ قلبي ما به من وَجْدِه ... وخروجه بعذابه عن حَدِّهِ ومنها: يا والد المدفون بين ضُلوعنا ... فَوِّضْ إلى مُعْطِيكه في فَقْدِهِ أخوه القاضي أبو غانم عبد الرزاق بن أبي حُصَيْن أنشدني ابن أبي البيان ابنه، القاضي أبو غانم بالشام سنة سبعين وخمسمائة، قال أنشدني جدي أبو غانم بالشام لنفسه يصف الفُقّاع: ومحبوسٍ بلا جُرْمٍ جَناهُ ... له حَبسٌ ببابٍ من رَصاصِ يُضَيَّقُ بابه خوفاً عليه ... ويُوثَقُ بعد ذلك بالعِفاصِ إذا أطلقته خرج ارتقاصاً ... وقبَّلَ فاكَ من فرح الخَلاصِ هذه الأبيات الحسنة، صقلتها الألسنة، وهي عروس في كنّها، خَندريس في دنّها، مطبوعة في فنّها، يُعدّ هذا الأسلوب من النظم مُعمّى، ويدل على أن لقائله فضلاً جمّا. وأنشدني القاضي أبو غانم قال أنشدني جدي أبو غانم لنفسه في حجر الرِّجْل مُعَمّى: وعجيبةٍ أبصرتها فَخَبّأتُها ... لُغزاً لكلِّ مُساجلٍ ومُناضلِ ما يستقرّ بكفّ ألكنَ ناقصٍ ... حتى يُجَرَّ برِجْل أَرْوَعَ فاضِلِ وقد أوردهما السمعاني في تاريخه منسوبين إلى أبي حصين والد أبي غانم. أبو حصين عبد الله له شعر، ونسب إليه السمعاني البيتين في حجر الرجل. وأنشدني له القاضي أبو اليسر وذكر أنه يرثي والده وقد مات في الحج: دمٌ فوق صدري وَكَفْ ... من الجفن لمّا ذَرَفْ ومنها: لفقدان من لا أرى ... يدَ الدهرِ منه خَلَفْ ومنها: لميتٍ غدا ثاوياً ... بطَيْبَةَ بين السلَفْ أبو القاسم المحسن والد أبي حصين ذكره السمعاني في تاريخه، المؤلف بين مُشتريه ومِرِّيخه؛ وكتابه، الدَّالّ على وفور آدابه، فذكر أنه أنشده أبو البيان محمد بن أبي غانم عبد الرزاق، قال أنشدني أبي لجدّه: وكلٌّ أُداويه على حسْب دائه ... سِوى حاسدي فهي التي لا أنالُها وكيف يداوي المرءُ حاسدَ نعمةٍ ... إذا كان لا يُرضيه إلاّ زوالُها قال وأنشدّنا أبو البيان قال أنشدني أبي لجدّه وذكر أنه أنشده لنفسه: إذا ما رأيت امرأً كاسباً ... يخاف العواقبَ في كسبه يريد الغنى ويخاف الرَّدى ... فذرْهُ ولا تَكُ من حِزبِه فما يدركُ المرءُ أُمنيَّةً ... وخوفُ المنيَّة في قلبه أبو البيان محمد بن أبي غانم بن أبي حصين كان قاضي حمص، وذكر لي القاضي أبو اليسر أن له ديواناً وشعراً حسناً، وقد ذكره السمعاني في تاريخه ولقيَه وروى عنه. أبو الرِّضا عبد الواحد بن الفرج بن النوت المعري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 كان في زمن بني كلاب، وسمعت أنه توفي في سنة ثمانين وأربعمائة، وكان مغفّلاً، ولكنه كان ببديهته على الأدباء مفضَّلاً، ومن جملة بديهته أنَّ مُعزّ الدولة الكِلابي صاحب حلب عبر في جيشه بالمعرَّة، وابن النوت واقفٌ في حقلٍ له فخاف على زرعه فتلقّاه ووقف في طريقه وأنشده: الشمسُ تشرقُ من خلال الموكب ... أم بدرُ تِمٍّ طالعٌ في غَيْهَبِ هذا مُعزُّ الدولة الملكُ الذي ... عُقِدَ اللواءُ له بأعلى كوكب في البحر أعهَدُ مَركباً من تحتنا ... وأراه بحراً فوق هذا المركب فقال له مُعزّ الدولة: تمنَّ، فقال: أتمنّى أن لا يجول عسكرك في زرعي، فحماه له. وجلس معز الدولة على قُوَيق، زمان المدِّ وخيَّمَ به وذكرَ ابنَ النوتِ وبديهته فنفّذ في طلبه فأُحضر على البريد فلما رآه على شاطئ النهر قال بديهاً: رأيتُ قُوَيقاً إذ تجاوزَ حدَّه ... له زجلٌ في جريه وضجيجُ وكان ثمال جالساً بشَفيرِه ... فشبَّهتُه بحراً لديه خليجُ فقال له معزّ الدولة: قد زعم الشعراء الحلبيون أنَّ هذا ليس بشعرك، وكان فيهم ابن سِنان الخفاجيّ، فإن قلت بديهة أعطيتُكَ جائزتهم كلّهم، ثم نظر إلى غرابين على نشَزٍ فقال: قل فيهما: فقال: يا غرابين أنتما سببُ البيْ ... نِ فكيف اجتمعتما في مكان إنَّما قد وقفتما في خُلُوٍّ ... لفراق الأحباب تشْتَوِران فاحذرا أن تُفرِّقا بين إلفَيْ ... نِ فما تدريان ما تلقيان وقال وقد عبر على دارٍ قديمة تُنقَض وأحجارُها تُقلع والمعاول فيها تعمل: عبرْتُ برِيعٍ من سِياث فراعني ... به زجل الأحجار تحت المعاولِ تناولَها عَبلُ الذِّراعِ كأنَّما ... رمى الدَّهرُ فيما بينها حربَ وائل فقلت له: شُلَّتْ يمينُكَ، خَلِّها ... لمُعتبِرٍ أو زاهدٍ أو مسائل منازلُ قومٍ حدَّثتنا حديثَهم ... ولم أَرَ أحلى من حديث المنازل وقال أبو الرضا ابن النوت: نَسري فيبدو من نعال جِيادِنا ... قبَسٌ يضيءُ الليلَ وهو بهيمُ فكأنَّ مُبيَضَّ النعال أَهِلَّةٌ ... وكأنَّ مُحمرَّ الشرار رُجومُ وكتب إليَّ القاضي أبو اليسر الكاتب من شعر ابن النوت قصيدة في مرثية أبي العلاء المعرِّيّ منها: سُمْرُ الرِّماحِ وبِيضُ الهندِ تَشْتَوِرُ ... في أخذ ثأرِكَ والأقدارُ تعتذرُ والدَّهرُ فاقدُ أهل العلم قاطبةً ... فإنهم بك في ذا القبر قد قُبِروا فهل ترى بك دار العلم عالمَةً ... أنْ قد تزعزعَ منها الحِجرُ والحَجَرُ العلم بعدكَ غِمْدٌ فات مُنْصلُه ... والفهمُ بعدك قوسٌ ما لها وتَرُ أبو العلاء بن أبي النَّدى بن عمرو المعرّيّ وقيل ابن جعفر اشتغل صغيراً بالفقه، وكان في الذكاء عديم الشبه، وهو في المدرسة الحنفية النوريّة بحلب عند العلاء الغزنوي، سمْح البديهة والروِيَّة، صحيح الرَّويّ، شاعر فقيه مجيد، وحيد فريد، غدرَ به عمره، وطوي نَشْره، وغيَّضَ فيضَه قبرُه، ونضبَ عند تموُّجِ عُبابه بحرُه، وذلك في سنة نيّفٍ وخمسين وخمسمائة، وله حدود خمس وعشرين سنة، ولو عاش لكان آية، فلم يُبقِ في علم من العلوم غاية، أنشدني له أبو غانم بن عبد الواحد بن حياة المعري من قصيدة له في الأمير السيد بهاء الدين الشريف: مِنْ أينَ كانَ لكُنَّ يا حَدَقَ المَها ... علمٌ بنَفْثِ السِّحْرِ في عُقَدِ النُّهى أمْ مَنْ أعارَ البانَ في مُهَجِ الورى ... فتكاً فأصبح بالقَنا مُتَشَبِّها من كلِّ مَيّادِ القوامِ مُنَعَّمٍ ... يختالُ في سُكْرِ الشَّباب ويُزْدَهَى واهي الجُفون فلو تكفَّلَ جَفنُهُ ... فِعلَ الصَّوارمِ لاستقلَّ وما وهى يبدو بوجه كلَّما قابلتَهُ ... أهدى إليك من المحاسن أوجُها كالفضَّةِ البيضاءِ إلاّ أنَّهُ يلقاكَ من ذهَب الحياءِ مموَّها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 فله على القمر المنير فضيلةٌ ... كفضيلة القمر المنير على السُّها جَمُّ البهاء كأنَّما جُمِعَت له ... تلك الصفاتُ الغُرُّ من شِيَمِ البها البدرُ يَقصُرُ أنْ أُقايسَه به ... والشمسُ تَصغُرُ أن أشبِّهَه بها وظلمت شامِخَ مجده إنْ جئته ... عند المديح ممثِّلاً ومُشَبِّها ومنها: أنتم، بني الزَّهراءِ، أهلُ الحُجَّة الزَّهْ ... راءِ إنْ فطنَ المُجاورُ أوْ سَها فإلامَ يُجحَدُ في البريَّةِ حَقُّكُمْ ... قد آنَ للوَسنانِ أنْ يتنبَّها صُنتُم ببذل عُروضِكُم أعراضَكُم ... وصيانة الأعراض في بذل اللُّها ماذا أقولُ وما لِوصفِ عُلاكُمُ ... حَدٌّ ولا لِنُهاكُمُ مِنْ مُنتهى منكم سَنا الشَّرف المُبينُ جميعُه ... وإلى بهاء الدينِ بعدَكُمُ انتهى وأنشدني له سعيد بن عبد الواحد بن حياة: لا غَرْوَ إنْ كان مَنْ دوني يفوزُ بكم ... وأنثني عنكُمُ بالويلِ والحَرَبِ يُدنى الأراكُ فيُمسي وهو مُلتثِمٌ ... ثغرَ الفتاةِ ويُلقى العودُ باللَّهَب وأنشدني له في المِروحة: وقابضةٍ بعِنان النسيم ... تصرِّفُه كيف شاءت هُبوبا فمن حيث شاءت أهَبَّتْ صباً ... ومن حيث شاءت أهبَّت جَنوبا تُضَمَّخُ بالطيبِ أردانُها ... فتُهدي لمُلبسها الطّيبَ طِيبا إذا أقبل القَرُّ كانت عدوّاً ... وإن أقبل القيظُ صارت حبيبا وقوله أيضاً في وصف غلام ينظر في مرآة: روحي الفداءُ لساجي الطرف ساحرِه ... تَحار في وصفه الألبابُ والفِكَرُ يُرَنِّحُ التّيهُ قدّاً منه مُعتَدِلاً ... كالغُصنِ ما شانه طولٌ ولا قِصَرُ بدا لنا فازدهانا حسْنُ صورته ... حتى امترَيْنا لها في أنه بشَرُ وقابلَتْ وجهَهُ مِرآتُه فبدَتْ ... كأنَّها هالةٌ في وسْطِها قمر وقوله: وإنّي وإنْ وطَّنْتُ نفسي على النَّوى ... وكانت بأذيال المُنى تتعلَّقُ لَتَعتادُني من ذِكْرِ ليلى وساوِسٌ ... تكاد لها نفسي على النأي تزْهَقُ أُظَنُّ لإظهار التَّجَلُّدِ سالياً ... وفي كبدي نارٌ من الحبِّ تحرُقُ أَساكِنَةَ الزَّوراءِ رِفقاً بهائمٍ ... شآمٍ، له قلبٌ مع الحبِّ مُعرِقُ حشاه على بُعدِ المَزار مُدَلَّهٌ ... خَفوقٌ، ومَسعاهُ لقربِكَ مُخفِقُ خُذي قلبَهُ رَهناً ورُدِّي له الكَرى ... لعلَّ خيالاً منكَ في النوم يَطرُقُ فواعجبا للطّيفِ ليس بواصلٍ ... إلى الجَفْنِ إلاّ وهو وَسْنان مُطبَق يَصدُّ إذا الأبواب تُفتَحُ دونَهُ ... ويَقرُبُ منها شخصُه حين تُغلَق وما ذاك دأبُ الزّائرينَ وإنّما ... زيارتُه للصّبِّ فَقْدٌ مُنَمَّق القائد أبو المجد محمد بن سعيد أصله من المعرَّة يُعرف بابن حُرَيْبَة، له رياسَة وكياسة، يتولّى الدواوين، ويتصرّف للسلاطين، وله رأيٌ مصيب، وخاطر في النّظم مجيب. ممّا أنشدني لنفسه: وروضٍ أنيق من شقيقٍ كأنّه ... خُدودُ العَذارى يَنتَقِطْنَ بإثْمِدِ يُضاحِكُ من نَورِ الأقاحي أهلَّةً ... من التِّبْر في هالاتِ دُرٍّ مُنَضَّدِ وأنشدني له من قصيدة طويلة في صلاح الدين عند نصره على المَواصلة: وكان قد عَمَّهُمْ عَفواً لو اعترفوا ... لعمَّهم فضلُه لكنَّهم جحدوا والعفو عندَ لئيمِ الطَّبْعِ مَفسَدَةٌ ... تَطْغى، ولكنَّه عند الكريم يَدُ ولمّا وصلنا إلى حمص متوجِّهين في خدمة الملك الناصر إلى حرب الحلبيين والمَواصِلة في شهر رمضان سنة إحدى وسبعين تلقّانا القائد أبو المجد فأنشد الملكَ الناصِرَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 إذا خفقت بنودُكَ في مَقامٍ ... رأيتَ الأرضَ خاشعةً تَميدُ وإنْ طرَقَتْ جِيادُكَ دارَ قومٍ ... فشُمُّ الشامخات لها وُهود وإنْ برَقَتْ سيوفُكَ في عدوٍّ ... فما من قائمٍ إلاّ حصيدُ وأنشد أيضاً: سيوفُكَ، أعناقَ العُداة تُميلُ ... وخوفُكَ آفاق البلاد يَجولُ وكفُّك فوقَ النيل نَيلاً لأنَّه ... إذا سال ماءً فالنُّضارُ تُسيلُ وكلُّ كثيرٍ من عدوٍّ ونائل ... إذا صُلْتَ فيه أو وصلْتَ قليلُ أبو الحسن علي بن إبراهيم بن علي المعروف ب ابن العلاّني المعرّيّ من الشعراء المذكورين. ومضى إلى مصر ومدح الفضل، قرأت بخط الكاتب ابن النقّار الدِّمشقيّ أنه كان فخر الملك ابنُ عمّار صاحب طرابلس اقترح على الشعراء أن يعملوا على وزن قصيدة ابن هانئ المغربي: فُتِقَتْ لكُم ريحُ الجِلادِ بعَنبَر فسبقهم أبو الحسن عليّ المعروف بابن العلاّني المعرّي وعمِل ما أعجبه وأجازه عليه واستغنى به عنهم، وهو: هل بارعُ الشُّعراء غيرُ مقصِّرِ ... عن بارعٍ مِنْ مجدِكَ المُتخّيَّرِ أم كنهُه ما ليس يدركه بذا ... قول كمَنسوق الجُمان مُحبَّر فعلى البليغ الجهدُ منه فإن يجِدْ ... يُحمَد، وإن يكُ مُقصراً فليُعذَرِ يا ناصر الدين الذي لو لم تَطُلْ ... منه مُقارَعة العِدى لم يُنصر لِيطُلْ بقاؤك للمكارم والعُلى ... فربوعُهُنَّ معالمٌ لم تَدْثُرِ ولْتَرْعَ عينُ الله منكَ حُلاحِلاً ... سبق الورى سبق الجواد المُحضِر يحتاطُك التوفيقُ، لا يألوكَ في ... تسهيله لكَ كلَّ صعبٍ أوعَرِ وإذا دجَتْ ظُلَمُ الأُمور فلا تزَلْ ... سبّاقَها بسراجِ رأيٍ أَنوَرِ للَّه همَّتُكَ الخطيرةُ إنَّها ... خُلقَتْ لِصَبٍّ بالعلى مُستهتَرِ لِمؤَرَّقٍ في المجد مَضّاءٍ على ال ... أَهوال ثَبْتٍ ما يُراعُ بمُسهِر والمجدُ صعبُ المُرتَقى إلاّ على ... يقظان في ذات الإلهِ مُشَمِّرِ واري زِناد الفكر، وقّاعٍ بما ... يُبدي العِيانُ، على الخفيّ المُضمَر شِيَمٌ نِظامُ المُلكِ مَخصوصٌ بها ... دلَّتْ على ملِكٍ كريم العنصُر إنَّ العُلى ما بينَ كَفٍّ بَرَّةٍ ... منه ووَجهٍ بالطّلاقَةِ مُسفِرِ عَلياؤُهُ ما يُستطاعُ مرامُها ... فلنُقللِ الحُسّادُ أَو فلتكْثِر سيفَ الخِلافة لا تزَلْ عضْبَ الشَّبا ... تَفري بحدَّيك الخطوبَ فتنفري لو بان شخصُ المجد لمْ يَكُ في الورى ... إلاّك منه عليه عَقْدُ الخِنصَرِ خُلُقٌ أبى إلاّ السماحَ سجيَّةً ... تتغيَّر الدُّنيا ولم يتغيَّر ولقد سمعت وما سمعت بجائد ... في عسرةٍ يُعطي عطاء الموسِر ما روضةٌ غنّاءُ أَشراطيَّةٌ ... أُنُفٌ يَنِمُّ بها نسيم العَبْهَر ولِيَ الحَيا تدبيجَها فكأنَّه ... واشي رُقومٍ أو مقوِّمُ أسطُر يختال جوُّ تِلاعِها ووِهادِها ... في وارفٍ واصي النَّبات مُنوِّر غَبَقَتْه سارية الغمائم واجتلى ... بالنَّوْر من صَوغِ الرَّبيع المُبكِر مَعَجَتْ صَبا نجدٍ بها وكأنّما ... فضَّتْ خِتامَ التُبَّتِيِّ الأذْفَر عبقاتِ نَوْرٍ لم تخل أنفاسه ... إلاّ بداهةَ نكهَةٍ من عنبَر كصفات فخر الملكِ في إنشائها ... زهرَ الثناءِ بوَبْلِها المُستَمطِر أّعَذولَ هذا البحر في بذل الندى ... ما العذل إلاّ ضائعٌ في الأبحر لَفِّقْ مَلامَكَ أو فذَره فلم تكن ... لِتَسُدَّ أُسْكوبَ الغمام المغزِر أَلِفَ الجيادَ فما تزالُ جيادُه ... تردي إليه بكلِّ ذِمْرٍ مُعْوِر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 تُدحى بأيدي الخيل هاماتُ العِدى ... فكأنَّهُنَّ لواعبٌ بالمَيسر في كلِّ يومٍ يسترون عَجاجةً ... قصُرَتْ لِحاظُ الطَّير دون المنْسر قد عُوِّدَتْ رِيَّ الأسنَّةِ، كلّما ... شكَتِ الغليل، من النجيع المُهْدَر صارت مشارعُها مُتونَ سلاهِبٍ ... لُحْقِ الأياطِل كالسَّعالى، ضُمَّر من كلِّ يَعبوبٍ سما بتليله ... عنُق كجِذْعٍِ من أراكٍ مُوبَر مُستلحِقٍ أولى الطرائد، صارعٍ ... للقِرْنِ في قتَم الغُبار الأكدَر يُنثالُ في طلب العدوِّ كما أتى ... سنَدٌ بمَهوى سيلِه المُتحدِّر وصوارمٍ بُتْر المضارب لم تقع ... إلاّ على تَرِب الجبين مُعَفَّر من كلِّ أبيضَ ناطِقٍ في هامةٍ ... تحكي خطيباً فوق صهوة مِنبَر يكسو أديم الأرضِ صِبغةَ عَنْدَمٍ ... لم تبدُ إلاّ عن دمٍ مُثْعَنْجِر يبري أَكُفّاً ثمَّ يُتبِعُ أَذْرُعاً ... تحكي أنابيبَ القنا المُتكَسِّر أَيَظُنُّ جندُ الشِّركِ عزمَكَ مُغفِلاً ... حَزَّ الطُّلى منهم وقطعَ الأبهَر لَتساوِرَنهمُ بها مَلمومةٌ ... بالأُسْدِ تذأَى في قناً وسَنَوَّر فلَتَنْسِفَنَّهُمُ سطاك بعاصفٍ ... يجتثُّ أصل المشركينَ بصَرصَر وليجِلُبَنَّ ذوي القِسيِّ أَعدّها ... للشِّرك كلُّ مُباسلٍ مُتنَمِّر يقذفن في مُهَج الطُّغاة طوائراً ... بمثال أجنحة الجراد الطُّيَّر حتى تغيبَ حجولُ خيلك في الوغى ... ممّا تخوض من النَّجيع الأحمر تدبيرُ مُعتزمٍ طلوبٍ ثأرَه ... بسيوفه طلبَ الهِزَبْر القَسْوَر يا مُنفِد الأموال لا مُستبقياً ... لسوى مساعٍ كالنُّجوم النُّيَّر عجباً لكفِّك كيف لا يخضرُّ ما ... تحوي عليه من الأصمِّ الأسمر كشفتْ تجاربُكَ الزَّمانَ فعلَّمتْ ... أهلَ التجارب كيفَ حَلْبُ الأشْطُر ودّعت شهراً أنت في هذا الورى ... بعُلُوِّ قدرِكَ مثلُه في الأشهر تقضي فروضَ الصّوم أكرمَ صائمٍ ... وأهلَّ عيد الفطر أكرمَ مُفطِر لا تعدَمُ الأعيادُ إن ألبسْتَها ... ببقائك الممدود أحسن منظر فإذا سلمتَ فكلُّ عيدٍ عندنا ... مُوفٍ على عيدٍ أغَرَّ مُشهَّر دامت لكَ النَّعماءُ موصولٌ بها ... توفيقُ منصور اللّواء مُظفَّر وأنشدني الأديب أبو محمد بن عتيق المصري الشاعر قدم من اليمن العراق وأقام بها، قال أنشدني ابن العلاّني: وذي هَيَفٍ راقَ العيونَ انثناؤه ... بقدٍّ كرَيّانٍ من البانِ مُورِقِ كتبتُ إليه هل: تروم زيارتي ... فوقّع: لا، خوفَ الرّقيب المُصَدَّق فأيقنت من لا بالعناق تفاؤلاً ... كما اعتنقتْ لا ثم لم تتفرّق من قصيدة لأبي الحسن علي بن العلاّني يمدح بها الأفضل ابن أمير الجيوش أوَّلها: سل الربع عن أحبابنا أين يمَّموا ... لئن ظعنوا عته فبالقلب خيَّموا من مديحها: لِيَزْدَدْ عُلُوّاً مُلْكُ مِصرَ فإنّها ... به حَرَمُ الله العزيز المُحرَّمُ فمكَّةُ مصرٌ، والحجيج وفودُه ... ويمناه ركنُ البيت، والنيل زمزم صفاتك ملُْ الخافقين فمُنْجِدٌ ... يسير بها في كلِّ فَجٍّ ومُتهِمِ وشاكرُ ما تولي مُقِرٌّ بعَجزه ... ولو أنَّه في كلِّ عضوٍ له فم وله: عَجِبَتْ لِوَخْطِ الشَّيبِ عاذلَةٌ رأتْ ... شِعراً تلفَّعَ بالبياض سوادُه لا تعجبي ما شاب منه فَوْدُه ... إلاّ لِهَمٍّ شابَ منه فؤادُه وله: أَلَمْ تَعطِف على النَّضْو الطّريحِ ... وطولِ تأوُّهِ القلب القريح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 ولم ترحم صبابةَ ذي اشتياقٍ ... غريق الجَفنِ بالدَّمع السَّفوح ألا يا أحسنَ الثَّقلَينِ أَلاّ ... نهاكَ الحسنُ عن فعل القبيح أيا قلبي المعذَّبَ بالأماني ... أَطعني تَنْجُ باليأس المُريح ويا نظري طَمَحْتَ إلى بعيدٍ ... فما للبدر والطَّرف الطَّموح نصحتُك والهوى لكَ مُستزِلٌّ ... يُريكَ الغِشَّ في رأي النصيح وله: إلى الله أشكو حبَّ أهيفَ فاتنٍ ... وقعت فما لي من يديه خلاصُ جرحْتُ بلَحظي خدَّهُ وهو جارح ... بعينيه قلبي، والجروح قِصاص وله في الأفضل من قصيدة: زارتْ وواشيها نسيمُ المَندَلِ ... ورقيبُها في الليل وِسواس الحُلي ومنها: وسمعتُ في الدنيا بسبعة أبحُرٍ ... ورأيتُ ثامنَها يمينَ الأفضل وله من قصيدة في القاضي أبي مسلم وادع: بالجِزع من إضَمٍ رُبوعٌ مُثَّلُ ... دَرْسٌ وفيه لأُمِّ عمرو مَنزِلُ فقفوا بنا نبكِ المرابعَ باللِّوى ... فمنازلَ الأحباب كانت فانزلوا أبكي لأحبابٍ كأنِّي شاهدٌ ... نجواهُمُ، وخيالَهُم أتخيَّلُ أخوه يحيى بن إبراهيم بن علي العلاّني ومن شعره: زعمتمُ أنَّ قلبي عند غيركُمُ ... أَثِمْتُمُ وأَميرِ المؤمنين علي إنْ كنتُ أضمرتُ هَجراً أو همَمتُ به ... يوماً فلا بلَّغ الرحمن لي أملي أو دار في خلَدي يوماً، لأجلكم ... مَرُّ القطيعة وافاني به أجلي إن كان قُدَّ قميصُ الحبِّ من دُبُرٍ ... فإنَّ قلبي عليه قُدَّ من قُبُلِ بنو عبد اللطيف أهل كتابة وفضل أبو الحسين علي بن محمد بن سعيد بن عبد اللطيف شاعر فاضل من معاصري محمود بن علوي بن المهنّا، وله إليه مجيباً له عن أبيات نفَّذها إليه يستعير كتاباً وقفتُ على هذه الأحرفِ ... فألفيتها غير مستعطَفِ وما كنت ممّن يمَلُّ الصَّديق ... ولا كنت للوعد بالمُخلف وقد جدتُ بالجزء وهو الذي ... به لا يُجاد على مُعتَف ولو لم تكن ثالث الناظرين ... لما كنتَ ناظرَه فاعرِف وخَلِّ العِتابَ فإنِّي أخافُ ... تلجلُجَ من ليس بالمنصِف بنو الحوّاريّ في المعرّة أقدمهم عصرا ً العميد أبو بشر بن الحوّاريّ له وقد وقف على داره بالمعرّة بعد هجوم الفرنج: أهذه بين إنكاري وعِرفاني ... مساربُ الوحش أم داري وأوطاني جهِلْتُها ولقد أبْدَتْ ملاعبُها ... عهد الصِّبا بين إخواني وخِلاّني فعُجْتُ أَسألُها والدَّمع مُنسكبٌ ... والقلب في لوعةٍ من وَجده عان يا دارُ ما لي أرى الأيامَ قد حكمت ... فينا وفيك بحكم الجائر الجاني فلو أجابت لقالت هكذا فعلت ... قِدماً بجيرة نُعمان ونُعمان وفي مدائن نوشروانَ مُعتبَرٌ ... للسائلين وفي سيفٍ وغُمدان فاذهب لشأْنِكَ فالدُّنيا لها دولٌ ... تمضي وتأْتي وكلٌّ بينها فان أبو اليقظان بن حوّاريّ عمّ أبي جعفر الذي أوردنا شعره. له: يَضِنُّ بالبِشر خوفاً أن يؤول إلى ... رِفْدٍ، فلستَ تراه وهو مبتسمُ فهو الغنيُّ وعِرضُ المُقتِرين له ... وهو المليءُ وفي أخلاقه العدم وله: ألا إنَّ الشبابَ إذا تولّى ... فإنَّ مقام صاحبه قليلُ وفي وضَح المشيب على كلامي ... دليلٌ ليس تنكرُه العقول كرَكْبٍ عَرَّسوا ليلاً فلمّا ... بدا ضوء الصّباح دنا الرّحيلُ أبو الحسن علي بن المؤيّد بن حواريّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 فقيهٌ عارفٌ بالأصول، أديب شاعر عروضي، وهو أخو أبي جعفر وكان له شعر طيّب، دخل عليه جماعة في داره بالمعرة ليلاً فقتلوه وذلك في سنة ثمان أو تسع وخمسين وخمسمائة. وهو فقيه شاعر أديب عارف بالعروض. أنشدني له عبد القاهر بن المهنّا قاضي معرّة مصرين: يا خليليَّ سَقِّياني كُمَيتاً ... لقَّبوها بدرَّة الأقداحِ أنقذاني من نشوة الهمِّ بالرّا ... حِ فصَحوي في نشوةٍ من راحِ بينما أذَّنَ المؤذِّنُ بالعُو ... د اتّئدْ للصَّبوحِ قبل الصّباح إذ تجلّى من مشرق البيت بدرٌ ... يحمل الشمس في عمودِ صباحِ فحَبا أوجُهَ النَّدامى شُعاعاً ... حسَرَت منه مُقلَةُ المِصباح وله: يا هند ما هذا الجفاء، أما له ... من آخرٍ، ولكلِّ شيءٍ آخرُ ووَعَدْتِ من طيف الخيال بزَورَةٍ ... أنّى، ودونَ الطَّيف طَرفٌ ساهرُ ومن شعره كتبه إلى أبي العلاء المُحسِّن بن أبي النّدى الفقيه سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة في مهرجان وافق أوّل شهر رمضان: للَّه يومُ المِهرجان وطيبُه ... لو لمْ يكدِّرْهُ الصِّيامُ المُقبلُ ما كان أحلاه لشُربِ مُدامَةٍ ... ووِصال معشوقٍ يجودُ ويبذُل وسلافةٍ خُلِقَتْ، وآدم طينةٌ ... فمضت بأصلاب الكروم تنقَّل حتى إذا ما حان وقت ظهورها ... عنباً أُتيحَ لها الزمان الأعدلُ وسقى فروَّى من ثرى زرَجونها ... نَوءُ الثُّريّا والسِّماك الأهطلُ سمحتْ لها الأنواءُ ماءَ عُيونها ... من قبل أن سمحَتْ بها قُطْرُبُّلُ فبدا كما صنع الثُّريّا ربُّها ... عنقودُها المُتَنَظَّمُ المُتهلِّلُ أبو جعفر محمد بن حوّاري من المعرة شاب من تُنّائها. مسكنه بحلب. أنشدني لنفسه بدمشق في ذي الحجة سنة سبعين: توَقَّ زوالَ الحسنِ عند كماله ... ولا تكُ من صَرفِ النَّوى غيرَ خائف أَلم ترَ أنَّ الوَردَ لما تكاملتْ ... محاسنُه أودت به كفُّ قاطف وأنشدني لنفسه: لاحظتُه فبدا النَّجيعُ بخدِّه ... فاقتصَّ، لا متعدِّياً، من ناظري فكلاهما حتى الممات مُضرَّجٌ ... بدمائه من جائر أو ثائر وأنشدني لنفسه: خَفِ الزَّمانَ ولا تأمن غوائلَه ... فما الزمان على شيءٍ بمأمونِ غداً ترى الشَّعرَ قد غطَّت غياهبه ... ضياءَ خدِّكَ فاستسعيتَ في الهون الشيخ عبد الرحمن الواعظ المعري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 الملقّب بشمس الدين، من المعاصرين، يعرف في الشام بابن المنجِّم، وتوفي بدمشق بعد العَود إليها سنة ستين وخمسمائة، ذو البديهة المستجيبة، والقريحة العجيبة، والمنطق واللسن، والكلام الحسَن، والقالة والحالة، والتحقيق والتدقيق، والمنظر الصبيح، والمِقوَل الفصيح، اجتمعت له الصباحة والفصاحة، والبهجة واللهجة، مواعظه مبكية مضحكة، وكلماته بالوعيد منجية مهلكة، إذا وعظ كانت عباراته أرقّ من عبرات الباكين، وإذا انشد كانت غرره آنَقَ من درر الناظمين، وثغور الضاحكين. حضرت ببغداد مجالسه وشهدت محاسنه فألفيته جوهريّ الوقت، جهوريّ الصوت، وهو كما قال الحريريّ: بزواجر وعظه يقرع الأسماع، وبجواهر لفظه يطبع الأسْجاع، وبكلامه يأسو الكُلوم، ويجلو الهموم، وبنكته يَنكُتُ العقولَ ويَبهَتُ الحُلوم، فما رأيت في مجلسه إلاّ قلوباً ترقّ، ودموعاً تترقرق، وجيوباً تُشَقَّق، ونفوساً تكاد من وجدها تزهَق، وأنفاساً تتصاعد، وحُرَقاً تتزايد، وأيدياً إلى قابل التوب تُرفَعْ، وشعوراً لقِطْع الحَوب تُقطع. قال يوماً وقد قصَّ شعر شاب، من التوّاب. شابٌّ جفا، قصَّ شعره بمقصّ الوفا، وألبسه قميصاً كان عليه وقال: من وافقَ وفَّق، فقصَّ بقصصه وأشعاره شُعوراً، فكأنَّه بنغماته داوُدُ يتلو زَبورا، وخرج أعيان أهل من ثيابهم إليه، وخلعوها عليه، فقلتُ يجب أن نُسَمِّيَه المَعرّي المُعرّي، وأنا في حدود خمس عشرة سنة، وكان ذلك يوم عاشوراء بالمدرسة النظامية سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، ولم أزل إلى آخر سنة إحدى وخمسين ألقاه في محافل الأماثل، ومجالس الأفاضل، ولم يزل شحّاذاً أخّاذاً، فصّالاً قوّالاً، نتّاشاً حوّاشا، فاتقاً راتقا، ماهراً حاذقا، لا يخلو يوماً شرَكُه من صيد، لو رآه الحريريُّ لم يذكر أبا زيد، له في كلِّ حادثٍ حديث، وفي كلِّ خطبٍ خطبة، وفي كلِّ نائبٍ نوبة، وفي كلِّ ملِمٍّ إلمام، وفي كلِّ جمعة جمع، وفي كل سبت وقت، وفي كل نادٍ نداء، وفي كل ناشئٍ إنشاء، وفي كل فصلٍ فصل، وفي كلِّ سهم نصْل، وفي كل مدخَلٍ دُخول، وإلى كل مَحفِلٍ وصول، وإلى كل موردٍ ورود، وفي كل مشهَدٍ شهود، وفي كل مأتمٍ نِياحة، وفي كلِّ يَمٍّ سِباحة. حضرت عند شيخ الشيوخ إسماعيل الصوفي ببغداد وهو قائم يورد فصلاً، ويملأ الجمع فضلاً، ومما أنشأه على البديهة وأنشده فيه بيتين علِقا بالحفظ، لرقة المعنى واللفظ، وهما: يا أخلاّئي وحقِّكُمُ ... ما بقي من بعدِكم فَرَحُ أيُّ صَدرٍ في الزمان لنا ... بعد صدر الدين ينشرحُ وسمعته يُنشد في سيدنا وأستاذنا شرف الدين يوسف الدمشقي المفتي ببغداذ: مَن ذا يُباهي أو يُضا ... هي في الخليفة أو يُلاسنْ لفقيهها الشرفِ الذي ... جمع المكارمَ والمحاسنْ وكان له على الواعظ علي الغزنويّ، الملقب ببرهان الدين، رسمُ تعهُّدٍ، فسمعته يُنشده يوماً: يا مَن يطوفُ بكعبة ال ... إحسانِ منه المُستميحُ إن طاف طوفانٌ بنا ... من عُسرةٍ فنَداكَ نوح أو ظَلَّ عازَرُ قصدِنا ... ميتاً فجَدواكَ المسيح وأثْرَتْ ببغداد حاله، ونمى مالُه، وحلَت عيشته، وحَلِيَت معيشته، وكان مولعاً بالاستكثار، من نكاح البكار، وهو ذو حظٍّ من النسوان، وقَبولٍ عند الحِسان، أنشدني له في بعضهنّ: جارةٌ قد أجارها الْ ... حُسْنُ من كلِّ جانب فهي بين النساء كال ... بدر بين الكواكب وأقام ببغداد حتى تبغدذ، وتمتع فيها وتلذّذ، وكان نظيفاً عفيفا، نظيفاً ظريفا، غلب على نظمه الإكثار، واستوى في نظمه الصُّفْر والنُّضار، قوّة إيراده وحسن إنشاده يُطَرِّقان بين يدي الضعيف من شعره، ويُنَفِّقان الزّيف من نظمه ونثره، وربما سمحت بديهته بما تضِنُّ به رَوِيَّة الفضلاء، من نوادر تبْهَر خواطر الشعراء، وتُفحِم شقاشق البلغاء. ومما أنشدنيه لنفسه ببغداذ سنة خمسين وخمسمائة بيتين في الطبقة العليا، في ذم الدنيا وهما: أُفُِّ للدُّنيا وأُفُّ ... كلُّ مَنْ فيها يلفُّ مثلُ خيّاطٍ حريص ... كلّما شلَّ يكُفُّ وآخران في وصف فرسٍ أدهم: وأدهَمَ يستعيرُ الليلُ منه ... وتطلعُ بين عينيه الثَّريّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 إذا لاح الصباحُ يطير طيراً ... وتُطوى دونه الأفلاكُ طَيّا وأنشد له من غزَلِ قصيدةٍ عمِلها في مدائح الإمام المقتفي لأمر الله رضي الله عنه: يا ساهراً عبراتُه ذُرُفٌ ... في الخَدِّ إلاّ أنَّها علَقُ أتُقيمُ بعدَهُمُ وقد رحلوا ... ومطيّتاك الشوقُ والقلق وقال بديهاً وقد سمعني انشد بعض الأصدقاء قطعة سمعتها في الجرب من جملتها: دب في الجسم والتهب، فقطع علينا الإنشاد وأنشأ يقول: دبَّ في الجسم والتهبْ ... فهو كالنار في الحطبْ صِحْتُ من حَرِّ نارهِ ... صيحةَ السُّخط والغضب مُتعِبٌ قلبيَ الجَرَبْ ... ومُطيلٌ ليَ النَّصَبْ فمتى يأمُلُ الخَلا ... صَ مُعنّىً به تعِب مطَرَتْ قلبَهُ الهمو ... مُ فأودت به السُّحُب فهو ما فوق جسمه ... طافياتٌ من الحَبَب وأنشدني أيضاً لنفسه: ولمّا أصبح الوصلُ ... صحيحاً ما به داءُ أتى الهَجرُ فلا سِينٌ ... ولا هاءٌ ولا لاءُ ولا ميمُ ولا راءُ ... ولا حاءُ ولا باءُ يعني أتى الهجر فلا سهلاً ولا مرحبا. واحسن ما أنشدنيه لنفسه في وصف الشارب والخال والوجنة: وشاربٍ مثل نصفِ الصاد صادَ به ... قلبي رشاً ثغرُه أنقى من البرَدِ كأنَّما خالُه من فوق وجْنتِه ... سوادُ عينٍ بدا في حُمرَةِ الرَّمَدِ وأنشدني لنفسه في تفاحةٍ ذات لونين حمرة وصفرة: تفّاحةٌ ذكَّرني نصفُها ... خدَّ حبيبي حين قبَّلْتُهُ ونصفُها الآخر شبَّهْتُه ... صفرةَ لوني حين ودَّعته بنو المهنّا في المعرّة قاضي معرة مصرين هو: أبو محمد عبد القاهر بن علويّ بن المُهنّا شابٌّ لقيتنه بحماة في شوال سنة إحدى وسبعين وخمسمائة. وأنشدني لنفسه يخاطب قاضي حلب في نائبه وكاتبه: لا عجَبٌ إن خرِبَ الشامُ أو ... أَقْوَتْ مَغانيه ولا غَرْو قد أصبح المجدُ به حاكماً ... وأصبح المُنشي له ضَوْ مولايَ مُحيي الدين، غيِّرهما ... عنّا فتَحْوى شُكرَنا أو وأنشدني لنفسه، في المُعَمّى، في الدّواة: وما أمٌّ يجامِعُها بنوها ... جِهاراً فهي حاملةٌ عقيمُ ترى أولادَها فيها رُقوداً ... يُضَمُّ عليهم رحِمٌ رحيمُ تُصانُ عن الغبيِّ الغمر ضَنّاً ... بها وينالُها النَّدبُ الكريمُ ومما أنشدنيه أيضاً قوله: وشادنٍ أهيَفَ عاتبتُه ... على تمادي الهَجر والصَّدِّ فأرسل الدمع على خدِّهِ ... فكان كالطّلِّ على الورد وقوله: يلومني اللائم في الْ ... حُبِّ لعلّي أنتهي وفي فؤادي حسرَةٌ ... لفَرطِ وجدي أنت هي وقوله: لا غروَ إن كنت ذا فقرٍ وآخرُ قد ... نالَ الأمانيَّ من مالٍ ومن ولدِ فالجهلُ والمالُ ملزوزان في نمَطٍ ... والفضل والفقر مقرونان في صفدِ وقوله: لهَفي على مهفهفٍ ... يتيه دَلاًّ وصِبا أصبحتُ بعدَ بينِه ... نِضواً كئيباً وصِبا مال فؤادي في الهوى ... إليه عمداً وصَبا يحنو عليه كلّما ... هبَّت جَنوب وصَبا وقوله من أول قصيدة: أَشاقَكَ رَبْعٌ بالعواصم ماحِلُ ... فدمعُكَ مسفوحٌ وجسمُكَ ناحِلُ وجَفنُكَ مَقروحٌ وقلبك خافقٌ ... وصبرك مسلوبٌ وحالُكَ حائِلُ وما ذاك إلاّ أنَّ سكان رامةٍ ... تولَّوا فأقوَتْ أَرْبُعٌ ومنازل عمُّ أبيه: أبو سلامة محمود بن علوي ابن المهنا بن الفضل بن عبد القاهر بن الرشيد بن المهنا ذكره ابن ابن أخيه قاضي معرة مصرين، وذكر أنه كان تاجراً بحلب وتوفي سنة خمس وخمسمائة عن سبعين سنة ومن شعره في المعرة: أنا من بلدةٍ قضى اللهُ يا صا ... ح عليها كما ترى بالخرابِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 قتلوا أهلها وبادوا جميعاً ... من شيوخٍ وصِبيةٍ وشَبابِ وله في بني منقذ: تَمَفْضَلْتُمُ يا بني مُنقذٍ ... وجهلُكمُ واضحٌ ظاهرُ وأنكرتمُ فضلَنا في الورى ... وذلكُمُ بَيِّنٌ باهرُ ومنّا البليغ ومنّا الرشيد ... ومنّا المرصّع والناظر وهمْ فضلاء لهم في القريض ... يدٌ لا يطاولها شاعر وحيث ذكر هؤلاء في شعره فنحن نورد لكل واحد منهم أبياتاً. فمن شعر: المرصَّع وهو أبو المكارم الفضل بن عبد القاهر جد أبي سلامة قوله: ليلي وليلى نفى نومي اختلافَهما ... بالطول والطَّوْلِ، يا طوبى لو اعتدلا يجودُ بالطُّول ليلي كلما بَخِلَتْ ... بالطَّوْلِ ليلى وإن جادتْ به بَخِلا وقوله في الناظر ابن أخيه: يا ابن أخي إن أردت ظلمي ... وأَخْذَ مالي بغير حقِّ صبرتُ، واللهُ ذو امتنانِ ... ما عاش خَلْقٌ بغير رزق وقوله: قلَّ الحفاظُ فذو العاهات في دَعَةٍ ... والشهمُ ذو الرأي يُرْزى في سلامتِه كالقوسِ تُحفَظُ عمداً وهي مائلةٌ ... ويُبعَدُ السهمُ قصداً لاستقامته وقوله في فاصد: لم أَنْسَ دستَ حكيمٍ ... أبداه يوماً لفَصْدِ ترى المباضع فيه ... قد نُضِّدَتْ أيَّ نَضْدِ كمِثل أقلام تِبرٍ ... تُمَدُّ من لازَوَرْدِ ومن شعر: الناظر أبي نصر المهنّا بن علي بن عبد القاهر قوله: جَرادٌ وأعاريبُ ... ورومٌ وأبو مُسلمْ أيا ربِّ لك الحمدُ ... فأنت المُفْضل المنعمْ وقوله في الشقائق: كأنّ الشقائق والأُقْحوان ... خدودٌ تُقَبِّلُهُنَّ الثغورُ فهاتيك أخجلَهُنَّ الحَيا ... وهاتيك أضحكهنَّ السرور ومن شعر: البليغ وهو أبو الماجد أسعد بن علي، أخو الناظر، وكان من معاصري أبي العلاء بن سليمان. قوله يرثي أبا المجد محمد بن عبد الله بن سليمان: جليلٌ رزؤنا فيه جليلُ ... عليه لكل عايلةٌ عويلُ فأكثِرْ ما استطعتَ الوَجدَ فيه ... ولا تُقْلِلْ، فمُشْبههُ قليلُ أَضيقُ بحملِ هذا الخطب ذَرْعَاً ... على أني لك أسىً حَمول ولو قُصِدَ التناصفُ كان أَوْلَى ... من العَبراتِ أرواحٌ تَسيل ومنها: إذا أعطَتك دنياكَ الأماني ... فقد أعطتك همّاً لا يزول ومنها: تقَضَّى العمر فيه وما تقضَّى ... عليه الوجدُ والحزن الطويل ومن شعر: أبي اليُمن الرشيد بن علي بن المهنا في القطايف: شفاءُ نفسي لو به أُسْعِفَتْ ... قطايفٌ تَعْذُبَ في اللَّقْمِ يشهدُ بالشَّهدِ لنا ظاهر ... وباطنٌ في اللون والطعم كأنها الإسفَنجُ في مائه ... غريقةً في دُهنِها الجَمِّ القطيط ويلقب أيضاً ب البديع هو أبو الحسن علي بن محمد بن علي العبسي من معرة النعمان. كتب لي القاضي أبو اليسر الكاتب من شعره مما كتبه إلى جده القاضي أبي المجد محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان: نداك، ابنَ عبد الله، ليس بمقتضي ... ومثلُك في اللَّزْبات مَن دفع الجُلَّى وأَعتدُّ تقليدي لغيرك مِنّةً ... وإن هي حَلَّتْ منه في عُنقي غُلاّ تعافُ سؤالَ الفرع نفسي نفاسةً ... إذا وجدتْ فيما تحاوله أصلا ولا سيَّما العَضْب الذي منك جَرَّدتْ ... يدُ المجد، ما أَنْبَاه خَطبٌ ولا فلاَّ أَعَمُّ الورى جُوداً وأمنعُهم حِمىً ... وأوفاهُمُ قَوْلاً وأحسنُهم فعلا أبو سعيد يحيى بن سند المعلم بالمعرة ذكر القاضي أبو اليسر أنه كان معلماً. وأنشدني من شعره هذه الأربعة أبيات وهي تُقرأ على سبعة أوزان: جودي على المُسْتَهْتَر الصَبِّ الجَوِي ... وتعطفي بوصاله وترحّمي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 ذا المبتلى المتفكرِ القلبِ الشجي ... ثم اكشِفي عن حاله لا تظلمي وصلي ولا تستكبري ذنبي الدني ... وترأَّفي بالوالِه المُتَتَيِّمِ يبدو القِلى بتغيُّرِ الحِبِّ الأبي ... المتلفي بكماله المُستَحكِمِ أبو عبد الله بن واصل كان من المعروفين لقيت يحيى ابن ابنه أبي سالم وكان نائب جمال الدين وزير الموصل بحلب في الأيام الأتابكية، ثم أقام بدمشق وتوفي بها، وابنه الآن مستوفي دمشق. وكان هذا، أبو عبد الله، معاصر أبي المجد جد أبي اليسر. وأنشدني أبو اليسر لأبي عبد الله بن واصل في جده: لا أَمْلَكَ اللهُ هذا الحكمَ غيرَكُمُ ... ولا انقضى من أبٍ إلاّ إلى ولدِ ولا خَلَتْ منكمُ الدنيا فإنكمُ ... بني سليمانَ، منها الرُّوحُ في الجسدِ الفيّاض بن جعفر من أهل المعرة أنشدني القاضي تقي الدين أبو اليسر الكاتب للفياض من قصيدة في مرثية جد أبيه القاضي أبي محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان: يا عاذلي أَقْصِرْ، عدمْتُك عاذلا ... فلقد غدوتَ بمن رُزِئْنا جاهلا ومنها: يا قاضياً ما زال في أحكامه ... كبني أبيه الغُرِّ بَرَّاً عادلا لله أيُّ نهىً وأيُّ جلالةٍ ... أَوْدَعْتُ منكَ صفائحاً وجَنادلا ومنها: قاضٍ قضى الرحمن فيه أنّه ... مُذْ كان يحكم حكم عَدلٍ فاصلا متواضعاً لله جلَّ ثناؤه ... وإن اعتدى للنَّيِّرَيْن مُطاوِلا يُمضي اليراعَ عواملاً في كفه ... فيرُدُّ ماضيةَ الرماح عواطلا ودُروج كُتْبٍ قد ثَنَيْنَ كَتائباً ... أَدْرَاجَها وقنابلاً وقبائلا بذّالُ ما يحويه في طلبِ العُلى ... أيامَ يَغْدُو كلُّ خَلقٍ باخلا ومنها: من ذا يُجيب مَسائلَ الفقه التي ... ما غيرُه عنها يجيب السائلا أبني سليمانَ الأكارم إنكمْ ... ما زِلتمُ للخائفين معاقِلا سُدْتُمْ وساد جُدودكم فهناكم الرّ ... حمنُ عاجلَ فضلكم والآجلا أبو المواهيب المعري عبد المحسن بن صدقة بن عبد الله بن حديد من شعراء المعرة المعروفين، وعاش بعد سنة خمسمائة، ووقعت إليّ له قصيدة في مدح القاضي أبي علي عمار بن محمد بن عمار، بطرابلس، فخر الملك ذي السعدين يهنئه فيها بعيد الفطر سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة وذلك قبل استيلاء الفرنج خذلهم الله عليها وهي نقلتها من خط ابن النقار الكاتب الدمشقي: مُحِبٌّ من البَيْن المبرِّحِ مُشفِقُ ... يكاد من التفريق في النوم يَفْرَقُ إذا سَجَعَتْ وُرْقُ الحمام خوالياً ... شَجاه وإن هَوَّمْن فهو مُؤَرَّق وغيرُ عجيبٍ أن ينوح مُقَيَّدٌ ... إذا ما تغنّى في الأراك مُطوَّق أَأَحبابَنا جُرْتُم مع البَيْنِ فاعدِلوا ... وجُزْتُمْ مدى هِجرانكم فَتَرَفَّقوا ففيكم على طبع الجفاء نواعمٌ ... يُرِينَ لُباناتِ الهوى كيف تَعْلَق سَدَلْنَ دُجى لَيْلِ الذّوائب واعتلت ... وجوهٌ بها مثل الأهلَّة تُشرقُ فلا صبحَ إلاّ ما تنفّسَ مُسفِرٌ ... ولا ليلَ إلاّ ما يعسعسُ مَفرِقُ ولا نارَ إلاّ ما تجُنُّ أَضالعي ... ولا ماء إلاّ دمعيَ المُترقرق ولمياءِ أطرار الظلال، تمايلت ... علينا غصون بالنسيم وأَسْؤُقُ تثنّى على شَدْو الحمام وإنَّها ... لتُصْبَحُ من كأس الجِمام وتُغْبَقُ إذا ذَكَتِ الشِّعرى العَبورُ أَقالَنا ... بها الحَرَّ دوحٌ ممطِرُ الظِّلِّ مُورِقُ لجأْنا إليها عائذين ببانِها ... وغدرانُها من تحتها تتدفّقُ وقد رشفتنا الشمس حتى سيوفنا ... على وَقدها لم يبق فيهنَّ رونق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 إذا ورَدَ الظمآنُ صلَّ بغِمده ... مَشوقاً إلى الماء الحسامُ المُذَلَّقُ ولم يغنه شربٌ من الدم أحمرٌ ... وقد شاقه وِردٌ من الماء أزرق ورُبَّ فلاةٍ جبتُها وهو مؤنسي ... وخَيفانَةٍ تجري مِراراً وتُعنِق إذا سابقتها الرّيح شدَّت بأربعٍ ... فآلت وبَرَّت أنها ليس تُسبَق قطوفٌ على جذب العِنان وإنَّها ... من السهم ما بين الخميسين أَمرق وردتُ بها في الشام ماءَ معاشرٍ ... نداهم على وُسْعٍ من المال ضيِّق مكارمهم وعدٌ ولا خيرَ خلفَها ... وودّهمُ المصنوعُ منهم تملُّق تمخَّضَ لي بالوعد عاماً أَكُفُّهم ... وخلَّفتُها خلفي به وهي تُطلَقُ يَمُنّونَ إن مَنَّوا ومَنُّوا بنَزره ... ولا خيرَ في طوقٍ من التبر يَخنُقُ وظِلْتُ أُخَطِّيها البلادَ ودونَها ... طرابُلُسٌ حيث الأماني وجِلّق ورجَّحتُ ما بين الملوك فمال بي ... رجاءٌ بذي السَّعدين أوفى وأوفق مليكٌ به الآمالًُ ألقَتْ عصا النّوى ... فقرَّتْ وفي اوصافه المدح يصدُق زجرْتُ به طيرَ المُنى فسَنَحْنَ لي ... وطائرُه الميمونُ فيها مُحلِّق وعرَّضَ لي غيثٌ على الشَّيْم مُرعِدٌ ... من الشام ثجَّاجُ السحائب مُغدِق توالى فلولا رحمةٌ منه أقلعَتْ ... لَخُيِّلَ أنّي فيه لا شكَّ أَغرَقُ هو البحر إلاّ أنَّه غيرُ مالحٍ ... هو البدرُ إلاّ أنَّه ليس يُمْحِقُ له خُلُقٌ كالرّوضِ حُسناً وبهجةً ... هي السيف بل أمضى، ورأيٌ موفَّق ومن ذا الذي يستصعبُ الرزقَ بعدما ... درى أنَّ يُمناهُ عن الله تَرزُق وَفَيْنَ الليالي خِيفةً عنه من فتىً ... يُصمِّم في أحداثها ويُطَبِّق حمى الثَّغرَ من رشف المواضي فقد كفى ... تأَشُّبَ ما يحميه سورٌ وخندَق لكم، آل عمّارٍ، على الجود مَسحَةٌ ... سحابُ النّدى فيها من التِّبر مُغدِقُ مُساويكُمُ في الدهر طَولاً برغمه ... جَهولٌ بما فيكم من المجد أحمق فلا تشكر الأقدارَ يا بنَ محمدٍ ... على الملك إنَّ الله فيك محقِّق أَلاق عليٌّ شَمله وسما له ... به الدَّسْتُ إلاّ أنَّه بك أَلْيَق فلا زلتَ فخرَ الملك، تؤمن خائفاً ... ويخشاك حسّاد ويرجوك مُملِق وهُنِّيتَ داراً وطَّد السَّعدُ أُسَّها ... فصار إلى النّجم البناءُ المُوَثَّق تقابل فيها الحُسن من كلِّ وِجهةٍ ... فأقطارُها من نور وجهكَ تُشرق متمَّمَةُ الطّول الذي ليس يُرتَقى ... مُجدّدة السّعد الذي ليس يَخلُق سمَتْ بك عن إيوان كسرى جلالةً ... فليس يدانيها على الأرض جَوسَق ولا زلتَ تلقى العيدَ، جيشك وافرٌ ... به ولواء المجد فوقك يخفق وقد رُفعتْ راياته فكأنّها ... مصوَّرةٌ، عن صدق بأسك تنطق أَساودُها وثّابةٌ وأُسودها ... بِشَرْي مُجاجات الرّدى تتَمَطَّق سواكن ما لم تقلَقِ الرّيحُ بُرهةً ... وتسكن فيها الريح طَوراً فتقلَق فقل للعِدى آراؤه الدّهرُ فاحذروا ... سُطاه، ومن راياتِه الأُسْدُ فافرَقوا فليثُ الشَّرى يُخشى على الأرض وَثْبُه ... فكيف به إن جاء وهو محلِّق وقد رسَفَتْ في السّابِرِيِّ مَقودَةٌ ... تهادَى بها خيلٌ حوالَيكَ سُبَّق تَخالَجُ في الأبصار حُسناً كأنّما ... تَجافيفُها الضافي عليهنَّ زِئبق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 تَزِلُّ بناتُ الدّهر عن صفَحاته ... فليس به للحادثات تَعَلُّق تَمطّى بها وَرْدٌ كُمَيْتٌ وأشهبٌ ... وأحمرُ وضّاحٌ وجَوْنٌ وأبلق ولمّا كبَت عن شأْوِها الرّيحُ وكَّلوا ... بجامحِها مَقلاً عسى الريحُ تلحَق المَقلَةُ حَصاةٌ تلقيها في الماء تعرف قدره وأظنُّها ثقلاً. ولم يُعيِها ما حُمِّلَتْهُ كأنّها ... هِضاب أقلّت ما تحوك الخدَرْنَق لكَ الله مولىً، حيث مجتَمع المُنى ... من الخَلق أضحى مالُك المُتفرِّق فتحتَ يداً تُعطي الرّجاءَ ودونها ... كما شئت بابٌ دون قذعِك مُغلَق ومن مَزّقتْ كفاه في الحمد مالَه ... فليس له بالذمِّ عِرضٌ مُمَزَّق إليكَ مديحاً راحَ فيك، ونشرُه ... من الروض أذكى بل من الطّيب أعبق أَسيرُ أياديك الجِسام مُقيَّدٌ ... عليك ثناءً وهو في الأرض مُطلَق يَضوع به النادي نشيداً كأنّما ... صفاتُك فيه فأْرُ مِسكٍ تفتَّق ويشدو به الحادي فيرتاح نحوه ... مُصيخاً إلى ذِكراك غربٌ ومشرق وفيك أطاعتني القوافي كأنّها ... لمدحك تهوى أو لنظمي تعشق وقد كسُدَت هذي البضاعةُ برهةً ... ولم تك إلاّ في زمانك تَنفُق فلا قلَصَ الظلُّ الذي قد مددتَه ... ولا انجاب هذا البارقُ المتأَلِّق وكان هذا الممدوح قد أمر بمدِّ مرَسٍ طويلٍ من أعلى داره الجديدة إلى ظاهر البلد وفيه هياكل من الوحش والخيل يتبع بعضها بعضاً على ما جرت به العادة من قبل في قلعة حلب في الميلاد وكان ذلك مقاماً مشهوداً، ومن العجائب معدودا. فقال يصف الحال ويمدحه: لك أوَّلٌ وَجْداً ولي بك ثانِ ... يا رَبعُ بعدَ تحمُّل الأظعانِ فامْزُجْ بلَدْنِ ثراكَ دمعي مُبدِياً ... لك منه نَوْرَ معالمٍ ومَغان من أسودٍ جَوْنٍ وأصفرَ فاقعٍ ... من أبيضٍ يقَقٍ وأحمرَ قانِ لو مسَّ تُربَك قبل مَنشَر آدمٍ ... لغدَوْتَ أوَّلَ نشأةِ الحيوان لَيُساجِلَنَّ الغيثَ دمعي حِقبةً ... لأَعَزِّ صَحبٍ في أعزِّ مكان يا لَلهوى كم لَجَّ فيه مُواصِلاً ... قلبي لِمَنْ قد لَجَّ في هِجراني قرَنَ التّدَلُّلَ بالتّذَلُّلِ، والرِّضا ... بالسُّخط منه، وشِدَّةً بلَيان شِبه الأُسود خلائقاً وبدائهاً ... للناس في خَلْقٍ من الغِزلان فتراه يَحرُن بعد ما ينقاد لِلْ ... عُشّاق أو ينقادُ بعدَ حِرانِ فكأنه أحوال إخواني به ... عند التقلُّب أو صروف زماني يتخلَّقون الوُدَّ إلاّ أنَّهم ... خُلقوا من البغضاءِ والشَّنآن قد أجلبوا غيظاً عليَّ ولم أُبَلْ ... بدراً طلعتُ لحاسدي فعواني فهُمُ الكتابُ لبعضِ ما في طيِّهِ ... ما يُستدَلُّ عليه بالعنوان ولقد أمِنتُهمُ بواحد عصره الط ... ائيّ في بذل السماح الثاني خِفتُ الزّمان فمُذْ حلَلْتُ ببابه ... جاءت إليَّ صروفه بأمان أبدى مناقبه لأُحسن وصفَها ... فكفيته وأنالني فكفاني وثنى مكارمَه إليَّ ووجهَه ... فاقتادني بالحُسن والإحسان وافى إلى هرِمٍ زهيرٌ وانتهت ... بالأخطل الدنيا إلى مروان ولوِ ابنُ ثابت نال نيلي لم يَفُهْ ... بمدائح ابن الأيهم الغسّاني ولقد غدوت أَعدُّ منه قرابةً ... مَتّ النبيُّ بها إلى سلمان عزَّتْ طرابُلُسٌ فيالكِ بلدةً ... طالت بمالكها على البلدان موجٌ بظاهرها وموجٌ باطنٌ ... سبحان مُحرزِها من الطّوفان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 يا حسنَها في ليلةٍ راحتْ بها ... في الله وهي كثيرة النيران ميلادُ مَن لم تشتهر أعمامُه ... لكن خُؤولته بنو عمران هذا البيت يدلُّ على قلَّة دين قائله بل على المُروق منه فإن عيسى عليه السلام لم يكن له أب، وهو يقول لم تشتهر أعمامه. والدارُ رابية البناء كأنما ... حَلَّ الوفود بها على كيوان لاثوا بها مَرَساً وقد بَطِرَت بما ... نظرت به خوفاً من النَّزَوان بذَّ الخيولُ بد الأُسودَ وأُدركتْ ... غِزلانه بكواسر العِقبان وانقضَّ فارسه به فكأنّه ... نجمٌ يصوِّبُه على شيطان يا منعماً آمنته من ذايمٍ ... حَمداً وآمَنني من الحِرمان لو كان ما أُثني عليك بقدر ما ... أوْلَيْتَني لمَدَحْتُ بالقرآن لكنني في وصف فضلك باقلٌ ... وأَزيد عند سواك عن سَحبان يَفديك قومٌ ضاع شِعري فيهمُ ... وغدوتُ جارَهُمُ فضاع زماني أزرى بفضلي نقصُه إذ لم أكن ... كُفؤاً له ومدحتُه فهجاني أنتَ الّذي أَعذبتَ وِرْدَ مطالبي ... وأطلت في أمد الرّجاء عِناني أَنْسَتْ طرابُلُسٌ بما أوليتَ لِلْ ... مملوك طيب معرَّة النُّعمان ومن شعر: مواهيب بن حديد المعرّي هذي الخميلةُ للربيع المُونِقِ ... من وَشْيِ ذاك البارق المُتأَلِّق ومنها: والشِّعر مثل الشَّعر يُسعدُ أَسْوداً ... فإذا تبيَّضَ عاد بالحظِّ الشّقي في كلِّ يومٍ للقوافي عَثْرَةٌ ... يَشْقى بها حظّي وخِجْلَةُ مُطرق أُسقى الثِّماد، وليتني مع قِلَّةٍ ... فيه بأول نهلةٍ لم أَشْرَق ومنها: وتلفَّتتْ بغدادُ ترجو مَقدَمي ... فِعلَ المُحبِّ إلى الحبيب الشَّيِّق فصرفتها شوقاً إلى ذي جبلَةٍ ... وتركت كلّ مُلوك أهل المشرق وجعلت أنتقد الكرام وأصطفي ... ملكاً يليق به المديح وأنتقي فحللت بالمتبرِّع المُتطوِّل الْ ... هَطِل الجواد الماجد المتحلق جُمعَت محاسنُه إلى إحسانه ... فتأَلَّفَتْ فيه ولم تتفرَّق طبعاً بغير تطبُّعٍ، صُنعاً بغيْ ... رِ تصنُّعٍ، خُلْقاً بغير تخلُّق فَتَكاتُه بنواله في ماله ... فتكاته يوم الوغى في الفيلَق الطَّلقُ وجهاً، والفوارسُ تدَّعي ... والثَّبْتُ جأْشاً، والمواكبُ تلتقي غَمْرُ المطاعم، والسحاب بخيلةٌ ... فسحُ المطاعن في المجال الضيِّق ترك الملوك له الشجاعةَ والنَّدى ... رغماً لأدْرَبَ بالأُمور وأَحْذَق فاحْلُلْ به يَفضِل، وسَلْ يفصِلْ، وقل ... يسمع، وصِفْهُ على غُلُوِّكَ تَصْدق واجلِبْ إذا نزل الملوكُ محامداً ... كَسُدَت إلى سوق المُقَدَّم تَنفُق ومتى عداك الرزق فاسأل فَضْلَ مَن ... أجراه من كفِّ المُفضّل، تُرزق فتحَ الرّجاءُ لكلِّ حاجب حاجةٍ ... من عند بابكَ كلَّ بابٍ مُغلَق فأَصِخْ بسمعكَ نحو روضِ سجيَّةٍ ... من راحتيك وزهرةٍ من منطقي مدْحٌ سرى في الأرضِ وهو مُقيَّدٌ ... بك وصفُه، يا لَلأَسير المطلقِ وسمعت أنه كان كثير التخليط، مائلاً إلى جانبي الإفراط والتفريط، أوضَع في تلف نفسه عَنَقَه، فضرب بعض ملوك اليمن عُنُقَه. أبو الحسن علي بن جعفر بن الحسن بن البوين من أهل المعرّة ذكره لي الأمير مؤيد الدولة أسامة بن منقذ وقال: كان يخدم جدّي، ثم انتقل إلى مصر وكتب إلى والدي قصيدةً، وكتب والدي إليه في جوابها قصيدةً. وأنشدني الأمير أسامة لابن البوين: ليلُ الشباب يُغطِّي كلَّ سيِّئةٍ ... فاحذر نهار مَشيبٍ كاشف الرِّيَب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 إيّاك أن تصبحَ الأيّامُ تاليةً ... من سوء فعلك ما يبقى على الحقب وذكره أبو الصلت أمية بن عبد العزيز في رسالة له وقال: لمْ يُقبِل الأفضل على أحد من الشعراء كإقباله على رجل من أهل معرة النعمان يُدعى أبا الحسن علي بن جعفر بن البوين، فإنَّه أفاض عليه سحائب إحسانه، وادرَّ عليه حَلوبَةَ إنعامه، ولقبه بأمين الملك وأدناه واستخلصه، ولم يكن شعره هناك بل متكَلَّفاً، ولست أعرف أحداً من أهل تلك البلاد يروي له بيتاً واحداً فما فوقه لمنافرة الطِّباع كلامه، ونُبوّ الأسماع عن طريقته. فأمره الأفضل يوماً أن يصف مجلساً عُبِّيت فيه فواكه ورياحين، فقال من مزدوَجَةٍ طويلةٍ يصف الأُتْرُجّ المُصَبَّع: كأنّما أُتْرُجُّه المُصبَّعُ ... أيدي جُناةٍ من زُنودٍ تقطَعُ فغلِطَ ولم يفطَن وأساءَ أدبه ولم يشعر، لأنَّه قصد مدح الأُترجِّ فقفَّزَ نفس الملك منه، وصرفها عنه، ولو قصد ذمَّه لما زاد على ما وصفه من الأيدي المقطوعة من زنودها. والبليغ الحاذق من إذا وصف شيئاً أعطاه حقَّه، ووفّاه شرطَه، ووصفه بما يناسبه في حالتي مدحه وذمِّه، ووضع كل شيءٍ مكانه من نثره ونظمه. وأين هذا الشاعر في أدبه ومعرفته بالصناعة وفطنته من أبي علي حسن بن رشيق حين أمره المُعزّ بن باديس بوصف أُترُجَّةٍ مُصبَّعةً كانت بين يديه فقال على البديهة: أُتْرُجَّةٌ سَبْطَةُ الأطراف ناعمةٌ ... تلقى العيونَ بحسنٍ غير مبخوس كأنَّما بسطت كَفّاً لخالقِها ... تدعو بطول بقاءٍ لابن باديس ومن شعر ابن البوين قوله: يا من تنافَسَ فيه السمعُ والبصرُ ... كما تغاير فيه الشمس والقمر ومَن تحكَّم في الأرواح فاحتكمت ... أن لا يُحكَّم فيها بعده بشر وقوله: مَنْ لا يُجازي على الإحسان مادحَه ... لم يخشَ هاجيه منه خِجلَةَ النّدم إن كنتُ قد جُرتُ في المدح المُعارِ فقد ... عدلْتُ في الهَجو إباءً على الكرم وابتعت كتباً من خزانة القصر بالقاهرة فوجدت مكتوباً بخط ابن البوين على بعضها ما ذَكر أنّه له فمن ذلك قوله: الكاتبين بأقلام السيوف على ... هام العِدى أسطُراً يَحْمِدْنَ مَنْ سطَرا الناقطين بخُرصان الذَّوابل مِن ... حروف ما زَبروا ما تُخجِل الزُّبُرا وقوله: فيم التنافسُ والحياةُ ذميمةٌ ... والدهر في صدق المواعد مائنُ عُدِمَ البقاءُ وعيشةٌ مَرضِيَّةٌ ... وسلامةٌ من سوء ما هو كائن لا تأْسَ إن منعتْكَ دَرَّةَ ثديها ... وجفَتْكَ، فالمغبون فيها غابن السابق المعري أبو اليمن بن أبي مهزول هو قريب العهد، داني العصر، سافر إلى العراق في زمان ابن جهير، واجتمع بابن الهبارية، وأحسن ما سمعت له قوله في الهجو، أنشدنيه غير واحد: إليَّ أرسلْتَ مقالَ الخَنا ... ستحرق النارُ فمَ النّافخ أقدمْتَ يا أوقحَ مِنْ أَيِّلٍ ... على ابتلاع الأرقم السّالخ يا حلقة الخاتَم يا إبرةَ الْ ... خيَّاطِ يا مِحبرَةَ الناسخ وأنشدني القاضي أبو اليسر الكاتب له بيتين في مرثية عم أبيه وادع من قصيدة: أبا مسلِمٍ لا زلتَ منّا على ذِكْرٍ ... ولا درسَتْ آياتُ عَلياك في الدهر وكنّا نُعِدُّ الصبرَ للخطب يعتري ... إلى أن أُصِبنا عند يومك بالصبر وله في غلام ينظر في مرآة: وظبيٍ قابل المرآةَ زَهواً ... فأحرق بالصّبابة كلَّ نفس وليس من العجائب أن تأَتَّى ... حريقٌ بين مرآةٍ وشمس وقوله وقد سافر إلى خراسان: قالوا تزوَّجْ بأرضٍ مَرْوٍ ... تعيشُ في غِبطةٍ وخير قلتُ صدقتم بأيِّ مالٍ ... أعيش فيها وأيِّ أَيْرِ وقال يهجو ابن البوين الشاعر: شعر البويني له روعةٌ ... ليس لها في النَّقد محصول مثلُ حِبال الشمس ممدودةً ... ما فاتها عَرْضٌ ولا طول أبو المُعافى بن المُهذَّب هو سالم بن عبد الجبار بن محمد بن المهذَّب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 بنو المهذب كانوا في المعرة ذوي الفضل المُذْهَب، والمذهب المُهذَّب، وهذا أبو المُعافى كان في عصر مسلم بن قريش وهو أمير حلب فقال فيه: أَمُسلِمُ لا سُلِّمْتَ من جاذب الرَّدى ... تَخِذْتَ وزيراً ما شددْتَ به أزرا كسَبت، ولم تربح، بحرب ابن مُنقذٍ ... من الله والناس المذمَّة والوِزرا فمُتْ كمداً بالجسر لستَ بجاسرٍ ... عليه وعايِنْ شيزراً أبداً شَزْرا فقال شرف الدولة مسلم لما سمع: مَن هذا الرجل؟ فقالوا: من أهل المعرة رعيتك فقال: أَوْصوا به الوالي ليُحسن إليه، وحذِّروه أن يجني عليه. فهذا ما يعرفنا ولو لم تكن له شكاية من والينا لما قال هذا. وله في الخِيريّ: أُنظر إلى الخِيريّ ما بيننا ... مُقمَّصاً بالطَّلِّ قمصانا كأنما صاغته أيدي الحَيا ... من أحمر الياقوت صُلبانا وله يصف الوباء والإفرنج بالشام: ولقد حلَلتُ من الشآم ببُقعةٍ ... أَعْذِرْ بساكن ربعها المسكينِ وُبْئَتْ وجاورَها العدوُّ فأَهلُها ... شهداءُ بين الطّعن والطاعون حلب حَمَاد الخرّاط هو حماد بن منصور البُزاعيّ وبِزاعا بين حلب ومنبج، ليس بالشام في عصرنا هذا مثله رِقّةَ شِعرٍ وسلاسةَ نظمٍ، وسهولة عبارة ولفظ، ولطافة معنى، وحلاوة مَغزى، بأُسلوبٍ سالبٍ للُّبِّ، خالبٍ للخِلْبِ، وصنعةٍ عاريةٍ من التكلُّف، نائيةٍ من التعسُّف، تترنَّح له أعطاف السامعين، وتُنبِع رِقَّته في رياض اللطف الماء المَعين،. لمّا كنت بحلب وعند تردّدي إليها في عهد نور الدين، سقى الله ثراه عِهاد الرحمة مازلت أسمع من شعره ما يزيدني طرَباً، ويفيدني عُجْباً به وعَجَبا. ومن جملة ما علقته من شعر حماد، وهو يُحيي كلَّ جماد، قوله: مَنْ لعليل الفؤاد مَحزونِ ... مُتيَّمٍ بالمِلاحِ مَفتون نافسَ مجنونَ عامرٍ بهوىً ... يُعَدُّ فيه بألف مجنون غرَّر بالنفس في هوى قمرٍ ... بائعها فيه غير مغبون لَدْنِ مَهَزِّ الأعطاف يخطِر كالْ ... قضيب في دِقةٍ وفي لين جوّال عقد النِّطاقِ يجذبه ... نقاً، نبا عن أديم يَبرين يكسر بالوعد لي ممرَّضَةً ... تميتُني تارةً وتُحييني كأنما شامَ من لواحظها ... غِرارَ صافي المَتْنَينِ مَسنون يأمنُ قلبي على هواهُ وإنْ ... كان على القلب غيرَ مأْمون أقولُ للنفسِ إذ تَعَزَّزُ بالْ ... جمال عِزِّي إن شئتِ أو هوني لا صبرَ لا صبر عن محبَّة مَنْ ... أُطيعه في الهوى ويَعصيني يُسخطُني بالجفا فأَلحَظُ مِنْ ... سُخطي رِضاه به فيُرضيني وله: أما أنْباكَ طيفُك إذْ أَلَمّا ... بأَني لم أَذُقْ للنوم طَعما تؤَرِّقُني وتبعثُ لي خيالاً ... لقد أوسعتَ بالإنصاف ظُلما ولم تسمحْ به سِنةٌ ولكنْ ... يمثّله لقلبي الشَّوْقُ وَهما فدَتْكَ النَّفسُ كم هذا التجنّي ... وفيمَ تصُدُّ مُجتنباً ومِمّا وحَقِّ هواك ما أذنبتُ ذنباً ... فتهجُرَني، ولا أجرمتُ جُرما ألا يا مالكي في الحبّ عِشْقاً ... حكمتَ فمن يردّ عليك حُكما أذَلَّني الهوى لك بعد عِزّي ... وقادَتْني لك الأشواق رغْما فلا واللهِ ما أضمرتُ صبراً ... ولا والله ما أزمعت صُرْما ولا راجعتُ في الهِجران رَأْيَاً ... ولا أَمْضَيْتُ في السُّلوان عَزْمَا لِعَيْنِكَ ما أسأل العينَ دمعاً ... وجسمِك ما أذاب الجسمَ سُقْما وله: أفي اليوم يا بَيْنَ الحبيبِ أمِ الغدِ ... يُحَقُّ وعيدي أم يُقَرَّب مَوْعِدي أرى عِيسَ مَن أهواهُ تُحْدَج للنَّوى ... بعينِ ضعيف الصبر واهي التجَلُّدِ فيا لفؤادي من غرامٍ مُجَمَّعٍ ... ويا لَجفوني من مَنامٍ مُبَدَّدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 ومهزوزةِ الأعطاف مال بها الهوى ... إليَّ مَميلَ الريحِ بالغصنِ النَّدي تُوَدِّعني والطَّرْفُ للطَّرْف باذِلٌ ... لطائفَ لم تسمح بها اليدُ لليدِ تقولُ وسِلْكُ الدمعِ ينثرُه البُكا ... على صَحْنِ مَطلولِ الأديم مُوَرَّد وقد زَحزحتْ ياقوتَتَيْن أضَلَّتا ... شَتيتَ أَقاحٍ كالجُمانِ المُنَضَّد تَوَقَّ بعهدي وارْعَهُ إنها نوىً ... لها أمَدٌ في جَرْيِها وكأنْ قَدِ فللهِ ما قالتْ وولَّتْ لو أنَّه ... يَبُلُّ ويَشْفي غُلَّةَ الهائم الصَّدِي قفي واسْعدينا يا سُعاد ونَوِّلي ... قليلاً وإنْ لم يُجْدِ نفعاً وزوِّدي وله: توَلَّعي يا نَسَمَاتِ نَجْدِ ... بالشِّيحِ في ذاك الحِمى والرَّنْدِ لعلّ رَيّاكِ إذا ما نَفَحَتْ ... تعودُ حَرَّ لَوْعَتي ببَرْد أصبو إلى ريح الصبا لو أنها ... تُهدي حديث الحيِّ فيما تُهْدي أسألُها هل صافحتْ مَواقِفاً ... أَوَدُّ لو صافحتُها بخَدّي أشتاق تقبيلَ ثَراها كلّما ... هاجَ اشتياقي واستطار وَجْدِي أَستودِعُ اللهَ بها قلبي فقد ... طال به بعد الفِراق عَهْدِي كان معي قبلَ رحيلي عنهمُ ... ثم رحلتُ وأقام بعدي يا قمري متى تلوحُ طالعاً ... تُطْفي بماءِ الوَصْلِ نارَ الصَّدِّ لَهْفِي على زمانِ قُرْبٍ ما وفى ... بما أُلاقي من زمانِ البُعدِ أبكي ويبكي رحمةً لي مَعْشَرٌ ... ما عندهم منَ الهوى ما عندي تجَمَّعوا فيكَ على الحبِّ معي ... لكنني كنتُ المُعَنَّى وَحْدِي ويلاهُ من شوقٍ تبيتُ نارُه ... تَشُبُّ بين أَضْلُعي وجِلْدي ومن غليلٍ في الفؤادِ كلّما ... ذكرتُ في حُبِّك صَفْوَ وِرْدي يا بَيْنُ أنجزتَ وعيدي فمتى ... تُنجِزُ أيام اللقاءِ وَعْدِي ولائمٍ عنَّفني وما درى ... أنّ ضلالي في هواك رُشْدي قلتُ له دعني فلا وحقِّه ... لا حُلْتُ عن نُصحي له وودّي أول من نظم على هذا الأسلوب ابن المعلم من بلد واسط في كلمته التي أولها: تنَبَّهي يا عَذَبَاتِ الرَّنْدِ ... كم ذا الكرى هَبَّ نسيمُ نجدِ وقد أوردتُ ذلك في أشعار الواسطيّين. وقال حمّاد الخراط: تذكَّر بالحمى عهداً فحنّا ... وأظهر من هواه ما أجنّا ولاح له على هضَبات نجدٍ ... بريقٌ يخطَفُ الأبصار وهْنا تعرَّضَ والعواذل هاجعاتٌ ... ولم يطْرُق له التغميضُ جَفنا فأنَّ صبابةً ولو أنَّ رضوى ... تحمَّلَ بعضَ لوعته لأنّا أهاتفةَ الأراكِ بكَيتِ شَجْواً ... لِوَشْكِ البين أم رجَّعْتِ لحنا دعيني والبكاءَ فلستِ منّي ... وإن هَيَّجْتِ لي شوقاً وحُزنا وما مَن ناحَ عن ثكلٍ وفَقدٍ ... كمن أوفى على فنَنٍ فغنّى كلانا يا حمامةُ، حينَ تَبلى ... سرائرُ حبِّه، الصَبُّ المُعَنّى نسيمَ الريحِ هل راوَحْتَ سهلاً ... لذاكَ الجَوِّ أم غاديْتَ حَزْنا أعِدْ نفحاتِ أنفاسِ الخُزامى ... لتنشُرَ ما طواه البينُ عنّا منىً ليَ أن أَسُفَّ شذاهُ غَضّاً ... لو انَّ المرءَ يُدرِكُ ما تمنّى وأن أُحْبى بِرَيّا البان إمّا ... ترنَّحَ في هبوبك أو تثنّى بحقِّكِ هل مسحتِ كثيبَ رملٍ ... على العلَمَيْن أم جاذَبْتَ غُصنا ألا لله أيّامٌ تقضَّتْ ... به ما كان أعذبَها وأهنا أراني كلّما أبديتُ فنّاً ... من الذِّكرى أجَدَّ لشوقُ فَنّا سقى تلكَ العهودَ عِهادُ دَمْعٍ ... يجودُ لها إذا ما الغيثُ ضَنّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 وقال: بدْرٌ بدا للعيونِ تَرمُقُه ... يرشُقها لحظُه وترشِقُه طالعَنا والقلوبُ مغربُهُ ... عَلاقةً والجيوبُ مَشرِقُه تيَّمني شكلُه وقامتُه ... وصادني قُرطُه وقَرْطَقُه ثناه دَلُّ الصِّبا فأَرَّقَني ... قضيبُ بانٍ يهتزُّ مُورِقُه يشكو كما أشتكي مؤَزَّرُه ... إذا تلوّى به مُمَنْطَقُه يفترُّ عن لؤلؤٍ يُنظِّمُه ... لناظري ثغرُه ومَنطِقُه أقولُ والقلبُ مُغرمٌ بهوىً ... تلذعُه نارُه وتَحرقُه مولاي مولايَ ذا الأسير أما ... تَفُكُّه بالرِّضى وتُطلِقُه وإنَّه العبدُ ليس يملكُه ... غيرُ رحيمٍ، بالوصل يعتقُه يا باخلاً ما يكادُ يسمحُ لل ... صّبِّ ولا بالخيال يطرقه لا روَّع الله مَن يُرَوِّع بالصّ ... دود قلبي عمداً ويُقلقه وأصلحَ الله غادراً أبداً ... يكذبُني في الهوى وأصْدُقُه وقال: فديْتُ بدراً في القلب مطلعُه ... يسير فيه وليس يقطعُه أنزله الحُبُّ منه مَنزلةً ... زعزعَ منه ما لا يزعزعُه ما ضرَّه، لا عدِمْتُ سطوتَه ... لو رقَّ ممّا ينال موضعه ضنَّ ببعض الرِّضى على كَلِفٍ ... لولا هواه المصون أجمَعُه مولاي أسرفتَ في تحَيُّن مَن ... يعطيكَ ما عنده وتمنعه شفيعُه ذلُّه إليك إذا ... أعزَّكَ الحُسْنُ لو تُشَفِّعُه أما ترى ما تقولُ شاكيةً ... إليكَ أنفاسُه وأدمعُه حسبُك بادي شحوبه خَبَراً ... عن بعض ما تحتويه أضلعُه بالله راجعْ جميلَ رأيكَ في ... وِداد خِلٍّ إليكَ مرجعُه ولا تُضِعْ عهدَ ذي محافظةٍ ... فأظلمُ الناس مَن يضيِّعُه وقال: ألا هل لماضي العيشِ عندكِ مرجِع ... وهل فيه بعد اليأس للصَّبِّ مطمَعُ لقد أُولِعَتْ بالصَّدِّ عنّي وإنَّني ... لفُرقتها، ما عشتُ، بالوجْدِ مُولَعُ أُضاحِكُ حُسّادي فيغلبُني البُكا ... وأكتُم عُوّادي وإنّي لمُوجَع إذا خطرت من ذكرها ليَ خطْرَةٌ ... تكاد لها أنياطُ قلبي تقطَّع وقال: عاقرَني لحْظُ عينِه السِّحْرا ... حتّى تطفَّحْتُ بالهوى سُكْرا ومال نشوانَ غيرَ مُحتشِمٍ ... والرّاحُ قد سوَّلَتْ له أمرا فملتُ حتّى الصّباح معتنِقاً ... منه قضيباً، مقبِّلاً بَدرا إذا تناولْتُ من مراشِفِه ... كأْساً سقاني بلحظِه أُخرى كان وِصالي نَذراً عليه فقد ... جادَ ووفّى، فديْتُه، النَّذْرا يا مَن دعاني إلى الغرام به ... لبَّيكَ أَلْفاً في الحبِّ لا عَشرا جئتُكَ طَوعاً فاعصِ المَلامَ وصِلْ ... فيه بنا الوصلَ واهجَرِ الهَجرا ليتكِ يا ليلةَ السّرور به ... بُدِّلْتِ في كلِّ ساعةٍ دهرا وباخِلٍ جادتِ المُدام به ... فبِتُّ أُولي مذمومَها شُكرا لمّا أباحتْ سُلافَ رَبقتِه ... وصرَّفَتْني في صِرفها جَهرا غنَّيْتُ أُدني لوائمي طرباً ... حَلَّت ليَ الخمرُ فاسقني الخمرا زِدْ، عَمرَك الله، من مُجاجتها ... ولا تراقب زَيداً ولا عَمرا طالعْ معي دَنَّها تَجِدْ عجباً ... ليلةَ بينٍ قد أطلعَتْ فجرا وابتدرَتْ للغروب أنجمُها ... نحو فُرادى بدُورِنا تَتْرى يا حبَّذا والكؤوسُ دائرةٌ ... أجسامُ ثلجٍ تقاذفَتْ جَمرا ترى اليواقيتَ من مُشَعْشَعِها ... قد كُلِّلَتْ من حَبابها شَذْرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 فاشرب على مَن تُحِبُّ مِن زَهَرِ الْ ... حُسْنِ وناوِلْ أحبابَكَ الزَّهرا واعْتَضْ عن الوَرد وَجْنَةً وعنِ الْ ... مِسْكِ لِثاثٍ تضوَّعَتْ نَشرا هاكَ بديلاً عن كلِّ نَرجِسَةٍ ... عيناً وعن أُقحوانةٍ ثَغرا فالعمْرُ يوماً إذا ظفِرْتَ به ... فلا تُضَيِّعْ بتركِه العُمرا نِعمَ شعارُ الفتى السّرور فإنْ ... عدِمتَه فانتجِعْ له الشِّعرى واستمطرِ الجودَ من أبي الحَسَنِ الْ ... ماجد واسأَلْ سماءَه القَطرا يغشاكَ بحرٌ إذا تبجَّسَ بالنّ ... والِ والبِرِّ أخجلَ البحرا إيه عليّاً شِدِ العلاءَ بما ... تحوي به في زمانك الفخرا وانهضْ إلى المجد نهضةً تثمِرُ الْ ... حَمدَ وتُبقي الثّناءَ والذِّكْرا فلا ترعْكَ الصِّعابُ واسْعَ لها ... بجِدِّ عزمٍ يُسَهِّلُ الوَعرا فربَّ ذي همَّةٍ ينال بها ... على ثنائي مَنالةَ اليُسرا وما المعالي وَقفٌ على وَرِمٍ ... يَعقِدُ للتّيه أنفَه كِبرا بشرى لعبدٍ يلقاكَ عائده ... بوجه سَفرٍ منوّرٍ بِشرا عَرفُكَ أزكى وأنت أطهرُ أخْ ... لاقاً وأعلى بينَ الورى قَدرا تهَنَّ واسلَمْ وابسط لشاكرِكَ الْ ... مُقِرِّ بالعجز دونه العُذرا وله: ما لثناياكَ وللخمر ... وما لأجفانكَ والسِّحْر تريدُ أنْ تقتلَني كان ما ... تريدُ أو تبلُغَ بي شكري يكفيك أنّي من ضلال الهوى ... لا أعرف العرفَ من النُّكْر ليتَك تدري أنّني بالذي ... ينال قلبي منك لا أدري عوَّدْتني الصَّبرَ، وصدقُ الهوى ... يحكم بالتسليم والصّبر وها أنا أحملُ ثِقلَ الهوى ... فيكَ على المَقصوف من ظهري أُقسم يا مولاي حقّاً بمَن ... ملَّكَ سلطان الهوى أمري لم ترَ أبهى منك عيني ولا ... أسكنتُ أحلى منك في صدري فدَيْتُ من لو قابل البدرَ في ... تمامه أوفى على البدر ولو مشى والغصنَ في روضةٍ ... كان على قامته يُزري مُرْتَدَفُ الرِّدْفِ إذا ما انْثَنَتْ ... أعطافُه، مختصَرُ الخصر وله: فدَيتُ أميراً له حاجِبٌ ... يُفَوِّقُ عن قوسه أسهُما يصيدُ النّفوسَ إذا ما رَنا ... ويُصمي القلوبَ إذا ما رمى أغارَ على سَرْحِ ألبابِنا ... فصيَّره للهوى مغنَما إذا هزَّ من قدِّه صَعْدَةً ... وأشْرع من لحظه لَهْذَما دعوتُ الأمانَ، ومَنْ لي به ... إذا جيشُ بهجته صَمّما تعلَّقْتُه من بني التُّركِ لا ... يَرِقُّ لتَركي به مُغرَما خلعتُ عِذارِيَ في حبِّه ... فلستُ أُبالي بمَن أو بما فمالي أُجَمْجِمُ زُورَ الحديث ... ووَيلي على رَشف ذاك اللَّمى فما ذقتُ لا وحياة الحبيب ... ألذَّ وأعذب منه فما إذا ما تأَمَّلْتَني باكياً ... فقل قد تذكرُه مَبسِما ومثَّل باردَ ذاكَ الرُّضاب ... على ما به نحوه من ظما أيا قمرَ الأرض أخجلتَ في ... تمامكَ والحسنِ بدرَ السّما وأشبهْتَه في النّوى والبعاد ... فقل أهيمُ بمَن منكما وله: مرحباً مرحباً بوجْ ... هِكَ يا بدْرُ مرحبا ما أَلذَّ العذاب في ... كَ وأحلى وأَعذبا إنَّ لي في هواك يا ... قمرَ الأرض مذهَبا أشتهي أنْ أُلامَ في ... كَ وأُلْحَى وأُعْتَبا ليَرُدَّ اسمَكَ العَذو ... لُ إليَّ المُحبَّبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 يا قضيباً تهزُّه ... نشوةُ الدَّلِّ والصِبا كلّما ماسَ في الغِلا ... لة واهتزَّ في القِبا استُخِفَّتْ له القلو ... بُ وحُلَّتْ له الحُبا وله: اللهُ للجائرينَ جارُ ... أين استقلّوا وأين ساروا لا أَوْحشَتْ منهمُ المغاني ... ولا خلتْ منهمُ الديارُ قومٌ بعُدْنا على التّداني ... منهم فلم ينفعِ المَزار فِداهُمُ قلبيَ المُعَنّى ... بهم وأحشائيَ الحِرار وظالمٍ ليس لي عليه ... بحكم عِشقي له انتصارُ ما لأَميرٍ سوى هَواهُ ... على قلوب الهوى اقتِدارُ وله: يا لَقلبي لِمَريضٍ ... في الهوى ليس يُعادُ وقتيلٍ بالعيونِ النُّجْ ... لِ فيه لا يُقاد يا مُرادَ النّفس لو ت ... مُّ لِمَعشوقٍ مُرادُ في سبيل الحب بذلُ ال ... نَّفس فيكم والجِهادُ صادني منكم غزالٌ ... نافرٌ ليس يُصادُ بين أحشائي له مرْ ... عىً فسيحٌ ومَراد دارَه القلبُ على النّأ ... يِ ومأْواهُ الفؤادُ وله الحبُّ على ما ... كان منه والوِدادُ لا تقولوا لي تقاضا ... هُ دُنُوٌّ أو بِعادُ كلُّ حسْنٍ وهَوىً من ... هُ ومنِّي مُستَفاد فمتى أصحو وغَيُّ الْ ... حُبِّ في عيني رشاد وسماع اللَّوم قدْحٌ ... وهوى النَّفس زِنادُ هذه وَقدَةُ نارٍ ... ما لأقصاها رماد وله: نَمْ هنيئاً لكَ محبوبُ الكرى ... إنَّ طرفي فيك يهوى السَّهَرا حبَّذا يا بدرُ ليلٌ بِتُّه ... فيك حتى الصبح أرعى القمرا طالَ بالهجر وقد كان الذي ... أشتكي في الوصل منه القِصَرا ليلُ يا ليلُ فقدْنا جُملةً ... أنا محبوبي وأنت السَّحَرا فعسى تأْخُذُ أَو آخُذُ عن ... ذاك أو هذا بحقٍّ خبَرا عجباً لي أتركُ العينَ، وقد ... عزمَ البينُ، وأقفو الأثَرا بيدي أطلقتُ قلبي من يدي ... حيثُ لم أسْرِ بجسمي إذْ سَرى أَتَّقي الغَيرانَ في صحبته ... وأُحاشى درَكاً أو خَطَرا كذَبَتْكَ النَّفسُ ما العاشِقُ مَنْ ... يتحامى في هواه الضَّررا ينظرُ الآراءَ مختاراً وهل ... صدقَ الحبُّ فأبقى نظرا يَطرُقُ الشّهرةَ في الحبِّ وما الْ ... تَذَّ صَبٌّ لمْ يرُحْ مُشتهِرا وعلى رِسلِكَ في كتمانه ... إنَّ ما أَخفيتَهُ قد ظهرا وله من أُخرى: صافِحْ بصدرِ العيسِ صدرَ النهارْ ... وانهضْ مع الشمسِ لشمسِ العُقارْ حَيِّ بها وجهَ الربيع الذي ... من جوهر الزَّهْر عليه نِثار وقال: يا قمري تَعْلَمُ مَن ... أصبحَ فيكَ مُمْتَحَنْ يا صَنَمَ الحُسْن وما ... نُصِبَتْ إلاّ للفِتن فانعكفتْ منك القلو ... بُ في الهوى على وَثَن يا قوتَ نَفسٍ شَرِبَتْ ... أشجانَها مع اللبَنْ يا مُلبسي ثوبَ الضَّنا ... وسالبي طِيبَ الوَسَنْ يا حَسَنَ الوجهِ الذي ... يدينُ بالفِعل الحَسَن يَفديك عَبدٌ طائعٌ ... مُلِّكْتَه بلا ثمن وحَقِّ مَن أسكن في ... قلبي هَواك فَسَكَن لا حُلتُ عن حُسن الوفا ... ما صَحِبَتْ رُوحي البدن وله من أبيات شائقة رائقة يُغَنَّى بها: لا تَتْعَبِ العواذِلُ ... فالحُبُّ شُغْلٌ شاغِلُ باطلُه حَقٌّ وحقُّ الناصحين باطل يا مَوْقِفاً غالت به ... ألبابَنا الغوائل كيف النجاةُ منه والناصِرُ فيه الخاذل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 أشكل من أين أصبت بينه الشَّواكِل كلُّ العيون أَسْهُمٌ ... وكلُّها مَقاتِل وكلُّ عِطفٍ كَرْمةٌ ... وكلُّ طَرْفٍ بابل فكيف يصحو أو يُفيق ثَمِلٌ أو ذاهل ما تفعل الشَّمول ما ... تفعله الشّمائل يَهُزُّها من القدو ... دِ الأَسَلُ النّواهل أَعْدَلُها أَجْوَرُها ... والمستقيمُ المائلُ يا قانصَ الظِّباء في ... أعينِها الحبائل وبين كلِّ لحظتيْن سائفٌ ونابل تَوَقَّ يا مخدوعُ في الغِزلان مَن تُغازِل من تَبِعَ الصيدَ دها ... هُ الصيدُ وهو غافل إن الأسود هذه الضعائفُ المَطافِل يصرَعْن أرشاقاً وهُنَّ الشُّرَّدُ الجَوافِل يرمينَنا عن نفثا ... تٍ سمُّهنَّ قاتل وله: تكلَّمَ بالأَدْمُعِ ... وقال فلم تَسْمَعي شكا بالبُكا لو رَحِمْتِ شكوى فتىً مُوجَع ودلَّ بماءِ الجفون ... على النار في الأضلُع وأشفَق يوم النَّوى ... على سِرِّه المُودِع فأومضَ باللَّحظ ثمَّ عضَّ على الأصبع يقول علامَ عَزَمْتِ ... فَدَيْتُكِ، أن تصنعي أليس لهذا المغيب يا شمسُ من مَطْلَع ولا لذهاب القرا ... ر والنومِ من مَرْجِع ويا عَيْنُ قد أزمع اصطباري مع المُزْمِع وأسرع قلبي الرحيلَ ... مع الراحلِ المُشْرِع فهل لك أن ترقُدي ... وهل لك أن تهجَعي عسى لطُروق الخيال ... طريقٌ على مَضْجَعي يُعلّلني بالدواء ... وإن كان لم يَنْجَع ويُقنعه خادعاً ... بما ليس بالمُقنِع إذا أُولِعَ اليَأْسُ بي ... فَزِعْتُ إلى المَطْمَع وقلتُ لنفسي خذي ... عُلالته أو دعي وله: صدقَ الحُبُّ لستَ لي بصديقِ ... فالْهُ عني وخَلِّني وطريقي أيها النائم الذي ماله عِلْمٌ إذا نام كيف ليلُ المَشوق إنّ برِّي، والوجْد مالِكُ أمري ... بالهوى، بالمَلام عَيْنُ العُقوق ولَغِشُّ المُريدِ لي السوءَ بالإغراءِ فيه كِفاءُ نُصْح الشفيق ضِلَّةً ما اهتديتُ والليلُ داجٍ ... دون صَحْبِي إلى اشتيامِ البروق وتعرَّضتُ للنسيم عسى أُبْرِدُ قلباً من لوعتي في حريق وعقيقُ الدموعِ ينثُرُه نَظْمُ بُكائي على ظِباء العقيق يا رَفيقي وقد تفَرَّدْتُ في نَهْجِ وَلوعي ما أنت لي برفيق تَتَأَنَّى إفاقتي ومنَ الصَّحْوِ رَواحي سَكْرَانَ غيرَ مُفيقِ أَتَرَى، أم قذىً بعَيْنَيك، ما ها ... ج غرامي يوم افتراقِ الفريق من بُدورٍ تطلَّعت لمغيبٍ ... وشموسٍ تولَّعَتْ بشروق ما علِمنا مغارِباً قبل يوم البَيْن تسْتَنُّ في غَوارِب نُوق قَرُبَتْ والمَرامُ غيرُ قريبٍ ... وَنَأَت والغرام غير سحيق وأعادتْ تَعِلَّةً بدأ الطَّيفُ بها أَمْسِ في طريق الطُّروق يوم ردَّتْ على الكرى جَفْنَ عيني ... عِدَةٌ ليس عهدُها بوثيق لاحَ فيها الخليقُ لي بوَفاءٍ ... تحت جُنْحِ الظلام غيرَ خَليق زَوْرَةٌ كان زُورُها، وأبي الصبْوَة، أحلى عندي من التحقيق أثرٌ ردَّ لي على اليأْس عَيْنَاً ... فاتني لحظُ حُسنِها المَوْموق مِن حبيبٍ وافٍ وخِلٍّ مُصافٍ ... ووصالٍ شافٍ وعيشٍ أنيق تحت ظلٍّ من النعيم ظَليلٍ ... فوق غُصن من الشباب وَريق وقال: مُوسى هواكمْ بجانب الطُّورِ ... يسعى بقلبٍ في الحُبِّ مكسورِ حَيْرَانَ في ظُلمة الجفاء فهل ... نارُ انعطافٍ تُدْنيه من نور فبادروه ببَدْرِ ضاحيةٍ ... من طُرَّتَيْه في شَكْلِ دَيْجُور نادوه لطفاً بعبدِ ودِّكُمُ ... سِرَّاً وناجوه بالمَعاذير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 ما الشان أنّا على محبّتنا ... لم نَخْلُ من هاجرٍ ومهجورٍ نهجُ سبيلٍ يسعى الوشاةُ به ... لصفوِ لَذّاتنا بتكدير قولوا لفرعونِ تيهِ ظالِمتي ... ما مثلُ عِشقي لها بمَكْفور قد شاع في الناس أنني كَلِفٌ ... بذاتِ لحظٍ كالسيف مَشهور فُتورُ أجفانها المِراضِ جَنى ... تمَرُّضي في الهوى وتَفْتيري بَكَتْ لِتَبْرا من ظُلْمِ مُقلَتِها ... إليّ والدمعُ شاهدُ الزُّور غداةَ قامت بصورةٍ هي أُنموذَجُ مُستحسَنِ التَّصاوير بغُصنِ قَدٍّ وحِقْفٍ رادِفَةٍ ... نيطت إليه بخَصْر زُنْبور زَنَّرَ مَجْرَى نِطاقها هَيَفٌ ... نُزِّه عن مَعْقِدِ الزَّنانير بيضاء شفّافة الأديم كما ... غَشَّيْتَ ياقوتَةً ببَلُّور ذات جبينٍ تَحُفُّه طُرَرٌ ... عَنْبَرُها مُحدِقٌ بكافور لو أنّ بستان وجهِها الجامع الأفنان حُسناً بغير ناطور داويتُ دائي بعَطْفِ نَرْجِسه الناعس لَثْمَاً ووَرْدِه الجُوري وكنتُ عالَيْت دُرَّ مَبْسِمها المنظومِ من أدمعي بمنثور أذاكَ أَشْفَى أم طِيبُ زَوْرَتِها ... أيام قال الكرى لها زوري دَنَتْ علي نَأْيها وأَسْعدَها ... إباحةُ النومِ كلَّ مَحظور فبِتُّ أَلْهُو بما أحاوله ... من بِدَع الحُسن غيرَ مَوْزُور رُؤيا تمَلَّيْتُها وأَحْسِبُني ... حقَّقْتُها في الهوى بتعبيري ويا عَذولي دَعْ ذكر مَسْأَلةٍ ... مُشْكِلَةٍ عُرِّضَتْ لتفسير فما أنا في النفير إنْ حضرت ... لذّاتُ أَهْلِ الهوى ولا العِير وليس خُبْري ما صافَحَتْكَ به ... فدع عُلالاتِها أخابِيري حماقةٌ ضاع في تتَبُّعِها ... مَحْفُوظُ شعري وضَلَّ تفكيري أين اشتغال الهموم مما تَقا ... ضاه فراغُ القوم المسارير بياض وَصفٍ للحبّ سوّد لا ... صحائفي ثَمَّ، بل دفاتيري ولم يُفِدْ غير أنه سببٌ ... خِفَّتُه أَصْلُ كلِّ توقير عاد إلى الجِدِّ هَزْلُه فغدا ... مَعْذُولُه وهو جدُّ مَعْذُور وله في وصف الخال: ومُهَفْهَفٍ كالغصن ما ... ل بعِطْفه مَرُّ النَّسيمِ في وجهه نارُ الحيا ... ءِ يَشُبُّها ماء النعيم يا حبَّةَ القلب التي ... فرَّتْ إليه من الصميم بَطَنَ الهوى فظهرتِ جا ... ئلةً على صافي الأديم حتى دُعيتِ وقد أقمتِ عليه بالخالِ المُقيم يا من أقام قيامتي ... بالخدِّ والقدِّ القويم وَجَنَى سَقامي في الهوى ... بفُتورِ ناظره السَّقيمِ ورمى فؤادي إذْ رنا ... تيهاً إليّ بلحظِ رِيم يا جَنّةً تدعو القلو ... بَ إلى مُباشرة الجَحيم وجَلا صباح جَبينِه ... في لَيْلِ طُرَّتِهِ البهيم انظُرْ لذُلّي يا عزيزُ بعينِ مُقتدِرٍ رحيم واعطِفْ عليَّ تكَرُّماً ... فالعَطفُ أولى بالكريم وله: أما لذا الليلِ سَحَرْ ... يا أملي فَيُنْتَظَرْ يا مُسْهِري بصَدِّهِ ... حاشاك مِن طُولِ السَّهَر يا قمراً بِتُّ لفَرْ ... ط حبّه أَرْعَى القمر ويا قضيباً رُحْت من ... خَطْرَته على خَطَر ويا غزالاً كلّما ... جاذبْتُه الأُنْسَ نَفَر إن قُلتُ قد رَقَّ قسا ... أو قلت قد أوفى غَدَر أو قلتُ قد عاد إلى العادة في الوَصْل هَجَر إحْذَرْ خِلافي فعسى ... يُنْجي منَ الخوف الحَذَر مَوْلاي عُدْ من قبل أن ... يَشيع في الناسِ الخَبر ويُصبحَ السِّرُّ الذي ... تعرِفُه قد اشتهر وله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 جِدُّ الهوى أوَّلُه مُزاحُ ... وكلُّ نارٍ فلها اقتداحُ آهاً لقلبي من حِمىً مُمنَّعٍ ... أغرى به تعرُّضٌ مُباح ونظرةٍ فتحتُ عنها ناظري ... وهيَ لبابِ شِقْوتي مِفتاح يا قمراً صَوْنِي لديه بِذْلةٌ ... إذا بدا وسَتريَ افتضاحُ ماذا يقول فيك عُذّالي وما ... أدري غَدَوْا بلَوْمِهم أم راحوا الغَيُّ ما يَزْعُمُه مُرْشدهمْ ... والغِشّ ما تقوله النُّصّاح سِرُّ الهوى المُودَعُ فيه أنه ... لولا الهوى لم تُخْلقِ المِلاح الناسُ أبناءُ الهوى شَقُوا به ... أو نَعِموا أو كتموا أو باحوا فسادُهُمْ فيهِ هو الصلاحُ ... وَفَرْطُ خُسْرانِهمُ رَباح الحبُّ في ليل الورى صَباحُ ... فيه البُدورُ الأوْجُهُ الصِّباح للقَطْف منها الوَرْدُ والتُّفّاحُ ... والشّهْدُ للرَّشْفِ بها والرّاح مَواطنٌ مالي، ولو بَرَّحَ بي ... وَجْدِيَ، عنها أبداً بَراح وله من قطعة: يا سيِّدي، دعوةَ الذّليلِ ... إعطِف على المُدْنَفِ العليلِ أَطْفِ بماءِ اللِّقاءِ ناري ... واشْفِ ببرد الرِّضا غَليلي يا واحدَ الحُسن حارَ فكري الدّ ... قيقُ في وصفك الجليل لكنني أكتفي بمعنىً ... مُخْتَصَرٍ واضِح الدّليل ما لكَ بينَ الورى ولا لي ... في الحسن والحُزْن من عَديل سعيد الحلبي شاب من جملة المهاجرين إلى مصر في الدولة الملكية الناصرية الصّلاحيّة، وفيه شيمة أدب وصلاحية. أنشدني بعض الأصدقاء بمصر له من قصيدة نظمها في محيي الدين ابن الشّهرزوري قاضي حلب أوّله: أساكنةَ العقيق كمِ العُقوقُ ... نشَدْتُكِ هل إلى صِلةٍ طريقُ سلبتِ الغُمْضَ عن أجفان عيني ... فبانَ لبينه الطَّيفُ الطَّروق وأسلمتِ الفؤادَ إلى خُفوقٍ ... فلا، وأبيكِ، ما سكن الخفوق صِلي يا عَلْوُ منّي حبلَ وُدٍّ ... له بوَكيد حبِّكُمُ عُلوق جُعِلْتُ فِداكِ كيف أصبتِ قلباً ... إلى غير اقترابِك ما يتوق رمتْ عيناكِ حبَّتَه بنَبْلٍ ... له من كلِّ جارحةٍ مُروقُ وما أصغى إلى عَذْلٍ فتُلْغى ... عهودٌ أو تُضاعَ له حقوق إذا تبِع العواذِلَ فيك قلبي ... فلا تبعَتْهُ أحشاءٌ وَمُوق فتاةٌ لا تُفيق من التَّجنّي ... فها أنا من هواها لا أُفيق تحمَّل خصرُها من مَنكبيها ... ومن أردافها ما لا يُطيق فيا للَّه من رِدْفٍ كثيفٍ ... يقوم بحمله خَصْرٌ دقيق حلفْتُ بها سَوالِكَ كلِّ فَجٍّ ... يكلِّفُها السُّرى ما لا تُطيق نِياقٌ كلّما قضَّتْ صَبوحاً ... مِن المَسرى تداركها غَبوق تُساق على الكَلال وقد تشكَّتْ ... من الإدلاجِ أعناقٌ وسوق إذا حملَتْ إلى جَمْعٍ فريقاً ... أراق دماءها بمِنىً فريق على أكوارها كلُّ ابن سَفْرٍ ... أُشَيْعِثُ مِن وَجاها يستفيق أبى إلاّ عِتاقَ العيسِ ما لا ... يبينُ لعينه البيتُ العتيق يميناً لا يُمازِجُها نُكولُ الْ ... يمينِ ولا يُلائمها فُسوق لقد قامت حدود الدِّين فينا ... بمحيي الدين واتَّضحَ الطَّريق بطَلْق الوجه ما يلقاكَ إلاّ ... ووجه نوالِه بهِجٌ طليق ومنها: دنا التَّوديعُ عنك فوا ضَياعي ... إذا سِيقَتْ بنا عنك الوُسوق أَتيتُ مُوَدِّعاً لكمُ وقلبي ... جَزوعٌ من فراقكُمُ فَروق وقُودُ العِيس تنتظر انقيادي ... وها أنا والمطايا والطّريق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 غداً أُومي إليكم من بعيدٍ ... كما يومي بإصبعه الغريق الوأْواء الحلبي شيخ بحلب قريب العصر منا. أنشدني الشيخ الفقيه عليّ بن الخيمي الواسطيّ بها، وكان شابّاً قد سافر إلى الشام وعاد في تلك المدة سنة أربع وخمسين وخمسمائة - وأنا حينئذٍ نائب الوزير عون الدين فيها - ولما وصلت إلى الشام سنة اثنتين وستين سألت عنه فقيل لي توفي من سنتين. قال أنشدني الوأْواء الحلبي بحلب لنفسه في المناظرة: طال فكري في جَهولٍ ... وضميري فيه حائر يستفيد القولَ منّي ... وهو في زِيّ مُناظِر وذكر أنه لقيه شيخاً مسناً، وأنشده لنفسه من قصيدة: أبى زمني أنْ تستقرَّ بيَ الدّارُ ... وأَقسم لا تُقضى لنفسيَ أوطارُ أَخِلاّيَ، كيف العدلُ والدَّهر حاكمٌ ... وكيف سُلوِّي والمُقدَّر أقدارُ فما غِبتمُ عن ناظري فيراكُمُ ... ولم ينسَكُمْ قلبي فيحْدُثَ تَذكار لئنْ غربَتْ شمس النّهار فمنكُمُ ... شموسٌ بقلبي ما تغيب وأقمار تَجُنُّ الدَّياجي إذ تُحَلَّ ذوائب ... ويسطو نهار حين تُعقَد أزرار وبي فرَقٌ بادٍ إذا ما تفرَّقوا ... ولي مدمع جارٍ إذا ما همُ جاروا وماءُ جُفوني فاض من نار مُهجتي ... فمَن مُخبري هل تُجمَعُ الماءُ والنّار لئنْ عِفتمُ نَصري إذا حلَّ حادثٌ ... فلي من دموعي في الحوادث أنصار وأَقتَلُ داءٍ للفتى في حياته ... قَتيرٌ بدا في العارضَيْنِ وإقتار الشيخ الزكي أبو علي الحسن بن طارق الحلبي من المتأخِّرين ذو نَظمٍ كاسمِه حسَنٍ حالٍ، وعِلمٍ عالٍ، وذكاءٍ ذكيّ، وأصل زكيّ. سافر إلى بلادنا تاجراً ببضاعتَي أدبه ونشَبه، عارضاً في سوق الفضل عقود دُرره وغُرره، ذكره السيد الشريف أبو الرّضا الرّاونديّ، فقال: أنشدني ابن طارق الحلبي لنفسه في الدار التي بناها بهاء الدين عبد الله بن الفضل بن محمود بقاشان. ومن العجيب أن ابن طارق لم يخرج من قاشان إلاّ بعد موته وكان بين نظمه هذه الأبيات وموت بهاء الدين أشهر قريبة: عَمَرْتَ دارَ فَناءٍ لا بقاءَ لها ... ظَنّاً بأَنَّكَ عنها غيرُ مُنتقِلِ أَتعبْتَ نفسَك، لا الدُّنيا ظفرتَ بها ... وأنتَ لا شكَّ في الأُخرى على وجَل دارُ الإقامَةِ أوْلى بالعِمارة من ... دارٍ نعيمُكَ فيها غيرُ متَّصل فاعملْ لنفسِك ما ترجو النَّجاةَ به ... فليس يُنجيكَ إلاّ صالحُ العمل قال وأنشدني ابن طارق لنفسه: لِعَيْنِكُمُ ما قد لقِيتُ وما ألقى ... وحُقَّ لمِثلي أن يبوحَ بما يَلقى ترحَّلْتُمُ عنّي فلم تبْقَ لذَّةٌ ... يلَذُّ بها قلبي، وهيهات أن تبقى وودَّعتموني فاستهلَّت مدامعي ... فلا ذكركم يُنسى ولا أَدمُعي تَرقا شَقِيتُ بما لاقَيتُ بعد فِراقِكُمْ ... ومَن غِبتُمُ عنه فلا بدَّ أن يشقى الشيخ أبو محمد الحسن بن إبراهيم التَّنوخيّ من المتقدمي العصر ذكره لنا سيدنا الأفضل عبد الرحيم بن الأُخوّة الشيباني البغدادي بأصفهان، وقال طالعتُ ديوانه وهو يشتمل على أكثر من عشر آلاف بيت فلم أختر منها غير عشرين بيتاً من جملتها: لم يبْقَ من مهجتي شيءٌ سوى الرَّمَقِ ... واخجلتاه من الأحباب كيف بقي ويا فؤادي وطَرفي قد أبحْتُكُما ... يومَ الرَّحيل نِهابَ الهمِّ والأَرق ودَّعتُهم ودموع العين جاريةٌ ... والوجدُ قد ألهب الأنفاسَ بالحُرق حتى لقد خِلتُ ماء البحر من نفسي ... يفنى ودمعي يَعُمُّ البرَّ بالغرق وما افترقنا بملتفِّ الأراك ضُحىً ... حتى تعلَّقَ وهْجُ الشوق بالورق وقرأت في مجموع بيتين لأبي محمد الحلبي وهما: قالت وأَبثَثْتُها مُغازَلَةً ... أَذعتُه في بديع أشعاري فضحتَني في الهوى فقلتُ لها ... أَخذتُ للبدر منكِ بالثار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 وقرأت في كتاب المُذيّل للسّمعاني في التاريخ أنشدني عبد الرحيم بن الأخوة البغدادي بأصفهان، أنشدنا أبو محمد الحلبي لنفسه: شرُفَتْ نفسُ كريمٍ ... هي للذل تُنافي وتصونُ النَّفسَ عن تط ... لاب ما فوق الكفاف قال وأنشدني لنفسه: يا مَن كساني سَقاماً ... وجسمُه منه عار رَضيتُ لو كنتَ ترضى ... فيه بذُلِّي وعاري الرئيس جمال الملك أبو غانم الحلاوي الحلبي ممن ظرفاء المتأخرين، هو بالحقيقة حَلاويّ أهل الأدب، ذكره مجد العرب العامريّ لنا وأثنى عليه، وقال هو من أعيان المتأَدِّبين بالشام، ذو رياسة وكياسة، ورقَّة في الطبع وسلاسة، وحلاوة وطلاوة، وأدب غير مفتقر إلى علاوة، قال أنشدني لنفسه: إنَّ الأعاريبَ الذين تحضَّروا ... وقَلَوْا مصاحبةَ الفضاء النّازح لم يسكنوا ظِلَّ الجدار وإنّما ... هم بين غادٍ في القلوب ورائحِ الأثير أبو المعالي الفضل بن سهل الحلبي شيخ بهيّ، له منظر شهيّ، لقيته ببغداد، وكان يستنشدني ما انظمه في زمان الصِّبا متعجِّباً به، مستغرباً له، وتوفي ببغداد سنة سبع أو ثمان وأربعين وخمسمائة. ومن شعره: مُدْنَفٌ وصحتُه ... بَعْدكُمْ من العجبِ بالعراق مسكنُه ... والطبيب في حلب المُفدَّى الشامي أنشدت له بيتاً واحداً، من شعرٍ له في مسلم بن قريش في عصره وهو على حصار حرّان، وهو: بقيَّة صِفّين والنَّهروان ... فدونك ما سنَّ فيهم علي نصر بن إبراهيم بن أبي الهيجا البازيار الحلبي ذكره لي وُحيش الشاعر، وقال ما معناه أنَّ مولد نصر ومنشأَه بدمشق، وكان لصبيان المكتب سائقاً، ثم صار معلّماً فائقاً، ثم صار شاعراً حاذقاً، مُجيداً في حلبة النَّظم سابقاً، وفي ذروة العلم سامقا، ثم عاد طبيباً حاذقا، رابح السوق نافقا، موفّقاً في كلِّ صنعة موافقا، وتوفي بها سنة اثنتين وأربعين، وقد بلغ السبعين. وأنشدني من قصيدة له في مدح الوزير المزدقاني، وكان إذ ذاك وزير صاحب دمشق: تجافى الكرى ونبا المَرقَدُ ... وقلَّ مُعينُكَ والمُسعدُ لقد كنت أطمع في زَورةٍ ... من الطَّيف لو أنّني أَرقُدُ وصفراء كالتِّبر كرخِيّة ... يطوف بها شاذِنٌ أَغيَد جلا الصبح وهْناً بلألائها ... فصُبْحُ النّدامى به سرمد وفي المستقِلّين رُعبوبةٌ ... بأَنوارها الرَّكبُ يسترشد لقد كنتُ أجحدُ وَجدي بها ... فنمَّتْ جفوني بما أجحد ومنها في المدح: أيا ابن الّذين بنَوا في العُلى ... منازلَ من دونها الفَرقَدُ وأحيَوا لمَن قهروا ذِكرَه ... فإن قيل أَفنَوا فقد خَلَّدوا وأنشدني وُحَيش لنصر البازيار الحلبي من قصيدةٍ في مدح الرئيس المحيي بن الصوفي، عند فتكه بالباطنيّة في دمشق، وكان ذلك عصر يوم الأربعاء سابع عشر شهر رمضان سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة: أَطيف المالكيّة زار وَهْناً ... حماكَ الغُمْضَ أم داءٌ دفين وفي العيس التي بكَرَت بُدورٌ ... تُرَنِّحُها على كُثُبٍ غُصون وأنت تسومني صبراً جميلاً ... وهل صبرٌ إذا خفَّ القَطين أَتلتمسُ العَزاءَ وقد بدا لي ... حبيبٌ ظاعنٌ ونوىً شَطون وتأْمر أَن أًصون دموع عيني ... أفي يوم النّوى دمعٌ مَصون لقد جنتِ العيونُ عليَّ حَتفاً ... أيا للهِ ما جنتِ العيون ومنها: عجبتُ لمَن يقيمُ بدار سوءٍ ... يَذِلُّ على الخُطوب ويستكين نُسامُ الخسف بين ظهور قومٍ ... تساوى الغَثُّ فيهم والسَّمين وما أهل العُلى إلاّ سيوفٌ ... ونحن لها الصّياقلُ والقُيون ومنها في التخلُّص: لِيَوْمِ الرَّوعِ سابغَةٌ دِلاصٌ ... ولِلتَّرحال شَوشاةٌ أَمون وفي الآفاق مضطَرَبٌ فسيحٌ ... ولم تضِق السُّهولَةُ والحُزون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 وفي جدوى الوجيه رجاءُ صِدقٍ ... إذا كذبَت على الناس الظُّنون فمَن يُنضي المَطِيَّ إلى سواه ... فما حركاته إلاّ سكون ومنها في وصف فتكه بالإسماعيلية وقتل في ذلك الأسبوع بدمشق أكثر من عشرة آلاف نفس، ولم يتعرَّض لِحُرَمِهم وذَراريهم: فقل لذوي النفاق بحيث كانوا ... أبادَ حِماكُمُ الأَسَدُ الحَرونُ ملكناكُمْ فصُنّا مَنْ وراكم ... ولو مُلِّكتمونا لم تصونوا أَسلنا من دمائكم بحوراً ... جُسومكمُ لجائشها سَفين الدُّمَيْك بن أَبي الخُرجَين هو الشيخ أبو منصور بن المسلم بن علي بن أبي الخرجين الحلبي التَّميميّ السَّعديّ، كان معلِّماً بدمشق، ذكر لي الكاتب زين الكتّاب علي بن جعفر المعروف بابن الزغلية وهو شيخ مليح الخط والعبارة، أنه كان في المكتب عنده وهو أُستاذه، وتوفي سنة نيف وعشرين وخمسمائة، وكتب لي قصائد بخطِّه من شعره وأعارني الجزء وهو يشتمل على قوله: رأيتُ عذابي في محبَّتكم عَذبا ... وبُعدَ دياري من دِياركُمُ قُربا جنيتم علينا إذْ جَنينا ودادَنا ... لكم، ومنحناكم على بغضكم حُبّا وخُنتم فما خِبتم رجاءً ورغبةً ... كأنَّكمُ الأيّام في منعها تُحبى تخالَفَ نوعُ الحُسن فيمن عشقتُه ... هِلالٌ غَلا لمّا علا غُصُناً رَطبا أَحلَّ فراقي حين فارقَه الصِّبا ... وشبَّ فؤادي بالجوى عندما شبّا وجسَّره الواشي على الجَوْر فاعتدى ... وقد كنت أرجو منه أنْ يُحسِنَ العُقبى كذا الدّهرُ يقضي بالنَّعيم وبالشَّقا ... فيأْخذ إن أعطى ويبغض إن حبّا رأيت الفتى يأْتيه ما لا ينالُه ... بسعيٍ ولو أَنضى الرَّكائبَ والرَّكْبا وإن رامَ إدراكَ المُنى بفضيلةٍ ... فقد رام أمراً ليس يدركُه صعبا وإنَّ صديق المرء أوسع رحمةً ... وأكثرُ إنصافاً له من ذَوي القُربى تجاور فيه هيبةٌ ومودَّةٌ ... فلم يخْل من ودّ ومن هيبةٍ قلبا ويذهب بالودِّ المِراء ويمتري ... حفائظَ لا تُبقي على صاحبٍ صَحْبا إذا حُرمَ الإنسانُ قلَّ نصيرُه ... وصار قضاءُ الحادثات له ذَنبا وإن هي أعطتْه السعادةَ صيَّرَتْ ... له الجهلَ حِلماً والعدوّ له حِزبا تحيَّرت الألباب في الجدِّ واغتدتْ ... تَعُدُّ خَفاهُ عن بصائرها خَطبا تساوى ضُروب النّاس فيه جَهالةً ... ولو عرفوه رامَ كلٌّ له كَسبا توقَّ قليل الشَّرِّ خوفَ كثيره ... ولا تحقِرَنَّ النَّزْرَ رُبَّتما أَربى فإنَّ صغير الشيء يَكبُر أمرُه ... وكم لفظةٍ جرَّتْ إلى أهلها حربا وقوله: توالَفَ في زَمِّ الرَّكائب إخوانُ ... وخالف في حثِّ النَّجائب جيرانُ فباكٍ من الوَخْدِ الوَحِيِّ وضاحكٌ ... وصاحٍ من الوجد النَّجيِّ وسكران أُناسٌ سُقوا كأْساً من البَيْنِ مُرَّةً ... شُجونُ نَداماهم عليها وأَشجان تحيَّتهم نجوى تَلوعُ وصَبوَةٌ ... غِناؤهم شكوى تَروعُ وإرْنان إذا قُرِعوا مَسَّ الأسى قرعوا له ... ظنابيبَ صبرٍ ما لِفحواه وجدان وما كلُّ شيءٍ ظنَّه المرءُ كائناً ... يقوم عليه للحقيقة برهان أَأَحبابَنا إنْ خلَّفَ البعدُ بَعدكمْ ... قلوباً ففيها للتَّقرُّق نيران رَجَونا مَعيناً من زفير وَقودِها ... مُعيناً فما جفَّتْ من الدَّمع أجفان فلا تعجبوا من بعدكم في بقائها ... عشِيّاً وقد بانتْ حُمولٌ وأَظعان وهل ينفعُ الإنسانَ قلبٌ ترادفَتْ ... عليه همومٌ طارقاتٌ وأحزان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 رحلتم على أنَّ القلوبَ ديارُكمْ ... وأنَّكم فيها، على النّأْي سُكّان يقول أُناس بحْتَ بالشَّوق، والحِجى ... دليلاه فعلٌ يقتضيه وكتمان فقلتُ خَفِيُّ الشوق للمرء جَهْرةٌ ... طِباعاً وسِرُّ الحبِّ للمرء إعلان بنفسي حبيبٌ فاتن الطرف أَحْوَرٌ ... شهيّ الثَّنايا فاتر الطَّرف وَسنان ترقرقَ ماء الحسن في صحن خدِّه ... ليُسقى به غصنٌ من البان ريّان إذا ما أذاعتْ بالسِّرار لِحاظُه ... إلى اللبِّ لبّاها من اللبِّ إذعان عَرَفتُ به عكس القضيَّة في الهوى ... فمنه وصالٌ لي ومنِّيَ هِجرانُ أَبَنْتُ له عند الوَداع تَجَلُّدي ... ولي كبدٌ حرَّى به وهو حيران وما باختيار المرء تشعَبُ نِيَّةٌ ... فتبرَحُ أَوطارٌ وتَنزح أوطان عسى مَوردٌ من ماء جَوشَن ناقعٌ ... فإني إلى تلك الموارد ظمآن تُجاذبني عن عَزمةٍ الهجر هِجرَةٌ ... ويُوبِقني من طاعة الصبر عِصيان أحِنُّ حنين الوالهات إليكُمُ ... وتمنعني منكم خطوبٌ وأزمان زيادة حدّي نقصُ جدّي وإنّما ... زيادة فضل المرء للحَظِّ نقصان وما كلُّ إنسان ينال مراده ... ويسعدُه فيما يحاولُ إمكان وعيشُ الفتى طعمانِ حُلْوٌ وعلْقَمٌ ... كما حاله قِسمان رِزقٌ وحِرمان وأمنيّة الإنسان رائد نفسه ... وراضٍ بأفعال الزَّمان وغضبان وما كلُّ نظّارٍ بناظِرِ فكرِه ... وما كلُّ من يهديه نَهْجٌ وتِبيان سأُعمِلُ نَصَّ العِيس تَذرَعُ بوعُها ... تنائِفَ لا إنسٌ بهنَّ ولا جان وأَدَّرِعُ الليل البهيمَ وأمتطي ... عزائمَ ترجوها صِفاح وخُرصان فإنَّ الهُوَينا للهَوان أَمارةٌ ... إذا لم يكن عن قدرة المرء عُدوان أبا حسنٍ ما انفكَّ يأْتي مُواتِراً ... إليَّ جميلٌ من نَداك وإحسان مَلَكْتَ به منّي ثناءً ثنيتُه ... فسارت به في البرِّ والبحر رُكبان شكرتُك شُكر الأرض للغيث واصباً ... أصابَ ثراها منه سَحٌّ وتَهتان تحلَّت بأنواع الرِّياض كأنَّها ... تجلَّت لعين الدَّهر، فالدَّهر جَذلان وإنّي على إسهابه لَمُقَصِّرٌ ... ويَبْسُطُ عُذراً للمُقصِّر عِرفان أَخذْنا بأقسام الفضيلة بيننا ... فإن كنت سَحباناً فإنَّكَ لقمان لقد وَجدتْ منك الأمانةُ كافياً ... بها وافياً إن معشَرٌ عهدَها خانوا حَصيفٌ إذا خَفّوا، عفيفٌ إذا عَفَوْا ... عَيوفٌ إذا اشتفّوا، أمينٌ إذا مانوا بلغتَ من العلياء أشرفَ منزلٍ ... يُقصِّرُ عن كونٍ بنجواه كيوان دلَلْتَ على أخلاقِكَ الغُرِّ بالذي ... فعلتَ من المعروف، والفعلُ عُنوان وأَلسنةُ الأقوام في البعد كتْبُهُمْ ... تَناجى بها عند اللُّبانةِ أَذهان فصِلْني بكُتْبٍ تشْفِني بوصولِها ... فإنِّي إليها شَيِّقُ القلب ولهان فلا عدِمَتْ منك المكارمُ نِسبةً ... فإنَّك من طرْف المكارم إنسان وقوله: غرامٌ على طول البِعاد يزيدُ ... وحبٌّ على مرِّ الزَّمان جديد وصبرٌ إذا حاولتُ أَثني عِنانَه ... لِيُصْحِبَ طَوعاً صدّ وهو كنود أَبى القلبُ إلاّ أن يُتَيِّمَهُ الهوى ... ويُسلِمَه التَّذكار فهو عَميد فرَتْهُ على نأْي المنازل وَفرَةٌ ... وجاد عليه بالصّبابة جِيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 وأَصْباهُ مُرتاحاً قضيبٌ على نقاً ... تَهُبُّ له ريحُ الصَّبا فيَميد أيا سائقَ الأظعان من أرض جَوشَنٍ ... سَلِمْتَ ونِلتَ الخِصبَ حيثُ تَرود أبِنْ ليَ عنها تشْفِ ما بي من الجَوى ... فلم يَشْفِ ما بي عالجٌ وزَرود هَلِ العَوَجان الغَمْرُ صافٍ لواردٍ ... وهل خضَبَتْهُ بالخَلوق مُدود وهل عينُ أَسمونيث تجري كمقلتي ... عليها وهل ظِلُّ الجِنان مَديد إذا مرِضَتْ وَدَّتْ بأَنَّ ترابَها ... لها دون أكحال الأُساة بَرود وهل ساحرُ الألحاظ تُحفَظُ عنده ... مواثيقُ فيما بيننا وعهود تُمَثِّلُ لي عيني على النّأْي شخصَه ... فيَقرُبُ مني والمزارُ بَعيد أراحَ عليَّ الشَّوقُ عازبَ زَفرتي ... وردَّ إليَّ الهمَّ وهو طريد وقد غرَّني قلبٌ أرانيَ أنَّه ... على طول أيّام الفِراق جَليد وأعجَبُ منّي أن صبرْتُ ليالياً ... وإنَّ اصطباري ساعةً لشديد وما كنت أدري أن تَشُطَّ بك النّوى ... ويسعى عدوٌّ بيننا وحَسود وأن نصيبي من ودادك لوعةٌ ... لها في فؤادي والضُلوع وَقود قَسوتَ فما يُدني ثَواكَ تَقَرُّبٌ ... إليك ولا يثني نواك صدود وأفنيتُ عُذرَ النفس فيك ولم أزل ... أَسُدُّ طريقَ العُذر وهو سديد وقد يُحْبِبُ الإنسانُ ما فيه نقصُه ... ويُبغِضُ ما يَنمي به ويزيد ويؤثِرُ من غير الضَّرورة ضُرّهُ ... ويرغب عمّا سرَّه ويَحيد هو الجَدُّ لا يُعطي المَقادةَ صعبُه ... ويبدئ في إسماحه ويُعيد نُريد من الأيّام تصفو من الأذى ... وتضْفو ولا يقضي بذاك وُجود وكيف نرومُ العيشَ خِلواً من القَذى ... وللماء من بعد الصَّفاء رُكود تجَمَّعَ من بعد اجتماع مودةٍ ... خليل، وعن ذوب النُّضار جُمود وأين الذي يبقى عليك ودادُه ... وأين الذي تختاره وتُريد إذا كان يُعطى المرءُ ما يستحقّه ... تساوى شقيٌّ في القضا وسعيد ومِن حُبِّنا الدُّنيا، على سوء فعلها ... يُعافُ ذميمُ العيش وهو حميد وأَنّى ترى طَرْفاً عن الحِرص طارِفاً ... لِيسأَمَهُ والزُّهدُ فيه زهيد وليس لمرءٍ في القناعة بُغيَةٌ ... فتُلفى، وشيطان المَراد مَريدُ إذا لم تجدْ ما تبتغيه فخُضْ بها ... غِمارُ السُّرى، أُمُّ الطِّلاب وَلود فكم خرَّقَتْ بطنَ الجَبوب أَساوِدٌ ... وكم ركبت ظهر الصعيد أُسود فلا قرةٌ إلاّ وأنت مؤمَّلٌ ... ولا ثروةٌ إلاّ وأنت تجود وله: إذا الله أعطاكَ الغِنى فأفِدْ به ... سِواكَ ولا تَحرمْهُ يَحرِمْكَ فضلَهُ فذاك امتحان، إنْ تُنِلْه تنَلْ به ... مَزيداً وإن تمنعه يجتَثُّ أصلَه ولابن أبي الخرجين: الناسُ كالأرض ومنها همُ ... منْ خَشِنِ اللَّمْس ومِن لَيْنِ مَرْوٌ تَوَقَّى الرِّجْلُ منه الأذى ... وإثْمِدٌ يُجعَلُ في العين وله: تُنمَى إليه السَّمهَرِيَّةُ والظُّبى ... فتطولُ للقربى به وتصول يُجدي ويُردي فهو في محْل الحيا ... خِصْب وفي خِصب الحياة مُحول وله في مُغَنٍّ: خَفَّ الثَّقيلُ فجاء طَوْعَ بَنانه ... لما دعاه وأَصْحَبَ المَزمومُ لا يخرج النَّقَراتِ عن موضوعها ... فكأَنَّه في ضَربه معصوم وله: يا أبا البِشْر بشَّر الله رَبعاً ... أنتَ فيه ثاوٍ، بصَوبِ الربيع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 لم أجِدْ للزَّمان غيرَكَ خِلاًّ ... أَصطفيه، كم واحدٍ بجميع وله: فارقْتنا إذْ لا رِضىً منّا به ... مَن يرتضي بُعْدَ السَّحاب الهامِرِ ما كنتَ إلاّ السيفَ فارق غِمدَه ... للضَّرْب ثُمَّتَ عادَ عودةَ ظافر وله من قصيدة: تَظَلُّ الملوكُ له طائعين ... إذا ما عفا أو وَفى أو بَذَلْ وينتحلون الذي يصنعون ... وأين الطِّباع وما يُنتَحَل مَناقب طُلْتَ عليهم بها ... غَلَتْ وعلَتْ في مَداها زُحَل سبقتْ بها شيبَهم والشبابَ ... صَبِيّاً كسَبْقِ الشُّروقِ الطَّفَل تَمَنّى عِداك بقولٍ مَداك ... وأينَ المُنى من بلوغ الأَمَل ومجداً تليداً فما أدركو ... هُ بالحَوْلِ منهم ولا بالحِيَل فلا زال أمرُك في كلِّ ما ... تُحاوله أَبداً مُمْتَثَل ومنها في وصف بلدٍ آمنَهُ: فأَعْتَقْتَها من مُثار العَجاج ... وأَقطعْتها لمُباح الأَجل أبو النَّصر بن النحاس الحلبي كان من المجيدين المفيدين المعاصرين لابن سنان الخفاجي قبل سنة خمسمائة، ومن بديع شعره قوله: ملكتَ قلبي مُستَرِقاً له ... وكان حرّاً غيرَ مُستعبَدِ سكنتَ فرداً فيه حتى لقد ... خِفتك تشكو وَحشة المفرد فلو تنازعنا إلى حاكمٍ ... قضى لك استحقاقه باليد وقوله يصف عُجَّةً: أبا الحسن استمِعْ قولي وبادِرْ ... إلى ما تشتهي، تفديكَ نفسي فعندي عُجَّةٌ تُزهى بلونٍ ... كلَون البدر في عشرٍ وخمس أجادت في صناعتها عجوزٌ ... لها في القلي حِسٌّ أَيُّ حِسِّ فلم أرَ قبل رؤيتها عجوزاً ... تصوغ من الكواكب عَيْنَ شمس وقوله، أورده أبو الصَّلت في الحديقة: انظر إلى حظِّ ابن شِبْلٍ في الهوى ... إذ لا يزال لكلِّ قلبٍ شائقا شغلَ النِّساءَ عن الرجال وطالما ... شغل الرجال عن النِّساء مُراهقا عَشِقوه أمرَدَ فالتحى فعَشِقْنَه ... اللهُ أَكبرُ ليس يعدَمُ عاشقا أبو محمد إسماعيل بن علي الدمشقي المعروف ب ابن العينزربي له: أَعينيَّ لا تستبقيا فيضَ عَبرَةٍ ... فإنَّ النَّوى كانت لذلكَ موعدا فلا تعجبا أن تُمطِرَ العينُ بعدَهُمْ ... فقد أبرقَ البينُ المُشِتُّ وأَرعدا ويومٍ كساه الغيمُ ثوباً مُصنَّعاً ... وصاغتْ طِرازَيه يدُ البرق عَسْجَدا كأنَّ السّما، والرعد فيها، تَذكرا ... هوىً لهما فاستعبرتْ وتنهَّدا ذكرتُ به فيّاضَ كفَّيْكَ في الورى ... وإن كانتا أَهمى وأبقى وأَجودا وله: عراني جَوىً شُبَّتْ به في الحَشا نارُ ... وأَرَّقني شوقٌ شديدٌ وتَذكار فرِفقاً بقلبي حيث شطَّتْ بكم نوىً ... وحِفظاً له والجارُ يحفظُه الجارُ فيا عجبا أنّي أعيش مع النّوى ... جَليداً على ما يفعل الدّهر صبّار وما كنتُ أرضى أن أحِلَّ ببلدةٍ ... وتنأَى، ولكن لا تُغالَبُ أَقدارُ وما ليَ فيما شتَّتَ الشَّمْلَ حِيلةٌ ... هو الدّهر نهّاءٌ عليَّ وأَمّارُ فيا راكباً إمّا عرَضْتَ فبلِّغَنْ ... سلامَ أخي شوقٍ به الدّهر غدّار إلى ساكني مصرَ فإنَّ بها المُنى ... وإن كثُرَتْ في صفحة الأرض أَمصار ومنها: لئن لم أسِرْ سعياً إليك مبادراً ... فكم ليَ بيتٌ في مديحك سيّار ترى في سماء المجد عبدَك كوكباً ... ولكنه للناظم الشِّعر غرّار نجم بن أبي درهم الحلبي ذكره وُحَيْشٌ الشاعر وقال مولده بحلب ونشأ بدمشق وتخيّل من ابن الصّوفي ومضى إلى حلب، ثم عاد بعد ذلك، وتوفي بحلب سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، وكان شاعراً هجّاءً، قال ومن جملة أهاجيه قوله في قوم من دمشق يقال لهم بنو نُفايَة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 أَبني نُفاية إن سَعْدَكُم ... جاءت به الأيّام عن غلَطِ قد صار هذا النّاس أَكثرُهم ... سقَطاً فكيف نُفايةُ السَّقَط قال وله في غلام يسبح في نهر ثورا وهو يتجنَّب ويتجبَّن النزول في الماء: يا واقفاً متحيِّراً ... في الماء من خوف الغرَقْ أَجِرِ الغريقَ بدمعه ... ففؤادُه يشكو الحُرَق مَنْ قال إنَّكَ مالكٌ ... رِقّ القلوب فقد صدق الشَّعرُ أسودُ حالكٌ ... والثَّغْرُ مُبيَضٌّ يقَق وكأنَّ طُرَّةَ رأْسِه ... ليلٌ أكَبَّ على قَلَق هل في الورى أحدٌ رأى ... شمساً تبدَّت في غسق ي لائمي في حبِّه ... ما اخترتُ ذاكَ بل اتَّفق لا يأْمَنُ الإنسانُ في ... شُرْبِ الزُّلال من الشَّرَق قال ابن رُواحة الشاعر ما رأيت أحداً أبلغ منه في محبة السنة وهو في حلب، وأنشدني له في شريفٍ بدمشق: أَصبحتَ كالكِشْكِ في أَضْلَيْه مُفتخراً ... ويستحيلُ إلى ضُرٍّ وتخليط ما أنت إلاّ كباناسٍ فأوَّلُه ... عذبٌ فراتٌ ومنه ماء قلّوط وله في ابن أبي قيراط بديهةً: يا ابن أبي قيراط لِمْ لَمْ تكنْ ... تَرعى حقوقَ ابن أبي درهَمِ هذا وفيما بيننا نِسبةٌ ... مثلُ انتساب الكَفِّ والمِعصَم وله مطلع قصيدة: سأنفُضُ بُردي من جميع مطامعي ... فليستْ عَشِيّاتُ الحِمى برواجِعِ جرجس الفيلسوف الأنطاكي النصراني ذكره أبو الصّلت أُميّة في رسالته عند ذكر الطبيب اليهودي أبي الخير سلامة بن رحمون، قال وكان بمصر طبيب من أهل أنطاكية يسمى جرجس ويلقب بالفيلسوف على نحو ما قيل في الغراب أبو البيضاء واللديغ سليم، قد تفرغ للتولع به، يعني بابن رحمون، والإزراء عليه، يزوّر فصولاً طبية وفلسفية يبرزها في معارض ألفاظ القوم وهي مُحال لا معنى لها، وفارغة لا فائدة فيها، ثم يُنفذ بها من يسأله عن معانيها ويستوضح أغراضها، فيتكلم عليها ويشرحها بزعمه دون تيقظ ولا تحفظ بل باسترسال واستعجال وقلة اكتراث فيؤخذ فيها عنه ما يضحك منه. وأُنشدت لجرجس هذا فيه وهو أحسن ما سمعته في هجو طبيب: إن أبا الخير على جهلِه ... يَخِفّ في كِفَّتِه الفاضلُ عليلُه المسكين من شُؤْمِه ... في بحر هُلْكٍ ما له ساحل ثلاثةٌ تدخل في دفعةٍ ... طَلْعَتُه والنعش والغاسل قال أبو الصلت ولبعضهم يعني به نفسه: لأبي الخير في العِلا ... جِ يدٌ ما تُقَصِّرُ كلُّ من يَسْتَطِبُّه ... بعد يَوْمَيْن يُقْبر والذي غاب عنكم ... وشَهِدْناه أكثر وقال آخر في بعض أطباء عصرنا: قل للوَبا أنتَ وابنُ زُهْرِ ... قد جُزْتُما الحَدَّ في النِّكايَه ترَفَّقا بالورى قليلاً ... في واحدٍ منكما كِفايه وقال آخر: ما خطر النَّبْضُ على بالِه ... يوماً ولا يعرفُ ما الماءُ بل ظنّ أنّ الطِّبَّ دُرّاعَةٌ ... ولِحيةٌ كالقُطنِ بَيْضَاء وقال شاعر آخر في مثلهم: وطبيبٍ مُجَرَّبٍ ماله بالنُّجْح في كلّ ما يُجرِّبُ عادَهْ مرَّ يوماً على مريض فقلنا: ... قُرَّ عيناً، فقد رُزِقْتَ الشَّهاده ولجرجس في هذا الطبيب: جنونُ أبي الخير الجنونُ بعَينِه ... وكلُّ جنونٍ عنده غايةُ العَقْلِ خذوه فغلُّوه وشُدُّوا وَثاقه ... فما عاقلٌ مَن يستهين بمُخْتَلِّ وقد كان يؤذي الناس بالقول وحدَه ... فقد صار يؤذي الناس بالقول والفعل أبو طالب عبد الله بن علي بن غازي الحلبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 من أهل هذا العصر. ذكره لي الفقيه الشاب أبو الفضل محمد بن يوسف الغَزنوي وقال لقيته بحلب وهو من مقدّميها المُقدَّمين، ومُميَّزيها المحترمين، فأعارني جزءاً استملاه من ديوانه، فأعرته نظري لأخرج منه ما يُعرب عن إحسانه، فانتخبت ما حَلِي من نظمه أوزان من أوزانه، وأضربت صفحاً عما شان من شانه، وأوردت ما يروق جني ورده، ويشوق هَنِيُّ وِرْده، ويصوب وبل فضله، ويصيب نبل نُبله، ويحلو حلبُ درِّه، ويجلو جلبُ دُرِّه، فمن ذلك قوله: قد قلتُ في وقتِ الصباحِ ... والراحُ مَحمولٌ براحِ يا صاح دونك والخلا ... عة والتهتك بالمِلاح لا تَأْلُ جهداً عن طِلا ... بك واعْص فيه كلَّ لاح وقوله: ليس الحِذار عن الأهوال يَثْنِيني ... ولا السِّنون لأخذ الثارِ تَنْسِيني فالعُودُ مني صليبُ العَجْم ليس له ... في كلِّ حادثةٍ للدهر من لين ولي من السيفِ عَونٌ ليس تخذلُه ... كفّي وَفاءً إذا الإخوان خانوني أرضيْتُ كلَّ خليطٍ في مُخالَطةٍ ... وما رأيتُ أخاً في البؤس يُرْضيني وقوله: إن أخملت أرضُ الشآم فضائلي ... في أهلها للجَهلِ من رؤسائها فالعينُ تَقْصُرُ أن ترى أجفانها ... وترى الكواكبَ في مَنار سمائها وقوله: أَصِلُ الأحِبّة في الغِنى فَقْرَاً إلي ... حُسنِ الثَّنا وأَصُدِّ في الإعدام وأنا الذي لو أنّ روحي في يدي ... نزَّهْتُها عن صُحبة الأيّام وقوله: لكلٍّ على مرِّ الزمان تنَقُّلُ ... وهمي على مَرِّ الزمان مُقيمُ فحتى متى يا دهرُ ما لي مسَرّةٌ ... وحتى متى عَيْشِي لَدَيْكَ ذميم وقوله من قصيدة: وغدوتُ أقتنِصُ الظِّباءَ فمرَّ بي ... قمرٌ على غُصُن بدا في يَلْمَقِ فعيوننا حُبُكُ النِّطاق بخَصرِه ... ولحاظُه بقلوبنا كاليغلق لا مُسْعِدٌ للعاشقين سوى الدُّجى ... والصُّبح واشٍ بينهم بتفرُّق وقوله: لا خيرَ في صُحبة الدنيا وزُخْرُفِها ... وآخِرُ الأمر من حالاتها العَطَبُ يظنُّ كلُّ جَهولٍ أن تسالِمَهُ ... وسِلْمُها أبداً في أهلها الحَرَب اُنْظُرْ منازل مَن قد كان مُحْتَكِماً ... تُغْنيك عن كلّ ما تأتي به الكُتُب وقوله: إذا أرضاك ذو لؤمٍ بقولٍ ... فإنك منه تَسْخَط في الفِعال فَخَفْ منه العواقب ما تَدانى ... وجانِبْ منه أسباب الوِصال وقوله: وقائل ليَ إذ لفَّقْتُ مَدْحَهُمُ ... زُوراً وَمَيْناً وقد أزرى به الخَرَص مُبْيَضُّ مَدْحِك في مُسْوَدِّ فِعلِهمُ ... كأنما هو في أعراضهم بَرَص وقوله: إغتنم يا صاحِ إمْكانَ الفُرَصْ ... إنما دنياك لهوٌ يُفْتَرَصْ يا خليليَّ على عهد الصِّبا ... كلُّ من أدعو لبلواي نَكَصْ كم صديقٍ شَبِثَتْ كَفّي به ... فإذا رُمت به النصر ملص وقوله: حِفْظُ اللسان سلامةٌ للراس ... والصمت عِزٌّ في جميع الناسِ والفكر قبل النُّطق يُؤمَنُ شَرُّه ... والفكر بعد النُّطق كالوَسواس وقوله: اغتنم الصَّوْنَ بالسكوت ولو ... تنال بالقول غايةَ الأمَلِ فكم كلامٍ أضرَّ صاحبَهُ ... وعنده كان مُنتهى الأجَلِ وقوله: بساطُ العمر يُطوى بعد نشرٍ ... بهَزْل ثم جِدٍّ في التمادي ولا شيءٌ من الثَّقَلَيْن يبقى ... فما هذا التنافس في النَّفادِ وقوله: لمّا نظرتُ حُمول الحيِّ سائرةً ... وَمَنْ أُحِبُّ بذاك الظَّعْن قد رحلا غدا الرِّكاب بدمعي غارقاً وبدا ... ذاك الغريق بنار الوَجْد مُشتعلا فلو أتَتْني المنايا يومَ بَيْنِهمُ ... كانت تلاحظني بالبَيْنِ مُشْتَغِلا وقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 راحٌ إذا ما بَدَتْ في كفِّ كاعِبةٍ ... تُخالُ شمساً بَدَتْ في هالةِ القمر دقَّت لطافَتُها عن عين شاربها ... فلا تُحَسُّ بغير الوهم في البَشر وقوله: مُهَفْهَفُ القامة مَمْشُوقُها ... يختال في تيهٍ من الشَّكْلِ والدُّرُّ والياقوت في خَدِّه ... قد خالطته أَرْجُلُ النَّمْلِ وقوله: ومُهفهفٍ كالغُصنِ في هَيَفٍ ... أُسْقى شَمولاً من شمائله دَبَّ العِذار بخدِّه فَبَدَتْ ... شَعَرَاتُه عَوْنَاً لعاذِله ومنها: لا دولةٌ تبقى على أحدٍ ... والدهرُ ذو لهوٍ بآمله وقوله: إذا هاجَ بي شوقي مررتُ بداركمْ ... مُرورَ مَشوقٍ ذاهل العقل جازِعِ ويعظُمُ عندي أن أُدِلّ بشافعٍ ... إليكم وآبى أن أَذِلَّ لمانع وقوله: قد بَدَتْ شمسٌ على غصنٍ ... كهلالِ الفِطر تُرْتَقَبُ ثم وَلَّتْ وهي قائلةٌ ... حيثُ ما أسفرتُ يَنْتَقِبُ أُنظروه بعد مُنْصَرفي ... فَسَنَا خَدّي له حُجُب وقوله: إغْنَمْ نعيمك في الشبابِ ... وامْزُجْ كؤوسَك بالرُّضابِ واقْطُفْ بها ثمر النعيم وخُذْ لنفسك في الذَّهابِ وقوله: باتَ نديمي والكأْسُ يمزُجها ... بالدمع مني ومنه بالأُشَرِ ظَبْيٌ كحدّ الظُبى لواحظُه ... قد كُحِلَتْ بالفُتور والحَوَر ونحن في غفلةِ الزمان وما ... يشوبها روعةٌ من الحذر والكأس شمسٌ وكفُّه فلكٌ ... ووجهه البدر في دُجى الطُّرَرِ ما خِلْتُ يا صاح قبلَ ليلتِنا ... يُجمَعُ ليلٌ للشمس والقمر ولا حَسِبْتُ الزمان يسمح لي ... بابن ذُكاءٍ في صورة البشر وقوله: قطعتُ الرّجا بالزُّهد في سائر الناسِ ... ونزَّهتُ روحي بالتَّفَرُّدِ والياسِ ولا هَمَّ ممّن ليس تعرف في الورى ... وهَمُّكَ ممّن قد صَحِبْتَ من الناسِ وقوله: بَدَرَتْ كالبدر في يدِها ... قهوةٌ كالشمسِ تَشْتَعِلُ ثم قالتْ وهي باسمةٌ ... اغْتنمنا أيها الرجلُ انتهزها فرصةً سَنَحَتْ ... إنما أيّامنا دُوَل وقوله: مُقامنا بديارٍ لا صديق بها ... وسوف نطلُب بالتَّرْحال إخوانا اِطْوِ السُّهوبَ وسِرْ في الأرض مُغترِباً ... عسى تصادف في الآفاق إنسانا وقوله: فلا تَغْتَرَّ من خِلٍّ ببِشْرٍ ... ولا بتَوَدُّدٍ عند التلاقي فكم نَبْتٍ نضيرٍ راق حُسْناً ... عِياناً وهو مُرٌّ في المذاق وقوله في الحثّ على العلم: العلم يزكو على الإنفاق فاغتنموا ... تعليمَه لذوي الأحساب والكرَمِ ليَسْنَحَ الفخرُ ممن قد تعلَّمه ... منكم وتشتهروا بالفضل في الأُمَم وقوله: لا تَشْكُرِ الإنسان عن ... خَبَرٍ ولكن لاختبارِ الناس مثلُ معادنٍ ... خبُتْ وطابت في النِّجار وقوله: تَهونُ رزايا الدهر في كلّ حادثٍ ... إذا لم تكن مقرونةً بفراقِ وأعظمُ لذّات الزمان لأهله ... بشيرٌ أتى مِن عازبٍ بتلاق وقوله: بالثّنايا العِذاب زِدْ في عذابي ... إنني صابر لعُظْمِ المَنابِ ليس يشكو الغرامَ غيرُ ظَلومٍ ... ضَيَّع الحزمَ في هوى الأحباب وقوله: قطعتُ وِصالك لا عن قِلىً ... ونَكَّبْتُ عنك حِذار الرقيبِ وما كلُّ ناءٍ بعيد المحلِّ ... إذا كان مسكنه في القلوب وإني بعين اشتياقي أراك ... بفكري تلاحظني من قريب وقوله: أرى الرُّشْدَ سوءَ الظنّ والغَيَّ حُسْنَه ... ومن قد أضاع الحَزمَ يَصْبِر للنُّوَبْ وحفظُك للأسرار يُبلغك الرَّجا ... وهتكُك للأسرار يُوردُك العَطبْ وقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 هل لجَدٍّ عاثرٍ من وَثْبَةٍ ... أم لحظٍّ قاعدٍ بي من قيام فأنا المُغْفَلُ ما بين الورى ... لا لنقصي بل لنقصٍ في الأنام وقوله في الشيب: يا مُشيراً بعد شيبٍ بالتَّصابي ... ضاق ذَرْعِي عن حبيب وصِحابِ لستُ ذا حِرصٍ على لذّاته ... قَصُر الخَطْوُ فما لي من طِلابِ القاضي ثقة الملك أبو علي الحسن بن علي بن عبد الله بن أبي جرادة من أهل حلب، سافر إلى مصر وتقدم على وزرائها وسلاطينها خاصة عند الصالح أبي الغارات ابن رُزّيك، وهو من بيت كبير من حلب، وذو فضل غزير وأدب، وتوفي بمصر في جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، ومن سائر شعره ما يغنَّى به، أنشدني له بعض أصدقائه بدمشق: يا صاحبيَّ أَطيلا في مؤانستي ... وذكِّراني بخُلاّنٍ وعُشّاق وحَدِّثاني حديث الخَيفِ إنَّ به ... رَوحاً لقلبي وتسيلاً لأخلاقي ما ضرَّ ريحَ الصَّبا لو ناسَمَتْ حُرَقي ... واستنقذَتْ مُهجَتي من أسْرِ أَشواقي داءٌ تقادم عندي، مَن يُعالجُه؟ ... ونَفثَةٌ بلغَتْ مِنّي، مَنِ الرّاقي؟ يفنى الزَّمانُ وآمالي مُصَرَّمةٌ ... مِمَّن أُحِبُّ على مَطْلٍ وإملاق يا ضيعةَ العمْر لا الماضي انتفعْتُ به ... ولا حصلت على علمٍ من الباقي وأنشدني الشّريف إدريس بن الحسن بن علي بن يحيى الحسني الإدريسي المصري لابن أبي جرادة قصيدةً في الصالح بن رُزّيك يذكر قيامه بنصر أهل القصر بعد فتكة عباس وزيرهم بهم وقتله جماعةً منهم وقيام ابن رزّيك في الوزارة أَولها: مَنْ عَذيري مِنْ خليلي مِن مُرادِ ... مَن خفيري يوم أرتاد مُرادي ومنها في مدحه: حامل الأعباء عن أهل العَبا ... آخذٌ بالثّأْر من باغٍ وعاد من عُصاةٍ أضمروا الغدر فهم ... أهل نَصْبٍ ونِفاق وعِناد قتلوا الظافر ظلماً وانتحَوا ... لبني الحافظ بالبيض الحِداد واعتدى عبّاس فيهم وابنُه ... فوق عُدْوان يزيد وزياد مثل سَفرٍ قتلوا هاديَهمْ ... ثم ضَلّوا مالهم من بعدُ هادِ جاءهم في مثل ريحٍ صرصرٍ ... فتولّوا مثل رَجْلٍ من جراد بعد ما غرَّهُمُ إملاؤه ... ولهيب الجمر من تحت الرَّماد وتظَنَّوا أَنْ سترتاعُ بهم ... هل تُراعُ الأُسْدُ يوماً بالنِّقاد وأنشدني لابن أبي جرادة في ابن رزّيك لما قتل ابن مدافع محمداً سيّد لوائه قبل الوزارة من قصيدة: لعَمري لقد أفلح المؤمنونا ... بحَقٍّ وقد خسر المُبطلونا وقد نصر الله نصراً عزيزاً ... وقد فتح الله فتحاً مُبينا بمن شاد عُلياهُ واختاره ... ولقَّبه فارس المسلمينا وكان محمد ليثَ العرين ... فأَخلى لعَمرُك منه العرينا وقد كاد أن يتبين الرّشاد ... فأعجله الحَيْن أنْ يستبينا ولا بدَّ للغاصب المُستدين ... على الكُره من أنْ يُوَفّي الدُّيونا ومن يخذُل الله ثمَّ الإمامَ ... فليس له اليوم من ناصرينا ولمّا استجاشت عليه العِدى ... وشبَّ له القوم حرباً زَبونا سقاهم بكأْسٍ مريرِ المَذا ... ق لا يَعذُبُ الدَّهرَ للشاربينا وأشبعَ منهم ضِباعَ الفلاة ... فظلُّوا لأَنعُمِه شاكرينا وأنشدني الأمير مرهف بن أُسامة بن منقذ، قال: أنشدني أبو عبد الله بن أبي جرادة لنفسه: لَهفي لفَقد شبيبةٍ ... كانت لديَّ أجَلَّ زاد أنفقْتُها مُتَغَشْمِراً ... لا في الصلاح ولا الفساد ما خِلْتُ أَنّي مُبتلىً ... بهوى الأصادِق والأعادي حتى بكَيْتُ على البيا ... ضِ كما بكيت على السّواد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 قال ومن شعره قوله: أَحبابَنا شَفَّنا لِهَجركُمُ ... وبُعدِنا من وِصالِكُمْ، خَبَلُ فإن قطعنا لا تَحفِلون بنا ... وإن وصلناكُمُ فلا نصِلُ فأرشدونا كيفَ السبيلُ فقد ... ضاقت بنا في هواكُمُ الحِيَلُ شأْنُ المحِبِّين أنْ يدوموا على الْ ... عَهد وشأْنُ الأحِبَّة المَلَل ثم طالعت بمصر ديوانه فكتبت منه ما ارتضيتُه، وذَخَرت من نقده ما وفَّيته حق الانتقاد، وأنجزته بعد ما اقتضيته. فمن ذلك قوله: لقاؤكَ أغلى من رُقادي على جفني ... وقُرْبُكَ أَحلى من مُصاحَبة الأمن أَيا مَنْ أَطَعْتُ الشوقَ حتى أتيتُه ... وأَيقنتُ أَنّي قد لجأْتُ إلى رُكْنِ لئن لم أَفُزْ منكَ الغَداةَ بنظرةٍ ... تُسَهِّلُ من وَعرِ اشتياقي فواغَبْني وقوله: وَجدٌ قديمٌ وهوىً باقِ ... ونظرةٌ ليس لها راقِ ودمعُ عينٍ أبداً حائرٌ ... ليس بمنهَلٍّ ولا راقِ أَحبابنا هل وَقفةٌ باللِّوى ... تُسعِفُ مُشتاقاً بمُشتاق وهل نُداوَى من كُلوم النَّوى ... بلَفِّ أَعناقٍ بأعناق ما زلتُ من بينِكُمُ مُشْفِقاً ... لو أنَّه ينفع إشفاقي أعوم في لُجَّة دمعي إذا ... ما أُضرِمَتْ نيرانُ أَشواقي وَجْدي بكم نَقْدٌ، وميعادُكم ... مُنكسرٌ في جملة الباقي يا ساقياً خمرةَ أجفانه ... لهفي على الخمرة والساقي أما تخافُ الله في مُقلةٍ ... لا عاصمٌ منها ولا واقِ كأَنَّها كَفُّ الأَجَلِّ انبرَتْ ... تَعْدو على المال بإنفاق وقوله: إنَّ بين السُّجوف والأرواقِ ... فتنةً للقلوب والأحداق ومَريضُ العهودِ تُخبرُ عَيْنا ... هُ بما في فؤاده من نِفاق أنا منه في ذِلَّةٍ وخُضوعٍ ... وهو مني في عِزَّة وشِقاق سدَّدَ السَّهْمَ من جفونٍ إذا ما ... فُوِّقَتْ لم يكن لها من فواق وليالٍ من الصِّبا بتُّ أَسْتَعْ ... رِضُ فيها نفائس الأعلاق حيث لا نَجمُها قريبٌ من الغر ... بِ وليست بُدورُها في مَحاق فُزْتُ بالصَّفْو في دُجاها ولم أَدْ ... رِ بأَنَّ الإشراقَ في الإشراق يا خليليَّ هل إلى معهد الحَيِّ ... سبيلٌ للهائم المُشتاق إنَّ وَجدي به وإن طال عهدي ... لحديدُ القُوى سديدُ الوَثاقِ مثلُ وَجد القاضي المُوَفَّق بالمج ... دِ وقِدماً تصاحَبا بوِفاق ذاكَ مولىً كأنَّما سلَّم اللَّ ... هُ إليه مفاتح الأرزاق ذو مَعالٍ مُقيمةٍ في ذُراه ... وثناءٍ يسيرُ في الآفاق وندىً لا يزال يدأبُ في طُرْ ... قِ النَّدى سائراً إلى الطُّرّاق وقوله كتبه إلى أخيه بالشام من مصر: فؤادٌ بتَذكار الحبيب عميدُ ... وشوقٌ على طول الزّمان يزيد وعينٌ لبعد العهد، بين جُفونِها ... قريبٌ، ولكن اللقاء بعيد وما كنت أدري أنَّ قلبي صابرٌ ... وأنّي على يوم الفراق جليد ومنها: أريدُ من الأيّام ما لست واجِداً ... وتوجدُني ما لا أكادُ أُريدُ وقوله: سريرةُ حُبٍّ ما يُفَكُّ أَسيرُها ... ولوعةُ قلبٍ ليس يخبو سعيرُها ونفسٌ أبتْ أنْ تعرف الصبر عنكُمُ ... وكيف وأنتمْ حُزنُها وسرورها وهل حاملٌ منّي إليكم تحيَّةً ... إذا تُليَتْ يوماً يضوعُ عبيرها ومنها: رعى اللهُ أَيّامَ الصِّبا كلَّما هفَتْ ... صَباً، فشفى مرضَى القلوب مُرورُها فهل لي إلى تلك المنازل رَجعَةٌ ... أُجَدِّد من وَجدي بها وأزورها لئنْ نزحَتْ داري فإنَّ مودَّتي ... على كدَر الأيّام صافٍ غديرُها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 وقوله فيمن تردَّد إليه فتعذَّر لقاؤه عليه: عزَّني أنْ أراكَ في حالة الصَّحْ ... وكما عَزَّني أوانُ المُدام وكما لا سبيل أن نتناجى ... من بعيدٍ بألسن الأقلام فعليك السّلامُ لم يبقَ شيءٌ ... أَترجّاه غيرُ طيف المنام وقوله من قصيدة: يا غائبين وما غابت مودَّتُهم ... هل تعلمون لمن شَفَّ الغرامُ شِفا إن تَعتِبوني فعندي من تذَكّرِكُمْ ... طَيْفٌ يُطالع طَرفي كلما طَرَفا أو تجحدونيَ ما لاقيتُ بعدَكُمُ ... فلي شواهدُ سُقمٍ ما بهِنَّ خَفا واهاً لقلبٍ وهى من بعدِ بينكُمُ ... وكنتُ أعهد فيه قوَّةً وجَفا فالريح تُذكي الجَوى فيه إذا نفحتْ ... والوَجد يقوى عليه كلّما ضعُفا فارقتُكم غِرَّةً مني بفرقتكمْ ... فلم أجد بدلاً منكم ولا خلَفا ومنها: وقد فضَضْتُ لعَمري من كتابكُمُ ... ما يشبه الوُدَّ منكم رقَةً وصفا فبِتُّ أَستافُ منه عنبراً أَرِجاً ... طَوراً وأنظرُ منه روضةً أُنُفا أودُّ لو أنّني من بعض أسطره ... شوقاً وأحسد منه الّلام والألِفا آليتُ إن عادَ صرْفُ الدَّهر يجمعُنا ... لأَعفوَنَّ له عن كلِّ ما سلفا لهفي على نفحةٍ من ريح أرضكُمُ ... أَبُلُّ منها فؤاداً مُوقِراً شَعِفا ووَقفةٍ دونَ ذاكَ السَّفح من حلبٍ ... أَمُرُّ فيها بدمعٍ قَطُّ ما وقفا أنفقتُ دمعي قصداً يومَ بينكُمُ ... لكنَّني اليومَ قد أنفقتُه سَرَفا ما لي وللدهر ما ينفكُّ يقذفُ بي ... كأنني سهمُ رامٍ يبتغي هدفا وقوله: ما على الطَّيف لو تعمَّد قَصدي ... فشفا غُلَّتي وجَدَّد عهدي وأتاني ممن أحبُّ رسولاً ... وانثني مُخبراً حقيقةَ وَجدي إن أحبابنا وإن سلكوا اليوْ ... مَ، وحاشاهُمُ، سبيلَ التَّعدِّي ونسُونا فلا سلامَ يوافي ... بوفاءٍ منهم ولا حُسْنَ رَدِّ لهُمُ الأقربونَ في القرب منّي ... وهمُ الحاضرونَ في البعد عندي ما عهِدناهُمُ جُفاةً على الخِ ... لِّ ولكن تغيَّر القوم بعدي ليتهم أسعفوا المحِبَّ وأَرْضَو ... هُ بوَعْدٍ إذ لمْ يجودوا بنَقد حبَّذا ما قضى به البينُ من ض ... مٍّ ولثْمٍ لو لمْ يشُبْهُ ببُعْدِ لكَ شوقي في كلِّ قربٍ وبعد ... وارتياحي في كلِّ غَورٍ ونَجد ولئن شطَّ بي المَزارُ فحسبي ... أنني مُغرَمٌ بحبِّك وحدي وقوله من أبيات كتبها إلى الأمير مؤيد الدين أسامة بن منقذ: أحبابَنا فارقتُكُمْ ... بعد ائتلافٍ واعْتِلاق وصفاءِ ودٍّ غير مَمْ ... ذوقٍ ولا مُرِّ المَذاق ووثائقٍ بينَ القلو ... ب تظَلُّ مُحكمةَ الوِثاق نفَقَتْ بسوق المَكْرُما ... تِ فليس فيها من نِفاق لكنني وإن اغتربْ ... تُ وعَزَّني قربُ التلاقي لا بدَّ أن أتلو حقي ... قةَ ما لقيتُ وما أُلاقي أمّا الغرامُ فما يزا ... لُ به التّراقي في التّراقي وكذلكُمْ وَجدي بكم ... باقٍ وصبري غيرُ باق وطليق قلبي مُوثَقٌ ... وحبيسُ دمعي في انطلاق ومنها: أَمْلَلْتُهُمْ مِن طول ما ... أَمْلَلْتُهُمْ وصفَ اشتياقي يا ويحَ قلبي ما يزا ... ل صريع كاسات الفراق بل ليتَ أيّامي الخوا ... لي باقياتٌ لا البواقي وقوله: غرامٌ بدا واشتهر ... ووَجْدٌ ثوى واستقرّْ وجسمٌ شجَتْه النَّوى ... فلِلسُّقْمِ فيه أَثَرْ وقلبٌ إلى الآن ما ... علمتُ له من خبَر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 وليلٌ كيوم الحسا ... ب ليس له من سحَرْ ولي مقلةٌ ما يزا ... ل يعدو عليها السَّهَر كأنَّ بأجفانها ... إذا ما تلاقت قِصَرْ بنفسيَ من لا أرا ... هُ إلاّ بعين الفِكَرْ ومَن لستُ أسلو هوا ... هُ واصَلني أم هجَرْ ألينُ له إن جفا ... وأعذره إن غدر وأركبُ في حبِّه ... على الحالتينِ الخطرْ وقوله: عنَّفَ الصّبَّ ولو شاءَ رَفَقْ ... رَشأٌ يرشُق عن قوس الحَدَقْ فيه عُجْبٌ ودلال وصِباً ... وتَجَنٍّ ومَلالٌ ونزَق ليَ منه ما شجاني وله ... من فؤادي كلُّ ما جلَّ ودَقّْ ومنها: يا خليلَيَّ أَعيناني على ... طول ليلٍ وسَقامٍ وأَرَقْ أتظنّان صلاحي مُمكناً ... إنَّما يَصْلُح مَن فيه رمَقْ وقوله: ما على طيفِكُمُ لو طرقا ... فشفى منّا الجوى والحُرقا ومنها: قاتل الله فؤاداً كلَّما ... خفَقَ البرقُ عليه خَفَقا وجُفوناً بَلِيَتْ مُذْ بُدِّلَتْ ... منكمُ بعد نعيمٍ بشقا وبنفسي شادنٌ يوم النَّقا ... كهلالٍ في قضيبٍ في نَقا أسرتني نظرةٌ من لحظه ... فاعجَبوا مني أَسيراً مُطلَقا وبِوُدّي عاذِرٌ من غادرٍ ... نكثَ العهدَ وخان المَوثِقا لم أزل أصحَبُ في وَجدي به ... جسداً مُضنىً وطَرفاً أَرِقا يا خليليَّ على الظَّن ومَنْ ... ليَ لو أَلقى خليلاً مُشفِقا حَلِّلاه ما سبى مِن مُهجَتي ... واستذِمّاهُ على ما قد بقا وانشُدا قلبي وصبري فلقد ... ذهبا يوم فراقي فِرَقا وقوله: مَن صَحَّ عُقدةُ عَقدِه ... وصفَتْ سريرَةُ وُدِّه لم يعترض في قربه ... رَيْبٌ ولا في بعده وقوله مما يُكتب على سيف: أنا في كفِّ غلامٍ ... بأْسُه أَفْتَكُ مِنّي أنا عند الظَّنِّ منه ... وهو عند الظَّن منّي وقوله كتبه إلى أخيه: هل لِلمُعَنّى بَعد بُعد حبيبه ... إلاّ اتِّصالُ حَنينِه بنحيبِه جُهدُ المُحبِّ مَدامِعٌ مَسجومَةٌ ... ليست تقومُ له بكشف كُروبِه أَحبابَنا بانَ الشَّبابُ وبِنتُمُ ... عن مُدنَفٍ نائي المحلّ غريبه أمّا المدامعُ بعدكم فغزيرةٌ ... والقلبُ موقوفٌ على تعذيبه لي أُلفةٌ بالليل بعد فراقكم ... والنَّجمِ عند شُروقه وغُروبه وأكاد من ولَهي إذا ما هبَّ لي ... ذاك النَّسيمُ أطيرُ عند هُبوبه وقوله من قصيدة: بِوُدّي لو رَقّوا لفيض دموعي ... ومَن ليَ لو مَنُّوا برَدِّ هُجوعي بُليتُ بمُغتال النَّواظِر مُولَعٍ ... بهجري، ولا يرثي لطول وَلوعي فحَتّامَ أَدنو من هَوى كلِّ نازحٍ ... وأرعى بظهر الغيب كلَّ مُضيع وهل نافعي أَنّي أَطعتُ عواذلي ... إذا ما وجدتُ القلبَ غيرَ مُطيع وما ليَ أخشى جَورَ خصميَ في الهوى ... وخصمي الذي أَخشاه بين ضلوعي فيا ويحَ نفسي من قِسِيِّ حواجِبٍ ... لها أسهمٌ لا تُتَّقى بدروع ومن عَزْمَةٍ أَذْكَتْ غرامي وأَبعدَتْ ... مَرامي وأَلقتني بغير رُبوع وقوله من أُخرى: عُهودٌ لها يومَ اللِّوى لا أُضيعُها ... وأَسرارُ حبٍّ لستُ ممَّن يُذيعها أَصاخَتْ إلى الواشينَ سمعاً ولم يزل ... يقولُ بآراءِ الوُشاة سَميعُها ومنها: وما كان هذا الحبُّ إلاّ غَوايةً ... فوا أَسفا لو أَنّني لا أُطيعُها تقضَّتْ ليالٍ بالعقيق وما انقضت ... لُبانةُ صَبٍّ بالفريق وَلوعُها ولمّا أفاضَ الحيُّ فاضتْ حُشاشَةٌ ... أَجَدَّ بها يومَ الوداع نُزوعُها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 وقفنا وللألحاظ في مَعْرَك النَّوى ... سِهامُ غَرامٍ في القلوب وُقوعُها ومنها: وبِيضٍ أَعاضَتني نَواها بمثلها ... أَلا رُبَّ بِيضٍ لا يَسُرُّ طُلوعُها خلعتُ لها بُردَ الصِّبا عن مناكبي ... وعِفْتُ الهوى لمّا عَلاني خليعُها وقوله كتبها إلى والده يتشوَّقه: شوقي على طول الزّما ... نِ يزيدُ في مِقداره وجَوى فؤادي لا يَقِ ... رُّ وكيف لي بقراره والقلب حِلفُ تقلُّبٍ ... وتحَرُّقٍ في ناره والطَّرْفُ كالطِّرْفِ الغر ... يق يعومُ في تيّاره وتأسُّفي وتلهُّفي ... باقٍ على استمراره من ذا يرِقُّ لنازِحٍ ... عن أهله ودياره لعبَ الزّمانُ بشَمْله ... وقضى ببُعد مَزارِه فالسُّقمُ من زُوّاره ... والهَمُّ من سُمّاره والصبر من أعدائه ... والدمع من أنصاره وهمومُه مقصورةٌ ... أبداً على تذكاره وقوله إلى القاضي الأجلّ الأشرف ابن البيساني متولي الحكم بعسقلان: لعلَّ تَحَدُّرَ الدَّمع السَّفوحِ ... يُسَكِّنُ لوعة القلب القريحِ وعلَّ البرقَ يروي لي حديثاً ... فيرفعهُ بإسنادٍ صحيحِ ويا ريحَ الصَّبا لو خبَّرتني ... متى كان الخيامُ بذي طُلوحِ فلي من دمع أجفاني غَبوقٌ ... تُدار كؤوسه بعد الصَّبوح وأشواقٌ تقاذف بي كأني ... عَلَوْتُ بها على طِرْفٍ جَموح ودهرٌ لا يزال يحُطُّ رحلي ... بمَضْيَعةٍ ويُرويني بِلُوحِ كريمٌ بالكريم على الرَّزايا ... شحيحٌ حين يُسأَل بالشَّحيح وأيّامٌ تُفرِّقُ كلَّ جَمعٍ ... وأحداثٌ تجيزُ على الجريح فيا لله من عَوْدٍ بعُودٍ ... ومِنْ نِضْوٍ على نِضوٍ طليحِ وأعجبُ ما مُنيتُ به عِتابٌ ... يؤرِّقُ مُقلتي ويُذيبُ روحي أتى من بعد بُعدٍ واكتئابٍ ... وما أنكى الجروح على الجروح وقد أُسرى بوجدي كلُّ وفدٍ ... وهَبَّتْ بارتياحي كلُّ ريح سلامُ الله ما شَرَقَتْ ذُكاءٌ ... وشاق حنينُ هاتفةٍ صَدوح على تلك الشَّمائل والسَّجايا ... وحسن العهد والخُلُق السَّجيح على أُنْس الغريب إذا جفاه الْ ... قريبُ ومَحْتِد المجدِ الصَّريح على ذي الهِمَّة العَلياء والمِنَّ ... ةِ البيضاءِ والوجهِ الصَّبيح ومنها: صَفوحٌ عن مؤاخذة المَوالي ... وليس عن الأعادي بالصفوح هُمامٌ ليس يبرَح في مقامٍ ... كريم، أو لدى سعي نجيح حديدُ الطَّرف في فعلٍ جميلٍ ... وقورُ السَّمع عن قولٍ قبيح مددتُ إليه يدي فشدَّ أزري ... وذادَ نوائب الدَّهر اللَّحوح وفزتُ بوُدِّه بعد ارتيادٍ ... ولكن صدَّني عنه نُزوحي وما أدركت غايته بنظمي ... ولو أدركت غايةَ ذي القروح ولكني وقفت على عُلاه ... عَتادي من ثناءٍ أو مديح وقوله من قصيدة: إلامَ ألومُ الدَّهر فيكمْ وأعْتِبُ ... وحتّامَ أرضى في هواكمْ وأغضبُ أما مِن خليلٍ في الهوى غير خائنٍ ... أما صاحبٌ يوماً على النُّصح يصحَب بأَيَّةِ عُضوٍ ألتقي سَورةَ الهوى ... ولي جسَدٌ مُضنىً وقلبٌ معذَّبُ عذيريَ مِنْ ذِكرى إذا ما تعرَّضت ... تعرَّضَ لاحٍ دونها ومؤنِّبُ ومنها: أرى الدَّهرَ عوناً للهموم على الفتى ... وضِدّاً له في كلِّ ما يتطلَّب فأبعَدُ شيءٍ منه ما هو آمِلٌ ... وأقرب شيءٍ منه ما يتجنَّبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 وقد يحسب الإنسان ما ليس مدرِكاً ... كما يدرِكُ الإنسانُ ما ليس يحسب وقوله من قصيدة كتبها إلى والده سنة ثلاث وأربعين: ظنَّ النَّوى منك ما ظنَّ الهوى لَعِبَا ... وغرَّه غَرَرٌ بالبَيْنِ فاغْتربا فظلَّ في رِبْقَةِ التَّبْريح مُؤْتَشِباً ... مَن مات من حُرْقَةِ التَّوديع مُنْتَحِبا مُتَيَّمٌ في بني كعبٍ به نسبٌ ... لكنه اليوم عُذْريٌّ إذا انتسبا أجاب داعي النَّوى جهلاً بموقِعها ... فكانَ منها إلى ما ساءه سببا يا عاتِبَيَّ رُوَيْداً من مُعاتَبتي ... فلستُ أوّلَ مُخْطٍ في الورى أَرَبَا رُدّا حديثَ الهوى غَضّاً على وَصَبٍ ... يكادُ يقضي إذا هبَّتْ عليه صَبا وجَدِّدا عهده بالسَّمع عن حلبٍ ... فإنَّ أَدْمُعَه لا تَأْتَلي حَلَبَا ومنها: للهِ قلبي ما أغرى الغرامَ به ... وحسنُ صبريَ لولا أنه غُلِبا يا قاتلَ اللهُ عَزْمَاً كنتُ أَذْخَرُه ... رُزِيتُه في سبيل الحب مُحْتَسِبا إذا تفَكَّرْتُ في أمري وغايتِه ... عَجِبْتُ حتى كأني لا أرى عَجَبَا ومنها: أَسْتَودِع اللهَ أحباباً أُشاهِدهمْ ... بعين قلبي وليستْ دارُهم كَثَبَا أصبحتُ لا أرتجي مِن بعد فُرْقتهم ... خِلاًّ أُفاوضه جِداً ولا لَعِبَا فإن سُرِرتُ فإني مُضْمِرٌ حَزَنَاً ... أوِ ابْتسمتُ وجدتُ القلب مكتئِبا وقوله: قالوا تَرَكْتَ الشِّعرَ قلتُ لهم ... فيه اثنتان يعافُها حسبي أمّا المديح فجُلُّهُ كذبٌ ... والهجوُ شيءٌ ليس يَحْسُنُ بي وقوله في كسرِ الخليج بمصر: حبَّذا كَسْرُ الخليجِ ... وهو ذو مرأى بهيجِ حبَّذا ما نحنُ فيه ... مِن دُعاءٍ وضجيج والشَّواني فيه تجري ... كالصَّياصي في النَّسيج نحن في جوِّ سماءٍ ... ما لَدَيْها من فُروج كبُدورٍ في بُروجِ ... أو سُطورٍ في دُروجِ أو زُهورٍ في مُروجِ ... أو ملوك في سروجِ وله منها في المدح: قلتُ إذ أقبل كالد ... رِّيِّ في الليلِ الدَّجُوجي ما رأينا قطُّ بحراً ... سائراً نحو الخليج وقوله من قصيدة: من لي بأَحورَ قُربي في محبَّته ... كالبعدِ، لكن رجائي منه كالياسِ مُستعذِبٌ جَوْرَه فالقلب في يده ... مُعذَّبٌ، ويدي منه على راسي ودَّعْتُه مِن بعيدٍ ليس من مَلَلٍ ... لكن خَشِيتُ عليه حَرَّ أنفاسي وقوله: ما ضرَّهُم يومَ جَدَّ البَينُ لو وقفوا ... وزَوَّدوا كَلِفَاً يودي به الكَلَفُ تخلَّفوا عن وَداعي ثُمَّتَ ارتحلوا ... وأخلفوني وُعوداً ما لها خَلَفُ ومنها: أَسْتَودِعُ الله أحباباً أَلِفْتهُمُ ... لكن على تَلَفي يوم النَّوى ائتَلفوا تَقَسَّموني، فقِسْمٌ لا يُفارِقُهمْ ... أَيْنَ اسْتَقلّوا وقسمٌ شَفَّه الدَّنَفُ عَمْرِي لَئِنْ نَزَحَتْ بالبين دارُهمُ ... عنّي فما نزَحوا دمعي ولا نزَفوا يا حبّذا نظرةً منهم على وَجَلٍ ... تكادُ تُنْكِرني طوْراً وتعترِف وتوفي أبو علي بن أبي جرادة بالقاهرة في جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وخمسمائة. أخوه: القاضي الأعز أبو البركات بن أبي جرادة كان أميناً على خِزانة الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بن آق سُنقُر وهو عدلُها، وبيده عَقدُها وحَلُّها، إلى أن توفي بعد سنة خمسٍ وخمسين وخمسمائة، ووجدتُ من شعره في ديوان أخيه من قصيدة كتبها إليه بمصر: يميناً بما ضمَّتْ غداةَ المُحصَّب ... جَنوبُ مَنىً من ذي بِطاحٍ وأخشَب ومنها: وشُعْثٍ على شُعْثٍ كأنَّ وجوههمْ ... شُموسُ نهارٍ أو أهلَّةُ غيهب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 فهم يقصدون البِرَّ في كلِّ وِجهةٍ ... ويجتلبونَ الأجر من كل مجلَب لَبَرَّحَ بي شوقٌ على إثر ظاعنٍ ... مقيمٍ على حُكمِ القِلا والتَّجَنُّب ومنها: أَسُكّانَ مِصرَ هل إليكم لذي هوىً ... ولو في منام العَين وَجهُ تَقَرُّب سقى جانب الوادي الذي عُقدَتْ به ... قِبابُكُمُ، صوبُ الحَيا المُتهدِّب فروَّضَ من مَغناكُمُ كلَّ تَلْعَةٍ ... وطَفَّحَ من بطحائكم كلَّ مِذْنَب وهبَّت لكم ريحُ الصَّبا بتحيَّةٍ ... أرقَّ من الشَّكوى إليكم وأعذب ومنها: خليليَّ من عُليا ربيعةَ مالنا ... عَقَقنا وكُنّا من أبرِّ بني أَبِ رحلنا وخلَّينا أعِزَّةَ أهلنا ... يُراعونَ مَسْرى الطّارق المُتأَوِّب وصرعى بأكناف الرِّحال كأنَّهمْ ... سُكارى ولم تُقرَعْ كؤوسٌ بأكؤبِ يئنّونَ مِمّا أثخَنَ البينُ فيهمُ ... أنينَ أسيرِ الثائرينَ المُعذَّب لهم بقدوم الرَّكْبِ أُنسٌ وغِبطةٌ ... وإن لم يكن من نحونا شَدُّ أركَب فإن آنسوا ذِكراً رَمَوا بأكفِّهمْ ... إلى كلِّ قلبٍ في لظىً متقلِّب وإن عاينوا منّا كتاباً تطالَعَتْ ... بَوادِرُ دمعٍ بالدِّماء مخضَّب قصدنا لهم ضِدَّ الذي قصدوا له ... لقد عاقبتْ آراؤنا غيرَ مُذنِبِ إلى أيِّ حيٍّ غيرهم أنا راحِلٌ ... وفي أَيِّ أهلٍ بعدهم مُتطلَّبي أعاتبَ نفسي في اصطباري عنهمُ ... وأذهبُ في تأنيبها كلَّ مذهب وإمّا رأى الأقوامُ مني تجلُّداً ... فما الشأن إلاّ في الضَّمير المُغيَّب فكتب جوابَه إليه من مصر إلى حلب: أتاني ومَنْ طابتْ به أرضُ يثربِ ... على شِدَّةِ البَلوى وطول التَّرقُّب أمينٌ إذا ما استُودِعَ السّرَّ صانه ... وإن خانَ فيه كلُّ خِلٍّ مُهذَّب فأكرِم به من زائرٍ متعَمِّدٍ ... وأحسِن به من واصلٍ مُتعَتِّب سرَرْتُ به نفسي وأقرَرتُ ناظري ... وأكثَرتُ إعجابي به وتعجُّبي وقبَّلْتُه في الحال ثم وضعتُه ... على كبدٍ حرَّى وقلبٍ معذَّب وقابلت ما وافى به من تحيَّةٍ ... بما شئت من أهلٍ وسهلٍ ومَرحَب وأَمَّلْتُ منه أن يُسَكِّنَ لوْعتي ... فهيَّجَ بَلبالي وزادَ تلهُّبي ومنها: أَأَحبابَ قلبي والذينَ أَوَدُّهُمْ ... وأَشتاقُهُمْ في كلِّ صبحٍ وغيهَب بغير اختياري فاعلموا وإرادتي ... نزلتُ على حكم القِلا والتَّجَنُّب رحلتُ بقلبٍ عنكمُ غيرِ راحلٍ ... وعِشتُ بعيشٍ بعدكم غيرِ طيِّب لقد فلَّ غربي غُربَتي عن بلادكُم ... وأجرى غُروبَ العينِ مني تغَرّبي وما زلتُ أصفيكم على القرب والنَّوى ... هواكُمْ وأرضاكمْ بظهر المُغَيَّب فلا تحسبوا أَني تسلَّيتُ عنكمُ ... فما الهجر من شأني ولا الغدر مَذهبي سعيتُ لكم سَعْيَ الكريمَ لأهله ... وما كلُّ ساعٍ في الأنام بمُنجِب لعَمري لقد أبلغْتُ نفسيَ عُذرَها ... وإن كنتُ لم أَظفرْ بغايةِ مطلبي وصاحبتُ أيّامي على السُّخطِ والرِّضى ... بعزمةِ مَصقولِ الغِرارَيْنِ مِقضَب سقى حَلْباً جَودُ الغَوادي وجادَها ... وحيّا ثراها بالحَيا المُتحلِّب بكلِّ مُلِثٍّ وَدْقُه غيرُ مُقلعٍ ... وكلُّ مُلِبٍّ بَرقُه غيرُ خُلَّب ومنها: وقد كنتُ قبلَ اليومِ جَلداً على النَّوى ... فهدَّ الأسى رُكني وضعضعَ مَنكِبي فما وَجدُ مِقلاتٍ تذَكَّرُ بالضُّحى ... طَلاها ولا وَحشِيَّةٍ أُمِّ تَوْلَبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 ولا ذاتِ طَوقٍ ما تَمَلُّ هديلَها ... رَقوبٍ إذا لم تذرَفِ الدَّمعَ تَندُبِ كَوَجدي إذا ما جنَّني الليل وانتفى ... رُقادي وصبري واستمرَّ تكرُّبي لحا الله دهراً فرَّقتنا صروفُه ... فشَعَّبَ منّا الشَّملَ في كلِّ مَشعَبِ خُلقتُ على ريبِ الحوادثِ صابراً ... كأني على الأيّام قُنَّةُ مَرْقَب ولكنني أرجو من الله أنه ... سيُنعم بالي منكمُ بالتَّقرُّب ووجدت أيضاً في ديوان أبي علي الحسن بن أبي جرادة أنه وصلته من والده رقعة فيها شعر بخط أخيه ومن جملته: أَمالِكَ ناظري والقلبِ حقّاً ... يقيناً في الدّنُوِّ وفي البِعاد قنعتُ بأن أراكَ بعَين سَمعي ... على أَنَّ اشتياقي في اتِّقاد وكنتُ أُطيلُ في الشَّكوى اجتهاداً ... فلم تُغْنِ الإطالة باجتهادي ولمّا لمْ أَفُزْ ببلوغِ قصدي ... عَدَلتُ إلى اقتصارٍ واقتصاد فلا تبخلْ عليَّ بفضل طِرْسٍ ... عليه رَقْشُ كفِّك بالمداد ففيه قوَّةٌ لذِماءِ نفسٍ ... كَدِقِّ الجمر في هابي الرَّماد فلا برحَتْ تخصُّكَ كلَّ يومٍ ... تحيّاتي وإن شَحَطَتْ بلادي أَحِنُّ إلى اللِّقاءِ وأنت عندي ... مقيمٌ في السُّويدا والسَّواد فأجابه عن ذلك بقصيدة منها: أَطعتُ ولم أكن طوعَ القِيادِ ... وغالبَني الزَّمان على مُرادي وباعدتُ الأحِبَّةَ بعدَ قربٍ ... وقاربتُ النَّوى بعدَ البِعاد ومنها: فبِتُّ كأَنَّني في عَقد عَشْرٍ ... وأفكاري تُطّوِّفُ في البلاد أَسيرَ صبابةٍ ونجِيَّ شكوى ... وحِلْفَ كآبةٍ وأخا سُهاد غريبَ الدّار أصحَبُ غيرَ أهلي ... وأُصبحُ ساكناً بسوى بلادي وما استأْخَرْتُ سُلواناً ولكن ... عَدَتْني عن زيارتِك العوادي والده عليّ بن أبي جرادة لم أعرف أنه كان شاعراً، لكنني وجدت في ديوان ولده وردتْ إليه من أبيه أبياتٌ وكانت بغير خطِّه فأوردت منها: أما اقتنع الدَّهرُ الخَؤون ولا اكْتفى ... بِفُرْقَتِنا حتى أَشَطَّ وأسرَفا وغادرَ قلبي بالهموم موَكّلاً ... وصيَّره طبعاً له لا تكلُّفا وخالفَ فيما بينَ عينيَّ والكرى ... وحالف فيما بين جفْنَيَّ والجَفا وأضرَمَ في الأحشاء نارَ صبابةٍ ... لها لهبٌ لو باشرَ اليمَّ ما انطفى لئن كان ذا وِتْرٍ لقد بان وِترُهُ ... وإن كان ذا غَمْرٍ لقد فاز واشتفى وكنتُ على وَعدٍ من الصَّبر صادقٍ ... متى رُمْتُهُ في حادثٍ جادَ بالوفا فلما تناهى في هواك صبابتي ... تقاضيته فيما عهِدتُ فأخلَفا ومنها: فإنْ تُعقِبِ الأَيّامُ قرباً نَلَذُّهُ ... فنُعمى بها مَنَّ الإلهُ وأسعفا وإن تكنِ الأُخرى فإنِّيَ قائلٌ ... عليكَ سلامٌ ما بدا النَّجمُ أو خفا وداعُ مُحِبٍّ قد تطاوَلَ عمرُهُ ... وأصبحَ من نَيلِ الرَّجاءِ على شَفا فكتب ولده في جوابها قطعة منها: تملَّكني صَرفُ الزَّمان فصرَّفا ... وأنهلَني كأْسَ الهُموم وصرَّفا وعوَّضني ممَّن أُحِبُّ تأَسُّفا ... وهل ينفعُ المحزونَ أن يتأَسَّفا ومنها: خليليَّ شَفَّ الوَجْدُ قلبَ مُتيَّمٍ ... فأصبحَ من نَيلِ الشِّفاء على شَفا وضاعفتِ الأحزانَ عندي صحيفةٌ ... على أنَّني صيَّرْتُها ليَ مُصحَفا الفقيه أبو المجد مَعدان بن كثير بن الحسين البالِسيّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 وبالس مدينة بالشام بين الرقة وحلب، معدن الذكاء والفهم، كثير الرقة واللطف في النّظم، محسن الشِّعر مُجيده، مقبول القول سديده، أوحد العصر فريده. حكى لي سيِّدنا الصفوة البالِسيّ المُعيدُ بالنِّظامِيَّة ببغداد في أواخر جُمادى الأولى سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة بها أن الفقيه مَعدان البالسي كان في زمان أبي بكر الشاشي تلميذه في النظامية يتفقَّه عليه فأنشده يوماً من قصيدةٍ مدحه فيها: يا كعبةَ الفضل افْتِنا لِمْ لَمْ يَجِبْ ... فرضاً على قُصّادِكَ الإحرامُ ولِما تُضَمِّخُ زائريكَ بطيب ما ... تُلقيه وهو على الحجيج حرامُ ثمَّ طالعت ما صنَّفه أبو سعد عبد الكريم السَّمعاني، وسمّاه المُذيّل لتاريخ بغداد وذلك في سنة ست وخمسين وخمسمائة ببغداد وكان بعد التاريخ من مرو إلى بغداد قبلها بسنة، فقرأْت فيه تمام غزل هذه القصيدة قال: أنشدني أبو الحسن علي محمويَه اليَزْدِيّ قال: أنشدَنا الفقيه مَعدان البالسي لنفسه وقتَ التَّفقُّه يمدح شيخنا أبا بكرٍ الشّاشيّ: نظرَ العواذلُ ما نظرتُ فهاموا ... من بعدِ ما عنُفوا عليَّ ولاموا وعلَتْ لسُلطان الهوى عزَماتُهُم ... إذْ عنَّ جيشُ الحُسنِ وهو لُهامُ أقول لعلَّه قال: وعنَتْ، لأجل التَّجنيس لكنَّ المَروي: وعلت. وبه منَ الهِيفِ الرِّشاقِ ذَوابِلٌ ... ومنَ اللِّحاظِ صَوارِمٌ وسِهامُ جَيْشٌ به ذَلَّتْ ضراغِمُ بِيشَةٍ ... عند اللِّقاءِ وعَزَّتِ الآرامُ ما بَيْنَه إذ بثَّ رائعَ سِرْبه ... سرباً وبين الناظرينَ ذِمامُ فاحْفظْ فؤادَك من نِصالِ ذوابلٍ ... إن أُشرِعَتْ لم يُنْجِ منها اللامُ وغَريرةٍ إن سَلَّ صارِمَ لحظِها ... تيهُ الدَّلال ففي القلوب يُشامُ أَدْمَاه مُغْزِلَة إذا ما بَغَّمَتْ ... ضَجَّ الزَّئيرُ وثعْلَبَ الضِّرْغامُ بدويّة لولا تأرُّجُ طيبِها ... ما طابَ شِيخٌ بالفَلا وثُمامُ عَرَضَ الفِراقُ على الفريق جمالَها ... ما كلُّ ما عَرَضَ الغَيورُ يُسام ولربّما غَرَّ الجَهولَ جبينُها الْ ... وضَّاحُ ثم وثغرُها البسّام والسيفُ مُبْتَسِمُ الفِرَنْد وعنده ... حَدٌّ تُجَذُّ به الطُّلى والهامُ يا صاحِبَيَّ ذَرا المَلامَ فقلّما ... يَثْنِي عن القَصدِ الجَموحِ لِجامُ ولربّما سَكَنَتْ صَبابَةُ مُدْنِفٍ ... يَأْسَاً فحرَّكَها عليه مَلامُ مَن لي بتَسْكين الفؤادِ إذا خَفا ... بَرْقٌ وناح معَ العَشِيِّ حَمامُ كُفّا فكلُّ لَذاذةٍ لرِضاعِها ... حَتْمَاً من الدهر الخَؤونِ فِطامُ ومُنَعَّمٍ لا وَصْلُه في يَقْظَةٍ ... يُرْجى ولا تسخو به الأحلامُ في وَجْنَتَيْه ومُقْلتيْه وريقِه ... وَرْدٌ يشوقُ ونَرْجِسٌ ومُدامُ البدرُ وجهٌ والأَقاحي مَبْسِمٌ ... والدِّعْصُ رِدْفٌ والقضيبُ قَوامُ مِن سَيْفِ ناظرِه وصَعْدَة قَدِّهِ ... يَتَعَلَّمُ الخَطِّيُّ والصَّمْصامُ ضَلَّ الأنامُ به فلم يَرَ بعدَه ... إبليسُ أنْ لا تُعْبد الأصنامُ ولقد خَشِيتُ فُتونَه فأجارني ... عَزْمٌ يَفُلُّ الخَطْبَ وهو حُسامُ ومنها في المدح: قد قلتُ للمُتَكَلِّفين لِحاقَه ... كُفُّوا فما كلُّ البحور يُعامُ غَلَّسْتَ في طُرُقِ الرَّشادِ وهَجَّروا ... وسَهِرْتَ في طلبِ المَعادِ وناموا هيهاتَ أينَ من النعائم مَذْهَباً ... ومقاصداً ما تقصِد الأنعامُ والبيتان اللذان سبق ذكرهما وما أعدتهما. وراوية هذه القصيدة علي مَحْمُويه اليَزديّ شيخي سمعت عليه الحديث ولي منه إجازة فيجوز أن أرويها عنه إجازة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 وأنشدني سيدنا الصفوة البالسي معيدنا للفقيه معدان في غلام يدلّكه القيّم في حمام بيتين، كدُرّتين توأمين، أنشأهما، وما سبق إلى معناهما، وهما: بُشْرى لقَيِّمِه إذْ باشرتْ يدُه ... جِسْماً تَوَلَّدَ بين الماءِ والنورِ ما زالَ يُظْهِرُ لُطْفاً من صناعته ... حتى جَنى المِسْكَ من تِمْثالِ كافورِ وأنشدني له في غلام من آل ظبيان، قوم بالشام: يا آلَ ظبيان ما أغناكُمُ شَرفاً ... صَرْعُ الفوارس بالعَسّالِةِ الذُّبُلِ حتى تفَرَّس من أبنائِكم رَشَأٌ ... فصار يَصْرَعُ أُسْدَ الغِيل بالمُقَلِ وحكى لي أنه كان في أيامه شاعر بدمشق يقال له المُشتهى وكان مٌستهتراً بغلامٍ أسنانه قُلْحٌ، وما كان يسمح خاطره بوصف صفرة ثناياه، فسأل الفقيه معدان البالسي أن يعمل أبياتاً فعمل: ومُشَهَّرٍ غَضَّتْ مَحاسِنُه ... عنه العيونَ فصارَ مُحتجِبا خافتْ ثناياه القِصاصَ وقد ... سَفَكَتْ دمي فتصفَّرتْ رُعْبا فكأنَّما رَصّافُ مَبْسِمِه ... حَقَرَ اللُّجَيْنَ فصاغَهُ ذَهَبَا وقال له: قد صرّحتُ بالصفرة فيها ولكن أنظِم غيرها، فنظم تلك الليلة: وبابليِّ اللِّحاظِ يمزُج لي ... كَأْسَيْن من طَرْفِه ومن فَمِهِ تَظْمَا إلى ريقِه مَراشِفُنا ... ورِيُّها تحت وَرْدِ مَلْثَمِهِ من واضحٍ يحسب الحَسودُ به ... تصَفُّراً، ضلَّ في توَهُّمِهِ وإنما تيكَ خَمْرُ ريقتِه ... تَشِفُّ من تحت دُرِّ مَبْسِمِهِ فقال له المشتهى: إن معك جِنّيّاً ينظم لك الشعر. أقول هذه أبيات نوادر، كأنها جواهر، في صفرة الأسنان ومدحها لم يسبقه إلى معناه شاعر، ولم يسمح بأحسن منها خاطر، أرق من شكوى الحبيب، وأطيب من غفلة الرقيب، ولم يقع إلي من شعره أكثر مما أوردته، وإن ظفرت بشيء آخر واستحسنته أثبتّه. أبو حسّان الضرير التدمريِّ المعريّ هو أبو حسّان نعمة بن حسان بن نعمة بن حسان المقري، من أهل تَدْمُر، من بني جرير بن عامر. قارئ بصير من أهل النحو والأدب، قدم مُتظلِّماً من والي تدمر في صفر سنة اثنتين وسبعين إلى المخيم الملكي الناصري الصلاحي بحماة وأنشده قصيدة طويلة منها: أَسلطانَ أرضِ الله ذا الطَّوْلِ والقَهْرِ ... حليفَ المعالي والمناقِبِ والفخرِ ومَن عمَّ شَرْقَ الأرضِ والغربِ عَدْلُهُ ... كما عَمَّها غَيْثُ السَّحابِ من القَطْرِ أفي عَدْلِك المبسوط والشَّرْعُ حاكمٌ ... بملكيَ أُقصى عنه بالدَّفع والزَّجرِ وتُنْعِمُ بالخطِّ الشريف فأنثني ... إلى تَدْمُرٍ أطوي المَفاوز في القفرِ على ثقةٍ بالدولة الناصريّة ال ... منيعِ حِماها داعياً ناشرَ الشُّكرِ فأُمنعُ من عَوْدٍ إليك تَحُكُّماً ... ويُقْصَدُ بالإيذاءِ قلبيَ والكسرِ ويُجعلُ إكرامي لحُرْمَةِ خطك الشريف مَذاق الهُون والمَجْرَع المُرِّ ويُطلَبُ مني فوق ما أستطيعه ... على فاقةٍ مِن ضِيقةِ اليد والعُسْرِ أَلَمْ تُرْعَ للشهر المعظم حُرْمةٌ ... ولا لكتاب الله أتلوه في صدري وذاك لما قد حدَّثَتْهم ظُنونُهمْ ... بأن صلاح الدين ماضٍ إلى مصرِ وقالوا قليلٌ جُندُه وجُموعُه ... وليس من الشرقيّ في موقع العُشْرِ ولم يعلموا أنَّ الإله مُؤَيِّدٌ ... له ومُمِدٌّ بالمَعونةِ والنَّصرِ وقد عَمَّتِ الآفاقَ أخبارُ نصرِه ... وجاوزَ قِنَّسْرين مُخْتَرِقَ الجِسْرِ أبو الفضل يحيى بن نزار بن سعيد المَنْبِجي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 نزيل بغداد وداره حذا باب النوبي. أحد الباعة والتجار المعروفين المتميزين ببغداد. كان شيخاً ظريفاً مُتودِّدا، سديداً مُسدَّدا، متطرِّفاً من العلوم، حافظاً لكثيرٍ من المنثور والمنظوم، كنت أحاوره ويستنشدني شعري، ويُنشدني ما كان قد استحسنه من الأشعار، وما كنت أظن أن له شعرا، وما أجرى معي لنظمه ذِكرا، حتى طالعتُ تاريخ السمعاني فوجدته يقول فيه: أنشدني يحيى بن نزار التاجر لنفسه: لو صَدَّ عني دلالاً أو مُعاتبةً ... لكنتُ أرجو تلافيه وأعتذِرُ لكن مَلالاً، فلا أرجو تعَطُّفَهُ ... جَبْرُ الزُّجاجِ عزيزٌ حينَ ينكسرُ قال وأنشدني لنفسه: واغْيَدَ غَضٍّ زاد خَطُّ عِذارِهِ ... لعاشقه في همّه والبلابِلِ تموج بحارُ الحُسنِ في وجَناتِه ... فَتَقْذِف منها عَنْبَراً في السواحل وتُجري بخَدَّيْهِ الشَّبيبةُ ماءَها ... فتُنْبِتُ رَيْحَاناً جَنوبَ الجداول قال وأنشدني لنفسه. وما أظن أنه ليحيى بن نزار لكن السمعاني ربما سمع منه فاعتقد أنه له، وربما كان له: شَمْسُ النهارِ أم الصهباءُ في الكاس ... وذاك لأْلاؤُها أم ضَوْءُ نِبْراسِ تالله لو لم تكن شَمْسُ النهار لما ... بدالها شفقٌ في وَجْنَةِ الحاسي وفاتر الطَّرْف مَعْسُول الشَّمائلِ عسّالِ القَوامِ كغُصْنِ البانِ مَيّاسِ أدارها ساقياً لَيْلاً فقدَّرها ... ناراً فأطفأَها بالمزج في الكاس توفي رحمه الله ببغداد وأنا بواسط بعد سنة اثنتين وخمسين وخمسماية وأخوه أبو الغنائم قام مكانه. الشيخ علي المغربي النحوي المقيم بقلعة جعبر أصله من المغرب ووجب إيراده من المغاربة، لكنا ذكرناه ها هنا لإقامته بقلعة جعبر. أنشدني الشريف علي بن محمد بن أبي زيد العباسي المالكي بأصفهان في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وكان شاباً ظريفاً، قال: أنشدني الشيخ علي النحوي بقلعة جعبر. ما كنتُ لولا كَلفي بالعِذارْ ... أصبو إلى الشُّرب بكأس العُقارْ سال كَذَوْبِ المِسْكِ في وَجْنَةٍ ... وَرْدِيَّةٍ تجمع ماءً ونارْ هذا، وما تمّ، غرامي به ... فكيف لو تمَّ بها واستدارْ وفاترِ الألحاظ ما زلتُ مِنْ ... نواظر الناس عليه أغارْ مَلَّكْتُه رِقّي على أنه ... يُجيرُ قلبي فَتَعَدَّى وجارْ وَيْلاهُ من صِحّة أجفانه ... وما بها من مَرَضٍ واحوِرارْ حرّان أبو محمد سعيد بن الحسن بن سلمان ال حران ي قرأت بخط السمعاني في التاريخ المُذيّل يقول: لقيتُه بنيسابور، وذكره شرف الدين أبو الحسن البيهقي في كتاب وشاح دمية القصر قال: زرته بنيسابور فوجدته كفيفاً، مُلئ ظرفاً وفضلا، وعلماً ونبلا، وقلت مرحباً بهذا اللقاء الذي أطلع علينا سعده، وأهلاً بهذا التعريف وما بعده، وحمداً لغَيْمٍ حمدنا بلسان الصدق بَرْقَه ورعده، قال وأنشدني لنفسه: ألا إنَّ طَرفي بالسُّهادِ بُعَيْدكُمْ ... أَخِلاّيَ مَطْرُوفٌ وجَفنيَ مَقْرُوحُ وشوقي إليكمْ زائدٌ غَيْرُ ناقصٍ ... ودمعيَ إن نَهْنَهْتُهُ الدَّهرَ مسفوحُ ولله قلبي ما أَجَنَّ إذا شَدَتْ ... سُحَيْراً على الأغصان وُرْقٌ مَصاديحُ ألا كيف يصحو مَن غَدا وهو بالأسى ... يدَ الدهر مَغْبُوقٌ وبالوَجْدِ مَصْبُوحُ قال السمعاني: وأنشدني لنفسه: جاءَتْ تُسائِلُ عن لَيْلِي فقلتُ لها ... وَسَوْرَةُ الهمّ تمحو سِيرة الجَذَلِ لَيْلِي بكَفَّيْكِ فاغْنَيْ عن سؤالِكِ لي ... إنْ بِنْتِ طال وإن واصلتِ لم يَطُلِ الرقّة القاضي الرَّقيّ هو أبو الحسن علي بن مُشْرِق بن الحسن الرّقّيّ ذكره وُحيش الشاعر وقال: كان شاعراً مَنْشَؤه ومسكنه بدمشق، ووُلد ب الرقة وتوفي بدمشق سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وله قصيدة وازن بها قصيدة ابن الخياط الدمشقي التي يقول فيها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 لو كُنتَ شاهِدَ عبرتي يوم النَّقا ... لَمَنْعتَ قلبكَ بعده أن يَعْشَقا وأنشدني من قصيدة القاضي الرّقي بيتاً واحداً وهو: وعلى الأديب بأن يُجيد وما على ... ذي الحرص في حركاته أن يُرْزَقا وله: أَسِحْرٌ في جُفونِكِ أم عُقارُ ... وبي وَجْدٌ بلَحْظِكِ أمْ خُمار متى واصلتِ ثمّ صَدَدْتِ صَبّاً ... فخامَرَهُ سُلُوٌّ أَوْ قرارُ الفقيه ابن المُتَقَّنة مدرس الرحبة أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن الحسن تأدّب على الشيخ أبي منصور بن الجواليقي، وله معرفة بالأدب، إلاّ أن اشتهاره بالفقه أكثر. هو فقيه فاضل من أصحاب الشافعي رضي الله عنهم، مدرّس بالرحبة. أنشدني الشيخ الفقيه أبو الفتح نصر بن عبد الرحمن الفَزاري الاسكندري قال: أنشدني الشيخ العالم أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد المدرس الرحبي المعروف بابن المتقّنة برحبة مالك لنفسه: ما الأَمَةُ الوَكْعاءُ بين الورى ... أَخَسَّ مِن حُرٍّ أخي مَلأَمَهْ فَمَهْ إذا استُجديتَ عن قَوْلِ لا ... فالحُرُّ لا يَمْلأُ منها فَمَهْ قال: قال لي: كان سبب عملها أنّ بعض المتأدّبين كان يقرأ علي مقامات الحريري فمرّ بالبيتين اللذين له وهما: سِمْ سِمَةً يَحْسُنُ آثارها ... واشكُرْ لمن أعطى ولو سِمْسِمَهْ والمَكْرُ مَهْمَا اسْطَعْتَ لا تَأْتِهِ ... لتَقْتَني السُّؤْدُدَ والمَكْرُمَهْ وقال ابن الحريري عقِبُهما: وأمِنّا أن يُعَزَّزا بثالث، فعملت هذين البيتين. ولقيتُه بالرحبة عند وصولي إليها في محرّم سنة ست وستين وسمعت من نوادره طرفا. أبو علي الحسن بن علي الرحبي ّ أخذت شعره مما نظمه بالبحرين، وأنشدني ذلك الأديب علي بن الحسن بن إسمعيل العبدي البصري بها في سنة سبع وخمسين وخمسمائة وذكر لي أنه رآه قد عاد إلى البصرة ومات بعد مفارقته إيّاها بعد سنة خمسين وخمسمائة، أنشدني له من قصيدة طويلة يمدح فيها الأمير أبا علي صاحب البحرين قال: أنشدنيها غير واحد من أصحابنا أوّلها: تذَكَّرَ هنداً بعد أنْ نَزَحَتْ هِنْدُ ... فؤادٌ حليفاه الصَّبابةُ والوَجْدُ وكيف بها والمَشْرَفِيَّةُ دُونَها ... وسُمْرُ العوالي والمُضَمَّرَةُ الجُرْدُ وأُسْدُ طِعانٍ لا يُبِلُّ طَعينُهم ... إذا زأروا خَرَّتْ لأذقانها الأُسْد ومنها: ألَمَّ بنا بعد الهُجوعِ خَيالُها ... فمَزَّق جُنْحَ الليل، والليلُ مُسْوَدُّ وطاب ثَرى البيداء حتى كأنّما ... تضوَّعَ من بَوْغَائِها المِسْكُ والنَّدُّ وقال أُصَيْحابي أَنَحْن بتُبَّتٍ ... فقلتُ لهم لا بل ألَمَّتْ بنا هِندُ ومن مدحها: بهم أصبحَتْ عَدْنَانُ للفخر مَعْدِناً ... وحازَتْ مَعَدُّ الفَخْرَ وافتخرَتْ أُدُّ وأضحى لعبد القيس فضلٌ على الورى ... كأنَّ لفضل القيس كلَّ الورى عَبْدُ وأنشدني له من قصيدة يهجو فيها بني بشار، وقوماً من أُوال، بلدةٍ من البحرين: لا تَأْمَنَنَّ على ثيابك غَدْرَةً ... إمّا نزلتَ على بني بَشّارِ ومنها: إنْ كان بينكُمُ وبين ربيعةٍ ... نسبٌ حِرُ امِّ ربيعة بن نزارِ وأنشدني عليّ العبدي بالبصرة قال: أنشدني مُؤمِّل الأحساوي قال: أمره الأمير أبو علي الحسن بن عبد الله بن علي صاحب القَطيف أن يصنع قصيدة على منوال: يا سلسلة الرمل باللويلب فالحالْ فصاغ هذه القصدية أنشدنيها علي العبدي وكتبها لي بخطّه قال: أنشدنيها مُؤمّل الأحساوي وكتبها لي بخطه فمنها: يا مَنْزِلَ سَلْمَى بذي الكَهَنْبَلِ فالضَّالْغاداكَ من المُزْنِ كلُّ أَسْحَمَ هَطَّالْ يحيى بن النقاش الرحبي كان أسد الدين شِيرْكوه قد وَلّى الرحبة يوسفَ بن الملاّح الحلبي وآخر معه من بعض الضياع فكتب إليه: كم لك في الرَّحبةِ من لائمٍ ... يا أسدَ الدينِ ومِن لاحِ دَمَّرْتَها من حيثُ دبَّرْتَها ... برأْي فَلاّحٍ ومَلاّحِ وله فيه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 يا أَسَدَ الدين اغتنمْ أَجْرَنا ... وخَلِّصِ الرحبة من يوسُفِ تَغْزُو إلى الكفر، وتغزو به ال ... إسلامَ ما ذاك بهذا يفي وله من قصيدةٍ في جمال الدين الوزير بالمَوصل يُغنّى بها: أما استحى الطائرُ في غصونِهِ ... أنِ ادَّعى شَجْوِيَ مِن شُجونِهِ باب في ذكر محاسن جزيرة بني ربيعة وديار بكر وما يجاورها من البلاد الموصل الفقيه أحمد بن علي المشكهري الموصلي من أهل عصرنا ذكره لي القاضي أبو القاسم بحماة قال: كان غزير الفضل وهو مدرس الشافعية بحماة، ولجّ في العود إلى المَوصل فأدركته يوم وصوله إليها الوفاة، وما وَفَتْ له الحياة. ومن شعره السائر: إذا العشرونَ من شعبانَ ولَّتْ ... فَواصِلْ شُرْبَ ليلك بالنهارِ ولا تشرب بكاسات صِغارٍ ... فإن الوقت ضاق عن الصّغارِ النقيب ضياء الدين أبو طاهر زيد بن محمد بن محمد بن عبد الله الحسيني نقيب السادة العلويين بالمَوصل، وولده الآن نقيبها، هو من الأفاضل والأماثل، العديمي المماثل، والشِّراف الظِّراف، والعلماء الحكماء، والكرماء العظماء، والسادة القادة، والطاهرين الظاهرين، والمُصطفَيْن المُجتبين، المنتسب إلى السلف الكريم، والشرف الصميم، والمَحْتِد المجيد، والعنصر الحميد، والبيت الزاكي العلوي، والنبت الوصي، المنتمي من الدوحة النبوية الممتدة الأفياء المورقة الأفنان، النامية الفروع السامية الأغصان، المترويِّة من الكوثر الأعلى، المتضوِّعة من نسيم طوبى، المتوضحة بأضواء القرى، الضاحكة عن ثمرات المنى، الجامعة محاسن الدين والدنيا، المثمرة بكلمات الله العليا، إلى شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ونجاره من الأسرة العلوية الهاشمية الذين أوجب الله لهم المودّة على العباد، وجعلهم وسائل إلى رحمته يوم المعاد، وهم أطواد الوقار، وأعلام الفخار، وكواكب الظلماء، وموارد الظِّماء، وسفائن النجاة، ومعادن الكرامات، بمنزلة الحديقة الناضرة، والحدقة الناظرة، والعين الباقية الشعاع، واليد الطويلة الباع، قد بزغت من فجر ذكاء الذكاء، وبلغت أضواء مجده عنان السماء، ولم يزل المُصافح بيُمن نقيبته يمين النقابة، والمناصح بقرب ولائه أُولي القرابة، وله مع فضل الشرف شرفُ الفضل، شريف الهمة لنسبه، كبير القدر في حسبه، عديم النظر في أدبه، يقطر ماء الظرف من نظمه ونثره، ويبسِم ثغر اللطف في وجه شعره، ويتحلّى جيدُ الحسن بعقود سحره، نقيب لمعادن المعالي نَقّاب، وللآلئ الكلام ثَقّاب، مقيم ببلدٍ وفضلُه جَوّاب، وهو سيد متأيّد، شعره جيد، وكلامه متين أيّد، محكم الرصف، مُمدَّح الوصف. لقيته في حضرة الوزير الجواد جمال الدين محمد بن علي بن أبي منصور عند إلمامي بها في ذي القعدة سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة وكان يُبجّلني جمال الدين مع صغر سني ويقدمني في موضعي على الأكابر، أتكلم في المسائل الشرعية، وأباحث العلماء بين يديه في الغوامض الفقهية، وكان لحقوق عمي العزيز عليه يكرّمني، ولما يتفرّس فيّ من النجابة يُقدّمني، وقد حملني قرب القرابة على نظم قصيدة فيه، وأنا حينئذٍ أقصد إليه القرب بما أُنشيه، وهممتُ بإنشاده، فمنعني من إيرادها، حتى دخل فاستدعاني، وأكرم مكاني، وقال أنا أُجلُّك عن قصدي بالقصائد، وأُكبِرك لحقوق العم والوالد، وكان النقيب ضياء الدين وحده، حاضراً عنده، فألحّ عليه في سماع شعري، ليعرف قيمتي في الأدب وسِعري، فلما سمعه عَجِبَ وطَرِبَ، وبالغ في الإطراء، وأكثر من الثناء، وما كان نظمي حينئذٍ يستحق ذلك، فملك رِقَّ حمدي هنالك، وحَبَّبَ إليّ النظم، وشجع مني الفهم، وقوّى لي المُنّة، وقلّدني بتحيته إيايّ المِنّة، وكنت سمعت بفضله وأدبه وظرفه، وشرفه ولطفه، ولم ألبث إلا قليلاً بالموصل حبّاً لسرعة عودي إلى بغداذ، وهجري في طلب العلم بها الملاذ، وما صادفت فرصة وقتٍ أظفر من شعره ولو ببيت، فلما عدتُ من الحج لقيت بهمذان ابن عمي ضياء الدين المُفضَّل ابن ضياء الدين محمود بن حامد وقد عاد من الموصل في سنة تسع وأربعين وهو ينشد للسيد النقيب أبياتاً نظمها في ذلك الصدر الكبير وهي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 أبا جعفرٍ إنَّ الأمور إذا الْتوتْ ... وأعْيَتْ بزَيْغ الخُلْف كلَّ مُقَوِّمِ تداركْتَها بالرأي تَرْأَبُ صَدْعَها ... وأَغْنَيْتَ فيها عن حُسامٍ وَلَهْذَمِ وكم ذي يَراعٍ راضَ شامسَ فِتنةٍ ... فلانتْ ولم يُصحَبْ بجيشٍ عَرَمْرَمِ فَدُمْ لابتِناءِ المجد والجودِ والتُّقى ... مدى الدهرِ ما زِينَتْ سماءٌ بأَنجُمِ فإنك فَذٌّ في الزمان وإن غَدَتْ ... أياديك تَتْرَى بين فَذٍّ وَتَوْأمِ ودونكَها عن مُخلِص في وَلايةٍ ... إذا كَشَفَ الإخوان عن لَمْسِ أَرْقَمِ قصيرةَ أعداد البيوت طويلة ... بغُرِّ معان كالجُمانِ المُنَظَّمِ وسمعت ببغداد أبياتاً يُغنّي بها، نسبها بعض الشآميين إليه. ومنها: يا بانةَ الوادي التي سَفَكَتْ دَمي ... بلِحاظِها بلْ يا فَتاة الأَجْرَعِ لي أن أَبُثَّ إليكِ ما أَلْقَاهُ مِن ... ألم الهوى وعليكِ أن لا تسمعي كَيْفَ السبيلُ إلى تناولِ حاجةٍ ... قَصُرَتْ يَدي عنها كَزَنْدِ الأَقْطَعِ وأنشدني تاج الدين البلطي النحوي أبياتاً لضياء الدين النقيب: بين صَدٍّ لا ينقصني ومَلالِ ... يَئِسَ العائدون من إبْلالي كلَّفَتْني حَمْلَ الهوى ثم نامت ... في لياليّ بالغُوَيْرِ الطِّوالِ وأنشدني أيضاً لضياء الدين النقيب من قطعة يُغنّى بها: ما عليكمْ أيها النَّفَرُ ... إن برا أجفانيَ السَّهَرُ ألكُمْ رُشدي فأتْبَعَهُ ... أم عليكم منه ما أَزِرُ لا تَلِجُّوا في مَلامِكُمُ ... لمُحِبٍّ ليس يَنْزَجِرُ أَخَذَتْ خَيْلُ الغرام به ... حيثُ لا يُنْجي الفتى حَذَرُ وله: راحوا وفي سِرِّ الفؤاد راحوا ... ذَمّوا فلمّا مَلكوا اسْتَباحوا فضلي على أهل الهوى لأنَّني ... كتمتُ أسرار الهوى وباحوا ابن الحاجب الموصلي هو الحاجب علي بن أبي الجُود حاجب نقيب العلويين بالموصل. كان شيخاً أنقى، توفي سنة خمسين وخمسمائة وأبقى ذكرُ فضله ما أبقى، أنشدني شعرَه المُرتضى وزير عبد المسيح المرتضى، قوله: تَرَكْتُ البحارَ لرُكّابها ... وَجَوْبَ الفَلاةِ لأَعْرابها وأعْمَلْتُ نحوك يا عَبد ليّ عِيساً قَرَنّا رَجانا بها وكنتُ كما قيل فيما مضى ... أَتَيْتُ المُروءةَ مِن بابِها وله مما يُغنّى بها: هل لأيامنا الأُولى من مُعيدِ ... بين دَيْرِ الأعْلى ودَيْرِ سَعيدِ وزمانٍ لهوْتُ فيه فأفْنَيْتُ شبابي ما بين نايٍ وعُودِ بين باب العراق فالباصلوثا ... ت بأكناف بِيعَةِ الجارودِ مَنْزِلٌ قد خَلَعْتُ فيه عِذاري النجم الموصلي كان فقيهاً بالنظامية ببغداذ، وله نظم حسن، وشعر رائق. أنشدني الشيخ أبو المعالي الكتبي قال أنشدني النجم المَوصلي لنفسه مما يكتب على كمران أَمْرَد: لمّا اسْتَدرْتُ بخَصرِهِ ... حُزْنُ الكمال بأَسرِهِ أَضْحَى أَسيري شادِنٌ ... كلُّ الورى في أَسْرِهِ قال وأنشدني لنفسه: سَمَّوْه باسم جُنَيْدٍ ... وفعلُه فعلُ جُنْدي شرف الدولة أبو المكارم مسلم بن قريش ابن قرواش بن مسلم بن مسيَّب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 ملك الشام، من الطبقة الأولى، وكان لقبه مجد الدين، سلطان الأمراء، سيف أمير المؤمنين، مَلَكَ بلاد الشام صُلحاً وعنوةً، وفرع إذ عَصَمَ عواصمها من العز ذروة، ونال بملكه إياها وملكه لها حُظوة، وأوثق للمتمسكين به من عدله عُروة، وكان منصور الرأي والراية، منتهياً في اكتساب المحامد إلى أقصى الغاية، أبو المكارم ككُنيته، إسعاف الآمل من مُنيتِه، مُسلمٌ كاسمه، زاده الله بَسْطَةً في علمه وجسمه، جسيم الأيادي، رحيب النادي، مدحه ابن حَيّوس في آخر عمره فأقطعه الموصل، ولم يلبث ابن حيوس بعدها إلا ستة أشهر وإلى جوار الله انتقل، سمعت أنه لما قصده بقصيدته قيل لشرف الدولة: كان رسمه على بني صالح ألف دينار عن كل قصيدة فقال: همتي تسمو إلى أن أزيد على عطاياهم فقال له وزيره: شيخ قد بلغ القبر، واستوفى العمر، فالصواب أن تُقطِعه الموصل، ليسيرَ الذكر فيه ويحصل، فلما أُقطع لم يتهنَّ بالإقطاع، ولم يعش إلى أوان الارتفاع. طالعت ديوان ابن حيوس فوجدت له في شرف الدولة قصيدة يمدحه بها حين فتح حلب وعلّقتُ منها حيث استحسنتها: ما أدرك الطَّلِبات مِثلُ مُصَمِّمٍ ... إنْ أقدمتْ أعداؤه لم يُحْجِمِ تَرَكَ الهُوَيْنا للضعيفِ مَطِيّةً ... مَن بَطْشُه كقِراه ليس بمُعْتِمِ إن همَّ لم يُلْمِمْ لعَينَيْه كَرىً ... أو سِيلَ لم يَلْؤُم ولم يَتَلَوَّمِ أَحْرَزْتَ ما أَعْيَا الملوكَ مُضارِباً ... غِيَرَ الحوادثِ واحتمال المَغْرَمِ وَلَقْدْ تحَقَّقَتِ العَواصِمُ أنّها ... إنْ لم تَحُزْ أقطارَها لم تُعْصَمِ ومنها: إنَّ الرَّعايا في جِوارِك أُومِنَتْ ... كَيْدَ الغَشومِ وفَتْكَةَ المُتَغَشْرِمِ لا يشكوُنَّ إليك نائبةً سِوى ... تقصيرِهِمْ عن شُكرِ هذي الأنْعُمِ فالأمنُ للمُرْتاعِ والإنعامِ للباغي النَّدى والعَدلُ للمُتَظَلِّمِ لا الظَّبْيةُ الغَيْداءُ تخشى القَسْوَرَ الضاري ولا الذِّمِّيُّ حَيْفَ المُسْلِمِ قُدتَ الجيوشَ بصدقِ بأسك تقتدي ... وبها الفِجاجُ إلى مُرادِك تَرْتَمي فَتَضَمَّنَتْ أبطالُها إبْطِالَها ... خُدَعَ المُنى وتوَهُّمَ المُتوَهِّمِ والخيلُ يَحْمِلْنَ المَنايا والمُنى ... مِن كلِّ سَلْهَبةٍ وأجْرَدَ شَيْظَمِ كم حُجِّلَتْ بدَمِ الطُّغاةِ وأُعجِلَتْ ... عن نهضةٍ في مُسْرِجِ أو مُلْجِمِ علَّمْتموها الصبرَ فهي كليمةٌ ... تَغْشَى الوَغى وكأنها لم تُكْلَمِ أَقْدَمتَ أمنعَ مُقْدَمٍ، وغَنِمْتَ أوْ ... في مَغْنَمٍ، وقَدِمْتَ أَسْعَدَ مَقْدَمِ ومنها: ولقد جمعتَ فضائلاً ما اسْتَجْمَعَتْ ... يفنى الزمان وذكرُها لم يَهْرَمِ كرماً يُبيح حِمى الغِنى ومآثراً ... وُضُحاً تُبيحُ بَلاغةً للمُفْحِمِ في صِدقِ قولِكَ تبتدي وإلى فَعا ... لِكَ تنتهي، وإليك أَجْمَعُ تنتمي مِثلُ الكلام تفَرَّقَتْ أجزاؤُه ... فِرَقاً وتجمعُه حروفُ المُعجَمِ ومنها: وأراكَ تَعْلُو قائِلاً أو صائِلاً ... بقِرا سَريرٍ أو سَراةِ مُطَهَّمِ وَهِيَ النباهةُ فُرصةُ العَذْبِ الجَنا ... لا فُرصةُ المُتَهوِّرِ المُتهَكِّمِ وإذا جرى الأمجادُ برَّزَ سابقاً ... خُلُقُ الكرام تخَلُّقُ المُتَكَرِّمِ كم فِضْتَ إنعاماً وخُضْتَ مَخاوِفاً ... ما هَوْلُها لولاكَ بالمُتَجَشِّمِ مُسْتَنْقِذاً من كُرْبَةٍ، أو مانِحاً ... في لَزْبَةٍ، أو صافحاً عن مُجرمِ في يَوْمِ قارٍ رايةٌ لك فهَّمَتْ ... مِن قادةِ الأتراكِ مَن لم يَفْهَمِ لمّا تقاصَرَتِ الصَّوارمُ والخُطى ... حَذَرَ البَوارِ وَثَبْتَ وِثْبَةَ ضَيْغَمِ في عُصبةٍ كَعْبِيَّةٍ تركوا القَنا ... مُتَعَوِّضين بكُل عَضْبٍ مِخْذَمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 يَلْقَوْنَ أعراءٍ بكلِّ كَريهةٍ ... يَجْتَابُ فيها اللَّيْثُ ثوبَ الأَرْقَمِ ومنها: ما عايَنَتْها التُّرْكُ تَحْكُمُ في الطُّلى ... إلاّ تولَّتْ طائشاتِ الأَسْهُمِ مِن نابِذٍ لسِلاحِه فاتَ الرَّدى ... سَبْقَاً ومِن مُسْتَلْئمٍ مُسْتَسْلِمِ فَخَصَصْتَ بالإذلالِ كلَّ مُقَلْنَسٍ ... وَعَمَمْتَ بالإعْزازِ كلَّ مُعَمَّمِ ومنها: أَمِنَتْ قبائلُ عامِرٍ صَرْفَ الرَّدى ... والجَدْبَ في ظِلِّ المُعِزِّ المُنْعِمِ مُسْتَعْصِمينَ بذِرْوةٍ لا تُرْتَقى ... مُسْتَمْسكينَ بعُرْوَةٍ لم تُفْصَمِ أَصْفَيْتَ للعُرْبِ المَشاربَ بعدما ... كانت كرمحٍ لا يُعانُ بلَهْذَمِ لا راعَتِ الأيامُ مَن بفِنائِهِ ... كَنْزُ الفقير وعِصْمةُ المُسْتَعْصِمِ أنتَ الذي نَفَقَ الثَّناءُ بسُوقِه ... وجرى الندى بعروقه قبلَ الدمِ وأنالَ والآمالُ غيرُ مُهابَةٍ ... بفِنائه والمالُ غيرُ مُكَرَّمِ ماضٍ إذا ما الصارم الماضي نبا ... قاضٍ بأحكام الكتابِ المُحْكَمِ وله، مَخافَةَ أن تَضِلَّ ضُيوفُهُ ... في الليل، نارٌ ما خَلَتْ من مُضْرِمِ أبداً يُشَبُّ على اليَفاعِ وُقودُها ... ووَقودها قِصَدُ القَنا المُتَحَطِّمِ ممّا تحَطَّمَ في نُحورِ عَرامِسٍ ... كُومِ الذُّرى أوفى كَمِيٍّ مُعْلَمِ ومنها: فالمجدُ شِنْشِنَةٌ لآلِ مُسَيَّبٍ ... ما كلُّ شِنْشِنَةٍ تُناطُ بأَخْزَمِ بيت بنى قِرْواشُهُ وقُرَيْشُهُ ... شَرَفَاً أطَلَّ على محَلِّ المِرْزَمِ واستخلفاك فنَوَّهَتْ بك همّةٌ ... أربى الأخيرُ بها على المُتقدِّمِ فأبو المنيع أبو المعالي في عُلىً ... أضعافها لأبي المكارم مُسلِمِ فبَقِيتَ ما بَقِيَ البقاءُ مُعظَّماً ... وسقى الغمامُ رميمَ تلك الأَعظُمِ ومنها: يُفْضي إلى الشمسِ العَقيمِ كُسوفُها ... ونَراك شمساً أُفْقُها لم يُظْلِمِ أشرقتَ لمّا أشرقَتْ فَبَهَرْتَها ... وَكَثَرْتَها فَوَلَدْتَ سبعةَ أَنْجُمِ حَبَسَتْ رِكابي عن ذَراكَ حوادثٌ ... يحيا بها المُثري حياة المُعدِمِ وتُشَرِّدُ الآباءَ عن أبنائهم ... فتَعيشُ ذاتُ البعلِ عَيْشَ الأَيِّمِ لولا تواليها لزُرْتُكَ وافِداً ... كوُفودِ حَسّانٍ على ابنِ الأيهَمِ بغرائِبٍ بَيْنَ الكلامِ وبيْنها ... كالفرْقِ بين مُصرِّحٍ ومُجَمْجِمِ تَنْأَى عن الفُصَحاءِ إلاّ أنّها ... أَدْنَى إليَّ من اللسانِ إلى الفَمِ حتى أتاحَ اللهُ لي نَيْلَ المُنى ... بقدومِ مولىً كان يَرْقُبُ مَقْدَمي وكذا الغَمام تَزورُ مَهْجُورَ الثَّرى ... أمطارهُ وتَؤُمُّ غَيْرَ مُيَمَّمِ ولَئِنْ حَنَتْ ظهري السُّنون بمَرِّها ... فالرُّمْحُ ينفع وهو غيرُ مُقَوَّمِ وَلَدَيَّ مدْحٌ لا يُمَلُّ سماعُه ... فَتَمَلَّ باقيَ عُمْريَ المُسْتَغْنَمِ ولشرف الدين مسلم بن قُرَيْش شِعرٌ يقطر منه ماء الملك، وتفوح منه رائحة المجد، فمن ذلك ما أنشدني بعض الشامييّن: إذا قَرَعَتْ رحلي الرِّكابُ تزعزعتْ ... خُراسان واهتزَّ الصَّعيدُ إلى مصر وله: الدهر يومان، ذا أمنٌ وذا خطَرٌ ... والماء صِنفان، ذا صافٍ وذا كَدِرُ وكانت بينه وبين بهاء الدولة منصور بن دُبيس المَزيدي الأسدي مكاتبات ومجاوبات، فمنها ما أنشدنيه الرئيس أبو سعد حسين الهمذاني من بَنْدنيجَيْن لشرف الدولة مسلم يستنجد بهاء الدولة منصوراً: أَمُدَّرِعَ الدُّجى خَبَباً وَوَخْدا ... ومُزْجي العيسِ إرْقالاً وشَدّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 إذا عايَنْتَ من أسدٍ حِلالاً ... بها النَّعْماءُ للوُرَّادِ تُسْدى فبَلِّغْ ما عَلِمْتَ من اشتياقي ... بهاءَ الدولةِ المَلكَ المُفَدَّى وقل يا ابن الذينَ سَمَوْا وشادُوا ... مناقِبَ زَيَّنَتْ مُضَراً وأُدَّا أَأُنْسِيتَ الوفاءَ وكنتَ قِدْماً ... عَقَدْتَ على الوفاء بهنَّ عَقْدَا وأنتَ فأشْرَفُ الأُمراء بَيْتَاً ... وأعظمُ هِمّةً وأعزُّ مَجْدَا ترقَّبْتُ السّرِيّةَ منك تأتي ... بفُرسانِ الوغى شِيباً ومُرْدا عوائِدُ قد عهدناها لعَوفٍ ... فما يُوفي بها المُحْصون عَدّا فلمّا لم تناجِدْنا السَّرايا ... عَزَمْنا عَزْمَةً سَرَّتْ مَعَدّا وحالفْنا الصَّوارِمَ والعَوالي ... وخيلاً كالظِّباءِ الحُمرِ جُرْدا وسِرْنا مُوجِفين إلى نُمَيْرٍ ... ولم نرَ من لِقاءِ القوم بُدّا وقد حَشَدَتْ بأجمعها كلابٌ ... وكان الصُّبحُ للعَيْنَيْنِ وَعْدَا فلمّا أن تواجَهْنا توَلَّوْا ... كعِين عايَنَتْ في السِّرْبِ أُسْدا وغُرِّق في الفُرات بنو نُمَيْرٍ ... وقد كانوا لجَمعِ القوم سَدّا وأُسْلِمَتِ الظعائِنُ فاستغاثَتْ ... بخير العالمين أباً وجدّا قُرَيْشيُّ الفَخارِ مُسَيِّبِيّ ... من السُّحُبِ العِذابِ نَداه أَنْدَى إذا عُدَّ الملوك يكونُ منهمْ ... أجلَّ جَلالةً وأعزَّ مَجْدَا فكتب بهاء الدولة منصور في جوابها من قصيدة: أبا مُهدي المديح وأيُّ شيءٍ ... أَجَلُّ من المديح إليَّ يُهدى بَدَأْتَ تفَضُّلاً والفضلُ حَقّاً ... يدُلُّ على مكارم مَن تبَدّا ألسنا نحنُ للعجّاج ذُدْنا ... أعاديَكم وأنقذنا معَدّا وقُدْناها مُسَوَّمةً عِراباً ... عوابسَ قد عَرَفْنَ الحرب، جُرْدا تَخُبُّ بكلِّ أَرْوَعَ مَزْيَدِيٍّ ... نَخِيٍّ يُوقِدُ الهيجاءَ وَقْدَا عوائِد من أبي عُوِّدْتُموها ... متى قَدَحَتْ يَدُ الحَدَثانِ زَنْدَا ألا ترد المِصاع تَجِدْ رجالاً ... لنا لم يَلْحَدوا في الأرض لَحْدَا وَلَوْ أني جَرَيْتُ على اختياري ... قَدَدْتُ إليكمُ الفَلَواتِ قَدّا لتعلمَ أنَّ بَيْتَ بني عَلِيٍّ ... لكم وبكم يُعِدُّ إذا اسْتَعدّا وله مطلع قصيدة في أهل البيت عليهم السلام يوازن بها قصيدة دِعْبِل التي أولها: مَدارسُ آياتٍ خَلَتْ من تِلاوةِ ... ومنزل وَحْيٍ مُقْفِر العَرَصاتِ سلامٌ على أهلِ الكساءِ هُداتي ... ومن طاب مَحْيَايَ بهم ومماتي وقوله: أُشهِدُ الله بصِدقٍ ... ويقينٍ وثباتِ أنَّ قتلي في هوى الغُرِّ الميامينِ حياتي وقوله من أخرى: غلامٌ أحور العينين صَعْبٌ ... أبى بعد العَريكة أن يَلينا الأستاذ ناظر الملك أبو طالب عبد الوهاب بن يَعْمُر ذكره أبو الفتح نصر الله بن أحمد بن محمد بن الفضل الخازن أنه كتب إلى والده أبي الفضل بن الخازن بباب نَصيبين مُلغِزاً: أيا أهل البلاغةِ هل وجدتمْ ... خريرَ الماءِ بين زَفيرِ نارِ وهل عايَنْتُمُ فَلَكَاً عليهِ ... كواكبُ ما تَغيبُ مع النهارِ به موسى يُكلِّمُ قومَ عيسى ... وأحمد من صغارٍ أو كبارِ بلا لحنٍ ليُوشَع أو بيانٍ ... لهارون الوَصِيّ على اختيارِ ويسكن مثلَ يونسَ بطن حوتٍ ... ويسبَحُ معلناً غُبْرَ القِفارِ يُنَشِّرُ من ذؤابة كلِّ ظبيٍ ... ويمسحُ ما بهم من كل عارِ إذا جرّدته جرّدتَ منهُ ... لساناً كالحُسامِ بلا عِثارِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 فأجابه والده ابن الخازن: أيا ناظرَ المُلْكِ الفضائِلُ كلُّها ... إلى بحرك الطامي العُبابِ انْسِيابُها جَلَوْتَ كؤوساً لَفْظُكَ الجَزْلُ خَمْرُها ... وغُرُّ معانيكَ الحِسانِ حَبابُها وَصَفْتَ جَحيماً فيه للنفسِ راحةٌ ... وحَجْناءَ مردوداً عليها نِصابُها بديهة حِبْرٍ لم يَشِمْ نَوْءَ غُمّةٍ ... بفطنته إلاّ استهلَّ سحابُها ونقلت من خط أبي المعالي الكتبي لأبي طالب بن يَعْمُر: نُجومُ شيبيَ في ليلِ الشباب بَدَتْ ... فبَصَّرَتْ عَيْنَ قلبي مَنْهَج الدّينِ فصِرْنَ راجمةً شَيْطَانَ مَعْصِيتي ... إن النجومَ رُجومٌ للشياطينِ ابن نقيش ذكر لي أبو المعالي بن سلمان الذهبي ببغداد أنه كان معلِّماً من المَوصل ببغداد في زمان الوزير جلال الدين أبي علي بن صدقة وزير الإمام المسترشد بالله رضي الله عنه. وأنشدني له من قصيدة سمعها منه في الوزير: مَهاً أُسُودُ الفَلا تحاذِرُ مِنْ ... لِحاظِها مِثلَ ما نُحاذِرُها مِنْ كلِّ خَوْدٍ خُدورُها أبداً ... بيضُ الظُّبا، والقَنا ستائرها تَبَرْقَعَتْ بالصَّباحِ غُرَّتُها ... واعْتَجرَتْ بالدُّجى غدائرها هاجرةٌ لا تزالُ واصلةً ... هِجْرانَها، والوَصالُ هاجرُها تستنجدُ الوَجْدَ والغرامَ على ... قلبي إذا ما غدا يُظافِرُها لوَصْلِها في الضُّلوعِ نارُ أسىً ... قد مازَجَتْ أدمعي شرائرُها تُردي وتُحيي بلَحْظِ مُقْلَتِها ... مُميتُ أرواحِنا وناشِرُها كأنّما تستعير عزمَ جَلا ... لِ الدين يومَ الوغى مَحاجِرُها مَلْكٌ، بِحارُ النَّدى أناملُه ... وغُرُّ آلائِه جواهِرُها يُعطي العطايا العُفاةَ مُبتسماً ... كأنّما عنده ذخائِرُها ما بين أموالِهِ وراحتِه ... حِقْدٌ طَوَتْهُ له ضمائِرُها جواحة العين نصر بن جامع من أهل المَوصل مولده بمَشهد الكُحيْل، وهو في التصرّف طويل الذيل. خدم مدة بالبوازيج وحظي من سوء حظه بالترويج، ثم عاد إلى الموصل وخدم وتقدّم، وافترّ ثغر إقباله وتبسّم، واتّسم بالكفاية وارتسم، وله الخط المليح، والشعر الفصيح، والكلام المليح، ذكره لي المرتضى بدمشق في جمادى الآخرة سنة إحدى وسبعين وخمسمائة وقال: هو الآن حيّ يتصرف ويدأب، شيخ ولكنه يَخْضِب، وأنشدني من شعره القديم في نصير الدين والي الموصل من قصيدة: قِفْ بمَغانٍ طُلولُها طُمْسُ ... لم يَطْوِها قبل إنسها إنْسُ طال عليها هَطْلُ الغمائم أنواءً زَجَتْها العواصِفُ الرُّمْسُ حتى غدا الغاربُ التليعُ بها ... وَهْدَاً وصار الذُّرى لها الأُسُّ وِقْفَةَ مَن صارتِ الهُموم على ... فؤاده واستكانتِ النفسُ نَبْكِ بها علّها تَرِق وَهَيْهات تَرِقّ الصفائح المُلْسُ ومنها في المديح: ولست أشكو سوى الزمانِ إلى ... قَيْلٍ أَشَمَّ به العلى ترسو إلى نصير الدين الذي شَهِدَتْ ... بفضله والشجاعة الفُرْسُ والرومُ والترك والأعاريب والْ ... إفرَنجُ وهي القبائلُ الخَمْسُ كلٌّ لبرهانه أقَرَّ وقدْ ... زال صُراحاً عن عَيْنِه اللَّبْسُ رَبُّ العطايا للمُعْتفين فما ... مِن دونها عائقٌ ولا حَبْسُ رَبُّ الرزايا للمارقين فَمِنْ ... كلِّ مكانٍ يُحيطُهمْ نَحْسُ يا أسدَ الدولة المُؤيَّدِ بالنصرِ، حسامَ الملوكِ، يا شَمْسُ عَبْدُكَ عَبدٌ قِنٌّ أتاك على البُعدِ وقد مَسَّ حالَهُ المَسُّ فاجْبُر قوىً هاضَها الزمان وأَوْ ... هاها، وعُضواً قد عَضّهُ ضَرْسُ أَدْخِلْه في زُمرة العبيد ولا ... تَقْسُ فما يستحق أنْ تقسو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 جاءتْكَ تسري إليك حاملةً ... هَديّةً أَصْغَرت لها عَبْسُ الرئيس أبو الحسن علي بن مُسْهِر المَوصلي عاش إلى زماننا هذا، ولما كنت بالموصل في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة صادفته شيخاً أناف على التسعين وقال علم الشاتاني: توفي ابن مُسهر سنة ست وأربعين. أبو عُذرة النظم وابن بَجْدَتِه، ومُفتَرِع عذارى الكلام وفارس نجدته، وفارع مَراقب البيان وراقي مراقيه، وإنسان طرف الفضل ومقلة مآقيه، ونافث سحر البلاغة وراقيه، أعرق وأشأم، وأنجد وأتْهم، فهو السائر المقيم، كأنما تنسّم رقّته النسيم، وسرق حُسنه السّرَق، وغبط وضوح معانيه الفلق، وكأنما ألفاظه مدامة تُعَلُّ بماء المُزن، ومعانيه سُلافةٌ فيها جلاء الحُسن، أصفى من دَرِّ السحاب، وأجلى من دُرِّ السِّخاب، وأضفى من بُرد الشباب، وأحلى من برد الشراب، فابن مُسهرٍ مُسهرُ المعاصرين حسدا، ومميت القاصرين عن شأوه كمدا، قرأت في مجموع لأبي الفضل بن الخازن، أنشدني ابن مُسهر لنفسه: رِدُوا ترابك دَمْعِي فهي غُدرانُ ... ونَكِّبوا زَفَرَاتي فهي نيرانُ وإنْ عَدَتْكُمْ سَواري الحَيِّ فانتجعوا ... ما روَّضَتْ من ثرى الأطلال أجفانُ بانوا فأرْسلتُ في آثارِهمْ نَفَسَاً ... ترَنَّحَ الأَيْكُ منها وانْثنى البانُ لم أَدْرِ عَوْجَاءُ مِرْقالٌ بسهم نوىً ... أَصْمَت فؤاديَ أم عَوْجَاء مِرْتانُ إني لَأَعجبُ من سُمْرٍ مُثَقَّفَةٍ ... جَنَوْا بها شَهْدَ عِزٍّ وهي مُرّانُ والغِيدُ إنْ تَرْنُ نحوَ السِّرْبِ مائلةً ... قلت اشْرَأَبَّتْ إلى الغِزلانِ أو تستظِلَّ غصون البان كانِسَةً ... نَقُلْ تفَيَّأَت الأغصانَ أغصانُ وإن يَنَمْنَ على كُثْبِ النَّقا لعباً ... نَقُلْ توَسَّدَتِ الكُثبانُ كُثْبانُ يا ذا السياسةِ لو يومَ الرِّهانِ بها ... فَتَكْتَ ما احْتَرَبَتْ عَبْسٌ وذُبْيانُ والحزمِ لو علمت لِحْيان أَيْسَرَه ... لما نجا ثابِتٌ والموت خَزْيَانُ والفضلِ لو لعَبيدٍ من بدائعِهِ ... بَدَتْ تلَقّاه بالنَّعْماءِ نُعمانُ وذا الكتابة لو عبدُ الحميدِ لها ... أودى بمُلك بني العباس مروانُ على أنّي سمعتُ أن هذه القصيدة مسروقة من غيره. وهي قصيدة طويلة، لها على جمع قصائد فضيلة، قد سارت في الآفاق، وسافرت من خراسان إلى العراق، ولم يقع إليّ منها غير هذه الأبيات، المخصوصة بالإثبات. وقرأت في مجموع هذين البيتين، إلى ابن مُسهر منسوبين، وهما في عدّة العَين، ونضرةِ اللُّجين، معناهما رقيق، ولفظهما سَلِس بالثناء عليه حَقيق: أُعاتِبُ فيكِ اليَعْمَلاتِ على السُّرى ... وأسأَلُ عنكِ الريحَ إنْ هيَ هَبَّتِ وأُمْسك أحناءَ الضلوع على جوىً ... مُقيمٍ وصبرٍ مستحيلٍ مُشَتَّتِ وقرأت في تاريخ السمعاني: سمعتُ أبا الفتح عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن الأخوّة البغدادي بأصفهان مُذاكرةً يقول: رأيت في المنام كأنّ مُنشِداً يُنشدني هذين البيتين، أحدهما وأعجب من صبري، والآخر وأُطبِق أحناء الضلوع، فلما انتبهت جعلت دأبي البحث عن قائل هذه الأبيات، ومضت عدة سنين، واتفق نزول الرئيس أبي الحسن بن مُسهر الموصلي في ضيافتي، فتجارَينا في بعض الليالي ذكر المنامات وذكرت له حال المنام الذي رأيته وأنشدته البيتين فقال أقسم أنهما لَمِنْ شعري من جملة قطعة، ثم أنشدني لنفسه: إذا ما لسانُ الدَّمع نَمَّ على الهوى ... فليس بسِرٍّ ما الضلوعُ أجَنَّتِ فواللهِ ما أدري عَشِيَّةَ وَدَّعتْ ... أناحتْ حَماماتُ اللِّوى أمْ تغنّتِ وأعجب من صَبري القَلوصَ التي سَرَتْ ... بهَودَجِكِ المَزْمومِ أنّى استَقَلَّتِ أُعاتِبُ فيكِ اليَعْمَلاتِ على الونى ... وأسألُ عنكِ الريح إن هيَ هبَّتِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 وأُلصِقُ أحناءَ الضلوعِ على جوىً ... جميعٍ وصبرٍ مُستَحيلٍ مُشَتَّتِ ثم أنشدني علم الدين الشاتاني عنه هذه الأبيات. وأنشدني المعلم الشاتاني لابن مُسهر: حَسَرَتْ عن يَوْمِنا النُّوَبُ ... واكْتسى نُوّارَهُ العُشُبُ واستقامت في مجَرَّتِها ... بالأماني السبعَةُ الشُّهُبُ يا خليلي أين مُصْطَبَحٌ ... فيه للَّذّاتِ مُصْطَحَبُ وثُغورُ الزهر ضاحكةٌ ... ودُموع القَطْر تَنْسَكِبُ ولنا في كلِّ جارحةٍ ... من غِنا أطيارِهِ طرَبُ اسقِنيها بنتَ دَسْكَرةٍ ... وهي أمٌّ حين تَنْتَسِبُ خَنْدَريسٌ دون مُدَّتِها ... جاءتِ الأزمان والحِقَبُ طاف يَجْلُوها لنا رَشأٌ ... قَصُرَتْ عن لحظه القُضُبُ أَوْقَدَتْها نارُ وَجْنَتِه ... فهي في كَفَّيْهِ تلتهبُ ولها من ذاتها طَرَبُ ... فلهذا يَرْقُصُ الحبَبُ هذا البيت الأخير كنت أعلم أنه للأبِيوَرْدي من قطعةٍ أولها: بأبي ظَبْيٌ تبلّج لي ... عن رضا في طَيِّه غَضَبُ وأراني صُبْحَ وَجْنَتِه ... بظلام الليل يَنْتَقِبُ ثم ذكر لي كمال الدين أنه كان إذا أعجبه معنىً لشاعر أو بيتٌ له عمل عليه قصيدة وادّعاه لنفسه. واجتمع هو والأبيوَرْدي وهو لا يعرف ابنَ مُسهِر فجرى حديث ابنِ مسهر وأنه سرق بيت الأبيوردي فقال ابن مسهر بل الأبيوردي سرق شعري. وأنشدني المهذَّب لابن مُسهر أيضاً: هَجَرَتْ يدي فضلَ اليرا ... عِ، وذَمَّها السيفُ القَطوعُ وشَكا مخاطبتي النديمُ وذمَّني الضيفُ القَنوعُ ونفى همومي عن طِلا ... بِ العِزِّ مَطْلَبُهُ المنيعُ إن لم أُجَشّمْها الطُّلو ... عَ بحيث أَنْجُمها طُلوعُ وأنشدني المهذّب علي بن هدّاف العُلَثِيّ ببغداد سنة ستين للمهذّب ابن مُسهر الموصلي من قصيدة طويلة: هي المواردُ بين السُّمْرِ والحَدَقِ ... فَرِدْ فإنّ المنايا مَوْرِدُ الأَبِقِ وأطْيَبُ العيش ما تَجنيه من لَغَبٍ ... وأعذبُ الشُّربِ ما يَصفو من الرَّنَقِ يا دارُ دَرَّتْكِ أخْلاف الغَمام على ... مَرِّ النسيم بجاري الغرب مُنْبَعِقِ وإن عدَتْكِ أخْلاف الغَمام فانْتجعي ... ما رَوَّضَ الأرضَ من أجفان ذي حُرقِ ومنها في صفة الفهد أبيات مُستحسنة أنشدنيها غيره، الأبيات التي فيها في وصف الفهد: من كلِّ أَهْرَتَ بادي السُّخطِ مطَّرِحِ الحياءِ جَهْم المُحَيّا سَيِّئَ الخُلُقِ والشمسُ مُذْ لقّبوها بالغَزالةِ لم ... تَطْلُع على وجهه إلاّ على فَرَقِ ونَقِّطَتْهُ حِباءً كي تسالمَها ... على المنون نِعاجُ الرَّمل بالحَدَقِ قال قاضي القضاة كمال الدين الشهرزوري: هذه الأبيات سرقها من ابن السراج شاعرٌ بصور، ما أبدل إلاّ قوله القافية حيث يقول: والشمسُ مُذْ لقّبوها بالغَزالةِ لم ... تَطْلُعْ لخَشْيَتِه إلاّ على وَجَلِ ونَقِّطَتْهُ حِباءً كي تسالمَها ... على المنون نِعاجُ الرَّمل بالمُقَلِ قال: ومن قصيدة ابن مُسهر في وصف الخيل: سودٌ حوافرها بيضٌ جحافلُها ... صِبْغٌ توَلَّدَ بين الصُّبْحِ والغَسَقِ من طولِ ما وطئتْ ظَهر الدُّجى خَبباً ... وطولِ ما كَرَعَتْ من مَنْهَلِ الفَلَقِ وأنشدني المرتضى لابن مُسهرٍ من قصيدة أولها: الوجدُ ما قد هيّج الطَّللانِ ... مِنّي وأذكَرني حَمامُ البانِ أنا والحمائم حيث تَنْدُبُ شَجْوَها ... فوق الأرائكِ سُحْرَةً سِيّانِ فأنا المُعنّى بالقُدودِ أما لها ... شَرْخُ الشباب وهُنَّ بالأغصانِ ومنها أنشدنيها التاج البلطي: فافْخَرْ فإنك من سُلالةِ مَعْشَرٍ ... عقدوا عمائمهم على التيجانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 كلُّ الأنام بَنُو أبٍ لكنّما ... بالفضل تُعرَفُ قيمةُ الإنسانِ المهذب ابن أسعد الموصلي الفقيه المدرّس بحمص أبو الفرج عبد الله بن أسعد بن علي بن عيسى، ابن الدهان الموصلي. ما زلتُ وأنا بالعراق، إلى لقائه بالأشواق، فإنني كنت أقف على قصائده المستحسنة، ومقاصده الحسنة، وقد سارت كافيّتُه بين فضلاء الزمان كافة فشهدت بكفايته، وسجّلت بأن أهل العصر لم يبلغوا إلى غايته، فلما وصلتُ إلى حمص أوّل ما صحبت الملك العادل نور الدين ابن زنكي رحمه الله منتصف صفر سنة ثلاث وستين جمعت بيني وبينه المدرسة، وحصلت لأحدنا بالآخر الأنسة، وشفيتُ بالرِيّ من رؤيته الغُلّة، ونفيت بالصحة العلة، وبسطته فانبسط، وحلَّ السفَط، وفضّ عن الدرِّ الصدف، وجلا عن البدر السُّدَف، وأنشد فأنشر الرِّمم، ونشد الحكم، ونثر الدر المنظوم، وأحضر الرحيق المختوم، وأظهر السر المكتوم، وأبرز الروض المرهوم، ونشر الوشي المرقوم، ورأيت المهذَّب مهذّب الروي، ذا المذهب القوي، في النظم السويّ، وهو ذو رويّة رويةّ بغير بديهة، وقريحة صحيحة بالنار شبيهة، جيد الفكر لا يُبْدَه، أيِّد الحلم لا يُسفه، جودته على الجِدّ مقصورة، وفائدته في الجيد محصورة، ورايته في الشعر منصورة، ومأثُرته في الأدب مأثورة، فأما الفقه فهو إمام محرابه، ومحزّب أحزابه، ومقدام شجاعته، ومُقدَّم جماعته، وسراج ظلامه، وسريجي أحكامه، وذُكاء ذَكائه، وغزالة سمائه، وغزّالي أسمائه، ورضوان جنّته، ودهّان جُنّته، وأما سائر العلوم فهو ابن بجدتها، وأبو عُذرتها وأخو بجدتها، والشعر من فضائله كالبدر في النجوم، والبازل في القروم، وصفناه به لشرط الكتاب، وأدخلناه وإن كان معدوداً من الأئمة المذكورين في هذا الحساب، بحر زاخر، وحبر فاخر، وناقد بصير، وعالم خبير، وجوهريٌّ لفرائد الفوائد مُروّج، وصَيْرَفيّ لنقود المزيفين مُبهرج، سائر الشعر، شاعر العصر، محسن النظم ناظم الحسن، لَسِن القوم وقويم اللسن، فيه تمتمة تسفر عن فصاحة تامة، وعقدة لسان تبين عن فقه في القول وبلاغة من عالم مثله علامة، ارتدى قناع القناعة أَنَفَاً من القُنوع، وانتأى عن جِمام الجماعة رِضاً ببرق حظّه اللموع، وأوى إلى كِسْرِ الانكسار، وانزوى في سِترِ الاستتار، ولبس خَميلةَ الخُمول، على أنه قِبلة القبول، وعُقلة العقول، ومَشْرَع المعقول المشروع، وموضع المحمول والموضوع. فما أنشدني من شعره بحمص سنة خمس وستين القصيدة الكافية التي سارت له في مدح أبي الغارات طلائع بن رُزِّيك وأنفذها إليه بمصر فنفَّذ له الجائزةَ السنيّة، والعطيّة الهنيّة، وهي: أما كفاكَ تلافي في تَلافيكا ... ولست تَنْقِمُ إلاّ فَرْطَ حُبِّيكا يا مُخجِلَ الغُصن ما يَثْنِيك عن مَلَلٍ ... هوىً وكلُّ هواءٍ هبَّ يثنيكا أصبحتُ للقمر المأسور في صَفْدَيْ ... أَسْرٍ وللرِّشإ المملوك مَمْلُوكا أَبِيتُ أَغْبِطُ فاهُ طِيبَ ريقتِه ... ليلاً وأَحُسدُ في الصُّبحِ المَساويكا يا حاملَ الراح في فيه وراحتِه ... دَعْ ما بكفّك رُوح العَيش في فيكا أليسَ سِرُّكَ مستوراً على كلَفي ... فما يَضُرُّك أن أصبحتُ مهتوكا وفيم تَغْضَب إن قال الوُشاةُ سَلا ... وأنتَ تعلمُ أني لستُ أَسْلُوكا لا نِلْتُ وَصْلَك إن كان الذي زعَموا ... ولا سقى ظمأي جودُ ابنِ رُزّيكا هادي الدعاة أبي الغارات خير فتىً ... أدنى عَطِيّاتِه أقصى أمانيكا القاتِل الألْف يلقاهُم فيَغلِبُهمْ ... والواهبِ الألف تلقاه فيُغْنيكا على أنه مأخوذ من قول بعضهم: القاتل الألف إلاّ أنها أُسُدٌ ... والواهب الألف إلاّ أنها بِدَرُ قد نظمت أنا في قصيدة طويلة هذا المعنى ووفّيتُ الصنعة حقّها بحيث لا يعوزها في الكمال شيء وهو: في حالتَيْ جودٍ وبأسٍ لم يزلْ ... للتِّبر والأعداءِ منك تَبارُ تَهَبُ الألوفَ ولا تهاب أُلوفَهُمْ ... هان العدوُّ لديك والدينارُ رجعنا إلى القصيدة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 يا كاشفَ الغُمّة الكُبرى وقد نَزَلَتْ ... بشَعْب شَمْلِ العُلا لولا تَلافيكا بَرَّزْتَ سَبْقَاً فما داناك في أَمَدٍ ... خَلْقٌ قديماً ولا خَلْقٌ يُدانيكا أَرَتْ مساعيك سُبْلَ المجدِ جاهِلَها ... فَلَوْ سعى كان أيضاً من مَساعيكا يخافُك المَلْكُ ناءٍ عنك مَنْزِلُه ... ويُقْتِرُ المرءُ عن بُعدٍ فَيَرْجوكا يَشْكُو إليكَ بنو الآمال فقرَهُمُ ... فينْثَنون وبيتَ المال يَشْكُوكا وَفَيْلَقٍ يملأُ الأقطار ذي لَجَبٍ ... يُضْحي له ثابتُ الأطْوادِ مَدْكُوكا من كلِّ أَغْلَب تلقى عِرْضَه حَرَمَاً ... مُوَفَّراً وتُلاقي المالَ مَنْهُوكا سَنَّ الحديدَ على كالماءِ شَيَّعَهُ ... مثلُ الحديد براه الله فِتّيكا صُمٌّ عن الذّامِ لا يَأْتُون داعيَهُ ... فإن دعوتَ إلى حربٍ أجابوكا بَعَثْتَهُم نحو جيش الشِّركِ فانْبعثوا ... يَرَوْنَ أَكْبَرَ غُنْمٍ أنْ أطاعوكا ساروا إلى الموتِ قُدماً ما كأنَّهمُ ... رَأَوْا طريق فِرارٍ قَطُّ مَسْلُوكا فأوردوا السُّمْرَ شُرْباً من نحورِهمُ ... وأوطأوا الهامَ بالقاع السَّنابيكا ضَرْبَاً وَطَعْناً يَقُدُّ البِيضَ مُحْكَمةً ... ويَخرُقُ الزَّرَدَ الماذِيَّ مَحْبُوكا وباتَ في كلِّ صُقْعٍ من ديارِهُمُ ... نَوْحٌ على بَطلٍ لولاك ماشِيكا أَمْسَوْا ملوكاً ذوي أَسْرٍ فصَبَّحَهمْ ... أُسْدٌ أَتَوْكَ بهم أسرى مَماليكا ولم يَفُتْهُمْ سوى من كان مَعْقِلُه ... مُطَهَّماً حَثّهُ ركْضاً وتحريكا يا كَعْبَةَ الجود إن الفقر أَقْعَدني ... ورِقّةُ الحال عن مفروضِ حَجّيكا قد جادَ غاديك لي جَوْدَاً وأطمَعني ... سماحةٌ فيك في استسقاء ساريكا مَن أَرْتَجي يا كريمَ الدهر تَنْعَشُني ... جَدْوَاه إنْ خاب سَعْيِي في رَجائيكا أأمدحُ التُّرْكَ أبغي الفضلَ عندهمُ ... والشعرُ ما زال عند التُّرْك مَتْرُوكا أمْ أَمْدَحُ السُّوقَةَ النَّوْكى لرِفْدِهمُ ... وا ضيعتا إن تخَطَّتني أياديكا لا تتركنّي، وما أمّلتُ في سفري ... سواك، أُقْفِل نحو الأهل صُعْلوكا أرى السِّباخَ لها رِيٌّ وقد رَضِيَتْ ... منك الرِّياض مُساواةً وتشريكا ولما وصل الملك الناصر صلاح الدين يوسف من مصر إلى الشام بعد نور الدين في سنة سبعين وخيّم بظاهر حمص وقصده المهذَّب ابن أسعد بقصيدة قال القاضي الفاضل لصلاح الدين هذا الذي يقول: والشعر ما زال عند الترك متروكا فعجّل جائزته لتكذيب قوله وتصديق ظنّه فشرّفه وجمع له بين الخِلعة والضيعة. وكان قد أنشدني أبياتاً من هذه القصيدة قبلُ ولا شك أنه أتمّها في مدحه وهي: ما نامَ بعد البَيْن يَسْتَحلي الكَرى ... إلاّ ليطرُقَه الخَيالُ إذا سرى كَلِفُ بقُرْبِكُمُ فلمّا عاقهُ ... بُعْدُ المَدى سلك الطريقَ الأخَصْرا ومنها: ومُودَّعٍ أَمَّ التَّفَرُّقُ دمعَهُ ... ونهتْهُ رِقْبَةُ كاشحٍ فتحيَّرا يبدو هلالٌ من خلال سُجوفِه ... لولا مُحاذَرَةُ العيون لأبدرا ومنها في المديح: تُردي الكتائبَ كُتْبُهُ فإذا غدتْ ... لم تَدرِ أَنْفذَ أَسطراً أمْ عَسكرا لم يَحْسُنِ الإترابُ فوقَ سُطورها ... إلاّ لأنَّ الجيش يَعقُدُ عِثْيَرا قال: هذا معنى ما سُبِقْتُ إليه. وللأستاذ أبي إسماعيل الطُّغرائي من قصيدة وقد ألَمَّ بالمعنى وأحسَن: عليها سُطورُ الضَّرْبِ يَعجُمها القَنا ... صحائف يغشاها من النَّقْع تَتريبُ وأنشدني أيضاً لنفسه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 كم في العِذار إلى العُذَّال لي عُذُرُ ... وكم يُحاورُهمْ عن لومِيَ الحَوَرُ وكم أرى عندهم من حبِّه خبَراً ... يرويه عن مُقلَتّيَّ الدَّمْعُ والسَّهَرُ يبغونَ بالعَذْل بُرئي من علاقته ... والقولُ يُصلِحُ من لم يَجرحِ النَّظَرُ قالوا تركتَ البوادي قلت حُبُّهُمُ ... محرَّمٌُ حظَرَتْه التُّركُ والحضَرُ ما منزل الحيِّ من قلبي بمنزِلَةٍ ... ولا لآثار ظَعنٍ عنده أثَرُ ولا أُعلَّقُ مَحبوباً يُساعدُه ... على الصُّدود سُتورَ الخِدرِ والخُمُرُ أَميلُ عن حُسْنِ وَجه الشَّمس مُستتراً ... إلى مَحاسِنَ يجلوها ليَ القمر قضيبُ بانٍ على أَعلاه بَدرُ دُجىً ... من أينَ لِلبانِ هذا الزَّهرُ والثَّمَرُ وأنشدني له من قصيدة في مدح الملك الصالح طلائع بن رُزِّيك: إذا لاحَ بَرقٌ من جَنابكَ لامِعٌ ... أَضاءَ لِواشٍ ما تُجِنُّ الأضالِعُ تَتابع لا يحتَثُّ جَفني فإنَّه ... بدا فتَلاهُ دَمعِيَ المُتتابع فإن يكنِ الخِصْبُ اطَّباكُمْ إلى النَّوى ... فقد أَخصبَتْ من مُقلَتّيَّ المَرابع مطالع بَدرٍ منذُ عامَين عُطِّلَتْ ... وما فقدَتْ بَدراً لذاكَ المَطالع وسِرُّ هوى هَمَّتْ بإظهاره النَّوى ... فأمسى وقد نادتْ عليه المَدامِعُ ولمّا برَزنا للوداع وأَيْقَنَتْ ... نُفوسٌ دهاها البَيْنُ ما اللهُ صانِعُ وقفنا ورُسْلُ الشَّوقِ بيني وبينها ... حَواجِبُ أَدَّتْ بثَّنا وأصابع فلا حُزننا غَطَّى عليه تَجَلُّدٌ ... ولا حسنُها غطَّتْ عليه البراقع أَتنسَينَ ما بيني وبينكِ والدُّجى ... غِطاءٌ علينا والعيونُ هواجع وهَبْكِ أَضَعْتِ القلبَ حين ملكْتِه ... تَقي في العهود اللهَ فهي ودائع تمادى بنا في جاهليَّة بُخلِها ... وقد قام بالمعروف في الناس شارع وتَحسَب ليلَ الشُّحِّ يمتَدُّ بعدَما ... بدا طالعاً شمسُ السَّخاء طلائع وأنشدني له ما نظمه في صباه وهو في المكتب في مَرثيَة صبيٍّ كان في الكتّاب معه: أَمسيتَ تحت الأرض تُرغِبُ في الأسى ... مَن كان نحوك في الحوائجِ يَرغَبُ يَهدي إليك بِعَرْفه طيبُ الثَّرى ... مَن كان يهديه الثَّناءُ الطَّيِّبُ وأنشدني له قصيدةً عملها في الملك العادل نور الدين محمود بن زَنكي رحمه الله سنة أغارت الإفرنج على مُعسكره ومخيَّمه بالبقيعة تحت حصن الأكراد وكانت نوبة عظيمة على المسلمين وأَفْلَتَ في فَلٍّ من عسكره، وهذا أحسن ما سمعته في مدح مَنْ كُسِرَ وعُذِر، ولقد وافق العذر ما ذكر، واتصف بعد ذلك وانتصر، ونال الظَّفر: ظُبى المَواضي وأطرافُ القنا الذُّبُلِ ... ضَوامنٌ لكَ ما حازوه من نَفَل وكافلٌ لكَ كافٍ ما تحاولُهُ ... عِزٌّ وعَزْمٌ وبأْسٌ غير منتَحَل وما يَعيبُك ما نالوه من سَلَبٍ ... بالخَتْلِ، قد تُوتَرُ الآسادُ بالحِيَل وإنَّما أَخلَدوا جُبناً إلى خُدَعٍ ... إذا لم يكن لهم بالجيش من قِبَلِ واستيقظوا وأَرادَ الله غفلتَكُمْ ... ليَنْفُذَ القدر المحتوم في الأزل حتى أتَوْكُمْ ولا الماذِيُّ من أَمَمٍ ... ولا الظُّبى كثَبٌ من مُرهَقٍ عَجِل فناً لقىً وقِسِيٌّ غيرُ مُوترَةٍ ... والخيلُ عازبَةٌ تَرعى مع الحَمَل ما يصنعُ الليثُ لا نابٌ ولا ظُفُرٌ ... بما حواليه من عُفْرٍ ومن وُعُل هلاّ وقد ركِبَ الأُسْدُ الصُّقورَ وقد ... سَلُّوا الظُّبى تحتَ غاباتٍ من الأَسَل من كلِّ ضافيةِ السِّربال صافية الْ ... قِذافِ بالنَّبْل فيها الخَذْفُ بالنَّبَل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 وأصبحوا فِرَقاً في أرضِهم بَدَداً ... يَجوسُ أَدناهُمُ الأَقصى على مَهَل وإنَّما هم أضاعوا حزمَهُمْ ثِقةً ... بجَمْعِهِمْ ولَكَمْ من واثِقٍ خَجِل بني الأَصافِرِ ما نلتُمْ بمَكرِكُمُ ... والمَكْرُ في كلِّ إنسانٍ أَخو الفشل وما رجعتم بأسرى خابَ سعيُكُمُ ... غير الأراذِل والأتباع والسَّفَل سلبْتُمُ الجُرْدَ مُعراةً بلا لُجُمٍ ... والسُّمْرَ مَركوزَةً والبيضَ في الخِللِ هل آخِذُ الخيل قد أَرْدى فوارسَها ... مِثالُ آخذِها في الشَّكْل والطِّوَل أم سالب الرُّمح مَركوزاً كسالبِه ... والحربُ دائرةٌ، من كَفِّ مُعتقِلِ جيشٌ أصابتهُمُ عينُ الكمال وما ... يَخلو من العين إلاّ غيرُ مُكتمِل لهم بيَوم حُنَيْنٍ أُسوَةٌ وهُمُ ... خيرُ الأنام وفيهم خاتَمُ الرُّسل سيقتضيكم بضَربٍ عندَ أَهوَنِه ... أَلْبِيضُ كالبَيْضِ والأدراع كالحُلَلِ كان كما ذكَر، فإنَّ الإفرنج بعد ذلك بثلاثة أشهرٍ كُسِروا على حارم وقُتِل في معركة واحدة منهم عشرون ألفاً وأُسِر من نجا وأُخِذَ القَومَس والإبرنس وجميع ملوكهم، وكان فتحاً مبيناً ونصراً عظيماً، وتمام القصيدة: ملْكٌ بعيدٌ من الأدناس ذو كَلَفٍ ... بالصِّدق في القول والإخلاص في العمل فالشمس ما أصبحت والشمسُ ما أَفلَتْ ... والسيفُ ما فُلَّ والأطوادُ لم تزُلِ كم قد تجلَّت بنور الدين من ظُلَمٍ ... للظلم وانجابَ للإضلال من ظُلَل وبلدةٍ ما ترى فيها سوى بطل ... غزا فأضْحَتْ وما فيها سوى طلَل قل لِلمُوّلِّينَ كُفُّوا الطَّرْفُ من جُبُنٍ ... عند اللقاء وغُدّوا الطرف من خجل طلبتُمُ السَّهل تبغونَ النَّجاةَ ولَو ... لُذْتُمْ بمَلْكِكُمُ لُذْتُم إلى جبل أَسْلَمتموه ووَلَّيْتُم فسلَّمَكُمْ ... بثَبْتَةٍ لو بغاها الطَّوْدُ لم يَنَل مُسارعينَ ولم تُنْثَلْ كنائنُكُم ... والسُّمرُ لم تبتَذَل، والبيضُ لم تُذَلِ ولا طرقْتُمْ بوَبْلِ النَّبْل طارقَةً ... ولا تعلَّقتِ الأَسيافُ في القُلَل فقام فرداً وقد ولَّتْ جحافِلُهُ ... فكان من نفسه في جَحفَلٍ زَجِل في مَشهدٍ لَو لُيوثُ الغِيل تشهدُه ... خرَّت لأذقانها من شِدَّة الوَهَل وسْطَ العِدى وحدَه ثَبْتَ الجِنان وقد ... طارت قلوبٌ على بعدٍ من الوجل يعودُ عنهم رويداً غيرَ مُكترثٍ ... بهم وقد كَرَّ فيهم غيرَ مُحتفل يزدادُ قُدْماً إليهم مِن تَيَقُّنِه ... أنَّ التَّأَخُّرَ لا يحمي من الأجَل ما كان أَقربَهُم من أسر أَبعدِكُمْ ... لو أَنَّهم لم يكونوا منه في شُغُل ثباتُه في صُدور الخَيل أَنقذكُمْ ... لا تَحسِبوا وثَباتِ الضُّمَّرِ الذُّلُلِ ما كلَّ حينٍ تُصابُ الأُسْدُ غافلَةً ... ولا يصيبُ شديدَ البَطشِ ذو الشَّلَلِ واللهُ عونُكَ فيما أنتَ مُزمِعُه ... كما أعانكَ في أيّامِكَ الأُوَلِ كم قد ملكْتَ لهم مُلْكاً بلا عِوَضٍ ... وحُزْتَ من بلدٍ منها بلا بدل وكم سقيتَ العوالي من طُلى مَلِكٍ ... وكم قريتَ العوافي من قَرا بطَل وأَسْمَرِ من وريد النَّحر مَوردهُ ... وأَجْدَل أكله من لحمِ مُنجَدِل حصيدُ سيفكَ قد أَعفيتَه زمناً ... لو لم يَطُلْ عهدُه بالسيف لم يَطُلِ لانكَّبَتْ سهمَكَ الأقدارُ عن غرَضٍ ... ولا ثُنُتْ يدَكَ الأَيّامُ عن أَمل ومن شعره في الصالح ابن رُزِّيك قصيدةٌ أَرادَ قصده بها ثم أنفذها إليه، أوّلها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 أَيرْجِعُ عَصرٌ بالجزيرة رائقُ ... تَقَضَّى وأبقى حَسرةً ما تُفارِقُ لياليَ أبكارُ السُّرور وعَونُهُ ... هدايا وأُمّاتُ الهموم طَوالق إذا قلتُ يصحو القلبُ من فَرط ذِكرِه ... دعا هاتفٌ في الأَيْكِ أو لاح بارِقُ ومنها: تركْنا التَّشاكي ساعةَ البين ضِلَّةً ... ولا غروَ يومَ البينِ إن ضلَّ عاشق فلا لذَّة الشكوى قضينا ولا الذي ... سترناه أَخْفَتْه الدُّموع السَّوابِقُ فمن لؤلؤٍ شَقَّ الشَّقيقَ مُبدَّداً ... ووَرْسٍ جرَتْ سَحّاً عليه الشقائق إذا نحن حاولنا التَّعانُقَ خُلسَةً ... عَلانا الزَّفير والقلوبُ خوافق ومنها: وزائرةٍ بعد الهُدُوِّ وبيننا ... مَهامِهُ تُنضي رَكبَها وسَمالِقُ تعجَّبُ من شَيبٍ رأتْ بمَفارقي ... وهل عجبٌ من أنْ تشيبَ المَفارِقُ وقالتْ وفَرْطُ الضَّمِّ قد هدَّ مِرْطَها ... ولُزَّتْ ثُدِيٌّ تحتَها ومَخانِق أَتُسليكَ عنّا كاذباتٌ من المُنى ... وما خِلتُ تُسليكَ الأماني الصَّوادِقُ متى نلتقي في غيرِ نومٍ ويشتكي ... مَشوقٌ وبُشْكي من جوى البين شائق ثِقي بإيابي عن قريبٍ فإنَّني ... بجُودِ ابن رُزِّيكٍ على القربِ واثق هو البحرُ فيه درُّه وعُبابُه ... وصوبُ الحَيا فيه النَّدى والصَّواعِقُ أخو الحَرب ربُّ المكرمات أبو النَّدى ... حليف العُلى صَبٌّ إلى العُرف تائقُ يُنال الحَيا من بحره وهو نازحٌ ... ويَدنو الجَنى من فَرعِه وهو باسِق ومنها في حكاية وزير المصريين عباس وكونه قتل ظافرهم وجماعة من أعمامه بالقصر، وجاء ابن رزِّيك فأخذ بالثّأْر منه: ولمّا رأى عبّاسُ لِلغدر مَذهباً ... وأظهرَ ما قد كان عنه يُنافِقُ وأنفق من إنعامِهم في هلاكهم ... جزاءً به عَمري خَليقٌ ولائق ومدَّ يداً هم طوَّلوها إليهمُ ... وحلَّت بأهل القصر منه البوائق دعَوْكَ فلبَّيْتَ الدُّعاء مُسارعاً ... وفرَّجْتَ عنهم كَربَهُمْ وهو خانق وجاوبْتَهُم عن كتْبهم بكتائبٍ ... تَمُرُّ بها مَرَّ السّحاب السَّوابق وفرَّ رجاءً أنْ يفوتَ شَبا الظُّبى ... فعاجلَه حَيْنٌ إليهنَّ سائق وقدَّر أنْ قد خلَّفَ الحتفَ خلفَه ... وقدّامَه الحَتْفُ المُوافي الموافِقُ سقى ربَّه كأسَ المنايا وما انقضى ... له الشَّهر إلاّ وهو للكأس ذائقُ أبو الفضل بن عطّاف المَوصلي الجَزري محمد بن محمد بن محمد بن عطاف، ذكره أبو سعد السمعاني في المذيّل قال: أنشدنا لنفسه إملاءً في القلم: خُرْسٌ تُشافِه بالمَرام كأنَّما ... تُبدي بألسُنِها الفصيحَ الأعجما وتطول عن قِصَرٍ ويَقصُر دونَها ... طولُ الرِّماح وإنْ أَرَقْتَ بها الدِّما قال وأنشدني لنفسه في شابٍّ يتمنّى شيبه: كم قد تمنّى أن يرى ... شَيْباً بمَفرِقِه أَلَمّا دارت عليه رحى المَنو ... نِ فأسكَنَتْهُ ثَرىً أَصَمّا ذكر السمعاني في تاريخه أنه توفي ببغداد تاسع عشر شوال سنة أربع وثلاثين وخمسمائة. عمّه: أبو طالب جعفر بن محمد بن عطاف قرأت في تاريخ السمعاني: أنشدني أبو الفضل بن عطاف أنشدني عمي أبو طالب لنفسه بمَيافارقين: لابدَّ للكامل من زَلَّةْ ... تُخبره أن ليس بالكامل بينا يُرى يضحك من جاهلٍ ... حتى تراه ضِحكةُ الجاهِل قال: وسمعته يقول: قرأت على ظهر تقويم سطّره عمّي أبو طالب لنفسه: أُجَدِّده في كلِّ عامٍ مُجدَّدٍ ... ويخلِقُ منّي جِدَّتي وغرامي وتَفرحُ نفسي بانتظام شُهورِه ... وفي واحدٍ منها يكون حِمامي الشيخ أبو الحسن علي بن دبيس المَوْصلي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 قرأَ على ابن وَحشي، وابن وَحشي قرأَ على ابن جِنّيّ، قرأتُ له في مجموعٍ لأبي الفضل بن الخازن من الموصليات للشيخ أبي الحسن علي بن دبيس النَّحوي من أبيات في قوّاد: يُسهِّلُ كلَّ ممتنعٍ شديدٍ ... ويأْتي بالمُراد على اقتصاد فلو كلَّفْتَه تحصيل طيفِ الْ ... خَيالِ ضُحىً لزارَ بلا رُقاد وله من قصيدة أوّلها أنشدني التاج البلَطيّ قال أنشدني أبو القاسم بن المارنك الصائغ المَوصليّ، قال أنشدني ابن دبيس: ما ساعَفَتْكَ بطيفها هِندُ ... إلاّ لكي يتضاعفَ الوَجْدُ منها في مدح سعد الدولة أخي شرف الدَّولة مُسلِم بنِ قريش: والوَجْدُ يَنْمى في الفؤاد كما ... يَنمى بسعد الدَّولة السَّعد ومنها: أُنظُرْ إلى الأَب في العشيرة من ... طرَفٍ ومن طرَفٍ مَنِ الجَدُِ وكانت أُمُّه بنتَ السُّلطان. قيل إنَّه لمّا أنشدَ نصف هذا البيت فقال الأمير وسبقه: ومِنْ طرَفٍ مَنِ الجَدُّ. الرئيس علي بن الأعرابي المَوصلي ذكره مجد العرب العامري، وقال: شعَرَ، على كِبَر، وتقع له أَبيات نوادر في الهجو، تخلو من الحشو واللَّغو، وتسقى من الكدر لسلاستها الصفوَ، ويَطلب مَنْ قيل فيه منه العَفوَ، فمنها ما أَنشدني الأمير مجد العرب العامري بأصفهان لابن الأعرابي المَوصلي في الشاعر البغدادي المعروف بحَيْصَ بَيْص، وهو يَنسِبُ نفسه إلى تميم، وعادتُه يتبادى في كلامه وزيِّه. ولا يستحق الأمير أبو الفوارس ابن الصَّيفيّ هذا فإنّني ما رأيت أكمل أدباً منه، ولكن ما زالت الأشراف تُهجى وتمدح: كمْ تَبادَى وكمْ تُطَوِّلُ طُرطو ... رَكَ، ما فيكَ شعرةٌ من تميم فكُلِ الضَّبَّ وابْلَعِ الحنظَلَ الأَخْ ... ضَر واشْرَبْ ما شئتَ بَوْلَ الظَّليمِ ليس ذا وجهَ من يُجير ولا يقْ ... ري ولا يدفع الأَذى عن حَريمِ قال مجد العرب: وله في بعض الصّدور يهجوه في زمان أتابك زَنكي: قالوا: أَتؤمن بالنّجوم، فقلتُ: لا ... بأبي المحاسِنِ كُذِّبَتْ في العالَم اختارَ طالِعَهُ فسوَّدَ وجهَه ... فيه وأفسدَ فيه أمر الصّارمِ ذكر أن الذي هجاه كان وزيراً للملك في تلك البلاد، والصارم كان مُشرِفاُ للملك. وأنشدني الأمير أُسامة بن منقذ أنشدني العلَم الشاتاني له في ابن أفلَح الشاعر: قد بُلِيَ في زمانه بعُلوجٍ ... يعتريه في حُبِّهِمْ كالجُنون كلَّ يومٍ له طَواشٍ جَديدٌ ... وغلامٌ يجرُّه من أَتون وله في الشيب: رُسلُ الحِمام حَمائمٌ بِيضُ بدَتْ ... من بين خافِيَةِ الغُراب الأَسودِ قال الشاتاني: قرأت عليه الأدب. توفي سنة سبع وأربعين. الشيخ مَرْزَكَّة واسمه زيد، من قرية عبيد، من نواحي المَوصل، كذا ذكره غير واحد ممَّن كان في مكتبه، وقيل اسمها: عين سُفتى، قال الشاتاني: قرأت عليه الأدب. أنشدني له رجل جنديّ يقال له الأمير علي الشاميّ في عَقر الصّعيد من نواحي سامي مَيسان عند ابن الملك ابن قطيرا، وأنا مُصعِدٌ إلى واسط في أوائل ذي الحجة سنة تسع وأربعين وخمسمائة: يا عَزّ أينَ من الجفون رُقادي ... ولهيبُ نار الشوق حَشْوُ وِسادي كم يعذلوني في هواكِ، عدِمْتُهمْ ... إنَّ العواذل فيكِ من حُسّادي لا ضيرَ إنْ ظَفِرْت أُمّيَّةُ مرَّةً ... فالركب يعثُرُ فيه كلُّ جواد دنيا تكاثرَ غَدرُها حتى لقد ... وثبت ثعالبها على الآساد ومنها: إنّي بدون الطَّيفِ منكِ لَقانعٌ ... ولو انُّ طيفك مُخلِفٌ ميعادي قالت وقد رأت المشيبَ بلِمَّتي ... والليلُ فاجأه صباحٌ بادي قدِّم لنفسِكَ ما تُسَرُّ به غداً ... فالموتُ يطرقُ رائح أو غاد فأجبتُها إنّي تمسَّكتُ التُّقى ... حُب الوصيِّ فنعمَ عُقبى الزَّاد وله ما يبرهن به على غُلوِّه في مذهبه في التشيُّع: أَيُّ أَجرٍ للدَّمع والأَنفاسِ ... ووقوفي بالأربُع الأدراس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 وارتياحي إلى الغزال وقد ما ... رَسَ منه الرَّدى أَشَدَّ مِراس لَيقومَنَّ للشريعة هادٍ ... قاصمٌ للعدى شديد الباس قُرَشِيٌّ لا من بني عبد شَمْسٍ ... هاشميٌّ لا من بني العبّاس فاطِميُّ النِّجار من آل موسى ... قد حوى العلمَ كالجبال الرواسي ملأ الأرضَ عدلُهُ بعد ما طه ... رها من مظالم الأرجاس في وَلاكُمْ يا آل بيت رسول ال ... لَّهِ صارمتُ مَعشري وأُناسي حُبُّكُم غايةُ الثواب وما في ... ثَلْبِ مَنْ سَنَّ بُغضَكُم من باس وله: ما آن يا قلب لي أن أتوبُ ... وقد علا رأْسِيَ المَشيبُ إذا شبابُ الفتى تَقضَّى ... فالموت من بعده قريب كلُّ سَقامٍ له طبيبٌ ... وما لما حلَّ بي طبيبُ أُنكِرُ حُبّي لكم وما إنْ ... يُنكَرُ أَنْ يُعْبَدَ الصّليبُ قد اقتسمنا على سواءٍ ... فلا تقولوا ولا نُجيبُ خُذوا يزيداً لكم وشَمرا ... فما لنا فيهما نصيب نصيبُنا كلُّه عليٌّ ... الفاضل السيِّدُ اللَّبيب وله في مرثِية أهل البيت عليهم السلام: سقى منزلَ الأحباب حيث أقاموا ... دموعٌ متى ضَنَّ الغَمامُ سِجامُ فلَهفي لِبَدرٍ ما استتَمَّ وإنَّما ... نصيبُ الكُسوفِ البدرُ وهو تمامُ فمالوا عليه مَيلةً جاهليَّةً ... أماتوا به الإسلامَ وهو غلام فلولا بكاءُ المُزن حُزناً لفَقدِه ... لما جادَنا بعد الحسين غَمامُ ولو لمْ يَشُقَّ جِلبابه أسىً ... لما انفكَّ عنّا مُذْ فُقِدْتَ ظلام أَلا ما لِلَيلي لا انجِلاءَ لِصُبْحِه ... وما لِجُفوني لا تكادُ تنام وما لفؤادي صار للهَمِّ مأْلَفاً ... أَسىً، أَعليه للسرور لِثامُ وله من قصيدة يستطرد بخلافة أبي بكر رضوان الله عليه: وإذا لزِمْتَ زِمامَها قَلِقَتْ ... قَلَقَ الخلافة في أبي بكر لقد أبطل في قوله، فإنَّ أبا بكر أزالَ قلقَها، وأنار أُفقها، وطبَّق العدلَ مغربها ومشرقها. البديهي المَوصليّ له في الوزير أبي شجاع وقد استُوزِرَ بعد ابن جَهير: ما اسْتُبدِلَ ابنُ جَهيرَ في ديوانهمْ ... بأبي شُجاعَ لرِفعةٍ وجلال لكن رأَوْهُ أَشَحَّ أهلِ زمانهمْ ... فاستوزروه لحِفظ بيت المال نباتة الأعور الأُبري من الموصل. رجلٌ أُمِّيٌّ بارزِيّ، من بني عم شرف الدَّولة ابن قريش، خبيث الهجو مرهوب الشَّباة. أنشدني له بعض أصدقائي من واسط يهجو علَوِيّاً من حلب: شريفٌ أصله أصلٌ حميدٌ ... ولكن فِعلُه غير الحميدِ ولم يخلُقه ربُّ العرش إلاّ ... لتنعطف القلوب على يزيد وله في ابن خميس: أقبلْتَ والأيّامُ راجعةٌ ... ووَلِيتَ والبلوى لها سبَبُ ما صِرْتَ رأْساً يُستقادُ به ... إلاّ وعند المَوصل الذنب وكان بهاء الدين الشَّهرزوري بفَرْدِ عَيْنٍ، فقال فيه: وما جمعَتْ بيننا شَهرَزور ... ولكن بالنظر الفاسد وله وقد عُزِل أحد بني خميس ووُلِّي أخوه: علَوتُمْ يا بني خميسٍ ... وكنتمُ في الحضيض أَسفلْ وسُسْتُمُ النّاسَ بعدَ وهْنٍ ... كأَنَّما اللهث قد تحوَّل إن كان لا بدَّ من خرابٍ ... فالبومُ أولى بها وأجمل عسى بردّ المعين يأْتي ... زماننا والأمير يفعل ولنباتة يهجو بعض رؤساء الموصل: فكم في سُكُفّات الفتى من مُضيَّعٍ ... إذا ما مشى من فوقها صَرَّتِ النَّعلُ ولو سأل القرنانُ حيطانَ داره ... لجاوبه من كل زاوية نَغْلُ وذاكَ فُضولٌ كان منّي وِخِفَّةٌ ... أَغارُ على من لا يغار لها بعلُ ولنباتة يخاطب نقيب العلويين بالموصل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 رُدَّ الميازيبَ يا ابن فاطمة ... فقَلْعُها والمُكبّ في النّار واغضبْ لها كالإمام حيدرةٍ ... لعمّه بالمهنّد القاري إلاّ جحَدنا يومَ الغدير وقلْ ... نا إنّما الحق ليلة الغار ومال مثلي إلى عتيق وأن ... كرتُ عليّاً بكلِّ إنكار القاضي المرتضى أبو محمد عبد اله بن القاسم بن المظفر بن علي بن الشهرزوري والد كمال الدين والقضاة الشهرزورية. القاضي من أهل الموصل، أحد الأئمة المشهورين، والفضلاء المذكورين، له شِعرٌ راقٍ ورَقَّ، معناه جَلَّ ودقَّ، مليح الوعظ، فصيح اللفظ، حسنُ السَّجع، لطيف الطَّبع، فاضلٌ عالم، من كلِّ ما يشين سالم، عبارتُه في شِعره عبرَت الشِّعرى العَبور، ورقَّته في نظمه أَصْبَتِ الصَّبا ورمت بالإدْبار الدَّبور، ضاعَ عَرفُه وما ضاع، وشاع فضله وذاع، له الخاطر المُطيع، القادر المُستطيع، قاضٍ قُضِيَ له بالفضل الوافر، وحاكمٌ حُكِمَ له بفطنة الخاطر، مرتضىً كلقبه، ما حواه من أدبه، كان يعظ ويحكم، وينثر وينظم. ووجدت من كلام القاضي المرتضى أبي محمد الشهرزوري رسالة سلك بها مسلك الحقيقة، وسبق أهل الطريقة، مشحونةً بأبياتٍ في رِقَّة السَّلسل والشَّمول، ودِقَّة الشَّمأَل والقَبول، فمنها قوله: بدا لكَ سِرٌّ طال عنكَ اكتِتامُهُ ... ولاح صباحٌ كان منكَ ظلامهُ فأنتَ حجاب القلب عن سِرِّ غيبهِ ... ولولاكَ لم يُطبَع عليه خِتامُه وإن غِبتَ عنه حلَّ فيه وطنَّبَتْ ... على مَنكِب الكشف المَصون خِيامُه وجاء حديثٌ لا يُمَلُّ سماعُهُ ... شهيٌّ إلينا نثرُه ونظامهُ وقوله: أهوى هواه وبعدي عنه بُغيَتُهُ ... فالبعدُ قد صار لي في حبِّه أرَبا فمن رأَى دَنِفاً صَبّاً أخا شجَنٍ ... ينأَى إذا حِبُّه من أرضه قَرُبا وقوله: وجالتْ خيولُ الغَدر في حَلبة الهجرِ ... وفي شُعَبِ النُّعمى كمينٌ من المكرِ وجاءت على آثار ذاك طلائع ... من الصدّ نحو القلب قاصدةً تجري فعاودتُ قلبي يسأَل الصبر وقفةً ... عليها، فلا قلبي وجدتُ ولا صبري وغابت شُموسُ الوصل عني وأظْلَمَتْ ... مسالكُهُ حتّى تحيَّرتُ في أمري فما كان إلاّ الخطف حتّى رأَيتها ... محَكَّمةً والقلبُ في رِبْقَةِ الأَسْر وقوله: وناح غرابُ البين في مأْتَمِ الهَجرِ ... ورقَّقَ حتّى شَقَ أثوابَه صَبري وبانوا فكم دمعٍ من الأسر أطلقوا ... نَجيعاً وكم قلبٍ أعادوا إلى الأسْر فلا تُنكِرا خَلعي عِذاري تأَسُّفاً ... عليهم فقد أوضحتُ عندكمُ عُذري وقوله على لسان الهوى للنفس وأعوانها، وينهاها عن طاعة هداها ويأْمرها باتّباع شيطانها: كم عابدٍ في صَوْمَعَهْ ... أَخليتُ منها مَوضِعَهْ وخدَعْتُه من بعدِ أَنْ ... قد ظنَّ أن لن أَخدعه صارعتُه فأَرَيْتُه ... قبلَ التَّصادُمِ مَصرَعَهْ وسلبتُهُ أحوالَهُ ... وأَخذتُ أَنْفِسَ ما معه وتركتُه في حَيرَةٍ ... وحبسْتُ عنه أَدْمُعَه وأَتى الصُّدودُ فبزَّهُ ... ثوبَ الوِصال وخلَّعَهْ واجتاحَ حبلَ رجائه ... من بعد ذاكَ وقطَّعه فتقبَّلوا نُصحي لكم ... واستفرغوا فيه السَّعَهْ فعدُوُّكم لا يستري ... حُ فجانِبوا معه الدَّعَهْ وقوله: يا قلبُ هل يرجع دهرٌ مضى ... يجمعنا يوماً بوادي الغضا وباجتماع الشَّمل يقضي لنا ... من كان بالبين علينا قضى فتصبحُ الآمالُ مُخضَرَّةً ... فيهم وقد هبَّ نسيمُ الرِّضا ويرجع الوصل إلى وَصلنا ... ويصبح الإعراضُ قد أَعرضا وقوله: مالوا إلى هجرنا ومَلُّوا ... ومِنْ عُقود العهود حَلُّوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 وكلَّما قلتُ قد تدانَوا ... شَدُّوا على العِيس واستقلّوا فقال مَن منهمُ جَفانا ... واعتاضَ عنّا؟ فقلتُ: كُلُّ قد حرَّموا وصلَهم علينا ... واستعذبوا الهجر واستحلُّوا وقوله جواباً لمن ذكر أنه قال له: متى عهدك بقلبك؟: فقلتُ عهدٌ بعيدُ ... قدَّرْت وهو جديدُ والصَّبر يَنقصُ مُذْ با ... نَ والبلاءُ يزيد وليس في الأمر أَنّي ... أَشْقى وأَنْتَ سعيدُ وقوله: حلفتُ بربِّ البيتِ والرُّكن والحِجْرِ ... لئن قدِم الأحبابُ من سفَر الهَجر وعادوا إلى الإخلاص والصِّدق والصفا ... وحالوا عن الإعراض والصَّدِّ والغدر وجاء نسيمُ الاختصاص مُبشِّراً ... تلقيتُهُمْ حَبواً على الخَدِّ والنَّحْر ومرَّغتُ وجهي في التُّراب تذلُّلاً ... وقبَّلْتُ أَخفافاً بهم نحونا تسري وأنشدتهم بيتاً قديماً نظمْتُهُ ... وأخفيتُهُ خوفَ الأجانب في سرّي إذا أنا لم أخلعْ عِذارِيَ فَرْحَةً ... بقُرْبِكُمُ أَهل الوفاء فما عُذري وقوله: وافى النَّسيمُ بنفحةٍ ... نَشِطَتْ فؤادي من عِقال مِسْكِيَّة أنفاسها ... تُهدي الذَّكاءَ إلى الغوالي واستعْجَمَتْ أَخبارُها ... فسألت أصحابي وآلي عنها فحاروا في الجوا ... بِ وما شَفَوا قَرَمَ السُّؤال فسأَلتُهُمْ لمّا رأَيْ ... تُ حجابهم عمّا بدا لي هَمَّ الحبيبُ بأنْ يزو ... رَ فهذه ريحُ الوِصالَ وقوله على لسان القلب حين نَشِطَ من عِقاله، فقال بلسان حاله: قد فكَّ عنّي كلَّ أغلالهِ ... وحطَّ عنّي كلَّ أَثقاله وجادَ بالفضل الذي لم يزل ... يخُصُّ مَن شاءَ بأَفضالهِ وقابلتْنا بعدَ ما أَعرَضَتْ ... واحتجبَتْ أَوجُهُ إقبالهِ وانقرضت دولة أعدائهِ ... وعاودَ الملك إلى آلهِ وصارَ مَن أَوحَشَهُ يأْسُهُ ... مُبتهجاً في أُنْسِ آماله وقوله: كبِدَ الحسودُ تقطَّعي ... قد باتَ مَن أهوى معي عادتْ حِبالُ وِداده ... موصولةً فتقطَّعي ونثرتُ يومَ وِصالهِ ... مخزونَ ما أبقى معي ما كان لي من شافعٍ ... إلاّ الغليل وأدمُعي قابلتُ قِبلة عِزِّه ... بتذَلُّلي وتخضُّعي فأجابني بتلطُّفٍ ... وتعطُّفٍ يا مُدَّعي إنَّ المُحِبَّ جوابُهُ ... خَلعُ العِذارِ إذا دُعي وقوله: قد رجعنا إلى الوفا ... ومضت مدَّة الجَفا والذي كدَّر الصّدو ... دُ مِنَ الوصل قد صَفا سُخطكمْ كان عِلَّتي ... ورضاكمْ هو الشِّفا أرشدوني بنظرةٍ ... قد سئمنا التَعسُّفا وقوله: ومسرِفَةٍ في اللوم قلتُ لها مهلاً ... أفيقي فما عندي للائِمَةٍ أَهلا جزِعْتُ بأن فارقتُ قوماً أَعِزَّةً ... عليَّ وأوطاناً تأَلَّفتُها طِفلا ولو علمتْ مَن ذا تبدلت عنهمُ ... لكانت بهذا اللوم لائمتي أولى تعوَّضْتُ عن فانٍ بباقٍ لأنّني ... رأيتُ رشاداً تركيَ العبد للمولى وقوله: صُدودٌ ما لهُ أَمَدُ ... وصَبٌّ ما له جلَدُ وقلبٌ بالظَّما كَلِفٌ ... يرى ماءً ولا يرِدُ كئيبٌ مُكمَدٌ دَنِفٌ ... بمن ما مسَّه كَمَدُ إذا ما رام لي حرباً ... فأعضائي له عُدَدُ ولا يدنو ولا ينْأَى ... ولا يُجدي ولا يَعِدُ فيوماً نحن في سِلْمٍ ... ويوماً حربُنا تَقِدُ ويوماً وصلُنا خُلَسٌ ... ويوماً هجرُنا مددُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 فلا وصلٌ ولا هجر ... ولا قربٌ ولا بعدُ وقوله: بقلبي منهمُ عُلَقُ ... ودمعي فيهمُ عَلَق وعندي منهمُ حُرَقُ ... لها الأحشاءُ تحترق ونحن ببابهم فِرَقُ ... أذابَ قلوبَنا الفَرَقُ وما تركوا سوى رمَقٍ ... فليتهمُ له رمَقوا فلا وصلٌ ولا هجرٌ ... ولا نومٌ ولا أرَقُ ولا يأْسٌ ولا طمَعٌ ... ولا صبرٌ ولا قلَقُ فليتهمُ وإن جاروا ... ولم يُبقوا عليَّ بقوا فأفنى في بقائهمُ ... وريحُ مودَّتي عبِقُ كمثل الشَّمع يُمْتع مَن ... يُنادمُهُ ويَمَّحِقُ أنشدني مجد العرب العامري له: يا قلبي إلامَ لا يفيدُ النُّصْحُ ... دَعْ مَزحَكَ كم هوىً جناه مَزْحُ ما جارحة منك خلاها جرحُ ... ما تشعر بالخُمار حتّى تصحو ووجدت مكتوباً في جزء: أنشدنا الشيخ أبو محمد عبد الله بن القاسم بن الشهرزوري من أبيات لنفسه سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة: قد جاءكم برداء الذُّلِّ مشتملا ... عبدٌ لكمْ مالكم مِن أسرِه فادِ أَسكنتموه زماناً أرضَ هجركُمُ ... فتاهَ فيها بلا ماءٍ ولا زادِ وظلَّ من وَحشة الإعراض مُختبِطاً ... في ظلمة الصّدِّ من وادٍ إلى وادِ قتلتموني وأنتم أولياءُ دمي ... فمن يطالب والفادي هو العادي ووجدتُ في مجموعٍ له: وما رحلوا إلاّ وقلبي أمامَهمْ ... وما نزلوا إلاّ وكان لهم أرْضا يميلوا إليهم حيث مالوا فإنَّه ... يرى طاعةَ المحبوب في حبِّه فرضا وذكره أبو سعد السمعاني المروزيّ في مصنّفه فقال: أنشدني أبو طالب محمد بن هبة الله الضَّرير المَوصلي قال: أنشدني عبد الله بن القاسم الشّهرزوريّ لنفسه: مُعلِّلَتي بالوصل طال ترَقُّبي ... أَريحي بيأْسٍ فالرَّجاءُ مُعذِّبي ولا تخدعيني بالأماني فطالما ... أطلتِ ظَمائي ثمَّ كدَّرتِ مَشرَبي تريدين قطعي بالوصال، وجفوةٌ ... مع الودِّ أحظى، فاثبتي وتجنّبي فإنَّ الجفا والهجر ليس بضائرٍ ... إذا هو أبقى موضعاً للتَّعَتُّبِ قال: وأنشدنا أبو طالب الضرير أنشدني عبد الله بن القاسم لنفسه: شكوتُ إليها ما بقلبي من الجَوى ... فقالتْ: وهل أبقى الفراق له قلبا فقلتُ: فلو نفَّسْتِ عنّي كربةً ... بقربِكِ قالت: ذاك يُغري بك الكربا فقلتُ: انصفي في الحبِّ قالت: تعجباً ... وهل يطلب الإنصافَ من يدَّعي الحُبّا فقلتُ: عذابي هل له فيكِ آخرٌ ... فقالتْ: إذا ما صار مقترحاً عَذبا فقلت: فهل لي في وصالكِ مَطمعٌ ... فقالت: إذا ما شمسنا طلعَتْ غَربا فقلتُ: فهل من زَورةٍ يجتني بها ... ثمارَ المُنى ظمآنُ قد مُنِعَ الشُّرْبا فقالت: إذا ما غابَ عن كلِّ مَشهدٍ ... وخاضَ حِياضَ الموتِ واستسْهَلَ الصَّعبا وأصبح فينا حائراً ذا ضلالةٍ ... يواصلُنا بُعداً ونجرُه قربا فحينئذٍ إن فاز مِنّا برحمةٍ ... وزارَ على عِلاّتِه زارَنا غِبّا وقال: أنشدنا أبو طالب الضرير الموصلي: أنشدني عبد الله بن القاسم في الشمعة: ناديتُها ودموعها ... تحكي سوابق عَبرتي والنارُ من زَفَرَاتها ... تحكي تلهُّبَ زَفْرَتي ماذا التنحُّبُ والبكا ... ءُ فأعربي عن قصّتي قالت: فُجعتَ بمن هَوِيتُ فمِحْنتي من مِنْحتي بالنار فُرّق بيننا ... وبها أُفرّق جملتي وقال: أنشدنا أبو طالب الضرير: أنشدني عبد الله ابن القاسم لنفسه في الشمعة: إذا صال البلا وسَطا عليها ... تلقَّتْه بذُلٍّ في التَّواني إذا خضعت تُقَطُّ بحُسْن مَسٍّ ... فتحيا في المَقام بلا تَوانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 كأنّي مثلها في كلِّ حالٍ ... أموت بكم وتُحييني الأماني وقال: أنشدني أبو عبد الله الحسين بن علي السلماني الحاسب الأنصاري: أنشدني عبد الله بن القاسم القاضي: وا حسرتا إذ رحلوا غُدوَةً ... ولا أُرى في جملة الظاعنينْ قد قلتُ لمّا رحلوا عِيسَهم ... يا ليتني كنتُ مع الراحلينْ وا خجلتا إن لم أُطِقْ بَعْدَهمْ ... تَصبُّراً من نظر الشامتين ما حِيلتي إذ حالتي بَعدَهم ... حالُ شِمالٍ فارقتها اليمين وقال: أنشدني أبو عبد الله الحسين بن علي بن سلمان الحاسب: أنشدنا القاضي أبو محمد لنفسه: أسكّانَ نَعمان الأراك تيقَّنوا ... بأنّكمُ في ربع قلبيَ سُكّانُ ودوموا على حِفظِ الوداد فطالما ... بُلِيتُ بأقوامٍ إذا حُفِظوا خانوا سلوا الليل عني مُذْ تباعد شخصُكمْ ... هل اكْتحلت بالنوم لي فيه أجفانُ وهل جردَتْ أسياف برق دياركم ... فكانت لها إلاّ جُفونيَ أجفانُ وقال: أنشدني أبو عبد الله السلماني الحاسب: أنشدني أبو محمد الشهرزوري لنفسه بالموصل: يا نديمي قَرِّبِ القَدَحا ... إنَّ سُكْرَ القوم قد طفحا اسْقِنيها من معادنها ... وَدَعِ العُذّال والنُّصَحا قهوةً حمرا مُشَعْشَعَةً ... رقصت في كَأْسِها فرحا لم تُدَنَّسْ بالمزاج ولو ... بُزِلت في الليل عاد ضُحى والذي كانت تراوده ... نفسُه بالشُّحِّ قد سمحا كان مَستوراً فحين دنا ... كَأْسُها في كفّه افْتضحا وبالإسناد، قال: أنشدنا أبو عبد الله: أنشدني أبو محمد لنفسه: اِشرب فقد رقَّ النَّسيمُ ... وانْعَمْ فقد راق النعيمُ وانْظُرْ فقد غَفَلَ الرَّقيبُ ونام وانتبه النديمُ واسْمح بما في راحَتَيْك وجُدْ فقد سَمح الغريمُ وقال: أنشدنا أبو بكر محمد بن القاسم بن المظفّر الشهرزوري بالموصل: أنشدنا أخي أبو محمد عبد الله لنفسه: ولائمةٍ لي على ما ترى ... بقلبيَ من غمرات الهمومِ رويدك إنّ هموم الفتى ... على قدر همَّته لا تلومي وقال: أنشدني أبو الحسن سعد الله بن محمد بن علي المقري لأبي محمد عبد الله بن القاسم: هَبَّتْ رِياحُ وِصالهم سَحَرَاً ... بحدائقٍ للشَّوق في قلبي واهْتَزّ عُودُ الوصلِ من طربٍ ... وتساقطتْ ثمرٌ من الحبّ ومضتْ خيول الهجر شارِدةً ... مَطرودةً بعساكر القُرب وبدتْ شموس الوصل خارقةً ... بشعاعها لسُرادقِ الحُجْبِ وصفا لنا وقتٌ أضاءَ به ... وجهُ الرِّضا عن ظُلمة العَتْبِ وبقيتُ ما شَيءٌ أُشاهدهُ ... إلاّ ظننتُ بأنّه حِبّي وله: جعلتُ الخدَّ قِرطاسي ... ودمعَ العين أنقاسي وخَطّ الوجدُ بالزَّفرا ... تِ ما تُمليه أنفاسي إلي كم أنا في الحبّ ... أُقاسي قلبك القاسي وكم أَحْمِل ما تَجْني ... على العينينِ والراس وكم أغرِس آمالي ... وما أجني سوى الياسِ ذكر السمعاني أنه سمع أن القاضي أبا محمد توفي بعد سنة عشرين وخمسمائة. أخوه: أبو بكر محمد بن القاسم بن المظفّر بن الشهرزوري المعروف ب قاضي الخافقين شيخ مُسنّ محترم، وكبير محتشم، رحل إلى خراسان في أيام شبيبته، وحصّل العلم بيُمن نقيبته، ثم عاد وولي القضاء بعدة بلدان من بلاد الشام والجزيرة، ونشر بها من آدابه الغزيرة، وكان يروي الحديث النبوي، ويسمع الخبر المروي، وتوفي ببغداد في جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، كذا ذكره السمعاني في تاريخه، وقال: أنشدني لنفسه بجامع الموصل: همّتي دونها السُّهى والزُّبانى ... قد عَلَتْ جُهدها فلا تَتَدَانى فأنا مُتعَبٌ مُعَنَّىً إلى أن ... تَتَفَانى الأيّام أو أتفانى قاضي القضاة بالشام كمال الدين أبو الفضل محمد بن عبد الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 ابن القاسم الشهرزوري، سبق ذكر واله وشعره، وجلَّ أمر هذا وكبر قدره، وأقام في آخر عمره بدمشق قاضياً وواليا ومتحكماً ومتصرفاً، وهو ذو فضائل كثيرة، وفواضل خطيرة، وله نوادر مطبوعة، ومآثر مجموعة، ومفاخر مأثورة، ومقامات مشكورة مشهورةً، وله نظم قليل على سبيل التَّظرُّف والتَّطرُّف، فما أنشدني لنفسه في العلم الشاتاني وقد وصل إلى دمشق في البرد: ولما رأيت البردَ أَلقى جِرانَهُ ... وخيَّم في أرضِ الشَّآم وطنَّبا تبيَّنتُ منه قَفْلَةً عَلَمِيَّةً ... تردُّ شباب الدهر بالبَرْد أشيبا وقوله: وجاءوا عِشاءً يُهرَعون وقد بدا ... بجسميَ من داءِ الصبابة ألوان فقال وكُلٌّ مُعظِمٌ ما رأى: ... أصابتك عينٌ؟ قلت: إنّ وأجفانُ وقوله وأنشدنيه لنفسه بدمشق في ربيع الآخر سنة إحدى وسبعين وخمسمائة: قلتُ له إذا رآه حَيّاً ... ولامه واعتدى جِدالا خَفِيَ نُحولاً عن المنايا ... أَعرض عن حجَّتي وقالا: الطيف كيف اهتدى إليه ... قلتُ: خَيالٌ أَتى خَيالا ولي في كمال الدين قصائد، فإنَّني لمّا وصلت إلى دمشق في سنة اثنتين وستين سعى لي بكلِّ نَجْح وفتح عليَّ باب كلِّ منح، وهو يُنشدني كثيراً من منظوماته ومقطوعاته، فما أَثبتُّه من شعره قوله: قد كنتَ عُدَّتِيَ التي أسطو بها ... يوماً إذا ضاقتْ عليَّ مذاهبي والآن قد لوَّيْتَ عني مُعرضاً ... هذا الصدود نقيض صدّ العاتب وأرى الليالي قد عبثْنَ بصَعدَتي ... فحَنَيْنها وأَلَنَّ منّي جانبي وتركتَ شِلوي لليدين فريسةً ... لا يستطيع يردّ كفّ الكاسب وقوله: ولي كتائب أَنفاسٍ أُجهِّزُها ... إلى جنابكَ إلاّ أنَّها كتبُ ولي أحاديث من نفسي أُسَرُّ بها ... إذا ذكرتك إلاّ أنَّها كِذبُ ولكمال الدين الشهرزوري أيضاً: أَنيخا جِمالي بأبوابها ... وحطّا بها بين خُطَّابها وقُولا لخَمّارها لا تَبِعْ ... سِوايَ فإنِّيَ أَولى بها وساوِمْ وخذْ فوقَ ما تشتهي ... وبادر إليَّ بأكوابها فإنّا أُناس تسومُ المُدا ... مَ بأموالها وبألبابها وقوله: ولو سلَّمَتْ ليلى غَداةَ لَقِيتُها ... بسفح اللِّوى كادت لها النفس تخشع ولكنَّ حزمي ما علمتُ ولُوثةُ ال ... بداوَةِ تأبى أن ألين وتمنع ولست امرءاً يشكو إليك صبابةً ... ولا مقلةً إنسانُها الدَّهرَ يَدمَعُ ولكنني أطوي الضُّلوعَ على الجَوى ... ولو أَنَّها مِمّا بها تتقطَّع وقوله: سَنّنّا الجاشِريَّةَ للبرايا ... وعلَّمناهمُ الرِّطْلَ الكبيرا وأكبَبْنا نَعَبُّ على البواطي ... وعطَّلنا الإدراة والمديرا وقوله: رأى الصَّمصام مُنصلتاً فطاشا ... فلمّا أن فرى وَدجيه عاشا وآنس من جناب الطّور ناراً ... فلابسَها وصار لها فَراشا وأنشدني كمال الدين لنفسه بدمشق في ثالث ربيع الأول سنة إحدى وسبعين: ولقد أَتيتكِ والنُّجوم رواصدٌ ... والفجرُ وهمٌ في ضمير المَشرق وركبت مِ الأَهوالِ كلَّ عظيمةٍ ... شوقاً إليك لعلَّنا أن نلتقي قوله: والفجر وهمٌ في ضمير المَشرق، في غاية الحسن مما سمح به الخاطر اتِّفاقا، وفاق الكمال إشرافاً وإشراقا، وتذكَّر قول أبي يعلى ابن الهبّاريّة الشريف في معنى الصبح وإبطائه: كم ليلةٍ بِتُّ مَطوِيّاً على حُرَقٍ ... أشكو إلى النَّجم حتى كاد يشكوني والصبح قد مطل الشرقُ العيونَ به ... كأَنّه حاجةٌ في كفّ مسكين يقع لي أنه لو قال: كأنّه حاجةٌ تُقضى لمسكينِ، لكان أحسن فإنَّها تمطل بقضائها. وشبَّهه كمال الدين بالوهم في ضمير المشرق وكلاهما أحسن وأجاد. وله يعرِّض بنقيب العلويين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 يا راكباً يطوي الفلا ... بشِمِلَّةٍ حَرْفٍ وَخودِ عرِّجْ بمشهَد كرْبَلا ... وأَنِخْ وعَفِّرْ في الصعيد واقْرَ التَّحيَّةَ وادع يا ... ذا المجد والبيت المشيدِ أولادُك الأنجابُ في ... أرض الجزيرة كالعبيد أوقافهم وَقفٌ على ... دَفٍّ ومِزمارٍ وعُودِ ومُدامةٍ خُضِبَتْ بها ... أيدي السُّقاة إلى الزّنود ودَعِيُّ بيتكَ لا يُفَكِّ ... رُ في الجحيم ولا الخلود يَحتَثُّها وَردِيَّةً ... تُصبي النفوسَ إلى الخُدود هو وابن عَصرونَ الطوي ... ل ويوسف النَّذل اليهودي إن كان هذا ينتمي ... حقَاً إلى البيت المَشيد فإلى يزيد إلى يزيدِ ... إلى يزيد إلى يزيدِ أخوه: شمس الدين القاسم بن عبد الله الشهرزوري تولَّى قضاء الموصل، وكان واعظاً له قَبول، وكان له بأْسٌ على المبتدعة صؤول، توفي بعد سنة ثلاثين وخمسمائة. وتنسب إليه هذه الأبيات في معنى حُسْن الشخص ومعه والده قبيح المنظر: آهِ ما أَقربَه لِلْ ... أُنْسِ لو كان يتيما فإذا ما أَقبلا، عا ... يَنْتَ قُمْرِيّاً وبوما ذا يُسلّي الهَمَّ إنْ غَنَّ ... ى وذا يُدني الهُموما أَقضى القضاة محيي الدين أبو حامد محمد بن محمد بن عبد الله الشهرزوري قاضي حلب، هو ابن كمال الدين المحيي، كريم المحيا، قسيم المُحيّا، عديم المِثل، عظيم المحلّ، زاكي الأَصل، نامي الفضل، إنسان عين الشهرزوريّة، وواسطة قِلادتها، ورابطة سعادتها، ولَيْثُ خِيسِها، وأَسد عِرِّيسها، ومُشتري سعدِها، ومشتري حمدها، وعُطارد عطائها، وقمر سمائها، وشمس أوجها، ونجمُ بُرجِها، طَوْد الحِلم، وخِضَمّ العلم، وقُسّ الفصاحة، وقيس الحَصافة، وبحر السّماحة، وعمرو الحماسة، ما رأيت أكرم طبعاً منه، ولا أعدى نفعا، ولا أجدى جَدا، ولا أندى يدا، ولا أنبل قدراً، ولا أنبه ذِكراً، ولا أَورى زَنْداً في الجود، ولا أروى وِرداً للوفود، علمه حالٍ بالعفاف، وفضله كامل الأوصاف، وذكاؤه ذكاء أفق التوفيق، وسَهم فهمه سَديد المَرْمَى صائب التَّفويق، له النَّظم الرّائق، والنَّثر المُوافق، واللفظ السهل، والمعنى البِكر، هو قِرْني، وفي سِنّي، مولده سنة تسع عشرة وخمسمائة سنة مولدي، ومَورده في طلب العلم موردي، اجتمعنا ببغداد في المدرسة النّظاميّة سنة ست وثلاثين شريكين في الفقه موسومين بالإعزاز، عند شيخنا ابن الرزَّاز، ثم فرَّق بيننا الدهر إلى أن وافقته في الحجِّ سنة ثمان وأربعين، فلقيت منه الأخ المعين، ثم لم ألقه إلاّ سنة اثنتين وستّين، عند حصولي بالشام، لعوادي الأيّام، فانتظمت في سلك خدمة نور الدين إلى آخر أيّامه، وهو مقيمٌ على قضائه وإعلاء أَعلامه، وإحكام أَحكامه، لازِمين داره بحاضر حلب شهراً بعد وفاة نور الدين، سنة سبعين، فراقتني خلائقه، وأطربتني شمائله، وهزَّتني فواضله، وأنشدني له شِعراً كثيراً لم أُثبت منه إلاّ ما أَوردتُه، وهو من قصيدة يتشوَّق فيها إلى دمشق: يا نسيمَ الصَّبا العليل تحمَّل ... حاجةً للمتيَّم المُستهام عُجْ على النَّيربَيْنِ فالسَّهم فالمِزَّ ... ةِ مسترسلاً بغير احتشام ثم عرِّجْ من بيت لِهْيا على مَقْ ... رى فَسَطْرا من قبل سَجْع الحَمام وتعثَّر بكلِّ روضٍ أَنيقٍ ... ضاحكِ الزَّهر من بُكاء الغمام وتحمَّل رَيّا البنفسج والنَّر ... جِسِ والضَّيمَرانِ والنَّمام والخُزامَى والأُقحوان وأَنفا ... سَ الغواني معاً ونَشر المُدام وتتبَّع مساحِبَ المِرْطِ مِنْ لَمْ ... ياءَ واقصد مواقع الأقدام وتأَرَّجْ بالمَندَل الرَّطب من مَسْ ... قَط تلك الأذيال والأَكمام ثمَّ قبِّل ثرى دمشق وبلِّغ ... ساكنيها تحيَّتي وسلامي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 وتحدَّث عن لوعتي بلسان الْ ... حالِ إن لم يكن لسان الكلام صِفْ لهم دمعيَ الطليق وقلبي الْ ... مُوثَقِ الأسر من غريم الغرام وبكائي على الليالي التي نِلْ ... تُ الأَماني فيهنَّ والأَيّام حيث شَملي بكم جميعاً ودمعي ... نازحٌ عن وساوس اللُّوَّام وعِناني في قبضة اللَّهو لا يثْ ... نيه لاحٍ عن شوطه وزِمامي ورمتْنا يدُ الزَّمان بقوسِ الْ ... غَدر من جُعبة النّوى بسهام فكأنّا بعد التَّفرُّق كنّا ... من عوادي الأيّام في أحلام وقوله أملاه عليَّ أيضاً: أَيُّها المغرور بالدُّنْ ... يا تَيَقَّن بالزَّوال وتأهب لِمَسيرٍ ... عن ذَراها وانتقال كيف تغترُّ من الآ ... مالِ بالوعد المُحال والذي تثبتُه الآ ... مالُ تمحوه اللَّيالي إنَّما حَظُّكَ إنْ فكَّ ... رتَ منها في المآل مثل حظِّ العاشق المه ... جور من طيف الخيال وله جيميَّةٌ أوَّلها: خليليَّ قد غنّى الحَمامُ وهزَّجا ... وأسملَ جِلبابُ الظَّلام وأَنهجا وله: ولمّا أن بلِيتُ بناس سوءٍ ... سُرورُ نفوسِهم حُزني وهَمِّي فمِن خِلٍَّ يُراوِحُني بخَلٍّ ... ومِن عَمٍّ يغاديني بغَمِّ أَنِسْتُ بوَحدتي ولزمت بيتي ... بقصدي واختياري لا برغمي ولولا العارُ ما عجَّزْتُ نفسي ... ولا قصَّرت عنهم باع عزمي ولكنّي إذا كَرُّوا بجهلٍ ... عليَّ إذن لقيتُهمُ بحِلم وله: لا تحسبوا أني امتنعتُ من البُكا ... عند الوداع تجلُّداً وتصبُّرا لكنَّني زوَّدت عيني نظرةً ... والدَّمع يمنع لحظَها أن ينظُرا إن كان ما فاضتْ فقد أَلْزَمْتُها ... صِلَةَ السُّهاد وسِمتُها هَجر الكرى وله: أَحبابنا سِرتم بروحي وهل ... يبقى بغير الرُّوح جثمانُ أَوحشتُمُ الدُّنيا لعيني فما ... يَحلى بإنسانيَ إنسانُ أحبابنا ما الدّارُ من بعدكمْ ... دارٌ ولا الأوطان أَوطان ليس عجيباً جزَعٌ إنَّما الْ ... عجيبُ أن أبقى وقد بانوا لو فارقوا الجنَّةَ معْ حُسنِها ... ماتَ من الوَحشة رِضوانُ وله يودِّع بعض إخوانه: أَيُّها الرّاحلُ الذي ليس يُرجى ... لِهواه عن رَبعِ قلبي رحيلُ إن تبدَّلت بي سوايَ فإنّي ... ليس لي ما حييتُ عنك بديلُ ليَ أُذن حتى أُناجيك صمّا ... ءُ وطَرفٌ حتّى أراكَ كليلُ وله من قطعةٍ: جاد لي في الرُّقاد وهْناً بوَصلٍ ... أنشطَ القلبَ من عِقال الهُموم وجفاني لمّا انتبهتُ فما أقْ ... رَبَ ما بين شِقوتي ونعيمي نُبَذٌ من شِعرِه في التوحيد والسنة. قال: قامتْ بإثْباتِ الصفات أَدِلَّةٌ ... قصمَتْ ظُهورَ أَئمَّة التَّعطيل وطلائعُ التَّنزيه لمّا أقبلَتْ ... هزمَتْ ذوي التشبيه والتمثيل فالحقُّ ما صِرنا إليه جميعُنا ... بأدلَّة الأخبار والتَّنزيل من لم يكن بالشَّرع مُقتدياً فقد ... ألقاهُ فَرطُ الجهل في التضليلِ وقال في مدح الصحابة: لائمي في هوى الصّحا ... بة إِرجِع إلى سَقَرْ لا بلغتَ المُنى ولا ... نِلْتَ من رِفضِكَ الوَطَرْ كيف تنهى عن حبِّ قو ... مٍ همُ السمع والبصر وهم سادةُ الوَرى ... وهم صفوة البشر فأبو بكرٍ المُقَدَّ ... مُ من بعده عمر ثمّ عثمان بعده ... وعليٌّ على الأثَرْ أَيُّها الرَّافِضِيُّ حسْ ... بُكَ فالحقُّ قد ظهر وقال فيهم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 شُموسٌ إذا جلسوا في الدُّسوتِ ... بدورٌ إذا أظلمَ القسطلُ غُيوثٌ إذا ضَنَّ قطر السماء ... ليوثٌ إذا زحفَ الجَحفلُ فكلُّهُمُ سادةٌ للأنامِ ... ولكن أبو بكرٍ الأفضل وكلّهم صحبوا المصطفى ... ولكن أبو بكرٍ الأَوَّلُ وله في التنزيه: أَقسمتُ بالمبعوث من هاشمٍ ... والشافع المقبول يوم الجِدالْ ما ربُّنا جِسمٌ ولا صورةٌ ... موصوفةٌ بالميل والإعتدال وهْو على العرش اسْتوى لا كما ... تستوطن الأجسامُ فوق الرّحال نزوله حَقٌّ ولكنَّه ... مقدَّسٌ عن رحلةٍ وانتقال وما له قَطُّ انفصال عن الْ ... شيءِ ولا بالشيء منه اتِّصال هذا هو الحقُّ وما قاله الْ ... مُشْبِهِيُّ الغِرُّ عين المُحال ومن يقلْ: لله في خلقه ... مثلُ فقد جاوزَ حدَّ الضَّلال وقال في المعنى: عَزَّتْ مَحاسنه فجَلَّ بها ... في الوصف عن شِبهٍ وعن مِثلِ نطقَ الجمالُ بعذر طالبه ... فانكفَّ عاذلُه عن العذل مَن ظنَّ أنَّ اللهَ يجمعُه ... قُتْرٌ أَحال أَدِلَّةَ العقلِ أو قال إنَّ الله يشبههُ ... شيءٌ فذلك غاية الجهل هذا الصراط المستقيم فمن ... يَسلكْ سِواه يَضِلُّ في السُّبْلِ وتوفي كمال الدين الشهرزوري يوم الخميس سادس المحرَّم سنة اثنتين وسبعين بدمشق عن ثمانين سنة، وولده محيي الدين أبو حامد بحلب قاضيها فعمل في والده مرثية: أَلِمُّوا بسَفحَيْ قاسيون فسلِّموا ... على جدثٍ بادي السَّنا وترحَّموا وأدُّوا إليه عن كئيبٍ تحيّةً ... يكلِّفكمْ إهداءَها القلب لا الفمُ وبالرَّغم منّي أن أُناجيه بالمُنى ... وأسأل مع بعد المدى من يسلِّمُ ولو أنَّني أَسطيع وافيتُ ماشياً ... على الرّأسِ أَسْتاف التُّراب وأَلْثِمُ لحا الله دهراً لا تزال صروفه ... على الصِّيد من أبنائه تتغَشْرَمُ إذا ما رأَينا منه يوماً بشاشةً ... أتانا قُطوبٌ بعدها وتجهُّمُ وهل يطلب الإنصاف في النّاس حازمٌ ... من الدهر وهو الظالمُ المُتحكِّمُ ومَن عرفَ الدُّنيا ولؤمَ طِباعِها ... وأصبح مُغترّاً بها فهو ألأمُ تُرَدِّيكَ وَشياً مُعلَماً وهو صارمٌ ... وتُوطيكَ كفّاً رَخصةً وهي لَهذَمُ وتُصفيك ودّاً ظاهراً وهي فاركٌ ... وتُسقيك شَهداً رائقاً وهو علقَمُ فأين ملوكَ الأرضِ كسرى وقيصرٌ ... وأين قضى من قبلُ عادٌ وجُرهُمُ كأَنَّهم لم يسكنوا الأَرضَ مرَّةً ... ولم يأمروا فيها ولم يتحكَّموا سلبتَ أباً يا دهر منّي مُمدَّحاً ... وإنِّيَ إنْ لم أَبكِه لَمُذَمَّمُ وقد كان من أقصى أمانيَّ أنّني ... أُجَرَّعُ كاساتِ الحِمام ويسلَمُ سأُنسي الورى الخنساءَ حُزناً وحسرةً ... ويخجل مني في البكاء مُتمِّمُ لقد رجع الشُّمّات عنّي وكلُّهمْ ... بنار أسىً بين الحَشا تتضرَّمُ وحَسبُكَ من رزءٍ يحِلُّ حُلوله ... بمَنْ كان يهوى أن يراه ويَعظُمُ فيا ساكناً قلبي ودون لقائه ... مسافةُ بعدٍ حدُّها ليس يُعلَمُ وقفت عليكَ الحمدَ بعدَك والثَّنا ... يُنثَّرُ ما بين الورى ويُنظَّمُ لقد عدمت منك البريَّة والداً ... أَحَنَّ من الأُمِّ الرَّؤوم وأرحمُ وكلُّهُمُ مثلي عليك محرَّقٌ ... وباكٍ ومسلوب العزاء ومُغرَمُ ولا سيَّما إخوانُ صِدقٍ بجلَّقٍ ... همُ في سماء المجد والجود أنجمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 وليس عجيباً شُكرُهُمْ لك بعد ما ... فَضِلَتْ عليهم بالنَّدى وهمُ هُمُ وما زلتَ فيهم مُذْ وَلِيتَ عليهمُ ... تُفِذُّ أياديكَ الجِسام وتُتْئمُ وكم ليلةٍ فيها سهرتَ لحفظِهمْ ... وهم عنكَ في خَفضٍ من العيش نوَّمُ نشرتَ لواءَ العدل فوق رؤوسهم ... فما كان منهم مَن يُضامُ ويُظلَمُ لقد عظُمَتْ بالرّغم فيك مصيبتي ... وإنَّ صوابي لو صبرتُ لأعظمُ وكيفَ أُرَجّي الصَّبرَ والقلبُ تابع ... لأمر الأسى فيما يقول ويحكم وما الصبرُ إلاّ طاعةٌ غير أَنَّه ... على مثل رزئي فيك وِزرٌ ومّأْثَمُ وإنّي أرى رأْيَ ابنَ حمدان في البكا ... أَصاب سواءَ الحقِّ واللهُ أعلمُ أرَدِّدُ في قلبي مع النّاس نظمَه ... وفي خَلوتي جهراً به أترنَّمُ: " سأَبكيكَ ما أَبقى ليَ الدَّهرُ مُقلةً ... فإنْ عَزَّني دمعٌ فما عزَّني دَمُ وحُكمي بكاءُ الدهر فيما ينوبُني ... وحكمُ لبيدٍ فيه حَوْلٌ مُجرَّمُ " سقاكَ مُلِثٌّ لا يزال أَتِيُّهُ ... كجودكَ يُغني كلَّ فجٍّ ويُفعِمُ وجادَكَ من نَوء السِّماكَيْن عارِضٌ ... يُرَوِّضُ أَنماطَ الثَّرى ولي عن سؤال السُّحْبِ تَسقيكَ غُنيَةٌ ... بدمعيَ لولا أَنَّ أكثرَه دَمُ لقِيتَ من الرَّحمن عَفواً ورحمةً ... كما كنت تعفو ما حييتَ وترحم عليكم سلامٌ أهل جلّق واصلٌ ... إليكم يُواليه وِدادٌ مخيِّمُ سلامٌ كنشر الرَّوض تحمله الصَّبا ... سُحَيراً، وثغر الصبح قد كاد يبسمُ سأشكركُمْ جهدي على القرب والنّوى ... وأُثني عليكم إن حضرتُمْ وغِبتُمُ وأُوصيكمُ بالجار خيراً فإنَّه ... يَعِزُّ على أهل الوفاء ويكْرُمُ تاج الدين يحيى بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري أخو كمال الدين، كان ذا فضلٍ متَفَنِّنٍ، وعلمٍ متمكِّنٍ، وحكمةٍ مُحكمة، وفقْرَةٍ مُغتَنَمة، ونُكتَةٍ بديعةٍ، وكلمةٍ صنيعةٍ، له المقطوعاتُ، المصنوعات المطبوعات، توفي سنة ستٍّ وستّين، ذكره لي علم الدين الشاتاني، قال: فُصِدْتُ يوماً فغلِط الفصّاد وأنفذ في عِرقي مِبضعَه، وقطعه، فكتبت إليه قصيدةً طويلة منها: اسْمَعْ مَقالةَ شاكٍ ... مِن زَحمة العُوَّادِ جارَ الطَّبيبُ عليه ... لا زال حِلف السُّهاد بطعنةٍ قد تعدَّتْ ... إلى صميم الفؤاد حَشْوُ المَضاجِعِ منها ... باللَّيْلِ شوكُ القَتادِ قال: فأجابني تاج الدين الشهرزوري بقصيدة طويلة منها: حُوشِيتَ يا علَمَ الدِّي ... نِ يا فتى الأمجادِ ممّا يسوءُ مَوالي ... كَ أو يسُرُّ الأعادي ولِلْعِدى ما جنتْهُ ... شَلَّتْ يَدُ الفَصّادِ حوَيْتَ وحدَكَ فينا ... فضائلَ الآحاد تضاعفَتْ فيك حتى ... جلَّتْ عن التَّعداد فأَلْفَ أَحنفِ قيسٍ ... تُرى وقُسِّ إياد وأَلف حاتمِ طيٍّ ... والجودُ للقُصّاد يا مَن أقامَ نِداهُ ... في كلِّ نادٍ يُنادي إلى جزيل العطايا ... منه وغُرِّ الأيادي يا مُشبِه ابن هلالٍ ... في خطِّه والسَّداد يا مُوردَ البيض حُمْراً ... في كلِّ يومِ طِرادِ أَلِيَّةً بالحوامي ... م بعدَ طه وصادِ وبالنَّبيِّ الذي جا ... ءَنا بسُبْلِ الرَّشادِ لأَنْتَ من خالص القلْ ... بِ في صميم الفؤاد وأنتَ أشهى إلى العَيْ ... نِ من لذيذ الرُّقادِ وأنشدني ضياء الدين ولده أَبياتاً له على وزن بيت مهيار: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 وعَطِّلْ كُؤوسَك إلاّ الكبير ... تجِدْ للصغير أُناساً صِغارا فقال: وسَقِّ النديمَ عَقيقِيَّةً ... تضيءُ فتحسب في الكأس نارا تدور المَسرَّةُ معْ كاسِها ... وتتبعُه حيث ما الكاس دارا ولا عيبَ فيها سِوى أَنَّها ... متى عَرَّسَتْ بحمى الهمِّ سارا ستَلقى ليالي الهمومِ الطوالَ ... فبادر ليالي السرور القصارا ولده ضياء الدين أَبو الفضائل القاسم بن يحيى بن عبد الله الشهرزوري مُخمَّر الطِّينة بالكرَم المَحض، مجبول الفطرة بالشَّرف الغَضّ، مقبول الخَلْق، مَعسول الخُلُق، أبو الفضائل وابن بَجدتها، وغيث الفواضل ولَيْث نجدتها، متودِّد بظرافته، متوحِّد في حصافته، شيمته عالية، وقيمته غالية، ودِيمته هامِية، وعزيمته ماضية، كثير الأنس، كبير النفس، يُبدي النَّفاسة، ويهوى الرِّئاسَة، لا يحبّ الدّينار إلاّ مَبذولاً لعافيَة، ولا يريد الثراء إلاّ لإغناء راجيه، قصد الملك الناصر صلاح الدين بمصر فنجح قصدُه، وتوفّر وُجدُه، ووصل إلى الشام معه، فأكبرَ محلَّه ورفعه، فمِمّا أَنشدنيه من شعره في ذي الحجّة سنة سبعين بدمشق: في كلِّ يومٍ تُرى للبَيْنِ آثارُ ... وما له في التئام الشَّملِ إيثارُ يسطو علينا بتفريقٍ فواعجبا ... هل كان للبَينِ فيما بيننا ثارُ يَهُزُّني أَبداً من بعدِ بُعدِهمُ ... إلى لقائهمُ وَجْدٌ وتذكارُ ما ضرَّهم في الهوى لو واصلوا دَنِفاً ... وما عليهم من الأوزار لو زاروا يا نازلينَ حِمى قلبي وإن بَعُدوا ... ومُنصفينَ وإن صَدّوا وإن جاروا ما في فؤادي سواكم فاعطِفوا وصِلوا ... وما لكم فيه إلاّ حبّكم جارُ الشيخ أبو علي الحسن بن عمّار الموصلي الواعظ له: أَتُراهُمْ عَلِموا ... ما بقلبي منهُمُ ما هُمُ سكّانُهُ ... كيف يخفى عنهُمُ بالتَّنائي والقِلى ... قتلوني، سَلِموا إنَّ عيشي بعدهمْ ... لَمَريرٌ علقَمُ ما لِعُذَّالي ولي ... شَفَّني عَذْلُهمُ أسرفوا في عذَلي ... قُلِّدوا بغيَهُمُ كان دمعي خالصاً ... مثلَ ودّي لهُمُ قَرحَ الجَفْنُ فقد ... مازجَ الدَّمعَ دَمُ التَّوى بعدَ النَّوى ... فُرصةٌ تُغتَنَمُ وإذا المُضْنى قضى ... زال عنه الألمُ الفقيه الظَّهير خطيب السَّلاّمِية من أهل المَوصل شابٌّ فاضل، له فضائل، سمعت بعض أصدقائي بالموصل أنه لما سمع قصيدتي التي أوَّلها: سل سيفَ ناظرِه لماذا سلَّهُ ... وعلى دمي لِمَ دلَّه قَدٌُّ لهُ نظم قصيدة على وزنها ورويّها منها: سَلِّمْ على الرَّشأِ الذي سالمتُهُ ... فأَباحَ قتلي مُخفِراً وأَحلَّه ونفى الكَرى عن ناظري وهو الذي ... آواهُ بين جوانحي وأَحلَّه قاسي الفؤاد يمَلُّني تيهاً فما ... أقسى عليَّ فؤادَهُ وأَملَّهُ وأَحَمَّ بالعَقِداتِ مِنْ رملِ الحِمى ... واصلْتُ سُقمي مُذْ حماني وصلَهُ مُتملمِلاً يقضي الزّمان تعلُّلاً ... بعسى وسوف ولَيته ولَعلَّه ما ضرَّه لو علَّ صَباً مُشفِياً ... من ريقه فشفاهُ وهو أعلَّهُ وله: أقول له صِلْني فيصرفُ وجهَهُ ... كأَنِّيَ أَدعوه لفِعْلٍ مُحرَّم فإنْ كان خوفَ الإثم يكره وُصلَتي ... فمن أعظَم الآثام قَتلةُ مُسلِمِ أبو محمد الأعلَم ذكره لي الأمير مؤيد الدولة أسامة بن منقذ، قال: لمّا كنت بالموصل كان صديقي، وأنشدني يوماً لنفسه في محبوبٍ ماطلَه الدَّهرُ بوصاله، فلما سمح به أخذ في ارتحاله: وما زالت الأيّامُ تُوعِدني المُنى ... بوَصلِك حتى أَظْمأَتْني وُعودُها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 فلمّا تلاقَينا افترقْنا فلَيتنا ... بَقِينا على الحال التي لا نريدُها المَنازي من مناز كرد كان من وزراء المَروانيّة بديار بَكرن من العصر الأبعد، قال علم الدين الشاتاني: قرأ والدي عليه ومات سنة سبع وثمانين، وكان عظيم الشأن وأنشدني له: وقانا لفحةَ الرَّمضاءِ وادٍ ... وَقاهُ مُضاعَفُ النَّبْتِ العَميمِ نزلنا دوحَه فحَنا علينا ... حُنُوَّ المرْضِعاتِ على الفَطيمِ وأَرْشَفَنا على ظمإٍ زُلالاً ... أَلَذَّ من المُدامَة للنَّديم يصدُّ الشمسَ أنّى عارَضَتْنا ... فيحجُبُها ويأْذَنُ للنّسيم يَروعُ حَصاهُ حالِيَةَ العَذارى ... فتلمُسُ جانِبَ العِقد النَّظيمِ الرئيس أبو الحسن عيسى بن الفضل النّصرانيّ المعروف بابن أبي سالم، كان شيخاً بهيّاً كبيراً، ولما قصدت والدي بالموصل في سنة اثنتين وأربعين كان يزورنا ويعرض علينا مكاتبات العم الصَّدر الشَّهيد عزيز الدين إليه، ولم أُثبت له شيئاً، فسألت الآن الشاتاني عنه فقال: هذا من بيت كبير، أبوه كان وزير بني مروان بميّافارقين، وأمُّه يقال لها الستّ الرحيمة، قال لها نظام الملك: أنت الستّ الرَّحيمة، قالت: بل الأمَة المرحومة. وكان مشهوراً بين أرباب الدّولة، موفور الحُرمَة، وله أشعارٌ غَثَّةٌ وثمينة، واهية ومتينة، وقد وازَنَ الأمير تميمَ بن المُعِزّ المِصري في قوله: أَسربُ مَهاً عنَّ أمْ سِربُ جِنَّهْ ... حكيتُنَّهُنَّ ولستُنَّ هُنَّهْ بقصيدة أوّلها: لقد عذُبَ الماءُ من ريقهِنَّهْ ... وطاب الهواءُ بأنفاسِهِنَّهْ وله إلى بهاء الدولة صاحبِ شاتان وقد سافر إلى حصن زياد: تكون بميّافارقين ووَحشتي ... تزيد لِنأْيِي عنكمُ وبِعادي فكيف احتيالي والمهامِهُ بيننا ... تحولُ وأطوادٌ لحِصن زِيادِ الفقيه الإمام شرف الدين أبو سعد عبد الله بن محمد بن أبي عصرون ومن نعوته حجّة الإسلام، مفتي العراق والشام، وهو شيخ العلم العلاّمة، وبفتياه توطَّدت للشرع الدَّعامة، وله الفخار والفخامة، وليس في عصرنا مَن أتقن مذهب الشافعيّ رضي الله عنه مثلُه، وقد أشرق في الآفاق فضله، وصنَّف في المذهب تصانيف مفيدة، قواعدها في العلم مَهيدة، مَولدُه بالمَوصل، المُحرَّم سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وتولّى قاضي القضاة بدمشق وجميع الممالك الملكية النّاصريّة بالشام سنة اثنتين وسبعين بعد وفاة كمال الدين الشهرزوري، وله ثمانون سنة. وكم مهَّد للشريعة سنّة حسنة، لقيتُه بالمَوصل سنة اثنتين وأربعين وهو مدرِّس المدرسة الأتابكيّة، وبالشام سنة اثنتين وستين بحلب وهو مدرِّس المدرسة النُّوريّة، وكان نور الدين رحمه الله وجئت في صحبته إلى حلب في سنة ثلاث وستين في زمان الشتاء الكالح، والبرد الفادح، والقَرّ النّافح، كتبت إلى الشيخ ابن أبي عصرون أبياتاً منها: أيا شرف الدّين إنَّ الشتاء ... بكافاته كفّ آفاته فكتب إليَّ في الجواب والده متّع ببقائه عبد الله: لا زال عماد الدين لكلِّ صالحةٍ عِمادا، وتأمَّلْتُ رقعته الكريمة، بل الدُّرَّة اليتيمة، فملأَتِ العينَ قُرَّةً، والقلبَ مسرَّةً، وسكَّنَتْ نافِرَ شوقي إلى لقائه، واستيحاشي لتأَخّره، وفهمت ما نظمه، وأعربتُ ما أَعجَمَه: إذا جا الشتاءُ وأمطارُهُ ... عن الخير حابسةٌ مانعَهْ وكافاته الستّ أَعطيتَها ... وحاشاكَ من كافه الرَّابِعَهْ وكفّ المهابة والإحتشام ... لِكفيَّ عن بِرِّه مانِعَهْ وهِمَّة كلِّ كريم النِّجارِ ... بمَيسورِ أحبابه قانِعَهْ ونفسيَ في بسط عذري لديه ... جعلتُ الفداءَ لهُ، طامِعَهْ وشوقي إلى قربه زائدٌ ... ومعذرتي إن جفا واسِعَهْ ولرأْيِه في تأَمُّلِها الرِّفعة إن شاء الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 وحضرت عنده بعد ذلك وقرأْتُ من مصنّفاته المذهبيّة عليه، واستفدتُ منه، وأخذت عنه، وما اتَّفق لي استِملاءُ شيءٍ من نظمه، لصَرف هِمَّتي إلى استفادة ما سوى ذلك من علمه، فإنَّ زمانه أعزّ، وإحسانه لعِطف الطالب أهزّ، فاستغنيتُ عن التماس شِعره بما أنشدنيه الفقيه الشّهاب محمد بن يوسف الغزنويّ ممّا استملاه منه، فمن جملة ذلك أنه كتب إليه في الفتاوى: أيا تاجَ الأئمَّة والمُرَجّى ... لكشف المشكلات من الأُمور إذا ما الدارُ سهمٌ ضاق فيها ... معَ الإفراز من نفعٍ يسير وباقيها فسهم ليس يخلو ... مع الإفراز من نفعٍ كبيرِ فإنْ نبِعِ الكثير فهل مكانٌ ... لشُفْعَة ذلك الجزء الحقير وهل تجري ولا إجبار فيها ... مع الحمّام والبير الصغيرِ فأجاب ارتجالاً: وثقتُ بخالقي في كل أمري ... ومالي غير ربّي من ظهير أرى الشِّقص الذي لا نفعَ فيه ... كبيرٍ أو كَحمّامٍ صغير وفي الكلِّ الخِلافُ وإنّ رَأْيِي ... لَيَثْبِتُ شُفعةَ السَّهم الحقير وتُرْهِقُه المَضَرَّةُ حين باعوا ... فما غير التَّشَفُّعِ من مُجير وسُئل أيضاً: إذا ما البيعُ كان بغير عَقْدٍ ... وقد سَكَنَ التّراضي في القلوبِ فهل من مَأْتَمٍ يُخشى إذا ما ... أعاد الخلقَ علاّمُ الغيوبِ أَجب عمّا سُئِلتَ أُتيتَ أجراً ... من الرحمنِ كشّافِ الكروبِ فأجاب عنه ارتجالاً: إذا وُجِدَ التّراضي في القلوبِ ... ولا لفظٌ لداعٍ أو مُجيبِ فلا بَيْعٌ ولا يُخشى قَصاصٌ ... عليهِ عند عَلاّم الغُيوبِ فخُذْ هذا الجوابَ عن ارتجالٍ ... تنالُ به مُرادك عن قريبِ ثوابَ الله أرجو في جوابي ... وحسبي بالمُهَيْمِنِ من مُثيبِ لعبد الله ناظِمها ذنوبٌ ... وعفوُ اللهِ مَحّاء الذنوبِ ومن ذلك قوله: كلُّ جمعٍ إلى الشَّتاتِ يصيرُ ... أيُّ صَفوٍ ما شابَهُ تكديرُ أنت في اللَّهوِ والأماني مُقيم ... والمنايا في كلِّ وقتٍ تسيرُ والذي غَرَّهُ بلوغ الأماني ... بسَرابٍ وخُلَّبٍ مَغرورُ ويكِ يا نفسُ أخلصي إنَّ ربي ... بالذي أخفتِ الصدورُ بصيرُ وقوله: أُؤَمِّلُ وَصْلاً من حبيبٍ وإنني ... على كَمَدٍ عمّا قليلٍ أُفارقهْ تَجارى بنا خيلُ الحِمام كأنّما ... يُسابقُني نحو الرَّدى وأُسابقهْ فيا ليتنا مُتْنا معاً ثم لم يَذُقْ ... مَرارةَ فَقدي لا ولا أنا ذائقهْ وقوله: يا سائلي كيف حالي بعد فُرقتِه ... حاشاكَ ممّا بقلبي من تنائيكا قد أقسمَ الدَّمْعُ لا يجفو الجفون أسىً ... والنوم لا زارها حتى أُلاقيكا وقوله: أَمُسْتخبري عن حنيني إليهِ ... وعن زفراتي وفَرطِ اشتياقي لكَ الخيرُ إنّ بقلبي إليك ... ظَماً لا يُرَوّيه غيرُ التلاقي وقوله: وما الدهرُ إلاّ ما مضى وهو فائتٌ ... وما سوف يَأْتِي وهو غير مُحَصَّلِ وعيشُكَ فيما أنتَ فيهِ وإنّه ... زمانُ الفتى من مُجْمَلٍ ومُفَصَّلِ وقوله: أُؤَمِّلُ أنْ أحيا وفي كل ساعةٍ ... تمرُّ بيَ الموتى تَهُزُّ نُعوشُها وهل أنا إلاّ مثلُهم غير أنّ لي ... بقايا ليالٍ في الزمان أعيشُها وقوله: كنتَ إذ كنتَ عَديما ... لِيَ خِلاًّ ونَديما ثم أثريتَ وأعرضْ ... تَ ولم تَرْعَ قديما ردّك الله إلى ودّيَ مَدْيُوناً غريما الحسن بن شقاقا المَوصلي قال العلم الشاتاني: كان شاعراً مجيداً بالموصل، وأشعاره سائرة، وأزهاره زاهرة، توفي سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، وله في نصير الدين أمير الموصل يُعرِّض برجل تولى اسمه عمر بن شكلة، بعد رجل قزويني ظالم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 يا نصيرَ الدين يا جَقَرُ ... ألف قزويني ولا عُمَرُ لو رماه الله في سَقرٍ ... لاشتكت من حَرِّه سَقرُ المكين بن الأقفاصي الأعمى الموصلي ذكره العلم الشاتاني وأثنى على شعره، وشوّق إلى نظمه ونثره، وقال توفي سنة ثلاث وأربعين، ونسب إليه هذين البيتين الرباعية: يا صاحِ أما ترى المَطايا تُحْدى ... والبيْن يُصَيِّرُ التَّداني بُعدا مَن يُسعدني إذا تولَّت سُعْدى ... هَيْهَاتَ نَأَتْ وخلَّفَتْني فردا وأنشدني له: دَعا خليليَّ نَواهي المَلامْ ... فاللَّومُ يُغْري العاشقَ المُسْتَهامْ وخَلِّياني والسُّرى والفَلا ... والخيلَ والليلَ وحدَّ الحسامْ واقْتحِما بي كلَّ مَجهولةٍ ... قَفْرٍ كأنّ الآلَ فيها غَمامْ يستوحِشُ الوَحشُ بأرجائها ... ويَعزِفُ الجِنُّ بها والنَّعامْ ومنها في المدح: أَسْفَرَ وَجْهُ الحمدِ عن وجهه ... وكان قِدْماً ما يَحُطُّ اللِّثامْ وأنشدني له مرثيّةً في صدقة سيف الدولة لمّا قُتِلَ: ديارٌ بأرض الجامِعَيْن وبابلِ ... غَدَتْ من بني عَوفٍ عَوافي المنازلِ ومنها: وإذْ زَبْعُها بالقِيلِ من آلِ مَزْيَدٍ ... حليفُ الندى في كلّ غبراءَ ماحِلِ فتىً كان وجهُ الدهر قبلَ اخْترامِهِ ... وَسيماً فأضحى وهو جَهْمُ المَخايلِ فتىً تَضْحَكُ الأنباء عن ثغرِ مجده ... إذا ما بكتْ حُزناً عيونُ القبائلِ تعَثَّرُ أرواحُ الرِّياحِ بشِلْوه ... فتعبَق من ألطاف تِلك الشمائلِ علم الدين الشاتاني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 أبو علي الحسن بن سعيد بن عبد الله، وشاتان من نواحي ديار بكر، مقامه بالمَوصل ومَقرُّ أهله، ومطار فضله، ووَكر فِراخه، ووِرد نُقاخه، ومُناخ أشياخه، ومَرمى مرامه، ومَرعى سَوامِه، ومَرادُ مُراده، ومَربِضُ جَواده، ومَراح مِراحه، ومَعدى فَلاحه، ومَربع اغتباقه واصطِباحه، ومرتع اغتباطه واصطلاحه، ومَبيتُ عمله، ومَنبت أمله، ومَغنى غِناه، ومَبنى مُناه، وأرض رِضاه، ورَوضُ هَواه، ووطَنُ وَطَرِه، وحَظيرة حَضره، وبُقعة شاته، ورُقعة شاهه، وتَلْعَةُ نَجاته، وقلعةُ جاهه، وهو في مارستانها مُتَوَلٍّ، وعلى حفظ الأوقاف مُستَولٍ، وله شِقْشِقةٌ في الأدب تهدر فصاحة، وحَملَقةٌ في النَّظر للعجب يسمِّيها حُسَّاده حَماقة، قد وفَّر الله حظَّه من النُّطق فما يرى السُّكوت، ويستلذُّ بالاستكثار من الكلام ومواصلته ولو هجَرَ القوت، إذا حضر نادياً لمْ يرضَ إلاّ بأن يتفرَّد بالقول وغيره مستمع، ويترفَّع بالفضل والكلُّ مُتَّضِع، لا جرَمَ ترشقُه سِهامُ الإيذاء، وتطرقه قوارص الظرفاء، لقد كان في أمان من الطَّيش، وضمانٍ من طيب العيش، وفراغٍ ورَفاغة، وبُلغَةٍ من بَلاغة، ورفاهيةٍ بغير كراهية، ونِعمةٍ لِقَدْرِ فضله مُضاهِيَة، وبضائع نافقة، وذرائع مُوافقة، ونقودٍ رائجة، وعُقودٍ مُتناسقة، ذلك والصَّدر الوزير جمال الدين بالموصل في صدر وِزارته مَشرق الجمال، متألِّق الإقبال، فائض السِّجال، مستفيض النَّوال، غامر أُولي الفضل بالإفضال، وهم في ظلِّه يَقيلون، وإلى نَيله يَميلون، وبطَوله يَطولون، وبصَوله يَصولون، وإلى فيضه يوفِضون، وفي روضِه يرتاضون، ولِنَداه يُنادون، ولِجَداه يَجتدون، وبنجمه يهتدون، ولهديه يستهدون، وعلَم العِلم في العلم عنده عال، وسِعْر الشِّعر في سوق الرجاء رائجٌ غال، فلما نُكِبَ الوزير، نضَبَ الغدير، وفاض الجهل، وباضَ الجَور، وغاض الماءُ وقُضِيَ الأمر، وانهدَّ جُودِيُّ الجُود، وذَوى عودُ الوعود، وابتُلِيَت بالحزن النُّهى، وبالخَزْن اللُّهى، وصِينَ العَرَض، وبُذِل العِرْض، وقصُر الطُّولُ وضاق العَرْض، وحال الجَريض دون القريض، وأغنى التَّصريح برَدِّ ذوي الحاجات عن التَّعريض، وانقطع الواصلون إلى الموصل، وتفرَّق الفاضلون عن المَحفِل، وغلب اليأسُ على الرَّجاء، والبخلُ على السَّخاء، وأظلم الجَوّ، وعُدِمَ الضَّوْ، وشتا الشّاتاني بعد وصاف، ففقد الإنصاف، وحُرِمَ الإسعاف، ووقف أمره في الوقف، وعُوِّضَ رِفقُه بالعنف، ونُفِيَ حقُّه ونُسِي، وأُرجِيَ رجاؤه وأُنسي، ورأى المَوصل مَقطعاً، والمَفزَع مُفزِعاً، والمَولى مُوَلِّياً، والسابق مُصلِّياً، والمعرفة نكرة، والمِعْزَفة منكسرة، والمَرَقَة مُراقَة،، والورقة منخرقة، ورِفقة الأدب عن المأدُبة متفرِّقة، فطلب إسفار صبح حاله، وسُفور وَجه جماله، في أسفاره وحلِّه وترحاله، فلمّا سار آنس من نور الدين ناراً بل نورا، وكان أمر الله قدَراً مقدورا، فاتَّخذ دمشق دار هجرته، وغار أسرته، ومبرَكَ مَبَرَّته، ومسرحَ مسرَّته، ومَجثَمَ رُبوضه، وموسم سُننه وفروضه، ومَرْجَ مرحه،، وبرج فرحه، وبيت قصده وبيت قصيدته، فأشرق عند النّور نورُه، وانتظمت بأمره أُموره، ودَرَّت أَنواءُ إدراره، وذَرَّت أَنوار إبراره، فلمّا خبا ذلك النّور، وطُوي المَنشور، وأُطبِقَ الدّستور، وتولّى أبو صالح، مُلكَ الملِك الصالح، بدأَ بتبطيل المصالح، وتعطيل المنايح، ومنع الصِّلات، ورفع الصَّدقات، وقال للشاتاني: غِبْ وخِبْ، وإذا دُعِيتَ فلا تُجِبْ، فما لأريبٍ عندنا أرب، وما لأديب لدينا إلاّ الدَّأَبْ، والفضل فضول، والعلم غُلول، وما علِم العلَم حينئذ كيف العمَل، وفيم الأمل، أيحتمل أم يتحمَّل، أَيُغَرِّبْ أَم يُشَرِّق، أيُنجِدْ أم يُعرِق، حتى تداركَ الله ذَماء الفضل ورَعى ذِمامَ أهله، بإنارة صبح الحقّ واتّضاح سبله، وإعلاء أعلام النَّدى، وإحكام أَحكام الهُدى، ووصول الرَّايات الملكيَّة النّاصريَّة إلى الشام، وقيامه بنصر الإسلام، انتعشَ جَدُّ الكِرام العاثر، وحَيِيَ رَسم الجود الدّاثر، وفرَّ ذلك الشيطان من ظلِّ عمر، وغُمِرَ ذلك الغَمْر بما أفاضَ من البرّ وغَمَر، وصار الشام بيوسف مِصر مِصراً آخر بإحسانه، وفرّ عَون فِرعون وهامانه، وبسطَ المَكرُمات، وأَدرَّ المبرّات، وردَّ الصِّلات، والصَّدقات، وعادت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 حال هذا الفاضل حالية، وقيمته غالية، وديمَةُ حظِّه هامية، وحِظوَةُ فضيلته نامية، ومدحه بقصيدةٍ أوّلها: حال هذا الفاضل حالية، وقيمته غالية، وديمَةُ حظِّه هامية، وحِظوَةُ فضيلته نامية، ومدحه بقصيدةٍ أوّلها: أرى النَّصرَ مَعقوداً برايتكَ الصَّفرا ... فَسِرْ وافتح الدُّنيا فأنت بها أَحرى ومنها: يَمينُكَ فيها اليُمْنُ واليُسْرُ في اليُسرى ... فبُشرى لمن يرجو النَّدى منهما بُشرى وهذا علم الدين ذو العلم الغزير، والفضل الكثير، وله المحفوظ الوافر من كلِّ فنّ، وهو المحظوظ بكلِّ قَبولٍ ومَنّ، وقد وفدّ في ريعان عمره إلى عمّي العزيز ببغداذ، واتَّخذه المَعاذ، ومدحه، فأجازَه ومنحه، وسلَّمه إلى ابن سلمان فقرأ عليه الفقه، وبلغ من معرفته الكُنه، واكتسب خلُقُه الظَّرف، واكتسى شِعره الرِّقَّة واللطف، حاوي المحاسن، صافي البطن، سليم القلب، قويم اللَّب، حلو الفكاهة، بديع الفِقرة، سريع النَّفرة، عَجِل الأوبة، طويل الفكرة، قليلُ العَثرة، مستجيب العَبرة، مستريب بالكرَّة، إذا أردتَ أن تَغيظه فتعرَّض له أَو اعِترضْ عليه، وتحدَّث بين يديه، وقلوب الفضلاء مَغسولة، وحكمتهم معسولة، وحِدَّتهم مَقبولة، وشِدَّتهم لِين، وغَثُّهم سمين، ومُقاربتُهم فضيلة، ومُجانبتهم رذيلة، وشَرفُهم عتيد، وأنَفهم شديد. قد توجَّه من الموصل سَفيراً إلى دار الخلافة مِراراً، ووجد ببَرِّها وكرامتها على الأَعيان إِبراراً، وأقبل عليه الوزير الهُبَيري لِشَغَفِه بأمثاله من أهل الفضل، وعاد نجيع السَّعي مَوفور المَحَلّ، أنشدني لنفسه من قصيدة وازن بها قصيدةً لي نظمتها في ابن هبيرةَ الوزير: أهدى إلى جسدي الضَّنى فأَعلَّه ... وعسى يرِقّ لعَبده ولعلَّهُ ما كنتُ أحسب أن عَقْدَ تَجَلُّدي ... ينحلُّ بالهِجران حتّى حلَّه يا ويح قلبي أينَ أطلبُه وقدْ ... نادى به داعي الهوى فأَضَلَّه إن لم يَجُدْ بالعطف منه على الذي ... قد ذاب من بَرحِ الغرام فمَن له فأشَدُّ ما يلقاه من ألم الهوى ... قولُ العَواذل إنّه قدْ ملَّه نظمها على وزن قصيدة لي منها: سلْ سيفَ ناظرِه لماذا سلَّه ... وعلى دَمي لِمَ دَلَّهُ قَدٌّ لهُ واستَفْتِ كيفَ أباحَ في شرع الهوى ... دمَ مَن يَهيمُ به وفيمَ أَحلَّه سلْ عطفَه فعسى لطافةُ عِطْفِهِ ... تُعدي قَساوة قلبه ولعلَّه كثُرَتْ لقَسوةِ قلبه جَفَواتُه ... يا ما أَرَقُّ وفاءَه وأَقلَّهُ يا مُنجِداً ناديتُه مُستنجداً ... في خلَّتي والمَرءُ يُنجِد خِلَّهُ سِرْ حاملاً سِرّي فأنت لِحَمْله ... أَهلٌ وخَفّف عن فؤادي ثِقْلَهُ وإذا وصلتَ فغُضَّ عن وادي الغَضا ... طَرْفَ المُريبِ وحَيِّ عنّي أَهلَهُ أَهْدِ السّلام، هُديتَ، للرّشإِ الذي ... أعطاه قلبي رُشدَه فأَضلَّهُ والقصيدة طويلة. وأنشدني له في التَّشَوُّق إلى أَولاده بالمَوصل وكتبها إليهم من دمشق: يا أهلَ سِكَّة بشران تحيةَ مَنْ ... حَشا فِراقُكُمُ أَحشاءَه حُرَقا يَبكي فتجري بجَيْرونٍ مَدامِعهُ ... فتشتكي أهلُها من فيضها الغَرقا وأنشدني لنفسه في الربيعيات: بشَّرَ الطَّيرُ باعتدالِ الزَّمانِ ... وشَدا شَجْوَه على الأغصان وبكَتْ أعين السّماء بدمعٍ ... أضحكَ الأرضَ، فالرُّبى كالغواني فاغتنمْ فرصةَ الزَّمان وباكِرْ ... قهوةً طال مُكثُها في الدِّنانِ عصروها في عصر دارا بن دارا ... ملكِ الفرس من بني ساسانِ فهي تروي أخباره ثم تحكي ... ما جرى في زمان نُوشروانِ فاسقِنيها من كفِّ أَهيفَ تَرنو ... مُقلتاه عن أعين الغزلان في رياضٍ أنيقةٍ ذاتِ حُسنٍ ... تتجلَّى في سائر الألوان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 تتناغى الأطيار فيها فتُلهي ... عن سماع النّايات والعِيدان تتَشاكَى بَرْحَ الغرام هَديلاً ... فتهيجُ الأشجانَ بالألحانِ يا عَذولي أَقصِرْ فعَذْلُكَ ظُلْمٌ ... نحن مِن طِيب وقتنا في جِنان لستُ، ما عِشتُ، أترك الرّاح يوماً ... كُفَّ عني وخَلِّ فَضْلَ عِناني وأنشدني له في الخمريّات: نَضا عنه الصِّبا ثوبَ الوقار ... فمال إلى مُعاقرَة العُقارِ فما ينهاه عنها العَذْلُ حتى ... يرى في ليله ضوءَ النَّهار إذا مُزِجَتْ يكونُ الماء منها ... بمنزلة اللُّجَيْنِ من النُّضار وأنشدني له: الرَّوضُ قد وافتْكَ أزهارُه ... والدَّوْحُ قد غنَّتْكَ أطيارُه فباكِرِ القهوةَ من قبل أن ... يغتالَكَ الدَّهرُ وأقدارُه صَدَّ بلا جُرْمٍ ولا عِلَّةٍ ... والقلب ما واتَتْه أوطارُه مُوَرَّدُ الوَجنَةِ لو زارني ... قبَّلْتُ ما ضمَّتْه أزرارُه ألتَذُّ من طِيب ادِّكاري له ... لله ما هيَّجَ تَذْكارُه يا مَن يَحارُ الفِكْرُ في وَصفه ... ومَن حوَتْ حُسنَ الوَرى دارُه أَنوارُه تَكسِفُ شمسَ الضُّحى ... والبدرَ إذْ يُبديه إبدارُه صِلْ عاشِقاً أَضْناهُ فَرْطُ الجَوى ... ومُغرَماً أَرْدَتْهُ أَفكارُهُ الصَّبْرُ والسَّلوانُ أعداؤه ... والدَّمعُ والتَّسهيدُ أنصارُه وأنشدني في أبي صالح ابن العجميّ الحلبيّ: زَنَتْ بأبي فاسِدٍ أُمُّه ... وغذَّتْه مِنْ فَرجِها بالنُّطَفْ فلو كان حُرّاً لما حاد عن ... مَوَدَّة أَهل النُّهى وانْحرَفْ وهذا ابن العجميّ كان عَدل الخِزانة لنور الدين رحمه الله، شتَّتَ شملَ الملك بعده، واستولى بشرِّه، واتَّسع مَكرُ مَكْرِه، مُفسدٌ مُلحِدٌ، شِرِّيرٌ خِمِّير، نَغْلٌ نذلٌ، شُوهَةٌ بُوهَة،، شيطان لَيْطان، سِفلَة دِفلَة، رِئبالٌ محتال، مُغتابٌ مُغتال، عَبِيٌّ غَوِيّ، عقرب اللَّدغْ، ثعلب الرَّوْغْ، كلب الرِّجْس، ذِئبُ النَّهْس، بومُ الشُّؤم، غراب اللُّوم، عَقْعَق العُقوق، لقلق الفُسوق، عوّاق الحقوق، حِدأَةُ الحِدَّة، رِدء الرِّدَّة، أسد الحسد، جُرَذ الحَرَد، ثَور الجَمع، تَور الشَّمع، تَيس زريبة الجُهّال، قيْس كتيبة الضَّلال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 عَنزْ قطيع القطيعة، حِمار طبَع الطبيعة، فأْر الخُبْث، فارٌّ إلى الحِنْث، قِطُّ القَطْع، خِنزير اللَّطْع، سرطان السَّرَط، أَيِّل البلْع، دلَقْ المَلَق، خَلِق الخُلُق، يَربوع الرُّبوع، يَنبوع القُطوع، قِرابُ السَّكاكين، جِراب المساكين، مِحبرة النّاسخ، مَجْمَرة النّافخ، وِجار الضَّبّ، قَرار الصَّبّ، سَفْح السِّفاح، طَوْد الوِقاح، فَراش الوِقاع، فراش الرِّقاع، مكحلة الأَميال، جُعبة النِّبال، هدَفُ السِّهام، دواةُ الأقلام، طُوَيْس الشام ومادِرُ مَدَرَتِه، بسوسُ الإسلام وأَسر أُسرته، مُسيلِمَةُ الإفك، ثُمامةُ الشرك، أَجَمُّ أَقْرن، أَجَنّ أرْعَن، شَبِق القَفا والخَلْف، نهِم الجَفا والخُلف، مأْفون وبالباء عوض الفاء، مَصون ولكن بابتدال وسطه بدخول الحاء، يأْتيه الذِّكْر مفتوح الذال والكاف، ويَضُمُّه الصُّقْعُ مفتوح الرّأْس والفاء بدل القاف، الأسود السّالخ تحت ذيله مُنساب، والأسود القائم في ليله إلى مِحرابه أوّاب، يحبُّ أن يسكن والغلام يُحرِّكُه، ويترك الفعل والفاعِلُ لا يتركُه، أرضِيُّ البَطْنِ، سمائيُّ الظَّهر، تُرابِيُّ المَسجَد، مائيُّ المقعَد، مَرقوع الخَرق على سَعَتِه، رقيع الخُرق على ضِعَتِه، أَطْيَشُ من ريشةٍ خَلقا، وأضيق من عيشة شيخٍ خُلقا، صُوف الكلب لا يُنتَفَعُ به في أمر، وسَمّ الأفعى لا يُدَّخَرُ إلاّ لِشَرّ، يَلقاكَ بالطَّلْبَقَة، نافِرَ الحَدَقة، وافِرَ العَنْفَقَة، هادِر الشقشقة، مظهراً للشفقة، وهو يعوق البِرّ، ويعمِّق البير، ويَري الحِنطةَ ويبيع الشَّعير، إن كان من البروج فهو الدَّلو، أو من المنازل فهو العوّا، وإن كان شِهاباً فهو مَثقوبٌ لا ثاقِب، ورجيمٌ لا راجِم، بل هو إبليس التَّلبيس، والمُتلبِّس بالتَّدنيس، وقارون هذا القَرن، والمعروف في بيته بطول القَرْن، مهندس يحبُّ المَخروطات وحلَّ أشكالها بالبرهانين، منجِّمٌ يقوِّمُ لأيار الزُّبانى في البُطَيْن، بُرهانُه الخَلفيّ أظهر وأقوى، والخط المستوي على استقامته فيه أقومُ وأبقى، فكم أقام عموداً على زاوية له قائمة، وأنام عيوناً لتنبيه فتنةٍ نائمة، وأغرى ذِئباً بسرح ثاغيةٍ سائمة، الخَتْر من دابِهِ، والخَتْلُ من آدابه، يضحكُ في وجهِك ليُبْكِيَك، ويأْسو جرح قلبك لِيَنْكِيَك، ويسلِّم عليك ليُسْلِمَك، ويكلِّمُكَ ليَكْلِمُك، ويخاطبُك ليَلُمَّ بك الخَطْبُ المؤلم، ويُطايبك وهو يَدقُّ لكَ عِطرَ مَنشِمِ، ويحلف بالله وهو أكذب ما كان، ويبهَت لِصَوْغِك وهو يصوغُ البهتان، يصلِّي وهو جنبٌ من السبيلين، ويدلي وهو مدلٍ بالدَّليلين، القاف في نطقه كالهمزة، لُثْغةٌ أرمنيَّة في نِجاره، ولغة يهودية من شِعاره، وكيف لا تَهِنُ قافُه وهو مع الفاء والألف منه في بلاء، وتوالي دِلاء، وتعاقُب خِفاف، وتناوُبُ أَكُفٍّ وأَيْدٍ ثِقالٍ خِفاف، ومن جملة جهله أنَّه قصدَ العلَم الشاتاني في إفساد شانه، وسعى في قطع ديوانه، وذلك عند ارتكابه وِزْرَ الوِزارة، وتخريبه مني الودّ بعد العِمارة، فقال فيه ويستطرد بي: وِزارةُ التَّيْس أبي فاسِدٍ ... فد عمَّ أهل الأرض منها الفساد عانَدَ عِلمي جهلُه مثلما ... هدَّ قوى الفضل بقَصْد العِماد الفضل أقوى عِماداً من أن يهُدَّه ذلك النّاقص، والعلم أرفع قدراً من أن يحطَّه ذلك الغامص. قد رجعنا إلى ذكر النّاس والنَّمط الحسن القويّ الأساس. أنشدني علم الدين الشاتاني بدمشق سنة إحدى وسبعين من قصيدةٍ له في جمال الدين وزير الموصل محمد بن علي بن أبي منصور لمّا نُكِب: ما حَطَّ قدرَكَ من أوج العُلا القدَرُ ... كلاّ ولا غيَّرَتْ أفعالكَ الغِيَرُ أنتَ الذي عَمَّ أهلَ الأرض نائلُهُ ... ولم ينَلْ شأْوَهُ في سؤددٍ بشرُ سارتْ صِفاتُكَ في الآفاق واتَّضحَتْ ... وصدَّق السمعُ عنها ما رأى البصرُ فاصْبر لصَرف زَمانٍ قد مُنِيتَ به ... فآخر الصبر يا طَوْدَ النُّهى الظَّفَرُ فما ترى أحداً في الخَلْقِ يسلَمُ مِن ... صُروف دَهرٍ له في أهله غِيَرُ سَعَوا بقصدكَ سِرّاً قاسْتَتَبَّ لهم ... ولو سَعَوا نحوه جَهراً لما قَدِروا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 لولا الأماني التي تُحيي النفوسَ بها ... لمُتُّ من لوعةٍ في القلب تستعِرُ ومنها في عمر المَلاّء: وأصدقُ النّاس في حفظ العهود إذا ... ميَّزْتَ بالفكر أحوالَ الورى عُمَرُ الزَّاهد العابد البَرُّ التَّقِيُّ ومَنْ ... يزوره ويُقوِّي أزرَه الخَضِرُ قال علم الدين الشاتانيّ: قال القاضي نجم الدين الشهرزوري قاضي الموصل: دخل إليَّ شابٌّ من أهل بغداد وأنشدني هذه الأبيات: في نهر عيسى والهواءُ مُعَنبَرُ ... والماءُ فِضِّيُّ القميص صَقيلُ والطَّيرُ إمّا هاتفٌ بقرينِه ... أو نادبٌ يشكو الفراقَ ثَكولُ وعرائسُ السَّرْوِ التَحَفْنَ بسُنْدُسٍ ... ورقصْنَ فارتفعتْ لهُنَّ ذُيولُ وقال لي: اعملْ على وَزنها ما يناسبها فعملت في الحال: والغصنُ مَهزوزُ القَوامِ كأنّما ... دارتْ عليه من الشَّمال شَمولُ والدَّهر كالليل البهيم وأنتمُ ... غُرَرٌ تُنيرُ ظلامَه وحُجولُ وأنشدني الشاتاني لنفسه: خليليَّ هل من مُسعِدٍ لي أَبُثُّه ... غراماً له بين الضُّلوع لهيبُ وزفرَةَ أَشواقٍ تقادمَ عهدُها ... فليس لها حتى الممات طبيبُ عفا الله عمَّن خان عهدي وإنَّه ... إليَّ، وإن خان العُهودَ، حبيبُ إلامَ أُمَنّي النفسَ منه بِزَوْرَةٍ ... فيَثنيه عنّي عاذلٌ ورقيبُ أتوبُ إلى الرّحمن من كلِّ رِيبَةٍ ... ومِن وَصْلِ مَن أهواهُ لستُ أتوبُ وأنشدني له من أبيات كتبها إلى ابن كمال الدين الشهرزوريّ وقد زار الجوديّ: جلالَ الدين تَهْنِيكَ الزيارهْ ... ولي بقَبولها منك البِشارَهْ ومنها: زَها واستبشرَ الجُوديُّ لمّا ... رأى منك النّزاهة والطَّهارهْ وصارَ التُّرْبُ من مَمْشَاكَ مِسكاً ... به وَتَجَوْهَرَتْ منه الحِجارَهْ وأنشدني له في حاسد له وثب عليه الأسد وعاد عنه ولم يفترسه، عملها ارتجالاً عن غير روية، ولا فكرة قوية: قلتُ للَّيْثِ: لِمْ تأخَّرت عنهُ ... حين غادرْتَه لديك صريعا قال: قدَّرْتُ أنني حُزْتَ صَيْدَاً ... فتأمَّلْتُه فكان رَجيعا فأبتْ نفسي الأبيّةُ عنهُ ... أن ترى أكلَه وإن مُتّ جوعا وأنشدني له في السابق المعري يستعدي عليه عند الشيخ: مولايَ فخرَ الدين يا ذا النُّهى ... ما قيمةُ الأخرسِ كالناطقِ كلاّ ولا العبدُ المُطيع الذي ... يرجو رِضا مَوْلاه كالآبِقِ يا أروعاً تَرْتَاعُ أُسدُ الشَّرى ... في خِيسها من عزمِه الصادق بهمَّةٍ عاليةٍ ما لها ... عن عَقْوَة العَيُّوقِ من عائقِ للعبد أبياتٌ زها حُسْنُها ... حَبَّرها من لفظِه الرائقِ قَطْعُ لسان المُفسِدِ السابِقِ ... أَوْجَبُ من قطعِ يد السارقِ يَبْتَزُّ أموالَ الورى عَنْوَةً ... ويكفرُ الرِّزْقَ مِن الرازِقِ غِذاؤُه الغِيبةُ لا غيرها ... شيمةُ نَذْلٍ خائن ماذِقِ والسَّعي لا في الخير يبغي به ... وُقوعَ أهلِ الدين في مازِقِ خِبٌّ إذا لاحَتْ له فرصةٌ ... ينقضّ كالبازِيّ والباشِقِ ما زال يُؤذي الناس حتى رأى ... كساده في سُوقِه النافِقِ وقُوبِلَتْ أفعاله بالذي ... عاينَه في نَغْلِه المارقِ فموتُه في السجنِ أَوْلَى به ... وَرَمْيُ مَن رَبّاه مِن حالقِ وإنْ أَرَحْتَ الناس من شرّه ... أحرزتَ شُكرَ الخَلْقِ والخالقِ وأجهلُ العالَم عندي امرؤٌ ... يهدّد الضِّرغام بالناهقِ وأنشدني لنفسه: خَليليَّ كُفّا عن مَلامي وعَرِّجا ... فأنفاسُ نَجْدٍ نشرُها قد تأرَّجا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 وقُولا لمنْ قد ضَلَّ عن قَصْدِ حِبّه ... وَجَدْنا إلى وَصْلِ الأحبّة مَنْهَجا وحُطّا بأكْنافِ الحِمى فقد انتهى ... مَسيرُ مطايا قد أضرَّ بها الوَجا فقد لاحَ ضوءُ الصبح بعدَ كُمونِه ... ومزَّقَ ثوباً لفَّقَته يدُ الدُّجى وحاكَتْ يدُ الأنواءِ للأرضِ حُلَّةً ... تُقَدِّرُها الأبصارُ ثَوْبَاً مُمَرَّجا وغرَّدَ في الأيْكِ الهَزار تَطَرُّباً ... وهَيَّجَه بَرْحُ الغَرام فهَزَّجا فحُثّا كؤوساً عَدَّل العَقلَ مزجُها ... بها وَجَدَتْ نفسي من الهَمِّ مَخْرَجا ولا تَسْقِيا منها لمن لان ودُّهُ ... فتُخْرجَه عن عالم العِلم والحِجى فيُظْهر أسرار الهوى ويُذيعها ... وَمَنْ كَتَمَ الأسرار في قلبه نجا وما أدركَ المَطلوبَ إلاّ أخو نُهىً ... له يَقْظَةٌ خافَ البَياتَ فَأَدْلجا ومدح نور الدين بهذه الأبيات: ما نال شأْوَكَ في المعالي سِنْجِرُ ... كلاّ ولا كِسرى ولا الإسكندرُ يا خيرَ مَن ركِبَ الجِيادَ وخاضَ في ... لُجَجِ المنايا والأَسِنَّةُ تَقطُرُ هل حازَ غيرُكَ ملكَ مصرَ وصار مِن ... أَتباعه مَن جَدُّه المُستنصِرُ والمستضي بالله مُعتَدُّ به ... وبحَدِّه وبِجَدِّه مُسْتَظهر أو سَدَّ بالشام الثُّغورَ مُحامياً ... للدين حتى عاد عنها قيصر يبكي فيروى الأرضَ فيضُ دموعه ... والجَوُّ مِن أنفاسه يَتَسَعَّرُ أَوَما أبوك بسيفه فتحَ الرُّها ... والأُسْدُ تقتَنِصُ الكماةَ وتزأَرُ هابت ملوك الأرض بأْسَ كُماتِها ... فتقاعدوا عن قصدِها وتأَخَّروا ما ضَرَّه طَيُّ المَنِيَّة ذاتَه ... وصِفاته بين البريَّة تُنشَرُ فلكمْ على كلِّ الملوك مَزِيَّةٌ ... لِوَقائع مشهورةٍ لا تُنكَر وإذا عدَدْنا للأنام مناقباً ... فعليك قبل الكُلِّ يُثْنَى الخنصرُ في الرَّأْي قيسٌ في السَّماحة حاتمٌ ... في النُّطْق قُسٌّ في البسالة حيدر دانتْ لكَ الدُّنيا وأنتَ تعافُها ... وسِواكَ في آماله يتعثَّرُ من ذا يصونُ الصين عنك وأنت مَنْ ... أُسْدُ الشَّرى منه تخافُ وتَحذَرُ ذكر أنه نظمها على وزن قصيدة للحويزي أوَّله: الله أكبر ثمَّ سِنجِر أكبرُ، ومنها: إن كان بين الفاتحين بقدْر ما ... بين الفُتوح فعَبدُك الإسكندَرُ وعَتِبَ عليَّ ونحن بدمشق مُتجَنِّياً، وضَنَّ بمواصلته مُتَظّنِّياً، فإنَّه كان يستشيط من كلِّ كلمة فيها قاع، حتى يغضب من ذكر الفُقّاع، فعُمِلَتْ أَبياتٌ لا يخلو بيتٌ منها من هذه اللفظة في مَعانٍ حِكَمِيَّةٍ ليس له فيها ذِكْر، وكانت تُنشَد وهو يغضب ويَحرَد، ونسبها مَن أرادَ إغراءَه بي إليّ، فعتَب لأجل ذلك عليَّ، فكتبت إليه: لا أوحَشَ الله منكَ يا علَم الدّ ... ين نَدِيَّ الكِرام والفُضَلا أَعَنْ قِلاً ذا الصُّدودُ أَم ملَلٍ ... حاشا العُلا من مَلالَةٍ وقِلا هل جائزٌ في العُلا لِرَبِّ عُلىً ... أن يغتدي هاجِراً لِربِّ عُلى كنتَ أخاً إن جَفا الزَّمانُ وَفى ... أوْ قطعَ الوُدَّ أهلُه وَصَلا إن أظلمتْ خُطَّةٌ أَضاء لنا ... أو ظلمَ الخَطْبُ جائراً عَدَلا رَفيقُ رِفْقٍ لنا إذا عَنُفَ الدَّ ... هْرُ وخِلاً يُسَدِّدُ الخَللا صديق صِدقٍ ما زال إن كذَبَ السُّ ... عاةُ للأصدقاء مُحتَمِلا فما الذي كدَّرَ الصفاءَ مِنَ ال ... ودِّ ولم يُرْوِ وِرْدُه الغُلَلا فضلُكَ روحُ العُلا وهل بدَنٌ ... مِن روحه الدَّهرَ واجِدٌ بدلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 عَذِّبْ بما شئتَ من مُعاتبةٍ ... أمّا بهذا الهَجر المُمِضِّ فلا في العُمْر ضِيقٌ فصُنْهُ مُنتهِزاً ... في سَعة الصَّدر فرصة العُقلا أما كفى نائبُ الزَّمان على ... تفريق شَمْلِ الأُلاّف مُشتمِلا ما بالنا ما نرى وإنْ كرموا ... إلاّ من الأصدقاء كلَّ بَلا إذا شَعِفْنا بقُرْبِ ذي شَعَفٍ ... بقربنا قيل قد نأَى وسَلا زَهِدْتَ فينا وسوف تطلُبُنا ... رُبَّ رخيصٍ بَعدَ الكَساد غَلا إن كان في طبعِكَ المَلالُ من الشّ ... يء فهلاّ ملَلْتَ ذا المَلَلا بَعدَ كمال الإخاء تنقصُهُ ... فحاذِرِ النَّقْصَ بعدَ ما كمُلا كم صاحبٍ قال لي: ألستَ على ... بلاءِ وُدِّي تُقيمُ، قلت: بلى كفى لخِلِّي بدَيْن خُلَّتِه ... مَجدي وفَضلي ومَحْتِدي كُفَلا وكلّ علمٍ لمْ يَكْسُ صاحبَهُ ... حِلماً تراهُ عُطلاً بغير حُلى لِحِفْظِ قلب الصَّديقِ أَجترع الصّ ... ابَ وأُبقي لكأْسِه العَسلا إنْ أَنكر الحقَّ كنتُ مُعترفاً ... به أو اعْوَجَّ كنتُ مُعتدلا أو قال ما قال كنتُ مُسْتَمِعاً ... إليه بالقول منه محتفلا فضلُكَ في العالمين ليس له ... مِثْلٌ وقد سار في الوَرى مَثَلا فأوْلِنا الفضلَ يا وَلِيَّ أُولي الفض ... ل ولا تبْغ حَلّ عَقْدِ ولا يا علَم الدّين أنت علاّمة ال ... عِلْم الجَلِيِّ الأوصاف وابنُ جَلا عَرِّفْنِيَ العُذْرَ في اجْتراحِك ذنْ ... بَ الصَّدِّ واحْضُرْ مُستَحْيِياً خَجِلا وافْصِلْ جَميلاً هذي القضِيَّة بال ... عَدْل وخَلِّ التَّفصيلَ والجُمَلا ولعذُر جَهولاً إذا حسدتَ فما ... صار حسوداً إلاّ لِما جَهِلا وَجِلْتُ مِن هَجرِكَ المَخوف فَصِلْ ... واجْلُ عن القلب ذلك الوَجَلا وابْخَلْ بودّي يا سمْحُ فالسُّمحاء الْ ... غُرُّ صيدٌ بودِّهم بُخَلا إنَّ الكِرامَ الذين أعرفُهُمْ ... قد أوضحوا لي مِن عُرفِهِم سُبُلا يسامحون الصديقَ إن زَلَّت النَّ ... علُ ويُغضون إن رأَوا زَلاَلا وهمْ خِفافٌ إلى المكارم لي ... لكنهم عن مكارهي ثٌقَلا فكن من المُرتَجى غَناؤُهُمُ ... في صدقِ ودّي وحقّق الأَمَلا فكتب إليَّ مُعتِباً، ووَصلَ مُتقرِّباً: قُلْ لعِماد الدين الذي رقَمَتْ ... أقلامُه في طروسه الحُللا تَزيدُ أَبصارَنا إذا نُشِرَتْ ... نوراً فتجلو بحسنها المُقَلا فابنُ هِلالٍ ونَجْلُ مُقلةَ لو ... راما مَداهُ في الخَطِّ ما وصَلا فكلُّ تالٍ لها ومستمعٍ ... يَهُزُّ عِطفاً مِن راحها ثَمِلا يا بحرَ عِلْمٍ عَذباً لواردِه ... كيف أُساوي بفيضه وَشَلا لكَ اليراع الذي تَفُلُّ به الْ ... بيضَ المَواضي وتَعزل الأَسَلا أَودعه الله ذو الجلال كما ... أراد رزقَ العِباد والأجلا عمُّك عمَّ الأنامَ نائلُهُ ... فصيَّرَ النّاسَ كلَّهُمْ خَوَلا وساد كلَّ الورى بسُودَده ... وشاد مَجداً سامَى به زُحَلا مَنْ كُنتُ قِدْماً ربيبَ نعمته ... نَشْواً وغصن الشّباب ما ذَبُلا فلو رأى حاتمٌ مواهبَه ... لصار من جُود كفِّه خَجِلا أراهُ مَولاه ما أَعَدَّ له ... في الخُلْد فانْقادَ للرَّدى جَذِلا وارتاح للراحة التي امتزجَتْ ... بالرُّوح فيها وعافَ دارَ بَلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 حَيّا الحَيا قبرَه وأنبتَ ما ... عليه من روضه الأنيق حُلى تالله ما حُلْتُ عن ولائكُمُ ... يوماً ولا اعْتَضْتُ عنكمُ بدلا لكن رأيتُ الخُمولَ أرْوَحَ لي ... فما أُعاني الخِصامَ والجَدلا في دار مَولىً تُقيمُ لي أبداً ... جُموعُه في خُصومتي رُسُلا يشير إلى قاضي القضاة كمال الدين الشهرزوري، فإنَّ الجماعة كانوا يداعبونه بحضرته، ويُغضبونه بكلمته. مَنْ كنتُ ليثَ الشَّرى فغادرني ... بحمل أثقال جَوْرِه جَمَلا أرى نهيق الحِمار يُطرِبُهُمْ ... ويُنكِرونَ الجوادَ إن صَهَلا يُجحَدُ فضلي وكلُّ ذي أدَبٍ ... يَمتارُ مِمّا أصوغُ مُرتجلا مَن لي بخِلٍّ تدومُ خُلَّتُه ... ولا أرى في خِلاله خَللا ترى مِياهاً عيني وبي ظمأٌ ... وما أُرَوِّي بوِردَها الغُللا وهذه قصَّتي محرَّرةً ... نظمت تفصيلها له جُمَلا ثم هاجر إلى مصر ووصل إليها في شهر رمضان سنة اثنتين وسبعين وأنا بها، وأنعم عليه الملك الناصر وشرّفه وأكرمَه، وزادَ إدرارَه، وأجادَ إيثارَه. وأنشدني له في غلامٍ صَيْقَلٍ يُكَنّى أبا الفتوح: أذابَ الجسمُ حبُّ أبي الفتوحِ ... وملَّكَه الهَوى مالي وروحي أعارَ السيفَ من عينيه حَدّاً ... يُصال به على البطل المُشيح وَصقلاً من سَنا خدَّيه يُزري ... بضوءِ البرق للطَّرْفِ الطَّموح التاج البَلَطيّ النحويّ أبو الفتح عثمان بن عيسى بن منصور ذكَرَ أنَّ أصلَ من بلدةٍ يقال لها بلَط، ومولده في بني مايدة بالمَوصل لِثلاثٍ بَقِينَ مِن شهر رمضان سنة أربعٍ وعشرين وخمسمائة. وانتقل إلى الشام وأقام بدمشق برهةً من عمره يتردَّد إلى الزَّبداني للتعليم، وكان مقيماً بها في صَوْنٍ مُقيم، ولمّا فُتحَت مِصر انتقل إليها وحَظِي، وأعتبه دهرُه ورضي، ورتَّب الملك الناصر صلاح الدين له على جامع مصر كلَّ شهر جارياً، ليكون للنحو بها مُقْرِياً، وللعلم قارياً، وكنت لقيته بدمشق فلمّا وصلتُ إلى مصر اجتمعتُ به واستنشدته من شعره فأنشدني من قصيدةٍ له وذلك في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وسبعين: حكَّمْتُه ظالماً في مُهجَتي فسَطا ... وكان ذلك جهلاً شُبتُه بخَطا هلاّ تجنَّبْتُهُ، والظُّلمُ شيمتُه ... ولا أُسامُ به خَسْفاً ولا شَطَطا ومَن أضَلُّ هدىً مِمَّن رأى لهَباً ... فخاض فيه وألقى نفسَه وسَطا وَيلاهُ من تائهٍ أفعاله صَلَفٌ ... مُلَوَّنٍ كلّما أرضيتُه سَخِطا أَبثُّه ولَهي صِدقاً، ويكْذِبنيوعْداً وأُقسِطُ عَدلاً كلّما قَسَطا وأنشدني له من قصيدة: أبثُكما ما ضِقْتُ عن حَمْله فحْصا ... فقد عمَّ بالجسم السَّقام وقد خصَّا ومِن دون كِتمان الصبابة مُهجةٌ ... تذوب على من ليس يرحمُني حِرصا رشاً فاق بدرَ الأُفق حسناً وأَشبه الْ ... قضيبَ قَواماً مُذْ حكى رِدْفُه الدِّعْصا وذَكر أن للقاضي الفاضل عنده يداً، وقد أسدى إليه عارفةً وندى، وبلغ به في الكرامة إلى غاية ليس لها مدى، قال: فعملت فيه عند عَوده من الشام وقومه قطعةً أوّلها: قدمتَ خيرَ قُدومِ ومنها: أفديك من قادمٍ لم ... يزل عليَّ كريمِ به تباعدَ بؤسي ... عنّي ووافى نعيمي لله عبدٌ رحيمٌ ... يُدعى بعبد الرحيم على صِراطٍ سَوِيٍّ ... من الهدى مُستقيمِ يُنمى إلى شرفٍ في ... ذُرى المَعالي صَميم مُهذَّبٌ حاز ما شئ ... ت من تقىً وعلوم مُسهَّد الطَّرف يتلو ... آيَ القرآن العظيم ومن أهاجيه قوله في أمراء الزّبداني بني سرايا: مَن أحَبَّ الهَوانَ لا يتعدَّى الدّ ... هرَ سُكْناهُ بين آل سرايا ما أَعَدُّوا لِنازِلٍ بهمُ شي ... ئاً سوى اجَبْهِ بالخَنا والرَّزايا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 شيَمٌ بالقبيح مُكتسياتٌ ... ومن الخير والجميل عَرايا وله من قطعةٍ: لم أكن عارفاً لِذُلٍّ ولكن ... صِرتُ جاراً لكم فأعْدَيتُموني ومن أطبع ماله قوله في طبيبٍ هو ابن عمّشه: ليَ ابن عمٍِّ حوى الجَهالةَ للْ ... حِكْمَةِ أَضْحى يَطِبُّ في البلد قد اكْتفى مُذْ نَشا به ملك الْ ... مَوْتِ فما إن يُبقي على أحَدِ تَجُسُّ يدَ المريض منه يدٌ ... أسْلَمُ منها براثِنُ الأَسَدِ يقول لي النّاسُ: خَلِّه عَضُداً ... فقلت: يا ليتني بلا عَضُدِ وأنشدني له بالقاهرة وقد زارني: دَعوهُ على ضعفي يجورُ ويَشْتَطُّ ... فما بيَدي حَلٌّ لِذاكَ ولا رَبْطُ ولا تعتِبوه فالعتابُ يزيدُه ... مَلالاً وأَنّى لي اصْطِبارٌ إذا يَسْطو فما الوَعظُ فيه والعتابُ بِنافعٍ ... وإن يَشْرُطِ الإحسانَ لا ينفَعِ الشَّرْطُ ولمّا تولّى مُعرِضاً بجنابه ... وبانَ لنا منه المَساءة والسُّخْط بكيْتُ دَماً لو كان ينفعني البُكا ... ومزَّقْتُ ثوب الصَّبر لو نفع العَطُّ تنازعَتِ الآرامُ والدُّرُّ والمَها ... له شَبَهاً والغصنُ والبدرُ والسِّقْطُ فللرِّيم منه اللَّحْظُ واللَّونُ والطُّلى ... وللدُرِّ منه الثَّغْرُ واللفظُ والخَطُّ وللغصن منه القدُّ، والبدرُ وجهُهُ ... وعينُ المَها عينٌ بها أبداً يسطو وللسِّقْطِ منه رِدْفُهُ فإذا مشى ... بدا خلفَه كالموجِ يعلو وينحَطُّ وأنشدني أيضاً لنفسه في غلامٍ أعرج: أنا يا مُشْتكي القَزَلْ ... مِنكَ في قلبيَ الشُّعَلْ أصبح الجسم ناحِلاً ... بكَ والقلبُ مُشتغِلْ دُلَّني قد عَدِمْتُ صَبْ ... ري وضاقتْ بيَ الحِيَلْ آنَ أَنْ تَجفو الجَفا ... ءَ وأنْ تَمْلَلَ المَلَلْ وأنشدني لنفسه في مدح المولى الأجلّ الفاضل بمصر مُوَشَّحةً مُوَشَّعةً، مُستملحة، مُبدعة، سلك بها طريق المغارب، وأتى بها بالبدائع والغرائب، وهي: وَيْلاهُ مِن رَوّاغْ بجَوره يقضي ... ظَبيُ بَني يَزداذ منه الجَفا حظِّي قد زاد وِسواسي ... مُذْ زاد في التِّيه لمْ يَلْقَ في النّاسِ ... ما أنا لاقيهِ من قيّمِ قاسي ... بالهجر يُغريه أَرومُ إيناسي ... بهِ ويَثنيهِ إذا وِصالٌ ساغْ بقرْبِه يُرْضي ... أَبعده الأُستاذ لا حِيطَ بالحِفْظِ وكلّ ذا الوَجدِ ... بِطول إيراقِهْ مُضَرَّجُ الخَدِّ ... من دم عُشَّاقِه مَصارعُ الأُسْدِ ... في لَحْظِ أحداقِهْ لو كان ذا وُدِّ ... رَقَّ لمُشتاقهْ شَيطانُه النَّزَّاغْ علَّمه بُغضي ... واستحوَذَ اسْتِحواذْ بقلبه الفَظِّ دَعْ ذِكرَه واذْكُرْ ... خُلاصَةَ المَجْدِ الفاضِلَ الأشهَرْ ... بالعِلم والزُّهدِ والطَّاهِرَ المِئزَرْ ... والصادِقَ الوَعْدِ وكيف لا أشْكُرْ ... مولىً له عِندي نُعمى لها إسْباغْ صائنةٌ عِرضي ... من كفِّ كاسٍ غاذ والدَّهر ذو عَظِّ مِنَّةُ مُسْتَبْقِ ... ضاقَ بها ذَرعي قد أفحمَتْ نُطقي ... واستنفدتْ وُسعي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 وملَّكَتْ رِقِّي ... لمُكْمِلِ الصُّنْعِ دافع عن رزقي ... في موطن الدَّفع لمّا سعى إيتاغْ دهريَ في دَحضي ... أنقذني إنقاذ مَنْ هَمُّه حِفظي ذو المنطق الصَّائبْ ... في حومةِ الفصْلِ ذكاؤه الثّاقِبْ ... يَجِلُّ عن مِثْلِ فهو الفتى الغالبْ ... كلَّ ذَوي النُّبْلِ مَنْ عَمْرو والصّاحِبْ ... ومَن أبو الفضلِ لا يستوي الأَفراغْ بواحِد الأرض ... أين من الأزاذ نُفايَةَ المَظِّ يا أَيُّها الصَّدْرُ ... فُتَّ الورى وَصفا قد مَسَّني الضُّرُّ ... والحالُ ما تخفى وعبدُك الدَّهرُ ... يَسُومني خَسفا وليس لي عُذْرُ ... ما دُمْتَ لي كَهْفا مِن صَرفِ دَهرٍ طاغْ أَنَّى له أُغْضي ... مَنْ بكَ أَمْسى عاذْ لم يَخْشَ من بَهْظِ قد كنتُ ذا إنفاق ... أيّامَ مَيسوري فَعِيلَ لمّا ضاقْ ... رِزقيَ، تدبيري والعُسْرُ بي قد حاقْ ... عَقيبَ تَبذير يا قاسِمَ الأَرزاقْ ... فارْثِ لِتَقتيري لا زِلْتَ كهْفَ الباغْ ودُمْتَ في خَفْضِ ... أمرُكَ للإنْفاذ والسَّعدُ في لَظِّ قد حافظ على حروف الغين والضاد والذال والظّاء وتكلَّف لها وما قصَّر فيها. أبو عبد الله محمد بن علي بن البواب الموصلي النجار ذكره تاج الدين البلَطيّ النَّحَويّ في مصر سنة اثنتين وسبعين وذكر أنه كان معلِّماً له، وهو الآن ابن ثمانين سنة، وذكر أنه يروي له مُقطَّعات حسنة، فمن ذلك ما أنشدنيه في والده: لي أَبٌ كلُّ ما به يوصف النّا ... سُ من الخير فهو منه مُبَرّا فهو كالصِّلِّ من بنات الأفاعي ... كلّما زاد عمره زاد شَرّا وأنشدني له أيضاً: أَدِرْها لقد قام السرورُ على رِجْلِ ... وحُكِّمَ جيشُ الجهل في عالم العقل وله في عميدٍ وُلّي بغير اختيار النّاس: فرُكِّبَت العِمادةُ فيه عُنفاً ... كتركيب الخِلافة في يزيد أبو العبّاس أحمد بن عيسى التّموزيّ ذكره التاج البلَطي النَّحْوي وذكر أنه أَضَرَّ على كِبَر، وهو مع فقره ذو فِقَر، كان في عُنفوان عمره معلِّماً ببلاد الهكّاريّة، وهو اليوم يقرأُ في الجنائز، ويقعد على القبور مع العجائز، وهو فقيه قد قرأَ على أَسعد، وأَتْهَم في طلب العلم وانجد، وله شِعر فيه روح، وصدرٌ لنظم النُّكَتِ الحِسان مَشروح، فمِمّا أنشدنيه من شعره قوله يذمّ حماته وكان قد مضى إلى بلَط وتزوّج بها: عجِبْتُ من زَلَّتي ومِن غلَطي ... لمّا رأيت الزَّواجَ في بلَطِ ومِن حَماةٍ تَزيدُ شِرَّتُها ... على كريمٍ، حِلفِ الكِرامِ، وَطِي سُمِّيتِ زَهراءَ يا ظلامُ ويا ... تارِكَةَ الجارِ غيرَ مُغْتَبِطِ في وجهها ألفُ عُقدةٍ غَضَباً ... عليَّ حتى كأنَّني نبَطِي أقولُ والنّفسُ غيرُ طَيِّبَةٍ ... بِلُطْفِ قَولٍ ولفظِ مُنبَسِطِ لها أعيدي الذي أخذْتُ فما ... خُطَّةُِ أَمثالِكُم على خُطَطي وذكر أنه أكرى داره من تركيّ اسمه مكحول دافعه بأجرتها، ومانعه عن حُجْرتها، فعمِل في القاضي تاج الدين الشهرزوري قصيدةً منها يذمُّ فاقته ويشكو إضاقته: لقد أصبح التَّعليقُ عِندي مُعلَّقاً ... عليه لِفأْر البيتِ مَرعىً ومَلْعَبُ ولو وجدَتْ شيئاً سِواه لما جَنَتْ ... عليه ولكن سَوْرَةُ الجوع تَغلِبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 وأضحتْ دروسي دارِساتٍ فليتني ... لحِقْتُ بها فالموتُ عندي مُحَبَّبُ فيا ليتَ شِعري سائرُ الخلق هكذا ... فأحمدَ عيشي أم على الدهر أعتِبُ ومنها في شكواه من التركي يريد من ممدوحه أن يكون المُعدي عليه والمشكي: بُلِيتُ بمَكحولٍ جفا الكُحْلُ جَفنَهُ ... وذلك من كُحْلِ العَمى يتَشَعَّبُ أَناخَ بمَغنايَ الذي ليس غيرُهُ ... من الأرض ما يصفو لديَّ ويَعْذُبُ يُخاطبني بالقرطبان فأنثني ... أَقول لِمَنْ هذا الطّواشي يُقَرْطِبُ فيضحك جيراني وأضحك معْهُمُ ... فيزدادُ غيظاً منهمُ ويُزَرْسِبُ أي يقول: قرطبان زن روسبي. فهذا الكِرا في كلِّ وقتٍ وربما ... يُسَلِّفني مِن قَبْل آتي وأَطلبُ فمُنّوا على العبد الضَّعيف تكرُّماً ... بإخراجه فالحقُّ ما منه مَهْربُ فإنّي ومن طافَ الحجيج ببيته ... وما قد حوَت من خيرة الخَلْقِ يَثرِبُ أودُّ من الإفلاس لو كنتُ عارفاً ... بحيلة كَسْبِ الفَلْسِ كيف التَّسَبُّبُ وأهلُ زماني أقصروا عن مبرّتي ... لقولِهمُ: هذا لبيبٌ مُهذّب فلو كنتُ قِسِّيسَ النَّصارى لعَظَّموا ... مكاني وخرّوا ساجدين وصلّبوا فما لي أرى بالمسلمين تهاوُناً ... بحاملِ علمٍ للدّيانة يُنسَبُ أبو الحسن المعلّم المعروف بنُحَيس قال التاج البلَطي قرأْتُ عليه المتنبي وعمري خمس عشرة سنة، وكان عارفاً بشعره، ومات بعد جمال الدين الوزير، وله فيه بعد عزله: إنْ يَعزِلوكَ لِمَعروفٍ سمحتَ به ... على ذَوي الأرض ذاتِ العَرض والطُّول فأنتَ يا واحِدَ الدُّنيا وسيِّدَها ... بذلك الجود فيها غيرُ مَعزول بركات بن الحَلاوي المَوْصلي أعور ذكره تاج الدين البلَطي، ووصفه بكثرة التَّهتُّك، ورفض التَّنسُّك، والتَّطرّح في الحانات والدّيارات، والتمسّك بمعاشرة أهل البطالات، يَجبي أوقاف الجامع بالموصل وهو شيخ في الأدب، واضح المنهج، صافي المنهل، وأنشدني له: صَدَّتْ سُلَيمى بِلا جُرْمٍ ولا سبَب ... بل كان ذنبي إليها قِلَّةُ الذَّهَب قالتْ وقد أَبصَرَتْ شيخاً أخا مَلَقٍ ... بفرْدِ عين يَرومُ الوَصل عن كثب لم يكفني أنَّه شيخٌ أخو عَوَرٍ ... حتى يكونَ بلا مالٍ ولا نشَبِ منصور بن علي الحمّامي أعور قال التاج البلَطي: رأيته بالموصل، يتردَّد إلى ابن الدّهّان النَّحْوِيّ وغيره من العلماء يستفيد منهم، وهو متفَسِّق مُستهْتَر بالغِلمان، ويسلك مناهج المُجّان، وتارةً يكتسب من الحمّام، وآونةً من النّسخ وآونةً من مدح الكرام، وله يهجو ابن بكوس الطبيب وابن بزوان حمّال الجنائز ومغسّلهم: قال ابن بزوان لأصحابه ... قولَ امرئٍ في الناس مَطبوع لولا ابن بكّوس الذي طِبُّهُ ... عن غير منقول ومسموعِ مُتنا وعَهد الله يا سادتي ... في عامنا هذا من الجوع الأمير أبو الجيش من الموصل شيخٌ طويل قد أناف على السبعين، لقيته بالموصل سنة سبعين، واستنشدته من أشعاره، وأجريته في حَلْبَة التَّحاوُر ومِضماره، ومن شعره في جمال الدين الوزير: سأشكرُ مَنْ أَسْدى إليَّ صنيعةً ... بلا مِنَّةٍ تأْتيه لكن تبرُّعا جماعة من أهل سِنجار الخطيب أبو الحسن علي خطيب سِنجار لقيت أخاه وهو خطي بسنجار لمّا وصلت إليها في سنة خمس وستين وخمسمائة، في خدمة الملك العادل نور الدين رحمه الله، وأُنشدت لهذا الخطيب، وذكروا أنه كان فاضلاً رقيق الشِّعر رائقه، من أبيات: كيف أخونُ والوَفاءُ مَذهبي ... أمْ كيف أسْلو والوداد ديني عاهدْتُهُمْ أنْ لا أخونَ في الهوى ... قِدْماً وأعطيتُهُمُ يميني يا سادتي لا سلمتْ من الرَّدى ... يَمينُ مَنْ يَمينُ في اليمينِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 ثلاث كلمات متجانسة اللفظ، متباينة المعنى، سمح خاطره بها من غير تعسُّف، والبيت في غاية الرقّة والسّلاسة. قالوا وقد ودَّعتُهُمْ وأدمُعي ... تجري وقد أبدى الأسى حنيني في الهجر أجرٌ فاصطبر إن لعبتْ ... أيدي النَّوى بقلبك الحزين فارتحلوا فبتُّ من أجرٍ على ... شكٍّ ومن هَجرٍ على يقين سلامة بن الزرّاد السِّنجاريّ كان بعد الخمسمائة. له يهجو بعض القضاة: ضاق بحفظ العلوم ذَرْعاً ... ضِيقةَ كفَّيْه بالأيادي قاضٍ ولكن على المعالي ... والدين والعقل والسَّدادِ يعدِلُ في حكمه ولكن ... إلى الرُّشا أو عن الرَّشاد الرئيس مجد الدين الفضل بن نصر السنجاري ذكر أنه من أهل الفضل ولكنَّه قليل النظم، أنشدت له: أَيُّ جُرمٍ منّي توالى إلى الدَّهْ ... رِ فكافى ببُعدِكُم ليت شعري وبَلاني بنار شَوقٍ إليكم ... زَندُها والوَقودُ قَلبي وصَدري مات صبري بها ولولا رجائي ... أن يزول البِعادُ كنتُ كصبري البهاء السِّنجاري من المتفقِّهة: أسعد بن يحيى بن موسى السنجاري أنشدني لنفسه بدمشق في مدح كمال الدين الشهرزوريّ سنة سبعين: مَنْ مُنْصِفي مِن ظَلومٍ لَجَّ في الغضبِ ... يَظَلُّ يلعبُ والأشواق تلعب بي مُستعرِب من بني الأتراكِ ما تركتْ ... أيّامُ جَفوته في العُمر من أرَبِ تناسبَ الحُسنُ فيه غيرَ مُكتسَبٍ ... والحُسنُ ما كان طبعاً غيرَ مُكتسَبِ مُنايَ من لذَّةِ الدُّنيا بأجمعها ... تقبيلُ دُرِّيِّ ذاكَ المَبسِم الشَّنِبِ فدَيْتُه من حبيبٍ قال مُبتسماً ... دَعْني من الهَزْل ما حُبِّي من اللَّعِبِ للَّه ليلتنا والكأْسُ دائرةٌ ... على النَّدامى وبدرُ التِّمِّ لمْ يغِبِ طافتْ لِحَيْنِيَ كفُّ الأعجميِّ بها ... فكدْتُ أُسْلَبُ من عقلي ومن أدبي أدارها فتغشَّتْهُ أَشِعَّتُها ... وخِلْتُه خاضَ في بحرٍ من اللَّهب فقلتُ: يا قوم هذي النارُ يحملُها ... كفٌّ من الماء، هذا غاية العجبِ وقام البهاء السنجاري وانشد الملك النّاصر قصيدةً في دار العدل بدمشق سنة إحدى وسبعين في شعبان منها: جرَّدْتِ من فَتكاتِ لحظكِ مُرْهَفا ... وهَزَزْتِ من لينِ القوام مُثقَّفا وجَلَيْتِ من روض الخُدود شَقائقاً ... وأدرتِ من خمر اللَّواحِظِ قَرْقَفا فمتى تَعاطَى اللَّحْظُ فضلةَ كأْسِها ... لم يُلْقَ إلاّ مُستهاماً مُدْنِفا ومنها: يا ظبيةَ الهَرَمَيْنِ من مصرٍ على الرَّ ... بْعِ السلامُ وإنْ تقوَّض أوْ عفا أصبو إلى عصرٍ تقادمَ عهدُه ... فأَزيد من وَلَهٍ عليه تلهُّفا حَدَقُ المَها وقدودُ باناتِ النَّقا ... وتفَيُّؤُ الفَيُّومِ في زمَنِ الوَفا والخمرُ نارٌ في الكؤوسِ يَزيدها ... وَقْداً حَبابُ الماء يَرْعَد إن طَفا ومنها: لِلَّه ليلةَ ودَّعَتْ ودموعها ... كالطَّلِّ فوق الورد آنَ ليُقطَفا فكأنَّني إذْ بِتُّ ألوي عِطْفها ... ألوي من الرَّيحان غُصناً أَهْيَفا بيضاءُ يَعطِفُ قدَّها سُكْرُ الصِّبا ... كَحْلاء تكسِرُ منه جَفْناً أوْ طفا أحبابنا بالقصر لو قصَّرْتُمُ ... في الهجر ما شَمِتَ الحسودُ ولا اشتقى أشكو إلى الوادي فيَحنو بانُهُ ... من رقة الشَّكوى عليَّ تَعَطُّفا ومنها: وجرى بي الأملُ الطَّموحُ فأَمَّ بي ... سلطانَ أرض الله طَرّاً يُوسُفا الناهب الأرواح في طلب العُلى ... والواهب الآجال في حسْن الوَفا مَولىً له في كلِّ يومٍ يُجْتَلى ... مُلكٌ يُجَدَّدُ أو مَليكٌ يُصطَفى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 فخليفة الله الإمام بفعله ... في أرض مصر على سِواه تشَرَّفا مَلكٌ ملائكةُ السماء جُنودُه ... والسَّعدُ عند رِكابه إن أَوْجَفا والله ناصره على أعدائه ... كَتبَ القضاءُ له بذلك أَحرفا الرئيس إلياس بن علي المعروف ب الصفّار كانت الرئاسة بسنجار لم تزل فيهم، معمورةً بمساعيهم، حاليةً بمعانيهم، وسمعتُ أن هذا الياس ذو فضيلةٍ وفضل، ونباهةٍ ونبل، ومعرفةٍ وعُرْفٍ، وفُكاهةٍ وظرفٍ، وله شعر يقطر ماء اللطف من رقَّته، ويَزْهَرُ نور الحُسن من حَدَقَته، أنشدني له البهاء السِّنجاري بدمشق شعراً استجَدْته، وذكر أنه صنَّف كتاباً في سائر المعاني والأوصاف، وأورد أشعار النّاس في كلِّ معنى وضمَّ إليها من شعره. فمِمّا أنشدني له قوله: يا لَلْهَوى إنَّ قلبي في يدَي رَشَأٍ ... مُزَنَّر الخَصْرِ يَسبي الخَلْقَ بالحَدَقِ مُستعرِبٍ من بني الأتراكِ ما تركتْ ... لحاظه في الهوى منّي سوى رمَقِ سأَلْتُهُ قبلةً أَشفي الغليلَ بها ... يوماً وقد زَرْفَن َالأصداغَ في الحَلَق فصدَّ عنّي بوجهٍ مُعرِضٍ نثَرَتْ ... يد الحياء عليه لؤلؤَ العرَقِ فصِحْتُ من نارِ وَجدي نحو مَن عذَلوا ... فيه وقلبي حليفُ الفِكر والقلقِ قُوموا انظروا وَيْحَكُمْ شمسَ النهار فقد ... أَلْقَتْ عليها الليالي أَنْجمَ الأُفقِ والده الرئيس علي الصفّار ذكر أن له شعراً ورسائل. نصيبين المهذب ابن المقدسي رأيته في سنة أربع وستين وخمسمائة بدمشق وهو كهل، وله شعر حسن وطبع رائق، وعاد بعد ذلك إلى نَصيبين، وسمعت أنه توفي، ومن شعره من قصيدة في مدح بعض القضاة الشهروزريين: هَناكِ تَلافُ المُعَنّى هَناكِ ... ويَهْنيه أن كان ذا من رِضاكِ فحسبي رِضاكِ وَمَنْ لي به ... ولو كان في صَفْحَتيْه هَلاكي مُوَيْلِكَةَ القلبِ من ذا الذي ... إلى قتل مِثليَ ظُلماً دَعاكِ وَعَنْ صَدّ صَدِّيَ مَن قد نهاكِ ... وفي وَصْلِ وَصْلِيَ مَن قد لحاكِ وإنّي لأَهوى هوى النفس فيكِ ... وأشتاقُ شَوْقِي إلى أن أراكِ ومِن أجل قَدِّكِ أهوى الغصونَ ... وأصبو إلى نَبَعَاتِ الأراكِ وتحسدُ عيني على القرب من ... كِ سِمْطَ اللآلي وعُود السِّواكِ فهذا يُصافح منك الوريدَ ... وهذا يُقبِّل بالأمنِ فاكِ أَسِرْبَ المَها لستُ شوقاً إليكَ أصبو ولكن إلى مَن تُحاكي فقولا للَمياءَ لا تَحْسَبي ... على البُعدِ والقرب قلبي سَلاكِ فلي قوّةٌ تحملُ الرّاسياتِ ... وتعجِزُ عن ذَرَّةٍ مِن جَفاكِ وبي منكِ ما بأبي أحمدٍ ... من الوَجْدِ بالمَجْدِ لا مِن هَواكِ الجزيرة وفنك حجة الدين مروان بن علي بن سلامة بن مروان من أهل طنزة، مدينة بديار بكر، الفَنَكي وزر لأتابك زنكي في آخر عهده وكذا ذو مروّة، وسخاء وفتوّة، وإباء وحميّة، له البيت الكبير، والفضل الغزير، وكانت بين عمي العزيز قدّس الله روحه وبينه الصداقة الصادقة، والمودة المؤديّة إلى الموافاة الموافقة، جليل القدر، نبيل الذكر، مُلِّي عمراً طويلاً، وأُولي بِرّاً جزيلاً، وتوفي سنة نيف وخمسين وخمسمائة، حسن الأثر، حميد الوِرد والصدر، قال علم الدين الشاتاني أنشدني بيتين له نظمهما في المنام: وكُنّا نُرَجّي أن نعيش بغِبطةٍ ... وَنَشْفي غَليل القلبِ فانقلبَ القَدَرْ وحالتْ صُروفُ الدهرِ دونَ مُرادنا ... جميعاً فلا عينٌ هناكَ ولا أَثَرْ ومن شعره أيضاً ما أنشده سعد الله بن محمد المقرئ إمام المسجد بدرب السلسلة قوله من مرثية: فلو أنّي مَلَكْتُ قِيادَ أمري ... لكُنّا في الثَّرى نَبْلَى جميعا كما كُنّا على عهد التَّصابي ... بطيب العَيْش وُرّاداً شُروعا قال ومن كتابٍ إليه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 كم تقاسي القلوب من ألم الشَّوْ ... ق ومن صَبْرِها عن الأحبابِ فإذا قَلَّ عن لقائكَ صبري ... فاحْيِيني منكَ سَيِّدي بكتابِ وقوله في كتاب إلى ولده يأمره بقلّة المخالطة: أَخْشَى عليك من الزمانِ وصرفِه ... فالقلب من حَذَري عليك مُرَوَّعُ ما إن يحدثني الضميرُ بصالحٍ ... إنَّ الشَّفيق بسُوءِ ظنٍّ مُولَعُ ومن مقطوعات حُجّة الدين أبي عبد الله مروان بن سلامة بن مروان الطنزي ما نقلته من مجموع عليه خطّه قوله: لئِن طال عهدي بالأحبَّةِ وانْثنتْ ... صُروفُ الليالي بيننا تَتَقَلَّبُ فإنّي وإيّاهم على كل حالةٍ ... سَواءٌ نلومُ الحادثات ونعتبُ وإن كان لا عتب على الدهر إنّه ... يَمُرُّ زماناً ثم يَحْلُو وَيَعْذُبُ وقوله: يا مَن تَجَنّى بلا ذنبٍ ولا سَببٍ ... أنا المُحبُّ وأنتَ الهاجرُ القالي وكلَّما زِدتُ في وَجْدِي وفي قلقي ... شوقاً إليك فأنتَ المُعرِض السالي وكلُّ شيءٍ سَيَبْلى بعد جِدَّتِه ... إلاّ غَرامي وَوَجْدي ليس بالبالي وقوله: سقى الله أيامَ التَّلاقي فإنّها ... هي العُمْرُ والعيشُ الحميدُ المُوافقُ وبُعْداً لأيامِ الفِراق فإنّها ... على كلِّ أحوال الفتى تَتضايقُ فلولا الأماني كنتُ مَيْتاً بِبُعْدِكُم ... ولكنني أحيا لأنّيَ شائقُ وما ذاق طعمَ البُؤْسِ في الوصلِ مُغْرَمٌ ... ولا فازَ بالعيش الهنيئ مُفارِقُ سواءٌ هَجَرْتُمْ أو مَنَنْتُمْ بوَصْلِكُم ... فإنّي لكم دون البريّة وامقُ حُرِمْتُ رِضاكم إن سَلَوْتُ وإنّني ... على ما عَهِدْتم في المَوَدَّةِ صادقُ وقوله: لَعَمْرُكَ ما الدنيا وإن زالَ بُؤْسُها ... وَأَوْلَتْ بَنيها في سَعادَتِهم أمرا بجامِعةٍ شَمْلاً ودافِعةٍ أذىً ... ورافعةٍ بُؤْساً وسامِعةٍ عُذْرا وإن أَمْتَعتْ يَوْمَاً حَبيباً بنَظرَةٍ ... سَتَمْنَعُهُ عمّا يُحاوله دَهْرَا وقوله: إنّ ردّ السلام عن كُتُبِ الإخْوان فرضٌ كفرض رَدِّ السَّلامِ وعلى كلِّ حالةٍ ليس عندي ... منكَ بُدٌّ في هِجْرتي ومُقامي وقوله في صديق اشتغل عنه بالولاية: إنَّ مِن حُرفتي ومن سُوء حَظّي ... حين أرجو من الصديق وِصالَهْ يَتجافى عنّي إذا نال خيراً ... ويُريني بما أُريدُ جَهالَهْ قلِحُبّي له وحِفظِ وِدادي ... أكتفي أنني صديق البِطالَهْ وقوله: لَعَمْرُكَ ما الإنسانُ في كلِّ حالةٍ ... ينالُ الذي يرجو ويُدرك ما يَبْغِي ولكنْ قضاءُ الله في الخلق سابِقٌ ... فيُمْضي الذي يُمْضي ويُلْغي الذي يُلْغي وقد كنتُ أرجو جَمْعَ شَمْلِ أحِبَّتي ... وشملي وأطْغَتْني الأماني التي تُطْغي فأقعدني المِقْدارُ دون إرادتي ... على أنّها الأيام تَبْغِي كما نَبْغِي وقوله: إذا سَلِمَتْ نفسُ الكريم وعِرْضُه ... فلا بأسَ إن مالَ القضاءُ على المالِ وأنتَ تُضيع المال بالجود دائماً ... فما بالُ هذا المالِ يَخْطُرُ بالبالِ وقوله: الرَّدُّ أحسنُ من وعدٍ وإخلافِ ... والمَطْلُ أَقْبَحُ من بُخْلٍ بإسعافِ فحَقِّقِ الوَعدَ وانْجِز ما وَعَدْتَ به ... واحْبُ الصديق بإحسانٍ وإنصافِ وقوله: إن كان قلبُك فارغاً من ذِكْرنا ... فالقلبُ من ذِكراكَ لا يَتَفَرَّغُ ولَئِنْ بلغت مُناك من هِجْراننا ... فوِصالكمْ أُمْنِيَّةٌ لا تُبْلَغُ وقوله: لا تَضِيقَنَّ بالحوادثِ ذَرْعَاً ... وَتَوَقَّعْ من بعد عُسْرِكَ يُسْرا ليس حُكمُ القضاء فيه سواءً ... قد يكونُ القضاءُ نَفْعَاً وضُرّا وقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 سلامٌ على ريمٍ برامةَ إنّها ... مُنى النفْسِ في الدنيا إذا ما تمَنَّتِ تضيءُ بها الدنيا إذا هي أقبلت ... وتُظْلم في عيني إذا ما توَلَّتِ وقوله: ودّي على طُولِ النَّوى ... غَضٌّ وإخلاصي جديدُ وهَواك في قَلْبِي يزيدُ مع الفِراق ولا يَبيدُ وقوله: لَعَمْري لئِن طال المَدى وتَصرَّمَتْ ... ليالٍ وكان الوَصْلُ فيها يَزينُها فإنّي راعٍ للوِداد وإن قَسَتْ ... قلوبٌ فإنّي بالوَفا أستلينُها وإنْ جَمَحَ الإخوانُ عنّي رددتُهمْ ... بأسباب ودٍّ خالصٍ لا أخونُها وإن أعرضوا أقبلتُ غيرَ مُوَدِّعٍ ... وإن بذلوا وجهَ الإخاءِ أصونُها فلا تكُ في دِين المَوَدَّةِ خائناً ... وأنتَ لها في كلّ حالٍ أمينُها وقوله: هجرتِ فلم انعمْ بعيشٍ ولا انثنى ... إلى القلب رَوْحٌ غيرُ ذِكرِ وِصالكِ ولا خَطَرَتْ في القلب خطرةُ راحةٍ ... سوى خَطْرَةٍ فيها كريمُ خيالكِ أُلاقيك بالفِكر الذي هو لازمٌ ... لقلبي فهل يا عَزُّ عُجتُ ببالكِ وهل لمثالي في فؤادك صورةٌ ... كما في فؤادي صورةٌ لمِثالكِ عليك سلامُ اللهِ إنّي مُوثَقٌ ... لِقِلَّة صبري والهوى في حِبالكِ وقوله في الشوق: بأرض بغداذ لي خِلّ أتيهُ به ... على العِراقَيْنِ وهو الحارثُ بن علي وبي إليه من الأشواق ما عَجزت ... عن حملِه حاملاتُ السهلِ والجَبلِ لولا التَّسَلّي بآمال اللِّقاءِ لهُ ... لمِتُّ شَوْقَاً ولكنّي على أملِ وقوله في الزهد: وما الدنيا وإن طابت ودامتْ ... باكثر من خيالٍ في منامِ تزولُ عن الفتى ويزولُ عنها ... كما زال الضياءُ من الظلامِ وقوله في الحكمة والتكرم على ذوي القربى: إذا لم يكن جاهي لقوميَ نافعاً ... وماليَ مضنونٌ به عن أقاربي فلا كان ذاك الجاه والمال إنّه ... برِغميَ مَذْخُورٌ لبعض الأجانبِ وقوله في احتمال المحبّ جَوْرَ محبوبه: وإنّي وإنْ أَقصيتَني وقطعتني ... وأعرضتَ عنّي في الهوى غيرُ عاتبِ لأنك أقصى مُنيتي وأَحبُّ مَن ... إليَّ وأحلى في الفؤاد وصاحبي وكلّ الذي يأتي إليَّ مُحبَّبٌ ... إذا عَزَّ منك الوَصلُ لَيَّنْتُ جانبي أُعاوِدُ مَن أهواه حتى أُعيدَهُ ... إلى الحقِّ مُختاراً ببذل الرغائبِ وقوله من قصيدة يوصي بها ولده: وَمَنْ تحَلَّى بأخلاقٍ مُوافِقةٍ ... للخَلْقِ أغنتهُ عن مالٍ وعن نسبِ لا تَكْرَهِ النُّصْحَ ممّن قصدُه حَسنٌ ... وإنْ دُعِيتَ إلى المعروفِ فاسْتجبِ وقوله: يا ذا الجلال إذا قضيتَ قضيةً ... فَأَعِنْ عليها إنني لك شاكر وامْنُنْ بصبرٍ في القضاء فَخَيْرُ مَن ... لَقِيَ القضاءَ مُسَلِّمٌ أو صابرُ واغْفِر ذنوبي إنّها مكتوبةٌ ... وأنا المُقِرُّ بها وأنتَ الغافِرُ أحسنْ ليَ التوفيقَ باقي مُدَّتي ... فأنا الضعيفُ وحاليَ المُتقاصرُ وقوله: كأنني حين أحبو جَعْفَراً مِدَحي ... أَسقيه ماء أُجاجاً غيرَ مَشْرُوبِ إنّي تَوَدُّكمُ نفسي وأمنحكُمْ ... نُصحي وكم من مُحِبٍّ غيرُ محبوبِ وقوله في الوفاء والمحافظة على الولاء: إن كان قد عُدِمَ اللقاءُ فإنني ... بوِدادِكمْ مُستَهتِرٌ مفتونُ كَلِفٌ بكم مُتَحَيِّلٌ في قُرْبِكُمْ ... ولقائِكم والوصل كيف يكونُ كم حاضرٍ في الدار غيرُ مُحافظٍ ... ومُفارقٍ ووِداده مأمونُ وقوله من أول مكاتبة: لَئِنْ شَطَّتْ بنا دارٌ فإنّا ... بصِدقِ الودِّ منّا في اقْترابِ وإن كنّا على نَأْيٍ فإنّا ... نُحبُّكمُ وحَقِّ أبي تُراب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 ولستُ بآيسٍ مِن جَمْعِ شَملٍ ... وتعريجٍ على ذاك الجَنابِ فكم من نازحٍ أمسى عَميداً ... وأصبحَ ذا سُرورٍ بالإيابِ وقوله: وَجْدُ قلبي على النَّوى لا يَزولُ ... وعُهودي كحُسنكمْ لا تَحولُ ظَلَّ صدري لبَيْنِهمْ حَلْبَةَ الوَجْدِ، وجيشُ الغرام فيها يَجولُ إنْ أَكُن عنكمُ تحَوَّل جسمي ... ففؤادي ما إنْ له تحويلُ قد كساني هوى العِراقِ إليكمُ ... ثوبَ شَوقٍ يَشِفّ منه النُّحولُ أنا في فتيةٍ لهم خضع الدَّهرُ ولكنْ بهم عليّ يصولُ بوجوهٍ كالشمسِ حُسْناً، وأخلا ... قٍ لِطافٍ تُسْبى بهِنَّ العقولُ وعُقودٍ صحيحةٍ في وِدادٍ ... ففؤادي بها صحيحٌ عَليلُ وزمانٍ صافٍ ووقتٍ مُطيعٍ ... مُسْعِدٍ لا يعود فيما يُنيلُ صِبْغُ ذاك الوِدادِ صِبْغَةُ أَصْلٍ ... ما لِلَوْنِ الخِضابِ منه نُصولُ ابن الصائغ الجزَري قرأت في مجموع بخط أبي الفضل بن الخازن البغدادي هذين البيتين منسوبين إليه: قُبْحُ أعمالنا يَدُلُّ عليه ... قُبْحُ أعمالِ من يُوَلَّى علينا لَوْ توَلّى القَضاءَ قِردٌ بأرض الصين ما دَحْرَجوه إلاّ إلينا الشيخ أبو نصر الحسن بن أسد الفارقي الحسن بن أسَد، حسَنُ القَول أسَدُّه، فارسُ النَّظم أسدُه، ذو اللفظ البليغ، والمعنى البديع، والخاطر السّريع، والكلام الصنيع، فلفظُه عَقْدُ عِقْد، ومعناه ليس بمعَقَّد، وجوهر صنعته في سلك الفضل غيرُ مُبَدَّد، فلله دَرُّ ذا الصّانع، ذي الدُّرِّ النّاصع، الذي تُنصِعُ جلود الحُسّاد منه في المناصع، اليومَ عدوُّ ابن أَسَدٍ ساءَ نبأً ودعم وَيلاً، وحَسوده جَرَّ من الخجل ذَيلاً، وفرَّ من الوَجَل ليلاً، حيثُ أَحْيَيْتُ ذِكرَه بإطرائي إيّاه، وكان ركَد وكَدَر ماؤه الصافي في منبع الفضل فأجريناه، وفي مَعين عين هذا الكتاب أنبعناه،، وفي سوق الكَساد ما بِعناه،، أَقدَمُ أهل العصر زَمانا، وأقومُهُم بالشِّعر صنعةً وبيانا، كان في زمان نظام المُلك ومَلِكْشاه، وشملَه منهما الجاه، بعد أن قُبِضَ عليه، وأُسيءَ إليه، فإنَّه كان مُتولِّياً على آمِدَ وأعمالها، مُستبِدّاً باستيفاء أموالها، فخلَّصه الكامل الطبيب، وقضى أربه ذلك الأريب، فنشرع في الإشعار بأشعاره، ونشرح فيها بعضَ شِعاره، ولا ندع هذا المهِمَّ لا مهملاً ولا مُجمَلا، ونُملي من فوائده ما يملأُ المَلا مُفَصَّلا، أُودِعَ فَصَّ الفَصاحة خاتِمُ كَلِمِه، ونشر في معالم علمه خافقُ علَمه، وشَتْ عِبارته بالطِّيب وشْيَ العبير، ووشتْ في الحُسنِ وَشْيَ التَّعبير، وزَعَتْ كلَ كلامه الأَفهام، وهامت في استحسانه الأوهام، وكان يَنظِمُ الشِّعرَ طبعاً ويتكلَّف الصَّنعةَ فيه، ويلتزم ما لا يلزم في رَوِيِّه وقوافيه، وكانت له نفسٌ كلُّ نفسٍ بكرمها مُعتدّ، ونفَسٌ طويلٌ في النَّظم مُمْتَدّ، سائرٌ شِعرُه، شائعٌ ذِكره، يقع في منظومه التَّجنيس الواقع، الرَّائقُ الرَّائع، وكان من فحول الشُّعراء في زمانه، ومن المُغَبِّرين في وُجوه أقرانه، له في الشَّمعة: ونديمةٍ لي في الظَّلامِ وَحيدة ... مِثلي، مجاهدة كمِثل جِهادي فاللَّون لوني والدُّموعُ كأَدمُعي ... والقلبُ قلبي والسُّهادُ سُهادي لا فرقَ فيما بيننا لو لم يكن ... لهبي خَفيّاً وهو منها بادِ وله: أَريقاً من رُضابِكِ أم رحيقا ... رشَفْتُ فلستُ من سُكري مُفيقا وللصَّهباء أَسماءٌ ولكن ... جهِلْتُ بأنَّ في الأسماء رِيقا حَمَتني عن حُمَيّا الكأْسِ نَفْسٌ ... إلى غير المعالي لن تتوقا وما تَركي لها شُحّاً ولكن ... طلبتُ فما وجدْتُ بها صديقا وله: وإخوانٍ بَواطِنُهُمْ قِباحٌ ... وإنْ أَضْحَتْ ظواهرُهُمْ مِلاحا حٍبْتُ مِياهَ وُدِّهِمُ عِذاباً ... فلمّا ذُقتُها كانت مِلاحا وله: يا بدرَ تِمٍّ ما بدا ... للناس رونقُه ولاحا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 إلاّ وخاصم فيه قل ... بي كلَّ عُذّالي ولاحى لم يُبْقِ لي، لمّا نَأَيْتَ، الدهرُ سُؤْلاً واقْتراحا عَجَبَاً عَشِيّةَ راح لي ... إذ لم أمُت في وقتِ راحا وله: وَوَقْتٍ غَنِمَاه من الدّهر مُسْعِدٍ ... مُعارٍ وأوقاتُ السُّرورِ عَواري مَعانيه ممّا نبتغيه جميعها ... كَواسٍ وممّا لا نريد عَواري أدارَ علينا الكأْسَ فيه ابنُ أربعٍ ... وعَشرٍ، له بالكأسِ أيُّ مَدارِ تناولَها منه بكفٍّ كأنَّما ... أناملُها تحت الزُّجاج مَداري وله: صدَّ الحَبيبُ وقال لي ... بي وَيْكَ أكثرتَ المَلاذا اقْطع فقلتُ أَبْعَدَ ما ... لم يَخْفَ مِن كلِّ المَلا ذا وله: تَيَّمَ قلبي شادِنٌ أَغْيَدُ ... مُلِّك فالناسُ له أَعْبُدُ لو جاز أن يُعبَدَ في حُسنه ... وظَرفه كنتُ له أَعْبُدُ وله: إن لم تُنِلْني منكَ وَصلاً، به ... بعد الجَفا أَحْيَا، فميعادا لو جُدْتَ لم أَعْتِبْكَ مِن بعدِها ... ولا إلى الشكوى فمي عادا وله: تبَّاً لدهرٍ أنا في أُمَّةٍ ... منه كثيري الغَدرِ أَوْغَادِ أزهدُهم في غَيِّه رائحٌ ... حِرْصاً على دُنياه أو غادِ وله: أفدي بنفسي من له ذُكْرَةٌ ... عندي به غاديةٌ رائحهْ يُهدي بنَشْرِ الريح مِن نحوِه ... إليَّ كالمِسك له رائحهْ ظَبْيٌ جرى في جَسدي حُبُّه ... جَرْيَ دمي جارحة جارحهْ يَجْرَحُني لحظاً فَمَنْ ذا رأى ... كَطَرْفِهِ جارحةً جارحهْ وله: يا صاحِ إنَّ الخمر قَتّالةٌ ... فَأَعْفِ عنها النفسَ يا صاحِ وانْظُر فكم بين فتىً طافحٍ ... من سُكْرٍ وفتىً صاحِ فخَلِّها، وانْتَفِ منها، لِمَن ... يَجْتَلب الراحة بالراحِ فالحقُّ ما أوضحتُ من أمرِها ... والحقّ لا يُدفَع بالراحِ وله: هَوِيتُ بديعَ الحُسنِ للغُصنِ قَدُّه ... وللظبي عَيْنَاه وخَدّاه للوَرْدِ غَزالٌ من الغِزلانِ لكن أخافه ... وإنْ كنتُ مِقداماً على الأسد الوَرْدِ وله: كم لك عندي بحَسْب حُبّي ... من سببٍ في الهوى وَكِيدِ يقولُ للنفس حاولي ما ... شِئتِ سوى سَلْوَةٍ وكِيدي إن سَرَّني في الزمانِ وَعدٌ ... فيك فكم ساءَ من وَعيدِ قد ذُبْتُ غَمّاً مُذْ غاب عنّي ... وجهك يا نُزهتي وَعيدي بَقِيتُ فَرْدَاً وليس يبقى ... شيءٌ على الهمِّ كالفَريدِ جسمي له كالخِلال سُقْماً ... وَدَمْعُ عَيْنَيّ كالفريدِ وله: عاتَبْتُهُ فَغَرَسْتُ في ... وَجَنَاته بالعَتْب وَرْدَا ظَبْيٌ له طَرْفٌ غدا ... أسداً على العشّاق وَرْدَا لمّا بدا في تيهه ... فَرْدُ الجمال يَهُزُّ قَدّا قَدَّ القلوبَ بسيفِ د ... لٍّ يَنْهَبُ المُهجاتِ قَدّا ما كَلَّ قطُّ ولا فَلَلْنَ له صُروفُ الدهرِ حَدّا ولقد تجاوز حُبُّه ... عندي جميعَ الناس حَدّا وله: أَفْدِيكَ يا مَن طولُ إعراضه ... عنّيَ قد شَيَّبَني أَمْرَدا لستُ أُبالي أَحِمامٌ إذا ... هجرتَني لافَيْتُه أمْ رَدى وله: أسرفتَ في هجرِ مُحِبٍّ كَمِدْ ... أَحْسَن في حُبِّكُمُ واقْتَصدْ رِفْقاً به كم من حبيبٍ قضى ... على مُحِبٍّ صَدُّه وقتَ صَدّ لستَ ترى في الحبّ يوماً ولا ... تسمع أشقى منه بَخْتَاً وجَدّ ما وَجَدَ العُذْرِيُّ في حُبِّه ... عفراءَ إلاّ بعضَ ما قد وَجَدْ وله: أَتَيْتُ إلى داره البارِحَهْ ... وفي كلّ ناحيةٍ نائحهْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 وقد عَلِقَتْه أَكُفُّ المَنونِ ... ففي كلِّ جارحةٍ جارحهْ وله: ولَرُبَّ دانٍ منك تَكْرَه قُرْبَهُ ... وتراه وهو غِشاء عينك والقذى فاعْرِف وخَلِّ مُجرِّباً هذا الورى ... واترك لقاءك ذا كَفافاً والْقَ ذا وله: أيا ليلةً زار فيها الحبيبُ ... أعيدي لنا منكِ وَصْلاً وعُودي فإنّي شهدتُكِ مُستمتِعاً ... به بين رَنَّةِ نايٍ وعودِ وطِيبِ حديثٍ كَزَهْرِ الرِّياضِ ... تَضَوَّع ما بين مِسكٍ وعُودِ سَقَتْكِ الرَّواعِدُ من ليلةٍ ... بها اخْضرَّ يابِسُ عَيْشِي وعُودي وفي لي بوَعدٍ ولا تُخْلِفيهِ إخلافَ دَهرٍ به لي وعودِ وله: لا تطلُبي في الأنامِ خِلاًّ ... يُصفيكِ ودّاً، وعنه عَدّي فلو عددتُ الذين خانوا ... فيه عهودي أطلتُ عَدّي وله: يا مَن حكى ثغرُه الدُّرَّ النظيم وَمَنْ ... تُخال أصداغُه السودُ العناقيدا اِعْطِفْ على مُستَهامٍ من أسفٍ ... على هواكَ وفي حَبْلِ العَنا قِيدا وله: بِنْتُمْ فما لحظَ الطَّرْفُ الوَلوعُ بكمْ ... شيئاً يُسَرُّ به قلبي ولا لَمَحَا فلو مَحا فَيْضُ دمعٍ مِن تَكاثُرِه ... إنسانَ عَينٍ إذاً إنسانَه لَمَحَا وله: جُدْ لي بوَصْلٍ منك يا مَن ... قد بُليتُ به وساعِدْ واشْفِ الصَّبابة بالعِنا ... قِ مُوَسِّدي كَفّاً وساعِدْ وله: كم ساءَني الدَّهر ثمّ سَرَّ فَلَمْ ... يُدِمْ لنفسي هَمّاً ولا فَرَحَا أَلْقَاه بالصبرِ ثمّ يَعْرُكني ... تحت رَحىً من صُروفه فَرَحَى وله: إلى كم أُعاني الوَجْدَ في كلِّ صاحبٍ ... ولست أراهُ لي كَوَجْديَ واجِدا إذا كُنتُ ذا عُدْمٍ فَحَرْبٌ مُجانِبٌ ... وَتَلْقاه لي سِلْماً إذا كنتُ واجِدا أُحاوِل في دَهْرِي خليلاً مُصافِياً ... وَهَيْهاتَ خِلاًّ صافياً لستُ واجِدا وله: لا تَغْتَرِرْ بأخي النِّفاقِ فإنّهُ ... كالسَّيفِ يقطع وهو مَرْهُوب الشَّذا فالخِلُّ مَن نَفَعَ الصديقَ بضَرِّه ... كالعودِ يُحْرَقُ كي يَلَذَّ لك الشَّذا وله: شَيَّبَ رَأْسِي وِدادُ خِلٍّ ... سالَمْتُه في الهوى وعادى مَرِضْتُ من حبّه فما إنْ ... لحُرْمتي زارني وعادا أَتْلَفتُ عَصْرَ الشباب فيه ... يا حبَّذا لو مضى وعادا وله: غَدَوْنا بآمالٍ ورُحْنا بخَيبةٍ ... أماتَتْ لها أفهامَنا والقرائحا فلا تَلْقَ منّا غادياً نحو حاجةٍ ... لتسأله عن حاله والْقَ رائحا وله: بَعُدْتَ فأمّا الطَّرفُ منّي فساهِدٌ ... لشوقي وأمّا الطَّرْفُ منك فراقِدُ فَسَلْ عن سُهادي أَنْجُمَ الليل إنها ... ستشهدُ لي يوماً بذاك الفَراقِدُ وله: قَطَعْتُكَ إذ أنت القريب لشِقْوَتي ... وواصلني قومٌ إليَّ أَباعِدُ فيا أَهْلَ ودّي إنْ أبى وَعْدَ قُرْبِنا ... زمانٌ فأنتم لي به إنْ أبى عِدُوا وله: لا يصرِفُ الهَمَّ إلاّ شَدْوُ مُحْسِنَةٍ ... أو منظرٌ حَسَنٌ تهواه أو قَدَحُ والراح للهمِّ أنفاها فَخُذْ طَرَفَاً ... منها وَدَعْ أُمّةً في شُربِها قَدَحوا بِكْرٌ تَخال إذا ما المَزْجُ خالَطها ... سُقاتُها أنَّهم زَنْدَاً بها قدحوا وله: بَعُدْتَ فقد أضرمتَ ما بين أَضْلُعي ... ببُعْدِك ناراً شَجْوُ قلبي وَقودُها وكَلَّفْتَ نفسي قطعَ بَيْدَاءِ لَوْعَةٍ ... تَكِلُّ بها هُوج المَهاري وقُودُها وله: أفدي بنفْسي بدرَ تِمٍّ لهُ ... بدرُ الدُّجى في حُسنه ضَرَّهْ كم لامني في حُبّه لائمٌ ... ما نفع القلبَ بلى ضَرّهْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 حاشا عَفافي في الهوى مِن خَنىً ... يَعُرّه فيه ومن فَجْرَهْ وكم ظلامٍ بِتُّه ساهراً ... يرقُب طرفي للتُّقى فَجْرَهْ وله: تَجَلَّدْ على الدهر واصْبر بما ... عليك الإلهُ من الرِّزْق أَجْرَى ولا يُسْخِطَنَّك صَرْفُ القَضاء ... فَتَعْدَمَ إذ ذاكَ حَظّاً وأجرا فما زالَ رزقُ امرئٍ طالب ... بعيداً إليه دُجى الليل يُسْرى توَقَّعْ إذا ضاق أمرٌ عليك خَيْرَاً فإنَّ مع العُسرِ يُسْرا وله: قد كان قلبي صحيحاً بالحِمى زَمناً ... فَمُذْ أبحتُ الهوى منه الحِمى مَرِضا فكم سخِطتَ على مَن كلُّ شِيمتِه ... وقد أَتَحْتَ له فيك الحِمامَ رِضا يا مَن إذا فَوَّقَتْ سهماً لواحظُهُ ... أضحى لها كلُّ قلبٍ قُلَّبٍ غَرضا أنا الذي إنْ يَمُتْ حُبّاً يمُتْ أسفاً ... وما قضى فيك من أغراضه غَرَضَا أُلْبِسْتُ ثوبَ سَقامٍ فيك صار له ... جِسمي لدِقَّتِه من سُقمِه عَرَضَا وصِرتُ وقفاً على همٍّ تُجاذِبني ... أيدي الصَّبابة فيه كُلَّما عَرَضَا ما إنْ قضى اللهُ شيئاً في خليقته ... أشدَّ من زَفَرَاتِ الحُبّ حين قضى فلا قضى كَلِفٌ نَحْبَاً فَأَوْجعَني ... أن قيل إنَّ المُحبّ المُستهام قضى وله: تُراك يا مُتْلِفَ جِسمي ويا ... مُكْثِرَ إعلالي وإمراضي من بعد ما أَصْبَيْتَني، ساخِطٌ ... عليَّ في حُبِّك أم راضِ وله: يا قاتِلي بالصُّدود رِفْقاً ... بمُدْنَفٍ ماله نصيرُ واخْشَ إله السماءِ إنّا ... كُلاًّ إليه غداً نصيرُ وله: قام فيه عند اللوائم عُذْري ... إذ تثَنّى كالغُصن من تحتِ بَدْرِ رَشَأٌ في جُفونه سَيْفُ لَحظٍ ... مثلُ سَيْفِ الإمام في يومِ بَدْرِ زارَ ليلاً ففَكَّني من غرامٍ ... طال منه في قَبْضَةِ الحُبِّ أَسْرِي قلتُ ألاّ زُرتَ المُحِبَّ نهاراً ... قال إنّي كالطَّيْف في الليل أَسْرِي قَصُرَتْ إذ دنا فلم يكُ في لَمْحَةِ عيني سوى عِشاءٍ وفجرِ فافْترقنا فيا دموعي على ما ... فات منه حتى يُعاوِدَ فاجْري وله: عِشتِ يا نفسُ بالرَّفاهةِ دَهْرَاً ... فاطْلبي الآنَ عِيشَةً بانْتهازِ واسْتخيري الإله في البَيْن فالعا ... لَمُ منّي إلاّ إذا بِنْتِ هازِ وصِلي الوَخْدَ بالوَجيف إليه ... بالنَّواجي ذات الخُطا والجوازِ وافْعلي الخيرَ ما استطعتِ على الخيرِ فَلَنْ تَعْدَمي عليه الجَوازي وله: أرى الدهرَ في أفعاله ذا تلَوُّنٍ ... كثيرٍ بأهليه كأنَّ به مَسّا وما مَسّ مِن شيءٍ بأيدي صُروفِه ... فأبقاه، فالداني من الهُلْكِ ما مسّا يُصَبِّحُ منه الخلقَ بالشرّ مثلما ... يُمَسِّيهمُ فالويلُ صَبَّحَ أو مَسّى وفيه حُظوظٌ تجعلُ المِسَّ عَسْجَداً ... وكم جَعَلَتْ من عَسْجَدٍ خالصٍ مِسّا وله: كم خاطَبَتْني خطوبٌ ما عَبَأْتُ بها ... ولم أقلْ جَزَعَاً عن حَوْزَتي جُوزي عِلْماً بأنّي مَجْزِيٌّ بِمُكْتَسَبي ... إنّي امرؤٌ بجَوازي فِعلِه جُوزي وله: إنّما دُنياك عارهْ ... وهي بين الناس عارَهْ فاجْتنِبْ منها فِعالاً ... تُكسِبُ الإنسانَ عارهْ بَشَّرتْ بالعيش غِرّا ... ظَنَّ في الدُّنيا بِشارهْ جاهلاً يُخدَع فيها ... برُواءٍ وبَشَارَهْ وَيْحَ مَن ظنَّكِ يا دا ... رَ الأسى والبُؤسِ دارَهْ أين كسرى قبلَه دا ... رة بل أين ابْنُ دارهْ ذهب الكُلُّ فلم يُبْقِ الرَّدى منهم أثارهْ غيرَ ذِكرٍ سوفُ يُخفيه الذي منهم أثارَهْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 كم لفُرسانِ الليالي ... فيهمُ مِن شَنِّ غارهْ واغتيالٍ غال ضِرْغا ... ماً وأخْلى منه غارهْ وله: لا تَجْمَعوا المالَ للأحْداث إنْ طَرَقَتْ ... إنَّ الحوادث في أموالكم سُوسُ وليس يَغْفُلُ عن إحرازَ مَنْقَبةٍ ... تُبْقي عليه بمالٍ من له سُوسُ وله: رأيتُ أبناءَ ذي الدُّنيا كأنّهمُ ... من التَّغَلْغُلِ في إفسادهم فارُ كالماءِ هُوناً فإن أَذْلَلْتَهم خَمِدوا ... وإنْ شَرارةَ عِزٍّ أدركوا فاروا الشيخ العالم محمد بن عبد الملك الفارقي ّ بغدادي الدار، إنتقل إليها في صباه، فريد عصره، ووحيد دهره، وأنموذج السلف الصالح، كلماته مُغتنَمة، وألفاظه مُقتبَسة، وغرره مأثورة، وعقود كلامه حلي أهل الفضل، وأقراط أسماع ذوي الأدب، تعقد الخناصر على فصوص فصوله، وتُشرَح الصدور بمنثوره ومقوله، يتكلم على الناس كل يوم جمعة في جامع القصر ببغداد، ويكتب كل ما يورد، وقد دُوِّن من بدائع فكره، وموشيّات خاطره، شيءٌ كثير، وسنورد من كلامه لُمَعاً يُستدلّ به على صفاء روحه، وخلوص رُوعه، أنشدني لنفسه يوم الجمعة ثامن عشر شهر الله الأصم رجب من سنة إحدى وستين في منزله وتوفي بعد ذلك بسُنَيّات. انْتقدْ جَوْهَريّةَ الإنسانِ ... والذي فيه من فُنون المعاني خَلِّ عنك الأسماء واطَّرِحِ الألْقابَ وانظر إلى المعاني الحِسانِ وقال: الألقاب، سرابٌ بقِيعة الإعجاب، ورعونة النفس القانعة بالقِشر عن اللباب. وأنشدني لبعض الأدباء وكتبتها من فوائده، ذكرها في جملة كلام له: أخي خَلِّ حَيِّزَ ذي باطِلٍ ... وكُن للحقائق في حَيِّزِ فما نحن إلاّ خطوطٌ وَقَعْنَ ... على نُقطةٍ وَقْعَ مُسْتَوْفِزِ يُزاحم هذا لهذا على ... أقَلَّ مِن الكَلِم المُوجَزِ مُحيطُ السَّماوات أَوْلَى بنا ... فماذا التردُّدُ في المَرْكَز وقال: إن الوردة إذا فتحت عينها ترى الأشواك قد اكتنفتها من سائر حياتها فتقول: سبحان من خلَّص لطافتي من بين هذه الدغائل. وقال: لا يُعدّ الحكيم حكيماً حتى يرى أن الحياة تسترقُّه، والموت يُعتقه. وقد أوردت له كلمات آسيات كالمات، عظات موقظات، كأنها آيات بيّنات، تُحلّى بها ترائب الأفهام، وهي عقد الخريدة، وعقد الجريدة، وذلك ما حُفظ عنه وهو يتكلم على الناس في مواعظه ومجالسه فمن ذلك قوله: اللهم إنّا نعوذ بجلالك من حركات الهوى وسكنات البلادة والسهو، اللهم أزل عن النفوس وحشة ظلمة الجهالة، بإشراق نور العلم والمعرفة. العطيّة للمؤمن مطيّة، وللمنافق بليّة. النواظر صوارم مشهورة فأغمِدها في غمد الغضّ والحياء من نظر المولى، وإلاّ جرحك بها عدو الهوى. إجعل النعمة سُلّم الوُصْلة، مِرقاة القُربة، مرآة البصيرة، مصفاة السريرة، معراج الهمّة، مفتاح باب الفطنة، أُمرتَ بأن تُحلّل عن قلبك عُقَد المألوفات وأنت تُحكم عَقْدَها، وتبرم شدّها. وقال في أثناء وعظه وبغداذ في الحصار: عساكر الأقضية والأقدار، محدقة بأسوار الأعمار، تهدمها بمعاول الليل والنهار، فلو أضاء لنا مصباح الاعتبار، لم يبق لنا في جميع أوقاتنا سكون ولا قرار، الوقت كالحلقة كلما جاءت تتضايق، عُمرك كالدائرة، وروحك كالنقطة في وسطها، في كل وقت تتضايق دائرة عمرك إلى أن تنضم على نقطة روحك، فتسدّ مَعين ماء حياتك، فينقطع عن سقي مزارع أعضائك، ويُصَوِّح نبتُ قواك وآلاتك، الخلوة لقومٍ طُور، ولقوم غرور، الخلوة الصافية أن يخلو همُّك، عن غير مُهمّك، تعرف عقول الرجال في تصاريفهم وتصانيفهم. ومن أدعيته: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 اللهمّ أطلِع ثمار الأماني من أغصان آمالنا، ولُمَّ بلطفك شعث أحوالنا، إلهي قَبَضَ عجزي روح نشاطي، وطوى ثوب انبعاثي وانبساطي، أخلقت ملابسُ الشبيبة، وَهَنَ عظم العزيمة، شابت لِمّةُ الهمة، غلب شنجُ العجز على عصب العزم، رَثَّ ثوب الحياة، عجز قدمُ البقاء عن الثبات، اقشعرّت جِلدة الجلَد، حان الانقلاب إلى دار الأبد، قُدِّمت معابر العبر، ليُعبَر بها من دار الغِيَر، إلى دار النعيم الأرغد الأنضر، دار السلام، ومنزل الدوام، العريّة عن عوارض العلل والأسقام، لا تنظروا إلى المجازيات الزائلات، انظروا إلى الحقائق الدائمات، المجازيات مشارع الحسّ يكرع من أُجاجها، ويغرق في أمواجها، والحقائق مراقي القلب يُعرج في معراجها، ويرقى في منهاجها، سبحان من جعل مضارب أطناب مخيّم الوجود، ومرسى قواعد قبة الكون، ومثبت قدم صورة الدنيا، على متون رياح هفّافة تهبّ من مهابّ المهابة بين صُدُفَيْ شِعْب الأبد والأزل، والماضي والمستقبل، تسحب أذيال نسائمها على صحراء صفحات الوجود، فتثير الهوامد الركود، لقبول إفاضة الكرم والجود، وتوقظ وَسْنان الكيمان، لنشر نسل الحَدَثان، ويظهر مستور الغيب إلى العيان، وتُفصَّل جمله في أوراق الأوقات وصحائف الأزمان، تِنّين الفناء قد ابتلع معظم عمرك وهو في اجترار باقيه، وأنت غافل عن تقضّيه وتناهيه، والموت اجتناء ثمر معانيك من أغصان مبانيك، اجتهد أن لا يجيء المُجتنى وثمارك فجّة ما فيها بلوغ المعرفة، المعارف مياه تنبع من غامض معين الغيب، في منافذ الإلهام، إلى مصبّ القلب، وتُطرح في حوض الحفظ، فتخرج من أنبوب اللسان، ومخارج النطق والبيان، الرجل من يتصرّف في الأشياء ولا تتصرف الأشياء فيه، لا تغفل عن سياقة ماء الشكر إلى غروس الإنعام، فإنك إن غفلت صوَّحتْ رياض الإحسان، الجاهل الغرّ أبداً همّته إلى تصفية زجاجة صورته، وشراب روحه فيها كدر مُرّ مَقِرّ، اللهم سلِّم القلوب من سموم الهموم، بدِرياق الثقة بالرزق المقدور المقسوم، اللهم سلّم النفوس من نفثات سواحر الزخارف، برُقى التقى وعُوَذ المعارف، اللهم لا تعذّب أرواحنا، بهموم أشباحنا، العلوم النافعة، ما كانت للهمم رافعة، وللأهواء قامعة، وللشكوك صارفة دافعة، العلوم النافعة والأعمال الصالحة نسلُ الهمم الشريفة، وذريّة الفِطَن اللطيفة، القلوب العُقم ما لها ذرية الحكمة ولا نسل الفضيلة، لعُنَّةِ الهمّة، وفجاجة الفطنة، وخدَر العزيمة، أرضها سبخة، ما تنعقد فيها حبوب الحكم، ولا تطلع فيها زهرات المعارف والفطن، الأنفاس رُشْحُ ماءِ الحياة من إناء العمر، كلّ نفس رشحة وجذبة. قروض الأرواح تُسترجَع تفاريق إلى أن تُستوفى الجملة: أرواحُنا عندنا قُروضٌ ... والموتُ قد جَدَّ في التَّقاضي لا بُدَّ من رَدِّ ما اقْترضْنا ... كلُّ لبيبٍ بذاك راضِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 النفس الزكية زينتها نزاهتها، وعافيتها عفّتها، وجمالها جودُها، ورداؤها رِفْدُها، وطيلسانها إحسانها، وطهارتها ورعها، وغناها ثقتها بمولاها، وعلمها بأنه لا ينساها، وأنت يا طفا الهمة، من لم يُشرَّف بالخدمة، سرورك غرورك، فرحك فخُّك، مالك مالكك، غُلُّك بخلك، كَبْلك كِبرُك، شكوكك زبانيتك، همومك هاويتك، سلاسلك وساوسك، زينتك رعونتك، جمالك فتنتك، عافيتك آفتك، حرصك حبسُك، سَجّاتك نفسُك، قيدك إِلْفُك، إذا كان معك فمن تخاف، إذا كان عليك فمن ترجو، أعطيت الطبع للتوليد، والقلب للتوحيد، اللهم أنِر مصابيح أفهامنا بأنوار البيان، المُفضي بنا إلى الكشف والعيان، اللهم اجعلنا ممن جذبته يد العناية من أغوار الغرور، وأخرجته من أسراب الأسباب، وظلم الارتياب، اللهم اصرف ذكر الخلق عن ألسنتنا، وأخرج وساوس الدنيا عن قلوبنا، اللهم اجعل قلوبنا مقبلة بنور التوفيق عليك، منصرفةً عما سواك إليك، اجعل جوارحنا منقادةً بأزمّةِ العلم والتقوى، في كلّ ما تحبّ وترضى، من عرف نعمة المهلة لم يصرفها في غير الخدمة، المهلة إرخاء عنان الأجل، لإصلاح الخلل، وأنت في ظلمة الأمل، المؤمن يأمر وينهى للسياسة فيُصلح، والمنافق يأمر وينهى للرياسة فيفسد، بلغ بهم صفاء النظر إلى أن صارت لذّتهم في مراد الله فيهم، وأنت يثير عليك همومك، فَوات حظوظك. ما أحوجك إلى نار الخشية لتذيب جماديّة فهمك، اللهم نزِّه عِراص القلوب من أدناس الرذائل، أطِف بها حماة التقوى وحُفّاظ الفضائل، اللهم رَوِّح كُرَب الهموم بهبوب نسيم ذِكرك، إلى متى هذا التمسُّك بما يفارقك، اسبِقه إلى المفارقة، أفي عقلك عن تأمُّل أمرك خَبَل، أم في إيمانك بالموعود خلل، اللهم سلّم صحّة أرواح أدياننا، من لَسَعَات هوامِّ أهوائنا، ولسبات عقارب العلائق لقلوبنا، اقطع عنا حُمَة حرصنا، على عاجل حظوظنا، الحرص نار محرقة لشجرة حريتك، صدأٌ يعلو مرآة رأيك، دنسٌ يُغَشّي جِلباب جمالك، يا غافل، بيدر عمرك يُكال بمكاييل أنفاسك المتتابعة المتوالية، وتُرفع إلى خزانة الجنّة حبوب أعمالك الصالحة الطيبة، وتُلقى في أتون الجحيم أدغال أعمالك الخبيثة السيئة، يا أطيار الفتنة أقلعي عن مساقط أغصان الغفلة، كيلا تقتنصك جوارح الجهالة، فتنشبي في مخلب عُقاب العِقاب، يوم المآب، طيور الأرواح الجاهلة لا تزال تسرح في أودية إهمالها وتوانيها، وتُقلَّب في جوّ جهالتها أجنحة آمالها وأمانيها، وصياد المنيّة بين أيديها قد نصب الحبائل لوقوعها، يا طير الهمة اخرُق بجؤجؤ همّتك، حُجُب جهالتك، وحوائل حيرتك، اخرج من حصر شركة شبحك، إلى عالم سرورك وفرحك، ألِفْتَ الشِّباك، فحصلت في الحيرة والارتباك، أما علمت أنّ مِن حبِّ الأشراك، ينشأ شوك الشكّ والإشراك، ويعلوك كلّ دنس ويغشاك، ترقَّ يا طير الفتنة بأجنحة معرفتك، عن أرض مخافتك، ووحشة بلاد غربتك، إلى سماء أمنك، ومأنس وطنك، تعلَّ عن محلّ ذُلّك وفقرك، إلى منزل غِناك وعزّك، احذر أن تخرج من برج بدنك، ومحملة صورتك، وقفص شخصك، وأنت جاهل بطريق بلاد الغيب، اجْلُ قبل الخروج عين فهمك من رمد الريب، المَح بيتك الأصلي، اقصِد وكرك الأوّلي الحقيقي، انصرف عن بيتك المجازي العرَضي، احترِز في طريقك أن تنزل على هرادي الهوى، احذر قَصَبَات دِبْق حبّ الدنيا، قصباتك محبوباتك، دِبقك مألوفاتك، لا تكن كالعصفور المغرور، أراد أن يسلب الفخّ حبّته، فسلبه الفخّ مُهجته، أو السمكة أرادت أن تبلع طُعم الصياد فابتلعها الصياد، يا هدهد الهمة هزّ قوادم العزيمة، حرِّك خوافي البصيرة، ترقَّ في جو الجمعية، اعْلُ عن أرض التفرقة، إلى سماء الحقيقة، ارجع بخبر بلاد الغيب إلى عالم الشهادة، انزل برج قلبك، القِ كتاب خُبْرِك، إلى خبراء إخوانك، ليفهموا ما في بيانك، ويقفوا على سرّ عِرفانك، اللهم ثبّت أقدام أدياننا على سَنَن العفّة والورع، ألبِسنا جلباب الصيانة والنزاهة عن الهوى المتَّبع، زيِّن قلوبنا بزينة اعتقاد الحق، حَلِّ ألسنتنا برونق قول الصدق، اجعل جواهر عقائدنا منظومة في سلك الكتاب والسنة، محفوظة بحُسن متابعة السلف الصالح أعلام الأمة، متى تُفيق العين من تَعاشيها، فتشاهد عِياناً تَلاشيها، فتلوي ناظرَ رغبتها عن سراب آرابها وأمانيها، ترى الزخرف اللمّاع الخدّاع الفتّان، والمناظر الوِضاء الحِسان، وأشباح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 الإنس وأرواح الجانّ، سراباً يترقرق في قِيعان الحَدَثان، ويُسمع من جوّ الجَنان، هاجس الإلهام يقول بلسان العِرفان: وأرواح الجانّ، سراباً يترقرق في قِيعان الحَدَثان، ويُسمع من جوّ الجَنان، هاجس الإلهام يقول بلسان العِرفان: وفي تأمُّلِهمْ معنىً يقومُ بهمْ ... وفي تخَيُّلِهمْ للعين ألوانُ فإنْ نظرتَ فأشكالٌ مُعَدَّدةٌ ... وإنْ تأمَّلتَ لا إنْسٌ ولا جانُ يا مَن أُخرج حيُّ وجوده من ميّت عدمه، وجُمعت متفرِّقات ذرّاته في مَجْمَع صورته، لا تغفل عن شكر الصانع، وسرعة استرجاع الودائع، يا ميّتاً نُشِر من قبر العدم، بحُكم الجود والكرم، لا تنس سوالف العهود والذِّمَم، اللهم طهّر جوارحنا من لُوَث الآثام، ولطخات الخطايا والإجرام، سلِّم قلوبنا من الافتتان، بخيال زخارف الألوان، والاغترار بلَموع سراب الأسباب، في صحراء الحدَثان، الذي يبخل بمواساة الفقراء، ولا يدفع ضرر الاحتياج عن الضعفاء، كمن يبخل بالدواء على المرضى، وكالطبيب القاسي القلب على أهل البلوى، كان عمر رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم اجعل الخير في خِيارنا، ليعودوا به على ذوي الحاجة منا، توفُّر الدواعي على المساعي الدنياوية، والأمور البدنية، مُضرٌّ بالأحوال القلبية، طُوبى لمن أَنِس بما لا يفارقه، واستوحش مما لا يدوم له، يا من تعاظم في نفسه، وتكبّر على أبناء جنسه، حين ساعده الزمان، وساعفتْه القدرة والإمكان، هل أنت إلا مُضغة في فم ليث الحِدْثان، وغُثاء يجري بك سيلُ الزمان، احذر أن تنكسر بيضة الصورة، وما انعقد فرخُ الفِطرة، ولا درات فيه روح المعرفة، فتخرج إلى عَرْصَة العَرَض عادماً لروح السعادة، فاقداً لحياة الفوز في الدار الآخرة، هذِّبوا القلوب، تحنّ إلى الغيوب، اللهم أطلق أسر الأرواح، من سجون هموم الأشباح، صُنها عن التدنُّس بممازجات الأمور الدنيّة، أعطِها لَهَجَاً بالأمور الشريفة العليّة، صَفِّ الأبصار، عن غبار الأغيار، والنظر إلى أهل الغفلة والاغترار، الغرقى بحُكم البحر، لا البحر بحُكمهم، فأنّى لهم النجاة من سَطَوَاتِ قهره بحَولهم وقوتهم، وجِدّهم وجهدهم، قوة الرغبة في الدنيا علامة ضعفها في الآخرة، من شَرُفت همته شرفتْ رغبته، وعزّت طَلِبَته، البواطن حواضن، لما فيها من المساوي والمحاسن، اللهم شرِّف جوارحنا بخدمتك، اخلع عليها العصمة عن معصيتك، قرِّب أرواحنا من جَناب اجتبائك، صَفِّها بمُصافاة اصطفائك، حلِّها بحِلية أوليائك، أعطها فهماً ثاقباً ونظراً خارقاً لحُجب الغفلة عن جلالك وكبريائك، اللهم ارزقنا يقظةً عقلية، وانتباهةً قلبيّة، نخرج بها من أضغاث أحلام الأماني ومنام الأوهام، وظلام ليل الغفلة والنسيان، إلى ضياء نهار الكشف والعيان، اللذة العقلية هي التي يجدها العقلاء في عواقب صبرهم على المكاره، إلهي، الرجاء لغيرك خيبة، والخوف من غيرك شِرك، والالتفات إلى من سواك غفلة، والأُنس بمن دونك وحشة، إلهي، أضِجُّ إليك مما يقطع عنك، وأسترسِل لفِعلك إذا صدر منك، وأدأب في الطلب خوفاً من فوات المقصود، وأتناهى في الحيرة إذا فكّرتُ في شَرَك خلقك، العالم كالدوحة قشورها الأراذل، وثمارها الأفاضل، ماذا الرَّوَغان يا ثعالب المطامع، عن أسود الآجال القواطع، روغانك عنها ليس بمُنجٍ منها ولا دافع، ولا مُجدٍ ولا مانع، إن أردت دوام السرور والابتهاج، فكن منحرفاً عن منهاج الغضب واللجاج، معرضاً عن طريق الحرص والطمع المؤدي إلى القلق والانزعاج، استعد لجروح الغفلة مراهم الادِّكار، ولخَرْق حُجُب البلادة مُدى الأفكار، الغفلة عن الله ميراث الجهل بالله، أظلمُ الحجُب الحائلة بينك وبين ربّك نفسك، تعصيه في طاعتها، وتُسخطُه في مرضاتها. فصل في ذم الدنيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 الدنيا منزلٌ رَجّافُ الأرجاء، منهار البناء، مَخُوف الفِناء، محفوفٌ بالفناء، مملوء بالعناء، محشوٌّ بالعِلل والأدواء، موردٌ كثير الشوائب والأقذاء، مع كلِّ مسرّة، مساءةٌ ومضرّة، مع كل أمنية، همٌّ وبليّة، ونزول منيّة، مولاي، يدُ فاقتي تقرع باب فضلك، وحال مسكنتي تستنزل من سماء كرمك مدد إحسانك، ومزيدَ بِرِّك، المِسك يُخبر عن نفسه، خفاء عيب الإنسان عليه، أشد عيوبه لديه، اللهم اكشف عن مصابيح الأفهام، حجُبَ الظنون والأوهام، إلهي أطلِق قلبي من أسر الشواغل، ومحابس الاغترار بالأمر الزائل، إيّاك وما يحرف مزاج الفطرة عن الصحة، وهو الخروج عن حِميَة الوحدة، وسلامة الخلوة، إلى تخليط المخالطة، فإنها تَحْدُث منها للقلب أمزجة رديّة مضرّة بصحة فطرته، مفسدة لنظام سلامة أحواله، أقرب الأسباب إلى نيل المطلوب، جمع الهمِّ في طلبه، واتحاد القلب بذِكره، الكون كلّه فمٌ لسانُه الحكمة، الكون بحر، السماء ضحضاحُه، وارض ساحله، ومرسى مراكب عجائبه، ومجمع سفن بدائعه، والأقضية والأقدار سفّارة، والخليقة سيّارة، تبدو كل حين تنتشر من بلاد صين سرِّ القدَر، في مراكب القُدَر، إلى ساحل عالم الصوَر، وحدود دار البشر وتُظهَر وتُنشَر لو قيل لي: ما تصنع؟ لقلت أُداري عليلي إلى أن يبرأ، وبُرؤه موته، وسُقمه حياته، أعالج عللي وأسقامي، بكواذب ظنوني وأوهامي، فلا العلاج ينجع، ولا السقيم ينتفع، أداوي كلوم أحوالي، بصبري إلى حين انفصالي، أُلاطف أسقام أفهام أشكالي باحتمالي أذاهم، وأُداري علل أخلاقهم ولا أطمع في البُرء من بلواي وبلواهم، لا تفتح باب خزانة قلبك فتعرِّض ما أعددته فيها من ذخائرك لآخرتك لنهّابة الهوى، حصِّنها بحصن الورع والتقوى، اللهم إني أسألك لذّة غير مُدركة بعلاقة حِسٍّ، ولا رجم حَدْس، أسألك غُنيَةً عن المَدارك الحسيّة، والعلائق الوهميّة، الصداقة عداوةٌ إلاّ ما داريْت، والوُصلة قطيعةٌ إلا ما صافيت، والنعمة حسرةٌ إلا ما واسيْت، المحاسن الشخصية معاثر أقدام همم الغافلين، وهي لأرباب البصائر منابر عليها خطباء الصنع، تخاطب ألبابها بألسنة دلالاتها، وعبارات عِبرتها، صلاح حال القلب أن يكون أبداً بين مزعجات وعيده، ومسكِّنات وعده، المكاره والأذايا كالمحاجِم، تُخرج من النفوس فضولَ أدواء الأهواء والمآثم، النفوس الشريفة العارفة تعبر بمراكب معارفها، وجواري سفن أفكارها، وهبوب رياح عزائمها، بحر عالم الدنيا بسفينة الزهد فيها، وصدق اللَّجَأِ إلى ربّها، في السلامة من عطبها، فمن لم يُهيِّئ سفينة نجاته ويُعدَّ فيها زاد آخرته من أعماله الصالحة، وحان وقت العبور من دار الغرور، إلى محلّ الغبطة والسرور، وقلبه متَّحد الهمِّ والفكر، بخيالات زخارف عالم الصوَر، مُنغمِس البصيرة في أكدارها، مُنتكِسُ الهمّة في أغوارها، لا يعرف غيرها، ولا يحِنُّ إلى سواها، زَفَرَت عليه أهوال بحر الموت، وغرق في يمّ الهمّ فصار عذابه لازماً، اللهم ألقِ من إكسير كرمك على مَسِّ مَسْكَنتنا، خلِّص بنار مخافتك غِشّ غفَلاتنا، صَفِّ بنور قدسِك شَوْبَ الشُّبَه من جواهر عقود عقائدنا، اجتهادك في طلب الشيء واهتمامك بصيانته، بقدر معرفتك بشرفه، الإنسان كالفَلَك، وقواه المنوطة بباطنه وظاهره كالكواكب، تدور على مركز همّته، ومدار أفعاله وأقواله، على قُطب عقله، ضاع ماء عمرك في خَرَبَان الخُذلان، وغار في غِيران الشقاء والحرمان، أُرْدُدْه إلى رياض طاعات الرحمن، صُنه عن الذهاب في خراب الدنيا، ردَّه إلى عُمران الآخرة، اللهم ارفع القلوب من مهاوي الهموم، إلى ذروة الثقة بك، يا من حياته معلّقة بسِلك نفسه، وموته بانقطاعه، تفكَّر في سرعة فناء مُدَدِه، ونفاد عُدَده، فإنّ ذهابك بذهابه، وانحلال عَقْدِ بقائك بانحلاله، بضاعة عمرك تسترقُها سُرّاق الساعات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 ويختلسها كرور الأنفاس واللحظات، وتنتهبها أيدي الحوادث والآفات، لصوص الفناء لا يمنعها تشييد الفناء، تظنُّك في حصن من طوارق القدر، وهو يجري بك في طرق الحوادث والغِيَر، معاول الساعات تعمل في هدم سور عمرك، كلّ نفسٍ ثُلْمةٌ، وكلّ خَطْرَةٍ فتحة، يدخل منها عدوُّ الردى ولصُّ الفناء، على خزانة جوهر حياتك، وأنت لاهٍ عن ذهاب ذاتك بلذّاتك، الدنيا غابة، أهلها ليوثٌ وثّابة، من صحا عقله من سُكر هواه وجهله، احترق بنار الندم والخجل من مهابة نظر ربه، وتنكَّرتْ صورة حاله في عينه، لا تضع قلم فهمك وتأمُّلك عن يد عقلك، انقُل به إلى لوح روحك أمثلةَ المعارف والفضائل، من ألواح العبر والدلائل، المعرفة تملأ القلب مهابةً ومخافة، والعين عبرة وعَبرة، والوجه حَياءً وخَجلة، والصدرَ خشوعاً وحُرمة، والجوارحَ استكانةً وذلّةً، وطاعةً وخدمة، واللسانَ ذِكراً وحمداً، والسمع إصغاءً وتفهُّماً، والخواطرَ في موقف المناجاة خموداً والوساوس اضمحلالاً، الجهلُ ظُلمةُ ظِلِّ الطبع، الخواصّ يشربون من معين المعاني، والعوامّ من وسخ الأواني، إن قعدتَ على رأس المعدن تنتظر خروج جواهره إليك من غير استخراج، فداءُ جهلك مُعضلٌ ماله من علاج، لا تُنال حلاوة الظفر، إلاّ بعد مرارة الخطر، يا غافل، قعدتَ على الساحل تلتقط من حَصَيَاته، وتلهج بأصداف حيواناته، وتقنع بزبده للسلامة من خطره، السواحل للنِّسوان والأطفال، واللُّجج للرجال والأبطال، السواحل لطُلاّب سلامة المباني، واللُّجج لطُلاّب سلامة المعاني، البحر للصوَر غَرَق، وللمعاني نجاة، غَوْصُ الهمم والبصائر في طلب هذه الجواهر، عروجٌ وصعود، في صورة نزول وهبوط، ما عرفتَ من هذا البحر غير ملوحة مائه، واضطراب أمواجه، ودواعي أهوائه، ولا رأيت منه غير زبدِه وجُفائه، في أطرافه وأرجائه، وكلُّها إنّما هي أستارٌ وحجُبٌ على نفائس جواهره، حُجِبَتْ بها لعزّتها، لكيلا ينالها غيرُ أهلها، لولا غوّاص الفطرة النيِّرة عليها، ما ظهر شرفها، ولا وصل أحدٌ إليها، للغوّاص حذرٌ على صورته، وطمأنينة إلى الظفر بمقصوده، البحر الأُجاج تُستخرَج منه حِلية الأجسام، والعذبُ الفرات تستخرج منه حِلية الأفهام، إذا هاب الغوّاصُ هول بحره، لم يظفر بجوهره ودره، الوردُ يزحم الشوك في طريقه، فإذا ظهر وخرج من زحمته، دعا بلسان حُسنه وجماله، وإشارة خاصيّته وكماله، إلى فصله عنه وإبعاده منه، كدلك وردة الروح العارفة إذا فتحت عين معرفتها، فرأت أشواك المنشأ حولها، وأدغال الطِّباع مُكتنفةً بها، انجذبت بشرف ذاتها عنها، واجتهدت في الخلاص منها، البدن مجموع أعضاءٍ وقوى، والنفس مجموع حظوظ ومُنى، والقلبُ مجموع معارف وتقوى، الصدق رَوْنَق وَجْهِ القصد، وصفاء ماء مُحيّا الهمّة، في الإقبال على الربوبية، سبحان مُوسِّع عَرَصَة الزمان، لانتشار نَسْلِ الحِدْثان، وإظهار مُخْفِيات العيب إلى العِيان، الأقضية والأقدار حوامل، تضع في وعاء الكون حمل الحوادث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 ونسل الكوائن، عفّة الأطراف وصيانة الأعطاف، نزاهة الأوصاف من النزاع والخلاف، من شيم الشّراف، وسجايا الكرام الظِّراف، مهابو العبد لمولاه، تصرفه عمّا يكرهه إلى ما يرضاه، المؤمن قوي القلب باليقين والتقوى، لا تُعجزه مقاومة عدوِّ الهوى، معه جرأة الإيمان، ونجدة العرفان، يسطو بها على جنود الشيطان، كما أخبر عنهم الرحمن، إن عبادي ليس لك عليهم سلطان، أيها الفقير البائس، اشكُر المُتصدق عليك بإجراء نسيم أنفاسك، وبعثِها من خفايا باطنك، ومُستَكَنّات ذرّات ذاتك، عظِّم المُنعِم عليك بتجديد رثائث أثواب حياتك، في سائر ساعاتك، رَبِّ صُنْ وجه حالي، عن البِذلة إلى أشكالي، وفّقني إلى الصواب في أقوالي، والإخلاص في أعمالي، أنِلْني من مزيد فضلك ما لم يخطر ببالي، وما يُوفي على نهاية مجرى أقوالي، وغاية مرمى آمالي، سهِّل سبيلي، فقد أزِف رحيلي، إلى مَقيلي ومآلي، أما تأنس إلى ربّك بآثار صُنعه فيك، أما تخافه لقدرته عليك، أما تشكره لدوام مدد أياديه المتواصلة إليك، اللهم افتح أبواب فهومنا بمفاتيح التوفيق، اهدِنا محجّة التحقيق، وأرشِدنا أقرب الطريق، إلى المنهل الرَّوِيّ والمنزل البهيّ الأنيق، اللهم أجرِ رياح لقاح الأرواح، أظهِر ثمار خصائصها من أشجار الأشباح، حياة أهل الآخرة صافية من شوائب الوسائط الكَدِرة، يُؤثرها ذوو البصائر النيِّرة، والنفوس الخيِّرة، إلهي أسألك أُنساً بلا وحشة وعيشاً بغير كُلفة، وقلباً بلا غفلة، وحضوراً بلا غيبة، وعلماً بلا شُبهة، أسألك قلباً لعزّتك خاشعاً، ولعظمتك خاضعاً، ويقيناً للشكوك صارفاً دافعاً، وخوفاً عن المناهي رادعاً، وللأهواء قامعاً، وصدراً من هموم الدنيا خالياً، وفهماً للفوائد واعياً، اللهم ألهمني تأمُّل مسطور صُنعك في لوح شبحي، وتفهُّم مرقوم قلم حكمتك الجاري بمشيئتك، على صحيفة وجودي وصفحات باطني وظاهري، أُعجوبة فطرتك محجوبةٌ بحجُب عُجْبِك ورعونتك، ارفَع عنها الحجاب، ترَ الأمر العُجاب، الدنيا كالحيّة تجمع في أنيابها، سموم نوائبها، وتُفرِغُها في صميم قلوب أبنائها، الأوقات كالمَبارد، تأخذ منا ما ليس إلينا بعائد، الوقت كالمِبرَد يحلِّل أجزاء الأعمار، والقلوب في سكرة الغفلة والاغترار، اللهم ارفع القلوب من هُويّ الهوى إلى ذرى الهدى، وقُلَلِ التقى، نجِّها من ملاعب أمواج هموم الدنيا، وتيّار بحار الآمال والمُنى، الأمانيُّ عُلالات نفوس المحرومين، وخيالات أحلام غفلة المستيقظين، الحرية في ترك الأمنيّة، الحرية في الغنى عن البريّة، والتنزُّه عن اللذّات البدنيّة، والترفُّع عن أدناس الأمور الدنيّة، وارتقاء الهمّة إلى ذُرى الفضائل العلميّة والعمليّة، نِعَمُ الكرام تبعثهم على الإحسان، ونعم اللئام تحدوهم على الطغيان، وركوب العصيان، صفاء القلوب من أدخنة خيالات أماني النفوس، يحصل بسدّ منافذ أبخرة وساوسها، المتصاعدة من موقد نار شهوتها وغضبها، أبلغ الكلام ما ألان حدائد الأفهام، وأجرى جوامد الأذهان، بماء حياة العرفان، اللهم أغنِنا بالرِّضا بما قسمتَ لنا، اجعل الثقة بكرمك ذُخرنا وعمدتنا، والسكونَ إلى وعدك عدَّتنا، رغِّبنا فيما عندك، زهِّدنا فيما عندنا، لا تقطع نسيم أُنس ذِكرك عن قلوبنا وألسنتنا، شرِّف بخدمتك خَدَمَ جوارحنا، مَن سكن قلبُه إلى السكَنِ والخليل، انزعجَ لفقده الانزعاج الطويل، من قلَّ ابتهاجه في المنزل والمقيل، قلَّ انزعاجه عند الظَّعن والرحيل، رؤية نفسك في بذلِك، أضرُّ عليك من بُخلك، اللهم اكفِنا بالكَفاف آفة الإسراف، الموجب للنزاع والخلاف، وعدم الالتئام والائتلاف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 المؤدي إلى الإضرار والإتلاف، أشرف الكلام ما شَرُفت معانيه، ورقَّت حجب عبارته وصحَّت مبانيه، العبادات كالأواني تغرف بها من معين المعاني، ما كلُّ إناء شَفّاف، يحكي ما وراءه من المعاني اللِّطاف، كلامُ الفضلاء، إنما يعذب في مسامع الفقهاء، لا تَشِنْ وَجْهَ مقالتك بكلف التكلّف، ولا تُثَقِّل روح كلامك بهُجنة التعسُّف، كلّما ثَقُل روح الكلام ألغتْه الأسماع ومجَّتْه الأفهام، لا تجعل باب سمعك مدخلاً للغوِ المقال، وفضول القيل والقال، ولا منفذ فهمك مسلكاً لخواطر المحال، ولا صحيفة قلبك معرّضةً لجريان قلم الخيال من غير نظرٍ وتأمّل واستدلال، كلما هبّت رياح الإلهام نفضت أغصان الأذهان، فتساقطت ثمار الفوائد، على أراضي المسامع، ورياض القلوب والأفهام، سبحان من جعل اللسان، تَرْجُمان الجَنان، ومطلعاً لأنوار البيان، لإضاءة نواظر العقول وإنارة مصابيح الأفهام، سبحان من جعل خواصّ عباده تراجمة حكمته، تعبِّر عن أسرارها لخليقته، الألسنة تراجمة القلوب، يبدو منها ما يَرد عليها من واردات الغيوب، القلوب خزائن الحكمة، مفاتيحها الألسنة، لا تدعوا قلوبكم تمضغها أفواه الغفلات، وجوارحكم تمتهنها وتتلاعب بها أيدي الخطايا والزلاّت، فإنها عندكم أمانات ربكم فاحفظوا الأمانات، أما علمت أن الكون كلّه مَمْخَضةٌ أنت زُبدتها، ودوحة أنت ثمرها، وصدقة أنت درّتها، وصورة أنت معناها وحقيقتها، إذا كان ما يفر المرءُ منه نحوه يتقدّم، فسواءٌ عليه أقدم أم أحجم، أوهى عقده أم أبرم، أهمل أمره أم أحكم، نيرانُ الفناء له تُضرم، ولها يُلقى ويُطعم، إذا كان الهارب، في قبضة الطالب، فما الطمع الكاذب والحرص الغالب، لنيل المطالب، ودفع المعاطب، لوالبُ الأقضية بأحوالنا دائرة ومطايا الليالي بنا إلى أجداثنا سائرة، ورُماة الأيام بسِهام المكاره في أهداف قلوبنا راشفة ناشبة، ومُهَجُنا في مضابث ليوث الحوادث واقعة ناشبة، الغفلة سكرة الفكرة، والشرَه آفة العفة، والشهوة مرض الفطرة، والغضب موت العقل، والحِدّة ضغطة قبر الجهل، يا أُولي الفكر والعِبَر، تأمّلوا صقور القدر، كيف تختطف مع لمح البصر، حمائم الأرواح من أقفاص الصور، يا طبيب، رِفقاً بمرضى الهوى، يا مُعافى، عطفاً على المُبتلى، لطفاً بأرباب البلوى، يا حبيب، وَصْلاً فقد دنا الفناء، عِتْقاً من رِقّ الرقيب وطول العناء، يا طبيب، تلطّف بحَسم الداء، فقد استشرى وأعوز الصبر وعزَّ العزاء، شيئان عزيزان، غُربةٌ في الوطن، وخلوة في الزحمة، يا قُطّان دار الحِدثان، وسكّان منازل النوازل والأشجان، ومحلّ الذل والهوان، الرحيلَ الرحيلَ عن هذه الأوطان، فإنها مجامع الفجائع ومنابع الهموم والأحزان، العارفون بجلال المولى غرباء بين الورى، قد جفاهم الأهل والأحبّاء، العقلاء بين الجهّال غرباء كالجواهر بين الحصى، لطائف الملَكوت في عالم الجبروت غرباء، يعرفها الفهماء، وينكرها الأغبياء، يا أنيس الغرباء وجليسَهم في بلاد الأعداء، يسِّر إيابهم، وأحسِن مُنقلَبهم ومآبهم، الرضا سرور القلب بالمقدور، الذِّكر لَهجُ القلب بالمذكور، الفكر إدامة النظر في أسرار الأمور، طوبى لمن أناخ ناقة فاقته بكنَف مولاه، وألقى عن كاهل همّته أثقال همومه بدنياه، وآوى إلى كهف لطفه، وأنام عن رجاء غيره عين أمله، وطرْف رغبته، ما لذي الجناح المُلصَق سراح، ولا لذي القدم المقيَّد براح، القدم المقيَّد، والعضو المُشدَّد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 إذا وَرِمَ تضيَّق الشدُّ وتزيَّد الألم، لزيادة القدم، فإذا انهزل العضو استرخى الشدّ، واتسع القيد لنحافة القدم، ومع الانضمار والانهزال، يتيسَّر الانحلال والخلاص والانفصال، أما لك في سَفْرَة جهلك إلى وطن عقلك إياب، أما لغربة قلبك في بلاد طبعك انقلاب، نعوذ بالله من نفسٍ وهي نظام مصالحها، وغشَّى ظلامُ أهوائها وجوه آرائها، في الشيب نزل نذيرُ الفناء بساحتك، وأنت مع راحك وراحتك، خواطر القلوب، بُروق غمائم الغيوب، الأفعال تراجم هِمَم الرجال، تُنبِّئ عن وصف النقص والكمال، إذا صحّت الأبدان، ونَظُفَت من الأدران، زانَتْها الملابس الحِسان، وإذا صحَّت العقول من عِلل الهوى، وأمراض حبّ الدنيا، زانَها العلم والتقوى، رحم الله عبداً خطر بباله، خطرُ مآله، فأصلح خلل أعماله، قبل عرضه وسؤاله، القلوب تنقبِض عن البخيل، لانقباض رغبته في الثواب الجزيل، والثناء الجميل، إلهي أسألك قلباً حُرّاً لا تستعبده الأماني، ولا يشغله عن طلب الباقي طلب الفاني، وعزماً في الخير ماضياً لا تقطعه عوارض الفُتور والتَّواني، من علم أنّ المركّبات في ذواتها ذواتُ نهاية، لم يلق في رُوعه رَوْعَاً من الموت اللهم اكفني غائلة إهمالي، واغتراري بطول إمهالي، قِني آفة الفُتور، والنقص والقُصور، في أقوالي وأعمالي، بحالي ومآلي، أَرِحْني من كلَف احتيالي، لنيل أربي وآمالي، سلِّمْني من غاوي وهمي وخداع خيالي، إلهي رَوِّ روحي من منبع القُدْس، نعِّمْها في رياض الأُنس، ألهِمها وحشةً من الإنس، طوبى لمن لمع في طَرْفِ فِطرته، قبسُ أُنسِه بربّه، فأفرده عما سواه به، فترنّم حادي وقته، وترجم عن صفته: مَن زَكَتْ نفسُه رأى الزُّهد في الدنيا فيا طِيبَ أَنْفُسِ الزُّهّادِ أفردتْهُ النَّفسُ النَّفيسةُ في النا ... سِ فيا بُعدَ هِمّة الافرادِ أَكَلَتْه الفضائل الغُرُّ حتى ... ذابَ ذَوْبَ النُّضار في الإيقادِ كلّما ازدادتِ الذُّبالة ضَوْءَا ... كان أدنى لها إلى الإخمادِ اللهم أحيِنا بروح رضاك عنا، من موت سخطك علينا، إذا استغنيتَ عن الكرام فأنت الكريم، وإذا رجوتَ اللئام فأنت اللئيم، من بلغ مقام التعريف، علم أنّ سرّ التكليف، للتهذيب والتشريف، لا للتعذيب والتعنيف، الزمان كجُبّ الصبّاغ، يُبدي كل أوان، مُختلِفات ألوان، من عزٍّ وهوان، وأفراح وأحزان، وخشونة ولِيان: إنّ الزمان وإن ألا ... نَ لأهله لمُخاشنُ تجري به المُتحركا ... تُ كأنهن سواكنُ إذا نزل على القلب الكسير إكسير التقوى، صفا من كدر الهوى، وارتقى في درجات الهدى، ونال منازل الفوز والزُّلفى، إذا استعدّ جوهرُ القلب، لنزول إكسير نظر الربّ، قَلَبَه من الوصف البهيميّ إلى الملَكيّ، ترديد المواعظ على الفهوم، كتجديد المراهم على الكلوم، الفهوم إذا أُهملت دَثَرَتْ، والجروح إذا تُركت نغَّرَت، حار بعض الطالبين في ليل طلبه، والتبس مسلكه المُفضي به إلى ربه، فرصد نجوم فهومه، وطوالع خواطر علومه، وأوقد مصابيح قرائحه، وسُرُج أفكاره وبصائره، فبينا هو في سيره القاصر، وضوئه الضعيف المتقاصر، إذ بدا بدرُ الدِّراية، من أُفق العناية، بمبادئ أنوار الهداية، فهجر النجمَ والمصباح، وانتظر الإصباح، وارتقب السَّنا الوضّاح، فأسفر له صُبح الأزل، من وراء سدفة ليل الحدث، فتلألأت مرآة استعداده، وتشعشعت مِشكاة فؤاده، بأنوار مُراده، فانجاب عنه حجاب الحوادث، وغاب خيال كلّ كائنٍ حادث، فرمق جَناب الأزليّة، وسمق بهمّته العُلْويّة، إلى قُلّة الرَّبوة الملكوتية، دار القرار، لقلوب الأبرار، والمَعين السَّلْسال في مُروج الوجود المُطلق، فوقع في عين اليقين، وشرب مَعين النعيم، فترنّم طرباً بما نال، وتمثّل تعجُّباً وقال: مَن كانَ في ظلماءِ ليلٍ سارياً ... رَصَدَ النجومَ وأوْقدَ المِصباحا حتى إذا ما البدرُ أشرق نورُه ... ترك السِّراج وراقبَ الإصباحا حتى إذا انجابَ الظلامُ جميعُه ... ورأى الضياءَ بأُفْقِه قد لاحا هجرَ المسارِجَ والكواكب كلَّها ... والبدرَ وارتقبَ السَّنا الوضّاحا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 إفهمْ هُديتَ ففي فؤادك عاذِلٌ ... إنْ لاحَ فيه سَنا الحقيقة لاحى ليصُدّ عنها إنّها غَبَشُ الهوى ... يَغْشَى فِناه فيمنعُ الإيضاحا والعقلُ من غَبَش الخيال عِقالُهُ ... فإن انجلى انحلَّ العُقال فَساحا في مَهْمَهٍ للحقِّ مهما سافرت ... فيه العقولُ أعادها أرواحا في روضِ رِضوانٍ وَنَضْرة نعمةٍ ... نظراً إلى الوجه الكريم مُباحا وفوائد شيخنا محمد الفارقي رحمه الله أكثر من أن تُحصر أو تُختصَر، ووصفه الشيخ أبو المعالي سعد الحظيري الورّاق في آخر مجلّد جمعه في كلامه وقال فيه: شيخٌ قتل الدنيا خُبراً وعلماً، وقبِل منها ما كان خيراً وغُنماً، فركب غارِب الزهد في الزهيد، وارتقب عازب الوعد والوعيد، وقطع لسان دَعاويه، ومنع سلطان عواديه، وقمع شيطان دواعيه، فظهر مخفيُّ الغيب، لمَنفيِّ العيب، فاستجلى ما استحلى من أبكاره، واستصحب ما أصحب مع نِفاره، وحلاّها بأحلى الحُلى، ومال بها إلى المَلا، وخطب بها في الأحياء، وخطب لها الإحياء، وما رقا بها على منبر، بل رقا بها على مَن برّ، فمن استقبل قِبَلها، وتوجّه قِبَلها، رفعته جواذب بلافِكها، إلى مراتب أرائكها، فرأى من كفر النقصُ أنوارَ بيّنته، وأظهر الفحصُ أسرار نيّته، وهان عليه من الدنيا ما هال، وحان لديه من الأخرى ما حال، ومان العائلة، وأمِن الغائلة، واستوجب مِنّة من اقتدى بأنوار حِكَمِه، واهتدى بآثار كَلِمه، أنْ يلقاه حيّاً بالحُرمة، وأن يغشاه مَيْتَاً بالرّحمة، والتوفيق بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. ديار بكر أبو نصر أحمد بن يوسف المنازيّ الكاتب قال أبو المعالي الحَظيري: أنشدتُ له: ولي غلامٌ طال في دِقّةٍ ... كخَطِّ إقليدِسَ لا عَرْضَ لهْ وقد تناهى عقلُه خِفّةً ... فصار كالنُّقطة لا جُزءَ لهْ وله: غزالٌ قَدُّه قدٌّ رَطيبُ ... يَليق به المدائحُ والنَّسيبُ جَهِدْتُ فما أصبتُ رِضاه يوماً ... وقالوا: كلُّ مُجتهدٍ مُصيبُ وله: ومُبْتَسمٍ بثَغرٍ كالأقاحي ... وقد لَبِسَ الدُّجى فَوْقَ الصَّباحِ له وجهٌ يُدِلّ به وَعَيْنٌ ... يُمَرِّضُها فيُسْكِرُ كلَّ صاحِ وَتَثْني عِطفَه خَطَرَاتُ دَلٍّ ... إذا لم تَثْنِه نَشَوَاتُ راح يميلُ مع الوُشاة وأيُّ غُصنٍ ... رطيبٍ لا يميل مع الرياحِ أبو نصر بن الدّندان الآمدي من المتأخرين، سمعت الشيخ الزكيّ البائع يحيى بن نزار البغدادي من كبار الباعة بها يصفه، ويستحسن نظمه ويستطرفه، أنشدني له أبياتاً لطيفةً في الهجاء، غريبةً بليغةً في الطبقة العليا من البلاغة، والمبالغة في المعنى وحسن الصيغة والصِّياغة، وهي: قالوا أتمدَحُ أقواماً وأُمُّهمُ ... مَن قد عَرَفْتَ، فتُطْغيهم بلا سببِ فقلتُ: لا تحرُقوني بالمَلام فما ... أَشْفَقتُ من هَجْوِهمْ إلاّ على نسبي لأن أمَّهمُ ما فاتها أحدٌ ... فخِفتُ من أن يكونوا إخوتي لأبي قلتُ لَعَمْري قد بالغ وأحسن وما قصّر، لكنه نسب والده إلى الخَنا، وقذفه بالزنا، حيث اعتقد أن أباه أبوهم، فلذلك لا يهجوهم، وإذا كانوا إخوته من الأب فقد شاركهم اللؤم لأجل النسب، والشعراء لا يؤاخذون في الهجاء، بأمثال هذه الأشياء. ابن الفضل من أهل آمد من المتأخرين، كنت مع جماعة من أصدقائي الفضلاء، ببغداذ وجرى حديث الشعراء، وأنشد بعضهم منظومات لابن الفضل البغدادي، فقال آخر: كنتُ بآمد ورأيت هناك بعض المتأدّبين يُعرف بابن الفضل، وأنشدني له رباعية وهي في غاية من التجنيس والتطبيق: طَرْفِي الجاني إليكِ قد أَلْجَاني ... حتى جَلَبَ العَنا لقلبي العاني يا جَنّةَ مُهْجتي ويا نيراني ... ما أَسْعَدني فيكِ وما أَشْقَاني الكامل محمد بن جعفر بن بكرون الآمدي أنشدني الشيخ العالم محمد الفارقي سنة إحدى وستين قال: أنشدني محمد بن بكرون لنفسه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 يستعْذِبُ القلبُ منه ما يُعذِّبُهُ ... ويستلِذُّ هَواهُ وهو يُعْطِبُهُ مِثل الفَراشةِ تُدني جسمَها أبداً ... إلى ذُبالةِ مِصباحٍ فتُلْهِبُهُ أبو العز يحيى بن عبد الله بن مالك الفارقي كأنّه حين بَدا مُقْبِلاً ... في خِلَعٍ يَعْجِزُ عن لُبْسها جاريةٌ رَعْنَاءُ قد قَدَّرَتْ ... ثيابَ مَوْلاها على نفسها أبو عبد الله محمد الديار بَكْرِي أنشدني الشيخ العالم محمد بن عبد الملك الفارقي ببغداد سنة إحدى وستين قال: أنشدني أبو عبد الله محمد الديار بكري لنفسه: تَنْهَلُّ عَيْنِي إذا ما نابني فرحٌ ... عَكْسَاً وعند الشَّجا تَفْتَرُّ أسناني إذا الفتى بلغَ العلياء غايتَها ... فطبعُه وطِباعُ الناس ضِدّانِ من يَبْغِ في المجدِ ما لم يَبْغِه أحدٌ ... يَصْبِرُ على مضضٍ من أَزْمِ أَزْمَانِ أبو الفوارس المظفر بن عمر بن سلمان بن السَّمَحان التاجر من أهل آمد، فارس في فنّه مُظفّر، مُصلّي ميدانه عاثرٌ مُعفَّر، شاعر صالح، وتاجر رابح، ذكره السمعاني في المُذَيّل وقال: أحد التجار المعروفين المتميزين، وكان يرجع إلى فضل وأدب ومعرفة بالشعر، ورد بغداد وكنت بها، وما اتفق لي أن أكتب عنه شيئاً من شعره، وسمع منه رفيقنا أبو القاسم علي بن الحسن الدمشقي في توجهه من الجبال إلى بغداد. أنشدنا أبو القاسم علي بن الحسن الحافظ الدمشقي بها، قال أنشدنا أبو الفوارس المظفر بن عمر الآمدي لنفسه بقَرْمِيسين: وَدِدْتُ بأنَّ الدهرَ يَنْظُرُ نَظْرَةً ... بعَينٍ جَلا عنها الغَيابةَ نورُها إلى هذه الدنيا التي قد تخبَّطَتْ ... وجُنَّتْ فساس الناسَ فيها حميرُها فيُنكِرَ ما لا يَرْتَضيه مُحَصِّلٌ ... ويأنفَ أن تُعْزى إليه أمورها فقد أبغضتْ فيها الجسومَ نفوسُها ... مَلالاً وضاقتْ بالقلوب صُدورُها فلله نفسي ما أشدَّ غَرامها ... بليلى وَلوعاً وهي عَفٌّ ضميرها طَوَتْ دُونيَ الأسرار حتى نسيتُها ... فليس إلى يومِ النُّشور نُشورُها وقال السمعاني: وأنشدنا أبو القاسم الدمشقي، أنشدني المظفّر الآمدي بجَلولاء لنفسه: قُل للذين جَفَوْني إذ لَهِجْتُ بهمْ ... دون الأنام وخيرُ القولِ أَصْدَقُهُ أُحبّكم وهَلاكي في مَحبّتكم ... كعابدِ النارِ يَهْوَاها وتحرقُهُ وقال: أنشدنا أبو القاسم الدمشقي، أنشدني المظفر الآمدي لنفسه بخانِقين: وَذِي نِعمةٍ ليست تَليقُ بمِثلِه ... من النِّعَمِ المَغبوطةِ الحسناتِ أقولُ له لمّا قَصَدْتُ جَنابَهُ ... وقصدي جِنابُ اللَّوْمِ من عَثراتي فلم أرَ لي فيه مَقيلاً يُظِلُّني ... ولا مَوْئِلاً يُنْجي من النَّكَباتِ إذا لم يكن فيكُنَّ ظِلٌّ ولا جَنىً ... فَأَبْعدَكُنَّ اللهُ مِن شَجَرَاتِ هذا البيت الأخير مُضمَّن. أبو علي الحسن بن محمد بن أحمد الآمدي من أهل آمد، انتقل منها إلى قرية تعرف ببرفطا من نهر مَلِك، من أعمال بغداذ ذكره أبو سعد السمعاني في كتابه الموسوم بالمذيّل على تاريخ الخطيب، ووصفه بكونه مسنّاً قد جاوز حد المشيب، وقال: لقيتُه وقد ناطح السبعين، والسمعاني كان ببغداد في حدود سنة أربع أو خمس وثلاثين قال: وطبعُه حينئذٍ يجود بالنظم المليح، والشعر الفصيح، وهو فاضل غزير الأدب والفضل، قيِّمٌ بصنعة الشعر، عارف باللغة قال أنشدنا أبو علي الآمدي لنفسه ببرفطا: للهِ دَرُّ حَبيبٍ دارَ في خَلَدي ... بعد الشباب الذي ولَّى ولم يَعُدِ أيّامَ كان لرَيْعان الشباب على ... فَوْدَيَّ نُورٌ، ونارُ الشَّيْبِ لم تَقِدِ وللغِنى والصِّبا خَيلٌ ركضْتُ بها ... في حَلْبَةِ اللَّهْو بين الغَيِّ والرَّشَدِ والآمديّةُ في أنيابها شَنَبٌ ... عَذْبٌ بَرَدْتُ به حَرّاً على كَبدي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 واللهِ لو لم تكن من أَعْظُمٍ خُلِقَتْ ... ما كنت أَحْسِبها إلاّ حَصى بَرَدِ ومن فُتورِ الحَيا في لَحْظِها مرَضٌ ... تُشْفى به الأعيُنُ المَرضى من الرمَدِ شبيهةُ الظبيةِ العَجْماءِ قاتِلتي ... عَمْدَاً، وليس على العَجماءِ من قَوَدِ متى تُحَيّا بلادٌ بالشآم أَقُلْ ... حُيِّيتِ يا آمِدَ السوداءِ مِن بَلَد إنْ أَكْبَدَتْني همومٌ أَمْرَضتْ هِمَمي ... فإنما خُلِقَ الإنسانُ في كَبَد إن كادَني أحدٌ لم أَشْكُ منه، بلى ... أشكو إليه ولا أشكو إلى أحد قال في تاريخه: وأنشدني أبو علي الآمدي لنفسه ببرفطا: مَن هاؤلَيّاء الظِباء العِينُ ... حقّاً فلي شَكٌّ بها ويقينُ وكأنّما تلك الهوادِج فَوْقَها ... صَدَفٌ وهُنّ اللؤلؤُ المَكْنونُ فالحُسْنُ مِن فَوْقَ الرِّحال مُنَضَّدٌ ... والخيلُ من تحت الرِّجال عَرينُ كَحْلَى العيونِ وما اكتحَلْنَ بإثْمِدٍ ... يوماً ولا رَمِدَت لهُنَّ جُفونُ ولقد أغُضُّ الطَّرْفَ يوم يَلوحُ لي ... في الرَّيْطِ من بَرْقِ الجُسومِ غُضونُ من بَعْدِ ما قد لاحَ لي فوق الطُّلى ... أقمارُ لَيْلٍ تَحْتَهُنَّ غُصونُ والقلبُ يرمُقُها بعينِ بَصيرةٍ ... ومن البصائر في القلوبِ عُيونُ ضَنَّت بماعون السلام ولو سَخَتْ ... فكثيرُ ما يَسْخُو به ماعُونُ في لَحْظِها مِن كلِّ غُنْجٍ فَتْرَةٌ ... وفُتورُ لَحْظِ الغانيات فُتونُ ودِيارُ بكرٍ كان لي زمناً بها ... أَبْكَارُ لَهْوٍ تَسْتَفيض وعُونُ لا غَرْوَ أن رُزِقَتْ هَواكِ على الصِّبا ... تلك المَعاقِلُ والقِبابُ الجُونُ يا حبّذا تلك القلاع وحبّذا ... تلك البِقاع وحبّذا ليسونُ هل أنتِ يا بغداذ أحسنُ مَنْظَراً ... أم آمدُ السَّوداء أم جَيْرُونُ عَجَبَاً لطُول الحَيْن كيف يَروقني ... والحَيْن يَجْلِبُه إليّ الحِينُ يا هل تُبَلِّغُني إليها جَسْرَةٌ ... وَجْنَاءُ صادقةُ الوَجيف أمينُ كذا رُوِيَ وأنا أظن أن الصواب أمونُ الكامل أبو المكارم محمد بن الحسين الآمدي أبا حسَنٍ كَفَفْتُ عن التَّقاضي ... بوَعْدك لاعتصابِك بالمِطالِ وَمَنْ ذَمَّ السؤال فلي لسانٌ ... فَصيحٌ دَأْبُه حَمْدُ السُّؤال جزى اللهُ السؤالَ الخيرَ إني ... عَرَفْتُ به مَقاديرَ الرجال أبو طالب إبراهيم بن هبة الله بن علي بن عبد الله بن أحمد بن الحسن الدياري من أهل ديار بكر، كان فقيهاً نبيهاً، محترماً وجيهاً، عفيفاً نظيفاً، ظريفاً لطيفاً، فاضلاً مناظراً، صالحاً، لله ذاكراً، دائم التلاوة للقرآن، كثير الخشية من الرحمن، ذكره السمعاني في كتابه، وأثنى عليه وعلى آدابه، وقال إنه ورد بغداد وأقام بها مدة، وخرج إلى خراسان وأقام ببلخ عند أبي المعالي ابن شهفور، وكان معيد درسه، وتوفي بها في أوائل محرم سنة وثلاثين وخمسمائة، قرأت في تاريخ السمعاني أنشدنا عمر أبي حسن الإمام ببلخ أنشدنا أبو طالب الديار بكري قال: طلبتُ في الحبّ نَيْلَ الوَصْلِ بالخُلَسِ ... فنال هَجْرُك منّي نَيْلَ مُفتَرِسِ فلو تسامحتُ بالشَّكوى إلى أحدٍ ... لفاض دمعي وغاض البحرُ من نفسي وصِرتُ لا أرتضي حُسْناً يُجاوِزُهم ... فأوْرثوني عمىً أَدْهَى من الطَّمَسِ وقرأت في تاريخه: أنشدنا أبو بكر محمد بن علي بن ياسر الجَيّاني ببلخ أنشدنا أبو طالب الدياري لنفسه: إنّي لأذكُر حُسّادي فَأَرْحَمُهُمْ ... لِما يُلاقون من هَمٍّ ومن كُرَبِ أَسْهَرتُهُمْ يذكروني في كآبتهم ... ونِمتُ مِلءَ جُفوني غيرَ مُكتَئِب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 هذا بما رقَدوا عمّا شَرُفْتُ به ... لمّا سَهِرْتُ لهم في سالِف الحِقَبِ أبو العباس الخَضِر بن ثروان بن أحمد بن عبد الله الثعلبي التوماثي، ويقال له الفارقي والجزري. توماثا قرية عند بَرْقَعيد. ولد بالجزيرة، ونشأ بميافارقين، ضرير، له قلب بصير، خَضَريّ الفِراسة، وضيء الفكر في العلم والدراسة، قرأ الأدب على ابن الجواليقي، والنحو على الشريف أبي السعادات ابن الشجري، والفقه على أبي الحسن بن الآبنوسي، هكذا ذكره السمعاني في التاريخ، لما كان ببغداد سكن المسجد المُعلّق، حذاء الباب المعروف بباب النوبي، وكان حافظاً لأصول اللغة عالماً بها، يحفظ شعر الهذليين والمُجمل وأخبار الأصمعي وشعر رؤبة وذي الرمة وغيرهما من المخضرمين من أهل الإسلام والجاهلية، قال السمعاني: صادفته بنيسابور سنة أربع وأربعين وخمسمائة وسألته عن مولده فقال: سنة خمس وخمسمائة بجزيرة ابن عمر وأنشدني لنفسه، إملاءً من حفظه: أنتَ في غَمْرَةِ النعيمِ تعومُ ... لستَ تدري بأنَّ ذا لا يدومُ كم رأينا من الملوك قديماً ... هَمَدوا فالعِظامُ منهم رَميمُ ما رأينا الزمانَ أبقى على شَخصٍ شَقاءً فهل يدوم النعيمُ والغِنى عند أهله مستعارٌ ... فحَميدٌ منهم وبه وذميمُ قال: وأنشدني لنفسه: كَتَبْتُ وقد أَوْدَى البُكاء بمُقلتي ... وقد ذابَ من شوقي إليكم سَوادُها فما وَرَدَتْ لي نَحْوَكمْ من رسالةٍ ... وحقِّكُمُ إلاّ وذاك مِدادُها قال: وأنشدني الخضر بن ثروان لنفسه: لا تَعْجَبوا من نزول الشَّيْب في شَعَري ... فإنه لم يُنازِلني من الكِبَرِ لكنْ رأى مُقلتي قد شابَ ناظِرُها ... فجاءَني ليُعَزّيني على النظرِ قال: وأنشدني لنفسه: ألا هل أتاكم بالعِراق رسائلي ... بأني كثيرُ الأصدقاء وحيدُ ومالي سِوى تَذْكَارِكُم من مُؤانِسٍ ... وإن حال نأيٌ فالقلوب شُهودُ وإنَّ بعاد الأصفياءِ تَواصُلٌ ... وإنَّ وِصالَ الخائنين صُدودُ وكلُّ وِدادٍ لم يكن لخِيانةٍ ... فذاك وإن طال الزمان جَديدُ إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم الطنْزي من أهل طنزة من ديار بكر، ذكر لي الفقيه أحمد بن طُغان البصروي أنه لقيه في شهر رمضان سنة ثمان وستين وخمسمائة بباعَيْناثا وكتب لي بخطه هذه الأبيات ونقلتها من خطه فمنها قوله: وإنّي لمشتاق إلى أرض طَنْزَةٍ ... وإن خانني بعد التفرُّق إخواني سقى الله أرضاً لو ظَفِرْتُ بتُربها ... كَحَلْتُ بها من شدة الشوق أجفاني وقوله على وزن قصيدة القيسراني التي يقول فيها: يا أهلَ بابِلَ أنتم أصلُ بَلْبَالي ... رُدّوا فؤادي على جُثْماني البالي فقال إبراهيم الطنزي : خاطِرْ بقلبك إمّا صَبْوَةُ الغالي ... فيما تُحِبّ وإمّا سَلْوَةُ القالي هذا مَكَرُّ الهوى فاعطِف على نظرٍ ... في بابليَّته هِنْديّ بَلْبَالي من كلِّ ذي هَيَفٍ ترنو لَواحِظُهُ ... إليك من لَهْذَمٍ في صدر عَسّال وقال: يا زاجِراً في حَدْوِه الأيانقا ... رِفْقاً بها تَفْدِيك رُوحي سائقا فقد عَلاها من بُدورِ طَنْزَةٍ ... مَن ضَرَبَ الحُسْنُ له سُرادِقا ومنها: قد سَلَبَ القلوبَ في جَماله ... وشدَّها في خَصْرِه مَناطِقا وحيَّر العقولَ في دَلالِه ... إذْ لَبِسَ التّيجانَ فالقَراطِقا وا وَحْشَتي مِن بَعْدِه لبُعدِه ... ووا شقائي إذ ظلِلتُ عاشِقا قال وذكر أنه كتب إلى سليمان المعرّي الزاهد: أتاني كتابٌ جلا غُمّتي ... وأهدى إليّ جَزيلَ الفوائدْ فَطَوْراً أُقَبِّلُ منه السُّطور ... وطوراً أُعفِّر للتُّرْب ساجدْ لأنتَ سليمان في مُلْكه ... وإن كنتَ بالنُّسك والزُّهد عابدْ الأديب أبو الفضل يحيى بن سلامة بن الحسين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 الحصكفي الخطيب بميافارقين. من المتأخرين بديار بكر من حصن كيفا. وُلِدَ بطنزة وتوفي بحصن كَيفا وأقام بميافارقين. علاّمة الزمان في علمه، ومعريُّ العصر في نثره ونظمه، بل فَضَلَ المعريّ بفضله وفهمه، وبذّ الحريري برقّة طبعه، وقوة سجعه، وجودة شعره، وغزارة أدبه، وانفراده بأسلوبه في الشعر ومذهبه، له الترصيع البديع، والتجنيس النفيس، والتطبيق والتحقيق، واللفظ الجزل الرقيق، والمعنى السهل العميق، والتقسيم المستقيم، والفضل السائر المقيم، والمذهب المُذْهَب، والقول المهذّب، والفهم الشهم، والفكر البكر، والقافية الشافية، كأنها العافية والمعيشة الصافية، والروِيّ الروِيّ، والزند الوري، والخاطر الجريّ، الجامع في الوزن بين درّ الحزن، ودرّ المزن، تود الشِّعرى أنها شِعار شعره، والنثرة أنها نثار نثره، والزُّهرة أنها كوكب سمائه، والمشتري أنه مشتري ثنائه، غَنِيَت الغانيات عن قلائدهن بفرائده، وأحبّت الخصور أن توشَّح عوض مناطقها بدرّ مَنْطِقه، وحسدت عيون الغواني عيون معانيه، وغبطت أحداق الحسان أحداق محاسنه وحدائق قوافيه، ما فارق ميا فارقين، بل كان منزله محطَّ رحال المسترشدين المستفيدين، وكنت أحب لقاءَه، وأحدّث نفسي عند وصولي إلى الموصل في شرخ عمري وأنا شَعِف بالاستفادة، كَلِفٌ بمجالسة الفضلاء للاستزادة، فعاق دون لقائه بُعد الشقّة، وضعفي عن تحمل المشقّة، وكنت مع صغري كبير الهمة كثير الاهتمام، بإثبات أبيات تُنشد، وتطلُّب ضالة فاضل تُنشد، أُوثر سماع ما يُؤثر عنهم رواية، وأختار كتب ما أستحسنه حديثاً ونظماً وحكاية، فأحسن ما أثبتُّه من أشعار المُحدَثين، وأغربُ ما تلفَّقتُه من نظم المحدِّثين، مقطَّعة للحصكفي غريبة، مبتكرة معناها عجيبة، في وصف الخمر، أرق منها وأصفى، وآنَق وأضفى، وما سبقه أحد إلى هذا المعنى وهو: شَرُفت عن مخرج الحَدَث والمقطوعة هي: وخَليعٍ بِتُّ أَعْذُلُهُ ... ويرى عَذْلِي من العَبَثِ قلتُ: إنّ الخمرَ مَخْبَثةٌ ... قال: حاشاها من الخبَثِ قلتُ فالأرفاثُ تَتْبَعها ... قال: طِيبُ العَيش في الرَّفَثِ قلتُ: منها القيء قال: نعم ... شَرُفَتْ عن مَخْرَج الحَدَثِ وسأسْلوها، فقلت: متى ... قال عند الكَونِ في الجَدَثِ سمعتُها من غير واحد من الفضلاء والكبراء ببغداد والموصل وواسط وأصفهان، وقد صَقَلَتها الألسنة بالاستحسان، وسجّلوا لصاحبها بالفضل والبيان، وما فيهم إلاّ من أثنى عليه، ونسبها إليه. وأنشدني بعض الأفاضل الفضلاء ببغداد ليحيى الحصكفي خمسة أبيات، كالخمسة السيّارات، مستحسناتٍ، مطبوعات، مصنوعات، وهي: أشكو إلى الله من نارَيْن، واحدة ... في وَجْنَتيْه وأخرى منه في كَبِدي ومِن سَقامَيْن: سُقْم قد أحلَّ دمي ... من الجُفون وسُقم حَلَّ في جَسدي ومِن نَمُومَيْن: دمعي حين أذكُره ... يُذيعُ سِرّي، وواشٍ منه بالرَّصَد ومن ضعيفين: صَبْرِي حين أذكره ... وودّه، ويراه الناسُ طَوْعَ يدي مُهَفْهفٌ رقّ حتى قلتُ من عَجَبٍ ... أَخْصَرُه خِنْصَري أم جِلْدُه جَلَدي وأنشدني الفقيه عبد الوهاب الدمشقي الحنفي ببغداد سنة خمسين وخمسمائة قال: أنشدني الخطيب يحيى بن سلامة بميّافارقين لنفسه، من قصيدة شيعية شائعة، رائقة رائعة، أولها: حَنَّتْ فَأَذْكتْ لَوْعَتي حَنينا ... أشكو من البَيْن وتشكو البَيْنا ومنها في مدح أهل البيت عليهم السلام: يا خائفاً عليَّ أسبابَ الرَّدى ... أما عَرَفْتَ حِصنيَ الحَصينا إنّي جعلتُ في الخطوبِ مَوْئِلي ... محمداً والأنْزَع البَطينا سُبْل النجاة والمُناجاةِ ومَن ... آوى إلى الفُلك وطورِ سِينا سِجنُكمُ سِجِّين إنْ لم تحفظوا ... عَلِيَّنا دَليلَ عِلِّيّينا وله من قصيدة قصد فيها التجنيس الظريف، اللطيف الطريف، الذي لو كان البُسْتيّ في زمانه أقرّ بأنه عبد بيانه، ومُصَلّي ميدانه، وهي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 أَلَبَّ داعي الهوى وَهْنَاً فلَبّاها ... قلبٌ أتاها ولولا ذِكرُها تاها تَلَتْ علينا ثناياها سُطورَ هوىً ... لم نَنْسَها مُذْ وَعَيْناها وَعَيْناها وعَرَّفْتنا معانيها التي بَهَرَتْ ... سُبْلَ الغرام فَهِمْنا إذ فَهِمْناها عِفْتُ الأَثام وما تحت اللِّثامِ لها ... وما اسْتَبَحْتُ حِماها بل حُمَيّاها يا طالبَ الحُبّ مَهْلاً إنّ مَطْلَبه ... يُنسي بأكثره اللاهي به اللهَ ولا تَمَنَّ أُموراً غِبُّها عَطَبٌ ... فَرُبَّ نفسٍ مُناها في مَناياها فَأَنْفَعُ العُدَد التقوى وأرْفَعُها ... لأَنْفُسٍ إن وَضَعْناها أَضَعْناها وله بيتان كأنهما درّتان أو كوكبان دريّان وهما: ما لِطَرْفي وما لذا السَّهر الدا ... ئم فيه وما لليلى وَلَيْلي هَجرتْني وفاز بالوَصْل أقْوا ... مٌ فطُوبى لواصِليها وَوَيْلي وأنشدني بعض الأصدقاء له من أول كلمة: هل من سبيلٍ إلى ريق المُريقِ دَمي ... فليس يَشْفِي سِوى ذاك اللّمى ألَمي والتمست من ولد الأجَلِّ العالم مؤيد الدين سديد الدولة ابن الأنباري كاتب الإنشاء في ديوان الخلافة المعظمة ما جمعه من إنشاء فضلاء الزَّمان في والده لأنقل منه ما يستظرفه العقل، ويستحسن في نَقده النَّقل، فاعتذر بأن المجموع في خَزْن الوالد، وبعث أَدْرُجاً مشتملة على شيء من الرسائل والقصائد، ومن جملتها كتابٌ بخطّ الحَصْكَفِيّ إليه نظماً ونثرا، كأنه الوَشيُ المُدَبَّج، والرَّوض المُبهِج، والدّيباج الخُسروانيّ رونقاً وجمالاً، والعَضْبُ الهُنْدُوانيّ فِرِنْداً وصِقالاً، يجمع دُرَّ النِّظام، ودَرَّ الغمام، ودراريّ الظَّلام، في سِلْك الكلام، وتُعرِبُ عربيَّتُه عن الغريزة، والرَّويَّة الرَّوِيّة، والذكاء الذَّكيّ، والبيان الوائليّ والخاطر الخطير، والفضل الكثير، والحِكَم المُحكَمة، والفصاحة المُفْحِمَة، بحروف للظَّرف ظُروف، ومَعانٍ لِلُّطْف مَغانٍ، وفُصولٍ للحسن فُصوص، وكلماتٍ عِذابٍ جَزْلَةٍ، كلِمّاتِ عَذارى جَثْلَةٍ، وألفاظٍ ساحرة، كألحاظٍ فاترة، فحملني الشَّعَفُ بآدابه، وحَداني الاكتياب بكتابه، على إثباته، قبل فَواته، ونسج فصوله وأبياته، فأوردْتُ جميع الرِّسالة، لما تحويه من المتانة والجزالة، ونسخة كتاب الحصكفيّ: سلامٌ كأنفاس الرِّياضِ يَشوبُها ... قَسيمةُ عِطرٍ تحتَ قَطرٍ يَصونُها يجُرُّ النَّسيمُ الرَّطْبُ فيها ذُيولَهُ ... جزاءً بما زُرَّتْ عليه جُيوبُها ويَخطِرُ في وادي الخُزامَى مُضَمَّناً ... أزاهيرَ منه قد تضاعفَ طِيبُها فبالعَرْفِ من دارِيْنَ عن نفَحاته ... حديثٌ إذا الأرواحُ نَمَّ هُبوبُها على المجلس السّامي السَّديديّ إنَّني ... لَرَاوي مَزايا مَجده وخطيبُها على مَجلسٍ تَهوى النُّفوسُ لِقاءَه ... وتهوي إليه صابِياتٍ قلوبُها بحيث العُلى تُحْمَى وتُمْنَعُ واللُّهى ... تُذالُ وسوقُ الفضل تُجْلى ضُروبُها مجلسُ يتبلَّجُ صباحُه، ويَتَّقِدُ مِصباحه، عن خِلالٍ يحكُمُ لها بالخَصْلِ النِّضال، وكمالٍ يشهد به الفضل والإفضال، وعَرْفٍ يفغم ناشق أثره ريّاه، ويروق رامق خيره محياه، إذ للآثار أرجٌ يُنشق، وللأخبار صورٌ تُرمق، ونشرٍ يهدي إشراقه إلى سواء السبيل، ويحكي مذاقه لذة السلسبيل، وبيت رسختْ في مباني الشرق آساسه، وشمخت بمعاني الكرم أغراسه، واستمجدت للإنجاب قرومه، وفات أمره مَن يرومه. ما زال يَبْنِي خالِفٌ عن سالِفٍ ... منهم ويُعْرِبُ آخِرٌ عن أوّلِ بَيتٌ يَجُرُّ على المَجَرَّةِ ذَيْلَه ... وندىً به عَزْلُ السِّماكِ الأعزلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 وفنونِ فضلٍ ترفّ أفنانها، وتؤذن بالفوز الدائم جناتها، مكتسبة من الأشباح القدسيّة علاءً، ومنتسبة إلى الأشخاص الإنسية ولاءً، مترفّعة عن مواطنة الأغفال، ومقارنة أهل السّفال، السائرين في الجيل البهيم، والشاربين شرب الهيم، تحيّة مُربٍّ في الثناء على معاليه، مُكبٍّ على استملاء النُّكت من أماليه. ولرُبّ مُشفق يُتّهم في الإشفاق، ونصيحٍ يرجع بالإخفاق، يستهول في المُفاتَحة مقامي، ويستبعد عندها مرامي، فيقول لشَدّ ما طوّح بك الزَّماع، وطرحتْك الأطماع: تَحِنّ كأنّك ترجو مَزارا ... وتصبو، متى كنتَ للنجم جارا؟! فقلتُ نعم في الحَشا غُلَّةٌ ... أُواري بها في فؤادي أُوارا أُمَثِّلُ بالفِكر دارَ القَرارِ ... فأهجُرُ دون اللِّقاء القَرارا أَأَوَّلُ عاشٍ بغى جَذْوَةً ... فآنَسَ من جانب الطُّور نارا ولربّ ملومٍ ليس بالمُليم، وما أغفل السالم عن السليم، ولستُ بدعاً في اكتساب الفخار، وهو من أنفس الادّخار. وهبْني المُوفي على العهود، لمطالعة ذات السُّعود، إذ يصهره ناجر، وتلفحه الهواجر، يروقه السَّنا المقصور، فيثني لِيته ويصور، ويشوقه السناء الممدود، فيبعد النُّجعة ويرود: إذا حَوَّل الظِّلُّ العَشِيَّ رَأَيْتَه ... حَنيفاً وفي وقتِ الضُّحى يَتَنَصَّرُ ثم لا يقال له: راعِ جارك، والزم وِجارك، واذكر ظِيرك، وراسل نظيرك، وارجع إلى قيسك، وأبناء جنسك، وإذا لاعك لاعج البين، فلتكن لأم حنين، ما أنت وذات الإشراق، المرتقية عن كلّ راق. والصُّمُّ في عُنصُرِ الإفساد حاسِدةٌ ... بصِحّةِ السَّمْع خُلْداً ما له بَصرُ فيقول: ليس التدرُّع في قضاء الأوطار. مقصوراً على ذوي الأخطار، وقد يشترك في نسيم الهواء، وانتشار الأضواء، ضيوف الدار، وضيغم الخدار، ويتساوى في عموم اللطف، بمصابّ الدِّيم الوُطف، ذَبُّ الرِّياد، وخرق الواد، ولما أشرت بمد اليدين، إلى الخلوّ من همّ الدين، قلا من أحسن وأبيه، وأصاب الشاكلة فيه: كأنَّ حِرْباءها في كلِّ هاجرةٍ ... ذو شَيْبَةٍ من شيوخ الهند مَصلوبُ ولو وقفت برسمي، وقلبت حروف اسمي، لرأيت إيجابه باقياً، ولوجدته مع الحذف كافياً؛ لا تسمع قول الضلِّيل، عند وقت الغليل: فقلتُ: يمينَ الله أبرحُ قاعِداً ... ولو قطعوا رَأْسِي لَدَيْكِ وأوْصالي انظر كيف صرّح عن صدق هواه، واحتقر في جنبه تواه، إشارة تمهّد عذري لديك، وأتقرب بها إليك، وسأنظم بعد هذا الشّذر، وإن كان من الهذر، ثقةً بتلك الأخلاق الطاهرة، والخلائق الباهرة، فاسمع ما أقول، وقد تتباين العقول، فمن خوت من الفضل رباعه، جفت عن الشعر طباعه، والحر إن شاد، سمع الإنشاد، فإن أنخت وأصخت، حَلِيت، وزِنت اللِّيت، وإن أَبَيْت فالزم البيت: حَتّامَ أَقْطَعُ لَيْلَ التِّمِّ بالأرَقِ ... مُسْتَنْهَضَ الفكر بين الأمنِ والفَرَقِ أَبْغِي الفَخارَ وأخشى أنْ يُعَنِّفَني ... مَن ليس يعلم ما عندي من القلقِ وسائلُ الفضلِ لا تُكْدي وسائِلُهُ ... إذا تلَطَّفَ للإشكالِ بالملَقِ بحرٌ من العلم أستهدي جواهِرَهُ ... وكم شفى حالَ من أَشْفَى على الغرق له فوائدٌ نَجْنِيهنّ أفئدةٌ ... لدى حدائق نَجْنِيهنَّ بالحدقِ إنْ لم تكن تُورق الأقلامُ في يده ... فإنها تُسرِعُ الإثمارَ في الورَقِ يَبوغُ ذو الفضل تَثْقِيفاً فإنْ تُلِيَتْ ... آياته ظلّ كاليَرْبوعِ في النَّفقِ وإن تسَوَّق بالألفاظ ألحقهُ ... حُكْم الملوك ذَوي البُقْيا على السُّوَقِ كم طاش سَهْمُ مُراميه وبات له ... طَيْشُ الفَراشة طارَتْ لَيْلَة السَّذَقِ وكم مُدِلٍّ بحُضْرٍ رامَ غايَتَه ... فراح يَرْسِفُ كالمَقصور في الطَّلَقِ مثلُ الذُّبالة إذ غُرَّتْ بمادحها ... فاستشرقت لتُباري غُرّةَ الفَلَق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 صَدرٌ تقَيَّلَ في أفعالِه سَلَفَاً ... مَن رامَ شَرْكَهمُ في ذاك لم يُطِقِ مَكارمٌ سنَّها عبدُ الكريم لهُ ... وَمَنْ يَمِقْ غيرَها من سُنّةٍ يَمُقِ من الأُلى بَهَرَتْ أنوارُ مجدِهمُ ... لَحْظَ العُيونِ فغالَ الشمسَ في الأُفقِ ما اسْتنَّ أَوّلُهم في شَأْوِه طَلَقَاً ... فعَنَّ آخرُهم في ذلك الطلَقِ لكلِّ نَوْءِ عُلاً منهم رَقيبُ عُلاً ... كما تَتابَعتِ الأنواءُ في نَسَقِ تَجْلُو مآثرَهم آثارُهم فمتى ... ألمَّ خَطْبٌ ذَكَرْنا الصَّفْوَ بالرَّنَق عِزٌّ تِلادٌ وفخرٌ غيرُ مُطَّرَفٍ ... وبُعْدُ صِيتٍ وذكرٌ غير مُخْتَلَق وَهَيْبةٌ ما تهَدَّدْتُ الزمانَ بها ... في خَشْيَتي الرَّيْبَ إلاّ خَرَّ كالصَّعِق مناقبٌ لسديدِ الدولةِ اجتمعتْ ... يَزْدَانُ بالفَرْق منها سائرُ الفِرَق آثرْتُ عند قُصوري عن بلاغته ... خِطابَه فَخَطَبْتُ العَصْب بالخَلَق ولو سرقْتُ خليعاً من ملابِسه ... لاخْتَلْتُ في حُلَّةٍ أَبْهَى من السَّرَق أشكو إليه بَني عَصْرٍ شَرِقْتُ بهم ... وهل تُطاوعني الشَّكوى مع الشَّرَق فَرَرْتُهم وتوَخَّيْتُ الفِرار وَهَلْ ... يُرْجى الإباق لعانٍ شُدَّ بالأَبَقِ حُمْرُ العيونِ على أهل النُّهى حُمُرٌ ... خَفِيتُ فيهم خَفاء النَّجم في الشَّفَق فغُرْبَتي غُرْبةُ البَيضاء في حَلَكٍ ... وَوَحْشَتي وَحْشَةُ السَّوداء في يَقَق شَأَوْتُهمْ وثَناهمْ ظُلَّعاً أمدي ... فالسَّبْقُ لي وهمُ يَحْظَوْنَ بالسَّبَق وشامخٍ في الورى بالتِّيه مُسْتَفِلٍ ... كأنّه بانحطاطٍ فاتَهُمْ وَرَقي ولو أفاق من الأهواءِ فاقَهمُ ... فإنه من يُفِقْ من سُكْرِها يَفُق ولِلعُلى مُرتقىً دَحْضٌ وكم زَلَقَتْ ... عنه الأُيومُ فمن للأَبْلَق الزَّلَق زافَتْ لَدَيْه نقودُ الفضلِ وانْمحَقتْ ... سوقُ الرَّشاد وجازَتْ صَفْقَةُ الحَمَق وغرَّه عِزُّه والدِّرْعُ ساخرةٌ ... في ضِحْكها من بُكاءِ الكَلْم بالعَلَق وفي الوِفاض نِبالٌ حَشْرَةٌ عَجَبٌ ... تَنْفَلّ بين حَرابي الزَّغْف والحَلَق يُسَرُّ أن رَمَقَتْهُ غُلْبُ صاغيةٍ ... تَذُبّ عنه، وموتُ الشاة في الرَّهَق والهمّ في حَكَماتِ الضَّعفِ وهو على ... جِماحه الطِّفْلُ، فعلَ المهر في الوَهَق يَطْغَى ولو رَمَقَ الإغبابَ كان له ... في أوّل البطش ذِكرى آخِر الرَّمَق لولا الرّجاءُ ولولا الخوف ما شُغِلَتْ ... أَيْدِي الكماة بحَملِ البِيض والدَّرَق مِن مَعْشَرٍ صُنْتُ عِرْضي عنهمُ كَرَمَاً ... إنّ الكريم لَيَحْمي عِرضَه ويَقي وكم تراءَتْ ليَ الأطماعُ كافِلَةً ... بما أُحبّ فما ذَلَّتْ لها عُنُقي لا يَعْطِفُ الحِرصُ أَعْطَافي إليه ولا ... عَيْنِي مُؤَرَّقَةٌ بالعَينِ والوَرِقِ نزاهةٌ يَفْخَر الصادي بعِزَّتِها ... على أخل الرِّيِّ، والطاوي على السَّنِقِ وكلما قُلتُ يُفْضي بي إلى حَدَبٍ ... على بني الفضل أفضى بي إلى حَنَق كم من دَثائث شَحَّتْ عن نوىً دَمِثٍ ... زاكٍ ومن بُوَقٍ سَحَّتْ على بُوَقِ هذا ولي في عُبوسِ المَحْل بَيْنَهمُ ... تبَسُّمُ الرَّوْض غِبَّ الوابِل الغَدَق وطال ما زاد إظْلاماً فزادَ به ... قَدْرِي وُضوحاً كذاك البَدرُ في الغَسَق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 يَطيبُ في الخَطْب نَشْرُ الحُرّ فهو به ... كالوَرْد في الهَمّ لمّا انْهمَّ بالعَرَق وفي محمّدٍ المَيمونِ طائرُهُ ... شِفاءُ ما رابني في الخَلْقِ من خُلُق مُؤيِّد الدين مَن ناجَتْهُ هِمَّتُهُ ... كانت إلى مُبْتغاه أَقْصَدَ الطُّرُق ثِقْ منه بالشَّيْم بالسُّقْيا وإنْ وَعَدَتْ ... غُرُّ السَّحاب بها يوماً فلا تَثِقِ سوف يعلم عند كشف الغطاء وصيحة الحق، ما مقدار ما لبسه من المَين وخلّفه من الصدق. قد سلف من برد البائية، والإشارة الحِربائية، ما يشفعه الاعتذار، ويسعه الحلم والاغتفار، من إطالة في تقصير، ودلالةٍ تفتقر إلى تبصير، لكن سرت والزميل ظنُّها الجميل: فذالَتْ كما ذالَتْ وَليدةُ مَجْلِسٍ ... تُري ربَّها أذيالَ سَحْلٍ مُمَدَّدِ تهجر في العجل قول عاذلها، وتعثر للخجل في ذلاذلها، وللآراء السامية في ستر خلّتها، وغفر زلّتها، والتشريف بالجواب عنها مزيد السموّ والاقتدار إن شاء الله. وللحصكفي من خطبة بغير نقطة: ألا مُسدّد أراد وصل الآراد، وداوم مواصلة الأوراد، وأعدّ صلاة الأسحار لحصول صلة المَحار، وحاول دار السلام، ومحلّ الإكرام، دار سُرّ أهلها، ودام أُكلها، لا همّ ولا هرم، ولا علل ولا ألم، لا كدار الأكدار، ومُعار الأعمار، دار وِردها آل، وإطماعها مُحال، وإسماعها مِحال، وإمراعها إمحال، والدهر مداره لأهله دمار، وطواره لعالمه أطوار، إحلاء وإمرار، وإحلال وإمرار، وسُكْر وصحو، وسطر ومحو، كؤوسه سِمام، وسهامه سهام، إمّا وعد مطل، وإما أوعد هطل، رِهاماً درّ، وأحلاماً أمرّ، ما أكرم إلاّ مكر وركم، ولا رحم إلا رمح وحرم، ولا وصل إلا اصطلم وصرم، ولا مهّد إلا أهمد وهدم، ما مدح مسالماً، إلا ودهم كالماً، كم رسم ورمس، ووسم وطمس، ودعم وأعدم، وسالم وأسلم، كم سحر وحسر، وسهّل ووعّر، وأسر لما سرّ، وللعداوة أسرّ، كم سوّر وساور وأحال السوار، وروّع وعاور وألاح العوار، كم أراس وأعار، وأسار العار، مادِر ما درّ إلا للإكداء، ماكرٌ ما كرّ إلا للإرداء، ماحلٌ ما حلّ إلا للإسراء، ماصحٌ ما صحّ إلا للأدواء. وللحصكفي هذا البيت المقبول المقلوب، الذي تتقلّب نحوه القلوب: أَليفُ الشَّتات شَتيتُ الأَليف ... بعيدُ القَرين قَرين البِعاد وله في هلال الفطر، بيتان كصيّب القَطر، وطيّب العطر: تَباشَروا بهِلال الفِطْر حين بَدا ... وما أقام سِوى أنْ لاحَ ثم غدا كالحِبِّ واعَدَ وَصْلاً وهو مُحتَجِبٌ ... فحين بانَ تَقاضَوْهُ فقال: غدا وأنشد الشيخ محمد الفارقي عنه قولاً: سألتُه اللَّثْمَ يومَ البين فالْتَثما ... وصَدَّه التِّيهُ أنْ يَثْنِي إليَّ فَما فكيف أطلُب حِفظ الودّ من صَلِفٍ ... سألتُه قُبلَةً يوم الوَداع فما وأنشد أيضاً عنه: وليلةٍ أرشفتْني ظَلْمَ من ظَلَمَا ... ونوَّلَتْني من الطَّيْف المُلِمّ لَما ولو درى أنني في النوم فُزتُ به ... مِنْ بُخلِه ثم حاولتُ الرُّقاد لَما وهذه من لطائف التجنيس، وطرائف النظم النفيس، كلمٌ في العذوبة كاللمى، وألفاظ كألحاظ الدمى، ومعان في صفاء المعين، وحسن الحور العين. وقرأت في تاريخ السمعاني كتب لي عسكر بن أسامة النَّصيبي قال: وفيما كتب إليّ الخطيب أبو الفضل يحيى الحصكفي: فَعَتْبي له عَتْبُ البريء وخِيفَتي ... لحِرصي على عُتْباه خِيفَةُ جانِ فإنْ يكُ لي ذَنبٌ فأينَ وَسائلي ... وإن لم يكن ذَنبٌ ففيمَ جَفاني قال: وللحصكفي: للهِ مَن زادَنا تَذْكَارُهم وَلَهَاً ... وصَيَّروا زادَنا يَوْمَ الرحيل ضَنا وله قرأته في بعض الكتب: على ذوي الحُبِّ آياتٌ مُتَرْجمةٌ ... تُبين من أجله عن كلِّ مُشتَبِهِ عَرْفٌ يَفوح وآثارٌ تَلوحُ وأسْرارٌ تَبوحُ وأحشاءٌ تَنوحُ بهِ وله في لزوم ما لا يلزم: أقول وربّما نفعَ المَقالُ ... إليك سُهَيْلُ إذ طَلَعَ الهلالُ القمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 تُكاثرني بآلات المعاني ... وكيف يُكاثر البحرَ الهلالُ الماء في أسفل الحوض أتطمَعُ أن تنال المجدَ قبلي ... وأنّى تَسْبِقُ النُّجْبَ الهلالُ الصغار من النوق وَتَبْسِمُ حين تُبصِرُني نِفاقاً ... وَشَخْصي في جَوانِحِكَ الهلالُ الحربة العريضة وتُبْطنُ شِرَّةً في لِينِ مَسٍّ ... كما لانت مع اللَّمس الهلالُ الحية وتنتظر الدوائرَ بي ولكن ... عليك تدور بالشرّ الهلالُ الرحا كأنّ وُجوههم في ذُلّ مَثْوَى ... وفَرطِ صَلابةٍ فيها الهلالُ أثر الحافر في الأرض وأعراضاً أُذِيلَتْ للأهاجي ... كما يبدو على القِدَم الهلالُ الثوب الرث وما تُغني الكثائفُ عن صُدوعٍبها أن يَرْأَبَ الصَّدعَ الهلالُ الحديد الذي يشد به القصب وأعجَب كيف يَلْزَمُكُم كِتابٌ ... وَأَعْقَلُ من لَبيبكمُ الهلالُ أول ما يولد الولد وله من قصيدة: جَلّ مَن صوَّر مِن ماءٍ مَهين ... صُوَراً تَسْبِي قلوبَ العالَمينْ وأرانا قُضُباً في كُثُبٍ ... تُخجِلُ الأغصانَ في قَدٍّ ولين والقصيدة التي له في مدح أهل البيت عليهم السلام وأوردنا منها أبياتاً، ونسيبها هذا: حَنَّتْ فَأَذْكتْ لَوْعَتي حَنينا ... أَشْكُو من البَيْن وتشكو البِينا قد عاثَ في أشخاصِها طُولُ السُّرى ... بقَدرِ ما عاثَ الفِراقُ فِينا فخَلِّها تَمْشِي الهُوَيْنا طالما ... أَضْحَتْ تُباري الريح في البُرِينا فكيف لا نَأْوِي لها وهي التي ... بها قَطَعْنا السَّهْل والحُزونا ها قد وَجَدْنا البَرّ بَحْرَاً زاخِراً ... فهل وجدتُم غيرَها سَفِينا إنْ كُنّ لا يُفصِحْنَ بالشَّكوى لنا ... فهُنَّ بالإرزامِ يَشْتَكينا قد أَقْرَحَتْ بما تَئِنُّ كَبِدي ... إنّ الحزين يَرْحَمُ الحزينا لو عَذُبَتْ لها دموعي لم تَبِتْ ... هِيماً عِطاشاً وترى المَعينا وقد تياسرتَ بهِنّ جائراً ... عن الحِمى فاعْدِل بها يَمينا نُحَيِّ أطلالاً عفا آياتِها ... تَعاقُبُ الأيام والسِّنينا يقولُ صَحْبِي أَتَرَى آثارَهم ... نعم، ولكن لا أرى القَطينا لو لم تَجِدْ رُبوعُهم كَوَجْدِنا ... للبَيْنِ لم تَبْلَ كما بَلينا ومن رأى قَبْلَ اللِّحاظِ أَنْصُلاً ... أَرْدَتْ وما فارقَتِ الجُفونا أكُلَّما لاحَ لعَيْني بارِقٌ ... بَكَتْ فَأَبْدتْ سِرِّيَ المَصونا لا تأخذوا قلبي بذَنبِ مُقلَتي ... وعاقِبوا الخائنَ لا الأمينا ما اسْتَتَرتْ بالورَقِ الوَرْقاءُ كي ... تَصْدُقَ لمّا علَتِ الغُصونا كم وَكَلَتْ بكلّ باكٍ شَجْوَهُ ... يُعينُه إنْ عَدِمَ المُعينا هذا بُكاها والقَرينُ حاضرٌ ... فكيف مَن قد فارَق القَرينا أقسمتُ ما الرَّوض إذا ما بَعَثَتْ ... أرجاؤُه الخِيرِيَّ والنِّسْرينا وعَذُبَتْ أنهارُه وأدركتْ ... ثِمارُه وأبدَتِ المَكْنونا أَشْهَى ولا أَبْهَى ولا أَوْفَى ولا ... أَحْلَى بعَيْني لينا مِن قَدِّها ووجهها وثَغرِها ... وشَعرِها فاستمِع اليَقينا وله: أَقْوَتْ مَغانيهم فأقوى الجسَدُ ... رَبْعَانِ كلٌّ بعد سُكْنى فَدْفَدُ أسألُ عن قلبي وعن أحبابِه ... ومنهمُ كلُّ مُقِرٍّ يَجْحَدُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 وهل تُجيبُ أَعْظُمٌ بالِيةٌ ... أو أَرْسُمٌ دارِسةٌ مَن يَنْشُدُ ليس بها إلاّ بقايا مُهجَتي ... وذاك إلاّ حجَرٌ أو وَتِدُ كأنني بين الطُّلول واقِفاً ... أَنْدُبُهُنَّ الأشعثُ المُقَلّدُ كأنّما أنواؤها خَلاخِلٌ ... والمُثَّلُ السُّفْعُ حَمامٌ رُكَّدُ صاحَ الغُرابُ فكما تحمَّلوا ... مَشى بها كأنه مُقَيَّدُ يَحْجِلُ في آثارهمْ بَعْدَهُمُ ... بادي السِّمات أَبْقَعٌ وأسْوَدُ لبِئْسَ ما اعْتاضَتْ وكانتْ قبلَ ذا ... تَرْتَعُ فيها ظَبَيَاتٌ خُرَّدُ لَيْتَ المطايا للنَّوى ما خُلِقَتْ ... ولا حَدا من الحُداةِ أحَدُ رُغاؤُها وَحَدْوهم ما اجتمعا ... للصَّبِّ إلاّ وَشَجَاه الكمَدُ تقاسَموا يومَ الوداع كَبِدي ... فليس لي منذ توَلَّوْا كَبِدُ عن الجُفونِ رحلوا، وفي الحَشا ... تقَيَّلوا، وماءَ عَيْنِي ورَدوا فَأَدْمُعي مَسْفُوحةٌ، وكَبِدي ... مَقْرُوحةٌ، وغُلَّتي لا تَبْرُدُ وَصَبْوَتي دائمة، ومُقلتي ... دامِية، وَنَوْمُها مُشَرَّدُ أَرْعَى السُّها والفَرْقَدَيْنِ قائِلاً ... ليتَ السُّها عَنَّ عليه الفَرْقَدُ تلك بدورٌ في خُدورٍ غَرَبَتْ ... لا بل شُموسٌ فالظلام سَرْمَدُ تيَمَّني منهم غزالٌ أَغْيَدُ ... يا حبّذا ذاك الغزال الأغْيَدُ حُسامه مُجَرَّدٌ، وَصَرْحُهُ ... مُمَرَّدٌ، وخَدُّه مُوَرَّدُ وصُدْغه فوق احمرار خَدِّه ... مُعَقْرَب مُبَلْبلٌ مُجَعَّد كأنّما نَكْهَتُه وَريقُه ... مِسكٌ وخَمرٌ والثنايا بَرَدُ له قَوامٌ كقَضيبِ بانَةٍ ... يهتزُّ نَضْرَاً ليس فيه أَوَدُ يُقعِده عند القيام رِدفُه ... وفي الحَشا منه المُقيمُ المُقعِدُ أَيْقَنْتُ لمّا أنْ حَدا الحادي بهم ... ولم أمُتْ أنَّ فؤادي جَلْمَدُ كنتُ على القُرْبِ كئيباً مُغْرَماً ... صَبّاً فما ظنُّكَ بي إنْ بَعُدوا لولا الضَّنا جَحَدْتُ وَجْدِي بهِمُ ... لكنْ نُحولي بالغَرام يَشْهَدُ همُ توَلَّوْا بالفؤادِ والحَشا ... فأين صَبْرِي بَعْدَهمْ والجلَدُ همُ الحياة أَعْرَقوا أم أَشْأَموا ... أم أَتْهَموا أم أَيْمَنوا أم أَنْجَدوا ليَهْنِهِمْ طِيبُ الكَرى فإنّه ... حظُّهمُ وحظُّ عَيْنِي السَّهَدُ للهِ ما أَجْوَرَ حُكّامَ الهوى ... ليس لمن يُظلَمُ فيهم مُسْعِدُ ولا على المُتلِفِ غُرْماً بينهم ... ولا على القاتل عَمْدَاً قَوَدُ وله أيضاً: واللهِ لو كانت الدنيا بأجْمعها ... تُبْقي علينا ويأتي رِزقُها رَغَدَا ما كان مِن حقِّ حُرٍّ أن يَذِلَّ لها ... فكيف وهيَ مَتاعٌ يَضْمَحِلُّ غدا ثم وقع إليّ قطعة كبيرة من شعره ورسائله، وذلك بمصر، فلمحتها فرأيت فيها كل مُلحة، ذكيّة من نشرها بأطيب نفحة، فنسخت منها ما نسخ فخر مُساجليه، ورسخ فضله على مماثليه. فمن ذلك قوله من كلمة كتبها إلى كمال الدين الشهرزوري بالموصل مشتملة على معاني أهل التصوّف: أداروا الهوى صِرْفاً فغادرهم صَرْعَى ... فلمّا صَحَوْا من سُكرِهم شَرِبوا الدَّمْعا وما عَلِموا أنّ الهوى لو تكَلَّفوا ... محَبَّةَ أهليه لصارَ لهم طبعا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 ولما استلذّوا مَوْتَهم بعَذابه ... وَعَيْشَهمُ في عُدْمِه سألوا الرُّجعى إذا فقدوا بعض الغرام توَلَّهوا ... كأنَّ الهوى سَنَّ الغَرامَ لهم شَرْعَا وقد دفعوا عن وَجْدِهمْ كلَّ سَلْوَةٍ ... ولو وَجَدَتْه ما أطاقَتْ له دَفْعَا وطاب لهم وَقْعُ السِّهام فما جَلَوْا ... لصائبها بِيضاً ولا نسَجوا دِرْعا فكيفَ يُعَدُّ اللَّوْمُ نُصْحاً لَدَيْهمُ ... إذا كان ضُرّ الحُبّ عندهمُ نَفْعَا ومنها: خَلا الرَّبْع من أحبابِهم، وقلوبُهمْ ... مِلاءٌ بهم، فالرَّبْعُ مَن سأل الرَّبْعا سَلِ الوُرْقَ عن يوم الفِراق فإنّهُ ... بأَيْسَرِ خَطْبٍ منه عَلَّمَها السَّجَعا إذا صَدَحَتْ فاعلَمْ بأنّ كُبودَها ... مُؤَرَّثَةٌ غَمّاً تُكابده صَدْعَى وذاك بأنّ البَيْنَ بانَ بإلْفِها ... وكيف ينالُ الوَصْلَ من وَجَدَ القَطْعا وأهلُ الهوى إنْ صافحَتْهُم يدُ النَّوى ... رَأَوْا نَهْيَها أمراً وَتَفْريقَها جَمْعَا رعى وسقى اللهُ القلوبَ التي رَعَتْ ... فَأَسْقَتْ بما أَلْقَتْ وأخرجَتِ المَرْعى وحَيّا وأحْيا أَنْفُساً أَحْيَتِ النُّهى ... وحَيَّتْ فَأَحْيَتْنا مَناقِبُها سِمْعا سحائِبُ إنْ شِيمَتْ عن المَوْصِلِ التي ... بها حَلَّتِ الأنواءُ أَحْسَنتِ الصُّنْعا أوائِلُها من شَهْرَزورٍ إذا اعْتَزَتْ ... جزى اللهُ بالخيرِ الأراكة والفَرْعا وَجَدْتُ الحَيا عنها بنُجْعَةِ غيره ... فَأَعْقَبَنا رَيَّاً وأحْسَبَنا شِبْعا ونِلْنا به وِتْرَ العطاء وَشَفْعَهُ ... كأنّا أَقَمْنا نحوه الوتْرَ والشَّفْعا وللحصكفي من قصيدة: أتُرى عَلِموا لمّا رحلوا ... ماذا فعَلوا أمْ مَن قتَلوا خدَعوا بالمَيْنِ قَتيلَ البَيْنِ فدمعُ العَين لهُم ذُلُلُ وبسَمْعي ثَوَّرَ حادِيهِمْ ... وبعيني قُرِّبَتِ البُزُلُ فمتى وصَلوا حتى قطَعوا ... ومتى سمَحوا حتى بَخِلوا قد زاد جنونُ النَّفسِ بمَنْ ... للعقل محاسنُه عُقَلُ إن قام أقام قيامَتها ... أو جالَ فَجَوْلتُه الأجَلُ كقَضيبِ البان وفي الأجفا ... ن من الغِزلانِ له مثَلُ أشكو زَمَنَاً أَوْلَى مِحَناً ... وجنى حَزَنَاً فَعَفَتْ سُبُلُ العلمُ يُهانُ وليس يُصا ... ن فأيُّ لسانٍ يَرْتَجِلُ وله من رسالة: للقلوب من دون أستار الغيوب، أطال الله بقاء القاضي، حَواسّ سلمتْ مطالعُها، وعُدمت موانعها، فلا يوقر سامعها، ولا يعشى طامعها، لأنها صفت فوُصفت، وسرحت فشُرحت، فهي تستمد القوى من أنوار ذواتها، وتتلقّاها من فيض أدواتها، وتلك لأهل الأحوال، وأنا منها على الأقوال، وأخرى تطالعها الأنوار من مظانّها، في مكامنها، وتتّصل بها القوى لدى مساكنها، من معادنها، لأنها قُصرت فنُصرت، وحُصرت فبُصرت. كالشمس لا تبتغي بما صَنَعَتْ منفعةً عندهم ولا جاها ومنها في التجنيس المنعكس وكل كلمة مشتقة من أختها: فالنفس بعقود التذرُّع حالية، ولقعود التعذّر حائلة، ومن الودائع المُعجزة مالية، وإلى الدواعي المزعجة مائلة، وفي بحار الحمد راسية، وفي رحاب المدح سائرة، تجمح إلى مواصلة القمر، وتُحجم عن مصاولة القرم، لتكفّ بإظفار الأمل، وتفك بأظفار الألم، فهل كامل يُعني، ومالك يُعين، ومقتصِد يدني، ومتصدِّق يُدين، فالرغبة إلى الشهُب، من الغُربة في الشبه، رغبة مَن قصد بالإلهام، مواقع السحاب الهام، وورد شريعة الإفهام، لظما الإبهام، وتعرّض لمعان دقَّتْ عن الأفهام، ورقّت فترقّت عن الأوهام. وله وقد أودعها رسالةً: قُمْ سَقِّني صَفْوَها يا صاحِ والعَكَرا ... مُدامَةً تُذهِبُ الأحزان والفِكَرا ويا نَديمي تنَبَّهْ إنّما سَكَني ... مَن لا يَلَذُّ على حُبِّ السُّلافِ كَرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 وله فيها: هاتِها في نسائم الأسْحارِ ... حين تَشْدُو على الغصونِ القَماري مُزّة الطّعْم وهي أحلى من الشَّهْدِ وأذكى من الكِباء القَماريّ والتي حُرِّمَتْ عليك مع المَيْسِر دَعْ شُرْبها لأهل القِمار فطُلوعُ الشُّموسِ عمّا قليلٍ ... سوفَ يُنسيكَ غَيْبَةَ الأقمارِ ومنها نثراً: فآنس أجمالاً تُزمّ، وأحمالاً تُضمّ، وأحوالاً تهول، وأهوالاً تَحول، وأوجالاً تصول، وأصوالاً تجول، وسمع تناذُر القُطّان، بمفارقة الأوطان، وتثويب الداع، بوشك الوداع، وللحداة زجل، وعلى القوم عجل، وقد بُنيت القباب، وحُثّت الرِّكاب، وفي الخدور، أشباه البدور، وتحت الأكِلّة، أمثال الأهلّة، وأيدي النَّوى لاعبة، وغِربانه ناعبة، والحيّ قد طُرق، والصواع قد سرق، وضمن مؤذّن العير، لمن جاء به حمل بعير، يا له من عامريّ، بيسَ من عام رَيّ، وخَليس مصاب، بيس من خليس مَصاب، وقد سُلبت أكناف الثغور، بنتح ذلك النور، وعدمت أرجاء العقيق، أَرَجَ ذلك الروض الأنيق، وحُرمت أبيات رامة، تلك الكرامة. وله منها نظماً في طول الليل: يا لَيْلُ ما فَعَلَ الصباحُ ... أَفَمَا لمُبْهَمِهِ اتِّضاحُ لَيْلِي غُرابٌ واقعٌ ... في الشرق ليس له جَناحُ دَلَكَتْ بَراحِ فقالت ال ... أفلاكُ ليس لنا بَراحُ مَرِضَتْ عن السيْرِ الدُّجى ... وَرَنَتْ لها الحدَقُ الصِّحاحُ ما زال تَبْيَضُّ العُقو ... دُ بها ويسْوَدُّ الوِشاحُ حتى أقول عساه يَخْضِب شَيْبَهُ الدهرُ الوَقاحُ وكأنّما خَلَعَتْ غدا ... ئراها على الجوِّ المِلاحُ ومنها نثراً: ما كل عبرةٍ تسفح، عن زفرة تلفح، قلبي الوطيس، وتحنُّ العيس، وعندي اللاعج، وتُرزم النواعج، فعدِّ عن دفع النفاق، ودعوى الإشفاق، إنما كمون الداء، حيث تنفُّس الصُّعداء. فقد قلتُ يا قلبُ كُن بَعْدَهم ... جَليداً فقال ألا خَلِّ عنّي إذا أَوْحَشَ الحيُّ من سادتي ... فلا أنا منكَ ولا أنت منّي وله: جاءني يَحْلِفُ أي أنّي مُحِبٌّ وشَفيقُ يُظهِر البِرَّ وفي البا ... طِن خُبْثٌ وعُقوقُ مِثلما يَخْدَعُكَ الضَّحْضاحُ والبحرُ عميقُ كلُّه مَحْلٌ وإنْ غرَّ ... تْ رُعودٌ وبُروقُ ثَمرٌ مرٌّ لجانِيهِ وأوراق تَروقُ وعجيبٌ أنْ زكا الفر ... عُ ولم تَزْكُ العُروقُ دِينُه دِينٌ رقيقُ ... وله وجهٌ صَفيقُ وله، لا حاطه اللهُ، إلى كلٍّ طريقُ هو بالفِعل عَدوٌّ ... وهو بالقَولِ صَديقُ هو في القُربِ رحيقٌ ... وهو في البُعدِ حريقُ هو قُدّامي مَنْجُو ... ق وَخَلْفي مَنْجَنيقُ وإنِ اسْتُنطِقَ بَقٌّ ... وإنِ اسْتُكتِمَ بُوقُ خَلَقُ الأخلاقِ بالهِجرانِ والتَّرْكِ خَليقُ ففؤادي منه في تيّار أفكاري غَريقُ إنْ أُجانِبْه يَقُلْ كا ... نتْ وضاعَتْ لي حُقوقُ أو أُصاحِبْه فما يُلفى له عَقدٌ وثيقُ وله منّي إنْ أَعْرَضْتُ عنه الخَنْفَقيقُ عنديَ النارُ له فيها زَفيرٌ وشهيقُ غير أنّ المَكر والغَدْ ... ر بمثلي لا يَليقُ عَلَّهُ من لَمّة الجَهْل بتَوفيقٍ يُفيقُ وله: جَلَّنارٌ أم شَقيقُ ... وَجْنَتاهُ أم عَقيقُ وسيوفٌ أم جُفون ... تلك أم خَمرٌ عَتيقُ بَرَدٌ في الفَم أمْ ثَغْرٌ وريقٌ أم رَحيقُ غُصنُ بانٍ ماس في البُرْ ... دَة أم قدٌّ رشيقُ رَشَأٌ كلَّفني في ... حُبِّه ما لا أُطيقُ فكأني وهَواهُ ... رِدْفُه الخصرُ الدقيقُ وله وقد سبق ذكر أول بيت: هل من سبيلٍ إلى رِيقِ المُريقِ دَمي ... فما يُزيل سِوى ذاك اللَّمى ألَمي يَشْفِي به من يُهينُ الدُّرَّ مَنْطِقُها ... نَظْمَاً ونثراً بدُرِّ الثَّغر والكِلَمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 رَوْدٌ تَرودُ حِمى قَلْبِي وتشربُ من ... دَمْعِي وتسكن من صدري إلى حَرم نادتْ محاسِنها العُشّاقَ مُعلِنةً ... أنّ المَنى والمُنى في مُقْلتي وفمي فما احْتكمْتُ وعيْنَيْها إلى فَمِها ... إلاّ شُغِلتُ عن الخَصْمين بالحَكَمِ غَرّاءُ كالدُّرَّة البيضاء تَحْجُبُها ... أستارُ بحرٍ بماء الموتِ مُلتَظِم تُهْوى فَتَهْوي المُنى دون اللَّحاقِ بها ... أَفْدِيك مِن أَمَمٍ أَعْيَا على الأُممِ زارَتْ فَأَيْقَظتُ صَوْنِي في زيارتها ... ليَقْظتي وَنَدَبتْ الحلْمَ للحُلُمِ آليتُ أسألُ إلْمامَ الخيالِ ولي ... عَينٌ وقد ظَعَنَ الأحباب لم تَنَمِ كأنَّني بهمُ أَقْسَمتُ لا طَمِعت ... طيبَ الكَرى فأبَرَّتْ مُقلَتي قَسَمي وكيف لي يَوْمَ ساروا لو صَحِبْتُهمُ ... مِن المطايا ورأسي مَوْضِعَ القَدِم بانوا فَرَبْعُ اصطباري مُنذ بَيْنِهمُ ... بالٍ كَرَبْعِهمُ البالي بذي سَلَم وا وَحْشَتي إذ أُنادي في مَعالِمِهمْ ... صُمّاً تُجيبُ بما يَشفي من الصَّممِ يَشْكُو صَداها إلى عَيْنِي فَتَمْنَحُها ... دَمْعَاً إذا فاض أَغْنَاها عن الدِّيَمِ وكلّما قال صحبي طالَ مَوْقِفُنا ... فارْحلْ بنا قالت الآثارُ بل أَقِم مَنازِلٌ كلّما طال البِعاد عَفَتْ ... كأنما تَسْتَمِدُّ السُّقْمَ من سَقَمي قِفوا فَأَقْوى غَرامي ما يُجَدِّدُهُ ... برَسْمِه طَلَلٌ أقوى على القِدَم قُل للأُلى غَرَّهمْ حِلْمي ونَقَّصَهمْ ... إيّاكمُ وطريقَ الضَّيْغَمِ اللَّحِم فالحِلْمُ جَفْنٌ وإنْ سُلَّتَّ حَفيظتُه ... فربّما كَشَفَتْ عن صارِمٍ خَذِمِ وله قصيدة طائيّةٌ على وزن قصيدة المعري وقد أثبتُّها جميعها لإثبات أخواتها من أشعار أهل العصر كتب بها إلى الرئيس أبي طالب الحسين بن محمد بن الكُميت وهي: أَعَذْلُك هذا أنْ رَأَيْتَهمُ شَطُّوا ... وفي الآلِ إذْ غَطَّوْا هَوادِجَهُمْ غَطُّوا لئن قُوِّضَتْ فاراتهم وتحَمَّلوا ... لقد نُصِبَتْ في خاطِري وبه حَطُّوا فلا تَحْسَبنَّ الشَّحْطَ يُذْهِل عنهمُ ... فأقربُ ما كانوا إذا اعترضَ الشَّحْطُ رَضِيتُ بمن أهوى فدامَ لي الرِّضا ... وَتَسْخطُه منّي فَدام لك السُّخْطُ رأيتُ الأُلى كلَّفْتني الصبرَ عنهمُ ... بهم قَسَمي ما إنْ تَناسَيْتُهم قَطُّ همُ سَوَّموا لَيْلِي وصُبْحي كتائباً ... من الروم تَغْزُوني وتَخْلُفها الزُّطُّ فَأَعْجَبُ منّي كيف أغترُّ بالهوى ... وأسألُه قِسْطاً وما شأنه القِسطُ وعن رغبةٍ حكَّمتُ في القلب جائراً ... فَشَكْوايَ منه القَسْطَ في حكمه، قِسْطُ نصحتُكمُ لا تركبوا لُجَجَ الهوى ... ألا إنّ بحر الحبّ ليس له شطُّ بسِقْط اللِّوى أَبْكَى امرأَ القيسِ مَنْزِلٌوليس اللِّوى داءَ ابنِ حُجْرٍ ولا السِّقْطُ لَقِيتُ برَهْطي كلَّ خَطْبٍ تدافَعوا ... فحينَ لَقيتُ الحُبَّ أسلمَني الرَّهْطُ وأَرْبُطُ جَأْشِي عند كلِّ عظيمةٍ ... تُلِمُّ ويومَ البَيْن يَنْتَكِثُ الرَّبْطُ ولمّا أذاعوا ما أسَرُّوا من النَّوى ... وظَلَّتْ على العُشّاقِ أحداثها تَسْطُو كَتَبْنا على صُحْفِ الخُدودِ بمُذْهَبٍ ... وكان من الأجفانِ بالحُمْرةِ النَّقْطُ ومُقْتَبِسٍ سِقْطاً أَشَرْتُ إلى الحَشا ... وجاحِمِها لمّا تعَذَّرَتِ السقْطُ أَحِلُّ رِياضَ الحَزْنِ مُكْتَئِبَ الحَشاوَقَلْبي بحيثُ الأَثْلُ والسِّدْرُ والخَمْطُ تعَلَّق بالقُرْطِ المُعلَّقِ قائلاً ... سُكوني مُحالٌ كلّما اضطرب القُرْطُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 وفي المِرْطِ ماءُ المُزن لَوْنَاً ورِقّةً ... عَجِبْتُ له لم يُنْدِ عالِيَهُ المِرْطُ وفوقَ كَثيبِ الرملِ غُصنُ أراكَةٍ ... بسالِفَتَيْ رِيمِ الأراكةِ إذْ يعطو يخافُ لضَعفِ الوَسْط يَسْقُطُ رِدْفُهُ ... ويخشى لثِقْلِ الرِّدْفِ ينتشر الوَسْطُ وَتَسْعى على اللِّيتَيْن سُودٌ إذا الْتوتْ ... أقَرَّت لها الأصْلالُ والصِّمَمُ الرُّقْطُ وفوقَ بَياضِ الخَدِّ خطٌّ مُنَمْنمٌ ... تَذِلُّ لذاك الخطِّ ما تُنبِتُ الخَطُّ وذي شَنَبٍ عَذْبُ المَجاجةِ رِيقُه ... كما قُطِّبَتْ بالمِسْكِ صَهْبَاءُ إسْفِنْطُ رَشَفْتُ وقد غابَ الرَّقيبان: مُوقِدٌ ... بغارٍ ووَقّادٌ يَغور وَيَنْحَطُّ فيا راكباً تَمْطُو به أَرْحَبيّةٌ ... كِنازٌ تبُذُّ البرقَ والريح إذْ تَمْطُو وإنْ هي مَطَّتْ للنَّجاءِ وأرْقَلَتْ ... عَزاها إلى فتح المَلا ذلك المَطُّ فلو رامَتِ الكُومُ المَراسيل شَأْوَها ... لقُلنا لها: كُفّي لك العَقْرُ والشَّحْطُ وما يَدَّعي إسآدَها السيِّدُ عاسِلاً ... بقَفْرَته لو أنّه الأطْلَسُ المِلْطُ كأنَّ الفَلا طَيُّ الضمير، وَخَطْوَها ... مع الخَطْر خَطْرُ الوهمِ لا الوهمِ إذ يَخْطُو بعِيسِك عُجْ بابنِ الكُمَيْت وقل له ... أبا طالبٍ ما كان ذا بيننا الشَّرطُ بَسَطْتَ بِساطَ الأُنسِ ثم طَوَيْتَه ... ولم يتَّصِل كالطَّيِّ ما بيننا البَسْطُ وَعَدْتَ بإيناسي وعُدْتَ تَلُطُّه ... وغيرُك يَعْرُوه إذا وعد اللَّطُّ وما كنت أدري قبل سِمطٍ نَظَمْتَه ... بأنك بحرُ الدُّرِّ حتى أتى السِّمطُ كتابٌ بدا فيه لعَيْني وخاطري ... ربيعان مَجْمُوعان: لَفْظُك والخطُّ تدارَكْتَ وَخْطَ الشيْب فارتَدَّ فاحِماً ... فمن لي بأُخرى قبل أن يَشْمَلَ الوَخْطُ عَذَرْتُ جِعاداً يقتفونَ سِباطَهم ... ولا عُذْر أن يَقْتَاف جَعْدَهمُ السَّبْطُ أَأَحْوَجْتَني حتى اقْتضيْتُك جَأْبَةً ... بجَحْمَرِشٍ شَوْهَاءَ في جِيدها لَطُّ ومِن قَبْلِها قد سار نحوك رائداً ... فَأَبْرمَ ذاك الحَيْدَرُ اليَفَنُ الثَّطُّ على أنها لو نَفْطَوَيْه انبرى لها ... بطَعنٍ وإزْراءٍ لحرَّقه النِّفْطُ ولو أُخِّرَ الشيخُ المعريُّ ما ابْتنى ... " لمن جِيرَةٌ سِيموا النَّوالَ فلم يُنْطوا " ولا نَظَمَ الشاميُّ بعد سَماعها ... " لأيَّةِ حالٍ حُكِّموا فيك فاشْتَطوا " تَساوى المَعاني والمَباني تَناسُباً ... كما يستوي في نَفْعِ أسنانِه المُشْطُ وما كَنَبيط القوم مَنْبَطُ عِلمِهم ... ولا يستوي قُطبُ الفَصاحة والقِبْطُ وكم صُنتُ نفسي عن حِوار مُجالِسٍ ... مَلاغِمُهُ الوَجْعاء، والكَلِمُ الضَّرْطُ وما كان عندي أنّه العَوْد مَسَّهُ ... خُباطٌ وأنّ اللَّفظ من فَمِه الثَّلْطُ فقد نَفِدَ الطِّيبُ الذي كنتُ أتَّقي ... به فاه حتى صار من طِيبيَ القُسْطُ له دَفَرٌ في كلِّ جُزءٍ بجِسمه ... إذا فاح قُلنا ذا الفتى كل إبطُ به زَبَبٌ قد عَمَّ أكثرَ جِلدِه ... ولكن فشافي نَبْتِ عارِضه المَرْطُ إذا ما أَفَضْنا في الكلام رَأَيْتَه ... يُخَلِّط حتى قلت ثار به خِلْطُ ويَنشَط للتأويل في الجَهل غارقاً ... له الوَيلُ ما يدريه ما الغَرْقُ والنَّشْطُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 وَيَعْزو إلى النُّعمان كلَّ عَضيهةٍ ... فيرتفعُ النعمان عنها وَيَنْحَطُّ ليَ النخل أجني خَيْرَها من فروعها ... ولكن له من شِيصِها تحتها اللَّقْطُ فَيَخْبِطُ في عَشْوَاءَ لا دَرَّ دَرُّهُ ... وَمَنْ كان مَمْسُوساً تعَهَّده الخَبْطُ وكم قد أمرناه بضَبطِ لسانه ... ومُذ شَذَّ عنه العقل أعجزَه الضَّبْطُ يَخُطُّ بكَفٍّ، حَقُّها البَتْكُ، أَحْرُفاً ... كما كتبتْ يوماً بأرجُلِها البَطُّ قويٌّ على نَقْلِ الملام للُؤْمِهِ ... ضَعيفٌ به عن كلِّ صالحةٍ وَهْطُ موَدَّتُه إثمٌ ومنظرُه أذىً ... ومنزِله جَدْبٌ وراحَتُه قَحْطُ فلو قد رَأَتْهُ أمُّه وَبَدَتْ لها ... مَساويه وَدَّتْ أنّ مَن وَلَدَت سقْطُ فقلْ للحُسينِ قد أطلتُ وإنّما ... لساني على الأعداء مُحتكِمٌ سَلْطُ فقُطَّ شَوى هَمّي بُرقْشٍ تَقُطُّها ... فهُنَّ كبِيضٍ دِينُها في الوغى القَطُّ وهذه قصيدة في التجنيس، من متاعه النفيس: أَطِعِ الهوى فالعقلُ خازٍ خازمُ ... والجهل يُغري وهو هازٍ هازمُ الخازي السائس القاهر، يقال خزاه إذا ساسه وقهره، وأما أخزاه بالألف فهو من الخزي. واعْملْ فحرفُ الشَّرط صُنعُك والرَّدى ... عنه جوابٌ وهو جازٍ جازمُ المعنى أن الموت جواب الشرط، والشرط هو العمل، وحروف الجزاء تجزم، فكذلك الموت يجزم المستقبل. وإذا عَلَوْتَ فَواصِ بالعلمِ العُلى ... تَكْمُل فخيرُ القومِ عالٍ عالمُ واصِ بمعنى واصِل، واصاه أي واصله. وابْسُط يَدَيْك فإنّ قابض كَفِّه ... في بَسْطَةِ الإثْراءِ عادٍ عادِمُ واكتُمْ نوالك فالكريم نوالُه ... غَيثٌ وجُنْحُ الليلِ ساجٍ ساجمُ معناه كن كالغيث الساجم ليلاً فهو يُغني ولا يرى: وإذا شَكَوْتَ إلى امرئٍ وَشَكَمْتَه ... كَرِهَ الندى لا كان شاكٍ شاكمُ شكمته أعطيته، والشَّكم العطاء. واسْلُ الدَّنايا تَسْلَمِ العُقْبى غداً ... في مَنْزِلَيْك، فكلُّ سالٍ سالمُ يا ساخِط الأقْسام يَأْمُلُ رزقةً ... يَرْضَى بها والدهر قاسٍ قاسمُ اِقْنَعْ بجِيدٍ عاطلٍ وانْظِم له ... عِقْدَ الصَّلاحِ فكلُّ حالٍ حالمُ من الحلُم وهو ما يراه النائم. كم من فتىً جَعَلَ القناعة جُنَّةً ... دون المطامع فهو غانٍ غانمُ وارفَعْ مَنارَ المُهتدي بك لا كمن ... يُولي ويُلْوي فهو هادٍ هادمُ والهجو لا تَهْجُم على عِرْضٍ به ... سَفَهَاً فشَرُّ الناسِ هاجٍ هاجمُ ترجو وترُجم غيرَ غافِرِ زَلَّةٍ ... بِئسَ الفتى يا صاحِ راجٍ راجمُ أي شاتم من قوله تعالى: لأَرْجُمَنَّك أي لأشتُمنَّك. حَسْبُ الظَّلوم على ذَميم مآلِه ... باللؤم فهو بكلّ نادٍ نادمُ وإذا المُفيضُ دعا القِداح فإنّما ... سَهْمُ المُسالم وهو ناجٍ ناجمُ المعنى أن طالب المسألة ينجو، وسهم الناجم أي الظاهر، والمفيض الذي يُجيل السهام. وإذا وَقَيْتَ أخاك لم أرَ سُبَّةً ... وَقْمَ العِدى والشهمُ واقٍ واقمُ كُن كالحُسامِ كَلا الرَّفيقَ وحَدُّه ... للضِّدِّ كَلْمٌ فهو كالٍ كالمُ تُخُطي الحظوظُ ذوي النُّهى وينالُها ... فَدْمٌ من الخَيرات عارٍ عارمُ والدهرُ يَحْكِي ثم يَحْكُم بعدما ... يُلْقي المَعاذر فهو حاكٍ حاكمُ ونعى إليك العيشُ نفسَك خادِعاً ... لك بالنعومةِ فهو ناعٍ ناعمُ فالغُفْل عند الخوف مُغْفٍ مُغْفِلٌ ... والجَلْدُ عند الأمن حازٍ حازمُ حاز أي حازر، تقول العرب حزا فلان الشيء أي حزره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 وله يصف الفرس وكتب بها صدر جواب: ومُحَجَّلٍ لَبِسَ الظَّلا ... مَ وخاضَ في جِسمِ الصَّباحِ يَحْوِي بحُسن سَوادِه ... فَضْلاً على البِيضِ المِلاحِ وترى بغُرَّتِه إذا ... قابَلْتَه عَلَمَ النجاحِ تَدْعُو محاسنُه العيو ... نَ إليه من كلِّ النواحي وتنوبُ للظمآنِ رُؤْ ... يَتُه عن الماءِ القَراحِ وتكاد أُذْناه تُجيبُ إذا أصاخ عن الصِّياح غَنَّى وطَرَّبَ بالصَّهيل وظلّ يَرْقُص للمِراح ومشى العِرَضْنى وانثنى ... كالمُنْتَشي من شُربِ راح وسَما إلى وَحْشِ البَرا ... حِ وقال ما لك من بَراح ذاك الذي لو كنتُ مقْترِحاً لكان من اقتراحي ذو أَرْبَعٍ قد أُنعِلَتْ ... بالأرْبَعِ الهُوجِ الرياح ما إن رَأَيْنا قبلَه ... طيراً يطير بلا جناح حَسَنٌ وأحسَنُ منه في ... عَيْنِي ومن زَهْرِ البِطاح ومِن الشِّفاه اللُّمْيِ تُبْدي عن ثغورٍ كالأقاحِ خَطٌّ أتى فأفادوني ... دُرّاً من الكَلِمِ الفِصاح وشَّحْتُ ألفاظي به ... وشُغِلت عن ذات الوِشاح وله يصف الخمر: وَصَهْباء فاتت أن تُمَثَّلَ بالفَهمِ ... أقولُ وقد رَقَّتْ عن اللَّحْظ والوهمِ خُذوا عَرَضَاً، يا قوم، قامَ بنفسه ... فقد خَرَقَ العاداتِ، واسْماً بلا جسمِ فقد كاد يَخْفَى كَأْسُها بضيائها ... كإخفائها بالجهل مَنْقَبة الحِلمِ كأنَّ الشُّعاع الأُرْجُوانيَّ فوقَه ... سَنا شَفَقٍ يَنْجَاب في الليل عن نَجْمِ إذا أقبلتْ ولَّى بها الهَمُّ مُدْبِراً ... كما أدبر العِفْريتُ من كوكب الرَّجْم وله في المعنى: حمراءُ تَكْثُف للعقولِ فِعالها ... أبداً وَتَلْطُف للنفوس طِباعها شمسٌ لشمسِ العقلِ منها ظُلمةٌ ... من حيثُ يظهر في الخدود شُعاعها أمُّ الخبائثِ مُستطابٌ دَرُّها ... إنّ الفِصال من الهموم رِضَاعها وله: مال والأغْصانُ مائِلةٌ ... فَعَنَتْ صُغْراً لقامتِه وَرَنَا والكأسُ في يده ... فغَنينا عن مُدامته لائمي والعُذر طَلْعَتُه ... أيُّ عذرٍ في مَلامتِه وله: بأبي مَن قَلْبُه حجَرُ ... وبه من ناظري أثَرُ رَشَأٌ بالغُنْجِ مكتَحِلٌ ... وبضَوءِ الصُّبحِ مُعْتَجِرُ وبثوب الحُسنِ مُشتمِلٌ ... وبِحقْف الرمل مُتَّزِرُ رِدْفُه شِرْحٌ، وقامتُه ... وسَط، والخَصر مُختَصَرُ خَضَعَتْ شَمْسُ النهار له ... وتلاشى عنده القمرُ ما رأينا قبله بَشَرَاً ... تاه في أوصافه البشَرُ جائرُ الألْحاظ كلُّ دمٍ ... سَفَكَتْه عندها هَدَرُ شَهَرَتْ أسيافَها وَمَضَتْ ... فهي لا تُبقي ولا تَذَرُ جنَّةُ الفِرْدوس طَلْعَتُه ... والقِلا مِن دونها سَقَرُ ومتى أُصغي إلى عَذَلٍ ... فيه وهو السمعُ والبصرُ وله: يا عَذولي كُفَّ عن عَذَلِي ... إنَّ قلبي عنك في شُغُل فأنا الراضي به حَكَمَاً ... في الذي يَقْضِي عليّ ولي هوَ في حِلٍّ وفي سَعَةٍ ... لا يخافُ الإثْمَ من قِبَلي وَيْحَ مَن طَلَّ الهوى دَمَه ... فَغَدَا يشكو إلى طلَلِ وله: انْظُرْ إلى البدرِ الذي قد أَقْبَلا ... وأراك فوق الصُّبح ليلاً مُسْبَلا ما بَلْبَلَ الأصْداغَ في وَجَنَاته ... إلاّ ليترُك من رآه، مُبَلْبَلا يا أيّها الرَّيَّانُ من ماءِ الصِّبا ... بي في الهوى عطَشُ الحُسين بكَرْبلا وله: مَن كان مُرْتَدِياً بالعقل مُتَّزِراً ... بالعِلم مُلْتَفِعاً بالفضل والأدبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 فقد حوى شَرَفَ الدنيا وإن صَفِرَتْ ... كَفّاه من فِضّة فيها ومن ذَهَبِ هو الغنيُّ وإنْ لم يُمْسِ ذا نَشَب ... وهو النَّسيبُ وإنْ لم يُمْسِ ذا نسَبِ وله أيضاً: ساروا فَأَكْبادُنا جَرْحَى، وأعيُننا ... قَرْحَى، وأنفسنا سَكْرَى من القَلَقِ تشكو بواطِنُنا من بُعدِهم حُرَقاً ... لكن ظواهِرُنا تشكو من الفَرَقِ كأنّهم فوق أكوار المَطِيِّ وقد ... سارت مُقَطَّرةً في حالِك الغَسَقِ دَراريَ الشُّهْب في الأبراج زاهرةً ... تسير في الفَلَك الجاري على نَسَق يا مُوحِشي الدارِ مذ بانوا كما أَنِسَتْ ... بقُرْبهمْ، لا خَلَتْ من صَيِّبٍ غَدَق إنْ غِبْتُمُ لم تَغِيبوا عن ضمائرنا ... وإنْ حَضَرْتُم حَمَلْناكم على الحدَق وله أيضاً: ولمّا رأيتُ الخال في صَحْنِ خَدِّه ... ذكرتُ احتراقَ القلبِ في نارِ صَدِّه وعَرَّفَنا خَفْتَانُه حَيْفَ رِدفِه ... وبالغ في شَكْوَاه عن ضَعْفِ قَدِّه فحينَ أدار البَنْدَ مِن فوق خَصْرِه ... رَأَيْناه في الحالَيْن لازِمَ حَدِّه فلم يَطُلِ المَشدودُ شيئاً بحِلَّه ... ولم يَقْصُرِ المَحلولُ شيئاً بشَدِّه وله أيضاً: عارِضاه قد يَنَعَا ... جَلّ صانِعٌ صَنَعَا كان وَرْدُ وَجْنَتِه ... قد أُذيل فامتنعا وله من رسالةٍ أنشأها على لسان القصّار والصياد وهي مقامة مصنوعة مُجنّسة، على الفضل والبراعة مؤسسة، كتب بها إلى بعض القضاة ويستطرد بقوم وقعوا فيه: كنت لفرط الهُيام، في بعض الأيام، وصدري ضيّق، وفؤادي شيّق، إلى الحضرة القاضيّة، والشمائل المرضيّة، قد صرّحت بالإحصار، وحرصت على الإصحار، فاجتزت في الخروج، ببعض المروج، ودجلة قد تسلسل ماؤها، وصلصل حصباؤها، وصفا شفقُها، وطفا غلفقها، وسما حَبابها، وطما عُبابها، وغدا نونُها، وبدا مكنونها، فوقفتُ أُثني على باريها، وأكاد بالدمع أباريها، أسفاً على طِيب المشاهد، بتلك المعاهد، فإذا أنا بشيخ نبيل، وذقنٍ كالزِّبِّيل، مُضْطبع بإزار، حامل أوزار، قد لوّحت الشمس طلعتَه، وصهرت صلعته، بارز الجَناجِن، بأضلاع كالمحاجن، وجهه وجه مجرم، وزيّه زيّ مُحرم، كأنه بعض القُسوس، أو موبَذ المَجوس، يتلوه آخر عار، في أقبح شعار، بادي الإملاق، في دُرُسٍ أخلاق، ليس بصيِّر، ولا شيِّر، قد أدار على سوءته السمَل، واعتمّ ببعضه واشتمل، يُقِلّ بيتاً من خُوص، يُبدي خلله عن شُخوص، تلوح من تلك الرواشن، في أمثال الجواشن، فهي أحقّ باللهف، من فتية الكهف، لأن أولئك فازوا بالنعيم، وهؤلاء احتازوا الجحيم، فبدأني الأوّل بالسلام، ثم تهيّأ للكلام، وقال: أنا شيخ ذو بنات، قليل الهَنات، أستغني بكسب يدي، وأُنفق على ولدي، وأراني قد عجزت عن العمل، وقصّرت عن بلوغ الأمل، وإن استرحت إلى الإخلال، افتضحت بالإقلال، والفقر من حالفه هان، وعدِم البرهان، والوفر من أسعده زان، وكفاه الأحزان، المال يُكسب الارتفاع، والفقر يهدم المجد اليَفاع، الفقر قبر الأحياء، والنشَب نسب الأدعياء، الفقر يُضيّق المغاني الواسعة، والمال يُفيض المعاني الشاسعة، المال درج الفرَج، ومعرج إلى المخرج، ومفتاح الفلاح، وجناح إلى النجاح: المالُ يستُر كلَّ عَيبٍ ظاهرٍ ... والفقرُ يُظهِرُ كلَّ عيبٍ باطنِ فترى مثالبَ ذي اليَسار مَناقِباً ... ومَحاسِنَ الصُّعْلوكِ غيرَ مَحاسن والفِكر في الأقسام، مُورث الأسقام، أين لابس التاج، من البائس المحتاج، أين من اكتفى فاستراح، ممن اعتفى فاستماح، أين هذا الشيخ الذي ترى، ممن باع واشترى، ذلك يظلّ في الكِنّ، وأنا أظل مع الجنّ، ألِج طول النهار، في الأنهار، وأُدلج في الأسحار، إلى البحار: مُقَسَّماً طولَ دهري ... ما بَيْنَ شَطٍّ وَنَهْرِ فالماءُ يقشُرُ رجلي ... والشمسُ تَبْشُر ظَهري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 رِجْلايَ من العجائب البحرية، وسائري من الوحوش البريّة، وقد ضجرتُ من النقع والعصر، والدقّ والقصر، أصبر على برد الماء، وجلد الصخرة الصماء، ثم المليح، أني أضربها وأصيح، كفِعل ذاك الوُغَيْد، أبي سالم بن الجُنَيْد، حين يؤذي الأحرار، ويشتكي الإضرار: حاسِرٌ بالليلِ حافِ ... ودُجى الليلِ لِحافي وأعُدُّ الماء غُماً ... وهو صافٍ للتّصافي ثم أهتمّ لما يأتي، إذ كدره يكدِّر حياتي، وتراني حامل وزر، لشيءٍ طفيفٍ نزر، لا أنادي الأداني، ولا أناغي الأغاني، ولست برفيق الفريق، في رشف ريق الإبريق، أصرف بعض الأجرة، في كِرى الحجرة، وأنفق بقية الواصل، على الحُمْر الحواصل، وليس لي سعنة ولا معنة، ولا عافطة ولا نافطة، وقد ضعُفَ ساعدي، وقلّ مُساعدي، أبسط الثياب تارةً لتجفّ، ويسهل حملها وتخفّ، وطوراً تبهظني بثقلها، فلا أقدر على نقلها، إن مشيت أكوس، وإن جلست أنوس، جِلدي قد اندبغ، ولوني قد انصبغ، وبصري قد كلّ، ونظري قد قلّ، ثم كرب أن يكفُر، وأنشد لابن يَعْفُر: ومن الحوادِث لا أبالك أنني ... ضُرِبَتْ عليَّ الأرضُ بالأسْدادِ لا أهتدي منها لمَدْفَع تَلْعَةٍ ... بَيْنَ العُذَيب وبين أرض مُراد آخُذ الثوب كالورق، وأردُّه كالجلد المحترق، ومن غبار الخان، وسواد الدخان، لا يراد للكسوة، ولا يصلح للرجال ولا للنسوة، بعضه مُحرَّق، وبعضه مُخرَّق، سرّه إعلان، ولابسه عريان، تُبصره في غِربال، لا في سربال، وبعد فمن أنا من الأستاذِين، ورافعي الكَواذِين، وقد تعرَّقَتْني السنون، وتعلّقتني المَنون، فإلى الله المُشتكى، ثم انتحب وبكى، فمسح الآخر عُثْنونَه، وأوضح مكنونه، ونظر إلى صاحبه شَزْرَا، وعاب فعله وأزرى، وقال: يا عجبا لهذه الفَليقة، هل تغلِبنَّ القُوباء الرِّيقة، ويحك بهذا أتيت، هلاّ حكيت، قبل أن بكيت، ثم أقبل عليّ وبسمل، ومَثُل بين يديّ وحمدل، وأحسن التحية وجعفل، وقال: اسمع أيها السيد، لا كان المُتزَيِّد، أنا رجل زاهد، وهذا بما أقول شاهد، وقد كان عوَّل على الحكاية، فعدل إلى الشكاية، أنا أعرف الشيخ عبيد، وقوام عيشي من الصيد، حداني على هذه الصناعة، رغبتي في القناعة، نظرتُ إلى الدنيا بعينها، فما اغتررتُ بمَيْنها، ولا أوثقتْني بخداعها، ولا أوبقَتْني بمَتاعها، رأيت قُصاراها الفناء، فقلتُ فيم أقاسي العناء، وكم يا نفس البقاء، وإلام هذا الشقاء، لم لا أعتبر بمن سلف، وأطَّرِح هذه الكُلَف، وأنظر إلى عِراص الحِراص، وآثار ذوي الإكثار، ودور الصدور، ومنازل أهل المنازل، ورِباع أولي الباع، وذوي الأتباع، الذي صعَّروا الخدود، فصُرِّعوا في اللحود، وجاروا عن الحدود، فجاوروا الدود، جهلوا فلهِجوا بالحُطام، ورضعوا فضرعوا بالفطام، عَمُوا فما أنعموا النظر، ومرقوا فما رمقوا العِبَر، خُوِّلوا فتخيَّلوا المقام، ومُوِّلوا فأمَّلوا الدوام، تعادَوْا على رائقها، فتداعَوا ببوائقها، منحتْهم، وبنوائبها امتحنتْهم، ونطحتْهم، وبأنيابها طحنتْهم، لبسوا فأبلسوا، وسُلبوا ما أُلبسوا، نهوا وأمروا، ولهوا وعمَروا، بلغوا وغلبوا، وجلبوا وخلبوا، برَّتْ بهم ولطفت، ثم كرَّت عليهم وعطفتْ، أعارت فأبهجت، ثم أبارت فأنهجت، ترنَّمت فأطاحت نغماتُها، ثم تنّمرتْ فأحاطت نقماتُها، كم نكست من سكَّنتْ، وكمنت لمن مكَّنت، كم وهبت ثم نهبت، وأتعبت من أعتبت، وأخمدت من أخدمت، ولكمت من أكرمت، وما رحمت من حرمت، بل أغرمت وأرغمت، فغفلوا حتى أفلوا، وطلعوا حتى عطلوا، وطلبوا حتى بطلوا، فعادت أموالهم وبالا، ولم تُغن عنهم قِبالا، ثم رغَّب في الخير وغرّب، ورطّب حُنجوره وطرَّب، وأنشد أبياتاً في الزُّهد، أحلى من الشُّهْد، بعثني على حفظها، سلامة لفظها وهي: غريقَ الذنوبِ أسيرَ الخَطايا ... تنَبَّه فدُنياك أمُّ الدَّنايا تَغُرُّ وتعطي ولكنّها ... مُكَدِّرةٌ تسترِدُّ العَطايا وفي كلِّ يومٍ تُسَرِّي إليك داءً فجِسمُك نَهْبُ الرَّزايا أما وَعَظَتْك بأحداثِها ... وما فعلت بجميع البرايا ترى المرءَ في أَسْرِ آقاتِها ... حَبيساً على الهمِّ نُصْبَ الرّزايا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 وإطلاقه حين تَرْثِي له ... وَحَسْبُك ذا أن تُلاقي المنايا ويا راحلاً وهو ينوي المقام ... تزَوَّد فإنّ الليالي مَطايا ثم إن الشيخ رجع، فنثر بعد الإنشاد وسجع، وذكر كلماتٍ استغربتُها، فاستعدتها منه وكتبتها، وهي: الأيّامُ تُكدِّر، لكن المرءُ يُقَدِّر ... أحلامٌ سُعودُها، دارٌ المَيْنُ وُعودُها الإجْرام زادُها، إذ تُرَدّي مَن يَرْتَادها ... إظْلامٌ إصْباحُها، دنيا الخُسرُ أرباحها وحُطامٌ مَتاعها، شَيْنٌ وهو خداعها ... نِيامٌ فيها نحن، أما نُهانا غالَ الوَهْن أنعامٌ سُكّانها، حتى عَمَّ بُهتانُها ... أَرْمَامٌ حِبالُها، عِرْسٌ الهجرُ وِصالُها فِطام إرْضاعُها، ظِئرٌ تخدع نُهاك ... أَيْتَامٌ أولادُها، أمٌّ الغَيُّ رَشادها إعْدام جُودُها، إذا لانعدام وُجودها ... أَسْقَام أفعالها، لكن الشَّهْدُ مَقالها فقلت: أراك قد تكلّفتَها، ففيم هكذا ألّفتها، قال: لأنها درّ مُنظّم إن قُلِّبت وشعر منظوم إن قُلبت، وشحَّتُها بزينتَيْن، وصحّحتها كلَّ بيت من قرينتَيْن: أما تَراها كَخَوْدٍ أقبلَتْ بقِبا ... وغَيَّرَتْ زِيَّها خَوْفَاً من الرُّقبا تلَوَّنَتْ فَحَكَتْ في الحالتَيْن أبا ... بَراقِشٍ وأتتْ في عِدَّةِ النُّقبا ثم كرّ يذكر المنيّة، وذمِّ الدنيا الدنيّة، وقال: مُرَوَّغٌ طالبُها مُعَذَّبٌ خاطبُها مُنَكَّصٌ آمِلُها مُمَنَّعٌ مَعْرُوفها مُسبَّبٌ مَخوفها مُنغَّصٌ آكِلُها مُضَعْضعٌ جَنابُها مُشَوَّبٌ شرابها مُغَصَّصٌ ناهلُها مُنْقَطعٌ مَتاعُها مُخَيَّبٌ مُبْتاعها مُخْتَرَصٌ نائلُها فقلت قد عرَّفتني شِكالك، ووقفتني على حلّ إشكالك، ولعمري قطوفها دانية، ولكن مقلوبها ثمانية، ولو كانت مثل أختها، لرُزقت مثل بختها، فألقى ما كان حامله، وفرك غيظاً أنامله، وقال: إن قدرتَ في تقطيعها، على حصر جميعها، وعددت آحادَها والثُّنى، فقد بلغت المُنى، أتِّخذُك إذاً من الناس خِلاّ، وأُسَوِّغكَ ما معي حِلاّ: تمَلُّها فهي وربّي المُعينْ ... أربعةٌ تُوفي على أربعين تُذْكِرُك السادةَ أَعْنِي الأُلى ... عاداهُمُ فيك الشُّيَيْخُ اللعين فلما اعتبرتها، أكبرتها، وقبّلت عينيه، وأقبلت بكُلّي عليه، فقال: مالي لا أستغني عن الخلق، بالحلال الطلق، وأتيه على أصحاب العصور، وأرباب السُّدَد والقصور، كيف أتناول ما لا يحلّ، وأتطاول إلى ما يضمحلّ، وبم أفاخر، وأبي العظم الناخر، وبعد فمن الخالد، وما يُغني الطارف والتالد، والغنيّ أسوأ حالاً من الفقير، يوم الحساب على الفتيل والنقير، واطَّلعَ على نيتي، عالمُ سِرّي وعلانيتي، فاجتزتُ يا ابن الأماجد، ببعض المساجد، وقد تلا في المحراب إمامه، أُحلّ لكم صيد البحر وطعامه، فنبّهني على الاصطياد، إذ نويتُ حُسن الارتياد، وقلتُ هذا باب الأرباح، ومن أسباب المباح، أتَّجِرُ بلا بضاعة، من غير خُسرٍ ولا إضاعة، فقصدتُ شيخاً يعمل الشبك، فحَباني أجودَ ما حبك، وادَّخرت القصب والبكر، ادخار من نصب واحتكر، وقلتُ لا بد من الآلة، والإعداد لهذه الحالة، غيري يعُدّ الدنانير، وأنا أعدّ الصنانير، ثم إني بَكَرْتُ إلى الشطّ، قبل بكور البط، فبينا أنا أسرح، وأفكر كيف أطرح، إذ دعاني هذا الشيخ الحَصيف، الذي شتاؤه مَصيف، وقال يا ابن الأنجاب، هلُمّ إلى الشيء العُجاب، أدرك هذا الحوت، وإياك أن يفوت، فإن أهملته فاز، فإنه على أوفاز، فلما تقدمتُ إليه، وأشرفت عليه، سمعته يقول لحوت آخر، أظنه طاوله وفاخر، ويحك أنا أوحد الحركة، وأرضي أرض اليُمن والبركة، أنا من خير البقاع، وأشرف الأصقاع، أنا من الكورة المذكورة، ذات السجايا المشكورة، بلدي ترابه عبير، وثوابه كبير، وحجرُه محجوج، وشجره يَلَنْجوج، ثم انفتل وتثنّى، وأوقع لنفسه وغنّى: بقُطْرَبُلَّ القَطْرُ بلّ ... سُهولَتَها والجَبَلْ نَشَأْتُ فهل من فتىً ... له بجدالي قِبَلْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 ويحك أريد البَيّاسيّة، لا العبّاسية، والتي أشرقت، لا التي شرّقت، والتي لها النهي والأمر، لا التي تُنسب إليها الخمر، وأنت من سكان، هذا المكان، من الجفاة الفِظاظ، والأجباس الغِلاظ، من العتاة الغدرة، أُهَيْل هذه المدرَة، لنا الظلال والأندية، ولكم الجبال والأودية، الماء منّا إليكم، والمنّة لنا عليكم، يا نَقَضَة العهود، أخلاق الفهود، أليس صاحبكم غدر، وأعقب الصفوَ الكدر، وعَقّ أربابه، وتناسى أحبابه، لا جرم أنهم جانبوه، فما كاتبوه، ونسوه، وما وانسوه، وألغوا حرمه وأنكروه، وأقسموا أنهم لا ذكروه. فقال المقصود بالمحاورة، لقد أضعت حقّ المجاورة، مهلاً أَبَيْت اللعن، كُفّ ولا تُكثر الطعن، واسأل العفو إن عفا، فمن اغتاب خرَّق ومن استغفر رَفا، إن كنت سِحْت، تطلب السُّحت، فامضِ لطيّتِك، وانزع عن خطيئتك، وذرِ القَدْح، ودونك الكدح، مالك والنميمة، والأخلاق الذميمة، فلا وأبيك إن كان نزع، ولا نهاه الوعظ ولا وزع، فعلمتُ أنه من الحُسّاد، وطالبي الإفساد، وأمهلته حتى بسط وشرح، وقسط وجرح، ثم رميت نحوه بالشِّصّ، ودببتُ إليه دَبيب اللصّ، وكنتُ قد طعّمْت، قبل أن أَعَمْت، وقلتُ يا غافر الحُوب، وعالم الغيوب، إن كان كذب على أهل بلدي، فأوقِعه بجُرمه في يدي، فحُملتْ دعوتي على الغمام، لتورُّعي عن الحرام، وإذا هو قد عَلِقَ، واضطرب وقلق، وكلما رفعه الموج الطامي، أنشد متمثِّلاً للقَطاميّ: ليست تُجَرَّحُ فُرّاراً ظُهورُهمُ ... وفي النُّحورِ كُلومٌ ذاتُ أَبْلادِ فلما رأيته غويَّ الشيطان، قويّ الأشطان، خفتُ أن يقطع الشعَر، فزحفتُ وما شعر، ولذعتُه بالرُّدْنَيْن، ورفعته إلى القُوبَيْن، وقلتُ خذها من عُبَيْد، وأنشدت لفارس زُبَيْد: عَلامَ نقولُ الرُّمْحُ يُثْقِلُ ساعدي ... إذا أنا لم أطعن إذا الخيلُ كَرَّتِ وها هو ومن يراه، في الصرعى كما تراه، وقد تلوتُ ما بلوتُ، وألقيتُ وما أبقيت، فانظر ماذا تصنع، وما جوابك عما تسمع، فقلتُ: ورافع ذات البروج، وما لها من فروج، والذي ألهمك، أن تغتال السمك، وأحلّ لك الميْت، وأسكنهم هذا البيت، وجعل عيشك في كشف عَوارك، وإبداء شُوارك، وزواك عن طلب المعالي، وجَلاك في سلب السَّعالي، ووكلك بالسِّياحة، وطول السباحة، كاسَف البال، مُرَعْبَل السِّربال، ما كان ما زعم، ولو صدق لقلتُ نعم، أأكون خائنا، وأحلف مائنا، فأجمع بين الحنث والخيانة، وأنسلِخ من الديانة، لكن تقوّل عليّ، فيما نسبه إليّ، تعدّى، فتردّى، وفرّط، وتورّط، وعاث، فما ظَفْرَ بمن غاث، وجار، فما وجد من أجار، تزيّد وافترى، فصار إلى من ترى، كان من الطغاة، فأُخذ مع البغاة، أعوزتهم الملاحِد، فجمعهم قبر واحد، انظُر إلى سوء حاله، وقُبح مآله، مات وشفتُه قالصة، ومُقلتُه شاخصة، فلا تغمض عينه، وقد حان حينه، ولا يُشَدّ لَحْيُه، بل يُشقّ نِحيُه، وسيبدو ما أخفى من الشَّنار، ثم مصيره إلى النار، فبالله إذا سلختَه وملّختَه، فقل يا خائن وَشَيْت، وبالنميمة مَشَيْت، فهذا لأهل النمائم، وعُقباك لكل ظالم، والله ما حُلْت ولا أَذْنَبت، ولقد قلت فأطنبت، وإنما الرسول كان، أيها الشيخان، فاذهبا عجَّل الله جزاءكما، وأحسن فيكما عزاءكما، لقد حويتما النَّوْك جِدّا، وجئتما شيئاً إدّا، من يظنّ بك من بعدها الزَّهادة، ومن يقبل من صاحبك الشهادة، وحوتِ موسى وفَتاه، ما نطقت شفتاه، ولهذا نسياه وشخصا، فارتدّا على آثارهما قصصا، ولا ادَّعى يونس لحوته ذاك، فدعنا يا عُبَيْد من أذاك، لعلّه كان في المنام، فهو أشبه بالأحلام، كلا بل شبّهتُما، فنبّهتُما، وحكيتُما، فأبكيتُما، وجعلتما الحوت مثَلا، وما ضربتماه إلاّ جدلا، كنِعاج الخصم إذ تسوّروا المحراب، حتى خرّ داوود راكعاً وأناب، وسأُنيب إلى تلك الموالي، بكشف أحوالي، واحرِص على الراحة، ببراءة الساحة: فأُقسِمُ أنّي ما نقضتُ عُهودي ... ولا حُلتُ يَوْمَاً عن وِداد وَديدي وأَسْتَعطِف القاضي سعيداً فإنّه ... به نَجَمَتْ بين الأنام سُعودي وأجعلُ من جُودي هُجودي على النَّوى ... فَمِنْ عَدَمٍ حتى اللقاء، وُجودي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 فيا دَوْلَةَ البُعدِ الوَخيمةَ أَقْشِعي ... ويا مُدّةَ القُرب الكريمةَ عُودي لتَبْيَضَّ آمالي وتسْوَدَّ لِمَّتي ... ويخْضَرَّ من بعد الذُبولة عُودي وَتَنْعمَ سُكْراً نفسُ كلِّ مُخالِصٍ ... وَيَرْغَمَ غيظاً أَنْفُ كلِّ حسودِ وله مما أودعه رسالةً أخرى سمّاها بالكُدريّة على لسان قَطاتَيْن، اختصرتها: سِرُّ حَياةٍ وشَرُّ مَوتٍ ... حياةُ نَفسٍ وَمَوْتُ قلبِ حِزْبان مِن باطلٍ وحَقٍّ ... ما بَرِحَا في عظيمِ حَرْبِ فَكَوْنُ ذا في نعيمِ رُوحٍ ... بكَوْنِ ذا في أليم كَرْبِ ومنها: ما كُدْرِيَّةٌ كدَّرَ البَينُ مَشارِبَها، وأبهمَ الحَيْنُ مَسارِبها، عضَّها بالسُّخْط، ولم تَخْطُ، وغَضَّها بالسَّجْن، ولم تَجْنِ، تُصبح كالكُبَّة، لضِيق القُبَّة، فتَطَّلِعُ من الكُوى، وتضطلع بما يوهي القُوى، تتسامع في الصياح، وتبُثُّ الرياح، جوى الارتياح، فبينا هي في دَرسها، رافعة جَرْسها، عارَضتْها أُخرى فسقطت حيالها، وأنكرت حالها، وقالت: قد وسَمْتِ القَطا بالخُرْق، فانْتَفي من الوُرْق، أصبحتِ في المقام الأمين، كأصحاب اليمين، في حِصنٍ حصين، وبناءٍ رصين، قد مُهِّدَتْ أرضُه، وتناسبَ طوله وعَرضُه، الجارحُ يدنو إليكِ، ولا سلطان له عليك، إن عَفَتْكِ النُّسور، حال دونك السُّور، وإن حامت عليك اللِّقوة، خامَتْ ولها الشِّقوَة، وإنْ جمحَ نحوك الصَّقْر، جنحَ وحظُّه الفَقْر، مُحجَّبةٌ في القصر، مؤيَّدة بالنَّصر، يقومُ بطُعْمِك سِواك، ومتى وجدتِ الصَّدى أرواك، آمنةٌ من الطَّيش، لا يَكُدُّك طلبُ العيش، أعزُّ من الغزالة في الدُّلوك، مكرَّمةٌ كبنات الملوك، قد تسلَّفْت الراحة، وربحْت السَّاحة، ما عذرُك في الرَّقص، وهو من دواعي الوَقْص، ونتائج النَّقص، ويحك إنَّ الحَصان، مَن لفَّها الخَفَر وصان، ولن تَعدم البَرزَةُ قادِحا، وقَولاً فادحا. ومنها: فاقْنَي حَياءَكِ أنْ تصيحي ... وتقبَّلي قول النَّصيحِ والصَّمْتُ أجملُ فاصْمُتي ... إذْ ليس نُطقُكِ بالفصيح وأَبشري براحة الإطلاق، ومَسرَّة يوم التَّلاق، فإنَّ رضاع القلوب، فَطْمُ النُّفوس عن المطلوب، فاجعلي الحكمة زادَكِ، واعلمي أنَّ ما نقصك زادك، وهذه إشارةٌ تكفُّك وتكفيك، إنْ نجعَتْ فيك، فتأَوَّهَت المَسجونةُ آهةَ حَزين، وفاهَت عن عقلٍ رزين، وقالت: هَناكِ، نَيلُ مُناكِ، وعَداكِ، مَيْلُ عِداكِ، ومُتِّعْتِ بسَعة الفضاء، ومُنِعْتِ من صَرف القضاء، ولا حرَمَك، أن تأْوي حرَمَك، وسلَّمك، ولا أَسْلَمَك، أَأَن خلا قلبُك، وحَلا قليبُك، فما غَلا حَبُّك، ولا حبيبك، واستطعت لذَّة النَّوم، قطَّعت أُختكِ باللَّوم، كلٌّ يعبِّرُ بلسانه، ويُخبر على قدْر إحسانه، ويشرح أوصاف العرَض، ولو صاف سهمُ الهدفِ، عن الغرض، فإنَّ المناطق، أحلى من حليّ المناطق، ومنها غُثاء السَّيل، وجَمع حاطب الليل، والحشَف وسوء الكيل، إنَّما صدَّك عن الإنصاف، أَشَرُ المَكْرَع الصّاف، باختيارك طِرْت، ولهذا بَطِرْتِ، وإليك سَراحُك، فمن أجله مَراحك، ما رقصي للطّرب، بل لابتغاء المُضطرب، ولا صياحي إلاّ للحَرَب، وفَوْت الأرَب: ورُقادي إنَّما ينْ ... فيهِ هَمٌّ أنا فيه وفؤادي مِحَنٌ تع ... ريه هَمٌّ يعتريه حسبي ضيق المَقرِّ، وتعذُّر المَفَرّ، في بيت تدانى سقفُه، وأقرع رأسي نَقفه، وأخلق جناحي زَقْفه، وعدَلني عن البَراح، ورَوح المَغدى والرَّواح، وِردي الغُمْرَ بعد الغَمْر، فكأنَّه قدح الخَمر، يُخال لسواده القار، ثَمَدٌ لا يُغيِّب المِنقار، على طُعمٍ يُعَدُّ من الصِّلة، دون نصف الحَوصلة، قدر ما يسقي الماء، ويُبقي الذَّماء، وكلَّما ألقاه إليّ، وبثَّه لديّ، أقول من ها هنا أُتيت، وبمثله دُهِيت، ولقد أنشدني، قبل أنْ شدَّني: طِرْ أَيُّها الطَّير واهْجُرْ ما خُدِعْتَ به ... فليس للحُبِّ نُلقي الحَبَّ لِلعاصي وإنَّما هذه الأشياءُ سائرُها ... وإنْ حلَتْ لك، أشراكٌ لأَقفاص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 لكن الحرص والشَّره أَصَمّاني، والمِقدار بسهمه أصماني، وكنتُ لا أقبل المِنَّة، ولا أخاف الظِّنَّة، فدُفِعت إلى ما ترَيْن، أنْ عصيت الدِّين: وإذا ما منحتُ دهري عِتابي ... فرَثى لي وجَدَّ في إعتابي طلَعَتْ شمسُه عليَّ خُطوطاً ... فجلَتْني في لملبَس العَتّاب وقَيِّمي الصَّغير، كأنَّه ليثٌ يُغير، علِم أَنّي أُجالسه، ثمَّ أُخالسُه، أسْتَسْلِم إليه، ثم أُسلِّم عليه، كامنة لانتهاز الفرَص، واختيار القفص على القفص، فبعثه فرط ظَنِّه، أنْ تَمثَّل على صغر سِنِّه: رُبَّ شَدٍّ في الكُرْز، وأخلى حُلَّتي من الطُّرْز، فعمد إلى القوادم فحَصَّها، وإلى الخوافي فقصَّها، وأبعدني من المؤالف، وأقعدني مع الخوالف، كيف يلائمني السكون، وأيُّ صَبرٍ يكون، إذا نظرت إلى أضرابي، ومَن عرفت من أترابي، وقد توالَفْن أزواجا، ورُحْن بعيني أفواجا، كلٌّ يرجع بالعَشِيِّ، إلى وَكره المَغْشِيّ، من طيِّب المآكل، إلى الحبيب المُشاكل، ومن صَفو المَناهل، إلى الرَّبْع الآهِلْ، قد اكتفى وانكفى، وَوَفي له كما وفى، فاذْكر مسكني، وما يفوت من سكَني، فليتَ شِعري حين آضَ، بمَن اعتاض، ولمّا راح، إلى مَن استراح، أظنّه اسْترجع تلك الفَينة، وسأل عنّي جُهَينة، فلمّا لم أعد إليه، وعَمِيَت الأنباء عليه، شدَّ إلى سِواي الرِّحال، وفي عَرارٍ خَلَفٌ من كَحْل، ليت شِعري مَن حَبا تلك الأنفال، وخلَّفني في الأُصَيْبِيَة الأطفال، ومَن هازَل الغصنَ المائل، وغازل تلك الشَّمائل: ومَن وردَ الماءَ الذي كنتُ وارداً ... نعم ورعى العُشْبَ الذي كنت راعيا وما أنا وابتغاء المُجون، وشكواي من السجن المسجون، إشارةٌ يطيش عنها سَهْمُكِ، ويطيح منها فَهمُك، ويستغرق مِقولُها صِفاتِك، ويغرق مِعولُها في صفاتك، فاخلعي بقدسها نعلَيك، واخْصِفي من وَرَقها عليك، فإنَّ حِمى الحقيقة، لحامي الحقيقة، مَنْ لي بذات الأضا، ووادي الغَضا، آه على عصر الكثيب، في الخِدن المُثيب، وبُكرة العلَم، بذي سلَم، ونسيم العِشا، بعَسيب أَشا، لا أشري بيوم الغَدير،، ملْكَ الخَوَرْنَق والسَّدير،، ولا أرى لبُرود الما، بَرْد عشِيَّاتِ الحِمى، إذ تَميدُ بي لِدان الأعواد، بالجَهْلَتين وبَطن الواد: بأَصبى إلى ما فارَقَتْ يوم فارقتْ ... من العُشِّ والعيش الرِّضا والمُعاشِرِ وماضي الصِّبا منّي إلى مَن فِراقُه ... رَدايَ ومَن لقياه إن متُّ ناشري وما حالُ مَن تنأَى معاشِرُ أُنْسِهِ ... فيُضحي ويُمسي بين شرِّ مَعاشر وإنَّ مُحَيّا الليث يَكشِرُ ضارِياً ... لأَمْلَحُ مِن وجه العدوِّ المُكاشِر يمُدُّ بَناناً بالسّلام مُشيرَةً ... قضى العدلُ فيها لو تُمّدَّ لِواشِر فها أنا حتى يُبشِر اللهُ مُنعِماً ... بقربِكُمُ للإنس غيرُ مُباشِر والسلام على سادة الإخوان، وذادة الأحزان، سلاماً تحفُّه التّحيّات، وتحفّه الكرامات والبركات، فلبعدهم الكَرى مات. وله وقد أودعها كِتاباً في استدعاء المُكاتبات: فلا تُخلِني منها فإنَّ وُرودَها ... لعَيني وقلبي قُرَّةٌ وقَرارُ وفي الكتْب نَجوى مَن يَعِزُّ حِوارُه ... وتقريبُ مَن لم يَدْنُ منه مَزارُ قضى الله تسريحاً مُريحاً من الأسى ... بقربِكُمُ إنَّ البِعاد إسارُ وله وقد أودعَها أُخرى: أَما لهذا البِعاد مِن أمَدِ ... فيُطفِئَ القربُ لاعِجَ الكَمَدِ ويجمع الدَّهر شملَ مُنفردٍ ... أصبح يبكي لنأْي مُنفردِ فوالّذي راعَني بِبَينِكُمُ ... فَعيلَ صَبري وخانَني جلَدي ما أَتّقي الموتَ عند ذِكرِكُمُ ... إلاّ بوَضْعي يدي على كبِدي وطالما بِتُّ فيكمُ قَلِقاً ... أقطع ليل التَّمام بالسَّهَد فما درى النّاسُ ما أُكاتِمُهُ ... ولا شكوْتُ الهَوى إلى أَحَدِ وله أُخرى وقد أودعَها كتاب عِتاب: فإنّا رِضِيعا وِدادٍ صَفا ... وناسي الرِّضاعة بئس الرَّضيعُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 أتحْفَظُه في زمان الصِّبا ... وعند اكتمال نُهانا يَضيعُ ويِثني هَوانا، على أَنَّه ... شريفُ المَناسب، ساعٍ وَضيعُ وله تعزيةٌ بابنٍ صغير: أَرَّقني أَنْ بِتَّ مَتبولا ... موَكَّلاً بالحزن مَشغولا على هلالٍ ما بلغْتَ المُنى ... فيه ولا نِلْتَ به السُّولا فكمْ خشِينا أَنْ نرى يومَه ... لو أنَّ لِلْمَقدور تَحويلا لكنْ غدا إشْفاقُنا باطلاً ... وكان أمر الله مَفعولا فاصْبر على بَلواه تلْقَ الرِّضا ... فالصَّبر عند الصَّدمة الأُولى وله وقد أودعها تعزية بامرأةٍ وذَكَرَ في وصْفها: في حياةٍ مَزينةٍ بحَياءِ ... خلفَ سِترَيْنِ مِن حِجىً وحِجال ذَكَرُ العقل وهي أُنثى أَلا رُ ... بَّ نِساءٍ لها عقول الرجال وله تعزيةٌ بأخٍ: سطَّرتها عن هَمٍّ ناصب، وقلقٍ واصِب، وعَبرَةٍ سافِحَة، وزَفرةٍ لافِحة، لفقد من حرَّم فقده السُّلوان، وأضرم في القلوب النيران، ذي الرَّأي الأصيل، والحِجى والتَّحصيل، قِنْوِ أُرومته، وصِنو أُمومته، أجمع باسه لإيناسه، وأمتع ترابه في احتراسه، ومَن فقِد الدَّهر بفقده حِصن الحَزامَة، وقلَّم بيومه ظُفر الشَّهامة، وصَلَمَ أُذُن الظَّرف والوَسامَة، وأخرس لسان الفصاحة، وأصمَّ سَمع الفضل، والرجاحة، وفقأَ عين الكمال، وجدع أنف الجَمال، وصدعَ فؤادَ الإفضال، وانتزع قلبَ السُّودد من صدر الجَلال، وفَقَر ظهر السَّداد، وبقَرَ بطن الرَّشاد، فرَبْعُ النَّدى بعده بَيْتٌ مَهجور، والكرَم حَجُّه مَحجور، والشرف غامض الصُّوى، والمَجد مضَعْضَع القوى، والعرف بائر السوق، والبِرُّ ضائع الحقوق: وفي حفرةٍ حَتف الأُسودِ مُوَسَّدُ ... وتحتَ صَفيحٍ ذُو الصَّفيحةِ مُلْحَدُ وأوحَدُ هذا النّاس في العلم والهُدى ... وَحيدٌ، وفَردُ البأْس والجودِ مُفرَدُ فتىً خلَّدَ الذِّكْرَ الجميلَ لعلمِه ... بأنَّ أخا الدُّنيا بها لا يُخلَّدُ محاسنُ تُتلى من محاسنَ تَمَّحي ... فللَّه مَيْتٌ بالبِلى يتجَدَّدُ ولو كان ينجو ذو الكمال من الرَّدى ... إذاً لنَجا منه النَّبيُّ محمَّدُ وله في التهاني من تهنئةٍ بمولود: أبهجَني شُروق الهلال، الطّالع بالسَّعد والإقبال، الذي آنسَ بُرجَ السِّيادة، وبشَّر باليُمن والزِّيادة، تنافس في يده الرُّمح والحُسام، وحنَّت إليه في وِفاضِها السِّهام، وصُبَّت نحوه الطُّروس والأقلام، وتوقَّعَتْ ظهورَهُ ظُهور الجياد، وأتْلعَتْ لِحُلِيِّه عُطُلُ الأجياد، وتاقت إلى التَّجَمُّل بمكانه المَجامع، واشتاقت إلى التَّلذُّذ ببيانه المسامع، ولقد تخلَّقَ مَرضِيَّ الخليقة، وخلع العقوق بلبس العقيقة، وحُبِيَ بكرَم الشِّيمة، زمنَ المَشيمة، وفارقَ الغَرس زَكِيَّ الغِراس، ووافقَ النَّفاسَةَ وقت النِّفاس، ورغِبَ عن الوَضاعة، وقتَ الرَّضاعة، وأُلهِمَ هجرَ الأخلاف، قبل وصل الأخلاف، وأُكرِم باختيار المَكرُمة، قبل أخذ الحَلَمة، فاغتدى والمجد رضيعُه، ورقدَ والسُّودَدُ ضَجيعُه، وسَيَدِبُّ والشرف دِينه، ويَشِبٌّ والعُرفُ خَدينُه،، حتى يصبح مع الفِصال، مهذَّب الخِصال، وعند الإثغار، جامع الفَخار، ويَعمُرَ سُبْلَ آبائه، ويَغمُر بسيل حِبائه، فرزقه الله أمثاله، وبلَّغه فيه آماله، فهو المُجَلِّي للهموم وكان بالسَّبق المجلِّي، ولسوف يتلوه إلى الأَمد المُصلّي والمُسلِّي، ويضاعف الله السّعود بهم لسيِّدنا الأجلّ. وله يقصد التَّجنيس: أرى الدَّهر أغنى خَطْبُه عن خِطابه ... بوَعظٍ شفى ألبابَنا بلُبابه وجرَّد سيفاً في ذُباب مَطامعٍ ... تهافتَ فيها وهي فوق ذُبابه له قلبٌ تهدي القلوب صَوادِياً ... إليها وتَعمى عن وشيك انقلابه هو اللَّيثُ إلاّ أَنَّه وهو خادِرٌ ... سطا فأَغاب الليثَ عن أُنس غابه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 إذا جال أَنساكَ الرِّجالَ بظُفره ... وإنْ صال أنساكَ النِّصال بنابه فكم من عروشٍ ثلَّها بشُبوبه ... وكم من جيوشٍ فلَّها بشبابه ومن أُمَمٍ ما أُوزِعَتْ شُكرَ عَذبه ... فصبَّ عليها الله سَوطَ عذابه وأشهد لمْ تسلَمْ حلاوة شُهده ... لِصابٍ إليه من مَرارة صابه مُبيدٌ مَباديه تَغُرُّ، وإنَّما ... عواقبه مختومةٌ بعِقابه ألَمْ ترَ مَن ساس الممالكَ قادراً ... وسارت ملوك الأرض تحت رِكابه ودانت له الدُّنيا وكادت تُجِلُّه ... على شُهْبِها لولا خُمودُ شِهابه أَليس أتاه كالأتِيِّ حِمامُه ... وفاجأَه ما لم يكن في حِسابه ولم يخش من أعوانه وعُيونه ... ولا ارتاع من حُجّابه وحِجابه لقد أسلمتْه حِصْنُه وحَصونه ... غداةَ غدا عن كَسبه باكتسابه فلا فِضَّةٌ أنجتْهُ عند انقضاضه ... ولا ذَهَبٌ أنجاه عند ذَهابه فحَلَّتْ شِمالُ الحَيْنِ تأليف شَمله ... وعَفَّت جُنوب البين إلْفَ جنابه وغُودِرَ شِلواً في الضَّريح مُلحَّباً ... وحيداً إلى يوم المآب لما به يترجِمُ عنه بالفَناء فِناؤه ... وما أَوْحشَتْ من سُوحِه ورِحابه وعرِّجْ على الغَضِّ الشَّباب برَمسِه ... وسائلْه عن صُنع الثَّرى بشَبابه ففي صَمته تحت الجُيوب إشارةٌ ... تُجيب بما يُغني الفتى عن جوابه سلا شخصَه وُرّاثُه بتُراثه ... وأَفْرَده أترابُه في تُرابه وأعجَبُ من دهري، وعُجْبُ ذوي الفَنا ... لعَمرُكَ فيه من عجيب عُجابه وحتّى متى عَتبي عليه ولم يزَلْ ... يَزيد أذى مَن زادَه في عِتابه إذا كنتُ لا أخشى زئير سِباعه ... فحتّامَ يُغري بي نَبيحَ كِلابه يُناصبُني مَن لا تَزيد شهادة ... عليه سوى بُغضي بلؤم نِصابه إذا اغْتابَني فاشْكُرْهُ عنّي فإنَّما ... يُقَرِّظُ مِثلي مِثلُه باغتيابه ويرتاب بالفضل الذي غمرَ الورى ... وفي بعضه لو شئتَ كَشفُ ارتِيابه ويَنحَس شِعري إنْ دبَغْتُ إهابهُ ... بهَجوي فقد نزَّهْته عن إهابه وله من قصيدة مبدؤها في الشيب: إذا كان مِن فَودي وَميضُ البَوارِقِ ... فمِنْ مُقلتي فَيضُ الغُيوثِ الدَّوافقِ تبسَّم هذا الشيبُ عند نزوله ... تبسُّمَ مَظنونِ الفؤاد منافِق شَنْئْتُ نجومَ الليل من أجْل لونه ... وأبغَضْتُ من جرّاه يوم الحدائق على أنّه في زَعمه غير كاذبٍ ... خلاف شبابٍ زَعمه غيرُ صادق وأحسَب أنَّ الصِّدق أوجبَ كونَهُ ... كثير الأعادي أو قليل الأصادق تمسَّك بميعاد المَشيب وعهدِه ... وكنْ بمَواثيق الصِّبا غير واثق ومنها: أيا دهرُ قد شيَّبْتَ قلبي وناظري ... فأهونُ ما عندي مَشيبُ مَفارِقي أَعندك أَنّي أَيُّها الدَّهرُ واهِنٌ ... وقد ذَرَّ في إلفِ النّوائب شارِقي ومنها في وصف الفرس: أَغَرُّ دَجوجِيٌّ كأَنَّ سَبيبه ... جناحا غرابٍ أُودِعا صدرَ باشِقِ جوادٌ على حُبِّ القلوب مُحَكَّمٌ ... يُبين بحسن الخَلْق عن صُنع خالق بهيجٌ يَهيجُ السّامعين صهيلُهُ ... ويُشعِرُ أنَّ العِزَّ خوضُ الفيالق ومنها في وصف السيف: وفي يَمنَتي ماضي الغِرار كأنَّه ... إذا اخترطَتْه الكَفُّ إيماضُ بارق له ضِحْكُ مَسرورٍ ودَمعةُ ثاكِلٍ ... وعِزَّةُ مَعشوقٍ وذِلَة عاشق يُسِرُّ قديمَ الحِقدِ وهو مُلاطِفٌ ... ويْبطِنُ في السّلسال نار الصَّواعق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 له من حديد الهند أكرمُ والدٍ ... وبين قُيون الهند أصنع حاذق ومِنْ شَقِّ هامات الفوارس شاهدٌ ... به من حميد الصَّمْتِ أبلغُ ناطِق وإمّا بدا مِن مَشرِق الغِمْد طالعاً ... فمَغْربه بين الطُّلى والمَفارق ها هنا قبضتُ يدي، وقضبْت جدَدي، وقطعت اختياري، وأطعْت اضطراري، فإنّي لو أتيت على فوائد الحصكفيّ المختارة، لأغرقت هذا الكتاب في أبحره الزّخّارة، فما عدَّه الانتقاءُ من نتف الحصكفيّ وأحصى كفى، وما أعدَّه الانتقاد لِمَن يُطالعه ممن بعدها كفلَ بالمَقصود ووَفى، ودأْبي في هذا الكتاب، أن أستوفيَ شرح فضائل الأفاضل من ذوي الآداب، إلاّ مَن لم يقع إليَّ ديوانه، أو مَن لمْ يجمع بيني وبينه بيانه، فإنّني مع صدِّه قنعتُ بمَوجود جَداه، ونقعْتُ الصَّدى بنَداه، والمقصود المَصدوق تكثيرُ الفائدة، وتخضير المائدة، وتوشيع المُسهَم، وتوشيح المُعلَم، وتطريز برود البُدور المُتجلِّية، وتبريز عقود العقول المُتحلِّية، فليَهَبِ المستفيدُ منها طولَها لطَولها، ولْيُعَوِّلْ على مسائل الفضائل في عَوْلها. ومن الأكراد الفضلاء الحسين بن داوود البَشْنَويّ ابنُ عمِّ صاحب فنَك، عصره قديم، وبيتُه كريم، ذكر الشاتاني أنَّ والده رآه، وتوفي في سنة خمس وستين وأربعمائة، وله ديوان كبير، وشِعرٌ كثير، ومن شعره في قصيدةٍ جيميّة يذكر فيها شَعَث بِزَّته مطلعُها: على الحُرِّ ضاقتْ في البلاد المَناهِجُ ... وكلٌّ على الدُّنيا حَريصٌ ولا هِجُ ولا عيبَ فينا غيرَ أنَّ جِبابَنا ... خِلاطِيَّةٌ، ما دبَّجَتْها النَّواسِجُ وله: أَدِمْنَةَ الدّار مِن رَبابِ ... قد خصَّك الله بالرَّباب يَحِنُّ قلبي إلى طُلولٍ ... بنَهْر قارٍ وبالرَّوابي ومنها: أآلُ طهَ بلا نصيبٍ ... ودولةُ النَّصْب في انتصاب إنْ لم أُجرِّد لها حُسامي ... فلست من قيسٍ في اللُّباب مَفاخِر الكُرْدِ في جُدودي ... ونَخوةُ العُرْبِ في انتسابي وله: جِسمي لعِلّةِ لَحْظِ الخَوْدِ مَعْلُول ... والقلبُ من شُغُلي بالحِبّ مَشْغُولُ بي لَوْعَةٌ لبيانِ البَيْنِ شاغلةٌ ... ولي دَمٌ في طُلول الحيِّ مَطْلُولُ يا دارَ سلمى عَلامَ الغيثُ مُنْتَجَعٌ ... ومِن دموعي عليكِ الغيثُ مَهْطُولُ كيف المَليحةُ لي بالوَصْلِ باخِلَةٌ ... والسِّحرُ من عَيْنِها للعينِ مَبْذُولُ سَقيمةُ اللَّحْظ أَبْلَتْ مُهجَتي سَقَمَاً ... ألفاظُها مُرّةٌ والثَّغرُ مَعْسُولُ فَلَيْتَها كَحَلَتْ عَيْنِي بناظرِها ... خَوْدٌ لها ناظرٌ بالغَنْجِ مكحولُ في طَيِّها خَفَرٌ، في طَرْفِها حَوَرٌ ... في سِنّها صِغَرٌ، في جِيدها طولُ ما مَسّها الطيبُ إذ طاب الحياة بها ... والطِّيبُ من خَفَر الغيداءِ مَعْمُولُ ما للهوى قد عَزَزْنَ الغانِياتُ به ... حتى تذلَّ لها الصِّيدُ البَهاليلُ لكنّني والهوى في حُكْمِه حَكَمٌ ... جاري عزيزٌ ومني البِشْرُ مأمولُ إن يَعْرِف الناسُ رَسْم الذُّلِّ في جهةٍ ... فالذلُّ عند بني مهران مجهولُ نحن الذُّؤابةُ من كُرْدِ بنِ صَعْصَعةٍ ... من نَسْلِ قيسٍ لنا في المَحْتِد الطُّولُ أمين الدولة أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد الشاتاني أخو علم الدين، وكان أكبر منه سناً وناب بخلاط عن وزيرها، واستقل بنظم أمورها، وتوفي سنة أربع وخمسين بها، أنشدني علم الدين الشاتاني لأخيه هذا، مما كتبه إليه: ولو أنّ دِجْلة فيها الفُرات ... وَسَيْحونُ والبحرُ كانتْ مِدادي وَجَيْحونُ والنيلُ، ما بَلَّغَتْ ... عُشَيْرَ الذي يحتويه فؤادي من الشوقِ يا مَن حوى مُهجتي ... وصَيَّر طَرْفِي حَليفَ السُّهادِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 فَشَوْقي يزيدُ وصبري يَبيد ... وَوَجْدي شديد لطول البِعاد أَفَيْحاءُ حُيِّيتِ مِن بلدةٍ ... سَقَتْكِ الغيومُ وَصَوْبُ الغَوادي ونالتْ ربيعةُ فيكِ الربيعَ ... وأخْصبَ رَبْعُك مِن كلِّ نادِ ففيكِ الشَّقيقُ وفيك الحبيب ... ومن حَلَّ منّي محَلَّ السَّواد هو العلَمُ الفَرْدُ نَجْلُ السعيد ... سعيدُ بنُ عبدِ الإله الجَوادِ فإن سهَّل اللهُ وَصْلاً لنا ... فسوف نرى ما يَسُوءُ الأعادي وإلاّ فإنّي الغريبُ الوحيدُ ... أُطيلُ المُقامَ على الإقتصادِ قال: وكتب إليّ أيضاً قصيدة مطلعها: بنَفْسي ورُوحي مَن يُرَجَّى لِقاؤه ... وعذَّبَني هِجْرانه وجَفاؤُه لَئِنْ كانتِ الحَدْباءُ رُوحاً لأهلها ... لقد هاج للقلبِ الحزينِ عَياؤُه ويا راكبَ الوَجْناءِ يُفْضي به السُّرى ... إلى المَوْصل الفَيْحاء يُعْطى رَجاؤُه قال: فكتبت إليه في جوابها أبياتً من جملتها: بنَفسيَ من أَفْضَى مُنايَ لِقاؤُهُ ... وَمَنْ وَصْلُه للمُستهام شِفاؤُهُ بنفسيَ من وافى إليَّ كتابُهُ ... كَزَهْر الرُّبى جادَتْ عليه سَماؤُه تجَلَّى لطَرْفي فاستنار بنورِه ... وأزْرى بإشراق الصَّباح ضِياؤهُ ومنها: إذا جِئْتَ أَخْلاطاً فقِفْ برُبوعها ... ونادِ بصوتٍ يُستطابُ نِداؤُه ومنها: أخي وشَقيق النَّفس والماجد الذي ... أجَلُّ أماني النفسِ عندي بقاؤهُ الأمير بهاء الدولة محمد بن الحسين بن شبل الجوني الكردي، من نسل بهرام جونين، صاحب قلعة شاتان، كان فيه فضل وأدب، وتوفي سنة إحدى وأربعين، ذكره علم الدين الشاتاني وذكر أنه كتب إلى والده: يا واغِلاً في المَهْمَه البَيْداءِ ... بالعِرْمِس الوَخّادةِ الوَجْناءِ أَبَلغ أبا منصورٍ النَّدْبَ الذي ... قد حلَّ مُعتَلِياً على الجوزاء عنّي السلامَ وقل له يا من غدا ... بقَريضه فَرْدَاً من الأكْفاءِ حاشايَ أن أنسى حقوقاً لامرئٍ ... قد حلَّ منّي مَوْضِعَ الآباءِ قال العلَم: وكتب إليّ وقد أردت الانفصال عن خدمته بشاتان إلى الموصل: أما مِن رسولٍ مُبلِغ ما أقوله ... إلى علَم الدين الإمام ويُنشِدُهْ بحُرمَة ما بيني وبينك لا تكُنْ ... مكدِّرَ ما صَفَّيْتَه وتبدِّدُهْ كغازِلةٍ غَزْلاً وتنقُضُه بما ... يفكِّر فيه قَلْبُها وتُجدِّدُهْ قال: وله أبيات أولها دال وآخرها دال: دَنا من مُحبِّيه الغزالُ المُباعِدُ ... وساعدَني فيه الزمان المُعانِدُ دَقيقُ مَجالِ الطَّوْقِ رِيمٌ مُكَحَّلٌ ... حَوى الحُسنَ جَمْعَاً فهو في الحُسن فارِدُ دَهاني بوَجهٍ نَيِّرٍ وبمُقلةٍ ... كأنَّ بها هاروتَ للسِّحرِ عاقِدُ دَلالُكَ لا يفنى وقد غالني الهوى ... وأنت خَلِيٌّ طولَ ليلك راقِدُ دُموعيَ قد أَقْرَحْنَ أَجْفَانَ ناظِري ... وقد خانني صبري وقَلَّ المُساعِدُ قال أنشدنيها هو من فيه. الرئيس أبو طالب الحسين بن محمد بن الكميت من أولاد الكميت الشاعر، كان رئيس قرية يقال لها أَنْعَين من أعمال أَرْزَن، وهي ضيعة جليلة، عامرة آهلة، وبها لبني الكميت الرئاسة والمَضيف للطرّاق، من سائر الآفاق، وكان شاعراً مجيداً لبيباً، وأريباً أديباً، يناقل الفضلاء، ويُساجل الكبراء، وكانت بينه وبين الأديب الخطيب الحصكفي مُناقلات، ولما كتب إليه الحصكفي القصيدة الطائيّة، التي سبق ذكرها، ومنها: بَسطتَ بِساطَ الأُنْس ثم طَوَيْتَهُ أجابه ابن الكميت بطائية منها: وما كان طَيُّ البُسْطِ إلاّ لأنني ... تيَقَّنْت أنّ البُسْط يُخْلِقُها البَسْطُ ومنها يصف الفلاة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 وَدَيْمومةٍ للجِنِّ فيها زَمازِمٌ ... كما رَجَّعن يوماً بألحانها الزُّطُّ وذكر علم الدين الشاتاني أنه انحدر إلى بغداد، وقصد العم الصدر الشهيد عزيز الدين بها ومدحه بقصيدة أولها: تطاوَلَ هذا الليلُ وهو قصيرُ ... وبِتُّ أُراعي النَّجمَ وهو يَسيرُ فقرّبه وولاّه، وأسدى إليه الجميل وأولاه، وناب عن ضياء الدين الكفرثوي، في حالتي وزارته للأمير الأحدب طغان رسلان، ولأتابك زنكي، وتوفي ابن الكميت قبل الوزير في سنة خمس وثلاثين، وله بنون فيهم الفضل والرئاسة، وديوان شعره موجود بالموصل وعند أولاده، ومن شعره: سَلْ وأَسِلْ إن لم تَصُب دمعاً دما ... عينُك في الدار أُثَيْلاتِ الحِمى والعلَمَ الفَرْدَ وباناتٍ به ... ظلائل، سقى الغمامُ العلَما ومنها: وا كبدي وأين منّي كبدي ... ماعَتْ فصارت ليَ في العين دما //باب في ذكر محاسن فضلاء الحجاز واليمن وقد ألحقت بالقسم الثالث شعراء الحجاز وتهامة واليمن، وأوردت مما سمعته من شعرهم الأحسن، وجعلت القسم الرابع لمصر والمغرب، وأثبت فيه المعرب المغرب، المعجب المطرب، ورأيت تأخير هذا الإقليم، الذي هو أولى بالتقديم، صيانة لمنزل الوحي ومهبط الذكر القديم، عن كلام البشر النظيم، فتيمنت في خاتمة القسم الثالث باليمن، ونظمتها في سلكه، فإن ملكها الآن لمالك الشام وتوأم ملكه، فإنها معدودة من مملكة بني أيوب، الذين عصموها من النوائب العصل النيوب، وملأوها بالمفاخر وفرغوا عيابها من العيوب، لقد تملأت اليمن يمناً، وعادت عدنها عدناً، وذهبت زبد زبيدها الجافية جفاء، وصارت أرض سباها العافية سماء، وطلع بها شمس الدولة شماً أبدى نور نجدها وغورها، وجلا بسنا إحسانه وعدله ديجور جورها، فآثرت إيرادها بين الشام ومصر واسطة لعقدهما، ورابطة لعقدهما. تمهيد تاريخي يعرض العماد في هذا القسم - قسم الحجاز وتهامة - أسماء عدد من الشعراء، وأكثر هذه الأسماء لا يقتصر على الجانب الأدبي وإنما يجاوز ذلك ليتصل بالأحداث التاريخية، أو يشارك فيها، أو يكون جزءاً منها. وقد يشير العماد إلى هذه الأحداث إشارة خافية أو خاطفة، وتدفع المختارات الشعرية ذاتها إلى استحضارها والتعرف إليها، وأكثر ما تكون هذه المختارات في هؤلاء الولاة والأمراء والأشراف العلويين الذين كانت لهم ولاية مكة والغلبة عليها في هذه الفترة، والذين كان تاريخهم - في منازعاتهم فيما بينهم، أو خصوماتهم فيما بينهم وبين بغداد والقاهرة - وهو تاريخها. وعلى ذلك فإن الصلات بين أسماء الذين كانوا يقولون الشعر أو الذين كان يقال فيهم الشعر وبين الأحداث التي كانت تدفع إلى هذا الشعر، لابد أن تكون بينة واضحة، حتى يكون عملنا في تحقيق التراث ونشره مجزئاً مجدياً. ولعل هذا أن يكون هو الذي دفعني إلى أن أقدم بين يدي هذه التراجم بهذا التمهيد التاريخي. وإنما أردت منه أن أرسم، في خطوط سريعة واضحة، هذا الإطار الزماني أولاً، وأن أضع كلاً من أصحاب هذه التراجم - والذين تشير إليهم - في موضعه من هذا الإطار وفي مكانه من الأحداث ثانياً، وأن أكشف عن صلات ما بين الأحداث والأشخاص ثالثاً، ثم أأتجنب أخيراً، في خلال النص، تكرار الهوامش وتباعدها وانقطاع ما بينها وإحالة بعضها على بعض. وحرصت في هذا التمهيد على أن أعرض الأحداث في تتابعها وترابطها، وأن أرسم جداول الأسر في بدايتها وتعاقب أفرادها وانقطاعها، واعتمدت في ذلك كله على ما وقع إلي من كتب الأدب والتاريخ، منطلقاً من إشارات العماد ومختاراته. الأشراف العلويون ولاة مكة بدأ الأشراف العلويون الحسنيون الولاية على مكة منذ أوائل النصف الثاني من القرن الرابع، وأول من وليها منهم الموسويون، ويقال لهم بنو موسى، الحسنيون، وأولهم: جعفر بن محمد بن الحسين الأمير بن محمد الثائر - لأنه ثار بالمدينة زمن المعتز بن المتوكل، ويقال له محمد الأكبر - بن موسى الثاني بن عبد الله الصالح بن موسى الجون ابن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم. وقد غلب جعفر على مكة بعد موت كافور الإخشيدي سنة 356 وقبل أن يملك الفاطميون مصر، فلما ملك المعز الفاطمي كتب له بولاية مكة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 ثم خلفه ابنه عيسى بن جعفر سنة 370 وظل يلي مكة حتى عام 384 وجاء بعد عيسى أخوه أبو الفتوح الحسن بن جعفر، وقد استثاره الحاكم بأمر الله حين طلب إليه أن يتنقص أقدار الصحابة رضوان الله عليهم في الموسم، ثفار وخلع الطاعة، وبايع لنفسه، وتلقب بالراشد، وخرج من مكة يريد الشام، ووصل الرملة، ودانت له العرب، وسلموا عليه بالخلافة، فاضطر الحاكم إلى استمالة قبائل طي، وآل الجراح بخاصة وسيدهم حسان بن مفرج، للتخلي عن أبي الفتوح، ووفق في ذلك، فلم يجد أبو الفتوح بداً من الملانية، فاستجار بمفرج، أبي حسان، وكتب له هذا إلى الحاكم، فرضي عنه الحاكم، وأبقى له ولاية مكة. وفي خلال هذه الثورة التي ابتعد فيها أبو الفتوح عن مكة سنة 401 وليها، بأمر من الحاكم، أو تغلب عليها، أبو الطيب داود بن عبد الرحمن بن أبي الفاتك عبد الله بن داود بن سليمان بن عبد الله الصالح بن موسى الجون ... ولكنه تنحي لأبي الفتوح حين عاد، وظل أبو الفتوح والياً حتى مات سنة 430. وخلف أبا الفتوح ابنه شكر، وجمع له بين الحرمين، مكة والمدينة، وتوفي والياً سنة 453. وبموته انقطعت ولاية أسرته على مكة، لأن عمه عيسي لم يعقب ولأن أباه الفتوح لم يكن له ولد إلا شكر، ومات شكر ولم يولد له قط. والفترة التي تلت وفاة شكر فترة غامضة، تصدى فيها للولاية عبد من عبيد شكر، فأغضب ذلك بني الطيب ونازعوه، واحترب بنو موسى وبنو الطيب السليمانيون حيناً من زمن، وكانت الغلبة لبني سليمان، ويظهر أن ولاية مكة في هذه الفترة كانت إلى رجلين منهم أحدهما: محمد بن أبي الفاتك بن عبد الرحمن بن جعفر، والآخر حمزة بن وهاس بن أبي الطيب داود السليماني. ودخل مكة سنة 455 صاحب اليمن علي بن محمد الصليحي وانتزع إمرتها من بني أبي الطيب السليمانيين، ولما انصرف عائداً إلى اليمن أناب عنه أبا هاشم، تاج مجد المعالي، محمد بن أبي الفضل جعفر بن أبي هاشم الأصغر محمد بن عبد الله بن أبي هاشم الأكبر محمد بن الحسين الأمير بن محمد الثائر بن موسى الثاني بن عبد الله الصالح بن موسى الجون.. - فكأنما رد الولاية إلى جماعة من ولد بني موسى - فخلصت له وبقيت في أولاده. ومحمد بن جعفر هذا رأس فرع آخر من بني موسى يقال لهم الهواشم، وهو كذلك رأس فترة جديدة يتعاقب فيها على ولاية مكة أبناؤه وأحفاده، حتى يغلب عليها فرع آخر من الأشراف هم بنو قتادة في نهاية القرن السادس. وفي ولايته كانت الفتنة بينه وبين التركمان سنة 484، وأخذه الحجاج سنة 486. وهو أول من أعاد الخطبة لبني العباس في مكة بعد أن انقطعت نحواً من مائة سنة، ولكنه صار يخطب بعد ذلك للعباسيين حيناً، وللفاطميين حيناً آخر، ويقدم في ذلك من تكون صلته أعظم. ودامت ولاية محمد بن جعفر إلى أن مات سنة سبع وثمانين وأربعمائة وقد جاوز السبعين سنة. وولي مكة بعده ابنه القاسم بن محمد، وظل حتى توفي سنة 517، فتكون ولايته نحواً من ثلاثين سنة. وخلفه ابنه فليتة وتوفي وهو في الإمارة سنة 527. وجاء بعده ابنه هاشم بن فليتة واستمرت ولايته حتى مات سنة 549. وفي عهده، سنة 539، وقعت الفتنة بينه وبين الأمير نظر الخادم أمير الحاج العراقي، ونهب أصحاب هاشم الحجاج وهم في المسجد يطوفون ويصلون، ولم يرقبوا فيهم إلا ولا ذمة. وخلف هاشماً ابنه القاسم بن هاشم عمدة الدين وعزل في سنة 556 في الموسم، عزله أمير الحج، ورتب مكانه عمه عيسى، وبقي عيسى إلى رمضان. ثم إن قاسما جمع كبيراً من العرب وهاجم مكة، فلما سمع به عيسى فارقها ودخلها قاسم، وأقام بها أميراً أياماً، وتغيرت نية أصحابه عليه بعد أن قتل قائداً حسن السيرة من قواده، فقتلوه، واستقر الأمر لعيسى سنة 557. واستمر عيسى بن فليتة والياً حتى توفي سنة 570. ونازعه الولاية سنة 565 أخوه مالك بن فليتة واستولى على مكة نحواً من نصف يوم. وخلفه ابنه داود بن عيسى، واستمر إلى رجب من عام 571. ووليه أخوه مكثر بن عيسى، ولكنه عزل في الموسم من سنة 571، وجرىبينه وبين طاشتكين، أمير الحاج العراقي، حرب شديدة كان الظفر فيها لطاشتكين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 وولي طاشتكين، بعقد من الخليفة المستضيء، القاسم بن مهنا الحسيني أمير المدينة، مكة وجمع له بين الحرمين، ولكن القاسم رأى من نفسه - بعد ثلاثة أيام - العجز عن القيام بأمر مكة، فولي داود بن عيسى من جديد. ويتداول داود ومكثر إمارة مكة، ويموت داود سنة 585، وينفرد مكثر بالولاية، ويكون آخر الهواشم أو آخر دولة بني فليتة الهواشم، وينتزعها منه الشريف قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن الحسين بن سليمان بن علي بن عبد الله بن محمد الثائر بن موسى الثاني.. في السنوات الأخيرة من القرن السادس سنة 597 أو 598 أو 599. ويختصم قتادة مع صاحب المدينة سالم بن القاسم بن مهنا الحسيني وفي ذلك يقول قتادة: مصارع آل المصطفى عُدن مثلما ... بدأن، ولكن صرن بين الأقارب وتستمر ولاية مكة في بني قتادة إلى فترة متأخرة، حين يعزل الإنكليز آخرهم الحسين ابن علي بن محمد وينفونه إلى قبرص. جمهرة الأنساب - عمدة الطالب - شفاء الغرام - خلاصة الكلام - طرفة الأصحاب - ابن الأثير - زامباور. الحجاز وتهامة شكر بن أبي الفتوح الحسني زعيم مكة شرفها الله تعالى وجدت في مجموع للسيد الإمام أبي الرضا فضل الله الراوندي مع ولده بأصفهان أنشدني الأمير ضياء الدين أبو محمد شميلة بن محمد بن أبي هاشم أمير مكة، بقاشان قال: أنشدني شكر بن أبي الفتوح الحسني زعيم مكة لنفسه: وَصَلَتْني الهُموم وَصْلَ هَواكِ ... وجَفاني الرُّقاد مثلَ جَفاكِ وحَكى لي الرَّسولُ أَنك غَضْبي ... يا كفى اللهُ شَرَّ ما هو حاكِ ابو محمد جعفر الحسني التهامي المكي قرأت في تاريخ السمعاني نسبه، يقول: هو أبو محمد جعفر بن محمد بن إسماعيل بن أحمد بن ناصر بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل ابن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، التهامي المكي، كان عارفاً بالنحو واللغة، شاعراً يمدح الأكابر لحصول البلغة، يصحب وفدهم، ويطلب رفدهم، وكان لا يرى أحداً في العالم فوقه، ويعتقد أنه ما وجد عالم في العلم ذوقه، وفي رأسه دعاو عريضة، تدل على أنها بالوساوس مريضة، قال السمعاني جرى يوماً حديث ثعلب وتبحره في العلم فقال: ومن ثعلب، أنا أفضل منه. دخل خراسان وأقام بها وعاد إلى بغداد وورد واسطاً، هكذا قول السمعاني، وتوجه إلى البصرة على عزم خوزستان وبلاد فارس ولا أدري ما فعل الله به وذلك في سنة نيف وثلاثين وخمسمائة. قال أنشدنا جعفر بن محمد بن إسماعيل التهامي المكي لنفسه ببغداد بالمقتدية: أما لِظَلام لَيلي من صَباحِ ... أَما للنَّجْم فيه من بَراحِ كأَنَّ الأُفْق سُدَّ فليس يُرْجَى ... له نَهْجٌ إِلى كُلِّ النَّواحي كأَنَّ الشَّمسَ قد نسجت نُجوماً ... تَسير مَسير أَّْوادٍ طِلاحِ كانَّ الصُّبْح مَنُفِيٌّ طَريدٌ ... كأَنَّ اللَّيْلَ باتَ صَريعَ راحِ كأَنَّ بَناتِ نَعْشٍ مُتْنَ حُزناً ... كأَنَ النَّسْرَ مَكْسورُ الجَناحِ خَلَوْت بِبَثِّ بَثّي فيه أَشكو ... إلى مَن لا يُبَلغِّنُي اُقتراحي وكيف أَكُفُّ عَنْ نَزَوات دَهْري ... وقد هَبَّتْ رِياحُ الإِرْتياحِ وإِنَّ بعيد ما أَرجو قريبٌ ... سيأَتي في غُدُوّي أَو رَواحي وقال أَنشدني لنفسه: مالي بما جَرَّ طرفي من جَنىً قِبَلُ ... كانت غَراماً لقلبي نَظْرةٌ قُبلُ مادَلَّ ناشدَ شَوْقي دَلُّ غانِيةٍ ... ولا أَفادتْ فُؤادي الأَعينُ النُجُلُ ولا دعاني إِلى لمَياءَ لَثْمُ لَمىً ... ولا أَطال وُقوفي باكياً طَلَلُ وإِنّما الحُبّ أَعراضٌ إِذا عَرَضَتْ ... لعاقلٍ عاقهُ عن لُبِّه خَبَلُ أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الأسدي الحجازي من أهل مكة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 لقي أبا الحسن التهامي في صباه، وكان بمكة مولده وبالحجاز منشاه، وتوجه إلى العراق وغصن شبابه رطيب، وبرد آدابه قشيب، واتصل بخدمة الوزير المغربي ثم ورد خراسان وامتد إلى غزنة، وأستدر بها من أدبه مزنة، وذلك في سنة ست وأربعين وأربعمائة، وعمر إلى حد المائة، ولقي القرن بعد القرن، والفئة بعد الفئة، وكان مولده بمكة سنة إحدى وأربعمائة، وتوفي بغزنة سنة خمسمائة. ولد وقد خدم بعض الأكابر ومدحه بقصائد وكان يستزيده: كفَى حَزَناً أَنّي خَدمْتك بُرْهَةً ... وأَنفْقَتُ في مَدْحِيكَ شَرْخَ شَبابي فلم يُرْوَ لي شُكْرٌ بِغيْرِ شِكايةٍ ... ولم يُرَ لي مَدْحٌ بغيرِ عِتابِ وله: قلتُ ثَقَّلْتُ إِذ أَتَيْتُ مِراراً ... قال ثَقَّلتَ كاهلي بالأَيادي قلت: طولت، قال لا بل تطولت، وأبرمت، قال: حبل الوداد وذكره السمعاني مثل ما أوردته. أبو بكر محمد بن عتيق بن عمر بن أحمد البكري السوارقي من أهل السوارقية، قرية بين مكة والمدينة، أقول: أبو بكر البكري شعره بكر، وله في ابتكار المعاني ذكاء خاطر وفكر، وكلامه لطائر البلاغة والبراعة وكر، شريف، فقيه ظريف، نبيل نبيه، فاضل فصيح، نسبه صريح، تفقه على الإمام محمد بن يحيى، بنيسابور، ومدح الأكابر والصدور، إلى أن لقي وجه جده العبوس، وأدركته وفاته بطوس، سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، ذكره السمعاني في تاريخه بكلام هذا معناه، وقال أنشدني لنفسه إملاء: سِوَى عَبراتي رَقْرَقَتْها المعالمُ ... وغيرُ فؤادي هَيَّجَتْه الحمائمُ أَبَتْ لي رُكوبَ الذُّلِّ نَفْسٌ أَبِيَّةٌ ... وأَبيضُ مَصقول الغِرارَيْن صارِمُ تقول سُليمَى يومَ بِنْتُ ودمعهُا ... عَلَى خدِّها من لَوْعة الْبَيْن ساجِمُ رُوَيْداً إلى كم لا تزالُ مُخاطِراً ... بنفسٍ كريماً لَوَّحَتْهُ السمائمُ فقلتُ لها والْعِيسُ في ذَمَلانِها ... تُلاعبها أَشْطانها والخَزائِمُ ذَرِيني فلا أَرضى بعِيشَةِ مُقْتِرٍ ... وما رَضِيَتْ عني السُّيوف الصَّوارِمُ لَئِنْ لم أُزِرْها الحَرْبَ قُبّاً يقودُها ... إِلى الموت لَيْثٌ من قُريشٍ ضُبارمُ فلا وَلَدَتْني من لُؤَيِّ بن غالبٍ ... لُيوثُ الْوَغى والمُحْصَناتُ الكَرائمُ أَيطمَعُ في العلياءِ والمجدِ سالِمٌ ... وعاتِقُه من عُرْضَةِ السَّيْف سالمُ يحاوِلُ نَيْل المجد والسيفُ مُغْمَدٌ ... ويأْمُل إِدْراك العُلى وهو نائمُ هذا شعر معتدل لم يطر به خطأ ولا خطل. قال: وسمعت أبا نصر الخطيبي يقول: للشريف أبي بكر البكري بيت ما قيل في معناه أحسن منه، وهو: عَلَى يَعْمَلاتٍ كالحَنايا ضَوامِرٍ ... إِذا ما أُنيخت فالكَلالُ عِقالُها قال وأنشدني أبو الحسن علي بن محمد البروجردي إملاء بأبيورد، أنشدني الشريف أبو بكر البكري لنفسه بنوقان قوله: أَيا ساكِني نجدٍ سلامٌ عَليكمُ ... وإِن كنتُ لا أَرجو إِباباً إِليكمُ وإِن كان جِسمي في خُراسان ثاوِياً ... فقلبي بنجدٍ لا يَزال لَدَيْكُمُ كافور النبوي أحد خدام حظيرة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه سيد أسود، شاعر مجود، قرأت في تاريخ السمعاني أنه ورد العراق وخرج إلى خراسان وبلاد ما وراء النهر ومدح الأكابر، ولا أدري هل اتفق له الرجوع إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا، وكان ببخاري في حدود سنة عشر وخمسمائة، وكان بخوارزم في شهر رمضان سنة إحدى عشرة وخمسمائة. وكان أسود طويلاً لا لحية له، كان خصياً. قال أنشدنا محمود بن محمد الإمام بخوارزم، أنشدنا علي بن محمد الأدمي، أنشدنا كافور النبوي لنفسه: حَتّامَ هَمُّك في حِلٍّ وتَرْحالِ ... تَبْغي العُلا والمَعالي مَهْرُها غالِ يا طالبَ المَجدِ دونَ المَجدِ مَلْحَمةٌ ... في طيِّها تَلَفٌ للنَّفْسِ والْمال ولِلَّيالي صُروفٌ قلَّما اُنجذبَتْ ... إِلى مُرادِ اُمرىءٍ يَسْعى لآِمالِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 وقال سمعت أبا الرضا محمد بن محمود بن علي الطرازي قال: وهذه قصيدة طويلة كتبت منها هذا القدر. أقول هذا شعر يثبت على محك النقد وعيار السبك، لا كشعر يبهرجه محك المحق بعد الانتقاد باللجاج والمحك، أرق من النسيم، وأذكى من العبير، وأطيب من المسك، ولا عجب أن تفيد تربة النبي، الذي كان أفصح العرب والعجم صلوات الله عليه وسلامه، خادمها الأسود نظم الكلم، فكافور نظمه في الطيب كافور، ولفظه لقلوب المعاني تامور، وقد استغنى بحلية الفضل عن اللحية، فإن الفضل للرجال أحسن حلية، وسواده مع العلم أحسن من البياض مع الجهل، سارت شوارده في الحزن والسهل، ونقلتها رواة الحضر إلى حداة البدو، ولحنتها القيان بأغاريدها في الشدو، وما نقل إلي من نظمه غير أثبته، وإذا أنشدت غيره له كتبته، إن شاء الله تعالى. الشريف علي بن عيسى السليماني المعروف ب ابن وهاس من أهل مكة وشرفائها وأمرائها، من بني سليمان من بني حسن، وكا ذا فضل غزير وله تصانيف مفيدة، وقريحته في النظم والنثر مجيدة، قرأ على الزمخشري بمكة وبرز عليه، وصرفت أعنة طلبة العلم بمكة إليه، وتوفي في أول ولاية الأمير عيسى بن فليتة أمير مكة في سنة ست وخمسين وكان الناس يقولون ما جمع الله لنا بين ولاية عيسى، وبقاء علي بن عيسى. أنشدني له من قطعة: أَهلاً بها من بَنات فِكْرٍ ... إِلى أَبي عُذْرِهِنَّ صَادِ وله في مرثية الأمير قاسم جد الأمير عيسى: يا حادِيَ الْعيس عَلَى بُعْدِها ... وَخّادةً تَسْحَبُ فَضْلَ النِّعالْ رَفِّهْ عليهِنَّ فلا قاسِمٌ ... لها عَلى الأَيْنِ وفَرْطِ الكَلالْ غاضَ النمّيرُ العَذْبُ يا وارِداً ... وحال عن عَهْدك ذاك الزُّلالْ إِنْ يَمْضِ لا يَمْضِ بَطيءَ القِرى ... أَو يُودِ لا يُودِ ذَميمَ الفِعالْ الأمير دهمش بن وهاس الحسني السليماني أنشدني لنفسه في الأمير مالك بن فليتة، وقد وفد إلى الشام سنة سبع وستين، ومات في الطريق بوادي الغضا ودفن بالأجولية، من مرثية فيه أولها: مُميعُ دُموعي الجْامِداتِ الصّلائِبِ ... مُصابُ فَتىً آهاً لهُ في المَصائِبِ فأَوْرثَ قَلْبي حَرَّ نارٍ كأَنّما ... لَظَا الجْمرِ ما بَيْنَ الحشَا والتّرائب كأَنَّ جُفوني يَوْمَ وارَيْتُ شَخْصَه ... شآبيبُ مُزْنٍ من ثِقال السَّحائبِ تَعجَّبَ صَحْبي كيف لم تَجْرِ مُقْلتي ... مع الدِّمْع واُعتدّوا بها في الْعَجَائب ولم يَعْلَموا أَنَّ المَدامعَ أَصلُها ... من الْقَلْب لا من مُقْلَةٍ ذاتِ حاجِب بِنَفْسيَ مَنْ بالأَجْوَلِيّةِ قَبْرُه ... تَمرُّ به ريحُ الصَّبا والجَنائب مُعَطَّلَة أَكنافُه عن زِيارةٍ ... بعيد مدىً عن حُسَّرٍ ونَوادِب إذا ذَكَرَتْه النَّفْسُ كادَتْ بذكْره ... تَفِيضُ عَلى ماءِ الْجُفون السَّواكب أَعاذِلَتي كُفّي عن اللَّوْمِ في البُكا ... فلستُ بباكٍ غَيرَ خِلٍّ وصاحب ذَريني أُبكّي سَيِّداً لوْ وَزَنْتُه ... بكلِّ كريمٍ لا رْجَحَنَّ بِجانِب فما بَكَتِ الباكونَ مِثْلَك مالِكاً ... ولا خُمشِّتْ فيه خُدودُ الْكَواعِبِ فَمَنْ لِجِيادِ الْخَيْلِ والْبِيضِ والقَنا ... إِذا دَلَفَتْ تَبْغي قِراعَ الكَتائِب ومَنْ لِلْيتامىوالأرامِلِ أَقْفَرَتْ ... معالِمُهمْ مِنْ بِرِّه المُتعاقِب ومن لِغِراثٍ مُرْمِلين تطاوَحَتْ ... بهم يَعْمَلاتٌ من طِلاحِ النَّجائِب ومَنْ ذا يُجيرُ الْجارَ أَوْ يَكشِفُ الأَذى ... عن القوم في عُلْيا لُؤَيِّ بن غالِب فُجِعْتُ به دونَ البريَّة واحداً ... فما مِثْلُه في شَرْقها والْمَغارِب فأُقْسِم بالبيْتِ الْعَتِيق ومَن سعى ... بمَكَّة سَعيْاً بين ماشٍ وراكب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 لَمَا وَجْدُ أُمِّ الذَّرْع قَدْ خَنَسَتْ له ... بزَيْزاءَ مَرْتٍ في السنِّينَ اللَّوازِب رَمى صِيرَها شَيْمُ الْبُروق وغُودِرَتْ ... على طِفْلها تقَفْو به إِثْر ذاهِب غَدَتْ تَرْتعي فَضْل اليَبيسَيْن وانْثَنَتْ ... فَلَمْ تَلْقَ منه غَيْرَ مُلقى العَراقِب وَوَلَّتْ وقد أَودى بها فَقْدُ ذَرْعها ... يُقَطِّعُ من أَوْصالها كلَّ صالب ولا وَجْدُ رَبْدا ذاتِ وَحْيٍ خَلَتْ به ... عَنِ الهَيْق في أَعلا عياس السَّباسِب نَأَتْ تَفْتَلي زَهْرَ الرِّياضِ وغادَرَتْ ... دَفِينَتَها بينَ الرُّبى فالْجَوانبِ فهذَّلت الْوَطْفا هذا لَيل فانتحت ... إِليه كما يَنْحو شَريدُ المَجانب فوافَتْه يتلو بَعْضُه الْبَعْض سابِحاً ... فَمِنْ بين طافٍ مُسْتَقِرٍّ وراسِب تَوَلَّتْ ونيرانُ الأَسَى قد تأَجَّجَتْ ... كأَنّ بَجَنْبَيْها دُفوفَ الضَّوارِب ولا ذاتِ طَوْقٍ من حمائِم أَيْكَةٍ ... بنَعْمان تسجو في الضُحَى والغَياهِب غَدَتْ تَرْتعي نَحْوَ اليمَام وعاوَدَتْ ... إِلى وَكْرها تَبْغيه عَوْدة آيِب فأَلْفَتهُ قفراً من أَنيسٍ فَرَجَّعت ... فالأَجانب بأَوجعَ من قلبي عَشِيَّةَ مالكٌ ... بِوادي الغَضا مُلْقىً صَريعَ النوائب خَلِيليَّ مُرّا بي علي قبر مالكٍ ... فإِنّ لُباناتي بهِ ومآرِبي وَحُطّا بِرَحْلي حيث حَلَّ فنآؤُهُ ... فإنّ بذاك التُّرْبِ نَيْلَ مَطالبي وقُولا له إِنْ جئتُماه فَبلِّغا ... عليكَ سَلامُ اللهِ يا خير طالبي فإِنْ تَكُنِ الآفاقُ بَعْدَكَ أَظلمتْ ... وخاب ذَوُو الآمالِ مِنْ كلِّ جانبِ فَبالأَرْوع المَيْمون نَجْلِك إِنْجَلَتْ ... لَياليُها حتى اهتَدى كُلُّ طالِب وللشريف علي بن عيسي بن حمزة بن وهاس بن أبي الطيب الحسني السليماني ذكر أنه مات بمكة سنة ست وخمسين وخمسمائة وكان في عشر الثمانين، أصله من اليمن من مخلاف بني سليمان أنشدني له ابن عمه الأمير دهمش بن وهاس ابن عثور بن حازم بن وهاس الحسني وقد وفد إلى الملك الناصر صلاح الدين علي باب حلب في رابع عشرين ذي الحجة سنة إحدى وسبعين: صِلي حَبْلَ المَلامَةِ أَو فَبُتّي ... ولُمّي من عِتابِكِ أَو أَشِتّي هِيَ الأَنْضاءُ عَزْمَةُ ذي هُمومٍ ... فَحَسْبُكِ والمَلام ولا هُبلْتِ إليكِ فلستُ مِمَّن يَطَّبيه ... مَلامٌ أَو يَريغُ إِذا أَهَبْتِ حَلَفْتُ بها تُواهِقُ كالْحنَايا ... بَقايا رِحْلةٍ كَسَمَالِ قَلْتِ سَواهِمَ كالْحنايا رازِحاتٍ ... تَرَاكَعُ من وَجىً ووَنىً وعَنْت جَوازِعَ بطنِ نَخَلْةَ عابِراتٍ ... تَؤُمُّ الْبَيْت من خمسٍ وَسِتّ أَزالُ أُذيبُ أَنْضاءً طِلاحاً ... بِكُلِّ مُلَمَّعِ القَفَرات مَرْتِ وأَرغَبُ عن مَحَلٍّ فيه أَضْحَتْ ... حِبالُ المَجْد تَضْعُف عند مَتّي أَما جَرَّبْتِ يا أَيامُ مِنّي ... فَرُوكَ تَجَمُّعٍ وحَليفَ شَتِّ أَبِيّاً ما عَجَمْتِ صَفاه إِلاّ ... وَأَثَّرَ في نُيوبكِ ما عَجَمْتِ ورُبَّ أَخٍ كَريمِ الُوِدّ مَحْضٍ ... يُراعُ لِدَعْوتي كالسَّيْفِ صَلْتِ أَبَتْ نفسي فلم تَسْمَحْ بِشَكْوى ... إِليه غير ما جَلَدٍ وصَمْتِ أَقولُ لنفسيَ المِشْفاقِ مَهلاً ... أَلَيْسَ عَلَى الرَزِيَّةِ ما أَضَرْت لَئِنْ فارقتِ خَيْرَ عزىً لأَهْلٍ ... فَخَيْرُ بني أَبيكِ بهِ نَزَلْتِ وله من مرثية في الأمير قاسم بن محمد أمير مكة شرفها الله تعالى: لا زَالَكِ الوابِلُ من حُفْرةٍ ... أَيّ فتىً واريْتِ رَحْب الذِّراعْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 ولا عَدَتْكِ الْجِوْنُ صَخّابَةً ... مُلْقِيَةً مِنها عليكِ البعَاع وارَيْتِ حَمّاء على العقب إِذ ... أَدْبرن صَبّاع حباب الوقاع الطاعِن النَّجْلاء نَغّارةً ... ذا خُلُقٍ سَمْح وصَدْرٍ وَساعْ والمُوقد النّار إذا أُخْفِيَتْ ... في رأْس صَمْدٍ ذاتِ أَزْلٍ شَناع في حينَ لا تَرْأَم أَولادَها النَّ ... يِّب ولا تَحْنو ذَواتُ الرّباع قال وكتب إلى عمته وقد أرسلتإليه تقول له: إلى كم هذا البعد عنا والتغرب: وَمُهْدِيةٍ عندي على نَأْي دارِها ... رسائلَ مُشْتاقٍ كريمٍ وسائِلُهْ تقول إِلى كم يا ابنَ عيسى تَجَنُّباً ... وبُعْداً وكم ذا عَنْكَ رَكْباً نُسائِلهْ فيُوشِك أَنْ تُودِي وما مِنْ حَفِيَّةٍ ... عليكَ ولا باكٍ بما أَنت فاعِلُهْ فقلتُ لها في الْعِيسِ والْبُعد راحةٌ ... لِذي الهمِّ إِنْ أَعْيَتْ عليه مَقاتِلُهْ وفي كاهلِ اللَّيْل الخُداريّ مَرْكَبٌ ... وكم مَرَّةٍ نجّى من الضَّيْم كاهِلُهْ إذا لم تَعادِلك الليَّالي بصاحِبٍ ... فلا سَمَحَتْ بالنَّصْح عَفْواً أَناملهْ فلا خَيْرَ في أَن تَرْأَمَ الضَّيْم ثاوِياً ... وغَيْظاً عَلَى طُولِ اللّيالي تُماطِلهْ ذَرِيني فلي نَفْسٌ أَبي أَن يَدِرّها ... عِصابٌ وقلبٌ يَشْرَبُ اليأْسَ حاصِلُهْ إِذا سيم وِرْداً بعد خمسين شَمَّرَتْ ... عن الماءِ خَوفَ المُقذِعاتِ ذَلاذِلهْ وذكره عمارة الشاعر في شعراء اليمن وقال: هو الذي رئى المأربي والده عيسى حين قتله أخوه يحيى. وكان رأس الزيدية بالحرمين. ومن جملة شعره أبيات كتبها إلى الأمير هاشم بن فليتة بن قاسم أمير مكة يشفع في جماعة حبسهم من الزيدية، فوهبهم له وأمر بإخراجهم إليه، منها: أَبا قاسمٍ شَكْوَى امرىءٍ لك نُصْحُهُ ... تَفَكَّرَ فيها خُطَّةً فَتَحيَّرا على أَيّ أَمرٍ ما تُساق عِصابةٌ ... إِلى السّجْن والَوْا جَدَّك المُتَخَيَّرا ولمْ يَعْدِلوا خَلقْاًَ بكم آلَ أَحْمدٍ ... ولا أَنكروا إِذ أَنْكَر النَّاس حَيْدرا أَتاك بهم ما طَنَّ في مَسْمَع الوَرَى ... وسارت بهِ الرُّكْبان عَدْلاً ومَفْخَرا يَجُرّون أَطرافَ السَّريح عَلَى الْوَجا ... مُنَاقَلَةً بين الْهَواجِر والسُّرى لكِ اللهُ جاراً من قلوبٍ تَطايَرَتْ ... حَشاها ومِنْ دمعٍ جَرى مُتَحدِّرا ومِنْ كلِّ أَوّاهٍ وأَشْعَث مُخْبِتٍ ... إِذا صُدّ عن قَصْدِ الثَّنِيَّةِ كَبَّرا أبو الحسن علي بن الحسن المعروف ب ابن الريحاني من أهل مكة، ذكر أنه من بني تميم، وهو علي بن الحسن بن علي بن عبد السلام بن المبارك بن محمد بن راشد السعدي التميمي، لقيته بالشام مراراً وقد وفد إلى صلاح الدين الملك الناصر في سنة سبعين فأنشدني لنفسه من قطعة في الأمير قاسم أمير المدينة: طَوَتْ مَا طَوَت من حَزْن أَرضٍ وسَهْلِها ... وجاءَتْ سِراعاً كانقضاضِ الْجَوارِحِ إلى حَرَمٍ جَمِّ المآثِرِ لم يزَلْ ... مَدَى الدَّهْرِ مَخصوصاً بغُرّ المدائح إِلى القاسم القَمقامة النَّدْب ذي النُّهَى ... وَذي الْجُود في غُبْرِ السِّنين الكَوالح إِلى ابن المُهَنّا الماجد القَرْم من غَدا ... يَبُثّ الأَيادي بين غادٍ ورائح سَما بِكرامٍ من ذؤابةِ هاشمٍ ... غَطاريفَ صِيدٍ ماجِدين جَحاجِح موارد جُودٍ لا تَمُرّ لِشاربٍ ... وأُسْد وَغىً بَسّالة في الْفَوادِح ووفد إلى الشام لقصد الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله وكتب إليه بهذه الأبيات في سنة ثمان وستين وأنشدنيها لنفسه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 يا أَوْحَداً عَظَّمَتْهُ العُرْب والْعَجَمُ ... وواحِداً وهو في أَثوابه أُممُ إِنّا قصدْناك والأَقطارُ مُظلِمَةٌ ... والبدْرُ يُرْجى إِذا ما التجَّت الظُّلَمُ سِرْنا إِليك من البيت الحرام ولم ... نَعْدُ المقامَ به إِذْ بَيْتُكَ الْحَرَمُ القائد سالم بن أبي سليمان من عبيد مكة وقوادها، نوبي الأصل، وقاد الخاطر، أنشدني الأمير دهمش ابن وهاس السليماني له قال سمعته ينشد الأمير عيسى بن فليتة في العيد: الَليْلُ مُذْ بَرَزَتْ به أَسماءُ ... صُبْحٌ، ومُسْوَدُّ الظَّلام ضِياءُ فكأَنَّما نُورُ الغَزالَةِ ساطِعٌ ... بِجَبينها ولِضَوْئه لأْلآءُ وكأَنَّ أَشْنَبَ ثَغْرِها بِلِثاتِها ... حَبُّ الْجُمان، فَحَبَّذا أَسماءُ وكأَنَّما بالظَّلْم منها واللَّمى ... عَذْبُ النَّمير وقَهوةٌ صَهْباءُ أَمّا الْقَضِيب فقَدُّها، ولِردِفها ... كُثُب النَّقا، وأَثِيثُها الظَّلْماءُ يا حَبَّذا أَنفاسُ رَيّاها إِذا ... هَدَتِ الْعُيونُ ونامَتِ الرُّقَباءُ بلْ لَيْتَها لِمُتَيَّمٍ أَلِفَ الضَّنا ... وَصَلَتْ، فَوَصْلُ الغانِيات شِفاءُ هَيْهاتَ لا طَمَعٌ بذاك وطَرْفُها ... ماضي الغِرار وقَدُّها السَّمْرءُ حَبْلُ الْوَريد لِعاشقيها هَجْرُها ... ووِصالُها مِنْ دُونه الْجَوْزاءُ بانَتْ فأَكثرَ عاذِلي تَفْنيدَه ... والْعَذْل فيها إِذ نَأَتْ إِغراءُ إِنَّ المُفَنِّدَ لم يَهِجْ بَلْبالَهُ ... رَسْمٌ خَلا وحَمامَةٌ وَرْقاءُ سَفَهٌ سُؤالُ رُسومِها أَنىّ نَأَتْ ... والْقلبُ مأْهولٌ وُهُنَّ خَلاءُ لللَّحظ من أَسماءَ يَوْمَ وَداعِها ... ما أَوْدَعَتْك المُقْلَةُ النَّجْلاءُ سَقَمٌ يَزيدُ وحَسْرَةٌ ما تَنْقضي ... وجَوىً تذوب لِفَرْطه الأْحشاءُ دَعْها فلن يَشْفيك دَمْعٌ هامِلٌ ... في إِثرها وتَنَفُّسٌ صُعَداءُ وارْحَلْ إِذا أَوْلاك دَهْرٌ نَبْوَةً ... بِصُروفه أَوْ عَضَّتِ الَّلأْواءُ وانْزِل بساحة ماجدٍ من هاشِمٍ ... عَظُمَتْ به بين الْوَرى الْعُظَماءُ عيسي المُتَوَّجِ مَن عَلا قَدْراً ومَنْ ... طابَتْ بطِيبِ مَديحه الأَنبْاءُ هو نُورُ رَبِّ الْعرش بينَ عِباده ... فليْعلموا، والْحُجَّةُ الْبَيْضاءُ لله يأْمر باطناً أَو ظاهراً ... فَتَصَرُّفُ الأَقدارِ كيف يَشاءُ مِنْ جَوْهَرٍ منه النبيُّ محمدٌ ... فَعَلَيْه من نُورِ الإِله بهَاءُ مُتواضِعٌ لله جَلَّ جَلالُهُ ... لا يَزْدهيه الكِبْرُ والْخُيلاَءُ يَوْماه يومٌ للنَّوال، وآخَرٌ ... يُرْدَى بِسَطْوَة بأْسِهِ الأَعْداءُ لم يختلفْ خَصْمان في تَفْضيله ... نطقَت بذاك الُّلكْنُ والفُصَحاءُ يا خَيْرَ أَبْنا أَحمدٍ خَيْرِ الورى ... يُثْني عليكَ الرُّكْنُ والْبَطْحاءُ إنَّ المَعالي بعضَ ما أُوتِيتَه ... وبِمثْلِ شَخْصك تَعْتَلي العَلْياءُ وكذا المُلوك بكلِّ أَرضٍ مثلُها ... أَرضٌ وأَنت عَلَى المُلوكِ سَماءُ إِنَّ الثناءَ عليك من رَبِّ السَّما ... أَغْناك عمَّا قالت الشُّعراءُ يا أَيُّها السامي المَحَلّ ومَنْ له ... مَجْدٌ أَثيلٌ عِزَّةٌ قعساءُ جِيدِي بما خَوَّلْتَنِيه مُطَوَّقٌ ... من نعمَةٍ وبِكاهِلي أَعباءُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 فَلأَشْكُرَنْ بَيْنَ البَرِيَّةِ مُعْلِناً ... شُكْرَ الرِّياض تَجُودُها الأَنْواءُ أَنا عَبْدُ أَنْعُمِك التي ماشانَها ... مَنٌّ ولا مَطْلٌ ولا إِكْداءُ مْملوكُ رِقِّك وابنُ مُلْكِ أَبيك لم ... تَجْنَح بيَ الأَغْراض والأَهواءُ إِن عَدَّ قَوْمٌ في الورى آباهُمُ ... فَبِرِقِّكُم تسمو بنا الآباءُ هُنِّيتَ عيدَ الفِطْرِ أَنَّك عيدُه ... وله بشخصكَ حيثُ كنتَ هَناءُ واسلمْ، وإِنْ رَغِمَ، الْحسودُ، بغبْطَةٍ ... تَبْقى إذا عَمَّ الأَنامَ فَناءُ حجة الدين المكي الأصل المغربي المنشأ هو أبو عبد الله محمد بن أبي محمد بن محمد بن ظفر سكن الشام في الشطر الأخير من عمره، وقرط أسماع المستفيدين بدره، وكان إمام وقته في التفسير والأدب، رأيته بحماة مقيما، ونفوس طلبة العلم إليه هيما، توفي سنة سبع أو ثمان وستين وخمسمائة بحماة وله التصانيف الحسنة، والمجموعات المدونة، ومن جملة كتبه: سلوان المطاع في عدوان الأتباع، طالعته فوجدته كتاباً مفيداً مشتملاً على حسن معنى ولفظ، وذكر تنبيه ووعظ، صنفه إبان مقامه بصقلية، سنة أربع وخمسين وخمسمائة، ويشكر في خطبته القائد الذي صنعه باسمه ويقول: بارك الله له فيما ألهمه كسبه، وكان وليه وحسبه، فلقد أنزل الدنيا بدرك منزلتها، وكوشف بشرك مزلتها، فعمل للبقاء لا للفناء، وجمع للجود لا للاقتناء وجاد لله لا للثناء، وآخى للتعاون على البر والتقوى، لا للتهافت في هوى الهوى، وزان الرياسة بنفس لا تضيق بنازلة ذرعا، ولا تصغي إلى الوشاة سمعا، ولا تدنس بطبع طبعا، وبحلم لا يرفع الغضب لديه رأساً، وحزم لا تخاف الإيالة معه بأساً، فالحمد لله الذي أباحني من إخائه حمى منيعاً، وحرماً أميناً، ومرتعاً مريعا، وورداً معيناً. فنحن بقَرْبه فيما اشْتهيْنا ... وأَحْببنا وما اخْتَرْنا وَشينا يقَينا ما نعافُ وإِن ظنَنّا ... به خيراً أَراناه يقَينا نميلُ على جوانبه كأَنّا ... إِذا مِلْنا نَميل عَلَى أَبينا وأقسم لولا أن الشكر عقد شرعي، وحق مرعي، لأقررت عينه بطي ما نشرت، والتورية عما إليه أشرت، إذ كان وقاني الله بعده، ولا أبقاني بعده، يرى أن الشكر في وجوهى آلائه ندوب، والمدح من خواص أوليائه ذنوب. ومن نثره ونظمه في التفويض أسجاع وأبيات حكمية. فمن النثر: معارضة العليل طبيبه، توجب تعذيبه. إنما الكيس الماهر، من استسلم في قبض القاهر. إذا كانت مغالبة القدر مستحيلة، فمن أعوان نفوذه الحيلة. إذا التبست المقادر، ففوض إلى القادر. ومن الشعر قوله: أَيا مَنْ يُعَوِّلُ في المْشكلات ... عَلَى ما رآه وما دَبَّرَهْ إذا أَشْكَلَ الأَمرُ فابرأْ به ... إِلى من يرى منهُ ما لَمْ تَرَهْ تَكُنْ بينَ عَطْفٍ يَقيك الْخُطوب ... ولُطْفٍ يهوِّنُ ما قَدَّرَهْ إِذا كنتَ تجهل عُقْبى الأْمور ... ومالك حَوْلٌ ولا مَقْدُرَهْ فلمْ ذا الْعَنا وعَلامَ الأَسى ... وَمِمَّ الحِذارُ وفيمَ الشَّرَهْ وقوله: يا رُبَّ مُغْتَبِطٍ ومَغْ ... بوطٍ برأْيٍ فيه هُلْكُهْ ومُنافِسٍ في مَلِك ما ... يُشْقيهِ في الدَّارَيْن مُلْكُهْ عِلْمُ العَواقِب دونَه ... سِتْرٌ وليس يُرامُ هَتْكُهْ ومُعارِضُ الأَقدار بالْ ... آراءِ سَيْئُ الْحالِ ضَنْكُهْ فكُنِ امرءاً مَحَضَ اليقي ... ن وَزَيَّف الشُّبُهاتِ سَبْكُه تَفْويضُه تَوْحيدُه ... وعِناده المِقْدارَ شِرْكُهْ وفي سلوانة التأسي: التأسي جنة البلاء، وسنة النبلاء. التأسي درج الاصطبار كما أن الجزع درك التبار. ومن سلوانة الصبر قوله: عَلى قَدْرِ فضل المرءِ تأْتي خُطُوبُه ... ويُعْرَف عند الصَّبْر فيما يُصِيبهُ ومَنْ قَلَّ فيما يَتَّقِيه اصطبارُه ... فقد قَلَّ فيما يَرْتجيه نَصِيبُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 ومن كلامه في الصبر: صبر الملوك ثلاث قوى: قوة الحلم وثمرتها العفو، وقوة الكلأة والحفظ وثمرتها عمارة المملكة، وقوة الشجاعة وثمرتها في الملوك الثبات، وفي حماة المملكة الإقدام في المعارك، ولا يراد من الملك الإقدام في المكافحة فإن ذلك من الملك تهور وطيش وتغرير، وإنما شجاعته ثباته حتى يكون قطباً للمحاربين ومعقلاً للمنهزمين، وهذا ما دام بحضرته من يثق بذبه عنه، ودفاعه دونه، وحمايته له. ومن سلوانة الرضا قوله: من رضي حظي. من ترك الاقتراح، أفلح واستراح. كن بالرضا عاملاً قبل أن تكون له معمولاً، وسر إليه عادلاً وإلا صرت نحوه معدولاً. وقوله نظماً: يا مَفْزعي فيما يَجي ... ئ وراحِمي فيما مَضى عِنْدي لمِا تَقْضيه ما ... تَرْضاه مِنْ حُسْن الرِّضا ومِنَ الْقطيعة أَستعي ... ذُ مُصَرِّحاً وَمُعَرِّضا وقوله: كُنْ مِنْ مُدَبِّرِك الحكي ... م، عَلا وجَلَّ، عَلَى وَجَلْ وارْض الْقَضاءَ فإِنّه ... حَتْمٌ أَجَلْ وله أَجَلْ وقوله: يا مَنْ يرى حالي وأَنْ ليس لي ... في غيرِ ما يُرْضيه أَوطارُ وليس لي مُلْتَحَدٌ دُونَهُ ... ولا عليه ليَ أَنصارُ حاشا لِذاك الْفَضل والعِزِّ أَنْ ... يَهْلَكَ من أَنْت له جارُ وإِنْ تَشأْ هُلْكي فيا مَرْحَباً ... بكلِّ ما تَقْضي وتَخْتارُ كلُّ عذابٍ منك مُسْتعْذَبٌ ... ما لك يكنْ فَقْدُك والنّارُ وقوله: إِذا أَنا لم أَدْفَع قَضاءً كَرِهْتُهُ ... بشيءٍ سِوى سُخْطي له وتَبَرُّمي فصَبْري له من حُسْنِ معرفتي به ... كما أَنّ رِضواني به مِن تَكَرُّمي وله في سلوانة الزهد قوله في زهد النبي عليه السلام: قال لهُ جِبْريل عن رَبِّهِ ... خُيِّرْتَ فاختر يا دَليلَ الهُدَى نُبُوَّةً في حالِ عَبْدِيَّةٍ ... تَحْوي بها الْقِدْحَ المُعَّلى غدا أَو حالَ تمْليكٍ تَخِرّ العِدَى ... بَيْنَ يَدَيْه صُعَّقاً سُجَّدا فاخْتار ما يَحْظى به آجِلاً ... لله ما أَهْدَى وما أَسْعدا وقوله: يا مُتعَباً كَدّه الْحِرْ ... صُ في الْفُضول وكادَهْ لو حُزْتَ ما حاز كِسرى ... وما حَوَى وأَفادهْ ما كنتَ إِلاّ مُعَنىًّ ... ومُغْرَماً بالزِّيادهْ لم يَصْفُ في الأرض عَيْشٌ ... إِلاّ لأَهْل الزَّهادهْ فَرُضْ عَلَى الزُّهْد نَفْساً ... فإِنّما الخيرُ عادهْ وقوله: دُنياك دارُ غُرورٍ ... ومُتْعَةٍ مُسْتعارَهْ ودارُ لبس وكَسْبٍ ... ومَغْنَمٍ وتجارهْ ورأَس مالِكَ نَفْسٌ ... فاحْذَر عليها الخَسارهْ ولا تَبِعْها بأَكْلٍ ... وَطِيبِ عَرْفٍ وَشارهْ فإِنّ ملك سليما ... ن لا يفي بشَرارهْ وقوله من قصيدة: إِنّا بِدارٍ تُرْدي مُحارِبَها ... وتَخْفُرُ إِلإِلَّ في مُوادِعِها وتَسْتَفِزُّ الحَليمَ عَنْ سَنَنِ الْ ... قَصْدِ وتُعْيي عَلى مُخادِعِها مَنْ رامَ إِبقاءَها عليه فقد ... حاوَلَ ما ليس في طبائعها أَسْرَعُ ما تنتحي بَوائقُها ... يَوْماً إِذا استجمعت لجامِعها فَتِهْ عليها وارَبأْ بِنَفْسك عن ... طِلابها وافتفاءِ تابعِها واشْقُق عصا بَيْعَةِ الْغُرور لها ... وانْبِذ صُراحاً إِلى مُبايعها عَمْري لقد أَنْذَرَتْ مُنَدِّدَةً ... نَاخِعَةً نُصْحَها لسِامِعِها مُؤْذِنَةً أَنّها مُؤَدِّيةٌ ... لساعةٍ آهِ مِنْ قَوارِعها فالأمْنُ، واللهِ، مِنْ فَجائعها ... يَضْمَنُه الزُّهْد في مَطامِعها وقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 راعَك الزُّهْدُ إِنَّما الزُّهْد رَفْضٌ ... لِفُضولٍ تَلْهي وتُطْغي وتُرْدي ثم لا تُمْكِنُ الزَّهادةُ في الْمَقْ ... سوم رِزْقاً بل في ضُروب التَّعَدّي مَرْحَباً بالكَفافِ عَيْشاً هَنيئاً ... ثم لا مَرْحباً بحرصٍ وكَدِّ ما عَلِمْنا، وقد رأَينا كثيراً ... وسَمِعنا، مَنْ حاز جَداً بِجِدِّ لا يَزالُ الْحَريص يَسْتامه الحِرْ ... صُ بنُصْب من الشَّقا وبِكَدّ ثم لا يستطيع أَنْ يَتَعَدّى ... قَدَراً ما لِحُكْمِهِ من مَرَدِّ وقال في آخر الكتاب: أعوذ بالله من عذاب الإعذاب، كما أعوذ به من حجاب الإعجاب، وأستكفيه عول السؤال كما أستعفيه غول الجواب، وأستدفع به فساد الخطأ كما أستدفع به كساد الصواب. ومن ملتقطات حكم الكتاب المودعة فيه: الدنيا قريب سلبها من سلمها، وخطفها من عطفها. التنعم في الدنيا يضاعف حسرة زيالها، ويؤكد غصة اغتيالها. المال كالماء، فمن استكثر منه ولم يجعل له مسرباً ينسرب به ما زاد على قدر الحاجة غرق به. المواساة في المال والجاه عوذة بقائهما. الموثوق موموق، والأمين، بالمودة قمين. كن من عينك على حذر، فرب جنوح حين، جناه جموح عين. ما أحرى الملول، بأن يحرم المأمول. السآمة من أخلاق العامة، لا من أخلاق السامة. التنقل من خلة إلى خلة، كالتنقل من ملة إلى ملة. من لزم الرقاد، حرم المراد. من بلغ من اليسار ما فوق قدره تنكر لمعارفه. اليسار مفسدة للنساء لغلبة شهواتهن على عقولهن. أمران يسلبان الحر كمال الحرية: قبول البر، وإفشاء السر. إذا أمكنت عدوك من أذنك فقد تعرضت للغرق في بحره، والحصول في وهق سحره. من تسرع إلى الأمانة، فلا لوم على من اتهمه بالإضاعة، ومن تسرع إلى المشاركة في السر، فلا لوم على من أتهمه بالإذاعة، ومن تنصح قبل أن يستنصح، فلا لوم على من اتهمه بالخداع، ومن عني بكشف ما ستر عنه فلا لوم على من اتهمه بخبث الطباع. أصعب ما يعانيه الإنسان ممارسة صاحب لا تتحصل منه حقيقة. إحذر مقارنة ذوي الطباع المرذولة، لئلا تسرق طباعك من طباعهم وأنت لا تشعر. من غرس العلم اجتنى النباهة، ومن غرس الزهد اجتنى العزة، ومن غرس الإحسان اجتنى المحبة، ومن غرس الفكرة اجتنى الحكمة، ومن غرس الوقار اجتنى المهابة، ومن غرس المداراة اجتنى السلامة، ومن غرس الكبر اجتنى المقت، ومن غرس الحرص اجتنى الذل، ومن غرس الطمع اجتنى الخزي، ومن غرس الحسد اجتنى الكمد. أول الهوى هون وآخره هون. الهوى طاغية فمن ملكه أهلكه. الهوى كالنار إذا استحكم اتقادها، عسر إخمادها، وكالسيول إذا اتصل مدها تعذر صدها. ليس الأسير من أوثقه عداه أسراً، إنما الأسير من أوبقه هواه قسراً، وأرهقه خسراً. الغريب ميت الأحياء، قد أعاده البين، أثراً بعد عين. العاقل يقدم التجريب على التقريب، والاختبار على الاختيار، والثقة على المقة. الرأي سيف العقل. أفضل الرأي ما أجادت الفكرة نقده، وأحكمت التروية عقده. كل رأي لم تتمخض به الفكرة ليلة كاملة فهو مولود لغير تمام. رب حيلة، أنفع من قبيلة. السلطان في حال اضطراب أموره كالبحر في حال هيجه لا ينبغي أن يقرب. وذكر في صدر الكتاب أن السلوان جمع سلوانة وهي خرزة تزعم العرب أن الماء المصبوب عليها إذا شربه المحب سلا. ومبدأ خطبة الكتاب: الحمد لله جاعل الصبر للنجاح ضمينا، والمحبوب في المكروه كميناً، الذي ضرب دون أسرار الأقدار حجاباً مستوراً، وقضى أن الخير على الفطن لا يزال حجراً محجورا. ولهذا حجة الدين كتب مصنفة من جملتها درر الغرر أودعه أنباء نجباء الأبناء، وكان شخصاً عزيزاً، قد برز في العلوم على علماء عصره تبريزا. محمد بن عيسى اليماني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 ورد بغداد في سنة خمسين وخمسمائة، وكان قد أصعد من واسط، وهو فاضل مهندس، لكن له طبع شرس، نفيس النفس، مصيب الحدس، نزل في دار طبيب نصراني من بني تومة، ولم يبرح من ذلك المنزل ولن يريمه، وكان لعلة في ضيافة الطبيب، وهو يحل عليه إقليدس على الترتيب، وكان يضن به غاية الضنة، ويتقلد لمن يجعل له إليه طريقاً قلائد المنة، وكنت حينئذ مولعاً بإقليدس وحل أشكاله، وفهم ما يعرض من شكوكه وإشكاله، فتوصلت إلى أن بلغت إليه، وحللت مقالات عليه، فلما رأيته نافر الطبع بالكلية، أكدت مفارقته بالألية، ورأيته يدعي علوماً، ويدعو لنفسه أمراً عظيماً، من علم المجسطي وهيئات الفلك، والمنطق الذي من شم سمه هلك، وكان يقول بفارس، إنسان في هذا العلم فارس، وأنا لابد لي من قصده، واستيراء زنده، وغاب ثم عاد في السنة الثانية إلى بغداد، فلقيته في عرض الطريق مرة واحدة، ورأيت طباعه للمعرفة القديمة جاحدة، فما شئت ماشيته، وجادلته في شيء من العلوم وماريته وفارقته، وبعد ذلك ما رأيته. أنشدني لنفسه من أبيات عملها: إلى الله أَن الدَّهرَ أَنيابُ صَرْفه ... عليَّ من الْغيظ المُبَرِّح تَصْرُفُ وذَنْبي إِليه أَن نفسي إلى العُلا ... تَتُوق وعن طُرْقِ المَذَلَّة تَعْزُفُ ولكنَّ هذا الدَّهرَ لا دَرَّ دَرُّهُ ... عَلَى الحرِّ جَوَّارٌ ولِلْجِبسِ مُنْصِفِ وأنشدني لنفسه: أَقولُ لنفسي وقد أَشْفقتْ ... لِكوْن الهمومِ إليها قواصِدْ إِذا كُنتِ تَبغين كَسْبَ العُلى ... فلا تَحْفَلي بِلقاءِ الشدائدْ أنشدني: كسب المعالي، فقلت: كسب العلا أصوب: محمد بن المبارك اليماني من فضلاء اليمن، ونبلاء الزمن، سافر من اليمن إلى بغداد بالبركة واليمن، وكان من الفصحاء اللسن، وأقام بها مدة وانصرف، وقد عرف مكانه من عرف. قال السمعاني في مصنفه وقد طالعته مطالعة المنتخب المنتقي، قرأت في كتاب الوشاح لأبي الحسن البيهقي أخبرني ملك النقباء محمد بن المرتضى أن محمد بن المبارك اليماني قد جرعته يد الإنفاق، كأس الإملاق، وطلق عرائس العراق، وركب أثباج الفراق، وأنشدني له: فانْشُر مَطارفَ من هَواكَ فطالما ... أُوِلعْتَ خَوْفَ الْعاذِلين بِطَيِّها وَدَعِ التَّأَمُّل في العَواقِب إِنه ... لا يَستبين رَشادُها مِنْ غَيِّها المهدي بن علي بن مهدي ملك اليمن في زماننا هذا، وسفك الدماء، وسبى المسلمين، وأقبل على شرب الخمر والعقار، وادعى الملك والإمامة ودعا إلى نفسه، وكان يحدث نفسه بالمسير إلى مكة فمات في الطريق سنة ستين، وتولى بعده أخوه وله شعر حسن يدل على علو همته، وما كان في نفسه من مضاء العزيمة وبعد الهمة في طلب الملك والفتنة. كثر بالعراق من أجفل من اليمن خوف ما بها من الفتن أنشدني له الشاعر الذي كان مقيماً باليمن وقدم العراق أبو محمد بن عتيق المصري ابن الرفا يهدد قوماً من اليمن: أَبْلِغْ قُرَى تَعْكُر ولا جَرَما ... أَنّ الذي تكرهون قَدْ دَهَما وَقُلْ لِجَنّاتِها سأُبدلُها ... سَيْلاً كأَيّام مَأَربٍ عَرِما ظَنَّتْ خُوَيْلان أَن سَتَشْغَلَنُي ... عَماً لَمِا ظَنَّتِ اللِّئامُ عَما هل يَنْقُصُ الْبَحْرَ كَفُّ غَارفِه ... أَو يُخْمِدُ النارَ قابِسٌ ضَرَما تَعْساً لِخَوْلان لا أَبا لَهُمُ ... أَمْسَوْا وُجُوداً وأَصْبَحوا عَدَما إِذْ نَفَخُوا مِنْ صَوارِمي ضَرَما ... واسْتَسْمَنوا من ظُنونِهِمْ وَرَما وَقُلْ لسام إِليكُم عَجلاً ... فَوارِساً لم تَدَعْ لِحام حِمى هَيْهاتَ قامتْ لكمْ عَلَى قَدَمٍ ... شَعْواءُ تَرْمي بِرأْسِها القَدَما وشَمَّرتْ ساقَها الْحُروبُ وما ... أَلَفَّها الليلُ سائقاً حُطَما مَمْلوءةً بالقَنا مُلَمْلَمَةً ... صَمّاءَ يَمْلو صمامها صمما سَلْ يَوْمَ مَلْحاء قَوْمَ قَاسِمِها ... مَن كان غيري نُفوسَها اقْتَسما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 أَنا ابنُ مَنْ أَسْأَمَ المُلوك وما ... وَنَى عَلى حالةٍ ولا سَئما أَبْلغ أَبا كَلْبَة وإِنْ رَغِمَتْ ... أُنُوفُ أَشْياعِه وإِنْ رَغِما أَن نُسورَ الْوَغى إِذا وَقَعَتْ ... بأَرْضِ قَوْمٍ أَطارَت الرَّخَما نَرْمي بِنيرانِها قُرى عَدَنٍ ... صُبْحاً فَيُمسي شَرارُها الْحَرَما أَيُشْرَب الْخَمْرُ في ذُرى عَدَنٍ ... والمَشْرَفِيّات بالْحُصَيْب ظِما ويُلْجَمُ الدِّينُ في مَحافِلها ... والْخَيْلُ حَوْليّ تَعْلُكُ اللُّجُما كَلاّ ومهدي أَجبةٍ خلفٌ ... له وحَيْزومُ يَمْلأُ الْحُزُما صَلّى عَلَيْنا الإِلهُ بَعْد أَبي الْ ... قاسِم ما سَحَّ وَابِلٌ وَهَمى ونسب عمارة اليمني في مجموعه هذه القصيدة إلى ابن الهبيني التهامي، شاعر علي بن مهدي وكان يعمل له الشعر. وأنشدني أبو محمد بن عتيق الشاعر وكتب لي بخطه ما كتب إليه من اليمن من شعر ابن مهدي هذا: يَميناً بِسامي الْمَجد يُدْرَك بالجِدِّ ... وحَدِّ اعتزامٍ لم يَقِفْ بي على حَدِّ وعِزَّةِ نَفْسٍ لم تكن مُذْ صَحِبْتُها ... تُنافِسُ إِلاّ في الرَّفيع من الْمَجدِ وَصُحْبةِ آسادٍ تَهُزُّ أَساوِداً ... فَمِنْ فِتْيةٍ مُرْدٍ عَلَى قرَّحٍ جُرْد تَخُوضُ خِضَمَّ البحر عَبَّ عُبابهُ ... كَصُمِّ صُخورٍ في غَديرٍ من السَّرْد تُطيحُ بِتيجانِ الْمُلوك رُؤُوسُها ... فَتُبْدِلهُا من عِزِّها صَعَرَ الْخَدِّ لأَعْتَنِقَنَّ الْبِيضَ، لا البيض كالدُّمى ... وأَرغَبُ عن نَهْدٍ إِلى سابحٍ نَهْد حَنِيني إِلى سَمْراءَ تَهْوِي إِلى الطُّلى ... كُزُهْدِيَ في سَمْراءَ مائسة القَدِّ أَأَصْبو إِلى الْحُور الحِسان وهِمَّتي ... تَهِيمُ بِضَرب الْهامِ قاهِرةً ضِدّي وقد قالتِ الْعَلْياءُ عَدِّ عن الصِّبا ... وسَلِّمْ هَوى سَلْمى ودَعْ مِنْ مُنى دَعْد قَسَمْتُ الرَّدى والْجُودَ قِسْمين في الْوَرىفلِلْمُعْتَدي حَدِّي ولِلْمُجْتَدي رِفْدي وما لِيَ من مالي الذي كَسَبَتْ يَدي ... تُراثٌ أُبَقِّيه سِوى الشُّكْرِ والْحَمْدِ تُخَوِّفُني جَيْبٌ بكُثْر عَدِيدِها ... وما لجنودِ اللهِ حَوْليَ مِنْ عَدِّ ويُرْهِبني زيدُ بن عَمْرٍو بِجنُدِه ... وبَجْدَتِه يا بِئْسَ ما حاز من جُنْد يُقَعْقِع نَحْوي بالشِّنان وهَلْ تَرى ... عُوى الكَلبِ يُخْفي زَأْرَة الأَسَدِ الْوَرْد إِذا قال لم يَصْدُق مَقالاً وما الصَّبا ... تُزَحزِح إِنْ هَبَّتْ ذُرى الْجبلِ الصَّلْد وإِني ونَصرِ اللهِ رائِدُ خَيْلِنا ... وقائِدُها بين التَّهائِم والنُّجْد وأَسيافُنا الْحُمرُ النَّواصِع من دَمِ الْ ... أَحابيشِ ما حالَتْ عَلى صِبْغَة الْوَرْد وما لِلِدانِ السَّمْهَرِيَّةِ إِنْ شَكَتْ ... إِلينا الظَّما إِلا الوَرِيدَيْن من وِرْد وكم رأَسِ جَبّارٍ كَوَهّاس أَصْبحتْ ... لها بَدَنٌ فينا من القَصَب الْمُلْدِ لَئِنْ كان بُدٌّ عندكمْ من لِقائنا ... فليس لنا مّما تَخافُونَ مِنْ بُدْ وإنْ تُخْلِفوا إِبعادَكم لي فإِنني ... مَدَى الدهر لم أُخْلِف وَعيدي ولا وَعْدي سنبعثُها مِثلَ السَّعالي مُغيرةً ... إِلى نجدِكمْ ترمي بكلّ فتىً نَجْد عليها قِرَى وَحْش الفَلا مِنْكُمُ فَكَمْ ... لأَجْسامِكم في جسمها شُقَّ من لَحْدِ نُغَشّي بها أَرْضِيكُمُ فنعُيدُها ... يَباباً بلا شَخْصٍ مُعيدٍ ولا مُبْدي وتُضْحي سَباياكُمْ مُهَوَّنَةً لنا ... تُباعُ بِفَلْسٍ ما لها مُنْكِمُ مُفْدي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 لَئِنْ كنتمُ في الغَيِّ ناشِين إِننا ... هُداةُ الْورى من ظُلمِة الغَيِّ للرُّشْدِ وإِن كنتمُ حِزْبَ الضَّلال فإِننا الْ ... هداةُ لِنهْج الْحَقّ بالسيِّد المَهْدي لنا النَّخَواتُ اليْعرُبيَّةُ دونَكُمْ ... فلَسْنا الى هَزْل نميلُ عن الجِدِّ فضلاء اليمن تمهيد تاريخي: نواجه في الصفحات التالية أسماء الصليحيين، على غير التتابع الزمني الذي توالوا فيه، ويكثر في شعر ابن القم مديحهم والإشارة إلى بعض ما كان في حياتهم من أحداث، ولذلك رأيت من الخير أن أورد تراجمهم هنا متتابعة على النحو الذي كان من تتابعهم في الحكم حتى يستقيم فهم الأحداث ويتضح تسلسلها في ذهن القارئ وحتى نتجنب الإحالة في حاشية على حاشية أخرى قد تأتي بعدها. والصليحيون شيعة، باطنية، حكموا اليمن بين السنة 439 والسنة 532، ونشروا الدعوة للفاطميين وخطبوا لهم وورثوا الدعوة منهم حين زالت دولتهم من القاهرة. وأولهم أبو الحسن علي بن محمد بن علي، ويعرف ب الداعي الصليحي خرج في جبل مسار من أعمال حراز، ولم يكن ولي الامر أحد من أهله، وكان والده القاضي محمد ابن علي شافعي المذهب، مطاعاً في عشيرته، يتولى الفصل في خصوماتها. وسار علي أول الأمر على طريقة والده حتى استماله أحد دعاة الفاطميين فسلكه في هذه الدعوة وخرجه بها، وأخذ علي يستميل القبائل ويجمع الأنصار يعاهدونه على الدعوة للمستنصر العبيدي، الخليفة الفاطمي في مصر، حتى اذا اجتمع له عدد، امتنع بهم في جبل مسار وقصد ما حوله من بلاد، واستفحل أمره، وثبت له جماعة من الشرفاء والأئمة، ولكنه تغلب عليهم وملك اليمن كله، وقتل من قتل من الملوك، وجمع في صنعاء من بقي منهم، ودان له ما بين مكة وعدن وحضرموت. وكان فيمن قتل، نجاح صاحب زبيد، قتله بالسم على يد جارية أهداها إليه سنة 452 وفي سنة 458 473 ابن خلكان، شذرات الذهب خرج الى الحج واستخلف ابنه المكرم أحمد، واصطحب معه ملوك اليمن الذين خضعوا له، وخيم في طريقه في مدينة المهجم من تهامة ففاجأه سعيد الأحول، ابن نجاح - وكان يترقب الفرصة لاسترجاع ملك أبيه، ومعه أخوه جياش بن نجاح - فقتله وقتل معه عدداً من اهله، وأسر زوجته أسماء بنت شهاب، وتلقب بالحرة.. وظلت في الأسر حتى أنقذها ولدها المكرم أحمد بعد ثمانية أشهر، في غزوة لزبيد انتقم فيها من أولاد نجاح وتملك المدينة. والداعي علي أحد شعراء الخريدة الذين سيتحدث عنهم العماد، وكانت امارته عشرين سنة وبعد مقتل الداعي علي خلفه ابنه المكرم أحمد بن علي سنة 459، فحارب سعيداً الأحول، وقتله، واستنقذ أمه الحرة أسماء بعد أن أسرت ثمانية أشهر، واسترد زبيداً، ثم أصيب بالفالج فشاركته الحكم زوجته أروى بنت أحمد الصليحية وتعرف بالملكة الحرة وتوفي سنة 484 في حصن أشيح. وكان المكرم مقداماً، حازماً، صحيح الرأي، شاعراً فصيحاً. وخلفه في حكم اليمن ابن ابن عمه: سبأ بن أحمد بن المظفر بن علي وتزوج السيدة أروى - وكانت زوجة المكرم - عن أمر المستنصر العبيدي، ومضى يؤصل حكم الصليحيين في تهامة التي كانت دولة بين آل الصليحي وآل نجاح، فكان آل الصليحي يغزونها في أيام الشتاء وعندئذ يدخل آل نجاح جزر البحر الأحمر، وفي أيام الصيف كان آل الصليحي يرتفعون إلى الجبال ويعود آل نجاح إلى تهامة. وكان سبأ بن أحمد، ويلقب بالأوحد، شارعاً فصيحاً، واستمر يحكم حتى مات سنة 492 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 وبعد موته استقلت السيدة أروى بدولة آل الصليحي، فتحصنت بما تملك من معاقل، وتولت ما كانت تحكم من حصون، وأقامت لها وزراء وعمالاً، واستطاعت ان تطيل حكم الصليحيين أربعين سنة بعد أن كاد يضعف أمرهم، كما استطاعت خلال حياتها الطويلة التي امتدت 88 سنة أن تربط بتاريخ حياتها تاريخ حياة اليمن فقد تزوجت المكرم أحمد كما رأيت وكانت وراء الأحداث الكبيرة في حياته لأنها أعملت الحيلة في قتل سعيد الأحول وأسر امرأته أم المعارك بلوغ المرام 26 وبذلك ثأرت لأبيه الداعي علي الذي قتله سعيد ولأمه أسماء بنت شهاب، ثم تزوجت بالأوحد سبأ. وكانت تحكم اليمن من وراء حجاب، ترفع إليها الرقاع، ويجتمع عندها الوزراء، ويدعى لها على منابر اليمن فيخطب أولاً للمستنصر الفاطمي ثم للصليحي ثم للحرة فيقال: اللهم أدم أيام الحرة الكاملة السيدة كافلة المؤمنين.. ثم انفردت بالحكم بين السنتين 492 و532 فلما ماتت انقضى حكم الصليحيين في اليمن وآل أكثر ملكهم الى بني زريع. وهي السيدة أروى بنت أحمد بن جعفر بن موسى وموسى أحد إخوة الداعي الصليحي الأول علي، ومنهم عبد الله، وإبراهيم. لها في اليمن مآثر منها الجناح الشرقي بجامع صنعاء، وجامع ذي جبلة الكبير الذي دفنت فيه. والصليحي نسبة إلى الأصلوح من بلاد حراز كما في بلوغ المرام، ولكن ابن خلكان يقول لا أعرف هذه النسبة إلى أي شيء هي والظاهر أنها إلى رجل. وهنالك كثير من الخلافات والروايات حول تحديد بعض السنوات تجاوزنا عنه. وفيات الأعيان - الأعلام - بلوغ المرام - طبقات فقهاء اليمن - تأريخ المستبصر - شذرات الذهب - المقتطف من تاريخ اليمن -. أبو عبد الله الحسين بن علي القمي ابن القم مولده بزبيد، المعروف بابن القم من أهل اليمن، من شعراء العصر الأقرب عصره متقدم، وكان معاصر ابن سنان الخفاجي أو بعده بقريب، وكان الأمير المفضل نجم الدين أبو محمد ابن مصال ينشدني شعره ونحن على الخيل سائرون إلى بعلبك تحت رايات الملك الناصر صلاح الدين يوسف في آخر شعبان سنة سبعين فذكر أن ابن القم سمع بيتاً لابن سنان الخفاجي قد ابتكر معناه، وقد أحسن صياغة مغزاه، وهو: طوْيتُ إِليك الباخلين كأَنني ... سَريْتُ إِلى شَمس الضُّحَى في الغَياهِبِ وقيل هذا البيت لابن سنان الخفاجي من جملة قصيدته: وفيكُم رَوَى النّاسُ المَديحَ ومِنكمُ ... تعلَّمَ فيه القومُ بَذْلَ الرَّغائب فَدَعْني وصِدْقَ القوْلِ فيك لعلَّه ... يُكَفِّرُ من تلك القوافي الكَواذِب وما كنتُ لمّا أَعرضَ البحرُ زاخِراً ... أُقَلِّبُ طَرْفي في جَهام السَّحائب فقال من قصيدة يذكر فيها أنه مدح الممدوح فأجاز شعره، وأجازه وفره: ولمّا مَدحْتُ الهِبْرِزِيّ ابنَ أَحمدٍ ... أَجازَ وكافاني عَلَى المَدْح بالمَدْحِ فَعَوَّض عن شِعْري بشعرٍ وزاد في ... عَطاه فهذا رأْسُ مالي وذا رِبْحي لفظتُ مُلوكَ الأَرضِ حتى رأَيتهُ ... فكنتُ كَمَنْ شقَّ الظَّلامَ إِلى الصُّبْح ولم يقصر في هذا المعنى لم يبلغ رتبة ابن سنان فيه. ومما أنشدنيه أيضاً له من قصيدة مطلعها: سَرى طَيْفُ سُعْدى بعدما هَجَع الرَّكْبُ ... ونَجْمُ الثُّرَيّا قد تَضَمَّنَهُ الْغَرْبُ وليس الرَّدى ما تفعلُ الْبِيضُ والْقنَا ... ولكنَّه ما يفَعلُ الصَّدُّ والحُبُّ يُكَلِّفُني العُذّال حُبَّ سِواكُمُ ... وسَلْوَتَكُمْ حتى كأَنَّ الهوى غَصْبُ ومنها في المخلص وقد أحسن: وما يلتقي صِدْقُ الوِداد وطاعةُ الْ ... عَذولِ ولاكفُّ ابنِ أَحمدَ والْجَدْبُ كريمٌ إِذا جادَتْ فواضِلُ كَفِّه ... تيقَّنْت أَنَّ البخل ما تَفعلُ السُّحْبُ ومنها: أَجارَ فلا خَوْفٌ وأَحْيا فلا رَدىً ... وجادَ فلا فَقْرٌ ورام فلا صَعْبُ ويُثْني عَلَى قُصّادِه فكأَنَّه ... يُجادَ بما يُجْدي ويُحْبي بما يَحْبُو ومنها وقد أحسن أيضاً: كتبتُ إِليه والمَفاوز بيننا ... فكان جوابي جُودُ كَفَّيْه لا الكُتْبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 وما كنتُ أَدري قبل قطع هِباته ... إِليَّ الفيَافي أَنَّ أَنْعُمَهُ رَكْبُ ثم طالعت مجموع عمارة بن أبي الحسن اليمني الذي قال في أوله: ذكر شعراء اليمن ممن روي لي عنه أو رأيته فذكر أن أبا عبد الله الحسين بن علي القمي مولده بزبيد وفيها تأدب وكان أبوه يشعر، وساد أبوه في أيام الداعي علي بن محمد الصليحي، وكتب ولده الحسين هذا على خط ابن مقلة وحكاه، وكان شاعراً ومترسلاً يكتب عن الحرة، وكان في علو الهمة وسمو القدر واضح الحجول والغرة، وقد أورد من شعره رواية قوله: الليَّلُ يعلمُ أَني لستُ أَرقُدُهُ ... فلا يَغُرُّك من قلبي تَجلُّدُهُ فإِن دَمْعي كصَوْبِ المُزْن أَيْسَرُهُ ... وإِنَّ وَجْدي كحَرِّ النّار أَبْرَدُهُ لي في هوادِجِكُمْ قلبٌ أَضِنُّ به ... فَسَلِّموه وإِلاّ قُمْت أَنْشُدُهُ وبان للنّاس ما كُنّا نُكَتِّمُهُ ... من الهوى وبدا ما كنتُ أَجْحَدهُ وقوله في مدح الداعي سبأ بن أحمد الصليحي، وكان يسكن معقلاً يقال له أشيح: إِن ضامَك الدَّهْر فاستعصِم بأَشْيَح أَو ... أَزْرى بك الْفقرُ فاستمطِر بَنانَ سَبا ما جاءَهُ طالبٌ يَبْغي مَواهِبَه ... إِلاّ وأَزْمَع منه فَقْرُه هَرَبا تَخالُ صارمَه يومَ الْوَغى نَهَراً ... تَضَرَّمتْ حافَتاه مِنْ دَمٍ لَهَبا بَني المُظَفَّرِ ما امْتدَّتْ سماءُ عُلاً ... إلاّ وأُلْفِيتُمُ في أُفْقِها شُهُبا إِنَّ امرءاً كنتَ دون النّاس مطلَبَهُ ... لأَجدَرُ النّاس أَنْ يَحْظى بما طَلَبا وقوله من قصيدة أولها: أَما ونِعْمَةِ عافٍ مُخْفِق الطَّلَبِ ... رَمى إِلى غايةٍ نَحْوي فلم يَخبِ لأَقْنَعَنَّ بِعَيْشٍ دائمِ الرَّتَب ... حتى أُبَلِّغَ نَفْسي أَشرَفَ الرُّتَب لمْ لا أَرومُ التي أَسبابُها جُمِعتْ ... عندي وقد نالهَا قومٌ بلا سبب أَخيفَةَ الموتِ أَثْني النَّفْسَ عن شَرَفٍ ... إِذاً بَرِئْتُ من الْعَلياءِ والأَدب لا خيرَ في رجلٍ لم يُوهِ كاهِلَه ... حَمْلُ اللِّواءِ أَمامَ الْجحفَلِ اللَّجِبِ يَظُنُّ هِنْدِيَّه هِنْداً فيَلْثِمُه ... فما يَزالُ بلَيْلٍ مُعْرس الضَّرَب من مليح ما قيل في هذا المعنى قول المعري: يقَبِّلُ الرُّمْحَ حُبّاً للطِّعان به ... كأَنما هو مَجْموعٌ من اللَّعَسِ كأَنَّ ما في غُروبِ الْبِيضِ مِنْ شَنَبٍ ... مكانَ ما في غَروب الْبيض من شُطَبِ فقُلْ لِقَحْطانَ إِنْ طاب الْهوانُ لها ... لا أَرْغَم اللهُ إِلاّ آنُفَ العربِ إِنْ أُغْضِ أُغْضِ عَلَى ذُلٍّ ومَنْقَصَةٍوإِن أَصُلْ لا أَجِدْ عَوْناً عَلَى النُّوَبِ وغالِبُ الظَّنِّ أَنِّي سوف يَحمِلني ... عُلوُّ نفسي عَلَى الإِقدام والْعَطَبِ وقوله من قصيدة يهنئ بها المكرم بن علي زوج الملكة الحرة بدخوله عليها: وكَرِيمَةِ الْحَسَبَيْنِ تكْنُف قَصْرَها ... أُسْدٌ تهاب الأُسْدُ من صَوْلاتها وتكادُ من فَرْط الْحياءِ تَغُضُّ عن ... تِمْثالها الْمَرْئِيِّ في مِرْآتِها ظَفِرَتْ يداكَ بها فَبَخٍّ إِنَّما ... لك تَذْخَرُ الْعَلْياءُ مَضْنُوناتِها وقوله من قصيدة يمدح بها عبد الواحد بن بشارة وأحسن التخلص إلى مدحه: ولئِن ذكرْتُ هَوَى الظَّعائن جُمْلَةً ... والْقَصْدُ صاحِبةُ الْبعيرِ الواخِد فكما يُعَدُّ الأَكرمون جَماعةً ... والواحِدُ الْمَرْجُوُّ عبدُ الواحدِ نُبِّئْتُ أَنك قد أَتتك قوارصٌ ... عنّي ثَنَتْك عَلَى الضَّمير الواجِدِ عمِلتْ رُقى الواشين فيك وإِنها ... عندي لتضربُ في حديدٍ باردِ وقوله من قصيدة: مُشَهَّرُ الفضلِ إِنْ شمسُ الضُّحى احتجبَتْ ... عنِ الْعيون أَضاءَ الأُفْقَ سُودَدُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 ماتَ الكِرامُ فأَحْيَتْهُم مآثِرهُ ... كأَنَّ مَبْعَثَ أَهل الفضل مَوْلِدُهُ لولا المَخافةُ من أَنْ لا تدومَ له ... إِرادةُ الْبذل أَعْطَت نفسَها يَدُهُ كأَنّه خافَ أَنْ ينْسَى السَّماح فما ... يَزالُ منهُ له دَرسٌ يُرَدِّدُهُ الْموقِدون إِذا باتوا فَواضلَ ما ... ظَلَّ الطِّعانُ بأَيديهم يُقَصِّدُهُ بِكُلِّ عَضْبٍ تَخُرُّ الْهامُ ساجِدَةً ... إِذا رأَتْهُ كأَنَّ الهامَ تَعْبُدُهُ وقوله: إِنّي وإِنْ كنتُ عَبْدَكْ ... وكنتُ أُضْمِرُ ودَّكْ لا أَشتهي أَنْ تراني ... بحالةِ النَّقْصِ عندَك وقوله: رَقَّ لي قَلْبُها وقد كان فَظّا ... فأَرَتْني دُرَّيْن دَمْعاً ولَفْظا ثم قالتْ أَلستَ تَقبَلُ نُصْحاً ... من نَصيحٍ ولستَ تقبَلُ وَعْظا بِتَّ يا بارِدَ الْجَوانح خِلْواً ... من غَرامٍ قَلْبي بهِ يَتَلَظَّى فازَ كُلٌّ بالْحَظِّ في هذه الدنْ ... يا وَما نلتَ من زمانك حَظّا أَنا مولى محمّدٍ وعليّ ... لستُ مولى بني زِيادٍ فأَحْظى يعرض بجياش صاحب زبيد. وقوله من قصيدة يعاتب جياشاً: أَذاعَ لِساني ما تُجِنُّ الأَضالعُ ... وأَعْرَبْنَ عمّا في الضَّمير المَدامِعُ وإِنّيَ مما يُحْدِث الْهَجْرُ جازِعٌ ... وما أَنا مّمِا يُحْدِثُ الدّهرُ جازعُ فيا ابن نصير الدّين دَعوةَ هاتفٍ ... دعا بك لِلْجُلَّى فهل أَنتَ سامعُ وقد كنتُ أَرجو أَن أَكونَ مُشَفَّعاً ... لَدَيْك فهل لي عندَك اليومَ شافعُ فأَصبحتُ أُغْضي الطَّرْف في كلِّ مَجْلِسٍ ... وأَكْتُمُ أَمري وهو في الناسِ ذائعُ وأُظهِر بِشْراً للجَليس وغِبْطَةً ... وبينَ جَنانَيّ الشِّفارُ الْقَواطِعُ وما أَنتَ إِلاَّ البدرُ أَظَلمَ مَنْزِلي ... وكلُّ مَكانٍ نورهُ فيه ساطعُ تَقَلَّص عنّي الظِّلُّ والظِّلُّ شامِلٌ ... وأَقصر عنّي الفضلُ والفضلُ واسعُ أَترضى، وحاشا المجد، أَنْ يَشْبَعَ الْوَرى ... جميعاً وأمسى ضَيْفكم وهو جائعُ وقوله مما كتبه على كأس فضة: إِنَّ فَضْلي على الزُّجاجة أَني ... لا أُذيعُ الأَسرارَ وهي تُذيعُ ذَهَبٌ سائِلٌ حَواه لُجَيْنٌ ... جامِدٌ راقَ، إِنَّ ذا لبديعُ وقوله في وصف شعره: فَلأُهْدِينَّ إِليك كلَّ كريمةٍ ... يُمْسي الْحَسودُ بِها مَغيظاً مُوجَعا طَوْراً تُرى بينَ الورى جَوّالةً ... في الأَرض تقطَع مَغْرِباً أَو مَطْلَعا ومنها: أَلْبَسْتَني حُلَلاً سَيَخْلَعُها البِلى ... فَلأُلْبِسَنَّك حُلَّةً لن تُخْلَعا وقوله يخاطب بعض الكتاب: نُبِّئْتُ أَنك إِذْ وقفتَ عَلَى ... دَرْج الرُّسوم نَقَصْت من حَقّي وَعَجِبْتُ إِذ عشنا إِلى زَمَنٍ ... أَصبحتَ فيه مُقَسِّمَ الرِّزْقِ وقوله في معاتبة بعض إخوانه: عَذَرْتُ على الصَّدِّ بعدَ الْوِزا ... رَة مَنْ كان واصَلَ مِنْ أَجْلِها فما عُذْرُ مَنْ صَدَّ لمّا انقضَتْ ... وكان أَخاً ليَ مِنْ قَبْلِها وقوله في مدح الأوحد سبأ من قصيدة مَعاليكَ لا ما شَيَّدَتهُ الأَوائِلُ ... ومَجْدُكَ لا ما قالَهُ فيك قائِلُ وما السَّعْدُ إِلاّ حَيْثُ يَمَّمْتَ قاصِداً ... وما النَّصرُ إِلاّ حيث تَنْزِلُ، نازِلُ إِذا رُمتَ صَيْداً فالمُلوك طرائِدٌ ... أَمامك تَسْعى والرِّماح أَجادلُ معايبُها إِن سالمتك مَواهِبٌ ... وأَعضادها إِن حاربتك مَقاتلُ وَمُذْ رُمْتَ إِيراد العوالي تَيَقَّنَتْ ... نُفوسُ الأَعادي أَنَّهنَّ مَناهِلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 وقد عَشِقَتْ أَسيافُك الهامَ مِنْهُمُ ... فَكُلُّ حُسامٍ مُرْهَفُ الحَدِّ ناحلُ مَليكٌ يَفُضُّ الْجَيْشَ والْجَيْشُ حافِلٌ ... ويُخْجِلُ صَوْبَ المُزْنِ والْغَيْثُ هاطلُ سَحابٌ غَواديه لُجَيْنٌ وعَسْجَدٌ ... ولَيْثٌ عَواديه قَناً وقَنابلُ تَوَقّى الأَعادي بَأْسَه وهو باسِمٌ ... ويرجو المَوالي جُودَه وهو صائِلُ وقوله: يا صاحِبيَّ قِفا المَطِيَّ قَليلا ... يَشْفي العَليلُ من الدِّيارِ غَليلا هذي طُلولَهمُ أَطَلْنَ صَبابَتي ... وتركْنَ قلبي من عَزايَ طُلولا ولَئِنْ خَلَتْ منهمُ مَرابعهمْ فقدْ ... غادَرْنَ قَلْبي بالغَرامِ أَهِيلا لو أَنَّ عِيسَهُمُ غَداةَ رَحيلهمْ ... حُمِّلْنَ وَجْدي ما أَطقْن رحيلا من كلِّ رِيمٍ لا عَديل لِحُسْنِها ... رَحَلَتْ فكان لها الفؤُادُ عَدِيلا كالبدرِ وَجْهاً والغَزالِ سَوالِفاً ... والرَّمْل رِدْفاً والقَناةِ ذُبولا غادَرْتَني جاري المَدامِع حائراً ... وتَرَكْنَني حَيَّ الغَرامِ قَتيلا وله من قصيدة يمدح الأوحد سبأ: ضامَتْكَ أَظْعانُها بالسَّفْح من إِضَمِ ... وأَسْلَمَتْك مَغانِيها بِذي سَلَمِ فما تَزالُ عَلَى آثارِ مُنْصَرِفٍ ... عن الوِداد بِوَجْدٍ غيرِ مُنْصَرِم وكم أَخذتُ عَلَى قلبي المقامَ عَلَى الصَّ ... بْرِ الْجَميل فعاصاني ولم يُقِمِ لو كانَ لي كان لي طَوْعاً فَدُونَكه ... سَلَّمْتُ فيه إِليك الأَمرَ فاحتكِم فما أُنازِعُ فيه كَفَّ مُغتصِبٍ ... ولا أَرِقُّ له مِنْ جَوْرِ مُنْتَقِم ولو فعلتَ به ما ظَلَّ يفعَلُهُ ... سَيْفُ المُتَوَّجِ من قَحْطانَ في القممِ العالم العامِل الغاني بِشُهرتِه ... عن أَنْ نُشَبِّهَه بالنّار في عَلَم مَلْكٌ تَظَلُّ عطاياه وأَنْصُلُه ... يُبارِيان نَفادَ المالِ والْبَهَم بِجُودِ مُكْتَسِبٍ للحمدِ مُكْتَنِزٍ ... وبَأْسِ مُقتدِرٍ للحرب مُقتحِم يَحُجُّ وُفّادُه منه إِلى حَرَمٍ ... رَحْبِ الفِناءِ حَلال الصَّيْدِ في الْحَرَم يُفْني العِدى والقَنا كلاًّ بصاحبه ... فبَيْن مُنْعَقِرٍ قَعْصاً ومُنْحَطِم مَعَوَّدٌ أَنْ يَرُدَّ الْخيلَ عابِسةً ... من كلِّ ثَغْرٍ بثَغْرِ النَّصْرِ مُبْتَسِم أَخْلَتْ خزائِنَه من كلِّ مُكْتَسَبٍ ... مدائحٌ مَلأَتْ بالشُّكْرِ كلَّ فَمِ ومنها: إِن بان وَجْهي فَشُكْري لمْ يَبِنْ معهُ ... أَوْ شَطَّ جسمي فُوِدّي فيكَ لم يَرِمِ فجُد وَعُدْ واعْفُ واسمح لي وهَبْ وأَعِد ... واصْفَح وأَدْنِ وأَجْمِل وارْضَ وابْتَسِم فلستُ أَوَّلَ عبدٍ عَقَّ سَيِّده ... ولستَ أَوَّل مَوْلىً جادَ بالْكَرمِ لا تَطْرَحَنّى فعندي كلُّ سائِرةٍ ... يَبْلى الزَّمانُ ولا تَبْلى منَ القِدَم من كلِّ زَهْراءَ لا تَفْنى عَلَى هَرَمٍ ... تُزْري بِشِعر زُهَيْرٍ في الفَتى هَرِم وقوله من أخرى: معالِمُ المَجْد والعَلْياء والكَرَمِ ... الصِّيدُ من مَذْكرٍ والشُّمُّ من جُشَم إِنْ خَوَّفوك وجاوَرْتَ النّجومَ فخَفْ ... أَوْ آمَنُوكَ وحَارَبْتَ الْوَرى فَنَمِ وقوله في مدح السلطان قاسم بن أحمد من قصيدة: وليلٍ كأنَّ الشُّهْبَ في ظُلُماتِه ... لآلِىءُ لم تَقْصِد لها كَفُّ ناظمِ سَرَتْ بينَ سِتْرَيْه بِنا أَعْوَجِيَّةٌ ... كَرائمُ من أَبناء غُرٍّ كَرائم أَحَسَّ بها نَسْرٌ فطار فأَعْجَلَتْ ... أَخاه فلم يُنْهِضْه ريشُ القَوادم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 قَطَعْنَ بنا البيدَ الفِساح إِلى امرىءٍ ... له مثلُها من سُؤدُدٍ وَمكارمٍ تَقَسَّمَهُنَّ اللِّيْلُ والبيدُ والسُّرى ... فأَقسمتُ لا عَرَّجْتُ من دُون قاسمِ يَزُرْن بنا من يَحْقِر الأَرْضَ مَنْزِلاً ... لِعافٍ وما في الأَرْض نُزْلاً لقادمِ قَصَدْنَ بنا من لَوْ تَجَنَّبْن قَصْدَهُ ... سَرَتْ نحونا جَدْواه مَسْرى الغَمائم تُغيرُ الْعَطَايَا في كرائم مالهِ ... مُغار مَواضي بِيضِه في الْجَماجم كأَنَّ مَواضِيه طُبِعْن من الشَّجا ... فَهُنَّ من الأَعداءِ بين الغلاصم إذا خافَ عَيْنَ الحاسِدين عَلَى العُلاَ ... أَقام عَوالِيه مَقامَ التَمائمِ كَسُوبٌ ولا أَموالَ غَيْرُ محَامِدٍ ... قَؤولٌ ولا أَقوالَ غَيْرُ الغماغم مِنَ النَّفَرِ الغُرِّ الّذين تَعَوَّدَتْ ... مناكبُهم حَمْلَ القَنا والمَغارم يَظَلُّ بهم وَحْشُ الفَلا في ولائمِ ... تَظَلُّ بها أَعداؤهم في مآتم وقوله يعاتب الأوحد سبأ بن أحمد: أَبا حِمْيرٍ إِنَّ المَعالي رخيصةٌ ... ولو بُذِلَتْ فيها النُّفوسُ الكَرائِمُ وجَدْتُ مَطاراً يا ابنَ أَحمدَ واسِعاً ... إِلى غَرضٍ لو ساعدتني القَوادِمُ وما أَنا إِلاّ السهَّمُ لو كان رائِشٌ ... وما أَنا إِلاّ النَّصْلُ لو كان قائِمُ ولا عارَ إِنْ جار الزَّمانُ وإِنْ سَطا ... إِذا لم تَخُنّي هِمَتي والْعزائِمُ فلا تَحتقِرْ جَفْناً يَبِيتُ مُسَهَّداً ... لِيُدْرِك ما يَهْوى وجَفْنُك نائِمُ وقوله: إِذا تضايَق عن رَحْلي فِنا مَلِكٍ ... وَسِعنْنَي أَبداً من دُونه الْهِمَمُ كلُّ البلاد إذا لم تَنْبُ بي وَطن ... وكلُّ أَرض إِذا يَمَّمْتُها أَمَمُ وقوله وقد كان استند إلى سلطان يقال له ابن فضل فأعطاه رمحه ذماماً فلما انقضت مدة جواره إياه التمس منه إعادة الذمام: كنتَ أَعْطيتني ذِمامك لمّا ... خِفْتُ من صَوْلة الزَّمان ذِماما فإِذا ما رَدَدْتُهُ يا ابنَ فضلٍ ... فبِماذا أُطاعن الأَيّاما وقوله بديهة وقد طرحت فريسة لسبع فأعرض عنها بين يدي السلطان: يا أَكرمَ النّاسِ في بُؤْس وفي نِعَمِ ... وخَيْرَ ساعٍ إِلى مَجْدٍ عَلَى قَدمِ لا تَعْجَبَنْ لِعُمومِ الأَمن في بَلَدٍ ... أَضْحَيْتَ فيها فأَضحتْ منك في حَرَمِ أَما تَرى الليثَ لمّا أَنْ طَرَحْتَ له ... فَريسةً حاد عنها وهو ذو قُدُم مَلأْتَ بالْخوفِ أَكبادَ الْوَرى ذُعُراً ... فَعَبْدُك اللَّيْثُ لا يسطو عَلَى الْغنمِ وقوله يصف قصيدة: إِذا ما ادَّعت فضلاً رأَيتَ شُهودَها ... تَبَرَّعُ مِنْ قَبْلِ السُّؤال وتُقْسِمُ وأَقللت إِذ لم. . . . . . . ... وما نقصت مذ غاب عنها مُتَمِّمُ وقوله وهو مما سار له: إِذا حَلَّ ذو نَقْصٍ مَحَلَّةَ فاضلٍ ... وأَصبح رَبُّ الْجاه غيرَ وَجيهِ فإِنَّ حَياةَ الْمرءِ غيرُ شَهِيَّةٍ ... إِليهِ وطَعْمَ الموتِ غيرُ كَريهِ وقوله يعاتب جياشاً بزبيد: يا أَيُّها المَلك الذي ... كُلُّ المُلوكِ له رَعِيَّهْ إِنْ كنتُ مِنَ خُدّامِكمْ ... فَعَلامَ لا أُعطى جَرِيَّهْ أَو كنتُ من ضِيفانِكمْ ... فالضَّيْفُ أَولى بالعَطيّهْ أَو كاتباً فلِسائرِ ال ... كتّاب أَرزاق سَنِيّهْ والله ما أَبقى الْخُمو ... لُ عَلَى وَليِّكَ مِنْ بَقِيّهْ وَوَحَقِّ رأْسِك إِنَّ حا ... لي لو علمت بها زريّهْ وإذا هممتُ بِكَشفِ با ... طِنها أَبتْ نفسٌ أَبيّهْ لا تنظرنّ إِلى التجمّ ... ل إِنّ عادته رَدِيّهْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 فَفِ لي بِوَعدِكَ إنني ... وَعُلاك من أَوْفى البريّهْ لله أَو لمدائحي ... أَو خدمتي أَو لِلْحميّه وقوله: ياسَمِيَّ النبيّ عيسى فَدَتْكَ النَّ ... فسُ، لِمْ لَمْ تكن كعيسى النبيِّ ذاكَ مُحْيي الْموْتى وأَنت بعَيْني ... ك تسوق الرَّدى إِلى كلِّ حَيّ ومن مرائي ابن القم قوله يرثي أسعد بن عمران من قصيدة أولها: صُدورُ آلِ قُلَيْدٍ مَأْلَفُ الأَسَلِ ... لَيْتَ الرِّماح اقتدت بالغِلِّ والْوَجَلِ تشتاقهمْ كأشتياق الْجود أَيديَهُمْ ... أَلاّ جَفَتْهُمْ جَفاءَ الْجُبْنِ والبَخَلِ قومٌ إِذا اسْتنُجِدوا قلَّ اعتلالُهمُ ... تُكَثِّرُ الموتَ فيهم قِلَّةُ العِلَلِ كأَنَّما الحربُ إِنْ لم يُجْلَ مَعْرَكُها ... بماجِدٍ منهمُ تَخْشى من العَطَل لم يَلْبَسوا السَّرْدَ إلا عادةً لهمُ ... في الْحربِ لْلحَزْم لا خَوْفاً من الأَجَل أَمِنْتُ بعدَك ما أَخشى وكان ... الْبقاء عَلَى الإِشْفاقِ والوَهَلِ وقوله: لَهْفي لِفَقْدِكَ لَهْفاً غيرَ مُنْقَطِعِ ... ما كان أَقرَبَ يأْسي منك مِن طَمَعي إِنْ تَسْتَرِحْ فأَنا المَبْلُوُّ بعدَك بالْ ... أَحزان أَو تسْلُ إِنّي دائم الجَزَع كيف التذاذي بدُنيا لستَ ساكنَها ... أَو اغتباطي بعيشٍ لستَ فيهِ معي ومن شعره في الهجاء قوله: ولقد حَدَسْتُ الْحمد في ... ك فطالما كَذَّبْتَ حَدْسي أُضْحي عَلى ما ساءني ... مُتَصَبِّراً وعليهِ أُمسي أَرجو غداً فإِذ أَط ... لّ ذمَمتهُ وحَمدتُ أَمسي وقوله يهجو بني بشارة وكان أحدهم قد أخذ له مدرجاً: بَني بشارَة رُدّوا ... عليَّ بالله دَرْجي فلَيس كلُّ طويلٍ ... مُدَوَّرٍ ساق زَنجي وقوله: إِن كنت أَخشاك أَو أَرجو نَداكَ فما ... في الناس مثليَ في جُبْنٍ وفي طَمَعِ وقوله يهجو طبيباً اتخذ باباً فوسعه فوق المعتاد: ما طوَّل البابَ الطّبي ... ب لأَنَّه شيءٌ يَزينُهْ لكنَّه رامَ الدُّخو ... لَ فلم تُطاوعْه قُرونُهْ وقوله من قصيدة: لُمْ يا عَذُولُ وَفَنِّد إِنَّ أَخلقَ بي ... مِن الثّناءِ لَتَوْبيخٌ وتَفْنيدُ إِنّي نَزَلْتُ بقومٍ ضيفُهمْ أَبداً ... عَلَى لَذَاذَتِهِ بالْمَوْت محسودُ كأَنَّما زُرْتُهمْ أَرتادُ مَوْعِظَةً ... فقولُهمْ ليَ تَوْريعٌ وتَزْهيدُ يا ليتَ كَفِّيَ كانتْ عندَهم أُذناً ... فإِنّ أُذنيَ أَغنتها المواعيدُ أبو حمزة عمارة بن أبي الحسن اليمنى من أهل الجبال، ونزل زبيد وتفقه بها، وهو من تهامة باليمن من مدينة يقال لها مرطان، من وادي وساع، وبعدها من مكة في مهب الجنوب أحد عشر يوماً، من قحطان من أولاد الحكم بن سعد العشيرة، وجد أبيه زيدان بن أحمد كان ذا قدرة على النظم الحسن، وبلاغة في اللجهة واللسن، وشعره كثير، وعلمه غزير، ذكر لي أنه وفد إلى مصر في زمان المعروف بالفائز، وأقام بها إلى أن نكب فعطب وهو بمرامه فائز، أمر بصلبه في القاهرة الملك الناصر صلاح الدين في شعبان أو رمضان سنة تسع وستين في جملة الجماعة الذين نسب إليهم التدبير عليه ومكاتبة الفرنج واستدعاؤهم إليه، حتى يجلسوا ولداً للعاضد، وكانوا أدخلوا معهم رجلاً من الأجناد ليس من أهل مصر، فحضر عند صلاح الدين وأخبره بما جرى، فأحضرهم فلم ينكروا الأمر ولم يروه منكرا، فقطع الطريق على عمر عمارة، وأعيض بخرابه عن العمارة. ووقعت اتفاقات عجيبة في قتله. فمن جملتها أنه نسب إليه بيت من قصيدة ذكروا أنه يقول فيها: قد كان أَوَّلُ هذا الدين من رَجُلٍ ... سعى إِلى أَن دَعَوْهُ سَيِّدَ الأُمَمِ ويجوز أن يكون هذا البيت معمولاً عليه، فأفتى فقهاء مصر بقتله وحرضوا السلطان على المثلة بمثله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 ومنها أنه كان في النوبة التي لا تقال عثرتها ولا يحترم الأديب فيها ولو أنه في سماء النظم والنثر نثرتها. ومنها أنه كان قد هجا أميراً كبيراً فعد ذلك من كبائره، وجر عليه الردى في جرائره. وعمل فيه تاج الدين الكندي أبو اليمن بعد صلبه: عُمارة في الإِسلامِ أَبدى خِيانةً ... وبايع فيها بِيعَةً وصَليبا وأَمسى شَريك الشِّرْك في بُغْضِ أَحمدٍ ... فأَصبحَ في حُبِّ الصَّليب صليبا وكان خَبيثَ المُلتْقى، إِن عَجَمْتَه ... تَجِدْ منه عُوداً في النفِّاق صَلِيبا سَيَلْقى غَداً ما كان يسعى لأجله ... ويُسْقى صَديداً في لظىً وصَليبا فمن شعر عمارة ما أنشدنيه الأمير المفضل نجم الدين أبو محمد بن مصال ببعلبك في شهر رمضان سنة سبعين: لو أَن قَلْبي يوم كاظمةٍ معي ... لَمَلكتهُ وكظَمتُ فيض الأَدْمُع قلبٌ كفاك من الصَّبابة أَنَّه ... لبّى نِداءَ الظّاعنين وما دُعي ما القلبُ أَوَّلَ غادرٍ فأَلومَهُ ... هي شِيمةُ الأَيّام قد خُلِقَت معي ومن الظُّنون الفاسدات تَوَهُّمي ... بعد اليقين بقاءَه في أَضْلُعي وأنشدني أيضاً لعمارة اليمني من قصيدة: مَلِكٌ إِذا قابَلْتُ بِشْرَ جَبينه ... فارقْتُه والبِشْرُ فوق جَبيني وإِذا لثمتُ يَمينَه وخرجتُ من ... إِبوانه لَثَمَ الملوكُ يميني ووجدت له بعد موته قصائد يرثي بها أهل القصر فمن جملتها قصيدة أولها: رَمَيْتَ يا دهرُ كَفَّ الْمجد بالشَّلَلِ ... وجِيدَه بعد طُول الْحَلْي بالعَطَلِ وأنشدني الأمير العضد أبو الفوارس مرهف بن الأمير أسامة بن مرشد بن منقذ من قصيدة له في فخر الدين شمس الدولة تورانشاه بمصر عند توجهه إلى اليمن، قال: أنشدها وأنا حاضر ما عَنْ هَوى الرَّشإِ العُذْرِيِّ إعذارُ ... لم يَبْقَ لي مُذْ أَقَرَّ الدَّمْعُ إِنكارُ لي في القُدود وفي لَثْم الخُدود وفي ... ضَمِّ النُّهود لبُاناتٌ وأَوطارُ هذا اختياري فوافِقْ إِنْ رضيتَ به ... أَوْ لا فدعني وما أَهْوى وأَختارُ وخَلِّ عَذْلي ففي داري ودائرتي ... من المَها دُرَّةٌ قلبي لها دارُ لاعَتْبُها من سَموم الْغيظ مُعتصَرٌ ... ولا عِتابي لها إِن هَبَّ إِعصارُ ويقول فيها بعد المدح: فابْخَلْ بِمَعْدِن هذا الدُّرِّ وهو فمي ... فالبخلُ بي كرمٌ مَحْضٌ وإِيثارُ فكم لمجدك عندي من مُحَبَّرة ... سيّارةٍ، وحديثُ المجد سيّارُ ومنها: دَعْوى شُهودي عليها غيرُ غائبةٍ ... والقابضونَ أُلوفَ المال حُضّارُ وأنشدني لعمارة أيضاً في الملك المعظم شمس الدولة: ملك أُوَ حّدُ مجده ولو أنَّني ... ثَنَّيْتُه ثنَّيتُ في التوحيدِ أُثْني عليه فلا أُردِّدُ مَدْحَه ... ونداه مجبول على التَّرْديد عن كلِّ بيتٍ بيتُ مالٍ حاضرٌ ... إِذ كلّ بيت منه بيت قصيد وأنشدني له أيضاً من قصيدة في صلاح الدين: وما فِكْرةُ الإِنسان إِلاّ ذُبالةٌ ... تُضيءُ ولكن نورها بالْهَوى يَخْبو وله في مصلوب بمصر يقال له طرخان كأنه وصف حاله وما إليه آل أمره من الصلب: أَراد عُلُوَّ مَرْتَبةٍ وقَدْرٍ ... فأَصبح فوق جِذْعٍ وهو عالِ ومَدَّ على صَلِيب الجِذْع منه ... يَميناً لا تَطُول إلى الشِّمالِ ونَكَّس رأْسَه لِعتابِ قلْبٍ ... دعاه إِلى الْغَواية والضَّلالِ وله في الصالح بن رزيك: ولو لم يكنْ أَدْرى بما جَهِل الْوَرى ... من الفضل لم تَنْفُقُ عليه الفضائِلُ لَئِنْ كان مِنّا قاب قَوْسٍ فبَيْننا ... فَراسِخُ من إِجلاله ومَراحِلُ وقوله في هذا المعنى: أَزال حِجابَه عَنّي وعَيْني ... تراهُ من الْجَلالة في حِجابِ وقَرَّبَني تَفَضُّله ولكنْ ... بَعُدْت مَهابةً عند اقترابي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 وله في قوم شهروا على الجمال ودخل بهم إلى البلد وهم أسراء: تَسَنَّموا إِبلاً تَتْلو قلائِعهم ... يا عِزَّة السَّرْج ذُوقي ذِلَّة الْقَتَبِ ومما أورده في مصنفه من شعره قوله في مبتدإ وصوله إلى مصر رسولاً من مكة في ربيع الأول سنة خمسين في زمان الفائز المصري: الحمدُ لِلْعيس بعد الْعَزم والهِمَم ... حَمْداً يقوم بما أَوْلَتْ مِن النِّعَمِ لا أَجْحَد الحقَّ عِندي للرِّكاب يدٌ ... تَمَنَّتِ الُّلجْم منها رُتبةَ الخُطُم قَرَّبْنَ بُعدَ مَزارِ العِزِّ من نظري ... حتى رأَيتُ إِمام العصر مِنْ أَمَمِ ورُحتُ من كعبة البَطْحاءِ والحَرَمِ ... وَفْداً إِلى كَعبةِ المعروف والكرم فهل درى البيتُ أَنّي بعد فُرْقَتِه ... ما سِرْتُ من حَرمٍ إِلاّ إِلى حرم ومنها: أَرى مقاماً عظيم الشَّأن أَوْهَمني ... مِنْ يقْظتي أَنّها من جُملة الحُلُمِ يومٌ من العمر لم يَخْطُر عَلى أَملي ... ولا تَرَقَّتْ إِليه رغبةُ الهِممِ ما خوذ من قول أبي تمام، فلا ترقت إليه همة النوب ليتَ الكواكب تدنو لي فأَنِظمَها ... عُقودَ مَدْحٍ فما أَرضَى لكم كَلِمي ومن مدائحه في الصالح بن رزيك قوله من قصيدة: دَعُوا كلَّ بَرْقٍ شِمْتُمُ غيرَ بارقٍ ... يلوحُ عَلَى الفِسُطْاط صادِقُ بِشْرِه وزُورُوا المَقامَ الصّالحِيَّ فكلُّ من ... عَلَى الأَرض يُنسى ذِكْرُه عند ذكرهِ ولا تجعلوا مقصودَكم طلبَ الغِنى ... فَتَجْنُوا عَلَى مَجْدِ المَقام وفَخْرهِ ولكن سَلُوا منه العُلَى تظفروا بها ... فكلُّ امرىءٍ يُرجى على قَدْر قَدْرهِ وقوله فيه: إِن تسأَلا عمّا لقيتُ فإِننيّ ... لا مخفقٌ أَملي ولا كذّابُ لم أَنتجع ثَمدَ النِّطاف ولم أَقف ... بِمَذانبٍ وقفتْ بها الأذناب لكن وردتُ قَرارة العِزّ التي ... تَغدو عبيداً عندها الأَرباب عَثَرَتْ به قَدَمُ الثَّناء فلالَعاً ... إِن لم تُقِلْها رِفعةٌ وثوابُ وقوله مودعاً ليعود إلى مكة: مَنْ لي بأَن تَردِ الحجاز وغيرَها ... أَخبارُ طِيبِ مَواردي ومَصادري زارتْ بيَ الآمالُ أَكرمَ ساحةٍ ... فوق الثَّرى فغَدوْتُ أَكرم زائر ووَفَدْتُ أَلتمِسُ الكرامةَ والغنِى ... فرَجَعتُ من كلٍ ّبحظٍ ّوافر فكأَنَّ مكةَ قال صادِقُ فألها ... سافِرْ تَعُدْ نحوي بوجهٍ سافرِ وقوله أيضاً: لازَمْتُ خِدمتَه فأَدَّب خاطري ... فالمدحُ من إحسانه مَعْدودُ فإِذا نَظَمْتُ له المديحَ فإِنّما ... أُهدي بِضاعتَه له وأُعيدُ كم ضَمَّ فائدةَ النُّهَى ليَ واللُّهَى ... فغدوْتُ مّما قد أَفاد أُفيدُ فَلأُشْعِرَنَّ بها مَشاعِرَ مَكّةٍ ... ولَتَسْمَعَنْ عَدَنٌ بها وزَبيدُ صَدَرٌ حَمِدتُ به الوُرود وإِنّما ... ذُمَّت به عندي المَطايا الْقُودُ وقوله، بعد رحيله، فيه وقد كتب على يده إلى صاحب عدن فأسقط عنه بها مالاً كثيراً فكتب إليه من عدن: لقد غمرتْني مِنْ نَداه مِواهبٌ ... أضافتْ إِلى عِزِّ الغِنَى شَرَفَ القدْرِ قصدتُ الْجنابَ الصّالحيَّ تفاؤلاً ... وقد فَسَدت حالي فأَصلحني دهري ولم يَرْضَ لي معروفَه دون جاهه ... فَسَيَّر كُتْباً كالكتائب في أَمري كأَنّ يدي في جانَبْي عَدَنٍ بها ... تَهُزُّ على الأَيام أَلويةَ النَّصر وما فارقتنْي نعمةٌ صالحيَّةٌ ... كانّيَ من مِصْرٍ رحلتُ إِلى مصر وعاد إلى مصر في سنة اثنتين وخمسين وقد سعي به إلى الصالح ابن رزيك في أمر فقال فيه من قصيدة يستعطفه: فاعلمْ وأَنت بما أُريد مَقاله ... منّي ومن كلّ البريّة أَعلمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 أَنّي حُسِدْت عَلى كرامتِك التي ... من أَجلها في كلِّ أَرضٍ أُكْرَمُ وبدون ما أَسديتَه من نعمةٍ ... سَدَّى الرِّجالُ الحاسِدون وأَلحموا إِن كان ما قالوا وليس بكائنٍ ... فأَنا امْرُؤٌ مّمن سعى بيَ أَلأَمُ ومنها: راجِعْ جميل الرَّأْي فيَّ بِنَظْرَةٍ ... تُضْحي عواطفُها تَسُحُّ وتَسْجُمُ فالليلُ إن أَقبلتَ صُبْحٌ مُسفِرٌ ... والصُّبحُ إن أَعرضتَ ليلٌ مُظلمُ بَدأَتْ صنائعُك الجميلَ ومثلُها ... بِأَجَلَّ من تلكَ البِداية تَخْتِمُ ومن مراثيه فيه قوله: أَفي أَهل ذا النّادي عليمٌ أُسائلُهْ ... فإِنّي لما بي ذاهبُ العقلِ ذاهلُهْ سمعتُ حديثاً أَحْسُد الصُمَّ عندهُ ... ويذهَل واعيه ويَخْرَس قائلُهْ فقد رابني من شاهدِ الحالِ أَنّني ... أَرى الدَّسْتَ مَنصوباً وما فيهِ كافلُهْ وأَنّي أَرى فوقَ الوُجوهِ كآبةً ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الوجوهَ ثواكلهْ دَعُوني فما هذا أَوانُ بُكائِه ... سَيأْتيكُمُ طَلُّ البُكاء ووابلهْ ولِمْ لا نُبَكّيه ونَنْدُب فَقْدَهُ ... وأَولادُنا أَيتامهُ وأَراملهْ فيا ليتَ شِعري بعد حُسْنِ فعاله ... وقد غاب عنّا ما بِنا الدهرُ فاعلهْ أَيُكْرَمُ مثوى ضَيْفِكمْ وغرِيبكمْ ... فيَسْكُنَ أَمْ تُطوى بِبَيْنٍ مراحلهْ ومنها قوله: تَنَكَّدَ بعد الصّالح الدَّهرُ فاغتدتْ ... مَحاسِنُ أَيّامي وهُنَّ عُيوبُ أَيُجْدِبِ خَدّي من رَبيع مَدامعي ... ورَبْعيَ من نُعْمى يَدَيْهِ خَصيبُ ومن مراثيه أيضاً قوله: طَمَعُ المَرْءِ في الحياة غرورُ ... وطويلُ الآمال فيها قصيرُ وَلكَمْ قَدَّرَ الفتى فأَتته ... نُوَبٌ لم يُحِط بها التقَّديرُ ومنها: ما تَخَطّى إِلى جلالك إِلاّ ... قَدَرٌ أَمرُه علينا قديرُ يا أَمير الجيوش عندك عِلْمٌ ... أَنَّ حَرَّ الأَسى علينا أَميرُ إِنَّ قبراً حلَلْتَه لَغَنِيٌّ ... إِنَّ دهراً فارقتهَ لفقيرُ وبعيدٌ عنك السُّلُوُّ بشيءٍ ... ولك الفكرُ مَوْطنٌ والضميرُ ومن ذلك أيضاً وقد نقل تابوته من دار الوزارة إلى القرافة: خَرِبتْ رُبوعُ المَكْرُمات لِراحلٍ ... عَمَرَتْ به الأَجداثُ وهي قِفارُ نَعش الجُدود العاثرات مُشَيَّعٌ ... عَمِيَتْ بِرؤُية نَعْشِه الأَبْصارُ شَخَصَ الأَنامُ إِليه تحتَ جَنازَةٍ ... خُفِضت برِفعة قدرِها الأَقدارُ فكأَنَّها تابوتُ مُوسى أُودِعت ... في جانِبَيْهِ سَكينةٌ ووقارُ وتغايَرَ الهَرَمانِ والحَرَمان في ... في تابوتِه وعَلى الكريم يُغارُ غَضِب الإِله عَلَى رجالٍ أَقدموا ... جَهلاً عليه وآخرين أَشاروا لا تَعْجَبا لِقُدار ناقةِ صالحٍ ... فلكلِّ عصرٍ صالِحٌ وقُدارُ أُحِللْتَ دارَ كَرامةٍ لا تنقضي ... أَبداً وحَلَّ بقاتليك بَوارُ ومن شعره في ولد الصالح رزيك يسترضيه: مَوْلايَ دعوة خادمٍ ... أَهملتَه بعد احتفالِكْ إِن كان عن سببٍ فلا ... يَذهَبْ بِحِلْمك واحتمالكْ أَو كان عن مَلَلٍ فما ... يخشى وَلِيُّكَ من مَلالكْ إِن خفتُ دهري بعدما ... أَعلقتُ حبلي في حبالك ومدحتُك المَدْح الذي ... عَبَّرْتُ فيه عن فَعالكْ فالجوُّ مسدود الهوا ... والأَرضُ ضَيّقة المسالك وقوله في مدحهم: إِذا نَزَلتْ أَبناءُ رُزِّيك مَنْزِلاً ... تَبَسَّم عن ثَغْر النَّباهة خاملُهْ وخَيَّم في أَرجائِه المجدُ والعُلى ... وَجاذَبه طَلُّ السماح ووابلهْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 ملوكُ لهم فضلٌ بأَبلجَ منهمُ ... مَحافلُه تُزْهى به وجَحافُلهْ تُزَرُّ على اللَّيْثِ الغَضَنْفَر دِرْعهُ ... وتُلْوى عَلى الطَّوْد المُنيف حمائِلُهْ تفَيضُ علينا كلَّ يومٍ وليلةٍ ... بلا سببٍ أَفضالُه وفضائِلهْ يُثيبُ عَلَى أَقوالنا مُتبرِّعاً ... عَلَى أَنَّها من بعض ما هو قائِلهْ وقوله في أخي الصالح، وهو بدر بن رزيك، وقد أعطاه مهراً: بعثتَ بِطِرْفٍ يَسِبُقُ الطَّرْفَ عَفْوُه ... وتَغْدو الرِّياح الهوج من خَلْفِه حَسْرى حَكى الْوَردَ والياقوتَ حُسناً وحُمرةً ... وتاه فلم يَرْض العَقيق ولا الْجَمرا وأَرسلتُه في الحُسنِ وِتْراً كأَنَّني ... أُطالب عند النّائِبات به وَتْرا نَذَرْتُ رُكوبَ البَرْقِ قبلَ وصوله ... فَوَفَّيْتُ لمّا جاءَني ذلك النَّذْرا زفقتُ القوافي في عُلاك عرائساً ... فساق لها الإِحسانُ في مَهرها مُهرا وقوله من قصيدة في بعض الأكابر من آل رزيك أولها: تَيَقَّنُوا أَنّ قلبي مِنْهُم يَجِبُ ... فاستعذَبوا من عَذابي فوق ما يجبُ وأَعْرضوا ووُجوهُ الودِّ مُقبِلَةٌ ... وللمُكَلَّف قلبٌ ليس ينقَلِبُ ولو قَدَرْتُ لأَسلاني عُقُوقُهمُ ... وَكم عُقوقٍ سَلَت أُمٌّ به وأَبُ إِنْ لم يكن ذلك الإِعراضُ عن مَلَلٍ ... فسوف تُرْضيهم العُتْبى إِذا عَتبِوا وإِنْ تكدَّر صافٍ من مَوَدَّتهمْ ... فالشمسُ تُشْرقُ أَحياناً وتَحتجب وقوله في حسام من قصيدة: أَنسيمُ عَرْفكِ أَم شَميمُ عَرارِ ... وسَقيمُ طَرْفكِ أَم صَفيحُ غِرارِ جادتْ مَحَلَّكَ بالغَميم غَمامةٌ ... تَحْكي بوادِر دَمعيَ المِدْرارِ لا تَبْعثي طَيْفَ الخيالِ مُذَكِّراً ... فهواكِ يُغْنِيني عن التَّذْكارِ ومنها في المديح: مَلِكٌ إِذا ما عِيبَ عِيبَ بأَنهُ ... عارِي المَناكِب من ثِياب العار قَصَدَتْه من حُسْنِ الثَّناءِ قَصائِدٌ ... رَكبتْ إِلى التَّيّار في التَّيّار قد قلتُ إِذ قالوا أَجدتَ مديحَهُ ... شُكْرُ الرِّياض يَقِلُّ للأَمطار مُختارُ قَيْسٍ حاز مُختار الثَّنا ... ما أَحسن المُخْتار في المختار وقوله من قصيدة في الكامل بن شاور: إِذا لم يُسالِمْك الزَّمانُ فحارِبِ ... وباعدْ إِذا لم تنتفعْ بالأَقاربِ ولا تحتقِرْ كَيْداً ضَعيفاً فَرُبَّما ... تموتُ الأَفاعي من سُمومِ العقارب فقد هَدَّ قِدْماً عرشَ بلقيسَ هَدْهُدٌ ... وأَخْرَبَ فأْرٌ قبلَ ذا سَدَّ مَأْرِبِ إِذا كان رأْس المال عُمْرك فاحْتَرِزْ ... عليه من الإِنفاق في غيرِ واجب فَبيْنَ اختلاف اللَّيْلِ والصُّبْحِ مَعْرَكٌ ... يَكُرُّ علينا جيشُه بالعجائب وما راعني غَدْرُ الشَّباب لأَنَّني ... أَنِسْتُ بهذا الخُلْق من كُلِّ صاحب وغَدْرُ الفتى في عَهْدِه ووفائِه ... وغدرُ المَواضي في نُبُوِّ المَضارب ومنها: إِذا كان هذا الدُّرُّ مَعْدِنُه فَمِي ... فَصُونوه عن تَقْبيلِ راحةِ واهبِ رأَيتُ رجالاً أَصبحوا في مآدِب ... لَدَيْكُمْ وحالي وحْدَها في نَوادِب تأَخَّرتُ لمّا قَدَّمَتْهُمْ عُلاكُمُ ... عليّ وتأْبى الأُسْدُ سَبْقَ الثَّعالب وقوله فيه: وَسَمْتَ بنُعْماك الرِّقابَ تَبَرُّعاً ... وأَجيادُ شِعري ما عليهنَّ مِيسَمُ وأُنْسِيتنَي حتى وقفْتُ مُذّكِّراً ... بنفسي وُقوفاً حَقُّه لك يَلْزَمُ وألغَيْتني حتى رأَيتُ غَنيمةً ... دخولي مع الجَمِّ الغفير أُسَلِّمُ كأَنّيَ لم أَخْدُمْكُمُ في مَواطنٍ ... أُصرِّح فيها والرّجال تُجَمْجِمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 ولم أَغْشَ هذا البابَ قبلُ ولم تكن ... تُضايقني فيه الرِّجال وتَزْحَمُ كذبْتُ عَلى نفسي إِذا قمتُ شاكراً ... وليس لسانُ الحال عنّي يُتَرْجِمُ وقالوا تجمَّلْ لا تُخِلَّ بِعادةٍ ... عُرِفْتَ بها فالصبرُ أَولى وأَحزمُ وهل بعد عَبّادان يُعْلَمُ قَرْيَةٌ ... كما قيل أَو مِثلُ ابن شاوَر يُعْلَمُ وقوله: مضى بَدْرٌ فأَغْنى عنه طيٌّ ... بما أَولى من الكَرَم الجزيلِ وقِدْماً كنتُ أَمدحُ للعطايا ... فقد أَصبحتُ أَمدح للسَّبيل لقد طَلَعتْ علَيَّ الشمسُ لمّا ... عَدِمْتُ وقِايةَ الظِّلِّ الظَّليل وقوله في أخي شاور: أَتَيْتُ إِلى بابك المُرْتَجى ... فأَلفيتُه مغلقاً مُرْتَجا فقلتُ لِبوّابه سائِلاً ... أَيُغْلَق بابُ النَّدى والحِجى فقال أَراك كثيرَ الكلام ... وعندي من الرأْي أَن تَخْرُجا وإِلاّ نَتَفْتُ سِبالَ المديح ... وأَتبعتُها بِسبال الهِجا وقوله فيه وكان بمنية غمر، فركب إليه في البحر: ولمّا دَنا عالي رِكابِك هَزَّني ... إِليك اشتياقٌ ضاع في جَنْبه صَبري وحين رأَيتُ البَرَّ وَعْراً طريقُهُ ... ركبتُ أَخاك البحرَ شَوْقاً إِلى البحر وما أَنا بالمجهول عِلْمُ مَسيره ... إِليك ولا الخافي حديثي ولا ذِكري ولا أَنتَ ممَّن يُرْتَجى لِسوى الغنِى ... ولا أَنا من أَهلِ الضَّرورة والفقر سيسَأَلنُي عندَ القُدوم جماعةٌ ... من النّاس عمّا ذا لقيتُ من الأَمر ولا بُدَّ أَن يجري الحديثُ بذكر ما ... فعلتَ معي فاختر بنا أَشرف الذِّكر ومَنْ ينتجِعْ أَرضَ العراق وَجِلَّقٍ ... فمُنْيَةُ غَمْرٍ مركزُ الكرم الغَمْر وقوله في بعض الأمراء يطلب عمامة: رأَيتكُ في المَنام بَعَثْتَ نَحوي ... بحامِلة الْحَيا وهي الْغَمامهْ فأَوَّلْتُ الحَيا بحَياك منّي ... وصَحَّفتُ الغَمامة بالعِمامهْ فأَنْفِذْ لي بأَطولَ من حِسابي ... إِذا أُحْضِرْتُ في يوم القيامهْ ومنها: كأَنَّ بياضَها وَجْهٌ نَقِيٌّ ... وحُسْنُ الرَّقْم فوق الخَدِّ شامهْ ولا تبعثْ بقيمتها فإِنّي ... أَراه من التكلُّف والغرامهْ وليس القَصْدُ إِلاَّ تاج فخرٍ ... يُطَوِّل قامةً ويَصُون هامهْ وما هذا المديحُ سوى أَذانٍ ... فقل لِنَداك حَيَّ عَلَى الإِقامهْ وقوله من قصيدة في بعضهم: خُذْ يا زَمانُ أَماناً من يَديْ أَملي ... لا رَوَّعتْ سِرْبَك الأَطماع مِنْ قِبَلي ولا مَددْتُ إِلى أَيدي بَنيك يَدي ... إِذاً فلا وأَلَتْ كَفّي من الشَّلَلِ صانوا بأَعْراضِهم أَعراضهم فغَدا ... شِعْري وسِعري مَصوناً غيرَ مُبْتَذَلِ تركتُ مَنْ كنتُ أُطريه وأُطْربه ... فلا ثَقيلي يُعَنِّيهم ولا رَمَلي وكيف أَنْشَطُ في أَوصافِ ذي كَرمٍ ... كسلانَ يرمي نَشاطَ المدْحِ بالكَسَلِ حَلَّيْتُ جِيدَ عُلاه وهي عاطلةٌ ... وجاءَني منه جِيدُ المَدْح بالعَطَلِ أُثني ويُثْني رجالٌ ضَمَّني معهم ... وَزْنُ الكلام وليس الكُحْلُ كالْكَحَلِ وليس يُحْفَظ إِلاّ ما نَطقتُ به ... حتى كأَنَّ سِوى ما قلتُ لم يُقَل ذَنْبي إِلى الدَّهْرِ فضلٌ لو سَترتُ به ... عَيْبَ الْحوادث لم تُنْسَب إِلى الزَّلل إِنْ آثرتْ ثروةُ الدُّنيا مُجانَبتي ... فإِنَّها ابنةُ أُمّ الغَيِّ والخَطَل ولي إِذا شِئتُ من تاجِ الخلافة مَن ... أَرى به شَرَفَ الأَفعال في رجل إِن جاد أَو كاد في يَوْمَيْ ندًى ورَدًى ... فاضَتْ أَنامله بالرِّزْق والأَجَل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 لو كان حَظٌّ عَلَى مِقدارِ مَنزِلَةٍ ... لم يَنْزِل المُشْتَري عن مُرْتَقى زُحَل أَما ترى الفَلَكَ العُلْوِيّ قد جعلوا ... فيه سَمِيَّك بعد الثَّوْر والْحَمَل ومنها: واسمع مُحَبَّرةَ الأَوصاف خاطبة ال ... إِنْصاف طالت مَعانيها ولم تَطُل جادت جَزالتُها لفْظاً ورقَّتُها ... معنىً بما شئتَ من سَهلٍ ومن جَبَل وقوله في وداع بعض الأكابر: تناولتَ المكارِمَ والمَساعي ... بأَقوى ساعدٍ وأَتَمِّ باعِ ومنها: إِذا سارتْ جِيادُك والْمطايا ... فيا زَمَع القُلوب من الزَّماعِ وَداعُ رِكابك السامي دَعاني ... إِلى ذَمِّ التَّفرُّق والوَداع ستَفْقِدُ منك أَنفُسنا حياةً ... وما فَقْدُ الحياة بمستطاع وقوله في قضاة الزمان: رُتبةُ الحُكْمِ السَّنِيَّهْ ... هُدِمَتْ هَدْم البَنِيَّهْ أَخْرَب الجهّالُ منها ... كلَّ ثَغْرٍ وثَنِيَّهْ وغدت دَنِّيَّةُ الحُكْ ... مِ بهم وهْي دَنِيَّهْ وزار صديقاً له فلم يجده فكتب إليه: يا سَيِّداً ساحةُ أَبوابه ... لكلِّ من لاذ بها قِبلهْ قد استَنَبْتُ الطِّرْسَ في لَثْمِه ... كَفَّك واستَوْدعتُه قُبلهْ فامْدُد إِليه راحةً لم يَزَلْ ... معروفُها يُخْجِل مَنْ قَبْلَهْ وقوله وقد ابتاع جارية يلتمس ثمنها: يا سَيِّداً يشهَدُ لي خَلْقُه ... وخُلْقُه أَنّ الورى دُونَهُ كم لك من مَكْرُمةٍ ضَخمةٍ ... ومِنَّةٍ ليست بمَمْنونهْ وموقفٍ بين النَّدى والرَّدى ... يخافُه النّاس ويَرْجونهْ قد اشترى الخادمُ مَمْلوكةً ... صُورتُها بالحسن مدهونهْ كاملةَ العقل ولكنَّها ... إِذا خَلَتْ في الفُرْش مجنونهْ قيمتها ستّون موزونةً ... والنصفُ منها غيرُ موزونهْ وهي عَلَى ذاك فأَنْعِمْ بها ... تحت خُصى البائع مرهونهْ وقوله في كاتب نصراني يدعى أبا الفضل وهو يخدم على دار الكباش: رأَيتُ أَبا النَّقْصِ ضاقتْ به ... مَذاهبه في التماسِ المعاشِ ومِنْ حُبِّه في ذوات القُرون ... غدا وهو نائب دار الكباشِ وقوله: إِن كان يحسَب أَنَّ خِسَّة أَصِله ... تَحْميه من حُمَتي ومُرِّ ذُعافي فالأُسدُ تفترسُ الكلاب إِذا عَدَتْ ... أَطوارَها، والأُسْدُ غيرُ ضِعاف دَعْني أُثَقِّلْ بالهِجاءِ لجِامَهُ ... إِنَّ البغالَ كثيرة الإِخْلاف لا تَأْمَنَنَّ أَبا الرَّذائل بعدها ... واحذَرْ أَمانةَ سارقٍ خَطَاف فالمرتَجي عند اللِّئام أَمانةً ... كالمُرْتجي ثَمراً من الصَّفْصافِ وقوله: وقائلةٍ مالي أَرى الْجَوَّ مُظِلماً ... بأَعمالِ مصْرٍ دون كلِّ مَكانِ فقلتُ ومصرٌ كالبلاد وإِن يكن ... عَلاها ظَلامُ فهو بابن دُخان لقد سَئمَ الإِسلامَ طولَ حياته ... ودار عَلَى قَرْنَيْه أَلفُ قِران مَتى تَقْبِضُ الأَيامُ عنّا بَنانَه ... وتَبْسُط كفَّ الأَروع ابنِ بنان لقد ترك الأَعمالَ صفْراً كأَنَّها ... قوالبُ أَلفاظٍ بغيرِ معانِ فَصَدِّقْ كلامَ النّاس فيه ولا تَقُل ... كلامُ العِدى ضربٌ من الهذيان وقوله: كلَّما رُمتُ سِلْمَه رام حَرْبي ... ما لِهذا الوَضيعِ قولُوا ومالي أَجرَبُ العِرْض يَشْتفي بهجائي ... وهو عِرْضٌ بالذَّم ليس يُبالي وقوله: يا رَبّ هَيِّىءْ لنا من أَمرِنا رَشَدا ... واجعلْ مَعُونتك الحُسنى لنا مَدَدا ولا تَكِلْنا إِلى تدبير أَنفسنا ... فالنَّفْسُ تعِجَزُ عن إِصلاح ما فسدا أَنتَ الكريم وقد جَهَّزْتُ من أَملي ... إِلى أَياديك وجهاً سائلاً ويدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 وللرَّجاءِ ثوابٌ أَنت تعلمهُ ... فاجعلْ ثَوابي دوامَ السَّتْرِ لي أَبدا وقوله حين قصد الفرنج أرض مصر: يا رِبِّ إِنّي أَرى مصراً قد انتبَهتْ ... لها عُيون اللَّيالي بعد رَقْدَتِها فاجْعل بها مِلَّة الإِسلام باقيةً ... واحرُس عُقودَ الهُدى مِنْ حَلِّ عُقدتها وهَبْ لنا مِنكَ عَوْناً نستجِيرُ به ... من فِتنةٍ يَتَلظّى جَمْر وَقْدَتها وذكر لي بعض المصريين بالقاهرة أن الصالح بن رزيك رغب عمارة في أن يعود متشيعاً ويأخذ منه ثلاثة آلاف دينار وكتب إليه: قُل للفقيه عُمارةٍ يا خيرَ مَنْ ... أَضحى يؤلِّف خُطبةٌ وخِطابا إِقبلْ نَصيحة مَنْ دعاك إِلى الهُدى ... قُلْ حِطَّةٌ وادخُل إِلينا البابا تَلْقَ الأَئِمَّة شافِعين ولا ترى ... إِلاّ لديهمْ سُنَّةً وكِتابا وعَلَيَّ أَنْ يَعْلو مَحَلُّكِ في الوَرى ... وإِذا شَفَعْت إِليَّ كنتَ مُجابا وقبضتَ آلافاً وهُنَّ ثلاثةٌ ... صِلةً وحَقِّك لا تُعَدُّ ثوابا فأجابه عمارة عنها: يا خيرَ أَملاك الزَّمان نِصابا ... حاشاك من هذا الْخِطاب خِطابا أَما إِذا ما أَفسدتْ عُلماؤكم ... مَعْمُورَ مُعْتَقَدي وصار خَرابا وأَتى دليلُ الحَقِّ في أَقوالهم ... ودعوتُ فِكري عند ذاك أَجابا فاشدُدْ يَدَيْك على أَكيدِ مَوَدَّتي ... وامْنُن عليَّ وسُدَّ هذا البابا والعجب من عمارة أنه تأبى في ذلك المقام عن الانتماء إلى القوم وترك، وغطى القدر على بصره حتى أراد أن يتعصب لهم ويعيد دولتهم فهلك. أبو بكر بن أحمد بن محمد العيدي اليمنى تمهيد تاريخي: الدولة الزريعية الحديث عن الشاعر العيدي وتفهم شعره يقتضينا أن نتحدث عن الدولة الزريعية التي عاش في كنفها وقال أكثر شعره فيها. وقد جاءت الدولة الزريعية في أعقاب الدولة الصليحية. وحين تحدث العماد عن الشاعر اليمني ابن القم وجدنا أننا مضطرون إلى أن نفرد الصفحات الأولى للحديث عن الصليحيين في تتابع ملوكهم وتوالي أحداثهم. وقد كان آخر من حكم اليمن من الصليحيين سبأ بن أحمد، الملقب بالأوحد، الذي توفي سنة 492، وزوجه السيدة أروى، الملقبة بالملكة الحرة، التي تفردت بعده بالحكم وماتت سنة 532 وقد وزر للسيدة أروى المفضل بن أبي البركات بن الوليد الحميري، ثم أخوه وابنه، وكانوا جميعاً عوناً لها على سياسة الملك، وتدبير المملكة، وقيادة الجيوش. وكان الداعي الصليحي أبو الحسن علي بن محمد، أول الصليحيين قد فتح عدن وملوكها آنذاك بنو معن، فأقرهم على طاعته. ولما زوج ابنه المكرم أحمد بالملكة الحرة السيدة أروى جعل صداقها خراج عدن، ثم اما قتل سنة 458 تغلب على الخراج بنو معن. فسار إليهم المكرم أحمد وأخرجهم منها وولي عليها العباس ومسعوداً ابني المكرم الجشمي الهمداني اليامي - وكانت لهما سابقة معروفة عند المكرم لقيامهما معه عند نزوله زبيد واستنقاذه أمه من سعيد الأحول - وجعل للعباس حصن التعكر وباب البر وما يدخل منه، وجعل لمسعود حصن الخضراء وباب البحر وما يدخل منه وإليه أمر المدينة، واستخلفهما لزوجته السيدة أروى، فكانا يحملان إليها كل سنة مائة ألف دينار تزيد وتنقص. وتوفي العباس بن المكرم فانتقل عمله إلى ابنه زريع، وبقي عمه مسعود على ما تحت يده، واستقام كل منهما على عمله، وزاد زريع فملك الدملوة في سنة 480. وكانا - أول الأمر - يحملان ما عليهما إلى السيدة أروى، ثم اجتمعا على أن يمنعا عنها ما كانا يدفعان من من خراج، فحاربهما وزيرها المفضل بن أبي البركات واصطلحا معه على النصف. ثم تغلب أهل عدن على النصف حين أحسوا الضعف في حكم السيدة أروى بعد موت وزيرها المفضل، فسيرت إليهم ابن عمه أسعد بن أبي الفتوح بن العلاء بن الوليد الحميري فصالحهم على الربع. ثم تغلبوا على هذا الربع الباقي بعد ثورة الفقهاء على السيدة أروى بالتعكر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 ولما بعثت السيدة أروى بالمفضل لتنصر بعض أولاد جياش بن نجاح - وهو منصور بن فاتك بن جياش - على عمه عبد الواحد كتبت إلى زريع وعمه مسعود أن يلقيا المفضل بزبيد، فلقياه وقاتلا معه حتى قتلا بباب زبيد سنة 503، وتمكن المفضل من دخول زبيد. وقد قام يعدهما أبو السعود بن زريع، وأبو الغارات بن مسعود، كل منهما في جهته. ومات أبو الغارات فخلفه ابناه محمد وعلي، ومات أبو السعود فخلفه سبأ، وإليه صارت الدعوة عن السيدة أروى ولقب بالداعي، وكان أول من لقب بذلك من الزريعيين. واقتتل الداعي سبأ مع محمد بن أبي الغارات، وتمت الغلبة للداعي، فاستولى على أكثر اليمن وأضحى رأس الدولة الزريعية، وتوفي سنة 533. ثم خلفه ابنه الداعي المعظم محمد بن سبأ بن زريع فمد في سلطان الزريعيين حين استولى على حب وذي جبلة وأعمالها سنة 548 - وقد انتقلت إليه من يد الأمير منصور بن المفضل بن أبي البركات بن الوليد الحميري -. وفي عهده كانت الزلزلة باليمن سنة 549 وقد انهدم بها حصون كثيرة. ومدح الداعي بأشعار وقصائد وتوفي سنة 550 على أصح الروايات 547، 548 في بعض الروايات الأخرى بالدملوة، وقبره فيها. واستولى على البلاد بعده ابنه الداعي المكرم عمران بن محمد وعظم شأنه، وقصده الشعراء، وانقطع بعضهم إليه على نحو ما كان من أبي بكر العيدي شاعر الخريدة الذي أصفاه مدائحه. واستمر يحكم حتى كان ظهور بني مهدي وغلبتهم على زبيد فضعف أمر الزريعيين وبدأ نجمهم بالأفول ولم يبق لهم إلا عدن. وتوفي بعد عشر سنين من ولايته، أعني سنة 560 في عدن. وحمله الشاعر الفاضل الكامل أبو بكر العيدي والشيخ التاجر أبو الغنائم الحراني إلى مكة وقبر في مقابرها. وكان له ثلاثة أولاد صغار قام بتربيتهم الشيخ الموفق أبو الدر جوهر بن عبد الله المعظمي في حصن الدملوة، وبالملك لهم ياسر بن بلال بن جرير المحمدي. ومن مدائح الشاعر العيدي نعرف أن أحدهما يدعى محمداً والآخر يدعى أبا السعود انظر القصيدة الهمزية فيما نستقبل من شعر العيدي. وفي سنة 569 دخل الملك المعظم تورانشاه، أخو صلاح الدين، اليمن يفتحها، وبعد دخوله شنق ياسر - ومعه عبده السداسي سنة 571 وزال سلطان الزريعيين عن عدن، آخر ما أبقى لهم بنو مهدي، وانقضى ملكهم. ويقول ابن المجاور في تأريخ المستبسر ص126 - 127: وكان أبناء زريع يؤدون الخراج إلى الخلفاء الفاطميين وهو لأجل المذهب لأن القوم كانوا إسماعيلية، وكل من تولى بأرض اليمن من بني زريع يسمى الداعي أي يدعو الخلق إلى المذهب. بلوغ المرام - طبقات فقهاء اليمن - تأريخ المستبصر - المقتطف من تاريخ اليمن - معجم البلدان أبو بكر بن أحمد بن محمد العيدي اليمني وزير صاحب عدن، ذكره نجم الدين بن مصال وذكر أنه يعيش. وحكى أن شاباً من الاسكندرية يعرف بأحمد بن الأبي سافر إليه وانتفع من جانبه وأن أحمد ذكر عنه أنه عمل أبياتاً يهنىء بها الداعي بعدن بطهور أولاده من جملتها: كذُبالَةِ المِصْباح يَقْضي قَطُّها ... عند الخمُود لها بقُوّة نارِهِ قال فقال لي يصلح أن يكون لهذا البيت توطئة قبله وعمل: أَخْذٌ من العُضْو الشَريف قضَى له التَّ ... أْثير فيه بمقُتضَى إِيثارهِ وبعده: كْذبالِة المِصباح يَقْضي قَطُّها ... عند الخمُود لها بقوّة نارهِ وأنشدني له ابن الريحاني المكي، وذكر أنه ضرير وهو كاتب السلطان علي: تَحَدَّثَ ساري الرَّكْب عنكم بأَوْبَةٍ ... تَنَسَّم أَنفاسَ السُّرورِ بها الْقلْبُ فيا مِنَّةً لِلْعيس إِذ أَدْنَتِ النَّوى ... ويا حَبَّذا ما عَنكمُ حَدَّث الرَّكبُ ولما استولى شمس الدولة تورانشاه بن أيوب على عدن وجده بها حياً، وذكر لي أنه نهب له مال كثير ودفاتر، وعدد وذخائر. وسألت عنه أصحاب الملك المعظم شمس الدولة عند عوده إلى دمشق في شهر رمضان سنة إحدى وسبعين، فذكروا أنه شيخ كبير، وهو ضرير، وله فضل غزير، ومحل عزيز، وجاه حريز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 ثم طالعت مجموع عمارة الشاعر اليمني في ذكر شعراء اليمن فوجدته قد أثنى على أبي بكر العيدي من عدن وقال: ومنهم من جعلت ذكره فارس الأعقاب، وجمال ما مضى وما يأتي من الأحقاب، وزير الدولة الزريعية وصاحب ديوان الإنشاء بها ووصفه بصدق اللهجة، وحسن البهجة، والدين الحصين، والعقل الرصين، والؤدد العريض، والكرم المستفيض، والتواضع الذي لا يضع من رتبته العالية، ولا يرخص من قيمته الغالية، وأما البلاغة فهو إمامها، وبيده زمامها، ولخاطره هداية النجم الساري، وسلاسة العذب الجاري، وأما عبارته فلا يشوبها لبس، ولا يعوقها حبس، فسيح في الإطالة مجاله، موف علي الروية ارتجاله، يكاد نظمه أن يبتسم ثغره، ونثره أن ينتظم دره. وقال إن له بلاغة تشهد عذوبة مطبوعها، بكرم ينبوعها، وألفاظاً تدل معانيها، على فضل معانيها. وأما مولده فمن أهل أبين وهو أبين عدن، قال ولما ترعرع عني بنفسه، وكان ينزل إلى عدن وهي من وطنه على ليلة فيجتمع بالعلماء الواصلين من الآفاق إلى موسم عدنن ولازم الطلب، حتى تفقه وتأدب، ونظم ونثر، وكتب وحسب، ولم يزل في عدن وجمر فضله مستور بالرماد، وغمر معينه مغمور بالثماد، إلى أن مات محمد بن غزي كاتب الشيخ بلال بن جرير صاحب عدن، فتنبه بلال عليه، وأرشده رائد السعادة إليه، فجعله كاتبه، بل صاحبه. وذكر أنه حكي له أنه كان محمد بن غزى إذا أراد أن يكتب عن بلال كتاباً أو يرد جواباً لم يستقل بنفسه دون الحضور بين يديه حتى يملي عليه مقاصد الكتاب ثم لا يختمه حتى يلحق بلال بين سطوره بخطه ما وقع الإخلال به في اللفظ والمعنى، فلما كتب له الشيخ الأديب اعتقد بلال أن الأديب مثل ابن غزى في جمود طبعه، وخور نبعه، وثمد معينه، وعدم معينه ونبوة كلامه، وكبوة أقلامه، وقصر رشائه، وفقره من فقر إنشائه، وشتان بين عزة فارس القلم، وذلة راجل الجلم، فألقى بلال إلى الأديب كتباً وردت عليه، وقال قف عليها وتصفحها حتى نخلو من مجلس السلام فأملي عليك مقاصدها، فكتبها الشيخ الأديب في ذلك المجلس في لحظة ودفعها إليه وقد كتب عنوان كل كتاب منها، فلما وقف عليها بلال قال: لم تزد والله على ما في نفسي من الجواب شيئاً ولم تنقص عنه، ففوض إليه واعتمد عليه. وذكر أنه استأذنه يوماً على ما يجيب به عن كتب وصلت إليه، ويثيب به آخرين وفدوا عليه، فقال له يا مولاي الأديب، الدولة دولتك، والمال مالك، فأجب، وأثب، كيف شئت، وبما شئت. وذكر أن الأديب أبا بكر كان من سؤدده أنه إذا سمع بقدوم قافلة إلى البلد خرج إلى الباب واستخبر عمن فيها من الأدباء والفقهاء، فإذا ظفر منهم بأحد بالغ في إكرامه واستخلاص بضاعته إن كان تاجراً، وإن كان باعه في الأدب قصيراً عمل له الشعر على لسانه واستنجز له الصلة، ثم أنزله مدة مقامه وزوده عند رحيله. قال عمارة في مجموعه وهذه القصة جرت له معي، فإني قدمت عدن وأنا حينئذ لا أحسن الشعر، فعمل قصيدة على لساني، حتى فزت عند صاحب عدن بالأماني، فلما عزمت على السفر قال إنك قد اتسمت عند القوم بسمة شاعر، فانظر لنفسك وطالع كتب الأدب ولا تجمد على الفقه وحده، فإن فضيلة اللسان حلية الإنسان، ثم قدمت في العام الثاني وقد علمت شعراً أصلح من الأول ومعي إنسان جمال، فقال لي الأديب ما رأيك أن تنفع هذا الإنسان بشيء لا يضرنا، قلت: وما هو؟ قال نعمل قصيدة على لسانه، ففعل واستنجز له صلة من الداعي محمد بن سبأ. فلما انفض الجمع دعاني الداعي وقال إذا سألتك عن شيء تنصحني؟ قلت: نعم، قال أظن أن هذا الإنسان الذي أخذ له الأديب الدنانير جمالاً، قلت: هو والله جمال وإنما فضل طباع الأديب ومعونتكم له على فعل الخير صيرت هذا ومن يجري مجراه شاعراً، فضحك الداعي وأعاد الجمال فزاده ذهباً. قال ومن أَخباره أَنّ إِنساناً يقال له أَبو طالب بن الطّرائفي مدح الدّاعي محمد بن سبأ في سنة ستّ وثلاثين بقصيدة أَبي الصلت أُميّة التي مدح بها الأَفضل وأَوّلها: نَسخَتْ غرائبُ مَدْحِك التَّشبيبا ... وكفى به غَزلاً لنا ونسيبا ومنها: وأَنا الغريب مكانُه وبيانُه ... فاجُعل نوالك في الغريب غَريبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 ثم أَهدى الرَّشيدُ ابن الزُّبيرَ ديوانَ أَبي الصلت إِلى الدّاعي محمّد بن سبأ فوجد القصيدة فيه، فكتب إِلى الأَديب أَبي بكر بعَدَن كتاباً يأْمره فيه بتسيير القصيدة إِليه إلى الجبال فنسخها الأَديب بخطّه وزاد في آخرها اعتذاراً عن ابن الطّرائقي، وكان قد مات، قوله: هذي صفاتُك يا مَكين وإِن غدا ... فيمَنْ سِواك مَديحُها مغصوبا فاغفِر لمُهديها إِليك فإِنّه ... قد زادَها بِشَريفِ ذِكرك طِيبا وذكر أَنّه حدّثه الفقيه أَبو العبّاس أَحمد بن محمد بن الأُبِّيّ قال: أَذكر ليلةً أَنا أَمشي مع الأَديب على ساحل عَدَن وقد تشاغلتُ عن الحديث معه فسأَلني في أي شيء أنت مفكر؟ فأَنشدته: وأَنظرُ البدرَ مرتاحاً لِرؤيته ... لعلَّ طرف الذي أَهواه بنظرهُ فقال لمن هذا البيت؟ قلت: لي، فأَنشدَ مُرْتجِلاً: يا راقِدَ الليلِ بالإِسكندريَّة لي ... مَنْ يسهرُ الليلَ وَجْداً بي وأَسهُرهُ أُلاحظ النَّجْمَ تَذْكاراً لرُؤّيَته ... وإِنْ مَرى دمعَ أَجفاني تَذَكُّرهُ وأَنظرُ البدرَ مُرتاحاً لرؤيته ... لعلَّ طَرْف الذي أَهواه ينظُرهْ قال: ثم سمعت أنَّ بصَره قد كُفّ، فعلمِتُ أَنّ الأيّام طَمَست بذلك مِنْهاج جَمالها، وأَطفأَت سِراج كَمالها، فأَجناه الله ثمر الخير الذي كان يغرِسُه، وحَرَسه ناظِرُ الإِحسان الذي كان يرعاه ويحُسِره، فتزايدتْ وَجاهته، وتضاعفت رفعتُه ونباهته، وأَراد الزمانُ أن يَخفِضَه فرَفعَه، وأَن يَضُرَّه فنفَعَه. وذكر أَنّ الدّاعي عمران بن محمد بن سبأ بن أبي السعود بن زُرَيْع ليامي لمّا وقف الأَديبُ يُنشده قصيدةً عملها فيه، بعد انعكاس نور البصر من ناظره، إِلى بَصيرَة خاطره، حمل إِليه أَلفَ دينار واعتذر ولَطَف له في القول لُطفاً يسلّي الحزين، ويستخفّ الرَّزين، ثم لم يَرْضَ بذلك حتى أَمر مُنادياً فنادى في النّاس من دخلَ دارَ الشيخ الأديب فهو آمن. قال: والشعرُ الجيّد الرائق الفائق أَقلُّ خِصاله، وأَكَلُّ نِصاله. وأَورد من شعره قولَه يمدح الداعي عِمران بن محمد بن سبأ: عادَ الهوى في فُؤادي مثلَ ما بدأَ ... لمّا تَعرَّفْتُ مِن أَهل الحِمى نَبأَ أَمْلى على القلب ساري البرقِ مُبتسماً ... عنهم أَحاديثَ شوقٍ تُطرِب الملأَ فبِتُّ أُروي رُبي خَدَّيّ من دِيَمٍ ... تَزْداد غُلَّةُ أَحشائي بها ظَمَأَ رُقى العواذِل مُهْراق النَّجيع بها ... لمّا ترقرق مُنْهَلاً فما رقَأَ لَعَلَّ لامِعَ ذاك البرقِ كان لهم ... طليعةً طالعَ الأَسرار فارتَبَأَ لَئِنْ براني هوى أَهلِ الحِمى فَلَكَمْ ... داوَيْتُ من حُبِّهمْ دائي فما بَرأَ يُدْنيهمُ الشوقُ منّي والحنينُ وإِن ... شَطَّ المَزار بهم عن ناظِري ونأَى وما تقتَّصني منهم سوى رَشَإٍ ... أَفدي بمُهجة نفسي ذلك الرشأَ أغَنَّ يَغْنى عن البدر المُنير به ... مَنْ جالس الشَّمسَ مِن أَزراره ورأَى مِلءُ النَّواظرُ حُسناً حين تلحظُهُ ... وأَمْلَكُ الحُسن للأَلحاظ ما مَلأَ ما اهتَزَّ غُصنُ الصِّبا مِن عِطْف قامته ... إِلاّ وأَزْرى بِغُصن البانِ أَو هَزَأَ نَشْوان تحسَبُ صَرْفَ الرّاح رَنَّحهُ ... أَو مدحَ داعي الهُدى عاطاه فانتشأَ عِمران أَكرمُ مَنْ جاءَ الزّمان به ... فَرْداً وأَشرفُ من في حِجْره نَشَأَ كأَنّ قحطانَ قِدْماً كان أَوْدَع في ... ضَمائر الفضل سِرّاً منه أَو خَبَأَ مَنْ أَوْطأَتْهُ على كِيوانَ هِمَّتُهُ ... لو كان يَرْضى على كيوانَ أَنْ يَطأَ وأزداد فخراً عَلَى ما شاد والدهُ ... محمد، وَسَبا في مجده سَبَأَ تناول الغَرضَ الأَقصى فأَدركهُ ... واختاز غاياتِ أَملاكِ الورى وشأَي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 أغَرُّ أَبْلَجُ لو يَسْري بِغُرَّتهِ ... في فحمةِ اللَّيل بدرُ التِّمِّ ما انطفأَ يُزْهى به الدَّسْتُ يومَ السّلم مُبتسِماً ... وفي الوغا سابحٌ سامي التَّليل وأَي كاللَّيْث ليس بمُختارٍ فرائسَهُ ... سِيّانِ ظَبْيُ كِناسٍ عنده ولأَي لو لم يُعِرْ عَزمَه العَضْبَ المُهَنَّد ما ... جَرى الرَّدى في غِرارَيْه ولا اجْتَرأَ رَوّى عِطاشَ الأَماني وهي صاديةٌ ... مَكارِماً وجَلا عن بِيضها الصَّدَأَ ما زال مَلْجَأَ من سُدَّت مَذاهِبُهُ ... في حينَ لا يَجِدُ الملهوف مُلْتَجأَ يَلْقى بسامي ذَراه الرّائدون به ... والواردون إِليه الماءَ والكَلأ ويَفْجَأُ الخَطْبَ منه عند رؤْيتهِ ... عَزْمٌ يُكَشِّف منه كلَّ ما فَجَأَ فكُلَّما رَزَأَ الخطبُ الورى كَفِلَتْ ... بيضُ الصَّوارِم منه جَبْرَ ما رَزَأَ وكم حادثٍ غال فاغتالَتْه منه ظُبّي ... تَعَوَّدتْ كشف مَكْروهٍ وَرَأْبَ ثَأَى وكم أَلمَّتْ مُلِمّاتُ روائعها ... يَظَلُّ يَدْرَأُ عنها صَدْرَ مَنْ دَرَأ سمَا لها دونَ أَملاك الورى فكفى ... مِنْ هَمِّ نازِلها ما هَمَّ وانْكَفأَ يَبيتُ يَحْظَأُ نارَ الْجُود مُوقِدُها ... لِوَفده وبِعُودِ الهندِ ما حَظَأَ خَطَّتْ يدُ المجد في وجه الزّمان به ... مآثراً يَقْتَربها كلُّ مَنْ قَرَأَ مآثِراً كُلُّها في الفضل مُخْتَرَعٌ ... ما اقْتَصَّ من أَثَرٍ فيها ولا افتَقَأَ قد بَرَّأَ اللهُ في التَّكوين خِلْقَتَهُ ... وخُلْقَهُ من ذَميم الفعل إِذْ برَأَ وذَرَّ في كفِّه الأَرزاق يَقْسِمُها ... مِنْ راحتيه لِمَنْ في عصره ذَرَأَ لِلْجود في ماله يومَ النَّوالِ خُطاً ... تُفْنيه عَمْداً إِذا جاد أمْرُؤٌ خَطَأ يسْطو على المال إِنعاماً كأَنَّ به ... غَيْظاً على المال يومَ الجُود أَو شَنَأَ يخضَرُّ نَبْتُ أَياديه وأَنْعُمِهُ ... للمُعْتَفين إذا نَبْتُ الرِّياض ذأَى فَلْيَهْنِ أَعوامَه إِقبالُ دَوْلَتهِ ... فإِنَّه خَيْرُ والٍ للوَرى كَلأَ وبُلِّغَ السُّؤْلَ في شِبْلي عَرينَتِه ... والمُبْتَدين من العَلْياءِ ما ابتدأَ حتى ترى الكُلَّ أَبّاءً أَخا شرفٍ ... سمَا الزمان بسامي فَخْره وبأَي ولْيَنْسإِ اللهُ للدنيا وساكِنها ... في عَمُره ضِعْفَ ما في عُمْرِها نَسَأَ وقوله في مدح الأَميرين ولدي الداعي ويخاطب في آخر القصيدة ياسراً الذي قتله شمس الدولة: مَلأَ النَّواظِرَ بَهْجة وبَهاءَ ... أُفُقٌ جَلا في دَسْتِه الأمَراءً ومَقامُ إِعظامٍ قضتْ لسُعوده الْ ... أَفْلاكُ أن يستخْدِمَ العُظماءَ طَلَعا طُلوع النَّيِّرَيْن وجاوَزا ... في المَجْدِ مطِلَعها سَناً وسَناءَ ملكان في السَّبْعِ السِّنين وقد عَلا ... مَرْماهما الشِّيبَ الكُهولَ عَلاءَ يَتبارَيان مَناقِباً وضرائباً ... بلغا بها مِنْ مَفْخَرٍ ما شاءَا فمحمَّدٌ كمحمّدٍ في جُودِه ... وأَبو السعود أَبو السُّعود سخاءَ وكِلاهِما يَحْكي المكرَّم سُودَداً ... ومَكارِماً أَنسى بها الكُرماءَ ومآثِراً ومَفاخِراً وشَمائلاً ... وفَواضِلاً وفضائلاً وإِباءَ والمجدُ أَرفعهُ بناءً ما غدا الْ ... أَبْناءُ فيه تقتفي الآباءَ ولقد سَعْىَ سَعْيَ المُكَرَّم في العُلى ... نَجْلاه تَشْييداً لها وبناءَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 وتَقَيَّلا الآثارَ منه كأَنما ... أَمْلاهما آياتِها إِملاءَ وتجارَيا طَلَق الرِّهان وبَرَّزا ... سَبْقاً وجاءَا في الرِّهان سَواءَ كَرَماً ثَنى زُمَر الوفود إِليهما ... وسرى بأَنفاس الرِّياض ثَناءَ ومواهِباً موصولةً بمواهبٍ ... أنوارُها تستغرقُ الأَنواءَ إِن ضَنْ هامي المُزْن جادا أَو دَجا ... ليلُ الحوادثِ والخطوب أَضاءا مِن يَعْرُبَ العَرْباءِ في الأَصل الذي ... جازَتْ ذَوائبُ فَرْعِه الجَوْزاءَ وسَراةُ أَبناءِ الزُّرَيْعِ أَجلُّ مَن ... رَفعتْ به أَيدي الخميس لوِاءَ ومُلوكُ هَمْدان الذين تبوّؤوا ... رُتَبَ الممالك عَنْوَةً وعَناءَ سَلَكوا إِليها المَسْلكَ الصَّعْب الذي ... يُنْسي الحياةَ سُلُوكُه الأَحياءَ وتحملَّوا أَعباءَها إِذْ لم يطق ... مَن رامها أَن يَحمل الأَعباءَ وتَجَشَّموا فيها الصَّلاح وجَرَّعوا ... كأْسَ المَنِيَّة دونَها الأَعداءَ حتى رَعَوْا دون المُلوك رياضَها ... وتَفَيَّئوا مِن ظِلِّها الأفياءَ واستخدموا فيها الأَسنَّة والظُّبي ... والبأْس يُزْجي الغارةَ الشَّعْواءَ واستوطنَتْ ما بينهمْ إِذ أَنشأَتْ ... عَزماتُهم أَرواحَها إِنشاءَ ومضَوْا وأَبقَوْا للممالك بعدَهُم ... مَن فاق بِيضَ المُرْهَفاتِ مَضاءَ الأَكْرمَ المُحبي الظَّهيرَ وصِنْوَه ال ... سّامي الأَثير المُشْرِقَيْن ذَكاءَ والأَشْرَفَيْن خَلائقاً والأَكْرَمَيْ ... ن طرائقاً والغامِرَين عَطاءَ فتَشرّفتْ رُتَبُ المَعالي منهما ... بأَعزِّ مَن بَهَر الزَّمان ضياءَ واستنجدا تِرْبَ الرِّياسة ياسِراً ... فكَفاهما الإِغضاءَ والإِرضاءَ وغَدا السَّعيدُ بنُ السَّعيد مُقَسِّماً ... بيديهْما السرّاء والضَّرّاءَ ومُدَبِّراً أَمرَ البرِّية عنهما ... فيما دنا من أَرضهم وتناءَى أَصفاهما منه الوَلاء فأَصْفيا ... فيه الوِداد وأَضْفيا الآلاءَ فلْيَبْقَيا في ظِلِّ ملْكٍ دائم الْ ... إِقبال ما دام الزَّمانُ بقَاءَ وهَناهُما شَهرُ الصيام ومُلِّيا ... فيه التَّهاني ما استَجَدَّ، هَناءَ وقولُه في مدح عمران بن محمد بن سبأ: ذِكْرُ العُذَيْبِ وما ثِلاثِ قِبابِه ... وَقَفَ الفُؤادَ على أَليم عَذابِه وَمَهَبُّ أَنفاس الصَّبا مِن جَوِّه ... فيه شِفاءُ الصَّبِّ من أَوْصابِه فَدَعِ النَّسيمَ يَبُثُّ من أَنبائه ... خبراً على الزَّفرات رَجْعُ جوابِه أَسْرى عليه من العُذَيب دَلائلٌ ... نَمَّت على مَسْراه عن أَسرابهِ لَدْن المَعاطِف باعتناق غُصونه ... عَذْب المَراشف لاغتباق شَرابهِ أَتَرَشّفُ الأَنداءَ منه كأَنَّ مَن ... أضهواه أَوْدَعها شَهِيَّ رُضابهِ ويَشُوقُني أَنَّ المُحبَّ يَشوقُه ... لُقُيا القَريب العهدِ من أحبابِه فَمُخَيَّمُ الأَشواق حولَ خِيامه ... وتَشَعُّبُ الأَهواء بين شِعابِه لله أَيامُ العُذَيْب وإِنْ يَبِت ... قلبُ المُعَنُّي المُستهامِ لِما بِه وسقى نَدى كفِّ المُكرَّم مُلتقى ... عَقِدات أَجْرَعِه وشُمِّ هِضابه ملِكٌ لو استسقى الزَّمانُ بجُودِه ... أَغناه عن سُقيا، مُلِثِّ سَحابِه ملِكٌ أَفاض على الزّمان بَهاءَهُ ... فأَعادَه في عُنفوان شَبابِه ملكٌ يَشِفُّ عليهِ نُور كَمالهِ ... فيكادُ يُلْحَظ مِنْ وراءِ حجابِه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 داني مَنالِ الجْودِ مِنْ زُوّارِه ... نائي مَحَلّ المَجدِ عن طُلاّبهِ صَعْبُ المَقاصد ليس يرضى هَمُّه ... أَنْ يَرتقي في المجدِ غير صِعابهِ ما عنده أَنّ المآثرَ غيرُ ما ... يسمو إِليه بحَرْبه وحِرابِه عِزٌّ طِوالُ السُّمْر مُعربةٌ به ... إِن كان يُضْمُر في صَهيل عِرابهِ كَلِفٌ بِكُلِّ أَقَبَّ يُوهِمُ أَنّهُ ... في الجَرْي يمْرُق من رَقيق إِهابهِ مَرِحٌ كأَنّ الرّاحَ فيه تحكَّمتْ ... وتضرّمت باللَّوْن في جِلبابِه يرقى ذُرى الطَّوْد ارتقاءَ وعُلوه ... صُعَداً وينقَضُّ أنقضاض عُقابِه ما يَمْتطيه إِلى تَناوُل غايةٍ ... إِلاّ وكان النصرُ تحتَ رِكابِه إِنَّ المُكرَّمَ معدِنُ الكَرَم الذي ... في بابه يُحوى الغِنى من بابِه جعل الطَّريقَ إِليه فجّاً مَهْيعَاً ... جُودٌ بِحارُ الأَرضِ مَدُّ عُبابهِ ومواهبٌ للمال من سَطَواتها ... ما للأَعادي من أَليم عِقابهِ في كلِّ أَرضٍ من غرائب ذِكْره ... سفرٌ يُقَلْقِل ناجِياتِ ركابهِ فإِذا تضايقتِ الشّدائدُ رَحَّبَتْ ... بوُفود أنْعُمِه فِساحُ رِحابهِ تتزاحم الأَوصاف عند مَديحه ... كتَزاحم الآمال في أَبوابهِ نَجْني المَكارمَ من نَداه ونَجْتلي ... أَدَبَ العُلى والعطرَ من آدابِه وكأَنّ مُجتَمع الفضائل والغِنى ... ما بين نائله وبين خِطابِه شِيَمٌ سناها برق كلّ فضيلة ... من مُزْنها قبل انسكاب ربَابه وخلائقٌ خُلقِت من الكَرَم الذي ... عُدِقَتْ بَمْنصِبه عُرى أَسبابِه يَبدو عليها نُور سُؤْدُدِه الذي ... ضَوْءُ الغَزالة دونَ ضُوء شِهابِه ما زالَ يُعرِب يَعْرُبٌ عن فضله ... ويراه رَبَّ التّاج من أَعقابهِ حتّى تجاوز غايةَ الشّرف الذي ... أَوْفى على تأْميله وحِسابهِ فكفى بقحطانَ بنِ هُودٍ مَفْخَراً ... أَن أَصبحتْ تُغْزى إِلى أَنسابهِ أَعْلى مآثِرَها وشَيَّدَ فَخْرَها ... دونَ الملوكِ بطَعْنه وضِرابهِ وبنى لها بيتاً قواضِبُ بِيضِه ... عَمَدٌ له والسُّمْرُ من أَطنابِه يزدادُ حُسْنُ المدح فيه وإِنّما ... يبدو جَمالُ الشيءِ في أَربابِه ويفوزُ بالشّرف المُؤَثَّل ماثِلٌ ... بفِنائه أَو لاثِمٌ لُترابِه زانَ الزَّمانَ وزاد في تَشريفه ... بأَعزِّ نَسْلٍ من شريفِ تصابِه وكأَنّ عِمرانَ المكرَّمَ مُلتقى ... لُبِّ العُلى وابناه لبُّ لُبابِه شَمْسا مطالِعه، حُساما مُلكِه ... بَدْرا مَواكِبه، هِزَبْرا غابِه فمحمَّدٌ جارى فِرِنْدَ حُسامِه ... وأَبو السْعود به مَضاءُ ذُبابهِ نطقتْ شهاداتُ المَخايل عنهما ... أَنْ يَلْبَسا في الفضل فضلَ ثيابهِ يتبارَيان إِلى المَكارم نُزَّعاً ... في قَوْسها بالسُّودَدِ المُتشابهِ واللهُ بَعْضُد مُلْكَه بهما كما ... عَضَد المَكينَ ومُلكه سامى بهِ ولْيَبْقَ محروساً جوانِبُ مُلْكِه ... بالعِزِّ مأْنوساً شَريفُ جَنابهِ فنِهايةُ المُثْنى عليه وإِنْ غَلا ... في وصفه التقصيرُ معْ إِطنابهِ وقوله: يا مُحَيّا نورِ الصَّباحِ البادي ... ونَسيمَ الرِّياض غِبَّ الغَوادي حَيِّ أَحبابنا بمكَّةَ ما بَيْ ... ن نَواحي الصَّفا وبين جِيادِ وقوله: أَأَحبابنا بين الصَّفا وجِيادِ ... وأَشرفِ أَرضٍ قُدِّسَتْ وبِلادِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 لَئِنْ زاد طُولُ البُعدِ منكم تَمادِياً ... فقد زادتِ الأَشواقُ طول تمادي تَلَذُّ لكم طَعْمَ الصَّبابة مُهجتي ... ويَنْعَمُ فيكم بالغَرام فُؤادي فهل للَّيالي عَطْفَةٌ تَشْتفي بها ... حُشاشةُ مُلتاحٍ وَغُلَّةُ صادِ وهل تسمحُ الأَيام بالقُرب إِنّه ... نِهايةُ سُؤْلي عندها ومُرادي وقوله في مدح ياسر بن بلال: سَفَر الزّمانُ بِواضحٍ من بِشْرِه ... وافترّ باسِمُ ثَغْره عن ثَغْرهِ وأَضاءَ حتى خِلْتُ فَحمةَ لَيْلهِ ... طارتْ شَراراً في تَوَقُّد فَجْره وتمايَلَتْ أُعطافُه وكأَنَّما ... عاطاه ساقي الرّاحِ ريقَةَ خَمْرِه وتفاوحَت أَنفاسه فكأَنَّما ... فَضَّ اللَّطائمَ فيه جالِبُ عِطره وازداد باهرُ حُسنه فكأَنَّما ... نَثَر الربيع عليه مُونِق زَهْره واختال في حُلَل الجَمال تطاوُلاً ... بجَمال أَيام السَّعيد وعَصره بالياسر المُغني بأَيسرِ جُوده ... والمُقْتني عِزَّ الزَّمان بأَسْره مَنْ طالَتِ اليَمَنُ العِراقَ بفضلِه ... وسمَتْ على أَرض الشآم ومِصْره فأَضاءَ بَدْراً في سَماءِ فَخِاره ... وصِفاتُه الحُسنى ثواقِبُ زُهره أَوَ ما ترى الأَيّام كيف تَبَلَّجتْ ... مِن سَعْيه وتَعَطّرت من ذِكره سَبَق الكِرام بها وأَبدى عَجْزَ مَن ... لم يَحْوها وأَبان واضِحَ عُذره فكأَنَّما اختُصِرَت له طُرُقُ العُلى ... منها وضلّ عُداته في إِثرهِ أَحيا معارف كلّ مَعروفٍ بها ... ومَحا معالِمَ مُنكرِيه ونُكره وأَفاض منها في البَرِيَّة أَنْعُماً ... نَطَق الزَّمان بشُكْرها وبِشُكره فالمدحُ مَوْقوفٌ على إِحسانه ... ما بينَ بارعِ نَظمهِ أَو نثرهِ والعيشُ رَطْبٌ تحت وارِف ظِلِّه ... والوِرْد عَذْبٌ من مناهِلِ بِرّهِ والسَّعْد مُنقادٌ له مُتَصرِّفٌ ... ما بين عالي نَهْيه أَو أَمرهٍ والملك مبتَسِمُ الثّغور مُوَرَّد ال ... وَجَنات نَشوان يَميل بسُكرهِ لمّا غدا تاجاً لَمْفِرَقِ عِزّه ال ... سّامي وعِقْداً في تَرائبِ نَحره مُتَفرّداً دونَ الأَنام بِصَوْنه ... مُتَكفِّلاً دون الملوك بَنْصره وهو الذي شَهِدت بباهِر فضِله ... شِيَمٌ سَمَتْ قَدْراً بسامي قدرهِ ثَبْتُ المَواقف في لقاءِ عُداته ... ماضي العزائم في مَجاوِل فِكرهِ مُتَصِّرفٌ عن طاعة المَلِكين في ... ما رامَهُ من نَفْعِه أَو ضَرّهِ مُتناهِياً في النُّصْح مجبولاً عَلى ... إِخلاصه في سِرّه أَو جَهْرهِ حَفِظَ الإِلهُ به النِّظامَ لِدَسْتِهِ ... وقضَى لسِرِّ بلادِه في سَتْرهِ فكأَنّه اللَّيثُ الهَصورُ مُعَفِّراً ... لِجَبين مَن مُدَّتْ يَداه لِهَصْرهِ لِمَ لا يَذُبّ الذُّعْرَ عنه وقد نَشا ... في حِجْره وغذاه فائضُ دَرّهِ مُتَقَحِّماً فيه العَجاجَ مُضَرِّماً ... نارَ الهِياجِ بِبيضه وبِسُمْرهِ يَسْتَنْبط المعَنْى الخَفِيَّ بلُطفه ... ويرَى المُغَيَّب من مِراءَةِ فكرهِ ما كانتِ الدُّنيا تضيقُ بطالِبٍ ... لو أَنَّ واسِعَ صَدْرها من صدرهِ وكأَنَّ راحَةَ كفِّه لعفُاتِه ... بحرٌ تَدَفَّق من تَدَفُّق بحرهِ وكأَنَّما برقُ السّحائب لائحٌ ... من بِشْرِه وقِطارها من قَطْرهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 للهِ إنعامُ السَّعيدِ فإِنّه ... أَغْنَى العَديمَ وسدَّ فاقةَ فقرهِ فالوفدُ ينَعُمُ في رِياض نَعيمه ... وعَدُوُّه يَشْقى بِشِدَّة أَسْرِهِ والرَّكْبُ يَطْوي البْيدَ نحو فِنائه ال ... سّامي وينشُر فائحاً من نَشْرِهِ عمَّ البريَّةَ فالمُقِلُّ كأَنّه ... فيهِ أَخو المال الكثيرِ لِكُثْرهِ وغدا بوَصْل الجُود فيها مُغْرَماً ... لَهِجاً إِذا لَهِج البخيلُ بهَجْرهِ يا مَنْ يُحاوِل حصر أَيْسَرِ وَصْفِه ... أَين البلاغة منْ تعاطي حَصْرِه إِنّ السّعيدَ ابنَ السّعيد أَجلُّ أَنْ ... يُحْصي مأَثِرَه البليغُ بشعرهِ ومَدائحُ المُدَّاح فيه نتائجٌ ... مِن سَعْيه وقَلائدٌ من دُرّهِ فلْيَبْقَ مَعْمورَ الفِناء مُخَلَّدَ ال ... نّعماء مَمْدوداً له في عُمْرهِ ولْيَهْنِ عِيدَ الفِطرِ غُرَّتُه التي ... إِشراقُها إِشراقُ غُرَّةِ فِطرهِ ما عاد شَوّالٌ ببهَجةِ عِيده ... وسَما الصّيامُ بفَضْل ليلة قدرهِ وقوله في مدح عمران بن محمد بن سبأ: فَلَكٌ مَقامُك، والنُّجومُ كُؤوسُ ... بِسعودِه التَّثْليث والتَّسْديسُ والبدرُ وجْهُك طالِعاً في دَسْتِه ... لا البدرُ أَجْلى وَجْهَه الحِنْديس فَأَدِرْ بها زُهْرَ الدَّراري ليس في ... ما دار مِن كاساتها مَحبُوس ورْدِيّةٌ في كل خَدٍّ وَرْدُها ... عن رَشْف رِيقِ رُضايها مَغْروس حمراءُ مَعْقولٌ بلُطْفِ الفِكر مَعْ ... ناها عَلَى التّحقيق لامَحْسوسُ في مَوْقِفٍ وقَفَ الفَخار مُعرِّساً ... فيه بحيثُ أَحَلَّكَ التَّعْريسُ يا داعيَ الدّين الذي أَنِسَ العُلَى ... في حيثُ مَغْنى الجودِ منه أَنيس يا واحدَ العُربِ الذي يسمو بها ... يومَ التَّفاخر مجدُه القُدْموس يا مَنْ تَطابق فِعلُهُ ومَقالُهُ ... فَسَما به التَّطبيق والتَّجْنيس حَقُّ الكواكب أَنْ تكونَ مَدائحاً ... لك والبُروجُ صحائفٌ وطُروس يا مَن على أَيّامِه ومُقامِه ... طِيبُ الثّناء مُوقف مَحْبوسُ يا مَنْ سَمتْ من صِيدِ كَهْلانٍ بهِ ... هِمَمٌ وطالَتْ في العَلاء رُؤوسُ الفضلُ عِندَكَ مُشْرِقٌ أَنواره ... وبناءُ مجدك شامِخٌ مأْسوسُ أَنتَ المُكَرْم في المُلوك مآثِراً ... جَدُّ المُجِدّ لِنَيْلها متعوسُ بحرٌ ولكنّ النُضارَ عُبابُهُ ... لَيْثٌ ولكنّ الذَّوابلَ خِيسُ صَرَّفتَ صَرفَ الحادِثات عن الورَى ... مَنْعاً وَرُضْت الخَطْبَ وهو شَموس وأَقمتَ للأَشعار أَسْعاراً وكم ... عَمَرَتْ وسِعْر بديعها مَوْكوس بجوائزٍ تُفْني الزّمان وذِكرُها ... بلقٍ عَلَى مَرِّ الزمان حَبيسِ ما نالها من جُودِ مَحْمودٍ ولا ... نَصْرِ ابنُ حَيُّوسٍ ولا حَيُّوسُ وإِذا لَجا يَوْماً إِليك بحاجة ... ذو حالةٍ فالرَّحْب والتأْنيسُ يغدو جليسُك في العُلى وكأَنَّه ... للبدرِ في أُفُق السَّماءِ جَليسُ وتَخُصُّه بمكارِمٍ، أَنواؤها ... كَفّاك، والغيثُ المُلِثّ الكِيسُ اللهُ خَصَّك بالثَّناءِ فثَوْبُه ... لك مَلْبَسٌ لا المُعْلَم المَلْبوسُ واختصَّ خالصةَ الإِمام برُتبةٍ ... لجلالها التعظيمُ والتقديسُ مولاتُنا ووَلِيَّةُ الزَّمن التي ... طالتْ كما طالتْ عُلاً بَلقيسُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 هي جملةٌ، لله في تفصيلها ... سِرٌّ بِعزِّ جلالها مَحْروس إِسمٌ شريفٌ ليس يجري ذِكرهُ ... إِلاّ أَفاض سُعودَه يِرْجيسُ قد كاد لولا صَوْنُه في حُجْبه ... قِدْماً يُبَرْهن عنه بَطْلَيْموسُ يَرتاحُ داعي الدّين عند سَماعه ... ويَجُرّ ذيْلَ سُروره ويَميسُ ويَفيضُ نائلُه عليه كأَنّما ... هو في اجتذاب نَداه مَغْناطيسُ في حيثُ يَسْجُد ذو الفِخَار لِعِزّها ... ويُقَبِّل الأَرضَ المُلوكُ الشُّوسُ يزداد إِعظاماً به ومَهابةً ... وكذا النّفيس مَدى الزّمان نَفيسُ والنَّيِّران المُشرِقان مُحَمَّدٌ ... وأَبو السعود وصِنْوهُ المحروس أَبناؤك الغُرُّ الذين لِعِزِّهم ... يَعْنو رئيسُ القوم والمَرْؤوسُ تَبْدو عليهم للكمال دَلائلٌ ... لم يَلْتَبِس بوُضوحها تَلْبيسُ سَفَروا فأَسفر مُلْكك السّامي بهم ... وأَضاءَ وجْهٌ للزَّمان عَبوسُ وكذا بدورُ الأُفْق ليس شبيهها ... إِلاّ بدورٌ طُلَّعٌ وشموسُ طلَعوا عليك وللمواكب مُلْتقىً ... مِن حولهِمْ للحرب فيه وطيسُ قد حَفَّهم من صِيدِ كهلانٍ ودا ... عي حِمْيَرَ الكُردُوس والكُردوسُ هذا خميسٌ أَنتَ تحمي دُونَه ... بَأْساً وهذا يَقْتفيه خَميسُ يَسْعَوْن تحت لِواءِ نصرك، كلُّهم ... في الفضل مغبوطٌ به مَنْفوسُ والحظُّ يومَ الجُودِ مِنك مُوَفَّر ... للكلِّ لا نَزْرٌ ولا مَبْخوسٌ فافْخَر فمالك في الملُوك مُماثِلٌ ... مَنْ ذا يُقاس ومَنْ عساه يَقيس وقوله يمدحه: ما البرقُ من ظُلَلِ الغَمائِم أَوْمضا ... لكنَّها قُضُب العَزائم تُنْتَضى أَمْضَى صوارِمها المُكَرَّمُ ضارباً ... إِن المُهندَّ كيف ما اسْتُمْضي مَضَى مُتقاضِياً إِنجاد سعدٍ لم يزل ... يُجْري مُساعدةَ القَضاء بما قَضى ومُسامِياً زُهْرَ الكواكب إِنّه ... بِسِوَى مُجاوَرةِ الكواكب ما ارتضى بَيْنا تراهُ في القِباب مُخيِّماً ... حتَّى تَراهُ في القِيام مُقَوِّضا مُتَعَوِّضاً بالدَّسْت صهوةَ سابحٍ ... لولا العُلى ما اخْتار أن يَتَعوَّضا سَبَقَ الفَعَالُ القولَ منه فيا لَهُ ... سَهْماً أَصاب لنازعٍ ما أَنْبَضا ما كان في إِبرام عُقْدةِ رأَيهِ ... بالرُّشد مُنتظِراً إِلى أَن تُنْقضا لم يَسْتَشِرْ في السَّيْر إلا طِرْفَه ... والأَسمَر الماضي الشّبا والأَبيضا نَهضتْ به العَزَمات عِلْماً أَنه ... لا يَفْرِس الضِّرْغامُ حتّى يَنْهضا وأَضاءَ في الآفاقِ نورُ جَبينه ... كضِياء بدرٍ لاح أَو صُبحٍ أَضا مَلأَ النواظِر والخواطر قاطِباً ... والبيدَ لمّا سار فيها والقضَا عَرَضَتْ منيرات السُّعود تحفُّه ... بمواكب التأَييد لمَّا عَرَّضا أَبَداً يُحَرِّض في المعالي نفسَهُ ... حَسْبُ العُلَى بالرأي منه مُحَرِّضا وكأَنّما أَعدى السُّيوف بَبأسه ... فتَعلَّمتْ منه التَّوَقُّد والمَضا فلْيَسْلُ غايَته المُجاري، لَمْ يَدَعْ ... رَكْضُ السّوابق للَّواحق مَرْكَضا ما كلُّ مَنْ طلب الكواكب طامِعاً ... في قبضها مُتَمكَّنٌ أَن يَقْبضِا لم تَرْضَ إِلا سَعْيَه رُتَبُ العلَى ... إِنّ الشريف من المَساعي يُرتَضى ثَبتَتْ به قدمُ السعادة وانجلتْ ... حُجَجٌ أَبتْ آياتُها أَنْ تُدْحضا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 رَفَعَ الإِلهُ على المُلوك مَحَلَّهُ ... وقَضَى لحاسِد عِزِّه أَن يُخْفَضا واختَّصه بسَوابغٍ من لُطفه ... وأَفاضَ أَنْعُمَه عليه وقَوَّضا ولَئِنْ عَرا خَطْبٌ فأَمْرَضَ أَرْضَهُ ... فعَلى ظُباه شِفاءُ ما قدْ أَمرضا أَو ناب عارضُ عِلَّةٍ فقدِ انجلى ... مُتَكَشِّفاً ما ناب منه وانقضى أَو كان أَعْرَض مُسْتَجِمّاً رأْيَهُ ... فيها فوجْهُ قيامِه ما أَعْرَضا وعلى عزائمه الشَّريفة أَنَّها ... تَجْزي بِضِعْفي قَرْضِه ما أَقْرضا فالدَّيْنُ ليس بمانعٍ إِرجاؤه ... من أَنْ يُكذِّبه الغَريمُ ويُقْتَضي فلْيَحْفُ طِيبَ الغُمْض جَفنٌ بات في ... أَسْهاره مُتَيَقِّظاً ما غَمَّضا وَلْيَرِميَنَّ الناكثين بجِحْفلٍ ... لَجِبٍ يُصَرِّفُ فيهمُ صَرْفَ القَضا كالعارِض المُسْوَدِّ إِلاّ أَنَّهُ ... باللاّمعات يَشِفُّ عن ماءِ الأَضا يمتَدُّ عِثْيَرُهُ دُخاناً كلَّما ... بَدَتِ الصَّوارمُ فيه ناراً تُحْتَضى ولتَشْفيَنْ قلبَ المُحِبَّ وقائِعٌ ... منه يبُيدُ بها العدُوَّ المُبْغِضا وَلْيَرْجِعَنَّ به الجَموحُ شَكيمةً ... سَلِسَ المَقادةِ في السّياسة رَيِّضا فالإِمَ يا هَمْدان إِغْماضُ الظُّبي ... صَوْناً وذا سيفُ الإِمامة مُنْتَضى شُنْوا بها الغاراتِ رَكْضاً إِنَّما ... عِزُّ السَّوابق أَنْ تُشَنَّ وتُرْكَضا واسْتخدِموا بِيضَ الصِّفاح وعَرِّضوا ... سُمْرَ الرِّماح لمَنْ بَغى وتَعَرَّضا وتَيَقَّنوا أَنَّ الضَّراغم عِزُّها ... إِنْ تُمْسِ في الأَجَماتُ تُمسي رُيَّضا والْبِيضُ أَشرفُ ما تَكونُ قَواطِعاً ... لا أَنْ تُذَهَّبَ حِلْيَةً وتُفَضَّضا واستمْسِكوا بعُرى المُكَرَّم وارفُضوا ... ما أَوجبتْ آراؤه أَنْ يُرْفَضا فهو العِماد ومجدُ قحطانٍ به ... يَسْمو افتخاراً مَنْ يَجيء ومَنْ مضى إِن طال أَو عَرُض الثنَّاءُ بوَصْفه ... فبما أَطال الجودُ منه وأَعرضا يزدادُ طِيباً في الإِعادة مَدْحُهُ ... والمِسْكُ أَعبَقُه إِذا ما خوّضا لله عِمرانُ المُكَرَّمُ إِنَّهُ ... أَغضى وقد أَصْلى العِدى جَمْرَ الغَضا قَسَمَ العِنايةَ لِلْبلاد مُرَقْرِقاً ... مِنْ ماءِ رَوْنَق حُسنِها ما غُيِّضا وسقى العِطاشَ بِزاخرٍ من جُودِه ... أَغْنى به الوُرّادَ أَنْ تَتَبَّرضا فكأَنَّه ساري السَّحائِبِ ما انتحى ... أَرْضاً بوَفْد حَياهُ إِلاّ رَوَّضا طُبِعَتْ على الشِّيَم الشَّريفَةِ نفسُه ... فكَفَتْ طهارة ثَدْيها أَنْ يُرْحَضا وصَفَتْ خلائقُه التي لو مازجَتْ ... صَفْوَ الزُّلال بطَبْعها ما عَرْمَضا مُتَصَوِّرٌ ما في الخواطِر عالِمٌ ... فَحْوى المُخاطِب مُفْحِصاً ومُعَرِّضا فاقَ المُلوكَ مَكارِماً وعَزائِماً ... وَسِعَتْ وَلِيّاً في الأَنام ومُبْغضِا فكأَنَّما النَّعْماءِ والبَأْساءُ لا ... تَنْفكُّ بَيْن السُّخْطِ منه والرِّضا فَلْيَبْق بَمْحَضُه الزَّمانُ وَلاءَه ... طَوْعاً فَحُقَّ لِمِثْله أَن يُمْحَضا وقوله يمدحه: العِزُّ في صَهَواتِ خَيْل الدّاعي ... مُتَمَطِّراتٍ يومَ يدعو الدّاعي لُحُقُ الأَياطل، بالقساطل قَنَّعَتْ ... وجهَ النَّهارِ من الدُّجى بِقِناع تَرْنو فتَحْوي ما رأَتْهُ كأَنَّما ... خُلَِقْت لَواحِظُها من الأَبْواعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 من كُلِّ مُبْيَضِّ الأَديم كأَنَّه ... من ماءِ دُرٍّ في الصَّفاءِ مُماعِ أَو كُلِّ وَرْدٍ وَرْدُ رَوْضةِ جسمِه ... مُتَفَتِّحٌ في مائس الأَقماعِ أَو أَصْفرٍ أَبْقى على سِرْبالِهِ ... طَفَلُ العَشايا منهُ فَضْلَ شُعاعِ أَو أَدْهَمٍ كاللَّيل إِلاّ أَربع ... خاضَتْ صَباحَ جَبينه اللَّماعِ تلك التي يقَضْي لِعَقْد لِوائها ... بالنَّصْر صِدْقُ حَفائِظٍ ومِصاعِ ويَقُودها شُعْثَ النَّواصي شُرَّباً ... ماضي العزائم صادِقُ الإِزماعِ مَلِكُ المُلوك عظيمُها عِمْرانُها ... والدّاعي ابن الدّاعي ابِن الدّاعي نَسَبٌ كإِشراق الصَّباح يُمِدُّه ... إِشْراقُ بِيضِ فضائلٍ ومَساعِ مَلِكٌ زُرَيْعيّ النِّجار مُؤَيَّد ال ... أَنْصار رَحْبُ البابِ رحبُ الباعِ مَشْبوبةٌ فوق الكواكب نارُهُ ... لا في ذُرى عَلَم، وَقُورِ بِقاعِ مَلِك غَرِائبُ مَدْحِه وحَديثِه ... نُزَه العْقول ونُجْعَةُ الأسماعِ مَلأَ الزَّمان جَلالةً ومَهابةً ... مِلء النَّواظر مِلء سَمْعِ الْواعي ما أَجمعَتْ إِلاّ على تفضيله ... بينَ البريَّةِ أَلسنُ الإِجماعِ يَجْلو فضائَله الْعِيانُ وإِنَّما ... حُكْمُ العِيان يُزيلُ كُلَّ سَماعِ مَلكٌ ولاياتُ البلاد وعزلُها ... ما بين قَطْعٍ منه أَو إِقطاعِ متكفِّلٌ دفعَ الخُطوبِ عن الورى ... في حين أَعْيا الخطبُ كلَّ دِفاعِ يَسَعُ النَّوازِلَ ضاقتِ الدُّنيا بها ... برحيبِ صدْرٍ، لا يَضيقُ، وَساعِ فكأَنَّما هي في فَضاءِ ضَميره ... سِرٌّ من الأَسرار غيرُ مُذاعِ يحمي بِهيبته الجْيوشَ إِذا هَفَتْ ... أَبطالُها بالْمَعرَك الجَعْجاعِ ويلوذُ يومَ الرَّوْع من سَطَواته ... بالأَمْن قلبُ الخائف المُرتاعِ لا تَحْجُب اللاّماتُ عن أَلِفاتِه ... في الطعن ما في الحُجْب والأَضلاعِ هذه صنعة طريفة، ونكتة لطيفة. في حيثُ عِقبان الحِمام حَوائمٌ ... في النَّقْعِ واقعةٌ بلا إِيقاعِ والخيلُ تَعْثر بالرؤوس من العِدى ... وتَخُوض في عَلَقٍ بِهِنَّ مُساعِ يتقدَّمُ الإِنذارُ وَعْدَ مَغارِه ... لا عن تَرَقُّبِ غِرَّةٍ وخِداعِ ومواكبٍ سالتْ بها عَزَماته ... كعُبابِ مَوْجٍ أَو سُيول تِلاعِ خَفَقتْ بها أَعلامُه فكأَنَّها ... في الرَّوْع خافقةً قلوبُ رَعاعِ وأَزارها أَرضَ الأَعادي صائِلاً ... لا كائلاً صاعَ الطِّعان بِصاعِ ما بينَ أُسرته الأُولى ما منهمُ ... إلاّ مُدَبِّرُ دولة أَو راعِ آل الزُّرَيْعِ الزّارعين من العُلى ... والمجدِ ما يسمو عن الزُّراعِ والنّازِعين بِحُرّ أَشْطانِ القَنا ... مُهَجَ العِدى نَزْعاً بغير نِزاعِ أَسَدٌ يسير من القَنا في غابةٍ ... ويجرُّها للطَّعن سودَ أَفاعِ كم عَفَّروا يومَ المَعافِر من فتىً ... ومُقَنَّعٍ أَرْدَوا بِقيعةِ قاعِ لمّا تبادَرَ غُلْبُ هَمْدانٍ وقد ... هَمَّ العُداةُ هُناك باسترجاعِ واستبْطَنوا الأوجاع فَرْطَ مَخافةٍ ... فأَتى الرَّدى منهم على الأَوْجاعِ وتَصدَّع الشَّمْلُ المُؤَلَّفُ منهمُ ... بِظُبيً تُزيل مَحلَّ كلِّ صُداعِ والنَّصلُ في نَصْرِ المُكَرَّم رائع ... في أَنفُسٍ ممن عصاه شَعاعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 وبَنُو زُرَيْعٍ منه قد لَجأوا إلى ... سامٍ بِعزِّ لوِائهم مَنّاعِ ما إِن تَخُطُّ يدُ العُلى أَوصافَه ... إِلاّ بسُمْر الخَطّ لا بِيَراعِ لو أَنّ تُبَّع كان أَدركَ عَصرَه ... أَضحى له من جُملةِ الأَتباعِ خَضعَت له غُلْبُ الملوك وإنّما ... خضعتْ لضرّارٍ لها نَقّاعِ وعَنَتْ لعالي القَدْر منه مُؤَيِّدٍ ... ماضي الأَوامر في الزَّمان مُطاعِ مُتجاوزٍ غاياتِ كلِّ فضيلةٍ ... لم يَختلج بخَواطِر الأَطماعِ ما زال يُتْرِعُ في المواهب إِنَّما ... إِتراع طيب الذكر في الإِتراعِ مُتَدَفِّق كرماً وبأْساً ما لَهُ ... عن ذا ولا عن ذاك مِنْ إِقلاعِ إِن صال أَوجَبَتِ النِّصال تباين الْ ... أَوْصالِ بعدَ تآلُفِ الأَوْضاعِ أَوْ جادَ آذَنَ مالُه خُزّانَه ... لا عن قِلىً، بتَشَتُّتٍ ووَداعِ والمالُ مُقْتَسَمٌ مُشاعٌ عندَه ... بيدَ النَّدى، والمجدُ غيرُ مُشاعِ فكأَنَّما هو للعُفاةِ وَدائعٌ ... في كفِّه مضمونةُ الإِيداعِ يَحْظى مُجالِسُه بأَشرفِ رُتَبةٍ ... ما بين عِزِّ عُلى وخِصْب مَراعِ فكأَنَّ مَنْ يُمسي جليساً عنده ... يُمسي جليسَ البدر لا قَعْقاعِ لا يَرْتضي سَمْعُ الفضائل منه أَن ... يُصْغي لِساعٍ في الورى لَسّاعِ ويَسُرُّه السّاعي إِلى أَبوابه ... مُستمْطِراً سُحُبَ النَّدى لا السّاعي وله من الأُمراءِ أَقمارٌ حَكَوْا ... منه شَريفَ خَلائق وطباعِ وُلِدوا على دين العُلى واسْتُرْضِعوا ... دَرَّ المَكارم عنه خيرَ رِضاعِ فمحمَّد للحمد تبعثُه على الْ ... إِطْناب فيه بَواعثٌ ودَواعِ وأَبو السُّعودُ له حليفٌ مُسْعِدٌ ... في الفضل يخفظُ فَضْله ويُراعي وشواهِدُ المَنصورِ تَشْهد أَنَّه ... ما الظَّنُّ في عَليائه بمُضاعِ أُمراءُ مُلْك رَتّبوه وأُوطِئوا ... منه أَعَزَّ مَواطنٍ وبِقاعِ فبقيتَ يا داعي الدُّعاة مُمَتَّعاً ... بالكلِّ منهم أَفضلَ الإِمتاعِ أَبدعْتَ في كرم الفَعال مبرِّزاً ... فارشِفْ ثُغورَ مَراشِف الإِبداعِ مِدَحٌ بها غَنُّى الرُّواةُ ورَجَّعتْ ... أَصواتَ وُرِْق الأَيْكِ بالأَسْجاعِ وقوله في قصيدة ابتدأ فيها بوصف مكة والبيت الحرام ومواقفها العظام ويثرب مدينة النبي عليه السلام ويتشوق أهلها، ويذكر كرمها وفضلها: لي بالحجاز غَرامٌ لست أَدفَعُهُ ... ينقاد قلبي له طَوْعاً ويَتْبَعُه يَهُزُّني البرقُ مَكِّيّاً تَبسُّمُه ... إِذا تراءَى حِجازِياً تَطَلُّعه ويَزْدَهيني لقاءُ الوَفْدِ أَلحظه ... من جَوّه وحديثُ الرَّكْبِ أَسُمَعُه وفائحُ الرِّيحِ مِسْكِيّاً تأَرُّجُه ... من طيب رَيّاه نَدِّياً تَضَوُّعه وهاتِفُ الوُرْقَ في فَرْعِ الأَراك به ... يُرَدِّدُ اللَّحْن شَجْواً أَو يُرَجعِّه كلٌّ إِلىَّ حَبيبٌ من أَماكنه ... مُمَكَّنُ الفضل في صَدْري مُمَنَّعه جِيادُه والصَّفا منه وَمَرْوَتُه ... ومُتّكاه وما يَحوي مُرَبَّعُه وأَخْشَباه وودايه وأَبْطَحه ... جَديبُه، لا رأَى جَدْباً، وَمَرْبَعُه ومَوْقِفُ الحَجِّ في سامي مُعَرَّفه ... وما تَحُدُّ مِنيً منه وتَجْمعه والبيتُ، والبيتُ أَعلى أَنْ أُجِدَّله ... وصْفاً، وتعظيمُه عن ذاك يرفعه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 في حيثُ حُجّاجه تعلو وقُصَّدُه ... عِزّاً، وسُجَّدُه تسمو ورُكَّعه ومنهجُ الفَوْز بادي القصد واضحُه ... ومَنْهَل الجود طامي الوردِ مُتْرَعه وفي رُبى يَثْرِبٍ غاياتُ كلِّ هوىً ... يَجِلُّ عن مَوْقِع الأَشواق موقعه أُفْقُ الشَّريعة والإِسلام طالعةً ... شُموسُه، مُسْتجاش النَّصْر مُتْبَعُه حيث النُبُوَّةُ مضروبٌ سُرادِقُها ... والفضلُ شامِخُ طَوْدِ الفَخْر أَفْرُعُه وحيث كان طريقُ الْوحي مُتَّضِحاً ... بين السماءِ وبين الأَرضِ مَهْيَعة وخاتمُ الأَنبياءِ المصطفى شَرَفاً ... محمدٌ باهِرُ الإِشراق مَضْجَعُة صلّى الإِله عليه ما تكرّر بال ... صّلاة فرضُ مُصَل أَو تَطَوُّعُه والمسجدُ الأَشرف السّامي بموضعه ... مَعقودُ تاج العلى منه مُرَصَّعه وللشَّفاعة أَبوابٌ مُفتَّحَة ... مُشَفَّعٌ مَنْ بمعناها تَشَفُّعه مَحَلُّ قُدْسٍ وتشريفٍ يُجَرُّ به ... ذيْلُ الجَمال على ذي المال يدفعه يَشُبُّ نيرانَ أَشواقي غليلُ هوىً ... إِليه ليس سِوى مَرْآه يَنْقَعُه ويستمِدُّ حَنيني كلُّ مُنْحَنَأٍ ... منه وعامِره الزّاكي وبَلْقعه عَقيقُه وقبُاه والْبقيعُ وما ... يَحُدُّ أُحْدٌ لِمَن في الله مَصْرَعه تلك المواقف، لا بَغْدادُ موقِفُه ... والكَرْخ مُصْطافُه منها ومرْبعه وَهْي الهْوَى لا رُبى نجدٍ ورامتُه ... ولا العُذَيْبُ وواديه وأَجْرَعه مُسْتَنْزَلُ الفوْزِ والغفُران مَهْبِطه ... ومُلْتَقى كلِّ رِضوان ومَجْمَعُه أُحبِّه وأُحبّ النّازلين به ... وما تَضُمُّ نَواحيه وأَرْبُعه طَبْعاً جُبِلْت عليه في الغرام به ... وأَينَ مِنْ طَبْعِ مَنْ يَهْوى تَطَبُّعُه كسانِيَ الحُبُّ ثوبَ الإِفتتانِ به ... ولست حتّى بِخَلْعِ الرُّوحِ أَخَلعُه أَستودِعُ الله فيه كلَّ مُنفرِدٍ ... بالفضل يُودعِ شَجْواً مَنْ يُوَدِّعه يَكاد يَجْري مجاري النَّفْس جملتُه ... لُطفاً ويُذْهِلُ مَرآه ومَسْمَعُه وجيرةٍ في جِوار الله يَنْزِع بي ... شَوْقٌ إِلى قُربهمْ في الله مَنْزِعه مِنْ كلّ مَنْ بَغَّض الدُّنْيا تَوَرُّعُه ... عنها وبَغَّض ما يَحوي تَبَرُّعُه كأَنّما الروض يَجْلو ما يُفَوِّفُه ... من خُلْقه ويُوَشِّي ما يُوَشِّعُه فيا سَنا البارق المكّيِّ يَشْهَرُ من ... إِيماضِه الأُفقُ عَضْباً أَو يُشَعْشعه قُلْ للأحبّة عني قول من حُنِيَتْ ... على الوفا لهمُ والشوْقِ أَضْلُعه هل حافظٌ عَهْدُ ودّي من حَفِظْتُ له ... على النَّوى عَهْدَ ودٍّ لا أُضْيِّعه أم هل تُجَرِّعُه مما تُجَرِّعُني ... في البعد كأسُ الأَسى أَم لا تُجَرِّعه أَم هل يَهُزُّ ادّكاري عِطْفَه طَرَباً ... وتَسْتَهِلُّ كدمعي فيه أَدْمُعه وإِن يكن طال مَرْمى الْبَيْن أَو قَطَعَتْ ... يداه ما ليس أَيْدي الْوَصلِ نَقطعه فما تغيَّرْتُ عن مَحْضِ الصّفاءِ لهم ... ولا تكدَّر وِرْدٌ طاب مَشْرَعه مَحَلُّ كلِّ لحبيبٍ حيث يعلمه ... منّي وموضعُه في القلب موضعه هيهْاتَ ما شَغفي مما تُقَسِّمه ... سوانِحُ الرَّأْي أَو مما تُوَزِّعه فلا عَدِمْتُ هوىً منهمْ يُحاولني ... فيه النَّوى بسُلُوٍّ عَزَّ مَطْعَمُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 وحَبَّذا الرَّكْبُ يُبْدي من حديثهم ... ما يَجْبُر القَلْبَ تَعْليلاً ويَصْدَعه وحبَّذا طيبُ أَنفاسِ النَّسيم سرى ... عنهم كما فاحَ مِسْكٌ فُضَّ مُودَعه فهل أَخو دَعْوَةٍ في الله تنَهضُ بي ... عنايةُ الذِّكر منه أَو تَضَرُّعُه وجاد تلك الرُّبا هامٍ تَبَجُّسُه ... يَجُول من مائه فيها تَمَيُّعُه وقوله: حيّاكِ يا عَدَنُ الحْيَا حَيَّاكِ ... وجَرى رُضابُ لَماه فَوْقَ لمَاكِ وافترَّ ثَغْرُ الرَّوْضِ فيكِ مُضاحِكاً ... بالبِشْر رَوْنَقَ ثَغرِك الضحّاكِ وَوَشَتْ حدائقُه عليكِ مَطِارفاً ... يَخْتال في حَبَراتها عِطْفاكِ فلقد خُصصتِ بسِرِّ فَضْلٍ أَصبحتْ ... فيه القلوبُ وُهُنَّ من أَسْراكِ يَسْري بها شوقٌ إِليك وإِنَّما ... للشَّوْقِ جَشَّمها الهوى مَسْراكِ أَصبو إِلى أَنفاس طِيبِك كلَّما ... أَسْرى بنفحتها نسيمُ صَباكِ وتُقِرُّ عيني أَن أَراك أَنيقةً ... لا رملَ جَرْعاءٍ ورملَ أَراكِ كم من غريبِ الحسنِ فيكِ كأَنّما ... مَرْآه في إِشراقه مَرْآكِ وفواترُ الأَلْحاظِ تصطادُ النُّهى ... أَلحاظُها قَنْصاً بلا أَشْراكِ ومَسارِحٌ للعيش تُقتطَفُ المُنى ... منها وتُجْنى من قُطوفِ جَناكِ وعلامَ أَستسقي الحَيا لكِ بعدما ... ضَمِن المُكَرَّمُ بالنَّدى سُقياكِ وهَمَتْ مَكارمُه عليك فصافَحَتْ ... عن كفّه مَغْنى الغِنى مَغناكِ وحَباكِ بالإِيثار عنه فَجَرَّ عن ... إِيثارِه ذيلَ الثَّراءِ ثَراكِ وتأَرَّجتْ رَيَّاكِ مِسْكاً عندما ... عَبِقَتْ بِرَيّا ذِكْرِه رَيّاكِ فَلْيَهْنِكِ الفخرُ الذي أَحرزْتِه ... بِعُلاهُ حَسْبُك مَفْخراً وكَفاكِ قَرَّتْ عُيونُ الخلق لاستقرارِه ... بكِ فَلْتَقَرَّ بِقُرْبه عَيْناكِ شَرُفَتْ رُباك به فقد وَدَّت لذا ... زُهْرُ الكواكب أَنَّهنَّ رُباكِ مُتَبَوِّئاً سامي حُصونِك طالعاً ... فيها طلوعَ البدرِ في الأَفلاكِ بالْتَعكُر المحروس أَو بالمنظر الْ ... مأْنوس نَجْمَيْ فَرْقَدٍ وسِماكِ وله الحُصونُ الشُّمُّ إِلاّ أَنّه ... لحلوله بك طالها حِصناكِ فالمِسْك تراب أَرضِك مُذْ غدا ... لك قاطِناً والدُّرُّ مِنْ حَصْباكِ وكأَنَّ بحركِ جودُه مُتَدَفِّقاً ... لو لم تَخُضْه سَوائرُ الأَفلاك مَلِكٌ لو أن الغيثَ جاد كجُوده ... لم يُلْفَ في أَرضٍ لفقرٍ شاك سَبْطُ الأَنامل بالمكارم لا يَرى ... إِمساكَه إِلاَّ عن الإِمساك لا قَدْرَ للدُّنْيا لديه كأَنَّه ... في بَذْل زُخْرُفِها من النُّسّاك أَدْنى مواهِبِهِ الأُلوفُ سريعةً ... مُتَفرِّداً فيها بلا إِشراكِ ما اختَصَّ في الدُّنْيا سواه بفَضْلها ... مَلِكٌ من الباقين والهُلاّكِ فالْجودُ مبتَسِمُ الثُّغور ببَذْله ... أَبداً وبَيْتُ المال منه باك من دَوْحَة الشَّرف الزُّرَيْعيّ التي ... وَشَجَتْ بأَصلٍ في المَفاخر زاك وسَراةُ قَحطانٍ بحيثُ مَعاقِدُ التِّي ... جان فوقَ أَسِرَّةِ الأَمْلاكِ يُرْدي العِدى بالرأْي وهو مُخَيِّمٌ ... كَمْ من سُكونٍ فيه بَطْشُ حراك سَلَّتْ يدُ الإِسلام منه مُهَنَّداً ... مُتَحَكِّماً في هامةِ الإِشراك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 وإِذا سَما بالجْيش آذنَ كلَّ من ... نَهضَتْ إِليه جُيوشُه بهَلاك شِيَمٌ كَمَوْشِيِّ الرّياض وراءَها ... عَزمٌ كَحَدِّ الصَارم البنّاكِ يتلو مآثِرَها الزَّمان بأَلْسُن ... فُصُحٍ فيعجَزُ عن مدى الإِدراك بَهَرتْ فضائلُه العُقولَ فما عسى ... يأْتي الثَّناءُ به ويَحْكي الحاكي فَلْيَهْنِه المُلكُ الذي قال العُلى ... للدّينِ والدُّنيا به بُشْراكِ ولْيَبْقَ تخِدُمُهُ السُّعودُ كأَنّها ... أَسرى لَدَيْه لا تُرى لفِكاك جَذْلان، ما استدعَتْ بواعِثُ نفسِه ... كأْسَ المُنى إِلاّ أَجَبْنَ بِهاكِ وقوله يمدح الأميرين ابني عمران: هو مَفْخَرٌ فوق السِّماك مُخَيِّمُ ... ومآثرٌ من دُونِهّن الأَنْجُمُ وعُلىً على وجْهِ الزَّمان نَضارَةٌ ... منها وفي ثَغْر الكمال تَبَسُّمُ ومكارمٌ شَرَع المُكرَّمُ دينَها ... وحَكاه فيما سَنَّ منها الأَكرمُ وتَلا مآثِرَه الأَثيرُ وهكذا الْ ... اَشْبال تَفْري ما فَراه الضَّيْغَمُ مَلِكان للمُلْكِ الخَطير تطاولٌ ... بهما وللزَّمَن الأَخير تَقَدُّمُ قمران في أُفُق النَّهار، وفي النَّدا ... بَحران، ذا طامٍ وهذا مُفْعَمُ يَتَبارَيان فضلائلاً وفواضلاً ... وكلاهما فيما أَحَبَّ مُحَكَّمُ فإِذا جرى ذِكْرُ المُلوك فَعَنْهما ... بالفضل أَلسنةُ الزَّمان تُتَرْجم وإِذا الكِرام تطاوَلَتْ لِمَداهما ... قَصُرَتْ وأَينَ من السَّنام المَنْسِمُ وإِذا أَفاضا في البيان وأَعْربا ... نُطْقاً فَسَحبانْ الفَصاحةِ مُفْحَمُ فكأَنْ أَلسنةَ البلاغةِ عنهما ... تُملي بديعَ القول أَو تتكلم فتكادُ تَنْظِمُ دُرَّ ما فاها به ... لو أَنَّ دُرَّ القول مِمّا يُنظمُ سَبَقا إِلى العَلْياءِ في سِنِّ الصِّبا ... وتناولا أَقصى الذي يُتَوَهَّمُ وتَسَنَّما رُتَب الفَخار وجاوزا ... في العِزِّ مَنْ يَسْمو ومن يَتَسَنَّمُ وتعاظما كرماً وشادا في العُلى ... ما كان شادَ مُعَظَّمٌ ومُكَّرمُ فالمجدُ مَوْقوف عليهم والنَّدى ... وإِليهما دونَ الأَنام مُسَلَّمُ والوفْدُ مُنتجِعٌ إِلى مَغناهما ... إِذ في أَكُفِّهما السَّحابُ المُثْجِمُ والرَّكبُ إِما مُسْتَقِلٌّ بالغِنى ... أَو قاطنٌ أَو قاصدٌ ومُيمِّمُ لا يَسْأمُ الوفدُ الوُرودَ إِليهما ... ونداهما مُتَدَفِّق لا يَسْأَمُ جعلا بِقاعَهما الشَريفَة مُلْتَقىً ... إِذ للنَّدى عَلمٌ هناك ومَعْلَمُ فهلمْ ببابِهمُ الشّريفِ تَزاحُمٌ ... وكذا التزاحمُ حيث يُلفَى المَغْنَمُ ولكلِّ أَرضٍ مَوْسِمٌ ولَدَيهْما ... في كلّ يوم بالمواهب مَوْسِمُ ولو أنَّ هامي السُّحْبِ دام، حَكاهما ... لكنَّ جُودَهما أَعمُّ وأَدْومُ نشآ عَلَى دينِ المَكارِم والنَّدَى ... واستنبطا بالعلم ما لا يُعلَم واستعبدا السّاداتِ بالنِّعَمِ التي ... أَضحى لها في كلِّ جِيدٍ مِيسَمُ فهي القلائدُ في الرِّقابِ وإِنَّما ... أَسنى القلائدِ في الرِّقاب الأَنْعُمُ وأَمدَّ سَعدَهُما الإِلُه بِسَعْدِ مَن ... تُسْدي العَوارِف في الإِله وتُنْعمُ مولاتِنا السّامي محل فَخارِها ... في حيث لا يسمو السُّهى والمرْزمُ ووليَّةِ الفضل التي إِفضالها ... يَحْيا به العافي ويَغْنى المُعْدمُ وعزائمُ الشَّيخ السعيد فإِنّه ... مُذْ كان، ماضي العَزْم فيما يَعْزِمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 مُتَيَقِّظاً في صَوْن مُلْكِهما الذي ... عَزَماته جيشٌ لَدَيْه عَرْمرمُ شَهَراه واعتمدا عليه لأَنَّه ... مِقدامُ بأْسٍ في الوغى وَمُقدَّمُ يَرْمي فيُصْمي مَنْ رماه كأَنّما ... آراؤه في كلُّ بُعْدٍ أَسهُمُ وحمى البلاد وضَمَّ مِن أَطرافها ... بالحْزْم يَعْقِد مِنْ قِوُاه ويُبْرِمُ فلذلك حَلَّ لديهْما في رُتبةٍ ... بَعُدَت على إِدراك مَنْ يَتَوَسَّمُ نِعَمٌ مُجَدَّدَةٌ أَقَرَّ قَرارَها ... فيمن يَليق به الكريمُ المُنْعِمُ فلْيَسلَما في ظِلِّ مَلْكٍ عزمُه ... مِنْ دونه فيمَنْ عَصاه مِخْذَمُ وهَنا هُما العيدُ الذي إِشراقُه ... بهما وروضُ الحُسن فيه مُنَمَنمُ تمضي اللَّيالي والزَّمانُ عليهما ... وكِلاهُما عالي المَراتِب أَعْظَمُ في دَوْلةٍ إِقبالها لا ينقضي ... أَبداً وعُروةُ عِزِّها لا تُفْصَمُ وقوله: حَنَّ والمُشتاق حَنانُ ... مُستهامُ القلبِ وَلْهانُ مُسْتَرَقٌ في فُنونٍ هوىً ... والهَوى والحبُّ أَفنانُ يَمَنِيُّ بالحجاز له ... سَكَنٌ ما عنه سُلوانُ ومُعَنىّ بالخَليط ومِنْ ... دُونِه لِلْبَيْنِ إِمعانُ أَين مَّمِنْ دارُه عَدَنٌ ... جِيرةٌ بالْخَيْفِ قُطّانُ وَيْحَ مَنْ يهوى فليس له ... غيرَ سُحْبِ العَيْن أَعوانُ يهتدي كلُّ لمَقْصِدِه ... وهو ساهي اللُّبِّ حَيْرانُ كلَّما ناح الحمام هَمى ... مُسْتَهِلٌّ منه هَنّانُ أَوْ بكى في النّاسِ ذُو شَجَنٍ ... شَجْوَه، أَبْكَتْهُ أَشجانُ وَلَئِن غاضَت مدامعُهُ ... فهو الأَشْواق مَلآنُ يا حَمامَ الأَيْكِ هل عَلِقَت ... بك من بَلْواه أَشْطانُ أَم هَل استَمْلَيْتَ لَوعَتُه ... فهي في شَكْواك أَلحانُ لا تُساجِلْه الغَرامَ فما ... في تعاطي ذاك إِمكانُ خَلِّ مَيْدانَ الحنين لِمَنْ ... قلبُه للشَّوْق مَيْدانُ أَنتَ تَبكي مُفْحَماً وله ... بِبُكاءِ الإِلْف تِبْيانُ وعليه لا عليكَ من الْ ... حُبّ آثارٌ وعُنوانُ ولك الآُلاّفُ تَجْمَعها ... بك أَوراق وأَفنانُ وهو فَرْدُ الوَجْد قد بَعُدَت ... عنه أَحبابٌ وجِيرانُ وغريبٌ في مَواطنه ... والهوى لا الدّارُ أَوطانُ ما شَجاهُ البانُ مُنْثَنِياً ... بل هَوى مَنْ دارُه البْانُ أَيُّها العُذّال حَسْبُكُمُ ... إِنَّ بعض العَذْل عُدْوانُ ساعِدوا المُشتاق أَو فَدَعُوا ... مَن له عن شأنِكُم شانُ لا تلُوموه على حُرَقٍ ... في الْحشا منهنَّ نيرانُ واعذِروه في تَمايله ... كلّما هزَّتْه أَحزانُ إِنّ كأْسَ الشَّوْق مُتْرَعةً ... ساوَرْتُه فهو نَشْوانُ وحُمَيّا الحُبِّ فيه سَرتْ ... ولها سِرٌّ وإِعلانُ فأَعينوه ولو بِعَسى ... لِلْجوى فالحرُّ مِعْوانُ واسأَلوا رَكْب الحجاز له ... إنْ أَلمَّتْ منه رُكبانُ هل هَمى دَمْعُ الغَمام به ... واستَهلَّتْ منه أَجفانُ أَم عُهودُ الودّ عامرةٌ ... وسكونُ الخَيْف سكانُ وَهل البَطْحاء مُعشِبةٌ ... منه والريّان رَيّانُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 أَم هل الأَحباب فيه عَلى ال ... عهدِ والخُلاّن خُلاّنُ وقوله: ليت ساري المُزْنِ أَسرى مِنْ مِنى ... نابَ عن عَينْي فسقى أَبْيَنا واستَهلَّت بالرُّقَيْطا أَدْمُعٌ ... منه تَستْضحك تلِك الدَّمَنا فكسا الْبَطحاءَ وَشْياً أَخضراً ... وأَعار الجوَّ نَوْءاً أَدْكنا أَيْمَن الرَّمْل وما عُلِّقْتُ من ... عَقِداتِ الرّمل إِلا الأَيْمنا وَطَنُ اللهو الذي جَرَّ الصِّبا ... فيه أَذيال الهوَى مُسَتْوِطنا تلك أَرضٌ لم أَزَلْ صَبّاً بها ... هائماً في حُبِّها مُرْتَهَنا هي ألْوتْ بحبيبي فالْهوى ... بِرُباها لا اللِّوى والمُنْحَنا وقوله في مدح عمران يعارض ابن الهبيني شاعر ابن مهدي النصرُ قائدُ جيشِك المُتَوَجِّهِ ... والسَّعدُ رائدُ عزمك المُتَنِّبهِ والأَرْضُ مُلْكُك والعِبادُ رعيَّةٌ ... لك من مُطيعٍ مُذْعنٍ أَو مُكْرَه ولرأيكَ التأَييدُ حُسنُ بدَيهة ... ورَوِيَّةٍ فيه فَرَوِّ أَوِ ابْدَه فإِذا عزَمتَ فَكُلُّ صَعبٍ رُمْتَهُ ... سَهْلٌ علَيك وكُلُّ قُطْر مُزُدَهِ يا داعيَ الدِّين المُقيم لِيَعْرُبٍ ... مَجْداً يَهي رُكنُ الزَّمان ولا يَهي أَعزَّ مَنْ خفقتْ عليه رايةٌ ... تَحكي إِذا خفقت فُؤادَ مُدَلَّهِ ما العِزُّ إِلاّ عِزُّ خَيلِكَ شُرَّباً ... شُعْثاً تُباري في الطِّراد وتَزْدَهي سمّا طراتٍ بالكُماة كما هَوَتْ ... من رأْسِ شاهقةٍ صُخُورُ مُدَهْدَهِ فاسْتَنْهضِ الأَقدار فيما ينبغي ... واستخْدِم الأَيامَ فيما تَشتهي وأصرِف صُروف النائبات عن الوَرى ... وأنْهَ الحوادثَ عن سُطاها تَنْتهي وأبعثْ به جَيْشاً أَجَشَّ إِذا انتحَى ... أَرضاً نحاها بالنَّكال الأَكْرهِ مُتلاطِمَ الأَرجاء يُحْسَب أَنّه ... بَحرٌ تلاطَمَ بالرِّياح الزّهزهِ تَتَناكر الأَصواتُ وهي مَعارِفٌ ... للسَّمْع من ضوضائه والوَهْوَهِ كالعارض الملْتَفّ يَخْتَلع النُهى ... قَصَفاتُ رَعْدٍ في حَشاه مُقَهْقهِ يَخْفى وضوحُ السُّبْل تحت عَجاجه ... فكأَنّما هو مَهُمهٌ للمَهْمَهِ وَيكِلُّ طَرْفُ الشمس عنه إِذا غدا ... كُحْلاً لناظِرها المضيء الأَمْرِهِ فيه لُيوث البأْس ليس يَرُدّها ... إِن جَهْجَهت في الرَّوْع زَجْرُ مُجَهْجهِ آلُ الزُّرَيْع سَراةُ هَمْدانَ الأُولَى ... وَرِثوا المكارم مِدْرهاً عن مِدْرَهِ مُتَسربيلين السّابِريّ كأَنّما ... جَمَدَت عليهم منه أَمْواهُ النَّهي مُتَبادِرين إلي الثُّغور كأَنّما افْ ... تَرَّت لهم عن باردٍ الظَّلْم الشَّهِي مِنْ كلِّ صَبٍّ بالطِّعان مُوَلَّهٍ ... في مَتْن طاوٍ بالطِّراد مُوَلَّهِ فاكشِفْ بهم ضُرَّ البلاد ودَاوِها ... بالْبِيض تَبْرَ من السَّقام وتَنْقَهِ سَفَةُ السيوفِ دَواءٌ كُلِّ سَفاهةٍ ... من الْفضلُ للصَّمْصام لو لم يَسْفَهِ كم ذا يُنَهْنِهُ من عزائمك التي ... تُفْني الضَّرائبَ وهي لم تَتَنَهْنَهِ ويَكُفُّ من سَطَوات بأْسِك والظُّبي ... مِنْ فَرْط حِلمك في أَشدِّ تأَوّهِ ولأَنتَ أَنْزَهُ في المَفاخر هِمَّةً ... من أَن تُحَضَّ على الفَعال الأَنْزَهِ أَو أَنْ تُنْبَّه، واعتزامُك في العُلى ... يَقْظانُ مُنْتَبِهٌ بغير مُنَبِّه شُدِه الأَعادي من سُطاك ومَنْ يَرُحْ ... ما بين أَنْياب الغَضنْفَر يُشْدَه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 كم حَرَّكوا منه الهِزَبْر بَسالةً ... ولكم دَهِيٍّ مِنْ تَغْلغُلِه دُهي مَنْ ذا يُقاس به شَبيهاً بعدما ... سمحتْ به العَلْياء عن مُتَشَبِّه أَمْ مَنْ يَمُدُّ إِليك باعَ مُطاولٍ ... والنجمُ دُونكَ، غيرُ غِرٍّ أَبْلَهِ لا رُتْبةٌ تسمو بغير مُؤَهَّلٍ ... فيها ولا جاهٌ لغيرِ الأَوْجَهِ أَنت المُكرَّم مَعْدِن الكرم الذي ... يَلْقَى الوُفود بِبِشرِه لا جَبْههِ أنتَ الذي ما أُنْشِدَت أَوصافه ... إِلا وهَزّ المجدُ عِطْفَ مُزَهْزِهِ فاصفَح عن الأَشعار في تَقْصِيرها ... عَنْ وَصْف فضلِك أَنْ تُحيط بكُنْههِ رَكَضْت جِيادُ الشِّعرِ في مَيْدانه ... حتى تَناهَتْ وهو مالا يَنْتَهِي فقد استوى في العَجْز عنه مُفَوَّةٌ ... دانَ البيَانُ له، وغيرُ مُفَوَّهٍ ولقد حكَى منه المَديحُ شفاء ذي ال ... سَّمْع الأصمِّ ضياء عَينْ الأَكْمَهِ وغدا يُجَرِّر في نَباهَةِ قَدْره ... ذَيْلَ التَّشَرُّفِ في المقَام الأَنْبه بمَصَرَّعٍ ومُرَصَّع ومُوَشَّحٍ ... ومُسَجَّعٍ ومُفَرَّع وموجَّه يُهْدي إِذا ما اسْتُنْكِهَتْ أَنْفاسه ... نَفَسَ الحَدائق فاحَ لْلِمُسْتْنكِهِ واسْعَدْ بعيدٍ أَنت تاج فَخاره ... وكمالُ بهَجتهِ ومَنظرهِ الْبَهي وانْحَر عِداك أَضاحِياً في نُسْكه ... أَو فاعْفُ عَفْوَ القادِرِ المُتَنَزِّهِ واسّلمْ مُطاعَ الأَمر منصورَ الظُّبي ... في ظِلِّ مملكةٍ وعَيْشٍ أَرْفَهِ من جماعة ذكرهم عمارة اليمني في تصنيف له عن مجموع شعر اليمنيين سلم بن شافع الحارثي من أهل تهامة اليمن ذكر أن كتب إلى عمه علي بن زيدان وقد وفد إليه يستعينه في دية قتيل فوجده مريضاً: إِذا أَودى ابْنُ زيدانٍ عَليٌّ ... فلا طَلَعتْ نُجومُكِ يا سماءٌ ولا اشتمل النِّساءٌ على جَنينٍ ... ولا رَوى الثَّرى للسُّحْب ماءُ على الدُّنيا وساكِنها جميعاً ... إِذا أَوْدى أَبو الحسن العَفاءُ قال فأبل من مرضه وأعطاه ما سأله. سليمان بن أبي الحفاظ صاحب مدينى الجريب له: كنتم تَمَنَّوْن ريحاً أَن تَهُبّ لكم ... من النسيم ولو يَوْمَيْن تَتَّصلُ فجاءَكم مثلُ ما هاد به هُبِلَتْ ... من العْقَيم التي عادٌ بها هُبلِوا الخطاب بن أبي الحفاظ من الشعراء المجيدين وكان قد أخرج أخاه سليمان من مدينة الجريب زبيد ثم كتب إليه يلطف به حتى إذا قدر عليه غدر به وقتله: ومن شعره قوله: كتب بها إلى أخيه سليمان بزبيد: عَيْنُك عينُ الرَّشَإ الخاذِلِ ... والجيدُ جِيدُ الظَّبْية العاطلِ قد كنتُ ذا عَقْلٍ جَليد ول ... كنّ الهوى يعلب بالعاقلِ ومنها: كأَنّها من حُسنِها دُرَّةٌ ... أَخرجها المَوْجُ على السّاحلِ ومنها: إِذا بلغتَ العِرْقَ فارْبَع به ... مُعَرِّساً تعريَسةَ النازلِ واخْصُص سُليماناً بها خَير مَنْ ... يُعْلَمُ من حافٍ ومن فاعلٍ أَخي ومولايَ ومن لحمُه ... لحمي ومن حامِلُه حاملي الوزير خلف بن أبي الطاهر الأموي وزير الملك جياش بن نجاح صاحب زبيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 وصفه بالفضل والنبل، والسودد الضخم والشرف العبل، وكان من أفراد الدهر الذين انتظم بهم سلكه، وصحب جياشاً حين زال ملكه، ودخل معه إلى الهند وعاهده على أن يقاسمه الأمر إذا ملك، ونعته بقسيم الملك وبه رجع إلى الملك وقال الغرض وأدرك، ونفر بعد ذلك منه جأش جياش، وافترقا عن استيحاش. وحكي أن سبب الفساد الحادث أن الوزير خلفاً شرب ذات ليلة في داره، يقضي أوطاره من أوتاره، ويعقر همه بعقاره، فغناه ابن المصري وكان محسناً قول قيس بن الرقيات يمدح بني أمية: لو كان حَوْلي بنو أُمَّية لم ... يَنْطِق رجالٌ إِذا هُمُ نَطقوا إِن جُولِسوا لم تَضِقْ مجالسُهم ... أَو رَكِبوا ضاق عنهم الأُفُقُ يُحبِهُّم عُوَّدُ النِّساءِ إِذا ... ما احمرّ تحت القَلانِس الحَدقُ قال فطرب الوزير وشرب، وخلع على من كان في مجلسه وهم ثلاثة عشر رجلاً ثلاث مرات، ثم وصلهم بصلات، ولم يزل يستعيد الصوت ويغنيه، وقد ظهرت أمارات الطرب فيه، إلى أن أسفر فلق الصباح، ونقل المجلس إلى ابن نجاح فتوهم منه واستوحش خلف، وفارقه ولم يكن له عنه خلف. ومن شعره قوله يجيب جياشاً حين كتب إليه يستعطفه: إِذا لم تكنْ أَرضي لِعِرْضي مُعِزَّةً ... فلستُ وإِن نادتْ إليَّ أُجيبُها ولو أَنَّها كانتْ كروضةِ جَنَّةٍ ... من الطِّيب لم يَحْسُن مع الذُّلِّ طِيبُها وسِرْتُ إِلى أرضٍ سواها تُعِزُّني ... وإِن كان لا يَعْوي من الجَدْب ذِبيها محمود بن زياد المأربي من مأرب مدينة السد ووصفه بكونه للملوك مداحا، ووفاداً عليهم لنوالهم ممتاحا، وكان أكرم الناس بما يملك، وله الخاطر المجيد والفهم المدرك، قال مدح الملك المفضل بن أبي البركات الحميري فوصله بألف دينار، فقال في شكره من قصيدة: وَوهبت لي الأَلف التي لو أَنَّها ... وُزِنَتْ بصُمِّ الصخر كانت أَبْهَرا قال وأول من نوه باسمه الأمير الشريف عيسى بن حمزة السليماني الحسني صاحب عثر فإنه وجد عنده الأثرة وتأثل وتأثر. ذكر عمارة أن والده حدثه، وكان قد عمر مائة سنة وخمس سنين، أنه لما كان دخول الغز إلى اليمن أخذت الغز الشريف يحيى بن حمزة أسيراً إلى العراق، وبقي أخوه الأمير عيسى ابن حمزة أميراً في البلاد، فلم يزل يجتهد ويكاتب ويبذل الأموال حتى افتك أخاه يحيى من العراق، ولما عاد يحيى إلى عثر دبر على أخيه عيسى فقتله وعامله بالإساءة على الإحسان. الذي فعله. فقال محمود بن زياد المأربي قصيدة يذكر فيها قتل عيسى ويرثيه، وينعي على يحيى ما فعله بأخيه. فمنها بعد غزل طويل: خُنْتَ المودَّةَ وهي أَلأَمُ خُطَّةٍ ... وسَلَوْتَ عن عيسى بن ذي المَجْدَيْنِ ياطَفّ عَثَّرَ أَنت طَفٌّ آخرٌ ... يا يومَ عيسى أَنتَ يَوْمُ حُسَيْنِ قد كان يَشْفي بعضَ ما بي من جَوىً ... لو طاح يومَ الرَّوْع في الخَيْلين هَيْهاتَ إِنّ يد الحِمامِ قصيرةٌ ... لو هَزَّ مُطَّرِدَ الكُعوبِ رُدَيْني أَبْلِغ بني حَسنٍ وإن فارقتُهم ... لا عن قلىً وحللتُ باليمَنَيْنِ أَني وفَيْتُ بِودّ عيسى بعدَه ... لا، لو وَفَيْتُ قلعتُ أَسودَ عَينْي كان قد نذر أن لا يرى الدنيا إلا بعين واحدة، فغطى إحدى عينيه بخرقة إلى أن مات. قَرَّتْ عُيونُ الشامتين وأُسخِنَتْ ... عيني على من كان قُرَّةَ عَيْني والقصيدة طويلة. ولما انتهى الشعر إلى يحيى القاتل لأخيه غضب وأقسم وقال جلدتي الله جلدة المأربي لأسفكن دمه، فقال المأربي: نُبِّثتُ أَنك قد أَقسمت مُجتهداً ... لَتَسْفِكنّ على حُرِّ الوَفاء دمي ولو تجلَّدْتَ جِلْدي ما غَدرتَ ولا ... أَصبحتَ ألأَمَ مَنْ يَمْشي على قَدمِ وله من غزل قصيدة يمدح بني نفاثة من آل همدان ما لَقينا من الظِّباءِ الْعَواطي ... خافقاتِ القُرون والأَقراطِ هَجَّنَتْ بالبدور والدُرّ والورْ ... د وأَزْرَت بالرَّمْل والأَخواطٍ وله يمدح أبا السعود بن زريع: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 يا ناظري قل لي تراه كما هُوَهْ ... إِنّي لأَحْسبه تَقَمَّص لُؤلؤهُ ما إِن بَصُرْتُ بزاخرٍ في شامخٍ ... حتى رأَتُيك جالساً في الدُّماؤَهُ الدملوة معقل من معاقل اليمن. وحكي أن المأربي هجا رجلاً من سلاطين اليمن فاعتقله لينظر فيما ذكر عنه فخافت نفس المأربي أن تتم عليه مكيدة فكتب من السجن إلى سلطان وكان صديقاً له، هذين البيتين، فركب الرجل وكسر السجن وأخرج المأربي وسلمه إلى من ممنعه من قومه، ثم لقي السلطان فشفع فيه واعتذر إليه من كسر السجن، والبيتان قوله: أَسِفْ إِن طار، أَو طِرْ إِنْ أَسفّ، وإِنْ ... لان الفتى فاقْسُ، أَو يَقْسُ الفتى فَلِنِ حتى تُخَلِّصني من قَعْر مُظِلمةٍ ... فأَنت آخرُ سَهْمٍ كان في قَرَني ولده: علي بن محمود بن زياد المأربي له: خَلتِ الرَّعارِعُ من بَني مَسعودِ ... فعُهودهم فيها كغير عهودِ حَلَّتْ بها آلُ الزُّرَيْع وإِنّما ... حَلَّتْ أُسودٌ في مَكانِ أُسودِ وله في انتقال ذي جبلة من المنصور بن المفضل إلى الداعي محمد بن سبأ بِذي جِبْلَةٍ شوقٌ إِليك وإِنّها ... لَتُظْهِرُ للشيخ الذي ليس تُضْمِرُ عوائِدُ لِلْغيد الغواني بأَنّها ... من الشيخ نحو ابن الثلاثين تَنْفِرُ السلطان زكري بن شكيل بن عبد الله البحري من بطن من خولان يقال لهم بنو بحر. له: يَرْمن أَفئدةً تُفَدِّيها ولو ... قُتِلت، أُيُكْرِم قاتلاً مقتولُ فَقِسِيُّها أَجفانُها وسِهامها ... حَدَقاتُها، ولِحاظُهُنَّ تُصولُ وله يمدح جياش بن نجاح صاحب زبيد: كم لا تَزال تُسرُّ وَجْداً ما سرى ... مُزْنٌ، ويَسْفَحُ ماءَ عَيْنك ما انْسرى أَطْللتَ دَمْعَك في الطُّلول وأَدْمنتْ ... حُرَقَ الحَشادِ مَنٌ تُحاكي الأَسْطُرا عَفّى معالمَها الغَوادي والسوا ... في والعواصف والأَعاصر أَعْصُرا ولقلّما غرِي القديم بمُحْدَثٍ ... إِلاّ وأَحدَثَ في القديم تَغَيُّرا فتنكرتْ في العَيْن وهي معارفٌ ... في القلب يَكْبُر قدرُها أَنْ يُنْكَرا ولقد عَلِقتُ بها غزالاً أَغْيَداً ... غَنِجَ اللِّحاظ أَغَنَّ أَحْوى أَحْورا أَعْدي بسقُمْ جُفونِه قلبي فلو ... أَعْدى جُفوني مِنَّةً منهُ الكَرى يَثْني الصَّباحَ يفَرعه ليلاً ويَثْ ... ني الليلَ صُبْحاً ما بخَدٍ مُسْفِرا ومن مديحها: المُشتري حُللَ الثَّناءِ بما حَوتْ ... كفّاه، والحامي لها أَن تُشْتَري والمُوِقدُ النَّارَيْن ناراً للوَغى ... لا تَنْطقي أَبداً، وناراً للقِرى من كان يمدَح للعطاءِ فإِنَّني ... للفخر أَمدحُه وحَسْبي مَفْخَرا مَلكٌ تدارك غُصْنَي الذّاوي وقد ... عَبِثَ الزَّمان به، فأَصبحَ مُثْمِرا وله فيه: عُدْ إِلى الإِغْتباق والإِصْطِباحِ ... وألحُ في القَصْف من نصيحٍ ولاحِ واسقني الرَّاحَ إِنَّها تجُلِبُ الرَّوْ ... حَ ورَيْحانَها إِلى الأَرواحِ قهوةً طال عُمْرُها فهي ممّا ... عتَّقتها الدِّنان لِلْوضّاحِ بَزَلوها فامتدَّ منها لجوّ ال ... لَّيْل نورٌ أَغنى من المِصْباحِ ما يُزيلُ الهُمومَ مثلُ اصطباح ... في صَباحٍ لدى وُجوهٍ صِباح وهو حِرْمٌ أَبو حنيفة قد ر ... خّص فيه فما به من جُناح أَوْ ترى الدِّيكَ كالبعير، وكالأَرْ ... ض السَّمواتِ، أَو فإِنك صاحِ وارْعَ عَيْنَيْك في عُيونٍ من الدَّهْ ... ر حَلاها حدايح السجاح من بني عَوْهَجٍ مُنَعَّمَة الأَطْ ... راف ريّا الأَرداف غَرْثي الوِشاحِ شَفَتاها نَقْلي وماءُ ثَنايا ... ها عُقاري وخُدُّها تَفاحي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 كيف يصحو مَنْ سُكْره مِنْ لحاظٍ ... ورُضابٍ عَذْبٍ وقَدْ رَداح قلتُ لما تَكنَّف الرَّوْضةَ الأَفْ ... راحُ والحُسْنُ من جميع النواحي هذه الجنَّةُ التي وَعَدَ الل ... هُ وما عن نعيمها من بَراح وكأنّا فيها اختلسنا نسيماً ... من سَجايا جيّاشٍ بن نجاح فهو كان الذي يَروقُك لا نَوْ ... رٌ أَنيقٌ ولا نَسيمُ أَقاح علم المجد ذي الفضائل فخر الْ ... أُمّة المُرْتضى الفتى الجَحْجاح غافر الذنب مِسْعَر الحرب جالي الْ ... كَرب غَوْث اللاّجي حَيا المُلْتاحِ لفظه في الصَّحائف السُّود يُغني ... هـ ويكفي عن سَلّ بِيضِ الصِّفاحِ وله: إِن تحسبونيَ من أَجناسكم رجلاً ... فالْمَنْدَل المُصطفى نوعٌ من الخشبِ أتى تُحيلون فضلي عن مَعادِنه ... متى استحال نُحاساً مَعْدِن الذهبِ والدّينُ والخِيم والعَلْياءُ تعرفني ... أَجزي بِغدرٍ وفاءَ المُنعمِ الحَدِبِ وله من قصيدة بعث بها إلى ابنه شكيل: قل للشكيل وسَلْه ما المَعْنى بأن ... أَشقى بها وأَنا المُقيمُ ببابِها فإِذا هَوَتْ دَلْوي تُريد قَلِبيَها ... جاءَتْ بجَنْدَلها معاً وتُرابها وإِذا بها أَدلى سِوايَ دَلْوَهُ ... جاءَتْه مُتْرَعةً إِلى أكرابها وله في أخرى: عَظيمٌ يَهونُ الأَعظمونَ لِعِزِّه ... فمَطلبُه في كلِّ أَمرٍ عظيُمُه تأَخَّرَ مَنْ جاراه في حَلْبَة العُلى ... وقَدَّمَه إِقدامُه وقَديمهُ كتائبُه قبلَ الكتائب كُتْبُه ... ويُغْنيك عن بَطْشِ الهِزَبرْ نَئيمهُ فلولاه لم يَثْبُت على الحمد حاؤه ... ولا وصلتْ يوماً إِلى الدال ميمهُ تَميدُ قلوبُ العالَمين وأَرضُهم ... إِذا ما سرتْ أَعلامُه وعلومه يُبيح لعافيه كرائمَ ماله ... ويمنع من أَنْ يُستباح حَريمُهُ وأَحيا بلُطف الرأْي منه ومعطم الْ ... عطايا رجائي فاستقلّ رميمهُ يشكل في إِكرامه كلُّ زائر ... ويسأَل هذا جارُه وحميمهُ الملك أبو الطامي جياش بن نجاح صاحب زبيد وصفه في الشعر بالإكثار والإجادة، وفي الترسل بالتوسط فيه على العادة، قال رأيت ديوان شعره مجلداً ضخماً، وعدة مجلدات تجمع نثراً ونظماً، وهو الذي صنف كتاب المفيد في أخبار زبيد. أورد من شعره قوله: وبجسُدتي قومي وأُكْرِمُهمُ فهل ... سوايَ حوى الإِكرامَ منه حَسودُهُ ولو مِتّ قالوا أَظلمَ الجَوُّ بعدَه ... وغاض الحيا الهطَّالُ مُذْ غاض جُودُهُ وقوله يذم أصحابه: ما انتظار الدّجال إِذ أَنا أَلقى ال ... يَوْمَ كم من مُداهِنٍ دَجّالِ ليس فيهم من سائلٍ عن صلاحٍ ... لي ولا مِنْ مُقَصِّرٍ في سؤالي وقوله: إذا كان حِلْمُ المَرْءٍ عَوْنَ عَدُوِّه ... عليه فإِنّ الجهل أَبقى وأَروحُ وفي الصفح ضَعفٌ، والعُقوبة قُوَّةٌ ... إِذا كنت تعفو عن كَفورٍ وتصفحُ وكتب إليه ابن القم الشاعر: يا أَيُّها المَلك الذي خَرَّتْ له ... غُلْبُ الملوك نواكسَ الأَذقان أَترى الذي وسعَ الخَلائق كلَّها ... يا ابن النصير يضيق عن إِنسان فأجابه جياش: لا والذي أَرْسى الجبالَ قواعداً ... ذي القوّة الباقي وكلٌّ قانِ ما إِن يَضيق بِرَحْبنا لك مَنْزِلٌ ... ولوَ أنَّه في باطن الأَجْفانِ وله: تَذوبُ منَ الحيا خَجَلاً بِلَحظي ... كما قد ذُبْتُ من نَظري إِليكما أَهابُك مِلْءَ صَدْري إِذْ فؤادي ... بجُملته أَسيرٌ في يَدَيْكا ومما أجاد فيه قوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 كَثيبُ نَقاً من فوقه خُوطُ بانةٍٍ ... بأَعلاه بدرٌ فوقَه ليلُ ساهِرِ الصليحي الداعي علي بن محمد القائم باليمن وكان قد عزم على السفر إلى العراق فقال، ويقال إنها لغيره: وأَلذُّ من قَرْعِ المثاني عندَه ... في الحرب أَلْجِمْ يا غُلامُ وأَسْرِجِ خَيْلٌ بأَقصى حَضْرَمَوْتٍ أُسْدُها ... وزَئيرُها بين العِراق فَمَنْبِج ومن شعره: أَنكَحتُ بيضَ الهِند سُمْرَ رِماحهم ... فرؤوسُهمْ عِوَض النِّثار نِثارُ وكذا العُلى لا يُستباح نِكاحُها ... إِلا بحيث تُطَلَّق الأَعْمارُ عمرو بن يحيى بن أبي الغارات الهيثمي شاعر الداعي علي بن محمد الصليحي قال على لسانه: سَلي فرسي عني ودِرْعي وصَعْدتي ... وسيفي إِذا ما المشَرفيّةُ سُلَّتِ أَنا ابن ربيع المنشد ابن محمد ... إِذا المُعْصِرات السود بالماء ضَنَّتِ وسُمِّيتُ في قومي عَلِياً لأنني ... عَلَوْتُ وأَحْدَيْتُ الكواكب همتي وقال على لسانه: جَفا نومُ عينَيْكَ أَشفارَها ... وقد كان لولا العلَى جارَها وقُلتُ لنفسيَ إنَّ الحياة ... على العيب مُسْبلة عارها وقال على لسانه: الخرم قبل العزم، فاحزِم واعزِم ... وإِذا استبانَ لك الصَّواب فَصَمِّمِ واستعملِ الرِّفق الذي هو مُكْسِبٌ ... ذِكْرَ القلوب وجِدَّ واحْمِل واحلُمِ واحرُس وسُس اشْجُع وصُل وامنُن وصِلْ ... واعدِل وأنصِف وارْعَ واحفَظ وارْحمِ وإِذا وعدتَ فعِدْ بما تَقْوَى على ... إِنجازه وإِذا صَنَعت فتمِّمِ وقال وقد رحل علي بن محمد من صنعاء واستخلف فيها ابنه المكرم. ما لِمَنْ فارقَ الأَحبّةَ عُذرُ ... إِن نَهَى دمعَه عن الفَيْضِ صَبْرُ إِنّ سيف الإمام كالبر ذي الموْ ... ج له في البلاد مَدٌّ وجزر ولئن سآءنا فِراق عَليٍّ ... فبحمد ابنه لنا ما يَسُرُّ ذاكَ بحرٌ سقى به مكةَ الل ... هُ وهذا لوَفد صنعاءَ بحرُ السلطان عبد الله بن يعلى الصليحي صاحب حصن خدد. له من قصيدة في رجل ادعى أنه شاعر ومدح الملكة الحرة بما لم يستحق عليه جائزة فاستشفع به قوله: قاسَ الأَمور فلم يَجِدْ في فكرهِ ... أَمراً يقوم بواجبٍ من عُذرهِ فمضى يُلفّق زائقاً من نثره ... وسرَى يُنَفِّق كاسِداً من شِعرهِ ويَظُنّ أَنّ حقوقكِ ابنةَ أَحمدٍ ... جملٌ يقوم هوادجي مِنْ قدرهِ هيهات مَنُّكِ فوق ذاك وإِنّه ... قَسَماً بحقِّك عاجزٌ عن شُكرهِ إِنّ الذي يلقى الصَّنيعَ بجَحْدِه ... مثلُ الذي يلقى الإِله بكفرهِ ومتى أَخَلّ بواجباتك شاكرٌ ... عن قُدْرهٍ هُدَمِت مباني فخرهِ إِن الصَّنائع في الكِرام ودائعٌ ... تَبْقى ولو فَنِيَ الزَّمانُ بأَسرِهِ القاضي العثماني له من قصيدة: إِنَّ من يَعرِفُ أَيام الصِّبا ... صَدَّ إِذْ أَبصر شَيْبي وَصَبا والتي تعرِف مُهري أَدْهماً ... أَنْكرتْه إذ رأَتْهُ أَشْهبا إِخوتي هُبّوا فقد هَبَّت لنا ... نغمةُ الطير وأَنفاس الصَّبا فاصْرِفوا الهمَّ إِذا ضافكُمُ ... وخُذوا من عَيْشنا ما وَهَبا ضَمَّ شَمْلَ الودِّ منّا مَجلِسٌ ... ترقَص الأَركان فيه طربا كلُّ سَمْح الكفِّ لو تسأَلُه ... كلَّ ما يَمْلِك جُوداً وَهَبا ومنها: رُبَّ شمْطاءَ تركناها وقد ... رَكَد الليلُ وأَرخى الطُّنُبا قالتِ الطُّرّاقُ مَنْ قلتُ أَنا ... وأُصَيْحابي، فقالتْ مَرْحبا ثم أَوْمَتْ نحو مِصباحٍ لها ... كاديخبو سَحَراً أَوْ قد خبا دفعت في صَحْن دَنٍّ خِلتَ في ... جَنَبات البيتِ منه لهَبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 فسقَوْني منه حتى صِرتُ من ... سكرتي أَحسِبُ مُهري أَرْنبا ومنها: إِن من قد عابها من بعد ما ... عُتِّقتْ في دَنّها لي حقبا يَحْتسيها عند ريْعان الصِّبا ... ويُخلِّيها إِذا ما اضطربا كالتي في رمضان لم تَصُمْ ... بَلَهاً منها وصامَتْ رَجَبا قُلْ لعبد القيْس يا أَكرَمَ مَنْ ... مَدَّ كفاً بحبِاء واحتبى فارسَ الخيلِ إِذا ما ركبا ... أَكرمَ الناسِ إِذا ما وهبا أَصبحتْ نَجران لي مُرْتَبَعاً ... والمَدانِيّون أُماً وأَبا في بهاليلَ صَحَوْا أَو سَكرِوا ... أَكرمونا وأَهانوا الذَّهبا وقال في علي بن محمد الصليحي لما قتله سعيد بن نجاح من قصيدة، وقد ارتجالاً: زيكرت مِظَلَّتُه عليه فلم تَرُحْ ... إِلاّ على الملك الأَجلّ سعيدِها كان أَقبحَ وجههَ في ظِلّها ... ما كان أَحسن رأْسَه في عودِها سُودُ الأَراقِم قاتلت أُسدَ الشَّرى ... يا رَحْمتي لأسودها من سُودِها ولما طلب بسبب هذه الأبيات هرب وقال من قطعة، وعنى الصليحي: قَتَلَتْهُ حرّابةُ ابن نجاحٍ ... وطلبتمْ بثأْره العثماني وله: ما العيشُ إِلاّ كاعبٌ وعُقارُ ... وأَكارمٌ نادمتُهمْ أَخيارُ قُمْ فاسقني بالكأْسِ من تلك التي ... أَهلُ النُّهُى في وَصْفها قد حاروا واشرَبْ ولا يَلْحقْك خوفُ عقوبة ... فيها فَرَبُّ حِسابها غَفّارُ خُذْها فإِن حَلَّتْ نَجوْتَ وإِن تكنْ ... حَرُمَتْ، لمحو ذُنوبها استغفار لا تصرفوا عنّي الكبير فإنّ لي ... في شُرب كأس كبيرها إِكبارُ وسلافَةٍ من بيت ذاتِ سَوالفٍ ... بجفوننا وجفونها أَسرارُ لو كان فيها رِيبةٌ ما كان في ... جَناتُه منها لنا أَنهارُ ومن مديحها في بني عبد المدان: وأَخافني مَلَكي فلمّا زُرتُهمْ ... أَصبحت أَقصِد مثلَهم وأَزارُ الشيخ إسماعيل بن محمد المعروف ب ابن البوقا وزر لجياش بن نجاح ثم للملوك من أولاده من بعده وهم الفاتك والمنصور وعبد الواحد بنو جياش، وما منهم إلا من قدمه، وعظمه، وأكرمه، وكان في نفسه سيداً رئيساً جليل القدر، واسع الخير، سمحاً بماله وجاهه، وما في الكرماء إلا من لم يضاهه، مأمون الغائلة ميمون الشان، طاهر المحضر والصدر واللسان، حكى عمارة أنه لقي أولاده سعيداً وسعداً وعبد المفضل وعبد المحسن بزبيد ولهم النباهة والوجاهة، وبعد الصيت الذي زينته النزاهة، وشعر أبيهم إسمعيل كثير يتغنى بغزله رشاقة، ويتمثل بجزله وثاقة، فمن غزله قوله: عند رَوْضِ الربيع لي أَوتارُ ... تقتضيها الصهباء والأَوتارُ وله مطلع قصيدة يخلص فيها إلى مدح يحيى بن حمزة السليماني. يا طاويَ الفَلَوات طَيَّ المدرجِ ... عُجْ نحو مُنْعَرج الكَثيب وعَرِّجِ وشعره طيب حسن، وهو كثير موجود باليمن. بنو أبي عقامة يذكر العماد في الصفحات التالية تراجم أربعة من بني أبي عقامة، وهي أسرة توارثت القضاء أجيالاً في زبيد، ويرتفع نسبها إلى مالك بن طوق التغلبي، وأحد أجدادها محمد بن هارون كان أول القضاة بزبيد وقد جاءها أيام المأمون في خبر يرويه كثير من الإخباريين، هذا تفصيله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 كان المأمون قد أتى بقوم من ولد زياد بن أبيه وقوم من ولد هشان، وفيهم رجل من بني تغلب يقال له محمد بن هارون، فسألهم عن نسبهم فأخبروه، وسأل التغلبي عن نسبه فقال أنا محمد بن هارون، فبكى وقال أني لي بمحمد بن هارون، يعني وافق اسمه اسم أخيه محمد الأمين بن هرون الرشيد، فقال المأمون: أما التغلبي فيطلق كرامة لاسمه واسم أبيه، وأما الأمويون والزيادبون فيقتلون. فقال ابن زياد: ما أكذب الناس يا أمير المؤمنين إنهم يزعمون أنك حليم كثير العفو، متزرع في الدماء بغير حق، فإن كنت تقتلنا عن ذنوبنا فإنا والله لم نخرج أبداً عن طاعة، ولم نفارق في بيعتك رأي الجماعة، وإن كنت تقتلنا بجنايات بني أمية فيكم فالله تعالى يقول: ولا تزر وازرة وزر أخرى. قال فاستحسن المأمون كلامه، وعفا عنهم جميعاً وكانوا أكثر من مائة رجل. ثم أضافهم إلى الفضل بن سهل ذي الرياستين ويقال إلى أخيه الحسن بن سهل. فلما بويع لإبراهيم بن المهدي ببغداد في سنة اثنتين ومائتين وافق ذلك ورود كتاب عامل اليمن بخروج الأشاعر بتهامة عن الطاعة، فأثنى الحسن بن سهل على الزيادي وكان اسمه محمد ابن زياد، وعلي المرواني والتغلبي عند المأمون، وأنهم من أعيان الرجال وأفراد الكفاة وأشار بتسييرهم إلى اليمن، فسير ابن زياد أميراً، وابن هشام وزيراً، والتغلبي قاضياً، فمن ولد محمد هارون التغلبي هذا قضاة زبيد وهم بنو أبي عقامة ولم يكن بنو أبي عقامة هؤلاء قضاة فحسب، وإنما كانوا فقهاء ومحدثين وشعراء وذوي مكانة على النحو الذي نقرأ من تراجمهم عند العماد. وقد ظل فيهم القضاء يتوارثونه، حتى أزالهم ابن مهدي حين أزال دولة الحبشة. ويذكر المؤرخون نصرتهم للشافعية، ويقول عنهم الجعدي: وفضائل بني أبي عقامة مشهورة وهم الذين نصر الله بهم مذهب الإمام الشافعي في تهامة، وقدماؤهم جهروا ببسم الله الرحمن الرحيم في الجمعة والجماعات. وحين يتحدث الجندي في السلوك عن القاضي الشهيد أبي محمد الحسن يقول وله كتاب نوادر مذهب أبي حنيفة التي يستشنعها أصحاب الشافعية وقد صار الكتاب في اليمن قليل الوجود لأن الجنفية اجتهدت بتحصيله وإذهابه كما فعل بنو عقامة بمفيد جياش لأنه ثلم نسبهم وإذا كان بنو أبي عقامة قد صرفوا عن القضاء بسبب من سيطرة آل مهدي وانتصارهم للشيعة، فقد بقيت لهم مؤلفاتهم وكتبهم وظل منهم، على نحو ما يذكر صاحب التاج، بزبيد والقحمة بقية: وقد حاولت أن أضبط تسلسل بني أبي عقامة في جدول يبين عن تتابعهم، غير أني لم أستطع ذلك على النحو الذي أرجو من دقة، للتباين الذي وجدته بين نسقين: النسق الذي نوحي به الخريدة، والنسق الذي توحي به عبارة التاج آخر مادة عقم حين تحدث عن أحدهم: أبي الفتوح وذكر طافة من أهله. ولم أجد سبيلاً للترجيح، ذلك أن صاحب الخريدة ينقل عن عمارة، وعمارة موثق معتمد، وثقة كثيرون ممن أرخوا لليمن أو ترجموا لرجاله، وكانت كتبه مصدراً من مصادرهم، الذي مثلاً حين تحدث عن بني أبي عقمة في السلوك يقول: " وقد اعتمدت في ذكرهم ذكره الفقيه عمارة وقد تقدم جماعة على ما ذكر عمارة ورتبه إذ هو خبير بهم فإنه صحب أمنهم فنقل عنهم أحوال متقدميهم. كما أن العهد بصاحب التاج أنه يستوثق مما يروي، فلا ينقل إلا مطمئناً للذي ينقله والذي ينقل عنه. ولهذا اضطررت أن أترك ذلك إلى أن يفتح الله بشيء يهدي إلى سواء السبيل. القاضي أبو عبد الله محمد بن أبي عقامة الحفائلي من قضاة زبيدة، ذكر ابن الريحاني المكي أنه كان ذا مال كثير، وكانت له دار لها بابان، على أحد البابين مكتوب: باب إلى السعد، فطالب العلم يفتى، وطالب المال يمنح وعلى الباب الآخر مكتوب: باب عن الشر يغلق، فطالب العلم يفتى، وطالب المال يرزق ذكر أنه قتله ابن مهدي علي لما تغلب على اليمن سنة أربع وخمسين وخمسمائة، وكان له ولد فاضب شاعر قتله أيضاً. وأنشدني من شعره: لِلمجدِ عنكمْ رواياتٌ وأَخبارُ ... وللعُلى نحوكمْ حاجٌ وأَوطارُ تشتاقُكمْ كلُّ أَرضٍ تنزِلون بها ... كأَنَّكم لِبقاعِ الأَرضِ أَمطارُ فحيثُ كنتمْ فثَغرُ الروض مُبتسمٌ ... وأَين سِرتمْ فدمعُ المزن مِدرارُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 لله قَوْمٌ إِذا حلّوا بمَنزلةٍ ... حَلَّ النَّدى ويسير الجودُ إِن ساروا لا يَعْجَب النّاسُ منكم في مَسيرِكمُ ... كذلك الفَلكُ العُلْويُّ دَوّارُ والبدرُ مُذ صِيغَ لا يرضى بمنزلةٍ ... فيها يُخَيِّمُ فهو الدهرَ سيّارُ وذكره عمارة في شعراء اليمن بعد ذكر بني عقامة وقال: وممن عاصرته، وعاشرته، وكاثرته، من بني عقامة القاضي الفاضل أبو عبد الله محمد بن عبد الله وكان يعرف بالحفائلي وهو من أسماء المكتب وكان نبيلاً فاضلاً فقيهاً متكلماً شاعراً مترسلاً رئيساً ممدحاً، يثيب السائل ويجيب السائل إرفاداً وإفادرة، وجوداً وإجادة، وانتهت رياسة مذهب الشافعي في زبيد إليه وإلى ابن عمه القاضي أبي محمد عبد الله بن محمد بن أبي الفتوح فمن شعر هذا القاضي الحفائلي ما كتب به جواباً إلى ابن عمه أبي العز قوله: رِفْقاً فَدَتْك أَوائلي وأَواخري ... أَين الأَضاةُ من الفُرات الزاخر أَنتَ الذي نوّهتَ بي بين الورى ... ورفعت للسارين ضوءَ مفاخري ومن شعره في الحداثة قوله: وبُكْرةٍ ما رأَى الراؤون مُشبِهها ... كأَنّما سُرقت سِرّاً من الزمنِ غيمٌ وظِلٌّ وروْضٌ مُونِقٌ وهوىً ... يجري من الروح مجرى الروج في البدنِ غنَّتْ بها الطيرُ أَلحاناً وساعدها ... رقصُ الغصون على إِيقاعها الحسنِ فقد سكرتُ وما الصهباءُ دائرة ... فيها ولا نَغَمات العودِ في أُذني وقوله من قصيدة إخوانية: تشتاقكم كلُّ أَرضٍ تنزلون بها ... كأَنّكم لبقاعِ الأَرض أَمطارُ تقدم له هذا البيت. وقوله في العتاب: عَذَرْتُك لو كانت طريقاً سلكتَها ... مع الناس أَو لو كان شيئاً تقدّما فأَمّا وقد أَفردتَني وخَصصتني ... فلا عُذْرَ إِلاّ أن أَعود مُكرَّما قال عمارة، ومما كتب به جواباً من كتاب تشوقت فيه إليه: إِذا فاخرتْ سَعدُ العشيرةِ لم يكن ... لأَخْلافها إِلاّ بأَسلافك الفخرُ وبيتُك منها يا عُمارة شامخٌ ... هَوَتْ تحته الشِعْرى ودان له الشِعرُ وحيث ذكرنا هذا القاضي الحفائلي فنذكر بني أبي عقامة، قضاة تهامة، ونقدم والده وهو: القاضي أبو محمد عبد الله بن علي بن محمد بن علي ابن أبي عقامة وكان شاعراً مجيداً، ومن شعره: ما لهذا الوَفاءِ في الناس قلاّ ... أَتُراهم جَفَوْهُ حتى استقلاّ ومن ترسله يخاطب ابن عمه القاضي أبا حامد بن أبي عقامة وقد شجرت بينهما منافسات على الحكم: سل عني قومك ونفسك، ويومك وأمسك، تجدني معظماً في النفوس، قاعداً على قمم الرؤوس. ومنهم: القاضي أبو العز عثمان بن أبي الفتوح ابن علي بن محمد بن علي بن أبي عقامة، وهو ابن عم الحفائلي. ذكره عمارة، في فضله بالغزارة، وفي جاهه بالنضارة، وقال ولي القضاء في الأعمال المضافة لزبيد، وكان جواداً مداحاً ممدحاً، يخلع على الشعراء ويعينهم. وكان أبوه القاضي أبو الفتوح واحد عصره، ونسيج دهره في العلم وصنف كتباً في المذهب والخلاف، لم يتفقه أحد بعد تصنيفها إلا منها. وفي هذا أبي العز ولده يقول القاضي الجليس أبو المعالي عبد العزيز بن الحباب، وقد أوردناه في شعراء مصر، حين دخل اليمن في أيام الراهب قصيدة منها: أَبني عَقامةَ لست مُقتصِداً ... في وصفكم بالمَدحِ ما عِشتُ عَلِقَتْ يدي منكم بحبل فتىً ... ما في مرائر ودِّه أَمْتُ ومن شعر أبي العز قوله في رزيق الفاتكي الوزير: نَفْسي إِليك كثيرةُ الأَنفاسِ ... لولا مُقاساةُ الزمان القاسي وله: بأَيّ المعاني من كِتابِك أَكْلَفُ ... وقد لاح طُومارٌ من النَّفس أَكلفُ ومنها في الفخر: أَصِخْ أُذناً وانظر بعينك هل ترى ... من الناس إِلاّ من عَقامة تردف وضمن فقال: ترى الناس ما سِرْنا يسيرون خَلْفَنا ... وإِن نحن أَوْمَأْنا إِلى الناس وقفّوا ومن مراثيه قوله في أهله وقد زار مقابرهم بالعرق: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 يا صاحِ قِفْ بالعِرْق وقِفْةَ مُعْوِلِ ... وانزِل هناك فَثَمّ أَكرمُ مَنزلِ نزَلت به الشُّمُّ البواذِخُ بعدما ... لحظَتْهمُ الجَوْزاء لحظةَ أَسفلِ أَخواي والولدُ العزيزُ ووالدي ... يا حَطْم رُمْحي عِند ذاك ومُنْصُلَي ومنها: هل كان في اليمنِ المُباركِ قبلنا ... أَحدٌ يُقيم صَغا الكلام الأَمْيَل حتى أَنار الله سُدْفةَ أَهله ... ببني عَقامة بعد ليلِ أَلْيَلِ لا خَيْرَ في قول امرئٍ متمدّحٍ ... لكن طغى قلمي وأَفرط مِقْوَلي ومنهم: القاضي أبو محمد الحسن بن أبي عقامة وهو أقدم عصراً ممن ذكرناهم، كبير البيت والقدر، غزير الفضل، وكان فقيهاً شاعراً، إماماً في العربية واللغة ماهراً، قتله الملك جياش بن نجاح صاحب زبيد وقد ولي القضاء في زمانه. ولسبب قتل جياش له يقول ابن القم الشاعر يخاطب جياشاً: أَخطأَت يا جَيّاشُ في قتل الحسنْ ... فقأْتَ والله به عَيْنَ الزمنْ وفيه يقول: تَفِرُّ إِذا جرَّ المُكَرَّم رمحَهُ ... وتَشْجُع فيمن ليس يُحْلي ولا يُمْري قال والعقاميون ينقمون هذا البيت على ابن القم ويقولون: قتل صاحبهم أهون عليهم من كونه لا يحلي ولا يمري. ومن شعر هذا القاضي أبي محمد أنه لما سمع قول المعري: إِذا ما ذكرنا آدماً وفِعالُه ... وتزويج ابْنيه لبنَتْيه في الدُّنا علمنا بأَنّ الخلق من أَصلِ زَنْيَةٍ ... وأَنَّ جميع الناس مِن عُنْصر الزِّنا أجابه بقوله: لَعَمْرُك أَمّا فيك فالقولُ صادِقٌ ... وتكذِبُ في الباقين مَنْ شَطَّ أَوْ دَنا كذلك إِقرارُ الفتى لازمٌ له ... وفي غيره لَغوٌ كذا جاءَ شرعُنا وشعره في نهاية من الحسن والجودة: الغر نوق ذكر أنه من الطارئين على تهامة ومن جيد شعره قصيدة يمدح بها القاضي المعروف بالحفائلي أولها: غُدِقَت مَقاليدُ الإِمامهْ ... بالشُّمِّ آلِ أَبي عَقامهْ القوم راحةُ طفلهمْ ... في المهد تَهطِل كالغَمامهْ ومنها في الممدوح وهو طائل في معناه: وإِذا العَروبة أَسْفرتْ ... عن وجه مِصْقعة لِثامَهْ هنّا منابرَه الأَذا ... ن به وعَزَّتْها الإِقامةْ وهو القائل في الوزير مفلح الفاتكي وكان حبشياً معلوطاً: أَأَكرمَ وَجْهٍ خَطَّه كَفُّ لاعِطِ ... فَدَتْ نَعْلَك اليُسرى جُدودُ الأَشايط بنو الأشيط عرب ريمة قبل لم يأت في اللغة لاعط وإنما جاء عالط. ودخل هذا الشاعر المدرسة عند الفقيه ابن الأبار بزبيد وقد تضايقت المجالس لكثرة الطلبة فارتجل قوله يخاطب الفقيه: مجلسُك الرَّحْبُ من تَزاحُمه ... لا يَسَعُ المرءَ فيه مَقْعَدُهُ كلٌّ على قَدره ينال، فذا ... يَلْقُط منه وذاك يحْصِدُهُ الفقيه أبو العباس أحمد بن نجارة الحنفي وصفه بالتبريز في علم الكلام واللغة والأدب، لكنه امتطى مركب الطرب، وعرف بالخلاعة والاستهتار، واجتاز ليلة بدار القاضي أبي الفتوح بن أبي عقامة وهو سكران، وكان القاضي فظاً في ذات الله وابن نجارة يخلط في كلامه وهذيانه، وليس عند القاضي أحد من أعوانه، فصاح عليه القاضي: إل هذا الحد يا حمار، فوقف ابن نجارة وارتجل مخاطباً له: سَكَراتٌ تعتادُني وخُمارُ ... وانتشاءٌ أَعتاده ونُعارُ فَمَلومٌ مَنْ قال أنّي ملومٌ ... وحِمارٌ من قال أنّي حمارُ الشيخ أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الله بن علي ابن هندي ذكره الرشيد ابن الزبير في كتاب الجنان، وقال هو خاتم أدباء العصر، بهذا المصر، وقال فمما أنشدني من شعره قوله: عَقْلُ الفتى مَّمِن يُجالسه الفتى ... فاجعل جليسك أَفضلَ الجلساءِ والعلم مصباح التُّقى لكنّه ... يا صاحِ مُقتَبسٌ من العلماء وقوله: لَثِمَتُ بِفي التَّفَكُّرِ وَجْنَتيْه ... فسالَتْ وجْنَتاه دماً عَبيطا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 وصافحني خيالٌ منه وَهْناً ... فخطَّتْ في يَديْه يَدي خُطوطا وقوله في معناه: هَممتُ أَنْ أَفْكِرَ في حُسنِه ... فَخَرَّ مَغْشِيّاً لِفَرْط الأَلمْ وأَشْعَرَ الوهم إِلى خدّه ... فانصبغ الخدّان منه بدمْ وقوله أيضاً: وإِخوانٍ بَذَلْتُ لهم وِدادي ... وحُطتُ مكانهم عندي وصُنتُ فكم من ليل مَهْلكةٍ وبؤسٍ ... وحَدٍّ مَنِيَّةٍ فيهم ركبتُ وكم من بحرِ مَعْطَبَةٍ وموتٍ ... سبَحت مُخاطراً فيهم وخُضتُ أَضاعوني وما ذنبي إِليهمْ ... سوى رُخْصي لما أَنّي رَخُصْتُ وقوله: وكأْسِ مُدامةٍ في كَفِّ خُشِفٍ ... رَخيم الدَّلِّ مَلْثوغِ الكلامِ حكَتْ بَهْرامَ إِذ ترك الثُّرَيّا ... يساير في الدُّجى بدرَ التَّمامِ وقوله: أَقْصيتْني لما افتقرت ولم أَكن ... أَرجوه منك وقد علمتَ كمالي هذا المثلث ذو ثلاثةِ أَضلُعٍ ... لا غيرَ، وهو مُقدَّمُ الأَشكال وقوله في أرمد: قلتُ له وَرْدٌ بخدَّيْك، ذا ... فقال لا بَلْ دمُ عُشّاقي قلتُ فمن أَهرقه فيهما ... فقال لي: مُرْهَف أَحداقي قلتُ فما بُرهانه قال لي ... بقيةُ الدمِ بآماقي وقوله وقد أحسن في التشبيه: تَوَسَّدَ الوردَ وقد ومال بالْ ... أَجفان من عَيْنيه إِغفاءِ فأَشْبَهَ البَدْر إِلى جَنْبه ... سَحابةٌ في الجوّ حَمراءِ وقوله: الخير زَرْعٌ والفتى حاصدٌ ... وغاية المزروع أَن يُحْصَدا وأَسعدُ العالَمِ مَن قَدَّم الْ ... إِحسان في الدنيا لينجو غدا ابن مكرمان الشاعر من أهل جبال برع قال عمارة: وممن رأيته قد ناهز المائة الشاعر المعروف بابن مكرمان، قال ورأيت أهل تهامة يكرمونه ويعظمونه ويخلعون عليه، وله قصيدة سارت في اليمن في أفواه العامه مدح بها الأمير الشريف غانم بن يحيى بن حمزة السليماني فأثابه عنها بألف دينار فمنها: ما عَسى أَن يُريدَ منّي العَذولُ ... وفُؤادي مُتَيَّمٌ متبولُ هَمُّه الهجرُ للغواني وقَلبي ... سَلبتْهُ خَريدة عُطْبولُ كيف صَبري وقد بدالي من السَّجْ ... ف أَثِيثٌ جَعْدٌ وخَدٌّ أَسيلُ وجهُها أَبلجٌ ومَبْسِمها د ... رٌّ ولكنَّ الطَّرْف منها كحيلُ ولها ناهدٌ وخصرٌ لطيفٌ ... وقَوامٌ سَمْتٌ ورِدْفٌ ثقيلُ يطلب العاذلُ المُكلَّف بَيْني ... يَنْثَني القلبُ وهو لا يستحيلُ يا خَليليَّ من ذُؤابة قحطا ... ن بنِ هودٍ أَلان جَدَّ الرَّحيلُ إِنَّ بالسّاعد الحصينة مَلكاً ... طالبياً مَنْ زاره لا يَعيلُ عَلَوِيّاً مُتَوَّجاً هاشميّاً ... حَسَنَيّاً نَواله مَبْذولُ أَنتّمُ يا بني البَطين لُيوثٌ ... وغُيوثٌ وأَبحرٌ وسُيول مارَنا طالبٌ إلى مجدكم بال ... طَّرْف إِلاّ ثَناه وهو كَليلْ ومتى همّ أَن يُساويَكمْ أعْ ... وَزَهُ السُّودَدُ العريض الطويلُ يا سليل البَطِين والحُرَّةِ الزهْ ... راء هي الطُّهر والحَصانُ البَتولْ خمسةٌ خَصَّهمْ بتخصيصه الخا ... لقُ رَبّي وهو اللطيف الجليل ما لهم سادسٌ غداة الذي مدَّ ... عليهم كساءه جِبريلُ ما تَرَى في الملوك كالغانِم المَلْ ... ك ابن يحيى هيهات أَيْنَ المثيلُ أَنتَ يا با الوَهَّاس بَدْرُ مَعالٍ ... ماله مُذْ أَضاء فينا أُفولُ لك خُلْق كأَنّه عَرْفُ مِسْكٍ ... دُونه في مَذاقِهِ السَّلسبيلُ حيث ما كنتَ أَو حللَت من الأَرْ ... ض حَليف العُلى فأَنت أَصيلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 لم أُجالسْ إِلاّ الملوك ولم أَمْ ... دح سواهُمْ ولم يَجُر بي السبّيلُ إِنْ تَجَوْهَرتُ في المديح فإِنّي ... أَجِدُ المدحَ واسعاً فأَقولُ منكُمُ يُحْسُن الصّنيعُ وأَنتمْ ... خَيْرُ من يُسْأَلُ العَطا فَيُنيلُ ومن شعراء تهامة واليمن المشهور بالجودة الخكميون آل أبي الحسين فمنهم: الشيخ أبو الحسن بن أبي الحسين ومنهم أخوه: محمد الأعرج وقد كان كداحاً، مداحاً، شريباً لا يصحو حتى يفتقر. ومنهم: علي بن أبي الحسين وهو أشعرهم بل أشعر عرب تهامة: قال عمارة في مجموعه: وا، اأعرفه ديناً ورعاً جواداً عند منزله. قال: ولم يحضرني منشعرهم شيء مع كثرة ذلك باليمن. القاضي أبو بكر اليافعي حكى عمارة في مجموعه أنه أدركه جليساً للملوك، خصيصاً بملكي اليمن المنصور ابن المفضل والمتوج الداعي محمد بن سيأ صاحب عدن، ومن شعره قوله يصف شعره: شِعرٌ إِذا أَنشدتُه في مجلسٍ ... فكأنني جَمَّرته بالعودِ وقوله: أَستودِعُ الله الذي ودعَّا ... ونحن للفُرقة نبكي معا أَسْبلَ من أَجفانه أَدْمُعاً ... لمّا رآني مُسْبِلاً أَدْمعا وقال لي عند فارقي له ... ما أَعظم البينَ وما أَوْجَعا وشعره كثير مطبوع نشوان الحميري من شعراء الجبال ذكر أنه فحل الكلام قوي الحبك، حسن السبك. قال: وبلغني أن أهل بيحان ملكوه عليهم، فمن شعره قوله في الفخر باليمن: مِنّا التبَّايِعةُ اليمانون الأُلى ... ملكوا البسيطة سَلْ بذلك تُخْبرِ مِن كلِّ مَرْهوبِ اللقاء مُعصَّبٍ ... بالتاج غازٍ بالجيوش مُظَفَّرِ تعنو الوجوهُ لسفيهِ ولرُمحهِ ... بعدَ السُّجود لتاجِه والمِغْفَرِ يا رُبَّ مفتخرٍ ولولا سَعيُنا ... وقيامُنا مع جَدّه لم يَفْخَر فافْخَر بقحطانٍ على كلِّ الورَى ... فالناسُ من صَدَفٍ وهم من جوهرِ وخلافةُ الخُلفاء نحنُ عِمادُها ... فمتى نَهُمّ بِعَزْل والٍ نَقْدِرِ مثل الأَمين أو الرشيد وفتكنا ... بهما ومثل ابن الزُّبَيْر القَسْوَر وبكُرَهْنِا ما كان من جُهّالنا ... في قتلِ عُثمانٍ ومَصرعِ حَيْدَرِ وإِذا غَضِبنا غَضبةً يَمنّيةً ... قَطَرت صوارمُنا بموْتٍ أَحمرِ فَغدتْ وهادُ الأَرضِ مُترعَةً دماً ... وغَدتْ شِباعاً جائعاتُ الأَنْسُر غدا لنا بالقهر كُلُّ قبيلةٍ ... خَوَلاً بمعروف يَزينُ ومُنكَر وإِناخَةُ الضِيفات فرضٌ عندنا ... يلقى به الولْدِانُ كلَّ مُبَشرِ وله أيضاً: من أين يأَتيني الفسادُ وليس لي ... نَسبٌ خبيث في الأعاجم يوَجدُ لا في عُلوج الرُّوم خالٌ أزرقٌ ... أَبداًولا في الحبش جَدٌّ أَسودُ إِني من النَّسبِ الصَّريح إذا امرؤٌ ... غلبت عليه العجم فهو مُولَّدُ ما عابني نَسبُ الإِماء، ولا غدا ... باللؤْم مُعْرِقُهُنّ لي بتردّدُ مُوتي قُريشُ، فكلُّ حَيٍّ ميِّتٌ ... للموت منّا كلُّ حيٍّ يولدُ قلتم: لكم إِرْثُ النبوّة دوننا ... أَزعمتمُ أن النُّبُوَّة سَرْمُد منكم نبيُّ قد مضى لسبيله ... قِدْماً فهل منكم نَبيٌّ يُعبَدُ قاتله الله ولعنه وأخزاه، ما أشد افتراه، على الله وأجراه، وأية، فضيلة فوق هذا، ولولا النبي المصطفى الذي اختاره الله واجتباه، وجعله الوسيلة إلي نيل رضاه، صلوات الله عليه وسلامه ما سعدوا ولا فازوا، ولا حازوا من الشرف والفضيلة ما حازوا. ولما رجع الملك المعظم فخر الدين شمس الدولة ملك اليمن تورانشاه إلى دمشق واجتمعت بأصحابه في المحرم سنة اثنتين وسبعين سألتهم عن شعراء اليمن الموجودين فذكروا جماعة لم يوردوا لهم شعراً. فمنهم: ابن المسبح الكاتب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 كهل في زبيد، كان يكتب لعبد النبي بن علي بن مهدي، فلما ملك الملك المعظم زبيد، وذهب زبد بني مهدي جفاء، سام ابن المسبح أن يخدمه فلم يفعل، ولزم العظمة وفاء واستغناء، وهو شاعر مترسل عارف. ومنهم: الفقيه الضجاعي ذكروا أنه شيخ أعمى في أعمال زبيد. ومنهم: علي بن عزاز شاب ذكي من تناء زبيد. عبد الله بن أبي الفتوح الحرازي قال عمارة: اجتمعت به في زبيد وفي الكدراء عند القائد إسحاق بن مرزوق، وهو القائل: أَنالَتْكَ أَيامُ الزمان المَطالِبا ... وأَعْلَتك أَبراجُ النجومِ الكواكبا وصاغت لك الأفلاكُ في دَورانها ... لُباناتِ مَجْدودٍ وساقَت مآربا فكن واهباً لِلنَّيِّريْنِ رِدافةً ... وَدَعْ عنك أَملاك البريّة جانبا ووصفه بالرياسة والحسب في نفسه وقومه وبلاده، وملوك بني مهدي تجله وتعظم صلته إذا وفد عليها. ومنهم: يحيى بن موسى قال وأظنه الأهنوي. له: سيُكشَف بعد عَشْر سنينَ تمضي ... غِطاء الغيب عن أَمرٍ جديدِ وسوف يَقُودها شُعْثَ النَّواصي ... طهارتُها التيمُّمُ بالصّعيدِ أَبت ظِلَّ المَعاقِل فاستعاضت ... به ظِلَّ القَساطل والبُنودِ إِذا خرجتْ من الغَمَرات قالتْ ... لها فُرسانُها الأَبطالُ عودي تَزورُ على القطيعة مَنْ جَفاها ... وتُفني كلَّ جبارٍ عنيدِ ومنهم: السليف الحكمي له: أَحمائمَ الأَثَلاتِ من وادي الحِمى ... أَنتُنّ هَيَّجْتُنَّ صَبّاً مُغْرَما ما لي الغَداةَ وما لَكُنَّ ولِلْبكا ... جَزَعاً ولكنْ لا أَرى دمعاً همي إِن الحَمام إِذا تغنّى شاقني ... ويزيدني شوقاً إِلى ذاتِ اللَّمى ومنهم: السلطان حاتم بن أحمد بن عمران صاحب صنعاء، ذكر أنه كان القاضي الرشيد بن الزبير، وهو من فضلاء صعيد مصر من معاصرينا، قد جاوره بصنعاء، وعاين منه السؤدد والعلاء، وكان يصف فضائله وفواضله، ورياسته، وكياسته، وزعامته، وشهامته، وصرامته، ومن شعره قوله: تركتُ أُناساً في غَضارة عَيْشِهم ... وأَمَّنْتُهم من طارِق الحَدَثان وكنتُ لهم حِصناً حصيناً وموئلاً ... وأَصْلَتُّ سيفي دونَهم ولِساني وعلَّمتهم رَمْيَ العدوّ فكُلُّهمْ ... تَعمَّدني دون العِدى فرماني القاضي يحيى بن أحمد بن أبي يحيى قال بنو يحيى بصنعاء، وإن شهروا باسم القضاء، فعنهم تنفذ الأوامر بالإمضاء، وعزهم يظل من حر الرمضاء. قال وليس في أهل الجبال المعاصرين أشعر من هذا يحيى بن أحمد، وأورد من شعره قوله من مطلع قصيدة في الداعي محمد بن سبأ وقد عزم على الخروج إلى ذي جبلة ليملك بلاد المنصور بن المفضل: النصر من قُرناءِ عَزْمِك فاعزِمِ ... والدَّهرُ من أُسراءِ حُكْمك فاحْكُمِ وله على لسان الداعي محمد بن سبأك أَدركتُ أَوْتاري من الأَعداءِ ... ومَلكتُ من عَدَنٍ إِلى صَنْعاءِ وبلغتُ بالجُرْدِ العِتاق وبالقَنا ... ما شئتُ من شَرفٍ ومن عَلْياءٍ ومنها يذكر مواطأة المنصور بن المفضل أهل تهامة وهم الحبشة على تركه وغزو بلاده ويذكر ما جرى على بني وائل من أهل وحاظة: وهُم بأَهلِ تِهامة أَغْرَوْهُمُ ... جَهْلاً بِحَرْبي أَيَّما إِغراءِ وهمُ بأَهلِ أحاظةٍ فتكواوهُمْ ... دون البريّة كلّها لُزَمائي أَخذوا معاقِلَهم وهُنَّ معاقلي ... وسبَوْا نساءَهُمُ وهُنَّ نِسائي قال ووهب الداعي محمد بن سبأ لابن سلمان، وهو من قومه، ألف دينار فارتجل ابن أبي يحيى هذا في ذلك المجلس مخاطباً للداعي: لا فخرَ إِلاّ إِذا أَقبلت مُسْتَلِماً ... كفَّ المَكين ظهيرِ الدين مَوْلانا هي التي تَهَبُ الآلافَ وافيةً ... إِنْ كنتَ غِرّاً فَسَلْ عنها ابن سَلْمانا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 فقال الداعي: أنا أبو عبد الله، أما ابن سلمان فهو ابن عمي، ولكن تسأل أنت عنها. ثم أمر له بألف دينار في الحال. قال وبلغني أن أصحاب ابن مهدي ذبحوه في حصن المجمعة من مخلاف جعفر. ومنهم: المقرئ أحمد بن محمد بن مرزوق قال: داعيكمُ في المَكْرُمات يُجابُ ... وإِليكمُ القَفْرُ القَواءُ يُجابُ أَنْتم لكلِّ فضيلة وصَنيعةٍ ... رُبَّتْ بأَعناق الورى أَربابُ ما دونُ نائلكم مِطال يُتَّقى ... أَبداً ولا دون الوُجوه حِجابُ آلَ الزُّرَيْع زرعتمُ العِزَّ الذي ... جادَتْهُ منكم للسَّماح سَحابُ لسنا نُبالي بعد طِيب أُصولكم ... وفروعكم خَبُثَ الوَرى أَم طابوا ومنهم: محمد بن عيسى الريمي منسوب إلى أعمال ريمة. له: لبس البهاءَ بِعسيك الإِسلامُ ... وتجمّلتُ بفَعالك الأَيامُ فُتَّ الملوكَ فضائلاً وفواضلاً ... وعزائماً عَزَّتْ فليس تُرامُ خطبوا العَلاء وقد بَذَلَت صَداقَها ... فنِكاحُها، إِلاّ عليك، حرامُ القاضي سليمان بن الفضل ولي الحكم بمدينة عدن فمن شعره قوله في الحداثة: عاطٍ النديمَ زُجاجةً بيضاءَ ... ودَعِ العَذولَ وأَلْغِه إِلغاءَ بِكْرٌ وقد نُكِحتْ بفضّ خِتامها ... أَعْجِبْ بها منكوحةً عذراءَ عيسى المسيحُ أحلَّها ومحّمدٌ ... يَأْبى أَأَحسنَ ذا وذاك أَساءَا وله: أَصبحتُ لا أَرهَبُ الأَيامَ والنُّوبَا ... لأَنَّني جارُ مَنصورٍ وجارُ سبا فإِن سطوتُ عَلَى الأَيام مقتدِراً ... أَو ارتقيْتُ إِلى الشِّعْرى فلا عجبا فقل لِمَنْ رام كَيْدي أَوْ مُعانَدتي ... أَقْصِر، ففي تعبٍ مَن عاند الشُّهُبا ابن الهبيني من شعراء تهامة، شاعر علي بن مهدي الخارج بزبيد وأولاده من بعده، وصفه عمارة بمتانة الكلام، وقوة النظام، قال وهو الذي يقول على لسان ابن مهدي: أَبْلِغْ قُرى تَعْكُرٍ ولا جَرَما ... أَنَّ الذي تكرهون قد دَهَمِا وهذه القصيدة تنسب إلى ابن مهدي وقد أوردتها في شعره. وله على لسان ابن مهدي أيضاً: ما بال خَوْلان لا تُوفي بما تَعِدُ ... يدنو أَبو حسنٍ منها وتَبتعدُ وما لِجَنْبٍ وسِنْحان وأُختِهما ... هَمْدان، تلك الأَعاريب التي حشدوا وله هذه القصيدة التي أوردنا من قبل للأديب أبي بكر العيدي على وزنها: العِزُّ في صَهَوات خيل الأَجْبهِ ... وطرادِها من مَهْمَهٍ في مَهْمَهِ مِنْ كلِّ صَهْصَلِقِ الوغى مَتَوَقِّدٍ ... وتراه عند قِيادِه كالأَبلهِ مُتَنَزِّهٍ ماضٍ على عِلاّته ... يعدو بِشِكَّةِ فارسٍ مُتَنَزَّهِ وبَياهِس تحت العَجاجِ فُوَيْقَها ... شُعْثُ الرؤوسِ مُكَلَّمات الأَوْجِه أُسْدٌ إِذا ما أَبصرتُ أُسدَ الشَّرى ... ورأَت حِياضَ الموتِ لم تَتَجَهْجَهِ آجامُها زَرَدُ الدِّلاص كأَنهُ ... بالصُبْح رقراقُ السحاب الأَمْرَه تعدو أَما مُتوَّجٍ مُتَبَلِّجٍ ... مُتَيقِّظٍ مُتوقّد مُتنبّه مُتفقِّهٍ في الدين لكنْ لم يكن ... مِنْ عند غيرِ الله بالمتفقّه مَلِكٌ إِذا اشتبه الملوكُ فما له ... في مُلكه وصَلاحه من مُشْبَه جَبّاهُ حقٍ من بني هودٍ متى ... تسأَلْه يَصْدَع بالبيان ويَجْبَهِ ومنزِّهُ الدين الحنيفيِّ الذي ... لولا الإِمامُ القطبُ لم يَتنزّهِ بصوارمٍ ولَهاذم وضراغمٍ ... وملاحمٍ بلغتْ به ما يشتهي ومقانبٍ وكتائب كالعارض ال ... متراكم المُتأَلَّق المُتَقَهْقِهِ هلاّ سأَلت الأَعجمْين كليهما ... من آل حامَ به وآل مُنَبِّهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 ووقائعاً بين الحليب ومونص ... فإِلى مصينع أَو مقينع أَوجه ولربَّ يومٍ بالحُصَيْب ودربها ... بالقطب كان على الأَعاجم، أَكرَه وعواصف بحصيبة عَصفتْ على ... حُبْشانها وعَلَى الدّعيّ الوَهْوَه أَخبارُ أَيام الإِمام فواكهٌ ... فأَصِخْ بسمعك نحوها وتفكَّه سِيَرُ الإِمام قديمُها وحديثها ... فرَجُ القلوب وروضة المُتَنَزِّه أَشهى مِن الماءِ الزُّلالِ عَلى الظَّما ... وأَلَذُّ من عَصْرِ الشَّباب الأمْوَه فاليوم بَخْبِخْ للخليفة بعده ... بالقائمْين الهادِيَيْن وزَهْرِه سِبْطَيه قُطبيه اللذين إليهما ... شرفُ الخِلافة والإِمامة ينتهي ويقول مَنْ كالأَجْبَهَيْن مخبِّرٌ ... فيقول سائله ومَنْ كالأَجْبهِ يُسْتَثْقَلُ الشيء المُعادُ، وذكرهُ ... تُصْبي إِعادتُه الحليمَ وتَزدهي أمُجَشِّمِيها كلَّ ليلٍ حِندسٍ ... شُعْثاً، بنفسي كلّ مَرْتٍ أَجْلَهِ عرضتْ بعارضة ابن أَعرجَ فاغتدتْ ... عَرْجاء ناظرةً بِعيْني أَكْمهِ ابن الأعرج رجل حبشي، والعارضة معقل له، ومكرشة أيضاً معقل. ولوَتْ بمكرشةٍ فعضّت أَهلَها ... أَنيابُ نازِلةِ الخطوب العُضَّهِ وَرَمَتْ بسِجّيل العَذاب عبيدَها ... تركتْهمُ عَصْفاً بيومٍ أَتْوَهِ أَشبهتما قطبَ الملوك أَباكما ... قَوْلاً وفعلاً منه غير مُشَبَّهِ تالله إِنَّكما لأَكرمُ مَعشرٍ ... هُدِيتْ لهم خُوصُ الرِّكاب التُّيَّهِ وعبيد شعري شِعرُ رُؤْبةَ فيكمُ ... وأَبوه عَجّاجٌ وشِعْر الأَفوه وأَنا المُفوّه لا المُفهّه فيكم ... كم بينَ قَوْلِ مُفَوَّهٍ ومُفَهَّه صلّى عليكم بعد أَحمدَ ربُّنا ... ما طافَ ذِكركمُ براكب عَيْدَهِ الفقيه أبو بكر المحيرفي ذكره لي بعض عبيد أمير مكة بمصر فأثنى عليه وقال: كان يعلم أولاد الأمير. وأنشدني له من قصيدة في الأمير حسن بن يحيى: أَهدتْ إِليك على البِعاد سَلامَها ... مُستصْحِباً صادَ الصَّلاة ولامَها وتخيَّرَتْك مِن البريَّة مَلْجَأ ... نفسٌ أَبتْ من لا يرى إِكرامَها ومنها: تاه الزمانُ بدولة الحَسَنِ الذي ... ما زال مُنتظراً بنا أَيّامَها يا عِزَّ آل محمدٍ وهُمامَها ... ولسانَها فيما حوى وكلامَها وهذا آخر ما وقع إلي من شعراء اليمن إلى آخر سنة اثنتين وسبعين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وأصحابه أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. بداية قسم شعراء الشام الجزء الرابع مقدمة العماد لقسم شعراء الشام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 وشعر الشاميين أصح وزناً، وأسح مزناً؛ وأمتن صيغةً، وأحسن صبغةً، وأحكم صنعةً، وأسلم رقعةً؛ وأرفع نسجاً، وأنفع مزجاً، وأقوم معنىً، وأحكم مبنىً، فإن العراقيين، بغاية لطفهم، ونهاية ظرفهم، غلبت الرقة على كلامهم حتى اعتل نسيم نسيبهم، وانماعت في ماء اللطف صناعة ترتيبهم وتهذيبهم، فكأن نظمهم روحٌ بلا شبح، وراحٌ بلا قدح. وأما أهل الشام فإن جبلة جبلهم اقتضت لهم إحكام الحكم، وأفضت بهم إلى إتقان الكلم، وقصدوا الإمعان في المعاني، وخلوا للمجان حلاوة المجاني، فخشنوا ولانوا، وعزوا وهانوا، ودنوا وما دانوا، وبعدوا وما بانوا وأبدعوا، فأولئك رقوا، وهؤلاء دقوا، على أن أهل العراق إذا ندر فيهم من ملك من الرقة رقها، وأعطى الصنعة حقها فاق الكل وفات، وأرى في صورة نظمه من اللذات الذات، لكن الطبع للعرب أغلب، وأنبع من الغرب أصوب وأصلب، والعراق أعرب وأعرق، والشام أغرب وأغرق، وفضلاء الإقليمين أعيان، وملء قلائدهم درٌ وعقيان، وحشوُ فرائدهم لؤلؤٌ ومرجان، ولكل زند اقتداحٌ، ولكل قريحةٍ اقتراح، ولكل خاطرٌ خطرٌ، ولكل ناظرٍ نظرٌ، وصناعة الشعر مختلفةٌ، وأربابها متفاوتةٌ، وللشعراء فيما يحسنون مراتب، وللناس فيما يعشقون مذاهب، والغرائز من الله مواهب، ولشموس القرائح ورياضها مشارق ومشارب، والبواعث لمواضيها صياقل، والحوادث عن مراميها حوائل، والدواعي لها دواعم، والمعالي لأهلها معالم. ولقد كان مجد العرب العامري حين كان بأصفان في سنتي ثلاث وأربع وأربعين يثني على فصحاء الشام ويفضلهم على سواهم، وينجذب إلى جانب هواهم، ويظهر بإنشاد بدائعم، وإيراد صنائعهم ما فضلوا به من القوى في القوافي، وبعد المطار بقوادم القدرة فيها الخوافي، وينشر من مفصلات ابن الخياط كل وشيٍ مذهب الطراز، ويورد من قسيات القيسراني كل ما يشهد أعجاز صدور عصره بحسن صدوره والأعجاز، وينير لنا من محاسن ابن منير ما يترنح ويتملح له عطف الأهتزاز، وطرف الإعتزاز، ويعدد ويشدد، ويكرر التعصب لهم ويردد، ويعلل له وأنا أطالبه بالتأثير، ويبرز الإخالة والمناسبة بحسن التعبير ويقول: من كابن حيوس، لا سيما في متح معين المدح، وكابن سنان الخفاجي في إنارة سنا خاطره السمح، وهل للعراقيين رقة عبد المحسن الصوري المحسن في إبداع الصور، واختراع الغرر، ومن أدرك مغزى الغزي الذي ينظم الدرر، في سلك المعنى المبتكر، وهل كان البحتري إلا من الشام، وكذلك أبو تمام؟. فقلت إن له العراق أعدى بالرقة حبيباً والوليد، ومن يقاوم من أولئك أبا الطيب إذا أنشأ القصيد؟ وكيف رضيت بإهمال الرضي والمرتضى، والفضلاء المتقدمين الذين أفق زمانهم بهم أضأ، وإنما لكل عصرٍ عصارة، ولكل زمانٍ بأفاضل بنيه نضارة وغضارة، ولكل مكانٍ مكين، ولكل معانٍ معين، ولكل أرضٍ روض، ولكل فهم في حوض العلم خوض. وكنت مدة مقامي في بغداد أتشوق إلى تلقاء الشام، وأود لقاء أهل الفضل الكرام، حتى وصلت إلى دمشق في شعبان سنة اثنتين وستين وخمسمائة فوجدت الشام عادماً للعلماء والأعلام، وصادفته قد صدف عنه الفضل، وصدح به الجهل، خاوياً على عروشه، خالياً من نقوشه، لا يلفي به آلف، ولا يعرف لذوي المعرفة عارفٌ، فكدت أضيع، وكيف لا وقد اتضع الرفيع، وارتفع الوضيع، فنزلت بحجرة، وأويت من مدرسةٍ في دمشق إلى حجرة، وحصلت مما ذهبت به سرقة موجودي في غمرة، ومنيت بالكربة، في الغربة، وانسدت علي طريق الأوبة، للنبوة التي عرت في النوبة، فقصدت ملكها العادل نور الدين أبا القاسم محمود بن زنكي بن آق سنقر أنزل الله عليه رحمته، وبل برذاذ رضاه تربته، بقصيدةٍ موسومة على اسمه أولها: لَوْ حَفِظَتْ يَوْمَ النَّوَى عُهُودَها ... ما مَطَلَتْ بِوَصْلها وُعودَها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 فلما تأملها وراقه حسن خطها قبلها، وسأل عني، فوصفت له فاستدعاني، وولاني عمله واستكتبني أولاً، ثم استكفاني فجعلني له في مملكته معتمداً عليه مولاً، وقلد السماع في حقي فقلدني، ورآني أسد سهمٍ لأغراض الإصابة فسددني، واعتقد أنه ظفر مني بمن ما له نظير، وافتقد مملكته فإذا روضها عندي بآثار البراعة واليراعة نضير، وكان يظن أن الشمس من أفقي بازغة، وأن حجة ملكه من خلقي بالغة، وما زلت معه من الله في زيادةٍ ونموٍ، وسعادةٍ وسمو إلى أن حج إلى كعبة الخلد، وزج في تربة اللحد، وطار من عش العيش إلى فناء الفناء، وانتقل من دائرة الدوائر إلى مركز البقاء، ودار الجزاء، وذلك يوم الأربعاء حادي عشر شوال سنة تسعٍ وستين وخمسمائة بدمشق، فضاعت المملكة، وذاعت الهلكة، ورفعت البركة، ونفعت لأمثالي في الانتقال الحركة، وانحلت حبي الأحقاد من الحساد، وتبدل بالاختلال السداد، وزمت نحوي ظعائن الضغائن، ونثلت لنضالي كوامن الكنائن، وعاد الحاسد للزرع، حاشداً للجمع، واختل النظام، واختلف اللئام، واستضعف الكرام، وطغى الطغام، وضعا الإسلام، ورعى الرعاع مراعي المراء، وبدت في ظلم الظلم أضواء الضوضاء، وحلبت حلب أخلاف الخلاف، وبغي البغاة إتلاف شخص الائتلاف، وعاد الشيطان الرجيم شهاباً راجماً، وأصبح مدمع أخي الفضل ساجماً، وأمسى شر أهل الجهل ناجماً، فعزمت على الترحل، وأزمعت السير إلى الموصل، ونويت العود إلى العراق، مأوى الرفاق، أهل الوفاء والوفاق، وسألني الكريم ابن الكريم جلال الدين ابن جمال الدين الوزير أن أقيم عنده شهراً، فأنست به ووجدته في المروءة والكرم والعلم بحراً ثم وصل إلي البشير بوصول الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب أعز الله سلطانه، ورفع بقمع شانيه شانه إلى الشام، وإعادته إلى أحسن حالاته وحلاه في النظام، وافترار ثغور الثغور الإسلامية عن ثنايا الثناء عليه، واضرار الجماعة لما كانوا فيه من الاضطراب إليه، وأنه قد هذب ما تشذب، وشعب صدع ما تشعب، وهضم من هضم، وقصم من خصم، وجمع ما تفرق، ورقع ما تخرق، وأطفأ الإحن المشبوبة، وعفى المحن المجلوبة، وأنه قد جل قدر جلق به، وهو حقاً سلطان الإسلام كما نزل من السماء في لقبه، فقلت لصاحبي هذا أوان سفور وجه الأمل، وزمان إسفار صبح الجذل، ولو كنت اليوم ببغداد وسمعت بوصوله، لأسرعت إلى قصده، وكرعت من ورده، وأترعت من عده، فأسرج الخيل، وأدلج الليل، وفارق الوشل واطلب السيل فإن العود أحمد، ومن يقعد يجمد، والجمر متى لم تهجه يخمد، والماء متى لم تجره يركد، والسيف وقت الحاجة لا يغمد، والقلب إن منعته السؤل يكمد، ثم ثنيت عناني راجعاً، وما ونيت فيما عناني مسارعاً، وجبت التنائف، وجزت المخاوف، وقطعت الغياهب إلى الفجر، والجداول إلى البحر، والثماد إلى الغمر، والنقاد إلى الهزبر، والظلماء إلى الصبح، والبخلاء إلى السمح، فربحت صفقتي، ونجحت سفرتي، وحليت حالتي، وتهللت هالتي، فتلقاني الملك الناصر برحبه، وبر حبه، ورفع حظوظي من الحضيض، وأهدى الصح لرجائي المريض، وأعاد المدرسة التي كنت مدرسها إلي، وحكمني في ديوانه وعول في سلطانه علي، ورعي في معرفة أسلافه لأسلافي، وجعل السعود في جميع المقاصد من أحلافي، ولقد كان قصدي في مبتدأ الأمر لوالده نجم الدين أيوب وعمه أسد الدين شيركوه، بوأهما الله رياض رضوانه، وغرفات غفرانه، لمعرفتهما بعمي صدر الصدر الشهيد عزيز الدين فإنه لما اعتقل بقلعة تكريت وكانت ولايتهما إليهما رداً عنه الردى، وذادا عن قصده العدى، وبقي عندها مدةً يجتهدان في الدفاع عنه، والعدو ينفذ إليهما في أمره وهما على الامتناع منه، حتى حضر بهروز الخصي صاحب القلعة بنفسه، وأحضر معه من الملاحدة من أظهر في غير الملأ حدة فرسه، وتم عليه المكروه وهما كارهان، وفارقا تكريت بعد ذلك الأوان، وكانا كلما ذكراه، رحمهما الله، يشيدان بذكر ما شاهداه من مشاهد كراماته، في شهود خلواته، وسجود صلواته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 فلما وصلت إلى الشام في سنة اثنتين وستين صادفت أسد الدين مشغولاً بفتح مصر في النوبة الثانية واتفق عوده، ورميم روض أملي من جودٍ جوده، وقد كان شغلني نور الدين نور الله روحه يشغله، ولقيت أسد الدين فغمرني بطوله، وتعرفت إلى صلاح الدين في تلك الأيام، وأهديت له من المدح غر الكلام، وما زلت به خصيصاً، وعلى التقرب إليه حريصاً، حتى سار مع عمه في النوبة الثالثة إلى مصر ففتحها وتملكها، وأجرى على مدار مراده فلكها، ومكثت في الشام بالخدمة النورية، وأنا بإحسانهم مشمول، وفي سلطانهم مقبول، فلما انتهى إليه الملك، واستوى على جودي جوده الفلك، حفظ العهود، وأحفظ الحسود، وفاء إلى الوفاء، وأبى غير الإباء، في إحياء موات الإنشاء؛ وما أشكر إلا أفضال سيدنا القاضي الأجل الفاضل أبي علي عبد الرحيم بن علي بن الحسن، دام بأنواء فواضله، وأنوار فضائله، حسنى القدر وحسن الزمن، فإنني لما عدت إلى دمشق وجدت جماعةً من الحساد، قد نفخوا بحكم غيبتي في ضرم الفساد، وخيلوا للسلطان أموراً، وجاءوا إفكاً وزوراً، وكاد كيدهم يكيد، وأيدهم في التزيد يزيد، فجاء حق الباطل وزهق باطلهم، ودحضت غواياتهم وغوائلهم، وبين للسلطان افتقاره إلى مثلي، واشتهاره بفضلي، فأنا إلى الآن في حمايته، وعنايته وتربيته، لا أعرف غير الفاضل مفضلاً، ولا أرى بعد الله على سواه معولاً، ولا أظن أن في الوجود، مثله في الفضل والمروءة والكرم والعلم والجود. وإنما ذكرت هذا الفصل في هذا القسم الثالث تنبيهاً على فضل الشام بفضل بني أيوب، المجيرين من الحوادث الكوارث، وكان قصدي لهم في السفر إليه من أكبر البواعث. وأقدم ذكر فضلاء دمشق، فإنها عين البلاد وحدقتها، وجنتها وحديقتها، ولقد قال نور الدين يوماً: ما أطيب دمشق، ولكني مشتغلٌ بالجهاد عن ملاذها، وراحتي في متاعب المملكة في النفاد، وأنا لا أجد راحة نفاذها، فنظمت له في الأبيات بديهةً: لَيْسَ في الدنيا جميعاً ... بلدةٌ مثلُ دِمشقِ ويُسَلِّينَي عنها ... في سبيل اللهِ عِشقي والتُّقى الأَصْلُ ومَنْ يَتْرُ ... كهُ يَشْقى ويُشْقى كم رَشيقٍ شاغلٌ عن ... هـ بسهم الغَزْوِ رَشقي وامْتِشاقُ البَيْض يُغْني ... عنه بالأَقلام مَشْقي شعر العماد في وصف دمشق ومدح ملوكها وقبل أن أشرع في ذكر شعراء الشام فأنا أورد مما قلته في وصف دمشق ومدح ملوكها، ما أنظم في عقود هذه الخريدة وسلوكها. فمن ذلك قصيدةٌ نظمتها حين فارقتها أتشوقها، وما تمت حتى عدت إليها فوصلتها بمدح الملك الناصر، وهي طويلة جداً أولها: أجِيرانَ جَيْرُونَ مالي مُجيرُ ... سِوى عَطفُكم فاعِدلوا أو فَجُورُوا وَمالي سِوى طيفكم زائرٌ ... فلا تمنعوه إذا لمْ تزوروا يَعِزّ عليَّ بأنَّ الفؤاد ... لديْكُم أسيرٌ وَعنكم أَسيرُ وَما كنتُ أَعلُم أَني أَعي ... ش بَعْد التفَرّق، إني صَبورُ ومنها: إلى ناسَ باناس لي صَبْوَةٌ ... لها الوجدُ داعٍ وَذِكْرى مُثيرُ يَزيدُ اشتياقي وينمو كما ... يَزيدُ يزَيدُ وَثَوْرَا يَثُورُ وَمِن بَرَدى بَرْدُ قلبي المَشُوق ... فها أنا مِن حَرِّه مُسْتَجيرُ وَبالمْرَجْ مَرْجُوُّ عَيْشي الذي ... على ذكره العذب عَيْشي مَريرُ نأَى بيَ عنكم عَدُوٌّ لَدودٌ ... وَدَهْرٌ خَؤون وَحظٌّ عَثورُ فَقَدْتكُم ففقدتُ الحياة ... وَيَوْم اللقاء يكون النُّشُورُ أيا راكبَ النِّضْو يُنْضي الرِّكابَ ... تَسيُر وَخطب سُراهُ يَسيرُ يَؤُمُّ دمشقَ وَمِنْ دونِها ... تُجاب سُهولُ الفَلا وَالوُعُورُ وَجِلَّقُ مَقْصِدُه المُسْتَجارُ ... لقد سَعِد القاصِد المُسْتجيرُ إذا ما بَلَغْتَ فبلِّغْهُمُ ... سلاماً تأَرَّجَ منه العبيرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 تطاوَلْ بِسُؤْليَ عند الْقُصَيْر ... فَمِنْ نَيْله اليومَ باعي قَصيرُ وَكنْ لي بريداً بباب البْريد ... فأَنتَ بأخبارِ شوقي خَبيرُ أَعَنْوِنُ كُتبي بشكوى العناءِ ... وَفيهنّ من بثّ شَجْوي سُطُورُ ومنها أذكر المنازل من طريق الرقة إلى دمشق: مَتَى تَجِدُ الرِيَّ ّبالقَرْيَتَيْن ... خَوامِسُ أثَّر فيها الهَجْيرُ وَنحو الجُلْيَجْل أُزْجي المْطِيَّ ... لقد جَلَّ هذا المَرامُ الخَطيرُ تُراني أُنيخ بأَدْنى ضُمَيْرٍ ... مَطايا بَراها الوْجَاَ وَالضمُورُ وَعند القُطَيِّفَةِ المُشْتَهاةِ ... قُطوفٌ بها لِلأمَاني سُفورُ وَمنها بُكُورِيَ نَحْوَ القْصُيَرْ ... وَمُنْيَتُه عُمْرَي ذاكَ البُكُورُ ويا طِيبَ بُشْرايَ من جِلَّقٍ ... إذا جاءَني بالنَّجاحِ البَشيرُ وَيستبشرُ الأصدقاءُ الكرامُ ... هُنالك بي وَتُوَفَّي النُّذُورُ تُرَى بالسلامة يوما يكون ... بباب السلامة مني عُبُورُ وَأَنَّ جَوازِي بباب الصَّغير ... لَعَمْري من العُمْر حَظٌّّ كَبيرُ وما جَنَّةُ الخُلْدْ إلاّ دمشقُ ... وَفي القلب شوقاً إليها سَعيرُ مَيادِينُها الْخُضْرُ فِيحُ الرِّحاب ... وَسَلْساها العَذْب صافٍ نَميرُ وَجامعها الرَّحْبُ وَالقُبَّة الْمُني ... فَة وَالفلك المُستديرُ وَفي قُبَّةِ النَّسر لي سادةٌ ... بهم للمَكارم أُفقٌ مُنيرُ وَالارْزَةُ فالسَّهْمُ فالنَّيْرَبان ... فجنّاتُ مِزَّتِها فالكُفوُر وَبابُ الفْراديس فِرْدَوْسُها ... وَسُكانُّها أحْسَنُ الخَلْق حُورُ كأنّ الجْوَاسقَ مأْهولةً ... بروجٌ تَطَلَّعُ منها البدورُ بِنَيْرَبِها تَتَبّرا الهموم ... بِربُوْتَها يتربّى السُّرورُ وَما غَرَّ في الرَّبْوَة العاشقي ... نَ بالحُسْن إلا الرَّبيبُ الْغَريرُ وعند المُغَارة يَوْمَ الخميس ... أغارَ عَلَى القَلْب منّي مُغيرُ وعند المُنَيْبعِ عَيْنُ الحيَاة ... مَدَى الدَّهْر نابعةٌ ما تَغُورُ بجِسْر ابن شَواشٍ تَمَّ السُّكون ... لنفسي بنفسيَ تلك الْجُسورُ وما أَنسَ لا أَنسَ أُنسَ العُبور ... عَلى جِسر جِسْرين إني جَسورُ وكم بِتُّ أَلْهو بقرب الحبيب ... في بيت لِهْيا وَنام الغَيُورُ فَأَين اغتباطِيَ بالغُوطَتْيِن ... وتلك الليالي وتلك القُصورُ لِمُقْرِي مَقْرى، كقُمْرِيِّها ... غِناءٌ فَصيحٌ وَشْدوٌ جَهيرُ وأَشجارُ سَطْري بَدَتْ كالسُّطو ... ر نمَّقَهُنَّ البَليغُ البَصيرُ وأَينَ تأَمَّلْتَ فلكٌ يَدورُ ... وعَيْنٌ تفورُ وبحرٌ يَمورُ وأَيْنَ نظرْتَ نَسيمٌ يَرِقُّ ... وزْهرٌ يَرُوقُ ورَوضٌ نَضيرُ كأَنَّ كمائمَ نُوَّارِها ... شُنوفٌ تركَّبُ فيها شُذورُ ومثلُ الّلآلي سَقِيطُ النَّدى ... عَلَى كلَّ مَنْثُور نَوْرٍ نَثيرُ مَدارُ الحياةِ حَياها المُدِرُّ ... مَطارُ الثّراءِ ثراها المَطيرُ وَمُوعِدُها رَعْدُها المستطيلُ ... وواعِدُها بَرْقُها المستطيرُ إلامَ القْسَاوَة يا قاسِيُون ... وبين السَّنَا يتجلّى سَنِيرُ لَديك حبيبي ومنك الحُبا ... وعندك حبّي وفيك الحبورُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 فَيَا حَسْرَتا غِبْتُ عن بلدةٍ ... بها حَظِيتْ بالحُظوظِ الحْضورُ وُمْنذ ثَوى نورُ دينِ الإلا ... هِ لم يبق للشّامِ والدّين نورُ وَإِني لأَرجو من الله أَنْ ... يُقَدِّر بعد الأمور الأمورُ وللنّاسِ بالملك النّاصر الصّ ... لاحِ صلاحٌ ونصرٌ وخِيرُ لأجل تَلافيهِ لم يتلَفُوا ... لأجل حيا بِرِّه لم يَبُوروا بفَيْض أَياديه غيثُ النَّجاح ... لأَهلِ الرَّجاءِ سَحوحٌ دَرُورُ مَليكٌ بَجْدواه يَقْوَى الضَّعيفُ ... وَيَثْرَى المُقِلُّ وَيَغْنى الفَقْيرُ أَرَى الصِّدْق في ملكهِ المُسْتقيم ... ومَلُك سِواه ازْوِرارٌ وزُروٌ لِعِزِّ الْوَليّ وَذُلِّ العَدُوّ ... نَوالٌ مُبِرٌّ وبأْسٌ مُبيرُ بِنِعمتِه للعُفاةِ الحُبورُ ... بسَطوته للعُداةِ الثُّبُورُ إذا ما سَطا أَو حَبا واحْتَبى ... فما الْلَّيْثُ؟ مَنْ حاتمٌ؟ ما ثَبيرُ؟ هُو الشمسُ أَفلاكه في البلادِ ... ومَطْلَعُه سَرْجُه والسَّريرُ إيابُ ابْنِ أَيّوبَ نحو الشآمِ ... عَلَى كلِّ ما نرتجيه ظُهورُ بيوُسُفِ مصَرٍ وأَيامِهِ ... تَقَرُّ العُيونُ وَتَشفى الصُّدوُر مَليكٌ يُنادي رجائي نَداهُ ... ومَوْلًى جَدَاه بحمدي جَديرُ ومنها: وكم قد فَلَلْتَ جُموعَ الفرنجِ ... بِحَدِّ اعتزامٍ شَباهُ طَريرُ بضربٍ تَحذَّفُ منهُ الرُّؤوس ... وطَعنٍ تَخسَّفُ منهُ النُّحورُ وغادرتَ غادرهم بالْعَراءِ ... ومن دمِه كُلُّ قَطرٍ غَديرُ بِجُرْدٍ عليْها رجالُ الهِيْاج ... كأنّ صُقوراً عليها صُقُورُ مِن التُّرِك عند دَبابيسها ... صِحاحُ الطُّلى والهْوَادِي كُسورُ سهامُ كَنائها الطّائِرات ... لَهُنَّ قُلوبُ الأعادي وُكورُ وِعنَدهُم مثلُ صَيْد الصِوَّارِ ... إذا حاوَلوا الفْتَحَ صَيْدا وُصورُ بجيشك أَزْعجت جأْشَ العَدُوِّ ... فما نَفَرٌ منهُ إلاّ نَفورُ تركَتْ مَصَارع للمُشركين ... بُطونُ القْشَاعمِ فيها قُبورُ تُزاحِمُ فُرسانَها الضّارِبات ... فتصِدمُ فيها النُّسورَ النُّسُورُ وإِنَّ تَولُّدَ بِكْرِ الفْتُوحِ ... إذا ضُربَتْ بالذُّكورِ الذُّكورُ ومنها: إلَيَّ شَكا الفَضلُ نَقصَ الزَّمانِ ... وهل فاضِلٌ في زماني شَكورُ حَذارك مِنْ سطوة الجْاهلين ... وذُو العلم من كلِّ جهلٍ حَذورُ وهلْ يلِدُ الخْيَر أوْ يسْتَقيمُ ... زَمانٌ عَقيمٌ وَفَضلٌ عَقيرُ شكَتْ بِكْرُ فضْلَي تَعْنيسَها ... فما يجِلُبُ الودَّ كفؤٌ كُفورُ فقلتُ لفضلي أَفاقَ الزَّمانُ ... وَدَرَّ المُرادُ وَدارَ الأَثيرُ وَعاش الرَّجاءُ وماتَ الإِياسُ ... وسُرّ الحِجَا وأَنار الضَّميرُ ووافى المَليكُ الذَّي عَدْلُه ... لِذي الفَضلِ من كلِّ ضَيْمٍ يُجيرُ فلستُ أُباليِ بِعَيْث الذّئاب ... إذا ما انتحى ليَ لَيْثٌ هَصُورُ واقترح علي بعض الأكابر في الدولة النورية أن أعمل قصيدة في دمشق على وزن قصيدة أبي الحسين ابن منير التي أولها: حَيّ الديار على عَلْياء جَيْرونِ فعملت كلمة طويلة، منها: أَهْدَي النَّسيمُ لنا رَيّا الرَّياحينِ ... أمْ طِيبَ أخلاقِ جِيراني بجَيْرُونِ هَبَّتْ لنا نفَحةٌ من جِلَّقٍ سَحَراً ... باحَتْ بسرٍّ من الفردَوْسِ مَكنونِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 وَفاحَ بالعَرْفِ من أَرجائِها أرَجٌ ... نال المسرَّةَ منهُ كلُّ مَحْزونِ هبَّتْ تُنبّهُ أطرافي وَتبعثها ... مني وتوجبُ للتوهيم تهويني وَما دَرَيْنا أدارَيّا لنا أَرَجَتْ ... أم دارَ في دارِنا عَطّارُ دارِينِ نَسْري وَنْرتاحِ لاسْتنشاءِ رائحةٍ ... هَبَّضتْ سُحيراً عَلَى وَرْدٍ وَنْسرينِ وَرُبَّ هَمٍّ فقَدْناهُ برَبْوَتها ... وَرُبَّ قَلبٍ أصَبْناه بقُلْبينِ لولا جَسارَةُ قلبي ما ثبتُّ عَلَى الْعُ ... بور من طربٍ في جِسْر جِسرينِ دِمشقُ عنديّ لا تُحْصى فضائلُها ... عَدّاً وَحَصْراً وَيُحْصى رَمْلُ يَبْرِينِ وَما أَرى بلدةً أُخرَى تُماثلُها ... في الحسن من مصرَ حتَّى مُنتَهَى الصِّينِ في كلّ قُطرٍ بها وَكْرٌ لِمُنكَسِرٍ ... وَمَسْكَنٌ غيرُ مَمْلولٍ لِمِسكينِ وإنّ مَن باع كلَّ العمر مقتنعاً ... بساعةٍ في ذَراها غيرُ مَغْبونِ لما عَلَتْ همتي صَيَّرْتُها وطني ... وَليس يقنعُ غَيْرُ الدُّونِ بِالدُّونِ يُصْيبكَ مَيطْوُرهُا طَوْراً وََنيْرَبُها ... طوراً وتُوليك إحساناً بتَحْسينِ ترى جَواسِقَها في الجوّ شاهقةً ... كأَنهنَّ قُصُورٌ للسّلاطينِ دارُ النعيم وَمِنْ أَدنى محاسِنها ... ثمارُ تَمُّوزَ في أيامِ كانونِ نعيمُها غيرُ مَمْنُوعٍ لساكنها ... كالْخُلْدِ، وَالْمَنُّ فيها غَيْرُ ممنونِ كأنما هي للأبرار قدْ فتحتْ ... من الفراديس أبواب البساتينِ أزهارُها أبداً في الرَّوْض مُونِقَةً ... فحُسْنُ نَيْسان مَوْصولٌ بِتِشرينِ وَأَيُّ عَيْنٍ إِليها غَيْرُ ناظرةٍ ... وَأَيُّ قلبٍ عليها غَيْرُ مَفْتونِ أَهْوَى مقرِّي بمقَرْيَ والرياضُ بها ... للزَّهْرِ ما بين تَفْويف وتزيينِ هاجتْ بَلابلَ قلبي المُستهامِ بها ... بلابلُ الأَيْك غَنَّتْنا بتَلْحينِ تَتْلو بَسَطْرى أَساطير الغرام على ... صوامِعِ الدَّوْح وُرْقٌ كالرّهابينِ قُمْرِيُّها مُقريءٌ يشدو بنغمته ... آياً تَعَلَّمها من غَيْرِ تَلقينِ وَللحمائم في الأسحار أَدْعِيَةٌ ... مرفوعةٌ شُفِعَتْ منّا بتأْمينِ خافَتْ عَلى الرَّوْض من عَيْنٍ مُطَوَّقَةٍ ... أَضْحَتْ تُعوِّذُه منها بِياسينِ من كلّ مُطْرب صَوْتٍ غير مُضْطربٍ ... وَكُلّ مُعرب لفظٍ غير مَلْحونِ وَللبساتين أَنهارٌ جَداولُها ... تَسْتَنُّ في الْجَرْي أمثالَ الثَّعابينِ وَقد تراءَتْ بها الأَشجار تحسِبُها ... صُفوفَ خَيْلٍ صُفونٍ في الميادينِ كأَنما شَجر الرُّمّانِ ذو نَشَبٍ ... مُثْرٍ دنانيرُه مِلْءُ الهَماييِن وللِخْلاف لإِظهار الخْلاِف على ... أَتْرابه وَرَقٌ شِبْهُ السَّكاكينِ وكلُّ غُصْنٍ بِعَصْف الرِّيحِ مُمْتَحَنٌ ... كأنه عاقلٌ مُبْلىً بِمَجنونِ لِلأُقْحُوانِ ثُغورُ الغانياتِ كما ... للنَّرْجِسِ الغَضِّ ألحاظ المْهَا الْعِينِ وللبَنَفْسَج خالٌ للعِذار إذا ... ما الخْطَ بالخالِ حاكى عَطْفَةَ النُّونِ والْوَرْدُ خَدُّ من التَّوْريد في خَجَلٍ ... والغُصْنُ قَدٌّ تَثَنِّيِه من اللّينِ وللنسيمِ وَلوعٌ بالغَدير فما ... يَزالُ ما بين تَفْريكٍ وَتَغْضينِ والماءُ من نَكْبَةِ النكباءِ في زَرَدٍ ... مُضاعَفِ السَّرْدِ ضافي النَّسْجَ مَوْضُونِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 لكلّ جاريةٍ في كلّ ساقِيةٍ ... عَلَى الْتِواءِ بها إسْراعُ تِنِّينِ إنّ القلوبَ وَأَلحاظُ الحسِان بها ... لَكالْعصافير في أَيدي الشَّواهينِ من كل خاطِفةٍ للقلْب مُخْطَفَةٍ ... بالخْصَرْ تَمْطُلُني دَيْني وَتَلْوِيني من شادِنٍ مُتَثَنّي العِطْفِ مُعتدِل القَ ... وامُ مُستعذَب الأخلاق مَوْزونِ يا صاحِبَيَّ أَفيقا فالزَّمانُ صَحَا ... وَلانَ من بعد تَشْديدٍ وَتَخْشينِ حَرَسْتُما في حَرَسْتا العَيْشَ من شَظَفٍ ... دُوما بدُوما عَلَى حِفْظِ القَوانينِ دارُ المقامة قد أَضْحتْ مَحَّلكُما ... ونِلْتُما العِزَّ في أَمْنٍ من الْهُونِ وبالْمُنَيْبِع رَبْعٌ لِلْوَليِّ غَدا ... تأْسيسُ بُنيانِه العالي عَلَى الدِّينِ ولما وصلت إلى دمشق في مبدأ قصدي البلاد الشامية صادفت صلاح الدين وقد عاد مع عمه من الديار المصرية وهو إذ ذاك أميرٌ، وورد فضله نميرٌ فنظمت فيه مدحةٌ طويلة أولها: كيف قُلْتُمْ بمُقْلَتَيْهِ فُتُورُ ... واْرها بِلا فُتورٍ تَجُورُ لَو بَصُرْتُمْ بلحْظِهِ كَيفَ يَسْبى ... قُلتُمُ ذاكَ كاسِرٌ لا كَسيرُ مُوتِرٌ قَوْشَ حاجَبْيِه لِإصْما ... ءِ فُؤادي كأَنَّه مَوْتورُ لا تَسَلْني عن اللِّحاظِ فعَقَلْي ... طافحٌ منْ عقُارِهنَّ عَقيرُ كَيف يَصْحو من سُكْره مُستهامٌ ... مَزجَتْ كأْسَهُ العُيونُ الحْوُرُ أَوْرَثَتْهُ سَقامَها الْحَدَقُ النَّجْ ... لُ وَأهَدْتَ لَهُ النَّحولَ الخْصُورُ ما تَصيدُ الأُسْدَ الْخَوادِرَ إلَّا ... ظَبَياتٌ كِناسُهنَّ الخْدُورُ كُلُّ غُصْنِيَّةِ المُوَشَّحِ هَيْفا ... ءَ عَلَى البَدرِ جَيْبُها مَزْرُورُ وبِنَفسي مُعَنْبَرُ الصُّدْغِ والعا ... رِض فوْقَ العَبيرِ منهُ العَبيرُ مِقْطَعٌ لِلقُلوبِ يَقطَعُ فيها ... بِاقْتدارٍ وخَطُّهُ المَنشورُ مُنْثَني العِطْفِ مُنْتَشي الطَّرْفِ فِي في ... هِ الحْمُيَاَّ وطرْفُهُ المَخْمُورُ ومنها: أَلأَمْرِ المَلامِ يَنْقادُ قَلْبي ... وعَليه من الغَرامِ أَميرُ قُلْ لِحُلْوٍ حالٍ منَ الحُسْنِ في هج ... رِكَ حالي حَزْنٌ وَعَيْشي مَريرُ بِفؤادي حَلَلْتَ والنّارُ فيهِ ... فَبِهِ مِنْكَ جَنَّةٌ وَسَعيرُ نارُ قَلْبِي لِضَيْفِ طَيْفِكَ تَبدُو ... كُلَّ لَيلٍ فَيَهْتَدِي وَيَزُورُ وَأرَى الطَّيْفَ ليسَ يَشفي غَليلي ... كَيفَ يَشْفى الغَليلَ زَوْرٌ زُوْرُ ومنها: ما مُدامٌ يدُيرُها ثَمِلُ العْطِ ... فِ بِنَفْسي كُؤوسُها والْمُديرُ بِنْتُ كَرْمٍ تُجْلى عَلَى ابنِ كَريمٍ ... وَجْهُه مِنْ شُعاعها مُسْتَنيرُ مِنْ سَنا كأْسها الْمَعاصيمُ والأَنْ ... فُسُ فيها أَساوِرٌ وسُرورُ ولها في الكؤوس في حالة الز ... ج حباب وفي النفوس حبور وكأَنّ الحْبَابَ في الكأْس منها ... شَرَرٌ فوقَ نارِه مُسْتطيرُ طابَ للشّاربين منها الهوا ... ءانَِ فَلَذَّ المْمَدودُ والْمَقْصورُ مِنْ يَدَيْ ساحِر اللّواحظ قلبي ... بِهواهُ مُسْتَهْتَرٌ مَسْحُورُ لِلْحُمَيّا في فِيه طَعْمٌ وفي عَيْ ... نَيْه سُكْرٌ وَفوْقَ خَدَّيْه نُورُ من سجايا الصَّلاحِ أبْهى وهذا ... مَثَلٌ دون قَدْرِه مَذْكورُ ومنها: ما رِياضٌ بِنَوْرِها زاهِراتٌ ... غَرَّدتْ في غُصُونهنَّ الطَّيورُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 كلُّ غُصنٍ عليهِ مِنْ خِلَعِ النَّوْ ... رِ رِداءٌ ضافٍ ووَشْيٌ حَبيرُ ورُقْهُا في منابر الأَيْك منها ... واعِظاتٌ من شأْنها التَّذْكيرُ وكأَنّ الرَّوْضَ الأنيقَ كتابٌ ... وكأَنّ الأشجارَ فيه سُطورُ أَشبَهَ الشِّرْبُ فيه شارِبَ ألْمَى ... أَخْضر النَّبْت والرًّضابُ نَميرُ وكأَنّ الهْزَارَ راهبُ دَيْرٍ ... وبأَلحانه تَحَلَّى الزَّبورُ وكأَنّ الْقُمْرِيَّ مُقْرِيٌ آيٍ ... قد صَفا منه صَوْتُه والضَّميرُ كمعاني مَدْحِيكَ حُسْناً ومِنْ أَيْ ... نَ يُبارِي الْبحرَ الخْضِمَّ الغَديرُ ومنها في المدح: أَنتَ مَنْ لم يَزَلْ يَحِنُّ إليْهِ ... وَهو في الْمَهِد سَرْجُه والسَّريرُ فَضُله في يَدِ الزمان سِوارٌ ... مِثْلما رَايُه عَلَى المُلْك سُورُ كرَمٌ سابِغٌ وجُودٌ عَميمٌ ... ونَدّى سائِغٌ وفضلٌ غَزيُر راحةٌ أَمْ سَحابةٌ، وَبَنانٌ ... أمْ غَمامٌ وأنملٌ أمْ بُحورُ كلَّ يومٍ إلى عِداكَ من الدَّهْ ... ر عَداكَ المَخْوف والْمَحْذُورُ وتَولَّى وَلِيَّكَ الطّالِعُ السَّعْ ... دُ وعادَى عَدوَّك التَّقديرُ سار بالمكرُمات ذِكُرُك في الدُّنْي ... يا وإنّ الْيَسيرَ منها يَسيرُ لِلْحَيا والحْياء ماءان في كفِّ ... كَ والْوجِه سائِلٌ وعَصيرُ لَقدِ اسْتُعْذِبَتْ لدَيْكَ الْمَرارا ... تُ كما اسْتُسْهِلتْ إليْكَ الْوُعورُ وأَرى خاطِري لِمَدْحك إلفاً ... وإنّما يأْلَفُ الخْطيرَ الخطيرُ بِعقُودٍ مِنْ دُرِّ نَظْمِيَ في الْمَ ... دْح تحَلَّى بها الْعُلى لا النُّحورُ وَلَكَ المأْثُراتُ في الشَّرْق والْمَغْ ... رب يُرْوى حديثُها المأْثورُ ومنها أهنيه بالعود من مصر إلى والده نجم الدين أيوب رحمه الله: عادَ مِنْ مصرَ يُوسُفٌ وَإلى يَعْقو ... بَ بالتهنِئات جاء الْبشيرُ عادَ منها بالْحمدِ والحْمدُ لِلَّ ... هِ تعَالَى فإنه المْشْكورُ فِلأَيّوبَ من إيابِ صلاح الدّ ... ين يومٌ به تُوَفَّى النُّذورُ وكذا إذْ قَمْيصُ يُوسفَ لاقى ... وَجْهَ يَعْقوبَ عادَ وهْوَ بَصير ومنها: وَلَكَمْ أَرْجَفَ الأعادي فقُلْنا ... ما لما تَذْكُرونه تَأْثيرُ وَلَجَأْنا إلى الإلِه دُعاءً ... فَلِوَجْهِ الدُّعاءِ منهُ سُفُورُ وَعلِمنا أنّ البعيدَ قريبُ ... عنده والعسيرَ سَهْلٌ يَسيرُ وَرقَبْنا كالْعِيدِ عَوْدَكَ فالْيَوْ ... مَ بِه لِلأَنام عِيدٌ كبيرُ مثلَما يَرْقُب الشَّفاء سَقيمٌ ... أَو كما يَرْتَجى الثَّراءَ فَقيرُ ومنها أذكر أن القصد كان له من بغداد، وأنني جعلته الملاذ، وأشكو دمشق ولصوصها، وأصف سريرتي في ولائه وخلوصها: أَنا سَيَّرْتُ طالِعَ العَزْم مني ... وَإلى قَصِدكَ انتهى التَّسْييرُ وَببغدادَ قيلَ إن دِمَشْقاً ... ما بِها للرَّجا سِواك مُجيرُ ما يَرى ناظِرٌ نَظيرَكَ فيها ... فَهْيَ رَوْضٌ بما تَجودُ نَضيرُ لِمَطاوي الإقبال عندَكَ نَشْرٌ ... وَلِمَيْتِ الآمال منك نُشُورُ وَمن النّائباتِ أنّي مُقيمٌ ... بدِمشقٍ ولِلْمَقُام شُهورُ لا خَليلٌ يقولُ هذا نَزيلٌُ ... لا أَميرٌ يقول هذا سَميرُ لَسْتُ أَلقَى سوَى وُجوهٍ وَأَيْدٍ ... وَقُلوبٍ كأنَّهنَّ صُخورُ سُرِقَتْ كِسُوْتَي وَبان من الكلِّ ... تَوانٍ في رَدِّها وقُصورُ وَاعتِذارُ الجْميِع أنّ الذي تَمَّ ... قضاءٌ في لَوْحِه مَسْطورُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 وَلَعَمْري هذا صحيحٌ كما قا ... لوا ولكنْ قلبي به مكسورُ ولو سطرت مدائحي فيه ثقلت الخريدة بحليها، ولم تنهض بأعباء وشيها. وسنورد في القسم الرابع طرفاً من طرفها، ونعلي لحصن حسنه شرفاً من شرفها، ففي أهمال ذلك تقصيرٌ وتفريط، وفي تقريظ إحسانه للحسناء تقريط. ولما سار إلى مصر وملكها، وأدار على مراده فلكها، أقمت ونور الدين رحمه الله لي مرتبط، وبي مغبوطٌ مغتبط، وأنا عطارد دواوينه، وعطار دارينه، ومشتري آفاقه، ومشتري وفاقه، وبرجيس برج سعده، وإدريس درس حمده وكيوان إيوانه، وسلمان بيته وديوانه، وأمين ملكه، وثمين سلكه، وخازن سره، ووازن أمره، وناظر ممالكه، وحاظر مسالكه، لا يراعي إلا بيراعي، ولا يذرع إلا بذراعي، ولا يقلع إلا في شراعي، ولا يتبع إلا أوضاعي لا سيما في المكاتبات، فإنه جعل الأجوبة إلى رايي، ورضي في مباديها وغاياتها بإنشائي فإذا تأملها وأعارها منه طرفا، لم يغير منها حرفا، وقال: رميت عن قوسي، وأعربت عما في نفسي، فلله درك ودرك، وكيف وافق سري سرك، ويقول: مافي خطٌ فلان خطأ ولا في قوله خطل، وما في داخله دخل، ولا في خلاله خلل، وكان يحلني في الذرى، ويجلني على الورى، ويكبرني عن الشعر، ويشتري مدحي بغالي السعر، فقيدني بهذا الإحسان عن اتباع الملك الناصر إلى مصر، فوفيت له إلى أن وفى مدته، وأبلى جدته، وأنجز الله من دار النعيم عدته، وكنت كموسى لازم شعيباً عليهما السلام حتى قضى الأجل ثماني حجج، ثم سار في أوضح نهجٍ بأضوإ حجج. ومما قلته في نور الدين رحمه الله أنني في مبدإ وصولي إلى جنابه، تعذر لقائي له لشدة حجابه، فكتبت إليه: ما أَعْلَمُ والحظُّ عَزيزُ الدَّرَكِ ... لِمْ أُحْرَمُ تَقبيلَ يَمينِ المَلِكِ يا مَنْ بمُرادِه مَدارُ الفَلَكِ ... أَبْشِرْ بوقوع شاكرٍ في الشَّرَك وسألني قدس الله روحه إن أعمل على لسانه دوبيتيات في الغزو والجهاد، فقلت: أَقْسَمْتُ سِوى الجْهادِ مالي أَرَبُ ... والرّاحةُ في سِواهُ عِندي تَعَبُ إلاّ بالجْدّّ لا يُنالُ الطَّلَبُ ... والعيشُ بلا جِدّ جهادٍ لَعِبُ وقلت في المعنى: لا راحةَ في الْعَيْش سِوى أَن أَغْزُو ... سَيْفي طَرَباً إلى الطُّلى يَهْتَزُ في ذُلِّ ذوي الكُفْر يكونُ الْعِزُّ ... والقُدرةُ في غيرِ جهادٍ عَجْزُ وقلت في المعنى على لسانه: أَذْلَلْتُ ذَوِي الشِّرْكِ يِعزِّ الْعَزْمِ ... والكُفْر بهزِّ صارمي في عَزْمِ شَيّدْتُ بِنُيَ المْلُك بأَمِري الجْزَمْ ... والنَّصْر رَأَيْتُهُ قرينَ الحزمِ وقلت أيضاً: لِلْغَزْوِ نَشاطي وَإليه طَرَبي ... مالي في العيشِ غَيْرَه من أَرَبِ بالْجِدِّ وَبالجْهادِ نُجْحُ الطَّلَبِ ... والرَّاحَةُ مُسْتَوْدَعةٌ في التَّعب وقلت فيه بعد التباسي بديوانه، واستئناسي بإحسانه، من كلمةٍ: بالْمَلِكِ العادلِ مَحْمودِ ... أَنْجَزتِ الأيّامُ مَوْعودي أَسْكَنني الإِقبالُ في ظِلِّه ... وَعاد حَظِّي مُورِقَ الْعودِ مَنْ لم يَكنْ في ظِلِّهِ ساكناً ... فإِنه ليس بِمَسْعودِ وَكيف لا يَسْعَدُ عَبدٌ له ... أَقامَ بينَ الْعَدْل والجْودِ سَفائنُ الآمالِ من جُودِه ... قد اسْتَوَتْ مِنّا عَلَى الْجُودي آلاؤُه الْبِيضُ بِلأَلائها ... تُشْرِقُ في لَيْلاتِنا السُّودِ عَزْمَتُهُ مَشهورةٌ في الْوَرى ... وَسَيْفُه ليس بِمَغْمُودِ وَثَلْمُ ثَغْرِ الكفرِ عاداتُهُ ... لا لَثْمُ ثَغْرِ الغادَةِ الرُّودِ تَثْني مَثاني الذِّكر عِطْفَيْهِ لا ... لحنُ الْمَثاني والأغاريد وَفي مَطا الْجُرْدِ له راحةٌ ... تُنْسي وِصالَ الخْرُدَّ الْغِيدِ غَدَوْتَ لِلْإسلام رُكْناً وكم ... رُكْنِ ضلالٍ بِكَ مَهدودِ وَذُلّ لأَواءِ بَنِي الشِّرْك في ... لواءِ نَصرٍ لك مَعْقودِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 شَيَّدتَ بالشّام بِناءَ الهْدُى ... عَزْماً وَحَزْماً أيَّ تَشْييدِ لَوْلاك لم تَعْلُ بأَطرافِه ... راياتُ إِيمانٍ وتوحيدِ فلم تَدَعْ في أَرضه كافراً ... أَوْ مُلْحداً ليس بمَلحودِ وَلم تُغادِرْ منهمُ سَيِّداً ... يَغِدُرُ إلا طُعْمَةَ السِّيدِ وَلم تَزَلْ تُرْدي صنادِيدَهم ... بجُندِكَ الغُرِّ الصَّناديدِ ومنها: يا مُغْزِياً شَمْلَ العِدى واللُّهى ... في جَمعِه الحْمدَ بِتَبْديدِ أَجَدْتُ لما جُدْتَ لي فاغْتَدَى ... بِمُقْتضَى جُودِك تَجْويدي هُنِّي بكَ العْيِدُ وَقَوْلُ الْورَى ... هُنِّيتَ نورَ الدين بالْعيدِ ومما قلته بالرها، هائيةٌ موسومةٌ بها، في مدحه أولها: أَدْرَكتَ من كلِّ المعالي المُشْتَهى ... وَبَلَغْتَ مِنْ نَيْل الأماني المُنْتَهى وهي طويلة جليلة، والهاء في روي أبياتها أصيلة. ووصلت إلى الموصل فسام قطب الدين صاحبها، أخو نور الدين، كل شاعر هناك أن يعمل على وزنها ورويها، فما لحقوا غبارها، ولا كشفوا أسرارها. وحدثت بالشام زلزلةٌ عامةً بكرة يوم الاثنين ثاني عشر شوال سنة خمسٍ وستين وخمسمائة عم بلاؤها البلاد وساوى تلاعها الوهاد، فمدحته بكلمةٍ أولها: هَلْ لعاني الهْوى مِنَ الأسْرِ فادِ ... أوْ لِساري لَيْلِ الصَّبابِة هادِ قَوِيَ الشَّوْقُ فاسْتقادَ دُمُوعي ... وَوَهى الصِّبْرُ فاسْتقال فؤادي جَنِّبُوني خَطْبَ الْبِعاد فسَهْلٌ ... كلُّ خَطْب سِوَى النَّوَى والبعادِ كنتُ في غَفلةٍ من البَيْنِ حتى ... صاح يومَ الأَثيلِ بالبَيْن حادِ نابَ عنهمْ غَداةَ بانوا بقلبي ... رائحٌ من لواعج الوَجْد غادِ أيُّها الصّادِرون ريّاً عن الْوِرْ ... دِ أما تَنْقَعون غُلَّةَ صادِ لم يكن طَيْفُكُمْ يَضِنُّ بِوَصْلي ... لو سَمحتُمْ لنِاظري بالرُّقاد قد حَلَلْتُمِ مِنْ مُهْجَتي في السُّوَيْدا ... ءِ وَمِنْ مُقْلَتي مَحَلَّ السَّوادِ وَبَخِلْتُمْ من الْوِصالِ بإِسعا ... في أما كنتُمُ مِنَ الأجْوادِ وبَعَثْتُمْ نَسيمَكُمْ يتلَقّا ... ني فعادَ النَّسيمُ مِنْ عُوّادي أَبقاءً بعدَ الأحبَّة يا قَلْ ... بي ما هِذِه شُرُوطُ الْوِدادِ ذابَ قَلْبي وسال في الدَّمعِ لمّا ... دامَ مِنْ نارِ وَجْدِه في اتِّقادِ ما الدّموعُ التي تُحَدِّرُها الأَشْ ... واقُ إلاَّ فَتائتُ الأَكبادِ أَيْنَ أَحبابيَ الكرامُ سَقى اللَّهُ عُهودَ ... الأحباب صَوْبَ الْعِهادِ حَبَّذا ساكنوا فؤادي وعَهْدي ... بِهِمْ يَسْكُنون سَفْحَ الْوادي أَتمنَّى في الشّامِ أهْلي ببغَدْا ... دَ وأَيْنَ الشّآمُ مِنْ بَغْدادِ ما اعْتِياضي عن حُبِّهمْ يَعْلَمُ اللَّهُ ... تَعالى إلاّ بحُبِّ الْجهادِ واشْتغالي بِخدْمَةِ المَلِكِ العادِ ... لِ محمودٍ الكَريمِ الجْوَادِ أنا منهُ عَلَى سَريرٍ سُرُوري ... راتع العَيْش في مَرادِ مُرادي قَيَّدتنْي منه بالشّآمِ منه الأيادي ... والأيادي للحُرِّ كالأَقْيادِ قد وَرَدْتُ البَحرَ الخِضَمَّ وَخَلَّفْ ... تُ مُلوكَ الدّنْيا به كالثِّمادِ هُو نِعْمَ الْمَلاذُ من نائب الدَّهْ ... رِ وَنِعْمَ المَعاذُ عِنْدَ المَعادِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 الَغْزير الإِفضالِ وَالفَضْلِ والنا ... ئلِ والْعِلمِ والتُّقى والسَّدادِ باذلٌ في مَصالح الدّينِ طَوْعاً ... ما حَواهُ مِنْ طارفٍ وَتِلادِ وَتَراهُ صَعْبَ الْمَقالَة في الشرّ ... وَلكنْ في الخير سَهْل القِيادِ جَلَّ رُزْءُ الفِرْنْج فاسْتَبدلوا مْن ... هـ بِلُبْس الحْديدِ لُبْسَ الحْدِادِ فَرَّقَ الرُّعبَ منهُ في أَنْفُس الكُفّ ... ارِ بَيْنَ الأرواحِ والأجسادِ سَطوةٌ زَلْزلتْ بسُكّانها الأرْ ... ضَ وَهَدَّتْ قواعد الأطوادِ أَخَذَتْهُمْ بالحقِّ رَجْفةُ بأْسٍ ... تَركتْهُمْ صَرْعى صُروفِ العَوادي آيةٌ آثَرَتْ ذَوي الشِّرْك بالهُلْ ... كِ وَأَِهلِ الإيمانِ بالإرشادِ ومنها: أَنْتَ قُطْبُ الدُّنيا وَأَصحابُك الغُرُّ ... مَقام الأَبدالِ والأوتادِ لم يَجِدْ عندَك النِّفاقُ نَفاقاً ... فَلِسُوق الفَساد سُوءُ الْكَسادِ والْعَنُودُ الكَنُود ذو الغِشِّ غَشّا ... هُ رِداءَ الرَّدى عَناءُ الْعِنادِ ومنها معنى ابتدعته في الزلزلة غريب: وَبِحَقٍّ أُصيبتِ الأَرْضُ لمّا ... مَكَّنَتْ من مَقامِ أهْل الفسادِ عَلِمتْ أنّها جَنَتْ فَعَراها ... حَذَراً من سُطاك شِبْهُ ارْتِعادِ وقصد الموصل بعد موت أخيه قطب الدين مودود وأضافها إلى مملكته ثم سلمها إلى ابن أخيه سيف الدين غازي وعاد عنها منصوراً محبوراً إلى ولايته، فقلت ونحن في العود قد خيمنا على حلب، وفزنا بكل طلب، خامس عشر رجب، سنة ستٍ وستين: الْحَمدُ لِلِه فُزْنا ... وَللمَطالبِ حُزْنا حُزْنا السُّرورَ وَمات الحَ ... سُود غَماً وَحُزْنا وَعاد سَهلاً من الأمْ ... رِ كلُّ ما كانَ حَزْنا وَأَذْعَنَتْ وَاستقادتْ ... مُنًى لنا قد نَشَزْنا مَواعِدُ الله في كلّ ... سُؤْلِ نَفْسٍ يَجَزْنا إنّ الأعاديَ ذَلّوا ... بنَصْرِنا وَعزَزْنا كم ظَهْرِ شِرْكٍ قَصَمْنا ... وَعْطْفِ عِزٍّ هَزَزْنا وَجيشِ باغٍ هَزمْنا ... وَرأْسِ عاتٍ هَمَزْنا وَفُرْصَةٍ للأَماني ... مع النَّجاحِ انْتَهَزْنا وَكم مراكزِ ملكٍ ... فيها الرِّماحَ رَكَزْنا وَكم عَدّوٍ سَلبنا ... هُ ملكَه وَابْتَزَزْنا نِلْنا الذي قد رَجَوْنا ... بِالْحَوْطِ ممّا احترَزْنا وَلم يُجزْ من أُمورِ الدُّ ... نْيا سِوى ما أَجَزْنا ببأْسِ محمودٍ المَلْ ... ك لِلْخطوب بَرَزْنا وَبَيْنَ صَرْفِ الْعَوادي ... وَبيْننا قد حَجَزْنا لِلّه جَمُّ أَيادٍ ... عن شُكرها قد عَجزنا بكلِّ كنْزٍ سَمَحْنا ... والحمدُ مما كَنَزْنا إنّا لَأَصْفى وَأجَدْى ... في الخير وِرْداً وَمُزْنا ما ساجَلَ الناسُ إلاّ ... فُتْنا مَداهُمْ وَجُزْنا لنا خلائِقُ غُرٌّ ... عَلَى الوفاءِ غُرزْنا نُزِّهْن عن كلِّ سوءٍ ... وَبالْخَنا ما غُمْزنا نَضيقُ بالحال ذَرْعاً ... وَنُوسِعُ الْعِرْضَ خَزْنا وَلم نَدعْ للأَعادي ... في مَوْقِفِ الفَخْرِ وَزْنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 وخرج عظيم الفرنج في غرة ربيع الأول سنة ثمان وستين لقصد حوران في خيله ورجله، وبات ِبقريةٍ يقال لها سمسكين، وسار للقائه نور الدين، وكنت معه، فلما عرفوا رحلوا راجعين، ونزلوا بالفوار، ثم توجهوا إلى السواد لائذين بالفرار، فقال لي نور الدين: أما تصف ما نحن فيه بقصيدةٍ، فارتجلت عند النزول بالمخيم مدحةً مشتملةً على وصف الحال، وسميت فيها كل من كان حاضراً من الرجال، الأكابر الأبطال، وسأورد منها قطعةً، وأذكر من معاني أبياتها لمعةً، وأولها: عُقِدَتْ بِنَصِركَ رايَةُ الإْيمانِ ... وَبَدَتْ لِعَصرِكَ آيَةُ الإحْسانِ يا غالِبَ الغُلْبِش المُلوكِ وَصائِدَ الصِّ ... يدِ اللُّيوثِ، وَفارِسَ الفُرْسانِ يا سالِبَ التِّيجانِ من أَرْبابِها ... حُزْتَ الْفَخارَ على ذَوِي التّيجانِ مَحْمودٌ المْحَمْودُ ما بَيْنَ الْوَرى ... في كُلِّ إقْليمٍ بِكُلِّ لِسانِ يا واحِداً في الْفَضْلِ غَيْرَ مُشارَكٍ ... أَقْسَمْتُ مالَكَ في البْسَيطَةِ ثانِ أَحْلَى أَمانِيكَ الجْهادُ وإنَّهُ ... لَكَ مُؤْذِنٌ أَبَداً بِكُلِّ أمانِ كَمْ بِكْرِ فَتْحٍ وَلَّدَتْه ظُبَاكَ مِنْ ... حَرْبٍ لِقَمْعِ المُشْرِكينَ عَوانِ كَمْ وَقْعَةٍ لَكَ في الْفِرَنْج حَديثُها ... قَدْ سارَ في الآفاقِ، والْبُلْدانِ كَمْ مُصْعَبٍ عَسِرِ الْمَقَادةِ قُدْتَهُ ... نَحْوَ الرَّدى بِخَزائم الخْذُلانِ قَمَّصْتَ قَوْمَصَهُمْ رِداءً من رَدىً ... وَقَرَنْتَ رَأسَ بِرَنْسِهمْ بِسِنانِ وَمَلَكْتَ رِقَّ مُلوكِهمْ وَتَرَكْتَهُمْ ... بالْذُُّلِّ في الأقَيْاد والأسْجان وَجَعَلْتَ في أَعْناقِهمْ أَغْلالَهُمْ ... وَسَحْبَتهْم هوْناً على الأَذْقانِ إذْ في السَّوابِغِ تُحْطَمُ السُّمْرُ القْنَا ... والْبيضُ تُخْضَبُ بالنَّجيعِ الْقاني وعَلى غِناءِ الْمَشْرَفِيَةِ في الطُّلَى ... والْهامِ رَقْصُ عَوامِلِ المُرَّانِ وَكأَنَّ بَيْنَ النَّقْعِ لَمْعَ حَديدها ... نارٌ تَأَلَّقُ مِنْ خِلالِ دُخانِ غَطَّى العَجاجُ بِهِ نُجومَ سَمائِهِ ... لِتَنُوبَ عَنها أنْجُمُ الخْرِصانِ ومنها: يا خَيْبَةَ الإفْرَنْجِ حينَ تَجَمَّعوا ... في حَيْرَةٍ وأَتَوا إلى حَوْرانِ جاؤوا وَظَنُّهُمُ يُعَجِّلُ رِبْحَهم ... فأَعَدْتَهُمْ بالِخْزَي والْخُسْرانِ وَظُنونُهُمْ وَقُلوبُهُمْ قد أَيْقَنَتْ ... لِلرُّعْبِ بالإِخْفاقِ والْخَفَقانِ وَجَلَوْتَ نورَ الدِّينِ ظُلْمَةَ كُفْرهم ... لمّا صَدَعْتَ بِواضِحِ الْبُرهِانِ وَهَزمَتْهَمُ بالْرَّأْي قبلَ لقائِهمْ ... والرّأْيُ قَبْلَ شَجاعَةِ الشُّجْعانِ راحوا فباتوا تَحْتَ كل مَذَلَّةٍ ... وَضَرَبْتَ مِنهْم فَوْقَ كلِّ بَنانِ ما في النَّصارى الْغُتْمِ إلاّ مَنْ لَهُ ... في الصُّلْبِ، بانَ الكَسْرُ وَالصُّلْبانِ وَلَّوْا وَقَلْبُ شُجاعِهِمْ في صَدْرهِ ... كالسَّيْفِ يُرْعِدُ في يَمينِ جَبانِ فَارُوا مِنَ الفَوَّارِ عِنْدَ فِرارِهِمْ ... بِالْفَوْرِ وَامْتَدّوا إلَى المْدّانِ وَأَزارها الشَّلاّلَةَ الشَّلُّ الّذي ... أَهْدى لَهُمْ شَلَلاً إلَى الأَيْمانِ وَلّى وُجُوهَهُمُ سَوادُ وُجُوهِهْم ... نَحْوَ السَّوادِ، وَآذَنُوا بِهَوانِ ومنها: حَمَلَتْ عَلَيهِمْ مِنْ جُنودِكَ فِتْيَةٌ ... لمْ تَدْرِ غَيْرَ حَمِيَّةِ الفِتْيانِ زَخَرَتْ بهمْ أمْواجُ آجكَ في الوَغى ... غُزُراً وَطَمَّ بِهمْ عُبابُ طُمانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 وَتَذَمَّموا مِنْ حَرِّ بَأْسِ مُحَمَّدٍ ... وَتَهَيَّبوا الْحَمَلاتِ مِنْ عُثمانِ وَبِسَيْفِ جُرْديكَ الْمُجَرَّدِ غُودِرُوا ... بِدِماء أَهْلِ الْنَدْرِ في غُدْرانِ وَبِعَيْنِ دَوْلَتِكَ الّذي قَدَّمْتَهُ ... فُقِئَتْ عُيونُ الْكُفْرِ وَالْكُفْرانِ وَاليارُقِيَّةُ أَرَّقَتْهُمْ في الدُّجى ... بِسِهامِ كُلِّ حَنِيَّةٍ مِرْنانِ أَجْفانُهُمْ نَفَتِ الغِرارَ كما انتْفَى ... ماضي الْغِرارِ بِهِمْ مِنَ الأجْفانِ بَعَلُوا مُعْسكَرَ بَعْلَبَكَّ وأَبْصَروا ... مِنْ جُنْدِ بُصْرى بَرْكَ كُلِّ جِرانِ وَكأَنَّما الأَكْرادُ فَوْقَ جِيادِها ... عِقْبانُ مُلْحَمَةٍ عَلَى عِقْبانِ وَلَطاَلما مَهَرَتْ عَلَى نَصْرِ الهُدى ... أَنْصارُكَ الأَبْطالُ مِنْ مهْرانِ لم يَتْرُكِ الأَتْراكُ فيهِمْ غايَةً ... بِالْفَتْكِ وَالْإْرهاقِ وَالإثْخانِ مِنْ كُلِّ رامٍ سَهْمُهُ مِنْ وَهْمِهِ ... أَهْدى إلى إنْسانِ عَيْنِ الرّاني وَلَكَ المْمَاليكُ الّذينَ بهِمْ عَنَتْ ... أَمْلاكُ مِصْرَ لِمالِكي بَغْدانِ هُمْ كَالصَّحابَةِ يَوْمَ بَدْرٍ حاوَلوا ... نَصْرَ النَّبِيِّ وَنُبْتُ عَنْ حُسّانِ الحائِزُونَ مِنَ السِّباقِ خِصالَهُ ... في مُلْتَقى حَرْبٍ وفي مَيْدانِ مِنْ كُلِّ مَبْسوطِ الْيَدَيْنِ يَمينُهُ ... ما تَمْتَلي إلاَّ بِقَبْضِ يَمانِ ومنها في تسمية من حضر من الفرنج الملاعين خذلهم الله تعالى: لَمّا رَأَى الدّاويُّ رَاوُنْداءَهُ ... وَلّى بِطاعونٍ بِغَيْرِ طِعانِ طَلَبَ الفَريرِيُّ الْفِرارَ بِطلْبِهِ ... مُتَباعِداً مِنْ هُلْكِهِ المُتَداني وَالهَنْفَري مُذْ هانَ فَرَّ مُؤَمِّلاً ... لِسَلامَةٍ، وَالهْوُن شَأْنُ الشّاني بارُوا فَبارُونِيُّهُمْ بِفِنائِهِ ... مُودٍ، وَسِيرُهُمُ أَسيرٌ عانِ ومنها وصف ما اعتمده نور الدين في ذلك اليوم، حيث أنفذ سريةً إلى بلاد القوم، فأحرقت ونهبت، وكبست أهلها وكسبت؛ وذلك من طريق مخاضة الأحزان: أَخْلَوْا بِلادَهُمُ فَحَلَّ بِأَهْلِها ... مِنْكَ الغَداةَ طَوارِقُ الْحِدثانِ أَنْهَضْتَ حينَ خَلَتْ إليها عَسْكَراً ... أَخْلى قَواعِدَها منَ البْنُيْانِ وَشَغَلْتَ جَأْشَهُمُ بِجَيْشٍ هَدَّهُمْ ... فَجَنى ثِمارَ النُّصْرَةِ الجَيْشانِ وَمَلَأتَ بالنّيرانِ أَرْبُعَ أَهْلِها ... فَتَعَجَّلوا الإحْراقَ بالنّيرانِ عادُوا حينَ رَأَوْا خَرابَ بُيوتِهِمْ ... يَئِسُوا مِنَ الأوْطارِ وَالأوْطانِ باؤوا بِأَحْزانٍ وخاضوا هَوْلهَا ... مِمَّا لَقُوا بِمَخاضَةِ الأحْزانِ وَقَدِ اسْتَفادَ المُشْرِكونَ تَعازيِاً ... وَالْمُسِلُمونَ تَهادِياً بِتَهانِ لمَ تَلْقَهُمْ ثِقَةً بِقُوَّةٍ شَوْكَةٍ ... لكِنْ وَثِقْتَ بِنُصْرَةِ الرَّحْمانِ ومنها: دانَتْ لَكَ الدُّنْيا فَقاصيها إذا ... حَقَّقْتَهُ لِنَفاذِ أَمْرِكَ دانِ فَمِنَ العِراقِ إلى الشَّامِ إلى ذرى ... مِصْرٍ إلى قُوصٍ إلى أُسْوانِ لَم تَلْهُ عَنْ باقي الْبِلادِ وَإَّنما ... أَلْهاكَ فَرْضُ الغَزْوِ عَنْ هَمَذانِ إعْزازُكَ الدّينَ الحْنَيفَ وَحِزْبَهُ ... قَدْ خَصَّ أَهْلَ الشِّركْ بالْإهْوانِ أَذْعَنْتَ لِلهِ المْهُيَمْنِ إذْ عَنَتْ ... لَكَ أَوْجُهُ الأَمْلاكِ بِالإْذعانِ أَنْتَ الّذي دُونَ المُلوكِ وَجَدْتُهُ ... مَلْآنَ مِنْ عُرْفٍ ومِنْ عِرْفانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 عُمْرانُ عَدْلِكَ لِلْبِلادِ كأَنَّما ... قَدْ عاشَ في أيَّاِمَك العُمَرانِ خَلَّدْتَ في الآفاقِ ذِكْراً باقِياً ... أَبَدَ الزَّمانِ بِبِذْلِ مالٍ فانِ وسار إلى مرعش، وفارق دمشق في أطيب فصولها أيام المشمش فكتبت إلى بعض أصدقائي بها: كِتابي فَدَيْتُكَ منْ مَرْعَشِ ... وخَوْفُ نَوائِبِها مُرْعِشي وما مَرَّ في طُرْقِها مُبْصِرٌ ... صَحيح النَّواظِرِ إلاّ عَشِي وَما حَلَّض في أَرْضِها آمِنٌ ... مِنَ الضَّيْمِ وَالضُّرِّ إلاّ خَشِي تُرَنِّحُني نَشَواتُ الْغَرامِ ... كأَنَّيَ مِنْ كَأْسِهِ مُنْتَشِ أَبِيتُ وَنارُ الأَسى مَضْجَعي ... وَأُمْسي وَجَمْرُ الغَضا مَفْرَشي وَأُصْبِحُ وَلْهانَ وَجْداً بِكُمْ ... كَأَنَّي مُصابٌ عَلَيْهِ غُشِي أُسِرُّ وَأُعْلِنُ بَرْحَ الْجَوى ... فَقَلْبي يُسِرُّ وَدَمْعي يَشِي وَلَيْلِيَ مِنْ طُولِ من أُشْتَكي ... كَلَيْلِ اللَّديغِ منَ الْحِرْبِشِ وَلْيسَ سِوى ذِكْرِكُمْ مُؤْنِسي ... وَلكِنَّ بُعْدَكُمُ مُوحِشي بَذَلْتُ لَكُمْ مُهْجَتي رشْوَةً ... فحاكِمُ حُبِّكُمُ مُرْتَشِ وكَيْفَ إلى وَصْلِكُمْ أَهْتَدي ... وَخَطْبُ فِرِاقِكُمُ مُدْهِشي وَكَيْفَ يَلَذُّ الْكَرى مُغْرَمٌ ... بِنارِ الْغَرامِ حَشاهُ حُشِي بِمَرْعَشَ أَبْغي وَبَلُّوطِها ... مُضاهاةَ جِلِّقَ والْمِشْمِشِ فسارت هذه القصيدة؛ بل القطعة، ونمي إليه ثمر حديثها، فاستنشدنيها ونحن سائرون في وادٍ كثير الأشجار أثيثها، فقلت له: إنما قلتها في مدحك شكراً لصحبتك لا شكاية، وأنشدتها مع بيتين بدهت بهما في الحال وهما: وَبالْمَلِكِ الْعادِلِ اسْتَأْنَسَتْ ... نَجاحاً مُني كُلِّ مُسْتَوِحشِ وَمافي الأَنامِ كَريمٌ سِواهُ ... فَإنْ كُنْتَ تُنْكِرُني فَتِّشِ وعرفته أن وحشة الغربة بخدمته أنسٌ، وأن الفصحاء عن شكر معاليه خرسٌ. ولما شرع في ختان ولده الملك الصالح، ووافق ذلك عيد الفطر سنة تسعٍ وستين، وتوفي بعده بعشرة أيام، قلت فيه من قصيدةٍ أولها: عِيدانِ: فِطْرٌ وَطُهْرُ ... فَتْحٌ قَريبٌ، وَنَصْرُ ذا مَوْسِمٌ لِلأَماني ... بِالنُّجْحِ مُوفٍ مُبرُّ وَذاكَ مَوْسِمٌ نُعْمى ... أَخْلافُها تسْتدرُّ هذا مِنَ الصَّوْمِ فِطْرٌ ... وَذاكَ لِلصَّوْمِ تَدْرُ نَجْلٌ عَلى الطُّهْرِ نامٍ ... زَكا لَهُ مِنْكَ نَجْرُ وَكيْفَ يُعْمَلُ لِلطّا ... هِرِ المُطَهَّرِ طُهْرُ؟ ونطقت فيه بما كان في سر القدر حيث قلت: هذا الْخِتانُ خِتامٌ ... بِمِسْكِهِ طابَ نَشرُ وَذا الطّهورُ ظُهورٌ ... عَلَى الزَّمانِ وَأَمْرُ فالولد بكرة الخميس ختن، والوالد ضحوة الخميس الآخر دفن، وبالخير لهذا ابتدي ولذاك ختم، لكن بنيان ملكه هد وهدم. وكتبت عقيب وفاته إلى أصدقائي ببغداد قصيدةً أتشوقهم فيها، وأرثي نور الدين، أولها: تُرى يَجْتَمِعُ الشَّمْلُ؟ ... تُرى يَتَّفِقُ الوَصْلُ؟ تُرى الْعَيْش الّذي مَرَّ ... مَريراً بَعْدَهُمْ يَحْلو؟ تُرى مِنْ شاغِلِ الهَمِّ ... فُؤادي الْمُبْتَلي يَخْلو؟ بَغْيري شُغِلوا عَنّي ... وَعِنْدي بِهِمْ شُغْلُ وَكانوا لا يَمَلُّونَ ... فما باُلُهمُ مَلُّوا؟ وَراموا سَلْوَةَ الْمُغْرَ ... مِ والْمُغْرَمُ لا يَسْلُو إذا ما كُنْتُ لا أَسْلُوا ... فماذا يَنْفَعُ الْعَذْلُ؟ أَلاَ يا قَلْبُ إنَّ الْعِزَّ ... في شَرْعِ الهَوى ذُلُّ وَما دَلَّ عَلَى ذلكَ ... إلاّ ذلِكَ الدَّلُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 أَلاَ يا حَبَّذا بِالِجْزْ ... عِ ذاكَ الْبانُ وَالأَثْلُ ومنها: إذِ الأَبْكارُ لِلآْصا ... لِ في بَهْجَتِها تَتْلُو وَأَنْفاسُ صَبا الأَسْح ... ارِ بِالصِّحَّةِ تَعْتَلُّ هَديلُ الوُرْقِ في مُورِ ... قَةٍ أَفْنانُها هُدْلُ وَأَكْنافُ الصِّبا خُضْرٌ ... وَأفْناءُ الْحِمى خُضْلُ وَلِلَّذّاتِ أَبْوابٌ ... وَما مِنْ دُونِها قُفْلُ تُرى يَرْجِعُ مِنْ طِيبِ ... زَماني ذلِكَ الفَصْلُ تَغَرَّبْتُ فَلا دارٌ ... ولا جارٌ ولا أَهْلُ أَخِلّايَ بِبَغدادَ ... وَهَلْ لي غَيْركمْ خِلُّ؟ سَقى مَغْناكُمُ دَمْعي ... إذا ما احْتَبَسَ الْوَبْلُ عَذابي فيكُمُ عَذْبٌ ... وقَتْلي لَكُمُ حِلُّ وَهذا الدَّمْعُ قَدْ أَعْرَ ... بَ عَنْ شَوْقَيِ فَاسْتَمَلُوا وَهذا الدَّيْنُ قَدْ حَلَّ ... فَلِمْ ذا الوَعْدُ وَالمَطْلُ أَعِيذُوني مِنَ الهَجْرِ ... فَهِجْرانُكُمُ قَتْلُ هَبُوا لي لِقُيْةَ مِنْكُمْ ... فَبِالْأَرْواحِ ما تَغْلو وإنْ شِئْتُمْ عَلى قَلْبي ... وَسُلْوانِكُمُ دُلُّوا ومنها في مرثية نور الدين: لِفَقْدِ الْمَلِكِ الْعادِ ... لِ يَبْكي الْمُلْكُ وَالْعَدْلُ وَقدْ أَظْلَمتِ الآفا ... قُ لا شَمْسٌ وَلا ظِلٌّ وَلمّا غابَ نُورُ الدّي ... نِ عَنّا أَظْلَمَ الْحَفْلُ وَزالَ الْخَصْبُ وَالْخَيْرُ ... وَزادَ الشَّرُّ وَالْمَحْلُ وَماتَ الْبَأْسُ وَالْجودُ ... وَعاشَ الْيَأْسُ وَالْبُخْلُ وَعَزَّ النَّقْصُ لَمّا ها ... نِ أَهْلُ الْفَضْلِ وَالْفَضْلُ وَهَلْ يَنْفُقُ ذُو الْعِلْمِ ... إذا ما نَفَقَ الْجَهْلُ وَإنَّ الْجِدَّ لا يُسْمِ ... نُ حَتّى يُسْمِنَ الْهَزْلُ وَمُذْ فارَقَ أَهْلَ الْخَي ... رِ ما ضُمَّ لَهُ شَمْلُ وَكادَ الدّينُ يَنْحَطُّ ... وَكادَ الْكُفْرُ أَنْ يَعْلو ومنها أصف تضعضع حالي بعده، وأذكر لفقده عدم سروري وفقده: عَلَى قَلْبي مِنَ الأيّا ... مِ في خِفَّتِها ثِقْلُ وَقَدْ حَطَّ عَلَى الْكُرْهِ ... مِنَ الْهَمِّ بِهِ رَحْلُ وَمنْ صُلْتُ بِهِ في الدَّهْ ... رِ أَضْحى وَهْوَ لي صِلُّ تَوَلّى دُونِيَ الدُّونُ ... وأَبْقى الْعِزَّ لي عَزْلُ وَأَوْلى بي مِنَ الِحْلَي ... ةِ ما بَيْنَهُمُ الْعَطْلُ وَماذا يَنْفَع الأَعْيُ ... نَ مِنْ بَعْدِ الْعَمى كُحْلُ ثم أردت أن أستدرك، وأداري الملك، فقلت: وَلوْلا الْمَلِكُ الصَّالِ ... حُ ما شَدُّو وَلا حَلُّوا وَلَمّا أَنْ زَكا النَّجْرُ ... زَكا في الْكَرَمِ النَّجْلُ وجاءَ الْفَرْعُ بِالْمَقْصو ... دِ لَمّا ذَهَبَ الأَصْلُ وَجُودُ الْبَعْضِ كَالْكُلِّ ... إذا ما فُقِدَ الْكُلُّ وَلَيْثُ الْغابِ إنْ غابَ ... حَمى مَوْضِعَهُ الشِّبْلُ وَما كانَ لِنُورِ الدِّي ... نِ لَوْلا نَجْلُهُ مِثْلُ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ ... إذا ضاقَتْ بِيَ السُّبْلُ وَعَلَّقْتُ بِحَبْلِ اللّ ... هِ كَفّي فَهُوَ الْحَبْلُ ولي في مرثيته قصيدةٌ أخرى طويلةٌ تقارب مائةً وعشرة أبياتٍ أولها: الدِّينُ في ظُلَمٍ لِغَيْبَةِ نُورِهِ ... وَالدَّهْرُ في غُمَمٍ لِفَقْدِ أَميرِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 وفي إيرادها تطويلٌ، ومالي على الإطالة تعويلٌ، وحيث عرفت حق إنعامه. قضيت قروضه، وأديت فروضه، بتخليد ذكره، وتجويد شكره، والتنبيه على قدره، والتنويه بأمره، فما أجزيه بغير الدعاء، وإثباته في أحياء الأموات السعداء الأحياء، وما وجدت بعده من أصحابه إلا من سعى في محو آثاره، وقابل معروفه بجحده وإنكاره، وتلاعبوا بملكه بعد هلكه، وتواثبوا على تركته بعد تركه، وكان قصده، رحمه الله، إعزاز الإسلام وإذلال الكفر، فعملوا بالضد، وانفرد كل واحدٍ برأيه المستبد، وطرت من بينهم بخافية الخوف من أهوال أهوائهم، وحيث لم ينجع طبي في مرضهم تركتهم بأدوائهم، وأقمت بالموصل ثلاثة أشهرٍ ملازماً للبيت أنتظر فرجاً، وأرتقب لقصد العراق منهجا، وكتبت إلى الوزير جلال الدين ابن جمال الدين من جملة ما كتبت إليه: مَوْلايَ ضَجِرْتُ من لُزوم الْبَيْتِ ... كَالْمَيْتِ وما أَوْحَشَ بَيْتَ الْمَيْتِ لا تَلْفِتُ من حَظّي لِيتاً لَيْتنْي ... هَلْ يَمْلأُ قِنْديلي يوماً زَيْتي حتى ورد الخبر بوصول الملك الناصر إلى دمشق ونزوله بالكسوة، وحلوله من الملك في الذروة، فكتبت إلى جلال الدين: قدْ صَحَّ أَنَّ صلاحَ الدِّينِ في الكُسْوه ... ومِنْ سُطاه رِجالُ الرَّوْعِ كالنِسُّوَه وَلي بِمَنْ أَمَّهُ في جِلَّقٍ أُسْوَه ... والآن يَرْفُل عاري الَحظِّ في كُسْوَه ثم سرت وسريت، وإلى منتهى الأمل انتهيت، وأقبل الإقبال وأدبر الإدبار، وانتعش العثار، واستوحش الأغمار وكبت العدو، وكتب السمو والحمد لله على البرء من ذلك السقم، والتبرؤ من تلك الأمم، والسلامة من العلل، والاستقامة بعد الميل، والتحلي بعد العطل، والتملي بنجح الأمل، فليخسإ الحاسد وليخسر، وليحسر عن تبابه وليتحسر، وليبشر المولى بما تسنى من الولاية وتيسر. وقد رجعنا الآن إلى ما هو من شرط الكتاب من ذكر محاسن ذوي الآداب وأنا وإن اجتهدت في جمعهم، فما قضيت واجب حقهم، فإن من أهل العصر جماعةً درجوا فدرسوا، وضاع بعدهم من فضلهم ما حرسوا، فمنهم من لم أعرفه، فلا لوم علي إذا لم أصفه، ومنهم من عرفته لكن لم يقع إليَّ من كلامه شيء، ولم يصلني من وارف ظل فضله فيءٌ، ومنهم من لم أتلقف شعره إلا من عامي لم يهتد إلى الأحسن، ولم يقتد إلا بالأرك الأهون، ومنهم من سارت له أبياتٌ، ديوانه ينبو عنها، وإحسانه يستنكف منها، وأنا لقطت حيث سقطت، وانتقيت تارةً وآونةً خلطت، فمن عثرت على ديوانه أوردت أحسنه، ومن سمعت شعره من روايةٍ ذكرت ما حفظه وأتقنه، فأنا في البعض ناقد، وفي البعضٍ ناقل، وللأنس عاقد، وللشارد عاقلٌ، ولكل نصلٍ على ما طبع عليه من فرنده وأثره صاقلٌ، وقد يتفق مع قسٍ في مأدبة الأدب باقلٌ، وربما ذكرت من نظم بيتين وهو عاميٌ لجودة طبعه فيهما، وأذكر بعد المبرز في العلم أمياً فلا يشعر ذلك بتساويهما. وقد خصصت الكتاب بذكر الفضائل والخصائص، ونزهته عما عثرت عليه من الرذائل والنقائص، وأسأل الله تصويب قصدي، وتقريب رشدي. شعراء بني أيوب ولما التزمت ذكر من له فضلٌ، ورياض الأدب به خضرٌ خضلٌ، فلا بد أن أذكر من تعرض للنظم من ملوك بني أيوب، وكشف بسنا خاطره عن أسرار المعاني الغيوب، ومن ألم منهم بتصريع شعرٍ أو ترصيع نظمٍ، فذلك عن نور بصيرةٍ وقوة فهم، فإن قولهم كطولهم غريزي، ولهم في مجالسة الفضلاء في كل علمٍ زينةٌ وزيٌ. الملك الناصر صلاح الدين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 فالملك الناصر صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب، أيد الله بالنصر سلطانه، وأيد بالشكر إحسانه، وإن كان لا يقول الشعر، لكنه ناقدٌ خبيرٌ، ونافذٌ بصيرٌ، بعجبه المعنى المعري، واللفظ السهل الأبي، وهو يحفظ من محاسن العرب ومزاين الأدب؛ وأعاجيب السير، وأساليب العبر؛ وقصائد القدماء، وشوارد الحكماء؛ ما يستشهد فيه لكل حادثٍ وحديثٍ؛ بما هو اللائق، ولا يجري في مجلسه ومأنسه إلا هو من الحكم والكلم الفائق الرائق، يحب الشعر الجيد ويحبوه بشعار جوده، ويكرم الفضل وينادي نداه إلى ناديه أهليه من تهائمه ونجوده، خرقٌ، صدره في الكرم أوسع من خرق فدفد، ولمحه من الحكم أسرع من برقٍ مرعد، ومجده في الأمم أرفع من فرق فرقدٍ؛ وكيف لا يتسم بالفضل من يستمد من ألفاظ الفاضل، ويستضيء برأيه الفاضل، ويعتمد على ركنه الأمنع، ويعتمد بيمنه الأمتع ويصول به على الخطوب المستطيلة فيقصر خطوها ويسطو بقلمه على الأهواء المضلة فيضعف سطوها، وما في بني أيوب من اشتغل بالأدب أو قرأ شيئاً من كلام العرب، لكنهم لمجالسة الأدباء، ومساجلة الألباء، ومذاكرة العلماء، ومكاثرة الحكماء، علموا فعملوا، وأقبلوا وقبلوا، وشملتهم السعادة من الملك الناصر، فنطقوا بكل غريبةٍ وسبقوا بكل رغيبةٍ. وقد أوردت منهم من تولع بالنظم طبعاً فاتفقت له أبياتٌ موزونةٌ، كأنها في السرد مضاعفاتٌ موضونةٌ. فمنهم: الملك الأجل تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب بن شاذي، ابن أخي الملك الناصر صلاح الدين يوسف ذو السيف والقلم، والبأس والكرم، المشور في المشورة أري رايه، المشكور الشهامة في جميع أنحايه، وله العزم الماضي المضي، والخلق الراضي الأبي، يحل مشكلات الخطوب الحوادث بفكرته، ويحيل معضلات الصروف الكوارث بفطنته، ويساجل العظماء، ويجالس العلماء، ويثافن الألباء، وينافث الأدباء، ولكثرة امتزاجه بهم، نظم الشعر طبعاً، ولم يميزه خفضاً ونصباً ورفعاً، فأراد تاج الدين الكندي أن يتقرب إليه بتهذيبه فانتقى منه مئتي بيتٍ على حروف المعجم وترتيبه، وهو شهمٌ شديدٌ، وسهمٌ سديدٌ، وله فهمٌ حديدٌ. طالعت الذي جمعه من شعره التاج أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي البغدادي. وقال في أوله: جمعت من شعر المولى تقي الدين ما عذب لفظه وراق معناه، وأخذ من الجزالة بطرفٍ، وتمسك من الرقة بأهدابٍ، فجرى من القلوب والأذهان، مجرى الدم في الأبدان، يلج الآذان، بلا استئذانٍ؛ هذا على أنه غير معنيٍ بقول الشعر عنايةً شاعر، بل هو فيض القريحة والخاطر، وما أشبهه إلا بسيف الدولة ابن حمدان وابن عمه، أو عضد الدولة ابن بويه وأقاربه، فإن هؤلاء الملوك كانوا على ما خصوا به من علو الشان، وأوتوه من سعة الملك والسلطان، يتفرغون للكتب، ويتشاغلون بالأدب، ويؤثرون مجالسة العلماء، على منادمة الأمراء، ويقولون الأبيات، فيما يعرض لهم من الحالات، ويتفق لهم من التشبيهات. ومثل هذا المعشر كان سبب قوله الشعر، فإنه لما استكثر من مجالسه الفضلاء، واستأثر بمعاشرة الأدباء وصلت إلى سوق رغبته من معادن المحاسن لطائف الطرف، وخدم من جواهر الخواطر بطوائف التحف، أحب أن يكشف لهم قناع الكتمان عن وجه المساهمة في الفضائل المتقرب بها إليه، وينخرط معهم في سلك المشاركة في نتائج القرائح المزلفة لديه، فجرى في هذا المضمار برهةً حلت مجانيها لجانيها، ولذت معانيها لمعانيها، ثم شغلته شؤون العلياء، بما عني به من إصلاح الدهماء، فترفع عن قول الشعر طبعه، ولم ينب عن استعذاب شربه فكره ولا سمعه، ولا كست بحمد الله لديه للفضائل سوقٌ، ولا ازدحمت على غير فنائه للرجاء سوقٌ. وهذه الملح تصلح أن تكون للحمام أطواقاً، وللبزاة الشهب صدوراً، وللطواويس أهلة جلوةٍ، وللظباء الغيد سوالف، وللعذارى الحسان نهوداً، وللحدق الملاح غمزاتٍ. إلى هاهنا من كلام التاج الكندي. وأنا أقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 أي قدرٍ لنهود الخرائد، وعقود الفرائد، مع هذه القلائد والفوائد أين در الأصداف، من غرر الأوصاف؛ وأين نوار الحدائق، من أنوار الأحداق، وأين صدور الشهب من شهب الصدور؛ وأين جلوة الطاووس، من خلوة العروس، وأين مطوق الحمام، من ذوق الغرام، وأين السمك من السماك، وكم بين التوحيد والإشراك. إذا لاحت أدلة الدروج فما أهلة البروج، وإذا طلعت زهر الآداب فما زهر الشعاب، وما ظبي الجفون عند جفون الظباء، ولهى الأغنياء عند نهى الألباء. وأشعار الملوك ملوك الأشعار، وأحرار الفضائل فضائل الأحرار. قد كلل التاج تاج فضله بهذه الجواهر الزواهر، وسجل بإثبات نتائج خاطر هذا الملك الخطير أنه لا خطر لخواطر المعاني بالخواطر. وسنورد ذلك على ترتيب الحروف، والتهذيب المعروف. قافية الهمزة له من قصيدة: دَعْ مُهْجَةَ المُشْتاقِ مَعْ أَهْوائها ... يَا لائمي ما أَنْتَ مِنْ نُصَائِحها منها: مَنْ مُخْبِرٌ عَنّي نَضِيرَةَ أَنَّني ... أَزْجَيْتُ عِيْسَ الشَّوْقِ نَحْوَ لِقائها لِلهِ لَيْلَتُنا وقَدْ طَلَعْت لَنا ... وَضَّاحَةً كالْبَدْرِ بَيْنَ نِسائِها جاءَتْ بِكأْسٍ مِنْ شَهِيِّ رُضابِها ... تُزْري بِلَذَّتِها عَلَى صَهْبائَها ومنها: أَفْنَيْتُ نَفْسي حَسْرَةً وَتَلَدُّداً ... فيمَنْ تَزايَدَ بي أَليمُ جَفائها ومن مديحها: جاءَتْكَ أَرْضُ الْقُدْسِ تَخْطُبُ ناكِحاً ... يَا كُفْأَها مَا الْعُذْرُ عَنْ عَذْارئها زُفَّتْ إلَيْكَ عَرُوسَ خِدْرٍ تُجْتَلى ... مَا بَيْنَ أَعْبُدِها وبَيْنَ إِمائها إيهٍ صَلاحَ الدّينِ خُذْها غادَةً ... بِكراً مُلوكُ الأَرْضِ مِنْ رُقَبائِها كَمْ خاطِبٍ لِجَمالِهَا قَدْ رَدَّهُ ... عَنْ نَيْلِها أَنْ لَيْسَ مِنْ أَكْفائها قافية الباء وله: اِسْقِني راحاً أُريحُ بِها ... مُهْجَتي مِنْ شِدَّةِ التَّعَبِ نَشَأَتْ في حِجْرِ دَسْكَرَةٍ ... وَغَذَتْها دِرَّةُ السُّحُبِ وله: ذَخَرْتُكُمُ لي عُدَّةً عادَ كَيْدُها ... عَلَيَّ فكانَتْ لي أَشَدَّ مُصابِ ظَنَنْتُ بِكُمُ ظَنَّ الْفَتى بِشَبابِهِ ... فَخُنْتُمْ كما خانَ الْحَبيبُ شَبابي وِمنْتُمْ فِمْلُتمْ نَحْوَ غَيْري تَعَمُّداً ... فَحُبُّكُمُ شَهْدٌ يُدافُ بِصابِ أُعاتِبُكُمْ كيْ أشْتَفي بِعِتابِكُمْ ... وماذا عَسى يُجْديِه فَضْلُ عِتابِ وله: يُعاتِبُني قَوْمٌ يَعِزُّ عَلَيْهِمُ ... مَسيرِيَ: ما هذا السُّرى في السَّباسِبِ فَقُلْتُ لَهْمُ: كُفوا فمَا وَكَفَتْ لَكُمْ ... جُفونٌ وَلا ذُقْتُمْ فِراقَ الْحبائِبِ وله: قَدْ فَاز مَنْ أصْبَحَ يَا هذِهِ ... وَذَنْبُهُ وَصْلُكِ يَوْمَ الْحِسابْ كَأَنَّكِ الْجَّنةُ مَنْ حَلَّها ... نالَ أَماناً مِنْ أَليمِ الْعَذابْ وله: قَلْبي وَإنْ عَذَّبُوهُ لَيْسَ يَنْقَلِبُ ... عَنْ حُبِّ قَوْمٍ مَتى ما عَذَّبوا عَذُبُوا راضٍ إذا سَخِطوا دانٍ إذا شَحَطوا ... هُمُ الْمُنى لِيَ إنْ شَطّوا وإنْ قَرُبوا وله: ضَلالٌ لِهذا الدَّهْرِ كمَ زَاد ناقِصاً ... وَكمَ نابَ سَمْعي فيِه لَفْظُ مُؤَنِّبِ وَلا بُدَّ لي مِنْ وَقْفَةٍ عُمَرِيَّةٍ ... بِقَلْبٍ شَديدِ الأسْرِ غَيْرِ مُقَلَّبِ تَرى رَجُلاً لا كالرِّجالِ بِسَيْفِهِ ... يُطَهِّرُ وَجْهُ الأرْضِ مِنْ كلِّ مُذْنِبِ وله: وَلا ذَنْبَ لي إلّا مَحَبَّةُ مِثْلِهِمْ ... ولَوْ أَنْصَفوني لَمْ يَكُنْ حُبّهُمْ ذَنْبي وله: هات اسْقِني قَهْوَةً مُشَعْشَعَةً ... في كَأْسِها ذائِبٌ مِنَ الذَّهَبِ إنْ ناسَبُوها كيَمْا تُجيبَهُمُ ... قالَتْ: سَلُوا آدَماً عَنِ النَّسَبِ قافية التاء وله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 أًسالِمُ دَهْري ما حَيِيْتُ وَإنْ غَدا ... يُحارِبُني في خلَّتي وَأَخِلَّتي قافية الثاء وله: مَنْ لي بِأَسْمَرَ مَحْجوبٍ بِأَسْمَرِهِ ... وفي اللَّواحِظِ مِنْهُ السِّحْرُ مَنْفوثُ اَلحْسُن مَا اشْتُقَّ إلاَّ مِنْ مَحاسِنِهِوَفِعْلُهُ في الْهَوى بِالْقُبْحِ مَبْثوثُ إنْ كانَ يوسُفُ نَصَّ الْحُسْنَ في أَحَدٍ ... فَحُسْنُهُ مِنْهُ دُونَ الْخَلْقِ مَوْرُوثُ وله من قطعةٍ أولها: لِمَنْ دِمَنٌ بأِعْلى الخْيفِ شُعْثُ منها: إذا حَثُّوا مَطاياهُمْ لِبَيْنٍ ... فَسائِقُها لأَحْشائي يَحُثُّ ومنها: قَتيلُكُم وَحَقِّ الْوَصْلِ صالٍ ... جَحيمَ الهَجرِ فابْكُوه وَرَثُّوا جَديداً كان حبلُ الوَصْل دهراً ... فمُذْ هجروا فحَبلُ الصَّبْرِ رَثُّ فُؤادُ الصَّبِّش في الهجرانِ مَيْتٌ ... ووَصْلُكُم له نَشْرٌ وبَعْثُ قافية الجيم له وأنشدنيها لنفسه: إن خاضَ قَلْبٌ بِشَطِّ حُبِّكُمُ ... فإنَّ قلبي الغريقُ في اللُّجَجِ قلبي جَنى قَتْلَه بِغِرَّتِهِ ... فما على قاتِلِيه مِنْ حَرَج قافية الحاء وهَبْتُ جِنايةَ الْفعلِ القَبيحِ ... لِأَجْلِ شَفاعِة الْوَجْهِ الْمَليحِ ومنها: تقول إلى مَتَى بالصَّدِّ تُغْرى ... وهَجْري دائماً يا رُوحَ رُوحي فقلتُ نعم قبيحُك صَدَّ قلبي ... فقلت لمهجتي يا رُوحُ رُوحي وله: قد صاحَ حادي عِيسِهْم بالنَّوَى ... فَصَمَّ سَمْعي حين نادى وصاحْ صافحْتُهُ والقلْبُ في أَسْرِهِ ... فَسَلَّ باللحْظِ عَلَيَّ الصِّفاحْ وقال لي أَنتَ قتيلُ الْهوى ... قلتُ كذا أَثْخَنْتَني بالجراحْ وله من قصيدة: إني لَأَكْتُم لَوْعَتي وأَظنُّه ... يَوْمَ التَّفَرُّقِ بالمَدامع فاضِحى لا تَجْحَمُوا في هَجْركُمْ فلَرُبَّما ... خُشِيَ الِعثارُ عَلَى الْحِصانِ الجامحِ كم عَنَّفُوني في هَواكُمْ مَرَّةً ... فأَبى فؤادي أن يُصيخ لناصحِ ومنها: جَنَحوا إلى سِلْم الوِصالِ أَهِلَّةً ... هالاتُها يومَ الْوَدَاع جَوانِحي ومنها: أَمُبَرِّحي ما شئتَ كن بي فاعِلاً ... مَنْ حَلَّ في قلبي فليس يبارحِ قافية الخاء له: لنا منكُمُ غَدْرٌ ومنّا لكُم وَفا ... وما ذاك إّلا أنَّ حُبِّيَ راسخُ فلا تَحسُبوا أنّي تَغيَّرتُ بَعدَكُمْ ... ولا أَنني عَقْدَ المودَّة فاسخُ فيا لائمي فيمن أُحبُّ جَهالةً ... رُوَيْدَكَ لا أَسلو وفي الأرض نافخ قافية الدال وله: مَلَّكْتُها رِقّي وَقَدْ عَلِمَتْ ... أنّي أَسيرُ الخَدِّ والقَدِّ فَلأَجْلِ ذا مالتْ وما عَطَفَتْ ... يوماً عَلَى المأْسور بالقِدِّ وله من قطعة: أَوَما ترى صَبّاً صَحي ... ح الوِدِّ مُعتَلّ الفؤادِ هَجَرَ الْهُجوع كأنَّ بَيْ ... ن ضُلوعِهِ شَوْكَ القَتادِ وغدا الفؤادُ مُقَسَّماً ... بصُدوده في كلِّ وادِ فارْحَمْ فَديتُكَ مُهجةَ الْع ... بد المُعَذَّبِ بالبِعادِ وله: يا مالِكاً رِقّي بِرِقَّةً خَدِّه ... ومُعَذّبي دُونَ الأنامِ بصدِّه ومُكَذِّبي وأَنا الصَّدوق وهاجري ... وأَنا الْمَشُوق ومانِعي من رِفُده لما تَيَقَّن قلْبُه أَني أَرَى ... فَقْدَ الحياةِ أَلذَّ لي من فَقِده أَشتاقُه وأَنا الجريحُ بِلحظِه ... وأُحبّه وأَنا الطعين بِقَدِّه وله: ما كانَ تَرْكي وصدّي عن زيارتكمْ ... إلاّ لقُبْح فِعالٍ منكُمُ بادِ كَمْ ذا التَّجَنّي وقد جاد الزمانُ بكمْ ... كأَنكمْ ساءَكُمْ وَصْلي وإِسعادي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 أَحْبَبْتُكمْ ثم أَحْبَبْتُهم سِوايَ فيا ... لَله من جائِرٍ في حُكمهِ عادِ وله: يا للَرّجال لقدْ أُصيبَ مُمَنَّعٌ ... يَعْلُو عَلَى الْعَيْوقِ ذُروةُ مَجْدِه إنْ قال أَوْفى بالمقالِ وإنْ سَطَا ... خِلْتَ البريَّةَ كلهَّا من جُنْدِه فاعْجَبْ لمملوكٍ تَمَّلك مالكاً ... وارْثُوا لِمَوْلىً في الهوى مِنْ عَبْدِه خرج من الواحد إلى الجمع في الخطاب وهذا جائز في الشعر. وله: عقَدَ القلوبَ بطَرْفه وَقَوامِهِ ... فأَنا الأَسيرُ بلَحظه وبقَدِّه يا ناظِريه على جَفاه ناظِرا ... عن حافظٍ عَهْداً لِناقِضِ عَهْده وله: أَرى الشَّبيبةَ زارَتْني عَلَى وَجَلٍ ... ثم انثَنَتْ وأَتاني الشَّيْبُ مُتَّئِدا ومنها: كم زارَنا في سَوادِ اللَّيْلِ غانِيةٌ ... وراعَهُنَّ بَياضُ الصُّبْحِ حينَ بَدا وله: كمْ بالْكَثيبِ الْفرْدِ لي مِن أَهْيَفٍ ... بعَذابِ قلبي الْمُسْتَهامِ تَفَرَّدا جَمَعَ الملاحَةَ والْخِيانَةَ في الهوى ... وَجَمْعُت فيِه تَحَرُّقاً وتَجلُّداً وله: إنْ كُنتَ واحِدَ ذا الْجَما ... لِ فإنَّني في الْحُزْنِ واحدْ كُلٌّ يَبوحُ بِحُبِّهِ ... وأَنا كَتومُ الْحُبِّ جاحِدْ وله من قصيدة: حَفِظْنا عُهودَ الغانِياتِ ولم يكنْ ... لهنَّ على طولِ الزَّمانِ عُهودُ ومنها: دِمَشْقُ سَقاكِ اللهُ صَوْبَ غَمامَةٍ ... فما غائِبُ عنها لَدَىَّ رَشيدُ عَسى مُسْعِدٌ لي أَن أَبِيتَ بأَرْضِها ... ألا إنَّني لَوْ صَحَّ لي لَسَعيدُ قافية الذال وله: أُعيذكُمْ مِنْ قَتْلِ مُضْنًي بِكُمْ ... مِنْكُمْ بكُمْ في الحُبِّ قدْ عاذا وله: مَطَرَتْ مدامِعُهُ عَلَى هِجرانِكُمْ ... وَبْلاً وكانت قبلَ ذاكَ رَذَاذا قافية الراء وله: أَخي كمْ أخٍ لي في هواكَ هَجَرْتُهُ ... ولم أَسْتَمِعْ منهُ مَقالَةَ زُورِ فَزُرْ غَيْرَ مُزْوَرٍ ولا مُتَجَنِّبٍ ... لِتُنْقِذَني مِنْ لَوْعَتي وزَفيري تُسامِرُ مَنْ تَهْواهُ نفْسُكَ في الدُّجى ... وذِكْرُكَ مِنْ دُونِ السَّمير سَميري وله: أَأَحْبابَنا شَطَّتْ بنا عنكُمُ الدّارُ ... وقلبي على بُعْدِ المَزارِ لكُمْ جارُ وإنّي عَلى ما تَعْهدونَ مِنَ الهوى ... مُقيمٌ وفائي أَنصَفونّي أَوجاروا وله: ما أَحْسَنَ الصَّبْرَ ولكنِنَّي ... أَنْفَقْتُ فيهِ حاصِلَ الْعُمْرِ فَلْيتَ دَهْري عاد لي مَرَّةً ... بِبَعْضِ عُمْرٍ ضاعَ في الصَّبْرِ وله: أَحْبابَنا والْهوى لا حُلْتُ بَعدَكُمُ ... عنِ الْعُهودِ ولا اسْتَهوانِيَ الْغِيَرُ فإِنْ أَحِلْ بَخِلَتْ كَفِّي بما مَلَكَتْ ... ولا أَجَبْتُ النَّدى إن قيلَ يا عُمَرُ ما أحسن إيقاعه الندى هاهنا من العطاء موضع النداء، من المناداة لأنه لا ينادي إلا للعطاء. وله في توديعٍ من موضعٍ يسمى شبرا: يقولونَ لي إنّا سَنرجِعُ من شَبْرا ... ومَنْ لي بأَنّي لا أُفارقُهمْ شِبرا وكيفَ احتيالي والْهَوى قائدٌ لهم ... فؤاداً أبى أن يَقْتَني بَعْدَهُمْ صَبرا فَرِقّوا لِقلبٍ قلَّبَتْهُ يَدُ النَّوى ... وعَيْنٍ عليكمْ بَعْدَ بُعْدِكُمُ عَبْري وله: يا كاسِياً قلبَ المحِبِّ صَبابةً ... أَقسمتُ أَنّي من سُلُوِّكَ عارِ وله: أَسْمَرٌ كالْرُّمْحِ مُعْتَدِلٌ ... لَيْتَني أَمْسَيْتُ من سَمَرِهْ قَمَرَتْ ألحاظُ مُقْلَتِه ... قلبَ مَنْ يَرْنو إلى قَمَرِهْ عُمَرٌ يشكو الغرامَ به ... وزماناً ضاع مِنْ عُمُرِهْ قافية الزاي وله: يا ناظِرَيْهِ تَرَفَّقا ... ما في الْوَرى لَكُما مُبارِزْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 هَبْكُمْ حَجَزْتُمْ أَن أَرا ... هُ فهل لِقْلبِ الصَّبِّ حاجِزْ قافية السين وله: حبائبَنا شَطَّ الْمزارُ وأَوْحَشَتْ ... دِيارٌ عَهِدْناها بكُنَّ أَوانِسا وحَقَّ الْهَوى لا غَيَّرَتْني يَدُ النَّوى ... ولا كنتُ ثَوبَ الْغَدْرِ فِيكُنَّ لابِسا قافية الشين وله من أبياتٍ: تأَخرتَ عن وقتِ الْعشاء تَعَمُّداً ... وما ذاك إلاّ لانتظارِك للرَّشا قافية الصاد وله: كلَّ يومٍ يَسْعى إلى المُلْكِ قَوْمٌ ... في ازْديادٍ وُعْمُرهمْ في انتقاصِ شَرَكٌ هذه الأماني فيا للَّ ... هِ كم واقعٍ بِغَيْرِ خَلاصِ قافية الضاد وله: أَنا راضٍ بالذي يُرْضِيهِمُ ... لَيْتَ شِعري بِتَلافي هل رَضُوا أَقْرَضُوني زمناً قُرْبَهُمُ ... واسْتعادوا بالنَّوى ما أَقْرَضوا قافية الطاء وله: لَئِنْ بانَ أَحْبابٌ لِقلبيَ أَوْ شَطُّوا ... فإنَّهُمُ في القلب مُذْ رَحَلوا حَطُّوا ومنها: لها روضةٌ من نفسها اجتَمَعتْ بها ... غرائبُ من حُسْنٍ أَحاطَ بها الْمِرْطُ فمِنْ قَدِّها غُصْنٌ ومن رِدْفها نَقاً ... ومن خَدِّها وَرْدٌ ومن ريقها اسْفِنْطُ قافية الظاء وله: أَرَى قوماً حَفِظْتُ لهم عُهوداً ... فَخانوني ولم يَرْعَوْا حِفاظا أَرِقُّ لهم مُحافَظَةً فأَلْقى ... لَهُمْ خُلُقاً وأَفئدةً غِلاظا قافية العين وله: أَما إنَّه لو كان غَيْرك جُرِّدَتْ ... صَوارمٌ بِيضٌ للرؤوسِ قواطِعُ وكنت جديراً بالفَعال وصَوْلة الْمَق ... ال إذا الْتَفَّتْ عليك الْمَجامعُ قافية الغين وله: شَغْلتُ بِحُبِّها قَلْبي إلى أَنْ ... تَمْنَّى القلبُ لو عَرَفَ الْفَراغا وكَم عَذَلوا لِأُقْصِرَ عنْ هَواها ... فلمْ يَجِدوا لِعَذْلِهِمُ مَساغا قافية الفاء وله في الملك الناصر عمه سلطان مصر: خَيْرُ الملوك أَبو المظفَّرِ يُوسُفٌ ... ما مِثْلُ سيرَتهِ الشَّريفةِ تُعْرَفُ لو سُطِّرَتْ سِيَرُ المُلوكِ رأَيتَها ... ديوانَ شعرٍ وهْي فيها مُصْحَفُ مَلكٌ يَبيتُ المُلْكُ يُرْعِدُ خيفَةً ... منهُ وليسَ يَخافُهُ من يُنْصِفُ وله: كلَّما زِدْتُمُ جَفا ... زاد قَلْبي تَلَهُّفا جارَ في يَوْم بَيْنِكُمْ ... حاكمٌ ما تَوَقَّفا ومن أخرى: ما لِرَبْعِ الْوِصالِ بالصَّ ... دِّ والبُعْدِ قد عَفا يا مُنى النَّفْس بالحْطَيِ ... م وبالرُّكْنِ والصَّفا لا تُكَدِّرْ بالْهَجْرِ ما ... كان بالْوَصْلِ قدْ صَفا فاغْتِفرْ ذَنْبِيَ الصَّغي ... رَ فكَمْ قادرٍ عفا وله: آهٍ من قومٍ بُليتُ بِهمْ ... أَدْمُعي من بُعَدْهِم تَكِفُ عَرَفوا أَني أُحِبُّهُمُ ... وبلائي أنَّهم عَرَفوا قافية القاف وله: واللهِ ما اسْتَوجَبْتُ هَجْرَكُمُ ... لكنْ سعيدٌ في الْهوى وَشَقي وله: أَلْم تَرَيَا نَفْسي وقد طَوَّحَتْ بها ... عُقابُ السُّرَى في الْبيدِ من رأْسِ حالِقِ تَسيرُ أَمام اليَعْمَلاتِ كأنّما ... حَكَتْ أَلِفاً قُدّام أَسْطُرِ ما شِقِ تَراها إذا كَلَّتْ تَئِنُّ صَبابةً ... إلى منزلٍ بَيْنَ الِّلوَى والأبارِقِ فقلْتُ لها سِيِري ولا تُظْهري وَجيً ... فَبَيْنَ ضُلوعي لاعِجُ الشَّوْقِ سائقي ومنها: وها أَنتَ قد فارَقتَ مِثْلي جَهالةً ... ستذكُرُ يوماً شِيمتي وخَلائقي قافية الكاف وله: عارضْتُهُ حينَ لاحَ عارِضُهُ ... يُحَيِّرُ الطَّرْفَ لونُه الْمِسْكي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 فيا مُصابي من نَظرَةٍ عَرَضَتْ ... أَفْسَدتُ منها ما كان من نُسْكي وله: نَعِمَ الأَراكُ بما حَوَتْهُ شِفاهُها ... يا لَيْتَني أَصْبَحْتُ عُودَ أَراكِ سَعِدَتْ بكم تلكَ الْبِقاعُ وأَهلُها ... مَنْ لي بأَنْ أحتَلَّها لأَراكِ ومنها: زَعَموا بأَنِك قد كرهتِ وِصالَنا ... حاشاكِ ممّا رَجَّموا حاشاكِ مَنْ لي بأَيّامِ الشَّبيبَةِ والصِّبا ... أَيّامَ كنتُ من الزَّمانِ مُناك قافية اللام وله: وقد زَعَموا أَني سَلوْتُ وشاهِدي ... عَلَى فَرْطِ وَجْدي زَفْرَةٌ وعَويلُ وإنَّ دَواعي الشَّوْقِ وْهي خَفيفةٌ ... عليكمْ لها عِبءٌ عَليَّ ثقيلُ وله: ظَبْيٌ أَذَلَّ إذا أَدَلَّ بحُسْنِهِ ... يا حَبَّذا ذُلّي لِفَرْطِ دَلالِهِ كالْبَدْرِ أَهْيَفَ مَاسَ في بُرْدَيْ صِباً ... لا يَنْثَني عن هَجْرهَ وَمَلالِهِ في وَعْده وَلِحاظِهِ وَقَوامِهِ ... حُسْنٌ يَطيبُ بِه طَويلُ مِطالِهِ أَفْدِي الذي مارُمْتُ حُلْوَ وِصاله ... إلّا أَحال عَلَى خيالِ خَيالِهِ وله في الملك الناصر عمه: أَصلاحَ دينِ اللهِ أَمرُكَ طاعةٌ ... فَمُرِ الزَّمانَ بما تَشاءُ لِيَفْعَلا فكأَنما الدُّنْيا بِبَهْجَة حُسْنها ... تُجْلى عَليَّ إذا رأَيتُكَ مُقْبِلا وله: فلا يَتَعَرَّضْ بالهْوى غَيْرُ مَنْ يَرى ... مَماتَ الهْوى مَحْياً وَوَعْرَ الهوى سَهْلا ولا يَدْنُ إلّا مَنْ إذا فَوْقَ الْهَوى ... إليِه سِهامَ الموتِ يَسْتعِذبُ القَتْلا وله: هَبَّ النَّسيُم مِنَ الْمَطْيورِ آصالا ... فهَاجَ لي مِنْهُ عَرْفُ الْمِسْكِ بِلَبْالا تَأَرَّجَ الْجَوُّ مِنْ أَنْفاسِهِ عَبقاً ... كَأَنَّ نُصْرَةَ جَرَّتْ فيهِ أَذْيالا ومنها: إذا أَدَلَّتْ أَذَلَّتْ قَلْبَ عاشِقِها ... ما أَطْيَبَ الْحُبَّ إدْلالاً وَإذْلالاً تَرَنَّحَتْ بِنَسيمِ الْعَتْبِ مائِلَةً ... لَوْ لَمْ يَكُنْ قَدُّها غُصْناً لمَا مالا قافية الميم وله: لا تَأْخُذيني بِأَقْوالِ الْوُشاةِ فما ... سَعَوا بما قَدْ سَعَوْا إلّا بِسَفْكِ دَمي وله: تَحَمَّلَ الْقَلْبُ يَوْمَ ساروا ... فاقْرَ عَلَى قَلْبِيَ السَّلاما وله: عَدِمْتُكَ مِنْ فُؤادٍ ضَلَّ عَنْهُ ... رَشادٌ كانَ يَأْلَفُهُ قَديما عَدِمْتُ أَحِبَّةً فَعَدِمْتُ عَقلاً ... فَقَدْ أَصْبَحْتُ مَوْجوداً عَديما وله: أَشِيمُ الْبَرْقَ مِنْ عَلَمَيْ زَرُودٍ ... فَتَرْوى مِنْ مَدامِعِيَ الشَّآمُ فَيا لَلّهِ قَلْبٌ مُسْتَهامٌ ... بِنُصَرْةَ لا يُفارِقُهُ الْغَرامُ لهَا مِنْ قَدِّها رُمْحٌ رَشيقٌ ... ومِنْ أَلْحاظِ مُقْلَتها سِهامُ تُرِيكَ الْبَدْرَ إنْ سَفَرَتْ وتَحْكي ... هِلالاً حينَ يَسْتُرُها اللِّثامُ فَلي مِنْ خَدِّها وَرْدٌ جَنِيٌّ ... وَلي مِنْ طِيبِ رِيَقتِها مُدامُ إذا ما رُمْتُ أَنْ أَسْلو هَواها ... تَعَرَّضَ دونَ سَلْوَتيَ الْحِمامُ قافية النون وَكَمْ لي بِالْجُنَيْنَةِ مِنْ رُواقٍ ... وَراوُوقٍ يُريقُ دَمَ الْقَناني ورَيْحانٍ وراحٍ راحَ عَقْلي ... بها في عُقْلَةِ الْغِيدِ الْحِسانِ وله: كَمْ عَذَّبونِيَ ظُلْماً وَهْوَ يَعْذُبُ لي ... إنْ كانَ يُرْضِيهِمُ ظُلْمٌ وَعُدْوانُ وله أيضا: أَأَحْبابَنا إنْ تَسْأَلوا كَيْفَ حالُنا ... فَإنّا عَلَى حِفْظِ الْمَوَدَّةِ ما حُلْنا حَلَلْتُمْ بِقَلْبي والدِّيارُ بَعيدَةٌوَمِلْتُمْ عَنِ الْعَهْدِ الْقَديمِ وَما مِلْنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 وَأَنْساكُمُ حِفْظُ الْعُهودِ مَلاُلُكمْوَعُوِّضْتُمُ بِالْغَيِر عَنَّا وَما اعْتَضْنا وَإنّي لَأَرْعاكُمْ عَلَى بُعْدِ دارِكُمْوَإنْ كانَ مِنْكُمْ أَصْلُ ذَا الْغَدْرِ لامِنَّا وله: إنّي أَغارُ مِنَ النَّس ... يم إذا مَرَرْت عليهِ وَهْنا وأُراعُ منْ مَرِّ النَّس ... يمْ عليكَ يا مَنْ فاقَ حُسْنا باللهِ لِمْ تَنْسى زَما ... ناً كنتَ لي فيهِ وكُنّا لا تَتْرُكَنْ بالهجر حا ... سِدَنا يَرى ما قد تَمَّنى وَتَلافَني قبلَ التَّلا ... فِ فطالما قَدَّمتَ غَبْنا وله. واللهِ لا اعْتَضْتُ يا هذا بهمْ بَدَلاً ... ولا رَضِيتُ لِطَرْفي بَعدَهُمْ وَسَنا أَقْسَمتُ بالرُّكْنِ ثم المَشْعَريْنِ وَمَنْ ... رَمى الْجِمارَ ومَنْ نالَ المُنى بِمِنِى لَوْ قيلَ ما لَذَّةُ الدنيا لقُلتُ هُمُ ... أَوْ قيلَ مَنْ هامَ من شوقٍ لقلتُ أَنا باللهِ رفِقاً بقلْبٍ إنْ قسوتَ حَنا ... وإنْ تَجنَّيْتَ أَرْضي أَوْ بَعُدْتَ دَنا وله: ما هَزَّ صَعْدَةَ قَدِّهِ إلّا انْبَرى ... مِنْ طَرْفِه ولِسانِه نَصْلان مَنْ ذا يُناظِرُ ناظِرَيْهِ وقد غَدْا ... مِنْ ناظِرَيْهِ لِخَصمِه خَصمانِ كلٌّ لهُ مِنْ حُبّهِ سَهمٌ وَلي ... من حُبّهِ دُونَ الْوَرى سَهْمانِ السُّكْرُ سُكْرٌ واحدٌ لِمَنِ احْتَسى ... خَمراً ولي من ريقِهِ سُكرانِ وله: حَدِّثاني عَنِ الْحبيبِ حَديثاً ... فيهِ لي راحَةٌ مِنَ الْهِجْرانِ أَوْ دَعاني وَما حَواهُ فُؤادي ... مِنْ حَنينٍ وَذِلَّةٍ وَهَوانِ كُلمَّا رُمْتُ سَلْوَةً عَنْ هَواهُ ... هَيَّجَتْني مَلاعِبٌ وَمَغانِ وله: حَلَفْتُ بما يَحْوي منَ الدِّعْصِ مِرْطُهاوَبالْغُصْنِ غُصْنِ الْقَدِّ مِنْها إذا انْثَنى لقَدْ قَدَّ قَلْبي قَدُّها وَلِحاظُها ... فَلا تَطُلبوها بي فَطَرْفي الّذي جَنى وله: مَطَرَتْ لِلْحُسْنِ فيهْمِ دِيمَةٌ ... أَنْبَتَتْ في كلِّ دِعْصٍ فَنَنَا وله: يَا بائِناً أَبانَ عَنْ ... عَيْني لَذيذَ الْوَسَنِ ويَا مَريضَ المُقَلةِ الْكَ ... حْلاءِ كَمْ تُمْرِضُني ومنها: لَهْفي عَلَى الظَّلْمِ الّّذي ... بِمَنْعِهِ تَظْلِمُني يَجْني عَلَيَّ خَدُّهُ ... بِمَنْعِهِ الوَرْدَ الْجَنِي قافية الواو وله: أَتُراني مِنْ بَعْدِ بُعْدِكَ أَهْوى ... أَهْيَفاً فاتِرَ اللَّواحِظِ أَحْوى لا وَمَنْ سَلَّطَ الْغَرامَ عَلَى قَلْ ... بِ مُحِبّيكَ: لا سَلَوْتُ فَأَهْوى قافية الهاء وله: ما لُمْتُ قَلْبَي إلاّ لَامني فيها ... وقالَ: هَيْهاتَ أُثْني عَنْ تَثَنِّيها خَوْدٌ رَداحٌ يَكادُ اللَّحْظُ يَجْرَحُها ... مِنْ لُطْفِها وَنَسيمُ الرّيحِ يَثْنيها وله على قافية الياء وله: أَأَحْبابَنا! إنَّ الْوُشاةَ إلَيْكُمُ ... سَعَتْ لا سَعَتْ أَقْدامُ مَنْ باتَ واشِيا يَرومُونَ بَتَّ الْحَبِل بَيْني وَبَيْنَكُمْ ... فَلا بُلِّغوا فيما أَرادُوا الأْمانِيا هذا هو السحر الحلال لا كذب، والبحر الزلال الذي عذب، والقهوة المباحة، والروح الذي بقربه الروح والراحة، يضن بديوانه، ترفعاً عن شانه، فالشعراء من خدامه، والفضلاء من فواضله وإنعامه. أخوه: الملك عز الدين أبو سعد فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب بن شاذي ابن أخي الملك الناصر صلاح الدين يوسف ملك مصر، مولده دمشق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 غيث السماح، ليث الكفاح، غوث النجاح، طود الحجا، جود الندى، عود النهى، السديد الآراء، الشديد الإباء، فارس الجلاد، فارس الأجلاد، مطعان الهياج، مطعام المحتاج، عين إنسان الإحسان، وإنسان عين الزمان، معاذ الرجاء، وملاذ الفضلاء، يجل عن نظم الشعر قدره، ويزيد على فخر الأدب فخره، لكنه لكثرة مخالطة أهل الفضل قد خلص من الشوب، خلوص النضار غب الذوب، فما يفوه إلا بغريبةٍ، ولا يحبو إلا برغيبةٍ، ولا ينطف إلا ببديعةٍ، ولا يفهق إلا بصنيعةٍ، ينظم البيت والبيتين، ويرتجل القطعة والقطعتين، لتتم له الفضائل كلها. أنشدني بنفسه بقلعة دمشق، ونحن بين يدي السلطان الملك الناصر في ذي الحجة سنة سبعين: إذا شِئْتَ أَنْ تُعْطي الْأُمورَ حُقوقَهاوَتُوقِعَ حُكْمَ الْعَدْلِ أَحْسَنَ مَوْقِعِةْ فَلا تَصْنَعِ المْعَروفَ مَعَ غَيْرِ أَهْلِهِفَظُلْمُكَ وَضْعُ الشَّيْءِ في غَيْرِ مَوِضِعِهْ هذان البيتان ينبئان عن فضله، وكرم طبعه، فإنه مغرم بإكرام الفاضل ورفعه، مغرى بإهانة الجاهل ووضعه. قلت له: هلا قلت: فلا تضع المعروف في غير أهله، فإني أكره مع وهي ثقيلةٌ يمجها الطبع السليم والخاطر المستقيم؟ فقال: كذلك قلته. وأنشدني بيتين كتبهما بمصر إلى صديقٍ له: عَرَتْني هُمومٌ أَرَّقَتْني لِعُظْمِها ... كما يَأْرَقُ الصَّبُّ الْكَئيبُ مِنَ الْوَجْدِ وَلابُدَّ أَنْ أَدْعو شَقيقاً يُزيلُها ... فإنْ تَسْتَجِبْ يا بْنَ الرَّشيدِ فمِنْ رُشْدي شعره ظرف الظرف، وحسن الحسن، وملح الملاحة، وجادة الإجادة، ومائدة الفائدة، ومأدبة الأدب، وعلم العلم، وحكمة الحكمة، ونور الحدقة، ونور الحديقة. وله يداعب بعض أصدقائه وهو رجاء: رَجاءٌ كانَ قِدْماً مُسْتَهاماً ... بِأَخْبارِ الرَّسولِ وَبالسَّماعِ وَلا يَسْعى لِمَكْرُمَةٍ وَلكِنْ ... تَراهُ إلَى الْمَطاعِمِ خَيْرَ ساعِ وَلا يَرْوي مِن الأَخْبارِ إلّا ... أُجيبُ وَلَوْ دُعِيتُ إلى كُراعِ وله في مثل ذلك: هذا أَبو الْخَيِر قَدْ أَضْحى لَهُ خُلُقٌ ... كَمادِرٍ فَهْوَ لا يَخْلو مِنَ الْعارِ وَلَيْسَ يَرْوي مِنَ الأَشْعارِ قَطُّ سِوى ... قالوا لِأمِّهِمُ: بُولي عَلَى النَّارِ وقال يداعب بعض أصدقائه من ندمائه، وكان يخضب لحيته، فنظم على لسانه: بَكَيْتُ وَمِمَّا زادَني عِنْدَ سَفْرَتي ... مَلامُ الأعادي عَلَى صَبْغِ لِحْيَتي أَمُدُّ لِصَبّاغٍ يُجيدُ خِضابَها ... قَذالاً مَديدأً عَرْضَ شِبْرٍ وَخَمْسَةِ وَما صَبِغْهُا سَهْلٌ عَلَيَّ وإَنَّهُ ... يُقَوَّمُ عِنْدي كلُّ طاقٍ بِصَفْعَةِ وقال: مَنْ قالَ إنَّ رَجاءَ يَصْبغُ ذَقْنَهُ ... تَبّاً لَهُ بَلْ ذاكَ مِنْ خَدَّيْهِ مَا الصِّبْغُ سَوَّدَ عارِضَيْهِ وَإنَّما ... وَجَناتُهُ نَفَضَتْ عَلَى لَحْيَيْهِ وسألني أن أعمل في هذا المعنى، فارتجلت: كانَ عَهْدي بِفُلانٍ شائِباً ... قَدْ فَشَتْ شَيْبَتُه في شارِبَيْهِ وَأَراهُ الْيَوْمَ في صِبْغِ الصِّبا ... لَوْنُهُ الْحالِكُ قَدْ عادَ إلَيْهِ ما أُراهُ خَضَبَ اللِّحْيَةَ بَلْ ... وَجْهُهُ الأَسْوَدُ أَعْدى عارِضَيِه ولي في عز الدين فرخشاه قصائد، بعثني على نظمها فيه كرمه، ودعتني إليه مناقبه وشيمه، فإنني أول ما مدحته بقصيدةٍ مقضيةٍ موسومةٍ باسمه هائيةٍ أولها: جَلَّتْ عَنِ الأَوْصافِ وَالَأْشباهِ ... أَوْصافُ عِزِّ الدّينِ فَرُّخْشاهِ فاهتز لها واعتز، وهش لها وبش، وجاد وزاد، ورادف الرفد، وحالف المجد، واسترق ذخر الود، واسترق حر الحمد، وحفظ القصيدة حفظه للقصد، وصار ينشدها إنشاد المتبجح بها المعتد. وأنا أورد الآن قصيدةً أخرى هائيةٍ، موسومةً بخدمته، خدمته بها وقت وصولي إلى مصر، أتشوق فيها الجماعة بالشام، وأتندم على مفارقتهم، سنة اثنتين وسبعين، وهي: بَيْنٌ أَمَرَّ حَلاوَةَ الْعَيْشِ الشَّهِي ... وَهَوًى أَحالَ غَضارةَ الزَّمَنِ الْبَهِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 وَصَبابَةٌ لا أَسْتَقِلُّ بِشَرْحِها ... عَنْ حَصْرِها حَصَرُ الْبَليغِ الْمِدْرَهِ أَأَحِبَّتي إنْ غِبْتُ عَنْكُمْ فَالْهَوى ... دانٍ لِقَلْبٍ بالْغَرامِ مُوَلَّهِ أُنْهي إلَيْكُمْ أَنَّ صَبْرِيَ مُنْتَأً ... بَلْ مُنْتَهٍ، والشَّوْقُ لَيْسَ بِمُنْتَهِ أَما عُقودُ مَدامِعي فَلَقَدْ وَهَتْ ... وَأَبَتْ عُقودُ الْوُدِّ مِنِّيَ أَنْ تَهي وَلَقدْ دُهِيتُ بِيَنِكم فاشْتَقْتُكُمْ ... يا مَنْ لِمُشْتاقٍ بَبَيْنِكُمُ دُهِي ما زِلْتُ عِنْدَكُمُ بأَرْضى عِيشَةٍ ... وَبقيتُ بَعْدَكُمُ بِعَيْشٍ أَكْرَهِ أَبْدَتْ دُموعيِ مِنْهُ ما لَم أُبْدِهِ ... وَبُدِهْتُ مِنْهُ أَسًى بما لْم أُبْدَهِ أَمّا الْهَوى فَأَنا مُدِلٌّ عِنْدَكُمْ ... عُوفِيتُمُ مِنْهُ بِقَلْبِ مُدَلَّهِ أَرْعى نُجومَ اللَّيْلِ فِيكُمْ ساهِراً ... بِنُجومِ دَمْعٍ أَوْجُها في الأَوْجُهِ خَطْبُ الْفِراقِ شُدِهْتُ مِنْهُ وَإنَّني ... لِلنّائِباتِ أَشَدِّها لْم أُشْدَهِ نَظَري إلَيكُمْ كانَ إثْمِدَ ناظِري ... وَبَقِيتُ أَمْرِي خِلْفَ جَفْنٍ أَمْرَهِ وإَذا أَلَمَّ خَيالُكُمْ مُتَأَوِّباً ... لاقَيْتُه بِتَأَلُّمِ الْمُتَأَوِّهِ في شَوْقِكم أَبَدَ الزَّمانِ تَفَكُّري ... وَبِذِكْرِكُمْ عِندَ الْكِرامِ تَفَكُّهي لوْ قيلَ لي: ما تَشْتَهي مِنْ هذِهِ الدُّ ... نْيا؟ لَقُلْتُ: سِواكُمُ لا أَشْتَهي ما كانَ أَرْفَهَ عِيشَتي وَأَلَذَّها ... مَنْ ذَا الذَّي يَبْقى بِعَيْشٍ أَرْفَهِ وَمِنَ السَّفاهَةِ أَنَّني فارَقْتُكُمْ ... مِنْ أَيْنَ ذُو الْحِلْمِ الَّذي لمْ يَسْفَهِ وَعِقابُ أَيْلَةَ ما يُفارِقُ جِلَّقِاً ... أَحَدٌ إلَيها غَيْرُ غِرٍّ أَبْلَهِ حَلَبَتْ غُروبَ الشَّأْنِ مِنّي غُرْبَةٌ ... في بَلْدَةٍ شَأْني بها لمْ يَنْبُهِ ما لي وِمِصْرَ وَلِلْمطامِعِ إنَّما ... مَلَكَتْ قِيادي حَيْثُ لمْ أَتَنزَّهِ لا تَنْهَني يا عاذِلي فَأَنا الذَّي ... تَبِعَ الْهَوى وَأَتى بما عَنْهُ نُهي قَدْ قُلْتُ لِلْحادي وَقَدْ نادَيْتُهُ ... في مَهْمَهٍ: أَقْصِرْ وَصَلْتَ مَهٍ مَهِ حَتَّامَ جَذْبُكَ لِلزِّمامِ فَأَرْخِهِ ... فَلَقَدْ أَنَخْتَ إلى ذَرى فَرُّخْشَهِ قَدْ لُذْتَ بالْمُتَطَوِّلِ الْمُتَفَضِّلِ الْمُتَكَرِّمِ الْمُتَلَحِّمِ الْمتَنَبِّهِ نُجْحُ الرَّجاءِ جَوابُ قَصْدي بابَهُ ... مَهْما هَمَمْتُ لَهُ بِجَوْبِ الْمَهْمَهِ مَلكٌ يُجيبُ خِطابَ كلِّ مُؤَمِّلٍ ... وَيُجيرُ مِنْ عَضِّ الْخُطوبِ الْعُضَّهِ مَنْ لمْ يُجِبْ بِسِوى نَعَمْ سُؤَّالَهُ ... وَلِمُعْتَفيهِ بِلا وَلَنْ لمْ يَجْبَهِ مُتَكَرِّمٌ بالطَّبْعِ لا مُتَكَرِّهٌ ... شَتّانَ بَيْنَ تَكَرُّمٍ وَتَكَرُّهِ بِيَدَيْهِ نُجْحُ الْمُرْتَجيى وَإلَيْهِ قَصْدُ الْمُلْتَجى وَلَدَيْهِ رُشْدُ الْأَتْيَهِ إِحْسانُ ذي مَجْدٍ وَهِمَّهُ مُحْسِنٍ ... مُجْدٍ وَتَقْوى عابِدٍ مُتَأَلِّهِ ما بارِقٌ ذُو عارِضٍ مِنْ وَدْقِهِ ... وَرُعودِهِ في نادِبٍ وَمُثقْهَقِهِ هامٍ يَظَلُّ الرَّوْضُ مِنْ أَمْواهِهِ ... في الزَّهْرِ بَينَ مُذَهَّبٍ وَمُمَوَّهِ فالْأَرْضُ مِنْ حُلَلِ الرَّبيعِ أَنْيقَةٌوَالرَّوْضُ منْ حَلْيِ الشَّقائِقِ مُزْدَهِ أَجْدى وَأَسْمَحَ منْ يَدَيْهِ فَجُودُها ... عِنْدَ الْغُيوثِ إذا انْتَهَتْ لا يَنْتَهي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 لا عِزَّ إلّا عِنْدَ عِزِّ الدّينِ مَوْ ... لايَ الأَجَلِّ أَخي الْفَخارِ الْأَنْبَهِ يَهَبُ الْأُلوفَ لِمُجْتَديهِ وَظَنُّهُ ... أَنْ قَدْ حَباهُمْ بِالْأَقَلِّ الأَتْفَهِ أَنْتُمْ بَني أَيُّوَب أَكْرَمُ عُصْبَةٍ ... هذا الزَّمانُ بِفَخْرِ سُؤْدُدِهِمْ زُهي وَأُولو وُجوهٍ بَلْ صُدورٍ منْ نَدى ... ماءِ الْبَشاشَةِ وَالسَّمَاحَةِ مُوَّهِ عَذُبَتْ مَوارِدُكُمْ وَطابَتْ لِلْوَرى ... وَصَفْت فلَمْ تَأْسَنْ وَلْم تَتَسَنَّهِ ما يَدَّعي مَلِكٌ بلُوغَ مَحَلِّكُمْ ... إلاّ تَقولُ لَهُ مَساعِيكُمْ: صَهِ وَالنّاصِرُ المَلِكُ الصَّلاحُ هُوَ الّذي ... إلاّ بهِ اللَّزَباتُ لمْ تَتَنَهْنَهِ لاهٍ عَنِ اللاّهي بِدُنْياهُ وَعَنْ ... إعْزازِ دِينِ اللهِ يَوْماً ما لَهي فاقَ المُلوكَ عُلًي وَإنْ لمْ يَظْفَروا ... مِنْها بغَيْرِ تَشَبُّثٍ وَتَشَبُّهِ إنَّ الْمُلوكَ تَخَلَّفُوا وَسَبَقْتُمُ ... أَيْنَ السَّوامُ مِنَ الْعِتاقِ الفُرَّهِ راجِيكُمُ منْ داءِ كُلِّ مُلِمَّةٍ ... يَشْفى وَعِدُّ سَماحِكُمْ لمْ يُشْفَهِ وَعَدُوُّكُمْ في مَهْرَبٍ لمْ يُنْجِهِ ... وَوَليُّكُمْ في مَطْلَبٍ لمْ يُنْجَهِ إنْ يَجْحَدِ الشّاني عُلاكَ فما تَرى ... إشْراقَ عَيْنِ الشَّمْسِ عَيْنُ الأَكْمَهِ وَلَرُبَّ مَجْرٍ رائِعٍ حَمَلاتُهُ ... وَتَخالُهُ في الزَّحْفِ سَيْلَ مُدَهْدِهِ يَقْرِي الْعَواسِلَ مِنْ فَرائِسِ أُسْدِهِ ... لَحْماً بِنارِ الْبِيضِ مُشْعَلَةً طُهِي مَتَحَتْ بِه قُلْبَ الْقُلوبِ ذَوابِلٌ ... أَشْبَهْنَ أَشْطاناً بِأْيدي مُتَّهِ فَالْأَسْمَرُ الْعَسّالُ يَحْكي ناحِلاً ... مُتَلَوِّياً مِنْ سُقْمِهِ لمْ يَنْقَهِ وَالْأبْيَضُ الرَّعَافُ يُشْبِهُ مُدْنَفاً ... أَلِفَ الضَّنى وَأَصابَهُ جُرْحٌ صَهِي وَهُوَ الّذي ترَكَ الْعِدى مِنْ رُعْبهِ ... يَوْمَ اللِّقاءِ بِصَدْمِهِ في وَهْرَهِ بِكَ أَصْبَحَتْ راياتُهُ مَنْصورَةً ... يا سَيِّداً عَنَتِ الْوُجوهُُ لِوَجْهِه لَكَ في الشَّهامَةِ وَالصَّرامَةِ مَوْقِفٌ ... لِصِفانِه إعْجازُ كُلِّ مُفَوَّهِ مَا الصّارِمُ الْهِنْدِيُّ غَيْرَ مُكَهَّمٍوَالْباسِلُ الصِّنْديدُ غَيْرَ مُنَفَّهِ؟ وَإذا عَزَمْتَ تَرَكْتَ أَعْداءَ الْهُدى ... مَا بَيْنَ هُلاَكٍ وَحْيرى عُمَّهِ يا حِلْفَ جُودٍ لِلْغُيوثِ مُخَجِّلٍ ... أَبداً وَبَأْس اللُّيوثِ مُجَهْجِهِ مَوْلايَ مِنْ مَدْحي سِواكَ تَوَجُّعي ... وإِلَيْكَ مِنْ دونِ الْمُلوكِ تَوَجُّهي أَهَبُ الثَّناءَ لَمِجْدِ بَيْتِكَ طائِعاً ... وَأَبيعُهُ لِسِواكَ بَيْعَ الْمُكْرَهِ مَدْحُ الْجميِع مُوَجَّهٌ وَمَديحُكُمْ ... في الصِّدْقِ وَالإخْلاصِ غَيْرُ مُوَجَّهِ يَفْديكَ مَغْرُورُ الزَّمانِ بلَهْوِهِ ... وَلَهاهُ غَرَّارُ السَّرابِ بلَهْلَهِ مَوْلايَ مِصْرٌ أَخْملَتْ قَدْري فكُنْ ... باسمي جُزيتَ الْخَيْرَ خَيْرَ مُنَوِّهِ شَرَهي عَلى العَلْياءِ جَرَّ مَعاطِبي ... أَمِنَ المَعاطِبَ كُلُّ مَنْ لمْ يَشْرَهِ وَلقَدْ تَملَّى بالسَّعادَةِ ذُو غِنىً ... عَنْ شَقِوْةِ الْمُتَطَلِّبِ الْمُتَطَلَّهِ أَيْنَ الْكَرامَةُ لِلأْفاضِلِ عِنْدَكُمْإنْ لمْ تكُنْ عِنْدَ الْكِرامِ فأَيْنَ هِيْ؟ لَبّى نِداءَ نَداكَ لُبُّ رَجائِه ... فازْجُرْ مُلِمَّ الْيَأْسِ عَنْهُ وَانْدَهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 أَعْلَيْتَ في مِصْرٍ مَكاني بَعْدَما ... خَفَضَتْ بِه وَلِقَدْرِهِ لمْ يُؤْبَهِ طَلعَتْ نُجومُكُمُ الثَّواقِبُ لِلْوَرى ... زُهْراً وَإنّي كالسُّهى عَنْهُ سُهِي جَبرَتْ يَدُ الإفْضالِ مِنْهُ مَكاسِراً ... مِنْ فَضْليَ الْمُتكَسِّرِ الْمُتَكَدِّهِ عَرِّفْ بِعُرْفِكَ مِنْهُ ما لمْ يَعْرِفوا ... نَبّاً وَعَنْ سِنَةِ التَّغافُلِ نَبِّهِ فَضْلي خَلَوْتُ لأَجْلِهِ منْ حُظْوَةٍ ... هِيَ لِلْأرَيبِ كَنَبْتِ مَرْتٍ أَجْلَهِ الْفَضْلُ مُشْتَعِلٌ بِنارِ بَلائِه ... والْحَظُّ مُشتغِلٌ بِأَخْرَقَ أَوْرَهِ أَعِرِ التَّأَمُّلَ فِقْهَ شِعْري مُنْعِماً ... لا يَشْعُرُ الإِنْسانُ ما لمْ يَفْقَهِ وَتَمَّلها غَرّاءَ جامِعَةً لَكُمْ ... في النَّعْتِ بِيْنَ تَمَدُّحٍ وَتَمَدُّهِ يَهتَزُّ ذُو الْحُسْنى لِجَلْوَةِ حُسْنها ... وَتَجِلُّ عَنْ تَحْسينِ كُلِّ مُزَهْرِهِ أَفْواهُ أَهْلِ الْفَضْلِ ناطِقَةٌ لهَا ... بالْفَضْلِ إنْ قِيسَتْ بِشْعِر الأَفْوَهِ وَإنِ الْعُقولُ لهَتْ لهَا فَلأِنَّها ... مَحْمِيَّةٌ عَنْ كُلِّ مَعْنىً لَهْلَهِ صَهْباءُ تُودِعُ سامِعيها نَشْوَةً ... وَتُعيرُ عَرْفَ الْمِسْكِ لِلْمُسْتَنْكِهِ فَوَلِيُّها بِتَشَوُّقٍ وَتَشَوُّفٍ ... وَحَسودُها بِتَشَوُّرٍ وَتَشَوُّه دُمْ يَا بْنَ شاهِنْشاهَ مَلْكاً سَيِّداً ... مُتَوَشِّشحاً بِالسُّؤْدُدِ الشَّاهِنْشَهي مُتَمَلِّياً بهرامَ شاه مُمَتَّعاً ... مِنهُ بنَدْبٍ سَيِّدٍ شَهْمٍ شَهِيْ لَوْ شاهَدَ الْيَمَيِنيُّ جَبْهَة يُمْنِكُمْ ... ما ظَلَّ مُفْتَخِراً بِخَيْلِ الأَجْبَهِ هذه إشارةٌ إلى أنني نظمت هذه القصيدة على وزن قصيدةٍ أوردها لبعض شعراء اليمن في آخر القسم الثالث أولها: العز في صهوات خيل الأجبه ولما سمع تاج الدين الكندي القصيدة، عمل على وزنها في مدح عز الدين أيضاً: هَلْ أَنتَ راحِمُ عَبْرَةٍ وَتَوَلُّهِ ... وَمُجيرُ صَبٍّ عِنْدَ مَأْمَنِهِ دُهِيْ هَيْهاتَ يَرْحَمُ قاتِلٌ مَقْتُوَلهُ ... وَسِنانُهُ في الْقَلْبِ غَيْرُ مُنَهْنَهِ مَنْ بَلَّ منْ داءِ الْغَرامِ فإِنَّني ... مُذْ حَلَّ بي داءُ الهَوى لمْ أَنْقَهِ إنّي بُليتُ بِحُبِّ أَغْيَدَ ساحرٍ ... بلِحاظِه رَخْصِ الْبَنانِ بَرَهْرَهِ أَبْغي شِفاءَ تَدَلُّهي منْ دَلِّهِ ... وَمَتى يَرِقُّ مُدَلَّلٌ لِمُدَلَّهِ؟ كَمْ آهَةٍ ليَ في هَواهُ وَأَنَّةٍ ... لَوْ كانَ يَنْفَعُني عَلَيْهِ تَأَوُّهي وَمَآرِبٍ منْ وَصْلِهِ لَوْ أَنها ... تُقْضي لَكانَتْ عَنْدَ مَبْسَمِهِ الشَّهي يا مُفْرَداً بالْحُسْنِ إنَّكَ مُنْتَهٍ ... فيهِ كما أَنا في الصَّبابَةِ مُنْتَهِ قَدْ لامَ فيكَ مَعاشِرٌ أَفأَنْتَهي ... باللَّوْمِ عَنْ حُبِّ الْحياةِ وَأَنْتَ هِيْ أَبْكي لَدَيْهِ فإنْ أَحَسَّ بِلَوْعَةٍ ... وَتَشَهُّقٍ أَوْما بِطَرْفِ مُقَهْقِهِ أَنا منْ مَحاسِنِه وَحالي عنْدَهُ ... حَيْرانُ بَيْنَ تَفَكُّهٍ وَتَفَكُّهِ ضِدَّانِ قَدْ جُمِعا بِلَفْظٍ واحِدٍ ... لي في هَواهُ بِمَنْعَيَينِ مُوَجَّهِ لأُجَرِّدَنَّ مِنِ اصْطِباري عَزْمَةً ... ما رَبُّها في مَحْفِلٍ بِمُسَفَّهِ أَوَ لَسْتُ رَبَّ فَضائِلٍ لَوْ حازَ أَدْ ... ناها وَما أُزْهى بها غَيْري زُهي شَهِدَتْ لَها الأَعْداءُ وَاسْتَشْفَتَ بهَا ... عَيْنا حَسودٍ بالْغَباوَةِ أَكْمَهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 أَنا عَبْدُ مَنْ شَهِدَ الزَّمانُ بِعَجْزِهِ ... عَنْ أَنْ يَجْيءَ لَهُ بِنِدٍّ مُشْبِهِ عَبْدٌ لِعزِّ الدِّينِ ذي الشَّرَفِ الّذي ... ذَلَّ المُلوكُ لِعزِّهِ فَرُّخْشَهِ الْمُوقِدِ الْحَرْبَ الْعَوانَ بِبَأْسِهِ ... وَالأُسْدُ بَينَ مُعَرِّدٍ وَمُوَهْوِهِ الَمْفُحْمِ الْفُصَحاءِ فَصْلُ خِطابهِ ... منْ ذي الرَّوِيَّةِ فِيهِمْ وَالْمِبْدَهِ فَكَأَنَّ قِرْناً يُبْتَلى بِنِزالِهِ ... يُرْمى بِطَوْدٍ فَوْقَهُ مُتَدَهْدِهِ وَكَذا الْبَليغُ مُلْجْلِجٌ في نُطْقِهِ ... حَصَراً كأَلْكَنَ في الْكلامِ مُتَهْتِه فَلْتَبْجَحِ الْعَلْياءُ منْهُ بِمِحْرَبٍ ... عِنْدَ الجْلِاد وفي الْجِدالِ بِمِدْرَهِ هو غُرَّةُ الزَّمن البَهيمِ وعِصْمَةُ الْمُ ... لِكْ العَقيمِ وَغوثُ كُلِّ مُؤَيِّهِ مَلِكٌ هُمامٌ حازِمٌ يَقِظٌ رِضى ... بَحْرٌ غَمامٌ عالمٌ نَدِسٌ نَهِي فَطِنٌ لأِخَذْ ِمَحامِدٍ خَفِيَتْ عَلَى ... فِطَنِ الْأُلى فَلِبَعْضِها لمْ يُوبَهِ مُتَنَبِّهٌ لِلْمَكْرُماتِ وَلمْ يَكُنْ ... عَنها يَنامُ فَيهْتَدي بِتَنَبُّهِ يُعْدي عَلَى جَوْرِ الزَّمانِ بِعَدْلِهِ ... وَيُجيرُ بِالنَّعماءِ كُلَّ مُوَلَّهِ وَإذا اسْتَغاثَ إليهِ منهُ مالُهُ ... كانَتْ إغاثَتُهُ لَهُ: صَهٍ أوْ مَهٍ وَعَلَى شمائِلِ مَجْدِهِ وَرُوائهِ ... لِلْمُلْكِ أُبَّهَةٌ بغَيْرِ تَأَبُّهِ مَا اللَّيْثُ أَوْغَلَ في التَّرائِبِ نابُهُ ... سَغَبِاً يَصولُ بأَهْرَتٍ مُتَكَهْكِه يَوْماً بِأَسْفَكَ لِلدِّماءِ لَدى الْوَغى ... مِنْهُ وَأَقْتَلَ لِلْعُداةِ وَأَعْضَهِ تَعِبَتْ أَسِنَّتُهُ عَلَى عَلْيائِهِ ... حَتّى تَفَرَّدَ بِالْمَحَلِّ الأَنْوَهِ فَغَدا وَراحَ بهِ رَعايا مُلْكِهِ ... في راحَةٍ تَتْهو بِسُودَدِهِ الْبَهي كَمْ في عَناءِ المُتْعَبينَ عَلَى الْعُلى ... مِنْ مُتْرَفٍ بِعَنائهمْ مُتَرَفِّهِ اُنْظُرْ إذا ازْدَحَمَ الْوُفودُ بِبابِهِ ... مِنْ كُلَّ ذي أَمَلٍ بِهِ مُتَوَجِّهِ إنْ شَطَّ لمْ يَشْطُطْ رِضاهُ وَإنْ سَطا ... فيما يُحاوِلُ عِنْدَهُ لمْ يُنْجِهِ طابَتْ مَوارِدُهُ فَغَصَّ فِناؤُهُ ... وَشَدا الْحُداةُ بِذِكْرِهِ في الْمَهْمَهِ كالْماءِ عِنْدَ وُرودِهِ ما لمْ يكُنْ ... عَذْباً نَميراً سائِغاً لمْ يُشْفَهِ يا خَيْرَ بانٍ بالشَّجاعَةِ وَالنَّدى ... فَخْراً يَهِي عُمْرُ الزَّمانِ ولا يَهي يَفْدِيكَ كُلُّ مُمَلَّكٍ مُتَيايِهٍ ... أَبَداً بِأَلْسِنَةِ الرَّعاعِ مُمَدَّهِ لا يَفْقَهُ النَّجْوى إذا حَدَّثْتَهُ ... وَإذا أَتى بِحَدِيثِهِ لمْ يُفْقَهِ إني عَلَى شَرَفِ الْقَريضِ لهَاجِرٌ ... لِلنَّظْمِ هِجْرَةَ آنِفٍ مُتَنَزِّهِ أَضْحى وَعُصْبَتُهُ كَمَمْدُوحِيِهمُ ... في جَهْلِ قِيمَةِ ذي الْحِجى وَالأَوْرَهِ أَبَداً عَرائِسُ مَدْحِهِ تُجْلى عَلَى ... دَنِسِ الْخَبيئَةِ بالْعُيوبِ مُشَوَّهِ قُلْ لِلْممُيَزِّ مُنْشِشداً أَوْ سامِعاً ... في النّاسِ بَيْنَ مُفَهَّهٍ وَمُفَوَّهِ آليْتُ لا أَوْلَيْتُ غَيْرَكَ مِدْحَةً ... شِعْراً وإنْ أَفْعَلْ فَمِدْحَةُ مُكْرَهِ أَصْبَحْتُ منْ نُعْماكَ صاحِبَ أَنْعُمٍ ... تُرْجى نَوافِلُها وَعَيْشٍ أَبْلَهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 وَبَدا لَدَيْكَ صَريحُ فَضْلي مِثْلَ ما ... لا يَسْتَسِرُّ لدَيْكَ نَقْصُ مُمَوِّهِ حُزْتَ السَّعادَةَ مِنْ إِلاهِكَ ما سَرَتْ ... في الليَّلْ دَعْوَةُ عابِدٍ مُتَأَلِّهِ هذا آخرها، وهي تسعةٌ وأربعون بيتاً. الأجل تاج الملوك أبو سعيد بوري بن نجم الدين أيوب أصغر إخوة الملك الناصر ذو الكرم الظاهر، والمحتد الطاهر، والفخر الصادع فجره الصادق، والنجر السامي قدره السامق، طفل السن كهل السنا، أهل المدح والثنا، نشأ بالفضل متشبثاً، وبالفصل متحدثاً، وبالنبل متبعثاً، له الفطرة الزكية، والهمة العلية الجلية، والعزمة الماضية المضية، الحافظ من العلم ذماء الذمار، واللاحظ في الحلم وقاء الوقار، لم يبلغ العشرين سنة، ولم يورق ترعة الترعرع غصنه. وله نظمٌ لطيفٌ، وفهمٌ شريفٌ، وقد كتب لي ما أورده استحساناً، ولا أقيم على حسنه سوى معناه برهاناً. فمن ذلك قوله: يا حَياتي حينَ تَرْضى ... وَمَماتي حينَ تَسْخَطْ آهِ منْ وَرْدٍ عَلى خَدَّ ... يْكَ بِالْمِسْكِ مُنَقَّطْ بَيْنَ أَجْفانِكَ سُلْطا ... نٌ عَلَى ضَعْفي مُسَلَّطْ قَدْ تَصَبَّرْتُ وَإنْ بَرَّ ... حَ بي الشَّوْقُ فَأَفْرَطْ فَلَعَلَّ الدَّهْرَ يَوْماً ... بالتَّلاقي منْكَ يَغْلَطْ وقوله: يا مانِعي أَنْ أَجْتَني زَهَراً ... في رَوْضَتَيْ خَدَّيْهِ مَنْتِبُهُ لا تَبْخَلَنَّ عَلى الُمحِبِّ بما ... يَبْلى غَداً وَتَزولُ بَهْجَتُهُ وقوله: وَا شُؤْمَ بَخْتي يَضُمُّنا وَطَنٌ ... ولَيْسَ يُقْضي فيهِ لَنا وَطَرُ وَلا تَراني وَلا أَراكَ فَوَا ... طُولَ بَلائي حَتّى وَلا النَّظَرُ تِلْكَ لَعَمْري مُصيبَةٌ عَظُمَتْ ... وَخُطَّةٌ ما يُطيقُها بَشَرُ وقوله: أَيا حامِلَ الرُّمْحِ الشَّبيهِ بِقَدِّهِ ... وَيا شاهِراً سَيْفاً حَكى لَحْظَهُ عَضْبا ضَعِ الرُّمْحَ وَاغْمِدُ ما سَلَلْتَ فَرُبَّماقَتَلْتَ وَما حاوَلْتَ طَعْناً ولا ضَرْبا وقوله: لي في الأَنامِ حَبيبٌ ... يُنْمى إلَى الأَتْراكِ أَشْكو إليْهِ غَرامي ... فما يَرِقُّ لِشاكِ يَظَلُّ يَضْحَكُ عُجْباً ... وَالطَّرْفُ مِنِّيَ باكِ فَدَيْتُهُ منْ غزالٍ ... بِعَيْنهِ فَتَّاكِ ظَبْيٌ أَغارُ عَلَى رِي ... قِهِ منَ الْمِسْواكِ يا لَيْتَني كُنْتُ في كَفِّ ... هِ عُوَيْدَ أَراكِ وقوله: أَفْديهِ منْ رامٍ يُفَوِّقُ سَهْمَهُ ... عَنْ قَوْسِهِ فيُصيبُ قَلْبَ مَرامِهِ وَهُوَ الْغَنِيُّ بِحاجِبَيْهِ كِلَيْهِما ... وَلِحاظِهِ عَنْ قَوْسِهِ وسِهامِهِ وقوله: يا غَزالاً يُميتُ طَوْراً وَيُحْيي ... وَهُوَ بُرءُ السَّقيمِ سُقْمُ الصَّحيحِ هذِه الُمْعِجزاتُ لَيسَتْ لِظْبيٍ ... إنَّما هذِه فِعالُ الْمَسيحِ وأنا أستطرف منه هذه الفتاءة، وَطرو نشائه وانتشاءه، وأستبدعه ولا أستبعده، لأنه نازلٌ من بيت العلياء في سمائه، عالٍ على سمائه بسنائه. واستبعد أخوه الملك الناصر منه قول الشعر، فقال: أَيا مَلكاً ما زالَ يَفْعَلُ جُودُهُ ... عَلَى سائرِ الْحالاتِ ما يَفْعَلُ الْقَطْرُ أَتُنْكِرُ نَثْرَ الُّدِّر منْ بَحْرِ خاطريوَتعَلُم أنَّ الدُّرَّ مَسْكَنُهُ الْبَحْرُ باب في ذكر محاسن الشعراء بدمشق وأعمالها وفيه ذكر أعيان الساحل ابن الخياط الدمشقي هو أبو عبد الله أحمد بن محمدٍ، عاش على سمعته إلى آخر سنة سبع عشرة وخمسمائةٍ، وتوفي في سابع عشر رمضان منها، وكان قد سافر إلى بلاد العجم مع أبي النجم بن بديعٍ الأصفهاني، وبلغ الري، وعاد منها إلى دمشق. ومات بها بعد ذلك بمدةٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 وكان جيد الشعر رقيقه، وله فضله على شعر غيره، فلأجل ذلك قدمت ذكره، وفضلت شعره، ذكره مجد العرب العامري بأصفهان في جمادى الأولى سنة ستٍ وأربعين وخمسمائة قال: حدثني بعض الفضلاء بالشام مخبراً عن ابن الخياط في حداثه سنه. أنه قال: دخلت على الأمير أبي الفتيان محمد بن سلطان ابن حيوسٍ الشاعر في داره بحلب، وهو شيخٌ كبير القدر والسن، فوجدته متكئاً على فراشه، وعنده حلاوةٌ يأكلها، فما استوى لي جالساً وقال: من أين الرجل؟ فقلت: من دمشق. قال فما صناعتك؟ قلت: الشعر. قال هات مما أحدثت الآن من شعرك. فأنشدته، وذلك في سنة اثنتين وستين وأربعمائةٍ: لمْ يَبْقَ عِنْدي ما يُباعُ بِحَبَّةٍ ... وَكَفاكَ شاهِدُ مَنْظَري عَنْ مَخْبَري إلاّ صُبابةُ ماءِ وَجْهٍ صُنْتُها ... مِنْ أَنْ تُباعَ وَأَيْن أَيْنَ المُشَتري فقال: كرمت عندي، ونعيت إلي نفسي، فإن الشام لا تخلو عن شاعرٍ مجيدٍ، ولا يجتمع فيها شاعران، فأنت وراثي في هذه الصناعة، ولكن لا تنتفع بشعرك في هذه البلدة وفيها مثلي، فاقصد بني عمارٍ بطرابلسٍ، فإنهم يحبون هذا الفن. ووصلني ابن حيوسٍ بثيابٍ ودنانير. ومضيت إلى بني عمارٍ ومدحتهم، فأحسنوا إلي وألجأوني إلى إجادة شعري. وابن حيوسٍ كان أصنع من ابن الخياط، لكن لشعر ابن الخياط طلاوةٌ ليست لشعره. وله: يُحْتاجُ في الشِّعْرِ إلى طُلاوَهْ والشِّعْرُ ما لمْ يَكُ ذا حَلاوَهْ فَإنَّما سَماعُهُ شَقاوَهْ وكان من ينظر إلى ابن الخياط يعتقد أنه جمالٌ أو حمالٌ لشكله وطوله وعرضه وبزته، وما كانت صورته تنبئ عن ذكائه ولطفه وفضله وفطنته. ولم أذكر شعر ابن حيوسٍ في هذا المجموع، لكونه لم يكن في العصر الذي ذكرت شعراءه، لو أوردت شعره، لزمني أن أورد شعر معاصريه، فيطول الكتاب. فمن قلائد قصائد ابن الخياط، وفرائد فوائده، قصيدته في مدح عضب الدولة أبق بن عبد الرزاق أمير دمشق، حكي عنه أنه قال: صقلت هذه القصيدة أربعين سنةً، وهي: خُذا مِنْ صَبا نَجْدٍ أَماناً لِقَلْبِهِ ... فَقَدْ كادَ رَيّاها يَطيرُ بِلُبِّهِ وَإيّاكُما ذاكَ النَّسيمَ فإنَّهُ ... مَتى هَبَّ كانَ الْوَجْدُ أَيْسَرَ خَطْبِهِ خَليَليَّ لَوْ أَحْبَبْتُما لَعَلِمْتُمامَحَلَّ الْهَوى منْ مُغْرَمِ الْقَلْبِ صَبِّهِ تَذَكَّرَ وَالذِّكرى تَشوقُ وَذُو الْهَوى ... يَتوقُ ومَنْ يَعْلَقْ بهِ الْحُبُّ يُصْبِهِ غَرامٌ عَلَى يَأْسِ الْهَوى وَرَجائهِ ... وَشَوْقٌ عَلى بُعْدِ الْمَزارِ وَقُرْبِه وَفي الرَّكْبِ مَطْوِيُّ الضُّلوعِ عَلَى جَوًى ... مَتى يَدْعُهُ داعي الْغَرامِ يُلَبِّهِ إذا خَطَرَتْ منْ جانِبِ الرَّمْلِ نَفْحَةٌ ... تَضَمَّنَ منها داءَهُ دُونَ صَحْبهِ وَمُحْتَجِبٍ بَيْنَ الأَسِنَّةِ مُعْرِضٍ ... وَفي الْقَلْبِ مِنْ إعْراضِه مِثْلُ حُجْبِهِ أَغارُ إذا آنَسْتُ في الْحَيِّ أَنَّةً ... حِذاراً وَخَوْفاً أَنْ تكُونَ لِحُبِّهِ لم يسبقه أحدٌ إلى هذه المبالغة في الغيرة. وَيَوْمَ الرِّضى وَالصَّبُّ يَحْمِلُ سُخْطَهُ ... بِقَلْبٍ ضَعيفٍ عَنْ تَحَمُّلِ عَتْبِهِ جلاَ ليَ بَرّاقَ الثَّنايا شَتِيتَها ... وَحَلأَّني عَنْ بارِدِ الْوِرْدِ عَذْبِهِ كَأَنِّيَ لمْ أَقْصُرْ بهِ اللَّيْلَ زائِراً ... تَحولُ يَدي بَيْنَ الْمِهادِ وَجَنْبِهِ وَلا ذُقْتُ أَمْناً مِنْ سَرِارِ حُجُولِهِوَلا ارْتَعْتُ خَوْفاً مِنْ نَميمَةِ حُقْبهِ فَيا لَسَقامي مِنْ هَوى مُتَجَنِّبٍ ... بَكى عاذِلاهُ رَحْمَةً لِمُحِبِّهِ وَمِنْ ساعَةٍ لِلْبَيْنِ غَيْرِ حَميدَةٍ ... سَمَحْتُ بِطَلِّ الدَّمْعِ فيها وَسَكْبِهِ أَلاَ لَيْتَ أَنّي لَمْ يَحُلْ بَيْنَ حاجِرٍ ... وَبَيْني ذُرى أَعْلامِ رَضْوى وَهَضْبِهِ وَلَيْتَ الرِّياحَ الرّائِحاتِ خَوالِصٌ ... إلَيَّ وَلَوْ لاقَيْنَ قَلْبي بِكَرْبهِ أَهيمُ إلى ماءٍ بِبُرْقَةِ عاقِلٍ ... ظَمِئْتُ عَلى طُولِ الوُرودِ بِشُرْبهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 وَأَسْتافُ حُرَّ الرَّمْلِ شَوْقاً إلى اللِّشوىوَقَدْ أَوْدَعَتْني السُّقْمَ قُضْبانُ كُثْبِهِ وَلَسْتُ عَلى وَجْدي بأَوَّلِ عاشِقٍ ... أَصابَتْ سِهامُ الْحُبِّ حَبَّةَ قَلْبهِ صَبَرْتُ عَلى وَعْكِ الزَّمانِ وَقَدْ أُرى ... خَبيراً بِداءِ الْحادِثاتِ وَطِبِّهِ وَأَعْرَضْتُ عَنْ غُرِّ الْقَوافي وَمَنْطِقي ... مَلِئٌ لِمُرْتادِ الْكَلامِ بِخِصْبِهِ وَما عَزَّني لَوْ شِئْتُ مَلْكٌ مُهَذَّبٌ ... يَرى أَنَّ صَوْنَ الْحَمْدِ عَنْهُ كَسَبِّه لَقَدْ طالمَا هَوَّمْتُ في سِنَةِ الْكَرى ... وَلا بُدَّ لي مِنْ يَقْظَةِ الْمُتَنَبِّهِ سَأَلْقي بِعَضْبِ الدَّوْلَةِ الدَّهْرَ وَاثِقاًبِأَمْضى شَباً مِنْ بِاتِرِ الْحَدِّ عَضْبِهِ وَأَسْمو عَنِ الآمالِ هَمّاً وَهِمَّةً ... سَمُوَّ جَمالِ الْمُلْكِ عَنْ كُلِّ مُشْبِه هُوَ الْمَلْكُ يَدْعُو المُرْمِلينَ سَماحُهُ ... إلى واسِعٍ باعَ الْمَكارِمِ رَحْبِهِ يُعَنَّفُ مَنْ لمْ يَأْتِه يَوْمَ جُودِهِوَيُعْذَرُ مَنْ لمْ يَلْقَهُ يَوْمَ حَرْبِهِ كَأَنّي إذا أَحَيَّيْتُهُ بِصِفاتِه ... أَمُتُّ إلى بَدْرِ السَّماءِ بِشُهْبِه هُوَ السَّيْفُ يُغْشي ناظِراً عِنْدَ سَلِّهِ ... بَهاءً وَيُرْضي فاتِكاً يَوْمَ ضَرْبِه يَرُوقُ جَمالاً أَوْ يَرُوعُ مَهابَةً ... كَصَفْحِ الْحُسامِ الْمَشْرَفِيِّ وَغَرْبِه همُامٌ إذا أَجْرى لِغَايَةِ سُؤْدُدٍ ... أَضَلَّكَ عَنْ شَدِّ الْجَوادِ وَخَبِّهِ تَخَطّى إلَيها وادِعاً فَكأَنَّهُ ... تَمَطّى عَلَى جُرْدِ الرِّهانِ وَقُبِّهِ وَما أَبَقٌ إلاّ حَياً مُتَهَلِّلٌ ... إذا جادَ لْم تُقْلِعْ مَواطِرُ سُحْبِهِ أَغَرُّ غِياثٌ لِلْأنَامِ وَعِصْمَةٌ ... يُعاشُ بِنُعماهُ وَيُحْمي بِذَبِّهِ يَقولونَ تِرْبٌ لِلْغمامِ وإَنمَّا ... رَجاءُ الْغَمامِ أَنْ يُعَدَّ كَتِرْبِهِ فَتىً لمْ يَبْتْ وَالْمَجْدُ مِنْ غَيْرِ هَمُهِوَلْم يَحْتَرِفْ وَالْحَمْدُ منْ غَيْرِ كَسْبِه وَلْم يُرَ يَوْماً راجِياً غَيْرَ سَيْفِهِ ... وَلمْ يُرَ يَوْماً خائِفاً غَيْرَ رَبِّهِ تَنَزَّهَ عَنْ نَيْلِ الْغِنى بِضَراعَةٍ ... وَلَيْسَ طَعامُ اللَّيْثِ إِلاّ بِغَصْبِهِ أَلاَ رُبَّ بِاغٍ كانَ حاسِمَ فَقْرِهِ ... وَباغٍ عَليْهِ كانَ قاصِمَ صُلْبِهِ وَيَوْمِ فَخارٍ قَدْ حَوى خَصْلَ مَجْدِه ... وَأَعْداؤُهُ فيما ادَّعاهُ كَحِزْبِهِ هُوَ السَّيْفُ لا تَلْقاهُ إلاّ مُؤَهَّلاً ... لإَِيجابِ عِزٍّ قاهِرٍ أَوْ لِسَلْبِهِ مِنَ الْقَوْمِ قادُوا الدَّهْرَ وَالدَّهْرُ جامِحٌفَراضوهُ حَتّى سَكَّنوا حَدَّ شَغْبِهِ بِحارٌ إذا أَنْحَتْ لَوَازِبُ مَحْلِهِ ... جِبالٌ إذا هَبَّتْ زَعازِعُ نُكْبِهِ إذا ما وَرَدْتَ الْعِزَّ يَوْماً بِنَصْرِهْمأَمَلَّكَ مِنْ رَشْفِ النَّميرِ وَعَبِّهِ أَجابَكَ خَطِّيُّ الْوَشيجِ بِلُدْنهِ ... وَلَبّاكَ هِنْدِيُّ الْحَدِيدِ بِقُضْبِهِ أُعيدَ لَهُمْ مَجْدٌ عَلَى الدَّهْرِ بَعْدَمامَضى بِقَبيلِ الْمَجْدِ مِنْهُمْ وَشَعْبِهِ بِأَرْوَعَ لا تَعْيا لَدَيْهِ بِمَطْلَبٍ ... سِوى شَكْلِهِ في الْعالَمِينَ وَضَرْبهِ تُرَوِّضُ قَبْلَ الرَّوْضِ أَخْلاقُهُ الثَّرىوَتَبْعَثُ قَبْلَ السُّكْرِ سُكْراً لِشَرْبِه وَتَفْخَرُ دارٌ حَلَّها بِمُقامِهِ ... وَتَشْرُفُ أَرْضٌ مَرَّ فيها بِرَكْبِهِ وَلَمَّا دَعَتْهُ عَنْ دِمَشْقَ عَزيمَةٌ ... أَبى أَنْ يَخِلَّ الْبَدْرِ فِيها بِقُطْبِه تَرَحَّلَ عَنْها فَهْيَ كاسِفَةٌ لَهُ ... وَعادَ إلَيْها فَهْيَ مُشْرِقَةٌ بِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 وَإِنَّ مَحَلاً أُوْطِئَتْهُ جِيادُهُ ... لَحَقٌّ عَلَى الأَفْواِه تَقْبيلُ تُرْبِه رَأَيْتُكَ بَيْنَ الْحَزمِ وَالْجُودِ قائِماًمَقامَ فَتى الْمَجْدِ الصَّميمِ وَنَدْبِهِ فَمِنْ غِبِّ رَأْيٍ لا تُساءُ بِوِرْدِهِ ... وَمِنْ وِرْدِ جُودٍ لا تُسَرُّ بِغِبِّهِ وَلَمَّا اسْتَطالَ الْخَطْبُ قَصَّرْتَ باعَهُفَعادَ وَجِدُّ الدَّهْرِ فيهِ كَلِعَبْهِ وَما كانَ إلّا الْعَرَّ دَبَّ دَبيبُهُ ... فأَمَّنْتَ أَنْ تُعْدَى الصِّحاحُ بِجُرْبهِ وَصَدْعاً مِنَ الْمُلْكِ اسْتَغاثَ بِكَ الْوَرىإلَيْهِ فما أَرْجَأْتَ في لَمِّ شَعْبِهِ فَغاضَ أَتِيٌّ كُنْتَ خائِضَ غَمْرِهِ ... وَأَصْحَبَ خَطْبٌ كُنْتَ رائِضَ صَعْبِه أوردت شعره، لزمني أو اورد شعر معاصريه، فيطول الكتاب. فمن قلائد قصاد ابن الخياط فوائد فوائده، قصيدته في مدح عضبٍ الدولة أبق بن عبد الرزاق أمكير حُبيتَ حَياءً في سَماحٍ كأَنَّهُ ... رَبيعٌ يَزينُ النَّوْرُ ناضِرَ عُشْبِه وَأَكْثَرْتَ حُسّادَ الْعُفاةِ بِنائِلٍ ... مَتى ما يُغرِ يَوْماً عَلَى الْحَمِد يَسْبِهِ مَناقِبُ يُنْسيكَ الْقَديمَ حَديثُها ... وَيَخْجَلُ صَدْرُ الدَّهْرِ فِيها بِعُقَبْهِ لَئِنْ خَصَّ مِنْكَ الْفَخْرُ ساداتِ فُرْسِهلَقَدْ عَمَّ مِنْكَ الْجُودُ سائِرَ عُرْبِه إذا ما هَزَزْتُ الدَّهْرَ باسْمِكَ مادِحاً ... تَثَنّى تَثَنِّي ناضِر الْعُودِ رَطْبهِ وَإِنَّ زَماناً أَنْتَ مِنْ حَسَناتِهِ ... حَقيقٌ بأَنْ يَخْتالَ مِنْ فَرْطِ عُجْبِهِ مَضى زَمَنٌ قَدْ كانَ بالْبُعْدِ مُذْنِباً ... وَحَسْبي بِهذا الْقُرْبِ عُذْرِاً لذَنْبِه وَما كُنْتُ بَعْدَ الْبيْنِ إلاّ كَمُعْدِمٍتَذَكَّرَ عَهْدَ الرَّوْضِ أَيّامَ جَدْبهِ وَعِنْدي عَلَى الْعِلّاتِ دَرُّ قَرائحٍ ... حَوى زُثبَدَ الأَشْعارِ ما خِضُ وَطْبِهِ وَمَيْدانُ فِكْرٍ لا يُحازُ لَهُ مَدًى ... وَلا يَبْلُغُ الْإسهابُ غايَةَ سَهْبِه يُصَرِّفُ فيهِ الْقَوْلَ فارِسُ مَنْطِقٍ ... بَصيرٌ بِإرْخاءِ الْعِنانِ وَجَذْبِه وَغَرَّاءُ مَيَّزْتُ الطَّويلَ بِخَفْضِها ... فَطالَ عَلَى رَفْعِ الْكَلامِ وَنَصْبِه مِنَ الزُّهْرِ لا يُلْفَيْنَ إلاّ كَواكِباً ... طَوالعَ في شَرْقِ الزَّمانِ وَغَرْبِه حَوالِيَ مِنْ حُرِّ الشَّناءِ وَدُرِّهِ ... كَواسِيَ مِنْ وَشْيِ الْقَريضِ وَعَصْبِه خَطَبْتَ فَلَمْ يَحْجُبْكَ عَنْها وَلِيُّها ... إذا رُدَّ عَنْها خاطِبٌ غَيْرَ خِطْبِه ذَخَرْتُ لَكَ الَمْدحَ الشَّريفَ وَإنَّماعَلَى قَدْرِ فَضْلِ الزَّنْدِ قَيمَةُ قُلْبِه فَجُدْهُ بِصَوْنٍ عَنْ سِواكَ وَحَسْبُهُمِنَ الصَّوْنِ أَنْ يُغْري السَّماحُ بِنَهْبِه وقصيدته في مدح فخر الملك أبي علي عمار بن محمد بن عمارٍ بطرابلس، وهي درةٌ يتيمةٌ، ما لها في رقة غزلها قيمةٌ، بألفاظٍ يكثف عندها الهواء ومعانٍ تقف عليها الأهواء، وهي: هَبُوا طَيْفَكم أَعْدي عَلَى النَّأْيِ مَسْراهُفَمَنْ لِمَشُوقٍ أَنْ يَهُوِّمَ جَفْناهُ وَهْلْ يَهْتَدي طَيْفُ الْخَيالِ لِناحِلٍإذا السُّقْمُ عَنْ لَحْظِ الْعَوائدِ أَخْفاهُ غِنًي في يَدِ الأَحْلامِ لا أَسْتَفيدُهُ ... وَدَيْنٌ عَلَى الأَيّامِ لا أَتَقاضاهُ وَما كُلُّ مَسْلوبِ الرُّقادِ مُعادُهُ ... ومَا كُلُّ مَأْسورِ الْفُؤادِ مُفاداهُ يَرى الصَّبْرَ مَحْمودَ الْعَواقِبِ مَعْشَرٌومَا كُلُّ صَبْرٍ يَحْمَدُ الَمْرءُ عُقْباهُ لِيَ اللهُ مِنْ قَلْبٍ يُجَنُّ جُنونُهُ ... مَتى لاحَ بَرْقٌ بِالْقَريَنْينِ مَهْواهُ أَحِنُّ إذا هَبَّتْ صَباً مُطْمَئِنَّةٌ ... حَنينَ رَذايا الرَّكْبِ أَوْشَكَ مَغْداهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 خَوامِسَ حَلّاها عَنِ الْوِرْدِ مَطْلَبٌ ... بَعيدٌ على الْبُزْلِ الَمصاعِيبِ مَرْماهُ هَوًى كُلَّما عادَتْ مِنَ الشَّرْقِ نَفْحَةٌأَعادَلِيَ الشَّوْقَ الَّذي كَانَ أَبْداهُ وَما شَعَفي بالرّيحِ إلاّ لأِنَّضها ... تَمُرُّ بِحَيّ دُونَ رامَةَ مَثْواهُ أُحِبُّ ثَرى الْوادي الَّذي بانَ أَهْلُهُوَأَصْبُو إلى الرَّبْعِ الَّذي مَحَّ مَغْناهُ فَما وَجَدَ النِّضْوُ الطَّليحُ بِمَنْزِلٍ ... رَأَى وِرْدَهُ في ساحَتَيْهِ وَمَرْعاهُ كَوَجْديِ بِأَطْلالِ الدِّيارِ وَإنْ مَضى ... عَلَى رَسْمِها كَرُّ الْعُصورِ فَأَبْلاهُ دَوارِسَ عَفَّاها النُّحولُ كَأَنَّما ... وَجَدْنَ بِكُمْ بَعْدَ النَّوى ما وَجَدْناهُ أَلاَ حَبَّذا عَهْدُ الْكَثيبِ وَناعِمٌ ... مِنَ الْعَيْشِ مَجْرُورُ الذُّيولِ لَبِسْناهُ لَيِاليَ عاطَتْنا الصَّبابَةُ دَرَّها ... فَلَمْ يَبْقَ مِنْها مَنْهَلٌ ما وَرَدْناهُ وَلِلّهِ وادٍ دُونَ مَيْثاءِ حاجِرٍ ... يَصِحُّ إذا اعْتَلَّ النَّسيمُ خُزاماهُ أُناشِدُ أَرْواحَ الْعَشِيَّاتِ كُلَّما ... نَسَبْنَ إلى رَيَّا الأَحِبَّةِ رَيَّاهُ أَناشَتْ عَرارَ الرَّمْلِ أَمْ صافَحَتْ ثَرًى ... أَغَذَّ بهِ ذاكَ الْفَريقُ مَطاياهُ خَليَليَّض قَدْ هَبَّ اشْتِياقي هُبُوبُها ... حُسوماً فَهَلْ مِنْ زَوْرَةٍ تَتَلافاهُ؟ أَعِينا عَلَى وَجْدي فَلَيْسَ بِنافعٍ ... إِخاؤُكُما خِلاًّ إذا لَمْ تُعيناهُ أَمَا سُبَّةٌ أَنْ تَخْذُلا ذَا صَبابَةٍدَعا وَجْدَهُ الشَّوْقُ الْقَديمُ فَلَبَّاهُ؟ وَأَكْمَدُ مَحْزونٍ وَأَوْجَعُ مُمْرَضٍ ... مِنَ الْوَجْدِ شاكٍ لَيْسَ تُسْمَعُ شَكْواهُ شَرى لُبَّهُ خَبْلُ السَّقامِ وَباعَهُ ... وَأَرْخَصَهُ سَوْمُ الْغَرامِ وَأَغْلاهُ وَبالْجِزْعِ حَيٌّ كُلَّما عَنَّ ذِكْرُهُمْ ... أَماتَ الْهَوى مِنّي فُؤاداً وَأَحْياهُ تَمَنَيَّتْهُمُ بِالَّرْقَمَتْينِ وَدارُهُمْ ... بِوادي الْغَضا يا بُعْدَ ما أَتَمَنّاهُ سَقى الْوابِلُ الرَّبْعِيُّ مَا حِلَ رَبْعِكُمْ ... وَراوَحَهُ ما شاءَ رَوْحٌ وَغاداهُ وَجَرَّ عَلَيْهِ ذَيْلَهُ كُلُّ ماطِرٍ ... إذا ما مَشى في عاطِلِ التُّرْبِ حَلَّاهُ وَما كُنْتُ لَوْلا أَنَّ دَمْعِي مِنْ دَمٍ ... لِأَحْمِلَ مَنّاً لِلسَّحابِ بِسُقْياهُ عَلَى أَنَّ فَخْرَ الْمُلْكِ لِلأْرَضِ كافِلٌبِفَيْضِ نَدًى لا يَبْلُغُ الْقَطْرُ شَرْواهُ بَصُرْتُ بِأُمّاتِ الْحَيا فَحَسِبْتُها ... أَنامَلُه إنَّ السَّحائِبَ أَشْباهُ أَخُو الْحزْمِ ما فاجَاهُ خَطْبٌ فَكادَهُ ... وَذُو الْعَزْمِ ما عاناهُ أَمرٌ فَعَنّاهُ وَساعٍ إلى غاياتِ كُلِّ خَفِيَّةٍ ... مِنَ الْمَجْدِ ما جاراهُ خَلْقٌ فَباراهُ بِهِ رُدَّ نَحْوي فائِتٌ الْحظِّ راغِماًوَأَسْخَطَ فِيَّ الدَّهْرُ مَنْ كانَ أَرْضاهُ تَحامَتْنِيَ الأَيّامُ عِنْدَ لِقائِه ... كَأَنّيِ فِيها بَأْسُهُ وَهْيَ أَعْداهُ إِلَيْكَ رَحَلْتُ الْعِيسَ تَنْقُلُ وَقْرَها ... ثَناءً وَلِلْأَعلْى يُجَهَّزُ أَعْلاهُ وَلا عُذْرَ لي إنْ رابنَي الدَّهْرُ بَعْدَماتَوَخَّتْكَ بي يا خَيْرَ مَا تَتَوَخَّاهُ وَرَكْبٍ أَماطُوا الْهَمَّ عَنْهُمْ بِهِمَّةٍ ... سَواءٌ بها أَدْنى الْمَرامِ وَأَقْصاهُ قَطَعْتُ بِهْم عَرْضَ الْفَلاةِ وَطالمَا ... رَمى مَقْتَلَ الْبَيْداءِ عَزْمي فَأَصْماهُ وَسَيْرٍ كَإِيماضِ الْبُروقِ وَمَطْلَبٍ ... لَبِسْنا الدُّجى مِنْ دُوْنِه وَخَلَعْناهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 إلى الْمَلِكِ الْجَعْدِ الْجزيلِ عَطاؤُهُ ... إلى الْقَمَرِ السَّعْدِ الْجميلِ مُحَيَّاهُ إلى رَبْعِ عَمّارِ بْنِ عَمّارٍ الَّذي ... تَكَفَّلَ أَرْزاقَ الْعِبادِ بِجَدْواهُ وَلَمّا بَلَغْناهُ بَلَغْنا بِه الْمُنى ... وَشِيْكاً وَأَعْطَيْناه الْغِنى مِنْ عَطاياهُ فَتىً لَمْ نَمِلْ يَوْماً بِرُكْنِ سَماحِهِ ... عَلَى حَدَثانِ الدَّهْرِ إلاّ هَدَمْناهُ مِنَ الْقَوْمِ ياما أَمْنَعَ الْجارَ بَيْنَهُمْوَأَحْلى مَذاقَ الْعَيْشِ فِيْهِمْ وَأَمْراهُ وَأَصْفى حَياةً عِنْدَهُمْ وَأَرَقَّها ... وَأَبْرَدَ ظِلاًّ في ذَراهُمْ وَأَنْداهُ أَغَرُّ صَبيحٌ عِرْضُهُ وَجَبينُهُ ... كَأَنَّهُما أَفْعالُهُ وَسَجاياهُ لَكَ الّلهُ ما أَغْراكَ بالْجودِ هِمَّةً ... سُروراً بما تَحْبُو كأَنَّكَ تُحْباهُ دَعَوْنا رَقُودَ الْحَظِّ باسْمِكَ دَعْوَةً ... فَهَبَّ كَأَنّا مِنْ عِقالٍ نَشَطْناهُ وَجُدْتَ فَأَثْنَيْنا بِحَمْدِكَ إِنَّهُ ... ذِمامٌ بِحُكْمِ الْمَكْرُماتِ قَضَيْناهُ مَكارِمُ أَدَّبْنَ الزَّمانَ فَقَدْ غَدا ... بها مُقْلِعاً عَمّا جَنى وَتَحَبّاهُ أَيَاً مَنْ أَذالَ الدَّهْرُ حَمْدي فَصانَهُوَفَلَّصَ ظِلَّ الْعَيْشِ عَنّي فَأَضْفاهُ وَعَلَّمَني كَيْفَ الْمَطالِبُ جُودُهُ ... وَما كُنْتُ أَدْري ما الْمَطالِبُ لَوْلاهُ لَأَنْتَ الَّذي أَغْنَيْتَني وَحَميْتَني ... لَياليَ لا مالٌ لَدَيَّ وَلا جاهُ أَنَلْتَنيَ الْقَدْرَ الَّذي كُنْتُ أَرْتَجيوَأَمَّنْتَني الْخَطْبَ الَّذي كُنْتُ أَخْشاهُ وَأَمْضَيْتَ عَضْباً مِنْ لِسانيَ بَعْدَما ... عَمِرْتُ وَحَدَّاهُ سَواءٌ وَصَفْحَاءُ وَسَرْبَلْتَني بالْعِزَّ حَتّى تَرَكْتَني ... بِحَيْثُ يرَاني الدَّهْرُ كُفْؤاً وَإيّاهُ فَدُونَكَ ذا الْحمدَ الَّذي جَلَّ لَفْظُهُوَدَقَّ عَلَى الأَفْهامِ في الْفَضْلِ مَعْناهُ فَلا طُلَّ إِلاّ مِنْ حِبائِكَ رَوْضُهُ ... وَلا باتَ إِلاّ في فِنائِكَ مَأْواهُ وقصيدته في أخيه جلال الملك علي بن محمد بن عمارٍ، يكاد يذهب له فيها بالألباب، وتعيد إلى الشيخ الفاني عهد الشباب، وفيها مدائح، لم تدرك شأوها القرائح، وهي: أُمَنّي النَّفْسَ وَصْلاً مِنْ سُعادِ ... وَأَيْنَ مِنّ المُنْى دَرْكُ الْمُرادِ؟ وَكَيْفَ يَصِحُّ وَصْلٌ مِنْ خَليلٍ ... إذا ما كَانَض مُعْتَلَّ الْوِدادِ تَمادى في الْقَطِيعَةِ لا لُجْرمٍ ... وَأَجْفى الهْاجِرينَ ذَوُو التمَّادي يُفَرِّقُ بَيْنَ قَلْبِيَ وَالتَّأَسّي ... وَيَجْمَعُ بَيْنَ طَرْفِيَ وَالسُّهادِ وَلَوْ بَذَلَ الْيَسيرَ لَبَلَّ شَوْقي ... وَقَدْ يَرْوى الظِّماءُ مِنَ الثِّمادِ أَمَلٌّ مَخَافَةَ الإْمْلالِ قُرْبي ... وَبَعْضُ الْقُرْبِ أَجْلَبُ لِلْبِعادِ وَعِندي لِلأحِبَّةِ كُلُّ جَفْنٍ ... طَليقِ الدَّمِع مَأْسُورِ الرُّقادِ فَلا تَغْرَ الْحَوادِثُ بي فَحَسْءبي ... جَفاؤُكُمُ مِنَ النُّوَبِ الشِّدادِش إذا ما النّارُ كانَ لهَا اضْطِرامٌ ... فمَا الدّاعي إلى قَدْحِ الزِّنادِ؟ أَرَى الْبِيضَ الْحِدادَ سَتَقْتَضيني ... نُزُوعاً عَنْ هَوَى الْبِيضِ الْخِرادِ فما دَمْعي علىَ الأَطْلالِ وَقْفٌ ... وَلا قَلْبي مَعَ الُّظعْنِ الْغَوادي ولا أبْقى جَلالُ الْمُلْكِ يَوْماً ... لِغَيْرِ هَواهُ حُكْماً في فُؤادي أُحِبُّ مَكارِمَ الأَخْلاقِ مِنْهُ ... وَأَعْشَقُُ دَوْلَةَ الْمَلكِ الْجَوادِ رَجَوْتُ فمَا تَجاوَزَهُ رَجائي ... وَكانَ الْماءُ غايَةً كُلِّ صادِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 إذا ما رُوِّضَتْ أَرْضي وَساحَتْ ... فمَا مَعْنى انْتِجاعِيَ وَارْتِيادي؟ كَفى بِنَدى جَلالِ الُمْلكِ غَيْثاً ... إذا نَزَحَتْ قَرارَةُ كُلِّ وادِ أَمَلْنا أَيْنُقَ الآمالِ مِنْهُ ... إلى كَنَفٍ خَصيبِ الُمْستَرادِ وَأَغْنانا نَداهُ عَلَى افْتِقارٍ ... غَناءَ الْغَيْثِ في السَّنَةِ الْجَمادِ فَمْن ذَا مُبْلِغُ الأَمْلاكِ عَنَّا ... وَسُوّاسِ الْحَواضِرِ وَالْبَوادي بِأَنّا قَدْ سَكَنّا ظِلَّ مَلْكٍ ... مَخُوفِ الْبَأْسِ مَرْجُوِّ الأَيادي صَحِبْنا عِنْدَهُ الأَيّامَ بِيضاً ... وَقَدْ عُمَّ الزَّمانُ مِنَ السَّوادِ وَأَدْرَكْنا بِعَدْلٍ مِنْ عَلِيٍّ ... صَلاحَ الْعَيْشِ في دارِ الفْسَادِ فمَا نَخَشى مُحارَبَةَ اللَّيالي ... وَلا نَرْجُو مُسالَمَةَ الأَعادي فَقُولا لِلْمُعانِدِ وَهْوَ أَشْقى ... بما تَحْبُوهُ عاقِبَةُ الْعِنادِ رُوَيْدَكَ مِنْ عَداوَتِنا سَتُرْدي ... نَواجِذَ ما ضِغِ الصُّمِّ الصِّلادِ وَلا تَحْمِلْ عَلَى الأَيّامِ سَيْفاً ... فَإنَّ الدَّهْرَ يَقْطَعُ بِالنِّجادِ فَأَمْنَعُ مِنْكَ جاراً قَدْ رَمَيْنا ... كَرِيمَتَهُ بِداهِيَةٍ نَآدِ وَمَنْ يَحْمي الْوِهادَ بِكُلِّ أَرْضٍ ... إذا ما السَّيْلُ طَمَّ عَلَى النِّجادِ هُوَ الرّامِيكَ عَنْ أَمَمٍ وَعُرْضٍ ... إذا ما الرَّأيُ قَرْطَسَ في السَّدادِ وَمُطْلِعُها عَلَيْكَ مُسَوَّماتٍ ... تَضيقُ بِهَمِّها سَعَةُ الْبِلادِ إذا مَا الطَّعْنُ أَنْحَلَها الْعَوالي ... فَدى الأَعْجازَ مِنْها بِالْهَوادي فِداؤُكَ كُلُّ مَكْبُوتٍ مَغيظٍ ... يُخافيكَ الْعَداوَةَ أَوْ يُبادي فَإنَّكَ ما بَقيتَ لَنا سَليماً ... فما نَنْفَكُّ في عِيدٍ مُعادِ أَبُوكَ تَدارَكَ الإسْلامَ لَمّا ... وَهى أَوْ كادَ يُؤْذِنُ بِانْهِدادِ سَخا بالنَّفْسِ شُحّاً بالْمَعالي ... وَجَاهَدَ بِالطَّريفِ وَبِالتِّلادِ كَيَوْمِكَ إذْ دَمُ الأَعْلاجِ بَحْرٌ ... يُرِيكَ الْبَحْرَ في حُلَلٍ وِرادِ عَزائِمُكَ الْعَوائِدُ سِرْنَ فِيهمْ ... بِما سَنَّتْ عَزائمُهُ الْبَوادي وَهذا الْمَجْدُ مِنْ تِلْكَ المَساعي ... وَهذا الْغَيْثُ مِنْ تِلْكَ الْغَوادي وَأَنتُمْ أَهْلُ مَعْدَلِةٍ سَبَقْتُمْ ... إلى أَمَدِ الْعُلى سَبْقَ الْجِيادِ رَعى مِنْكَ الرَّعِيَّةَ خَيْرُ راعٍ ... كَريمِ الذَّبِّش عَنْهُمْ وَالذِّيادِ تَقَيْتَ اللهَ حَقَّ تُقاهُ فِيهِمْ ... وَتَقْوَى اللهِ مِنْ خَيْرِ الْعَتادِ كَأَنَّكَ لا تَرى فِعْلاً شَريفاً ... سِوى ما كانَ ذُخْراً لِلْمَعادِ مَكارِمُ بِعْضُها فيهِ دَليلٌ ... عَلَى ما فيكَ مِنْ كَرَمِ الْوِلادِ هَجَرْتَ لَها الكَرى شَغَفاً وَوَجْداً ... وَكُلُّ أَخي هَوىً قَلِقُ الْوِسادِ غَنِيتُ بِسَيْبِكَ الَمْرجُوِّ عَنْهُ ... كمَا يَغْنَي الْخَصيبُ عَنِ الْعِهادِ وَرَوّاني سَماحُكَ ما بَدَا لِي ... فمَا أَرْتاحُ لِلْعَذْبِ الْبُرادِ إذا نَفَقَ الثَّناءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... فَلَسْتُ بِخاِئفٍ فيها كَسادِي فَلا تَزَلِ اللَّيالي ضامِناتٍ ... بَقاءَكَ ما حَدا الأَظْعانَ حادِ ثَنائي لا يُكَدِّرُهُ عِتابي ... وَقَوْلي لا يُخالِفُهُ اعْتِقادي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 وقصيدته في مدح أبي الذواد المفرج بن الصوفي بدمشق، مطلعها يبسم عن فجر اللطافة ويفجر ينبوع الرقة، ومخلصها يفتر عن ثغر الحصتفة ويخلص من التكلف والمشقة، وما سمعت بأعلق بالقلب من مطلعها، وهي: لَوْ كُنْتَ شاهِدَ عَبْرَتي يَوْمَ النَّقَالَمَنَعْتَ قَلْبَكَ بَعْدَها أَنْ يَعْشَقَا وَلَكُنْتَ أَوَّلَ نازِعٍ مِنْ خُطَّتي ... يَدَهُ وَلَوْ كُنْتَ الُمِحَّب المُشْفِقَا وَعَذْرتَ في أَنْ لا أُطيقَ تَجَلُّداً ... وَعَجِبْتَ مِنْ أَنْ لا أَذوبَ تَحَرُّقاً ناشَدْتُ حاديَ نُوقِهِمْ في مُدْنَفٍ ... أَبْكى الْحُداةَ بُكاؤُهُ وَالأيْنُقَا وَمَنَحْتُهُمْ جَفْناً إذا نَهْنَهْتُهُ ... رَقَأَتْ جُفونُ الثّاكِلاتِ وَما رَقَا يَا عمْروُ أَيُّ عَظيمِ خَطْبٍ لَمْ يَكُنْخَطْبُ الْفِراقِ أَشَدَّ مِنْهُ وَأَوْبَقَا كِلْني إلى عُنْفِ الصُّدُودِ فَرُبَّما ... كانَ الصُّدُودُ مِنَ النَّوى بي أَرْفَقَا قَدْ سالَ حَتّى قَدْ أَسالَ سَوادَهُ ... طَرْفي فَخالَطَ دَمْعَهُ المُتَرقْرِقَا وَاسْتَبْقِ لِلْأطْلالِ فَضْلَةَ أَدْمُعٍ ... أَفْنَيْتَهُنَّ قَطيعَةً وَتَفَرُّقَاَ أَوْ فَاسْتَمِحْ لي مِنْ خَلِيّ سَلْوَةً ... إنْ كانَ ذُو الإْثْراءِ يُسْعِفُ مُمْلِقَا إنَّ الظِّباءَ غَداةَ رامَةَ لَمْ تَدَعْ ... إلاّ حَشاً قَلِقاً وَقَلْباً شَيِّقاَ سَنَحَتْ فما مَنَحَتْ وَكَمْ مِنْ عارِضٍ ... قَدْ مَرَّ مُجْتازاً عَلَيْكَ وَما سَقى غِيدٌ نَصَبْتُ لِصَيْدِهِنَّ حَبائِلاً ... يَعْلَقْنَهُنَّ فَكُنْتُ فيها أَعْلقاَ وَلَكَمْ نَهَيْتُ اللَّيْثَ أَغْلَبَ بَاسِلاًعَنْ أَنْ يَرُودَ الظَّبْيَ أَتْلعَ أَرْشَقَا فِإذا الْقَضاءُ عَلَى الْمَضاءِ مُرَكَّبٌ ... وَإذا الشَّقاءُ مُوَكَّلٌ بِأَخي الشَّقَا وَلَقَدْ سَرَيْتُ إذا السَّماءُ َتخالُها ... بُرْداً بِراكِدَةِ النُّجومِ مُشَبْرَقَا َواللَّيْلُ مِثْلُ السَّيْلِ لَوْلا لُجَّةٌتَغْشى الرُّبَا بِأَعَمَّ مِنْهُ وَأَعْمَقَا وَمُشَمِّريَن تَدَرَّعُوا ثَوْبَ الدُّجى ... فَأَجَدَّ لُبْسَهُمُ الزَّماعُ وَأَخْلَقَا عاطَيْتُهُمْ كَأْسَ السُّرى في لَيْلَةٍ ... أَمِنَ الظَّلامُ بِفَجْرِها أَنْ يُشْرِقَا حَتّى إذا حَسَرَ الصَّباحُ كَأَنَّهُ ... وَجْهُ الْوَجيهِ تَبَلُّجاً وَتَأَلُّقَا حَطُّوا رِحالَ الْعِيسِ مِنْهُ بِخَيْرِ مَنْ ... هَزُّوا إِلَيْهِ رِقابَهَا وَالَأْسؤُقَا بِأَغَرَّ يَجْلو لِلْوُفودِ جَبينُهُ ... شَمْساً تَكونُ لهَا المَعالي مَشْرِقَا نَزَلُوا فما وَصَلوهُ مَهْجُوراً وَلا ... فَتحُوا إلى نُعماهُ باباً مُغْلَقَا إِنْ زُرْتَهُ فَتَوَقَّ فَيْضَ بَنانِهِ ... إنَّ الْبِحارَ مَلِيَّةٌ أنْ تُغْرِقَا وَإذا أَبُو الذَّوّادِ حاطَكَ ذائِداً ... فَلَقَدْ أَخَذْتَ مِنَ الليَّالي مَوْثِقاً يَشْتَدُّ مَمْنُوعاً وَيُكْرِمُ قادِراً ... وَيَطولُ مَحْقُوقاً وَيَصْفَحُ مُحْنَقا لَوْ أَنَّ مَنْ يَرْوي حَديثَ سَماحِهِ ... يَرْويهِ عن صَوْبِ الْحَيا ما صُدِّقا صَحِبَ الزَّمانَ وَكانَ يَبْساً ذاوِياً ... فسَقاهُ بالْمَعْروفِ حتّى أَوْرَقا لا تَذْكُرَنَّ له الْمَكارِمَ وَالْعُلى ... فتَهيجَ صَبّاً أَوْ تَشُوقَ مُشَوَّقاً عَشِقَ الْمحامِدَ وَهْيَ عاشِقَةٌ له ... وَكَذاكَ ما بَرِحَ الْجَمالُ مُعَشَّقاً يَجْري على سَنَنِ المَكارِمِ فِعُلهُ ... خُلُقاً إذا كانَ الْفَعالُ تَخلُّقا لا يَمْنَحُ الإحْسانَ إلّا كامِلاً ... خَيْرُ الْحَيا ما عَمَّ منهُ وَطَبَّقا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 كَتَمَ الصَّنائعَ فاسْتَشاعَ ثَناؤها ... مَنْ ذا يَصُدُّ الصُّبْحَ عَنْ أَنْ يُشْرِقا قَدْ حالَفَ الْعَزْمَ الْحَميدَ فَلَمْ يَخَفْ ... خَطْباً يُحاوِل فَتْقَهُ أَنْ يَرْتُقا وَرَمى إلى الْغَرَضِ البَعيدِ فلمْ يَبِتْ ... أَبَداً بِغَيْرِ المَكْرُماتِ مُؤَرَّقا سامي الْمَرامِ شَريفُهُ إِنْ تَدْعُهُ ... لا تَدْعُهُ لِلْخَطْبِ إلاَّ مُقْلِقا إِنْ جادَ في بِشْرٍ تُوُِّمَ عارِضاً ... أَوْ حَلَّ في نَفَرٍ تَرَاءَى فَيْلَقا تَلْقاهُ في هَيْجاءِ كُلِّ مُلِمَّةٍ ... بَطَلاً إذا شَهِدَ الْكَريهَةَ حَقَّقا كالْمَشْرِفَيِّ الْعَضْبِ إلاَّ أَنَّهُ ... أَمْضى شَباً مِنْهُ وَأَبْهى رَوْنَقا جارى عِنانَ الْفضلِ في أَمَدِ الْعُلى ... أَدْنى وَأَقْرَبُ شَأْوِهِ أَنْ يَسْبُقِاَ لا يُدْرِكُ الْجارونَ غايَةَ مَجْدِهِ ... مَنْ يَسَتطيعُ إلى السَّماءِ تَسَلُّقا هَيْهاتَ يَمْنَعُ ذاكَ حَقٌّ أَخْلَقٌ ... لا يُحْسِنُ الْعَيُّوقُ فيهِ تَحَلُّقا وَمِنَ التَّأَخُّرِ أَنْ يُقَدِّمَ وَاطِيٌ ... قَدَماً عَلَى دَحْضٍ أَزَلَّ وَأَزْلَقا ما كُلُّ مَنْقَبَةٍ يُحاوَلُ نَيْلُها ... تُحْوى ولا كُلُّ الْمَنازِلِ تُرْتَقى يَا سَيِّدَ الرُّؤَساءِ أَيُّ مُطاوِلٍ ... أَنْ يَسْتَطيعَ بكَ الَّلحاقَ فَيَلْحَقا ماذا يُحاوِله المُغامِرُ بعدَما ... وَجَدَ المَجالَ إلى قِراعِكَ ضَيِّقا إنَّ الرِّياسَةَ لا تَليقُ بِغَيْرِ مَنْ ... مُذْ كانَ كانَ بِثَدْيِها مُتَمَطِّقا بِغَنائِها مُتَكِّفلاً وَبِفَضْلِها ... مُتوَحِّداً وَبِمُلْكِها مُتَحَقِّقا كَمْ فيكَ مُجْتَمِعاً منَ الْحَسناتِش ما ... يُعْي ويُعْجِزُ في الوَرى مُتَفَرِّقا وَلِبَيْتِكَ الْفَخْرُ الذي لَوْ أَنَّهُ ... سامى السِّماكَ لَكانَ مِنهُ أَسْمَقا مَن كان يَفْخَرُ أَنَّهُ مِنْ أُسْرةٍ ... كَرُمَتْ وَيَضْرِبُ في الْكِرامُ مُعْرّقا فلَيْأَتْنِا بأَبٍ كَمِثْلِ أَبيكَ في الْعَلْي ... اءِ أَوْ جَدٍّ كَجَدِّكَ في التُّقى أَمّا دِمَشْقُ فَقَدْ حَوَتْ بكَ عزَّةً ... كَرُمَتْ بِها عْن أَنْ تكونَ الأبْلَقا حَصَّنْتَها بِسَدادِ رَأْيِكَ ضارِباً ... سُوراً عَلَيْها مِنْ عُلاكَ وَخَنْدَقا وَحَمَيْتَ حَوْزَتَها بِهِمَّةِ أَوْحَدٍ ... ما زالَ مَيْمونَ الفَعالِ مُوَفَّقا أَمْطَرْتَها مِنْ فَيْضِ كَفِّكَ أَنْعُماً ... لا تُعْدِمُ الرُّوَّادَ رَوْضاً مُونقِا إنْ أَظْلَمَتْ كُنْتَ الضَّحاءَ المْجْتَلىأَوْ أَجْدَبَتْ كُنْتَ الرَّبيعَ الُمْغِدقا وَأَنا الذي أَضْحى أَسيرَ عَوارِفٍ ... لكَ لا يَوَدُّ أَسيرُها أَنْ يُطْلَقا أَوْفى وَأَشَرفُ ما يُؤَمِّلُ آمِلٌ ... أنْ لا يُرى مِنْ رِقِّ جودِكَ مُعْتَقا أَجْمَمْتُ جُودَكَ فَاسْتَفاضَ سَماحَةً ... وَإذا حَبَسْتَ السَّيْلَ زادَ تَدَفُّقا وَحَمَيْتُ آمالي سِواكَ وَعاطِلٌ ... مَنْ كانَ مِنْ مَنِّ اللِّئامِ مُطَوَّقا لم يُبْقِ سَيْلُ ندَاكَ مَوْضِعَ نائِلٍ ... فَهَقَ الغَديرُ وَحَقُّهُ أَنْ يَفْهَقا وَلَئِنْ مَنَنْتَ فَواجِبٌ لكَ في النَّدى ... إمْا نَزَعْتَ بِسَهْمِهِ أَنْ يُغْرَقا أَثْني عَلَيْكَ بِحقِّ حَمْدِكَ صادِقاً ... حَسْبُ الْمَعالي أَنْ تَقولَ فَتَصْدُقا وَلَكَم يَدٍ لَكَ لايُؤَدَّي حَقُّها ... ما خَبَّ رَكْبٌ في الْفِجاج وَأَعْنَقا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 أَعْيَتْ بِياني في الثَّناءِ وَأَوْجَبَتْ ... شُكْري فأَفْحَمَني نَداكَ وَأَنْطَقا خُذْها كما حَيّاكَ نَوْرُ خَميلَةٍ ... خَطَرَ النَّسيمُ بها ضُحىً فَتَفَتَقَّا تَأْبى عَلَى الْكِتمانِ غَيْرَ تَضَوُّعٍ ... مَنْ ذا يَصُدُّ الْمِسْكَ عَنْ أَنْ يَعْبَقا عَذْراءَ لا تَجُلو الثَّناءَ عَليْكَ إِطْر ... اءً وَلا تَصِفُ الْوَلاءَ تَمَلُّقا تَحْيي حَبيباً الْوَليدَ وَتَجْتَبي ... لِخُلودِ فَخْرِكَ أَخْطَلاً وَفَرَزْدَقا وَكَأَنَّ تَغريدَ اْلغَريضِ مُرَجَّعاً ... فيها وَعانِيَّ الرَّحيقِ مُعَتَّقا وَكَأَنَّ أَيّامَ الصَّبابَةِ رِقَّةً ... فيها وَمُفْتَرَقَ النَّوى واَلمُلْتَقى وَقَدِ اسْتَشادَ لَكَ الثَّناءَ فما تَرى ... إلاَّ بَليغاً بامْتِداحِكَ مُفْلِقا فَمَتى تَغَنَّى الرَّكْبُ يَوْماً أَوْ حَدا ... لم يَعْدُ مَدْحَكَ مُشْئِماً أو مُعْرِقا وَالدُّرُّ يَشْرُفُ قِيمَةً وَيَزيدُهُ ... شَرَفاً إذا ما كَانَ دُرّاً مُنْتَقى مَنْ باتَ يَسْأَلُ رَبَّهُ أُمْنِيَّةً ... فَاللَّهَ أَسْأَلُ أَنْ يُطيلَ لَكَ الْبَقا وقصيدته في الأمير أبي الحسن علي بن مقلد بن منقذٍ كلمةٌ غراء شاعرةٌ، وروضةٌ غناء ناضرةٌ، فاق بالمجانسة فيها الصوري، وشأي بمعانيها المبتكرة المعري، وتيم برقتها التهامي. وما أحسن إيراده قراع الليالي والحوادث، والمعنى الذي ذكره في البيت الثالث. وهي: يَقِيني يَقنين حادِثاتِ النَّوائِبِ ... وحَزْميَ حَزْمي في ظُهور النَّجائِبِ سُيْنِجُدني جَيشٌ من الْعَزْم طالَما ... غَلَبْتُ بِه الْخْطبَ الذّي هو غالبي وَمنْ جَرَّبَ الأيّامَ عوَّد نفَسُه ... قِراعَ اللَّيالي لا قِراع الكتائِبِ عَلى أَنّ لي في مَذْهَبِ الصَّبْرِ مَذْهباً ... يَزيدُ اتّساعاً عندَ ضِيقِ الْمَذاهبِ وما وَضَعَتْ منّي الْخُطوبُ بقدَرِ ما ... رَفْعَنْ وقد هَذَّبْنني بالتَّجارِب أَخَذْنَ ثَراءً غَيْرَ باقٍ عَلَى النَّدى ... وأَعْطَيْنَ فَضْلاً في النُّهَى غيرَ ذاهِب فَمالِيَ لا رَوْضُ الْمَساعي بِمُمْرِعٍ ... لَدَيّ وَلا ماءُ الأَماني بساكبِ كأَنْ لم يكنْ وَعْدي لَدَيْها بحائِنٍ ... زَماناً وَلا دَيْني عليها بِواجِبِ وَحَاجَةِ نَفْسٍ تَقْتَضِيها مخَايِلي ... وَتَقْضي بها لي عادلاتٍ مَناصِبي عَدَدْتُ لهَا بَرْقَ الغَمامِ هُنَيْدَةً ... وأُخْرى وما مِن قَطْرَةٍ في المَذانِبِ وَهلْ نافِعي شَيْمٌ منِ العَزم صادِقٌ ... إذا كنتُ ذا بَرْقٍ من الحظِّ كاذِبِ وَإِني لأَغْنَى بالْحَديثِ عَن الْقِرَى ... وَبالبَرْق عن صَوْبِ الْغُيوث السَّواكبِ قَناعَةُ عِزٍّ لا قَناعةُ ذِلَّة ... تزُهَدَّ في نَيْلِ الغِنَى خَيْرَ راغِب إذا ما امْتطى الأَقوامُ مَرْكَبَ ثَرْوَةٍ ... خُضوعاً رَأَيْتُ الُعْدمَ خَيْرَ مَراكبي وَلوْ رِكبَ النّاسُ الْغِنَى بِبَراعةٍ ... وفَضْلٍ مُبينٍ كُنتُ أَوَّلَ راكِبٍ وَقَدْ أَبْلُغُ الْغاياتِ لستُ بِسائرٍ ... وَأَظْفَرُ بالحاجاتِ لَستُ بِطالِبِ وَما كُلُّ دانٍ من مَرامٍ بظافرٍ ... وَلا كُلُّ ناءِ عن رَجاءٍ بخائِبِ وإنّ الْغِنَى مِنّي لأَدْنى مَسافةً ... وأَقَربُ ممّا بَيْنَ عَيْني وَحاجبي سأَصْحَبُ آمالي إلى ابنِ مُقَلَّدٍ ... فَتُنْجحُ ما أَلْوَى الزَّمانُ بصاحِبِ فما اشْتَطَّتِ الآمالُ إلاّ أَباحَها ... سَماحُ عَليٍّ حُكْمَها في الْمَواهِبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 إذا كُنتَ يَوْماً آمِلاً آمِلاً لهُ ... فَكُنْ واهِباً كلَّ المُنَى كُلَّ واهِبِ وَإنّ امْرَءاً أَفْضى إِليهِ رَجاؤُهُ ... فَلمْ تَرْجُهُ الأَمْلاكُ إِحْدَى الْعَجائِبِ مِنَ الْقَوْمِ لَوْ أَنَّ اللَّيالي تَقَلَّدَتْبِأَحْسابِهِمْ لمْ تَحْتَفِلْ بالْكَواكِبِ من أحسن البيتين، وأبلغ المعنيين، فهما كدرتين توأمين. إذا أَظْلَمَتْ سبُلُ السُّراةِ إلى الْعُلا ... سَرَوْا فَاسْتَضاؤوا بَيْنَها بالْمَناسِبِ هُمُ غادَرُوا بالْعِزِّ حَصْباءَ أَرْضِهِمْ ... أَعَزَّ مَنالاً مِنْ نُجومِ الْغَياهِبِ تَرى الدَّهْرَ ما أَفْضى إلى مُنْتَواهُمُ ... يُنَكِّبُ عَنْهُمْ بالْخُطوبِ النَّواكِبِ إذا المُنْقِذِيُّونَ اعْتَصَمْتَ بِعِزِّهِمْخَضَبْتَ الْحُسامَ الْعَضْبَ مِنْ كُلِّ خاضِبِ أُولِئكَ لمْ يَرْضَوْا مِنَ الْعِزِّ وَالْغِنىسِوى ما اسْتَباحُوا بالْقَنا وَالْقَواضِبِ كَأَنْ لمْ يُحَلِّلْ رِزْقَهُمْ دِينُ مَجْدِهِمْبِغَيْرِالْعَوالي وَالْعِتاقِ الشَّوازِبِ إذا قَرَّبوها لِلِّقاءِ تَباعَدَتْ ... مَسافَةٌ ما بَيْنَ الطُّلى وَالتَّرائِبِ إذا نزلَوا أَرْضاً بها الْمَحْلُ رُوِّضَتْ ... وَما سُحِبَتْ فيها ذُيولُ السَّحائِبِ بِأَنْدِيَةٍ خُضْرٍ فِساحٍ رِباعُها ... وَأَوْدِيَةٍ غُزْرٍ عِذابِ المَشارِبِ أَرى الدَّهْرَ حَرْباً لِلْمُسالِمِ بَعْدَماصَحِبْناهُ دَهْراً وَهْوَ سِلْمُ المُحارِبِ فَعُذْ بِنَهارِيِّ الْعَداوَةِ أَوْحَدٍ ... مِنَ الْقَوْمِ لَيْليِّ النَّدى وَالرَّغائِبِ تَنَلْ بِسَديدِ الُمْلِك ثَرْوَةَ مُعْدِمٍ ... وَفَرْجَةَ مَلْهوفٍ وَعِصْمَةَ هارِبِ سَعى وارِثُ الَمْجدِ التَّليدِ فَلمْ يَدَعْ ... بِأَفْعالِهِ مَجْداً طَريفاً لِكاسِبِ يُغَطّي عَلَيْهِ الْحَزْمُ بالْفِكَرِ التَّي ... كَشَفْنَ لَهُ عَمّا وَراءَ العَواقِبِ وَرَأْيٍ يُري خَلْفَ الرَّدى مَنْ أَمامَه ... فما غَيْبُهُ الْمَكُنونُ عَنْهُ بِغائِبِ بَقِيتَ بَقاءَ النَّيِّراتِ وَمِثْلَها ... عُلُوّاً وَصَرْفاً عَنْ صُروفِ النَّوائِبِ وَدامَ بِنُوكَ السِّتَّةُ الزُّهْرُ إنَّهُمْ ... نُجومُ الْمَعالي في سَماءِ الْمَناقِبِ سَلَلْتَ سهِاماً مِنْ كِنانَة لمْ يَزَلْ ... يُقَرْطِسُ مِنْها في الْمُنى كلُّ صائِبِ فَأَدْرَكْتَ ما فاتَ الْمُلوكَ بِعَزْمَةٍ ... تَقومُ مَقامَ الْحَظِّ عِنْدَ الْمَطالِبِ وَما فُتْقَهُمْ حَتّى تَفَرَّدْتَ دُونَهُمْبِرَأْيِكَ في صَرْفِ الْخُطوبِ اللَّوازِبِ وَما شَرُفَتْ عَنْ قِيمَة الزُّبَرِ الظبَّي ... إذا لمْ يُشَرِّفْها مَضاءُ الْمَضارِبِ تَجافَيْتُ عَنْ قَصْدِ المُلوكِ وَعِنْدَهُمْ ... رَغائِبُ لمْ تَجْنَحْ إليْها غَرائِبي تَناقَلُ بي أَيْدي الْمَهاري حَثيثَةً ... كما اخْتَلفَتْ في الْعَقْدِ أَنْمُلُ حاسِبِ إذا الشَّوْقُ أَغْراني بِذِكْرِكَ مادِحاً ... تَرَنَّمْتُ مُرْتاحاً فَحَنَّتْ رَكائبِي بِمَنْظومَةٍ مِنْ خالِصِ الدُّرِّ سِلْكُها ... عُروضٌ وَلِكْن دُرًّها مِنْ مَناقِبِ تُعَمَّرُ عُمْرَ الدَّهْرِ حَتّى إذا مَضى ... أَقامَتْ وَما أَرْبَتْ عَلَى سِنِّ كاعِبِ شَعَرْتُ وَحَظُّ الشِّعْرِ عِنْدَ ذَوي الْغِنىشَبيهٌ بِحَظِّ الشَّيبِ عِنْدَ الْكَواعِبِ وَما بيَ تَقْصيرٌ عَنِ الْمَجْدِ وَالْعُلى ... سِوى أَنَّني صَيَّرْتُهُ مِنْ مَكاسِبي يُعَدُّ مَعَ الأَكْفاءِ مَنْ كانَ عَنْهُمُغَنِيّاً وَإِنْ لمْ يَشْأَهُمْ في الْمَراتِبِ وَلوْ خَطَرَتْ بي في ضَميرِكَ خَطْرَةٌ ... لَعادَتْ بِتَصْديقِ الظُّنونِ الْكَواذِبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 وَأَصْبَحَ مُخْضَرّاً بِسَيْبِكَ مُمْرِعاً ... جَنابي وَمَمْنوعاً بِسَيْفِكَ جانبي وكلمته القافية في مدح أبق، التي عبارتها من عبرة الصب وأيام الصبا أرقٌ، ومعناها من سحر لحظ المحبوب أدق. قال مجد العرب العامري: قلت للرواية إذ أنشد البيت الأول: أين الشعر منه؟ فقال: هكذا سألني ابن الخياط عند إنشاده إياي، فقلت له: أنت أعرف. فقال: هو في العجز، قوله: أعند القلوب دمٌ للحدق؟ وصدر البيت دخل في شفاعة هذا العجز المعجز، المعلم بالسحر المطرز، المفدي بالقلوب والأحداق، الشهي ولا تشهي المحب لذيذ العناق، ولشغفي بها نظمت على وزنها ورويها قصيدةً في المولى الوزير عون الدين - ضاعف الله اقتداره على إسداء الأيادي، وإرداء الأعادي - وما قصرت عن شأوها؛ لكن الفضل للمتقدم. وقد أوردتها في الموضع الذي أوردت شعري فيه وما سبق إلى بيتي مدحه في أبق في إعطاء صناعة التجنيس حقها، لما ملك رقها، واختراع معناهما البكر الذي لم يقرع شأوه بالافتراع، ولهذه القطعة قبولٌ من القلوب والأسماع، وهي: سَلُوا سَيْفَ أَلْحاظِهِ الْمُمْتَشَقْ ... أَعِنْدَ الْقُلوبِ دَمٌ لِلْحَدَقْ؟ أَمَا مِنْ مُعينٍ وَلا عاذِرٍ ... إذا عَنُفَ الشَّوْقُ يَوْماً رَفَقْ! تَجَلّى لَنا صارِمُ المُقْلَتَ ... يْنِ ماضي المُوَشَّحِ وَالمُنْتَطَقْ مِنَ التُّرْكِ ما سَهْمُهُ إذْ رَمى ... بِأَفْتَكَ مِنْ طَرْفِهِ إذْ رَمَقْ تَعَلَّقْتُهُ وَكَأَنَّ الْجَمالَ ... يُضاهي غَرامي بِه وَالْعَلَقْ وَلَيَلَة وافَيْتُهُ زائِراً ... سَميرَ السُّهادِ ضَجيعَ الْقَلَقْ كَأَنّي لِرِقْبَتِهِ حابِلٌ ... دَنَتْ أُمُّ خِشْفٍ لَهُ مِنْ وَهَقْ دَعَتْني الْمَخافَةُ مِنْ فَتْكِهِ ... إلَيهِ وَكَمْ مُقْدِمٍ مِنْ فَرَقْ وَقَدْ راضَتِ الْكأْسُ أَخْلاقَهُ ... وَوُقِّرَ بالسُّكْرِ مِنْهُ النَّزَقْ وَحُقَّ الْعِناقُ فَقَبَّلْتُهُ ... شَهِيَّ الْمُقَبَّلِ وَالْمُعْتَنَقْ وَباتَتْ ثَناياهُ عانِيَّةَ الْمَرا ... شِفِ دَارِيَّضةَ الُمْنَتَشَقْ وَبِتُّ أُخالجُ شَكّي بِهِ ... أَزَوْرٌ طَرَا أَمْ خَيالٌ طَرَقْ أُفَكِّر في الْهَجْرِ كَيْفَ انْقَضَى ... وَأَعْجَبُ لِلْوَصْلِ كَيْفَ اتَّفَقْ فَلِلْحُبِّ ما عَزَّ مِنّي وَهانَ ... وَلِلْحُسْنِ ما جَلَّ مِنْهُ وَدَقّ لَقَدْ أَبِقَ الْعُدْمُ مِنْ راحَتَيَّ ... لَمّا أَحَسَّ بِنُعْمى أَبَقْ تَطاوَحَ يَهْرُبُ مِنْ جُودِهِ ... وَمَنْ أَمَّهُ السَّيْلُ خافَ الْغَرَقْ وقصيدته في حسان بن مسمار بن سنانٍ، أحسن رونقاً من الإحسان، وأفتن للعقول من طرفٍ فاترٍ وسنان. ذكر الرواية أنه كان إذا قيل له: أي قصائدك تختارها؟ يقول: الرائية. وهي: هِيَ الدِّيارُ فَعُجْ في رَسْمِها الْعاري ... إنْ كانَ يُغْنيكَ تَعْريجٌ عَلَى دارِ إِنْ يَخْلُ طَرْفُكَ مِنْ سُكاّنهِا فَبِهاما يَمْلأُ الْقَلْبَ مِنْ شَوْقٍ وَتَذْكارِ يا عَمْرُو ما وَقْفَةٌ في رَسْمِ مَنْزِلَةٍ ... أَثارَ شَوْقَكَ فيها مَحْوُ آثارِ أَنْكَرْتَ فيها الْهَوى ثُمَّ اعْتَرَفْتَ بهِ ... وَما اعْتِرافُكَ إلاّ دَمْعُكَ الْجاري تَشْجُو الدِّيارُ وَما يَشْجُو أَخا كَمَدٍ ... مِنَ الْهَوى مِثْلُ دارٍ ذاتِ إِقْفارِ يا حَبَّذا مَنْزِلٌ بالسَّفْحِ مِنْ إضَمٍ ... وَدِمْنَةٌ بِلِوى خَبْتٍ وَتِعْشارِ وَحَبَّذا أُصُلٌ يُمْسي يُجَرُّ بها ... ذَيْلُ النَّسيمِ عَلى مَيْثاءَ مِعْطارِ لَوْ كُنْتُ ناسِيَ عَهْدٍ مِنْ تَقادُمِهِ ... نَسِيتُ فيها لُباناتي وَأَوْطاري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 أَيّامَ يَفْتُكُ فيها غَيْرَ مُرْتَقَبٍ ... ظَبْيُ الْكِناسِ بِلَيْثِ الْغابَةِ الضّاري يَصْبُو إلَيَّ وَيُصْبي كلَّ مُنْفِردٍ ... بالدَّلِّ والْحُسْنِ مِنْ بادٍ وَمِنْ قارِ لا أُرْسِلُ اللَّحْظَ إلاّ كانَ مُؤْقِعُهُ ... عَلَى شُموسٍ مُنيراتٍ وَأَقمارِ ما أَطْيَبَ الْعَيْشَ لَوْ أَنّي وَفَدْتُ بهِ ... عَلَى شَبابٍ وَدَهْرٍ غَيْرِ غَدّارِ آْلانْ قَدْ هَجَرَتْ نَفْسي غَوايَتَها ... وَحانَ بَعْدَ حُلولِ الشَّيْبِ إِقْصاري وَالْعَيْشُ ما صَحِبَ الْفِتيْانُ دَهْرَهُمُ ... مُقَسَّمٌ بَيْنَ إِحْلاءٍ وَإِمرارِ يا مَنْ بِمُجْتَمَعِ الشَّطَّيْنِ إنْ عَصَفَتْبِكُمْ رِياحي فَقَدْ قَدَّمْتُ إِعْذاري لا تُنْكِرُنَّ رَحِيلي مِنْ دِيارِكُمُ ... لَيْسَ الكَريمُ عَلَى ضَيْمٍ بِصَبارٍ يَأْبى ليَ الضَّيْمَ فُرْسانُ الصَّباحِ وَما ... حَبَّرْتُ مِنْ غُرَرٍ تُهْدى وَأَشْعارِ وَقَدْ غَدَوْتُ بِعزِّ الدّينِ مُعْتَصِماً ... إنَّ الْكِرامَ عَلَى الأيّامِ أَنْصاري مَلْكٌ إذا ذُكِرَتْ يَوْماً مَواهِبُهُ ... أَثْرى الرَّجاءُ بها مِنْ بَعْدِ إِقْتارِ يُعْطيكَ جُوداً عَلَى الإقْلالِ تَحْسِبَهُ ... وَافاكَ عَنْ نَشَبٍ جَمٍّ وَإكْثارِ رَيّانُ مِنْ كَرَمٍ مَلْآنُ مِنْ هِمَمٍ ... كَأَنَّهُ السَّيْفُ بَيْنَ الماءِ وَالنّارِ لَيْسَ الْجَوادُ جَواداً ما جَرى مَثَلٌ ... حَتّى يَكونَ كَحَسّانِ بْنِ مِسْمارِ الْواهِبُ الْخَيلَ إِمّا جِئْتَ زائِرَهُ ... أَقَلَّ سَرْجَكَ مِنْها كُلُّ طَيّارِ الَطّاعِنُ الطَّعْنَة الْفَوْهاءَ جائِشَةً ... تَرُدُّ طاعِنَها عَنْها بِتَيّارِ يَكادُ يَنْفُذُ فيها حَيْثُ يُنْفِذُها ... لَوْلا عُبابُ دَمٍ مِنْ فَوْرِها جارِ تَلْقى السِّنانَ بها وَالسَّرْدَ تَحْسِبَهُ ... ما ضلَّ مِنْ فُتُلٍ فيها وَمِسْبارِ في كَفِّهِ سَيْفُ مِسْمار الّذي شَقِيتْ ... هامُ الُملوكِ بِه أَيّامَ سِنْجارِ لا يَأْمُلُ الرِّزْقَ إلاّ مِنْ مَطالِبِه ... فَرْسَ الْهُمامِ بِأَنْيابٍ وَأَظْفارِ نِعْمَ الْمُناخُ لِشُعْثٍ فوْتِ مَهْلكَةٍ ... أَرْماقِ مَسْغَبَةٍ أَنْضاءِ أَسْفارِ لا يَشْتَكونَ إلِيهِ الْمَحْلَ في سَنَةٍ ... يَشْكو بها السَّغَبَ الْمَقْرِيُّ وَالْقاري سَحابُ جَوْدٍ عَلَى الرّاجينَ مُنْهَمِلٍ ... وَبَحْرُ جُودٍ عَلَى الّلاجينَ زَخّارِ إذا تَرَحَّلَ عَنْ دارٍ أقَامَ لَهُ ... مِنَ الصَّنائِع فيها خيْرُ آثارِ كالْغَيْثِ أَقْلَعَ مَحْموداً وَخَلَّفَ ما ... يُرْضيكَ مِنْ زَهرٍ غَضٍّ وَنُوّارِ تَبْقى الذَّخائِرُ مِنْ فَضْلاتِ نِائِلِه ... كَأَنَّها غُدُرٌ مِنْ بَعْدِ إِمْطارِ مُظَفَّرُ الْعَزْمِ ما تَأْلو مُوَفَّقةً ... آراؤُهُ بَيْنَ إِيرادٍ وَإصْدارِ سامٍ إلى الشَّرَفِ الْمَمْنوعِ جانِبُهُ ... نامٍ مِنَ الْحَسَبِ الْعاري مِنَ الْعارِ مُخَوَّلٌ في جَنابٍ بَيْتَ مَمْلَكَةٍ ... عَزّوا بِه وَأَذّلوا كلَّ جَبّارِ أَيّامَ ذَلَّتْ لها ما بَيْنَ خَرْشَنَةٍ ... وَبْيَن غَزَّةَ مِنْ رِيفٍ وَأَمْصارِ يَقودُها مِنْ سِنانٍ عَزْمُ مُتَّقِدٍ ... أَمامَها كَسِنانِ الصَّعْدَةِ الْواري يَرْمي بِأَعْيُنِها في كلِّ داجِيَةٍ ... مِنْهُ إلى كَوْكَبٍ بالسَّعْدِ سَيّارِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 يَبيتُ كُلُّ ثَقيلِ الرُّمْح حامِلهُ ... في سرْجِ كلِّ خَفيفِ اللِّبْدِ مِغْوارِ مَجْدٌ تَأَثَّلَ في نَجْدٍ أَوائِلُهُ ... وَشِيدَ بالشّام مِنْهُ الطّارِفُ الطّاري يَا بْن الْكِرامِ الألى ما زالَ مَجْدُهُمُ ... مُغْرًى بِقِلَّةِ أَشْباهٍ وَأَنْظارِ الَمْانِعينَ غَداةَ الْخَوْفِ جارَهُمُ ... وَالْحافِظَينَ بِغيْبٍ حُرْمَةَ الْجارِ بِيضُ الْعَوارِفِ أَغْمارٌ إذا وَهَبوا ... جُوداً وَلَيْسُوا إذا عُدّوا بِأَغْمار لا يَصْحَبُ الدَّهْرَ مِنْهُمْ طُولَ ما ذِكروا ... إلاّ الثَّناءُ وَإلّا طِيبُ أَخْبارِ إِنَّ الْعَشائِرَ مِنْ أَحْياءِ ذي يَمَنٍ ... لَمّا بَغَوْكَ جَرَوْا في غَيْرِ مِضْمارِ أَصْحَرْتَ إذْ مَدَّ بالْمَدّانِ سِيْلُهُمُوَاللَّيْثُ لا يُتَّقي مِنْ غَيْرِ إصْحارِ سالُوا فَأَغْرَقُهمْ قَطْرٌ نَضَحْتَ بِه ... ما كُلُّ سَيْلٍ عَلَى خيْلٍ بِجَرّارِ مالُوا فَقَوَّمَ فيهِمْ كلَّ مُنْأَطِرٍ ... طَعْنٌ يُعَدِّلُ مِنْهُمْ كلَّ جَوّارِ حَتّى إذا نَهَتِ الأُولى فما انْتَفعوا ... بالنَّهْيِ وَالبَغْيُ فيهِمْ شَرُّ أَمّارِ أَنَجْتَها وَحَمَيْتَ الشّامَ مُعْتِقداً ... أَنْ ليْسَ يَنْفعُ إلاّ كلُّ ضرّارِ قَدْ نابَك الدَّهْرُ أَزْماناً بِغَيْرِهِمُ ... فَظَلَّ يِغْمِزُ عُوداً غَيْرَ خوّارِ وَكَمْ أَبَتَّ عَلَى ثأْرٍ ذَوي ضَغَنٍ ... وَلْم تَبِتْ قطُّ مِنْ قَوْمٍ عَلَى ثارِ إِنْ زُرْتُ دارَكَ عَنْ شَوْقٍ فمَدْحُكَ بي ... أَوْلى وَما كلُّ مَدَّاحٍ بِزَوّارِ لَيْسَ المُطيقُونَ حِجَّ البْيَتْ ما تَركُوا ... فَريضَةَ الْحَجِّ عَنْ زُهْدٍ بِأَبْرارِ وَقَدْ أَتَيْتُكَ أَسْتَعْدي عَلَى زَمَنٍ ... لا يَشْرَبُ الْحُرُّ فيهِ غَيْرَ أَكْدارِ مُوَكَّلُ الْجَوْرِ بِالأَحْرارِ يَقْصِدُهُمْ ... كَأَنَّهُ عِنْدَهُمُ طَلاّبُ أَوْتارِ وَالْحَمدُ أَنْفَسُ مَذْخُورٍ تَفوزُ بهِ ... فَخُذْ بِحَظِّكَ مِنْ عَونٍ وَأَبكارِ مِنَ الْقَوافي الَّتي ما زِلْتُ أُودِعُها ... عُلاَلَة الرَّكْبِ مِنْ غادٍ وَمِنْ سارِ إنَّ السَّماَحَة أُولاها وَآخِرَها ... في كَفِّ كلِّ يَمانٍ يَا بْنَ مِسْمارِ لا تَسْقِني بِسِوى جَدْوى يَدَيْكَ فمَا ... يُرْوي مِنَ السُّحْبِ إلاّ كلُّ مِدْرارِ وَلَسْتُ أَوَّلَ راجٍ قادَهُ أَمَلٌ ... قَدْ راحَ مِنْكَ عَلَى شَقْراءَ مِحْضارِ وقصيدته في أبي الحسن علي بن عمارٍ، أعقر للعقول من كأس العقار، وأعذر إلى العذول من آس العذار. وهي: أَمَا وَالْهَوى يَوْمَ اسْتَقَلَّ فَريقُها ... لَقَدْ حَمَّلَتْني لَوْعَةً لا أُطيقُها تَعَجَّبُ مِنْ شَوْقي وَما طالَ نَأْيُها ... وَغَيْرُ حَبيبِ النَّفْسِ مَنْ لا يَشُوقُها فَلا شَفَّها ما شَفَّني يَوْمَ أَعْرَضَتْ ... صُدوداً وَزُمَّتْ لِلتَّرَحُّلِ نُوقُها أَهَجْراً وَبَيْناً شَدَّ ما ضَمِنَ الْجَوى ... لِقَلْبَي داني صَبْوَةٍ وَسَحيقُها وَكُنْتُ إذا ما اشْتَقْتُ عَوَّلْتُ في الْبُكا ... عَلَى لُجَّةٍ إنْسانُ عَيْني غَريقُها فَلمْ يَبْقَ مِنْ ذِي الدَّمْعِ إلاّ نَشيجُهُ ... وَمِنْ كَبِدِ المُشْتاقِ إلّا خُفوقُها فَيا لَيْتَني أَبْقى ليَ الْهَجْرُ عَبْرَةً ... فَأَقْضي بها حَقَّ النَّوى وَأُريقُها وَإِنّي لآبي الْبِرَّ مِنْ وَصْلِ خُلَّةٍ ... وَيُعْجِبُني مِنْ حُبِّ أُخْرى عُقوقُها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 وَأُعْرِضُ عَنْ مَحْضِ الَمَوَّدِة باِذلٍ ... وقَدْ عَزَّني مِمَّنْ أَوَدُّ مَذِيقُها كَذلِكَ هَمّي واَلنُّفوسُ يَقودُها ... هَواها إلى أَوْطارِها وَيَسوقُها فَلْو سأَلَتْ ذاتُ الْوِشاحَيْنِ شِيمَتي ... لَخَبَّرَها عَنّي الْيَقينَ صَدُوقُها وَما نِكِرَتْ مِنْ حادِثاتٍ بَرَيْنَني ... وقَدْ عَلِقَتْ قَبْلي الرِّجالَ عَلُوقُها فَإمَّا تَرَيْني يابْنَةَ الْقَوْمِ ناحِلاً ... فَأَعْلى أَنابيبِ الرِّماحِ دَقِيقُها وَكُلُّ سُيوفِ الْهِنْدِ لِلْقَطْعِ آلَةٌ ... وَأَقْطَعُها يَوْمَ الْجِلادِ رَقيقُها وَما خانَني مِنْ هِمَّةٍ تَأْمُلُ الْعُلى ... سِوى أَنَّ أَسْبابَ الْقَضاءِ تَعوقُها سَأَجْعَلُ هَمّي في الشَّدائِدِ هِمَّتي ... فَكَمْ كُرْبَةٍ بِاْلَهِّم فُرِّجَ ضِيقهُا وَخَرْقٍ كَأَنَّ أَلْيَمَّ مَوْجُ سَرابِه ... تَرامَتْ بِنَا أَجْوازُهُ وَخُروقُها كَأَنّا عَلَى سُفْنٍ مِنَ الْعِيسِ فَوْقَهُ ... مَجاذِيفُها أَيْدي الَمطايا وَسُوقُها نُرَجّي الْحَيا مِنْ راحَةِ ابْنِ مُحَمَّضدٍ ... وَأَيُّ سَماءٍ لا تُشامُ بُروقُها؟ فَما نُوِّخَتْ حَتّى أَسَوْنا بِجُودِهِ ... جِراحَ الْخُطوبِ المُنْهَراتِ فُتوقُها وَإِنَّ بُلوغَ الْوَفْدِ ساحَةَ مِثْلِهِ ... يَدٌ لِلْمَطايا لا تُؤَدَّي حُقوقُها عَلَوْنَ بآفاقِ الْبِلادِ يَحِدْنَ عَنْ ... مُلوكِ بَني الدُّنْيا إلى مَنْ يَفوقُها إلى مَلِكٍ لَوْ أَنَّ نَور جَبينِهِ ... لَدى الشَّمْسِ لَمْ يُعْدَمْ بِلَيْلٍ شُروقُها هُمامٌ إذا ما هَمَّ سَلَّ اعْتِزامَهُ ... كما سُلَّ ماضي الشَّفْرَتَيْنِ ذَليقُها يَطولُ إذا غالَ الذَّوابِلَ قَصْرُها ... وَيَمْضي إذا أَعْيَا السِّهامَ مُروقُها نَهى سَيْفُهُ الأَعْداءَ حَتّى تَناذَرَتْ ... وَوُقِّرَ مِنْ بَعْدِ الْجِماحِ نُزوقُها وَما يُتَحامى اللَّيْثُ لَوْلا صِيالُهُ ... وَلا تُتَوَقّى النّارُ لَوْلا حَريقُها وَقى اللهُ فيكَ الدّينَ وَالْبَأَسَ وَالنَّدىعُيونَ الْعِدى ما جاوَرَ الْعَيْنَ مُوقُها عَزَفْتَ عَنِ الدُّنْيا فلَوْ أَنْ مُلكهَا ... لِمُلْكِكَ بَعْضٌ ما اطَّباكَ أَنِيقُها خُشُوعٌ وَإيمانٌ وَعَدْلٌ وَرَأْفَةٌ ... فَقَدْ حُقَّ بِالُّنعْمى عَلَيْكَ حَقيقُها عَلَوْتَ فَلمْ تَبْعُدْ عَلَى طالِبٍ نَدًى ... كَمُثْمِرَةْ يَحْمِي جَناها بُسُوقُها فَلا تَعْدَمِ الآمالُ رَبْعَكَ مُوْئِلاً ... بِه فُكَّ عانِيها وَعَزَّ طَليقُها سَبَقْتَ إِلى غاياتِ كُلِّ خَفِيَّةٍ ... وَما يُدْرِكُ الْغاياتِ إلاّ سَبُوقُها وَلَمّا أَغَرْتَ الْباتِراتِ مُخَنْدِقاً ... تَوَجَّعَ ماضِيها وَسِيىءَ ذَلوقُها وَيُغْنِيكَ عَنْ حَفْرِ الخْنَادقِ مِثْلُهامِنَ الضَّرْبِ إِمّا قاَم لِلْحَرْبِ سُوقُها وَلكِنَّها في مَذْهَبِ الْحَزْمِ سُنَّةٌ ... يَفُلُّ بها كَيْدَ الْعَدُوِّ صَديقُها لَنا كُلَّ يَوْمٍ مِنْكَ عِيدٌ مُجَدَّدٌ ... صَبوحُ التَّهاني عِنْدَهُ وَغَبُوقُها فَنَحْنُ بِهِ مِنْ فَضْلِ سَيْبِكَ في غِنًى ... وَفي نَشَواتٍ لمْ يُحَرَّمْ رَحيقُها وَقَفْتُ الْقَوافي في ذَراكَ فَلمْ يِكُنْ ... سِواكَ مِنَ الأَمْلاكِ مَلْكٌ يَرُوقُها مُعَطَّلَةٌ إلاّ لَديْكَ حِياضُها ... وَمَهجورَةٌ إلاّ إلَيْكَ طَريقُها وَما لِيَ لا أُهْدي الثَّناءَ لأَهْلِهِ ... وَلي مِنْطِقٌ حُلْوُ المَعاني رَشيقُها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 فإنْ تَكُ أَصْنافُ الْقَلائِدِ جَمَّةً ... فما يَتَساوى دُرُّها وَعَقيقُها وقصيدته التي في أبي النجم هبة الله بن بديع الأصبهاني وزير الملك تتش، وكان قد سافر إلى العراق معه من دمشق، وورد الري، وأنشده إياها بها في سنةٍ ثمانٍ وثمانين وأربعمائةٍ، كل بيتٍ منها لؤلؤٌ في سمطٍ، وبيت المخلص واسطته، وما سمعت أحسن من مخلص هذه القصيدة، وهو: وَخَيْلٍ تَمَطَّتْ بي وَلَيْلٍ كَأَنَّهُ ... تَرادُفُ وَفْدِ الْهمِّ أَوْ زاخِرُ الْيَمِّ شَقَقْتُ دُجاهُ وَالنُّجومُ كَأَنَّها ... قَلائِدُ نَظْمي أَوْ مَساعي أَبي النَّجْمِ حكى لي مجد العرب العامري قال: كان عندنا بالشام كاتبٌ يعرف بابن القدوري، ذكر أنه لما رماه القدر، بالفقر الكاسر للفقر، فأعرق في أيام السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه، سقاها الله، منتجعاً؛ وانتحل هذه القصيدة، وقصد الصدر الشهيد عزيز الدين أحمد بن حامدٍ، عمك؛ وهو حينئذٍ يتولى استيفاء المملكة، وأنشده إياها، فاهتز لها، فلما بلغ إلى المخلص وقد غيره بأبياتٍ ضعيفةٍ ركيكةٍ، أطرق العزيز ساعةً، وقام ودخل، ثم خرج وجلس، وأدناه إليه وقال: اصدقني لمن هذا الشعر؟ وفيمن قيل؟ حتى تنتفع؟ فحدثته بحديثي وقلت: ما عرفت إلى معروفك من وسيلةٍ، خيراً من ادعاء فضيلةٍ، وما أنا من أرباب النظم، وهذه القصيدة لابن الخياط في أبي النجم، وأنشدته المخلص، ونقدت على محك فضله الإبريز المخلص، فظهرت تباشيره، وأنارت أساريره، وأمر لي بمائة دينارٍ أميريةٍ، وجوائز سنيةٍ، وثوبٍ أطلس مذهبٍ، وبركان قصبٍ، وصار ينوه بذكري في العسكر، وينبه على قدري، ويقول: شاعرٌ مجيدٌ، وفاضلٌ مفيدٌ، حتى اكتسبت أموالاً، وحليت حالاً، ونعمت بالنعمة بالاً. وكان يقول: أنا إلى الآن في نعمة العزيز. ويناسب هذه الحكاية حكايةٍ أخرى سمعتها منه، وأرويها عنه، قال: كان من شعراء العصر، تاجرٌ سافر إلى مصر، فغرقت بضاعته في البحر، ونجا بنفسه حاملاً أعباء الفقر، فلم يمكنه قول الشعر، لضيق الصدر، فانتحل قصيدة عبد المحسن الصوري في الوزير المغربي التي جمع فيها بين الرقة واللطافة والجودة والصناعة. وهي: أَتُرى بِثأْرٍ أَمْ بِدَيْنِ ... عَلِقَتْ مَحاسِنُهُ بِعَيْني في لَحْظِها وَقَوامِها ... ما في الْمُهَنَّدِ وَالرُّدَيْني وَبِوَجْهها ماءُ الشَّبا ... بِ خَليطُ نارِ الوْجَنْتَيَنْ بَكَرَتْ عَلَيَّ وَقَالَتِ اخْ ... تَرْ خَصْلَةً مِنْ خَصْلَتَيْنِ إمّا الصُّدودَ أَوِ الْفِرا ... قَ فَلَيْسَ عِنْدي غَيْرُ ذَيْنِ لا تَفْعَلي إنْ حانَ حَيْنُ ... كِ أَوْ فِراقُكِ حانَ حَيْني فَكأَنَّني قُلْتُ انْهَضي ... فَمَضْت مُسارِعَةً لَبِيْني ثُمَّ اسْتَقَلَّتْ أَيْنَ حَلَّتْ ... عِيُسها رُمِيَتْ بِأيْنِ وَنَوائِبٍ أَظْهَرْنَ أَيّ ... امي إِلَّي بِصورَتَيْنِ سَوَّدْنَها وَأَطَلْنَها ... فَرَأَيْتُ يَوْماً لَيْلَتَيْنِ هَلْ بَعْدَ ذِلكَ مَنْ يُعَرِّ ... فُني النُّضارَ مِنَ اللُّجَيْنِ فَلَقَدْ جَهِلْتُهُما لِبُعْ ... دِ الْعَهْدِ بِيْنَهُما وَبَيْني مُتَصَرِّفاً بالشِّعْرِ يا ... بِئْسَ الْبِضاعَةُ في الْيَدَيْنِ كانَتْ كَذلِكَ قَبْلَ أَنْ ... يَأْتي عَلِيُّ بْنُ الْحَسْينِ فَالْيَوْم حالُ الشِّعْرِ ثا ... لِثَةً كَحالِ الشِّعْرَيَيْنِ إلى آخر القصيدة. قال: فمدح بها الشاعر كبيراً يدعى ذا المنقبتين، وزاد فيها بيتاً آخر وهو: وَلَكَ المْناقِبُ كُلُّها ... فَلِمَ اخْتَصَرْتَ عَلَى اثْنَتَينِ؟ فأحسن إليه وأكرمه، وأمر له بجائزةٍ سنيةٍ، فلامه بعض خواصه وقال: هذا شعر عبد المحسن الصوري، فقال: إنما أعطيته لهذا البيت الواحد، فإني أعلم أنه له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 وسمعت من مجد العرب ما يشبه هذا، أنه كان بآمد شاعرٌ مفلقٌ، يقال له ابن أسدٍ، فانتحل قصيدةً له رائيةً الكامل الطبيب اليزدي الأصفهاني عند كونه بالشام، في ريعان عمره، وعنفوان أمره، ومدح بها بعض أمراء العرب، فأمر له بمائة ناقةٍ، فقال له ندماؤه: أيها الأمير! إن هذه، قصيدة ابن أسدٍ، معروفةٌ سائرةٌ، فكتب الأمير إلى ابن أسدٍ بآمدٍ: قد أتانا شاعرٌ، ومدحنا بقصيدةٍ هي كذا، وزعم بعض خواصي أنها لك، فأخبرنا حتى لا نصله بشيءٍ، وإن كانت له حتى نزيد في صلته، فكتب إليه ابن أسدٍ يحلف بالأيمان أنه ما سمعها ولا قالها. فلما ارتقى أمر الكامل أيام نظام الملك، وانتظمت أموره من السعادة في سلكٍ، وتوجه ملكشاه إلى الشام، والكامل في خدمة النظام، وأمر السلطان بالقبض على ابن أسدٍ، لكونه استولى على آمد وبملكها استبد، فأحضر مكتفاً حاسراً حافياً، وظن أنه أصبح خاسراً خاسياً، فمر به الكامل راكباً، وكان عن عرفانه ناكباً، فقرب منه، فسأل عنه، فقيل له: هذا ابن أسد، ذئبٌ قد استأسد. فنزل عن دابته، ومنع الحواشي عن حاشيته، ثم تشفع إلى السلطان في حقه، وأخرجه من ساعته من الحبس بشفاعته، فقال له ابن أسدٍ: من أنت؟ ومن أين تعرفني، حتى أرى مثل هذا الجميل الذي يشملني ويكنفني؟ فقال له: أنا منتحل قصيدتك الرائية. قال: هي لك؛ فإني ما انتفعت بنظمها كما انتفعت بانتحالها و. وهي ثلاث حكاياتٍ متقاربةٍ، متلائمةٍ متناسبةٍ، في انتحال بعض الشعراء شعر بعضٍ، رأيت ذكرها مثل الفرض وإنما أوردتها عند ذكر انتحال قصيدة ابن الخياط التي في أبي النجم، السيارة سير النجم، وهي: أَيَا بَيْنُ ما سُلِّطْتَ إلاّ عَلَى ظُلْميوَيَا حُبُّ ما أَبْقَيْتَ مِنّي سِوى الْوَهْمِ فِراقٌ أتى في إثْرِ هَجْرٍ وَما أَذىً ... بِأَوْقَعَ مِنْ كَلْمٍ أَصابَ عَلى كَلْمِ لَقَدْ كانَ في الْوَجْدِ مَا يُقْنعُ الضَّنىوَفي الْهَجْرِ ما يَغْني بِه البْيَنْ عَنْ غَشْمي وَلكِنَّ دَهْراً أَثْخَتَنْتي جِراحُهُ ... إذا حَزَّ في جِلْدي أَلَحَّ عَلَى عَظْمي وَإنْ كُنْتُ مِمَّنْ لا يَذُمُّ سِوى النَّوىفإنَّ الْقِلى وَالصَّدَّ أَجْدَرُ بالذَّمِّ وَما مَنْ رَمى عَنْ غَيْر عَمْدٍ فَأَقْصَدَتْ ... نَوافِذُهُ كَمَنْ تَعَمَّدَ أنْ يَرْمي فَيَا قَلْبُ كَمْ تَشْقى بِدانٍ وَنَازِحٍ ... فَشاكٍ إلى خَصْمٍ وَبَاكٍ عَلَى رَسْمِ وَحَتّامَ أَسْشَفي مِنَ النّاسِ مَنْ بِهسَقَامي وأَسْتَرْوي مِنَ الدَّمْعِ مَا يُظْمي غَريمي بِدَيْنِ الْحُبِّ هَلْ أَنْتَ مُقْتَضًىوَهَلْ لِفُؤادٍ أَتْلفَ الْحُبُّ مِنْ غُرْمِ أَحِنُّ إلى سُقْمي لَعَلَّكَ عائِدي ... وَمِنْ كَلَفٍ أَنّي أَحِنُّ إلى السُّقْمِ وَبي مِنْكَ مَا يُرْدي الجْلَيدَ وَإَّنمَا ... لِحُبِّكَ أَهْوى أَنْ يَزيدَ وَأَنْ يَنْمي وَيَا لائمي أَنْ بَاتَ يُزْري بيَ الْهَوى ... عَلَيَّ سَفَاهي لا عَلْيكَ وَلي حِلْمي أَقْلبُكَ أمَ قَلْبي يُصَدَّع بالنَّوى ... وَجِسْمُكَ يَضْني بالْقَطيعَةِ أَمْ جِسْمي وَلا غَرْوَ أَنْ أَصْبَحْتَ غُفْلاً مِنَ الْهَوىفَأَنْكَرْتَ ما بي لِلصَّبابَة مِنْ وَسْمِ نُدوبٌ بِخَدّي للدُّموعِ كَأَنَّها ... فُلولٌ بِقَلْبي مِنْ مُقَارَعَةِ الْهَمِّ وَعاِئَبتي أَنَّ الخْطُوبَ بِرَيْنَني ... وَرُبَّ نَحيفِ الْجِسمِ ذُو سُؤْدُدٍ ضَخْمِ رَأَتْ أَثراً لِلنّائِبَاتِ كَما بَداعَلَى الْعَضْبِ ما أَبْقى بهِ الضَّرْبُ مِنْ ثَلْمِ فَلا تُنْكِري ما أَحْدَثَ الدَّهْرُ إِنَّما ... نَوائِبُهُ أَقْرانُ كلِّ فَتًى قَرْمِ وَلابُدَّ مِنْ وَصْلٍ تَسَهِّلُ وَعْرَهُ ... وَغًى تَنْتَمي فيها السُّيوفُ إلى عزِمي فَرُبَّ مَرامٍ قدْ تَعاطَيْتُ وِرْدَهُ ... فماَ ساغَ لي حَتّى أَمَرَّ لَهُ طَعْمي وَخَيْلٍ تَمَطَّتْ بي وَلَيلٍ كَأَنَّهُ ... تَرادُفُ وَفْدِ الْهَمِّ أَوْ زاخِرُ الْيَمِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 شَقَقَتْ دُجاهُ وَالنُّجومُ كأَنَهَّا ... قَلائِدُ نَظْمي أَوْ مَساعي أَبي النَّجْمِ إِلَيْكَ يَمينَ الُمْلِك واصَلْتُ شَدَّها ... مُقَلْقَلَةَ الأَعْلاقِ جائِلَةَ الْحَزُمِ غَوارِبُ أَحْياناً طَوالِعُ كُلَّما ... هَبَطْنَ فَضا سَهْلٍ عَلَوْنَ مَطَا حَزْمِ تَميلُ بها الآمالُ عَنْ كُلِّ مَطْمَعٍ ... دَنِيءٍ وَتَسْمو لِلطِّلابِ الَّذي يُسْمي تَزُورُ امْرَأً لا يُجْتَني ثَمَرُ الْغِنىبِمِثْلِ نَداهُ الْغَمْرِ وَالنّائِلِ الْجَمِّ مَتى جِئْتَهُ وَالْمُعْتَفونَ بِبابِه ... شَهِدْتَ بنُعْمى كَفِّهِ مَصْرَعَ الْعُدْمِ إِلى مُسْتَبِدٍّ بالْفَضائلِ قاسِمٍ ... لِهِمَّتِهِ مِنْ نَفْسِهِ أَوْفَرَ الْقَسِمْ تُعَدَّ عُلاهُ مِنْ مَناقِبِ دَهْرِهِ ... كَعَدِّكَ فَضْلَ اللَّيْلِ بالْقَمَرِ التِّمِّ وَكَرَّمَهُ عَنْ أَنْ يُسَبَّ بِمِثْلِه الزَّ ... مانُ كمالٌ زَيَّنَ الْجَّد بالْفَهْمِ وَجُودٌ عَلَى الْعافي وَذَبٌّ عَنِ الْعُلىوَصَدٌّ عَنِ الْواشي وَصَفْحٌ عَنِ الْجُرْمِ وَرُتْبَةُ مَنْ لمْ يَجْعَلِ الْحَظَّ وَحْدَهُطَريقاً إلى الْعالي مِنَ الرُّتَبِ الشُّمِّ تَناوَلَها اسْتِحْقاقُهُ قَبْلَ حَظِّهِ ... وَحامى عَلَيْها، وَالَمقاديرُ لمْ تَحْمِ وَغَيْرُ بَديعٍ مِنْ بَديعٍ مُشَيِّدٌ ... لِما شادَهُ وَالْفَرْعُ يُنْمي إلى الجْذْمِ سَقى الّلهُ عَصْراً حافِظَ ابْنَ مُحَمَّدٍ ... بما في ثُغورِ الْغانِياتِ مِنَ الظَّلْمِ أَغَرُّ إذا مَا الْخَطْبُ أَعْشى ظَلامُهُتَبَلَّجَ طَلْقَ الرَّأْيِ في الْحادِثِ الْجَهْمِ تَرِقُّ حَواشي الدَّهْرِ في ظِلِّ جُودِهِوَتَظْرُفُ مِنْهُ شِيَمُة الزَّمَنِ الْفَدْمِ وَيَكْبُرُ قَدْراً أَنْ يُرى مُتَكَبِّراًوَيَعْظُمُ مَجْداً أَنْ يِتَيهَ مَعَ الْعُظْمِ وَيَكْرُمُ عَدْلاً أَنْ يميلَ بِه الْهَوى ... وَيَشْرُفُ نَفْساً أنْ يَلَذَّ مَعَ الإثْمِ وَيُورِدُ عَنْ فَضْلٍ وَيُصْدِرُ عَنْ نُهًيوَيَصْمُتُ عَنْ عِلْمٍ وَيَنْطِقُ عَنْ فَهْمِ بَديهَةٍ رَأْي في رَوِيَّةِ سُودَدٍ ... وَإقْدامُ عَزْمٍ في تَأُيُّدِ ذي حَزْمِ خَلائِقُ إِنْ تَحْوِ الثنَّاءَ بِأَسْرِهِفمَا الفْخَرُ إلّا نَهُبْةُ الشَّرَفِ الْفَخْمِ أَبَرُّ عَلَى الأَقْوامِ مِنْ وَابِلِ الْحَياوَأَشْهَرُ في الأَيّامِ مِنْ شَيْبَةِ الدَّهْمِ أَضاءَتْ بِه الأوقاتُ وَالشَّمْسُ لمْ تُنِرْوَرُوِّضَتِ السّاحاتُ وَالْغَيْثُ لمْ يَهْمِ وَشُدَّتُ أَواخي المُلْكِ مِنْهُ بِأَوْحَدٍبَعيدِ عُرى الْعَقْدِ الْوَكيدِ مِنَ الْفَصْمِ فَتىً لا تُصافي طَرْفَهُ لذَّةُ الْكَرى ... وَلا تَطَّبي أَجْفانَهُ خُدَعُ الْحُلْمِ يُسَهِّدُهُ تَشْييدُهُ الْمَجْدَ وَالْعُلى ... وَتَفْريجُ غَمّاءِ الْحَوادِثِ وَالغْمِّ وَغَيْرُ النُّجومِ الزُّهْرِ يَأْلَفُهَا الْكَرىوَيَعْدَمُهَا الإِشْراقُ في ظُلَمِ الْعُتْمِ لَقَدْ شَرَّفَ الأَقْلاَم مَسُّ أَنامِلٍبِكَفِّكَ لا تَخْلو مِنَ الْجُودِ وَاللَّثْمِ فَكُلُّ نُحولٍ في الظُّبي حَسَدٌ لهَا ... وَكُلُّ ذُبولٍ غَيْرَةٌ بِالْقَنَا الصُّمِّ وَكُنْتَ إذا طالَبْتَ أَمْراً مُمَنَّعاًأَفَدْتَ بهَا ما يُعْجِزُ الْحَرْبَ في السِّلْمِ كَفَيْتَ الْحُسَامَ الَعضْبَ فَلَّ غِرارِهِوَآمَنْتََ صَدْرَ السَّمْهَرِيِّ مِنَ الْحَطْمِ وَجاراكَ مَنْ لا فَضْلَ يُنْجِدُ سَعْيَهُوَأَيُّ امْرِيءٍ يَبْغي النِّضالَ بلِا سَهْمِ لَكَ الذَّرُوْةَ ُالْعَلْياءُ مِنْ كُلِّ مَفْخَرٍسَنِيّ، وَما لِلْحَاسِدِينَ سِوى الرُّغْمِ وَكَيْفَ يُرَجِّي نَيْلَ مَجْدَِ طالِبٌ ... وَبَيْنَهُما ما بَيْنَ عِرْضِكَ وَالْوَصْمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 لَئِنْ أَوْحَدَتْني النّائِباتُ فإِنَّنيلَمِنْ سَيْبِكَ الْفَيّاضِ في عَسْكَرٍ دُهْمِ وَإِنْ لمْ أَفِدُ غُنْماً فَقُرْبُك كافِلٌ ... بِأَضْعافِهِ حَسْبي لِقاؤُكَ مِنْ غُنْمِ هَجَرْتُ إلَيْكَ الْعالَمينَ مَحَبَّةًوَمِثْلُكَ مَنْ يُبْتاعُ بِالْعُرْبِ وَالْعُجْمِ وَما قَلَّ مَنْ تَرْتاحُ نَظْمي صِفاتُهُ ... وَلكِنْ رَأَيْتُ الدرُّ َّألَيْقَ بالنَّظْمِ أَرى نَيْلَ أَقْوامٍ وَآبى امْتنِانَهُمْوَلَيْسَ تَفي لي لَذَّةُ الشُّهْدِ بِالسُّهِّم فَهَلْ لَكَ أَنْ تَنْتاشَنيِ بِصَنيعَةٍ ... يَلينُ بهَا عُودُ الزَّمانِ عَلَى عَجْمي تَحُلُّ مَحَلَّ الْماءِ عِنْدي مِنَ الثَّرىوَأَشْكُرُها شُكْرَ الرِّياضِ يَدَ الْوَسْمي أَقَرَّ ذَوُو الآدابِ طُرّاً لِمَنْطِقي ... وَغَيْرُهُمُ فيما حَكى كاذِبُ الزَّعْمِ فَلَسْتُ بِمُحْتاجٍ عَلَى ما ادَّعَيْتُهُ ... إلى شاهِدٍ بَعْدَ اعْتِرافٍ مِنَ الْخَصْمِ تُطيعُ الْقَوافي الآبِياتُ قَرائحي ... وَيَنْزِلُ فِيهنَّ الْكلامُ عَلَى حُكمْي وَسَيَّارَةٍ بِكْرٍ قَصَرْتُ عِنانَها ... فَطالَتْ بِه وَالْخَيلُ تَمْرَحُ في اللُّجْمِ نَمى ذِكْرُها قَبْلَ اللِّقاءِ وإَنَّما ... يَسُرُّكَ بَوْحي بالْمَحامِدِ لا كَتْمي كَمَخْتُومَةِ الدّارِيِّ نَمَّ بِفَضْلِها ... إلَيْكَ شَذاها قَبْلَ فَضِّكَ لِلْخَتْمِ حَديثَةُ عَصْرٍ كُلَّما امْتَدَّ دَهْرُها ... سَمَا فَخْرُها حَتّى تَطولَ عَلَى الْقُدْمِ وَما فَضْلُ بِنْتِ الْكَرْمِ يَوْماً بِبَيِّنإذا لمْ يَطُلْ عَهْدُ ابْنَةِ الْكَرْمِ بالْكَرْمِ ومن مراثيه البديعة، المسلية عن الفجيعة، قصيدةٌ استحسنتها وكثر بها إعجابي فأثبتها ولم يتعدها انتخابي، وهي قوله في قول ابن عثمان يعزي به أبق سنة إحدى وخمسمائةٍ: لَيْسَ الْبُكاءُ وَإِنْ أُطيلَ بِمُقْنِعي ... الْخَطْبُ أَعْظَمُ قِيمَةً مِنْ أَدْمُعي أَوَ كُلَّما أَوْدى الزَّمانُ بِمُنْفِسٍ ... مِنّي جَعَلْتُ إلى المَدامِعِ مَفْزَعي هَلاّ شَجاني أَنَّ نَفْسِيَ لمْ تَفِضْ ... أَسَفاً وَأَنَّ حَشَايَ لمْ تَتَقَطَّعِ مَا كانَ هذا الْقَلْبُ أَوَّلَ صَخْرَةٍ ... مَلْمومَةٍ قُرِعَتْ فَلمْ تَتَصَدَّعِ أَلْقى السِّلامَ عَلَى أَبَرَّ مُؤَمَّلٍ ... وَحَثَا التُّرابَ عَلَى أَغَرَّ سَمَيْدَعِ يا لَلرِّجالِ لِنازِلٍ لمْ يُحْتَسَبْ ... وَلحِادِيثٍ ما كانَ بالْمُتَوَقّعِ ما خِلْتُني أَلجْأ إلى صَبْرٍ عَلَى ... زَمَنٍ بِتَفْريقِ الأحِبَّةِ مُولَعِ تَاللهِ ما جارَ الزَّمانُ وَلا اعْتَدى ... بِأَشَدَّ مِنْ هذا المُصابِ وَأَوْجَعِ خَطْبٌ يُبَرِّحُ بالْخُطوبِ وَفادِحٌ ... مَنْ لمْ يَمُتْ جَزَعاً لَهُ لمْ يَجْزَعِ لا أَسْمَعَ النّاعي، فَأَيْسَرُ ما جنَى ... صَدْعُ الْفُؤادِ بِه وَوَقْرُ المِسْمَعِ يَا قُولُ قَوْلَةَ مُكْمَدٍ مُسْتَنْزِرٍ ... ماءَ الشُّؤونِ لَهُ وَنارَ الأَضْلُعِ شاكي النَّهارِ إذا تَأَوَّبَ لَيْلُهُ ... هَجَعَ السَّليمُ وَطَرْفُهُ لمْ يَهْجَعِ مَلآْنَ مِنْ حُزْنٍ فَلَيْسَ لِفَرْحَةٍ ... أَوْ تَرَْةٍ بِفؤادِهِ مِنْ مَوْضِعِ أَشْكُو إلى الأيّامِ فِيكَ رَزِيَّتي ... لَوْ تَسْمَعُ الأَيّامُ شَكْوى مُوجَعِ وَأَبِيتُ مَمْنوعَ الْقَرارِ كَأَنَّني ... ما راعَني الْحَدَثانُ قَطُّ بِأَرْوَعِ وَرَنينِ مَفْجُوعٍ لَديْكَ وَصَلْتُهُ ... بِحَنينِ باكِيَةٍ عَلَيْكَ مُرَجَّعِ غَلَبَ الأسى فيكَ الأُساةَ فَلا أَرى ... مَنْ لا يُكاثِرُ عَبْرَتي وَتَفُّجعي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 فإِذا صَبَرْتُ فَقَدْتُ مِثْلِيَ صابراً ... وَإذا بَكَيْتُ وَجَدْتُ مَنْ يَبكي مَعي قَدْ غَضَّ يَوْمُكَ ناظِري بَلْ فَضَّ فَقْ ... دُكَ أَضْلُعي وَأَقَضَّ بُعْدُكَ مَضْجَعي أَخْضَعْتَني لِلنّائِباتِ وَمَنْ يُصَبْ ... يَوْماً بِمِثِلَك يَسْتَذِلَّ وَيَخْضَعِ وَأَهانَ خطَبْكُ ما بِقَلْبي مِنْ جَوًى ... كالسَّيْلِ طَمَّ عَلَى الْغَديرِ الْمُتَرِع يَا قُولُ ما خانَ الْبَقاءُ وَإِنَّما ... صُرِعَ الزَّمانُ غَداةَ ذاكَ الْمْصَرِع مَا كُنْتُ خائِفِهَا عَلَيْكَ جِنَايَةً ... لَوْ كَانَ هذا الدَّهْرُ يَعْقِلُ أَوْ يَعي صُلْ بَعْدَها يَا دَهْرُ أَوْ فَاكْفُفْ وَخُذْمَنْ شِئْتَ يَا صَرْفَ الْمَنِيَّةِ أَوْ دَعِ قَدْ بَانَ بِالْمَعْروفِ أَشْجى بَائِنٍ ... وَنَعى إلَيْنا الْجُودُ أَعْلى مَنْ نُعي غَاضَ الْحِمامُ بِزاخِرٍ مُتَدَفِّقٍ ... وَهَوى الْحُسامُ بِبِاذِخٍ مُتَمَنِّعِ مِنْ دَوْحَةِ الْحَسَبِ الْعَلِيِّ المُنْتَميوَسُلالَةِ الْكَرَمِ الْغَزيرِ المَنْبَعِ إِنْ أَظْلَمَتْ تِلْكَ السَّماءُ فَقَدْ خَلامِنْ بَدْرِها الْأَبْهي مَكانُ المَطْلَعِ أَوْ أَجْدَبَتْ تِلْكَ الرِّباعُ فَبَعْدَما ... وَدَعَّتْ تَوْديعَ الْغَمامِ المُقْلِعِ أَعْزِزْ عَلَيَّ بِمِثْلِ فَقْدِكَ هالِكاً ... خَلَعَ الشَّبابَ وَبُرْدَهُ لمْ يَخْلَعِ لوْ أُمْهِلَتْ تِلْكَ الشَّمائِلُ لمْ تَفُزْيَوْماً بِأَغْرَبَ مِنْ عُلاكَ وَأَبْدَعِ قُلْ لي لأَيِّش فَضيَلةٍ لَمْ تُبْكِني ... إنْ كانَ قَلْبي ما بَكاكَ وَمَدَمْعَي لِجَمالِكَ المَشْهِور أَمْ لِكماِلك المَذْ ... كُورِ أَمْ لِنَواِلكَ الْمُتَبِّرعِ ما خالَفَ الإجْماعَ فيكَ مَقالتَي ... فَأُقيمَ بَيِّنَةً عَلَى ما أَدَّعي أَيُضَيِّعُ الْفِتْيانُ عَهْدَكَ إنَّهُ ... ما كَانَ عِنْدَكَ عَهْدُهُمْ بِمُضَيَّعِ قَدْ كُنْتَ أَمْرَعَهُمْ لِمُرتادِ النَّدى ... كَفَّاً وأَسْرَعَهُمْ إلى المُسْتَفْزِعِ حَلِيَتْ مَجالِسُهُمْ بِذِكْرِكَ وَحْدَهُ ... وَعَطَلْنَ مِنْ ذاكَ الأبيِّ الأَرْوَعِ وَالدَّهْرُ يَقْطَعُ بَعْدَ طُولِ تَواصُلٍ ... وَيَشُتِ بَعدَ تَلاؤُمٍ وَتَجَمُّعِ قُبْحاً لِعَادِيَةٍ رَمَتْكَ فإَنَّها ... عَدَتِ الذَّليلَ إلى الأَعَزِّ الأَمْنَعِ مَا كُنْتُ أَحْسِبُ أَنَّ ضَيْماً وَاصِلٌ ... بِيَدِ الدَّنِيِّ إلى الشَّريفِ الأرْفَعِ قَدَرٌ تَرَفَّعَ يَوْمَ رُزْئِكَ هَمُّهُ ... فَرَمى إلى الْغَرَضِ الْبَعيدِ المْنَزْعَ كَيْفَ الْغِلابُ وَكَيْفَ بَطْشُكَ وَاحِداً ... فَرْداً وَأَنْتَ مِنَ الْعِدى في مَجْمَعِ عَزَّ الدِّفاعُ وَما عَدِمْتَ مُدافِعاً ... لوْلا مَقادِرُ ما لَها مِنْ مَدْفَعِ وَلَقْد لَقِيتَ الْمَوْتَ يَوْمَ لَقِيَتُه ... كَرَماً بِأَنْجَدَ مِنْهُ ثَمَّ وَأَشْجَعِ عِفْتَ الدَّنِيَّةَ وَالْمَنِيَّةُ دُونَها ... فَشَرَعْتَ في حَدِّ الرِّماحِ الشُّرَّعِ وَلوَ اَنكَّ اخْترْتَ الأَمانَ وَجَدْتَهُ ... أَنّى وَخَدُّ اللْيْثِ لَيْسَ بِأَضْرَعِ مَنْ كانَ مِثْلَكَ لمْ يَمُتْ إلاّ لَقيً ... بَيْنَ الصَّوارِمِ وَالْقَنا الْمُتَقَطِّعِ جَادَتْكَ واكِفَةُ الدُّموعِ وَلمْ تَكُنْ ... لَوْلاكَ مُخْجِلَةَ الْغُيومِ الْهُمَّع وَبَكاكَ مُنْهَلُّ الْغَمامِ فَإِنَّهُ ... ما كانَ مِنْكَ إلى السَّماحِ بِأَسْرَعِ وَتَعَهَّدَتْ مَغْناكَ سَارِيَةٌ مَتى ... تَذْهَبْ تَعُدْ وَمَتى تُفاِرقْ تَرْجِعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 تَغْشَاكَ تائِقَةً تَزورُ وَتَنْثَني ... بِمُسَلِّمٍ مِنْ مُزْنِها وَمُوَدِّعِ تَحْبُوكَ مَوْشِيَّ الرِّياضِ وَإنِّما ... يُهْدَي الرَّبيعِ إلى الرَّبيع المُمْرِعِ لاَ يُطْمِعِ الأَعْداءَ يَوْمٌ سَرَّهُمْ ... إِنَّ الرَّدى في طَيِّ ذاكَ المَطْمَعِ الثَّأْرُ مَضْمونٌ وَفي أَيْمَانِنَا ... بِيضٌ كَخاطِفَةِ الْبُروقِ اللُّمَّعِ وَذَوابِلٌ تَهْوِي إلى ثُغَرِ الْعِدى ... تَوْقَ الْعِطاشِ إلى صَفاءِ المَشْرَعِ قَدْ آنَ لِلدَّهْرِ المُضِلِّ سَبيلَهُ ... أَنْ يَسْتَقيمَ عَلى الطَّريقِ الْمَهْيَعِ مُسْتَدْرِكاً غَلَطَ الليّالي فيكُمُ ... مُتَنَصِّلاً مِنْ جُرْمِها المُسْتَفْظَعِ أَفَغَرَّكُمْ أَنَّ الزَّمانَ أَجَرَّكُمْ ... طِوَلاً بِبَغْيِكُمُ الوَخيمِ الْمَرْتَعِ هَلّا وَمَجْدُ الدِّينِ قَدْ عَصَفْت بِكُمْ ... عَزَماتُهُ بالْغَوْرِ عَصْفَ الزَّعْزَعِ وَغَداةَ عَلْعَالَ التَّي رَوَّتْكُمُ ... بالْبِيضِ مِنْ سَمُ الضِّرابٍ المُنْقَعِ لا تَأْمَنُنَّ صَرِيمَةً عَضْبِيَّةً ... مِنْ أَنْ تُقيمَ الْحَقَّ عِنْدَ المَقْطَعِ بِقَناً لِغَيْرِ رَداكُمُ لَمْ تَعْتَقَلْ ... وَظُبيً لِغَيْرِ بَوارِكُمْ لمْ تُطْبِع يَا خَيْرَ مَنْ سُمِّي وَأَكْرَمَ مَنْ رُجي ... وَأَبَرَّ مَنْ نُودي وَأَشْرَفَ مَنْ دُعي إِنّا وَإِنْ عَظُمَ الْمُصابُ فَلا الأَسى ... فيهِ الْعَصِيّ وَلا السُّلُوُّ بِطَيِّعِ لَنَرى بَقاءَكَ نِعْمَةً مَحْقُوقَةً ... بالشُّكْرِ مَا سُقِيَ الأَنامُ وَما رُعِي وَلَقَدْ عَلِمْتَ وَلْم تَكُنْ بِمُعَلَّمٍ ... أَنَّ الأَسى وَالْوَجْدَ لَيْسَ بِمُنْجِعِ هَيْهَاتَ غَيْرُكَ مَنْ يَضيقُ بِحَادِثٍ ... وَسِوَاكَ مَنْ يَعْيا بِحَمْلِ المُضْلِعِ دانَتْ لَكَ الدُّنْيَا كَأَحْسَنِ رَوْضَةٍ ... شُعِفَ النَّسيمُ بِنَشْرِها المُتَضَوِّعِ لا زالَ رَبْعُ عُلاكَ غَيْرَ مُعَطَّلٍ ... أبَداً وَسِرْبُ حِمَاكَ غَيْرَ مُرَوَّعِ مَا تاقَ ذُو شَجَنٍ إلى سَكَنٍ وَمَا ... وَجَدَ المُقيمُ عَلاَقةً بالْمُزْمِعِ وقد أثبتت من مقطعاته لمعاً، ومن ملحه ملحاً، ومن طرفه طرفاً، وأوردتها بها شغفاً. والذي عنيت من شعره بإثباته منتخب قصائده، ومنتخل مقطعاته. فمن ذلك بيتان في مرثيةٍ، وهما: يَا قَبْرُ مَا لِلْمَجْدِ عِنْدَكَ فاحْتَفِظْ ... بِمُهَنَّدٍ مَا كُنْتَ مِنْ أَغْمَادِهِ تَشْتَاقُ مِنْهُ الْعَيْنُ مِثْلَ سَوادِها ... وَيَضُمُّ مِنْهُ الصَّدْرُ مِثْلَ فُؤادِهِ قال مؤلف الكتاب: وتذكرت، عند إثبات هذين البيتين، بيتين نظمتهما بديهياً في أخي عثمان رحمه الله، وقد اتصل بي خبر موته عند العود من سفر الحج تغمد في محرم سنة تسعٍ وأربعين وخمسمائة، فأثبتهما: سَقَى اللهُ إِنْساناً لِعَيْني دَفَنتُهُ ... عَلَى رَغْمِ أَنْفي جاِعلاً قَبْرَهُ قَلْبي فَلا تَحْسِبَو أَنَّ التُّرابَ ضَريحُهُ ... فَمْنزِلُهُ بَيْنَ التَّرائِبِ لا التُّرْبِ وما سمعت من المراثي أحسن من بيتين أوردهما الأديب الباخرزي في كتاب دمية القصر في شعراء أهل العصر: بْرِغَمي أَنْ أُعاتِبَ فيكَ دَهْراً ... قَليلٌ فِكْرُهُ لِمُعَنِّفيهِ وَأَنْ أَرْعى النُّجومَ وَلَسْتَ فِيها ... وَأَنْ أَطَأَ التُّرابَ وَأَنْتَ فيهِ وقوله في الغزل في غلامٍ يستخرج ماء الورد، وقد احمرت وجنتاه من حرارة الوقد: يَا مُوقِدَ النّارِ الذَّي لمْ يَأْلُ في اسْتِ ... خْراجِ ماءِ الوَرْدِ غايَةَ جَهْدِهِ أَوَ مَا تَرى الْقَمَرَ المُحَرِّقَ ظالِماً ... قَلْبي بِنَارٍ مِنْ جَفَاهُ وَبُعْدِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 انْظُرْ إلَيْهِ تَضَرَّجَتْ وَجَناتُهُ ... خَجَلاً وَقَدْ عاتَبْتُهُ في صَدِّهِ إنْ تَخْبُ نَارُكَ فَاقْتَبِسْ مِنْ مُهْجَتيأَوْ يَفْنَ وَرْدُكَ فاقْتَطِفْ مِنْ خَدِّهِ وبيتان عملهما ليكتبا على قائم سيفٍ وهما: أَنَا وَالنَّدى سَيْفَانِ في ... يَدِ مَاجِدٍ نَصَرَ الْمَكارِمْ هذا يَفُلُّ بهِ الْخُطو ... بَ وَذا يَقُدُّ بِه الْجِماجِمْ وقوله في الشوق: وَتَعْتَادُني ذِكْراكَ في كُلِّ ساعَةٍ ... فَتَشْتَفُّني حَتّى تَهَيِّجَ وَسْواسي وَأَشْتَاقُكُمْ وَالْيَاْسُ بَيْنَ جَوانِحيوأَبْرَحُ شَوْقٍ مَا يَكُونُ مَعَ الْيَاسِ وَلوْلا الرَّدى مَا كانَ بِالْعَيْشِ وَصْمَةٌوَلوْلا النَّوى مَا كانَ بِالْحُبِّ مِنْ بَاسِ وقوله وقد أدنى إليه غلامٌ شمعةً فوقعت قطرةٌ منها عليه، فأحرقته: يا مُؤْذِياً بالنّارِ جِسْمَ مُحِبِّهِ ... نارُ الْجَوى أَحْرى بِأَنْ تَؤُذِيِه وَلِحَرِّهَا بَرْدٌ عَلَى كَبِدي إذا ... أَيْقَنْتُ أَنَّ تَحَرُّقي يُرْضيهِ عَذِّبْ بهَا جَسَدي فدِاكَ مُعَذَّباً ... وَاحْذَرْ عَلَى قَلْبي فَإنَّكَ فيهِ وقوله في الخمر ويصف شراباً أصفر: يا حُسْنَهَا صَفْراءَ ذاتَ تَلَهُّبٍ ... كالنّارِ إلاّ أَنَّهَا لاَ تَلْفَحُ عاطَيْتَنيهَا وَالمِزاجُ يَرُوضُها ... وَكَأَنَّهَا في الْكأْسِ طِرْفٌ يَجْمَحُ وَتَضَوَّعَتْ مِسْكِيَّةً فَكأَنَّهَا ... مِنْ نَشْرِ عِرْضِكَ أَوْ ثَنَائِكَ تَنْفَحُ وقوله وهو متوجهٌ من خراسان إلى دمشق: أَلاَ لَيْتَ شِعْري هَلْ أَبْيتَنَّ لَيْلِةً ... يُرَوِّحُني بالْغُوطَتَيْنِ نَسيمُ وَهَلْ تَجْمَعَنَّ الْكأْسُ شَمْلي بِفِتْيَةٍعَلَى الْعَيْشِ مِنْهُمْ نَضْرَةٌ وَنَعيمُ وقوله في يوم مطرٍ زاره فيه محبوبه: لِلهِ يَوْمٌ سَقَانا اللَّهْوُ وَالمَطَرُ ... بِه وَأُحْمِدَ مِنّا الْوِرْدُ وَالصَّدَرُ يَوْمٌ كَفَانَا مِنَ اللَّذّاتِ أَنَّ بِهلمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ حَتّى زَارنا الْقَمَرُ في قامَةِ الْغُصْنِ إلاّ أَنَّهُ رَشَأٌ ... في طَلْعَةِ الْبَدْرِش إلّا أَنَّهُ بَشَرُ زِيَارَةٌ لَيْتَ يَوْمي لا يَكُونُ لَهُ ... فيها عِشاءٌ وَلَيْلي ما لَهُ سَحَرُ وقوله: بِنَفْسِيَ مَنْ تُضيءُ بِه الدَّياجي ... وَيُظْلِمُ حينَ يَبْتَسِمُ النَّهَارُ وَمَنْ أَمَلي لِزَوْرَتِه غُرورٌ ... وَمَنْ نَوْمي لِفُرْقَتِهِ غِرارُ وقوله في جواب كتابٍ: وافى كِتابُكَ أَسْنى ما يَعودُ بِهِ ... وَفْدُ الْمَسَرَّةِ مِنّي إذْ يُوافيني فَظَلِتْ أُطْويهِ مِنْ شَوْقٍ وَأَنْشُرُهُ ... وَالشَّوْقُ يَنْشُرُني فيهِ وَيَطْويني وقوله في قدحٍ وقع من يد الساقي فانكسر: أَتُرى أَبْصَرَهُ مِثْلي الْقَدَحْ ... فَغَدا زَنْدُ حَشَاهُ مُقْتَدَحْ فَانْثَنى مُنكَسِراً مِنْ وَجْدِهِ ... بكَسِيرِ الطَّرْفِ كالظَّبْيِ سَنَحْ قَمْرٌ يَسْعَدُ أَنْ يُشْبِهَهُ ... قَمْرُ اللَّيْلِ إذا الليَّلْ ُجَنَحْ لَبِسَ الْحُسْنَ كَشَمْسِ الدَّوْلَةِ المَلْ ... كِ إذْ يَلْبَسُ مَعْشوقَ الْمِدَحْ وقوله في مجلس شراب: قُلْتُ لِلساقّي وَقَدْ طافَ بها ... قَهْوَةً مَصْبوغَةً مِنْ وَجْنَتَيْهِ أَتُرى مِنْ دَنِّةِ أَتْرَعَها ... أَمْ تُرى أَتْرَعَها مِنْ مُقْلَتَيْهِ أَمْ تُراهُ شارِباً مِنْ رِيِقِهِ ... ضِعْفَ ما يَشْرَبُ قَوْمٌ مِنْ يَدَيْهِ فأَرى أَعْطافَهُ شاهِدَةً ... أَنَّهُ قَدْ جارَتِ الْكأْسُ عَلَيْهِ مَنْ يَكُنْ هَامَ مِنَ الْوَجْدِ بِهِ ... فَلَقَدْ ذُبْتُ مِنَ الشَّوْقِ إلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 وذكر أنه كان مولعاً بالنرد واللعب به، وكان أبداً مقموراً، فنظم هذه المقطعة في صفة النرد، وأثبتها لانفرداها بفنها، ولم أسمع في هذا المعنى أحسن منها: أَقُولُ وَالْيَوْمُ بَهيمٌ خَطْبُهُ ... مُسْوَدُّ أَوْضَاحِ الضُّحى دَغُوشُها يُظْلِمُ في عَيْنَيَّ لا مِنْ ظُلْمَةٍ ... بَلْ مِنْ هُمومٍ جَمَّةٍ غُطوشُها وَالنَّرْدُ كالنَّاوَرْدِ في مَجالَهِا ... أَوْ كالْمَجُوسِ ضَمَّهَا ماشُوشُها كَأَنَّهَا دَساكِرٌ لِلُّشرْبِ أَوْ ... عَسَاكِرٌ جائِشَةٌ جُيوشُها وَلِلْفُصوصِ جَوْلَةٌ وَصَوْلَةٌ ... تُحَيِّرُ الأَلْبابَ أَوْ تَطيشُها قاتَلَها اللهُ! فَلا بِنُوجُها ... تَرْفَعُ بي رَأْساً وَلا شُشُوشُها أُرْسِلُها بِيضاً إذا أَرْسَلْتُها ... كَأَنَّها قَدْ مُحِيَتْ نُقوشُها كَأَنَّنِي أَقْرَأُ مِنْها أَسْطُراً ... مِنَ الزَّبورِ دَرَسَتْ رُقُوشُها كَأَنَّ نُكْراً أَنْ أَبيتَ لَيْلَةً ... مَقْمُورُهَا غَيْرِيَ أَوْ مَقْمُوشُها تُطيعُ قَوْماً عَمَّهُمْ نَصُوحُهَا ... وَخَصَّني مِنْ بَيْنِهِمْ غَشُوُشها يُجيبُهُمْ مَتى دَعَوْا أَخْرَسُها ... وَإِنْ يَقولوا يَسْتَمِعْ أَطْرُوشُها مَدَيْدِ بينَ دَأْبُهُمْ غَيْظي فما ... تَسْلَمُ مِنْهُمْ عِيشَةٌ أَعِيشُها كَأَنَّ رُوحي بِيْنَهُمْ أَيْكِيَّةٌ ... رَاحتْ وَكَفُّ أَجْدَلٍ تَنُوشُها يَبْتِكُ مِنْهَا لَحْمَها وَتارَةً ... تَكادُ تَنْجُو فَيُطارُ رِيشُها إذا احْتَبى أَبُو المُرَجّا فيِهُم ... فَهامُنَا مائِلَةٌ عُرُوشُها كَأَنَّما شَنَّتْ قُشَيْرٌ غارَةً ... عَجْلانُها الْحَرّابُ أَوْ حَريشُها كَأَنَّ تِلْكَ الْخَمْسَ مِنْهُ قُطِّعَتْ ... خَمْسَ أَفاعٍ مُرْعِبٌ كَشيشُها أَظْفارُها أَنْيابُها وَطالَما ... نَيَّبَ قَلْبي وَيَدي نَهُوشُها لا يَأْتَلي مِنْ ذَهَبٍ يَلُفُّهُ ... مِنّي وَمِنْ دَراهِمٍ يَحُوشُها وَمِنْ خِرافٍ لَهُمُ مِنْها الَّذي ... طابَ وَلي ما ضَمِنَتْ كُروشُها وَمِنْ دَجاجاتٍ إذا ما كُرْدِنَتْ ... كَأَنَّما شَكَّ فُؤادي شِيشُها وقوله: أَتَظُنُّني لا أَسْتَطيعُ ... أُحيلُ عَنْكَ الدَّهْرَ وُدّي مَنْ ظَنَّ أَنْ لا بُدَّ مِنْهُ ... فَإنَّ مِنْهُ أَلْفَ بُدِّ وتوفي ابن الخياط في رمضان سنة سبع عشرة وخمسمائةٍ. سني الدولة أبو محمدٍ الحسن بن يحيى بن محمدٍ بن الخياط الكاتب. هو ابن أخي الشاعر، وكتب لملوك دمشق الأتابكية. ولقيت ولده بدمشق، فاستنشدته شيئاً من شعر والده، فذكر أن يده في النظم قصيرةٌ، وأن غرر رسائله ودرر فضائله عنده كثيرةٌ، وكتب لي من نثر والده ما ذكرته. فصلٌ: ورد كتابه على عبد المجلس السامي، فلبس من مدارع الشرف أضفاها، وأحرز بمكانه من مزايا الجمال أوفاها، وكأنما صافحته أيدي الآمال، واحتفت به السعادة عن اليمين والشمال، ووفاه واجبه من الإعظام والإجلال. فصلٌ من منشور: والشريف فلانٌ ينتمي إلى أفخر المناسب، ويعتزي إلى أكرم المغارس والمناصب، وينزع إلى تلك الأرومة الشريفة، والدوحة العالية المنيفة، والأسرة التي فضلها الله تفضيلاً، وجعلها علماً يهتدي به الأرشدون سبيلاً، وقد تقيل مذاهب أسلافه الذين عرفوا بالأمانة، وعلموا الناس سنن الزهد والصيانة. فصلٌ في جواب مهزومٍ، كتب يتوعد بإقدام منه وقدومٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 وصل كتابه، فأما سلامته التي أخبرنا بها، وأرسل كتابه قاصداً ليقف على حقيقتها، فلم نستبعدها ولا تعجبنا منها، إذ لم يقتحم الحرب، ولا باشر الطعن والضرب، ولا لبث في حومتها إلا بقدر ما شاهد المنايا الحمر والسود، ورجالاً تفترس الأسود، حتى عاذ بالفرار، وطار به الخوف كل مطارٍ، وتجلل ملابس الخزي والعار، وأسلم من كان معه لأيدي الحتوف، وأنياب الصروف، وظبي السيوف، لو كان بذلها دونهم، وسمح بها لهم، أو كان فيها معهم، أو واسى بها نفوسهم، لكان ذلك له أزين، وبمثله أحسن، وكانت تلك الخطايا والذنوب التي ذكر أنها كانت السبب في الظفر، تمحص عنه، وتغفر له، ولكن ما لمحب الحياة، إلا أن يمعن في طلب النجاة، وما علم أن وفاة عزيزٍ خيرٌ من حياة ذليلٍ. وأما دليل الوعيد والتهديد، فأينا أحق بأن يطول ويصول، ويتوعد بالإقدام والوصول؟ من منحه الله عقائل النصر وصفاياه، وخصائصه ومزاياه؟ أم من راح مهزوماً مكلوماً، معنفاً بين جماعته ملوماً. وكان الأولى أن يبدي ما عنده من العول والعويل، والأسف الطويل، وأن يندب من ذهب من أسيرٍ وقتيلٍ، وإن كان عنده بقيةً لنوبةٍ أخرى: فإنَّ الْحُسامَ الصَّقيلَ الَّذي ... قُتِلْتُمْ بهِ في يَدِ الْقاتِلِ فَإنْ كانَ أَعْجَبَكُمْ عامُكُمْ ... فَعودُوا إلى حِمْصَ مِنْ قابِلِ وقد شاهدنا بالأمس ما تغني شواهده عن التطويل، وجملته عن التفصيل. فصل في منشور: لما كان فلانٌ حقيقاً بما يتظاهر عليه من الإحسان، خليقاً بما يولاه من عارفةٍ وامتنان، ويجدد عنده من صنيعةٍ لا تخلقها يد الزمان، ويبوأ من رتبةٍ لا تعلق بها فوارع الآمال، ومنزلةٍ لا تبلغها همم النظراء والأمثال، ومكاناً لما نؤهله من التعويل عليه في سد الثغور، ورم الأمور، وسياسة الجمهور، وإيالة الصغير والكبير، وتصريف أعنة الرأي والتدبير، وكفاية الملم إذا حدث، ومساورة الملم إذا كرث. فصلٌ وصل كتابه الكريم بما بشر به من الظفر الهني الذي نقع الغليل، والفتح السني الذي وقع الموقع الجميل، وأبان عن لطائف الصنع الجزيل، حين أبى فلانٌ الغوي الشقي إلا الاستمرار في مذاهب الضلال، والاغترار بكواذب الآمال، والاستجرار لجوالب الوبال والنكال، كأن لم يمض له ما فيه معتبرٌ لو اعتبر، وزاجرٌ عن المعاندة لو ازدجر، لكن أطاع وسواس النفس، وتناسى ما كان بالأمس، وساقه إلى خطة كذا سائقٍ الخسران، وحاول من استعادتها مالا تصل إليه يد الزمان، وحين علم بخفوف المواكب، ودلوف الكتائب، انقلب عنها بخيبة الأماني، ونفض يديه منها والرماح دواني، وتسرعت الخيول المنصورة، فأوقعت به الوقعة التي أجلت عن فراره، وكشفت عن سوء رأيه واختياره، وحصل عسكره ما بين هاربٍ مسلوبٍ، وهائمٍ على وجهه مطلوبٍ، وأسيرٍ أوبقته سوالف الذنوب. فصلٌ من أخرى: وصل كتابه معرباً عن حال فلانٍ، وما استهواه من غرور الشيطان، وأماني الزور والبهتان، وحدث نفسه بمقاومةٍ تضعف عنها قواه، وتقصر دونها خطاه، ولا تثبت لها قدماه، لكن اتبع هواه فأضله عن الهدى، ولم يتذكر ما مضى في النوبة الأولى، بل ران على قلبه ما ران، وأطبق جفونه عما وعظته به مواعظٍ الزمان، حتى صار إلى عواقب الندامة والخسران: (وإذا أراد الله بقومٍ سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من والٍ) ، وقصد موضع كذا ينازله، ويروم استعادته ويحاوله، حتى إذا أحس بدنو المسافة، طار بأجنحة المخافة، ولحقته الخيول المنصورة مسرعةً، ولآثاره متبعةً، فلبث قليلاً، وولى ذليلاً، ولم يغن فتيلاً، واقتسم عسكره، فما ترى إلا أسيراً أو قتيلاً. فصل من أخرى: وصل كتاب مولانا، فوقف عليه، واعتد بنعمة الله فيما أبان عنه من رأيه الجميل، ورعايته التي لا تستحيل، وحلوله من منازل الاختصاص بألطافها، ومن رتب ذوي الإخلاص بأبعدها غايةً وأشرفها، بحيث تقصر عنها يد المتطاول، وتضؤل همة المتناول، ولا ينبعث لها أمل آملٍ، وقام بالشكر عنها، واستحفظ بما أفاضه منه بها، وأحسن المجاورة لها، وأخذ بأسباب الخدمة وسلك سبيلها، وتمسك بالطاعة وتفيأ مقيلها، وحافظ على فريضتي الوفاء والولاء محافظة من هدي لرشده، وأري مكان قصده، ووثق بسعادة جده، ونظر مكان الحيرة فيما اعتمده، فألقى به عصاه، وأطاع رأيه الصحيح وما عصاه. فصلٌ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 وليس ذلك بغريبٍ من مثله، ولا بعجيبٍ مع فضله، مع ما عم من إحسانه، واشتهر من محاسن أمانه، وظهر من سيرته العادلة، وسياسته المتكاملة، وما حسنه الله من أخلاقه، وشرف أعراقه، أوزعه الله من النعم التي خوله إياها، واختصه بعقائلها وصفاياها، شكراً يحرسها من الزوال، ويؤنسها بالدوام والاتصال. فصلٌ وصل كتابه، فأنار من مواضع السرور ما كان أظلم، وجلا من معاهد الأنس ما كان استبهم، وسرحت طرفي في رياض سطوره، وأمتعت سمعي بمحاسن منظومه ومنثوره، وتهت عجباً بقراءة عقوده وشذوره، ووجدته قد أدالني من وحشةً القطيعة، وأعراني عن نكايتها الفظيعة، فكم منةٍ تقلدتها، وعارفةٍ تحملتها، ومحمدةٍ أبدأتها وأعدتها، وحقوقٍ لوروده قضيتها، ونذورٍ لوصوله وفيتها، ومجاراةٍ توخيتها، وخدمةٍ في ذلك التزمتها وأقمتها. فصلٌ: قلدناه تقليداً أطعنا به الواجب ودعاويه، وأقمنا دعائم الحق وسواريه. فصل من منشور القضاء: الشهود قواعد الأحكام، وبهم تدرأ الحدود وتقام، وبشهادتهم تثبت الحقوق وتنتزع، وعلى أقوالهم يعتمد الحاكم فيما يفصل ويقطع، وكاتبه لسانه، وحاجبه وجهه وعيانه، ويحتاج كلاهما أن يكون للصواب معتمداً، وفيما جملة وزين مكانه مجتهداً: (وما كنت متخذ المضلين عضداً) . فصلٌ من منشور بالوزارة: لما كان محله عندنا خطيراً، ومكانه لدينا مسكيناً أثيراً، لا قرين يجاريه، ولا نظير يماثله ويباريه، ولا متطاول يطمع في إدارك معاليه، شددنا بركنه أركانها، وسددنا به مكانها، وعولنا عليه فيها، واستنهضناه لتوليها، ورأيناه كفأها وكافيها، وإن كان له فيها سلفٌ قد مضى، فإنه لا يعول إلا على ما شيد وبنى، وقدم من المساعي التي نال بها ما تمنى: (ومن يقترف حسنةً نزد له فيها حسناً) . تم الجزء السادس من خريدة القصر وجريدة أهل العصر بتاريخ السادس والعشرين من رمضان من سنة اثنتين وأربعين وستمئةٍ. والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمدٍ وآله وصحبه وسلم. قسم شعراء مصر الجزء الأول بسم الله الرحمن الرحيم القسم الرابع في ذكر محاسن فضلاء مصر وأعمالها وبلاد المغرب وإيراد ما لهم من النظم المطرب والنثر المعجب وهو منقسم: الأول مصر وأنا مبتدىء بالديار المصرية لامتزاجي بأهلها، وابتهاجي بفضلها، وحصول مداري في فلكها، ووصول مرادي إلى ملكها، وإطلاعي على فضائلها، واضطلاعي بفواضلها، ودخولي إليها في خدمة سلطانها، وخروجي منها بشكر إحسانها، ومقامي فيها أترفرف على محاسنها، وأترشف من عذبها وآسنها، وأتحلى بعقود جواهرها، وأتملى من سعود زواهرها، نازلاً من المولى الأجل الفاضل في ظل إفضاله الوافر الوارف، واصلاً من ذرى المحل الكامل في ذيل إقباله الكافي إلى أبهج الرفارف، حاصلاً من الملك الناصر في المنى بالملك والنصر، حاملاً في سلطانه الباهر على العدا بالهلك والقهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 ومصر مربع الفضلاء، ومرتع النبلاء، ومطلع البدور، وموضع الصدور، وأهلها أذكياء أزكياء، يبعد من أقوالهم وأعمالهم العي والعياء، لاسيما في هذا الزمان المذهب، والوقت المهذب، بدولة مولانا الملك الناصر، جامع كلمة الإيمان، قامع عبدة الصلبان، صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، أبي المظفر يوسف بن أيوب محيي دولة أمير المؤمنين، ففي أيامه الزاهرة، ودولته القاهرة، أشرقت الأرض بنور ربها، وهبت الأرياح من مهبها، ورفعت معالم العدل والعلم، وخضعت دعائم الجهل والظلم، وأثبتت أمالي الآمال في دفاتر النجاح، وكتب أمان الأماني بمهارق الفلاح، واستدر جود الجود، واستقر طود الوجود، وزف هدي الهدى على خاطبي النصر، وحف ندي الندى بطالبي الوفر، واتضح الحق، واتضع الباطل، وعز العالم وذل الجاهل، وأفاض الأفاضل في الشكر، وراض الأماثل قرح القرائح في النظم والنثر، وعاد الرجاء مفتوح الرتاج، ممنوح النتاج، حالي التاج بيواقيت الفوز، علي السراج في مواقيت العز، أرج الآفاق بذائع البدائع، رائج الأسواق بضاع البضائع، بوجود المولى الفاضل، وجده المولى إلى الأفاضل، وكفى مصر فخراً سمو سناء فضله في ذراها، ودنو جنى أفضاله لذراها، فإنه ذو السؤدد الظاهر، والمحتد الطاهر، والسلف الكريم، والشرف الصميم، والعرف الزكي، والعرف الذكي، والفتوة الراجحة، والمروة الناجحة، والظن المخمر بالدين، واليقين المؤزر بالصدق المبين، والحق المتين، والبلاغة التي لم يبلغ إلى شأنها قسٌ والرأي الذي لم يهتد إلى سننه قيس، والبراعة التي نسخت شريعتها بالإعجاز شرائع الفصحاء، وبذخت صنعتها بالإحراز لبدائع البلغاء. وهو الذي راش نبل نبلي، وأعاش شخص فضلي، وأقام جاه أملي بعد الخمول، وأنام عين وجلي عند الذهول، وثبت عرش حفظي، ونبت غرس حظي، ونشرني وقد كاد يطوى اسمي، وأنشرني وقد كرب يبلى رسمي، ورغبني في قصد مصر عند توجه مولانا الملك الناصر من دمشق إليها عائداً وحقق عندي أنه يكون لي مساعفاً مساعداً، فسرت في أول شهر ربيع الأول من دمشق في الخدمة الناصرية، ووصلت آخر الشهر إلى القاهرة الصلاحية، فقابل وفادتي بوافر رفادته، وموافاتي بوافي إفادته، ونوه بذكرى، ونبه على قدري، ونظم أمري، واغتنم شكري، وخفف ثقلي، ورادف نهلي وعلي. وحين ملكت مادة بره، سلكت جادة شكره، وصار حمدي الحر له مسترقاً، ونفسي المستعبدة لآمالها بنجح آماله قد صادفت عتقاً. ومما نظمته في طريق مصر قصيدةٌ ذكرت فيها المنازل على ترتيبها، والشوق إلى دمشق وطيبها، ووصلتها بمدح الملك الناصر، وتلوى المولى الفاضل نعش جدها العاثر، وترويج حظها الكاسد، وسعرها القاصر، أولها هجرتكمُ لا عن مَلاَلِ ولا غَدرِ ... ولكن لمقدورٍ أُتيحَ من الأَمْر وما كنتُ أَدري أَن يُتَاحَ فراقكمْ ... ومن يعلمُ الأَمرَ المقدَّرَ أو يدري وأَعلمُ أَني مخطىءٌ في فراقكم ... وعذريَ في ذنبي وذنبيَ في عذرِي أَرى نُوَباً للدهر تُخْصَى وما أَرى ... أَشدَّ من الهجران في نُوَبِ الدهر بعيني إلى لُقْيَا سواكمْ غَشاوَةٌ ... وسمعي إلى نجوى سواكمْ لَذُو وَقْر وقلبي وصدري فارقاني لِبُعْدكمْ ... فلا صدرَ في قلبي ولا قلبَ في صدري وإِني على العهدِ الذي تعهدونَهُ ... وسرى لكم سرى، وجهري لكم جهرِي تجرعتُ صِرْفَ الهمِّ من كأْسِ شوقكمْ ... فها أَنا في صَحْوي نزيفٌ من السكر وإنَّ زماناً ليس يَعْمُرُ موطِني ... بسكناكمُ فيه فليس من العمر وأُقْسِمُ لو لم يَقْسِم البينُ بيننا ... جوى الهمِّ ما أمسيتُ مُنْقَسِمَ الفكر أَسيرُ إِلى مصرٍ وقلبي أسيرُكُمْ ... ومن عَجَبٍ أَسْرِي وقلبيَ في أَسْرِ أَخِلاَّيَِ قد شَطَّ المزارُ فأَرْسِلوا ... الخيالَ وزوروا في الكرى وارْبحُوا أَجْري تذكرتُ أَحبابي بجلَّقَ بعد ما ... ترحلتُ والمشتاقُ يأْنَسُ بالذكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 أخلايَ فَقْرِي في التنائي إليكمُ ... بحقِّ غِنَأكُمْ بالتداني ارْحَمُوا فَقْري ومنها في وصف المنازل: ولما قصدنا من دمشقَ غباغباً ... وبتنا من الشوق الممضِّ على الجمر نزلنا بصحراءِ الفَقيع وغُودِرَتْ ... فواقعُ من فيضِ المدامعِ في الغُدْرِ ونهنهتُ بالفُوّارِ فَوْرَ مدامعي ... ففاضتْ وباحتْ بالمُكَتَّم من سِرِّي سرينا إلى الزرقاءِ منها ومن يُصِبْ ... أُوَاماً يَسِرْ حتى يرى الوِرْدَ أَوْ يَسِرِ أَعَادَتْكِ يا زرقاءُ حمراءَ أَدْمُعِي ... فقد مَزَجَتْ زُرْقَ المواردِ بالحُمْرِ وَسُودُ هُمومي سَوَّدَتْ بيضَ أَزْمُنِي ... فيومي بلا نُورٍ وليلى بلا فجر أيا ليلُ زِدْ ما شئتَ طُولاً وظُلْمةً ... فقد أَذْهبَتْ منك السنا ظلمةُ الهَجْرِ تذكرتُ حَمَّامَ القُصَيْرِ وأَهْلَهُ ... وقد جُزْتُ بالحمَّامِ في البلدِ القَفْرِ ومنها: وردنا من الزيتون حِسْمَى وأَيْلَةً ... ولم نَسْتَرِحْ حتى صَدَرْنَا إلى صَدْرِ غَشِينَا الغَوَاشِي وهي يابسةُ الثَّرَى ... بعيدةُ عَهْدِ القُطر بالعَهْدِ والقَطر وَضَنَّ علين بالندى ثَمَدُ الحصى ... ومن يرتجي رِيّاً من الثمد النَّزْرِ فقلت اشرحي بالخِمْسِ صدراً مطيتِي ... بصَدْرٍ وإلا جادكِ النيلُ للعِشْر رأينا بها عينَ المواساة أَنَّنَا ... إلى عين موسى نبذلُ الزادَ للسَّفْر وما جسرتْ عيني على فيضِ عبرةٍ ... أَكَفْكِفُهَا حتى عَبَرْنَا على الجسر وملتُ إِلى أَرضِ السَّدِيرِ وجَنَّةٍ ... هنالك من طلحٍ نضيدٍ ومن سِدْر وجُبْنَا الفَلاَ حتى أَتَيْنَا مباركاً ... على بركة الجُبِّ المُبَشِّرِ بالقَصْرِ ولما بدا الفسطاطُ بَشَّرْتُ ناقِتي ... بمن يَتَلَقَّى الوفدَ بالوَفْرِ والبِشْر ولم أَنْسَ يومَ البينِ بالمَرْج نَشْرَنَا ... مطاويَ سِرٍ في الهوى أَرِج النَّشْرِ وقد أَقبلت نُعْمٌ وأَترابُها كما ... تَطَلَّعَ بَدْرُ التمِّ في الأَنجمِ الزُّهْر وقفنا وحادينا يحثُّ وناقتِي ... تَزُمُّ ولاَحِينَا لِمُغْرَمِنا مُغْرِ وكلُّ بَنَانٍ فوق سِنٍ لنَادِمٍ ... وكلُّ يدٍ فوق التريبةِ والنحر وبيعَ فؤادي في مناداةِ شوقهم ... فسُمْتُهُمُ أَنْ يأَخذوا الرُّوحَ بالسِّعْرِ بكت أُمُّ عمرٍو من وشيكِ تَرَحُّلِي ... فيا خجلتا من أُمِّ عمرٍو ومن عمرو تقولُ إلى مصرٍ تسيرُ! تعجباً ... وما الذي تَبْغي ومَنْ لَكَ في مصر تُبَدِّدُ في سَهْلٍ من العيش شَمْلَنَا ... وتنظمُ سِلْكَ العيشِ في المَسْلَكِ الوَعْرِ فقل أيما عُرْفٍ حَدَاكَ على النوى ... ومن ضَلَّةٍ أَنْ تطلب العُرْفَ بالنُّكْرِ ومن فارقَ الأَحبابَ مستبدلاً بهم ... سواهمْ فقد باعَ المرابحَ بالخُسْرِ فقلتُ ملاذي الناصرُ الملكُ الذي ... حصلتُ بجدواه على المُلْكِ والنَّصْر فقالت أَقِمْ لا تَعْدَمِ الخير عندنا ... فقلت وهل تُغْنِي السواقي عن البحر فقالتْ صلاحُ الدين قلت هو الذي ... به صارَ فضلي عاليَ الحظِّ والقَدْر ثِقِي برجوعٍ يَضْمَنُ اللهُ نُجْحَهُ ... ولا تَقْنَطِي أَن نُبْدِلَ العُسْرَ باليُسْرِ وإِنَّ صَلاحَ الدينِ إِنْ راحَ مُعْدِمٌ ... إِليه غَدا من فَيْضِ نَائِلهِ مُثْرِي نَعِزُّ بأفضال العزيزِ وفَضْلِهِ ... ونَحْسِبُ نفعاً كلَّ ما مَسَّ من ضُرِّ عطيته قد ضاعَفَتْ مُنَّةَ الرَّجَا ... ومِنَّتُهُ قد أَضْعَفَتْ مُنَّةَ الشكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 وماذا يحد المدح منه فإنما ... مناقِبُهُ جَلَّتْ عن الحدِّ والحَصْرِ ولي في الملك الناصر بعد مملكته مصر قصائد موسومة على اسمه ونعته، فمن جملة الموسومات على اسمه قصيدة نظمتها في سنة خمس وستين أنفذتها إليه بمصر، وهي هذه: يَرُوقُنِي في المَهَا مُهَفْهَفُهَا ... ومن قُدُودِ الحِسَانِ أَهْيَفُهَا ومن عيونِ الظباء أَفْتَرُهَا ... ومن خُصورِ المِلاحِ أَنْحَفُهَا ما سَقَمِي غَيْرُ سُقْمِ أَعْيُنِهَا ... ثُمَّ شِفائي الشفاهُ أَرشُفُهَا يُسْكِرني قَرْقَفُ يُشَعْشِعُهَا ... لحظُ الطَّلاَ لا الطِّلا وقرقفها يا ضَعْفَ قلبي من أَعْيُنٍ نُجُلٍ ... أَقْتَلُها بالقلوب أَضْعَفُهَا ومن عِذَارٍ كأَنَّهُ حَلَقٌ ... أَحْكَمَ في سَرْدِهِ مُضَعِّفُهَا ومن خدودٍ حُمْرٍ مُوَرَّدَةٍ ... أَدْوَمُهَا للحياءِ أَطْرَفُها في سَلْبِ لُبِّي تَلَطَّفَتْ فأَتى ... نحوي بِخَطِّ الصِّبا مُلَطِّفُهَا يا مُنكراً مِنْ هَوىً بُلِيتُ به ... علاقةً ما يكادُ يَعْرِفُها دَعْ سِرَّ وجدي فما أَبوحُ به ... وخلِّ حالي فلستُ أكشفها واصرف كؤوسَ الملام عن فِئَةٍ ... عن شرعةِ الحب لستَ تصرفها مِنْ شَرَفِ الحب حلَّ في مُهَجٍ ... أَقْبَلُهَا للغرام أَشْرَفُهَا لا يستطيِبُ السلوَّ مُغْرَمُهَا ... ولا يَلَذُّ الشفاءَ مُدْنَفُهَا فالقلبُ في لوعةٍ أُعالِجُهَا ... والعينُ في عَبْرَةٍ أُكَفكِفُهَا كأنَّ قلبي وَحُبَّ مَالِكُهُ ... مِصْرٌ وفيها المليكُ يُوسُفُهَا هذا بسَلْبِ الفؤاد يظلمني ... وهو بقتل الأَعداء يُنْصِفُهَا الملكُ الناصرُ الذي أَبَداً ... بعزِّ سلطانه يُشَرِّفُهَا بعدله والصَّلاحِ يَعْمُرُهَا ... وبالندى والجميلِ يكنفُهَا وِإنَّ مصراً بمُلْكِ يوسفِها ... جنةُ خُلْدٍ يَرُوقُ زُخْرُفُهَا وإنَّهُ في السَّمَاح حَاتِمُهَا ... وإنَّهُ في الوقارِ أَحْنَفُهَا كم آملٍ بالندى يُحَقِّقُهُ ... ومُنْيَةٍ بالنجاح يُسْعِفُهَا وليس يُوليك وَعْدَ عَارِفَةٍ ... إلاَّ وعندَ النجازِ يُضْعِفُهَا حَكَّمَ في مالهِ العفاةَ فما ... يَنْفُذُ فيه إلا تَصَرُّفُها وإن شَمْلَ اللُّهَا يُفَرِّقُهُ ... لِمَكْرُمَاتٍ له يُؤَلِّفُها ذو شرفٍ مكرماتُهُ سَرَفٌ ... ويستحقُّ الثناءَ مُسْرِفُها وعزمةٍ بالهدى تَكَفَّلَهَا ... وهمةٍ للعُلَى تَكَلُّفُهَا يوسفُ مصرَ التي مَلاحِمُها ... جاءَتْ بأَوْصافهِ تُعَرِّفُهَا كُتْبُ التواريخِ لا يُزَيِّنُهَا ... إلاَّ بأَوْصَافِهِ مُصَنِّفُهَا ومن يَمِيرُ العفاةَ في سَنَةٍ ... أَسْمَنُهَا للجدُوبِ أعْجَفُهَا آياتُ دين الإلهِ ظاهرةٌ ... فيكَ ويُثنِي عليكَ مُصْحَفُهَا ومنها أصف اجتهاده وجهاده للفرنج عند نزولهم على دمياط: كم جحفلٍ بالعراءِ ذي لَجَبٍ ... بالصفِّ منه يضيق صَفْصَفُهَا كالبحر طامِي العُبَابِ لاعبةٌ ... بموجه للرياح أَعْصَفُهَا كتيبة مُنْتَضَىً مُهَنَّدُهَا ... إلى الردى مُشْرَعٌ مُثَقَّفُهَا غَادَرْتَها للنسورِ مَأْكَلَةً ... حيث بأشلائها تُضَيِّفُهَا منتصفاً من رءوسِ طاعنةٍ ... بباتراتِ الظُّبَا تُنَصِّفُهَا وحُطْتَ دمياطَ إذ أَحاطَ بها ... مَنْ بِرُجُومِ البلاءِ يَقْذِفُهَا لاقَتْ غواةُ الفرنج خَيْبَتَهَا ... فزادَ مِنْ حسرةٍ تَأَسُّفُها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 فرَّ فَرِيرِيُّهَا وأَزْعَجَها ... نِداءٌ دَاوِيِّهَا تَلَهُّفُهَا يُمْطَرُ مُطْرَانُها العذابَ كما ... يُرْدَى بهدِّ السقوفِ أُسْقُفُها تَكْسِرُ صُلْبَانَهَا وتَنْكِسُها ... لقصمِ أَصْلاَبها وتَقْصِفُهَا أوردْتَ قُلْبَ القلوب أَرْشِيَةً ... من القنا للدماءِ تَنْزِفُهَا وَلَّيْتَهَا سَفْكَهَأ فعامِلُهَا ... عَامِلُهَا والسِّنَانُ مُشْرِفُهَا تعسَّفَتْ نحوكَ الطريقَ فما ... أَجدى سوى هُلْكِهَا تَعَسُّفُها وحسبها في العمى تَهَافُتُهَا ... بل لسهامِ الرَّدَى تَهَدُّفُهَا يُمْضي لك اللهُ في قتالهمُ ... عزيمةً للجهادِ تُرْهِفُهَا إِنْ أَظْلَمتْ سُدْفَةٌ أَنَرْتَ لها؛ ... أَبْهَى ليالي البدورِ مُسْدَفُهَا بشائرُ الدينِ في إزالته ... مواعد الله ليسَ يُخْلِفُهَا ومنها: أدركتَ ما أَعْجَزَ الملوكَ وقد ... بات إلى بَعْضِهِ تَشَوُّفُهَا جاوزتَ غاياتِ كلِّ منْقَبَةٍ ... يعز إلاَّ عليك مَوْقِفُهَا وإنَّ طُرْقَ العَلاَء واضحةٌ ... آمِنُها في السلوكِ أَخْوَفُها صلاحَ دين الهُدى لقد سَعِدَتْ ... مملكةٌ بالصلاحِ تُتْحِفُها عندي بشكر النُّعْمى ثِمارُ يدٍ ... زاكيةُ الغرسِ أنت تقطفها فاقبلْ نقوداً من الفضائلِ لا ... يُصَابُ إلا لديكَ مَصْرَفُها أصدافُ دُرِّي إليكَ أَحملها ... وعن جميع الملوك أَصْدِفُها إن لم تُصِخْ لي فهذه دُرَرِي ... لأيِّ مَلْكٍ سِواكَ أَرْصُفُها وهل لآمالنا سوى مَلِكٍ ... يَنْقُدُها بِرَّهُ ويُسْلِفُها دنيا من الفضلِ قد خَلَتْ وبدا ... للنَّقْصِ في أهله تَعَيُّفَها وكلُّ سوقٍ للفضلِ كاسدةٍ ... بانَ لأعدائه تَحَيُّفُها وهل يروج الرجاءُ في نَفَرٍ ... كُلُّهُمُ في العُلاَ مُزَيَّفُها قد عَطَفَتْ لي فضائلي وَوَفَتْ ... لكنْ حظوظي أَعيا تَعَطُّفُها وفضلىَ الشمسُ في مطالعها ... لكنَّ جهلَ الزمانِ يَكْسِفُها قد أَعْرَبَتْ فيك بالثنا كَلِمي ... وحاسدي ضَلَّةً يُحرَِفُها أَسْدَى لنا شِيرَكُوهُ عارفةً ... يوسفُ من بعدها سيخلفها أَنت قَمِينٌ بكلِّ تالدةٍ ... إنَّكَ يا ابنَ الكرامِ تُطْرِفُها ومنها قصيدة أخرى موسومة باسمه أنفذتها إليه من دمشق إلى مصرَ في شهر صفر سنة سبع وستين، أولها: مُتَثَنِّي العِطْفِ أهيفُهُ ... كيفَ لا يُرْجَى تَعَطُّفُهُ زادَ في قَتْلي تَسَرُّعُهُ ... ثم في وصلي تَوَقفُه يا ضنى جسمي لقد خطفَ ... القلبَ مُضْنَى الخصرِ مُخْطَفهُ وبنفسي من أراقَ دمي ... منه جَفْنٌ سُلَّ مُرْهَفُه وبلائي من مُقَبَّلِهِ ... وشفائي حين أَرْشُفهُ ولقلبي مالكٌ أبداً ... يتلافاهُ ويُتْلفه من لمهجورٍ يدومُ على ... وصلِ من يهوى تأَسُّفُهُ ومن البلوى تَلَهُّبُهُ ... ومن الشكوى تَلَهُّفهُه وسقيمُ الطرف يُسْقمه ... ونحيفُ الخصرِ يُنْحِفُه يتناهى في تَظَلُّمِه ... من حَبيبٍ ليسَ يُنْصِفُه حَبَّذا ليلُ الشبابِ وقد ... طاب للسمَّارِ مُسْدَفُه وزمانٌ بالعراقِ لنا ... رقَّ لما راقَ زُخْرُفُه حين يُصيبني مُقَرْطَقُه ... ويُصَافيني مُهَفْهَفُه ويُنَاجيني مُقَرَّطُهُ ... ويُنَاغيني مُشَنَّفُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618 ويعاطيني المُدَامَ وقد ... لانَ عند الوصل معْطَفُه كاد يُرْديني تَشَدُّدُه ... ثم أحياني تَلَطُّفُهُ ونجيٍ باتَ يُتْحِفني ... بشكاويه وأُتحِفُه قال إنَّ الدهرَ ليس على ... وفقِ ما نهوى تَصَرُّفُهُ وكسادُ الفضلِ في زمنٍ ... رائجٍ فيه مُزَيَّفُه أَترى في الناس كلِّهِمُ ... من لمعروفٍ تَشَوُّفُهُ قلتُ ما في الدهرِ غيرُ فتىً ... كلُّ ما قد فاتَ يُخْلِفُه إنْ يَسُدْ في الدهرِ ذو كرمٍ ... فصلاحُ الدين يُوسُفُه ومنها قصيدة مدحته بها في سنة اثنتين وسبعين بمصر وأنا في خدمته، أولها: فديتكَ من ظالمٍ مُنْصِفِ ... وناهيكَ من باخلٍ مُسْعِفِ بلقياكَ يُشْفَى سقامي الممضُّ ... ولكن بسفكِ دمي تَشْتَفي وتُخْلِفُ وعدكَ لي بالوصالِ ... حنانيكَ من واعدٍ مُخْلِفِ وتستحسنُ الغدر طبعاً ومَنْ ... وَفَى مِنْ ذوي الحسنِ حتى تَفِي! أَمِثْلكَ كلُّ حبيبٍ جَفَا ... ومِثْلِيَ كلُّ حبيبٍ جُفِي أيا لَيِّنَ العطفِ قاسي الفؤادِ ... بعيشك بالله لِنْ واعْطِفِ فما ترك الوجدُ لي مُسْكَةً ... ولا مُنَّةً ليَ لَمْ تَضْعُفِ تلافَ فصدُّكَ لي مُتْلِفٌ ... فُؤَادِي من الأَسفِ المتْلِفِ وإن كنتَ لابدَّ لي قاتلاً ... بما صنعَ الوجدُ بي فاكتفِ تناهيتَ في قَتْلَتِي عامداً ... فحيثُ انتهيتَ بقتلي قِفِ ثناياكَ بُرْئِيَ في رَشْفِها ... وقد طالَ سُقْمي ولم أَرْشُفِ أأنجو ومن قدِّك السمهريُّ ... لِجَيْنِي وفي جَفْنِكَ المَشْرَفي أيا مُسْرفاً في عذابي اقتصدْ ... أُعيذكَ من شَطَطِ المُسْرِفِ نُحُوليَ من خصركَ الناحلِ السَّقيم ... كعاشقِكَ المُدْنَفِ ومن سُقْمِ لحظكَ ذاكَ المريضِ ... شفائي وأُشْفِي أَنا لو شُفِي على خَطْفِ قلبي يحل الشباكَ ... عقدُ وشاحك في مُخْطَفِ أنا المستهامُ بذاك القوامِ ... وذاك المُوَشَّحِ والمِعْطَفِ وذاك المقبَّلِ والمبسمِ ... المفدَّى المفدَّمِ والقَرْقَفِ بخدِّكَ من وَهَجٍ شُعْلَةٌ ... أَحاطتْ بقلبي فما تَنْطَفي فإن تُخْفِ ألحاظُكَ القاتلاتُ ... دمي فبخديك ما يَخْتَفي غدا عاذلي عاذراً مُذْ رَأَى ... عِذاركَ كالقمرِ الأَكلَفِ وقال أَرَى خَدَّه مُرْهَفاً ... ولا عيبَ في خَصْرِه المُرْهَفِ أَقاحٍ وآسٌ ووَردٌ لها ... اجتماعٌ على غُصُنٍ أَهْيَفِ تَرَفَّقْ رفيقي فليتَ الذي ... يُعَنِّفُ في الحب لم يَعْنُفِ غرامٌ عَرَا وزمانٌ عَدَا ... فهلْ ظالمٌ منهما مُنْصِفي زمانٌ خلا من جميلٍ فليسَ ... لغير ذوي نَقْصِهِ يَصْطَفي جَنَى ظُلْمَةَ الفضلِ حظي المنيرُ ... ولولا سنا الشمس لم تُكْسَف ويا ليت دهري إذا لم يكن ... بسُؤْليَ يُسْعِفُ لم يَعْسُفِ أَيبلغُ دهريَ قصدي وقد ... قصدت بِمصرَ ذُرَى يُوسُفِ وهي قصيدة طويلة تبلغ مائة بيت، والموسومات بنعته كثيرة، فمنها قصيدة أولها: لو أَن عُذْرِيَ لكَ يا لاحِ لاحْ ... ما كنتُ عن سكريَ يا صاحِ صاحْ ومنها قصيدة في التهنئة، بكسر عسكر حلب والموصل، بتل السلطان يوم الخميس عاشر شوال سنة إحدى وسبعين، أولها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 يومٌ أَهبَّ صَبَا الهِبَاتِ صَبَاحُهُ ... وروى حديثَ النصر عنكَ رَواحُهُ فالسَّعْدُ مُشْرِقَةٌ لنا آفاقُهُ ... والنصرُ باديةٌ لنا أَوْضَاحُه أَوفى على عُودِ الثناءِ خطيبَهُ ... وشَدَا على غُصْنِ المُنَى صَدَّاحُه فالشامُ مُبْتَلُّ الثَّرَى ميمونُهُ ... والعامُ مُنْهَلُّ الحَيَا سَحَّاحُه والمحلُ زالَ كبارقٍ مُتَهَلِّل ... لمَّ الشعوبَ بوَمْضِهِ لَمَّاحُه فالحمدُ لله الذي إِفْضَالهُ ... حُلْوُ الجَنا عَالِي السَّنَا وَضّاحُه عاد العدوُّ بِظُلْمَةٍ من ظُلْمِهِ ... في ليلِ ويلٍ قد خَبَا مِصْبَاحُه رَكَدَتْ قَبولُ قُبولِهِ مِن بَعْدِ أَنْ ... هَبَّتْ غُروراً بالرياءِ رِيَاحُه ومنها: أَوفى يريدُ له بجرِّ جُنودِهِ ... ربْحاً فجرَّتْ خَسْرَةً أَرْبَاحُه حملَ السلاحَ إلى القتالِ وما درى ... أنَّ الذي يَجْني عليه سِلاحُه وَلَّى بكسرٍ لا يُرَجَّى جَبْرُه ... وبِقَرْحِ قَلْبٍ لا تُبِلُّ جِرَاحُه ونجا إلى حلبٍ ومِن حَلَبِ الردى ... دَرٌّ وفيه نجاتُهُ وفَلاَحُهُ ومنها: إن أَفْسَدَ العصاةُ بِحِنْثِهِمْ ... فالناصرُ المَلِكُ الصلاحُ صَلاَحُه ومنها: فَرِحَ العدوُّ بجمعه وَلَقيتَهُ ... فتحوَّلَتْ أَحزانَهُ أفراحُه صَحَّتْ على ضربِ الكَماةِ كُسُورُهُ ... وَتَكَسَّرَتْ عند الطِّعَانِ صِحَاحُه وافى بسَرْحٍ للنِّقَادِ فكانَ في ... لُقيا الأُسودِ الضارياتِ سَرَاحهُ مَجْرٌ كبحرٍ دَارِعُو فرسانِهِ ... حيتاتُهُ وزعيمُهُمْ تِمسَاحُه شَحْنَاؤُهُ شَحَنَتْ جواريَ فُلْكِهِ ... جَوْراً ومالَ بِهُلْكِهِ مَلاَّحُه عَدِمُوا الفلاحَ من الرجالِ فجاءَهم ... من كلِّ صوبٍ مُكْرَهاً فَلاَّحُه فهمُ لحرثٍ لا لحربٍ حِزْبُهُمْ ... أَيُثيِرُ قُرْحاً من يُثَار قَرَاحُهُ قد فاظَ لما فاضَ جيشُكَ جأْشُهُ ... غيظاً وغاضَ لبحركمْ ضَحْضَاحُه كم سابِقٍ بِِرَادَه يُرْدَى سابحٍ ... في بَحْرِ هُلْكٍ ما نجا سَبَّاحُه ومنها: كم عَيْنِ عَيْنٍ غَوَّرَتْ غُوَّارُهُ ... وقليبِ قَلْبٍ عَوَّرَتْ مُتَّاحُه إن آذنَتْ بالنتن ريحُ قتيلهم ... فالنصرُ نفَّاحُ الشَّذَا فَوَّاحُه كم مارقٍ من مأزقٍ دَمُهُ على ... مَسْحِ الحسام مُرَاقُهُ مسَّاحُه يُصْبيكَ نَهْدٌ إن سباتهُ نَاهِدٌ ... ولديك جِدٌّ إن أباهُ مزَاحُه ولك الكعوبُ مُقَوَّمَاتٌ للردى ... وله الغَداةَ كَعَابُهُ ورَدَاحُه راحُ النجيعِ بها صحافُ صِفَاحِكُمْ ... مَلأَى وتَمْلأُ كلَّ كاس رَاحُه وتجولُ في صَهَواتِهَا فُرْسانُكُمْ ... وتدورُ في خَلَواتِهِ أَقدَاحُهُ ويروقُهُ الخمرُ الحرامُ وعندَكُمْ ... مما يُرَاقُ من الدِّماءِ مُبَاحُهُ ضَرْبُ الطُّلَى بالمشرفيِّ طِلاَبُكُمْ ... وبراحِ مَنْ شَربَ الطِّلا طُلاَّحُه محمرُّ خدِّ صقيِلةٍ تُفَّاحُكمْ ... وأسيلُ خدِّ عقيلةٍ تُفَّاحُهُ ومنها: للهِ جَيشٌ بالمُرُوجِ عَرَضْتَهُ ... أُسْدُ العرين رجالهُ ورماحُه ومن الحديدِ سوابغاً أَبْدانُهُ ... ومن المضاءِ عزائماً أَرْوَاحُه وله فوارسُ بالنفوس سَمَاحُهَا ... أَتُعَادُ بالعِرْضِ المصونِ شحَاحُهُ روضٌ من الصُّفْرِ البنودُ وحُمْرِها ... والبيضِ، يُزْهَى ورْدُهُ وَأَقَاحُهُ من كل ماضي الحدِّ طَلَّقَ غِمْدَهُ ... فَتْكاً لأغمادِ الرقابِ نِكَاحُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 قد كان عزمُكَ للإلهِ مُصَمِّما ... فيهمْ فلاحَ كما رأيتَ فَلاَحُه ومنها: وكأَنني بالساحل الأقصى وقد ... ساحَتْ ببحرِ دمِ الفرنجةِ ساحُهُ فاعْبُرْ إِلى القوم الفراتَ ليشربوا ... الموتَ الأُجَاجَ فقد طَمَا طَفَّاحُهُ لِتَفُكَّ من أيديهمُ رَهْنَ الرُّهَا ... عَجلاً ويدركَ لَيْلَها إِصْبَاحُهُ وابغوا الحرَّانَ الخلاصَ فكم بها ... حرَّانُ قلبٍ نحوكم مُلْتَاحُهُ نَجُّوا البلادَ من البلاءِ بِعْدَلكم ... فالظلمُ بادٍ في الجميع صُرَاحُهُ وَاسْتَفْتِحُوا ما كانَ من مُسْتَغْلِقٍ ... فيها فربُّكمُ لكمْ فَتَّاحُهُ قُولوا لأَهلِ الدينِ قَرُّوا أَعينا ... فلقَدْ أَقَام عَمُودَهُ سَفَّاحُهُ بشرايَ فالإسلامُ من سلطانِهِ ... جَذِلُ الفؤادِ بنصره مُرْتَاحُهُ مَلِكٌ لِيُمْنِ المعتفينَ يمينُهُ ... ولراحةِ الرَّاجينَ تُبْسَطُ رَاحُهُ لما اجتداهُ من الرَّجَاءِ رجالُهُ ... أَوْفَى على قَطْرِ السَّمَاءِ سَمَاحُهُ فاقصدْ بِبَرْح الفقرِ رَحْبَ جَنَابِهِ ... فبِراحِهِ يومَ النَّوالِ بَرَاحُهُ مَلِكٌ تَمَلَّكَ جَدُّهُ من جِدِّهِ ... فالمجدُ مَجْدٌ والمَراحُ مِرَاحُهُ ملكٌ يُحبُّ الصفحَ عن أَعدائِهِ ... فلذاك تَصْفَحُ عن عِداهُ صِفَاحُهُ ومنها: لك بيتُ مجدٍ ليس يُدْرَكُ حَدُّهُ ... يعيا بذرع عُرُوضِهِ مَسَّاحُهُ المُلْكُ غابٌ أَنتمُ أَشْبَالُهُ ... والدين رُوحٌ أَنتمُ أَشْباحُهُ ما شَرْحُ صَدْرِ الشَّرْع إِلاَّ مِنْكُمُ ... ولذاكَ مِنْكُمْ للهدى إِيضَاحُهُ فخراً بني أَيوبَ إِنَّ مَحلَّكُمْ ... ضاقَتْ على كلِّ الملوك فِسَاحُهُ لولا اتساعُ جَنَابكم لعَدَدْتُه ... خَصْراً، وفودُ المُعْتَفِينَ وِشَاحُهُ أنتمْ ملوكُ زمانِنا وسَرَاتُهُ ... وكِرامُهُ وعِظَامُهُ وفِصَاحُهُ عظماؤُهُ كبراؤهُ فضلاؤُه ... ورِزَانُهُ ورِصَانُه وصِبَاحُهُ أقمارُهُ وشموسُهُ ونجومُه ... وبحارُه وجبالُه وبطاحُه أنتمْ رجالُ الدهرِ بل فرسانُه ... ولذي الحلومِ الطائشاتِ رِجاحُه فُتَّاكُهُ نُسَّاكُهُ ضُرَّارُهُ ... نُفَّاعُهُ مُنَّاعُهُ مُنَّاحُهُ وأبو المظفرِ يوسفٌ مِطْعَامُهُ ... مِطعانهُ مِقْدَامُه جَحْجَاحُه وإذا انتدى في مَحْفَلٍ فَحَيِيُّهُ ... وإذا غدا في جَحْفلٍ فَوَقَاحُه أَسْجَحْتَ حين ملكتَ عفواً عنهمُ ... إنَّ الكريمَ مُؤَمَّلٌ إسْجَاحُه ومنها قصيدة أخرى أنفذتها إليه من دمشق إلى مصر قبل مملكة الشام، أولها: سكرانُ باللحظِ صاحِ ... نشوانُ من غيرِ راحِ بوجنةِ الورد يَفترُّ ... عن ثنايا الأَقَاحِ وقامةِ الغصنِ يهتز ... في مَرَاحِ المِرَاح وعارضِ المسك مثل المساءِ ... فوق الصباح نمَّ العذارُ عليهِ ... فتَمَّ فيه افتضاحي وردُ الحياء جَنِيٌّ ... في ذلك التفاح والريقُ كالراحِ شُجَّتْ ... بعذبِ ماءٍ قَرَاح من كأسِ فيه اغتباقي ... مُنَعَّماً واصطباحي وفي الأمورِ اختتامي ... على اسمه وافتتاحي أَهوى طلوعَ صَباحي ... على وُجُوهِ صِبَاح ولثمَ أَحورَ أَحْوَى ... وضمَّ رُودٍ رَدَاح ورِيَّ قلبي الصدى من ... عناقِ ظامي الوشاح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 وفتنتي من عيونٍ ... حورٍ مِرَاضٍ صحاح يا صاحِ إني نزيفٌ ... سُكْراً وإنك صاحِ وبرحُ وجدي مقيمٌ ... فما لَهُ من بَرَاح دَعني فما أنتَ يوماً ... مؤاخذٌ بجُنَاح وما أطعتُ غَرامي ... حتى عصيتُ اللَّوَاحي وَفَى الحبيب وَتَمَّتْ ... بوصلهِ أفراحي وزادَ قِدْحي ودارت ... بمُنْيَتِي أَقْدَاحي أُعطى الكؤوسَ مِلاءً ... على أَكُفِّ الملاح ورضتُ بالصبر دهري ... وكان صعبَ الجماح قد استقرّت أُموري ... فيه بحَسْبِ اقتراحي كما استقرَّ صلاحُ الدنيا ... بملْكِ الصَّلاَح تنيرُ شمسُ مساعيه ... من سماءِ الصَّبَاح وأمرهُ مستفادٌ ... من الفَضَاء المُتَاح ذو المفخَرِ المُتَعالي ... والنائلِ المُسْتَمَاح وللحقيقةِ حامٍ ... وللدنية ماحِ غيثُ السماحة طَوْدُ ... الْوقار لَيْثُ الكفاح صدرٌ بجدواه صَدْري ... مُذْ لم يزل في انشراح من قَدْحِ زندِ الأماني ... به وَقُودُ القداح أَمَّلْتُهُ لِمُلِمِّي ... فلاحَ وجهُ فَلاَحي آمالُنا بلُهَاهُ ال ... أَجْسَامُ بالأرْوَاح نَدَى كريمٍ حييٍ ... وبأسُ ذِمْرٍ وَقَاح يَفْديكَ أَهلُ اجتراءٍ ... على رُكُوبِ اجْتِرَاح بالمالِ غيرُ كرامٍ ... بالعِرْضِ غيُ شِحَاحِ رأيتَ صونَ المعالي ... في بذلِ مالٍ مباح إن طالَ ليلُ مُلِمٍ ... وافيتَ بالإِصْبَاح ومنها: مُلِّيتَ يوسفُ مِصْراً ... جِدّاً بغير مزاح مُلكاً بغيرِ انتزاعٍ ... عزّاً بغير انتزاح يا من أياديه تُبْدي ... بالحَصْر عِيَّ الفِصَاحِ ومَنْ مُرَجَّى نَداهُ ... مُبَشِّرٌ بالنجاحِ عدوه في اتِّضَاعٍ ... ومَجْدُه في اتِّضَاح ومنها: صريحُ مدحي لعَلْيَا ... كَ عن وَلاَءٍ صُرَاح بقَيْدِ شُكْري عطايا ... كَ مُطْلَقَاتُ السَّرَاحِ ولي فيه قصيدة طائية عند وصوله إلى الشام واتصالي بخدمته أَحببت إثباتها في الخريدة، وإيداعها في الجريدة، لأجل ذكر أخواتها من نظم شعراء العصر في الأقاليم، وهي هذه: عَفَا الله عنكم مالكم أيها الرهطُ ... قسطتمْ ومن قلب المحبِّ لكم قِسْطُ شَرَطْتُمْ له حفظَ الوداد وخُنْتُمُ ... حنانيكمُ ما هكذا الوُدُّ والشَّرْطُ جعلتمْ فؤادَ المستهامِ بكم لكُمْ ... مَحَطّاً فعنه ثِقْلَ هَمِّكُمُ حُطُّوا إذا كنتمُ في القلبِ والدارُ قد نَأَتْ ... فسيَّانِ مِنْ أحبابه القربُ والشَّحْطُ ثوى هَمُّهُ لما ثَوَى الوجدُ عنده ... مقيماً وشطَّ الصبرُ في جيرةٍ شَطُّوا وأَرَّقَهُ طيفٌ طَوَى نحوه الدُّجَى ... وقد كاد جيبُ الليل بالصبح يَنْعَطُّ تشاغلتمُ عنه وثوقاً بوده ... كأَنَّ رضاكم عن محبكمُ سُخْط جزعت غداةَ الجِزْع لما رحلتمُ ... وأَسْقطني من بينكمْ ذلك السِّقْطُ ملكتمْ فأنكرتمْ قديمَ مودَّتي ... كأَنْ لم يكن في البين معرفةٌ قَطُّ فَدَتْ مهجتي مَنْ لا يُذَمُّ لمهجتي ... إِذا حاكَمَتْهُ وهو في الحُكْمِ مُشَتَطُّ يريكَ ابتساماً عن شتيتِ مُقَبَّلٍ ... كأَنَّ نظيمَ الدرِّ أَلَّفَهُ السِّمْطُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 وما كنت أَدري قبل سطوةِ طرفه ... بأَنَّ ضعيفاً فاتراً مِثْلَهُ يَسْطو وهبْ أن بالقُرْطَيْنِ منه مُعَلَّقٌ ... لذنبِ الهوى قلبي فَلِمْ عُلِّقَ القُرْط وأَهيفَ للإشفاقِ من ضعفِ خصره ... محلُّ نطاقٍ للقلوبِ به رَبْط على قُرْبِه في الحالتين مُحَسَّدٌ ... من الثَّغْرِ والشَّعْرِ الأراكةُ والمشْط بوجنتهِ نورُ المُدامةِ مُشْرِقٌ ... ومقلته نَشْوَى وفي فيه إسْفِنْطُ تزينُ عِذارَيْهِ كتابةُ حُسْنِهِ ... ومِنْ خَالِهِ في وجنتيه لها نَقْط فؤادكَ خالٍ يا خليلي فلا تَلُمْ ... فؤاداً سباه الخالُ والخدُّ والخَطُّ يلازمُ قلبي في الهوى القبضُ مثلما ... يلازم كفَّ الناصرِ الملكِ البسطُ مليكٌ حوى الملكَ العقيمَ بضبطه ... كريمٌ وما للمالِ في يده ضَبْطُ ومولىً سريرُ الملكِ حفَّ بشخصه ... كما حفَّ بالإنسان من ناظرٍ وَسْط مليكٌ لنجم النجح من أُفْقِ عِزِّهِ ... سَناً ولطيرِ السَّعْدِ في وكره قَمْط إذا لُثِمَتْ أَيدي الملوك فعنده ... مدى الدهرِ إجلالاً له تُلْثَمُ البُسْط لنوم الرعايا وادعين سهادُهُ ... إذا وَادِعُوا الأَملاك في نومهم غَطُّوا أكفُّ ملوكِ العصر لا وَكْفَ عندها ... وكفُّ المليك الناصرِ البحرُ لا الوقْطُ عطايا نقودٌ لا نَسَايَا فكلُّهَا ... تُعَجَّلُ لا وعدٌ هناك ولا قَسْطُ أَغرُّ لكفِّ الكفرِ كفٌّ ببأْسِهِ ... كما لفقارِ الفَقْر من جُوده وَهْط أَياديه غرٌّ وهي غيرَ مُغِبَّةٍ ... وإحسانه غَمْرٌ وليس له غَمْطُ يحبُّ ضجيجَ الشاكرين إذا دَعَوْا ... ويهوى سؤَال المعتفين إذا أَطُّوا ويَعْبَقُ عَرْفُ العُرْفِ والقِسْطِ عندهونَدُّ النَّدَى لا البانُ والرَّنْدُ والقُسْطُ إلى طَوْلِهِ المعروف طُولُ يدِ الرجا ... وفي بحر جدواه لأمالنا غَطُّ صنائِعُهُ رُبْطُ الكرامِ وإنها ... لوفد أَياديه المصانعُ والرُّبْط يَمُرُّ ويحلو حالةَ السخط والرضا ... فنعمته دأْبٌ ونقمته فَرْط من القوم تلقاهم عن النكر إن دُعُوا ... بطاءً وإن يُدْعَوْا إلى العُرْفِ لا يُبْطوا همُ رَضَعُوا دَرَّ الحجى في مُهودِهِمْ ... أَمَاجدُ وانضمتْ على السؤددِ القُمْطُ يصيبونَ فيما يقصدون فكم رَمَوْا ... بسهم الثراءِ المملقين فلم يُخْطوا متى يَقْدِروا ويَعْفوا وإن يَعِدُوا يَفُواوإن يَبْذُلُوا يُغْنُوا وإن يَسْأَلُوا يُعْطُوا يصيبُ الذي يصبو إلى قصدِ بابهم ... وفي غيرِ هذا القصدِ يُخْطِي الذي يَخْطُو وما أَسْعَدَ المَلْكَ الذي نَحْوَ بابه ... مطايا بأبناءِ الرجاءِ غدت تَمْطو وما روضةٌ غناءُ حُسْناً كأَنَّما ... لوارِفِها من نَسْجِ نُوَّارِها مِرْطُ إِذا قادني للنرجس النضرِ ناظرٌ ... تلاه عذارٌ للبنفسج مُخْتَطٌّ وللوردِ خدٌّ للحياءِ مُوَرَّدٌ ... ولِلبانِ قَدٌّ جيدُهُ أبداً يَعْطو تلوحُ به الأشجارُ صَفَّاً كأَنَّها ... سطورُ كتابٍ والغديرُ لها كَشْط تُغَنِّي على أَعوادها الوُرْقُ مِثْلَمَا ... يرتِّل للتوراةِ ألحانَها سِبْطُ كأَنَّ سقيطَ الطلِّ عبرةُ مُغْرَمٍ ... وبارِقَهُ من نارِ لوعته سِقْطُ ترى لِمُحَيَّا الشمسِ من هامرِ الحيا ... لثامَ حياءٍ دونه ليسَ يَنْحَطُّ بأزكى وأذكى منك حُسْناً وإِنما ... بحسناكَ لا بالروضِ للعائذِ الغَبْط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 لك الصدرُ والباعُ الرحيبان في العلا ... وذاك المحيا الطلْقُ والأنملُ السُّبْطُ لراجيكمُ ماءُ البشاشةِ والنَّدَى ... جميعاً وحظُّ الحاسد النارُ والنَّفْط عَنَا لَكَ طوعاً نيلُ مصرٍ ودجلةُ ... العراق ودان العُرْبُ والعُجْمُ والقِبْطُ وللنيل شطٌّ ينتهي سيبُهُ به ... ونَيْلُكَ للراجينَ نِيلٌ ولا شَطُّ وعفوكَ وَرْدٌ والجناةُ جُناتُهُ ... وبِيضُكَ شوكٌ في العداةِ لها خَرْط فِداؤَك ممتدُّ المِطالِ مُحَجَّبٌ ... وحاجِبُهُ للكبرِ والعُجْبِ مُمْتَطُّ فداؤُكَ قومٌ في النديِّ وفي النَّدَى ... وجوهُهُمُ سُهْمٌ وأَسْهُمُهُمْ مُرْطُ لتبكِ دماً عين العدو فقد جرى ... على الأَرضِ من أَوْداجهِ دَمُهُ العَبْط ومنها: منعتَ حمى الإسلام للنصر معطياً ... غداةَ عوت من دونه الأَذْؤُبُ المُعْطُ وصُلْتَ وكم فرَّجْتَ عَنَّا مُلِمَّةً ... بسهم الرزايا في الكرامِ لها لَهْطُ بَعَوْدِكَ عادَ الحقُّ واتَّضَحَ الهدى ... وهبَّ نسيمُ النصر وانفرجَ الضَّغْطُ وأنتَ أَجَرْتَ الشامَ من شُؤْمِ جاره ... ولم يكفِ رهطُ الكفرِ حتى بغى رهطُ أَجَرْتَ وقد جارُوا ودِنْتَ وقد عَدَوا ... وصُلْتَ وقد خَارُوا ولِنْت وقد لَطُّوا فلا يعبإِ المولى بمن مِلْءُ جَأْشِهِ ... هَوىً وبقومٍ حَشْوُ جيشهِمُ زُطُّ كثيرٌ تَعَدِّيهِمْ قليلٌ غَنَاؤُهُمْ ... وهمْ لا أَصابوا رشدهم هملٌ رَهْطُ عَدَلْتَ فلا ظلمٌ وطُلْتَ فلا مَدىً ... وقُلْتَ فلا مَيْنٌ وجُدْتَ فلا قَحْطُ فميِّزْ مكانَ المخلصين فإِنَّما ال ... أَعادي أُنَأسٌ في رءوسهمُ خَلْط وَقَرِّبْ وَلِيّاً صحَّ فيك ضميرُهُ ... ولا يأمنِ التمساحَ مَنْ دَأْبُهُ السَّرْطُ نَبَا بِي مقامُ الجاهلينَ فعِفْتُهُ ... وقد نَضْنَضَتْ للنهش حَيَّاتُهُ الرُّقْطُ همُ مَنعُوا رِفْدَيْ قبولٍ ونائلٍ ... وذا وَشَلٌ بَرْضٌ وذا أُكُلٌ خَمْطُ وكم مُطْمعٍ في خيره بِشْرُ وجهه ... ومشتملٍ منه على شَرِّهِ الإِبْط لأَبدى بلا عذر حظوظَ فضائلي ... نفارُ العَذَارى من عِذارٍ به وَخْط وجئتكَ أَلقى العزَّ عندك مُلْقياً ... قلائدَ للأسماع من دُرِّهَا لَقْط أَعِرْني جميلاً واصْطَنِعْنيَ واصْفُ لِي ... جميلَكَ حتى يشمتَ الحاسدُ المِلْط أعِنِّي فعينُ الفضلٍ عانٍ مُقَيَّدٌ ... بعُقْلةِ حرمانٍ نَدَاك لها نَشْط وأَوْعِزْ بتشريفي ورسمي فإنَّهُ ... لحمدي جزاءٌ قد تَقَدَّمَهُ الشَّرْط إِلامَ زماني لا يزال مُسَلِّطاً ... على نابهٍ من أَهْله نَابُهُ السَّلْط سَعَتْ نحوكم مِنِّي مَطَايَا مطالبٍ ... لأَنْسُعِهَا في النجح عندكم مَغْط فدُمْ ظافراً أَبا المظفر بالعِدَى ... حليفَ قبولٍ لا يكون لها حَبْط بقيتَ ولا زالتْ عداكَ مُفِيدَةً ... سعوداً ولا تُحْسِنْ صعوداً ولاهبط ولو كنتَ جاراً للمعريِّ لم يَقُلْ ... لمن جيرةٌ سيموا النوالَ فلم يُنْطُوا ومدائحه كثيرة، ومنائحه غزيرة، وليس شرط هذا الكتاب، بسط هذا الباب؛ فاقتصرت على ما أوردته، وحصرت ما أفردته؛ فإن مللته أو استطلته، فاستمل ما استطبته، واستحل ما أحببته؛ واستحل سناه، وتخل عما سواه؛ فلعل غيرك يستمرىء ما تستمره، ويعرف بفهمه الثاقب وفكره الصائب ما تنكره؛ فقف حيث ينتهي إليه فكرك، وطف حول ما يشتمل عليه زكنك، نبه ذكرك ووجه قدرك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 وأنا الآن موفٍ حق هذا القسم الرابع، بذكر ما أثبته من البدائع، ومورد كل ما يهتز له عطف السامع، ويتنزه فيه طرف الراتع، فانظم من درٍ ماشيت ولا تلم ببحره إن خشيت؛ فإن در البحر يجلبه من يلازم الغوص، ودر الفكر يحلبه من يداوم الفحص. شعراء مصر وقبل شروعي في ذكر أعيان مصر وأحاسنها، ومزايا فضائلها ومزاينها، أقدم ذكر من جميع أفاضل الدهر، وأماثل العصر، كالقطرة في تيار بحره، بل كالذرة في أنوار فجره، وهو: المولى الأجل القاضي الفاضل الأسعد أبو علي عبد الرحيم بن القاضي الأشرف أبي المجد علي بن الحسن بن الحسن بن أحمد ابن البياني صاحب القران، القديم الأقران، وواحد الزمان، العظيم الشان، رب القلم والبيان، واللسن واللسان، والقريحة الوقادة، والبصيرة النقادة، والبديهة المعجزة، والبديعة المطرزة، والفضل الذي ما سمع في الأوائل بمن لو عاش في زمانه لتعلق بغباره، أو جرى في مضماره. فهو كالشريعة المحمدية التي نسخت الشرائع ورسخت بها الصنائع، يخترع الأفكار، ويفترع الأبكار، ويطلع الأنوار، ويبدع الأزهار. وهو ضابط الملك بآرائه، ورابط السلك بآلائه، إن شاء أنشأ في يوم واحدٍ بل في ساعةٍ واحدة ما لو دون لكان لأهل الصناعة خير بضاعة. أين قسٌّ عند فصاحته وأين قيسٌ في مقام حصافته، ومن حاتمٌ وعمرو في سماحته وحماسته. فضله بالإفضال حالٍ، ونجم قبوله في أفق الإقبال عالٍ، لا من في فعله، ولا مين في قوله، ولا خلف في وعده ولا بطء في رفده. الصادق الشيم، السابق بالكرم، ذو الوفاء والمروة، والصفاء والفتوة، والتقى والصلاح والندى والسماح. منشر رفات العلم وناشر راياته، وجالي غيابات الفضل وتالي آياته. وهو من أولياء الله الذين خصوا بكرامته، وأخلصوا لولايته، قد وفقه الله للخير كله. وفضل هذا العصر على الأعصار السالفة بفضله ونبله؛ فهو مع ما يتولاه من أشغال المملكة الشاغلة، ومهامه المستغرقة في العاجلة، لا يغفل عن الآجلة، ولا يفتر عن المواظبة على نوافل صلاته، وحفظ أوراده ووظائفه، وبث أصفاده وعوارفه، ويختم كل يوم ختمةً من القرآن المجيد، ويضيف إليه ما شاء من المزيد. وأنا أوثر أن أفرد بنظمه ونثره كتاباً فإنني أغار من ذكره مع الذين هم كالسها في فلك شمسه وذكائه، وكالثرى عند ثريا علمه وذكائه؛ فإنما تبدو النجوم إذا لم تبد الشمس حاجبها، ولا حجب نور الغزالة عند إشراقها كواكبها؛ ولأنه لا يؤثر أيضاً إثبات ذلك، فأنا متمثلٌ لأمره المطاع ملتزم له قانون الاتباع؛ واضعٌ أذني لإذنه قابضٌ يميني على يمنه، راكنٌ بأملي إلى ركنه، قاطنٌ برجائي في ظل منه، أقترض رضاه، ولا أحكم على ما يحكم به ويراه، ولا أقوم إلا حيث يقيمني، ولا أسوم إلا ما يسومني، ولا أعرف يداً ملكتني غير يده، ولا أتصدى إلا ما جعلني بصدده، وأسأل الله التوفيق للثبات على هذا السنن وانتهاج جدده. وهو أحق ممدوحي بمدحي، وأقضاهم لحقه، وأسماهم في أفقه، وأولاهم بصدقه، وأهداهم إلى طرقه، ولي فيه مدائح منظومةٌ ومنثورة، ومقاصد معاهدها بفضله معمورة، وقصائد قلائدها على مجده موفورة. فمن ذلك من قصيدة كتبت بها إليه عند وصوله إلى الشام في الخدمة الملكية الناصرية سنة سبعين واتصالي به: قد أُهْدِيَ الإِثراءُ في الإِيفاضِ لي ... مذ فاضَ لي بالرَّحْبِ بحرُ الفاضل قد عاضَ لي مَلْقَاهُ من فقري غنىً ... ما زالَ صَرْفُ الدهر منه عاضِلي كم من مُنىً ضَلَّتْ وعاودتِ الهدى ... بلقائه حتى غَلَبْتُ مناضلي عاينتُ طَوْدَ سكينةٍ ورأيتُ شمسَ ... فضيلةٍ ووردت بَحْرَ فواضل ولقيتُ سَحْبانَ البلاغةِ ساحباً ... ببيانه ثوبَ الفخارِ لوائل أَبصرتُ قُسّاً في الفصاحةِ معجزاً ... فعرفتُ أني في فهاهةِ باقل حلفُ الفصاحةِ والحصافةِ والسما ... حةِ والحماسةِ والتقى والنائل بحرٌ من الفضلِ الغزيرِ خِضَمُّهُ ... طامي العُبابِ وما لَهُ من ساحلِ ومنها: في كفِه قلمٌ يُعَجِّلُ جَزْيُهُ ... ما كان من أجلٍ ورزقٍ آجل يجري ولا جَرْيَ الحسام إذا مَضَى ... حَدَّاهُ بل جَرْيَ القضاءِ النازل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 نابَتْ كِتابتُهُ مَنَابَ كتيبةٍ ... كُفِلَت بهزمِ كتائبٍ وجحافل كم جادَ إسعافاً لعافِيهِ وكم ... أَمْلَى النجاجَ على رجايَ الآمل بيراعهِ أبداً يُرَاعي عالِمٌ ... في سِرْبه ويُرَاعُ سِرْبُ الجاهل فعَدُوُّهُ في عَدْوِهِ، وَوَلِيُّهُ ... في عَدْلِهِ، يا حُسْنَ عادٍ عادل ريَّانُ من ماءِ التقى، صادٍ إلى ... كَسْبِ المحامدِ، وهْي خيرُ مناهل غَطَّتْ فضيلتُهُ نقيضةَ دهرنا ... عنا وأذهب حقه بالباطل كفلت كفايته بكل فضيلة ... أَكْرِمْ بكافٍ للفضائلِ كافل أكْرِمْ به من خِدْنِ إفضالٍ وذي ... فَضْلٍ لأهل الشام شافٍ شامل ما حلَّ في بلدٍ فكان مَحلُّهُ ... إلا محلَّ حَياً بروضٍ ماحل ففداءُ حزمِكَ كلُّ غاشٍ غاشمٍ ... وفداءُ فضلكَ كلُّ غافٍ غافلِ يا أَوحدَ العصرِ الذي بَزَّ الورى ... فضلاً بغير مُشَاكهٍ ومُشَاكلِ يا أفضلَ الفصحاءِ بل يا أفصحَ ... الٍبلغاءِ منفرداً بغيرِ مُسَاجل يا حالياً بالفضل حَلِّ تفضلاً ... مني بجَدِّكَ جيدَ حظٍ عاطل كم ناقصٍ إدبارُه قد ردَّني ... لكنَّما إقبالُ فضلِكَ قابلي قد كان هذا الشامُ لولا أنتمُ ... روعَ المقيم به وروحَ الراحل كيف السبيلُ إلى نجاح مقاصدي ... ومحاسني وهي العيوبُ وسائلي مالي وجاهَ الجاهلين فأَغْنِني ... عنهمْ كُفِيتَهُمُ وجُدْ بالجاهِ لي جُدْ لي بِمنَّتِكَ الضعيفةُ مُنَّتي ... عنها وأَثْقِلْ من جميلك كاهلي أرجوكَ معتنياً لدى السلطانِ بي ... كَرَماً فمثُلكَ يَعْتَنِي بأَمَاثِلِي تُوفِي وليَّكَ دَيْنَ مَجْدٍ عاقَهُ ... ليُّ الوعودِ من الزمانِ الماطل قَرِّرْ ليَ الشغلَ المُنَخَّلَ مُخْلِياً ... بالي من الهمِّ المقيمِ الشاغل لا زلتَ غيثَ مكارمٍ وبقتَ غَوْ ... ثَ أَكارمٍ وسلمتَ لَهْفَ أَفاضل ومدحته بمصر وذلك في شهر رمضان من سنة اثنتين وسبعين بقصيدة أولها: بِحَيَاتِكمْ ما عندكمْ بَعْدي ... فَسِوَى الأَسَى ما بَعْدَكُمْ عندي جُودُوا بِرِفْدٍ من خيالكمُ ... فخيالكمْ لي غايةُ الرفد أَسْدُوا إِليَّ يداً لأَشْكُرَهَا ... فالشكرُ لا يعدو يدَ المُسْدِي مالِي مجيرٌ غيرُ طَيْفِكُمُ ... يُهدي إليَّ القربَ في البعد والعينُ قد دَمِيَتْ وليس لها ... إلا مَعينُ الدَّمعِ مِنْ وِرْد والسمعُ في وَقْرٍ لعاذِلِهِ ... فيكمْ ونارُ الشوقِ في وَقءد مَنْ غَيْركم للوصلِ أَسْتَدْعي ... أو مَنْ على الهِجْرَانِ أَسْتَعْدِي ما كنتُ أَعلمُ قبلَ فرقتنا ... أنَّ الهوى يومَ النوى يُرْدي سَقَمِي شفائي في مودَّتَكُمْ ... وضلالتي في حُبِّكُمْ رُشْدِي بالروح يفديكم مُحِبُّكُمُ ... والروحُ أَكرمُ ما به يَفْدي يا مالِكي رِقِّي أَمَا لَكُمُ ... من رِقَّةٍ يا حافظي وُدِّي يا جاحدي حقَّ الودادِ وهلْ ... حقُّ الودادِ يضيعُ بالجَحْد يا دمعُ لا تتركْ مساعدتي ... فقد استقالَ الصبرُ من وجدي طلبَ التصبرَ جاهداً فأَبى ... قلبٌ من الأشواقِ في جَهْد وتكحَّلَتْ ليلاً بإِثْمِدِهِ ... عينٌ لهُ مَرِهَتْ من السُّهْد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 مُتَفَرِّدٌ بِتَجَرُّعِ الأَسفِ ... المُظْمِي لشوقِ الأَجرعِ الفَرْد شَهِدَ الوداعَ فزاده أَلما ... لمَّا أَصابَ الصابَ في الشَّهدِ إنْ أَنتَ لم تُهْدِ الشفاءَ له ... وهواكَ مُمْرِضُهُ فمن يُهْدِي أَمَّلْتُ نجحكَ لا تُخِبْ أَمَلِي ... وقصدتُ حِفْظَكَ لا تُضِعْ قَصْدِي رَحَلُوا وقلبي في رحالِهِمُ ... يشكو صدىً ويُشَاكُ من صَدِّ أَلقيتُ عند مَثَارِ عِيسِهمُ ... نفسي، وقلتُ خِدِي على خَدِّي ناديتُ حاديهمْ بعيشكَ قِفْ ... للبين من حَدْوٍ على حَدِّ رفقاً بعيشهمُ أَمَا لَهُمُ ... مِمَّا بَدَا للبينِ من بُدِّ فاهدأْ هُدِيتَ فمذ حدوتَ رَمَوْا ... جَلَدي الضعيفَ الأسِّ بالهَدِّ وَجْدي بمصرَ يَهِيجُ ساكنَهُ ... شَغَفِي بذكرى ساكني نجد والوجدُ في الأَحزان كامنةً ... عندي خلافُ النار في الزَّنْدِ ما للأَحِبَّةِ لا عَدِمْتُهُمُ ... رَغِبُوا عن الإسعادِ في الزُّهْد أَوَ ليسَ أَحبابي بنو زمني ... لا غَرْوَ إنْ لم يحفظوا عهدي إنْ لم يَفُوا فلقد وفى كرماً ... عبدُ الرحيم بذمَّةِ المجد الفاضلُ المفضالُ والنَّدِسُ ... المُسْدِي الندي والماجدُ المُجْدِي ما إنْ يضلُّ بقاصدٍ أَمَلٌ ... إلا ويضمنُ أَنه يَهْدي يُسْدِي إليَّ منيرَ أَنْعُمِهِ ... وأُنير مِدْحَتَهُ كما أُسْدِي العُرْفُ معتادٌ له خلقٌ ... وبه تراه غيرَ مُعْتَدِّ بجنابه يدنو جَنَى أَملي النائي ... وراحةُ حظِّيَ المُكْدِي أبداً تَوَالَى مِنْ عوارفِهِ ... طُرفٌ تضافُ لنا إلى تُلْدِ ويرى رجائي من مكارمه ... في النجح طَرْفٌ غيرُ مُرْتَدِّ زاكي النِّجَارِ أَخُو الفخارِ وذو ... المجد الأَثيرِ الطاهرِ البُرْد ذو الرتبة الشمَّاءِ والشرفِ العالي ... السَّنَا والسؤْدُدِ العِدِّ الناسُ كلهمُ له تَبَعٌ ... في فضلهِ والدهرُ كالعَبْد والبحرُ ذو جَزْرٍ وراحتُهُ ... بحرٌ مدى الأَيامِ في مَدِّ ومنها في وصف القلم: وله اليَرَاعُ وَلِيُّهُ أبداً ... يُرْعَى به ويُراعُ ذو الحِقْدِ كم غاض بحرُ بَنَانِه فغدا ... دُرُّ البيانِ يُساق في العِقْد إن سوَّد البيضاءَ بَيَّضَ مِنْ ... ثوبِ الليالي كلَّ مُسْوَدِّ قَلَمٌ أقاليمُ البلادِ به ... وثغورُها في الضَّبْطِ والشَّدِّ بهُزَالِهِ سِمَنُ العُلاَ وكذا ... في الهَزْلِ منه حقيقةُ الجِدِّ لِلِسَانِهِ حُجَجٌ يَرُدُّ بها ... جزماً قضايا الألْسُنِ اللُّدِّ ظمآنُ يُرْوى كلَّ ذي ظمإٍ ... فاعجبْ لذي وِرْدٍ بلا وِرْد مَلِكٌ كتيبتُهُ كِتابتُهُ ... فَرْدٌ بجيشِ النصرِ في جُنْد الأسمر الخَطِّيُّ تابِعُهُ ... في حُكْمِهِ والأبْيَضُ الهندي والنائباتُ بحَدِّهِ أَبَداً ... مثلومةٌ مفلولةُ الحَدِّ كم مأْزقٍ نَقَّى الغرارُ به ... للرعب من جَفْنٍ ومن غِمْدِ نَفَذَتْ به اللاماتُ طاعنةً ... أَلفاتِ خُرِصانِ القَنَا المُلْدِ والسُّمْرُ داميةٌ مطاعِنُها ... كمراودٍ في أعْيُنٍ رُمْد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 فَرَّجْتَهُ بِشَبا مُلَطِّفَةٍ ... وَرَدَتْ بِقَسْرِ القَسْوَرِ الوَرْد بلطيفِ تدبيرٍ يَرِقُّ له ... لصفائهِ قلبُ الصَّفَا الصَّلْدِ عُرْفٌ يُبَدِّلُ بالرجاءِ لنا ... في الأزْمِ نُكْرَ الأَزْمُنِ النُّكْدِ ناديكَ من نَدِّ النَّدَى عَطِرٌ ... يا مَنْ يَجِلُّ نَدَاهُ عن نَدِّ من سَبْيِ سَيْبِكَ كلُّ مَحْمَدَةٍ ... فَلأَنْتَ حقّاً مالِكُ الحمدِ وتُعيدُ ما تُبدي وتُضْعِفُهُ ... ومَنِ المعيدُ سواكَ والمُبْدي يا مَنْ وجدتُ بلاغتي حَصَراً ... في حَصْر ما يُوليهِ والعَدِّ من كلِّ مَنْ عقدَ النوائبَ عن ... حَظِّي عُرىً مُوثَقَةَ الشّدّ فَرَّقْتَ اعدائي غداةَ هُمُ ... للشرِّ في حَشْرٍ وف حَشْدِ ورفعتَني فوقَ اليَفَاعِ ولو ... لم تُسْمِني لمكثتُ في الوَهْد فَضْلِي، طرادُ الدهر غادره ... وحظُوظُهُ كَلَّتْ من الطَّرْد غدرَ الزمانُ بكلِّ ذي حَسَبٍ ... يأْبَى الوفاءَ بعَيْشِهِ الرَّغْد ومنها: زِدْ غَرْسَ رِيِّكِ رِيَّةُ فلقد ... أَضحى بعيدَ العَهْدِ بالعَهْدِ عَدْوُ العدوِّ يهونُ أَصْعَبُهُ ... ما دمتَ دمتَ عليه لي مُعْدِي والشوكُ لا يشكو جِنَايَتَهُ ... من كانَ مطلبَهُ جَنَى الورد أخفى بنو زمني محاسنَهُ ... وعتابُ أَيامي معي وَحْدِي ومنها: هذا أَوانُ نِجَازِ وعدِكَ لي ... إنَّ الكريمَ لَمُنْجِزُ الوعد من شدَّ ظهرَ رجائِهِ بِكَ هل ... يبقى بأَمرٍ غيرِ مشتد أيكونُ زبدةُ ما أُؤَمِّلُهُ ... عدمَ التَّمَخُّضِ فيه عن زُبْد أَرْغِمْ بفضلك ضِدَّ مَنْقَبَتِي ... لا زالَ فَضْلُكَ مُرْإِمَ الضد ساعدْ بِجِدِّكَ لِي بقيتَ على ... رغم الأعادي صاعد الجَدِّ والقصيدة أكثر مما أوردته. وحيث أوردت من نظمي في مدحه، وحققت به عجزي عن شكر منحه، فلا بد من إيراد بعض رسائلي التي خدمته بها، وتعلقت عنده بسببها. وأنا موردٌ رسالةً جامعةً مانعةً ناصعةً، كتبتها في جواب مكاتبة له إلي وقد أهدى لي تسع مجلدات من الكتب النفيسة، تشتمل على أشعار أهل العصر المغربيين وآدابهم وهو يثني فيها على إعرابهم، عن المعاني المبتكرة وإغرابهم فيها وإعجازهم وإعجابهم، فكتبت جواباًز وهذه الرسالة قد وفيتها حقها من التجنيس والتطبيق والترصيع، والمقابلة والموازنة والتوشيع، وقد ذكرت الجماعة الذين أهدى إلي من شعرهم ومصنفاتهم، وهي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 ما ظفر مدجج الإظلام بالسنا، ومحوج الإعدام بالغنى، ومزعج الغرام من وصل حبيبه المفارق بنجح المنى، ومخرج السقام من وصف طبيبه الحاذق ببرء الضنا، والمعوز المعور بتبر الجده بعد الإملاق، والمنهج المبهج بعز الجدة غب الإخلاق، بل ما فوز الآمل المشفى على مرض اليأس بالشفاء في النجاح، والخامل المستعفي من مضض الإفلاس بالإثراء والفلاح، والماحل الثرى بما حل في ربع تربه من ثرة الحيا الربعي فأحياه، والناحل المضنى بما نحل من صنع ربه في الإبلال من الجوى الذي أبلاه، والناهل المظمى في عذاب الهاجرة الخشناء بعذاب المناهل من مجاورة مورد السلسال، والذاهل المعنى في عذاب الهاجرة الحسناء برحاب المنازل من نجاز موعد الوصال، كظفر الخاد وفوزه، بشرفه وعزه، وسعادة جده وجد سعده، وحياة روحه، وروح حياته، وحسنى حاله، وحلية حسناته، ونور حدقة فخره الناظرة، ونور حديقة ذخره الناضرة، وسنا سنائه المشرق في أرجاء رجائه من سماء السماح السامية، ولألاء آلائه المتألق برق ودقه لإرواء الأراح الظامية، عند إسفار صبح أمله، وسفور وجه جذله، واجتلاء أنوار جلالة الكمال، واجتناء ثمار دلالة الإقبال، بورود المثال الممثل، المقبل المقبل، المفضل المفضل، عن المجلس العالي، الأجلي، الفاضلي الأسعدي الأشرفي، لا زال شمس جلاله، وبدر فضله وإفضاله، في أوج السعادة، وبرج الزيادة، من مشرقي الشرف والسيادة مشرقين، وعلم العلم بكتائب كتبه ومقانب مناقبه وقلب الشانىء بعلو شانه وسمو سلطانه في الخافقين خافقين، ولا فتىء حكم الشرع في شرعة الحكم بفتياه فتيا، وروض الولي بولي رضاه وجوده مجوداً مولياً، وفضاء الفضائل بأنوار جدواه وأضواء علياه مستهلاً متهللاً، وجاه الجاهل بتأرج نبإ نباهته الفائح النشر وتبلج وجه وجاهته اللائح البشر متبطلاً متعطلاً، ولا برح كاشحه يطوي الكشح وبرح جوى جوه بالغم مغيم، ومناصحه تحوي المنى صحة عقيدته وعقد صحته مبرمٌ قويم؛ مارن مارن المعادي العادي بنغم الرغم، وطن وطن الموالي الوالي بنعم النعم، وسار ظعن ألى الضغن إلى لقم النقم، وحار ركب المضل الضال من ليل الويل في ظلل الظلم. فإن الخادم ما اكتحل بالتشريف حتى احتل ذرى السعد المنيف، وحل حبى الحب لاجتباء حبائه، وأحله من العين في سواده ومن القلب في سويدائه، وشرع من مشرعه في ترشف شفاه التشرف بسقائه، وأطفأ أوار أوامه بامتثال مراسمه، واستشرف في مراد المراد معالم معاليه من مغاني مغانمه، وختم بالشكر عليه وشكر على خاتمه، لما أمن حوادث المكاره ببواعث مكارمه، واستملى من أمالي آماله سورة النجاح بمطالع بيانه، واستجلى من حوالي أحواله صورة الصلاح بطلعة إحسانه، وقام إجلالاً بعظمته، وسجد إقبالاً على قبلته، ومرى ضرع الضراعة لمرآه، وجلا محيا المحيا لمجتلاه، وعلا أفق التوفيق لدنياه ودينه، وتلا " فأما من أوتي كتابه بيمينه " وفاز من حبل العصمة بمتينه، ومن در الحكمة بثمينه، وفاء إلى تأملٍ ضمنه فألفى بتأميل آلاء منه وفاء ضمينه، ورأى نفسه بمنزلة الذرة ذرت عليها الشمس من أعلى مكان. وما قدر خامةٍ لخامل أو باقةٍ لباقلٍ، في مساحب ذيول سيول سحبان وما قيمة قطرةٍ عند الديمة المدرار وهل يبدو سها السهى، لدى قمر النهى للبصير ذي الأبصار وما أثر مدرة الفلاة في مدار الفلك الأثير وما خطر خطل ألكن العجم لخاطر خطيب العرب الألسن الخطير وهل يسع ذا حصرٍ قاس أيادٍ يضيق عن خصر خصرها نطاق نطق قس إياد وهل يسعى ذو قصرٍ لمطاولة الأطواد ولا غرو أن غاض وشل الناقص إذا فاض بحر الفاضل! وأين الثريا من يد المتناول وكيف بلاغ حمد العبد إلى بلاغة عبد الحميد عبد حمدها، والصابئان صاديان إلى وردها، والطائيان مطأطئان خجلاً بل وجلاً من نقدها وردها، وهل هم إلا نجوم ذكاءٍ غيبها طلوع ذكائه، ورسوم مضاءٍ غيرها سطوع ضيائه، وجداول جدلٍ غيضها عباب فيوضه، ونوافل عملٍ أغمضها لباب قروضه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 ما أقبل الخادم وهو مخدوم الإقبال، بإقبال المولى الفاضل عليه لخلوص موالاته بخصوص موالاة الإفضال! وما أحرى العبد بمباهاة الأحرار وأبره بمضاهاة الأبرار!. لقد أربى بفواضل مولاه على أرباب الفضائل، وربا بفائد جدواه قدر المتضائل، ورفع حظوظه من حضيض الخمول والخمود، إلى يفاع الارتفاع بالسعود والصعود، وأوضع به إذ وضع له ميزان ميزاينةٍ في جدد الجدود. وما أشكره للمجلس العالي الصدري وقد صدره في مجالس العلاء كاتباً، ولمعاطس الأعداء كابتاً! وأقدره بمنائحه، وأعجزه عن مدائحه! فأصبح ناطقاً صامتاً قانطاً قانتاً، قائلاً ساكتاً. إن قال، فلأن حجة الحمد أنطقته، وإن استقال، فلأن لجة الرفد أغرقته وقد خاف الغرق من أمه السيل، وضاف الفرق من ضمه الليل فإن عجز بياناً، فلإعجازه بإيراء ذلك البيان؛ وإن أحرز رهاناًن فلإعزازه بالإجراء في هذا الميدان. ووصلت الكتب، كأنها الشهب، يهديها شمس نهار الفضل إلى ساري ليل طلبه، ليهديه بنورها في غيهبه، ويقيمه بسناها على سنن مذهبه. وهي تسع مجلدات، بل تسع آياتٍ بينات، آتاه عبده كليم الفصاحة المتوحد باختراع الكلام الحر، وكريم السماحة المتفرد باختراع الإنعام البكر، وطرف الفصاحة المزين عمه بالحلم، وإلف الحماسة المبين عزمه بالحزم. وكيف يوصل بوسائط المركبات الأربع من العناصر إلى البسائط التسع! وهل يقطع إلى النجم الطارق الطريق الشاسع بطراق الشسع ولكنها صحف الفصح الأولين الأولين، وكرام الكتب الكرام الكاتبين، وخرائد فوائد لمحدثين المحدثين وأبكار أفكار المقدمين. بيد أن منزلتها من الألفاظ الفاضلية منزلة الكتب المنزلة من الذكر المبين. وكم بينها وبين الفرقان من فرقان، وما هي وإن جلت وجلت للقرآن بأقران. كذلك ما لغرائب المغربيين، وأحاديث المحدثين طلاوةٌ، ولا حلاوةٌ، ولا إطراءٌ ولا طراوةٌ، ولا رونق ولا رواء، ولا بهجة ولا بهاء، مع فيض شروق صنائعه البديعة، وومض بروق بدائعه الصنيعة. ومن ابن رشيقٍ عند رشق سهامه ومشقه أقلامه ولو امتد عمره إلى مدته، لعمد إلى إخفاء عمدته، وكان خاملاً في حاشيته، حاملاً لغاشيته. وإن أبا الصلت لو رأى راية رويه لأبى صلت صارم صرامته، غاضاً حدقة حديقته، عاضاً على إبهامه لما أبهم عليه من حقه وحقيقته. ودع ودع قياس القيسي يمرثه الطفل، وقلب القول القسي يغرثه الحفل، فقد قلى يد الإحسان، وفقد قلائد العقيان. هل ابن خيران إلا حيران في ميدان هذا البيان ولقد شخب وريد ابن أبي الشخباء ورد إلى خباء الاحتباء. ولو حيي ابن خفاجة لجاء حيياً إلى جهة الاختفاء. فهؤلاء الذين خص المولى عبده بخصائصهم، وأخلصه للاطلاع على علم مطالعهم ومخالصهم. وإن صاغت خواطرهم من إبريز التبريز تيجاناً مرصعةً مرجاناً، وصغت زواهرهم للمغارب بنواصع الدرر ولوامع الغرر شهبانا متجمعةً ووحدانا، وكانوا عيون الناس الأعيان، وأناسي عيون الزمان، متممين بحسن الخواتم حسن الفواتح، محكمين سود الصحائف في بيض الصفائح، فإنهم ناقصون إقصاراً لكماله، شاخصون إبصاراً لجماله، لم يكتحلوا بتراب قدمه، ولم يدخلوا من باب حرمه، وكل الصيد في جوف الفرا، ومن قال غير هذا قيل له أطرق كرا. فهذه الكتب المهداة، والسحب المنشاة، فروعها المصنفة ستة أصنافٍ وأصلها كتابه الكريم، وأجزاؤها المؤلفة تسعة أصدافٍ وكلها دره اليتيم. تلك عشرةٌ كاملةٌ في المشايعة، أذعنت عونها لفضيلة بكرها كعشيرة الصحابة في المبايعة، أغضيت عيونها لفضل أبي بكرها، فهل كانت عدةً أتمها بعشرٍ لإكمالها، أو حسنةً جزاؤها بعشرة أمثالها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 ولما زف المولى هدي هداياه إلى كفؤها الكافي عنده صف إماءها أمامها على مثالها، فيا له غرساً ما تم به إلا للمتحترش الحاسد مأتمٌ، وأنساً ما تم منه إلا للمستوحش الجاحد مأثمٌ. وقد غني بالغانية عن وصف وصائفها ولهاً ولها، وعني بمعانيها الرائقة الرائعة ولم ينظر لنضارها شبهاً شبهاً، وإذ أفردها فضلها على فرائد فضلاء المشرقين والمغربين أبصر وسمع لساني العرب والعجم بتفضيل جميلها على تفصيل جملتها معجمين معربين. وأما المغاربة فعلى مشارع المشارقة مغار حبلها، ومن مشاربها معار خيلها، ومن مغانمها مغارمها، ومن صرائمها صوارمها، وحسبها أن الغزالة الراتعة في رياض الفلك، الكارعة ف حياض الملك، إذا وصلت إلى وردها توردت بالشفق، واصفرت للفراق من الفرق، وأصابت عينها عين العين الحامية، وعانقتها يد العنقاء المغرب العادية، ووقعت في قبضة طفل الطفل كالعصفور، وقضت هنالك نحبها ومعادها من المشرق غداة يوم النشور. إن الله يأتي بالشمس من المشرق حجةً بالغةً ومحجةً واضحةً للمحق المحقق، فإن تعلق المغربيون بأذيال أسمال الأنوار آخراً، فالمشرقيون اجتابوا حللها القشب أولاً، وإن تسلقوا على أسوار أسآرها فالعراقيون فتحوها معقلاً معقلاً، ولا لوم على العراق العراقي إذا استلأم ليحمي بحميته حماه، ويغار حين يغار على علاه. أما مصر فهي الآن عراقية الدولة، عباسية الدعوة، يوسفية العزة، فاضلية الحوزة، ناصرية النصرة، عادلية الحظوة، صلاحية السيرة، سيفية الهزة. فالفضل لها في عصرنا لا قبله، وفخرها فاضلها الذي ما رأى الزمان مثله، وهو معتق عبده، ومسترق حمده، وناعشه من عثار الجد، ورائشه بدثار المجد، فالخادم عراقي المنشأ والمربى، مصري المنحى والملجا، ناصري العلاء فاضلي الولاء. وأما الشام فلا يذكر ولا يشكر، وكيف يعرف ولا ينكر، ومعروف حلبة حلبه ذات المنكر. وقد دل نص الكتاب الكريم الواصل من المولى على أن سيآتها كثيرة، ولكنها لحسنات سلطانها مغفورة: قد طال دَنِّي لكم فطوِّلْ ... طَوْلاً بجاهي العريضِ كُمِّي أصبحتُ في مصرَ ذا رجاءٍ ... إلى النَّدَى الجمِّ منك جَمِّ أصابَ قَصْدي وتمَّ أَسْري ... وبان نُجْحي وفازَ أَمِّي وإنني قد وجدتُ وَجْدي ... منك كما قد عَدِمْتُ عُدْمِي نعشتني من عثارِ دهري ... فخِرْتَ حَمْدي وحازَ ذَمِّي ومنها: نتيجةُ النجح منك تقضي ... أنَّ المواعيدَ غيرُ عُقْمِ ومنها: قضاءُ دَيني ونيلُ سُولي ... وحفظُ جاهي وجريُ رسمي وضَيْعَةٌ لا يضيع فيها ... عَزْمي كما لا يفوتُ غُنْمي وحرمةٌ تستنيرُ منها ... سعودُ قدري في أُفْقِ عُظْمِ يممتُ يَمّاً ولستُ أَرضى ... تيمماً في جَنَابِ يَمِّ لِمْ أَمَلى لَمْ يُزَنْ بنجح ... لِمْ شَعَثْي لَمْ يُعَنْ بِلَمِّ رُمْ رَمَّ أَمري وحلِّ حالي ... ما كَرَمٌ في الورى كَرَمِّي رُثَّ رجائي بكل طرز ... وعُثَّ جاهي بغير سُحْمِ مضارعُ الفعل حظُّ فضلي ... وعائقُ الصرفِ حرفُ جَزْم ناهيكَ من مُخْوِلٍ مُعِمّ ... يحنو على المُخول المُعم كل عدوٍ شَنَاكَ يَلْقَى ... في الناسِ طَمْسَ اسمه كَطَسْمِ شَمْلُ العِدَا والعروضُ منهم ... ما بين شتٍ وبين شَتْم ونلتَ عزّاً بغير صَرْفٍ ... ووصلَ مُلْكٍ بغير صَرْمِ تَمَلَّهَأ فهي بكرُ فكري ... شهيةٌ من نتاجِ شَهْم حدوت عِيسِي بها فجاءَتْ ... شقشقةً من هديرِ قَرْم ومنها: لي خاطرٌ مُجْبِلٌ، لهمِّي، ... فَنَحْتُهُ من صَفاً أَصمِّ أَقْدَمَ رَغْباً فجابَ رُغْباً ... لقدرِ فخرٍ لديك فَخْم إليكَ يا كعبةَ المعالي ... حَجَّ حجاهُ بلُطْفِ حَجْم أَجْرِ على الوهمِ عُظْم شاني ... واجبرْ على الوَهْنِ عظْمَ نَظْمي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 بصفحةِ الصفح منكَ يبدو ... جِرْمُ قصوري بغير جُرْم باسمكَ للشكر باسماتٌ ... مِنِّي مُنىً سُقْتهُنَّ باسمي أَقبِلْ وأَفضِلْ عليَّ واقبَلْ ... عُرْبَ معانٍ لديك عُجْم ما دمتَ عوني فليس يَغْدو ... جميلُ وسمي قبيحَ رَسْم القاضي المؤتمن ابن كاسيبويه الكاتب من صدور كتاب مصر الذين يثنى عليهم الخنصر، ويقوى باعتدال طبائع خواطرهم من البراعة العنصر. ولم يزل في الدولة المصرية مقدماً مصدراً، وبكر فضله خلف حجاب الصدور مخدراً. ما أحسن أثر يراعته خطاً، وما أمكن خاطره المنير في سماء النظم لفلك المعالي قطباً. ولما زال عن مصر ببشر الدولة العباسية عبوسها، وبدا كل يوم يحل خمارها ويقلع بوسها، حار ابن كاسيبويه، وكاد يخفي ولو أنه في العلم سيبويه، فآواه القاضي الفاضل وغمرته منه الفواضل، وناضل عنه حين دون المنى ضل المناضل، وصيره الملك عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب وزيره، وأسمعه من غناء الغنى بجاه خدمته بمه وزيره. وهو الآن ذو جاهٍ عريض، وروض قشيب أريضٍ، سهل العبارة سلسها، مبتدع الاستعارة مختلسها، كنايته حلوة معسولة، من تكلف الصنعة مغسولة. وله نظم يناسب نثره سلاسةً ونهجاً، ويلائم وشي رسائله سلامة ونسجاً؛ فمن ذلك أني ملت لحضرة الملك عز الدين فرخشاه في داره بالقاهرة ليلة الثاني من رجب سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، والمؤتمن بن كاسيبويه حاضر، وقد كتب له من شعره في مدحه ورقة قد أودعت من لطائفه، فأخذتها ناظراً في ناضر زهرها، ومنها قوله: وسَمَتْ محاسنَك الزمانُ فلم تَدَعْ ... وَقْتاً من الأوقات إلا مَوْسِمَا أَزْرتْ خلالُكَ بالحسام إذا مَضَى ... عند الضَّريبةِ والغمامِ إذا هَمَى لا غرو أن جَرَّ الجيوش مُقَدَّماً ... من كان مذ شَهِد الوقائع مُقْدِما قسماً لقد هجر الكرَى جَفْني فلا ... يعتاده حتى يَعُودَ مسلِّما وله، صدر كتاب: لا زلت منصور اللواءِ مظفراً ... والسَّعْدُ يرحلُ إن رحلتَ وينزلُ والنجح مقرونٌ بقصدك دائماً ... والدهر يتبعُ ما تقولُ وتفعل وإذا قَفَلْتَ فَوَاجَهتْكَ مَيَامِنٌ ... تبدو بشائرها وجَدٌّ مقبل أنت الذي جاهدتَ عن دين الهدى ... فأَعزَّ نصركَ ناصرٌ لا يُخْذَل وَأَزَرْتَ أَرْضَ الشركِ أَطرافَ القَنَا ... حتى غَدَتْ من خيفةٍ تتزلزل وبِأَلْسُنِ الأَغمادِ خاطبتَ العدا ... فأجابها فتحٌ أغرُّ محجَّل نرْجى الجيادَ إلى الجهاد جحافلاً ... تَغْشَى البلادَ وأنت وحدك جحفل فَلْيَهْنِكَ الفتح الذي سَبَقَتْ به البُشْرَى ... وأشرقَ بِشْرُهُ المتهللُ يا من يُجَلِّي كلَّ خطبٍ مُعْضلٍ ... قولٌ له فَصْلٌ وسيف فَيْصَلُ عَقَدَ الوقارُ عليك تاجَ سكينةٍ ... بالنور لا دُرِّ العقود يُكَلَّلُ أحرزتَ من فضل الكمال خصائصاً ... عنها أحاديثُ المكارم تُنْقَل فاسلْم لملْكٍ قد حفظتَ نظامَه ... وسما بعزك مجدُهُ المتأَثِّلُ يحوي مقاليدَ البلادِ فسابقٌ ... أَعطى القيادَ ولاحقٌ مُتَمَهِّلُ عدة في الديوان الفاضلي السرير علم الرؤساء أبو القاسم عبد الرحمن بن هبة الله بن حسن بن رفاعة من أهل مصر، المعروف ب كاتب الأمير ناصر الدولة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 632 دخلت على القاضي الأجل مستهل المحرم سنة إحدى وسبعين في المخيم بمرج الصفر أهنيه بجديد العام العام الجدوى، وأستهديه الفوائد التي بها أحيا وأقوى، فوجدت بيده كتاباً لأبي القاسم المذكور إليه، والقاضي الفاضل يقضي بفضله ويثني عليه، فوقفت على رسالته وطالبته بكلمته، فأراني قصيدته، وأقراني فقرته، وقال إنه أفضل من بمصر نظماً ونثيراً. هذا وقد جمع من رسائله عشر مجلدات. فأما الرسالة فهي: قد جعل الله المجلس العالي الفاضلي الأسعدي زاده الله من اصطفائه أبكار المناقب وعونها، وواصل إلى جنابه حمولات المثوبات وظعونها، واستجاب من أوليائه في طول بقائه وهلاك أعدائه صالح الدعوات التي يدعونها خير ما ينادى قريباً ويناجى بعيداً، وأفضل منعمٍ يحقق وعداً ويخلف وعيداً، وعم الخلق جميعاً بنعمته، وشرف القلب بصواب حكمه وصوب حكمته، وألهج أقلامه بتوزيع إفضال المال والجاه، وقسمته، وخصه في إهداء الهدى بهديٍ أقربه على الساعين أبعده، وأثل له مجداً لا يتناهى مصعده، أو يكون فوق النجم مقعده. ولم يزل إقباله على المملوك يريه وجه الإقبال وسيماًن ويعيد عنده سموم اليأس بأرواح النجاح نسيماً، ولا يضيع جريه في ميدان اعتناق تنفيذ مرامه عنقاً ورسيما. وقد كان أكبر مولاه عن مكاتبة تليق بالأكابر، وتنحط أصاغر الخدام عن درجة المحافظ عليها المثابر، وسأل ابن حيون إحساناً إليه بذكر هذه الجملة في كتبه وإجمالاً، وأن يقلده بالإعراب عنه منة لا يسأم لها على مر الزمان احتمالاً. وحين أكدت مطالبه، وأحاطت بجوانبه دواعي الندم وجوالبه، وصار الإجلال وجلا، وعاد الإخلال خجلا، ثاب إليه من علم شرف خلق المولى وكرم طبعه، وتواضعه إقداراً للمعالي بحسن وضعه، ما حمله على نظم قصيد خدم بها مجلسه الكريم، مع تحققه أن لمدحه جادة جدٍ تعجز جلة الشعراء عن سلوكها، وتيقنه أن مناقبه لا تحتاج إلى المدائح إلا كحاجة عقود الجواهر إلى سلوكها، وضراعته في إجرائه في تقبلها على مألوف عادة الإحسان ومعروفها، واغتفار خطلها الذي كفارته ما يواصله هو وعائلته من أدعية صالحة للمولى بعدد حروفها. والمملوك مستمرٌ على عادته في ملازمة الخدمة والمواظبة عليها، وإدامة البكور إليها، مع ما يلحقه من النزلات التي تظلم مطالع محياه وغيرها من أمراض شاهدها اصفراراً محياه. والله تعالى يزيد في علو محل المولى المؤسس على التقى، ويجمل الدنيا بمفاخره الموفية على ناصع الجوهر المنتقى، ولا زال أفواج الرفاق لاقيةً إذا حطت بجنابه أفضل ملتقى. وأما القصيدة فإنها تنيف على مائة بيت فأثبت منها ما عقدت خنصر الاختيار عليه، ومطلعها: تالله ما عاشق الدُّمَى عاقلْ ... كلاَّ ولا عاذلٌ له عادِلْ ذا مُغْرَمٌ مُرْغَمٌ أخو حُرَقٍ ... وذا مطيلٌ ما عنده طائل لم يخشَ من ناقدٍ وقد جاء بالنُّكْسِ ... إلى ناقِهِ الهوى ناقل ومنها: غانيةٌ عن حليِّ غانيةٍ ... بحسنِ عاطٍ من جيدها عاطل وأسمرٍ غادرتْ لدونَتُهُ ... ماءً لها فيه جارياً جائل سنانُه طَرْفُهُ ومن عَجَبٍ ... سيفٌ علا لهذماً على ذابل! أهلَّه ضارباً وأَعملَ للطعن ... سواهُ من نهده عامل ومنها: وحالةُ المستهانِ أَنفعُ ما ... عاذَ به المستهامُ مِن عاذل خبا سناهُ وخابَ مقصده ... أَيَّةُ حالٍ لخامدٍ خامل ومنها في ذم الدنيا: وزاد حُبُّ الهوى عليه فما ... ينفكُّ في هُوَّة الهوى نازل يريد منها خفضاً فيرفعه ... مِن نَصْبِه للعَنَا بها فاعل أَين من الدَّرِّ كف حالبها ... المكفوف منها بكُفَّةِ الحابل يُظْهِرُ تكذيبُ سلْمِ باطِنِها ... عنوانَ عدوانِ خاثرٍ خاتل أنصارُها عصبةُ التتابع في الجهلِ ... وأحزابُ طالبي الباطل وما يَنِي مُذْكِراً بخطبتها ... حُكْمُ التناسي لحكمها الحائل يكونُ منها أمرُ الولاءِ وما ... ثَمَّ لها عاضلٌ سوى الفاضِل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 عبد الرحيم الذي لرَحمته ... ظلٌّ على الخلق وارفٌ شامل القابلُ القصدَ والمعيذُ من المنِّ ... أُلوفاً في العامِ والقابل وجاعل الرسمِ في سماحته ... تحبيسَ مِلْكِ الغِنَى على السائل ومنها: وما الغنيُّ المعزُّ للوفْرِ بالْمنعِ ... ولكن مُذِلُّهُ الباذل بديهةُ البِرِّ منه مُوفِيَةٌ ... أيدٍ عوادي الردى بها زائل لعروةِ الجهل والقَضيَّةِ إِذْ ... تُعْي ذوي العلمِ فاصمٌ فاصل إِن يظهرِ المدحُ فيكَ مُنْتَقَصاً ... فمنه في النفسِ كامنٌ كامل لأَنَّه في فَعَالِ همته ... لغايةِ العجز قائدُ القائل ومنها: ومعجزُ السيفِ فضلُ جوهره ... ومائِهِ لا عنايةُ الصاقل ومنها: وكم حبا السامعين فائدةً ... إِذا احتبى من نديِّه الحافل وكم أَقام القسطاسَ حتى رأى ... الإِقساط عادٍ عن عدله عادل وكم له من وساطةٍ مَنَعَتْ ... صائبَ سهمٍ من حادثٍ صائل يشبُّ منه الوليدَ أو يُعجز الكهلَ ... احتمالٌ منه على الكاهل وسادرٍ في الضلال غادرَهُ ... لثوبِ إِيناس رشده سائل ومنها في وصف كتابته ومنطقه: يعرب عن حكمة يظلُّ لها ... يُعْرِبُ عن لُكْنَةٍ به باقل ما حاقَ مذ حَقَّ كُلَّ منطقهِ ... حرامُ سحرٍ يُعْزَى إلى بابل يرسلُ من نثره لآلئَهُ ... نَبْلاً فأَعْظِمْ بناثرٍ نابل فيقذف الدرَّ بحرُ حكمته ... الخضمُّ من طِرْسِهِ إلى الساحل كم ظلَّ أَعلى الكُتَّابِ منزلةً ... لديه عنها في حالة النازل يعجز عن نقلهِ المثالُ مع الْ ... إعجاز ما دام عنده ماثل والخاطرُ الأسعديُّ يخطر في ... بلاغةٍ ذيلُ فضلها ذائل يَحْصُرُ إِنشاؤه غرائبَ أَقوالٍ ... بها ربعُ ذكره آهل أَوجدهُ الدهرُ عالماً فَضَلَ ... العالِمَ فضلَ العالي على السافل ومنها: صنعاً من الله للأجلِّ غدا ... بكفِّ عَدْوَى أَعدائِهِ كافِلْ ما فاءَ يوماً إِلى استشارته ال ... مَلْكُ فألفى من رأيه قائل لكنْ بَلاَ منه خيرَ ذي قلمٍ ... مُؤَازِراً خيرَ مالكٍ دائل حتى توافَتْ منائحُ النصر ... للدولةِ تسري في منهجٍ سابل لهنَّ من عدله ورحمته ... أَمٌّ ولودٌ ووالدٌ ناجل وضوعفت للجنود قوة إض ... عافِ الأَعادي فبأسُهُمْ باسل أَقْصَرُ سهمٍ حوت كنانتهم ... مزرٍ بطول المثقَّفِ العاسل ومنها: يا سيداً قُيِّدَتْ عقائلُ نُعْمَاهُ ... بشكرٍ منه لها عاقل إِذا أَخو الحاج ضلَّ عن سَنَنِ ... الحجِّ إِليه ضلالةَ الذاهل أَرَتْهُ أَنْوَارُهُ الطريقَ له ... كأَنما مِيلهُ لها كَاحِل ومنها: ينحلنا شهدَه بلا إبرٍ ... للنحل مِنْ مَنِّ باجلٍ ناحل والبُسْر لولا لونٌ يباشره ... الليلَ لما كان صِبْغُهُ حائل يا صادراً نحو صدرِ بغيتنا ... مرآكَ من صوبِ أَيْلَةٍ آيل وكلهمْ فيكَ لازمٌ شرعةَ ال ... قافي لآثارِ رجعة القافل مَطَرْتَ جُوداً محلَّ مَحْلِهِمُ ... عهادَ رزقٍ ما عهدُهُ حائل ومنها: أَقسمت أنِّي ما لم أُمَجِّدْكَ تَعْلُوني ... من الهمِّ خبلةُ الخابل فأغتدي في الدَّنِيْ من القولِ أَخ ... تارُ كما اشتار أَرْيَهُ العاسل مجتنياً تافهاً من المدح جمُّ ... المَنْحِ في وجهِ نقصه تافل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 634 وذكر القاضي الفاضل أن له شعراً حسناً وأنشد منه أبياتاً من قصيدة طويلة في وصف القلم، هي قوله: لعادة كفٍ إِنْ أَلَمََّتء بجلمدٍ ... عدا مورقاً أو معشباً حلَّهُ الخصبُ عجبتُ له أَنْ ظلَّ جاراً لسُحْبها ... وما فعلتْ فيه كما تفعل السحب وأَحْسبهُ حيَّا الطروسَ بنَبْعه ... وأَصبحَ مسلوباً وأَثمرتِ الكُتْب قال ابن كاسيبويه الكاتب، وكان حاضراً عند القاضي الفاضل: وله أبيات في القطائف المقلوة وهي قوله: أَهلاً بشهرٍ غدا فيه لنا خَلَفٌ ... أكلُ القطائف عن شربِ ابنةِ العنب من كل ملفوفةٍ بيضٍ إلى أُخَرٍ ... حُمْرٍ من القَلْي تَشْفِي جِنَّة السَّغَب كأنهنَّ حُروزٌ ذاتُ أَغشيةٍ ... من فضةٍ وتعاويذٌ من الذهب وله بيتان أنشدتهما: الصمتُ سَمْتُ سلامةٍ ... طوبى لندبٍ يقتفيه عرفَ المُنَكَّر للزما ... نِ فِدامَ فيه فَدَام فيه وله في القطائف المقلوة: وافى الصيامُ فوافتنا قطائفُهُ ... كما تَسَنَّمتِ الكُثْبانُ من كَثَبِ والبيتان الآخران هما المذكوران. وله في شمعة مذهبة: كأنها من بناتِ الهند مُثْقَلَةٌ ... بالحَلْي تُجْلَى لكي تُهْدَى إِلى النار ولما دخلت القاهرة في سنة اثنتين وسبعين اجتمعت به في دار السلطان ثم استنشدته شعره فأنشدني ما سبق ذكره من الأبيات وأنشدني لنفسه من قصيدة: وذي هَيَفٍ إن راحَ للرَّاح ساقياً ... غدا سائقاً للصبِّ رَكْبَ حِمَامِهِ يبيحُك إثماً من مُدار مُدامِهِ ... ويمنعُ لثماً من مُدارِ لثامهِ فما بالُهُ في كفِّهِ عَدْلُ حُكْمِهِ ... وفي طرفه الفتان جورُ احتكامهِ وكيف أضاءتْ أَنجمٌ من كؤوسهِ ... وقد أشرقتْ ما بينها شمس جامهِ ومنها في الثغر: وحقَّ له أنْ كان حُقَّ جواهرٍ ... إذا صِينَ من مسك اللَّمَى بختامه وله: وغادةٍ غرَّني بغُرَّتِها ... رُوَاءٌ حسنٍ يدعو لرؤيتها أَودُّ من وصلها نسيمَ رضاً ... يُبْرِدُ عني هجيرَ هجرتها شممتُ إذ شِمْتُ برقَ مبسمها ... أَطيبَ طيبٍ أمام ضَمَّتها فقلتُ هذا دخان عنبرةٍ ... للخالِ تَصْلَآ بنار وجنتها وله: نَظَرَتْ بطَرْفِي في شَخْصَها فتشكَّكتْ ... إذ قلتُ إنّكِ في الحشا المتوهِّج فحكى الذي في العَيْن ما في خاطري ... فأَرَيْتُها إِيَّاهُ في أُنمُوذَج السعيد أبو القاسم هبة الله بن الرشيد جعفر بن سناء الملك كنت عند القاضي الفاضل في خيمته بمرج الدلهمية ثامن عشر ذي القعدة سنة سبعين، فأطلعني على قصيدة له كتبها إليه من مصر، وذكر أن سنه لم تبلغ إلى عشرين سنة، فأعجبت بنظمه. والقصيدة هذه نسختها من خطه: فراقٌ قضى للهمِّ والقلبِ بالجَمْعِ ... وهَجْرٌ تولَّى صُلْحَ عيني مع الدمع ووصلٌ سعى في قطْعه من أُحِبُّهُ ... ولا عجباً قد يهلك النجم بالقَطْعِ ورَبْعٌ لذات الخال خالٍ وربما ... شُغِلْتُ بهمِّي من مُساءَلَةِ الرَّبْعِ فسبحان ربي قد سَمَت هِمَّةُ النَّوَى ... وطالت إلى أن فَرَّقَت ساكني جمْعِ وفي الحيِّ مَن صَيَّرْتثها نُصْبَ خاطري ... فما أَذِنَتْ في نازل الشوق بالرفع من العربيّات المصونات بالذي ... أثارتْهُ خَيْلُ الغائرينَ من النَّقْعِ وممن يرى أن الملالة مِلَّةٌ ... وتلك لعمرُ الله من طَبَع الطَّبْع تتيه بفَرْعٍ منه أَصْلُ بليَّتي ... ولم أر أصْلاً قطُّ يُعْزَى إلى فَرْعِ وتبسِم عما يُكْسَفُ الدُّرُّ عنده ... فكيف تَرَى من بعده حالة الظَّلْع فكم تركَتْ في ذلك الحيّ ميتاً ... وكم حُمِلَت فيها الضلوعُ على ضلْع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 635 وكم ذابَ من حَرِّ التعانق بيننا ... قلائدها حتى افترقنا من اللَّذْعِ سَقَى الله أيامَ الوصال مدامعي ... عليها وإن أَسْرَفْنَ في الهطل والنَّبْع زماناً تقود اللهوَ فيه يَدُ المُنَى ... ويُدْمِي التراضي صِحَّةَ الصدِّ بالصَّدْعِ ولا نائلُ الحسناءِ نَزْرٌ ولا النَّوَى ... تجاهرُ فينا دَوْلَةَ الوَصْل بالخَلْع إذا شئتُ غنَّاني غزالٌ مُغازِلٌ ... نَشِيطُ التثني فاترُ الخُلْفِ والمَنْعِ يغنِّي فتحمرُّ المدامةُ خَجْلَةً ... ليَقْصُرَها عن سَلْبَةِ العقْل بالخدعِ فأصرفُ راحي حين يُكْسَفُ بالها ... وأشربُ منه راحةً بفم السَّمْعِ وأَطربُ حتى لا أُفيق كأنَّما ... أَتانيَ في عبد الرحيم هَنَا الرَّجْعِ وما ذاك من فعلِ الإله بمنكرٍ ... ولا عَوْدُهُ من قدرة الله بالبِدعِ نأَى فدنا من كل طَرْفٍ سهادُهُ ... وسار فأَبقى كلَّ قلب على فَجْع إذا نظرت عينٌ سواه تَلَثَّمَت ... حياءً بعنوان الوفاءِ من الدمع وإِنْ عَزَمَت نفسٌ على قصدِ غيره ... ففي أَيِّ دِرْعٍ تلتقي أَسهمُ الرّدع أياديه يُشْجي الناسَ تذكيرُها به ... فأَعْجِبْ بضُرٍ جاءَ من جهةِ النفع وقد ضاق ذَرْعُ الصبر منا لفقده ... فيا حبذا من فقده ضِيقَةُ الذَّرْع فلولا اصطبارٌ فيه أَعْدَى بلادَهُ ... لسارت إليه واستجارتْ من القطع لِكُتْبِ الأجلِّ السيدِ الفاضلِ اغتدتْ ... رقابُ الأَعادي ناكساتٍ من الهَطْع ومن قَلَمٍ في كفه أصبحت به ... حدادُ المواضي عاجزاتٍ عن القطعِ ومن فكره أضحتْ أَفاعي يراعِهِ ... مع البعد منها قادراتٍ على اللَّسْعِ متى خطَّ حرفاً أُوهِمَتْ كلُّ قلعةٍ ... ولم تُخْط وهماً أَنها في يدِ القَلْع فلله كُتْبٌ منه إِن أَبصرَ العِدَى ... لها مطلباً لم يدفعوها عن الدفع وإِنْ قيل عُقْبَى خَلْعِهَا كلَّ مفسد ... لقد زِدْتِ قالتْ ذا اختصاري وذا قَنْعي لو ادَّرَعَ المرءُ الجبانُ ببعضها ... لأَصْبَحَ في الجُلَّى غنياً عن الدِّرْع لئن شوركتْ في فتح حمصٍ بأَسْهم ... مضت من قِسيٍ لَسْنَ يُخْطين في النّزْعِ فقد أَوْهَمَتْ تلك السهام بأَنها ... مُنَصَّلةٌ مما يحوكُ من السَّجع فتباً لمن ظنَّ السيوفَ ككتبه ... لقد ظنَّ ظناً فاسدَ الأَصلِ والوَضْع تُشَبِّعُ هاتيك الطيورَ وهذه ... من الأَمن تملأ أنفسَ الناسِ بالشِّبْع ومن لفظها الماءُ المَعينُ فلو جرى ... لريَّانَ أَفنى منه ما سال بالجِزْعِ لتهنِكَ يا عبدَ الرحيم سعادةٌ ... بها شاسعُ الآمال أَدنى من الشِّسْع ولا خاب من يرجو نداك ولا خبا ... شهابُ ردىً يرمي أَعَاديكَ بالسَّفْعِ فيا سيدي أَللهُ يعلمُ أَنَّنَا ... خصوصاً بضُرٍ مؤلمٍ صائبِ الوقع بُلينا بحسادٍ كثيرٍ أَذاهمُ ... يظنون أَنَّ الشَّرْعَ قد نُصَّ في الشرع ولا يَجْنِ بل لا يُجْرِ فيَّ اعتقادهم ... من الشرِّ وِتْراً أَوْ يعزَّزَ بالشَّفْع ولو أننا في نعمةٍ يحسدونها ... لهان ولكن عُذْرُهُمْ كَرَمُ الطبع فللناس حزنٌ من فراقك واحد ... وأَحزاننا قد أَوْهَنَتْ نَفَرَ الجمع لقد خاطرتْ من خاطري خَطَراتُهُ ... لشكوايَ حالاً ضاقَ عن كتمها وُسْعِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 فأُقسِمُ أَنَّ الطرسَ قد خافَ منهم ... وهذا دليلٌ أن كاتِبَهُ مَرْعِي فطوبى لعينٍ أَبصرتكَ وحبذا ... مَقَرُّكَ من ربعٍ وصُقْعُكَ من صُقع فلو فارقتْ جسمي إِليك حياتُهُ ... لقلتُ أَصابتْ غيرَ مذمومةِ الصُّنْع ثم وصل إلى الشام في شهر رمضان سنة إحدى وسبعين في الخدمة الفاضلية فوجدته في الذكاء آية، أحرز في صناعة النثر والنظم غاية، يتلقى عرابة العربية له باليمين راية، قد ألحفه الإقبال الفاضلي في الفضل قبولاً، وجعل طين خاطره على الفطنة مجبولاً، وأنا أرجو أن تترقى في الصناعة رتبته، وتعزر عند تمادي أيامه في العلم نغبته، وتصفو من الصبا منقبته، وتروى بماء الدربة رويته، وستكثر فوائده، وتؤثر قلائده. ومن جملة ما كتبه لي بخطه، وأملعنيه بنقطه، وأبرزه لي من سمطه، قصيدٌ يمدح بها الأجل الفاضل أبا علي عبد الرحيم بن علي البيساني، ويذكر مسيره صحبته للكتابة بين يديه، ويهنئه بعيد الفطر: إِن كنتَ ترغبُ أَنْ ترانا فالْقَنا ... يومَ الهياجِ إِذا تشاجرتِ القَنَا تلقَ الأُلى يُجنيهمُ ثمرَ العلا ... قُضُبٌ يلذُّ بها الجنى ممن جنى لا يشربون سوى الدماءِ مُدامةً ... إذ ينشقونَ من الأسنة سوسنا وإِذا الحسامُ بمعركٍ غنَّى لهمْ ... خلعوا نفوسهمُ على ذاك الغِنَا متورعين فإن بدتْ شمسُ الضحى ... جعلوا العَجَاجَ لها رداءً أَدكنا يشكو النهارُ خيولَهُمْ من نقعها ... والليلُ يشكو من وجوههمُ السنا ويكادُ يُعْدِي القِرنَ شدةُ بأسهم ... فيكادُ يومَ الروع أَن لا يَجْبُنَا وإذا رأى الخطِّيُّ حدةَ عزمِهمْ ... نكرَ القناةَ وكاد أَن لا يطعنا إني وإن أصبحتُ منهم إِنهمْ ... ليرون لِي خُلُقاً أَرقَّ وألينا أهوى الغزالةَ والغزالَ وربما ... نهنهتُ نفسِي عفَّةً وتدينا وأَهُمُّ ثم أخافُ عقبي معشرٍ ... أخنى عليهم سوءُ عاقبةِ الخَنَا ولقد كففت عنان عيني جاهداً ... حتى إذا أعييت أَطلقتُ العِنَا فجرتْ ولكن في الحقيقة عبرةً ... أَبقتْ على الخدين وسماً بيّنا يا جَوْرَ هذا الحبِّ في أحكامه ... خدٌّ يُحَدُّ ولحظُ طَرْفٍ قد زنا وأظنه قصد الجناسَ لأنه ... طرفٌ زنا لما رأى طَرْفاً رنا يا قاتلَ الله الغواني ما لنا ... عنهم غِنَىً بل كم لنا ِّعنهم غنى ومليحةٍ بخلت فكانت حُجَّةً ... للباخلاتِ وقلن هذي عُذْرُنا كالبدر إِلا أنها لا تُجْتَلَى ... والغصنِ إِلا أَنها لا تُجْتَنَى ضنَّتْ بطرفٍ ظلَّ يُعدى سقْمُهُ ... أَرأَيتمُ من ضنَّ حتى بالضنا قالتْ تُعَيِّرُ من يكون مُبَخَّلاً ... فعلامَ أسموه البخيل بودِّنا وإذا تشكَّى القلبُ إِسراعَ النوى ... ظلَّتْ تَشَكَّى منه إِفراط الوَنَى وإذا بكت عيني تقولُ تبسمتْ ... إِنَّ الدموعَ لها ثغورٌ عندنا يا عاذلين جهلتُمُ فضلَ الهوى ... فعذلتمُ فيه ولكنِّي أَنا إني رأيتُ الشمسَ ثم رأيتها ... ماذا عليَّ إِذا عشقتُ الأَحسنا وسألتُ من أيِّ المعادنِ ثَغْرُهَا ... فَوَجَدْتُ من عبد الرحيم المعدنا أبصرتُ جوهرَ ثغرها وكلامَهُ ... فعلمتُ حقاً أَنَّ هذا من هنا ذاك الكلام من الكمالِ بمنزلٍ ... لا يدركُ الساعي إليه سوى العنا يدنو من الأَفهام إِلا أنها ... تلقاه أبعدَ ما يكون إذا دنا ويسير وهو لحفظها مستوطِنٌ ... فاعجبْ لذلك سائراً مستوطنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 والجيدُ أَحسنُ ما يكون لمُسْمِعٍ ... أَضحى بجوهره النفيس مُزَيَّنا وإذا حواه الطرسُ فتَّحَ أعينا ... من زهره تُصْبِي إليه الأَعينا فالطِّرسُ ساحةُ فضةٍ وسطورُهُ ... مِسْكٌ تُفَرِّعُهُ اليراعةُ أَغصنا لله من عبد الرحيم يراعةٌ ... تَذَرُ الحسامَ من الفلولِ مُؤَنَّنَا فلسانه قد صار لولا شكرُهُ ... لجميل نعمتها لساناً أَلْكَنا وكتابهُ للمُلْكِ منه كتيبةٌ ... تدع العدوَّ مُحَيَّراً ومُجَبَّنا هو سورُهُ حيث السطورُ بروجُهُ ... فلذاك صار مُحَصَّناً ومحسَّنا ولقد علا بأبي عليٍ جدُّ من ... جعل الرجاءَ إليه أَنْفَسَ مُقْتَنَى يدعوه حين يُخيفُهُ إِقْتَارُهُ ... فإذا دعا كان النوالُ مُؤَمَّنا إنْ يأْتِهِ يَلْقَ النزيل مُعَزَّزَاً ... ويصادفُ الذهبَ النضارَ مُهَوَّنا والوجهَ أَبلجَ والفناءَ مُوَسَّعَاً ... والعزَّ أَقعسَ والعلاءَ مُمَكَّنَا أَغنى وأَقنى قاصديه فكلُّهُمْ ... يُثْني ولا يَثْني عِنَاناً للثَّنَا تُثْني القلوب على نداه وربما ... ركبَ النفاقُ مع الثناءِ الأَلْسُنَا كم عاذلٍ في الجود قال له اتَّئِدْ ... لا تَلْحَنَا فيه لئلا تَلْحَنَا يفديه من تلقاه قاصدَ رِفْدِهِ ... مُتَلَوِّياً في رِفْدِهِ مُتَلَوِّنَا أصبحتُ في مدح الأجلِّ مُوَحِّداً ... ولكم أتتني من أياديه ثُنَى وغدوتُ في حبي له متشيعاً ... من ذا أى متشيعاً مُتَسَنِّنَأ ورأيتُ صحبته نعيماً عاجلاً ... فرأيتُ بذلَ النفسِ فيه هينا وأَرادني فظننتُ غيري قصدَهُ ... فوجدت دهري مذ عَنَاني مُذْعِنَا يا ليت قومي يعلمون بأنني ... أدركتُ من كفيكَ نادرةَ المنى أَوْلَيْتَ حسادي بما أَوليتني ... علموا يقيناً أَنَّ أَيْسَرَهُ الغنى فملأتُ كفي منك جوداً فائضاً ... وملأتُ سمعي منك قولاً لَيِّنا أَنْسَيْتَنِي أهلي على كَلَفِي بهم ... وذكرتُ أَني قد نسيتُ الموطنا وعلمتُ من سفري بأني لم أَزلْ ... متغرباً لما لزمتُ المسكنا كم والهٍ يبكي عليَّ ويشتكي ... أَلماً من البينِ المُفَرِّقِ بيننا وإذا رأى أَثَري بَكَى فكأنه ... طَلَلٌ تقادم عهده بالمُنْحَنَى ويظنُّ دهري قد أَساءَ ولو دَرَآ ... حالي لأَيْقَنَ أَنَّه قد أَحسنا لا زال رأيك لي يزيدُكَ ضنَّةً ... في صحبتي ويزيد حسادي ضَنَا وَهَناكَ عيدٌ أنت عيدٌ عنده ... ولذاك أضحى فيك أَوْلَى بالهنا وبقيتَ ما بقيَ البقاءُ فإن دنا ... منه الفناءُ بقيتَ أو يَفْنَى الفَنَا وقال يمدحه أَبَى أنْ يَسُرَّ العاشقين إيابُ ... وأن يردعَ البينَ المشتَّ عتابُ وما العشقُ إلا موتُ جسمٍ إذا دعا ... فإن نفوسَ العاشقين جواب ومن صحَّ من داء الصبابة قلبُهُ ... رأَى أَنّ رأْيَ العاشقين صواب رعى الله قوماً رَوَّعُوا بفراقهم ... فؤاداً حماه من حِجاهُ حِجاب تضاعفَ ضعفي حين شُدَّتْ قِبابُهم ... وقد زاد كربي حين سار ركابُ عبرنا فكم من عبرةٍ في ديارهم ... تُذَالُ ونفسٍ بالحنين تُذَاب ومنها: وغانيةٍ لم تَعْدُ عشرين حجةً ... أقولُ لها قولاً لديه ثوابُ عليكِ زكاةٌ فاجعليها وصالَنَا ... لأنّكِ في العشرين وهي نِصَاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 638 وما طلبي إلا قبولٌ وقُبْلَةٌ ... وما أَرَبِي إلا رضىً ورُضاب ومنها: تذكرت دهراً ليس ينسيه لَذَّةٌ ... ولم يُسلِ قلبي عن هواه شرابُ وحجي إلى حانوتِ راحٍ وحانةٍ ... وكعبةُ لهوي أَغْيَدٌ وكعاب وإفراطُ حبي للعجوز التي غدتْ ... عروساً تَهادَى والعقودُ حَبَابُ تُعيدُ شبابَ العقل ضعفاً وكبرةً ... ويرجع منها للكبير شبابُ إذا قتلوها بالمزاج تبسمت ... كشاربها يرتاحُ وهو مُصَابُ ومن عجبٍ أَنَّا نصيرُ بشربها ... شياطينَ تردي الناس وهي شهاب ومنها في المدح: فتى أشرقت منه خصالٌ شريفةٌ ... كما أغرَبَتْ في الفضل منه رِغابُ وقد صادقَ الإِنجازَ منه مواعدٌ ... كما جَانَبَ الإِخلافَ منه جَنَاب على مالِهِ منه عذابٌ أَصَارَهُ ... مواردَ جُودٍ كلُّهُنَّ عذاب أَيادٍ له بيضٌ حسانٌ سختْ بها ... يدٌ لم يَشُبْها في العطاءِ حساب مواهبُهُ عِتْقُ النفوسِ أَقَلُّهَا ... إذا صَافَحَتْ بيضَ الصفاحِ رقابُ وآراؤهُ تَثْنِي النصولَ بفيضها ... إذا لم يكن إلاّ الدماءَ خضابُ ومنها في كتابته وكتبه: تَجُذُّ معانيها الرقابَ فقد غدا ... يُخَيِّلُ لي أنّ الكتاب قِرَابُ وقال يمدحه: لقد عَتِيَتْ أيدي النوى بالنواهد ... وقد عَبَثَتْ كفُّ البِلى بالمعاهد وقد صادرتنْي في البدور يدُ السُّرى ... فصار سروري صادراً غير وارد وكم ليلةٍ ق سرني الدهرُ منهمُ ... بأقمار خِدْرٍ لُقِّبَت بالخرائد بكل فتاةٍ تتركُ العقلَ شارداً ... على أنها بالحسن أصْيَدُ صائد ومحسودةِ العقد المعانَقِ جيدُهُ ... وإني له والله أكبرُ حاسد تتيهُ بفرعٍ فوق خَدٍ مورَّدٍ ... وتسطو بوردٍ تحت أَجْعَدَ وارد ومن صونها عن كل راءٍ ولامسٍ ... غدا صَدْرُها يُبْدِي قِلىً للقلائد وقد أَشْبَهتها الشمسُ حتى خيالُها ... يشابِهُ ما قد طَوَّلَتْ من مواعد سلِ القلبَ هل مرَّ السلوُّ بباله ... وهل حُزْنُهُ من بعدِكُمْ غيرُ زائد يَقَرَّ بما قد قَرَّ فيه من الأسى ... ويأتي إليكم من سَقَامي بشاهد فبَعدكَ ما أبصرتُ دمعيَ راقئاً ... وهذا دليلٌ أنني غير راقد ولما هجرت الكُحْل قلتُ أَمِنْ غِنىً ... بتكحيلها أَم مِنْ قِلىً للمَراود ومنها لأنِّيَ أَحكيها نحولاً وصفرةً ... وقد تُتْرَكُ الأشياءُ من غير واحد بعينيك لا تستعجل البين والنوى ... فلا بدّ يوماً من فراق الفراقد ولابد لي أن أترك الهمَّ آخذاً ... لكاسٍ تُلاقي كل همٍ بطارد وتتركُ منها زاهياً كلَّ زاهدٍ ... ويرجع منها ماجناً كل ماجد ومنها في صفة الخمر: ترى أبداً منها الأباريقَ سُجَّداً ... فشُرَّابُها أَضحَوْا بها في مساجد يطوفُ بها حلوُ المراشفِ أوْطَفٌ ... دَمَت مقلتاه كلَّ قلب بقاصد ولم يُبْقِ وجهاً وجهُهُ غيرَ ساهمٍ ... ولم يُبْقِ طَرْفاً طرفُهُ غيرَ ساهد يضن ببَرْدٍ من وصالٍ وقد بدا ... عذاراه في خديه مثل المَبَاردِ له الحسْنُ عبدٌ لا يخالف أمرَهُ ... وللفاضلِ المحمودِ حُرُّ المحامد غدا مُسْتَقِلاً بالرياسةِ والعُلاَ ... ومستكثراً من مُتْعِبات الحواسد ومستحمداً من بذله كلَّ مادح ... ومستمدحاً من فضله كلَّ حامد ومنها: وقد فاق من توفيقه كلَّ سائس ... كما ساد من تسديده كل سائد أَقَلُّ الوَرى مَنّاً على بذل مِنَّةٍ ... وأكثرُ ما تلقاه عند الشدائد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 639 علا ابنُ عليٍ فوق كلِّ مُطاوِلٍ ... بِطيبِ السجايا بعد طيب المحامد وفضلٍ حباه الله منه بمعجزٍ ... ترى أبداً يَرْويه كل معَاند وجَدٍ بما يهواه خيرِ مساعفٍ ... وسعدٍ لما يبغيه خيرِ مساعد فيا حاسديه غيظكمْ غيرُ نافذٍ ... ويا حامديه جوده غير نافد ويا عاذليه في الندى إنّ عذلكم ... كبَهْرَج نَقْدٍ زافَ في عين ناقد ومنها: إِذا كَذَبَتْ آراءُ قوم فرأيُهُ ... على مشكلاتِ الغيبِ أصدقُ رائد وإِن كَتَبَت أقلامُه أَقْصَدَ العدى ... سهام المنايا من سمامِ الأساود فيحمي سماءَ الملك منها ثواقبٌ ... بكل شهابٍ واردٍ نحو مارد فيا مشتري وُدَّ القلوبِ وحبَّها ... رويدكَ قد أَسْقَطْتَ نجمَ عُطَارِدِ كأن العدى عينٌ وكُتْبُكَ عُوذَةٌ ... وقد أَخَذَتْ من صَرْفِهِمْ بالمَراصِدِ ومنها في توديعه أَيا راحلاً والدمعُ بي غير واقفٍ ... ويا سائراً والوجدُ بي غيرُ قاعد يعزّ على ظمآن ملتهبِ الحشا ... فراقُ فراتٍ منك عذبِ المنوارد تسير فكم باكٍ بأجفان والهٍ ... عليك وكم باكٍ بأجفانِ والد أُودِّع منك العيشَ عيشَ شبيبتي ... وأقطعُ مني العمرَ عمرَ قصائدي وأهجرُ إن فارقتني كلَّ لذة ... وأُعربُ من وجدي على كل واجد فقصَّرَ ربي عُمْرَ ما قد نوى النوى ... ومن لي بتقريبِ النوى المتباعد وقال يمدحه من قصيدة مضى عنه أولها: ليالٍ عيونُ الدهرِ عنها نواعسٌ ... تنعَّمْتُ فيها من حسان نواعمِ وعانقتُ فيها بدرَهَا في معاجرٍ ... على إِثرِ مَن عانقتُهُ في عمائم وبرَّدْتُ فيها لوعتي من مراشفٍ ... فما زلت أستشفي بلثمِ المباسم ومنها: ولما بدا جيدٌ لها ومعاصمٌ ... رأيتُ حبالُ الصبر غيرَ عواصم وعاوَنَها عينايَ في سفكِ مهجتي ... فمن ذا أُسمِّي عاذلاً غيرَ ظالم وهدَّ هواها من نُهايَ معاقلاً ... وعهدي بها لا ترتقي بالسلالم وبعتُ فؤاداً واشتريتُ مَذَلَّةً ... وأُرْبحتُ علمي أنني غيرُ حازم ومنها في المديح: من الوارثينَ المجدَ لا عنْ كلالةٍ ... إذا ما ادَّعاهُ أَدعياءُ الأعاجم ترى ما لَهُ من بذله في مكارهٍ ... وتلقاهُ مسروراً بجمع المكارم إذا أَوْجَعَت قلبَ امرىءٍ كفُّ حارمٍ ... رأَى من عطايا كفه قلبَ راحم غرامٌ قديمٌ فيه بالجودِ والندى ... إذا أَثقل الأعناقَ حملُ المغارمِ ومنها في صفة كتابته: ويطربُ حُسناً من غدا فيه حتفه ... وقد يُطرب المحزونَ نوحُ الحمائم ومنها في تهنئته بالصوم: تَهنَّ بهذا الصومِ يا خيرَ صائرٍ ... إلى كلِّ ما يهوى ويا خيرَ صائم ومن صام عن كل الفواحشِ عمرَهُ ... فأهونُ شيءٍ هجرُهُ للمطاعم ومنها: ولولا نداكَ الغَمرُ لم أَكُ شاعراً ... وقد يشكر الأنهارَ صوتُ العُلاجم ولا عجباً أنْ صرتُ في خيرِ ناثرٍ ... لدرِّ كلامٍ رائقِ غيرَ ناظم وقال يمدح أباه ويودعه عند مسيره مع الأجل الفاضل إلى الشام: أَناخَ بها البارقُ الممطرُ ... ومرَّ النسيمُ بها يخطرُ وأحيا مسيحُ الحيا نشرَها ... فأصبحَ مَيِّتُها يُنْشَرُ وأُضْرِمَتِ النارُ من فوقها ... ففاح لها النَّدُ والعنبر ونبَّهَ فيها صهيلُ الرعودِ ... لواحظ ما خلتُها تسهر وطاشَ النباتُ فهل راقه ... ليركَبَهُ ذلك الأشقر وما حملتْ منةً للسحاب ... إلا ومنتُها أكبر متى جاء من دمعِهِ زائرٌ ... تَلَقَّاه من زهرها مَحْجِرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 640 ولو حلَّ في رغده خاطبٌ ... لوافاه من سَرْوِها منبر فكم مقلةٍ ثَمَّ مغضوضةٍ ... وكم وجنةٍ بالحيا تقطر وكم من غديرٍ غدا صفْوُهُ ... بأسرارِ حصبائه يُخْبر وكم قد نهاه هبوبُ الرياح ... فظلَّ بتجعيده يستر زكم فيه للقطر من خوذةٍ ... تدلُّ على أنه مِغْفَر فيا روضةَ الحسن إِني شُغِلْتُ ... بروضةِ حسنٍ لمن ينظر ويا خَضِرَ اللون قد ضاع فيك ... كما ضعتَ شاربك الأخضر أنا لا أُبينُ لفرطِ السَّقام ... وذاك لكونك لا تظهر تأَطَّرَ والرمحُ في كفه ... فلم ندر أيهما الأسمر ومرَّ الغزال على إِثرهِ ... فلم ندر أيهما الجؤذر وألبس خاتَمَهُ خصرَه ... فقد صحَّ من خَصْرِهِ الخنصر ولما تعمَّمَ قام الدليلُ ... على نقصِ مَنْ زِيُّها المِعْجَرُ وحسبك أَنَّ لها معجراً ... وأَسعدُ منه لهُ مئزر وقد غار منه على أَننِي ... وغيريَ من قبله أَغْيَرُ فيا معدناً دُرُّهُ سالمٌ ... ويا روضةً وردُهَا أَحمر ويا من بفيه لنا سُكَّرٌ ... ولكنه سُكَّرٌ يُسْكِرُ تحلل جَهْراً عقود الرجال ... فمن أجله حُرِّمَ المُسْكِرُ أَصومُ عن الوصل دهرِي وقد ... رأيتُ الهلال ولا أُفْطِرُ وأنت الهلالُ وأنت الهلاكُ ... بِقَتْلِيَ تُفْنِي ولا تَفْتُرُ ومنها: وأَعجبُ من كلِّ ما قد جرى ... عجوزٌ أَتتنِي بها مُعْصِر وهذي القضيةُ معكوسةٌ ... أَرَى العقلُ من مثِلهَا يَنْفِرُ فواصلتها في كؤوس ظَنَنْتُ ... بها أَنَّ حارسنا يُبْصر وأَحرقتُ منها ظلامَ الدجى ... لِمَا صحَّ من أَنَّه يَكْفُر وبات نديميَ لا ليلُه ... يطولُ ولا شُرْبُهُ يَقْصُرُ وقام المؤذِّنُ ينعيَ الظلامَ ... فهذاك يَنْعَى وذا يَنْعَرُ وحُطَّ لديَّ قناعُ الصباحِ ... وأسفرَ لي وجهُك المُسْفِر فلا يعجبِ الصبحُ من نوره ... فوجهُ الرشيدِ أبى أنْورُ واخبارُ سؤدده من سناه ... أبهى ومن حسنه أبهر هو السيد المشتري للثناءِ ... وقد عجز القومُ أن يشتروا ومانِحُ من جاء يمتارُهُ ... فهمْ في معاليهِ لن يَمْتَرُوا ويفتر مُدَّاحُهُ من لهاه ... فهم في المدائح لن يَفْتُرُوا وراحتهُ قبلةُ الآملينَ ... على أنها ديمةٌ تمطر فللجود باطنها مَشْرَعٌ ... وَلِلَّثْمِ ظاهرها مَشْعَرُ فإن شئتَ قل إِنه جنةُ النعيمِ ... وراحتُهُ الكوثر تُقَصِّرُ إِنْ سابقَتْهُ الرياحُ ... وتوجدُ في إِثره تَعْثُر ويُنسي الرشيدُ لذكر الرشيد ... ويُحقر من جعفرٍ جعفر وكيف يُسَمُّونَه جعفراً ... ومن فيض راحته أَبحر وكيف يلومون حسَّادَه ... وقد حسدت عصرَه الأَعْصُر من القوم لا رفدُهُمْ للعفا ... ةِ يُحْصَى ولا مَجْدُهُم يُحْصَر فرفدهمُ منهمُ مُرْبِحٌ ... ووفرهمُ بهمُ مُخْسِرُ بدورٌ إِذا انتسبوا للأَنامِ ... فزُهْرُ النجومِ لها مَعْشَر ولا مثلَ هذا الرئيسِ الذي ... له مَفْهَرٌ ما له مفخر ومنها: وتوردُ في مَنْهَلِ المكرماتِ ... وتصدْرُ عن أَمل يصدر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 641 فِداهُ من السوءِ حسَّادُه ... جميعاً على أَنَّهم أَحقر فكم قَدَّرُوا الوضعَ من قدره ... وتأبى المقاديرُ ما قدَّرُوا وكم آثروا ثلمَ عليائه ... فما ثلموها ولا أَثَّرُوا يحلِّقُ نحو سماءَ العلا ... وهم قبل تحليقه قصَّرُوا فلله منه فَتى عزمةٍ ... تجيءُ الليالي بما يَقْدُرُ ونظَّامُ مجدٍ يُرى نَفْيُهُ ... لأَعْرَاضِه أَنه الجوهر وعدليُّ فعلٍ يقولُ الزمانُ ... لإِجباره إِنَّهُ مُجْبرُ وبحرُ علومٍ يُرَى موجُهُ ... يُعَبِّرُ عنه ولا يُعْبَرُ لك الله ماذا عسى أن يقولَ ... لساني وماذا عسى يذكر فقد صرتُ أَشعر إِن رمتُ نظمَ ... مديحك أَنيَ لا أَشعر وإِني عزمت على سفرةٍ ... أَرى وجه إِقبالها يسفر وأحببتُ خدمةَ مَن دهرُنا ... لأَغراضه خادمٌ أَصغر وآثرتُ صحبة مولى الأنامِ ... لأبلغَ منه الذي أُوثِرُ ستغبطني فيه شمسُ الضحى ... ويحسدني القمر النيِّر وأصبحُ لا عيشتي عنده ... تُذَمُّ ولا ذمتي تُخْفَر وأُبصرُ دهريَ من ذنبه ... يتوبُ إلَيَّ ويستغفر أودِّعُ منك الحيا والحياةَ ... وأُودِعُ قلبي لظىً يَسْعر وأَرحلُ عنك ولي خاطرٌ ... بتذكار غيركَ لا يخطر ومن كان مثلي سعى في البلاد ... فيكسى من العز أو يكسر وما طلبي غير نيل العلا ... ومثلي على مثلها يعذر فلا تنسني من مجاب الدعا ... فإني وليدك يا جعفر وقال وقد اقترح عليه أن يذم الخال: يا من غدت تختال في خالها ... وخالُها يقضي بتهجينها كأنما خدُّكِ تفاحةٌ ... وخالُها نقطة تَعْيِبنِهَأ وقال فيه: لا تُجْرِ دمعاً على سعادٍ ... فإن هِجْرَانَها سَعَادَهْ زهتْ على قومها بخالٍ ... أَكسبها منهمُ زَهَادَه وما درت أَنَّ كلَّ خالٍ ... بغضتُهُ للظريفِ عاده إني لأختصه بمَقْتِي ... لمّا تَخَيَّلْتثهُ قُرَاده وقال في قواد: لي صاحبٌ أَفديه من صاحبٍ ... حلوِ التأنِّي حَسَنِ الإِحتيالْ لو شاءَ من رقةِ ألفاظِهِ ... ألَّفَ ما بين الهدى والضلالْ يكفيك منه أنه رُبَّما ... قاد إلى المهجورِ طيفَ الخيال وقال: وَغادةٍ عندها وَغادَهْ ... صارت لها سُنَّةً وعادَه إن هام بها جنوناً ... جعلتُ ساقاتِها قِلاَدَه وقال يهجو: وشاعرٍ كاتبٍ أَديبٍ ... منظَّمِ العقدِ والقياس قلتُ له والفضول داءٌ ... وهو كما قيل كالعُطَاس لِمْ صِرْتَ تَبْغي وصرتَ تَبْغُو ... قالَ من العشقِ للجناس وقال: لا أَصْرِفُ الوَجْهَ عن إِنسانِ غانيةٍ ... ولستُ أصرف عنها وجْهَ إِنساني ولا أُريدُ لقوَادٍ مُسَاعدةً ... إن الشبيبةَ من أَعْيانِ أَعوانِي وقال موشحاً يمدح به أباه: أَخْمَلَ ياقوتَ الشفقْ ... دُرُّ الدراري وساح في أُفْقِ الغَسَقْ ... نَهْرُ النهارِ وفتَّ كافورُ الصباحْ ... مسكَ السماءِ وفاح من نشرِ الأَقاحْ ... نشرُ الكَبَاءِ وهبَّ من جسم الرياحْ ... مثلُ الهباءِ ولاح من زَهْرِ البطاحْ ... نَدُّ الهواءِ وسار في بَدْرِ الأُفُقْ ... سِرُّ السِّرارِ وقد وقى الشمسَ الغَرَقْ ... منه سماري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 642 فاترك لعيدانِ الطلولْ ... تَنْدُبُ مَيَّا واشربْ على رغمِ العذولْ ... من الحُمَيَّا وانثرْ على أُفق الشَّمُولْ ... عِقْدَ الثريا وقل لساقيك العجولْ ... باللَّهِ هَيَّا أَما ترى نورَ الفَلَقْ ... شيبَ بنارِ لعلَّهُ قد استرقْ ... شمسَ العُقَار لا شمسَ إلا من مدامْ ... ذاتِ وقودِ تجلو بتمزيقِ الظلامْ ... وجهَ الرشيد نفسُ العلا معنى الأنامْ ... سرُّ الوجود وهو إِذا عُدَّ الأنام ... بيتُ القصيدِ تخلَّفوا وقد سَبَقْ ... إلى الفَخَارِ فليس فيهم من لَحِقْ ... غيرَ الغبارِ أغنى وأقنى باللُّهَى ... وما تَعَسَّرْ وقاده فضلُ النُّهَى ... فما تعثَّر ورام أعلى ما اشتهى ... فما تَعَذَّر وحاز مقدارَ السُّهَا ... فما تكَبَّر فجلَّ ربٌّ قد خَلَقْ ... بالاقتدارِ هذي المعالي من عَلَقْ ... بلا تَمَارِ عمري ببقياهُ شبابْ ... والعيشُ صافي وليس لي فيه شرابْ ... غيرُ السُّلافِ وكعبتي خودٌ كَعَابْ ... لها طوافي قالت برغم الاجتنابْ ... والانحرافِ جِي يا حبيبي واستبِقْ ... واحْلُلْ إِزاري فإن زوجي ما غَلَقْ ... ذا اليومَ داري وقال موشحاً يرثي أمه: يا مَا عَرَا قلبي وما دهاهْ ... مضى نُهَاهْ لما نهاهُ الوجد مَعْ مَنْ نَهاهْ ما زال لي مذ دهاني الزمانْ أُنْسٌ شجاعٌ واصطبارٌ جَبَانٌ وعَبْرَةُ خالِعَةٌ للعِنَانْ لا تقبلُ الصونَ وترضى الهوانْ وناظري قد غاب عنه كراهْ ... تُرى سَرَاه أَو يُفْسِحُ الدهرُ له في شِرَاهْ صبراً جميلاً أين صبرٌ جميلْ ذاك سبيلٌ ما إليه سبيلْ وقتي قصيرٌ وحديثي طويلْ حسبكَ مَنْ راحتُهُ في العويلْ وجُلُّ ما يبغيه لُقْيَا الوفاهْ ... وهي شِفَاهْ تَبْرِي خطوباً خاطَبَتْهُ شِفَاهْ حزني على أُمِّيَ حزنٌ شديدْ تَبْلَى الليالي وهو غَضٌّ جديدْ فقلْ لنارِ القلب هل مِنْ مَزِيدْ وقل لصَرْفِ الدهر هل من مَحِيدْ غلطتُ دعْ دهري وما قد نواهُ ... فهل عساهْ يأتي إِلا دون ما قد أَتَاهْ لهفي على من شطَّ منها المزارْ وأَظلمتْ من بعدها كلُّ دار وصار للمقدارِ فيها الخيارْ وقد بكى الليلُ لها والنهارْ هذا لفقدِ العُرْفِ ما قد شجاه ... وللصلاه هذا أطالَ الوجدُ فيها بكاه يا ليتني سابِقُهَا للمماتْ ولا أَرى نفسي بشر الصِّفاتْ منتزَعَ الصبرِ عديمَ الثبات فكم ثكالى قُلْنَ مستعجلاتْ هذا المسيكينْ ما بَقَى لَهُ حَيَاهْ ... هَدَّ قُواهْ واهاً عليه ثم واهاً وواهْ وقال يذكر ليلة وصال: ظبيٌ بحسماءَ حالي الجيدِ بالعَطَلِ ... لكنه قد جَلاَهُ الحسنُ في حُلَلِ موشّحاتٌ ولكن من ذوائبهِ ... لما رآه مُحَشَّى الطرف بالكَحَلِ أتى إِليَّ وأَهدى خدَّهُ لفمي ... فقمتُ أَقْطُفُ منه وردةَ الخجل والليلُ قد مَدَّ سِتْراً من سحائبه ... لمّا تخيَّلَ أنّ الزَّهْرَ كالمُقَلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 643 قمنا ولا خطرٌ إلا إلى خَطَرٍ ... دانٍ ولا خطوةٌ إلا إلى أجل والعينُ تسحبُ ذيلاً من مدامعها ... والقلبُ يسحبُ أَذْيالاً من الوجل أُكلِّفُ النفسَ معْ علمي بعزّتها ... وَطْئاً على البيضِ أو حَمْلاً على الأسَل لكنني بالمواضي غيرُ مكترثٍ ... وبالأَسنَّةِ فيه غيرُ محتفل وكاد يهلك لولا الصبرُ من فَرَقٍ ... وكدت أهلك لولا الحَزْمُ من جَذَل حتى أتينا إلى ميعادِ مَأْمنةٍ ... يا صاحبيَّ فلو أبصرتما عملي أواصلُ اللَّثْمَ من فَرْعٍ إلى قدمٍ ... وأُوصلُ الضمَّ من صَدْرٍ إلى كَفَل وجَيَّبَ الشوقُ ثوباً من معانقةٍ ... منَّا علينا فلم يَقْصُرْ ولم يطل وبات يُسْمعني من لفظِ منطقه ... أَرقَّ من كلمي فيه ومن غَزَلي وددتُ أعضايَ أسماعاً لتسمعَهُ ... ولو تحمَّلْتُ فيه وطْأَةَ العَذَل ودمعةُ الدَّلِّ يُجريها على جسدي ... فهل رأيت سقوط الطلِّ في الطّلَل ونلتُ ما نلتُ مما لا أَهُمُّ به ... ولا ترقَّتْ إليه هِمَّةُ الأمل ومرَّ والليلُ قد غارتْ كواكبه ... لما نوى الصبحُ تطفيلاً على الطّفَلِ لم أَسْحَبِ الذيلَ كي أَمحو مواطِئَهُ ... لكنني قمتُ أمحو الخَطْوَ بالقُبَلِ يا ليلةً قد تولَّتْ وهي قائلةٌ ... لا تظلمنِّيَ مع أيَّامِكَ الأُوَلِ وقال عند خروجه من مصر وتوجهه إلى الشام: لما دعا في الركب داعي الفراقْ ... لبَّاهُ ماءُ الدمع من كل ماقْ يا دمعُ لم تَدْعُ سوى مهجتي ... فلِمْ تطفَّلْتَ بهذا السباقْ إن كنتَ قد خفت لظى زفرتي ... فأنت معذورٌ بهذا الإباق وإِن تكن أسرعتَ من جِنَّةٍ ... إنّ لها من أَنتي أَلفَ راق مهلاً فما أنت كدمعٍ جرى ... وراقَ بل أنت دماءٌ تُرَاقْ فقمتُ والأجفانُ في عَبْرَةٍ ... والدمعُ من مَسْألتي في شقاق أَسقى بمُزْن الحزن روضَ النَّوى ... يا قُرْبَ ما أَثمرَ لي بالعناق وأسلفَ التوديع شكري لكي ... يخدعَ قلبي بتلاقي التَّرَاق وما عناقُ المرء محبوبَهُ ... إِلا بأنْ يلتفَّ ساقٌ بساق لله ذاك اليوم كم مقلةٍ ... غَرْقَى وقلبٍ بالجوى ذي احتراق ومعشرٍ لاقوا وجوه النوى ... وهي صِفاقٌ بوجوهٍ رِقَاق ووالدٍ بل سيدٍ والهٍ ... سقاه توديعيَ كأساً دهاق كأنّ ذاك اليومَ كأسٌ له ... الهمُّ شُرْبٌ ويدُ البعد ساق يقول لي أَتعَبْتَ قلبي فلا ... لقيتَ من بعديَ ما القلبُ راق أيقنتُ أنْ أَلْبَسَ في بلدة ... أخلاقَ قومٍ ما لهم من خَلاَقْ هُمْ معشرٌ دقٌّ ومن أجل ذا ... أَضحتْ معاني اللؤم فيهم دقاق لما سرتْ خيلي بهمْ عنهمُ ... أسميتُ قلبي بِعتاقِ العتاق وبدرِ تِمٍ قال لي عاتباً ... فَلَلْتَ صبري يا كثيرَ النفاق خدعَتني حتى إذا حُزْتَني ... سلَّطتَ بالبينِ عليَّ المِحَاق قلت بدورُ التم أَسْرَى السُّرَى ... فارضَ بأني لك يا بدرُ واق وابقِ طليقاً ما نأَتْ داره ... وَدَعْ أسيراً سائراً في وثاق وربما كانَتْ لنا عودةٌ ... فإن تكنْ كان إليك المَسَاق مذ صُعِقَ القلبُ لتوديعهم ... وخرَّ لم يَتْلُ، فلما أفاق إن كان وجدي غيرَ فانٍ به ... فإن جسمي بعده غيرُ باق والله ما يَسْوَى وإن كابروا ... يومَ النوى عندي غيرُ التلاق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 644 ومما قال بحماه: من للغريب هَفَتْ به الفِكَرُ ... لا العينُ تؤنسُهُ ولا الأَثَرُ لا تلتقي أَجفانُ مقلته ... فكأنما أَهْدَابُهُ إِبَرُ من طولِ ما يُرْمَى بغُرْبَتِهِ ... يبكي البكاءُ ويسهر السهر يا طولَ ليلٍ لا صباحَ له ... سَحَروا الظلام فما له سَحَرُ ولقد تحَّلأَ عن منازله ... طيفٌ لطولِ سُرَاه مُنْبَهِر يأتي إليَّ لنقع غُلَّته ... فيصدُّهُ مِنْ مَدْمَعي نَهَر وعهدْتُ قلبي جِسْرَ مَعْبَرةٍ ... لكنَّ ذاك الجسرَ مُنْكسِرُ مذ نِمتُ لكن في كَرَى وَلَهي ... خُيِّلْتُ أن خيالَهُ القمر يا دهرُ يا من لا حُنُوَّ له ... أَوَ ما علمتَ بأنني بَشَرُ لو كنتَ تنطق قلت لِمْ بَطَراً ... فجميع ما بك أَصْلُهُ البَطَرُ تأتي حماةَ وتشتكِي كدراً ... أو ما علمت بأنها كَدَرُ وبقيتَ لا أهلٌ ولا ولدٌ ... فيها ولا وطَنٌ ولا وَطَرُ صه يا زمانُ فإِنني رجلٌ ... لَيْسَتْ تُغَيِّرُ صَبْرَهُ الغِيَرُ ماءُ البشاشة ملءُ صفحته ... والقلبُ فيه النارُ تَسْتَعِرُ ولربما هطلتْ مدامعُهُ ... ومُراده أن يَغْرَقَ الحَوَرُ فالخدُّ ميدانٌ صوالجُهُ ... هُدْبٌ لها من دمعه أُكَرُ والنبعُ قالوا ما له ثَمَرٌ ... أنا نبعةٌ والدمع لي ثمر ولأَرْكبنَّ الصعبَ غُرَّتُهُ ... غَرَرٌ وخَطْرَةُ عِطْفِهِ خَطَرُ إمَّا وإما وهي واحدةٌ ... فيها مُرادُ النفس يَنْتَظِرُ ريحَ الجنوبِ أَراكِ ناحلةً ... هل شفَّ جسمَكِ مثلِيَ السفر وأركِ طيِّبَةً مُعَطَّرَةً ... هل أنتِ من أحبابنا خَبَرُ تلك الأحبة روضُ ودِّهِمُ ... خَضِلٌ وماءُ صَفَائهم خَصِرُ ومنها: فارقتهم فتمايلوا أسفاً ... حتى ظننا أَنهمْ سَكِروا فكأَنهمْ لدموعهم شربوا ... وكأَنهم بأَنينهم نَعَروا كم فيهمُ مَن غَضَّ ناظرَهُ ... لما خلا من شخصيَ البصر ويظن ظناً أن مقلته ... لولاي لم يُخْلَقْ لها نظر يا ويحَ طرفٍ بعد فرقتهمْ ... لم يَجْرِ دمعٌ بل جرى قَدَر كم كنت أَحذرُ من فراقهمُ ... فإذا دهى قَدَرٌ فلا حَذَرُ لهفي على عيشٍ بنعمته ... كانت ذنوبُ الدهر تغتفر ومنازلٍ باللهو آهلةٍ ... تُزْهَى بها الآمالُ والفِكَر ومنازهٍ من حُسْنِ حيلتها ... يُنْسَى الحبورُ وتُنثَرُ الحِبَرُ ومنها: تلك الغصون شعورها وَرَقٌ ... متكلِّلٌ وعقودها زَهَرُ تحت النهودِ كأنها بِدَرٌ ... سُرَرٌ تُفَرَّغُ فيهمُ صُرَرُ آهاً لثغرٍ لو ظفرتُ به ... وكذا الثغور بها يُرَى الظَّفَر من شادنٍ طرفي لفرقته ... زَنْدٌ وحُمْرُ مدامعي شَرَرُ متحيرٌ في طرفه الحَوَرُ ... متبرِّجٌ في وجهه الخَفَر لو لم يكنْ في الجفن عَسْكَرُهُ ... ما قيل إنَّ الجفنَ يَنْكسِرُ حَفَّتْ مواردَهُ قلائِدُهُ ... وَيْلاهُ ذا خَصِمٌ وذا خَصِرُ لم أُحْصِ كم عانقتُ قامته ... فتكسرت من ضمِّيَ الدُّرَرُ أَصَبَرْتَ حتى يوم فرقته ... يا قلبُ! والتحقيقُ يا حَجَرُ وورد إليه الخبر بوفاة الأسعد ولد الشيخ الأجل السديد علم الرؤساء، فقال يرثيه ويعتذر إلى والده من تأخير الرثاء بحكم اشتغاله بأحوال السفر، ونفذ إليه من حلب: أصبحتُ بعدك في الحياة كفانِ ... وقد اكتفيتُ ولا أقولُ كفانِي أَبكي فتجري مهجتي في عبرتي ... فكأنَّ ما أجريتُهُ أجراني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 645 وتَحِمُّ أَنفاسي ولمَّا يُنْجِهَا ... دمعٌ هو البحرانُ بل بحرانِ نسخت وفاتُكَ أدمعي فلكم جرت ... كالدرِّ وهي اليوم كالمرجان لا بل هي العِقْيَانُ سالَ وإنما ... أَبْكي العزيزَ عليَّ بالعِقيان قد سِلنَ ألواناً ليعلمَ أنني ... في حمل فرض الحزن غيرُ الواني وافانيَ الناعي لكي ينعاكَ لي ... ومضى على أَدراجه ينعانِي وغَزا وجيشُ الرزءِ من أَعوانه ... وبرزتُ والإِعْوَالُ من أعواني لا أدَّعي أن النعيَّ أصمَّنِي ... فيمنْ أصمَّ وإنما أَصْمَاني يا ثالثَ القمرين حُسْناً قد بكى ... حُزْناً لأجلِ مُصابك القمران دينارُ وجهك حين أُهْبِطَ في الثرى ... كادت تفرُّ الشمس للميزان وسيوفُ برقِ الجوِّ لما أُغمدت ... صفحاتُ ذاك الوجه في الأكفان وَدَّتْ لو انغمدتْ ولكن تغتدي ... هامُ العدا بدلاً من الأجفان يا تُرْبُ ما أنصفتَ نضرةَ غصنه ... أكذا صنيعُ الترب بالأغصان غُصْنٌ فنونُ الطرفِ في أفنانه ... تعلو على الجاني وهنَّ دَوَاني تستوقفُ الرائي معاني حسنه ... عجباً بها فكأَنهنَّ مغاني كم مادَ من سكرِ الشباب فهل دَرَى ... أَنَّا نميد بسَكْرَةِ الأشجان قد كان يرفل في ثيابِ شبيبةٍ ... أردانُها طَهُرَتْ من الأدْرَانِ جمعت خلائقُهُ له وصفاتُهُ ... حِلْمَ الكهول ويَقْظَةَ الشبّان ومنها: أصبحتُ مثلَكَ مُفْرَداً متغرباً ... مُقصىً عن الأحبابِ والأوطان والفرقُ أنك في الجِنَانِ وأنني ... من أجلِ فقدك صرتُ في النيران قد كنت أحملُ همَّ بينٍ واحدٍ ... فأَتت وَفَاتُك لي ببينٍ ثان كيف اصطباري من فراقٍ واحدٍ ... وقد افتضحتُ من الفراقِ الثاني وتسوءُ فرقةُ من تحبُّ ولا يُرَى ... شيءٌ يسوءُ كفرقة الأقران صبري وموتُكَ في حشاي كلاهما ... مُرَّانِ مثلُ أسنَّةِ المُرَّان أوسعتُ فيك الدهر عتباً مؤلماً ... فأجابني بالبَهْتِ والبُهْتَان قلبي يحاسِبُهُ على إجرامِهِ ... ويَعُدُّها بأَنامل الخفَقَان غيري هو السالي وإني قائلٌ ... ما أقبحَ السلوان بالإخوان فلئن سلوْتك ناسياً لا قاصداً ... فالذنب للنسيانِ لا السلوان ومنها: يأيها المولى السديدُ ومَنْ غدا ... أَوْلى الورى بالصبرِ والإيمان صبراً جميلاً يَقْتدي قلبي به ... فهو المُعَنَّى بالهموم العاني واللهُ يعلمُ ما حوته جوانحي ... مما دهاك وما أَجَنَّ جناني ولئن غدا مني الرثاءُ مؤخراً ... من أجلِ شغلِ القلب والأحزان فلقد رَثَتْ عيني بنظمِ مدامعي ... وأرى الدموعَ مراثيَ الأجفان لم يرْثه مني لسانٌ واحدٌ ... لكن رَثَتْ بمدامعي عينان خدي كطرسي والمدامعُ فوقه ... شِعْري وإنساني كمثل لساني ولقد علمتُ قصورَ ما قد قُلْتُهُ ... فأردت أُودِعُهُ حَشَا كتماني ولا نذكر البيت الأخير لأن فيه نقص دين وضعف إيمان وقلة توفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقال مستوحشاً من صديق جرت عادته بالاجتماع معه في متنزهٍ له: جلستُ ببستانِ الجليسِ ودارِهِ ... فهيَّجَ لي ممن تناسيتُهُ ذِكْرا وسُقِّيتُ شمسَ الكاسِ ساعةَ ذكره ... فلم تستطع في ليل همِّيَ من مَسْرَى فيا ساقيَ الكاسِ التي قد شربتُها ... رويدكَ إنّ القلب من أُمَّةٍ أُخرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 646 ولو وُصِلَتْ سودُ الليالي بشَعْره ... لما خَشِيَتْ من غير غُرَّتِهِ فجرا تذكرتُ وَرْداً للمليحِ مُحَجَّباً ... يمدُّ عليه ظلُّ أهدابه سِتْرا فصرتُ أُجازي القلبَ من أجلِ ذكره ... فيقتلني ذكرى وأقتُلُهُ صبرا أُقبُّلُ ذاك الظلَّ أحسبه اللَّمَى ... والثم ذاك الزهرَ أحسبه الثغرا وكم لائمٍ لي في الذي قد فعلته ... وكم قائلٍ دَعْهُ لعلَّ له عذرا لأجلك يا من أوحش العينَ شخصه ... أَنِسْتُ لسُهْدٍ يمنع العينَ أن تَكْرَى وقاسيتُ منك الغدرَ والهجرَ والقِلَى ... وأنفقتُ فيك الشِّعر والعمر والدهرا وأَفلَسَ طرفي حين أَنفَقَ دَمعَهُ ... فأجرى فمي دمعاً يُسَمُّونَه شِعرا وفارقتُ عِزّاً بالشآم لألتقي ... بمصرَ الذي من أجله فَضَّلوا مصرا لئن طبتُ في مُسْتَنْزَهٍ لم تكن به ... فلا زلتُ أَلقى عندك الصدَّ والهَجْرا ولو كنتُ في عَدْنٍ وكنتَ بغيرها ... وحوشيتَ آثرتُ الخروج إِلى بَرَّا ولو كنتَ في بُصْرى وحبِّكَ لم أَقُلْ ... أيا بَصَري لا تنظرنَّ إلى بُصْرى وهذا المصرع الأخير هو مبتدأ أبيات كان عملها عند عبوره على بصرى: أيا بَصَري لا تنظرنّ إِلى بُصْرَى ... فإِني أَرى الأحبابَ في لبدة أَخْرَى وما بلدةٌ لم يسكنوها ببلدةٍ ... ولو أنها بين السِّماكين والشِّعْرَى وما القفرُ بالبيداءِ قفرٌ وإنما ... أَرى كلَّ دار لم يكونوا بها قفرا تذكرتُ أحبابي وإِني لمؤمنٌ ... ولكن أَراني ليس تنفعني الذكرى لقد ضرَّني البين المُشِتُّ وَمزَّني ... فيا لكَ بيْناً ما أَضرَّ وما أَضْرَى أأهبطُ من مصرٍ وقدما قد اشتهى ... على الله أقوامٌ فقال اهبطوا مِصْرَا وكم لي بها دينارُ وجهٍ تركتُهُ ... ورائي فعيني بعده تشتكي الفقرا فوالله ما أشرى الشآمَ ومُلْكَهُ ... وغوْطَتَهُ الخضرا بشِبْرَيْنِ من شُبْرا فإن عدتُ والأيامُ عُوجٌ رواجعٌ ... لقد أنشأتْني قبلَها النشأةَ الأخْرى وقال: يا عاطلَ الجيد إِلا من محاسِنِهِ ... عَطَّلْتُ فيكَ الحشا إلا مِن الحَزَن في سلكِ جسميَ دُرُّ الدمع منتظمٌ ... فهل لجيدك في عِقْدٍ بلا ثمن لا تخشَ مني فإني كالنسيمِ ضَناً ... وما النسيمُ بمخشيٍ على غُصُنِ وقال: ظبيٌ بمصْرَ نسيتُ مِنْه ... عناقَ غزلانِ العراقِ ورشفتُ راحَ رُضَابِهِ ... لكنّه حلوُ المَذَاقِ فإذا أتانيْ عاطلاً ... حَلَّتْهُ لي دُرَرُ المآقي وِإذا تأَطَّرَ قَدُّهُ ... فأنا المثقِّفُ بالعناق يا حسنَ أيامي به ... لو أن أيامي بَوَاقي بالله يا قمرَ الورى ... مَن خصَّ خَصْرَكَ بالمحاق وعلامَ يَغْلُظُ سِلْكُ خُلْقِكَ ... معْ حواشي الرقاق كم يعذلون على انخلا ... عي في وصالك وانهِرَاقي ودواءُ ما تصبو إليْهِ ... النفسُ تعجيلُ الطلاق وقال: كم لنا من خُلَسٍ في الغَلَسِ ... خُلَسٌ تَمَّتْ برغم الحَرَسِ نلتُ فيها عَسَلاً من لَعَسٍ ... آه واشوقي لذاك اللعس قد تنفسْتُ فهل عندكمُ ... أَنَّ نَفْسي خَرَجَتْ من نَفَسي وقال في بستانه: يا أيها البستانُ إِنْ حصَّلْتَ لي ... من صرتُ مخموراً بكاس مِكاسه لأحلِّيَنَّكَ من بهاءِ جبينه ... ولأَخْلَعَنَّ عليك من أَنْفَاسه وقال في الخمر: عروسكمُ يا أيها الشَّرْبُ طالقٌ ... وإِن فَتَنَتْ من حسنها كلَّ مجتلِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 647 دفعتُ لها عقلي وديني مقدماً ... فقالت وجنَّات النعيمِ مُؤَجَّلِي وقال في جارية في خدها ماسور: بنفسي فتاةٌ يكتبُ الغصنُ إِن مَشَتْ ... إِلى قَدِّها المياس: من عبد عبدها ولي جَسَدٌ ما زال مأسورَ صدها ... إلى أن حكى في السقم ماسورَ حدِّها أُشَبِّهُ ذاك الخدَّ منها بحمرة ... وشابورة الماسور طابَعُ نَدِّها وقال يمدح الأجل الفاضل ويشكره على عيادته له في مرضه: رأيتُ طَرْفَكَ يوم البين حين هَمَى ... والدمع ثَغْراً وتكحيلَ الجفون لمَىَ فاكففْ ملامك عني حين أَلْثمه ... فما تشككتُ أني قد رأيتُ فما لو كان يعلمُ مَعْ علمي بقسوته ... تألُّمَ القلبِ من وخزِ الملام لَمَا رنا إِليَّ فقال الحاسدون رنا ... وما أقول رنا لكنْ أَقولُ رمى رمى فأصمى ولو لم يرمِ متُّ هوى ... أما ترونَ نحولي في هواه أَما وبات يحمي جفوني من طروقِ كَرَىً ... ولم أَرَ الظبي منسوباً إليه حِمَى وصاد طائرَ قلبي يومَ ودَّعني ... يا كعبةَ الحسن مُذْ أَحْلَلْتِهِ حَرُمَا يا كعبةً ظلَّ فيها خالُها حجراً ... كم ذا أَطُوفُ ولا ألقاه مُسْتَلما مذ شفَّ جسميَ من نار الغرامِ ضَناً ... لاح الشعاعُ على خديه مُضْطَرِمَا وشفَّ كأسُ فَمٍ منه لرقَّتِهِ ... فلاح فيه حبابُ الثغر منتظما يا كسرةَ الجفن لِمْ أَسْمَوْكِ كسرته ... وجيشُهُ بك للأرواحِ قد غنما وكم أَغَرْتِ على الأرواح ناهبةً ... إن كان ذلك عن جُرْمٍ فلا جَرَمَا مولاكِ فاق ملاحَ الخلق قاطبةً ... فهو الأَميرُ وقد أَضْحَوْا له حَشَما أقولُ والريحُ قد شالت ذؤابتهُ ... أصبحتَ فيهم أميراً أمْ لهم علما شكرتُ طيفك في إِغبابِ زورته ... لأَن مثليَ لا يستسمنُ الوَرَما ولستُ أَطلبُ منه رِفْدَهُ أَبداً ... لأَنَّ ذا الحِلْم لا يسترفد الحُلُمَا لكنَّ عهداً قديماً منكَ أطلبه ... وربما نُسِيَ العهدُ الذي قَدُمَا وازداد حبُّك أضعافاً مضاعفةً ... وربما صَغُرَ الشيءُ الذي عظما ولستُ أُنكرُ لا رَيْباً ولا تُهَماً ... من يعرفِ الحب لا يستنكرِ التُّهَما ولستُ أُتْبِعُ حبي بالملام كما ... لا يُتبعُ ابنُ عليٍ برَّهُ ندما ذاك الأجلُّ الذي تلقى منازله ... فوق السماء وتلقى دارَه أَمَمَا أَغنى وأقنى وأَعطى سُؤْلَ سائله ... وأَوجدَ الجود لما أَعدم العَدَمَا وقصَّرَ البحرُ عنه فَهْوَ مكتئبٌ ... أما تراه بكفيْ موجِهِ الْتَطَمَا وولَّتِ السحبُ إِذْ جارتْهُ باكيةً ... أما ترى الدمعَ من أَجفانها انْسَجَمَا ولو رأى ابنُ أَبي سُلْمى مواهبَهُ ... رأى جَدَا هَرِمٍ مثلَ اسمه هَرِما ولو أعارَ شماماً من خلائقه ... حِلْماً لأبصرت في عرنينه شمما ومذ رأيتُ نفاذاً في يراعته ... رأيتُ بالرمح من أَخبارها صمما إذا امتطى القلمُ العالي أَنامِلَهُ ... حلَّى الطروس وجلَّى الظُلْم والظُّلَمَا قضى له الله مذ أَجرى له قلماً ... بالسَّعْدِ منه وقد أَجرى به القلما ذات العماد يَمينٌ قد حوت قلماً ... هو العماد لمُلْكٍ قد حوى إِرَمَا يُريكَ في الطرس زُهْر الأفقِ زاهرةً ... وقد ترى فيه زَهْرَ الروضِ مبتسما ويرقمُ الوشيَ فيه من كتابتهِ ... وما سمعنا سواه أَرقماً رقما سطورُهُ ومعانيه وما استترتْ ... هُنَّ الستورُ وهذي خَلْفَهُنَّ دُمَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 648 تبرَّجَتْ وهي أبكارٌ ومن عجبٍ ... أَن التخفُّرَ من أَمثالها ذُمِمَا فخراً لدهرٍ غدا عبدُ الرحيم به ... بالأَمرِ والنهي يبدي الحكم والحِكَمَا أسمى الورى وهو أسناهم يداً وندىً ... وأوسع الناس صدراً كلما سئما وأَعْرَقُ الخلقِ في استيجاب رتبته ... وأَقدمُ الناس في استحقاقها قدما كساه ربُّكَ نوراً من جلالته ... يَلقى العدوَّ فيكسو ناظرَيْه عَمَى يلوحُ في الصدر منه البدرُ حين سما ... والغيثُ حين همى والبحرُ حين طما يُغضي حياءً ويُغْضَى من مهابته ... فما يُكَلَّمُ إِجلالاً إذا ابتسما هذا البيت تضمين: لما عَلِقْتُ بحبلٍ من عنايته ... صالحت دهري ولم أَذْمُمْ له ذِمَمَا وحين طالع طرفي سعدَ طلعتِهِ ... رأيتُ نجميَ في أُفْقِ العُلاَ نَجَما وكان قدماً ذوو الأقدارِ لي خَدَماً ... فصرت منه أَرى الأقدارَ لي خدما يا أيها الفاضلُ الصدِّيقُ منطقُهُ ... إِني عتيقك والمقصودُ قد فُهِمَا أَعَدْتَ للعبدِ لما جئتَ عائدَهُ ... روحاً وأهلكتَ من حساده أُمَما تركتهمْ ليَ حُسَّاداً على سَقَمي ... وكم تَمَنَّوْا ليَ الأَدواءَ والسَّقَما نقلتَ شاني إِليهمْ ثم قلتَ لهمْ ... لا تَسْلَمُوا إن هذا العبدَ قد سلما تفضُّلٌ منكَ أعلى بينهمْ قِيَمي ... ومنةٌ منك أَعْلَتْنِي لهمْ قمما هبْ لي مِنَ القولِ ما أُثني عليكَ به ... أَوْ كُفَّ كَفَّكَ عن أَنْ تُشكِيَ الديما ومنها: شكري لنعماك دينٌ لي أَدينُ به ... والكفرُ عنديَ أَنْ لا أشكرَ النِّعَمَا وقال: إنه مالَ وملاّ ... فأتى الطيفُ وسَلَّى عاطلاً حتى لقد عا ... دَ من اللثم مُحَلَّى كنتُ في تقبيليَ الطي ... يفَ كمنْ قبَّلَ ظِلاَّ وله من قصيدة: عثرتُ ولكنْ في ذيولِ دموعي ... ونمتُ ولكنْ عن لذيذ هجوعي وكاد فؤادي أن يطيرَ صبابةً ... لقانِصِه لولا فِخاخُ ضلوعي وقال يهجو: عبدٌ لعبد الله أَعرفه ... ما زال مسكُ صُنَانِهِ صَائِكْ يخلو به فيودُّ من كلَفٍ ... لو أنَّهُ استه لائك ولقد يكونُ بينهما ... والله يعلمُ من هو وقال: أما وهواك لولا خوف سخطكْ ... لهان على محبك أمر رهطكْ ملكت الخافقين فتهت عجبا ... وليس هما سوى قلبي وقرطك الأسعد أبو المكارم أسعد بن الخطير بن مهذب بن زكريا بن مماتي أحد الكتاب في الديوان الفاضلي، ذو الفضل الجلي، والشعر العلي، والنظم السوي، والخاطر القوي، والسحر المانوي، والروي الروي، والقافية القافية أثر الحسن، والقريحة المقترحة صورة اليمن، والفكرة المستقيمة على جدد البراعة، والفطنة المستمدة من مدد الصناعة. شابٌ للأدب رابٌّ، وعن الفضل ذابٌّ؛ وهو من شملته العناية الفاضيلة، وحسنت منه البديهة والروية: اجتمعت به في القاهرة وسايرني في العسكر الناصري وأنشدني من نظمه المعنوي، ما ثنيت به خنصر الاستحسان، وأذنت لجواده في الإجراء في هذا الميدان. واثبت منه كل ما جلا وحلا، وأشرق في منار الإحسان وعلا، وراج في سوق القبول وغلا. فمن قوله يصف الخليج يوم فتحه بالقاهرة: خليجٌ كالحسام له صِقَالٌ ... ولكن فيه للرائي مَسَرَّهْ رأيت به المِلاحَ تجيدُ عوماً ... كأنهمُ نجومٌ في المجرَّهْ وقوله في غلام نحوي: وأهيفٍ أَحدثَ لي نحوُهُ ... تعجباً يُعْرِبُ عن ظَرْفِهِ علامة التأنيثِ في لفظه ... وأَحْرُفُ العلة في طَرْفِهِ وقوله في غلام خياط: وخَيَّاطٍ نظرتُ إلي ... هـ مفتوناً بنظرتِه أسيل الخدِّ أَحمره ... بقلبي ما بوجنته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 649 وقد أمسيتُ ذا سَقَم ... كأني خيط إبراه وأحسدُ منه ذاك الخي ... طَ فازَ برِيِّ رِيقتهِ قال: هذا البيت الأخير للسديد أبي القاسم الكاتب. ولابن مماتي هذا في قصيدة عملها هذا السديد لاميةٌ مفيدة أوردتها في شعره: تبكي قوافي الشعر لاميةً ... بَيَّضْتَهَا من حيث سَوَّدْتَهَا لما علا وسواسُ ألفاظها ... ظننتَها جُنَّتْ فقيدْتَهَا وقال: أراكمُ كحباب الكأسِ منتظماً ... فما أرى جمعكمْ إِلا على قَدَحِ وقال: لقد مرَّ لي في مصرَ يومٌ وليلةٌ ... هما في مُحَيَّا الدهرِ كالسِّحْر في الطَرْفِ وما فيهما والله عيبٌ وإنما ... تولاهما عُجْبٌ فذابا من الظَّرْف وقال: ما صرت أَجسرُ أن أبكي لفرقتهمْ ... لأنهم زعموا أن البكا فَرَجُ وقال: أحبابَنا والذي يقضي بأُلفتِنَا ... بعد الفراقِ ويُخْلِينَا من الفَرَق ما زلتُ أخبط في عشواءَ مظلمةٍ ... من بعدكمْ وأبيعُ النومَ بالأرق حتى ثويتُ بنارِ الشوق في حُرَقٍ ... وصرت أُشْرِفُ من دمعي على الغَرَقِ فمتعوني ولو ليلاً بطيفكمُ ... ما دمتُ أقدرُ من روحي على رَمَقِ وقال في ذم العذار: إذا طلع العذارُ فقد فقدنا ... لذاذةَ عيشنا الأَرِجِ البهيج لأَنَّ الغصنَ لا يخضرُّ حتى ... يصيرَ بأصله مثلُ الوشيج وقال يصف البق: تكاد بقرصِ البقِّ تتلفُ مهجتي ... إذا لم أُجِدْ من ثوب جلدي التخلُّصَا ومن أعجب الأشياءِ في البقِّ أنها ... على الجسم سُمَّاقٌ وتُنبِتُ حِمَّصَا ونظمتني وإياه سفرة في خدمة الملك الناصر إلى ثغري دمياط والإسكندرية فوصلنا إلى ترعٍ وخلجان ومخاضاتٍ وغدرانٍ فقال بديهاً: لو أطلق الدمعَ مشتاقٌ ومدَّكِرُ ... لمن يحب لأَشْفَيْنَا على الغرَقِ لكنما هذه الخلجانُ مُتْأَقَةٌ ... لأنها رَشْحُ ما يَعْصِي من الْحدَقِ وأنشدني لنفسه أيضاً قوله وقد ألم بذم العذار: يا عاذلي، جلُّ ناري ... من خدِّه الجلّنَارِي وريقه كشرابٍ ... معتَّقٍ ذي شرار ولحظه فيَّ أَمضى ... من الْحِرَابِ الْحِراَر كالريم ريمَ لصيدٍ ... فصارَ حِلْفَ حِذَارِ يهوى الدنانير لما ... تشابهتْ بالبهار وإن رأى قلبَ صبٍّ ... رعاه رعي العَرَار وليس ربَّ عذارٍ ... يطولُ فيه اعتذاري إن الغرام صَغَارٌ ... ما لم يكن بالصِّغَار ومنها في المدح: له يسارُ يمين ... إزاء يُمْن يسارِ وقال في وصف مخدة في بيت ابن سناء الملك: وسادةٍ لَمَحَتْ عيني بدارهمُ ... وِسَادةَ رُقِمَتْ أَمناً من الأَرَقِ حكمُ السرور بها يقضي السكونَ لها ... كأنها عُوذَةٌ من جِنَّةِ الفلق أَحْسِنْ بها روضةً ليس النسيم بها ... ولا المياهُ سوى الأنفاسِ والعَرَقِ يحيا بناظرها إنسانُ ناظرها ... ففي حديقتها مَنٌّ عَلَى الحدق لو لم تكن سَرَقَتْ من وجه مالكها ... محاسناً ظهرت، لمْ تُدْعَ بالسَّرَق وقال مما كتبه إلى السديد علم الرؤساء أبي القاسم، وكان قد اقتضى منه ديوان رسائله، فاعتذر إليه بالخوف من نقده: إن قلبي من شقة البين يخشى ... وفؤادي من شِقْوَة البين يَخْشَعْ ومقامي يقضي بطولِ سقامي ... إذْ لحاظي من قبلِ تطمحُ تَطْمَعْ وغُدُوِّي فيما يَسُرُّ عدوّي ... ويُريه من القِلَى ما توقَّعْ ولقد عِيلَ في الصبابة صبري ... فإلى كم أسيرُ في غير مَهْيَع أنا صبٌّ بغادةٍ تشبه الطا ... ووس إذ كان حسنها يتنوَّع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 650 ذاتُ لفظ كأنه ثغرها الأشنبُ ... لو أنّ دره يتجمع لي من عُجْبها رقيبٌ قريبٌ ... فهي في كلِّ حالةٍ تتمنع مَنَعَتْ طيفها الزيارةَ حتى ... صرتُ من منعها له لستُ أَهجع واستقلَّتْ دمعي غداةَ استقلّتْ ... بجمالٍ فقلت لو كان ينفع هو مني دمٌ جرت معه العينُ ... فقالوا دمعٌ لأنيَ أجزع ثم وَلَّت سُقْماً عليَّ وولَّت ... وفؤادي مما تصدَّى تصدَّع قلت إلا وقفتِ يا شمسُ للصبِّ ... فقالت هيهاتِ ما أنت يوشَعْ وغرامي بها كفضلِ أبي القا ... سم في كلِّ ساعة يتفرَّع كم أرانا الرياضَ في لفظه النثر ... فخلنا دروجه تتوشع وسقانا مُدامَ معنىً بديعٍ ... في قريضٍ مُصَرَّع بل مرصَّع فشكرنا لما سكرنا فلم يلو ... علينا لأنه قد تَرَفَّع ولثمنا التراب بين يديه ... وسألناه حاجةً فتمنَّع فلحى الله واشياً وعذولاً ... وبغيضاً وكاذباً يتصنَّع وإذا صار بالجفاء مُضيعاً ... من عقودِ الولاء ما صانَ أَجمع فخطابُ العتاب بالكافِ كافٍ ... لو تدانى أو كان يسمحُ يسمع أنت يأيها السديد أبا القا ... سم في بَذْلِكَ الندى لست تقنع فلأيِّ الأمور تبخلُ باللفظِ ... على خادمٍ يناديك يخضع وهو نورٌ يسعى أمامك كالصبح ... ونارٌ في وجهِ ضِدِّك تَشْفَع وحسامٌ مُهنَّدٌ مُطْلَق الحدِّ ... جُرازٌ متى تُجَرِّدْهُ يقطع لم يزل ثابتاً على الود جَلْداً ... وخطيباً بشكر فضلك مِصْقَع وهو ممن إذا عراه مُلِمٌّ ... ما له غير حسنِ رأيك مَفْزَع أتوهَّمْتَهُ يُغِيرُ على لف ... ظك معْ أنّ غيرَهُ منه أوسع وعلى أَنه وحقِّكَ لم ير ... ض بما لم يكن له يَتَشَيَّع وعصيتَ الودادَ في طاعة العذ ... ل ولم تُلْفِ عنده قط مطمع فإذا كنتَ قد وصلتَ لهذا ... وهو مما يصيِّرُ القلبَ بَلْقَع لا تكنْ للعدا نصالَ سهامٍ ... مصمياتٍ فليس في القَوْسِ منزع وتفضَّلْ بسَتْر ما ساقه الوز ... نُ بهذي القصيدِ يا خيرَ أرْوع فهْيَ قد قُيِّدَتْ لتثبت في الطر ... سِ لئلا تسيرَ من قبلِ تسمع ولو انّ العتابَ أُطْلِق فيها ... لغدَتْ أَجْبُلُ القُوَى تتصدع وعلى كل حالةٍ فأنا العبدُ ... الذي مَلْكُ حسنه فيه يشفع ونزلنا ببركة الجب لقصد الجهاد، وعرض الأجناد، فكتب الأسعد ابن مماتي إلي أبياتاً في الملك الناصر، وتعرض للشطرنج فإنه كان يشتغل به في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين: يا كريمَ الخِيم في الخَيِمِ ... أهيفٌ كالرئم ذو شمم عَجَبي للشمس إذ طلعتْ ... منه في داجٍ من الظُّلَم كيف لا تُصْمي لواحظه ... ورماةُ الطرف في العجم لا تصدْ قلبَ المحب لكم ... ما يحلُّ الصيدُ في الحَرَم يا صلاحَ الدين يا ملكاً ... مذ براهُ الله للأُمَم أضحتِ الكفارُ في نِقِمٍ ... وغدا الإسلامُ في نِعَمِ إن يكُ الشِّطْرِنْج مشغلةً ... للعليِّ القدْرِ والهمم فهْيَ في ناديك تذكرةٌ ... لأمورِ الحرب والكرم فلكم ضاعفتَ عِدَّتَها ... بالعطاءِ الجمِّ لا القلم ونصبت الحرب نصبتها ... فانثنتْ كفّاك بالقمم فابقَ للإِسلام ترفَعُهُ ... وَأْمُرِ الأقدارَ كالخدم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 651 وقال في الملك الناصر: إن كنتَ تنكر ما أقولُ ... فالسهدُ يشهدُ والنحولُ وهما لديك من العذو ... لِ فكيف يمكنك العدول يا صعدةً أنفاسيَ الصُّ ... عَداءُ منها والذبولُ ومهنداً في القلب من ... هـ على محبته فلولُ إن كثَّرَ الواشون في ... ك ففي شمائله الشَّمُول أو صرت معتزليْ فإنَّ ... الفكرَ يُعجبه الحلولُ إنَّ الغزالةَ كالغزا ... ل وكالنفورِ هو الأُفول فإلامَ لا يَشْفي الغلي ... لَ بزورةٍ منك العليل والصبرُ أَقصر ما يكو ... ن إذا الصدودُ بدا يطول كم حِيلَ بين تجلُّدي ... والقلب إذ حضر الرحيل وهَمَتْ جفوني بالنجي ... ع كأنما طرفِي قتيل فاعجب لدمعٍ كيف يظ ... هرُ والنفوس به تسيل يا قاضياً بهواه فيَّ ... وذلك الدَّلُّ الدليل فيك الجمالُ كما ملي ... كُ زمانِنَا فيه الجميل الناصرُ الملك الرءو ... فُ الأروعُ الوَرِعُ المُنِيلُ مَلِكٌ إذا عَصَتِ الحصو ... نُ سواه كان له الحصول حَسْبُ العساكِر والعِدا ... أَن النّصولَ به تَصُولُ ويمينُه سِلْماً تجو ... دُ كما غدت حَزْماً تجول طالت فروعُ الحمد فيه ... كما زكَتْ منه الأصول راياته تحكي الأصيلَ ... فرأيه الرأْيُ الأصيل حيث الخيولُ على الوعو ... رِ كماتُها فيها الوعول أَمَّا وقد قصدَ الغَزاةَ ... وهنَّتِ القربَ النصول وبكت به أمُّ الصليبِ ... وشدوُ صارمه الصليلُ وبدت له أرض الشآ ... مِ تهون إذ كانت تهول فلسوف يفتحُ قُفْلَهَا ... من قبلِ أَنْ يقع القُفُول ويعيد ما فَضَّ العِدَا ... بكراً تزف لها الفحول يا أيها الملك الجليُّ ... الأَمْرِ والملكُ الجليل كم مِنَّةٍ لك تستطيرُ ... ومُنة بك تستطيل ولكم صفحتَ عن الغَرو ... رِ وقد تبطَّنَهُ الغلول وسرت عطاياك الجسا ... مِ كأنك السيفُ الصقيل أو لا فإنك جوهرٌ ... في الخلق والعَرَضُ العقول أنت المُقِيلُ من الخطو ... ب وظلُّ دولتك المَقيل وأنا الفقيرُ إلى ندا ... ك ومن بوارقه السيول ولقد أضرَّنِيَ الخمو ... دُ كما أضرَّ بيَ الخمول وقال على لسان إنسان في حاسد، أعان عليه، ثم توجع له: لا تُصِخْ للحسود في ندبه النع ... مةَ معْ كَوْنِهِ العجولَ إليها فهو مثلُ السحابِ إذ يسترُ الشم ... سَ عن العينِ ثم يبكي عليها ومن نور نثره البديع، ونور فجره الصديع، وغرر درره النصيعة، ودراري غرره الصنيعة، ما تحذى له بهائم التمائم، وتحدى به كرائم المكارم، ويربع الحسن في روضه، وتكرع الحسناء في حوضه، وتغتبط الآداب بدابه، وترتبط الألباب ببابه، من مكاتبة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 652 فصلت عنه في أخريات النهار، وقد ظهر في أطراف الجدران لفرق فراق الشمس اصفرار، فلما ذهب ذهب الأصيل بنار الشفق، ولبست المشارق السواد لما تم في المغارب على الشمس من الغرق، وأقبلت مواكب الكواكب في طلب الثأر، كدراهم النثار، وتشابهت زواهرها وإن اختلفت في الأشجان بالأزهار في الأشجار، وتكلف القمر الموافقة فظهر على وجهه الكلف، ومرت به طوالع النجوم فلم يستخبرها حسداً فأعرب عن غدر الخلف بالسلف، وظهر الوجوم في وجوه النجوم، وعيل صبر النسرين فواحد طائرٌ يحوم، وآخر واقع لا يقوم، ولم تزل متلاحقةً متسابقةً لتقفو الأثر وتسمع الخبر، إلى أن بدا سوسن الفجر ولاح، وابتسم ثغر الصباح عن الأقاح، وكاد ثعلبه يأكل عنقود الثريا، وبرزت الغزالة من أس الكناس طلقة المحيا، وتراءت الوجوه، وزال ما زال بغيبتها من المكروه، وأخذت النجوم بالحظ من الطرب، بمقدار ما قدمته من الحض في الطلب، وانخرطت في سلوك شعاعها نظاماً، وزاد خوفها منها على رجائها فيها فذابت إكباراً لها وإعظاماً. ومن صدر مكاتبة: لم يزل العبد لما عرض من إعراض المجلس لا زالت أوامره نافذه، والآمال بكعبة كرمه لائذة، ويده العالية بزمام الزمان آخذة، وكتبه الكرائم لعزائم كتائب الإسلام شاحذة وحدث من هجره له، وظهر من قلة احتفاله به، وخاض فيه المعارف من تغيره عليه، وتناقله الوشاة من أمر صده عنه، وتقارضه الشامت من سوء رأيه فيه، ذا زفراتٍ سوام تتضرم، وعبرات هوامٍ تتصرم، وعبارات عن بسط عذره تعثر بالكلام عيا فيتذمم بالصمت عن أن يتحرر ويتحرم، وأفكارٍ تتنزه عن إساءة الظن بمودته فما يتكدر حتى يتكرم، فكم تناول القلب جلدهُ فجلده بالقلق لما تجاوز حده وحده، وأجرى من سوابق دموعه عسكراً فجرى فشق خده وخده، وأوجده السبيل إلى أن أبدى صحيفة وجه صبره مسوده، وتمنى لو كان الموت قبل إخلافه وعده وإخلاقه وده ووده، حتى جنى ورد ورود كتابه الكريم من انتظام شوك انتظاره، ورفع ناظره بقدومه عليه على كافة أمثاله وأنظاره، فعلم أن علم المودة قد رفع، وموصول حبل الجفوة قد قطع، وكاد القلب يخرج لمصافحته لو استطاع نفاذاً، واجتمعت فيه أماني النفس فاتخذته دون جميع الملاذ ملاذا، وتناوله بيد الإجلال، وقصه بيد الإِدلال، الذي أَباحَ له الإِخلادَ إِلى الإِحلال، فوجده منظوماً على خطٍ كالكؤوس المرصعة، لما لاح مِدَادُه مُدَاماً ونَقْطُه حَبَباًن وألفاظٍ تبيح للمناظر طلباً، وتتيح للخواطر طرباً، ومعانٍ ما حلت في ميدان البيان حتى جلت فحسب الأفكار بها حسباً، وتعريضات لو كان التصريح فضةً لكانت ذهباً، أو كان شرراً لكانت لهباً، ومنن ما لاحت سحائبها حتى وكفت، وأياد ما استكفت فواضلها حتى عمت وكفت، فرفع إلى السماء يديه وهي قبلة الدعاء، وعفر في الأرض خديه وهو جهد الضعفاء. وله من فصول جواب مكاتبة إلى صديق له سافر إلى الشام: إلامَ يصيرُ القلبُ للخطب مِنْبَرَا ... ويصبر للجُلَّى وإن كان مُنْبَرَا وكيف يُلامُ الصبُّ في صبِّ دمعه ... عقيقاً على مصفرِّ خديه أحمرا وَقَدْ وَقَدَ البَرْحُ المبرِّحُ في الحشا ... فراع دخانُ الوجد في الوجه منظرا وزادت دواعي الشوقِ إذ زالت القُوَى ... فأصبح معروفُ التجلُّدِ منكرا فلو شامَ طَرْفُ الشامِ برقَ تنفسي ... لتذكار مَنْ فيه إذنْ لتَفَطَّرا على أَنَّ من أَمسى رفيقَ تفرق ... ومن قَصَّدَ الأشعارَ في الشوق قَصَّرا وبعد فما ضاق الصدر، وضاع الصبر، وضعف الجلد، وتضاعف الكمد، وادلهم ليل الهم بفراق الحضرة السامية حتى طلبع بدر كتابها فاهتدت ضوال الأفكار الشاردة، ولمع شهاب خطابها فاحترقت شياطين الظنون الماردة، ولله الحمد على ما أعرب عنه من سلامة ركابها، والرغبة في تقوية أسباب استتباب نعمتها وتعجيل إيابها، وأن يكون ذلك بحسب ما تورثه وتقرره، بتلك الأعمال من الأعمال الصالحة وتؤثره. ومنها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 653 وإن الكتب الكريمة الواردة إلى القاضي الرشيد ما فاحت أزاهيرها حتى لاحت زواهرها، ولا تأرج نورها حتى تبلج نورها، ولا فتنت بها الخاصة، حتى جنت العامة، فكم نثرت من عقود عقولٍ كانت متسقة النظام، وحقرت من منقول مقول كان ملحوظاً بالإعظام، وعلى الجملة فلم يبق أحدٌ من الفقهاء والحكام، وأرباب السيوف والأقلام، حتى استشرف لرؤيتها وتشرف لروايتها. وأنشدني لنفسه من قصيدة: كيف واصلتَ قطعَ رشفِ رُضابهْ ... وبدا السخطُ منك بعد الرِّضَى به وهجرتَ المنام كي يرجعَ الطيفُ ... لئلا ترقَّ عند عتابه لَتَوَخَّيْتَ أَنْ ترى صورةَ الصبر ... عليه من قبلِ حينِ ذهابه ولعمري لقد أسأْتَ به الظنَّ ... فَعُذِّبْتَ باجتنابِ عذابه وقال في رافضيٍّ متهم الخلوة: اختصرْ واقتصرْ على هُزْئك النا ... سَ ولا تدّعي الحِجَى والكتابهْ واحتسبْ وانتصبْ لضرب نِعالٍ ... دامغاتٍ من أجل سبِّ الصحابه واقتصدْ في البغاء يابن فعالٍ ... وتوقَّ انتصابه والتهابه فهو داءٌ كما تقولُ ولكن ... أنت صَبٌّ برشف تلك الصُّبَابه وقال في مدح الأجل الفاضل من قصيدة: لا تلم في اضطرابنا لاحمرارهْ ... جُلُّ نار القلوب من جُلّنَاره وهو حدٌّ يكاد يُقْبَضُ منه ... كل طَرْف لولا اعتذارُ عِذاره ما رأى منكراً رُضابَ مدامٍ ... مذ روى طرفه حديثَ خُمَارِه ليس فيه من راحةٍ لمريدٍ ... قبلة تُطْفِىءُ اضطرام اضطراره غير أن الحياءَ فيه مُضَاهٍ ... للحَيَا في انهماله وانهماره أوْجَدَا الفاضلِ الذي أوجد الجو ... د فمن كفِّهِ انفجارُ بحاره ذلك السيدُ المشَيِّدُ للمجدِ ... إلى أن أَتى على إيثاره من غدا الدهرُ باسمه باسمَ الزهرِ ... ضحوكاً به بهارُ نهاره لم يطفنا من بِرِّهِ وردَ وعدٍ ... لم يَشِنْهُ انتظامُ شوكِ انتظاره والده الخطير بن مماتي لقيته بالقاهرة مستولى ديوان الملك الناصر ديوان الجيش فيه أدب. كان هو وجماعته نصارى، فأسلموا في ابتداء الملك الصلاحي، وحصلوا على الجاه والحرمة الوافرة والعيش الرخي. سايرته في الطريق مرة فأنشدني لنفسه هذا البيت في وصف الخمر إذا صبت من الإبريق: إذا انبَرَتْ من فم الإبريقِ تحسبها ... شهابَ ليلٍ رمى في الكاس شيطانا قال: ولأبي طاهر بن مكنسة في المعنى: إبريقنا عاكفٌ على قدحٍ ... كأنه الأمُّ ترضعُ الولدا أو عابدٌ من بني المجوس إذا ... توهَّمَ الكاسَ شعلةً سَجَدَا وأبو المليح في ممدوح ابن مكسة الذي يرثيه بقوله طويت سماء المكرمات جد ابن مماتي. وأنشدني الخطير لنفسه في كتمان السر: وأكتمُ السرَّ حتى عن إعادتِهِ ... إلى المسرِّ به عن غير نسيانِ وذاك أنّ لساني ليس يُعْلِمُه ... سمعي بسرِّ الذي قد كان ناجاني وأنشدني لنفسه من قصيدة، وكتبه بخطه: لم يَبْقَ من جسدي لفرطِ صبابتي ... إِلا الأَسى وتردُّدُ الأنفاسِ وأَغَنّ معسولِ الثنايا أَشنبٍ ... أَلمى المراشفِ كالقضيب الآسِ ينَادُ من هَيَفِ القوامِ كأنه ... غصنٌ يجاذبه كثيبُ دهاسِ لولا توقدُ جمرِ نارِ خُدُودِهِ ... في نار وجنته حَسَاهُ حاسي من خده وعِذاره ورُضابهِ ... وردي وريحاني الجنيُّ وكاسي وله: يظلمني العاذلون في رشإٍ ... إنْ قيلَ كالشمس كان مظلوما مذ حلَّ رسمُ الصليبِ في يده ... حلَّ بقلبي هواهُ مرسوما وله: أعاذلتي إن الحديثَ شجونُ ... مكانُ سُلَيْمَى في الفؤادِ مكينُ أأسمع عَذْلاً في التي تملك الحشا ... وأَتْبَعُهُ إني إِذنْ لخؤُون ومنها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 654 هل العيشُ إلا قربُ دارِ أحبةٍ ... هل الموتُ إلا أن يخفَّ قَطِين وهل لفؤادي منذ شطَّ مزارها ... من الوجدِ إلا زفرةٌ وأَنين أبيت رقيبَ النجمِ منها كأنما ... عيونيَ لم يُخْلَقْ لهنَّ جفون ومنها: كأنّ ظلامَ الليل إذ لاحَ بدرُه ... دَجُوجيُّ شَعْرٍ لاح منه جبينُ كأنّ الثريا ترقُب البدر غَيْرَةً ... فقد هجرتْ منها المنامَ عيون كأن سهيلاً في مطالع أُفقه ... فؤادُ مَرُوعٍ خامرتُهُ ظنون كأن السها تبدو أواناً وتجتلى ... لدى الليل سرّاً في حشاه مصونُ وقد مالت الجوزاءُ حتى كأنها ... كميٌّ بخطِّيِّ السماكِ طعين ومنها في المخلص: كأن صلاحَ الدين للشمس نورها ... ولولاه ما كان الصباحُ يَبِين وقال: لو كانت الأمراض محمولةً ... يحملها العبدُ عن المَوْلَى حملتُ عن جسمك كل الأذى ... وكان جسمي بالضَّنا أولى وقال: إلى الله أشكو نارَ شوقي كما شكا ... إلى الله فقدَ الوالديْنِ يتيمُ رحلتمْ فسار القلبُ أنَّى رحلتمُ ... ولكنَّ وجدي ثابتٌ ومقيم ولمّا بكتْ عيني دماءً لفقدكمْ ... تيقنتُ أن القلبَ فيه كلوم وقال في العذار: وشادنٍ لما بدا مقبلاً ... سبَّحْتُ ربَّ العرش باريهِ ومذ رأيتُ النملَ في خدّهِ ... أيقنتُ أنّ الشَّهْدَ في فيه وقال: يا ربَّ خَوْدٍ زرتُهَا ... في الليل بعد هُجودِهَا فاجأتها فتبالهتْ ... فلزمت ضمَّ نهودها ورشفتُ خمرَ رضابها ... وجنيتُ وردَ خدودها وأَمنتُ في قِصَرِ الوصا ... لِ حياةَ طولِ صدودها حتى إذا ولَّى الدجى ... في عدِّها وعديدها وبدت جيوشُ الصبح في ... أَعلامِها وبنودِها فارقتُها ومدامعي ... تحكي جُمَانَ عقودِها وقال من قصيدة في المدح: مُرْدِي الكتائبِ بذَّالُ الرغائبِ فَضَّاحُ ... السحائبِ بَرُّ القولِ والعَمَلِ والغافرُ الذنبِ عفواً عند قدرته ... والرائعُ الخطبِ قَسْراً غيرَ محتفل إذا طَوَتْ خيلُهُ في السير مرحلةً ... طَوَى الردى من عداه مُدَّةَ الأجل بكل قَرْمٍ يلاقي الموت مبتهجاً ... كأنما الموتُ ما يرجو من الأمل يلذُّ في السلم تقبيلَ اللمى شغفاً ... لحبِّهِ في القَنَا سُمْر القَنَا الذُّبُل الشريف النقيب النسابة بمصر شرف الدين أبو علي محمد بن أسعد بن علي بن معمر أبي الغنائم بن عمر ابن علي ابن أبي هاشم الحسين النسابة بن أحمد النسابة بن علي النسابة ابن إبراهيم بن محمد بن الحسن الجواني الحسيني كان نقيب مصر في الأيام المصرية. والآن فهو ملازم مشتغل بالتصنيف في علم النسب، وهو فيه أوحد، وله فيه تصانيف كثيرة. قرأت بخطه كتاباً إلى بعض الأشراف بدمشق في سنة إحدى وسبعين، قد صدره بهذه الأبيات: أَحنُّ إلى ذكراك يابنَ مُحَسَّنٍ ... وأَرجُو من الله اللقاءَ على قُرْب لما لَكَ في قلبي من الموضعِ الذي ... يرى فيه كل الحب مُبْراً من الخِبِّ وللمفخر السامي الذي قد حويتَهُ ... وسار مسيرَ الشمسِ في الشرق والغرْبِ فأصبحتَ تاجاً للفخار ومَفْرِقاً ... وقطبَ المعالي بل أَجلَّ من القطب فلا عَدِمَتْ روحي الحياةَ فإنها ... قرينةُ ما يأتي إلي من الكتب وقرأت أيضاً بخطه من كتاب كتبه إلى الأمير عز الدين حارن لما قصده بالشام، في أوله هذه القصيدة: تُرَى هاجكم ما هاجني من جوى البعدِ ... وهل كَرْبُكُمْ كربي وهل وجدكم وجدي لئن جَلَّ ما أبديه شوقاً إليكم ... فإنَّ الذي أُخفيه أَضعافُ ما أبدي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 655 جَوىً في فؤادي كامنٌ ليس ينطفي ... عليكم كمونَ النار في الْحَجَرِ الصَّلْد وما الدمعُ ما يجري عليكم وإِنما ... نفوسٌ أَسَلْنَاهَا مع الدمع في الخد إذا لفَّ بُرْدُ النومِ أَجفانَ راقدٍ ... لففتُ جفوني في رداءٍ من السهد نهاريَ ليلٌ مدلهِمٌّ لفقدكم ... وليلي نهارٌ من خيالكمُ عندي ومنها: ألا يا رياحَ الشوق سيري فبلِّغِي ... سلامَ محبٍ صادقِ الحبِّ في الود إلى المَلْكِ عزِّ الدين ذي المفخرِ الذي ... مناقبُهُ تعلو الكواكبَ في العَدِّ ومنها: مليكٌ إذا أطنبتُ في وصفِ فضله ... علمتُ بأَنِّي لم أَنَلْ غايةَ الجهد فما العنبرُ الشَّحْرِيُّ في أَنفِ ناشقٍ ... بأَطْيبَ من ذكراه في سَمْعِ مُسْتَجْدِي ومنها: أَيا مَنْ إِذا سارتْ وفودٌ لبابه ... ترى عندهمْ وفداً إِلى ذلك الوفد وقد علم القُصَّادُ قَصْدَ جَنَابِهِ ... فنوَّلَهُمْ قبلَ التفوُّهِ بالقَصْد والده الشريف القاضي سناء الملك أبو البركات أسعد بن علي الحسيني النحوي موصلي الأصل مصري الدار هاجر إليها واتخذها مسكناً، ورضي بها وطراً ووطناً؛ وكان كبير القدر، نابه الذكر. وجدت له شعراً في الصالح بن رزيك في نوبة قتل عباس: أما والهوى النجدي ما سئمت إلفا. ومنها: لئن كنتَ قد نَحَّبْتَ عباسَ من ظُبَا ... فَرَنْجَةَ لما لم يجدْ عنك مُسْتَعْفَى وأنقذْتَهُ من أَسره وهو ذاهلٌ ... يَرُدُّ عن الأهوال في المأزق الطَّرْفَا فقد سُقْتَه إذ فَرَّ منك إلى مَدىً ... تمد مُدَاهُ نحو مُقْلَتِهِ الحَتْفَا وما فرَّ من وَقْعِ الأسنَّةِ صاغراً ... وجدِّكَ إلا حين لم يَرَ مُسْتَخْفَى وملَّ الطعانَ المرَّ للمَلِكِ الذي ... يراه حَييّاً عندما يَهَبُ الألْفا وقال في مدحه: صاحِ إنْ أَهْجُرْ سليمى والرَّبابا ... فلقد بُدِّلْتُ من غيٍ صوابا ولقد واصلتُ من بعدهما ... مدحَ من أَغْرَآ بجَدْواهُ انتسابا إِنَّ في كفِّ ابن رزِّيكٍ لمنْ ... يبتغي الرفدَ لآمالاً خِصَابا وبيمنى فارسِ الإسلام قد ... أُجْرِيَ البحرُ الذي عَبَّ عُبَابا كم له في الشام من معجزةٍ ... ومقامٍ لم يكن إلا احتسابا جرَّبَ الإفرنج من أفعاله ... في صناديدهمُ أمراً عُجابا وله من أخرى: ومن يهوَ إدراكَ المعالي فإنه ... يَعُدُّ المنايا من ملابسه طِمْرا قريع الرزايا والقنا يقرع القنا ... خطير العطايا يَسْتَقِلُّ الْجَدَا خَطْرا يخطِّطُ بالخطيّ في النقعِ موطناً ... يحوز العلا والموتُ يلحظهُ شَزْرا ومنها: إذا اهتز بالفساط غرباه لم يَدَعْ ... فؤاداً بأقصى روضةٍ لم يَمُتْ ذُعْرَا وحيث ذكرت الشرفاء فقد تعين ذكر الشريف أبي جعفر، وهو: الشريف أبو جعفر محمد بن محمد بن هبة الله العلوي الحسيني من طرابلس ومن الواجب إيراده في شعراء الشام. كان في مصر في عهد أفضلها، وحظي من مننه بأجزلها. أهدى إلى ديوان شعره بمصر القاضي الفاضل، في جملة ما أسداه إلي من الفواضل، فأثبت منه ما استجدته مما وجدته، واستطبته مما استعذبته. فمن ذلك من قصيدة أعدها لمدح الأفضل للتهنئة بعيد الفطر سنة خمس عشرة وخمسمائة، فقتل الأفضل عشية سلخ شهر رمضان من السنة، وعاش الشريف، ومدح الوزير بعده، وأولها: قد تجاوزتَ في العلا الجوزاءَ ... واستمدَّتْ منك البَهَا والبَهَاءَ ومنها: لم تَزلْ للعيونِ منذ تراءَتْكَ ... جِلاءً وللقلوب رجاَ ومنها: وجيوشاً كأنما قد كساها البرقُ ... فوق الدروع منها رداءَ في مجالٍ سالتْ ظباه على الأيدي ... كأن الغُمودَ فَجَّرْنَ ماءَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 656 ومنها في وصف سفن أنفذها إلى مكة، وفيها غلة: بجوارٍ تنسابُ في البحر كالأعلام ... تجري بها الرياحُ رُخَاء حملَ الماءُ كلَّ سوداءَ منها ... حَمَّلَتْ وقرَها يَداً بيضاء وله من قصيدة في ابن عمار بطرابلس: جعلنا التشاكي موضع العَتْبِ بيننا ... فأَصدُقُ في دعوى الغرامِ وتكذبُ ذريني أَصِلْ ليلَ الغرام بعزمةٍ ... تكفَّلُ بالإقبال عنها فتَغْرُب فلا والعوالي إنها قسَم العلا ... أُقيمُ ولي عن ساحةِ الذلِّ مذهب ومنها: ومن كان فخرُ الملك مَرْمَى رجائهِ ... أصاب من الحظّ الذي يَتَطَلَّبُ بعيدُ مناطِ السيف لو طاول القنا ... تساوى لدى الهيجا لواءٌ ومنكب ومنها يصف داره: ويوم ابتدرنا الإذنَ نُرْعَدُ هيبةً ... وقد غصَّ بالرفد الرواقُ المحجَّبُ وصلنا وسلَّمنا على البدرِ جادَهُ ... سماءٌ لها من ذائبِ التِّبْرِ هَيْدَبُ وقد نَمْنَم الكفُّ الصَّنَاعُ بأُفْقِها ... رياضاً كأنَّ الجوَّ منهنَّ مُعْشِبُ ومصقولةِ الأرجاءِ ملثومةِ الثرى ... إلى جنة الفردوسِ تُعْزَى وتنسَبُ نخالُ بأُولى نظرةٍ أنَّ دُرَّها ... يُنَثَّرُ أو عِقْيانها يَتَصَوَّبُ وقال من قصيدة: ذَرَفَتْ مقلةُ الحَيَا بالحَبَابِ ... وانتشى الروضُ حاليَ الجلباب وتمشَّتْ به الصَّبا وإزارُ ... المُزْن فيه مُجَرَّرُ الهُدَّاب ومنها: لم أَنَمْ بعدهم سُلُوّاً ولكنْ ... طمعاً أَن يزورَ طيفُ الرَّبَابِ يا خليليَّ في الذؤابة من فِهْرٍ ... أَميلا معي صدورَ الرِّكَابِ وَقِفَا العيسَ كي نُجَدِّدَ عهداً ... للهوى في معاهدِ الأَحْبَابِ أسقمَ البينُ رَسْمَهَا سقْمَ جسمي ... فكلانا خافٍ عن الطُّلاَّبِ يا لُواةَ الديون من غير عُسْرٍ ... عُذْرُكُمْ لم يكنْ لنا ي حساب طال رَعْيي روضَ الأَماني لديكمْ ... ورجوعي عنكمْ بغير ثواب أتقاضاكمُ وماذا عليكمْ ... لو سمحتمْ لسائلٍ بجواب ما لقلبي أراحني الله منه ... كيف يهوى من لا يرقُّ لما بي مَسَحَتْ صبغةَ الشبابِ يدُ الهمِّ ... وأَبْدَتْ نصولَ ذاك الخضاب ومنها: وإذا كان ضائري حكم ذي الشيب ... فواوحشتا لجهلِ الشباب وقال: أأحبابنا لو سرتمُ سيرةَ الهوى ... لكنتمْ لقلبي مثلَ ما لكمُ قلبي عتبتمْ وما ذنبي سوى البعد عنكمُ ... وإني لأهواكم على البُعْدِ والقرب فلا تجمعوا بين الفراق وعتبكم ... ولا تجعلوا ذنب المقادير من ذنبي وله من قصيدة في الأفضل أولها: أُجِلُّ هواكَ عن مِنَنِ العتابِ ... وإن أَبعدْتَنِي بعد اقتراب ومنها: أَما وهواكَ لو خُبِّرتَ عني ... لِمَا أَلقاه عزَّ عليك ما بي ولا تسأَلْ سواك فليس يخفى ... عذابي عن ثناياك العِذاب ولولا أَنْ تقولي خان عهدي ... قرعتُ على سُلُوِّي كلَّ باب رضيتُ وصال طيفكِ وهْوَ زُورٌ ... وعند الشيب يُرْضَى بالخضاب ومنها: ودون ثنيَّةِ الصَّنَمين ظبيٌ ... وقورُ الحِجْل طيَّاشُ الحِقَابِ سقيمُ الطرف نشوانُ التثنّي ... صقيلُ الثغِ معسولُ الرضاب ومنها: وقفتُ بها سراةَ اليومِ صحبي ... وقوفَ القُلْب في زَنْد الكَعَاب وقد أخفتْ معالمَها الليالي ... كما درست سطورٌ من كتاب فدع ذكراك أياماً تقضَّت ... إِذا ذهب الصِّبَا قَبُحَ التصابي ولي بمديح شاهنشاهَ شُغْلٌ ... يُسَلِّي عن هوى ذاتِ السِّخَاب يُؤَذِّنُ جودُه فيما حواه ... من الأَموالِ حيَّ على الذهاب ومنها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 657 ويوم بعثَتها شُعْثَ النواصي ... تسيلُ بهنَّ أفواه الشعاب لقيتَ هَجِيره والخيل تردى ... ولا ظلٌّ سوى ظلِّ العُقَابِ أثرتَ الليل في رَهَجِ المذاكي ... وأطلعتَ النجوم من الحِراب مواقفُ لم تزلْ فيهن أَمضى ... من الهنديِّ زلَّ عن القِرَابِ وله من أخرى: تجاوز العتبُ حدَّ السخط والغَضَبِ ... وأورث القلبَ صدعاً غيرَ مُنْشَعِبِ إِن كان ذنبٌ فإني منه معتذرٌ ... يكبو الجوادُ وينبو السيفُ ذو الشُّطَبِ أو كان ذا منك تاديباً على زَلَلٍ ... منِّي فحسبك قد أَسرفتَ في أدبي هل عهدُ وصلك مردودٌ لعاهده ... يا هاجري شهوةً من غير ما سبب ومنها: أو لا وعيشٍ مضت منا بشاشته ... لمحاً وسالفِ عيش غيرِ مُؤْتَشِب ومبسم كأَقاح الروضِ بانَ به ... فضلُ الرُّضاب على الصهباءِ والضَّرَب ومستديرِ وشاحٍ جال في هَيَفٍ ... حيث التقى خيرُزَانُ الخصْر بالكُثُب ما إِنْ أَذِنتُ إلى الواشي كما أَذِنَتْ ... فاعْجبْ له اليومَ لم يظفر ولم يخب لم يبق عندي اصطبارٌ أَستعينُ به ... على تمادي صدودٍ منك بَرَّحَ بي بيني وبين صروف الدهر معتبة ... وليس عتبي على الأَيام بالعجب إن سرَّكُمْ مسٌّ من نوائبه ... إِني إِذنْ لقريرُ العين بالنُّوَب ومنها: إن كنتُ أضمرت غدراً في الوفاءِ لكمْ ... فلا وصلتُ بآمالي إلى أربى وخانني عنك شاهنشاهُ ما وَعَدَتْ ... به صنائِعُهُ من أَشرف الرتب ومنها: تجلو عليك التهاني كلُّ شاكرةٍ ... يداً سَبَقْتَ إليها عزمةَ الطلب كالماءِ رقَّتها والخمرِ نَشْوَتها ... فابنُ الغمامةِ فيها وابنةُ العِنَبِ وقال فيه: خاطِرْ بها فالجدُّ مصحوبُ ... واسرِ فظهرِ الغيبِ مركوبُ واطلبْ عناقَ العِزِّ تحت الظُّبَا ... فالعزُّ محبوبٌ ومطلوب واصحبْ إلى العلياءِ سُمْرَ القنا ... ما صَحِبَتْهُنَّ أنابيب ليس يروضُ الصعبَ مَن دِرْعُهُ ... مُحْقَبَةٌ والسيفُ مقروب ولا يخوضُ الغمراتِ الفتى ... وطِرْفُه في الحيِّ مجنوب وثِقْ بما تُملي عليكَ المنى ... فالنجح مرجوٌّ ومرقوب ولا تَقُلْ يا بعدها غاية ... ففي المقادير أعاجيب لا تبعدُ العلياءُ عن طالبٍ ... له من الأفضلِ تقريب وقال فيه: إِذا ما ابتدوا شَدُّوا حُبيَ الحلم للنَّدَى ... وإِن ركبوا سدُّوا القَنا بالمراكبِ كفيلون في دار الضحى لصريخةٍ ... بوجهِ نهارٍ بالعجاجةِ شاحب همُ سَطَّروا بالبيضِ والسمر ذكرَهُمْ ... فأَصبحَ عُنوانَ العُلا والمناقب صدورُ رماحٍ لم تَرِدْ حومةَ الوغى ... فتصدرَ إلا عن صدورِ الكتائب ومنها: إذا شَهِدَ الجُلَّى أضاءَتْ برأْيهِ ... دُجُنَّةُ خَطْبٍ مُدْلَهمِّ الجوانب وقال أيضاً: بادِرْ بإحسانك الليالي ... فإنَّ من شأنها البتاتا كم شمْلِ مَلْكٍ عَدَتْ عَليْهِ ... فصيَّرَتْ جمعَهُ شتاتا وفَرَّكَتْ قبلُ من عظيمٍ ... فطلَّقَتْ غيرها ثلاثا وقال من قصيدة: وكم للحُبِّ مثلي من صريعٍ ... بحدِّ البيض والسمر الملاحِ وأَغيَدَ من ظباءِ الحسن حَيَّا ... بوردٍ أوْ تبسَّمَ عن أَقاحي شربنا من شمائله شَمُولاً ... لنشوان التثني وهْوَ صاحِ لقلبي الثأرُ فيه عند عيني ... فبعضُ جوارحي أَدْمَى جراحي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 658 لئن عاصيتُ عذَّالي عليه ... ولم يَقْتَدْ ملامُهُمُ جماحي فإنَّ نوالَ شاهنشاهَ قبلي ... عَصَى عَذْلَ العواذلِ في السماح إذا أعطى تبلَّج في العطايا ... كما يفترُّ مبتسَمُ الصباح ومنها: ملوكٌ إنْ دجا ليلٌ جَلَوْهُ ... بلألآءِ الترائك والصِّفَاح كأنّ الخيلَ تحت النقع منها ... شققنَ الأرضَ عن بَيْض الأَدَاحي نثرنَ عجاجةً في كل فجٍ ... كأنّ الأُكْمَ تنفسها المساحي مناقبُ سطَّرَتْهُنَّ المواضي ... فما يسمو إليها كفُّ ماحي وقال: ما خلتُ والأيامُ ذاتُ عجائبٍ ... أنى أُعَدُّ من المتاعِ الكاسدِ وأكونُ للدهر الخؤونِ عقيرةً ... وأُعاضُ مِنْهُ شامتاً من حاسد فأسالمُ الخصم الذي لا يُتَّقَى ... وأثيب عذالي ثواب الحامدِ وقال: أُحبُّ من الفتيانِ كلَّ مشيَّع ... ركوبٍ إلى العلياءِ ظهرَ الشدائدِ يضمُّ على فضل العفاف ذيولَهُ ... ويرغبُ عن ضمِّ الثُّدِي والنواهد ومنها: إذا دَحَرَتْ فيه النعامى حسبتَه ... حبيبكَ دروعٍ أَو متونَ قلائدِ ينمّ بسرِّ القاع حتى تخاله ... استعارَ حصاهُ من عقودِ الخرائد نزلنا به والشمسُ يُهدى شُعاعُها ... له التبرَ إِلا أنه غير جامد لدى روضةٍ قد نَشَّر العَصْبَ نبْتُهَا ... ونَثَّر فيها النَّوْرُ دُرَّ القلائد ومنها: كأن ذيولَ الأفضل انسحبتْ بها ... يُضَمِّخُها منه أَريجُ المحامد كريمٌ أَعدَّ المالَ وقفاً على الجَدَا ... فأضحى نداهَ قاصداً كلَّ قاصد إِذا مدَّ يومَ الفخر باعاً لمفخرٍ ... حَوَى طَرَفَيْهِ من طريفٍ وتالد ومنها: جمعتَ سعود المشتري ووقارَهُ ... إِلى بأس بَهْرامٍ وحذقِ عُطَارد ومنها: وما نمتَ عن شاني وقد نام دونَهُ ... رجالٌ فلم أنبذ حياةً لراقدِ ولو كنت ممن يجعل الفحش لفظه ... لنبَّهَهُمْ مني عقابُ القصائد وعَضَّ لحاظَ القوم في كل مجمع ... قوافٍ كأَطرافِ الرماح الحدائد أَأُغْضِي على ضيمٍ وعزُّكَ ناصري ... وأُخْفِقُ في مجد ونُجْحُكَ رائدي وقال من قصيدة في محمد بن قابل وقد أنفذ إليه رافداً: من منجدي بالشكر أَمْ مَنْ مُسْعِدي ... أَوفَتْ على شكري يدٌ أَغنتْ يدي نام الورى عني فلم أُوقِظْهُمُ ... أَنَفاً لمجدي من مقام المُجْتَدِي ورأيت عز الفقر من نيل الغنى ... بالذل أولى بالعُلا والسؤدد ورددتُ ما يهبُ اللئامُ عليهمُ ... زهداً ولا مجدٌ لمنْ لم يزهد وكذاك نفسُ الحر تحتملُ الظَّمَا ... إن فاته يوماً كريمُ المَورِدِ وتداركتني مِنةٌ من مُنْعِمٍ ... يقظانَ عن بذلِ الندى لم يرْقُدِ ملأَ الزمانُ بها مسامعَ أهلهِ ... من شكر آل محمدٍ لمحمد يعطيك مسؤولاً فيعجل رِفْدَهُ ... وتعوق هيبتُهُ السؤولَ فيبتدي ومنها: أرسلتها فوق الرجاء تبرعاً ... أحلى الندى ما لم يكن عن موعد لما سالتُ الغيثَ يُسقى بالغنى ... جوداً بَعَثْتَ بديمةٍ من عسجد ومنها: ولَتَنْصُرَنَّكَ باللسان ونصرُهُ ... أَبْقَى على الأيام من نصرِ اليد ومنها: وإليكمُ أرسلتُها تُرْضِي العُلا ... فيكمْ وتقطعُ في قلوب الحُسَّد بسهولةٍ عنها المياه ترقرقت ... وجزالةٍ منها متون الجلمد كالمسكِ من طيب الثناءِ عليكمُ ... فيكادُ يَعْبَقُ عَرْفُها بالمنشد وقال: عصيتُ هوايَ حين وَفَى لغرٍ ... إباءٌ صار من خُلُقي وعادي فبلِّغ حاكمَ العشاق أَني ... عفافاً قد حَجَزْتُ على فؤادي وقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 659 ألا يا خليليَ من وائلٍ ... أَعِنِّي على ليليَ الساهرِ إلى كم أُسَوَّفُ عطفَ الزمانِ ... وعَزَّ النتاجُ من العاقر وعزَّ على المجد أني قنعتُ ... بأيسرِ من حَسْوَةِ الطائر وما ذلَّ في الخطب عونايَ من ... لسانيَ والمِخْذَمِ الباتر لياليَ لا أنا شاكي الصحابِ ... ولا غدرُهُمْ شاغلٌ خاطري وإني على شَغَفِي بالقريضِ ... لآنفُ من همةِ الشاعرِ سرى رَجَبٌ يستحثُّ الشهور ... نزاعاً إلى فضلك الباهر أَتاكَ يجدِّدُ عهدَ المشوق ... على كاهلِ الفَلَكِ الدائرِ وله من قصيدة: وقورٌ متى يستطلق الجهلُ حَبْوةً ... تبيَّن في صَدْر النَّدِيِّ وقارُه ويطربُه ذكرُ النَّذَى فتخالُهُ ... أَخا نشوةٍ جارتْ عليه عُقَارُهُ إذا اكتحلتْ بالطعن أَجفانُ خيله ... فإثمدها في كلِّ فج غباره إذا انبجست كفاه والمزن ممسك ... فما ضرَّنَا إلا بصوبٍ قِطَارُه وله من أخرى: يا صاحبي قمْ ترى برقاً كما نُشِرَتْ ... مُلاءَةُ الفجر هاج الوجدَ والذِّكَرَا وسَلْ نسيمَ صبا نجدٍ لعلَّ به ... عن العذَيْبِ وجيران الغَضَا خَبرا تضوَّعَتْ من ثرى واديه إذ خَطَرَتْ ... رَيَّا فما زالَ من أَردانها عَطِرا تجنى وَيعْذُرُها حسنٌ تُدِلُّ به ... فكلُّ ما فعلتْهُ كان مُغْتَفَرَا وله من أخرى: خلعنا الصِّبَا ولبسنا الوقارا ... وكان الشبابُ رداءً مُعَارا ويا ربما ليلةٍ قد خَطَرْتُ ... إلى اللهو يُرْخي مَراحي الإزارا أَردُّ مشورةَ رأْي النُّهَى ... عليه وأَرْضَي الهوى مستشارا ليهنِكَ يا عاذلي أَنني ... ملكتُ على صَبَواتي الخيارا رَقَتْ دمعةُ الشوق من ناظري ... وخلَّفْتُ غيريَ يبكي الديارا ولم تُنْسِني عِفَّتي غادةٌ ... تَزينُ المعاصمُ منها السِّوَارا إذا انتقبتْ قلتَ بدرُ التما ... م لاثَ عليه الغمامُ الخِمَارا ولا أغيدُ الجيدِ أَمسى يديرُ ... من طَرْفِهِ ويديه العُقَارا إذا هو أَرْعَفَ إِبريقه ... كستْ يدُهُ كأسَه الجُلَّنارَا تخالُ فَوَاقِعَها لؤلؤاً ... وَهَى سِلْكُهُ ودموعاً غزارا إذا الماءُ عاتبَ أَخلاقها ... رأيتَ الشقائقَ منها بَهَارا تضيءُ لنا فَحَماتِ الظلا ... م من قبل أنْ يقبسَ الفجرُ نارا وبين الوشاحين منه القضيبُ ... وتحت الحقاب نقاً حيثُ دارا وله من أخرى وهي طويلة: سل بني نبهان هل زهدوا ... في ثناءٍ من فتى قُرَشِي صار كالكَمُّونِ بينهمُ ... بالمُنى يُرْوَى من العَطَشِ وابتلاه الدهر بينهمُ ... بعدوٍ مُرْتَشٍ وَيَشِي وله من أخرى: هل أنت باليأسِ المُريح مُخَلِّصِي ... من أَسْر ميعادِ المُنى المُتَخَرِّصِ وإِليك أَشكو سوءَ حظٍ مُشْرِقي ... أَنَّي شربتُ وإِن أَكَلْتُ مُغَصِّصِي ماذا على الأيامِ لو هيَ أحسنتْ ... أَوْ سامحتْ بالعيش غيرَ منغَّصِ وأشدُّ ما لاقيتُ من أَحداثها ... ما قد تجدَّدَ في جفاءِ المُخْلِصِ وعدُ الزيادة قد تطاولَ عمره ... حتى مللت ترقُّبي وتربُّصِي ما كنتُ أولَ مستزيدٍ لم يُزَدْ ... وأنا السعيدُ اليوم إن لم أُنْقَصِ وقال: أَغرى به الشوقَ اللجوجَ وحَرَّضَا ... برقٌ أَضاءَ له على ذات الأَضَا متبسِّماً منه الغمامُ كأنَّمَا ... هزَّ القيون به الحسامَ المنتضى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 660 وعصى الفؤادُ سُلُوَّه لما غدا ... طوعَ الوشاةِ فصدَّ عنه وأَعرضا هيهات إِبراء السقيم من الضَّنَا ... يوماً إِذا كان الطبيب المُمْرِضَا ما كان لولا حبُّ مَنْ سَكَنَ الغضا ... يُخْشَى حَشاه لذكره جمرَ الغضا زمنٌ مضى فوق المنى فكأنه ... حكمٌ تقاضى حسرةً ثم انقضى خالفتُ يومَ البين حكمَ تجلدي ... لما قضى فيه الفراق بما قضى وبمهجتي رشأٌ أَغَنُّ بطرفِهِ ... مَرَضٌ وصحةُ طَرْفِهِ أَنْ يَمْرَضَا قد صرَّح الهجران فيه لمدْنف ... خاف الرقيبَ على هواه فعرَّضا كم يقتضيني الدهرُ حقِّي عنده ... الدَّيْنُ لي وأنا الغريمُ المُقْتَضَى وله على وزنها من أخرى: كان الشبابُ وقد خَلَعْتُ رداءَهُ ... طيفاً سَرَى وخضابَ داجيةٍ نَضَا ومنها في الاعتذار عن مدح غير هذا الممدوح: شَعْرٌ حَمَلْتُ سوادَه وبياضه ... فوجدت أثقلَ ما حملتُ الأبيضا ما إِنْ مدحتُ سواك إِلا رِقْبَةً ... مني لصِلِّ حماطة قد نضنضا فمسحتُ بالأشعارِ عِطف عُرامِهِ ... وحملت عذرَ زمانه حتى انقضى والآن عُدْت وكنت عُوداً ذاوياً ... نبتاً بصوب نداكمُ قد روَّضا وحُسِدت ما شَرَّفْتَني بِسَماعِهِ ... حتى تمنَّى مُفْحَمٌ أن يَقْرِضَا وقال: كلَّ يومٍ نَلْقَى ببابكَ غَيْظاً ... أملاً خائباً وسَعياً مضاعا ووجوهاً يُغَضُّ من دونها الطر ... فُ كما قابلَتْ عيونٌ شعاعا ليتهمْ إِذ حموكَ من كلفة الإذ ... ن لنا أَوصلوا إِليك الرقاعا وقال: لعذلِ العواذل أَلاّ أَعي ... وألاّ أُصِيخَ له مسْمَعي ويا لائمي في غرامي بها ... أَضَعْتَ الملام فخذْ أو دَعِ أتطمعُ للقلب في سلوةٍ ... وهيهات في ذاك لا تَطْمَعِ أطعتُ الهوى وعصيتُ النصيحَ ... وقال العذولُ فلم أسمع وقد أنكَرَتْ أنّ حبي لها ... جسرِّيَ في غير مُسْتَوْدَعِ فلو جاز حكمي لدعْوَى الهوى ... جعلتُ اليمينَ على المدَّعي أما عَلِمتْ أنّ لي بعدها ... هموماً تُكاثِرُها أَدْمُعي أَبى لي تَنَاسِيَ ما قد مضى ... خيالٌ لها لازمٌ مَضْجَعي ومنها: وزارَ برغْمِ الكَرَى هاجعين ... نَشاوى بكاسِ الهوى المُتْرَعِ وأشعثَ أخفاه برحُ السقامِ ... فنمَّتْ به أَنَّةُ المُوجَعِ فيا منَّةً قد شكرت الرقاد ... لو أني انتبهت وقلبي معي ومنها: وقد علم الحرصُ أَنِّي برئْتُ ... إلى راحةِ اليأسِ من مَطْمَعي وكم لي مع الدهر من وقعةٍ ... تبلَّجْتُ في وجهها الأسفع وقال: دعِ المطامعَ لا تحللْ بساحتها ... وارضَ القليلين من ريٍ ومن شِبَعِ لا تخضعنَّ لأَمرٍ عزَّ مطلبه ... لا خيرَ في العيش ما أَدناك من ضَرَع وقال: غريمُ فؤادي في الهوى غيرُ منصف ... وماطلُ وعدي قد أبى الغدْر أن يفي تكلَّفَ بي يومَ اللقاءِ بشاشةً ... وأقبحُ ما استَحْسَنْتَ بشرُ التكلف ومنها: رضيت وإن لم تسمحوا برضاكمُ ... على عزِّ قومي في الهوى ذلَّ موقفي لِيَهْنِ حَسوُدي أن يُقَدَّمَ ناقصٌ ... فأَصبحَ فضلي علةً لتخلُّفي ولو أنصفَ الدهرُ الكرامَ لما غدا ... يطيلُ على حظِّ اللئام تلهفي ليَ اللهُ من قلبٍ لجوجٍ بصبوةٍ ... إلى العزِّ ما يزداد غير تغطرف ركوبٍ لأَثباجِ المخاوفِ دونها ... ومَنْ طلبَ العلياء لم يتخوَّف أَأُرْمَى بعيش الخاملين وقد أَبَى ... ليَ اللهُ أن يَرْضى فراسي وخندفي ومنها في القلم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 661 له القلم الماضي الشَّبَا فكأنما ... تهز به أعرافُهُ صدرَ مُرْهَف إذا ما سقاه المزنُ صوبَ قطاره ... كسا الطرسَ أثوابَ الربيع المُفَوَّف وله من أخرى: حَيِّ من رَيَّا خيالاً طَرَقَا ... عاد جُنحُ الليلِ منه فَلَقَا سارياً يُذْكِرُنَا عهدَ الحمى ... نقصَ البيد وقصَّ الطُّرُقا حبذا الطيفُ تَعَلَّلْنَا به ... واصفاً في البين أيام اللقا قد رضينا من أباطيل الكرى ... ردَّ ما موَّهَهُ واختلقا المُنَى إن لم يكن إلا المنى ... إنها لَهْيَ النعيم في الشقا هل مُعاد والأماني ضَلَّةٌ ... موقفٌ بين المصَلَّى فالنَّقَا يا نسيم الريح إما جِئْتهمْ ... فاشكُ عن قلبي الجوى والْحُرَقَا وتعرَّضْ لملولٍ منهمُ ... مستجدٍ كلّ يومٍ خُلُقَا وطموحِ العينِ مذَّاقِ الهوى ... قلَّ ما مازح إلا عشقا آه والشكوى إليكم خَوَرٌبعد ظنٍ في هواكم أخفقا يا لهيفاءَ وقلبي كلما ... قلتُ قد أَفْلَتَ منها عَلِقَا ولخلٍ كالشَّجَي معترضٍ ... ما محضْتُ الودّ إلا مَذَقَا وله من قصيدة: أتمنَّاهَا على بُعْد المَنَالِ ... وأسومُ الصبرَ عنها وهو غالي وأُرجِّي عطفةَ السالي وقد ... تَعْلَق الأطماعُ أسبابَ المُحَالِ وعلى ما سَرَّني أو سَاءَني ... فَهْوَ محبوبُ التجني والدلالِ ولقلبي من أحاديث المُنَى ... ما لعيني من سُرَى طَيْفِ الخيالِ ومنها: لستُ بالفائت حظِّي منكمُ ... رب عتبٍ كان باباً لملال مذهبٌ ما ابتَدَعَتْهُ غادةٌ ... يُبْذَلُ العذرُ لربات الحجال أَنْكَرَتْنِي أَنْ رأتْنِي عاطلاً ... ربَّ جيدٍ عاطلٍ بالحُسْن حالي من عذيري اليومَ من أيد خطو ... بٍ رعى البادنُ منها في هزالي هممُ العلياء ضرَّاتُ الغِنَى ... وجيوشُ الفقر إِكثار العيال فارضَ بالأدنى إذا لم ترقَ في ... درجاتٍ من ذرا المجد عوالي أو فكن جارَ شهنشاهٍ تَصِفْ ... مُغْرماً بالجود فَيَّاضَ النوال كَفَل الملك بأطرا القَنَا ... والمعالي في كَفَالات العَوَالي ومُطاعُ الرمح في يوم الوَغَى ... نافذُ الحكم على الأرواح وَالي عَلَّقَ الأرزاقَ من أَسْمَرِهِ ... مَعْلَقَ الرمح بأطراف النصال يَنْفُضُ العِثْيَرَ عن أعطافه ... نفضةَ الأَجْدَلِ أَنداءَ الظلال وله من أخرى: لولا الحظوظ التي في بعضها بَلَهٌ ... لما علا الشمسَ بهرامٌ ولا زحلُ همٌّ لبستُ له ثوبَ الضَّنَا كمداً ... والهمُّ يفعل ما لا تفعلُ العلَلُ ومنها: من كلِّ أروعَ في الهيجاءِ يصحبه ... عَزْمٌ فَتِيٌّ ورأيٌ منه مُكْتَمِلُ الأرقمُ الصِلُّ إِلاَّ أَنه بَطَلٌ ... والأَغلبُ الوَرْدُ إلا أنَّهُ رَجُل ومنها: وصاحبٍ مثلِ حُمَّى الرِّبْعِ أرقبها ... مُغْرىً بذمِّيَ منه المنطقُ الخَطِلُ رَمَى ولو أنني أرضيه قلت له ... خذها إِليك لكفِّ المخطىءِ الشَّلَلُ وله من أخرى: يا هل جَنَتْ أعينٌ مراضٌ ... كالخمر تسطو على العقولِ أصابتِ القلبَ يوم سَلْعٍ ... بنافذاتٍ بلا نصولِ فقلْ إذا جئتَ آل سهمٍ ... ما فعل السهمُ بالقتيل ويا نسيمَ الصَّبا تَعَرَّضْ ... لحاضرٍ بالغَضَا حُلُولِ بلِّغْ فإنّ القبولَ أوْلى ... في طاعةِ الصبِّ بالقَبُول وصفْ غرامي وأَجْرِ فيهمْ ... ذكرىَ للهاجر المَلُولِ واحرَّ قلباه من قضيبٍ ... رَيَّانَ لم يدرِ ما غليلي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 662 لو أَنصَفَ الحِبُّ ما طلبت ... الوصالَ من طيفه البخيل ومنها في المدح: من أسرة النجم في المعالي ... وإخوةِ الغيث للنزيل تشابهوا واحداً ونَجْلاً ... ما أشبه الكُثْبَ بالسهول وقال من أخرى: رعى الله المنازَ من غميم ... وحيا يومنا بلوى الصَّريم وروَّى أرضَها حَلَبُ الغوادي ... وصافح روضَها وَلَعُ النسيم وقفتُ بها فيا نثرى لدمعٍ ... أَرَقْتُ على ثَرَى تلك الرسوم وما خِلْتُ المعالمَ قبلَ يومي ... بها صهباءُ تهفو بالحُلُوم متى تدنو لمشتاقٍ مُنَاهُ ... ويصحو من معاقرةِ الهموم ومنها: ومن ناداكَ من قلبٍ سليمٍ ... كمن دَاجاك بالودِّ السقيم فلا تغررْك صِحَّةُ صَفْحَتيه ... فتحت ثيابه نغل الأديم فداؤك كلُّ مغرورِ الأماني ... يُرَجِّي مُنْتَجَ الأملِ العَقيمِ وقال: ركبوا قوادمَ رَوْعِهمْ فكأنما ... طارت بهمْ حَذَرَ الحِمَام حَمام إن لذَّ عندك طيبُ عيشٍ باردٍ ... قلْنا وعزمُكَ في عُلاكَ ضِرَامُ وله في مريض: أما لو أنَّ أغراضيَ ... لا يخرجنَ عن حكمي نقلت الداء من جسمك ... مختاراً إلى جسمي وله من أخرى: كالغصن أطلع بدرَ تِمٍ باسماً ... بالأُقحوان ملثَّماً بالعَنْدَمِ يا عاذلي أَقصرْ فسمعي في الهوى ... سَلْمُ الغرام وحربُ لوْمِ اللوَّمِ لو كنتُ أَعلَمُ أَنَّ نجداً قصدُهُمْ ... يومَ استقلَّ فريقُهُمْ لم أُتْهِمِ ووراءَ أقمارِ الهوادج غِلمةٌ ... تحمي المحرَّمَ بالأقبّ الملجم كتبوا بأيدي الخيل خلف مطيِّهم ... عِين الحواجر بِلْوُها لمتيم ومنها: أَفنَتْ شجاعته السِّلاحَ فسيفه ... يبكي الدماءَ لرمحه المتحطِّمِ ومنها: لو أَشْهَدتْ رزق الوَرَى شَهِدَتْ به ... نِعَمٌ إلى نَفَحاتِ سيلٍ تنتمي وله من قصيدة أولها: أَثِرْهَا فقد طالَ هذا مُقَامَا ... وَرَاخِ لِها إِنْ جَذَبْنَ الزماما تقصُّ من الغيث آثارَهُ ... فترعى جَمِيماً وتُسْقَى جِمَامَا ومنها: أَضاءوا شموساً، وتمُّوا بدوراً ... ولاحوا نجوماً، وجادوا غماما ومنها: يا بائعي بالدونِ إِنَّ العُلاَ ... لا ترتضي بيعَكَ أَعْلَى بدونْ وعْدُك قد أصبحتُ أَتلو له ... هيهات هيهات لما توعدونْ إن كان حظِّي منك ما قد أَرَى ... فقل لحساديَ ما تحسدون وله من قصيدة: وكم ذُدْنا الكرى عنا بليلٍ ... كعَيْنِ الظَّبْيِ أو فَرْعِ الغواني وقد نثرت كواكبُهُ عقوداً ... نقوداً صُبْحُها لقْطُ الجمان صحبنا فيه ملءَ القلب رعباً ... بخرق كالملاءَة صحصحان على مثل الأَهِلَّةِ طامحاتٍ ... إلى قمر المعالي الإِضْحِيان ومنها: كأن البيض في رَهَجِ المذاكي ... ضرامٌ تحت أردية الدخان وله من قصيدة يصف خيمة ونقوشها: ضَرَبْتَ عين رواقٍ في مقرِّ عُلاً ... أوفى على عَذَبات الطَّوْد ذي القُنَنِ جَازَتْ مدى الطرفِ حتى خلتُ ذِرْوَتها ... تأْوي من الفَلَكِ الأعلى إلى سَكَنِ أقطارُها ملئت من منظرٍ عجبٍ ... يُهْدي إليك ذَكَاءَ الصانع الفَطنِ فمن رياضٍ سقاها الفكرُ صيِّبَهُ ... فما ظمأٌ يوماً إلى المُزُن وجامحٍ في عنانٍ لا يجاذبُهُ ... وطائرٍ غيرِ صدَّاحٍ على فَنَنِ وأرقمٍ لا تمجُّ السمَّ ريقتُهُ ... وضيغمٍ ليس بالعادي ولا الوَهنِ ومائلين صفوفاً في جوانبها ... لو يستطيعون خَرَّ الجمع للذَّقنِ زِينَتْ بأَرْوَعَ لا تُحْصَى فضائله ... ماضٍ من المجد والعلياءِ في سَنَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 663 وأطلع الدستُ فيها شمسَ مملكةٍ ... تُرِي التأمُّلَ فضلَ العين للأذن وعدٌ على السَّعْدِ أَنَّ النصرَ يضربها ... بالصين بعد فتوح الهند واليمن وله من أخرى: زالت ببيضك هامٌ عن مناكبها ... فنابت السمرُ فيها عن هواديها أُعطيتُ ملءَ رجائي من غنىً وعُلاً ... فصرتُ أَسأل نفسي عن أَمانيها وله من أخرى أولها: ليت دارَ الحيِّ إذ شَطَّتْ بها ... حمَّلَتْ ريحَ الصَّبَا نشرَ ثراها لا عداها الريُّ من صَوْب حياً ... ينظمُ الروضَ لأَعناقِ رُبَاها دارهُمْ بالغورِ إذ همْ جيرةٌ ... والنوى ما صدعتْ شملاً يداها وسميري في الدياجي غادةٌ ... فخر البدر بها لما حكاها ومنها: خَلَواتٌ لم تكن في ريبةٍ ... أكرمُ الصبوةِ ما عفَّ هواها سلْ عفافي دونَها لو لم يكنْ ... ريقُها من خمرةٍ قبَّلْتُ فاها آهِ من بينٍ وشوق لم يدعْ ... حسرةً تعتادني إلا اقتضاها ليت شعري ما الذي غَيْرَهَا ... أو أَراها حَسَناً أَنْ لا أَراها شَدَّ ما أَجرتْ دموعي فرقة ... لا أَرى عوناً على قتلي سواها ومنها: ما عليكمْ أنَّه زاركُم ... فسمعتمْ بعضَ ما يشكو شِفاها لا تذودوا عينَه عن نظرةٍ ... قد علمتمْ أنها تجلو قَذَاها وَعِدُوا بالطيفِ إن عادَ كَرى ... مقلةٍ مذ غبتمُ غاب كراها أو فَمَنُّوه المنى من قربكمْ ... حالَ يأسٌ بين نفسي ومناها قل لمن دبَّت أفاعي كيدِهِ ... لستُ أَخشاها وكيدي من رُقَاها لا تجاذبْنِي فإني مُمْسِكٌ ... ذِمَّةً للمجد لم تُفْصَمْ عراها ما أُبالي سُخْطَ أَيامي إذا ... فاز سهمي برضى شاهنَّشاها وله من قصيدة: وغضبانَ أَعدى بالتجني خيالَه ... فمن لي بأن ألقاه في الحلم رَاضِيَا ومنها: أحب ثرى الوادي الذي نَزَلَتْ به ... وإن لم يكنْ ما بيننا متدانيا وأُكْبِرُ أنفاسَ النسيم إذا سرى ... فصادف جرعاءَ الحمى والمحانيا ومنها: فيا ليت قومي جَنَّبونيْ عقوقهمْ ... وليتَ صديقي لا عليَّ ولا ليا أَسَرُّوا حِذارَ الشامتين تأَوهاً ... ومن ذا من الأيام لم يُلْفَ آسيا وأَظْمَا فأَرْوَى بالنسيم تعللاً ... عن الماء كيلا يعلمَ الماءُ ما بيا ومنها: وهاجرةٍ تُذْوِي الوجوهَ ارتديتها ... وقد عمَّمَتْ صُلْعَ الرُّبيِّ القباطيا ومنها: وليل كأطمار الثَّكَالى ذَرَعْتُهُ ... بصحبٍ يُضَاهُون النجومَ الدراريا وخَرْقٍ كراح المُجْتَدِينَ قطعتُه ... بمنأَطِراتٍ كالقِسِيِّ نواجيا بممقورةٍ مثلِ الهلالِ كأنما ... طَلى السَّيْر منها بالكُحَيْلِ الذواريا ينازع من أعقابها الجذْبُ بالبُرَى ... أَفاعيَ حِقفٍ لا تجيبُ الرواقيا الأعز أبو الفتوح المعروف ب ابن قلاقس وهو نصر الله بن عبد الله بن علي بن الأزهري ذكر لي نجم الدين بن مصال أنه كان من أهل الإسكندرية وقاد الخاطر، ذا الفضل الوافر، مات بعيذاب عند رجوعه من اليمن ولم يبلغ عمره ثلاثين سنة. أنشدني له من أبيات يصف أمراضه: نُكِّسْتُ في الأمراض بع ... دَ إفاقتي نكسَ الهلالِ والراسُ مثل الكاس لو ... لا علة نالَتْهُ خالي وأنشدني له من قصيدة: لا تثنِ خدَّكَ إن الروض قد جِيدَا ... ما عطَّرَ القطرُ من نوَّارهِ جِيدا ومنها: وقف أَبُثُّكَ ما لان الحديدُ له ... فإن صدقتَ فقل: هل صرتَ داودا ومنها: يا ثعلبَ الصبح لا سرحانَ أَوَّلِهِ ... خذِ الثريَّا فقد صادفْتَ عُنْقُودا وله: ما ضر ذاك الريمَ أن لا يَريمْ ... لو كان يرثي لِسَليمٍ سَلِيمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 664 ومنها: تراهُ لما أن غدا روضةً ... أعلَّ جسمي كي أكونَ النسيم رقيمُ خدٍ نامَ عن ساهرٍ ... ما أَجدرَ النومَ بأَهلِ الرقيم وله من أخرى: فهمتُ عن البارق الممطر ... حديثاً ببالكَ لم يَخْطُرِ يقول سهرتَ فأجرِ الدموعَ ... وإِلا فإنَّكَ لم تسهرِ ومنها: فيا عَبْلَةَ الساقِ لا أَشتكي ... إليك سوى وجديَ العَنْتَري ثم ظفرت بكتاب الزهر الباسم من أوصاف أبي القاسم، وهو بعض القواد بجزية صقلية فاطلعت فيه وأطلعت في فلك الخريدة نجوم معانيه. فأول ما بدأ فيه بوصف الكتاب، كلامٌ أصفى ديمةً من در السحاب، وأوفى قيمةً من در السخاب. فمن ذلك: هذا كتابٌ نظمت فريده في عقد الكرم، وجلوت فرنده في عضب الهمم، واستخلصت بنار الطبع تبره، وشحذت من لسن الذهن نبره، وأنبت في روض الشرف أزاهره؛ وأثبت في سماء العز زواهره، ووسمت عواتق المجد بحمائله، ورقمت دمائث الحمد بخمائله، ناضرة مشرقة اللألاء، بل مشرفة الآلاء. وهذا السيد الأيد وإن عظم سوره، وكبر صوره؛ وشرف نسبه، وظرف نصبه، واجتلى من مجالس الفضل، ومغارس النبل منتدى صدور إيوانها، ومبتدأ سطور ديوانها، فإن مثلي وإياه كراعي سنين عجاف، وداعي مسبتين لا يجاف، طواه إدقاع، وأجراه صفصف قاع، فاحتل بوهد، رهين جهد، ما له بالسحاب وأذيال السحاب من عهد، قد لفته النكباء في شملتها، وأتلفته بتفصيلها وجملتها؛ فلما يبست مراتعه، ويئست مطامعه، أتت أكيلة ليثٍ فسامها، وعنت مخيلة غيثٍ فشامها، وأصاخ ليستمع أين موقعه، وينتجع ما ينفعه، وإذا هو نبتٌن في رمل خبتٍ، قد أرضعته بدرها الأمطار، ورصعته بدرها الأزهار، واندفقت أنهاره، وسجعت أطياره، بما خرق له مخارقٌ جيب الإبداع وانحط به ابن جامعٍ عن درجة الإجماع، فوقع اختياره بما أداه إليه اختباره، على شجرةٍ أصلها في الماء، وفرعها في السماء: يَصيفُ إلى مُرتقىً مُنْتَقَى ... ويُشْتي إلى مُجْتَلىً مُجْتَنَى وتأتي على حالتيْ سَوْمها ... لذا بالمَنُونِ وذا بالمُنَى وهو أيده الله تلك النخلة ذات الظل المديد، والثمر الجديد، من الطلع النضيد، وأنا ذلك الراعي الذي هجر ملأه ووجد كلأه. وسائر الكرام وإن كانوا كنبقة في تلك الحديقة الأنيقة، ففي كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار. ومنها: والعصر، إن في المصر ملكاً استملك رق المدح، واستهلك المحن بالمنح، نقل الدهر إلى نقش خاتمه، وجعل موطىء كعبه همة كعبه وباهى بنهضة من عمره نهضات عمره، وكن نقى مثار عثيره، ممن يصول كعنتره، وكم استبله في باسه ممن يضحك بإياسه. فما زال مرتع آمالي في ذراه خصيباً، وسهم مطالبي في ثغر النجاح مصيباً، وأماني لا تجد لابن ليلى دونه في بيت نصيب نصيباً. وإنما لقيت من وعثاء السفر، ولقاء الخطر، وابتغاء الظفر، قبل حلولي بهذه الحضرة النضرة حضرة القائد أبي القاسم الأجل الذي إن ألبس قلمه المداد، عري من الفصاحة قس إياد، وأنطق طرسه الرسائل، أخرس عن الخطابة سحبان وائل. يلزم لديه ابن العميد سمت العبيد، ويغدو عليه عبد الحميد غير حميد، ويقول له الصاحب أنا عبد لا صاحب، ونهاية الصابىء أنه بألفاظه صابىء؛ حتى لو انقلب الديوان ديوان شعر، والقرطي أقراط شذر، لكان هو المقرط المعلى والمقرظ المحلى ما أوجب ذاك الشكو الذي دخل بهذا الشك، وجاء بهذا الشكر. فالحمد لله حمداً تقصر الألفاظ عن حصر معانيه، ويعيي النية منتهاه عن قدر وسعها فتعانيه، وصلى الله على محمد وآله ما خفق آل، وحقق الآمال في هذا الحساب مال ومآل. ومنها في وصف البحر إني لما تسنمت الأمواج في ذات الألواح، وتنسمت الإزعاج من ذات الأرواح، قلت السلامة إما ميلاد ومعاد، أو يوم معاد، وعجبت من حالي، في حلي وترحالي، فتشوقت الوطن والوطر، وكلفت الخاطر وصف ذلك الخطر، فقال: لو لم يحرَّم على الأيام إِنجادي ... ما واصلتْ بين إِتهامي وإِنجادي طوراً أسيرُ مع الحياتن في لجج ... وتارةً في الفيافي بين آساد إما بطائرةٍ في ذا ورازمةٍ ... أو في قتادٍ على هذا وأَقْتاد والناس كُثْرٌ ولكنْ لا يقدَّرُ لي ... إلا مرافقةُ الملاَّحِ والحادي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 665 هذا وَلَيْتَ طريقَيْ ما رُميتُ به ... مسلوكتان لرُوَّاد ووُرَّاد وما أسيرُ إلى رومٍ ولا عربٍ ... لكنْ لريحٍ وإِبراقٍ وإِرعاد أقلعتُ والبحرُ قد لانت شكائمه ... جداً وأقلعَ عن موجٍ وإزباد فعَادَ لا عادَ ذا ريحٍ مُدَمِّرةٍ ... كأنها أختُ تلك الريح في عاد ولا أقولُ أَبى لي أن أفارقكم ... فحيثما سرتُ يلقاني بمرصاد وقد رأيتُ به الأَشراطَ قائمةً ... لأن أمواجه تجري بأطواد تعلو فلولا كتابُ الله صحَّ لنا ... أن السمواتِ منها ذاتُ أَعماد ونحن في منزلٍ يَسْري بساكنه ... فاسمعْ حديثَ مقيمٍ بيتُه غادِي ومنها: لا يستقرُّ لنا جنبٌ بمضجعه ... كأن حالاتنا حالاتُ عُبَّاد فكم يُعَفَّر خَدٌّ غر مَنْعَفِرٍ ... وكم يخرُّ جبين غير سَجَّادِ حتى كأنا وكف النَّوْء تُقْلقنا ... دراهمٌ قَلْبَتْها كفُّ نَقَّاد وإنما نحنُ في أَحشاءِ جاريةٍ ... كأنما حَمَلت منَّا بأولاد ومنها: يا إِخوتي ولنا من ودِّنَا نَسَبٌ ... على تباين آباءٍ وأجداد نقرا حروفَ التهجِّي عن أَواخرها ... ونحنُ نخبطُ منها في أَبي جاد ولا تلاوةَ إلا ما نكرره ... من مبتدا النحلِ أَو من منتهى صاد متى تُنَوِّرُ آفاقُ المنارة لي ... بكوكبٍ في ظلام الليل وقَّاد وأَلْحَظُ المُشرِفاتِ البيضُ مشرقةً ... كالبيضِ مشرفةً في عامِ أنجاد وأستجدُّ من الباب القديم هَوىً ... عن الكنيسة فيه جلُّ إِسنادي بحيث أَنْشُدُ آثاراً وأُنْشِدُهَا ... فيُبْلغ العذْر نشداني وإنشادي القصرُ فالنخلُ فالجمَّاءُ بينهما ... فالأثلُ فالقصباتُ الخضرُ في الوادي متى أروحُ وأغدو في معاهدها ... كما عهدتُ سماها الرائحَ الغادي متى تقرُّ ديارُ الظاعنين بهمْ ... والبينُ يطلبهمْ بالماءِ والزاد ومن النثر في وصف المركب وأهله: ثم إن البحر تخبطه شيطان الموج من مسر الريح، فلو رأيته وقد شاب في عنفوان شبابه، وشابه فروع الأطواد بأصول هضابه، والحنية تدوي بأهلها، كالخلية بنحلها، ونحن نصلي لمؤنس يونس وعلى لوح نوح، لاسترشدت رأي من آثر الجبل في العصمة وما لحقت بأبيه لولا وحي الله عز وجل ولقلت الصخر، يقي أنى حضر. هل غنى لمجنوبته عليه إلا المنية ولم يزل يدنو كالمجنون، ونداريه من الجنون، حتى كسته الرخاء ثوب وقارها، وأمسكت الزعزع عنه كاس عقارها، فصح وصحا بعد جنونه وسكره، ونطق منا بلسان المجاز بالحقيقة بعد المجاز، فوصلنا طرف الجزيرة بمسين غرة شعبان سنة ثلاث وستين وخمسمائة. بلدٌ أعارته الحمامةُ طوقها ... وكساهُ حُلَّةَ ريشه الطاووسُ فكأنما الأنهارُ منه سلافةٌ ... وكأَن ساحاتِ الديارِ كؤوسُ ومن شعره في الزهر الباسم قصيدة مطلعها: رافقها مطربُ الأَغاريدِ ... فاسْتَرَقَتْ هِزَّةَ الأماليدِ ودَبَّ خمرُ السُّرى بأذرعها ... فَهْي على البيدِ في عرابيد وغادرتْها الصبا بمهلكةٍ ... تفجِّرُ الماءَ في الجلاميد تحملُ على روضِ عالجٍ خبراً ... تسنده عن ظبائه الغيد أجرى عليه السحابُ دمع شَجٍ ... ومزَّقَ البرقُ جَيْبَ مَعْمود فأغرق الريحَ بين أربعها ... موجُ وجيفٍ ببحر توحيد ومنها: في ذمة الشوق مهجةٌ ركضتْ ... تتبعُ زُوراً من المواعيد أَهْدَوْا إليها الخيالَ إِذ كَحَلُوا ... جفونَ أحداقِها بتسهيد وانعطفوا للأَراكِ وَهْيَ عَلَى ... عهدٍ من البانِ غيرِ معهود عذرٌ يهزُّ الجفاءُ دوحتَه ... تحت صَدوح الملالِ غِرِّيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 666 وناصحٍ يمحض المودةَ لي ... وليس في نصحه بمودود ظنَّ فؤادي مع فأَنبَهَهُ ... وَهْوَ من الوجدِ غيرُ موجود سار وجيشُ الغرامِ يتبعه ... تحت لواءٍ عليه معقود ومنها: عَرَّجَ عنها الصباحُ منطلقاً ... وغادرَ الليلَ رهنَ تقييد لا يعرف الثعلبُ المقيم بها ... لولا الثريا مكانَ عنقود من عُلِّقَ البيضَ صارمَتْ يَدَهُ ... حبالُ تلك الغدائر السود وَعِمَّةُ الشيبِ لا خُدِعْتَ بها ... أَخلقُ شيءٍ أوانَ تجديد واللهوُ خدنُ الصبا فَمُذْ فُقِدَتْ ... أَيامُهُ لم يكنْ بمحمود وأَغبنُ الناس من أَلَمَّ به ... فَقْدُ سوادٍ وفوْتُ تسويد وفى بني الدهر كلُّ مُعْضِلَةٍ ... من الذي فات والمواجيد إن أَسكروني بخمر لومهمُ ... فقد رَموا عِرْضَهمْ لعربيد ومُوعِدٍ صاح بي فقلتُ له ... ربَّ وعيدٍ يَطيحُ في البيد قد أقسم الحمدُ لا يسيرُ إلى ... غيرِ أبي القاسم بن حَمُّودِ في يده للنوالِ معركةٌ ... أَرَى بها البخلَ صارِمَ الجيد وعنده للضيوفِ نارُ قِرىً ... تعرفها البُزْلُ كلما يُودي ومنها: وتلتقي كُتْبُه الكتائبَ في ... جيشٍ من الخطِّ صائدِ الصيد بكلِّ لفظٍ كأنه نَفَسٌ ... غيرُ مُمِلٍ بطولِ ترديد صحَّتْ معانيه فاقتسمنَ إلى ... فضلِ ابتكار وحسن توليد وربما استضحك الخميسُ به ... عن أَهرت الماضغين صنديد يهوى قَوامَ القناة ذا هَيف ... ووجنةَ العَضْب ذات توريد ومنها: دوحةُ مجدٍ تميدُ ناضرةً ... لمحسناتٍ بحسنِ تجديد عرضتُ منها لنار تجربتي ... عوداً ففاحت روائحُ العود ومن قصيدته الموردة الثانية كلمة مطلعها: نَعَمْ هُوَ البرقُ على الأَنعُمِ ... فاشقَ به إن شئت أَو فانْعِم لاح بأعلى هضبة خافقاً ... خَفْقَ لواءِ البطل المُعْلَمِ وزلَّ عن صَهْوَةِ طِرْفِ الدجى ... سقطةَ جُلِّ الفَرَسِ الأَدْهَم حتى إذا قابلَ وادي الغَضا ... أَغضى على مدمعه المثجم واستقبلَ السفحَ وكم فوقه ... من مقلةٍ سافحةٍ بالدمِ فحينما شقَّ كنوز الربى ... عن ذلك الدينار والدرهم قام نساءُ الحي يَجنِينَهُ ... بين فرادى منه أو توأمِ فأشكل النُّوران من مَبْسِمٍ ... تَعْبَق رَيَّاه ومن مَنْسِم واشتبه الروضان في نضرة ... إلى حياءٍ وحَياً ينتمي ما بين جناتٍ إلى أعينٍ ... وبين خيْرِيٍ إلى حَيْرَم ومعركٍ بينهما لم يزلْ ... يفتكُ فيه الظُبى بالضيغم بين حِمىً بات كليبٌ به ... مجرَّداً من شملهِ المحتمي يمنعُ ضيفَ العين منه القِرَى ... وهو مباحُ ليَدٍ أو فم يا عاقري النيبِ لضيفانهم ... غلطتمُ في كبدِ المغرم أتلفتمُ قلبي فماذا الذي ... خفَّفَ عنكمْ ثِقَلَ المَغْرَم كم من دمٍ باتَ به حيُّكم ... كأنه ملتقط العندم وكم عيونٍ أصبحت عندكم ... معدودةً من جملة الأسهم لا طَرَقَتْ ربعَكُمُ غارةٌ ... يَسْأَلُ فيها معشري عن دمي ولا سرتْ نحوكمُ أُسْرةٌ ... تأْسِرُ بالداهيةِ الصيلم من كل من تصدُرُ أسيافُهُ ... بضربةٍ مثل دم الأهتم يقول إِن جرَّ كعوبَ القنا ... تأَبَّطَ الضيغمُ بالأرقم لو لم تكنْ من فَتَكاتِ الهوى ... شَقَّتْ على الحافرِ والمنْسم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 667 ما هذه أَوَّل ما ردَّني ... عنه بلا أَجرٍ ولا مغنم فخلِّ عن عتبك لي إِنها ... شِنْشِنَةٌ تُعْرَفُ من أَخْزَم أقسمتُ بالله ولولا عُلا ... مجدِ أبي القاسم لم أُقْسم إن ابنَ حمَّودٍ له راحةٌ ... تستجلب الحمدَ من المِرزَمِ المجمِلُ المنعمُ إن حُبِّرَتْ ... مدائحٌ في المجمل المنعم والكعبةُ الغراء لكنها ... تُحِلُّ ما يَحْرُمُ للمحرم في كل يومٍ لوفود الندى ... ببابه مُجْتَمَعُ الموسم للمالِ من راحته عندهم ... أضعافُ ما للماء من زمزم يفيض بحرُ الجود من كفِّهِ ... فَيَزْدَرِي بالزاخر الخِضْرِمِ سائِلْهُ أَو سَلْهُ تجد عندهُ ... هُدَى جهولٍ وغِنَى مُعْدِم ومنها: ولو أَعارَ الليلَ آراءَه ... ما احتاج ساريه إِلى الأَنْجم فضائلٌ كادتْ لإِفراطِها ... تُنْطِقُ بالشكرِ فمَ الأبكم ما بدأَ الإحسانَ فاحتاج أَن ... يقول راجيه لهُ تَمِّم يا من يجاريه إلى غايةٍ ... سالِمْهُ وارْجعْ دونَه تَسْلَم لا يرتقي للنجم ذو سُلَّمٍ ... فكيف من كانَ بلا سلم يا سيداً أَفعالُهُ غُرَّةٌ ... فوق جبينِ الزمن الأَدهم صُمْ وافرَ الأَجْرِ وصِمْ حاسداً ... يشجوه قولي لك صُمْ أو صِم وابقَ وزدْ واعلُ وسُدْ واصطنعْ ... واردفْ وجُدْ وابدأْ وعِدْ واسْلَمِ وله من قصيدة: زَهَرْنَ فاعجب لروضٍ ما له زَهَرُ ... إلا المباسمُ والألحاظُ والطرَرُ ولا تقلْ لهبُ الوجْناتِ يَحْرِقُهَا ... فللعذارِ على أَرجائها نَهَرُ أَحْسِنْ غُرَراً قالت محاسنها ... بالنفسِ يُحْمدُ في أَمثاليَ الغَرَرُ سفرْنَ والليلُ طِرفٌ أدهمٌ فَجَرَتْ ... فيه الحجولُ من الأَنوارِ والغُرَرُ وقُمْنَ يَحْمِلْنَ في الأَجفانِ مرهفةً ... لو كانت البيضَ قلنا إنها البُتُرُ وكان من فعلها بالسحرِ أَنْ فعلتْ ... على العِشَاءِ بما يأتي به السَّحَر فما ارتقبتُ الدراري إذ سهرت لها ... إلا كأصدافِ يَمٍ حشوُهَا دُرَر ولا اجتليتُ بدورَ الأفق عن كَلَفٍ ... إلا بمن أُتْلِفَتْ في صَوْنِهِ البِدَرُ وفي الحشا والحشايا صبوةٌ كَبرتْ ... فزادها عنفواناً ذلك الكبر توري زنادَ اشتياقٍ ما استطارَ به ... لي من مشيبيَ بل من أَدمعي شَرَر وفي فؤاديَ لا فَوْدِي قتيرُ هوىً ... لم يُخْفِهِ الشَّعْرُ إن لم يبده الشَّعَر ومنها: أنا المحبُّ وما بي من يقالُ له ... أَولى لك العذلُ لا أَولى لك العُذُر إن قلتُ ماسَ فما قصدي به غُصُنٌ ... أو استنارَ فما قصدي به قَمَرُ المالُ عند ذوي الإِقْتارِ مُحْتَقَبٌ ... والمالُ عند ذوي الأَقْدَارِ محتقر فإن عدمتُ الذي صاروا به عُدُماً ... فما افتقرتُ وعندي هذه الفِقَرُ ولم أُقَلْقِلْ ركابي أَنْ نأى وطَنٌ ... ولا أطلتُ اغترابي أن نبا وطر لكن بنو الْحَجَر استدعت مكارِمُهُمْ ... عَزْمي وقد كاد يُسْتَدعَى بها الْحَجَر نادى لسانُ الندى منهم فأسمعني ... فقمتُ أعبر بحراً كله عِبَر ومنها: ترى المواخرَ تجري في زواخرِهِ ... فترتقي في أَعاليه وتَنْحَدِرُ من كل سوداءَ مثلِ الخال يحملها ... بوجنةٍ منه فيها للضحى خَفَرُ لذاك جادوا نَدىً فيه أَجَدْتَ بنا ... فليس يُعْرَفُ لا حَصْرٌ ولا حَصَرُ ومنها: والشعرُ منه قصيرٌ عمره زَهَرٌ ... يَذْوي ومنه طويلٌ عمره زُهُرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 668 وكالمواعظِ سهلٌ صَوْغُها زُبُرٌ ... وكالحديدِ ثَقيلٌ وزنه زُبَرُ أو كالعيونِ فهذي حظُّها حَوَلٌ ... يَغُضُّ منها وهذي حظُّها حَوَرُ ومنها: لله درُّ حَياءٍ حزته وحِباً ... كأَنك العَضْبُ منه الأَثْرُ والأَثَر وفي يمينك يجري كيف تأمره ... ما يحسد الذكر عنه الصارمُ الذَّكَر ومنها: أنالني في اغترابي كلَّ مُغْربة ... فما النفيرُ بمعدومٍ ولا النَّفَر وشد أَزري فما أَحْفَى بنائبةٍ ... تقولُ أبياتها هيهات لا وَزَرُ من بعد ما قَرَعَتْني كلُّ قارعة ... أَيامها الحمرُ من أَعيانها الحُمُرُ وبت أضب بالأشعارِ طائفةً ... لو أَنهمْ ضُربوا بالسيف ما شعروا إذا نحتُّ القوافي من مقاطعها ... قالوا تكلفْ لنا أَنْ يَفْهمَ البَقَرُ وقال من قصيدة يصف فيها البحر وركوبه وقصده أيام وفوده: سَفَرَتْ عنكَ أَوجُه الأَسْفَارِ ... وجَرَتْ بالمنى إليك الجواري فرفعنا لكَ الكواكب يا بد ... رَ الدياجي على الهلالِ الساري وركبنا على عَذَاب بحارٍ ... أنزلتنا على عِذَابِ بحار واعتسافُ الأخطار يجْمُلُ ما كا ... ن طريقاً إلى ذوي الأخطار ما امتطينا أخت السحائب إِلا ... لتوافي بنا أخا الأمطار كل نونٍ من المراكب فيها ... أَلِفَاتٌ مصفوفة للصواري تَقْسِمُ الماء والهواءَ لساقٍ ... وجناحٍ من عائمٍ طيار وهي ضِدَّانِ من جوانح ليلٍ ... قد أُقيمَتْ ومن جناحَيْ نهار صُوِّرت كالفيولِ لولا قلوعٌ ... أبرزتها في صورةِ الأطيار عَوَّضَتْنَا الأوطانَ عندك والأو ... طارَ بعد الأَوطانِ والأَوطار فاستحقَّتْ بأن تُعَوَّضَ عوداً ... بعد عُود وعنبراً من نار ومنها: وأياديك إنهنَّ ثمارٌ ... حَمَلَتْهَا معاطفُ الأحرار ومساعيك إنهنَّ نجومٌ ... مشرقاتٌ على سماء الفخار أَنْتَ في الفضل في بني الحجر السا ... دةِ مثلُ الياقوتِ في الأحجار ومنها في القلم: وبيمناك طَيْرُ يُ نٍ وسَعْدٍ ... أصفرُ الظهر أَسودُ المنقار قلمٌ دبَّرَ الأقاليم فالكتْ ... بُ به من كتائب المقدار يا طرازَ الديوان والملكِ أصبح ... تَ طرازَ الديوان في الأشعار وبنوكَ الذين مهما دجا الخط ... بُ أَرَوْنَا مطالعَ الأقمار فأبو بكرٍ الذي أحرز المجدَ ... بسعي الرَّواحِ والإبْتِكَار وتلاه فيما تلاه أخوه ... عُمَرٌ عاش أَطولَ الأعمار ولعثمانَ حظُّ عثمانَ إلا ... في الذي دار من حديث الدار ومنها: وإذا شئت فالمجرَّةُ بَحْرٌ ... ليَ فيه بناتُ نعشٍ سَمارِي وبكفِّي من النجومِ كثيرٌ ... هُوَ مَا قَدْ وهبتَ من دينار ومن نثره فيه: ولما أذن لشوالٍ في أن تشال الكؤوس، ويوضع في طاعة الخمر بالرءوس، خلعنا عن سوالف الخلاعة عذار العذل، وركبنا خيل الفتك والمجون على أرض الجذل، وقلبنا لبطن العفة ظهر المجن، وسرنا نبعج تحت عجاج النذر وداج الدن. وله في وصف بركة: بركةٌ بوركتْ فنحنُ لديها ... نَسْتَفِيدُ الغِمارَ في ضخضاحِ قطرتْ من قرارها بعيونٍ ... غادرتْنا بأسرع الإلتماحِ تسرق اللحظة اختلاساً وتمضي ... نظرةَ الصبِّ خافَ إنكارَ لاحِ قد صَفَتْ واعتلى الحَبَابُ عليها ... فَهْيَ سيان مَعْ كؤوسِ الراحِ أيُّ درعٍ مصونةِ النسجِ تمتد ... السواقي فيها بمثل الصفاح ومنها: ومغنٍ تناولتْ يدهُ العو ... دَ فعادت بنا إلى الأفراح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 669 جَسَّ أوتارَهُ فأصلح منَّا ... صالحاً صارَ في يدِ الإصلاح بين ريحٍ من المزامير أَسْرَى ... بين أَجسامنا من الأرواح وصِبَاحٍ قد عقَدُوا طُرُزَ الليل ... جمالاً على الوجوه الصِّبَاح يبعثُ الروضُ منهمُ حركاتٍ ... سَرَقَتْ بعضها طوالُ الرماح هكذا هكذا وإلا فلا لا ... طُرُقُ الجِدِّ غيرُ طُرْقِ المِزاح وله في وصف مغن: لا أَشربُ الراحَ إلاَّ ... ما بين شادٍ وشادنْ وإن فَنِيتُ فعندي ... إلى مَعَادٍ مَعَادنْ قمْ يا نديمي فأَنْصِتْ ... والليلُ داجٍ لداجن غنَّى وناح فَنَزَّعْ ... تُ ثوبَ خاشٍ مُخَاشِنْ طاوِعْ على القصفِ والعزْ ... فِ كلَّ حاسٍ مُحَاسِن وانهض بطيشك عن سَمْ ... تِ ذي وقارٍ وَقَارِنْ هاتِ الكميتَ وأهلاً ... منها بصافٍ وصافن أَثورُ من ذي ومن ذا ... بكل غابٍ بغابن وإن رمتني الليالي ... يوماً بداهٍ أُدَاهِن وله في ذم زامر: تعبتَ وما أَتيتَ لنا بشيءٍ ... فكيف تكون ساعةَ تَسْتَرِيحُ فلا تُكْثِرْ علينا في مُحَالٍ ... بِزَمْرِكَ، صَحَّ أَن الزمرَ ريح وله: ينافرُ إيقاعُهُ صوتَهُ ... فهذا يزيدُ وذا ينقصُ ويتبعه زامرٌ مثلُهُ ... تبيعٌ له نَفَسٌ أَوْقَص فإن قامَ ما بيننا راقصاً ... فكلٌّ إِلى بيتهِ يرقص وله في مغن: تَثَنَّى فلا مَيْسَ الغصونِ ولينها ... ورجَّعَ أصواتاً فلا تَذْكُرِ الوُرْقَا وأَعجبُ إذ تحتثُّ يمناهُ طارةً ... فتسمعها رعداً وتبصرها برقَا له القصيدة السيارة التي مطلعها: ألْحِقْ بنفسجَ فجري وَرْدَتَيْ شَفَقي ... كافورة الصبح فتَّتْ مسكةَ الغَسَقِ قد عُطِّلَ الحسنُ من أسمار أَنجمه ... فاعقدْ بخمرك فينا حِلْيَةَ الأُفُقِ قم هاتِ جامك شمساً عند مصطبح ... وخلِّ كاسكَ نجماً عند مغتبق واقسمْ لكل زمان ما يليقُ به ... فإن للزَّنْد حلياً ليس للعنق هبَّ النسيمُ وهبَّ الريمُ فاشتركا ... في نكهةٍ من نسيم الروضة العَبِق واستَرْقَصَتْنِيَ كاستِرْقاصِ حاملها ... فخضْرَةُ الوُرْقِ في مخضرَّة الوَرَقِ وبتُّ بالكأس أَغْنَى الناسِ كلِّهِم ... فالخمرُ من عسجدٍ والماءُ من وَرق كم وَرَّدَت وجنات الصِّرفِ في قَدَحٍ ... فتحْت بالمزج ما تعلوه من حدق يسعى بها رشأٌ عيناه مذ رمقت ... لم يُبْقِ فيَّ ولا فيها سوى الرمق حبابُها وأحاديثي ومبسِمُه ... ثلاثةٌ كلها من لؤلؤٍ نَسَق حتى إذا أخذتْ مني بسَوْرتها ... ما يأخذُ النوم من أجفان ذي أرق ركبتُ فيه بحاراً من عجائبها ... أَنِّى سلمتُ ولم أشعُر من الغرق ولم أزل في ارتشافي منه ريقَ فمٍ ... أَطفَأْتُ في بَرْده مَشْبوبةَ الحُرَق يا ساكنَ القلب عما قد رميت به ... من ساكني الجزع مَعْ ما فيه من قلق لا تعجبنَّ لكل الجسم كيف مضى ... وإِنما اعجب لبعض الجسم كيف بقي لم أَسترِق بمنامي وصلَ طيفهمُ ... فما له صار مقطوعاً على السَّرَق من شعر أبي محمد بن سنان الخفاجي حيث يقول: إِذا سكنتمْ فقلبي دائمُ القلق ... وإن رقدتمْ فطرفي دائمُ الأَرَق سرقتُ بالنوم وصلاً من خيالكمُ ... فصار نوْمِيَ مقطوعاً على السَّرَق ومن قصيدة ابن قلاقس: في الهندما قيل أسيافُ الحديدِ ولو ... لا هندُ ما قيلَ أسيافٌ من الحَدَقِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 670 وبتُّ بالجزع في آثارهم جَزِعاً ... إن جُرِّدَ البرقُ إيماضاً على البُرَق في نارِ وجديَ معنىً من تلهبه ... وفي فؤاديَ ما فيه من الوَلَق وله من قصيدة في مدح وزير صاحب صقلية: جرت خيلُ النسيمِ على الغديرِ ... ورُدَّت تحت قسطلة العَبيرِ وعبَّ الصبحُ في كأس الثريا ... وكان براحةِ القمرِ المنير وقام على جبين الشمس يهفو ... كما يهفو اللواءُ على أمير ودارَ بهِ على يده فكانت ... كطَوْق الجام في كفِّ المدير ومَجَّتْ في زجاج الماء لوناً ... هيَ انتزعته من حَلَب العصير فقمنا نستقيم إلى قلوبٍ ... تناجَتْ تحت أستار الصدور نُحَقِّقُ بالمنى عِدَةَ الأماني ... ونملأُ بالرضى حُبُّ السرور إلى أن غادَرَتنا الكأسُ صرعى ... نفرُّ من الكبير إلى الصغير ومنها: وجرَّدنا المدائح فاستقرتْ ... على أوصاف جُرْدَنَّا الوزيرِ فنظَّمْنا المفاخرَ كاللآلي ... وحلَّينا المعاليَ كالنحور وقمنا في سماءِ العز نرعى ... جبين الشمس في اليوم المطير وأعجبُ ما جرى أنَّا أَمِنَّا ... ونحن بجانب الليثِ الهَصُور وأَرسلنا من الأقداح ريحاً ... نهزُّ بها المعاطفَ من ثَبِير وقلدناهُ دُرّاً جاء منه ... كذاك الدُّرُّ جاء من البحور ومنها: لهيبُ صواعقِ العَزَماتِ منه ... يكادُ يذيبُ أفئدةَ الصخور وماءُ مكارم الأخلاقِ منه ... يكادُ يردُّ صاعدةَ الزفير وأغراسُ الأماني في يديهِ ... تهزُّ معاطفَ الدَّوْحِ النضير الشيخ أبو الحسن علي بن أبي الفتح بن خلف الأموي لا شك أنه من ساكني صقلية فإن ابن قلاقس أورده في الزهر الباسم، وقال: هو حدقة العلم الناظرة، وحديقة الأدب الناضرة. وإنما ذكرته أنا في أهل مصر حيث اقتضاه هذا الموضع للمكاتبات التي جرت بينه وبين ابن قلاقس. قال: كتب لي أبو الحسن علي بن خلف الأموي رقعة أنفذها لما أردت الرحيل عن صقلية: يا ماجداً طَبْعُه أَحلى من الماذِي ... ومن يفوقُ ذكاءً أهلَ بغداذ وَهِمْتُ في رُقْعَةٍ سيَّرْتُها عجِلاً ... إليك ما بين تلميذٍ وأُستاذ فابسُطْ ليَ العُذْرَ واعلم أنني قَلِقٌ ... ذو خاطرٍ لنواكم آلِمٌ هاذي قال: فأجبت، ولو أطعت الخجل لاحتجبت: هذي المحاسنُ قد أُوتيتَها هذي ... فكلُّ شخصٍ تعاطى شأوَها هاذي أقسمتُ بالنحل إنَّ النحل قائلةٌ ... ما ذي الحلاوةُ مما يُحْسِنُ الماذي أنفذتَ شعراً فأنفَدْتَ القوى فجرى ... شكوٌ وشكرٌ لإنفادٍ وإنفاذ وقمتَ لي من جفاءٍ من صَقَلِّيَةٍ ... بلطفِ مصرَ عليهِ ظَرْفُ بَغداذ إن كان طبعُك من ماءٍ ورقَّته ... فإن ذاك فِرِنْدٌ بينَ فُولاذِ وما وهمتُ وفي التلميذ معرفتي ... حقّاً لأنك معروفٌ بأُستاذي الله يعلمُ لولا أنتَ ما جُعِلَتْ ... يدي على كبدٍ للبين أَفلاذِ قال: وفاض بحر آدابه فيضاًن فكتب إلي أيضاً: أيا شمسَ الجلالِ على اقتصادِ ... ويا بدر الكمال لدى اتِّقادِ ويا من بذَّ في الأشعار مَن قد ... أَبادَ الدهرُ مِن أزمانِ عادِ لقد أصبحتَ لي خلاً صَفِيّاً ... وحبُّك قد تمكَّن في فؤادي ومنها: يعزُّ عليّ أن تنأَى وأَبقى ... فريداً مستهاماً للبعاد وإن حكَمَتْ بفرقتنا الليالي ... وقِدْماً فرَّقضتْ أهلَ الوداد فودِّي ثابتٌ أبداً مقيمٌ ... على مرّ الليالي في ازدياد ولولا طِيرَةٌ للبين تُخْشَى ... لبستُ لذاك أثوابَ الحداد قال: فأجبت، وليتني أنجبت: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 671 هو النادي وأنت به أُنادي ... فيا مُرْوي الحَيَا مُورِي الزناد لسانُكَ أمْ سنانُك دارَ فيما ... أَراه من الجدالِ أو الجلاد تُبرِّزُ في اضطلاع واطلاع ... وتَبْرُزُ في انتقادٍ واتِّقاد وكم لك في الفصاحة من أَيادٍ ... مَلَكْت بها الفخار على الإيادي ومنها: مِنَ الشعراء قلبي منك أضحى ... يهيمُ صبابةً في كل واد تَخِذْتُكَ من صَقَلِّيَةٍ خليلاً ... فكنتَ الوَرْدَ يُقْطَفُ من قَتَاد وَشِمْتُكَ بين أَهليها صَفِيّاً ... فكنت الجمرَ يُقْبَسُ من زِناد فإن وَسِعَتْكَ حيزومٌ وإلاّ ... فما ضاقت حيازيمُ البلاد فديتك كلنا فيها غريبٌ ... وذا نسَبٌ يضاف إلى الوداد مُرَادي أن أراك ولست أشدو ... عذيرَكَ من خليلِكَ من مُرَاد ومنها: وإني عنك بعد غدٍ لغَادٍ ... وقلبي عن فِنائكَ غيرُ غاد فأبعدُ بعدنا بُعْدُ التداني ... وأقربُ قربنا قربُ البعاد وذكر غير هذا مما كتبه والجواب عنه. ابن المنجم نشو الدولة علي بن مفرج المنجم سمعت القاضي أبا القاسم حمزة بن عثمان سنة إحدى وسبعين بدمشق، وقد وفد إليها بمهمة، يقول: بمصر شاب مبرز في الشعر مجيد وقد وخطه الشيب، وانتفى عن أدبه العيب، وله بديهة مليحة، وفكرة صحيحة، وذكاء وقريحة، وإنما أفسد حاله أنه ضمن الصابون والملاهي، وارتكب في عسف الناس المناهي، فاستغاثوا منه واستعدوا عليه، وامتدت ألسنتهم فيه، فعذب بالنفي إلى عيذاب، وهذب بها الأهداب، ثم وصل إلى الشام في خدمة الملك المعظم تورانشاه ابن أيوب من اليمن فلقيته، واستنشدته من شعره فأنشدني كثيراً منه، وعرفني أن القصيدة العينية التي كتب بها شمس الدولة من تيماء منصرفه من اليمن إلى أخيه الملك الناصر بدمشق هي له. وتسايرنا في طريق مصر فأنشدني لنفسه من قصيدتين بيتين في الخضاب، وهما: وما خضب الناسُ البياض لقبحهِ ... فأقبحُ منه حين يظهر ناصِلُهْ ولكنما مات الشبابُ فسُخِّمَتْ ... على الرسم من حُزْنٍ عليه مَنازِلُهْ وأما العينية التي كتبها عن شمس الدولة إلى أخيه فهي: ولما تمادتْ مُدَّةُ البين بيننا ... ونازعني قلبٌ إلى الشام نازعُ ركبت اشتياقاً مُوضِعاً حين شاقني ... هوى ساكنيها لم تَسَعْني المواضع فهل لأخي بل مالكي علم أنني ... إليه وإن طالَ التردُّدُ راجع وإني بيومٍ واحدٍ من لقائه ... لمُلْكي على عُظم البريَّةِ بائع ركبتُ إليه الليلَ وهْو غياهبٌ ... وجُبْتُ إليه الأرضَ وهْيَ بلاقع ولبَّيته لما دعاني مسارعاً ... بنفسي ومالي والمشوقُ مسراع فيا برقُ طالِعْهُ بأنِّيَ واصلٌ ... إليه ونجمُ القُرْبِ بالوصلِ طالع ولم يبقَ إلاّ دون عشرين ليلةً ... وتَجْنِي المُنَى أبصارُنا والمسامع لدى مَلِكٍ تعنو الملوكُ لبأسِهِ ... وتخشعُ إعظاماً له وهْو خاشع ومنها: وتضطربُ الدنيا لبثِّ جنوده ... سوى ما حواهُ مُلْكُه فَهْو وَادِعُ الفقيه البليغ أبو عمران موسى بن علي السخاوي من الأعمال الغربية بمصر، وسكنه الإسكندرية. ذكره لي الأمير عز الدين محمد بن مصال في سنة سبعين وأثنى على فضائله وقرظها، وأنشدني من أشعاره التي حفظها، وذكر أنه الآن شاعر تلك المدرة، وبسماع قلائده جلاء الأفهام الصدئة وصفاء القرائح الكدرة. فمن قصيدة له قوله: هذي ديارهمُ وتلك نوارُ ... نأت النوى وتدانت الأوطارُ فأَرِحْ متونَ العيسِ من دَوِّيَّةٍ ... تسري الرياحُ بأرضها فتحار يتجشَّم المشتاقُ شمَّ ترابها ... ويضلُّ فيها الكوكبُ السَّيار ومنها: ولرب موحشةٍ قطعتُ ومؤنسي ... طِرْفٌ أَغَرّ وكوكبٌ غَرَّار وذكر بعد ذلك ليلة، ووصفها إلى أن قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 672 حتى استجاشَ على نَجَاشيِّ الدُّجى ... من قيصريِّ السُّدْفَةِ الإِسْفَارُ وأتى بزي الترك يَرْفُلُ في قَبَا ... والشهبُ حول جيوبه أَزْرَارُ ومنها: هذا هو الخبرُ اليقينُ فإن تُرِدْ ... عِلْماً فعند جُهَيْنَةَ الأَخبارُ وكان الممدوح قد أوقع بعرب الصعيد ومن جملتهم جهينة. ولما وصلت إلى القاهرة سنة اثنتين وسبعين دخلت إلى القاضي الفاضل يوماً وعنده للبليغ السخاوي قصيدة قد مدحه بها في جمادى الأولى وهي جامعة للإحسان فتأملتها، وهي: أَغْضَى وأَذْعَنَ حين عَنَّ الرَّبْرَبُ ... حتى تَصَيَّدَهُ الغزالُ الأَشْنَبُ فطوى حشاه على جَوَى جَمْرِ الغَضَا ... مما جنى من جمرةٍ تتلهَّبُ وصَبَا فأشْرَاه الغرامُ وذاده ... عن وِرْدِه وهو الهزبرُ الأَغْلَبُ وصبتْ إِليه من الصبابة لوعةٌ ... تُغْرِي بكلِّ مُحَرَّبٍ لا يُغْلَبُ وهي التي ما زال يجنى حُلْوَهَا ... من مُرِّها فعذابُها مُسْتَعْذَبُ ويمدها من كل أَحْوَى أَحْوَرٍ ... ما منه يرتاع الكميُّ المُحْرَبُ إِني على أَنِّي الأبيُّ فؤادُهُ ... فالرعبُ مما ليس منه يَقْرُبُ أدنو وأشجع إذ دَنَتْ أُسْدُ الشرى ... وتعنُّ لي العِينُ الحسان فأَرْهَب وأَميلُ من خجل إِلى وجلٍ به ... أُضْنَى فذا يكسو وهذا يَسْلُبُ وأهابُ من أهوى فأستجدِي كما ... اسْتَجْدَى لفضلِ الفاضلِ المُسْتَصْعِبُ المستبدُّ بكل فضلٍ فضلُهُ ... فجنابه المأمولُ أخضرُ مُخْصِبُ والمسترقُّ حرائرَ الشِّيَمِ التي ... أبداً تُصَانُ عن الأَنام وتُحْجَبُ مُتَحَسَّدٌ من لفظهِ وبلاغةٍ ... طَفِقَتْ بأبكار المعاني تَثْعَبُ كالنارِ إلا أنها لا تنطفي ... والبحر إلا أنه لا يَنْضَبُ وعليه من نورِ السكينةِ حُلَّةٌ ... وَثِقَ الزمانُ بأَنَّها لا تُسْلَبُ يَسِمُ اليراعة بالبراعةِ وَسْمَةً ... عند الخطوب وحين يُعْرِرُ يُغْرِبُ ويقولُ إلا أنه القولُ الذي ... أَعيا وأعجزَ فَهْوَ لا يُتَعَقَّبُ أَضحى على سحبانَ يسحَبُ ذيلَهُ ... تيهاً وعن إعراب يَعْرُبَ يُعرِبُ وحسامهُ القلمُ الذي لم يُمْضِهِ ... إلا وذلَّ له الحسام المِقْضَب عارٍ وليس بمُحْرِمٍ، ومُنَطَّقٌ ... تلقاه وَهْو أصمُّ أبكمُ يَخطُبُ يَقْرِي بريقته المنايا والمنى ... أبداً ويُرْضِي إذ يُهَزُّ ويُغْضِبُ كالحية النضناضِ إلا أنه ... يَسْعَى فيُرْجَى حيث كانَ ويُرْهَب وتراه يصمتُ حين يُرجى راجلاً ... أيداً وينطق راكباً إذ يَشْرَبُ ويظلُّ ينظرُ من ظلامٍ في ضُحىً ... فكأنما لحظُ النهار الغيْهَبُ واشٍ بمكنون الضمير وعلمُهُ ... عنه وعن فِطَنِ الأنام مُغَيَّبُ فإذا وَشَى وشَّى المهارقَ أحرفاً ... هن الرياض أصابهن الصَّيِّب ومنها: وإِذا الكرام الكاتبون تصفحُّوا ... صفحاتهِ كُتِبَتْ رَضُوا ما يكْتُبُ وتشرَّفَ الخطُّ الأَصيلُ بأنَّهُ ... يُعْزَى إِلى عبد الرحيم ويُنْسَبُ فلذاك سالَمَهُ الزمانُ ولم يكن ... إلا على أحكامه يتقلَّبُ وتقاصرت هممُ الرجالِ عن الذي ... لم يرضَ مركبَه وعما يَرْكَبُ وعَنَتْ له الدنيا ودانت وهْيَ إذْ ... مَلأَتْ يَدَيْهِ بعضُ ما يَسْتَوْجِبُ وذكرها جميعها وهي طويلة. قال: وسمعت الملك الناصر يثني على بلاغته، وبديهته في براعته، وأنه سمي بليغاً لنثره الذي هو أحسن من شعره. وتوفي فجأة وجد ميتاً في فراشه في منزله في ذي الحجة سنة اثنتين وسبعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 673 الصالح أبو الغارات طلائع بن رزيك سلطان مصر في زمان الفائز وأول زمان العاضد. ملك مصر، واستولى على صاحب القصر، ونفق في زمانه النظم والنثر، واسترق بإحسانه الحمد والشكر وقرب الفضلاء، واتخذهم لنفسه جلساء، ورحل إليه ذوو الرجاء، وأفاض على الداني والقاصي بالعطاء. وله قصائد كثيرة مستحسنة أنفذها إلى الشام، يذكر فيها قيامه بنصر الإسلام. وما يصدق أحدٌ أن ذلك شعره لجودته، وإحكام مباني حكمته، وأقسام معاني بلاغته، فيقال إن المهذب بن الزبير كان ينظم له وإن الجليس بن الحباب كان يعينه؛ وله ديوان كبير، وإحسان كثير. ملك سنة تسع وأربعين، وفتك به في دهليز القصر في سنة ست وخمسين وخمسمائة بالقاهرة؛ وانكسفت شمس الفضائل الزاهرة، ورخص سعر الشعر، وانخفض علم العلم، وضاق فضاء الفضل، واتسع جاه الجهل، وانحل نظام أهل النظم، وانتثر عقد ذوي النثر، واستشعر الفاقة الشعراء، وعدم البلغة البلغاء، وعد الفضل فضولا، والعقل عقولا. وظل الفحل القارح من قريحة الحباب مقروحاً مجنوباً، وطلب المهذب مذهباً في الذهاب محبوباًن ومركباً في النجاة مجنوبا، وأضل الرشيد طريق رشده فاحترق بشرار شر شاور من بعده، وعاد ابن الصياد إلى حرفة أبيه، ونبا المقام بالنبيل النبيه، وعجل ابن رواحة الرواح، حين تأمل دفتر تأميله فلاح أن لا فلاح. وعضل المهذب بالشام أخت الكافية الكافية لما عدم كفؤها الأيد، وحص الحصكفي الكفي عدة قصائد فلم يسقها من قريته لقطر مصر البعد، وطفق فضلاء الحضرة يغيبون لحضور الناقصين، وكرب أدباء تلك المدرة يذوبون لجمود الغامضين الغامصين، وعاد السر شورى، والعيد عاشورا، والسخف منشورا، والعسف مأثورا، والقريض مقروضا، ويد الرفض مقبوضة، وعين الحمد مغضوضة، وعم رزء ابن رزيك، وملك صرف الدهر ذلك المليك، فلم تزل مصر بعده منحوسة الحظ منسوخة الجد، منكوسة الراية، معكوسة الآية، إلى أن ملكها يوسف الثاني، وجعلها مغاني المعاني، وأنشر رميمها، وعطر نسيمها، وأرج رياها، وبلج محياها، وأعلى سناها، وأحلى جناها، وأعاد ماءها، وأباد أعداءها، وافترع عذرتها، وفرع ذروتها، ونفى سودها، وعفى أسودها، وخلص فتوحها، ولخص شروحها، وتسلم قصرها، والتزم خصرها. فليفتح الصالح عينه ليعاين ملك الصلاح، ناهضاً بجناح النجاح، خافقاً في الخافقين بقوادم الإقدام، طائراً من قدام بأسه بخوافي الخوف قلب الباسل الهمام. قال: جرى لي جود الخاطر في جودا البيان، ومضمار هذا الميدان، وأخرجني من شرط الكتاب، إلى بسط هذا الباب، فلنقطع أطناب الإطناب، ولنورد ما نلقطه من الأشعار المنسوبة إليه، فمن جيده القصيدة الطائية التي كتبها إلى الأمير مؤيد الدولة في جواب قصيدة طائية كتبها إليه، ومطلعها في غاية الحسن، وهي قوله: هي البدرُ لكنَّ الثريا لها قُرْطُ ... ومن أَنجُمِ الجوزاءِ في نَحْرِها سِمْطُ مشتْ وعليها للغمامِ ظلائلٌ ... تُظِلُّ ومن نَسْجِ الربيع لها بُسْط تؤم صريعاً في الرجال كأنه ... من السقم، والأيدي تقلِّبُهُ، خَطُّ فما اخضرَّ ثوبُ الأرض إلا لأنها ... عليه إذا زارت بأقدامها تخطو ولا طابَ نشرُ الأرض إلا لأنه ... يُجَرُّ عليه من جلابيبها مِرْط ولا طار ذكر الظَّبْيِ إلا وقد غدا ... يصدُّ كما صَدَّتْ ويَعْطو كما تعطو من البيضِ مثلُ الصبح ما للظلام في ... محاسنها لولا ذوائبها قِسْط إلى العَرَبِ الأَمحاض يُعْزَى قبيلها ... وقد ضمها في الحسْنِ مَعْ يوسفٍ سِمْطُ ولما غدت كالعاج زُيِّنَ صَدْرُها ... بحُقَّيْنِ منها قد أَجادهما الخَرْط وأُرْسِلَ فوق الخدِّ صُدْغٌ مُكلَّلٌ ... كما أُرْسِلَتْ في الروض حَيَّاتُهُ الرُّقْطُ ذوائبُ زان الخصرَ منهنَّ فاحمٌ ... تحدَّرَ لا جعدُ النَّباتِ ولا سَبْط ومنها وهي طويلة: وظلماءَ للشهب الدراري إذا سَرَتْ ... هناك مع السارين في جُنْحها خَبْطُ كما أوَّلُ الفجرين سَقْطٌ يُسَلُّ مِن ... حشاها كذاك البرق في جوّها سَقْط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 674 سللنا بها البيضَ السيوفَ فلاح في ... شباب الدجى لما بدا لَمْعُها وَخْطُ سيوفٌ لها في كل دِرْعٍ وجُنَّةٍ ... إذا ما اعتلت قدٌّ أو اعترضت قَطُّ ومنها: وحربٌ لها الأرواح زاهقةٌ لِمَا ... تُعايِنُ والأصوات من دَهَشٍ لَغْطُ إِذا أرسلت فرعاً من النقع فاحماً ... أثيثاً فأسنانُ الرماح لها مُشْط كأن القنا فيها أَناملُ حاسب ... أَجدَّ بها في السرعة الجمعُ واللقْط ومنها في القطع وذكر القصيدة: على أَنها تشتط إن هي ساجلت ... أحبَّة قلبي إن تدانَوْا وإن شَطوا يشير إلى مطلع قصيدة مؤيد الدولة. ومن شعر الصالح في الغزل: ومهفهفٍ ثملِ القوام سَرَتْ إلى ... أعطافِهِ النَّشَواتُ من عينيهِ ماضي اللحاظِ كأنما سَلَّتْ يدي ... سيفاً غداةَ الروع من جفنيه الناسُ طوع يدي وأمري نافذٌ ... فيهمْ وقلبي الآن طوعُ يديه فاعجبْ لسلطان يَعُمُّ بعدله ... ويجورُ سلطانُ الغرام عليه قد قلتُ إذ كتَبَ العذارُ بخَدِّهِ ... في وَرْدِهِ أَلِفَيْهِ لا لاميه ما الشَّعْرُ لاح بعارضيه وإنما ... أصداغه نفَضَت على خدَّيْه والله لولا اسمُ الفرار وأَنّه ... مستقبحٌ لفررتُ منه إليه وقال في الزهد: خُضْ بحار الموتِ في النُّقْلةِ ... من دارِ الهوانِ وحملِ النفسَ من الصبر ... على حدِّ السنانِ واجتهد أَلاّ يراك الناس ... مبسوطَ البَنَانِ فعسى الرحمن يُغْني ... عن فلانٍ وفلانِ ونقلت من دَرْج بخط الصالح بن رزيك قصيدة له أعارنيه ابن أخته مما نظمه سنة خمس وخمسين، أولها: أبى الله إلا أن يكون مؤيّداً ... مدى الدهر منصورَ الديين على العِدَا وكم جاهلٍ قد زاده الحلمُ عزةً ... على غيره لما فَسَحْتُ له المَدَى فأوردته من راحتي موردَ الندى ... ولما أَسرَّ الغَدْرَ أوردتْهُ الرَّدَى وهاجَرَ فاستدرجتُه ودفعتُه ... بحلمي أَناةً وانتظاراً به غَدَا عسى هو أن يَصْحو من الجهل أَو يُرَى ... عليه الحسامُ المشرفيُّ مُعَرْبِدَا ومنها في وصف حسام: فعاجَلَهُ مستحكِمُ الرأيِ قد غَدَا ... لقَهْرِ الأعادي في الحروبِ مُؤَيَّدَا رميتُ به سهماً مصيباً وإنه ... لدى الحرب ما زال القويمَ مُسَدَّدَا هو الأَسَدُ الوَرْدُ الذي عاد سَبْقُهُ ... إِلينا من الضربِ الدراك الموردا فلا يغتررْ بي بعدها ذو جهالة ... فليثُ الشَّرى يُخْشَى وإِن كان مُلْبِدَا وأعارني درجاً فيه بخط الصالح قصيدة أخرى منها: توالت علينا في الكتائب والكُتْبِ ... بشائرُ من شرقِ البلاد ومن غَرْبِ بشائرُ تهدى للمُوَالي مَسَرَّةً ... وتُحْدِثُ للباغين رُعباً على رعب ففي كبدٍ من حرها النارُ تلتظى ... وفي كبد أحلى من البارد العذب ومنها: جعلنا جبالَ القدس فيها وقد جَرَتْ ... عليها عتاقُ الخيل كالنفنفِ السُّهْبِ فقد أصبحتْ أوعارُها وحُزُونها ... سهولاً تُوَطَّا للفوارس والركب ولما غدتْ لا ماءَ في جنباتها ... صببنا عليها وابلاً من دمٍ سَكْبِ وجادت بها سُحْبُ الدروعِ من العِدَا ... نَجِيعاً فأَغْنَتْهَا الغَداةَ عن السُّحْبِ وأَجْرَتْ بحاراً منه فوق جبالها ... ولكنْ بحارٌ ليس تَعْذُبُ للشرب فقد عمَّها خِصْبٌ به من رءوسهم ... بها ولكم خصْبٍ أَضَرّ من الجَدْبِ وقد روَّعَتْها خيلنا قبل هذه ... مراراً وكانت قبلُ آمِنَةَ السِّرْبِ وأخفى صهيلُ الخيل أَصواتَ أهلها ... فعاقَتْ نواقيسَ الفرنج عن الضَّرْبِ ومنها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 675 وأبطالِ حربٍ من كُتَامة دَوَّخُوا ... بلادَ الأعادي بالمسوَّمَةِ القُبِّ وعادوا إلينا بالرءوس على القنا ... وأغناهمُ كسبُ الثناءِ عن الكسب ومنها: وإِنا بنو رزِّيكَ ما زالَ جارُنَا ... يحُلُّ لدينا بالكرامة والخِصْبِ ونفتِكُ بالأموال في السَّلْمِ دائماً ... كما نحن بالأَعداءِ نفتك بالحرب وذكر عمارة اليمني قال دخلت عليه السادس عشر من شهر رمضان سنة ست وخمسين قبل موته بثلاثة أيام بعد قيامه من السماط فدخل وخرج وفي يده قرطاس قد كتب فيه بيتين من شعره قد عملهما في تلك الساعة: نحن في غفلةٍ ونومٍ وللموْ ... تِ عيونٌ يقظانةٌ لا تنامُ قد رحلنا إلى الحِمَامِ سِنيناً ... ليت شعري متى يكون الحِمَامُ قال عماة: ومن عجيب الاتفاق أنني أنشدت ولده في تلك الليلة قصيدة منها: أبوك الذي تسطو الليالي بحده ... وأَنْتَ يَمِينٌ إن سطا وشمالُ لرتبته العُظْمَى وإِنْ طالَ عمره ... إليكَ مصيرٌ واجبٌ ومآلُ تخالسك اللحظ المصون ودونها ... حجاب شريفٌ لا انْقَضَى وحِجَالُ فانتقل الملك إليه بعد ثلاثة أيام ومن شعر الصالح في مملوك له رآه يوم العيد، في السلاح لابس الحديد: لبس الحديدَ فزاد في إِعجابِهِ ... بدرٌ تَظَلُّ الشمس من حُجَّابهِ لا مطمعٌ في أَنْ يرقَّ وقلبُهُ ... أَقسى على العُشَّاق من جلبابه قد كان يُغْنِيهِ سيوفُ لحاظه ... عن حمل صارمهِ ليوم ضِرَابه لو جاد لي فوق اللثام بقبلةٍ ... تشفي فؤادَ الصبِّ من أَوصابه رَوَّيْتُ ظامئةَ الرماحِ من العِدَا ... وضَنيِتُ من ظمإٍ لبَرْدِ شَرَابهِ وقال: عاذلي عذلُكَ سهمٌ في الحَشَا ... كيف كتماني وسرِّي قد فَشَا صار ما بي من غرام كامنٍ ... ظاهراً ينقله واشٍ وَشَى من رأى قبليَ يا رِيمَ الفَلاَ ... أسداً يقْنِصُهُ لحظُ رَشَا ومنها: وجهُكَ الرَّوْضة آتَتْ نَرْجِساً ... وجَنيُّ الوَرْدِ فيها فُرِشَا خفتَ أن يُجْنَى فَوَكَّلْتَ بها ... عَقْرَباً طوراً وطوراً حَنَشَا وقال: أَلا إن أَشواقي بقلبي برَّحَتْ ... فأصبحتُ في بحرٍ بعيدٍ من الشاطي قَلِقْتُ وقد جدَّ الفراق لبُعْدِكُمْ ... كأَني على جمرِ الغَضَا بَعْدَكمْ واطي ولا غروَ فيكم أن أُقِضَّتْ مضاجعي ... وقد بانَ في حُبِّي لكمْ وجهُ إِفْرَاطي وقال: وفاتر الطرف في الخدِّ الأَسيلِ له ... وردٌ جَنِيٌّ حَمتْهُ أَسْهُمُ المُقَلِ نَهْبْتُهُ بفَمِي لَثماً وقد غَلَلَتْ ... عينُ الرقيب وكلَّتْ أَلْسُنُ العَذَل وخاف أَنْ يفطنَ الواشي بنا وبه ... فعادَ يُخْلِفُ ما قد مَنَّ بالخجل إن مال عني فقد مال النعيمُ وإن ... يَمِلْ إليَّ أَجِدْه غايةَ الأمل هابتْ سطَايَ ليوثُ الغاب غاديةً ... ورحت من لحظاتِ الظَّبْيِ في وَجَلِ فرَّجْتُ ضَنْكَ الوغى في كلِّ معركةٍ ... بحدِّ سيفي وضاقَتْ في الهوى حِيَلي وقال: ظبي يُحَيِّرُ في الملاحةِ كلما ... كرَّرْتُ طرفي في بديعِ فنونهِ أَشكو إليه صبابتي فيجيبني ... وِرْدٌ يُبَرِّدُ لوعتي بمَعِينهِ قسماً به وبوردةٍ في خده ... وتمامِ قامته وسحر جفونه لو أن ركباً في الفلاة تحيروا ... لسَرَوْا بضوءٍ من هلالِ جبينه وأنشدني زين الدين بن نجا الواعظ الدمشقي له في غلام سابق على حصان أخضر أشقر: ولما حضرنا للسباق تبادرتْ ... خيولٌ ومن أَهواه أُقْدَمُهَا سَبْقَا على أشقرٍ شبهِ اللهيبِ توقداً ... ولوناً فقلنا البدرُ قد رَكِبَ البَرْقَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 676 وأنشدني زين الدولة الحسين بن الوزير أبي الكرام قال: كتب الصالح ابن رزيك إلى والدي بعد عوده من مصر إلى الشام سنة إحدى وخمسين: أَحبابَ قلبيَ إن شطَّ المزارُ بكمْ ... فأنكم في صميم القلب سكَّانُ وإِن رجعتمْ إِلى الأوطانِ إنَّ لكمْ ... صدورَنا عِوَضَ الأَوطانِ أَوطانُ جاورتمُ غيرنا لما نأتْ بكمُ ... دارٌ وأنتم لنا بالودِّ جيران وكيف ننساكمُ يوماً لبعدكمُ ... عنا وشخصكمُ للعين إنسان وأنشدني له: وإذا تشبُّ النارُ بين أَضالعي ... قابلتُها من أَدمعي بسيول فأنا الغريقُ بل الحريقُ أموت في ... هذا وذا كذبالة القنديل وكان قد ذكر عنده بيتاً من نظم عوام بغداد من كان وكان وهو: النارْ بين ضلوعي ... وأنا غريقْ مدامعي كأني فتيلة قنديلْ ... أَموتْ حريقْ غريق فأنشد ابن الحباب أبو المعالي الجليس في المعنى: هل عاذرٌ إن رمتُ خلعَ عذاري ... في شمِّ سالفةٍ وفثم عِذار تتآلفُ الأضدادُ فيه ولم تزلْ ... في سالفِ الأيام ذاتَ نِفَارِ فله من الزفرات لفحُ صواعقٍ ... تُرْدي وبالعبرات سحُّ بحار كذبالة القنديل قُدِّرَ هُلْكُهَا ... ما بين ماءٍ في الزجاج ونار فقال المهذب بن الزبير في المعنى: كأَني وقد فاضتْ سيولُ مدامعي ... فَشَبَّتْ حريقاً في الحَشا والترائب ذبالةُ قنديلٍ تعومُ بمائها ... وتُشْعَل فيها النارُ من كل جانب وحدثني أبو الذكاء البعلبكي، وكان رسولاً بمصر، قال: لما جلس الصالح بن رزيك في دست الوزارة نظم هذه الأبيات: انْظُرْ إلى ذي الدار كمْ ... قد حلَّ ساحَتَها وزيرُ ولكمْ تبخترَ آمناً ... وَسْطَ الصفوفِ بها أَميرُ ذهبوا فلا والله ما ... بقيَ الصغيرُ ولا الكبيرُ ولمثلِ ما صاروا إليه ... من الفناءِ غداً نصيرُ قال زين الدين الواعظ: عمل فارس المسلمين أخو الصالح له دعوةً في شعبان من السنة التي قتل فيها فعمل هذه الأبيات وسلمها إلي: أنست بكمْ دهراً فلما ظَعَنْتُمُ ... استَقَرَّتْ بقلبي وَحْشَةٌ للتفرق وقال: وأَعجبُ شيءٍ أَنني يومَ بينكمْ ... بقيتُ وقلبي بين جَنْبَيَّ ما بقي أَرى البعدَ ما بيني وبين أحبتي ... كبُعْدِ المدى ما بين غربٍ ومَشْرِقِ أَلا جَدِّدي يا نفسُ وجداً وحسرةً ... فهذا فراقٌ بعْدَهُ ليس نلتقي قال: فلم يبق بعدها لهم اجتماعٌ في مسرة، وقتل في شهر رمضان. قال: ومما نظمه: يا دهرُ حَسْبُكَ ما فعلتَ بنا ... أَتُرَاكَ تَطْلُبُ عندنا إِحَنَا كم نَتَّقِيك بكل سابغةٍ ... وسهامُ كيدك تخرق الجُننا ما تنفعُ الدرع الحصينةُ مَنْ ... عَمَّا قليل يَلْبَسُ الكفنا كلا ولا الأيام تَقْبَلُ عن ... أَرواحنا رَشْواً ولا ثمنَا لو بالثُّرَيَّا حلَّ مُعْتَصِمٌ ... منها لكانَ له الثَّرَى وَطَنا ولقد يهوِّنُ ما أصابكمُ ... فقدُ الحسينِ الطهرِ والحَسَنَا وبَينهمُ إذ طوَّحَتْ بهمُ ... أيدي زمانهمُ هُنا وهُنا وأرى الأئمةَ جار دهرهمُ ... في فعله بهمُ فكيف أنا لي أسوةٌ بهمُ الغداةَ إِذا ... أصبحتُ في الأَجداثِ مُرْتَهَنا وقال: يا راكباً ظَهْرَ المعاصي ... أَوَمَا تخافُ من القصاصِ أَوَمَا ترى أسباب عمرك ... في انتقاضٍ وانتقاصِ وقال: يا نائماً في هذه الدنيا ... أما آن انتباهُكْ المالُ لا يُغْنيك في ال ... أخرى ولا يُنْجِيكَ جاهُكْ وقال: مشيبُكَ قد نَضَا صبغَ الشبابِ ... وحلَّ البازُ في وَكْرِ الغُرَابِ تنامُ ومقلة الحدثانِ يَقْظَى ... وما نابُ النوائبِ عنك نابِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 677 وكيف بقاءُ عمرك وهْوَ كنزٌ ... وقد أنفقتَ منه بلا حساب وقال: أيا دهرُ أًينَ الملوكُ الذين كانوا ... فأَضْحَوْا كأَنْ لمْ يكونوا وكانت قصورهمُ لا ترامُ ... فتلك قبورهمُ لا تَبينُ وقال: أيها المغرورُ لا تَغْتَرْ ... فمرعاكَ خبيثُ سائقُ الموت وإن طا ... ل بنا العمرُ حثيثُ إنَّ من جادت على ... الخلق بجدواه غيوثُ وأولو المجد القديم ... العهد منهم والحديثُ أصبحَ اليوم حديثاً ... وغداً نحن حديثُ الأمير أبو المهند حسام بن مبارك بن فضة العقلي لم يكن في مصر أفخم منه شأناً، وأعظم سلطاناً، أيام سلطنة ابن رزيك وهو ابن أخت الصالح، كان مقدم عسكره، في مورده ومصدره، وحسامه الفاصل. من شعره أبيات عاتب بها خاله: أُجِلُّكَ أَنْ يُلِمَّ بك العِتَابُ ... وأن يَخْفَى وحاشاكَ الصَّوَابُ ومنها: وإنّي في يَمينِكَ حين تَسْطُو ... حُسَامٌ لا يُفَلِّلُهُ الضِّرَابُ وكمْ أرْسَلْتَني سَهْماً مُصِيباً ... فأَحْرَقَ ضِدَّكم منّي شهابُ أبو القاسم هبة الله بن عبد الله بن كامل كان داعي الدعاة بمصر للأدعياء، وقاضي القضاة لأولئك الأشقياء، يلقبونه بفخر الأمناء، وهو عندهم في المحلة العلياء، والمرتبة الشماء، والمنزلة التي في السماء، حتى انكدرت نجومهم، وتغيرت رسومهم، وأقيم قاعدهم، وعضد عاضدهم، وأخليت منهم مصرهم، وأجلي عنهم قصرهم، فحرك ابن كامل ناقص الذب عنهم والشد منهم، فأمال قوماً على البيعة لبعض أولاد العاضد، ليبلغوا به ما تخيلوه من المقاصد، وسولوه من المكايد، فأثمرت بجثثهم الجذوع، وأقفرت من جسومهم الربوع، وأحكمت في لحومهم النسوع. وهذا أول من ضمه حبل الصلب، وأمه فاقرة الصلب، وهذا صنع الله فيمن ألحد، وكفر النعمة وجحد، وذلك غرة رمضان سنة تسع وستين وخمسمائة. سمعت الملك الناصر صلاح الدين يذكره وقد ذكروه عنده بالفضل والأدب ونسبوا إليه هذين البيتين في غلام رفاء وأنشدهما الملك الناصر وذكر أنه كان ينكرهما: يا رافياً خَرْقَ كلِّ ثَوْبٍ ... ويا رَشاً حُبُّهُ اعتِقَادي عَسَى بكفِّ الوصال تَرْفُو ... ما مَزَّقَ الهَجْرُ من فؤادي الوجيه ابن الذروي أبو الحسن علي بن يحيى شاب نشأ في هذا الزمان، موصوف بالإجادة والإحسان، له في أحدب: يا أخي كيف غَيَّرَتْكَ الليالي ... وأحالتْ ما بيننا بالمِحَال حاشَ لله أن أُصَافي خليلاً ... فيرانيْ في ودِّه ذا اختلال زعموا أنني أتيتُ بهجوٍ ... معرب فيك عن شَنيعِ المقال كذبوا إنما وصَفْتُ الذي فيك ... من النُّبْلِ والسَّنَا والكمالِ لا تظنَّنَّ حَدْبَةَ الظهر عَيْباً ... فَهْي للحسْنِ من صفات الهلال وكذاك القسيُّ مُحْدَوْدِبَاتٌ ... وهْيَ أنكى من الظُّبَا والعوالي ودناني القُضاةِ وهْيَ كما تَعْلَمُ ... كانتْ موسومةً بالجمال وأَرَى الإِنحناءَ في مَنْسِر الكا ... سر يُلْفَي ومِخْلَبِ الرِّنبالِ وأبو الغُصْنِ أنت لا شك فيه ... وهْوَ رب القوام والإعتدال كَوَّنَ الله حَدْبَةً فيك إن شئ ... تَ مِنَ الفضل أو من الإفضالِ فَأَتَتْ ربوة على طود حلمٍ ... منك أو موجة ببحر نوالِ ما رأتْها النساءُ إلا تمنَّتْ ... لو غَدَتْ حِلْيَةً لكل الرجالِ وإذا لم يكن من الهجر بُدٌّ ... فعسى أن تزورني في الخيالِ وهذه الأبيات لم يقل مثلها في أحدب وهي في ابن أبي حصينة الذي أصله من المعرة. وله في المهذب جعفر المعروف بشلعلع: لا تَصْحَبَنَّ سوى المهذَّب جَعْفَرٍ ... فالشيخُ في كل الأمور مُهَذَّبُ طَوْرَا يُغَنِّي بالرَّبَاب وتارةً ... تأتي على يده الرَّبَابُ وزينبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 678 القاضي الجليس أبو المعالي عبد العزيز بن الحسين ابن الحباب الأغلبي السعدي النميمي جليس صاحب مصر، فضله مشهور، وشعره مأثور، وقد كان أوحد عصره في مصره نظماً ونثراً، وترسلاً وشعراً، ومات بها في سنة إحدى وستين، وقد أناف على السبعين. ومن شعره: لا تعجبي من صَدِّهِ ونفارِه ... لولا المشيبُ لكنت من زُوّارِهِ لم تترك الستون إذ نزلتْ به ... من عهد صبوتهِ سوى تذكارِه وله: حَيَّى بتفاحةٍ مخضَّبةٍ ... من فَفَّني حبُّهُ وتَيَّمَني فقلتُ ما إن رأيتُ مشبهها ... فاحمرَّ من خجلة فكذَّبني ومن شعره: وسما يكفُّ الحافظُ ... الْمنصورُ عنا المَحْلَ كَفَّا آواهمُ كرماً وصا ... نَ حريمهمْ فعفَا وعَفَّا وأنشدني له الأمير نجم الدين بن مصال من قصيدة يقول فيها: ومن عجبٍ أن السيوف لديهمُ ... تحيضٌ دماءً والسيوفُ ذكورُ وأعجب من ذا أنها في أكفهمْ ... تأجَّجُ ناراً والأكفُّ بحور وأنشدني له الشريف إدريس الإدريسي قصيدة سيرها إلى الصالح بن رزيك قبل وزارته يحرضه على إدراك ثأر الظافر، وكان عباس وزيرهم قتله وقتل أخويه يوسف وجبريل، يقول فيها: فأين بنو رزيك عنها ونصرهم ... وما لهمُ من منعة وزياد فلو عاينتْ عيناك بالقصر يومهمْ ... ومصرعهمْ لم تَكْتَحِلْ برُقَادِ تداركْ من الإيمان قبلَ دُثُورِه ... حُشَاشَةَ نَفْسٍ آذنت بنَفَاد فمزِّقْ جموعَ المارقين فإنها ... بَقَايا زُرُوعٍ آذنت بحصَادِ وله فيه من أخرى في هذه الحادثة: ولما ترامى البربريُّ بجهلهِ ... إلى فتكةٍ ما رامَها قَطُّ رائمُ ركبْتَ إليه مَتْنَ عزمتك التي ... بأمثالها تلقَى الخطوبُ العظائم وقُدْتَ له الجُرْدَ الخِفَافَ كأنما ... قوائمُها عند الطِّرَادِ قَوادِم وتنصُلُ منها والعَجاجُ خضابُها ... هواد لأركان البلادِ هَوادِمُ تجافتْ عن الماء القَرَاحِ فريُّها ... دماءُ العِدَا فهي الصواديْ الصوادم وقمتَ بحقِّ الطالبيِّينَ طالباً ... وغيرُكَ يُغْضِي دونه ويُسالِمُ أَعدت إليهمْ مُلْكَهُم بعد ما لوى ... به غاصبٌ حقَّ الأمانةِ ظالِمُ فما غالبٌ إلا بنصرك غالبٌ ... وما هاشمٌ إلا بسيفك هاشم فأدْرِكْ بثأرِ الدِّين منه ولم تزلْ ... عن الحقِّ بالبيضِ الرِّقاقِ تُخَاصِمُ وأنشدني الأمير العضد مرهفٌ للجليس يخاطب الرشيد بن الزبير في معنى نكبة خاله الموفق: تسمَّعْ مقاليَ يا ابن الرشيدِ ... فأنت حقيقٌ بأن تَسْمَعَه بُلينا بذي نَشَبٍ سائلٍ ... قليلِ الجَدَا في أَوانِ الدعَه إذا ناله الخيرُ لم نَرْجُه ... وإن صفعوه صُفِعْنا معه وأنشدني بعض فضلاء مصر لابن الحباب: سيوفُكَ لا يُفَلُّ لها غِرارُ ... فنومُ المارقين بها غِرارُ يُجَرِّدُها إذا أُحْرِجْتَ سُخْطٌ ... على قومٍ ويُغْمِدُها اغتفار طَرِيدُكَ لا يفوتُكَ منه ثارٌ ... وخصمك لا يُقالُ له عِثار وفيما نلتَه من كلِّ باغٍ ... لمن ناواك لو عَقَلَ اعتبار فمرْ يا صالحَ الأملاكِ فينا ... بما تختارُه، فلَكَ الخيارُ فقد شَفَعَتْ إلى ما تَبْتَغيهِ ... لك الأقدارُ والفَلَكُ المُدَار ولو نوتِ النجومُ له خِلافاً ... هَوَتْ في الجو يذروها انتثارُ ومنها: عدلتَ وقد قَسَمْتَ وكم ملوكٍ ... أرادوا العدلَ في قَسْمٍ فجاروا ففي يدِ جاحدِ الإحسانِ غُلٌّ ... وفي يد حامدِ النعْمى سِوَار لقد طَمَحَتْ بطرخانٍ أمانٍ ... له ولمثله فيها بوار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 679 وحاول خطةً فيها شماسٌ ... على أمثاله وبها نِفار هل الحسبُ الفتيُّ بمستقلٍ ... إذا ما عزَّهُ الحسب النضار أتتك بحائنٍ قدماه سعياً ... كما يَسْعَى إلى الأَسدِ الحمار وشان قرينَه لما أتاه ... كما قد شان أَسرته قُدَارُ وأنشدني بمصر ولده القاضي الأشرف أبو البركات عبد القوي لوالده الجليس من قطعةٍ كتبها إلى ابن رزيك في مرضه يشكو طبيباً يقال له ابن السديد على سبيل المداعبة: وأَصْلُ بليتي من قد غزاني ... من السقم المُلِحِّ بعَسْكَرَيْنِ طبيب طِبُّهُ كغرابِ بين ... يفرِّقُ بين عافيتي وبيني أَتى الحمى وقد شاخَتْ وباخَتْ ... فردَّ لها الشباب بنسختين ودبرَها بتدبيرٍ لطيفٍ ... حكاهُ عن سنانٍ أو حُنين وكانت نوبةً في كلِّ يومٍ ... فصيَّرها بحِذْقٍ نوبَتين وأنشدني أيضاً لوالده في مدح طبيب: يا وارثاً عن أَبٍ وجَدٍ ... فضيلةَ الطبِّ والسدادِ وكاملاً ردَّ كلَّ نفسٍ ... هَمَّتْ عن الجسم بالبعاد أُقسمُ أَنْ لو طببتَ دهراً ... لعادَ كوناً بلا فسادِ ورأيت من كلامه في خطبة ديوان الصالح بن رزيك: هو الوزير الكافي والوزير الكافل، والملك الذي تلقى بذكره الكتائب، وتهزم باسمه الجحافل، ومن جدد رسوم المملكة، وقد كاد يخفيها دثورها، وعاد به إليها ضياؤها ونورها: وقد خَفِيَتْ من قبله معجزاتُها ... فأَظهرها حتى أَقرَّ كَفُورُهَا أَعَدْتَ إلى جسمِ الوزارة روحَهُ ... وما كان يُرْجَى بعثُها ونُشُورُها أقامتْ زماناً عند غيرك طامثاً ... وهذا أوانُ قُرْئها وطَهُورها من العدلِ أَن يحيا بها مُسْتَحِقُّها ... ويخلعها مردودةً مُسْتَعيرها إذا خطبَ الحسناءَ من ليس أَهلَهَا ... أشارَ عليه بالطلاق مُشِيرُهَا فقد نشرت أيامه مطوي الهمم، وأنشرت رفات الجود والكرم، ونفقت بدولته سوق الآداب بعد ما كسدت، وهبت ريح الفضل بعد ما ركدت. إذا لها الملوك بالقيان والمعازف، كان لهوه بالعلوم والمعارف، وإن عمروا أوقاتهم بالخمر والقمر، كانت أوقاته معمورةً بالنهي والأمر: مليكٌ، إذَا أَلْهَى الملوكَ عن اللُّهَا ... خُمَارٌ، وخمرٌ، هاجَر الدَّلَّ والدَّنّا ولم تُنْسه الأوتادَ أَوتار قينةٍ ... إِذا ما دعاه السيفُ لم يَثْنِهِ المَثْنَى ولو جادَ بالدنيا وعادَ بضعفها ... لظنَّ من استصغاره أَنه ضَنَّا ولا عيبَ في إِنعامه غيرَ أنّهُ ... إذا مَنَّ لم يُتْبِعْ مواهِبَهُ مَنَّا ولا طعنَ في إقدامه غيرَ أنه ... لَبُوسٌ إلى حاجاته الضربَ والطَّعْنَا لا شك أن هذه الأبيات لغيره. ومن أبياته في الغزل: ربَّ بيضٍ سللن باللحظ بيضاً ... مرهفاتٍ جفونُهُنَّ الجفونُ وخدودٍ للدمعِ فيها خدودٌ ... وعيونٍ قد فاض منها عيونُ وله: تُرَى أَخْلَسَتْ فيه الفَلاَ بعضَ رَيَّاها ... ففاتَ فتيتَ المسكِ نشْرُ خُزَامَاها أَلَمَّتْ بنا والليلُ يُزْهَى بلمة ... دجوجيَّةٍ لم يكتحلْ بعدُ فَوْدَاها فأشرقَ ضوءُ الصبحِ وهْو جبينها ... وفاحتْ أزاهيرُ الرُّبا وهْيَ ريَّاها إذا ما اجتنتْ من وجهها العينُ روضةً ... سَفَحْتُ خلالَ الروض بالدمع أمواها وإني لأَستسقي السحابَ لربعها ... وإن لم تكن إلا ضلوعيَ مأْوَاها إذا استعرتْ نارُ الأسى بين أضلعي ... نضحتُ على حرِّ الحشا بردَ ذكراها وما بيَ أَنْ يَصْلَى الفؤادُ بحرِّهَا ... ويُضْرَمَ لولا أَنَّ في القلب مأواها وله في غلام تركي: ظبيٌ من الأَتراكِ أَجفانُهُ ... تسطو على الرامحِ والنابلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 680 سيان منه إنْ رَمَى أَو رَنَا ... ليس من السهمين من وائل يفرُّ منه القِرْنُ خوفاً كما ... يفرُّ ظبيُ القاعِ من حابلِ يا ويحَ أعدائك ما هالَهُمْ ... من غُصُنٍ فوقَ نقاً هائل لا تَفْرَقُوا صَوْلَةَ نُشَّابِهِ ... فربَّ سَهْمٍ ليس بالقاتل وحاذروا أًسْهُمَ أَجفانه ... فسحرُ ذا النابلِ من بابل وله في النرجس: وَفَدَ الربيعُ على العيونِ بنرجسٍ ... يحكي العيونَ فقد حباها نَفْسها علقَتْ على استحسانِه أبصارُنَا ... شغفاً إِذِ الأَشياءُ تعشقُ جنسها يلهِي ويُؤْنِسُ مَنْ جفاهُ خليلهُ ... كم مِنَّةٍ في أُنْسِهِ لم أَنْسَها فارضَ الرياض بزورةٍ تلهو بها ... واحْثُثْ على حَدَقِ الحدائقِ عَكْسَها وله: زارَ وجنح الليلِ مُحْلَوْلِكٌ ... داجٍ فحيَّاه مُحَيّاهُ مُلْتَثِماً يُبْدِيه لألآؤُهُ ... والبدرُ لا يكتمُ مَسْرَاهُ نمَّ عليه طِيبُ أَنْفَاسِهِ ... كما وَشَى بالمِسْكِ رَيَّاهُ وله: قد طُرِّزَتْ وَجَنَاتُهُ بعذارِهِ ... فكساه روضُ الْحُزْنِ من أَزْهَارِهِ وتآَلَّفَتْ أضداده فالماءُ في ... خَدَّيْهِ لا يُطْفِي تَلَهُّبَ نَارِهِ وحكيتُهُ فمدامعي تَهْمِي على ... نارِ الحَشَا وتزيد في استسعارِهِ ومنها: وإِذا بدا فالقلبُ مشغولٌ بهِ ... وإِذا انثنى فالطرفُ في آثاره متى أُعانُ على هواه بنَصْرَةٍ ... وجوانحي للحَيْنِ من أَنْصَارِه وله من قصيدة: وكم طامحِ الآمال همَّ فقصَّرَتْ ... خُطَاهُ به إن العلا صَعْبَةُ المَرْقَى وظنَّ بأن البُخْلَ أَبقى لوَفْرِهِ ... ولو أَنه يدري لكانَ النَّدَى أَبْقَى ظهرتَ فكنتَ الشمسَ جلَّى ضياؤُها ... حنادسَ شِرْكٍ كان قد طَبَّقَ الأفْقَا علوتَ كما تعلو، وأشرقتَ مثلما ... تضيءُ، ونرجو أَنْ ستبقى كما تبقى وهُنِّئَتِ الأَعيادُ منك بماجدٍ ... تباهتْ به العَلْيا، وهامتْ به عِشْقا مواسمُ قد جاءَتْ تباعاً كأنما ... ترى الفجرَ في لُقْيَاكَ يا خيرَ من يُلْقَى توالتْ بدارٍ تعتفيكَ كأَنَّما ... ترومُ لفرط الشوق أن تُحْرِزَ السبقا وكان لها الأَضحى إماماً أَمَامَها ... فأرهقه النوروزُ يَمْنَعُهُ الرفقا وكم همَّ أنْ يعدو مراراً فَرُعْتَهُ ... فأَبقى، ولولا فَرْقُ بأَسِكَ ما أبقى أَبى اللهُ في عصرٍ تكونُ عميدَهُ ... وسائسَهُ أن يسبق الباطلُ الحقَّا فجاءَك هذا سابقٌ جالَ بَعْدَهُ ... مُصَلٍ وكانا للذي تبتغي وفْقَا وأعقبه عيدُ الغديرِ فلم نَخَلْ ... لِقُرْبِ التداني أَنَّ بينهما فَرْقَا وقوله: خُذْهَا إِليكَ بماءِ الطبعِ قد شَرِقَتْ ... لو مازجَ البحرَ منها لفظة عَذُبَا جوَّالةٌ بنواحي الأَرضِ مُمْعِنَةٌ ... في السير لا تشتكي أَيْناً ولا نَصَبَا ألفاظُها الدُّر تحقيقاً ومن عَجَبٍ ... تُمْلِي على البحرِ درَّ البحر مُجْتَلَبَا وقوله من قصيدة أولها: دعِ البينَ تحدونا حثاثُ ركابه ... فغيريَ من يشجوه صوتُ غرابِهِ سأركبُ ظهرَ العزْمِ أو أَرْجِعَ المنى ... برجعةِ موفورِ الرجاءِ مُثَابِهِ فإمَّا حياةٌ يسحبُ المرءُ فوقَها ... ذيولَ الغنى والعزِّ بين صحابه وإِما مماتٌ في العُلا يتركُ الفتى ... يقالُ ألا للهِ درُّ مُصَابِه ومنها: وأروعَ يشكو الجودَ طولَ ثَوَائِهِ ... لديه، ويشكو المالُ طول اغترابِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 681 تَصُدُّ الملوكُ الصيدُ عن قصدِ أَرْضه ... فَيَرْجعُهَأ محروبةً بحرابه ويَعْطِفُهَا ميلَ الرِّقَابِ مهابةً ... ولم تكتحل أَجفانُهُ بترابهِ وأَغْزُو بأبكارِ القصائدِ وَفْرَهُ ... فأرجعُ قد فازتْ يَدِي بنِهَابِه وقوله: أما وجيادِك الجُرْدِ العَوَادي ... لقد شَقِيَتْ بِعَزْمَتِكَ الأَعادي رأَوا أَن الصعيدَ لهم ملاذٌ ... فلم يُحْمَ الصعيدُ من الصِّعَادِ ورامُوا من يَدَيْكَ قِرىً عتيداً ... فأَهْدَيْتَ الحُتوفَ على الهوادي وقوله وقد جمع ثمان تشبيهات في بيت واحد: بدا وأَرانا منظراً جامعاً لِمَا ... تفرَّقَ من حُسْنٍ على الخلق مُونِقا أَقاحاً وراحاً تحت وردٍ ونرجسٍ ... وليلاً وصُبْحاً فوق غصن على نَقَا وقوله يصف الخمر: معتقةٌ قد طالَ في الدنِّ حَبْسُهَا ... ولم يَدْعُهَا شُرَّابُها بنتَ عامها وقد أشبهتْ نارَ الخيلِ لأَنها ... حكتا لنا في بَرْدِها وسَلاَمِها وذكر ابن الزبير في كتابه أنه كتب إليه مع طيبٍ أهداه: بعثتُ عِشاءً إلى سيدي ... بما هو مِن خُلْقهِ مُقْتَبَسْ هديةَ كلِّ صحيحِ الإِخاءِ ... جرى منه وُدُّكَ مجرَى النَّفَس فَجُدْ بالقَبولِ وأَيقِنْ بأنَّ ... لفَرْطِ الحياء أتَتْ في الغَلَس وله يصف خيلاً: جنائبُ: إنْ قِيدَتْ فأُسْدٌ، وإن عَدَتْ ... بأبطالها فَهْيَ الصَّبَا والجَنَائبُ أثارتْ بأكنافِ المُصَلَّى عجاجةً ... دَجَتْ وَبَدَتْ للبيضِ منها كواكب وله يهجو: وكم في زَبيدٍ من فقيه مُصَدَّرٍ ... وفي صَدْرِه بحرٌ من الجهل مُزْبِدُ إذا ذابَ جسمي من حَرُورِ بلادكم ... عَلِقْتُ على أَشعارِكم أَتَبَرَّدُ وله يصف معركة: تكادُ من النقعِ المثارِ كُمَاتُها ... تَنَاكَرُ أحياناً وإِن قَرُبَ النَّحْرُ عجاجٌ يظلُّ الملتقى منه في دُجىً ... وإن لمعَتْ أسيافُه طَلَعَ الفجر وخيل يلف النشْرَ بالتربِ عَدْوُهَا ... وقتلَى يعافُ الأكلَ من هامِها النسر ومن شعره يرثي بعض أهله: ما كان مِثْلَكَ من تغتالُهُ الغِيَرُ ... لو كان ينفع من ضَرْبِ الرَّدَى الحَذَرُ ومنها: قد أَعلن الدهرُ، لكن غالنا صَمَمٌ ... عنه، وأنذرنا، لو أَغْنَتِ النُّذُرُ يَغُرُّنا أَمَلُ الدنيا ويخدعنا ... إن الغُرور بأَطماعِ المُنَى غَرَرُ ومنها: قد كان أنفسَ ما ضنَّتْ يداهُ بهِ ... لو كان يعلمُ ما يأتي وما يَذَرُ أغالبُ القولَ مجهوداً وأيسرُ ما ... لَقِيتُه مِن أَذاه العِيُّ والحَصَرُ وقال يرثي أباه، ومات غريقاً في البحر لريح عصفت: وكنتُ أُهدِي مع الريح السلامَ لهُ ... ما هبت الريحُ في صُبْحٍ وإمساءِ إحدى ثقاتي عليه كنتُ أَحسبُها ... ولم أَخَلْ أنها من بعضِ أعدائي ومن شعره في العتاب والاستبطاء والشكوى قوله: كم من غريبةِ حكمةٍ زارَتْكَ مِن ... فكري فما أَحْسَنْتَ قطُّ ثَوَابَها جاءَتْكَ ما طَرَقَتْ وفودُ جَمَالِها ال ... أَسماعَ إِلاّ فُتِّحَت أَبوابُها فَتَنَتْكَ إِعجاباً فحين هَمَمْتَ أَنْ ... تَحْبو سويداءَ الفؤادِ صَوابَها وافَتْكَ من حَسدٍ وساوسُ حكمةٍ ... جعلت لعينك كالمشيب شبابها فَثَنَيْتَ طَرْفَكَ خاشياً لا زاهداً ... ورددتها تشكو إِليَّ مآبها وأَراكَ كالعنِّينِ همَّ بكاعبٍ ... بِكْرٍ وأعجزه النكاحُ فعابَها وله في الغزل: أُشَجِّعُ النفسَ على حربكم ... تقاضياً والسلمُ يَزْويِها أسومها الصبرَ وأَلحاظكم ... قد جَعَلَتْها من مراميها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 682 وكيفَ بالصبرِ على أَسْهُمٍ ... نَصَّلَها بالجمْرِ راميها القاضي الرشيد أحمد بن علي بن الزبير من أهل أسواق الساكن بمصر كان ذا علمٍ غزيرٍ، وفضلٍ كثيرٍ. أنشدني الأمير نجم الدين بن مصال بن سليم بن مصال له، ونحن في المخيم الملكي الناصري بظاهر بعلبك في ثاني رمضان سنة سبعين وخمسمائة، من قصيدة: إِذا ما نَبَتْ بالحُرِّ دارٌ يَوَدُّها ... ولم يرتحلْ عنها فليس بذي حَزْمِ وَهَبْهُ بها صَبّاً أَلم يَدْرِ أنها ... سيزعجه منها الحِمَامُ على رغْمِ ولولا الأجلُّ الكاملُ المَلْكُ أَرْقَلَتْ ... بيَ العيسُ في البيداءِ والسفْنُ في اليَمِّ ولم تكنِ الدنيا تضيقُ على فتىً ... يرى الموتَ خيراً من مقامٍ على هَضْم لم يعمل بشعره، ولم يرحل من ضره، وهذا ممدوحه الكامل ولد شاور الذي لم ينج من شره، فغن شاور قتله صبراً في سنة اثنتين وستين ونسب إليه أنه شارك أسد الدين شيركوه في قصده، فكافأه مكافأة التمساح وجعل قتله له مقام رفده. وله الرسالة التي أودعها من كل علم مشكلة، ومن كل فنٍ أفضله. ذكره لي محمد بن عيسى اليمني ببغداد سنة إحدى وخمسين وقال: وفد اليمن رسولاً وأقام بها سنتين قال: وهو أستاذي في علم الهندسة. وأنشدني لنفسه باليمن: لئن خاب ظني في رجائك بعد ما ... ظننتُ بأني قد ظفرتُ بمنصفِ فإنَّكَ قد قلَّدْتني كلَّ مِنَّةٍ ... ملكتَ بها شُكرِي لدى كلِّ موْقِفِ لأنّكَ قد حَذَّرتني كلَّ صاحبٍ ... وأعلمتني أنْ ليْسَ في الأرض من يفي وأنشدني الشريف إدريس الإدريسي الحسني بدمشق سنة إحدى وسبعين للقاضي الرشيد بن الزبير في مدح الصالح بن رزيك من قصيدة أولها: ما للغصون تميدُ سكرا ... هل سُقِّيَتْ بالمُزْنِ خمرا منها في المدح: جاري الملوكَ إلى العلا ... لكنهمْ ناموا وأَسْرَى سائلْ به عَصبَ النفا ... ق غداةَ كان الأَمرُ إمْرا أيامَ أضحى النكرُ معروفاً ... وأمسى العُرْفُ نكرا ومنها: قسماً بمن طافَ الحجيج ... ببيته شُعْثاً وغُبرا لولا طلائعُ لم نكنْ ... نرجو لمَيْتِ الدينِ نَشْرا وأنشدني ابن أخته القاضي محمد بن القاضي محمد بن إبراهيم المعروف بابن الداعي من أسوان وقد وفدت إلى دمشق سنة إحدى وسبعين قال: أنشدني خالي الرشيد ابن الزبير لنفسه من قصيدة: تواصَى على ظلمي الأنامُ بأَسْرِهِمْ ... وأَظْلَمُ من لاقيتُ أَهلي وجيراني لكل امرىءٍ شيطانُ جِنٍ يَكيدُهُ ... بسوءٍ ولي دون الورى أَلْفُ شَيْطانِ وقد صنف كتاب جنان الجنان ورياض الأذهان، وذيل به اليتيمة، وطالعت منه جزءاً، ذكر فيه شعراً. ولده علي بن أحمد بن الزبير رأيته في الحضرة السلطانية في القاهرة سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة وقد وقف ينشد الملك الناصر قصيدة قد اتخذها لقصده ذريعة وجر بها وفود النجح إلى آماله في تلك الشريعة شريعة، وكشفت بحواره حوار أدبه، وفصمت بسراره سوار أربه، فما أحاطت معرفتي له بمعرفة، ولا حصل لي من قدر قدره مرق رمقٍ في مغرفة. لكنني لكونه ولد ذاك الكبير، أوردت من القصيدة التي أحضرها أبياتاً تناسب عرف العبير. مطلعها: شيَّدْتَ بالبيضِ والعسَّالةِ الذُّبُلِ ... مجداً أنافَ على النَّسْرَيْن والحَمَلِ ومنها: تَخْضَرُّ أكناف أَرضٍ إن نَزَلْتَ وإن ... نازلْتَ تَحْمَرُّ أَرضُ السهل والجبَلِ ما زلتُ أفرى دجى ليلِ التمام سُرىً ... ونورُ وجهك يَهْديني إلى السُّبُل بكل مهمهةٍ يبكي الغمامُ بها ... خوفاً ويخفق قلبُ البرق من وَجَل تخشى الرياحُ الذواري من مهالكها ... فما تهبُّ بها إلا على مهل حتى أَنَخْتُ المطايا في ذُرَى مَلِكٍ ... يبشِّرُ النجح في تأميله أَمَلي ومنها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 683 خدمتكم ليكونَ الدهرُ من خَدَمِي ... فما أَحَالَهُ عن حالاته الأُوَلِ إنْ لم تَكُنْ بكمُ حالِي مُبَدَّلَةً ... فما انتفاعي بعلم الحالِ والبَدَلِ المهذب أبو محمد الحسن بن علي بن الزبير هو أخو الرشيد، محكم الشعر كالبناء المشيد، وهو أشعر من أخيه، وأعرف بصناعته وإحكام معانيه. توفي قبل أخيه بسنة، لم يكن في زماتنه أشعر منه أحد وله شعر كثير، ومحلٌ في الفضل أثير. أنشدني له نجم الدين بن مصال ببعلبك في رمضان سنة سبعين من قصيدة في الصالح بن رزيك يعرض بشاعره المعروف بالمفيد: لقد شكَّ طرفي والركائبُ جُنَّحُ ... أأنت أم الشمسُ المنيرة أمْلَحُ ومنها في الغزل: يَظلُّ جَنَى العُنَّابِ في صحنِ خدِّهِ ... عن الوردِ ماءَ النرجِسِ الغضِّ يَمْسَحُ ومنها: فيا شاعراً قد أَلفَ قصيدةٍ ... ولكنها من بيته ليس تَبْرَحُ ليهنِكَ لا هُنِّئْتَ أنّ قصائدي ... مع النجم تسري أو مع الريح تَسْرَحُ أنشدني زين الحاج أبو القاسم قال: أرسلني نور الدين إلى مصر في زمان الصالح بن رزيك فلقيت المهذب بن الزبير فأنشدني لنفسه: وشادنٍ ما مثله في الجنانْ ... قد فاق في الحسن جميع الحسانْ لم أَرَ إلا عينه جعبةً ... للسيف والنصلِ وحَدِّ السِّنانْ ووجدت في بعض الكتب له من قصيدة في مدح الصالح طلائع بن رزيك بمصر: وتلقى الدهرَ منه بليث غابٍ ... غَدَتْ سمرُ الرماح له عَرِينا تخالُ سيوفَه إمَّا انتضاها ... جداولَ والرماحَ لها غصونا وتحسبُ خيلَهُ عِقْبانَ دَجنٍ ... يَرُحْنَ مع الظلام ويغتدينا إِذا قَدَحَتْ بجنح الليل أوْرَتْ ... سناً يُعْشي عيونَ الناظرينا وإن جَنَحَتْ مع الإصباح عَدْواً ... أَثارَتْ للعجاجِ به دُجُونا كأنّ الشمس حين تُثير نقعاً ... تحاذرُ من سطاهُ أن تبينا وما كُسِفَتْ بدورُ الأُفْقِ إلاّ ... مخافةَ أن يُحَطِّمَها مُبينا وما تندقُّ يومَ الرّوْعِ حتى ... يَدُقَّ بها الكواهلَ والمتونا عجبتُ لها تصافحُ مِنْ يَدَيهِ ... وتوصَفُ بالظَّمَا بحراً مَعِينا ويورِدُها ولا يُخْطِي برأْيٍ ... نِطافاً من دروعِ الدارعينا وهل يَشْفَى لها أبداً غليلٌ ... وقد شَرِبَتْ دماءَ الكافرينا إذا لَقِيَتْ عيونَ الروم زُرْقاً ... حسبْتَ نِصالَها تلك العيونا وقائعُ في العُداةِ له تُبَارى ... صنائعَ في العُفاة المجتدينا وإرغامٌ به أبكى عيوناً ... وإنعامٌ أَقَرَّ به عيونا وله فيه قصيدة: أَقْصِر فَدَيْتُكَ عن لَوْمي وعن عَذَلي ... أوْ لا فخذ لي أماناً من يد المقلِ من كلِّ طَرْفٍ مريض الجفنِ تنشدنا ... ألحاظُه رُبَّ رامٍ من بني ثُعَل إنْ كان فيه لنا وهْو السقيمُ شِفاً ... فربما صحَّتِ الأجسامُ بالعِلَل إن الذي في جفونِ البيضِ إذ نَظَرَتْ ... نظيرُ ما في جفون البيض والخِلَل كذاك لم يشتبه في القول لفظهما ... إلا كما اشتبها في الفعل والعمل وقد وقفتُ على الأطلال أحسبها ... جسمي الذي بعدَ بُعْدِ الظاعنين بُلِي أَبكي على الرسم في رسم الديار فهلْ ... عجبتَ من طَلَلٍ يبكي على طلل وكلّ بيضاءَ لو مَسَّت أَناملُها ... قميصَ يوسفَ يوماً قُدَّ من قُبُل يُغني عن الدُّرِّ والياقوت مَبْسِمُها ... لِحُسْنِها فلها حَلْيٌ من العَطَل بالخدِّ مِنِّيَ آثارُ الدموع كما ... لها على الخدِّ آثارٌ من القُبَل كأنّ في سيفِ سيفِ الدين من خَجَلٍ ... من عزمه ما به من حُمْرة الخجل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 684 هو الحسامُ الذي يسمو بحاملهِ ... زهواً فيفتكُ بالأسياف والدول إذا بدا عارياً من غِمدِهِ خَلَعَتْ ... غِمْدَ الدماءِ عليهِ هامةُ البطل وإن تقلَّدَ بحراً من أَناملهِ ... رأَيتَ كيف اقترانُ الرزقِ بالأجل من السيوفِ التي لاحتْ بوارقُها ... في أَنْمُلٍ هي سُحْبُ العارضِ الهَطِل فجاءنا لبني رُزِّيكَ مُعْجِزُها ... بآيةٍ لم تكن في الأعْصُرِ الأُوَلِ تبدو شموساً همُ أقمارُها وتَرَى ... شُهْبَ القَنَا في سماءِ النقع لم تَفِل قد غايَرَت فيهمُ السمرَ الرقاقَ رقا ... قُ البيض خلفَ سُجوف النقع في الكلَل إن عانقوا هذه في يوم معركةٍ ... لاحتْ لهم بتلظّي تلك كالشُّعَل وقد لقوا كلَّ من غاروا بمُشْبِهِه ... حتى لقوا النُّجْلَ عند العَرْضِ بالنُّجُلِ وضارب الرومَ رومٌ من سيوفهمُ ... وطاعَنَ العُرْبَ أَعْرابٌ من الأَسَلِ وهزَّهم لصهيل الخيل تحت صهيل ... البيضِ ما هزَّ أعطاف القَنَا الخَطِل فالدمُ خَمْرٌ وأصواتُ الجيادِ لهمْ ... أصوات مَعْبَد في الأَهزاج والرَّمَل والخيلُ قد أَطرَبَتْها مثلما طربوا ... أفعالُهمْ، فهي تمشي مِشْيَةَ الثَّمِل من كل أجردَ مختالٍ بفارسِهِ ... إلى الطِّعان جريحِ الصَّدْرِ والكَفَل وكلِّ سَلْهَبَةٍ للريح نِسْبتُها ... لكنها لو بَغَتْها الريح لم تُنَل أَفارسَ المسلمين اسمعْ فلا سَمِعَتْ ... عِدَاك غيرَ صليل البيض في القُلَل مقالَ ناءٍ غريبِ الدار قد عدم ال ... أَنصارَ لولاك لم يَنْطِق ولم يَقُل يشكو مصائبَ أَيامٍ قد اتسعتْ ... فضاقَ منها عليهِ أوسعُ السُّبُل يرجوكَ في دفعها بعد الإله وقد ... يُرْجَى الجليلُ لدفع الحادث الجَلَل وكيفَ أَلقى من الأيام مَرْزِئَةً ... جَلَّتْ ولي من بني رزِّيك كلُّ وَلي لولاهمُ كنتُ أَفري الحادثات، إذا ... نابت، بنهضة ماضي العزم مُرْتجل وكيف أخلع ثوبَ الذلِّ حيث كَفِيلُ ... الحرِّ بالعزِّ وَخْدُ الأيْنُقِ الذُّلُلِ فما تخافُ الردى نفسي وكم رضيَتْ ... بالعجز خوفَ الردى نفسٌ فلم تُبَل إِني امرؤٌ قد قتلتُ الدهر معرفةً ... فما أَبيتُ على يأْسٍ ولا أَمَل إِن يُرْوِ ماءُ الصِّبا عودي فقد عَجَمَتْ ... مني طَروقُ الليالي عُودَ مُكْتَهِل تجاوزتْ بي مَدَى الأشياخِ تجربتي ... قِدْماً وما جاوزتْ بي سنَّ مُقْتَبِل وأولُ العمر خيرٌ من أواخره ... وأين ضَوْءُ الضحى من ظلمة الأُصُل دوني الذي ظنَّ أني دونَه فلهُ ... تعاظمٌ لينال المجد بالحِيَلِ والبدرُ تَعْظم في الأبصار صورتهُ ... ظنّاً ويَصْغُرُ في الأفهام عَنْ زُحَلِ ما ضرَّ شِعْرِيَ أني ما سَبَقْتُ إلى ... أَجابَ دمعي وما الداعي سوى طلل فإن مدحي لسيف الدّين تاهَ بهِ ... زَهْواً على مَدْحِ سَيْف الدّولة البَطَل للشعراء المهذبين المذهبين امذهب، على هذا الوزن المعجز المعجب، قصائد، فرائد، قلائد. وهذا مهذب مذهبهم إذ هو وحيد العصر، مجيد النظم والنثر. واستعرت من الأمير عز الدين حسام جزءاً فيه قصيدة بخط المهذب بن الزبير مدح بها الصالح بن رزيك سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة ويصف أسطوله ونصرته في البحر على الروم: أَعَلِمتَ حين تجاورَ الحيانِ ... أَنَّ القلوبَ مواقدُ النيران وعرفْتَ أَنَّ صدورنا قد أَصبحتْ ... في القومِ وهْيَ مَرابضُ الغزْلان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 685 وعيوننا عِوَضَ العيون أَمَدَّها ... ما غادروا فيها من الغُدْران ما الوَخْدُ هزَّ قِبَابهم بل هَزَّها ... قلبي عشيةَ سار في الأَظعان وبمهجتي قمرٌ إذا ما لاح للسّاري ... تضاءَلَ دونه القَمَران قد بانَ للعشاق أَنَّ قَوامَهُ ... سَرَقَت شمائِلَهُ غصونُ البان وأراك غصناً في النعيم تميل إِذا ... غُصْنُ الأَراك يميدُ في نَعْمَانِ للرمح نصلٌ واحد ولقَدِّهِ ... من ناظريه إِذا رَنَا نَصْلانِ والسيفُ ليس له سوى جَفْنٍ وقد ... أَضحى لصارم طَرْفه جَفْنَأنِ والسهمُ تكفي القوسُ فيه وقد غدا ... من حاجبيه للحظهِ قوسان ولربَّ ليلٍ خلتُ خاطفَ بَرْقهِ ... ناراً تَلَفَّعُ للدُّجَى بدخان كالمائلِ الوسنان من طول السُّرَى ... جَوْزاؤهُ، والراقصِ السكران ما بانَ فيه من ثُرَيَّاهُ سوى ... إِعجامِها والدَّالُ في الدَّبَران وترى المجرةَ في النجوم كأَنَّها ... تَسْقِي الرياضَ بجدولٍ ملآن لو لم يكنْ نهراً لما عامت به ... أبداً نجومُ الحوت والسرطان نادمتُ فيه الفرقدين كأنني ... دون الورى وجَذيمةً أَخَوَان وترفعتْ هِمَمِ فما أَرْضَى سوى ... شُهْبِ الدجى عِوَضاً من الخلاَّن وأَنِفْتُ حين فُجعت بالأَحبابِ أن ... أَلْهُو عن الإخوان بالخَوَّان واعتضتُ من جود الوزير مواهباً ... أَسْلَتْ عن الأَوطارِ والأَوطان ومنها يحثه على قصد شام الفرنج: يا كاسرَ الأصنام قُمْ فانهض بنا ... حتى تصيرَ مُكَسِّرَ الصُّلبان فالشامُ مُلككَ قد ورثت تُرَاثَهُ ... عن قَوْمِك الماضين من غَسَّان فإذا شككتَ بأنها أَوطانُهُمْ ... قدماً فسل عن حادثِ الجَوْلانِ أَوْ رُمْتَ أن تتلو محاسِنَ ذكرهم ... فاسندْ روايتها إلى حَسَّان منها في وصف الزلزلة: ما زلزلتْ أرضُ العِدا بل ذاك ما ... بقلوبِ أَهليها من الخَفَقَان وأَقولُ إنَّ حصونهم سجدتْ لِما ... أُوتيت من مُلْكٍ ومِنْ سلطان والناسُ أَجدرُ بالسجود إذا غدا ... لعُلاكَ يسجدُ شامخُ البُنْيَان ولقد بعثتَ إلى الفرنج كتائباً ... كالأُسْدِ حين تصولُ في خَفَّان لَبسوا الدروع ولم نَخَل مِنْ قَبْلِهِمْ ... أَنَّ البحار تَحُلُّ في غُدْران وتيمَّموا أرضَ العدو بقَفْرَةٍ ... جرداءَ خاليةٍ من السكان عشرين يوماً في المُغَار وليلةً ... يَسْرونَ تحت كواكبِ الخِرْصَأن حتى إِذا قطعوا الجفارَ بجحفل ... هو في العديد ورمٍلُهُ سِيَّانِ أغريتهمْ بحمى العِدَا فجعلْتَهُ ... بسطَاكَ بعد العزِّ دارَ هوان عَجَّلْتَ في تلك العجول قِراهُمُ ... وهمُ لك الضيفانُ بالذِّيفَان لما أَبَوْا ما في الجفان قَرَيْتَهُمْ ... بصوارمٍ سُلَّتْ من الأَجفان وثللتَ في يوم العريش عًروشَهُمْ ... بشَبَا ضِرابٍ صادقٍ وطعان أَلجأْتَهُمْ للبحر لما أَنْ جَرَى ... مِنْهُ ومن دمهمْ معاً بَحْرَان مُدِحَ الورى بالبأسِ إِذْ خضبوا الظُّبَ ... في يومِ حربهمُ من الأَقران ولأَنتَ تخضب كلَّ بحرٍ زاخرٍ ... ممن تحاربُ بالنَّجِيعِ القاني حتى ترى دمهمْ وخضرةَ مائه ... كشقائقٍ نُثِرَتْ على الرَّيْحَان في وصف الأسطول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 686 وكأنَّ بحرَ الرُّوم خُلِّقَ وَجْهُهُ ... وطَفَتْ عليه منابتُ المَرْجَان ولقد أتى الأسطولُ حين غزا بما ... لم يأتِ في حينٍ من الأحيان أَحْبِبْ إليَّ بها شوانِيَ أَصْبَحَتْ ... من فتكها ولها العُدَأةُ شواني شُبِّهْنَ بالغربانِ في ألوانها ... وفعلن فعل كواسر العْقبان أوقرْتَها عُدَدَ القتالِ فقد غَدَتْ ... فيها القَنَا عِوضاً من الأَشْطَان فأتتكَ مُوقَرَةً بسبيٍ بينه ... أَسْرَاهُمُ مغلولةَ الأذقان حربٌ عَوَانٌ حَكَّمَتْكَ من العدا ... في كلِّ بكرٍ عندهمْ وعَوَان وأعدتَ رُسْلَ ابنِ القسيم إِليه في ... شعبانَ كي يتلاءَمَ الشعبان والفالُ يشهد باسمه أَن سوف يغدو ... الشامُ وهو عليكما قِسْمَانِ منها في مدح نور الدين: وأَراكَ من بعد الشهيدِ أباً له ... وجعلتَه من أَقربِ الإِخوان وهو الذي ما زال يفْعَلُ في العدا ... ما لم يكنْ لِيُعَدُّ في الإمكان ومنها في وصف قتله البرنس ويصف رأسه على الرمح بمعنى بديع: قَتَلَ البِرِنْسَ ومن عَسَاهُ أَعانه ... لما عَتَا في البغي والعُدْوان وأرى البريَّةَ حين عادَ برأسه ... مُرَّ الجَنَى يبدو على المُرَّان وتعجبوا من زقةٍ في طرفه ... وكأنَّ فوق الرمح نصلاً ثاني فليهنه أَنْ فازَ منك بسيدٍ ... أَوْفَى برتبته على كيوان قد صاغَ من أَرماحه لمسامع الأ ... ملاك أقراطاً من الخِرْصَانِ والخيلُ تعلمُ في الكريهةِ أَنَّه ... قد حط هيكلها على الفرسان عَجَباً لجودِ يديه إِذْ يبني العلا ... والسيلُ يَهْدِمُ ثابتَ الأَرْكَانِ ومنها يصف شعر الصالح: وَلَنَارُ فظنته تُرِيكَ لشعره ... عذباً يُرَوِّي غُلَّةَ الظمآن وعقودَ درٍ لو تجسَّمَ لفظها ... ما رُصِّعَتْ إلا على التيجان وتنزهتْ عن أن تُرَى أَفْرَادُهَا ... لمواضعِ الأَقراط والآذان من كل رائقةِ الجمال زَهَتْ بها ... بين القصائدِ عِزَّةُ السلطان سيارةٌ في الأرض لا يعتاقها ... في سيرها قَيْدٌ من الأَوْزَأن يا مُنْعِماً ما للثناء ولو غلا ... يوماً بما تُولي يداهُ يَدَان قَلَّدْتَ أَعناقَ البرية كلَّهَا ... مِنَناً تحمَّلَ ثِقْلَهَا الثَّقَلاَن حتى تَسَاوَى الناسُ فيكَ أصْبَح ... القاصي بمنزلةِ القريب الدَّاني ورحِمْتَ أَهْلَ العجز منهمْ مثلما ... أصبحتَ تَغْفِرُ للمسيءِ الجانِي وأنشدني الشريف إدريس الحسني للمهذب بن الزبير من قصيدة في مدح ابن رزيك أيضاً أولها: أَمَجْلِسٌ في محلِّ العِزِّ أَمْ فَلَكُ ... هذا وهل مَلِكٌ في الدَّسْتِ أَم مَلَكُ منها في المدح: أغنى عيانُ معانيه النواظرَ عن ... قولٍ يُلَفَّقُ في قومٍ ويُؤتَفَكُ يا واحدَ الدهر لا ردٌّ عليَّ إذا ... ما قلتُ ذلك في قولي ولا دَرَك ما كان بعدَ أمير المؤمنين فتىً ... فيه الشجاعة إلا أنت النُّسُكُ فالفعلُ منه ومنك اليوم مُتَّفِقٌ ... والنعتُ منه ومنك اليومَ مُشْتَرَك يُدْعَى بصالح أهل الدين كلِّهِمُ ... وأنت صالحُ من بالدين يَمْتَسِك لم ترضَ أَسماءَ قومٍ أصبحوا رِمماً ... كأَنَّ أَلْقَابَهُمْ من بعدهم تُرُكُ ومنها: وَافَى فأَرْدَى رجالاً بعد ما نَعِموا ... دَهْراً وأَحيا رجالاً بعد ما هَلَكوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 687 ليس في هذا البيت مدح ولا ذم، ولا له في الثناء والإطراءِ سهم، فإنه كما أحسن بالإحياء، أَساءَ بالإِرداء، فكفر بهلاك أولئك حياة هؤلاء، ولو قال: أردى لئاماً بعد ما نعموا، وأحيا كراماً بعد ما هلكوا، لوفى الصنعة حق التحقيق، وأهدى ثمرة المعنى على طبق التطبيق. طلعتَ والبدرَ نصف الشهر في قَرَنٍ ... فأشرقتْ بكما الأرضُونَ والفَلَكُ وأسفرَ الجوُّ حتى ظَنَّ مبصرُهُ ... بأنَّ لَمْعَ السَّنَا في أُفْقهِ ضَحِكُ يقودُ كلُّ مُجِنٍ ضِغْنَ ذي تِرَةٍ ... يكادُ من حَرِّه الماذيُّ ينْسَبِكُ حتى أعادَ بحد السيفِ مُلْك بني الزهراءِ ... واستُرْجِعَ الحقُّ الذي تَركوا فلو يكونُ لهم أمثالُهُ عَضُداً ... فيما مضى ما غدت مغصوبةً فَدَكُ لقد أبطل في هذا القول المؤتفك، وغفل عن سر الشريعة في فدك، وفضل ممدوحه على السلف في الشرف، وأدت به المبالغة في الضلال إلى السرف. وأنشدني الأمير مرهف بن أسامة بن منقذ للمهذب بن الزبير من أبيات: بالله يا ريحَ الشما ... ل إذا اشتملتِ الليل بُرْدا وحملتِ من نَشْرِ الخُزَا ... مَى ما اغتدى للنَّدِ نِدَّا ونسجت في الأشجار بين ... غصونهنَّ هَوىً ووُدَّا هُبِّي على بَرَدَى عَساهُ ... يزيدُ من مَسْراك بَرْدَا أَحبابنا ما بالكُمْ ... فينا من الأَعداءِ أَعْدَى وحياةِ ودكمُ وتُرْ ... بة وَصْلِكُمْ ما خُنْتُ عهدا وأنشدني له من قصيدة أولها: رَيعَ الفؤادُ خلالَ تلك الأَرْبَعِ ... فكأنها أَولى بها من أضلعي منها في المديح في ابن رزيك الصالح وكان يغري الشعراء بعضهم بالبعض: يا أيها المَلِكُ الذي أوصافُهُ ... غُرَرٌ تجلَّتْ للزمانِ الأَسْفَعِ لا تُطْمِعِ الشعراءَ فيَّ فإنَّني ... لو شئتُ لم أجبن ولم أَتَخَشَّع إنْ لم أكن مِلْءَ العيون فإنني ... في القول يا ابن الصِّيد ملءُ المسمع فليمسكوا عني فللا أنني ... أُبْقي على عِرْضي إذنْ لم أَجْزَع وأَهَمُّ من هجوي لهم مَدْحُ الذي ... رفعَ القريضَ إلى المحلِّ الأرفع ولو انَّه نَاجى ضميريَ في الكَرَى ... طيفُ الخيال بريبةٍ لم أَهْجَع وإذا بدا لِي الهجرُ لم أَرَ شخصه ... وإذا يقالُ ليَ الخنا لم أسمع والناسُ قد علموا بأني ليس لي ... مذ كنتُ في أَعراضهم من مَطْمَع ومنها في صفة الشعر: فلأكسونّ عُلاكَ كلَّ غريبةٍ ... وَلَجَتْ بلطفٍ سَمْعَ مَنْ لم يَسْمَعِ خُتمت بما ابتُدِئَتْ به فتقابلتْ ... أطرافها بمُوشَّعٍ ومُرَصَّع والشعر ما إنْ جاء فيهِ مَطْلَعٌ ... حَسَنٌ أُضيفَ إليه حُسْنُ المَقْطَع كالوردِ: أوَّلهُ بزهرٍ مُونِقٍ ... يأتي، وآخرهُ بماءٍ مُمْتِع وأنشدني له القاضي الأشرف أبو القاسم حمزة بن القاضي السعيد بن عثمان، قال أنشدني والدي علي بن عثمان المخزومي، قال أنشدني المهذب بن الزبير لنفسه في ابن شاور المعروف بالكامل: وخاصمني بدرُ السَّما فخَصَمْتُهُ ... بقوليَ، فاسمعْ ما الذي أنا قائلُ أتى في انتصاف الشهر يحكيك في البَهَا ... وفي النورِ لكن أين منك الشمائل! فقلتُ له يا بدرُ إنك ناقصٌ ... سوى ليلةٍ، والكاملُ الدهرَ كاملُ وأنشدني بعض المصريين له من قصيدة أولها: أَغارت علينا باللحاظِ عيونُ ... لها الحسنُ من خَلْف النِّقابِ كمينُ وسَلَّتْ علينا من غُمُودِ جفونِها ... كذلك أسماءُ الغُمودِ جُفُونُ ومنها: أَعِرْ نظمَ شعري منك عَيْناً بصيرةً ... ففي طيِّهِ للكِيمياءِ كُمُونُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 688 فقد شاركَتْنا فيه كَفُّكَ إذ غَدَتْ ... عليه لنا عند العطاءِ تُعِين تجودُ لنا بالبِرِّ ثم تردُّهُ ... لها وهْوَ دُرٌّ بالمديحِ ثمين وأنشدني له أيضاً: لقد جَرَّدَ الإسلامُ منك مهنَّداً ... حديداً شَبَاهُ لا يُداوَى له جُرْحُ إقامةُ حَدِّ الله في الخلقِ حَدُّهُ ... إِذا سَلَّهُ، والصفحُ عنهمْ له صَفْحُ وله وذي هَيَفٍ يُدعى بموسى، بطرفِهِ ... بقيةُ سحرٍ تأخذ العين والسمعا وحيَّاتُهُ أَصداغه، وعِذَارُهُ ... يُخَيِّلُ لي في وجهه أنها تَسْعَى وله في غلام له خال بين عينيه: ومهفهفٍ أَسيافُ مقلته ... أبداً تُريق من الجفون دما عيناهُ في قلبي تنازعتا ... فسوادُهُ قد ظَلَّ بينهما وله في غلام تغرغرت عيناه عند الوداع: ومرنَّح الأعطاف تحسبُ أنَّه ... رُمْحٌ ولكنْ قدَّ قلبيَ قَدُّهُ إن قلتُ إنّ الوَجْهَ منه جَنَّةٌ ... أَضحى يكذِّبني هنالك خَدُّه ولئن ترقرقَ دمعه يومَ النوى ... في الطَّرْفِ منه وما تناثرَ عِقْدُهُ فالسيفُ أقطعُ ما يكون إذا غدا ... مُتَحَيِّراً في صفحتيه فِرِنْدُه وله هُمْ نصب عيني: أنجدوا أو غاروا ... وَمُنَى فؤادي: أَنصفوا أو جاروا وهمُ مكانَ السرِّ من قلبي وإن ... بَعُدَتْ نوىً بهمُ وشَطَّ مَزَار فارقتهم وكأنهم في ناظري ... مما تُمَثِّلُهُمْ ليَ الأفكار تركوا المنازلَ والديار فما لهم ... إلا القلوب منازلٌ وديار واستوطنوا البيدَ القفارَ فأصبحتْ ... منهم ديارُ الإِنس وهْيَ قفار فلئن غَدَتْ مصرٌ فلاةً بعدهم ... فلهمْ بأجواز الفَلاَ أمصار أو جاوروا نجداً فلي من بعدهمْ ... جاران: فيضُ الدمع والتذكار أَلِفوا مواصلةَ الفلا والبيدِ مُذْ ... هجرتهمُ الأوطان والأوطار بقلائصٍ مثل الأهلَّةِ عندما ... تبدو، ولكنْ فوقها أقمار وكأنما الآفاقُ طراً أَقْسَمَتْ ... أَلاَّ يقر لهم عليه قرار والدهرُ ليلٌ مذ تناءت دارهمْ ... عنِّي، وهلْ بعد النهار نهار لي فيهمُ جارٌ يمتُّ بحرمتي ... إن كان يُحْفَظُ للقلوبِ جِوَارُ لا بل أَسِيرٌ في وَثَاقِ فائه ... لهمُ فقد قتل الوفاءَ إِسار ومنها: أمنازلَ الأحباب غيَّرَكِ البلى ... فلنا اعتبارٌ فيك واستعبار سَقْياً لدهرٍ كان منك تشابهتْ ... أَوقاتُهُ فجميعه أَسحار قَصُرَتْ ليَ الأعوامُ فيه فمذ نأَوْا ... طالتْ بي الأَيَّامُ وهي قِصَار يا دهرُ لا يَغْرُرْكَ ضَعْفُ تجلدي ... إِني على غير الهوى صَبَّار وله كأنَّ قدودهمُ أَنبتتْ ... على كُثُبِ الرَّمْلِ قُضْبَانَها حججنا بها كعبةً للسرورِ ... ترانا نُمَسِّحُ أَرْكَانَها فطوراً أعانقُ أَغصانها ... وطوراً أُنادم غزلانها على عاتقٍ إن خَبَتْ شَمْسُنَا ... فَضَضْنَا عَنِ الشمس أَدْنَانَها وإن ظهرَتْ لكَ محجوبةً ... قرأت بأَنْفِكَ عُنْوَانَها كُمَيْتٌ من الراح لكنما ... جعلنا من الروح فرسانَها إذا وجدت، حلبةٌ للسرور ... وكان مَدَى السُّكر مَيْدَانها يطوفُ بها بابليُّ الجفونِ ... تفضحُ خَداهُ ألوانها إذا ما ادَّعَتْ سَقَماً مُقْلَتَاهُ ... أَقمتُ بجسميَ بُرْهَانها بكأس إذا ما علاها المزاجُ ... أَحالَ إلى التبر مَرْجَانها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 689 كأنَّ الحَبابَ وقد قُلِّدَتْهُ ... دُرٌّ يُفَصِّلُ عِقْيانها ومُسْمِعَةٍ مثل شمس الضحى ... أَضافت إلى الحسن إِحسانها وراقصةٍ رَقْصُها لِلُّحُونِ ... عَرُوضٌ تُقَيِّدُ أوزانها ولما طَوَى الليلُ ثوب النهار ... وجَرَّتْ دَيَأجيه أَرْدَانَها جلونا عرائسَ مثل اللُّجَيْنِ ... صنعنا من النار تيجانها وصاغَتْ مدامعها حِلْيَةً ... عليها تُوَشِّحُ جُثْمَانَها رماحاً من الشمع تفري الدجى ... إذا صقلَ الليلُ خُرِصانها بها ما بأفئدةِ العاشقينَ ... فليستْ تفارقُ نيرانها وقد أشبهتْ رُقَبَاءَ الحبيب ... فما يدخل الغُمْضُ أَجفانَها وفيها دليلٌ بأَنَّ النفو ... سَ تَبْقَى وتُذْهِبُ أَبْدَانَها ومن شعره ما أورده أخوه في الجنان وهو قوله: لم تنلْ بالسيوف في الحرب إِلا ... مثلما نلتَ باللواحظ مِنَّا وعيونُ الظِّبا ظُباً وبهذا ... سُمِّيَ الجفْنُ للتشابه جَفْنا وقوله: وقد أنكروا قتلي بسيف لحاظه ... ولو أنصفوني ما استطاعوا له جحدا وقالوا دع الدعْوى فما صحَّ شاهدٌ ... عليها ولسنا نقبلُ الكفَّ والخدا ولو كان حقاً ما تقولُ وتدعي ... على مقلتيه عاد نَرْجسها وردا وما علموا أن الحسامَ بِسَفْكِهِ ... دمَ القِرْنِ يوماً عُدَّ أَمْضَى الظُّبَا حَدَّا وقوله: لقد طال هذا الليل بعد فراقه ... وعهدي به لولا الفراقُ قصيرُ وكيف أُرَجِّي الصُّبْحَ بعدهُمُ وقَدْ ... تَوَلَّتْ شموسٌ منهمُ وبدور وقوله: ليت شعري كيفَ أنْتمْ بَعْدَنا ... أَترى عندكم ما عندنا بنتمُ والشوق عنَّا لم يَبِنْ ... وظعنتمْ والأَسى ما ظَعَنا ومنها: قلْ لمسرورين بالبين وقد ... شفَّنَا من أَجلهمْ ما شفنا لم يَهُنْ قطُّ علينا بُعْدُكُمْ ... مثلما هانَ عليكم بُعْدُنا ولقد كُنَّا نعزِّي النفسَ لو ... كنتمُ قبلَ التنائي مثلنا لم تُبالوا إِذْ رحلتمْ غدوةً ... أيَّ شيءٍ صَنَعَ الدهرُ بنا سهرتْ أَجْفَانُنَأ بعدكمُ ... فَكَأَنَّا ما عَرَفْنَا الوسنا لا رَأَتْ عينٌ رأتْ من بَعْدِكُمْ ... غيرَ فيضِ الدمع، شيئاً حسنا ومنها: واخدعوا العينَ بطيفٍ مثلما ... تخدعُ القلبَ أَحاديثُ المُنَى وقوله: ويا عجباً حتى النسيمُ يخونني ... ويُضرمُ نيرانَ الأسى بهبوبِهِ تُحَمِّلُهُ سَلْمَى إِلينا سَلاَمَها ... فيكتُمُهُ أَلاَّ يَضُوعَ بطيبه وقوله من قصيدة: أَترى بأيِّ وسيلةٍ أَتَوَسَّلُ ... لمْ تُجْمِلوا بي في الهوى فتجمَّلُوا أشكو وجَوْرُكُمُ يزيدُ وما الذي ... يُغني المُتَيَّمَ أَن يقول وتفعلوا إنْ أَصْبَحَتْ عيني لدمعي مَنْهَلاً ... فالعينُ في كل اللغات المَنْهَلُ وقوله في المديح من قصيدة: عَضَدْت النَّدَى بالبأسِ تُقْضي على العِدَا ... سيوفُكَ، أو تَقْضي عليكَ المكارمُ سحائبُ جودٍ في يديك تضمَّنَتْ ... صواعقَ ظَنُّوا أَنهنَّ صوارِمُ إذا ما عَصَتْ أمراً لهنَّ قلوبُهُمْ ... ضَلالاً أَطاعتْ أَمْرَهُنَّ الجماجم ومنها: وغُرٍ على غُرٍ جيادٍ كأنما ... قوائمها يوم الطِّرَاد قَوَادِمُ إذا ابتدروا في مَأْقِطٍ فَرِحَتْ بهم ... صدورُ المذاكي والقنا والصوارم ومنها في صفة السيوف: تريك بروقاً في الأكف تدلُّنَا ... على أَنَّ هاتيك الأَكفَّ غمائمُ ومنها في صفة الرماح: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 690 وسُمْرٍ عوالٍ زَيَّنَتْهَا أَكُفُّهُمْ ... فقد حَسَدَتْ منها الكعوبَ اللهاذمُ إذا عقلوها خِلْنَهُمْ مُتَوَشِّحِي ... سلوخٍ وفي الأَيْمَانِ منهمْ أَراقم تلوحُ نجوماً، في النحور غروبها ... إذا جَنَّها ليلٌ مع النقعِ قاتم ومنها في المدح: إذا صُلْتَ قال الدينُ والعدلُ: منصفٌ ... فإن جُدْتَ قال الجودُ والمالُ: ظالمُ وقوله: مالُهُ من فَتْكِ راحتِهِ ... كأعاديه على وَجَلِ أبداً تتلو مواهِبُهُ ... خُلِق الإنسان من عَجَلِ وقوله في الوزير رضوان بن ولخشى: إذا قابَلَتْهُ ملوكُ البلا ... دِ خَرَّتْ على الأرضِ تيجانُها ولله في أرضه جنَّةٌ ... بمصرَ ورضوانُ رضوانها وقوله من قصيدة في المدح: وقَبْلَ كَفِّكَ لا زالتْ مُقَبَّلَةً ... ما إنْ رأينا سحاباً قَطْرُهُ بِدَرُ أَحْيَت وأَرْدَتْ فمن أَنوائها أبداً ... صوبُ الندى والردى في الناسِ مُنهمر أُعْيَت صفاتُكَ فكري وهي واضحةٌ ... كالشمس يَعْجِزُ عن إدراكها البَصَر وقوله من قصيدة: جَمَع الفضائل كلَّها فكأنما ... أَضحى لشخص المَكْرُماتِ مِثالا ما كان يُبْقي عدلُهُ متظلِّماً ... لو كان يُنْصِفُ جُودُهُ الأموالا لا يرتضي في الجُودِ سَبْقَ سؤال مَنْ ... يرجوهُ حتى يَسْبِقَ الآمالا وقوله من المراثي في كبير، عقب موته نزول مطرٍ كثير: بنفسيَ من أَبكى السمواتِ موتُهُ ... بغيثٍ ظَنَنّاهُ نوالَ يمينهِ فما اسْتَعْبَرَتْ إلا أَسىً وتأسُّفاً ... وإلا فماذا القطر في غير حينه وقوله: فإن تكُ قد غاضَ بجودِ أَكُفِّكمْ ... عيونٌ، وفاضتْ بالدموع عيونُ وخانتكُمُ والدّهْرُ يُرْجَى ويُتَّقَى ... حوادثُ أَيامٍ تَفِي وتخونُ فلا تيأسوا إِنَّ الزمان صَروفَهُ ... وأَحداثَهُ مثل الحديثِ شُجون وقوله من قصيدة: هو الدهرُ، فانظرْ أَيَّ قِرْنٍ تحاربهْ ... وقد دهمتنا دُهْمُهُ وأَشَاهِبُهْ ليالٍ وأيامٌ يُغَرُّ بها الوَرَى ... وما هي إلا جُنْدُهُ وكتائبه ومنها: وما سُمُّهُ غيرُ الكرام كأنما ... مناقِبُهُمْ عند الفَخَارِ مثالبُهْ ومنها: لقد غابَ عن أُفْقِ العلا كلُّ ماجدٍ ... له حاضرُ المجدِ التليدِ وغائبه إِذا ذكرتْهُ النفسُ بتُّ كأنَّنِي ... أَسِيرُ عِداً سُدَّتْ عليه مذاهبه وكم ليلةٍ ساهَرْتُ أَنْجُمَ أُفْقِهَا ... إذا غابَ عني كوكبٌ لاح صاحبه يطولُ عليَّ الليلُ حتى كأنما ... مشارقُهُ للناظرين مغاربه وقد أسلمَ البدرُ الكواكبَ للدجى ... وفاءً لبدرٍ أَسْلَمَتْهُ كواكبه يُخَيَّلُ لي أَنَّ الظلامَ عجاجةٌ ... وأَنَّ النجومَ السارياتِ مواكبه وأَن البُروقَ اللامعاتِ سيوفُهُ ... وأن الغيوثَ الهامعاتِ مواهبه ومنها: فقلْ لليالي بعد ما صَنَعتْ بنا ... أَلا هكذا فليَسْلُبِ المجدَ سالبه وقوله في العتاب والهجاء من قصيدة: خليليَّ إن ضاقتْ بلادٌ بِرُحْبِها ... ورائي فما ضاق الفضاءُ أماميا يظنُّ رجالٌ أنني جئتُ سائلاً ... فأسخطني أَنْ خابَ فيهمْ رجائيا وما أنا ممن يُسْتَفَزُّ بمطمعٍ ... فيُخْلِفُهُ منه الذي كان راجيا ولكنني أَصْفَيْتُ قوماً مدائحي ... فأصبحَ لي تقصيرُهُمْ بيَ هاجيا فإن كنتُ لا أُلْفَى على المَنْع ساخطاً ... كذلك لا أُلْفَى على البَذْلِ راضيا محاسنُ لي فيهمْ كثيرٌ عديدُهَا ... ولكنها كانتْ لديهم مساويا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 691 تُقَلِّدُهُمْ من دُرِّ نحري قلائداً ... ولو شئتُ عادت عن قليلٍ أفاعيا ومنها: ولو كنتُ أنصَفْتُ المدائح فيهمُ ... لصيَّرْتُها للأَكرمينَ مراثيا وقوله: لا ترجُ ذا نقصٍ ولو أصبحتْ ... من دونه الرتبةِ، الشمسُ كيوانُ أَعلى كوكبٍ موضعاً ... وهو إذا أَنْصَفْتَهُ نَحْسُ وقوله في ذم الزمان: كم كنت أسمع أن الدهرَ ذو غِيَرٍ ... فاليومَ بالخُبْرِ أَستغني عن الخَبَرِ ومنها: تشابَهَ الناسُ في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ ... تَشَابُهَ الناسِ والأصنامِ في الصُّوَرِ ولم أَبِتْ قطُّ من خَلْقٍ على ثِقَةٍ ... إلا وأصبحتُ من عقلي على غَرَر لا تخدَعَنِّي بمرئيٍ ومُسْتَمعٍ ... فما أُصُدِّقُ لا سمعي ولا بَصَري وكيف آمَنُ غيري عند نائبةٍ ... يوماً إذا كنتُ مِنْ نفسي على حَذَر تأبى المكارمُ والمجدُ المؤثَّلُ لي ... من أَنْ أُقيم، وآمالي على سَفَرِ إني لأَشْهَرُ في أَهلِ الفصاحة مِنْ ... شمسٍ وأَسْيَرُ في الآفاق من قمرِ وسوف أَرْمي بنفسي كلَّ مهلكةٍ ... تَسْرِي بها الشهبُ إن سَارَتْ على خَطَرِ إِمَّا العُلاَ، وإليها مُنْتَهَى أَملي ... أَو الرَّدَى، وإِليهِ مُنْتَهَى البَشَرِ وقوله: لا تُنْكرَنَّ من الأَنَامِ تَفَاوُتاً ... إذ كان ذا عَبْداً وذلك سَيِّدَا فالناسُ مثلُ الأرض منها بُقْعَةٌ ... تَلْقَى بها خَبَثاً وأُخْرَى مَسْجِدا وقوله: ومن نكد الأيام أَنِّي كما تَرَى ... أُكابدُ عيشاً مثلَ دهريَ أَنْكَدَا أَمِنْتُ عِداتي ثمَّ خِفْتُ أحبَّتي ... لقد صدقوا، إِنَّ الثقاتِ هُمُ العِدَا ومن شعره في عدة فنون قوله: لا تَطْمَعَنْ فيَّ أرضٌ أَنْ أُقيمَ بها ... فليس بيني وبين الأَرضِ من نَسَبِ حيث اغتربتُ فلي من عفَّتي وَطَنٌ ... آوي إِليه وأهلٌ من ذوي الأدبِ لولا التنقلُ أَعْيَا أن يَبينَ على ... باقي الكواكب فضلُ السَّبْعَة الشُّهُب وقوله في شمعة: ومصفرَّةٍ لا عن هَوىً غير أَنَّها ... تحوزُ صفاتِ المستهام المُعَذَّبِ شجوناً وسُقْماً واصطباراً وأَدْمُعاً ... وخَفْقاً وتسهيداً وفرطَ تَلَهُّبِ إذا جَمَّشَتْها الريحُ كانت كمِعْصَمٍ ... يردَّ سلاماً بالبَنانِ المُخَضَّب وقوله: لئن زادني قُرْبُ المَزَارِ تَشَوُّقاً ... للقياك، آذى فِعْلَهُ عَدَمُ الحسِّ فما أنا إلا مثلُ ساهرِ ليلةٍ ... بدا الفجرُ فازداد اشتياقاً إلى الشمس القاضي أبو الفتح محمود بن إسماعيل بن حميد الفهري وأصله من دمياط وذكره أبو الصلت في رسالته وقال: محمود بن إسماعيل الدمياطي كاتب الإنشاء بالحضرة المصرية. قال القاضي الفاضل توفي سنة إحدى وخمسين، وأنشدني له أشعاراً محكمة النسج كالدر في الدرج. علق بحفظي من قصدية هائية هذا البيت: أَثَرُ المشيبِ بفَوْدِه وفُؤَادِه ... ألجاه أَنْ يَبْغي لديها الجاها وأنشدني له في ابن الزبير وكان أسود: يا شبه لقمانَ بلا حكمةٍ ... وخاسراً في العلم لا راسخا سلخت أَشعارَ الورى كلِّهِمْ ... فصرتَ تُدْعَى الأَسْوَدَ السالخا وأنشدني الأمير مرهف بن مؤيد الدولة أسامة بن منقذ لأبي الفتح ابن قادوس في رجل كان يكبر كثيراً في الصلاة: وفاترِ النيَّةِ عِنِّينِهَا ... معْ كَثْرَةِ الرِّعْدَة والهِزَّهْ مُكَبِّرٌ سبعينَ في مَرَّةٍ ... كَأنَّهُ صلَّى على حَمْزَهْ وأنشدني قوله أيضاً: ولائمٍ يلومني ... يريدُ مِنِّي تَوْبتي يقولُ لي: الموتُ غداً ... فقلت: هذا حُجَّتِي وأنشدني قوله أيضاً في طبيب: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 692 عليلهُ منه عَلَى ... حالَيْ خسارٍ يَحْصُلُ تُؤْخَذُ منهُ دِيَةٌ ... وبَعْدَ هَذَا يُقْتَلُ وأنشدني قوله في الهجو: قد كنتَ علقاً نفيساً ... سمحاً تجودُ بنفسكْ إِذْ جاءك الحظُّ فافخرْ ... على أُبَيْنَاءِ جنسك وإنْ تذكَّرَ قومٌ ... حديثَ أَمْسِكَ أَمْسِكْ وله من قصيدة: قمْ قبلَ تأذين النواقيسِ ... واجلُ علينا بنتَ قسِّيسِ عروسَ دَنٍ لم يَدَعْ عِتْقُهَا ... إلا شُعَاعاً غيرَ ملموس تُجْلَى علينا باسماً ثغرُهَا ... فلا تقابِلْها بتَعْبِيس مُذْهَبَةُ اللونِ إذا صُفِّقَتْ ... مُذْهِبَةٌ للهمِّ والبُوس نارٌ إلى النارِ دعا شُرْبُهَا ... وشَرَّدَتْ بالعقلِ والكيس لا غروَ ما تأتيه من ريبةٍ ... لأنها عُنْصُرُ إليس ليس لها عيبٌ سوى أَنها ... حسرةُ أَقوامٍ مفاليسِ في روضةٍ كانت أزاهيرُهَا ... كأنَّها ريشُ الطواويس فاغتنمِ اللذاتِ في دولةٍ ... صافيةٍ من كل تَعْكيس بقيتَ في عمرٍ فيسح المدى ... من كلِّ ما تَحْذَرُ محروسِ وله من قصيدة: خلعتُ عذاري والتُّقَى في هواكمُ ... فأصبحتُ فيكم مُعْجَباً بذنوبي ومامِثْلُ هذا الحبِّ يُحْمَلُ بَعْضُهُ ... ولكنَّ قلبي في الهوى كَقُلُوبِ وله لما تَعَلَّقَ ظبيةً ... رُوداً وظبياً أَهْيَفَا وتآلفا بفؤادِهِ ... صار الفؤاد مُصَحَّفَا وله وليلةٍ كاغتماضِ الطَّرْفِ قَصَّرَهَا ... وصلُ الحبيبِ ولم نُقْصِرْ عَنِ الأَملِ بِتْنَا نجاذبُ أَهْدَابَ الظلامِ بها ... كفَّ الملامِ وذكرَ الصدِّ والملل وكلما رامَ نُطْقاً في معاتبتي ... سَدَدْتُ فاهُ بطيبِ اللثم والقُبَلِ وبات بدرُ تمامِ الحُسْنِ مُعْتَنِقي ... والشمسُ في فَلَكِ الكاساتِ لم تَفِلِ ومنها البيت الذي سار له: فبتُّ منها أرى النارَ التي سجدتْ ... لها المجوسُ، من الإبريق تسجدُ لي راحٌ إذا سَفَك النَّدْمَانُ من دمها ... ظَلَّتْ تقهقهُ في الكاساتِ من جَذَل فقلْ لمنْ لامَ فيها إنني كلِفٌ ... مُغْرىً بها مثلما أُغْرِيتَ بالعَذَلِ وله أَأَحْمدُكمْ لك عندي يدٌ ... كما انبعثَ الماء من جَلمَدِ قَصَرْتُ على شكرها مَنْطِقاً ... رَطيبَ اللسانِ نَدِيَّ النَّدِى فلا تقطَعَنْها فإني أخافُ ... تَطيُّرَ قومٍ بقطعِ اليد وأنشدني الأمير مرهف بن أسامة بن منقذ له: أَكْرِمْ بقلبي للأحبَّةِ منْزِلا ... رَبَعُوا به أَم أَزْمَعُوا مَتَرَحَّلا جادتْهُ أَنواءُ الدموعِ فما اغْتَدَى ... يوماً لِمنَّاتِ الحَيَا مُتَحَمِّلا حفظي لعهدِ الغادرين أَضاعَ لي ... قلباً أَقامَ غرامُهُ وتَرَحَّلا لا يَبْعُدَنْ زمنٌ مضى لو تُشْتَرى ... ساعاتُهُ بالعمر أَجمعَ ما غَلاَ أَيَّامَ أَغصانُ القدودِ، قطوفُهَا ... تُجنى، وأَقمارُ الملاحة تُجْتَلَى ومهفهفٍ لولا سهامُ جفونه ... تُصْمِي لأَدْرَكَ عاشقٌ ما أَمَّلا كالبدرِ وجهاً والغزالِ تلفُّتاً ... والحِقْف ردفاً والقضيب تَمَيُّلا ويكادُ من طيبِ المُقَبَّلِ يَنْثَني ... عود الأَراك من الثنايا مُبْدلا إن كان يحكي البدرَ وجهاً إنه ... يحكيه أَيضاً في البروجِ تَنَقُّلاَ ولقد أُديلُ من الصبابة همتي ... وأَشيمُ من شِيَمِي عليها مُنْصُلا وأَصونُ عقدَ بلاغةٍ نَظَّمْتُهُ ... عن أَن يُرَى بسِوَى عُلاكَ مُفَصَّلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 693 يا من تساوتْ في العلا أَقسامُهُ ... وسما بهمته فكانَ الأَفْضَلا أَرضٌ سعتْ قدماك فيها لا تزلْ ... لذوي الممالك قِبْلةً ومُقَبَّلا ونداك، كل مؤمِّلٍ ما أَمَّلا ... إلا تَجَهَّمَ للعُفاةِ وأَمَّلا مَلِكٌ يلاقي الطيفَ وهْوَ مُدَرَّعٌ ... حزماًن ويقتنصُ الفوارس أَعزلا وأنشدني أيضاً لابن قادوس في الرشيد بن الزبير وكان أسود: إنْ قلتَ من نارٍ خُلِقْ ... تَ وفُقْتَ كل الناسِ فَهْما قلنا صدقتَ فما الذي ... أَطفاكَ حتى صِرْتَ فحما وله مليكٌ تَذِلُّ الحادثاتُ لعزِّه ... يُعيدُ ويُبدي والليالي رواغمُ وكم كربةٍ يوم النزالِ تكشَّفَتْ ... بِحَمْلاَتِه وهْيَ الغَوَاشي الغَواشِمُ تَشِيدُ بناءَ الحمدِ والمجدِ بِيضُهُ ... وهنَّ لآساس الهوادي هوادم رقاقُ الظُّبَا تجري بآجالِ ذي الوَرَى ... وأرزاقِهِمْ، فَهْي القواسي القواسم ومن قصيدة في صفة زاهد: إذا قائمُ السيف انثنى في مُلِمَّةً ... عن الفعل أَغنى وحدَهُ وهْو قائمُ فما صَدَرَتْ عن موردِ النفس خِلْتَهَا ... بأَغمادها وَهْي العواري العوارم ومنها مخاطباً للزاهد: صحائفُ أَعداها الشباب بصبغةٍ ... فهل أنت ماحٍ ما تخطُّ المآثم ومن محاسن ابن قادوس، في شعره العلق بالنفوس، ما استخرجته من ديوانه قوله في صفة كتاب: مدادُهُ في الطِّرْسِ لمَّا بدا ... قَبَّلُه الصبُّ ومَنْ يزهدُ كأنما قد حلَّ فيه اللَّمَى ... أو ذاب فيه الحجرُ الأَسود وقوله: مَنْ عاذري مِنْ عاذلٍ ... يلومُ في حُبِّ رَشَا إذَا نَكِرْتُ حُبَّهُ ... قال كَفَى بالدمع شا أي شاهد. وقوله في صبي لم يدرك: سالمُ الفكر من تَخَالُجِ شَكٍ ... مُصْبِحُ الرأي في الملمِّ البَهيمِ يُولجُ الليلَ في النهارِ من الخ ... طِّ بلفظٍ كمشرقاتِ النجومِ وله من قطعة: لقد كان جاهي عريضاً بكم ... فَلِمْ صار كالخطِّ لا عَرْضَ لهْ وكم من يدٍ لك مشكورةٍ ... وما ليَ فيها ولا أُنْمُلَهْ وقوله في ابن العلاني المعري: هذا ابن علاَّنيكمُ شِعْرُهُ ... ينوب في الصيف عن الْخَيْشِ إنْ لم يكن مثل امرىء القيس في ... أَشعاره فَهْو امرؤُ الفَيْشِ وله في أقلفٍ: وقيتَ قفاك من وقعِ القوافي ... وأَلفاظٍ خفافٍ كالحِقافِ متى تُرْجى لنفعٍ أو لدفعٍ ... وقلبُكَ مثل في غِلاَفِ وله لام العواذلُ مغرماً ... في حبِّ مُلْهِيَةٍ وَقَيْنَهْ ولو انهنَّ رأين تأْ ... ثيرَ الغرام به وَقَيْنَهْ وله في مرثية: يا فجعةً هي في الجنانِ مَسَرَّةٌ ... لقدومهِ تختال في غُرفَاتها إِنْ كان في الدنيا عليهِ مأتمٌ ... فأراه عُرْس الحورِ في جَنَّاتِها وله يا من يكرُّ على جريح ... اللحظ منه مُجْهزُ ديباج خدَّيه بسنْدُسِ ... عارضَيْهِ مُفَرْوَزُ وبخدِّهِ خالٌ لدا ... ثِرَةِ الملاحةِ مَرْكَزُ قل لي ولحظُكَ صَارِمٌ ... في أيِّ دِرْعٍ أبْرُزُ أَبداً بسلطان الجما ... ل وبالهوى يَتَعزَّزُ ويقول غِرٌّ بالتجني ... وهْو فيه مُبَرِّزُ ويَسُومني ما لا يجو ... زُ من الأذى فأُجَوِّزُ لولا الوزيرُ وعدلُهُ ... لم يُغْن فيه تَحَرُّزُ عدلٌ يَفِيض وهمةٌ ... تَنْهَى العذولَ وتَحْجِزُ وله يا أَمرداً أَرمد العينَ ... من دماءِ الجراحِ يقول طرفِيَ شاكٍ ... صدقتَ، شاكي السلاح وله يهجو شاعراً: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 694 لو كان ينصفُ حين ينْشِدُ ... شعرَهُ وَسْطَ المَلاَ صفعوه عِدَّةَ كلِّ حرْ ... فٍ فيه لكنْ جُمَّلاَ وله يهجو: إِذا قال لا يعدو كلامَ ابن فاعلٍ ... على أَنَّ مَحْضَ الجهل حشْوُ دماغهِ وليس كلاماً ما يقول وإنما ... يجيب الصَّدا من رأسه من فراغه وله في جارية سوداء: وعاذلٍ محتفلٍ ... مجتهدٍ في عَذَلي يلومُني في ظبيةٍ ... مخلوقةٍ من كَحَل إنّ السَّوَادَ عِلَّةٌ ... من نورِ هذي المُقَل والحَجَرُ الأسودُ لم ... يُخْلَقَ لغير القُبَلِ والقارُ مذ كان وعا ... ءُ السلسبيلِ السَّلْسَلِ وله فإن عدتُ إلى وصلك ... فالألطاف مَرْجُوَّهْ وإن لجَّ بك الهجرُ ... فلا حولَ ولا قُوَّه وله حوله اليومَ أُناسٌ ... كلُّهُمْ يُزْهى برَائِهْ وهْو مثلُ الماء فيهمْ ... لونُهُ لونُ إنائِهْ وله ابنُ فلانٍ رجلٌ صالحٌ ... فامتحنوه واقبلوا رأئي ارموهُ في البحرِ لكي تنظروا ... فإنه يمشي على الماءِ وله في ذم السواد: أَهْوِنْ بلونِ السواد لوناً ... ما فيه من حُجَّةٍ لناسِبْ لستَ ترى حُمْرَةً لخدٍ ... فيه ولا خُضْرَةً لشارِبْ وله في فرس يستعمل في الماء: أَأَرَدْتَها تَبْقَى وقدْ ... كلَّفْتَها بالماءِ قُوتَا لكنْ لشدَّةِ ضَعْفِها ... ما كان فيها أن تموتا وله يهجو: عِرْسُ هذا الفعيل مذ غرس النا ... كةُ فيها ... وهْي مُبَاحَهْ أثمَرَتْ رأسُه قروناً طوالاً ... إنَّ هذا لمِنْ غريبِ الفِلاَحَهْ وله يقظانُ ملتهبُ النَّدَى فكأنّه ... مُغْرىً بإتلافِ النُّضَارِ مُسَلَّطُ ومن شعره: ذو عارضٍ كالغُرَابِ لوْناً ... وشاربٍ مثل ريشِ بَبْغَا وله يهجو أنفاً كبيراً: أنفُ الشريفِ دونه الآنافُ ... كأنما الدنيا له غِلاَفُ ومن شعره: قل لمن قد مَحَضتُهُ خالص الحبِّ ... فلم يَجْزِنِي على قدر حُبِّي قد قَنِعْنَا بمنظرٍ يُطفْىءُ الوجْدَ ... ولفظٍ يُلْهِي الفؤاد ويُصْبِي ما أُحِبُّ الوصالَ إلا لهذا ... فبقلبي أحبكم لا ..... وله في رجل كبير الأنف: عليك لا لك أنفٌ ظلَّ مُشتَرِفا ... حتى غَدَا بنجوم الأُفْقِ مُلتَصِقَا فلا تقُلْ خلقةُ الله ازدريْتَ بها ... فقد يعاذُ به من شرِّ ما خَلَقا وله في المعنى: كأنه السدُّ الذي بيْنَنا ... وبيْنَ يأْجوجٍ ومأْجوجِ وله في المعنى أيضاً: ورُبَّ أنفٍ لصديقٍ لنا ... تحديدهُ ليس بمعلومِ ليس على العرشِ له حاجبٌ ... كأنه دعوة مظلوم الموفق أبو الحجاج يوسف بن محمد المعروف ب ابن الخلال هو ناظر ديوان مصر وإنسان ناظره، وجامع مفاخره، وكان إليه الإنشاء، وله قوة على الترسل يكتب كما شاء، عاش كثيراً وعطل في آخر عمره وأضر، ولزم بيته إلى أن تعوض منه القبر، وتوفي بعد تملك الناصر مصر بثلاث أو أربع سنين. وأنشدني مرهف بن أسامة بن منقذ، قال أنشدني الموفق بن الخلال لنفسه من قصيدة: عَذُبَتْ ليالٍ بالعُذَيب خَوَالي ... وحلَتْ مواقِفُ بالوصالِ حَوَالي ومضتْ لذا ذاتٌ تَقَضَّى ذكرُها ... تُصْبِي الحليم وتَسْتَهيمُ السالي وجَلَتْ مورَّدة الخدود فأَوْثَقَتْ ... في الصَّبْوةِ الخالي بحُسْنِ الخالِ قالوا سراةُ بني هلالٍ أصْلُها ... صَدَقوا كذاك البدرُ فرع هِلال ونقلت من كتاب جنان الجنان ورياض الأذهان من شعر ابن الخلال قوله: وأغنَّ سيفُ لحاظِهِ ... يَفْري الحُسامَ بحدِّهِ فَضَحَ الصوارمَ واللِّدَا ... نَ بقدِّه وبقدِّه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 695 عجبَ الوَرَى لما حييت ... وقد منيت ببعده وبقاء جسمي ناحلاً ... يصلي بوقدة صدِّه كبقاء عنبرِ خالِهِ ... في نارِ صَفْحةِ خَدِّه وقوله في شمعة: وصحيفةٍ بيضاءَ تَطْلُعُ في الدجى ... صبحاً وتشفي الناظرين بدائها شابتْ ذوائبها أَوانَ شبابها ... واسودَّ مَفْرِقُها أَوانَ فنائها كالعين في طبقاتها ودموعِها ... وسوادِها وبياضِها وضيائها وقوله في الشمعة أيضاً: وصَعْدَةٍ لدنةٍ كالتبر تَفْتُقُ في ... جنحِ الظلامِ إذا ما أَبْرَزَتْ فَلَقَا تدنو فيَخْرِقُ بُرْدَ الليل لَهْذَمُها ... فإِنْ نأَتْ رَتَقَ الإظلامُ ما فَتَقَا وتستهلُّ بماءٍ عند وَقْدَتِها ... كما تأَلَّقَ برقُ الغيثِ فاندَفَقَا كالصبِّ لوناً ودَمْعاً والتظاً وضناً ... وطاعةً وسهاداً دائماً وشَقَا والحِبِّ أُنساً وليناً واسْتِواً وشَذاً ... وبهجةً وطُرُوقاً واجْتِلاً وَلِقَا وقوله: أما اللسانُ فقد أَخْفَى وقد كتما ... لو أَمكن الجفنُ كفَّ الدمع حين هَمَا أصبتمُ بسهامِ اللحظِ مُهْجَتَهُ ... فهل يلامُ إذا أجرى الدموع دَمَا قد صارَ بالسقم من تعذيبكم عَلَماً ... ولم يَبُحْ بالذي من جَوْرِكم عَلِمَا فما على صامتٍ أَبْدَى لصدِّكُمُ ... في كلِّ جارحة منه السقامُ فما وقوله في مرثيه بالعظات مثرية: شِيَمُ الأيَّامِ سدٌّ بعد وُدِّ ... والليالي عهدها أَهْوَنُ عَهْدِ إن أَعَانَتْ عَدَلَتْ أَوْ خَذَلَتْ ... سَلَبَتْ أَوْ وجدت راعت بفَقْدِ أُفِّ للدُّنْيا فكم تخدعنا ... من حِبَاهَا بمُعَارٍ مُسْتَرَدِّ ما وَفَتْ أَعوامُ قُرْبٍ بالذي ... جَنَتِ اللوعةُ من ساعةِ بُعْدِ يا أَخا الغِرَّةِ حَسْبُ الدهر من ... عِظَةِ المغرور ما أَصبح يُبْدِي تؤثرُ الدنيا فهل نلتَ بها ... لحظةً تخلصُ من همٍ وكَدِّ الشيخ أبو الحسن علي بن الحسن المؤدب قرأت في مجموع له: وأهيفٍ كالقضيبِ مُعْتَدِلاً ... باتَ بروضِ الجمال مَغْرُوسَا أَثمر بالشمسِ والظلامِ وهلْ ... يجتمع الصبحُ والحناديسا سُمِّيَ باسم المسيح وهْوَ على ... ضدِّ الذي كانَ فاعلاً عيسى فذاك يُحْيي وذا يميتُ ضَناً ... صبّاً عليلاً لديه لا يُوسَى تَحَكُّمٌ في النفوسِ يملكها ... مثل سليمانَ عرشَ بلقيسا يلتقفُ السحرَ سحرُ ناظره ... كأنما لحظهُ عَصَا موسى وله في ذم العذار: انْقَعْ غليلَ الأَسَى بدمعٍ ... تُقْرِحُ أَسرابُهُ الجفونا محا اسمَكَ الشَّعْرُ من خُدودٍ ... أثبتَّ في صحنها شُجُونَا ما دبَّ في عارِضيك حتى ... بذلتَ من نفسك المصونا فلا عدمنا اللحى فإنَّا ... بها نروضُ الفتى الحَرُونا الشريف أبو الحسن علي بن محمد الأخفش المغربي الشاعر كنت أسمع التجار من أهل مصر وغيرهم من أهل الشام يصفونه ويطرونه، وعلى من بمصر من الشعراء يقدمونه، فإذا استنشدهم أحدٌ شعره قالوا ما نحفظه؛ لكنا لقبوله بمصر بعين الفضل نلحظه، حتى أنشدني الشريف أحمد ابن حيدرة الزيدي الحسيني شعره، فوجدت موافقاً لخبرهه خبره. أنشدني له من قصيدة في المنبوز بالآمر: سَقَى دِمَنَ السَّفْحين للقطرِ صيِّبُ ... وحَيَّا رُبَى حَيٍ رَبَا فيه رَبْرَبُ فهل لي إِلى شَهْدِ اللواعسِ مَشْهَدٌ ... وهل لي إلى شِعْب الأَحِبَّةِ مَشْعَب وما ليَ عن شرعِ الصبابةِ مَشْرَعٌ ... وما ليَ إلاَّ مذهبَ الحبِّ مَذْهَبُ وفي الحيِّ رودٌ في عِذابِ وُرودِهَا ... عَذابٌ يُذيب العاشقين ويَعْذُبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 696 على نحره يَطْفُو على الماء جوهرٌ ... وفي خَدِّهِ تَسْعَى على النار عَقْرَبُ إذا غَرَبَتْ في فيه شمسُ مُدَامَةٍ ... فمشرقها من خدِّه حين تغرب بروضٍ بديعِ الحسن أَمَّا شقيقُهُ ... فخدٌّ وأما الأُقحوانُ فأَشْنَبُ سَمَاءُ كَلاً للماءِ فيه مَجَرَّةٌ ... وللوردِ شَمْسٌ والشقائقِ كوكبُ كأَنَّ غصونَ الأيْكِ عادت منابراً ... بها وكأنَّ الطيرَ فيهنَّ تخطبُ وغنَّتْ على الأوراقِ وُرْقٌ كأنها ... قيانٌ بأوتارِ المعازفِ تضرب بليلٍ من البدرِ المنير مفضَّصٍ ... يُنَاطُ به شمسٌ من الصُّبْحِ مذهب تعسَّفْتُهُ لمَّا تَنَصَّلَ بالضحى ... عن الصبح فَوْدٌ بالظلام مُخَضَّبُ وهجَّرتِ الرمضاءُ والآلُ مائحٌ ... كأَنَّ على أَمْواجها العيسَ مَرْكَبُ وقد زَجَلَتْ جنُّ الفلاة بمهمهٍ ... إذا جئتَ منها سبسباً عَنَّ سَبْسَبُ إلى ذروةِ النورِ العَلائِيِّ إِنَّهُ ... إلى ذروة النُّورِ الإِلهِيِّ يُنْسَب وأنشدني له من قصيدة أولها: متى يشتفي المشتاقُ من لوعةِ الأسى ... ودائي دوائي، والأَسَى مَعْدِنُ الأَسَا ومنها: غزالٌ كحيلُ الطرف أَحوى مُفَلَّجٌ ... تَدَرَّعَ جلبابَ الملاحةِ واكتسى ويتلو كتابَ السحرِ من لَحَظَاتِهِ ... كأنَّ لدين السحرِ فيها مُدَرِّسَا ومنها: ألا فاتَّخِذْ تلك الرياضَ منازهاً ... فإن أميرَ الغيثِ فيهن عَرَّسَا وكنْ بظباءٍ الإِنس صبّاً متيماً ... بأشنبَ معسلِ الثَّنِيَّاتِ أَلْعَسَا له اسمٌ متى ما شئت كَشْفَ غيوبه ... كما يكشف الصبحُ المبلَّجُ حِنْدِسَا مُدامٌ وحُورٌ ثُمَّ مِسْكٌ ودميةٌ ... فهذا اسم ظبيٍ جلَّ أَنْ يتقيَّسا وأنشدني له في ولد نقيب العلويين بمصر الملقب بأنس الدولة وكان مقدماً على الشعراء لنسبه، وشعره نازل: سَمَتْ بابن أُنْسِ الدَّولة الرتبُ التي ... تُطَاوِلُ قَرْنَ الشمسِ حتى تَطُولَهُ يحاولُ قولَ الشعر غايةَ جُهْدِهِ ... وتأبى له أَعراقُهُ أَنْ يَقُولَهُ وكم قائلٍ لمَّا ذكرتُ انتسابَه ... لآل رسولِ الله هاتِ دليلَهُ فقلت لهم أَقْوَى دليلٍ أقمته ... عليه بأنَّ الشعر لا ينبغي لهُ وأنشد أيضاً الأمير أسامة بن منقذ هذه الأبيات وقال: كنت في خدمة ابن عمه وهو ينشد هذه الأبيات، وأنشدني له في العذار بيتين أغرب في معناهما على الابتكار: وكأنَّ العذار في حُمْرَةِ الخدِّ ... على حُسْنِ خَدِّكَ المنعوتِ صولجانٌ من الزُّمُرُّدِ معطو ... فٌ على أُكْرَةٍ من الياقوت ما أحسن هذين البتين، لولا أنه ذكر الخد في البيت الأول مرتين. أقول: الشريف الأخفش، بسماع شعره ميت الحس ينعش، وخلي القلب يدهش، فهو كالديباج المنقش، والبستان المعرش، مذهبه في التجنيس مذهب، ونظمه في سماء الفضل كوكب، واستثقالي بتكرير الخد في وصف العذار كما حكي عن ابن العميد أنه استثقل قول أبي تمام: جوادٌ متى أمدحْهُ أَمْدَحْهُ والوَرَى ... معي ومَتى ما لُمْتُهُ لمته وَحدِي فقال: تكرار أمدحه ثقل روح، وقابل المدح باللوم وكان يجب أن يقابل بالهجاء وهذا نظر دقيق. ونقلت من بعض التعاليق، بدمشق من قصيدة للأخفش في عبد المجيد المنبوز بالحافظ بمصر: ذَكَرَ الدوحَ بِشَاطِي بَرَدَى ... وحَباباً فيه يطفو بَرَدا والصَّبَا تمرحُ في أرجائه ... فتصوغُ الموجَ منه زَرَدَا يَتمنَّى القِرْنُ أن يلبسه ... بين أبطالِ الوغى لو جمدا رَكَدَتْ سارحةُ الريح به ... فجرتْ خيلاً ومرَّتْ سَرَدا ينثرُ البدرُ عليه فضةً ... وتذيبُ الشمسُ فيه عسجدا رشأٌ لو لم تكن ريقتُهُ ... قهوةً صافية ما عَرْبَدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 697 تحجب الكلَّةُ منه قمراً ... ويحوزُ الدرع منه أَسَدا قمرٌ إن هزَّ رمحاً في الوغى ... هزَّ من عطفيه غصناً أَملدا ليْتَهُمْ إذ منطقوا أَعطافَهُ ... بالثريا قلَّدُوه الفرقدا طافَ بالراح التي لم تَدَّرِعْ ... بحسام المزج إلا زَبَدَا فَعَلاَها دُرُّهُ ياقوتةً ... ذاب سقماً جسمها فاطَّرَدَا ومنها في المديح، وقد أفضى به الغلو إلى الكفر الصريح: صِرْفُ جِرْيالٍ يرى تحريمها ... من يرى الحافظَ فَرْداً صَمَدَا بَشَرٌ في العينِ إِلا أنَّهُ ... من طريقِ العقل نورٌ وهدى جلَّ أن تدركه أعيننا ... وتعالى أن تراه جَسَدا فَهْو في التسبيح زُلْفَى راكعٍ ... سَمِعَ الله به من حمدا تدركُ الأفكارُ فيه نبأً ... كادَ من إجلاله أن يُعْبَدا واقتصرت على هذه أنموذجاً لشركه، وأخرت الباقي من سلكه؛ وأنشدت له مطلع قصيدة: عوجا بمنعرج السفحين أو رُوحَا ... فقد قضى مَرْبَعٌ كنتم له روحا وللشريف الأخفش من قصيدة يمدح فيها الشريف القاضي المفضل إمام ابن حيدرة بن علي قاضي بلبيس كان وأولها: لنجرانَ، فالبرقُ الحجازيُّ أَبْرَقَا ... وعُسْفانَ، فالمُزْنُ اليمانيُّ أودقَا ومن جملتها: شريفٌ يدُ الشرعِ انتقتْ منه قاضياً ... فكان لهذا الدين أفضلَ مُنْتَقَى خلائقُهُ في العدلِ تُرْضَى وتُرتجَى ... وسطوته في الحقِّ تُخْشَى وتُتَّقَى إذا ما تَعَدَّى ماردٌ لسمائه ... أَعدَّ له نجماً من القَذْفِ مُحْرِقَا يُثَبتُ مَنْ لَمْ يَرْقَ في ذروة العُلاَ ... ويَدْحَضُ عن عَرْشِ المعالي مَنِ ارْتَقَى وسبَّاقُ غاياتٍ بإِبطاءِ وَثْبَةٍ ... ولم يُبْطِ بالتثبيت إلا ليسبقا هو الغيث يَمِّمْهُ إذا كان مُمْطِراً ... وخُذْ حذراً منه إذا كان مُصْعِقا وما اصفرَّ لونُ التبرِ عند اجتماعه ... بكفيه إلا خيفةً أن يُفَرَّقا وآخر هذه القصيدة: فلا طَمَحَتْ بي نحو غيركَ عَزْمَةٌ ... ولا بابٌ منك دونِيَ مُغْلَقَا ومن شعراء بني رزيك: الخطيب المفيد أبو القاسم هبة الله بن بدر المعروف ب ابن الصياد وجدت له في مجموع ما ألفه الجليس بن الحباب في شعراء ابن رزيك والمداح فيه، من قصيدة أولها: بسمعي عن التَّعذَالِ فيك تَصامُمُ ... فجهديَ عِصْيَانِي إذا لامَ لائِمُ منها يصف عدوه: ولما رأَى الغَدَّارُ قُرْبَ حلولهِ ... تيقَّنَ أن الموتَ ما منه عاصمُ ولو كان ذا حَزْمٍ لما حَامَ قبل أن ... يرى الخيلَ بل من قبلِ تبدو الصوارم أمستخبرٌ هَل من قَدَارٍ لريشةً ... على هزِّ بحرٍ مَوْجُهُ متلاطم وله فيه من قصيدة: كأنَّ اختطافَ الهامِ عندكَ بِالظبا ... ابتهاجاً به يومَ الوغى ثَمَرٌ يُجْنَى غداةَ جعلتَ البيضَ أَغمادها الطُّلاَ ... وخَيْلَ العِدَا تُقْنَى وسُمْرَ القَنَا تَقْنَا وله من قصيدة يذكر فيها قتله أرناط مقدم خيل الفرنج: عنْ سيفِ دين الله سلْ أَرناطا ... حيثُ المنية كاسُها يُتَعَاطى والمشرفيَّةُ قد حَكَتْ في جيشهِ ... في العَلِّ والنَّهَلِ القَطَا الفُرَّاطا قد شام طيرُ الكفرِ منه مِنْسَراً ... أَشْغَى وعاينَ مِخْلباً عَطَّاطا هو مُلْبِسٌ جُثَثَ العِدَا في الحربِ مِنْ ... حُلَلِ النجيعِ مجاسداً ورياطا فجيادُهُ تشكو مزاحمةَ القَنَا ... وتردُّ خِرْصَان الرماحِ سياطا هو فارسُ الإسلام يحفظ بالظُّبَا ... من دينه الأَطرافَ والأوساطا كم قد أنارَ من الأَسِنَّةِ أَنجما ... لما أثار من العَجَاج غُطاطا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 698 فتخالُهُ مَلَكاً رمى بشهابه ... في الرَّوْعِ شيطانَ الحروب فَشَاطا وله من أخرى: شرَّدْتَهُمْ حتى لقد قَاسَوْا على ... تلك العِقَابِ أَليمَ كلِّ عِقَابِ سِيمُوا العذابَ وذكَّرَتْهُمْ حالَهَمْ ... حِفظَاتُ أيامٍ سَلَفْنَ عِذَاب هابُوكَ فانْذَعَرُوا ومِنْ أَعذارهمْ ... أن السَّوامَ تهابُ ليثَ الغاب وله من أخرى: لله أنت على أَقبَّ مُطَهَّمٍ ... نَهْدٍ بجوزاءِ السماءِ مُشَنَّفِ ومنها: أَضْرَمْتَ في أَكبادهمْ من بَعْدِهِ ... بالنصل نارَ تأسُّفٍ وتَلَهُّفِ ففؤادُ ذي الجأشِ الربيطِ مخافةً ... يحكي جناحَ الطائرِ المُترَفْرِفِ وله من أخرى: وشرَّدَها إِشفاقُها منكَ فاغتدتْ ... ترى الأَرْضَ خوفاً وهْيَ من ضِيقها فِتْرُ فذلُّوا كأنَّ العِزَّ ما كانَ بَيْنَهُمْ ... وصاروا كأنَّ الفقرَ عندهمُ قَبْرُ وله من أخرى: أَضْحَتْ لواتَهُ شُرَّداً من بأْسِهِ ... فلديهمُ سعةُ الفضاءِ مَضيقُ لم يضربوا طُنُباً لخوفهمُ فهمْ ... مثلُ الوعولِ إذا حواها النِّيقُ إن غابَ فيهم وجهُهُ فخيالُهُ ... ليلاً كما هو في النهار طَرُوق لو هبَّتِ الريحُ اغتدى لسماعها ... قلبُ الشجيع القلبِ وهْوَ خَفُوق جعلوا الهزيمةَ عنه بِرّاً إذ لهم ... لسواه في شَقِّ العِصِيِّ عُقُوق وسمعت أن هذا ابن الصياد كان من شعراء الصالح بن رزيك. وكان سريع الخاطر في النظم لا يقف قلمه، ولا يتضع فيه علمه، ويغريه الصالح بجلسائه يهجوهم وكانوا يتعرضون به وسمعت أن ابن الحباب كان كبير الأنف وكان ابن الصياد مولعاً بأنفه قد هجاه بأكثر من ألف مقطوعةٍ وما كان يصده شيءٌ عنه حتى انتصر له أبو الفتح بن قادوس فقال فيه: يا من يعيبُ أُنوفَنَا ... الشمَّ التي ليست تعابُ الأَنْفُ خلقةُ ربنا ... وقرونك الشمُّ اكتساب ابن قيصر من أهل الاسكندرية كان كثير المنظوم، قليل الجيد منه. قرأت في مجموع: كتب الفقيه الرشيد أبو الحسن علي بن قيصر في جواب كتاب: وصلَ الكتابُ فلا عَدِمْتُ يَداً ... نَثَرَتْ عليه جَوَاهِرَ الكَلِمِ وعجبتُ كيف تَرَى لها أَثَراً ... وبنانُها يَنْهَلُّ كالدِّيَمِ ووجدت له في مجموع شعراء ابن رزيك قصيدة فيه أولها: الصبرُ عن بانِ الحمى وعقيقهِ ... في حقِّ ساكنِهِ أَجلُّ عُقوقِهِ ظبيٌ ظُبَا أَلحاظِهِ فتَّاكةٌ ... تُغْنيه يومَ الروعِ عن إبريقهِ لو قال يوم الأنس: سيانِ عندي الخمرُ في إبريقه ... أو ما حواه ثغرُه من ريقهِ أين هذا من قول ابن حيوس: فعلُ المُدَامِ ولونُها ومَذَاقُها ... في مُقْلَتَيْهِ وَوَجْنَتَيْهِ وَرِيقهِ تمام قصيدة ابن قيصر: لا فرقَ بين خيالِهِ وَوِصالِهِ ... في سَرْد ماطِلِه وفي تحقيقهِ ومنها: والله ما للشمس في إشراقِها ... وضياءِ بهجتها كبعض شروقهِ كالرِّئْمِ حالَ نفارِهِ، والبدر عند ... كمالِهِ، والغصنِ عند بُسُوقِه لا تجعلِ الهجران بعضِ عقوبتي ... فتكلِّفَ السُّلوَانَ غيرَ مطيقِه وارفقْ فمن دينِ المُرُوَّةِ في الهوى ... وعداته رفق الهوى برفيقه والله ما صَدَقَ الملامُ ولا جرى ... ذا العذلُ عند ذوي النُّهَى بطريقه كلُّ الجوارح في يديه فأَيُّها ... يُصْغي لزورِ العذل أو تنميقه فَذَرِ الملامَ فحبذاه لذكرِه ... فيه، ملام الصبِّ في مَعْشوقه يا راكب المَهْرِيِّ أَضحى ظلُّه ... في عُرْضةِ البَيْداء من مَسبوقه بلِّغ إلى المَلِكِ الهمامِ أَمانةً ... تبليغُها للحرِّ من توفيقه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 699 حتامَ حظِّي في الحضيضِ وإنه ... في الفضل عند الناس في عَيُّوقِهِ مثلي بمصرَ وأنت مالكُ رِقِّهِ ... مثلُ العُقابِ مُفَرَّداً في نِيقهِ ومنها: والله حَلْفَةَ صادقٍ بَرٍ بها ... يُضْطَرُّ سامعُها إلى تصديقه لو كنتُ أَرضَى الشِّعرَ خطَّةَ فاضلٍ ... لجعلتُ عِرْضَكَ روضةً لأنيقهِ ومنها: إنّ الحديثَ صلاحُه بصلاحِ مُنْهيه ... كذاك فُسُوقُه بفسوقِه والصيرفيُّ يبينُ عند محكِّهِ ... كم بين خالصِهِ إلى سَتُّوقِه ولقد أشاعَ الناس أنك في الورى ... من ليس يَنْفقُ باطلٌ في سوقه أَبْطِلْ بنورِ العقل سلطانَ الهوى ... واعملْ بكلِّ الجهد في تَطْليقه فأجابه الصالح بن رزيك بقصيدة منها: نفق التأدُّبُ عندنا في سُوقِهِ ... وبدا اليقينُ لنا بلَمْعِ بروقهِ أَهدى ليَ القاضي الفقيهُ عرائساً ... فيها بديعُ الوشي من تنميقه فأجلْتُ طَرْفِي في بديعِ رياضه ... من ورده وبَهارِهِ وشقيقه فكأنما اجتمع الأحبّةُ فانبرتْ ... يدُ عاشقٍ تهْوِي إلى معشوقه أَدَبٌ سعى منه إلى غاياتهِ ... وأَتى فَسَدَّ عليه مَرَّ طريقه ولقد علمتُ بأن فضلَكَ سابق ... يُعْتَدُّ مَنْ جاراهُ مِنْ مَسْبوقه فلذا اقتصرتُ ولم أَرَ الإِمعانَ في ... شأوِ امرىءٍ أصبحتُ غيرَ مطيقه وأَرى الزمان جرى على عاداته ... في جمعه طوراً وفي تفريقه والشوقُ في قلبي تضرَّمَ وهْجُهُ ... فمتى أراه يكفُّ عن تحريقه والدمعُ من عيني يَسُحُّ فهل يُرَى ... من بحره يوماً نجاةُ غريقه نَزَّهْتُ في بستانِ نظمك ناظري ... فَحَظِيتُ من زَهْرِ الرُّبَى بأنيقه يات من تَدُلُّ فنونُ ما يأتي به ... من حَلْيِ مَنْطِقِه على توفيقه أنت امرؤٌ مَن قال فيك مقالةَ ... الغالي فكلُّ الخلقِ في تصديقه وأَنا أَرَى تقديمَ حاجةِ صاحبي ... من دون حاجاتي أَقلَّ حقوقه وكذا الكريمُ فمهمِلٌ لأموره ... لا مُهمِلٌ أبداً أُمورَ صديقه هذا النجاحُ، فكل ما قد رُمْتَهُ ... قد تمَّ فانظرْ منه في تحقيقه محمد بن هانىء هو أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن مفضل الأزدي الأندلسي موضعه مع شعراء الأندلس واتفق إيراده ها هنا وينسب إلى ابن هانىء المغربي الأندلسي. كان في العصر الأقرب، وهو معروفٌ بالنظم المهذب، وتوفي في آخر أيام الصالح بن رزيك قبل سنة ستين، على ما سمعته من المصريين، وطالعت ديوانه بمصر فنقلت منه ما انتقدته، وعقلت ما عقدته، ونسخت ما نسخ السرح، ونسج الزهر، وانحلت العقود الصحيحة لنسيم شمال أسحاره، وتمثلت العقول الصاحية لتسنيم شمول عقاره. ووجدت له على قافية الهمزة من قصيدة: سَدَلَتْ غدائرَ شعرِها أَسماءُ ... وَسَرَتْ فما شَعَرَتْ بها الرُّقَبَاءُ والليلُ تحت سَنَا الصباحِ كأَسودٍ ... وَضَحَتْ عليه عِمَامةٌ بيضاء زارتْ نُعَاماها وزارَ خيالها ... فتيمَّمَتْ بكليهما تَيْماءُ ومشتْ تميس يجرُّ فضلَ ذيولها ... دِعْصٌ يميلُ، وبانةٌ غَنَّاء هُنَّ المها يحوي كناسُ قلوبنا ... منهن ما لا تحتوي السِّيراءُ يُوحِشْنَ أفئدةً وهنَّ أَوانِسٌ ... ويرُعْنَ آساداً وهنّ ظباء وتحولُ دون قبابها هنديةٌ ... بيضاءُ، أو يَزَنِيَّةٌ سمراء ومنها في المخلص: لأُمَزِّقَنَّ حشا الدُّجُنَّةِ نحوها ... والليلُ قد دَهِمَتْ به الدهْناءُ في متن زنجيِّ الأَديمِ كأنما ... صَبَغْتهُ مما خاضَها الظلماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 700 وكأن محمرَّ البروقِ صوارمٌ ... سُفِحَتْ على صفحاتِهِنّ دماء أَو يَثْنِيَنِّي لا أَزورُ خيامَها ... ولأَسعدَ القاضي الأشمِّ مضاء ومنها في المديح وتقريظه بالقضاء: قاضٍ له دِينٌ وصدقُ شهادةٍ ... ذو الجاه فيها والضعيفُ سواءُ وعدالة حُفِظَتْ بعقلٍ راسخٍ ... لا تستميلُ جنابَهُ الأَهواء وله من أخرى أولها: لمن الآنساتُ وهْيَ ظِباءُ ... واليعافيرُ حُجْبُها السِّيَرَاءُ والشموسُ التي لويْنَ غصوناً ... لَمْ تُرَنِّحْ خصورَها صَهباءُ فاختفَى في القُدودِ أَرْيٌ ورَاحٌ ... وبدا في الخدود نارٌ وماء تنثني قامةً وتَجْرَحُ طَرْفاً ... فهْيَ للسَّمْهَرِيَّةِ السَّمْراءُ طَرَقَتْ والكَبَاءُ والمندلُ الرطبُ ... عليها وحَلْيها رُقَبَاء ومنها: ودُوَيْنَ الفتاةِ أبيضُ رقرا ... قُ الحواشي ولأْمَةٌ خَضْرَاء وفتى لاحَ فوق أدهمَ نهدٍ ... قمراً في عنانه ظلماءُ وكماةٌ تجلو الأسنَّةَ شُهْباً ... ودُجَاهَا العَجَاجَةُ الشَّهْبَاءُ تصدُرُ المرهفاتُ عن مورد الها ... مِ كما ضرَّجَ الخدودَ حَيَاءُ يا لحى اللهُ ريبَ دهرٍ خؤونٍ ... سادَ فيه كرامَهُ اللؤماء! وزماناً نحبُّه! فكأنا ... حِين يَسْطُو بنا له أعداء ومنها في المخلص: بالعلا يُعْرَفُ الكرام ولكنْ ... عُرِفَتْ بالمُوَفَّقِ العلياءُ ماجدٌ لو عَرَا اللّيَاليَ داءٌ ... كان في رأيه لهنَّ شفاء راحةٌ لا تُرَاحُ من هَدْمِ جُودٍ ... ببنانٍ لها المعالي بناء هدم الجود ليس بتقريظ، وإنما المدح لو قال من هدم المال بالجود. فهو والدهرُ حِنْدِسيٌّ بهيمٌ ... غُرَّة في جبينه زَهْرَاء ولو ان الصّبَا لها منه عَزْمٌ ... نَهضَتْ بالجبال وهْيَ رُخَاء طَوْدُ حِلْمٍ رَسَتْ به الأرضُ لمَّا ... شمخت منه ذِرْوَة شَمَّاءُ ومنها: ذكرُكَ الراحُ والمُذَكِّرُ ساقٍ ... وكأنَّ المسامعَ النُّدَمَاءُ فإذا ما أُديرَ حمدُك صِرْفاً ... هزَّ أَعطافنا عليك الثناء وله في جارية رقاصة: ولطيفةٍ في الرقص يُعْطَفُ قَدُّها ... كتعطُّفِ اليَزَنِيَّةِ السمراءِ تختصُّ بالحركات منها سرعةٌ ... كتخصُّصِ الأرواح بالأعضاء خَفَّتْ فلو رقصت بأعلى لُجَّةٍ ... ما بلَّ أخْمَصَها حَبَابُ الماءِ وله وأَغْيَدَ خدُّه يَنْدَى فيجري ... على وَرْدِيِّهِ الدرُّ المذابُ صفا ماءُ الشبابِ بِوجْنَتَيْهِ ... فلاحَ عليه من عَرَقٍ حَبَابُ وله في الأوصاف: نديمي أَفِقْ فالفجرُ قد لاح ضوءُهُ ... كما سَالَ نَهْرٌ أو كما سُلَّ مِقْضَبُ وذا فلكٌ ساقٍ يديرُ كؤوسَهُ ... نجوماً إذا وافَتْ فمَ الغَرْبِ تُشْرَبُ وقد شاخض زنجيُّ الدُّجى والذي بدا ... به من هلالٍ حاجبٌ لاحَ أَشْيَبُ وله من قصيدة: أَوْدَعُوا الزُّهْرَ حُدوجاً وقبابا ... وسَرَوا في شَعَرِ الليلِ فشابا ولوى الطرفُ سناهُمْ فانبرى ... يحسب الجُرْدَ اليعابيبَ الرِّكابا صيَّرُوا الجنح سَنَا الصبح وما ... سَفَرُوا عن غُرَرِ الغيدِ نِقَابا إذ توارى الفجرُ بالليلِ كما ... وَلَجَ السيفُ اليمانيُّ القِرَابا وَحَنى قوسَ هلالٍ رُبَّما ... طَرَدَتْ سهماً رأيناه شهابا إنَّما ودَّعَ قلبي جَلَدِي ... يوم ودَّعْتُ سُلَيمى والرَّبابا ومنها: حُجِبَتْ في نورها وَجْنَتُها ... فرأيتُ الشمسَ للشمس حِجَابا وَجْنَةٌ حمراءُ تَنْدَى عرقاً ... مثلما رَقْرَقَتِ الراحُ الحَبَابَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 701 نفختْ ريحُ الصبا جَمْرَتَها ... فانبرتْ تُظْهِر في الماء التهابا وجرى الصُّدْغُ على أَوَّلِها ... مثلما طرَّزْتَ بالسَّطْرِ الكتابا وله في العذار: وأَسمرَ ذَنْبي للعواذلِ حُبُّهُ ... وذلك ذنبٌ لست منه بتائبِ عُذِلْتُ على حُبِّي له حينَ ذَبَّلَتْ ... له الشفةُ اللمياءُ خُضْرَةَ شارب وقد كنتُ أَهوى الحاجبين الَّلذَيْ لَهُ ... فكيف وقد صارتْ ثلاثَ حواجب وله أَلا كلُّ شيءٍ للأنامِ مُحَبَّبٌ ... إِليَّ بغيضٌ، والحبيبُ حَبيبُ أما عجباً أن هام فيه رقيبُهُ ... وأَني على ذاك الرقيبِ رقيب ومما برى جسمِي وأَرَّق ناظري ... وعلَّمَ قلبي فيه كيف يذوب حبيبٌ اراه سائغاً، كلَّ ساعةٍ ... ينال سوايَ وصلَهُ وأَخيب فوا أسفا لي إِنني ليثُ غابةٍ ... ويظفَرُ دوني بالفريسةِ ذيبُ وله من قصيدة في أثنائها: أَغارُ على ذيلها بالصَّبَا ... إذا شمَّرَتْ منه ما سحَّبَا وأخشى على جَمْرَتَيْ خَدِّهَا ... بِمَرِّ النواسمِ أن تُلْهَبَا تَعَالَى النقابُ سنا وجهه ... فخِلْتُ النقاب به نُقِّبَا وما احمرَّ من صبغةٍ لونُهُ ... ولكن بوجنتها خُضِّبَا مشى وهْو في خدِّها عقرباً ... فمثَّلَ في وردةٍ عقربا سقى اللهُ ليلتنا بالعُذَيْبِ ... غمائمَ من أَمْنِه عُذَّبَا فكم بتُّ بين مِراحِ الظباءِ ... تجاذِبُني، وصفاحِ الظُّبَا وقد لاح لي بدرُهَا مَشْرَعاً ... لَمَحْتُ على مائه طُحْلُبَا إلى أَنْ جَرَى صُبْحُها أَشقراً ... فطاردَ من فجره أشهبا ولاعبَ فضِّيَّ بَرْدِ الغما ... م برقٌ فصيَّره مُذْهَبا ومنها: ويمنعُ شمسَهُمُ أَنْ تلوحَ ... عجاجُ الوغى ودُخان الكَبَا وله من قصيدة: زادَ العقيق بخدٍ غيرِ مُنْتَقِبِ ... قاني الغلالَةِ كالهنديِّ مُخْتَضِبِ بدرٌ تَمَزَّقَ عنه الليلُ حين سرى ... كذلك البدرُ يَسْري غَيْرَ محتجب ذو غُرَّةٍ قُنِّعَتْ بالحسن من قَمَرٍ ... ولَبَّةٍ قُلِّدِتْ بالحَلْي من شُهُب خدٌّ أَلَمَّ لريعانِ الشبابِ به ... سحرٌ تدرَّعَ فيه الماءُ باللهب ومنها في المخلص: لا تُصْغِرَنِّي لكونِ الجسم مُغْتَرِباً ... فإنَّ في الجسم عقلاً غيرَ مُغْتَرِب يَغْنَى اللبيبُ بعقلٍ منه عن فِطَنٍ ... حيث استقرَّ وعن أُمٍ له وأب وهل أَخافُ من الأيام نائبةً ... وللسديد يدٌ تَسْطُو على النُّوَبِ ومنها في المدح: لو كنتَ إذْ تُوزَنَ الأعمالُ سائِلَهُ ... ما حازَ من صالح الأَعمالِ لم يُجِبِ يا مُبْغِضَ الذَّهَبِ المحبوب راحته ... حتى كأَنَّ ذهابَ الحَمْدِ في الذهب وله في العذار من قطعة: ولما أَشاعَ الحبُّ في الناس مِلَّةً ... وقادَ قلوباً كيف شاء وأَلْبَابا جلا الحُسْنُ للعشاق وَجْهَكَ قِبْلَةً ... وصوَّر فيه من عِذَارَيْكَ مِحْرابا وله من قصيدة: تلكَ البدورُ العامِريَّاتُ ... لها من الأَنْصُلِ هَامَاتُ بدورُ أَسدافٍ تَثَنَّى بها ... في السَّيْرِ قُضْبٌ بَشَرِيَّات تشكو نواهنَّ قلوبٌ وما ... لها سواهُنَّ سماوات كِدْنَ يَكِدْنَ القُضْبَ لو بُدِّلَتْ ... أَوْراقُهُنَّ الذهبيَّاتُ كلُّ عقيقيَّةِ خَدٍ لها ... فروعُ فَرْقٍ سَبَجِيَّات ومنها: ويُرْعَشُ الرِّدْفُ كأنَّ الذي ... لاعَبَهُ منهنَّ حَيّاتُ يا شَرَكاً صيدَ بها طائرُ القَلْبِ ... أَما منكنَّ إفلات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 702 كمْ فتكتْ بي يومَ جِزْعِ اللِّوَى ... بيضٌ وأنتُنّ الحمالات أَسْنى من الصبح على ناظري ... لو أَنَّكُنَّ الحَلَكِيَّاتُ ومنها: حَمَلْتِ جسماً خلتُهُ سائلاً ... إذْ مَوَّجَتْ عِطْفَيْهِ لَبّاتُ رفَّ به العَصْبُ اليماني كما ... رَفَّتْ على الماء خميلات كأنما أنمله طُوِّقَتْ ... أَسِنَّةُ الطعن خَضيباتُ هل تخبرينا والهوى صارمٌ ... لنا به عندكِ ثارات بأيِّ ذنبٍ خُضِّبَتْ من دمي ... تلك البَنَانُ العَنَمِيَّات كيفَ ترومينَ دماً لم تَزَلْ ... تَعْجزُ عنه اليزنيات ومنها في الافتخار: يرمي بها المَعْرَكَ مني فتى ... تَرْهَبُ ذكراه المَنِيّات يُقْدِمُ في الموتِ كما أَقْدَمَتْ ... على النَّدَى منه سَجِيَّاتُ إِنْ لم تكنْ ذي الأريحياتُ لي ... لِمَنْ تكون الأريحياتُ لو أنَّ لي في الدهر من قوةٍ ... دَرَتْ عُفَاةٌ ما المُرُوَّاتُ والدهرُ إِنْ أَذْهَبَ قُوتِي فَلِي ... من جُود إسماعيلَ أَقْوَاتُ وله من قصيدة مطلعها: لنا بين بطنِ الواديين مُعَرَّجُ ... بحيثُ الغَضَاريَّانُ والظلُّ سَجْسَجُ وفي ملتقى ظلِّ الأَراكِ ومائِهِ ... نسيمٌ بأنفاس الرُّبَى يتأَرَّجُ وتصفيقُ أَمواهٍ لرقصِ أَمالدٍ ... عليهن أصواتُ الحمائمِ تَهْزِجُ وقد نَسَجَ النُّوَّارُ بالغيم أَبْرُداً ... ولم أَحْسَبِ الأَبرادَ بالغيم تُنْسَج ودارَ على الأَغصانِ زَهْرٌ كأنها ... قدودٌ عليهن المُلاَءَ المُدَبَّجُ خليليَّ من قحطانَ هاجَ لِيَ الأَسى ... حمامٌ بأَفْنَانِ الغصونِ مُهَيَّج ومنها: أَحِنُّ إلى البرقِ اليمانيْ لأَنَّه ... كقلبيَ خفَّاقُ الجناحِ مُوَهَّج وقد ضَرَّجَ الدمعَ الذي كان ناصعاً ... بعينيَّ، خدٌّ بالحياءِ مُضَرَّج بدا في بياضٍ للشبابِ وحُمْرَةٍ ... كأنَّ عليه النارَ بالماء تُمْزَج فأما سوادُ القلب مني فَحَازَهُ ... من الغادةِ الحسناء وسْنَانُ أَدْعَج ومنها: وليلٍ تركتُ البرقَ خَلْفِيَ عاثراً ... وتحتَ غُباري راشحُ العِطْفِ دَيْزَجُ ولا ناصرٌ إلا قناةٌ وصارمٌ ... ولا صاحبٌ إلا فتاةٌ وهَوْدَج وقد لَمَعتْ زُرْقُ الأَسنَّةِ أَنجماً ... وما إِنْ لها غيرُ القنا اللَّدْنِ أَبْرُج فأيقظَ جفنَ الحيِّ منِّيَ صاهلٌ ... وَرَوَّعَهُ شَخْتُ الصفيحين أَبلَجُ وقالت هزبرُ الغابِ زارَ خيامَها ... وما زارها إلا كَمِيٌّ مُدَجَّجُ وأَسمرُ مَيَّادٌ وَعَضْبٌ كأَنما ... يلوحُ عليه الزِّئْبَقُ المُتَرَجْرِجُ ومنها في المخلص: أتَأْنَفُ أَن نَسْرِي إليها بصافنٍ ... إلى جودِ إسماعيلَ يَسْرِي ويُدْلجُ وله وَمُزَنَّرٍ كالصبحِ يحمل لِمَّةً ... سحماءَ مظلمةً كليلٍ داجِ يجلو الامَ بكأسه فكأنما ... يَسْعَى على نُدَمائهِ بِسرَاجِ وله ومهفهفٍ لما رآنيَ ناظراً ... منه إلى وجهٍ كضوءِ صباحِ أَهْوَى لمبسمه البنانَ مُسَلِّماً ... فكأَنما أَوْمَى لقَطْفِ أَقَاح وله من قصيدة في الأوصاف والتشبيه قلْ لنسيمٍ زار عندَ الصباحْ ... من حَلَكِيَّاتِ الرُّبَى والبِطاحْ عرِّجْ على جسمٍ كأن الضَّنَا ... عِقْدٌ عليه وهْو فيه نِصَاحْ أَما ترى النجمَ لُجَيْناً وقد ... كان قُبَيْلَ الصبحِ تِبْراً صُرَاحْ والفجرُ قد مدَّ خليجاً فلو ... تنكسرُ الظلماءُ عنه لساح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 703 كأَنَّما شمَّرَ عن مِعْصَمٍ ... مُخَضِّبٍ راحتَهُ بالصَّبَاحْ كأنما الروضُ بإشراقِهِ ... وجهُ كريمٍ فوْقَهُ البشرُ لاح كأنما نرْجِسُهُ مَحْجِرٌ ... ضاعَ عليهِ نومُهُ حين طاح كأنما جاذَبْنَ من دَوْحِهَا ... ذوائبَ الأغصان أَيدي الرياح كأنَّ أَعطاف أَماليدها ... رنَّحها الغَيمُ بكاساتِ راح ومنها: كأنما الآسُ على ورْدهِ ... سُمْرُ العوالي وخدودُ المِلاحْ كأنما الجدولُ نشوانُ لا ... ينفكُّ من نشوته غيرَ صاح منها: كأنما السُّحْبُ رعالٌ بها ... للخيلِ في كل مَغَارٍ جِماح كأنَّ أَطرافَ بروقٍ هَفَتْ ... راياتُ صُفْرٌ ومواضٍ صِفاحْ كأنما الرعد كَمِيٌّ سَطَا ... على كميٍ ولَّى فصاح كأنَّما الديمةُ مُنْهَلَّةً ... يمينُ إِسماعيلَ يومَ السماح وله من أخرى: أَشاقَك باللِّوَى بَرْقٌ أَلاَحا ... فجُنَّ به جَنَانُكَ حين لاَحَا هفا هفوَ اللواءِ الوَرْدِ أَرْخَى ... ذوائبَهُ فلاعَبْنَ الرياحا كأن البرقَ في الظلماءِ سِرٌّ ... تَضَمَّنَ غيرَ كاتمِهِ فباحا وقاسمني صَدُوحُ البَانِ شَجْوِي ... فأجريتُ الدموعَ لهُ وناحا ومنها في الخروج إلى المدح: وكم تَعِبٍ بزورةِ ذي نَوَالٍ ... ولو زارَ المُوَفَّقَ لاسْتَراحا ومنها في المدح: وبين بَنَانه والفَيْضِ خُلْفٌ ... وما نرجو لخُلْفِهِمَا اصطلاحا وله في الخمر: قم فاسْقِني والغربُ يطوي ليلَهُ ... والشرقُ ينشرُ رايةَ الإصباح شَفَقاً عَلاه من المِزاجِ كَواكبٌ ... لكنه شَفَقٌ دَعَوْهُ براحِ حلَّ المزاجُ بها فَشَعْشَعَ نورها ... فعلَ السَّلِيطِ بشعْلَةِ المصباحِ وله في ذم صاحب: يا ربِّ أنت مَلأَتَ عَقْد مصاحبي ... سَقَماً فهل سَبَبٌ إلى تصحيحهِ فبما جعلتَ الطَّوْدَ يُشْبِه ثِقْلَه ... في روُحه بل رأْسَه في ريحه فاجعل ثقالةَ روحهِ في عقلهِ ... الخاوي وخفَّةَ عقلِهِ في روحهِ وله في مليح: لئن أَذْلَلْتَ خَدَّكَ وهْو ليلٌ ... فلِمْ أَعززتَ وجهك وهْو صبحُ وكانت مسْحَةٌ للحسن فيه ... فصار من العِذار عليه مَسحُ وله من قصيدة مطلعها: نسيمٌ سرى والفجرُ يَنْضُو مُهَنَّدا ... فَقَلَّدَ جِيدَ الغصن من جَوْهرِ النَّدَى ومنها: وخِلْنَا الصَّبا حاكَتْ من النَّهر لأْمَةً ... وهزَّتْهُ هنديّاً وصاغَتْهُ مِبْرَدَا فلله نشوانٌ بغيرِ مُدَامَةٍ ... قويمٌ فلولا النطقُ خِلْناهُ أَمْلَدا سقاه براحِ الحسن راحُ شبابهِ ... فعربدَ من أجفانه وتأَوَّدَا ومنها: وشبَّ بماءِ الراح نارَ مُدامةٍ ... فذوَّبَ في الطَّاسِ اللجينيِّ عَسْجَدا جلاها عروساً عاطلاً فتَخَفَّرَتْ ... فقلَّدَها بالمَزْجِ مما تقلَّدا ومنها في الأوصاف والتشبيهات: وليلٍ دجوجيِّ الجناح كأنما ... أُمِدَّ بموجِ البحر أو صار سَرْمَدَا كأنّ الثريا فيه للبدرِ عاشقٌ ... يَمُدُّ إِلى توديع محبوبهِ يَدَا مَرَقْتُ به في مَتْن أَدهم صاهلٍ ... أَغَرَّ إذا أَبْرَقْتُ بالسيف أَرْعَدا كأن الذي في وجهه وإهابه ... ظلامُ ضلالٍ فيه ضوءٌ من الهدى وله من قصيدة خببية: ما البرقُ يلوُ توقُّدُهُ ... ترتاعُ فليلُكَ سَرْمَدُهُ يَهفو في مَتْن غمامته ... كالجحفلِ تَخْفُقُ أَبْنُدُه والغيهبُ كالزنجيِّ سَطَا ... وبياضُ الصبحِ مُهَنَّده ومنها: أَرْدَى بالصارِم أَحْوَرَهُ ... وسطا بالضيغمِ أَغْيَدُهُ ومنها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 704 أبصفحةِ خدِّك طُلَّ دَمِي ... فتعصفَرَ منه مُسَوَّدُهُ أم لحظُك أُدْرِج في كبدي ... فسوادُ جَنَاني إِثْمدهُ ومنها في المخلص: ما بالُ زماني يُجْهدني ... وأَذُمُّ عُلاي فأحْمَدُهُ وإذا لم يُغْضِ أخو جَلَدٍ ... للجود فأَين تجلُّده أيجورُ الدهرُ على بَشَرٍ ... وندى ابنِ سلامةَ يَعْضُدُهُ ويلين الحقُّ على أَحدٍ ... وبإسماعيلَ تَشَدُّدُه يختالُ الدين لئن رُتِقَتْ ... بمعالي المخلصِ أَبْرُدُه ومنها: لو أنّ الدهرَ له كَلِمٌ ... لَتكَلَّم أنَّكَ أوْحَدُه وله من قصيدة: أَدِرْهَا كما مَجَّ النَّدَى وَرَقُ الوَرْدِوأَشْرَقَ جِيدُ الجُود في لُؤلُؤِ العِقْدِ حبابٌ على صهباءِ راحٍ كأنَّهُ ... فُتاتٌ من الكافور في العَنْبر الوَرْد تَخَيَّلْتُها مصروعةً في مِزَاجها ... بما مَلأَتْ فاها من الزَّبَدِ الجَعْد كَواها سِنانُ الماء طعناً فَدُرِّعَتْ ... مخافةَ عَوْدِ الطَّعْن بالْحَبَبِ السَّرْد نَجِيعيّةٌ حمراءُ ضُمَّ زجاجُها ... عليها كم ضُمَّ النقابُ على الخطِّ إذا قرعَ الإبريقُ جاماً تَطَايرَتْ ... كما طارَ بالقَدْح الشَّرارُ من الزَّنْدِ لها لَمعانُ البَرْقِ والكأسُ دونها ... غمامٌ وللإبريق قَعْقَعَةُ الرَّعْدِ ومنها: وغِمْدِ زُجاجٍ من بَنَاني نجادُهُ ... لسيفِ مدامٍ لا يَمَانٍ ولا هِنْدِي نُجَرِّدَ منه كلَّ ماضٍ مُخَضَّبٍ ... وما سُفِحتْ منه دماءٌ على حِقْد إِذا جالَ فيه جوهرٌ من حَبَابهِ ... وسُلَّ كما سُلَّ النِّجارُ من الوَغْد نقلناه للأَجسامِ منَّا كأنما ... تضايقَ في غِمْدٍ فَرُدَّ إِلى غمد يشق جيوبَ الليل عنَّا اتّقادُهُ ... كما شَقَّ ذُو الثُّكْلِ الحدادَ على الفَقْدِ ومنها: غزالٌ لوَرْدِ الكأس في نُدَمائِهِ ... إِذا ما سقاها بطشةُ الأَسَدِ الوَرْد تثنتْ به راحُ الصَّبا تحتَ بُرْده ... وَهُزَّ فخلنا نشوةَ الراح بالبَرْد وأَبْدَى من الجَمْر المُضَرَّمِ وَجْنَةً ... وقام من الماءِ الزُّلال على قَدِّ وأبقى عبيرَ الخدِّ مسكُ عِذارهِ ... كما احمرَّ بُرْدٌ شُقَّ عن نَحْرِ مُسْوَدِّ وحار سوادُ القلبِ في نارِ حُبِّه ... فكان الذي أُخفيه مثلَ الذي أُبْدي وظلَّ يُسَقِّي كلَّ ذي صَفْوَةٍ أخٍ ... بأَصْفَى وأَحلى من لَمَاهُ ومن وُدِّي ومنها في المديح: ولا يمنعُ المعروفَ عن مُسْتَحِقِّهِ ... كمن يَحْجُبُ الحَيْرَانَ عن طُرُق الرشد ومنها: إذا خانتِ الأَيدي حبالٌ تَمَسَّكُوا ... بحبلٍ إلى السرِّ الإلهِيِّ مُمْتَدِّ ومنها في وصف كتابته وبراعته: عجبتُ لطِرْسٍ منك لم يَغْدُ مُحْرِقاً ... وقد حُلَّ مما شَبَّ فِكْرُكَ من وَقْدِ ومن أَلْسُنٍ إن قلتَ كلَّتْ كأنما ... جَمَدْنَ بما في نظمهنَّ من البَرْدِ ومنها في وصف صداقته: ونعمَ خليلُ المرءِ مثلي يَرَى الذي ... صَفَا من وداد الخلِّ أَغْنى من الرِّفْدِ إذا لم أَجِدْ عند الصديقِ تجلُّداً ... على حَمْلِ ثقْلي كانَ واجِدَهُ عندي وله في وصف مغنيين: ومُغَنِّيَيْنِ يُقَرِّبَان لذي الهوى ... ما شئتَ من مَغْنَى الهَوَى المتباعِدِ نَطَقَا لنا بلطافةٍ وتوافُقٍ ... فكأنما نَطَقَا بصوتٍ واحد وله من قصيدة في القاضي يحيى بن قادوس: أَمِنَ الأَهِلَّةِ والشموسِ خدودُ ... ومن الذوابل والغصونِ قُدُودُ وعلى معاطفِ كلِّ أَهْيَفَ ناعمٍ ... من مثل ما نَسَجَ الربيعُ بُرُود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 705 أغصانُ بانٍ ما تميدُ بها الصَّبَا ... وتمرُّ أَنفاسي بها فتميد ومنها: مُقَلٌ يُضِئْنَ من الجفون كأنها ... بيضُ الصوارمِ والجفونُ غُمودُ أحداقُهُنَّ الزُرْقُ زُرْقٌ لُمَّعٌ ... يومَ الكفاح، وسودُهُنُّ أُسُود لولا دماءُ العاشقين شَفَحْنَها ... ما احمرَّ في وَجَناتها التَّوْريد لم أَدْرِ قبلَ شفاهها وثغورِها ... أَنَّ الشقائقَ حَشْوُهُنَّ عقود ومنها: وارْفَضَّ من عَرَق الحياءِ جُمانُهُ ... فتقلَّدَ الدُّرَّيْنِ منها الجيدُ رقَّتْ معاقدُ أزْرِه فكأنَّما ... تلكَ المعاطفُ ما بها تَجْسِيد نشوانُ تجرحُ مقلتاه قلوبَنَا ... فهو النزيفُ وَلَحْظُهُ العِرْبيد ومنها في المخلص: إنْ كان مذمومَ الأَذِمَّةِ في العُلا ... زمنٌ فمحمودُ العُلا محمودُ وله من قصيدة: أَما وقوامِ الأَمْلَدِ المتأَوِّدِ ... يجاذبُ من أَعْطَافِهِ دِعْصُهُ النَّدِي لقد رَقَصَ البانُ المُرَنَّحُ بالصَّبَا ... فغنَّتْ له الأطيارُ أَلحانَ مَعْبَدِ ومنها في وصف فرس: وكائِنْ أخوضُ الليل من مِثْلِ شعرها ... إِليها على رَخْوِ العنانين أَجْردِ كأن عقيقاً جسْمُهُ وكأنما ... سنابِكُهُ مخلوقَةٌ من زبرجد كأن خدودَ الغانيات أَعَرْنَهُ ... من الحسن ما في كل لونٍ مُوَرَّدِ حَمَلءتُ بها سمراءَ خَطٍ لو انَّها ... رأتْها قدودُ البان لم تتأوَّدِ وعَضْباً صقيلاً مازجَ النارَ ماؤُه ... عليه فلم تَخْمَدْ، ولم تَتَوقَّدِ مضاربُهُ تُسْدِي وتُرْدِي كأَنَّمَا اسْ ... تَعَرْنَ خلالاً من سجايا مُحَمَّدِ وله يا أَمْيَسَ الأَغصان من أَوراقهِ ... بُرْدُ الحرير مُحَبَّرٌ واللاَّذُ مَهْلاً على دَنِفٍ تُقَدُّ بصارم ... اللَّحَظَات منه لقلبهِ أَفْلاذ أَفنى مدامِعَه عليكَ تأسفاً ... مذ بِنْتَ دَمْعٌ وابلٌ ورَذَاذُ وأَلانَ حُبُّكَ منه قلباً قاسياً ... كالنارِ لانَ لحرِّها الفولاذُ وقال من قصيدة مطلعها: سَفَرْنَ ووجهُ الصبح يلتاحُ مُسْفراً ... فكنَّ من الإِصباح أسْنَى وَأَنْوَرَا ومِسْنَ كأغصانِ الخمائلِ بُدِّلَتْ ... من الزَّهَرِ الفَيْنانِ وَشْياً مُحَبَّرَا أَبَحْنَ لعشَّاقٍ خدوداً دَوَامِياً ... ولكن حماها كلُّ وَسْنَانَ أَحْوَرَا وَجَرَّدْنَ حُمْرَ اللثْم عنها وإنما ... شَقَقْنَ عن الورد الشقيقَ المعصفرا ومنها: وكم نمَّ عنها في الدُّجَى نَفَسُ الصَّبَا ... فبتنا نخالُ الليلَ مِسْكاً وَعَنْبَرا وكم أرهفتْ عِطْفاً فلو خيزرانةٌ ... تميل بِعطفٍ مَيْلَها لتكسَّرَا ترى خَصْرَها يَعْيَا بحمل وشاحها ... ويحملُ من كُثْبَانِ يَبْرِينَ أعْفَرَا ومنها: وليلٍ ركبنا منه أدهَمَ حالكاً ... فصارَ بنور الفجرِ أبْلَجَ أشْقَرَا إلى أنْ أَطَلَّ الفجرُ فيه كأَنه ... حسامٌ تلالا أو خليجٌ تفجَّرا وفضَّضَ نورُ الصبح تبرَ نجومِه ... فَدَرْهَمَ للظلماءِ مِرْطاً مُدَنَّرا وللمزنةِ الوطفاءِ دمعٌ كأنما ... يَمُدُّ على البطحاء بالنور أَعْقَرا وخلنا لشخصِ الريح راحاً وأنْمُلاً ... تحوكُ على زرق المياه السَّنَوَّرا ومنها في المخلص: أسافحةً منا النجيعَ مُحَجَّراً ... متى أصبَحَ السيفُ اليمانيُّ مَحْجِرَا ألا فاغمِدي صمصامَ لحظٍ سَلَلْتِه ... كما سَلَّ رضوانُ الحسامَ المظفَّرا مليكٌ له عَضْبٌ إذا شامَ بَرْقه ... رأيتَ المنايا بين غَرْبَيْهِ جَوْهرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 706 عَلَتْ ماءَهُ نارٌ فلولا التهابُها ... لسالَ ولولا ماؤهُ لتَسَعَّرا وأرْهَفَهُ حُبُّ الطُّلاَ فَهْو ناحلٌ ... ولولا وصالٌ دائمٌ دقَّ أن يُرَى وكان يقودُ الخيلَ يَعْثُرْنَ بالظُّبا ... فينفُضُها في مُقْلةِ الشمس عِثْيَرا ولولا النجيعُ المُنْهَمِي في مجالها ... صَبَغْنَ سوادَ الليل بالنَّقْع أَغْبَرا ومنها: يضمُّ كريماً منهمُ كلُّ سابغٍ ... فتلمحُ غدراناً تَضَمَّنُ أَبْحُرَا ومنها: فقلْ لملوكِ الرومِ أين فِرارُها ... إذا مَلِكُ الإسلامِ في الله شَمَّرَا وكيف تنال البعضَ من غَمْضَها وقَدْ ... سَرَى رُعْبها فيها سنينَ وأَشهُرَا ومنها في صفة القلم والرمح: سَطَوْتَ بعسَّالَيْنِ في كلِّ مُشْكِل ... أَرَتْنا صفاءَ العيش لما تكدَّرا يراعانِ هذا يملأُ الطرسَ حكمةً ... وذاك يُذيقُ الحتف ليثاً غَضَنْفَرا وإنْ ظَمَأٌ أضناهما يَرِدَا على ... نفوس العِدَا من غير إذنٍ ويَصْدُرَا فيشربُ هذا أسودَ الليلِ حالكاً ... ويشرب هذا قانىءَ الدَّمِ أَحْمَرا وله من أخرى: لعلّ نسيمَ الروضِ من خَلَلِ الزَّهْرِ ... يصافِحُنِي بين الخميلة والنَّهْرِ فقد شابَ زنجيُّ الدجى حين أشْرَقَتْ ... على عَنْبرِ الظلماءِ كافورةُ الفَجْرِ وسال نَدَى مُزْنٍ على أُقْحُوَانةٍ ... كما جال رِيقٌ من حَبيبٍ على ثَغْر وما لاحَ دُرٌّ فوق وَشْيٍ وإنما ... ترقرقَ دمعُ الطلِّ في مُقَلِ الزهر وفوق احمرارِ الوردِ رَشْحٌ كأنما ... متونُ الخدودِ الحمر طُرِّزْنَ بالعُذْر فلله روضٌ لَفَّ أَطرافَ دوْحِه ... مُلاءةُ نُورٍ حاكها راقمُ القطر وسندسُ نبتٍ تحت زهرٍ كأنه ... جناحُ ظلامِ الليل كُلِّلَ بالزهر وأوراقُ آسٍ زعزعَتْ من غصونها ... قدودُ حسانٍ مِسْنَ في حُلَلٍ خُضْرِ شَموليَّةُ الأَمواهِ معلولةُ الصبا ... غُلاَميّةُ الأعطاف مِسْكيةُ النَّشْرِ مذانبها زُرْقُ النطافِ كأنما ... معاطِفُهُنَّ الرُّعْشُ يُهْزَزْنَ من سكر يجولُ شعاعَ الشمس فوق صِقالِها ... كما جالَ إفرندُ اليمانيَّة البُتْرِ ولما مَرَرْنا بالرسومِ التي بَدَتْ ... كما سالَ ماءٌ في سِجِلٍ على سَطْرِ تَنَسَّمْتُ رَيَّا زهرةٍ فوق نُضْرَةٍ ... فقلت خَلُوقٌ في حُليٍ على نَحْرِ ولاحت ذُكاءٌ في جناحَيْ غمامةٍ ... فقلت سليمى ضُمِّنَتْ كِلَّتَيْ خِدْرِ وَدَارَ بغُصْنٍ نرجسٌ فكأَنه ... لجينٌ وتبرٌ في نطاقٍ على خَصْر ومنها: وأعلنتُ أشواقي وناحتْ حمامةٌ ... فلم أَدر حقّاً أيُّنا العاشقُ العُذْري ومنها: لأدَّرِعَنَّ الليلَ نحو خيامها ... على ظهرِ خوَّار العنانين مُزْوَرِّ بوهْنٍ كأنّ البدر تحتَ جَنَاحهِ ... مُحَيَّا فتاةٍ لاحَ في غَسَق الشَّعْر وملءُ يميني بحرُ سيفٍ تموَّجَتْ ... مياهُ المنايا بين غَرْبيه والأَثْر سرى رَوْعُهُ في السلم والحرب مثلما ... سرى ذِكرُ إسماعيلَ في البرِّ والبحر وله من قصيدة: يا وردَ خدٍ خالُهُ عنبرُ ... وغِمْدَ جَفْنٍ سيفُهُ أَحْوَرُ ما خالُك النَّدُّ وماذا الذي ... ضُرِّجَ من وجنتهِ مُجْمَر لكنه أَسودُ عيني وقد ... فاض من الدمع دمٌ أَحْمَرُ ما تبعثُ الموتَ يمانِيّةٌ ... وإنما يبعثُهُ المَحْجِرُ ومنها: ناشدتك الله قضيبَ النَّقا ... أَمَا بوصلي أَبداً تُثْمِرُ هِجرانُكَ الليلُ، وما ينجلي ... ووَصلكَ الصبحُ، وما يُسْفِر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 707 خُلِقْتَ ماءً وأَحالَ الهوى ... جسميَ ناراً فلذا تَهْجُر لو لم يكن ثغرُكَ في ساكنٍ ... عذبٍ لقلنا إنه جَوْهَر زعزعتَ موجَ الردف في مِئْزَرٍ ... يكادُ فيه يَغْرَقُ المِئْزَر وله لائمي في قمرٍ بتُّ له ... ساجداً إذ لاح في ليل الشَّعَرْ لك دينٌ ولناسٍ غيرُهُ ... ولبعضِ الناسِ أديانٌ أُخَرْ وكما للشمس قومٌ سَجدُوا ... فكذا يسجدُ قومٌ للقمَرْ وله من أخرى: عطفَ القضيب على الكثيبِ الأَعْفَرِ ... وجلا الظلام على الصَّبَاح المُسْفِر ومنها: أتميسُ قامتُهُ ويعبَثُ طَرْفُهُ ... بِدَمِي كعاداتِ الوَشيج الأَسْمَرِ ومنها: أَجرى لنا عصرُ الصِّبَا في جسمهِ ... ماءَ الشبيبة صافياً لم يُعْصَرِ وأَراكَ منه الوَشْيَ في حُلَلِ القَبَا ... طيِّ الجميلةِ في عَرِينِ القَسْوَرِ وبدا لماءِ الورد في أَبرادهِ ... ما للحدائق في الغمامِ الممطر وأَلاحَ تحت مراشفٍ بمباسمٍ ... درّاً مَصُوناً في عقيقٍ أَحْمَرِ فعلمتُ لمَّا خضتُ في بحرِ الهوى ... أَنَّ المراشفَ من بحارِ الجوهر ومنها في المدح: ما زلتَ تبلغُ في العُداة خَطَابةً ... والطِّرْفُ منتصبٌ مكانَ المنبر أَشْمَمْتَهُمْ عَرْفَ الحِمام بمِجْمَرٍ ... كانتْ رماحُك عودَ ذاك المُجْمَرِ وبسطتَ من كفَّيك عشرَ أَسنةٍ ... في الحرب، بل في السلم عَشرة أبحرِ وله من أخرى: مَشَتْ فحكتْ مِشيةَ الجؤذرِ ... وأَشْبَهَتِ الصبحَ في المَنْظَرِ وماسَتْ وقد جاذبتها الصَّبَا ... ذيولاً من السندس الأَخضر فقلتُ قضيبُ النَّقَا يانعٌ ... يميسُ على حِقْفِه الأَغْفَرِ ومنها: لقد فَضَلَتْ كلَّ ممشوقةٍ ... تتيهُ على القمر المُقْمِرِ كما فضلَ الناسَ في مجدهمْ ... أبو جعفرِ بِن أَبي جعفَرِ فَتىً إن دَجَا حادثٌ حالكٌ ... فمرآه كالفَلَقِ المُسْفِرِ وله لله درُّ عَشِيَّةٍ نَادَمْتُهَا ... والعَيْشُ من مُقَلِ الشبيبة ينظرُ غرَّاءُ ضُعِّفَ نورُها فكأنَّما ... أَمسى يُشَعْشِعُها صباحٌ أَنْوَر خطَّ البهارُ بها بمقلة وَسْمِه ... خدَّ الغمام فبات وهْو مُعَصْفَرُ ما كان أحسنها بصُفَّةِ برْكَةٍ ... باتت بخَفْقِ الريح وهْيَ سَنَوَّرُ بيضاءُ جال بها الربيعُ كأنه ... ذَوْبُ اللُّجَيْنِ جرى عليه الجوهر طاف الربيعُ بمائها فكأنه ... خدٌّ أَطافَ به عِذارٌ أخضر وقال من قصيدة مطلعها: يا حاديَ العيسِ من نجدٍ قِفِ العِيسَا ... واجعلْ لنا بمغاني الأَيْكِ تَعْرِيسا ومنها: فاجنحْ بهنَّ إلى حيثُ الربيعُ كَسَا ... مناكبَ الأَرضِ من نَوْرٍ طياليسا والهُضْبُ تحت ذيولِ المُعْصِرات كما ... عَايَنْتَ في الحَلَقِ البُرْدَ الكرابيسا والسَّرْحُ تحت مُوَشَّى النَّوْرِ تحسِبُها ... إذا نَظَرْتَ إليهنَّ الطواويسا وفي بروجِ القبابِ الحمرِ شُهْبُ مهاً ... صَيَّرْنَ أَفلاكَها البُزْلَ القناعيسا وله ومهفهف أبدى الشباب بخدِّهِ ... صُدْغاً فرقْرَقَ وَرْدَه في آسهِ تتلهَّبُ الصهباءُ في وَجَنَاتِهِ ... فتسيرُ من عينيه في جُلاَّسه حتى إذا ملأَ الزجاجةَ خدُّهُ ... نُوراً وفاحَ الخمرُ من أَنفاسهِ خالَ الزجاجَة أُفْعِمَتْ بمدامةٍ ... فدنا ليشرب نُورَهُ من كاسه وله، وأحسن، أتى بتشبيه في تشبيه، يعجز عن مثله كل ذي رويةٍ وبديه ومُعَذَّرٍ أَجفانُهُ وعذارُهُ ... يتعاضدان على فَناءِ الناسِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 708 سفكَ الدماءَ بصارمٍ من نرجسٍ ... كانت خمائلُ غِمْدِهِ من آس وله في ذم الصبح حين فرق بينه وبين محبوبه: عَشَقْتُ الظلامَ وعِفْتُ الصباحَ ... إذا كان أَفْلَتَ منِّي قَنَصْ كأنَّ الدُّجَى وجهُ زنجيَّةٍ ... مليحٌ بدا الصبحُ فيه بَرَصْ وله يا من يريدُ على الإساءة وُدَّنَا ... طَرْفُ الوداد عن المسيء غَضِيضُ ليس الودادُ عن الإساءَةِ ظاهراً ... كالماءِ ليس عو الضِّرَام يفيض أنت الحبيبُ لنا بكونك محسناً ... فإذا أسأْتَ لنا فأنت بغيض وله من قصيدة: ومحجوبةٍ لو أُبْرِزَتْ دون مِرْطها ... رأيتَ عليها من سَنَا نورها مِرْطَا تخالُ هلالَ الأُفْقِ نصفَ سوارها ... إذا لاح والجوزاءَ في نَحْرِها سِمْطا وتحملُ بدرَ التِّمِّ وجهاً وشِنْفَهَا ... سِمَاكاً وشُهْبانَ الثريا لها قرطا ويضحى بماء الوَرْدِ ورديُّ خدِّها ... لِمَا مَزَجَ الساقي لندْمانه اسْفِنْطَا فينثرُ منه لؤلؤاً عُدَّ جامداً ... بصولجِ لامٍ لاحَ بالصُّدْغ مُخْتطَّا وله من قصيدة: خليليَّ عوجا باللَّوَى، ها هُوَ الجَزْعُ ... نَشِمْ بارِقاً بالرقْمَتين له لَمْعُ ومنها: أَشارَ علينا بالسلامِ فكلُّنَا ... له بَصَرٌ يدنو فيحسدهُ سَمْعُ وأَسهرني لما سَرَى البرقُ مَوْهِناً ... حمامٌ بأَفنانِ الغصونِ له سَجْعُ وما شاقني إلا تأوُّدُ بانةٍ ... ومرُّ نسيمٍ لا طُلولٌ ولا رَبْعُ وطيفُ خيالٍ حين كاد يزورني ... بَدَا لعمودِ الفجر في ليله صَدْعُ فما للهوى بل ما لدُرِّ مدامعي ... تحوَّلَ مرجاناً وعهدي به دَمْعُ وما للمطايا الراسماتِ كأنما ... لوصلِ السهوب الفيح مِن وجدها قَطْعُ ظعنَّ بمن عندي وإن نَزَحَتْ لها ... هَوىً بين أَحْنَاء الضلوع له لَذْع ومنها: غلاميّةٌ مال الشبابُ بِعطفها ... فلم يكُ للصهباء في مثله صُنْع تفوح بلا طيبٍ كما أنَّ جيدها ... تجلَّى بلا حَلْيٍ، وفعلاهُما طَبْعُ وتكسرُ أحياناً محاجِرَ نَرْجَسٍ ... كأن الذي ما بين أهدابها الجَزْعُ ومنها في المخلص: يضاهين من رضوانَ سيفاً مؤيَّداً ... يُرَى فوقَ أَعناقِ الأَعادي له وَقْعُ ومنها في وصف السيف: وللنصرِ مَثْوىً فوقَ حدِّ حُسَامِهِ ... إِذا حانَ من هامِ الكماةِ به فَرْعُ وليس الذي يبدو عليهِ فِرِنْدُهُ ... ولكنَّها الأرواحُ فيهِ لها جمع وله وقائلةٍ مالي أرى الحظَّ وافراً ... بكلِّ دَنِيءٍ في الرجال وضيعِ فقلتُ لها: لا يُتْحفُ الدهر ماجداً ... أَنافتْ بهِ علياؤه بصَنيع يضيقُ بماء النيل مُنْخَفِضُ الثرى ... ويُحْرَمُ منه الريَّ كلُّ رفيع وله من قصيدة في الفراق: لولا الفراقُ لمَا بكيتُ نجيعاً ... ولما حَرَمْتُ المقلتين هجوعا ولما حنيتُ على ضِرامِ تشوُّقٍ ... يأْبَى الخمودَ، جوانحاً وضلوعا أَمَّا العزاءُ لأَجْلِ مَنْ فارقتُهُ ... فقد استحال مع الفؤاد دموعا ولكم شكوتُ، فما شكوت لراحمٍ ... ولكم دعوتُ، فما دعوت سميعا أَسْتَوْدعُ الرحمنَ مَنْ وَدَّعْتُ يو ... مَ وداعه قلباً به مفجوعا وله لو أَنَّ يوماً قتيلَ الحِبِّ طالَبَهُ ... بالثَّأْرِ منْهُ طَلَبْتُ اللَّحْظَ والصُّدُغَا هما استعانا على قَتْلي فصار لذا ... قدُّ الفؤادِ، وهذا صِلُّهُ لَدَغَا لم تبلغِ البيضُ والسمرُ النحافُ على ... أيدي الفوارسِ منّي ما هما بَلَغا يا حاملَ اللحظ والأَصداغ أسلحةً ... مات الكميُّ فلا تُحْدِثْ عليهِ وَغَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 709 ويا مُرِيقَ دمي ظلماً وجاحِدَهُ ... هل لونُ خدِّك إلا من دمي صُبِغا قد يعلمُ الله أني غيرُ مُنْعَجِمٍ ... فما لعوديَ مُذ فارقْتَني مُضِغا ويعلمُ الليلُ أن الشوق هيَّجني ... حتى غرقتُ بماءِ الدمع حين طغى سعى إليك بيَ الواشي فأبعدني ... يا ليت شيطانَ ذاك السَّعْيَ ما نَزَعَا وفاز منك بما قد كنت أَحْرُسُهُ ... من أين ذا الذئبُ في أمواهنا وَلَغا أَلقاك ذا لَثغٍ في القول من دَهَشٍ ... وما عرفتُ لساني يعرف اللَّثَغَا أنتَ الذي لو رآه الغصْنُ ما انعطفتْ ... أعطافُه، وجبينُ الشمس ما بزغا لم يبدُ غيركَ شخصٌ في الورى حسنٌ ... كأن فيك جميع الحسن قد فُرِغَا وله من قصيدة: ماسَتْ بدعصِ نَقاً يجاذبُ أَهْيَفَا ... ولوتْ عليه الخزرانةَ مِعْطفا خودٌ حَوَتْ مُقَلَ الماة وجيدَها ... وحَوَى الوشاحُ لها هضيماً مُخْطَفَا بيضاءُ ترفُلُ بالكثيب مُهَيَّلاً ... والبدرِ أَنْوَرَ والقضيبِ مهفهفا أبدى الوداعُ لنا برَخْصِ بنانها ... عَنَماً ببعضِ دمِ القلوبِ مُطَرَّفا منها في المخلص: ما للتي طَعَنَتْ وتَّتخذُ القنا ... والبيضَ سَجْفاً بالكماةِ مسجَّفا مَرَّتْ على صدِّ الوفاء بِبَيْنها ... كمرورِ إسماعيلَ في طُرُقِ الوَفا وله من قصيدة: أما وحميَّا الكأسِ هَزَّتْ لنا عِطْفا ... وبدرِ تمامِ الحسنِ يسعى بها صِرْفا وساقٍ يكادُ السكرُ يُسْقِطُ نِصْفَهُ ... مزاحاً ويُبْقي في مآزره النصْفا ومخضوبةٍ قبَّلْتُها ولثمتُهُ ... فأتبعتُ ثغرَ الراحِ من ثغرهِ رَشْفا وخَلْقٍ له مثل الحميَّا وَوَفْرَةٍ ... تمازجُ أرواح النَّدامى بهِ لُطْفا كأن اليراعَ النَّضْرَ أوراقهُ قَناً ... له العَذَبُ الخفَّاق يستأنفُ الرَّجْفا كأنَّ خليج الماء أوجَسَ طَعْنةً ... فدرَّعَ أجناداً وجدَّ لها صَفَّا كأن اعتناقَ القُضْب والغيمُ دالجٌ ... وَداعُ خليطٍ ذَرّ من دمعه وَكْفَا كأن اخضرارَ الدوح، والنهرُ ضاحكٌ ... غياهبُ شقَّ الفجرُ من جُنْحها سَجْفا كأن رياضَ النهر مَدْحِيَ باسطٌ ... له الحَسَنُ الوَهَّابُ يومَ النَّدَى كَفَّا وله كلُّ من أَعْرِفُهُ يَظْلِمُني ... وسوى ذاك فعَنِّي يُنْصِفُ فعدوِّي كلُّ من أَعرفهُ ... وصديقي كل من لا أعرف له من قصيدة مطلعها: ليتها إذ قاسَمَتْكَ العِناقا ... علّمَتْكَ الصبرَ لا الاشتياقا ومنها: لِنُسائلْ مِعْصَمَيْنا فإِنَّا ... ما نطقنا مذ عرفنا الفراقا كم على جيدٍ وخصرٍ أُدِيرَا ... مَرَّةً عِقْداً وأُخرى نِطاقا ومنها: وكأَنَّ الحُسْنَ آلاتُ خَرْطٍ ... أَبرَزَتْ في الصَّدْرِ منها حِقَاقا سَفَرَتْ عن بدرِ تِمٍ فلما ... نُبِّبَتْ كان النّقابُ المِحَاقا ومنها: وجرت في قمرِ الخدِّ منها ... عبرةٌ كانت عليهِ انشقاقا ومنها في الممدوح وهو قاض: حاكمٌ أظهرَ للعَدْل فينا ... كلَّ ما لاقَ بعقلٍ وراقا حكمةٌ لو عاقنا الدهرُ عنها ... كان عن حكمةِ لقانَ عاقا نثرَ التأويلَ دُرّاً ولكن ... غاصَ من علمٍ بحاراً دقاقا ومنها: يَدُهُ للمال إلفٌ غَضُوبٌ ... كلما واصَل شاء افتراقا تأْبِقُ الأموالُ عن راحتيهِ ... بندىً عَلَّمَهُنَّ الإباقا وله من قصيدة مطلعها: سَرَى وقد عنَّ لعينيَّ الأَرَقْ ... واشمَطَّ بالفجر قَذَالٌ للغَسَقْ مزنٌ يهزُّ البرقُ في أرجائهِ ... مثلَ اليمانيَّاتِ في أيدي الأُفُق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 710 بكى فللنُّوَّارِ منهُ ضَحِكٌ ... كهُزْءِ معشوقٍ بحبٍ قد عَشقْ والزُّهْرُ مثل الزَّهْر في أغصانه ... أو كالغواني تحت أَبراد السَّرَق وله من قصيدة: لك اللهُ من برقٍ بنَعْمَأنَ أَبْرَقَا ... وصافحَ رِثْماً بالكثيبين والنَّقا أَلاحَ وعمرُ الفجرِ في أُخْرَياتهِ ... فغادرَ للظلماءِ جَيْباً مُشَقَّقا سرى، وظلامُ الليل يجلو صباحَهُ ... فلاحَ إلينا أدهمُ الليلِ أَبْلَقا وما هاجني إلا رنينُ مطوَّقٍ ... أقامَ على الأغصانِ يدعو مُطَوَّقَا ولله نَشْوَى جاذب الدعصُ خَصْرَها ... هضيماً بما دونَ السِّوارِ مُمَنْطَقا ومنها في المدح: ويُخْشَى لديه اليَأْسُ من حيثُ يُرتجى ... ويُرْجَى لديهِ الجودُ من حيث يُتَّقى مُحَيّاً يريكَ الشمسَ نورُ جبينهِ ... فكلُّ مكان حَلَّهُ كانَ مَشْرِقا ومنها: وإِنَّكَ لو أَوْمَأْتَ دونَ مَجَسِّهِ ... إلى الحجَر القاسي بيمناك أَوْرَقا إذا ما ملكتَ المالَ مَلَّكْتَهُ الوَرَى ... كأَنَّكَ لم تُرْزَقْهُ إلا لِيُرْزَقَا ومنها في القلم: تَهُزُّ يراعاً كالردينيِّ ذابلاً ... يَفُلُّ سناناً حين يسطو ومِخْفَقَا ترى العَلَقَ القاني مداداً لخطِّهِ ... وجانحةَ القِرْنِ المدجَّجِ مُهْرَقا صحائفُهُ تَفْري الصفائحَ كلما ... نُشِرْنَ، وتحكي الروضَ فيها منمَّقا فلو لاحَظَتْ عينُ ابنِ أوسٍ متونَها ... رأى أَيُّها كُتْباً من السيف أصدقا يعني ابن أوس حيث يقول: السيف أصدق إنباء من الكتب وله من قصيدة مطلعها: عزَّ المنامُ فجفني جائلُ الرَّمَقِ ... وبات قلبيَ لا يشكُو سِوَى الْحدَقِ ومنها: كالخيزرانةِ ما لاحتْ لها وَرَقٌ ... إلا من الوَشْي بين التِّبْر والوَرِقِ فالغصنُ ما ماسَ ريعانُ الشباب بهِ ... سُكْراً وغيرُ مدام الحسن لم يَذُقِ ومن قصيدة: يَنْثُرُ الطَّلَّ كما يُنْثَرُ مِنْ ... وَجْنَةِ المعشوق رَشْحُ العَرَقِ ومنها: ذو وقارٍ مازجَ البشْرَ كما ... مازجَ الصُّبْحَ عَبُوسُ الغَسَقِ ومن شعره: يا من أراهُ الخير يكتُمُ ضِدَّهُ ... خَدٌّ عليهِ من حَيَاءٍ رَوْنَقُ احذرْ مكايد وَجْنَةٍ محمَّرةٍ ... فالجمر محمرُّ الغِلاَلَة مَحْرِقُ ومن شعره: يحكي الغمائمَ جودُهُ ولربما ... قَصرَتْ عن المَحْكي فَعَالُ الحاكِي ما بالهُ يَهَبُ النَّدَى مُتَبَسِّماً ... والمُعْصِراتُ كأنهن بواكي ومن شعره: إيهاً لصائلِ حَلْيها ولِثامها ... هذَا يُعَانقها وذاكَ يُقَبِّلُ ومنها: ولقد يُجِيشُ الشَّوْقُ راكد عَبْرَتي ... فكأنَّه لَهَبٌ وجَفْني مِرْجَلُ نَجْدِيَّةٌ وَافَاك من لحظاتها ... نظرٌ بسفحِ دم القلوبِ موكَّلٌ ومن شعره: ومهنَّدٍ سَبَح الفرندُ بصفحهِ ... وطَفَا فيُحسَب مُغْمَداً مسلولا وله في الخال: يا ناظراً في خدِّ أَغْيَدَ مائس ... خالاً يَرِقُّ نضارةً وجَمَالا سكن الفؤادَ وحلَّ بعض سوادِهِ ... في وَرْد جنتهِ فسمِّيَ خالا وله في صفة الروض والنهر: وناصعِ ماءٍ كان كالبدر مائلاً ... ولثَّمه ظلٌّ فلاحَ هلاله وله في ذم الخمر: فأيسرُ ما فيها لذي العقلِ أنها ... إذا وَلَجَتْ في رأسه خَرَجَ العَقْلُ ومن شعره: قُمْ فاسْقِني بالكأس إنء أمكنَتْ ... كأسٌ وإلا فاسْقنِي بالفَمِ أما تَرَى النجم الذي كان كالدِّ ... ينارِ قد أصبحَ كالدرهمِ والفجرُ في رَوْض الدُّجَى جدولٌ ... سارَ ليَسْقي زَهَرَ الأَنْجُمِ ومن شعره: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 711 قضيبُ لُجَيْنٍ نَوَّرَ الوَرْدُ فوقَهُ ... ولكنَّهُ ما شَقَّ عنهُ كمامَهُ أرى الحِبَّ دِيناً والمحبِّين أُمَّةً ... وصُدْغَيْه مِحْراباً وقلبي إِمَامَهُ لدى وَجْنَةٍ قد حُطَّ للشَّعْر فوقها ... مِجَنٌّ على نونٍ يعانقُ لاَمَهُ ومن شعره: قد غارتِ الصهباءُ منك بوجنةٍ ... خجلاً فعادت للبنان من الفَمِ ومنها في المدح: إنا لنطلبُ من سواهُ سَمَاحةً ... كالشَّهْدِ يُطْلَبُ في مُجَاجِ العَلْقَم وإذا رجوتَ من البخيل يَداً فقد ... طالَبْتَهُ بلزومِ ما لم يلزَمِ ومن شعره: يا كعبةً لِي خالها ... محَجَرٌ لو انِّي أَسْتَلِمْ ومن شعره: رَشَأٌ تعلَّق خَصْرُهُ من رِدْفِه ... فَهُوَ الظلومُ وخَصْرُهُ المَظْلومُ ومنها: لا تستبينُ كأنَّما أَرواحها ... خُلِقَتْ وما خُلِقَتْ لهنَّ جسوم ومن شعره في وصف الفرس: هل يُدْنيَنِّي من جَنَاب خيامها ... بَرْقٌ تقلَّد جيدُه بعنانِ ومنها في صفة السيف: ومهَّندٍ متمّوجٍ متضرِّمٍ ... من صفحتيه بغمدهِ فَجْرَانِ عَضْبٌ ترقرقَ ماؤه في نارهِ ... فَعَجبْتُ كيف تَأَلَّفَ الضِّدَّانِ يَنْدَى ويَدْمَى تارةً فكأنما ... لَمَسَتْ مضاربَهُ يَدَا رِضْوَانِ ومنها: وتَسُلُّ أيدي الدارعين قَوَاضِباً ... مثل الجداول سِلْنَ من غُدْرَانِ ومن شعره: وأحْسَنُ من قُنُوِّ خضابِ خودٍ ... دَمٌ يَحْمَرُّ في زُرْقِ السِّنَانِ ومن شعره: فإن كان بعضُ الناس مشتبهاً به ... فذا ملكٌ هادٍ وذلك شَيْطَانُ وله في كبير الأنف: أَعْجِبْ بمن إن حلَّ في بيتٍ له ... فلأنفِهِ في الدار بَيْتٌ ثانِ وتكَادُ تُخْفِيهِ ضخامةُ أنفهِ ... فكأنَّه أنفٌ بلا إِنسانِ ومن شعره: أقولُ والبرقُ لمَّاعٌ يمانيُّ ... أجدولٌ أم صفيحٌ هندوانيُّ والفجر يسعى على آثار غَيْهبهِ ... مثل الغُدَاف سعى يتلوه بازِيُّ والشمسُ في المزنة الحمراءِ تحسبها ... خَدّاً حواهُ قناعٌ أُرْجُوانيُّ ومنها: أهوى ببغدادَ من بالخَيْفِ منزلهُ ... فالحب مني حجازيٌّ عراقيُّ ومنها: تَحْوي المعالي ويحويك الزمانُ بها ... كالقلب يَحْوِي المعاني وهْوَ مَحْوِيُّ ووجدت في ديوانه قصيدة لكنها في ديوان ابن خفاجة الأندلسي فمنها: ومشَى النسيم يجرُّ فَضْلَ ردائهِ ... بين الحدائق مِشْيَةَ الخُيَلاَءِ نشوانَ يعبثُ بالغصون وَيَنْثَنِي ... مَرَحاً فيعثرُ في غديرِ الماء ومنها: قَمَرٌ يمدُّ من الثريَّا راحةً ... ضُمَّتْ على قَدَحٍ كنجم سَمَاءِ يَسْقِي فأسقيه فيشربُ حُسْنُهُ ... عَقْلِي ويشربُ راحُه أعضائي ومنها في العذار: كأسٌ لها حَبَبٌ يدور بها كما ... دارَ السِّوَارُ بمعصمِ الحسناءِ صفراءُ نَمَّ بها الزجاجُ كأنها ... شَمْسٌ مُحَجَّبَةٌ بجسمِ هَوَاءِ ومنها: سَمْحٌ يوكَّل بالخطوب سماحُهُ ... إن الدواء موكَّلٌ بالداءِ ومنها: وتراه أصدقَ من رأيتَ مواعداً ... والصدقُ بعضُ مواهبِ الكرماء تَنْدَى أناملهُ ويُشرق وجهُهُ ... فيجود بالآلاء واللألاء ابن جوشن من شعره لعلَّ الذي أَثنى بما هو أهلُهُ ... وتوَّجَني من كلِّ فخرٍ بتاجهِ سيقبلُ عُذْري في الجواب لأنني ... غدوتُ كمن ضَاهى اللُّجَيْن بعاجه رآني وأياهُ كثمْدِ قرارةٍ ... وموجِ خضمٍ يرتمي بارتجاجهِ لقد زارني منه كلامٌ كأَنما ... تمثَّل فيه الروض عند ابتهاجه ومعنىً تجلَّى تحت مصقول لفظهِ ... كما لاحَ صِرْفُ الراحِ تحت زجاجه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 712 وإِنيَ بالبرِّ اليسير مُوَاجِهٌ ... وإنك بالفضل الكثير مواجهي الشريف أبو محمد الحسن بن الشريف الجليس وجدت في ديوان أبي عبد الله بن هانىء مكتوباً قطعة كتبها إليه ابن الشريف الجليس في جواب شعر له: أَهديتَ لي منكَ شعراً ... كما تجلَّتْ عقودُ فلستُ أَدري بماذا ... أَجزيك عما تجود لأنَّ رفدِي إِذا ما ... أَجْزَأْتَ شيءٌ يَبِيدُ وإِنَّ شكركَ فضلٌ ... مع الزمانِ خَلُود عليَّ كلُّ مزبدٍ ... وما عليك مَزِيد تم شعره. أبو التقي صالح بن الخال وجدت له في ديوان أبي عبد الله بن هانىء قصيدة كتبها إليه وهو موعوكٌ يقتضي زيارته، منها: يا ناقضاً في قوافيه عُرَى النَّقْضِ ... يُنير مُسْوَدَّها منه بمُبْيَضِّ قل لابن هانيْ عن ابن الخال محتسباً ... مما يؤدِّيه نَفْلُ القول للفَرْض أمسيتَ بدرَ نجومِ الشعرِ أَجمعَ مُذْ ... أَصبحتَ لي نَيِّرَ الآدابِ في الأرض فاجنحْ لزورةِ شِلْوٍ مُشْحَنٍ وصِباً ... أَلهى انتظارُك بعضاً منه عن بعض لا ترجُ لي في تلافي مهجةٍ سبباً ... فإنه إنْ تراخى خفتُ أن أَقْضِي ومنها: أُخَيَّ لا تتقاضاني مكافأةً ... على يدٍ عُضِلَتْ عن مُنْتَهى النَّهْض ومنها: إن القطوعَ إذا استولتْ على أَحدٍ ... رمتْه في سائر الأحوال بالبُغْضِ سل كاسراتِ صروف الدهر هل سَلِمَتْ ... جُنُوبُها حين عضَّتني من العضِّ إن النوائبَ لما آثرت عَرَضي ... سامَحْتُهُنَّ به بُقْيَا على عِرْضي لا تأمَنَنِّي وإن دارت دوائرُها ... عليَّ بالجور أن أَمْضِي كما تمضي أَقْسَمْتُ لو يَمَّمَتْ حُمَّايَ منكَ حِمىً ... ما خاضَ إِنسانُ عيني جَدْوَلَ الغُمْض لا يُحْرِجنَّك تحريكي لمأْثُرَةٍ ... نسيمُ برقِ عُلاها صادقُ الوَمْض فالعَضْبُ للهزِّ قبل الضرْب مُفْتَقِرٌ ... والسهم يحتاجُ قبل الرمي للنَّبْضِ إذا انبساطيَ لم يُحْدِثْ مُجَاذَبَةً ... للقبضِ منك وهبتُ البسطَ للقبض هب ذنبَ عَتْبِيكَ للحمَّى فإنَّ لها ... وساوساً لدواعي المسِّ قد تُفْضِي فأجابه أبو عبد الله بن هانىء عنها بقصيدة منها: لبيك لبيك من داعٍ إلى فَرْضِ ... يدعو فأقضي وفرضُ الحجِّ ما أَقضي إن كان جفنُ ودادي عنك غَمَّضه ... ما قد زعمتَ، نَبَا جفني عن الغُمْض لكن أصابك أمرٌ لو علمتُ به ... مضتْ تَعُودُكَ روحي قبل أن أَمضي فكيف أصبحتَ من عَظِّ الزمان فقد ... أصبحتُ بين نيوب الهم في عَضِّ ومنها: الله يعلم أني مذ علمتُ بما ... حُمِّلْتَ أَبْكي بقلبٍ فيك مُرْفَضِّ كأَنما الأرضُ ضاقتْ بي مذاهبها ... وهْيَ الرحيبةُ بين الطول والعرض أُمْسِي وأُضحي ولا أَنْفَكُّ مضطرباً ... كأَنَّ جسميَ عِرْقٌ خافق النبْضِ قد فُضَّ جَمْعُ غرامي فيك عن كبدي ... فما لجمعِ همومي غيرُ مُنْفَضِّ إن تستفقْ فظلامي أبيضٌ يَقَقٌ ... أَوْلا فثغرُ صباحي غيرُ مبيضِّ ومنها: وكيف ما خافتِ الحُمَّى أَمَا خَشِيَتْ ... من مِقْوَلٍ كذباب السيف إذ يمضي ومنها: أو صادفت فيكَ نار الهمِّ فانجذبَتْ ... والجنسُ بالجنس مُسْتَدْنٍ ومُسْتَقْضِ والخطبُ طِرْفٌ جموحٌ لا لجامَ لهُ ... يأتي الكريمَ بلا سَوْطٍ ولا رَكْضِ فلا يروِّعْكَ ما تلقاهُ من أَلَمٍ ... فكلُّ سُهْدٍ إلى طيبِ الكَرَى يُفْضي وذكر أنه أرسلها إليه، وتوفي ابن الخال بعد أيام يسيرة. أبو الفخر الإسناوي له في مرثية أبي التقي ابن الخال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 713 سقى الله قبراً جاورَ المزنَ من أَسىً ... على من حَوَاهُ دمعُ كلِّ أديبِ فأوفتْ له حزناً كرامُ معاشرٍ ... بشقِّ قلوبٍ لا بشقِّ جُيُوب وقَلَّ على ماضي الضريبة، نُزِّهَتْ ... له شِيَمٌ، من مُشْبِهٍ وضَرِيبِ ابن الضيف هو حيدرة بن عبد الظاهر بن الحسن بن علي الربعي الضيف. كان من دعاة الأدعياء، الغلاة لهم في الولاء، وكان في حدود سنة خمسمائة في عهد آمرهم، وله فيه مدائح كثيرة، لدواعي لمنائح مثيرة. وقع إلي ديوانه بخطه، وكنت عازماً لفرط غلوه على حطه، لأنه أساء شرعاً وإن أحسن شعراً، بل أظهر فيه كفراً، فلم يستحق لأساءته كفراً ولا غفراً. لكنني لم أر أن أترك كتابي منه صفراً، لأن البحر الزاخر، يركبه المؤمن والكافر، ويقصده البر والفاجر، يحمل الغثاء كما يحمل الدر، والمركب فيه يجمع العبد والحر. وقد أوردت من مستحسناته كل ما يعفي على سيئاته، ويغضي به على هفواته. فمما عنيت بإثباته، من قصائده ومقطوعاته، قوله من قصيدة يعارض بها ابن هانىء المغربي: طَلَعَتْ صباحاً مشرقاً يتهلَّلُ ... ووراءها بالوَحْفِ ليلٌ أَلْيَلُ ودنَتْ بها شمسُ الظهيرةِ تَعْتَلي ... نوراً وما للشمس طَرْفٌ أَكْحَلُ وثنتْ قضيبَ الخيزرانةِ تحتهُ ... حِقْفٌ يكاد تسرُّعاً يتَهَيَّلُ ومنها: فالخدُّ ضمَّخَهُ حريقٌ مُشْعَلٌ ... والَّغْرُ عطَّرَه رحيقٌ سَلْسَلُ وقوله من أخرى: هَزَّتْ كثيباً بالقوامِ مَهِيلاَ ... وثنتْ قضيباً فوقهُ مجدولا ورنتْ بمقلةِ جُؤْذَرٍ هاروتُها ... بالسحر ينفثُ بكرةً وأصيلا ورمتْ بأسهمها فؤاداً مُدْنَفاً ... منّي، وقلباً لا يزالُ عليلا ومضتْ مودَّعةً فعَطَّرتِ الرُّبَى ... أَرجاً تَجُرُّ بهِ الرياحُ ذُيولا تُهدي الصَّبا منها لطيمةَ عنبرٍ ... ونسيمُ أنفاس الشمال شَمولا من ذمَّ أيام الفراق فإنَّ لي ... صبراً على يومِ الفراق جميلا إن ودَّعَتْ فَلَثَمْتُ ثغراً أَشْنَباً ... ورشفتُ ريقاً بارداً معسولا وقوله من أخرى في الشيب: لباسُ المشيبِ لخلعِ الشبابِ ... وقربُ القتيرِ بعيدُ الذهابِ ونَشْرُ الزمان بأحداثهِ ... لمسطورِها طيُّ هذا الكتاب وجدَّةُ أثوابه أَخْلَقَتْ ... بأثوابِ عُمْرٍ بطيء الإِياب مناسِرُهُ اختطفتْ مهجتي ... وأَظفاره أَنْشَبَتْ في إهابي أَرقِّعُ منه قميصَ البياضِ ... وأسترُهُ بسوادِ الخضاب فإن قيلَ هذا سُخَامُ المشيبِ ... فقلتُ: على فقدِ عصرِ الشباب ومنها: حنانيكَ من زائرٍ ليتهُ ... يبدِّلُني وَصْلَهُ باجتنابِ حِبَالةُ إِعراضِه صَيَّرَتْ ... سكونَ الحياةِ إِلى الاضطراب وقوله من أخرى: فتأمَّلْ ربعاً إِذا ما خلا ... أهلوهُ فالوجدُ منه ليس بخالِ ذاك مَغْنىً يُغْنيك مَرْأىً عن ... السمع بتجديده الهوى وهْو بالِ طالما أمكَنَتْ به فُرَصٌ جا ... ذَبْتُ فيها مغازلاتِ الغزال بين وردٍ كوردِ خَدَّيه في ... الحسن وروضٍ كوجهه في الجمال ونَدىً كالدموع في مُقَلِ النر ... جسِ أو فيضِ عَبْرَةٍ في دلال يا لقومي من سحر تفتير طَرْفٍ ... وقعُهُ في القلوب وقعُ النبال ومنها: كلما بَلْبَلَتْهُما راحةُ التَّجميشِ ... هاجَتْ سواكنَ البَلْبَالِ تحت ريحانِ طُرّةٍ جَمَعَتْ ما ... بين شمسِ الضحى وبدر الليالي فلهذا بالخال نقطةُ ذالٍ ... ولذاك الحُليِّ صورةُ دال ومنها: لهف نفسي على قضيبِ نُضَارٍ ... يستميلُ القضيبَ بالاعْتدال يتجلَّى أعلاهُ عن بَدْر تِمٍ ... ويباري ردفاه دِعْصَ رِمال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 714 وعليه مجاسدٌ أَلبسته ... الْحسنَ من فَرْقهِ إِلى الخلخال فإذا لاح في السواد رأَينا ... شمسَ دَجْنٍ أو هالةً في هلال ومنها ذابَ قلبي بنارهِ فجرى في الدَّمْع ... كالنارِ في سليطِ الذُّبَالِ وتِلافُ الكريم في ذلةِ اللو ... عةِ عزٌّ وراحةٌ في كَلاَل مثلما يُتْلِلفُ الأجلُّ جمالُ الْمُلكِ ... أموالَه بحفظ المعالي ذو اعتزامٍ لو أنَّه في فرندِ السيفِ ... طبعاً أَضاء قبل الصِّقال رَجَلٌ يسترُ الأيادي فتبديها ... سِماتٌ على وجوهِ الرجال وله أَسهمٌ حدادٌ إِذا طِشْنَ ... يُحَرِّكْنَ راسياتِ الجبال وقوله من أخرى: لله أجراعُ اللِّوَى ما أَعجبا ... ولقاءُ أَبناءِ الهوى ما أَعذبا ومنها: وأَوانسٌ غيدٌ كأسْرابِ المَهَا ... وفوارسٌ صِيدٌ كأسْهابِ الدَّبَا جعلوا حشاياهمْ متونَ جيادِهمْ ... قد ذلَّلُوها فاستلانوا المركبا لمعتْ بروقُ جيادِهمْ بطِرادهم ... حتى كأَنّ على العيون بها هَبا واستمطروا دِيَمَ الدماءِ حوافلاً ... بأسنَّةٍ رَوَّتْ بهنَّ الأَكْعُبَا تلك المنازلُ لو هَتَفْتُ بها يُرَى ... بعليلها نَفَسُ الرياحِ مُطَيَّبَا فيها تُهزُّ قَناً بأشباه النَّقَا ... وبها تُسلُّ ظُباً بأجفان الظِّبا وبها كواعبُ لو تسنَّمن الرُّبَى ... طلعتْ لنا الأقمار من تلك الرُّبَى ومنها: بتنا بها نجلو عروسَ زجاجةٍ ... قد أُلْبِسَتْ ثوبَ الرحيقِ المُذْهَبَا نَثَرَتْ عليه بالمزاجِ لآلئاً ... عامتْ فعادتْ كالبُرِين تَسَرُّبا فصفاؤُه يفترُّ عنه ترقرقاً ... وبرودُه يزدادُ منه تلهبا ومغرِّدٍ، لي من فتورِ جفونِه ... سُكْرٌ، وسكرٌ إن شدا وتطرُّبا نَبَّهْتُهُ ويدُ الوعيم تَؤُودُهُ ... ليناً وتكسو وجنتيهِ تخضُّبا لأَرُوضَ روضاً بالتداني مُمْرِعاً ... وأَزورَ مَغْنىً بالغواني مُعْشِبا وأَشُمَّ ريحانَ الشعورِ مُطَيَّباً ... وأُعَلَّ خمراً بالثغور مُشَنَّبا وأَمُصَّ رمَّانَ الصدورِ مُشَزَّباً ... وأَعَضَّ تُفَّاحَ الخدودِ مُكَتَّبَا وقوله من قصيدة: قد أطيلتْ قوادمُ اللَّكْنِ للجا ... هل لكنْ جناحيَ المحصوصُ ومنها: كَيْف طَيَّرْتُموه ف سعةِ الآ ... فاقِ وهْو المُدَلَّهُ الْمَقصُوصُ ومنها: أو ليس العقودُ تجمع أسبا ... جاً ودُرّاً واسمُ الجميعِ فصوصُ ومنها يصف الشعر: فتأملْ بظاهر العدل والرأ ... فةِ مدحاً ما شأنهُ التنغيصُ لفظه الشهدُ والقريحةُ نارٌ ... والمعاني دُهْنٌ فنعمَ الخَبِيصُ ومن مراثيه قوله من قصيدة يرثي بها والده: عادَ جفني من الدموعِ كَليلاً ... قَبْلَ أن أشتفي وأَشْفِي عليلا ومنها: وعظيمُ المصاب يشتفُّ ماءَ القلب ... حتى يعودَ يَبْساً محِيلا طاحَ صبري مع الرقاد فَعُوِّضْ ... تُ غراماً مع السُّهاد طويلا لفقيدٍ قد كان قرَّةَ عينِ الدَّهْرِ ... فضلاً وريقَهُ المعسولا إِنَّ خطباً أصابنا في أبي الفتح ... لخطبٌ أَفاد حُزْناً طويلا وكذا عادةُ الزمانِ إذا عا ... دى أَصابَ الجليلُ منه الجليلا صاحِ لا تغتررْ بعيشك في الدنيا ... ونكِّبْ عنها بزهدٍ سبيلا فَهْيَ أُمٌّ تُذِلُّ كلَّ عزيزٍ ... من بَينِها كما تُعِزُّ ذليلا وقوله من قصيدة: غيومُ غمومٍ لا يَرِمْنَ عن الجَفْنِ ... ومُزْنُ دموعٍ هنَّ أَسْخى من المُزْنِ ومنها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 715 ومن عجبٍ إرسالُ عينٍ سخينةٍ ... على لوعةٍ هل يُطْفَأُ السُّخْنُ بالسُّخْنِ وأعجبُ منها أَنْ تَفيض شئونُها ... على ظمإٍ منها بمنبجسٍ هَتْنِ وقوله من أخرى: أرى الشوقَ مُسْوَدَّاً كقلبي من الأَسَى ... وإِنْ كانَ محمرَّاً فمن أَدْمُعِي الحُمْرِ وقد حالَ دمعي بين نَوْمِي وناظري ... وحال غرامي بين قلبيَ والبِشْرِ كأنكَ حُلْمٌ كنتَ فاستيقظتْ لهُ ... جفونُ الردى واستأثرَتْ منك بالعُمْرِ وقوله من أخرى: كدأْبِكَ في الصبرِ يا ابنَ النُّهَى ... فكلُّ الأمورِ إِلى مُنْتَهَى وكل امرىءٍ مُسْلِمٍ نَفْسَهُ ... إِلى الموتِ إن شاءَه أَوْ أَبَى نُعِدُّ، لتسبقَهُ، العادياتِ ... فيدركنا بيسيرِ الخُطَى ونأملُ عمرانَ أعمارنا ... فيهدمُ آمالنا والرَّجا وما العيشُ إلا كحُلْمٍ مضى ... وبرقٍ سرى، أو كظلٍ أَرَى حياةُ الفتى مركبٌ للحِمام ... وجثمانُهُ هَدَفٌ للبِلى نروحُ ونغدو به ضاحكين ... وضِحْكُ القضاءِ علينا بُكَا وإنَّ مُنَى المرءِ طولُ الحيا ... ة في نِعْمَةٍ كانَ أَو في شَقَا أَلا إِنَّما الدهرُ يُملي لنا ... ومن يأْمنُ الدهر أَنّى سَطا ومن مقطوعاته في معانٍ شتى قوله في طول الليل: يا ليلةً عُمْرُ الزما ... نِ بطولها مِثْلُ القُلاَمَهْ يُثْنِي عليَّ ظَلاَمُهَا ... وغرامها يثْنِي الغَمامَهْ حتى كأنَّ نهارها ... يبدو به فجرُ القيامَهْ وقوله في المعنى: أَرَّقَ عيني شادنٌ دَنِفٌ ... بهجره فالرقادُ مُخْتَطَفُ والليلُ من طوله كدائرةٍ ... لا آخِرٌ عنده ولا طَرَفُ وقوله أيضاً في طول النهار وقصر الليل: طال النهار على المحب كأنَّهُ ... يومُ الحسابِ بآخرِ الدهرِ وكأن ليلته وقد طلعت ... عُقِدَ العِشَاءُ بها مع الفجر وقوله في أمرد التحى: كنتَ حَيّاً في المُرْدِ حتى إذا ... عَذّرْتَ جاءَ المماتُ والتعذيرُ مثلُ سطر العنوانِ يبدو وتُطْوَى ... منه في باطنِ الكتابِ سطور وقوله في عواد، وزعم أنه عمل في المنام: ومسمعٍ مبدعٍ بصَنْعَتِهِ ... يريكَ من فَضْلِ حُسْنِهِ عَجَبَا حَرَّكَ عوداً كالرعد مُقْتَرِناً ... بالبرق من كفِّه إذا ضَرَبا وقوله: أَكْرِمْ بنفسكَ إن أَرَدْ ... تَ العزَّ عن ذلِّ السُّؤالْ واستغنِ عن عِدَةِ البخيلِ ... أَتَتْ بعذرٍ واعتلال فالطبعُ أَغلبُ للفتى ... والبخلُ من لؤم الرجال كم بين مختلفِ المقا ... لِ وبين متَّفق الفعال ومباعدٍ طُرُقَ النَّدى ... ومقرِّبٍ طُرُقَ النوال هذا يسابقُ بالعطا ... ءِ وذا يُعَلِّلُ بالمِطال حاز الغِنى من لا يجو ... دُ وجاد ذاك بغير مال وقوله يصف عدو الفرس في الميدان: كم سابحٍ أعددتُهُ فوجدتُهُ ... عند الكريهةِ وهْوَ نسرٌ طائرُ لم يَرْمِ قطُّ بطرفهِ في غايةٍ ... إلاّ وسابَقَهُ إليها الحافر وقوله في المعنى: كم جوادٍ يسبقُ الوهْمَ فما ... يقتفيهِ الوهمُ إلاّ تَبَعا راهَنَتْ أوظافُهُ ألحاظَهُ ... ثم جاءَا غايةَ السَّبْقِ معا وقوله: قمرٌ لاث عليهِ مُطْرَفاً ... لازَوَرْديّاً رقيقَ الحاشِيهْ وعليه صبغةٌ من حسنه ... فَهْيَ في كلِّ فؤادٍ ساريهْ يضحكُ القلب إذا عايَنَهُ ... ولَكَمْ عينٍ عليهِ باكيهْ طَرْفه جَنَّةُ عَدْنٍ أُزْلِفَتْ ... وبخدَّيْهِ جحيمٌ صاليَهْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 716 نَمْنَمَ الصُّدْغان فيها طُرَراً ... كُتِبَتْ من ذهبٍ في غاليَهْ شَبِهَتْه العينُ لما أَنْ بدا ... روضةً ذاتَ قطوفٍ دانيه أو قضيباً فوقه سَوْسَنَةٌ ... أو هلالاً في سماءٍ صاحيَه وقوله: آذَنَ قلبي بالهوى شادنٌ ... أَيْقَظَهُ من طرفِهِ الناعسِ أَلْبَسْتُهُ الحُسْنَ رداءً له ... نفسي فداءُ القمَرِ اللابسِ غَرَسْتُ في وجنتهِ وردةً ... من نظرة المسْتَرِقِ الخالسِ فخافَ أن أقطفها خِفْيَةً ... بِقُبلةٍ والغرسُ للغارسِ فمرَّ في ميدانهِ مسرعاً ... يا ليتني فارسُ ذا الفارسِ الجزء الثاني ظافر الحداد من أهل الإسكندرية، أبو منصور ظافر بن القاسم الجروي الجذامي كنت سمعت به قديماً، وأنشدني له الشريف أحمد ابن حيدرة الحسيني الزيدي سنة خمس وخمسين قال: أنشدني ظافرٌ الحداد لنفسه وهو قريب العصر غريب النظم والنثر: لا فرقَ بينكمُ وبين فؤادي ... في حالِ قربي منكمُ وبِعادي فلقد حَبَبْتُكمُ على عِلاَّتِكمْ ... كمحبَّةِ الآباءِ للأولادِ ونزلتمُ مني وإن لم تُنْصفوا ... بمنازلِ الأرواحِ في الأجسادِ ورجوتُ سُلواناً بسوءِ صنيعكم ... عندي فصارَ ذَرِيَعةً لودادي قد كنتُ أطمعُ بالخيال لو انكمْ ... لم ترحلوا يوم النَّوَى برُقَادِي قال: وأنشدني لنفسه: بمنازِل الفُسْطاطِ حَلَّ فؤادي ... فارْبَعْ على عَرَصَاتهِنَّ ونَادِ يا مصرُ هل عَرَضَتْ لغصنٍ فوقه ... قَمَرٌ برَبْعكِ إِرْبَةٌ لمَعَادي تَرِفٌ يُمَيِّلُهُ الصِّبا مَيْلَ الصَّبَا ... بقوامِ خُوطِ البانةِ الميَّادِ أَتُرَى أنالَ النيلَ بعضَ رُضَابهِ ... فعَذُبْنَ منه مياهُ ذاك الوادي فأفادَ منه الطعمَ لكنْ شُرْبُ ذا ... يُرْوي وذاك يَزِيد كَرْبَ الصَّادي واهاً على تلك الديار فإنها ... أوطانُ أحبَابي، وأَهل ودادي ولقد أَحِنُّ لها ولَسْنَ منازلي ... وأَوَدُّهَا شَغَفاً، ولَسْنَ بِلادي دِمَنٌ لبستُ بها الشبابَ ولِمَّتي ... سوداءُ ترفلُ في ثيابِ حِدَاد والعيشُ أَخضرُ، والديارُ قريبةٌ ... وأَبيتُ من أملي على ميعاد والقلبُ حيث القلبُ رَهْنٌ والظُّبضا ... حَدَقُ الظِّبَاءِ الغِيدِ قَيْدُ الغادي شَتَّتُّ شَمْلَ الدَّمْعِ لما شَتَّتُوا ... شملي، وصحتُ به بَدادِ بَدادِ فالآن تخترقُ الجفونُ عُبَابَه ... ما بين مَثْنَى تَوْأَمٍ وأُحَاد قَاني المَسِيلِ كأنَّ فَيْضَ غُرُوبهِ ... فوقَ الخدود عُصارةُ الفِرْصَادِ قال: وأنشدني أيضاً لنفسه: هذا الفراقُ وهذه الأظعانُ ... هل غيرُ وقتك للدموع أوانُ إن لم تُفْضْها كالعَقيقِ فكلُّ ما ... تدعوه من سُنَنِ الهوَى بهتانُ هذا الغرامُ على ضميركَ شاهدٌ ... عَدْلٌ فماذا ينفع الكتمانُ إن كنت تدَّخِرُ الدموعَ لبَيْنِهِمْ ... فالآنَ قد وقَع الفراقُ وبانوا عُذْرُ المتيَّمِ أن يكون بقلبهِ ... سَقَرٌ وبين جفونه طُوفانُ ولقيت ببغداد الفقيه نصر بن عبد الرحمن الفزاري الإسكندري في سنة ستين، وذكر لي أنه كان من ظرفاء الشعر وفصحاء الأدباء، انتهت به الحال إلى أن صار من شعراء مصر، وله ديوان مشهور، وبالجودة له مشهود. قال: أنشدنا بعض أصحابنا بالإسكندرية لظافر: ولي همَّةٌ تَبْغِي النجومَ وحالةٌ ... تُصَحِّفُ ما تَبْغيه فَهْوَ لنا ضِدُّ إِذا رَفَعَتْنِي تلك، تخفضُ هذه ... فكلُّ تناهٍ في إرادته الحدُّ فما حالُ شخصٍ بين هاوٍ وصاعدٍ ... وليس له عن واحدٍ منهما بُدُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 717 تولَّتْنِيَ الأرزاءُ حتى كأنما ... فؤادي لكفَّيْ كلِّ لاطِمَةٍ خَدُّ قال: وأنشدني صاحب بالإسكندرية، قال: وصل إلى أبي كتاب من ظافر، وفيه: وَصل الكابُ فكانَ موقعُ قربهِ ... مني مواقعَ أَوْجُهِ الأحباب فكأَنه أَهدى أَجلَّ مآربي ... حتى لقاءَك ثُمَّ عَصْرَ شبابي وقرأتهُ وفهمتُ ما فيهِ فيا ... لله ما يَحْويه من آداب فجزالةُ العلماء في أثنائه ... ممزوجةٌ بحلاوةِ الكُتَّاب أقول: ظافر، بحظه من الفضل ظافر، يدل نظمه على أن أدبه وافر، وشعره بوجه الرقة والسلاسة سافر، وما أكمله لولا أنه من مداح المصري، والله له غافر. حداد، لو أنصف لسمي جوهرياً، وكان باعتزائه إلى نظم اللآلىء حرياً، أهدى بروي شرعي الروي للقلوب الصادية رياً، فيا له ناظماً فصيحاً مفلقاً جرياً. ولما وصل الملك الناصر صلاح الدين إلى دمشق في سنة سبعين واجتمعت بأفاضل دولته كالقاضي الفاضل، ونجم الدين بن مصال، رأيتهم يثنون على ظافر. وأنشدني له قصيدة خائية وقصيدة رائية، وأنشدني مهما، ووعدني بهما بعض الأفاضل. ومن شعره: في لحظها مَرَضٌ للتِّيه تحْسَبُهُ ... وَسْنَان أو فقريبَ العهد بالرَّمَدِ تريك ليلاً على صبحٍ على غُصُنٍ ... على كثيبٍ كموج الرَّمْلِ مُطَّرِدِ ومنها: كأنَّ أَنْجُمَها في الليل لائحةً ... دَرَاهِمٌ وَالثُّرَيَّا كَفُّ مُنْتَقِدِ ومنها: وبِتُّ أَلْثُمُهَا طَوْراً وَأُشْعِرُهَا ... فِعْلَ الهوى بي وقَدْ نَأمَتْ عَلَى عَضُدِي ومن شعره: وما طائرٌ قصَّ الزمانُ جناحَهُ ... وأَعدمه وَكْراً وأَفْقَدَهُ إِلْفَا تذكَّرَ رَعْياً بين أَفْنَانِ بانةٍ ... حَوَافِي الخَوَافِي ما يَطِرْنَ به ضَعْفَا إذا التحفَ الظَّلْمَاءَ ناجى همومَهُ ... بترجيع نَوْحٍ كاد من دِقَّةٍ يخفى بأَشْوقَ مني مذ أَطاعتْ بك النوى ... هوائيةٌ مائيةٌ تَسْبق الطَّرْفا تولَّتْ وفيها منكَ ما لو أَقِيسُهُ ... بباقي الوَرَى ما كان في وصفه أَوْفَى وله رحلوا ولولا أنني ... أَرْجو الإِيابَ قضيتُ نحبي والله ما فارقتهمْ ... لكنَّنِي فارقتُ قلبي ولظافر من قصيدة أوردها ابن بشرون في المختار يصف فرساً: خاضَ الظلام فاهتدى بغُرَّةٍ ... كوكبُها لمقلتيهِ قَائِدُ يجاذبُ الريحَ على الأرضِ ومِنْ ... قلائِد الأفْقِ لهُ قَلائِدُ ينصاعُ كالمرّيخ في التهابِهِ ... وأَنْتَ فوق ظهرهِ عُطَارِدُ ومنها: تُعْطي وأنت معدمٌ وإنما ... يعطي أخوك الغيثُ وهْوَ وَاجِدُ وله في قصر الولاية بالإسكندرية: كم قد رأيتُ بهذا القصر من مَلِكٍ ... دارتْ عليه صروفُ الدهرِ فاخْتُلِسَا كأنه والذي قد كان يجمعُهُ ... طيفٌ تصوَّرَ للرَّائي إذا نَعَسَا وله في ابن حديد قاضي إسكندرية يهنئه بشهر رمضان: شهرُ الصيام بكَ المهنَّا ... إذ كان يشبه منك فَنَّا ما سار حولاً كاملاً ... إلا ليَسْرِقَ منك مَعْنَى وينالَ منك كما ننا ... لُ ويستفيدَ كما استفدنا فرأى هلالَكَ من محلّ ... هلاله أَعْلَى وَأَسْنَى بهرتْ محاسنُكَ الوَرَى ... فأعادت الفُصَحَاءَ لُكْنَا وإذا مَدَحْنَاكَ احتقرْ ... نا ما نقولُ وإن أَجَدْنا والفضلُ أَجمعُ بعضُ وَص ... فِكَ فهْو غايةُ ما وَجَدْنَا إنَّ الَّذِي صَدَحَ الحمَا ... مُ به ثناؤُك حين غَنَّى وأَظُنُّ ذلك مُوجِباً ... طرَبَ القضيبِ إذا تَثَنَّى فتهَنَّ شهرَكَ واسْتَزِدْ ... بقدومه سَعْداً ويُمْناً فمكانُهُ من عامِهِ ... كمكانِكَ المحروسِ مِنَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 718 وله في الغزل: وصادحٍ في ذُرَى الأغصان نَبَّهَني ... من غَفْوةٍ كان فيها الطيفُ قد طَرَقَا فكان بين تلاقينا وفُرْقَتِنَا ... كما تَبَسَّمَ بَرْقٌ غَازَلَ الأُفُقَا فقلتُ لا صحتَ إِلاَّ في يَدَيْ قَرِمٍ ... غرثانَ يوردُ منك المُدْيَةَ العَلَقَا وقمتُ أنتزعُ الأَوكار من حَنَقٍ ... مِنِّي وأَستلبُ الأَغصان والورَقا لو نَاحَ للشوقِ مثلي كنتُ أَعْذِرُهُ ... لكنه مَوَّهَ الدعوى وما صَدَقَا ومنها: لولا ليالٍ لنا بالبانِ سالفةٌ ... كَرَرْتُ من زفراتي فيه فاحْتَرَقَا وله مما يُغنى به: عتبتُ ولكنني لم أَعِ ... وأين ملامُك من مسْمَعي وما قَدْرُ عَتْبِكَ حتى يزيل ... غراماً تَمَكَّنَ من أَضْلعي وما دامَ لومُكَ إلا وأنت ... تَقْدِرُ أَنَّ جَناني معي مَضَى كي يودِّعَ سكَّانَه ... غداةَ الفِراق فلم يَرْجع فُؤاديَ في غيرِ ما أنت فيهِ ... فَخُذْ في ملامتهِ أو دَعِ وله أَفي كلِّ يومٍ لي لدى البَيْنِ حَسْرةٌ ... كأَنَّ الهوى وَقْفٌ عليَّ خصوصُ نَأَوْا فالأسى يُجْري غُروبَ مدامعي ... على الخدِّ حتى كدتُ فيه أغوصُ أَلومُ غُرابَ البَيْنِ عند فراقهم ... وما البينُ إلا مَرْكَبٌ وقَلُوص لهم في استراقِ القلب باللَّحْظ عادةٌ ... فواعجباً حتى العيونُ لُصُوصُ وله في الهرمين والصورة المعروفة بأبي الهول: تأمَّل بنْيَةَ الهرمين وانظرْ ... وبينهما أبو الهولِ العجيبُ كعمَّارِيَّتَيْنِ على رحيلٍ ... لمحبوبين بينهما رقيب وماءُ النيل تحتهما دموعٌ ... وصوتُ الريح عندهما نحيبُ وله في حمام: حمَّامنا هذه حِمامُ ... وإنما حُرِّفَ الكلامُ تجمعُ أوصافَها ثلاثٌ ... البَرْدُ والنَّتْنُ والظلام وله من أبيات: فتميسُ الغصونُ زهْواً إذا غَنَّتْ ... عليهنَّ مُطربات الطُّيورِ وكأنَّ المياهَ في الجدول الجا ... ري حسامٌ في راحَتَيْ مذعورِ وله أيضاً: وصبيحةٍ باكرْتُهَا في فتيةٍ ... أضحتْ لكل نفيسةٍ كالأَنْفُسِ والبدرُ قد ولَّى بعَبْسَةِ راحلٍ ... والصبحُ قد وافى ببِشْرِ مُعَبِّس والنَّوْرُ قد أَخفى النجومَ كأنه ... سَيْلٌ يَسيلُ على حديقةِ نرجس وله في الزهد والحكمة: أُوصيكَ بالبعدِ عن الناسِ ... فالعزُّ في الوَحْدَةِ والْيَاسِ ووحدةُ الصَّمْصَامِ في غِمْدِهِ ... خَصَّتْهُ بالعزَّة في الباسِ وقوله: هيَ الدنيا فلا يحزنْكَ منها ... ولا من أهلها سَفَهٌ وعَابُ أتطلبُ جِيفةً لتنالَ منها ... وتُنْكرَ أنْ تُهارِشَكَ الكلابُ وقوله: نَقْطَعُ الأوقاتَ بالكُلَفِ ... وقُصارانَا إلى التَّلَفِ أَملٌ تُرْجَى مطامِعُهُ ... لا إِلى حَدٍ ولا طَرَفِ تُعْجِبُ الإِنسانَ مكْنَتُه ... وهْو بابُ الهمِّ والأسَفِ وهْو ديْنٌ للزمان فلا ... يفرحِ المغرورُ بالسَّلَفِ أَترى الجزَّارَ عن كرَمٍ ... جودُهُ للشاةِ بالعَلَفِ وقوله: إذا أَذِنَتْ لك الدُّوَلُ ... تذكَّرْ كيف تَنْتَقِلُ فلو سَمَحَتْ بها الأيّا ... مُ لم يَسْمَحْ بها الأجَلُ وقوله: كنْ من الدنيا على وَجَلِ ... وتوقَّعْ سرعةَ الأجَلِ آفةُ الألبابِ كامنةٌ ... في الهوى والكَسْبِ والأمَلِ تخدعُ الإنسانَ لذّتُها ... فَهْي مِثلُ السمِّ في العَسَل أنتَ في دنياك في عملٍ ... والليالي فيك في عمل ومن شعره في المراثي: قال يعزي الأفضل بأخيه المظفر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 719 إذا كان عُقْبَى ما يسوءُ التصبُّرُ ... فتقديمُهُ عند الرزيّةِ أَجدَرُ وليس الشجاعُ النَّدْبُ مَنْ يضرب الطُّلا ... دراكاً ونارُ الحرب تُذْكَى وتُسْعَرُ ولكنه من يؤلمُ الثُّكلُ قلبَهُ ... وتعروه أحداثُ الزمانِ فيَصْبِرُ لئن عَظُمَ الخَطْبُ الشديدُ مَحَلُّه ... فحلمُك أَعلى منه قَدْراً وأكبر وبعضُ الذي يحويه صدرُكَ هِمَّةٌ ... تضيقُ به الدنيا جميعاً وتصغر لقد زعزعتْ شُمَّ الجبالِ رزيَّةٌ ... أَلَمَّتْ ولكنْ طَوْدُ حلمك أَوْقَرُ بعلمك تَستهدي نفوسُ ذوي النُّهى ... وأنت بها قال المُعَزُّونَ أَخْبَرُ وحكْمُ التعازي سُنَّةٌ نبويّةٌ ... وإلاّ فمنك الحزم يبدو ويَصْدُرُ ومنها: لقد سَلَبَتْ كفُّ الرَّدَى منك مهجةً ... تَكَنَّفَهَا للحزْمِ والعزْمِ عَسْكَرُ فويحَ المنايا كيفَ غالَتْهُ وهْيَ في ... صنائعكمْ فيما يُخافُ ويُحذرُ وتصريفُها بين الصوارمِ والقَنا ... بأيديكم والخيلُ بالهامِ تَعْثرُ وأنت لها نعم الذريعةُ في الوَغى ... إذا ضاقَ نَفْسُ القِرْن دِرْعٌ ومِغْفَرُ وما قيمةُ الدنيا فيأسِر لفظها ... جلالك؛ كلا فهي أَدنى وأحقر ومن شعره في غير ذلك قوله في التوجع بفقد الشباب: أَسَفِي على ردِّ الشباب الزائلِ ... أَسَفٌ يطول عليه عضُّ أناملي وَلَّى فلا طمَعٌ لعطْفةِ هاجرٍ ... منه، ولا أَمَلٌ لأَوْبةِ راحل هذا على أنَّ العفاف وهِمَّتِي ... لم يُظْفِرَا حظِّي لديه بطائل وله من أبيات: ونفَّرَ صبحُ الشيبِ ليلَ شبيبتي ... كذا عادني في الصبحِ معْ مَنْ أُحِبُّهُ وله سأتبعُ عَزْمي حيثُ عمَّ وأَنتحي ... وجوهَ المنايا في ظهورِ المخاوفِ عسَى عزَّةٌ تُنْجِي من الذلِّ، أَو غِنىً ... من الفقرِن أو أَلقى الرَّدَى غيرَ آسفٍ وله أما والهوى لو أَنَّ أحكامه قَسْطُ ... لما اجترأتْ أن تَمْلِكَ العَرَبَ القِبْطُ ومنها: وخطَّتْ على لَبَّاتِها البيضِ أَسْطُراً ... يكون بأطراف الوَشيج لها نَقْطُ بأيدي رجالٍ تعرف الحربُ ضَرْبَهُمْ ... كأنَّهُمُ من نَسْجِ عِثْيَرِهِمْ شُمْط بِجُرْدٍ يُطير النارَ بالقاعِ رَكْضُهَا ... كأَنْ قد توارَى في سنابكها النِّفْط وإِلاَّ فَلِمْ تُنْمَى المذاكي، وتنتمي ... شفارُ المواضي، أو لِما يُرْكَزُ الخطُّ وله أَرى الشرَّ طبعَ نفوسِ الأَنامْ ... يُصَرِّفها بين عارٍ وَذَامْ فإن كانَ لابدَّ من قُرْبِهِمْ ... فَزُرْهُمْ على حَذَرٍ واتِّهام وما ذاك إلا كأكلِ المريض ... شهوتُهُ من أَضرِّ الطعام وقد ينتهي شرُّ من لا تخافُ ... إلى غايةٍ في الأذى لا تُرَامْ كما يقتلُ النملُ وَهْو الضَّعِيفُ ... شِبْلَ الهِزبْرِ البعيدِ المرام وما للرماحِ على طولها ... مع البعدِ فعلُ قِصَارِ السِّهام وله في مجدور: قالوا مَحَا الجُدَرِيُّ بهجتَهُ ... قَسَماً بربِّ مِنىً لقد كَذَبُوا لكن صَفَتْ صهباءُ وَجْنَتِهِ ... لوناً فجمَّلَ صَفْوَهَا الحَبَبُ وله ويوم بَرْدٍ عقودُهُ بَرَدٌ ... لها سلوكٌ من هَيْدبِ المَطَرِ ينثرهُ الجوُّ ثمَّ يَنْظِمُ منه ... الأرضَ بالزهْرِ كلَّ منتشر فَهْوَ يحاكي الحبيبَ في اللون واللُّطْفَ ... وعذبَ الرُّضَابِ والخَصِرِ فالغيم يبكي، والزهر يضحك، والبروقُ ... تُبْدِي ابتسامَ ذي خَفَر وله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 720 هذا الفراقُ وهذه الأظعانُ ... هل غيرُ وقتِكَ للدموع أَوَانُ تتناهبُ الزفراتُ قلبَكَ كلما ... غَنَّى على فَنَنِ الغَضَا حَنَّانُ قد حان حَسْبُك أن تَكلَّم مُقْلَةٌ، ... يومَ الترحل، أو يشيرُ بنان لكن عَدَاكَ عن الأحبَّةِ مثلُها ... قَدٌّ، ولحظٌ ذابلٌ، وَسِنان للبيضِ دون البيضِ ضَرْبٌ مثلما ... للسمر دون السمر فيك طعان من كل معتقل القناةِ تخالُهُ ... أَسَداً يلوذ بكفِّهِ ثعبان أخذه من قول أبي بكر بن اللبانة المغربي: فقلنا الصل يتبع ضيغما. وله: يا ساكني مصرٍ أَمَا مِن رحمةٍ ... فيكم لمن ذهبَ الغرامُ بلُبِّهِ أَمِنَ المروءةِ أن يزورَ بلادكم ... مثلي ويرجعَ مُعْدِماً من قلبه وله من أول قصيدة: هَجَرَ العذولَ وراحَ طَوْعَ غُوَاتِه ... ورأَى قبيح الغَيِّ من حسناتِه ومنها: يَبْدُو على الوردِ الجنيِّ إذا بدا ... خَجَلٌ من التقصير عن وَجَنَاتِه يمشي فيلقَى خصرُهُ من ردفه ... مثلَ الذي أَلقاهُ من إِعْناتِه وكأنّ نَمْلَ عِذارِه قد خاف أنْ ... يَسْعَى به فيزلّ عن مِرْآتهِ لا تُرْعِ طَرْفَكَ خُضْرةً نبتتْ به ... فمصارعُ الألباب بين نَباته مثلُ الحسامِ يروقُ خُضْرةَ جوهرٍ ... في متنه، والموت في جَنَباته من لونهِ ذَهَبٌ وأَيُّ مثوبة ... يحظى بها لو خَصَّني بزكاته لا تنكرنّ السحر فَهْوَ بطرفه ... ودليلُهُ ما فيَّ من نَفَثاتِهِ وله وليلةٍ باتَ فيها البدرُ يَفْضَحُنا ... غيظاً على قَمَرِي إذ باتَ يفضَحُهُ والروضُ يُبدي إلينا من سرائرهِ ... معنىً يدقّ ولفظُ الريح يَشْرَحُه وكلما نفحتنا من أَزاهره ... رَيَّا فمنَّا نسيمُ المسك ينفحَهُ وقد تناهى بنا ضيقُ العناق إلى ... حدٍ كمُنْطَبقِ الجَفْنَيْنِ أَفسَحُهُ كأنما قصدُ قلبينا لِقاؤُهُما ... دون الوسائطِ في أمرٍ نُصَحِّحُه ولظافر هذا قصيدة زائية، وقع إلي منها ما أثبته وهو: حُكْمُ العيونِ على القلوبِ يجوزُ ... ودواؤها من دائهِنَّ عزيزُ كم نظرةٍ نالَتْ بطرفٍ ذابلٍ ... ما لا ينالُ الذابلُ المهزوزُ فحذار من تلك اللواحظِ غِرّةً ... فالسحرُ بين جفونها مركوز يا ليت شِعري والأماني ضَلَّةٌ ... والدهرُ يدرك صَرْفُه ويجيز هل لي إلى زمنٍ تصرَّم عهدُهُ ... سببٌ فيرجعُ ما مضى فأفوزُ وأزورُ مَن أَلِفَ البِعاد وَحُبُّهُ ... بين الجوانح والحشا مركوز ظبيٌ تَنَاسَبَ في الملاحةِ شخصُه ... فالوصفُ حين يطولُ فيه وجيز والبدرُ والشمسُ المنيرةُ دونه ... فالحسنُ منه يروقُ والتمييز لولا تثنِّي خصرِهِ في رِدْفِه ... ما خِلْتُ إلاّ أَنه مغروزُ تهفو غِلاَلَتُه عليه لطافةً ... فبجسمه من طَرْزِها تطريزُ من لي بدهرٍ كانَ لي بوصاله ... سمحاً ووعدي عنده مَنْجوز والعيشُ مُخْضَرُّ الجناب أَنيقُهُ ... ولأَوْجهِ اللذاتِ فيه بروز والماءُ يبدو في الخليج كأنه ... أَيْمٌ لسرعةِ سيره محفوز والروضُ في حُلَلِ النبات كأنما ... فُرِشَتْ عليه ديابجٌ وخزوز والزهرُ يوهِمُ ناظريه بأنه ... ظهرتْ به فوق الرياض كنوز فأَقَاحُهُ وَرِقٌ، وَساقِطُ طلِّهِ ... دُرٌّ وَنَوْرُ بَهارِه إبريز ومنها: وكأنما القُمْرِيُّ يُنْشِدُ مَصْرَعاً ... من كلِّ بيتٍ والحمامُ يُجِيزُ وكأنما الدولابُ يَزْمُرُ كلما ... غَنَّتْ، وأَصواتُ الضفادع شِيز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 721 يا رُبَّ غانية أَضَرَّ بقولها ... أَنِّي بلفظة مُعْدِمٍ منبوزُ فأجبتها ما عازني نَيْلُ الغِنى ... لكنْ مطالبةُ الحميدِ تَعُوزُ في هذا البيت لحن، قال عازني والصحيح أعوزني وتعوز، وهذا يدل على أنه لحنةٌ ما خابَ مَن هَضَمَ التفضلُ ما لَهُ ... كرماً، وَوَافرُ عرضهِ محروزُ وهذا أيضاً صوابه محرز. وله أيضاً: لئن أنكرتْ مقلتاها دَمَهْ ... فمنه على وَجْنَتَيْها سِمَهْ وها في أَناملها في بعضُهُ ... دَعَتْهُ خِضاباً لكي تُوهِمْهْ هذا من قول الآخر: خذوا بدمي ذاتَ الخضابِ فإنني ... رأيت بعَيْنِي في أناملها دمي إذا كان لم يجنِ غيرَ الهوى ... فَيُقْتَلُ بالهجرِ ظُلْماً لِمَهْ فقالتْ بما سُقْمهُ والدموع ... فأظهرَ من سِرِّنا مُعْظَمَهْ فديتكِ دمعيَ من بَثَّهُ ... هواك وجِسْمِيَ من أسقمَه وأنشدني القاضي أبو القاسم حمزة بن علي بن عثمان وقد وفد من مصر إلى دمشق في شعبان سنة إحدى وسبعين قال: أنشدني أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن العثماني الديباجي قال: أنشدنا ظافر الحداد لنفسه في كرسي النسخ: نَزِّهْ لحاظك في غريب بدائعي ... وعجيبِ تركيبي، وحكمةِ صانعي فكأنني كَفَّا مُحِبٍ شَبَّكَتْ ... يومَ الفراقِ أصابعاً بأصابع قال ابن عثمان: وأنشدنا أبو الحسين يحيى بن محمد بن الحسين الأزدي بالإسكندرية قال: أنشدنا ظافر الحداد لنفسه بمصر في العذار: أَطْلَعَ الشمسَ من جبينك بدرٌ ... فوقَ وَرْدٍ من وجنتيك أَطَلاَّ فكأن العذارَ خافَ على الور ... دِ جَفَافاً فمدَّ بالشَّعْر ظِلاَّ قال: وأنشدنا أيضاً لنفسه ارتجالاً وقد أحضره الأمير السعيد ابن ظفر والي الإسكندرية، ليبرد خاتماً في يده قد ضاق عن خنصره: قَصَّرَ في أوصافك العالَمُ ... فاعترفَ الناثرُ والناظمُ من كنِ البحرُ له راحةً ... يضيقُ عن خنصرهِ الخاتَمُ فأمر له بعطاء، فقيل له: إن كنت ذا خاطر سمح، فأنشدنا أسرع من لمح في هذا الغزال المستأنس، يعني غزالاً كان في حجر الأمير، فقال: عجبتُ لجرأةِ هذا الغزالِ ... وأَمْرٍ تَخَطَّى له واعتمدْ وأَعْجِبْ به إِذْ بدا جاثماً ... فكيف اطمَأَنَّ وأَنْتَ الأَسَدْ فأمر له بعطاءٍ آخر، فقال له الرجل ممتحناً: انظم في هذه الشبكة المسدولة على هذه الدار شيئاً، فقال: رأيتُ ببابك هذا المنيفِ ... شباكاً فأَدْرَكَنِي بعضُ شَكْ وفكرتُ فيما جرى لي فقلتُ ... مكانُ البحارِ يكونُ الشّبَكْ فقال الأمير لممتحنه: دعه وإلا أخذ ما علي. وله، وقد استدعاه بعض أصحابه إلى الجيزة وقلى له سمكاً يقال له الراي فاقترح على الغريزة من قريحته نظم هذه الأبيات الوجيزة: أيا سيداً فقاَ أَعْلى الرُّتَبْ ... وحازَ الجمال بأدْنَى سَبَبْ أَمَالَكَ في الرَّايِ رأْيٌ فإِنَّ ... له صفةً أوجبَتْ أن يُحَبْ تَرَبَّى مع النيلِ حتى رَبَا ... وصارَ من الشحم ضَخْماً خِدَبْ ولا حِسَّ للعَظْمِ في أَكْلِهِ ... فليس على السنِّ منهُ تَعَبْ يَرُوقُكَ نِيئاً وفي قَلْيهِ ... فتنظرُ في حالتيهِ العَجَبْ نصول السكاكين مصقولة ... وفي القَلْيِ تمويُههَا بالذهب قال: وأنشدني لنفسه: قدٌّ يقدُّ به القلوبَ إذا انثنى ... يُنبيك كيف تَأَوَّدُ الأَغْصَانُ كالصَّعْدَةِ السمراء قد أَوْفَى بها ... مَنْ لَحْظُ مُقْلَتِهِ الضعيفِ سنانُ ما خلتُ أَنَّ النارَ في وجناتهِ ... حتى بَدَا في عارضيه دُخَانُ وأورد له ابن بشرون المهدوي في كتابه الموسوم بالمختار قصيدة طويلة أثبت منها ما هو في صفاء النضار وأولها: سائلِ الدارَ إن سألتَ خبيرا ... واسْتَجِرْ بالدموع تَدْعُ مُجيرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 722 وتعوَّذْ بالذكر من سُنَّةِ الغد ... ر ولا غروَ أن تكون ذَكُورا أَفْهَمَتْنِي على قُحولِ ربُاهَا ... فكأني قرأتُ منه سطورا دَمُ عيني بالسَّفْح حَلَّ لدارٍ ... لا يرى أَهلُها دماً محظورا ومنها: هيَ دارُ العيش العزيز بما ضَمَّتْ ... قضيباً لَدْناً وظَبْياً غَريرا ما تخيَّلْتُ أنها جَنَّةُ الخُلْد ... إلى أن رأيت فيها الحُورَا يا لُواةَ الديوان هل في قضاءِ ... الحُسْن أن يَمْطُلَ الغنيُّ الفقيرا احفظوا في الإسار قلباً تَمَنَّى ... شَغَفاً أن يموت فيكمْ أسيرا وقتيلاً لكمْ ولا يشتكيكمْ ... هل رأيتمْ قبلي قتيلاً شكورا ومنها: نَصَلَ الحوْلُ بعدكم وأَراني ... بَعْدُ من سَكْرَةِ النَّوَى مَخْمُورا ارْجِعُوا لي أيامَ رَامَةَ إِنْ كا ... نَ لما كان وانقضى أَنْ يَحُورَا وشباباً ما كنت من قبل نَشْرِ ... الشيب أخْشَى غُرَابَهُ أَنْ يَطيرا إنْ تكنْ أَعْيُنُ المَهَا أَنْكَرَتْني ... فلعمري لقد أَصَبْنَ نكيرا زَاوَرَتْ خُلَّتَينِ مِنِّيَ إِقتا ... راً يُقَذِّي عيونَها وقَتيرا كنتُ ما قد عَرَفْنَ ثم انتَحَتْنِي ... غِيَرٌ لمْ أُطِقْ لها تغييرا وخطوبٌ تُحيل صبغتَها الأَبشا ... رَ فضلاً عن أَن تُحِيلَ الشُّعورا وافتقادي من الكرام رجالاً ... كان عيبي في ظلهمْ مستوراً فارقوني فقلَّلُوني وكم كا ... ثَرْتُ دهري بهمْ فكنت كثيرا ومنها في التخلص: ولقد أَبقتِ الليالي أبا الفضل ... فأبقتْ في المجد فضلاً كبيرا لاحَ فينا فأقمرت ليلةُ البد ... ر وأَعطْى فكان يوماً مَطِيرا الفقيه ابن الكيزاني المصري الواعظ الشافعي أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن ثابت بن فرح الأنصاري المعروف ب ابن الكيزاني فقيه واعظ مذكر حسن العبارة، مليح الإشارة، لكلامه رقة وطلاوة، ولنظمه عذوبة وحلاوة. مصري الدار، عالم بالأصول والفروع، عالم بالمعقول والمشروع، مشهود له بألسنة القبول، مشهور بالتحقيق في علم الأصول. وكان ذا رواية ودراية بعلم الحديث، ومعرفة بالقديم مكون الحديث، إلا أنه ابتدع مقالة ضل بها اعتقاده، وزل في مزلقها سداده، وادعى أن أفعال العباد قديمة، والطائفة الكيزانية بمصر على هذه البدعة إلى اليوم مقيمة. أعاذنا الله من ضلة الحلم، وزلة العلم، وعلة الفهم. واعتقد أن التنزيه في التشبيه، عصم الله من ذلك كل أديبٍ أريب ونبيلٍ نبيه. وله ديوان شعر يتهافت الناس على تحصيله وتعظيمه وتبجيله لما أودع فيه من المعنى الدقيق، واللفظ الرشيق، والوزن الموافق، والوعظ اللائق، والتذكير الرائع الرائق، والقافية القافية آثار الحكم، والكلمة الكاشفة أسرار الكرم. توفي بمصر سنة ستين وخمسمائة وهو شيخ ذو قبول، وكلام معسول، وشعر خال من التصنع مغسول، ودفن عند قبر إمامنا الشافعي رضي الله عنه. والكيزانية بمصر فرقة منسوبة إليه، ويدعون قدم الأفعال، وهم أشباه الكرامية بخراسان. أنشدني الفقيه أبو الفتح نصر الفزاري الإسكندري ببغداد في ذي الحجة سنة ستين، قال: أنشدني ابن الكيزاني وقد دخلت إليه زائراً بمصر في شوال سنة خمس وخمسين لنفسه: إِذا سمِعْتَ كثير المدح عن رجلٍ ... فانظر بأيِّ لسانٍ ظلَّ ممدوحَا فإن رَأَى ذاك أَهلُ الفضل فارْضَ لهم ... ما قيل فيه وخُذْ بالقول تصحيحا أَوْ لا فما مَدْحُ أَهلِ الجهل رافِعُهُ ... وربما كان ذاك المدح مجروحَا واستعرت من الملك الناصر صلاح الدين وقد لقيه قبل أن ملك مصر قطعة بها من شعره في الغزليات وغيرها في الزهديات، وأثبت منها هذه المقطوعات فمنها قوله: اصْرِفوا عنّي طَبِيبي ... وَدَعُوني وَحَبيبي عَلِّلوا قلبي بذكرا ... هُ فقد زادَ لهيبي طابَ هَتْكي في هواهُ ... بَيْنَ وَاشٍ ورقيبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 723 لا أُبالي بفَوَات النَّفْ ... سِ ما دامَ نصيبي ليسَ مَنْ لامَ وإن أَطْ ... نَبَ فيه بمُصيب جَسَدي راضٍ بسُقْمي ... وَجُفُوني بنَحيبي وقوله: سواءٌ أن تلوما أو تُرِيحا ... رأيتُ القلب لا يَهْوَى نصيحا أمَا لو ذُقْتُمَا صَرْفَ الليالي ... إِذَنْ لعذَرْتُمَا القلبُ القَرِيحا وكانت فُرْقةُ الأحباب ظَنّاً ... فأصبح بَيْهُمْ خَبَراً صريحا ولو لم ينزلوا سَلماتِ نَجْدٍ ... لما استنشقتُ للسَّلَماتِ ريحا ولا أهديتُ للأسماع يوماً ... غناءً من حمائمها فَصِيحا وها أَنا قد سمحتُ بدمعِ عيني ... وكنتُ بدمعها أَبداً شَحيحا وأمكنتُ المحبَّةَ مِن قِيادي ... وصنتُ مع النَّأي وُدّاً صحيحا وقد سكن الجوى قلْباً صحيحاً ... وقد تَرَكَ الهوى صَدْراً قريحا وقوله: ما سمح الدهر لي بشيءٍ ... إلا تقاضاه فاستَرَدَّا كنت ضَنِيناً بودِّ قومٍ ... أرعى لهم ذِمَّةً وعهدا فاختلَسْتُهُمْ يَدُ الليالي ... وعَوَّضَتْ بالوصال صَدَّا وقوله: قد قتلتِ فاتئدي ... لا تُعَذِّبي كَبدي وانظري جَوىً وهوىً ... سٌلِّطا على جسدي لا تهدّدي بغَدٍ ... فالمماتُ بعد غدِ كلما طلبتُ رِضاً ... بالوصال لم أَجِدِ ما أَرَى صدودكُمُ ... ينتهي إلى أَمدِ إنني بذلتُ دَمي ... ما عليكِ من قَوَدِ إن بخلتِ أن تصلي ... فاسمحي بأن تعدي مُذْ عَلِقْتُ حُبَّكُمُ ... لم أَمِلْ إلى أَحَدِ ما جرى صدودُكمُ ... قبل ذاك في خَلَدِي فارحمي قتيلَ ضَناً ... في هواكِ واقتصدي وقوله: قلْ لمن وكَّلَني بالسُّهُدِ ... إنّ مَن أَسْهَرْتَه لم يَرْقُدِ بنتَ والشوقُ مقيمٌ في الْحَشا ... يتمادَى حَرُّهُ في الكبدِ أَنا في أَسْركَ فانظرْ واحتكمْ ... ما على هجركَ من جَلَدِ لا يَغُرَّنَّكِ يا مالكتي ... رَمَقٌ يبقى ليومٍ أَو غَدِ وقوله: تلذُّ لي في هَوَى ليلَى معاتبتي ... لأنّ في ذكرها بَرْداً على كَبِدي وأشتهي سَقَمي أن لا يفارقني ... لأنها أودعَتْهُ باطنَ الجسَدِ وليس في النوم لي ما عشتُ من أَرَبٍ ... لأنها أوقفَتْ جَفني على السُّهُدِ ولو تمادتْ على الهِجران راضيةً ... بالهجر لم أشكُ ما ألقى إلى أَحدِ فإن أَمُتْ في هواها فَهْيَ مالكتي ... وما لعبدٍ على مولاه من قَوَدِ اللومُ أَشبه بي منها وإن ظلمتْ ... أنا الذي سُقْتُ حَتْفي في الهوى بيدي وقوله: لو أنّ عندكَ بعضَ ما عندي ... لرثيتَ لي من شدَّةِ الوَجْدِ كلَّفْتَني ما لو يُكلَّفُهُ ... صَلْدٌ لذابَ له صَفَا الصَّلْدِ يا ليت لما رُمْتَ تُتْلِفُني ... في الحبِّ كان بما سوى الصَّدِّ لو كان هذا من سواكَ على ... ضَعْفي لكنتُ إليك أَستَعْدي وقوله: ليلتيْ رامةَ عُودَا ... واجعلا العهد جَديدا قَرِّبَا ما كان صَفْواً ... لهوىً منا بَعِيدا وإذا ما بَخِل الدهرُ ... بإِسعافي فجودا أذكَرَتْني سَمُراتُ ... الحيِّ إذ مِسْنَ قدودا مثلما أذكرني الرَّبْربُ ... أحداقاً وجيدا ومنها: ولقد أَنْصَفْنَ حِيناً ... ثم أَعْقَبْنَ صدودا وغدا صَرْفُ الليالي ... مُبْدِياً فينَا مُعِيدا فلكمْ أَقْرَحَ بالدمعِ ... جفوناً وخُدُودَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 724 ولقينا بعد لينِ ... العيشةِ الصَّعْبَ الشديدا أيها الدهرُ أَقِلْنِي ... جُزْتَ في الجَوْر الحدودا قد أَرَى الليل طويلاً ... فِيكَ والأيامَ سُودا فأنا الدهرَ طريدٌ ... أَبْتَغِي صَبْراً طريدا وله أصبحتُ مما بيَ لا أدري ... ماذا الذي أَصْنَعُ في أمري إن بحتُ لاآمَنُ من لائمٍ ... والصبرُ قد ضاق به صدري وقد تشفَّعْتُ إليه بهِ ... ولا يَرى شيئاً سوى الغَدْر لا حظَّ لي منه سوى صَدِّهِ ... أما لليل الصدِّ من فَجْرِ قتلىَ بالسيف وإن لم يَجُزْ ... أَهْوَنُ من قتليَ بالهجر وقوله: يا من بدا هجرانُهُ ... ما أنتَ أَوَّلُ من هَجَرْ هيَ سنَّةٌ مألوفةٌ ... فيمن تَقَدَّمَ أو غَبَرْ داومْ على ما أنت ... فيهِ فإنما الدنيا عِبَرْ عَوَّدْتُ نفسي الصبرَ، ... والأجْرُ الجزيلُ لمن صَبَرْ قوله: شَرِيفُنَا يَمْضي ومَشْرُوفُنَا ... وإنما يُفْتَقَدُ الخَيِّرُ كالجوِّ لا يوجد إظلامه ... إلا إذا ما عُدِمَ النَّيِّرُ وقوله: يا مُؤْنسي بذكره ... وموحشي بهجرهِ ومن فؤادي مُوقَفٌ ... لنهيهِ وأمرهِ انظرْ إلى معذَّبٍ ... عادمِ حُسْنِ صَبْرِهِ غادره جَوْرُ الهَوَى ... مُوَكَّلاً بفكرهِ وسُقْمُهُ لعاذليهِ ... قائمٌ بعذرهِ وقوله: أَسْعَدُ الناس من يكاتمُ سِرَّهْ ... ويرى بَذْلَهُ عليه مَعَرَّهْ إنما يُعْرَفُ اللبيبُ إذا ما ... حَفِظ السرَّ عن أخيه فَسَرَّهُ إن يجد مَرَّةً حلاوةَ شكوا ... هُ سيلقى نَدامَةً ألف مَرَّه وقوله: أتُرَى أضمرتْ قديماً هَجْرَا ... أم وَفَى الدهر بالتفرُّق نَذْرَا نَظَرَتْ نظرة المشوقِ وللبَيْنِ ... بقلبي جَوىً تُشِبُّ الْجَمْرَا لا وتلك الجفونِ والبرقع السا ... ترِ عن مُقلتي الخدودَ الحُمْرَا ما توسَّمْتُ قبل زَمِّ المطايا ... أن أرى هَوْدَجاً تكنَّفَ بدرا أَزْمَعُوا رحلةً وقد نشروا الليل ... عليهمْ من جانبيهِ سِتْرَا واستقلَّوا وللمطايا اشتياقٌ ... مستمرٌّ إذ حَثَّها السَّيْرُ قَسْرَا عاطفات الأعناقِ من حَذَر التفريق ... نحو الديار يَنْظُرْنَ شَزْرَا عزَّ لي أن أرى المزارَ بعيداً ... والديارَ التي توسَّمْتُ قَفْرَا والعهودَ التي عهدْتُ إليهمْ ... بُدِّلَتْ منهمُ مَلالاً وغَدْرَا وقال أيضاً: اشربْ على منظر الحبيبِ ففي ... بهجتهِ نائبٌ عن البَدْرِ ومَتِّعِ الطرف من لواحظهِ ... تَغْنَ بها عن سُلاَفةِ الخمر قد سَمَحَ الدهر بالوصال فكنْ ... في دَعَةٍ من بوادرِ الهَجْر وقال: إن حَجَبُوا شخصكَ عن ناظري ... ما حَجَبوا ذكركَ عن خاطري قد زارني طيفكَ في مضجعي ... يا حَبَّذا طيفُكَ من زائر وصَلْتَنِي أَفْديكَ من واصلٍ ... هَجَرْتَني أفديك من هاجرِ وقال: وإني لأهوى ذكركمْ غير أنني ... أغارُ عليكم من مسامع جُلاَّسِي عرفتُ بكم دهراً وللعبد حرمةٌ ... فلا تتركوني مُوحَشاً بعد إيناسي وقوله: قل للذي يَحْدو بأجمالهمْ ... ماذا على الأحباب لو عَرَّسُوا وحَقُّ من كان له مُؤْنِسٌ ... يَفْنَى إذا فارقه المُؤْنس ما ودَّعونا ومَ جَدَّ النَّوَى ... وإنما ودَّعتِ الأنفسِ وقوله: بربكما عَرِّجَا ساعةً ... ننوحُ على الطَّلل الدارسِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 725 فَفَيْضُ الدموعِ على رَسْمِهِ ... يُتَرْجِمُ عن حُرَقِ البائسِ وعهدي بِغزْلانه رُتَّعاً ... لدى مَلْعَبٍ بالدُّمَى آنسِ ولي فيهمُ شادنٌ أَهْيَفٌ ... يفوقُ على الغصُن المائسِوقوله: أصبحتُ ممن كنت مسْتأنساً ... به لخُبْثِ الدهر مُسْتَوْحشاً ما ينقضي يومٌ ولا ليلةٌ ... إلا بأحوالٍ تُمِضُّ الحَشَا وقوله: نَمْ هَنِيئاً فلست أعرفُ غمْضَا ... قد جعلتُ السُّهادَ بعدك فَرْضَا لستُ ممن يرى سواك بديلاً ... لا ولا يبتغي لعهدك نَقْضَا لكَ قلبي تملُّكاً فاحتكمْ ... فيه على أنني بحكمك أَرْضَى وقوله: بالله يا منتهى سُقْمي وأمراضي ... هل أنتَ راضٍ فإني بالهوى راضِ لم يبق لي غَرَضٌ فيمن سواكَ فلا ... تعنُفْ على مهجتي يا كلَّ أغراضي أما تميلُ إلى وَصْلٍ تَسُرُّ بهِ ... فقد مضى العمر في صَدٍ وإعراضِ الحسن علَّمك التحكيمَ فابقَ على ... وَجْهِ العدالة في التحكيم يا قاضي وقوله: عَوَّضوني من رضاهم سَخَطَا ... إذ رأوني بالهوى مُغْتَبِطَا وسَطَوْا إذ مَلَكوني عَبثاً ... حَبَّذا من جار منهم وسَطا عَتَبُوا إذ زارني طيفهمُ ... إنما كان منامي غَلَطا وأرادوا الصبر لما هجروا ... فلعمري كلَّفوني شَطَطَا وقوله: جَهْدُ عيني أن لا تذوقَ هُجُوعَا ... وجفوني أن لا تكفَّ دُمُوعَا ولساني أن لا يزال مُقِرّاً ... أنني لستُ للعهود مُضِيعا وفؤادي أن لا يُلمَّ به ... الصبْرُ وسقْمي ألا يرومَ نُزُوعَا ولقد أَوْدَعَ الغرامُ بقلبي ... زفراتٍ أضحى بها مَصْدُوعَا وإذا أَطْنَبَ العذولُ فقد عا ... هدتُ سمعي أن لا يكون سَمِيعا وحرامٌ على التلهُّف أن ... يَبْرَحَ أو يَحْرِقَ الحَشَا والضلوعا وبعيدٌ أن يجمع الله شملي ... بالمسرَّات أو نعودَ جَمِيعا وقوله: هنيئاً لعينٍ مُلِّيَتْ منك مَنْظَرَا ... وسَقْياً لأذْنٍ مُتِّعَتْ منك مَسْمَعَا ولستُ أرى صَفْوَ الحياة وطيبَها ... إلى أن يعود العيش أَوْ يتجمَّعا وقوله: وعاذلٍ ضاق به ذَرْعي ... لم أُعْطِهِ البُلْغَةَ من سَمْعِي أقول لما لجَّ في عذلهِ ... كلَّفْتَني ما ليس في الوُسْعِ دع مُهْجَتي تحرقها زَفْرَتي ... ومقلتي يُغْرِقها دَمْعي الحبُّ شَرْعٌ بين أربابهِ ... وما سلوُّ القلب في الشَّرْعِ وقوله: ما لقلبي من لوعة البين راقِ ... أتراني أَحْيَى ليوم التلاقي عَزْمَة لم تَدَعْ لجفنيَ دَمْعَا ... لا ولا في الحَشَا مكانَ اشتياقِ أطمعوني حتى إذا أَسَروني ... عَذَّبوا مهجتي وشَدُّوا وَثَاقَي واستلذُّوا الفراق حتى كأنْ لم ... يعلموا أنه مَرِيرُ المَذَاق ما على ذا عاهدتكمْ فذروا الهجرَ ... ليَرْقَا من دمعيَ المُهْرَاقِ إن تكونوا حَرّمتمُ الوصل فالجفنُ ... بعيدُ المدى على الانطِباقِ في سبيل الهوى نفوسٌ أقامتْ ... بعد وشك النَّوَى على الميثاق لا يَغُرَّنْكم فلست على البينِ ... إذا لم تُبقوا عليَّ بباقِ وقوله: خَلِّصوني من يَدَيْ عذلكمُ ... ما أنا أولُ صَبٍ عشقا قد تسربلتُ بسقمٍ لا شُفِي ... وتَهتّكْتُ بدمعٍ لا رَقَا إنما لذَّةُ عيشي في الهوى ... لا أبالي بنعيمٍ أو شَقا ليس يَبْقَى تحت أحكام الهوى ... أبداً إلا محبٌّ صدقا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 726 وحبيبي لو رآه عاذلي ... كان باللوم عليه أَلْيَقَا حَبَّذَا العيشُ الذي كان صَفَا ... منه والكأسُ الذي كان سَقَى بَسَطَ الدهرُ إلينا باعَهُ ... لم يزل يَعْبَثُ حتى فَرَّقَا أنا لا أسلو عن الحِبِّ ولا ... أبتغي من أَسْرِهِ أن أُطْلَقا أخَذ الدهر لَحْينِي رَمَقِي ... ليته أَبْقَى عليَّ الرَّمَقَا وقوله: ما أودعوكَ مع الغرام وَوَدَّعوا ... إلا ليتلفَ قلبُكَ المشتاقُ قف فاستلمْ أَثَرَ المطيِّ تعَلُّلاً ... إن لم يكن لك نحوهنَّ لحاقُ وتنحَّ عن دعوى هواك فإنه ... إِن لم تمتْ يوم الفِراق نِفَاقُ وقوله: ملك الشوقُ مهجتي ... حبَّذَا من تملَّكا قد رماني بحبّهِ ... ونَهَاني عن البُكا إنما راحةُ المحبِّ ... إذا أنّ أَو شَكا ما أَرى للسُّلُوِّ عنه ... وإن جارَ مَسْلَكا وقوله: يا كاتمَ الحُبِّ والأجفانُ تَهْتِكُهُ ... وطالبَ العِتْق والأشواقُ تملكُهُ شرط المحبَّة أن لا يشتكي مَلَلاً ... من قد رأَى أَنّ فَرْطَ الحب يُهْلِكهُ والصبرُ تحت مذلاّتِ الهوى أَبداً ... عزٌّ فما منصفٌ في الحب يَتْرُكه دَم المحبِّ بأيدي الحِبِّ مبتذَلٌ ... إن شاءَ يمنعهُ أو شاءَ يَسْفِكهُ من كان في شَرَكِ الأشواق مُرْتَهَناً ... كانت له عُلَقٌ لا بدّ تُمْسِكُهُ وقوله: أيَّ طريق أَسْلُكُ ... وَأَيَّ قلْبٍ أَملك وَأَيَّ صبرٍ أَبتغي ... وهو بكُمْ مُستهلَكُ أَدارني حبّكمُ ... كما يدُور الفلكُ أَأَنْثَنِي وكلُّ عضوٍ ... فيه منكمْ شَرَكُ أَخلصتُ فيكم باطناً ... فيه هَوىً لا يُدْرَكُ جَلَّ فما في صَفْوِه ... شَوْبٌ ولا مُشتَرَكُ ولاؤكم لي مَذْهَبٌ ... وذكركمْ لي نُسُكُ ومهجتي مملوكةٌ ... يا حبذا المملَّكُ وإنْ أَردتمْ فاحقِنوا ... وإن أَردتم فاسفكوا ما أَنتمُ ممن يُخَلَّى ... حُبُّهُ ويُتْرَكُ وقوله: يا دارُ هل تجدين وجد الشاكي ... أَمْ تعطفين على بُكاءِ الباكي لا تُنْكري سَقَمي فما حَكَم البَلاَ ... في مُهجتي إلاّ لأجل بِلاكِ أَصبحتِ داثِرَة الجَنَابِ وطالما ... طابَ الهوَى وغَنِيتُ في مَغْناكِ أَمحلَّ إطرابي بعيشكِ عاودي ... لوْلاكِ ما كان الجوى لوْلاكِ ما قصَّرَتْ نَوْحاً حماماتُ اللِّوَى ... مُذ غاب عن قُمْرِيِّها قَمَرَاكِ وقوله: إني لأعجب من صُدو ... دكِ وانعطافكِ في خيالكْ يا ليت ذاك مكان ذا ... عندي وذا بمكان ذلكْ لأكون مشتملاً على ... وَجْهِ الحقيقة من وِصالك وقوله: أَنْعموا لي بالوصالِ ... وارحموا رقَّةَ حالي لا تذيبوا مهجتي ... بَيْنَ التجنِّي والدلالِ ليس عندي في هواكمْ ... قد بَدَا لي قد بَدَا لي إنما قصدي رضاكمْ ... قد حَلا لي قد حَلا لي فإِن اخترتم عذابي ... لا أُبالي لا أُبالي وقوله: هجَروا مخافة أن يُمَلُّوا ... ظَنُّوا صوابهمُ فَزَلُّوا أَوَ لَيْسَ هُمْ روحي فكيف ... أَمِيلُ عنهمُ حيث حَلّوا لم يجهلوا تحريمَ قتلي ... في الهوى فبمَ استحلُّوا لكنهمْ علموا بفرْ ... طِ محبتي لهمُ فَدَلُّوا وتعزَّزوا بالحبِّ فاطَّ ... رحوا محلّي فاستدلُّوا لم يبقَ من رمَقي لهج ... رِ أَحبّتي إلاّ الأقلُّ لله ما تركوه من ... جسمي سليماً أو أَعَلُّوا وقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 727 يا منصفاً في كل أحوالهِ ... لا تخرجِ الإنصافَ عن رسمهِ هَبْ أَنني أبديتُ جُرْماً وقد ... يعتذر الإنسان من جُرْمِهِ قد كثُرَ القيلُ وحاشاكَ أن ... تسمع قولَ الخصم في خصمهِ انظرْ إلى الباطن من أمرنا ... فراحةُ العالمِ في علمهِ فإنْ رأيتَ الحقَّ حقي فلا ... تمكِّنِ الظالمَ من ظُلمهِ وقوله: إن بين الكَرَى وأجْفان عيني ... مثلَ ما بين وَصْل حِبِّي وبيني ولقد أوجبَ الهوى بُعْدَ صَبْري ... مثل ما أوجب النَّوَى قُرْبَ حَيْنِي زعم اللائمون أنَّ سقامي ... شَيْنُ جسمي فليت لونيَ شيني لي ديونٌ على الحبيب كثيرٌ ... وأرى حَظِّيَ المِطَالَ بَدْيني أَنَا من كثرة الصدود مَلِيءٌ ... غير أَنِّي في الوصل صِفْرُ اليدينِ وقوله: أنا بالصبر فيه لا الصبرِ عَنْهُ ... تحت حكم الهوى بما جاءَ منْهُ قد صفَتْ في محبَّةٌ لم أكدِّرْ ... هَا وعهدٌ مقدَّم لم أَخُنْهُ فاعتراني الصدودُ إن زال حُبّي ... وحُرِمْتُ الوصال إن لم أَصُنْهُ قد تمنيتُ أن تكون وصولاً ... فتفضَّلْ بهِ عليَّ وكُنْهُ كل حبٍ له إذا نَظَرَ النا ... ظرُ كُنْهٌ وما لحبِّيَ كُنْهُ وقال: تريد الهوى صِرْفاً من الضُّرِّ والبَلْوَى ... لعمرك ما هذِي قضيَّةُ مَنْ يَهْوَى إذا لم يكن طَرْفُ المحبِّ مُسَهَّداً ... وأَدْمُعُهُ تَجْرِي فهذا هو الدعوى ولا حبَّ إلا أن ترى كُلْفَةَ الهوى ... ألذَّ من المَنِّ المنزَّل والسَّلوَى وحتى ترى القلب القريحَ من الهوى ... يمانعه الصبرُ الجميل من السَّلْوَى رَعَى اللهُ من أعطى المحبةَ حَقَّهَا ... وإن لم يكن فيها من الأمر ما يَقْوَى ونقلت له من مجموع آخر هذه المقطعات الموشعا ت ورأيت إثبات ما به من الأبيات قال: يا من يَتِيهُ على الزمان بحسنهِ ... اعْطِفْ على الصبِّ المشوق التائهِ أَضْحَى يخاف على احتراق فؤادهِ ... أَسَفاً لأنك منه في سودائه وقال: يا حاديَ العِيسِ اصْطَبِرْ ساعةً ... فمهتجي سارتْ مع الرَّكْبِ لا تَحْدُ بالتفريق عن عاجلٍ ... رِفْقاً بقلبِ الهائمِ الصَّبِّ لو كنتَ تدري ما احتكامُ الهوى ... وجَوْرهُ من تَلَفِ القَلْبِ رثيتَ لي مما يُجِنُّ الحَشَا ... من شدة الهِجْران والكَرْبِ وقال: والله لولا أنَّ ذكرَك مُؤْنِسي ... ما كان عيشي بالحياة يطيبُ ولئن بكتْ عيني عليك صبابةً ... فلكلِّ جارحةٍ عليك نحيبُ أتظنُّ أن البعد حلَّ مودتي ... إن بانَ شَخْصُك فالخيال قريبُ كيف السلُّو وقد تمكَّنَ في الحشا ... وَجْدٌ على ما في الفؤاد رقيبُ وإليك قد رَحَلَ الهوى بحُشَاشتي ... والسُّقْمُ مُشْتَمِلٌ وأنتَ طبيبُ وقال: يا من يصارِمُني بلا سببِ ... مَهْلاً فإنَّ هواك بَرَّحَ بي انظرْ إلى رمَقٍ تجيلُ به ... أيدي الهوى أنفاسَ مكتَئِبِ واسمَحْ بحسن العَطْفِ منك لمن ... غَادَرْتَهُ وَقْفاً على العَطَبِ قد فُلَّ صبري فيك منهزماً ... لا ينثني وهواكَ في الطَّلَبِ وقال: حاولتُ وصلكمُ فعزَّ المطلبُ ... وذهبت أسألكم فضاقَ المَذْهَبُ لا تَعْتِبوا أني تشكَّيْتُ الهَوَى ... رُدُّوا عليَّ تَصَبُّرِي ثم اعْتِبوا أَثْبَتُّمُ غَدْراً وما أنا غادرٌ ... وجعلتمُ ذنباً ما أنا مُذْنِبُ إني لأعجب من تحمُّلِيَ الهوى ... وبقاءُ جسمي بعد ذلكَ أَعْجَبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 728 لابدَّ منكم فاهجروا أو وَاصلوا ... ما مثلكمْ في الحبِّ من يُتَجَنَّب وقال: أَمَا واشتياقي نحوكم ودُموعي ... عليكم وذُلِّي فيكمُ وخضوعي لئن كان جسمي عنكمُ مُتَخَلِّفاً ... لقد سرتمُ يوم النَّوَى بهجوعي ولا غَرْوَ إن أفنيتُ روحي صَبَابَةً ... إذا لم تَمُنُّوا منكمُ برجوع لعل نسيمَ الريح إن حلَّ أرضكم ... يكونُ بتبليغ السلام شفيعي وقال: عَيَّرُوني بأنْ سَفَحْتُ دموعي ... حين همَّ الحبيب بالتوديع زعموا أنَّني تَهَتَّكْتُ والحِبُّ ... على ما أريد غَيْرُ مطيعي لم يذوقوا طعم الفِراق ولا ما ... أَحْرَقَتْ لوعةُ الهَوَى من ضلوعي كيف لا أسفح الدموعَ على رَسْمٍ ... عَفَا بعد سَاكنٍ وجموع وقال: بَعُدْتُم فَقَرَّبْتُمْ ببعدكمُ حَتْفي ... وما الموتُ إلا في مفارقة الإلْفِ وقالوا اتَّبِعْ عُرْفَ المحبين في الهوى ... فقلت لهم جارَ الغرامُ على العُرْف وحَمْلُ يسيرِ الحب يُتْلِفُ مهجتي ... فكيف بتحميلي الكثيرَ مع الضعف وقد زاد بي لَهْفي فلولا تستُّرِي ... لناديتُ من فَرْط الصبابة والَهْفي فلا تتركوني للحوادث نُهْبَةً ... فقد صَنَعَ الشوق المبرِّحُ ما يكفي وقال: يا من يَرَى عَذَلي به وتحرُّقي ... ونحولَ جسمي في الهوى وتَشَوُّقي لم أَلْقَ مثلك مُفْرِطاً في صدِّهِ ... عَمْداً ولا في الحب مثلي قد شَقِي فبفرط صَدِّك بل بفرط مَحبَّتي ... إلاَّ نظرْتَ إليَّ نظرة مُشْفِقِ إني لأَجْرَعُ منك ما لو ذُقْتَهُ ... لعلمتَ ماذا في الهوى قلبي لَقِي جُرْ كيف شئتَ فلستُ أولَ عاشق ... كأسَ المحبَّة في محبته سُقِي وقال: لولا المطامعُ بالتلاقي ... لَذُبْتُ من فَرْطِ اشتياقي إنَّا وإنْ نَأْتِ الديا ... رُ بنا على قُرْبِ الوفاقِ تمضي بنا الأيامُ في ... صَفْوِ الهوى والودُّ باقِ وأظلُّ أمحو بالترحِّي ... فيكمُ أَثَرَ الفراق وقال: أَسُكَّانَ هذا الحيِّ من آل مالكٍ ... مسالمةٌ ما بيننا وجَمِيلُ أَلم تَعِدونا أن تزُورُوا تكرُّماً ... فما بالُ ميعاد الوصالِ يطولُ وَحُلْتُمْ عن الوَعْدِ الجميل مَلالَةً ... وأنتمْ على نَقْضِ العهودِ نُزُول إذا قيل من تهوونه صار حَانِثاً ... بِعَيْشِكُمُ ماذا هناكَ يقول وإنا لنَسْتَبْقِي المودَّة والهوى ... شهيدٌ لنا إذ ليس عنه نَزُولُ ولا تَحْسَبُوا العُتْبَى عليكم تَوَجُّعاً ... فيطمعَ واشٍ أو يَلجَّ عَذُولُ رضينا رضينا أن نُبِيح نفوسنا ... وما عاشقٌ منا بذاكَ بخيلُ وما منكمُ بُدٌّ على كل حالة ... وإن كان فيكم هاجرٌ وملولُ كذاك الهوى: هذا حبيبٌ مُعَزَّزٌ ... وهذا محبٌّ في هواه ذليل ووجدٌ وشوقٌ وارتياحٌ ولوعةٌ ... وهجرٌ وسقمٌ دائمٌ ونحولُ دواعي الهوى محتومةٌ فاصطبرْ لها ... وإن جارَ بَيْنٌ أو جفاكَ خليل علمن بوشك البَيْن أَوَّلَ حالهِ ... وما حَضَرَتْنَا للوداع عقولُ إذا ما طمعنا أَنْ تَقَرَّ ديارُهُمْ ... تداركهم بعد الرحيلِ رَحِيلُ وقال: ناديتهم إذ حَمَّلوا ... بحقكمْ لا تعجَلُوا تعطَّفوا بنظرةٍ ... من قبل أَنْ تَحَمّلُوا لم يبق إِلا نَفَسٌ ... وأدمعٌ تَنْهَمِلُ ما وقفةٌ لمُغْرَمٍ ... لم يُغْنِهِ التَّعَلُّلُ ويا فراقُ كمْ تُرَى ... أنتَ بنا مُوَكَّلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 729 أنا المُعَنَّى بهمُ ... إن أسرعوا أو نَزَلوا فخلِّ عن عَذْلي فَلَنْ ... يَنْفَعَ فيَّ العَذَلُ ما لفؤادي عنهمُ ... صَبْرٌ ولا لي مَعْدَلُ ولا سروري حينَ ولَّى ... وغرامي مُقْبِلُ وغادروا قلبي على ... جَمْر الهوى يَشْتَعِلُ وقال: أَطْرَقْتُ حين رأيتهُ خَجَلاَ ... عند اللقاء فظنَّه مَلَلاَ حاشَا ودادي أن يُنَهْنِهَهُ ... جَوْرُ الهَوَى ولو انَّهُ قَتَلا وقال: تعالَوْا نحاكمكمْ على لأيِّ مذهَبٍ ... أَبَحْتُمْ، بلا جُرْم أَتَيْتُ بهِ، قَتْلي فإن قلتمُ حُكْمُ الهوى فاصنعوا يَداً ... مخافةَ أَنْ تُبْلَوْا بجَوْر الهَوَى مثلي أو التزموا عهداً أُعَلِّلُ مهجتي ... بهِ واتركوا الآمال في قبضة الأمَلِ وإلا فردّوا لي فؤادي فإنما ... سمحتُ به كي تسمحوا ليَ بالوصْلِ وقولوا لنومي عُدْ وللشوق لا تَزِدْ ... وللعين كُفّي واقطعوا سَبَبَ العَذْل وهذي قضايا الحق قد جئتكم بها ... فما لكمُ لا ترجعونَ إلى العَدْل وقال: تِهْ كيف شئتَ دَلالا ... لا صبر لي عنك لالا إني لأحْمَد قَلْباً ... صَبَا إِليك ومالا فلستُ أَبْغِي بحالي ... سواكَ ما عِشْتُ حالا وقال: لو كان هذا الهوى الذي قَتَلا ... ما بين قلبي وبينهمْ عَدَلا لما استحلّوا بهجرهمْ تَلَفِي ... ولا استمالوا إلى الذي عذَلا أمنحهم رِقَّ مهجتي ودمي ... ويمنحونَ الصدودَ والمَلَلاَ ما كل من بَرَّح الغرامُ به ... والحبُّ يبغي بحبِّه بدلا وقال: أتزعم ليلى أَنني لا أحبها ... وأَني لما ألقاهُ غَيْرُ حَمُولِ فلا ووقوفي بين أَلْوِيَة الهوى ... وعصيانِ قلبي للهوى وعذولي لو انتظمَتْني أَسْهُمُ الهجر كلها ... لكنتُ على الأيام غَيْرَ مَلُولِ ولست أبالي إذ تعلَّقْتُ حبها ... أفاضَتْ دموعي أم أَضَرَّ نحولي وما عبَثي بالوم إلا تعَلُّلاً ... عَسَى الطَّيْفُ منها أن يكونَ رسُولي وقال: ما أَرْخَصَ الدمعَ على ناظري ... في الحبِّ إلا وَصْلُكَ الغالي يَسُرُّني فيكَ عذابي وأَنْ ... تَبْقَى رَخِيَّا ناعم البال قد أَطْنَبَ العُذَّالُ في قِصَّتِي ... وأكثروا في القِيل والقال ما قلبهمْ قلبي ولا وَجْدُهُمْ ... وجدي ولا حالهمُ حالي وقال: ليتني كتُ مُخَلَّى ... بحبيبي أَتَملَّى مَنَعوه من وصالي ... فَاْنثَنَى عِزِّيَ ذُلاَّ ففؤادي بين شوقي ... وغرامي يَتَقَلَّى وأراهم حسبوني ... بسواهمْ أَتَسَلَّى لا رَعَى الله مُحِبّاً ... تَرَكَ الحُبَّ وَمَلاَّ كنتُ بالصبر ضنيناً ... فتولَّى حين وَلَّى وقال: ناديتُ حاديَهمْ والعِيسُ سائرةٌ ... رفقاً فقلبي بهمْ رَهْنٌ وما عَلموا إن كنتَ في غفلةٍ عما أكابدُهُ ... فَدَمْعُ عيني على ما في الحَشَا عَلَمُ وقد تولَّى عزاءُ النفس مذ رحلوا ... عني فكيف أُطِيق الصبر بَعْدَهُمُ همُ استحلوا دمي عمداً فلا حَرَجٌ ... إن أسعفونيَ بالإنصاف أو ظلموا والله لو أنني خُيِّرْتُ من زمني ... ما كان لي بُغْيَةٌ في الناس غَيْرَهُمُ وقال: تَخَيَّرْ لنفسك من تصطفيهِ ... ولا تُدْنِيَنَّ إِليكَ اللِّئاما فليس الصَّدِيق صديقَ الرَّخاء ... ولكنْ إذا قَعَدَ الدهر قاما تنامُ وهمَّته في الذي ... يَهُمُّكَ لا يَسْتَلِذُّ المناما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 730 وكم ضاحكٍ لك أحشاؤه ... تَمنَّاك أَن لو لَقِيتَ الحِماما وقال: ليس حظي من الحبائب إلا ... لوعةٌ أو تأسُّفٌ أو غَرَامُ حَكَّموا البَيْن والهوى فيَّ لما ... علموا أنَّني بهم مُسْتَهامُ أنا راضٍ فليصنعوا ما أرادوا ... كلُّ صبر عنهم عليَّ حرامُ هُمْ رجائي وهم نهاية سُولي ... وهمُ بُرْء مُهْجَتي والسلام وقال: أَيَّ صبر تركتمُ ... ليَ لما رَحَلتُمُ لي فؤادٌ متيَّمٌ ... سائرٌ حيث سرتمُ أنا في كل حالة ... عَبْدكم إن رضيتمُ ثابتٌ تحت حكمكم ... جُرْتُمُ أو عَدَلْتُمُ فبحقِّ الهوى المبرِّح ... إِمَّا رَحِمْتُمُ وديوان شعره كبير وقد انتخبنا منه ما صفا، وأوردنا ما كفى، وهو على هذا النفس، والنمط السلس، وهو مما انطبع في سمع الطبع، وانتظم نظم الودع، وتوقد بدهن الذهن، ولم يخل مع ذلك من وهن اللحن، سهل اللفظ، مقبول في سبيل الوعظ، يستخلص القبول، ويسترقص العقول. جماعة ذكرهم ابن الزبير في مجموعه أبو عبد الله محمد بن مسلم بن سلاح من شعراء مصر، القريبي العصر. ذكره أبو الصلت في حديقته، ونقلت من مجموع المهذب بن الزبير هذه الأبيات من قصيدته: يغالبُني حكمُ الفِرَاقِ فَيَغْلِبُ ... ويَقْتَادُ شَمْلِي للبعاد فَيُصْحِبُ وتَأْمَنُ أوطاني اجتنابي فقلما ... يُطيل لها عُمْرَ الأماني التَّجَنُّبُ كأنَّ حراماً أن يرى الشَّمْلَ جامعاً ... زمانٌ بتفريق الأحبَّة مُعْجَبُ لقد آن أن تُقْصَى لُبَانَةُ مُؤْمِنٍ ... بوَصْلٍ ويدنو نازحٌ متجنِّبُ وأن أَثْنَيَ العَزْمَ المصاحب للنَّوَى ... إلى أَوْبَةٍ نحو الأحبة تُقْرِبُ عسى الرَّحِمُ اللاتي أطالَ أُوَامها ... عقوقي من ماء المبرَّةِ تَشْرَبُ فقد أخذ الهجرانُ منها نَصِيبَه ... فما بال هذا الوصل ليس يُنَصَّبُ وله لي عنك في حَرْب الزمان وسَلْمِهِ ... وتجارب الأيام أعْظَمُ مُشْغَلِ أنا كالحسام بصفحتيهِ رقة ... في العَيْنِ وهْوَ يَحُزُّ حَدَّ المَفْصِل لو ساعدتني من زمان خُلَّةٌ ... وَهي الغِنى أدركتُ أَقْصى المأمَل أو كان لي حظُّ الجهول فإنه ... رَأْسُ الفضيلة في الزمان الأرذل ابن منكلان التنيسي كان قبل سنة خمسمائة، له: ولم أدر أن الشيخ بَغَّا لأنني ... غريبٌ ولي عن أن أسائلَهُ بُدُّ وأَوْجَبَ حالُ الوقت ذكرى لفَيْشَتِي ... فمالَ إلى نحوي بلحيته يَشْدُو وحدَّثْتَنِي يا سَعْدُ عنهم فزِدْتَني ... جنوناً فَزِدْنِي من حديثك يا سَعْدُ وأنشدت له: عِمَّةٌ من نَسِيجِ رَفَّاءٍ شَعْرِى ... مَزَّقَتْهُ من الزمان الحُتُوفُ هَوَ شَيْءٌ وفي الحقيقة لا شيءَ ... فرأسي مُعَمَّمٌ مَكْشُوفُ وله في شريف يوكل في الحكم: أيا شريفاً سَيِّىءَ الخُلْقِ ... مُسْتَقْبَحَ الخِلْقَةِ والخَلْقِ كم تنصر الباطلَ ظلماً وما ... تُحْسِنُ أَنْ تَدْخُلَ في الحقِّ تأخذ أرزاقَ بني آدمٍ ... أأنت مخلوقٌ بلا رِزْقِ أبو عبد الله محمد بن بركات النحوي المصري كان في عصرنا الأقرب، وهو نحوي مصر والمغرب. له: يا عُنُقَ الإبريق من فضَّةٍ ... ويا قَوَامَ الغُصُنِ الرَّطْبِ هَبْكَ تجافيتَ وأقصيتني ... تقدر أَنْ تَخْرُجَ من قلبي قال القاضي الفاضل: ليس له أحسن من هذين البيتين، وذكره ابن الزبير في الجنان وقال: كان عالي المحل في النحو واللغة وسائر فنون الأدب، منحطاً في الشعر إلى أدنى الرتب. علي بن عباد الاسكندري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 731 ضرب رقبته صاحب مصر المنبوز بالحافظ لمدحه ولد الأفضل لما استولى على الملك، وقبضه الحافظ ليدبر له فلك الهلك، وتركه في حبسه مغتراً بنفسه، وفتك بابن الأفضل في الميدان، وعاد الحافظ إلى المكان، وأهدر دم ابن عياد، وملك من دمه، حيث لا قود، القياد. ذكر ابن الزبير في مجموعة أن ابن عياد حضر في بعض البساتين يشرب تحت شجرة ومعه غلام حسن الوجه فتساقط عليه من ثمرها، فقال: ودوحةٍ كالسَّماءِ نادمني ... من تحتها بَدْرُهَا على حَذَرِ فأنشأتْ بالنجوم تَرْجُمُهُ ... وذاكَ من غَيْرَةٍ على القَمَرِ وقرأت له في مجموع في مدح محمد بن أبي أسامة كلمة ذات أوزان موشحة: يا من ألوذ بظلِّهِ ... في كل خطب مُعْضِلِ لا زلتُ من أصحابهِ ... متمسِّكاً بيد السلاَمَهْ آمِناً من كل بَاسِ في الحوادثِ والصُّرُوفِ وأعوذُ منه لفضلهِ ... في كل أمر مشكلِ ما لاح فجر صوابهِ ... كالشمس من خَلْف الغمامَهْ لا تميلُ إلى شِمَاسِ دون موضعها الشريفِ وأعدُّه لي مَعْقِلاً ... أضحَى عليه مُعَوّلي عند المثول ببابه ... لما أمنت من الندامَهْ في السماع وفي القياسِ المحض والنظر الشريف وأجلُّهُ عن مثلهِ ... مثل الحسام الفَيْصَل ماضٍ بحدّ ذُبابه ... في كل جمجُمةٍ وهامَهْ ثابتٌ صعب المراسِ على مباشرة الحتوفِ ولابن عياد: كأنما الأرض لوْحٌ من زَبَرْجَدَةٍ ... بدَتْ إليكَ على غِبٍ من السُّحُبِ والأقحوانة هَيْفَا وَهْيَ ضاحكةٌ ... عن واضحٍ غير ذي ظَلْمٍ ولا شَنَبِ كأنما شمسه من فِضَّةٍ حُرِسَتْ ... خوفَ الوقوع بمسمارٍ من الذَّهَبِ وذكره لي الفقيه نصر الإسكندري ببغداد، وقال: كان ابن عياد شاعراً مجيداً طريف الشعر مشهوراً وتنقلت به الأحوال إلى أن صار من شعراء صاحب مصر وحظي عنده ونال حظاً وافراً، فلما تولى أبو علي بن الأفضل، وحبس الحافظ، نظم فيه قصيدة، أولها: تبَسَّمَ الدهر لكن بعد تَعْبِيسِ ... وقُوِّضَ اليأسُ لكنْ بعد تَعرِيسِ ومنها: إذا دَعَوْنَا بأن تَبْقَى لأنفسنا ... دُعاءَنَا فابْقَ يا ابن السادَةِ الشُّوسِ ومنها يذكر عود الملك إليه: وقد أعاد إِليه الله خاتمَهُ ... فاسترجعَ الملك من صَخْرِ بن إبليس وهذا البيت كان سبب قتله، وله قصة مشهورة. رضي الدولة أبو سليمان داوود بن مقدام بن ظفر المحلى من بلد المحلة من الديار المصرية بأسفل مصر. ذكره القاضي الفاضل، وقال: شاعر ملء فكيه، توفي في عصرنا هذا، له: لئن لذَّ لي طولُ المقام ببلدةٍ ... لذي مَلَكٍ يُثْنِي عليه الْمُهَاجِرُ ففي الناس من يَقْضِي من الحج فَرْضَهُ ... وآخَرُ من طِيبِ المُقام يُجاوِرُ وله إذا كنتَ في الليل تَخْشَى الرقي ... بَ إذ أنت كالقَمَر الْمُشْرِقِ وكان النهارُ لنا فاضحاً ... فباللَّهِ قل لي متى نلتقي ثم طالعت كتاب جنان الجنان الذي صنفه ابن الزبير سنة ثمانٍ وخمسين وخمسمائة، وذكر فيه هذا داوود، وقال: هو من أبناء الجند بأسفل مصر إلا أن همته سمت به من الأدب إلى دوحةٍ يقصر عنها أمثاله، ولا يطمع فيها أضرابه وأشكاله، وعضده على ذلك جودة الطبع ونفاذ القريحة، حتى أدرك بعفو خاطره وسرعة بديهته ما لم يبلغ إليه كثرةٌ من أبناء عصره في الدأب على اقتناء الأدب. وذكر ما معناه أنه كسدت سوقه، وجحدت حقوقه، وهو منحوس الحظ غير مبخوت، منكوب الجاه بحرفة الأدب منكوت. قال ابن الزبير: ومما أنشدني لنفسه قصيدة مضمنةً شرح حاله، وهي: وقد بَكَرَتْ تلومُ على خمولي ... كأنّ الرزق يجلبُه احتيالي تُقَدِّرُ أنني بالحرْصِ أَحْوِي ... الثراءَ وذاكمُ عَيْنُ المُحَال تقولُ إذا رأت إرشادَ قولي ... هُبِلْتَ ألا تَهُبُّ إلى المعالي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 732 ومَنْ لم يعشق الدنيا قديماً ... ولكن لا سبيلَ إلى الوصال فلو أَدليتَ دَلْوَك في دلاءٍ ... مَتَحْتَ به من الماء الزُّلال وكم أدليتُ من دَلْوٍ ولكن ... بلا بَلَلٍ يُرَدُّ على قَذَالي وكم عَلَّقْتُ أطماعي رَجاءً ... بخُلَّبِ بارقٍ وَوَميض آلِ فلا أنا بالكفاف النَّزْرِ راضٍ ... ولا أنا عن طِلاب الكُثْرِ سال ولكنْ ذاكَ من قَبْلِ اعتمادي ... على عبد العزيز أَبي المعالي يعني الجليس بن الحباب. ومنها: أَصِخْ وأَجِبْ إجابة أَلْمَعيٍ ... كما خُلِقَ اللَّهاذِمُ للعَوَالي وكم مَنْ سادَ قبلكمُ اتفاقاً ... فلم أخْطِرْ سيادَته ببالي فلِمْ يا سادتي أَقْصَيْتُمُوني ... وفي الإقصاءِ عُنْوَانُ الملال ومنها يعرض بهجو بعض أصحاب الدواوين: من أجل الغَنَاءِ أَحَلْتُمُوني ... على بَغَّاءَ ذي داءٍ عضال يكلفني مع البَرْطِيل ..... ... وذلك بيننا سبب التقالي فما لي ما لَهُ فيهِ مجالٌ ... و ...... ليس بفضل عن عيالي ومنها: وكُتّابٌ لهمْ أبداً حُمَاتٌ ... تُعَدُّ لها الرُّقَى مثل الصِّلالِ وكلهمُ يجرُّ إليه نفعاً ... فعادتُهُ احتجابي واعتزِالي بأيدٍ تبتدرْن إلى الرَّشاوي ... كأيدي الخيل أَبْصرَتِ المَخَالي ولستُ أزُورهمْ إلا بشعرِ ... أُنَمِّقُهُ وذلك جُلُّ مالي فأَغْشَى بالمِحَال الصِّرْفِ منه ... مجالسَهُمْ فأرجعُ بالمُحَالِ وكم قبَّلْتُ من كفٍ ولكن ... يهونُ على مُقَبَّها سِبَالي وأحضرُ من ركابٍ في ركابٍ ... إلى أن خَفَّ من ثِقْلٍ طحالي وأثَّرَتِ السنابكُ فوق رجلي ... بوَطْءِ نعالِها مثلَ الهلال وهذا يَسْتَطِيل عليَّ زَهْواً ... وذاك يُعِلُّني كأسَ المِطال وقد علموا وإن لم يصرفوني ... ببأسٍ أنْ سيصرفني مَلالي وحالي كلَّ يوم في انتقاص ... ومن باب التمحُّلِ قولُ حالي من قول عبد المحسن الصوري: أَقُلْ حالي وإنَّ مَقَال حالي ... لمن قُبْحِ الحلِّي بالمُحَال ومنها: فيا عُمَرَ الحوائجِ قُمْ بأمري ... فقد نَبَّهْتُ منكَ أَجَلَّ كالي فها أنا قد رجعتُ إلى ذُرَاكمْ ... فمنهُ نَشْأتي وله مآلي وعُدْتُ كما عهدتَ من اتصالي ... لكم عَوْد النِّصال إلى النِّبال فإن أُبلغْ بكم أَملي فإني ... رَجَوْتُ الرِّيَّ من سُحُبٍ ثقالِ وإن أُحْرَمْ فقد أبلغتُ عذري ... فإنّ الذَّنْبَ للأيام لا لي وله في الهجو: من كان ذا نِحْلَةٍ يُعَجَّلُهَا ... فالشعر حَظِّي من سائر النِّحَلِ إن لم يُنِلْنِي حَظّاً بحرفتهِ ... فكم شَفَى غُلَّتي من السِّفَلِ وله من أول أبيات: طالَ ليلي فيك يا بَدْرَ الدُّجَى ... أَرْتجي منك الذي لا يُرْتَجَى لا أرى أن أشتكي ما حلَّ بي ... يَأْمُرُ الشوقُ وَيَنْهَاني الحِجَى يا مُعِيرَ الغُصْنِ قَدّاً أَهْيَفا ... ومُعِيرَ الظّبْيِ طَرْفاً أَدْعَجَا علِمَتْ عيناك عذري فيهما ... فأقامتْ ليَ فيك الحُجَجَا وله يستهدي شعيراً: إليك ابْنَ إبراهيم راحةَ مُشْتَكٍ ... لِنَفْثَةِ مَصْدورٍ شكا حَرَّ صدرِهِ تكنَّفَهُ الحرمانُ حتى لو انه ... سَرَى يستميح الغيثَ ضَنَّ بقطره وأصعبُ ما يُمْنَى به في مقامهِ ... شِرَاهُ شعيراً في تقلُّص سِعره ويقصُرُ عن تكليف ذلك وَجْدُه ... وأنَّى له ذكرٌ يَفوهُ بذكرهِ فجُدْ لي بهِ وارحمْ فديتُك شاعراً ... قُصَارَاهُ أن يُجْزَى شَعيراً بشِعره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 733 وله في أمير يعرف بابن كازوك، ولي المشارفة بالغربية، وعزله عن شغله من قصيدة: أيها المخلصُ المكينُ ومن كفَّاه ... في كل أَزْمَةٍ يَكفَانِ بَانَ عَنَّا أهلُ المحبة واعْتَضَنَا ... بأهل البغضاءِ والشَّنَآنِ نحن أَشْقَى بَخْتاً وأتعسُ حَظّاً ... إذ قضَانا بصَفْقة الخُسرَانِ وأخسُّ الورَى وأهونُهم بين ... الرعايا قَدْراً على السلطان إذ رعانا بأَبْغَضِ الخلق مذ كا ... نَ وكانوا لكل قاصٍ ودانِ رجلٌ صِيغَ من حَماً شِيب بالشِّرَّةِ ... خَلْطاً والشؤمِ والخذلان والزِّنَأ والبِإاء والجهلِ والإفْكِ ... وسوء الطباع والبُهْتان ما ظنَنَّا من قبله أننا نلقى ... جميعَ السَّوْءَاتِ في إنسان يتلقَّاك كالحاً عابسَ الوجه ... بقلبٍ خالٍ منَ الإيمان وله إخوةٌ وأفعالهم في الما ... ل فعلُ الذئاب بالحُمْلانِ حَرَّ قلبي على مثوليَ بالبا ... بِ وقَوْلي لصاحب الديوان أيها الألمعيُّ أعوزك الرُّعْيَانُ ... حتى استُرْعِيتَ بالذّؤبان أي شيء غالَ الكفاةَ من الكُتَّابِ ... لولا عوائقُ الحرمان ومنها: صاحبُ الخيل والجواشِنِ وَالبَيْضِ ... وبيضِ الطُّلاَ وسُمْر اللِّدَان مالَهُ والنكُولَ عن سفر الشا ... م وصَدْم الأقران بالأقران وَطِلاَبَ المشارفاتِ وتحقيقَ ... بقايا العُمَّالِ والخُزَّان ليس هذا إلا لأنَّ الخراف ال ... بيضَ في ريفنا بلا أَثْمان والرحيقَ الذي عهدناهُ لا يب ... تاعُ إلا بالنَّقْدِ أو بالرِّهان يُجْتَلَى في الكؤوس صِرْفاً مع المُجَّانِ ... والمُسْمِعاتِ بالمَجَّانِ والإجابات للمآدب أَشْهَى ... للفَتى من إِجابة الديوان وطِلاب الدليل بالرَّسْم أَوْلَى ... من طلابِ البرازِ للفُرْسانِ ومنها: فاتركونا معاشرَ الجند واغْنَوْا ... بِدَرُورِ الأرزاقِ كلَّ أوانِ والولاياتِ والحماياتِ والغُرْ ... م وأخذ الأَجْعَال من كل خانِ والمعاصير والسواقي وتَسوِي ... غِ الضِّياع المُفَرَّدَاتِ الحسان وارتعوا في جَزُورِ ذي الدولة الها ... مي نَدَاها في أطيب اللُّحْمَانِ واشْغَلُونَا بما به يُشْغَلُ الهرُّ ... لنَفْعٍ أو خيفةَ العُدْوَانِ بالطِّحال المسْدودِ أو طَرَف الريَّةِ ... أو بالمِعْلاقِ والمُصْرَانِ واغنموا هُدْنَةً كتهويمة الركْ ... بِ وُقِيتُمْ بها من الحِدْثَانِ وله من قصيدة: ألا هكذا فليسْعَ من كان ساعياً ... ويَرْقَ إلى العلياء من كان راقيا ويبلذل محبوباً من النفس غَالياً ... ليُحْرِزَ مطلوباً من الحمد عَالِيا وله من قصيدة: كَتَمَ الغرامَ ولم يَدَعْهُ لسَانُهُ ... فَوَشَتْ بسرِّ جَنَانه أَجْفَانُهُ رَشَأٌ أُعانِقُ من رشاقةِ قَدِّهِ ... رُمْحاً وسودُ المقلتين سِنَانُهُ ومنها يستهدي فرساً: وأعِنْ على سفَري إليك بأَجْرَدٍ ... طاوٍ يضيق بجرْيهِ مَيْدَانُهُ جذلانَ ينفض مِذْرَوَيْهِ كما مشى ... للسكر طافحُ سلْسَلٍ نَشْوَانُهُ يعدو على مَهَلٍ فتحسب أنه ... بازٍ طَوَى بُعْدَ المَدَى طَيَرَانُهُ ويروحُ يوم السَّبْق مُجْريهِ على ... ثِقَةٍ بأنَّ له يُحازُ رِهانُهُ والنفسُ توقنُ أنني سأعود عن ... هذا المقامِ وفي يديَّ عنانُهُ مسعود الدولة النحوي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 734 مقدم الشعراء أيام الأفضل بن أمير الجيوش في الإنشاد. كتب إليه بعض المصريين أبياتاً في القطائف، منها: جاءت مناسبة أخلاقَ مُهْديها ... قطائفٌ كلُّ طَرْفٍ مُودَعٌ فيها نَزَّهتُ ناظرتي في حسنها وفمي ... في طيبِها وجَناني في معانيها فقال مسعود الدولة في جوابها: لله درُّ قوافٍ أنت مُهْدِيها ... لا يستطيع حَسُودُ الفَضْلِ يُخْفيها عَزَّتْ مطالبُها عَزَّت مطامعها ... جَلَّتْ مقاصدها دَقَّتْ معانيها فيها بدائعُ حُسْنٍ قد خُصِصْتَ بها ... تجري مع النفس لُطْفاً في مجاريها من ذا يُعارضها من ذا يجاريها ... من ذا يُساجلها من ذا يُباريها سَمَتْ عن الوصفِ حتى أنّ مادحها ... كأنّهُ بفَمِ التقصير هاجيها ما إنْ يملُّ مع التكرار سامعُها ... ولا يكلُّ عن الترداد قاريها تَمْضِي الليالي عليها وهْيَ خالدةٌ ... والفكر من غِيَرِ الأيام واقيها إنّ القوافيَ تحييها محاسنها ... إذا حُفِظْنَ وتُفْنِيها مساويها ظَفِرْتَ يا ظافراً بالنُّجْحِ هِمَّتُهُ ... فيما يرومُ وفازتْ في مساعيها إني بعجزيَ عن شكريك معترفٌ ... والله يجزيك بالحُسْنَى ويُنْمِيها حظي الدولة أبو المناقب عبد الباقي ذكره ابن الزبير في كتابه، وقال هو ممن يذكر لاشتهاره لا لجودة أشعاره، وكان محظوظاً، وبالكرامة ملحوظاً، معاصر ابن حيوس. وحكي أن ابن حيوس لما وصل إلى مصر استأذن له الوزير في الإنشاد بالقصر، فهيء له محفل في يوم، فأنفذ الداعي إلى حظي الدولة، وأعلمه وتقدم إليه بالحضور للإنشاد، فلما حضر اعتقد أن الشاعر المأذون له هو فأنشد، وأطال، ثم دخل ابن حيوس، وأنشد، فأظهروا له الملال. وأطلق له ألف دينار، فأخذها حظي الدولة، فاجتهد الوزير، حتى قسمها بينه وبين ابن حيوس، ومن شعرهك مُؤَمَّلٌ يَهَبُ الدنيا بما جَمَعَتْ ... لآمليه ولا يعتدُّ ما وهبَا ومُنءتَضٍ كلَّ يوم في المهارقِ من ... أقلامه مُرْهَفاتٍ قُطَّعاً قُضُبَا طوراً تكون سُيُوفاً في عِدَاه وأَطْواراً ... تكون على قُصَّاده سُحُبَا كالسَّيْل والليل واللَّيثِ الغَضَنْفَرِ ... والغيث المُزَمْجِرِ إن أَمْلَى وإن كتبا ومنها: فلا تُعَرِّفْهُ آباءً له كَرُموا ... او يلحقوا الزَّمنَ الأَقْصَى أَباً فأَبَا فالراحُ قد أكثر المُدَّاح وصفهمُ ... لها ولم يذكروا في وصفها العِنَبا وله يلغز بالميزان: أخوَان هذا إن يَحُزْ ... مالاً فهذا مُعْدِمُ متلاصقان وربما ... جَلَبَ التفرُّقَ درهمُ ما ذاك من بُخْلٍ ولكنَّ ... الجميعَ مُبَرْسَمُ ابن عبد الودود له في حبيبه وقد اختضب: فلا تظنّوه بالمرجان مُنْتَعِلاً ... ولا تخالوهُ بالحنّاء مُخْتَضِبَا وإنما قاض دمعي عند رؤيته ... فخاض من دَمِ عيني بَعْضَ ما انسكبا وله من قصيدة يعاتب فيها ابن مكنسة على تبذله وضراعته: ومَن ذا لحرِّ الشعر غيريَ مالكاً ... وذهني لسلطان القوافي سُلَيْمَانُ تلذُّ لَظىً لي إِنْ تَبَسَّمَ مالِكٌ ... وأكره رَضْوَى إن تجهَّم رضوان وله بَني حديدٍ أتمَّ اللهُ نعمتَكم ... إن العتاب لِعِرْضِ المرء تهديدُ سَقَيتموني بكأس المَطْلِ مُتْرَعَةً ... حتى تمايَلْتُ والسكرانُ عِرْبِيدُ قال: أخذه بعض أهل العصر، وأحسن الأخذ، فقال: يا مَنْ عَلِقْتُ بحَبْلِهِ ... إذ خفتُ من جَوْر الليالي وتَخِذْتُهُ لي جُنَّةً ... من صَرْف دهرٍ ذي اغْتِيال ما للوَرَى يَحْظُون منك ... على تباعدهم ومالي أُسْقَى بمَطْلِكَ دائماً ... فعلامَ أَشْرَقُ بالزُّلال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 735 أأمنتَ من سُكْرِي وقد ... سَقَّيْتني كأس المِطالِ وله في عامل بالإسكندرية: أنا رزقي سبعون بل وثمانو ... ن وما تلحق البقولَ الخلولُ كلُّ هذا وكلّ رزقك دينا ... رٌ وفي مثل ذا تحار العقولُ أبو الحسن علي بن سعيد المعروف ب ابن كاتب أسلم له: وكم ليلٍ جَلَوتُ الكأسَ فيهِ ... وقد نَظَمَ الحَبَابُ لهُ عُقُودَا ونادمْنا به صُوَراً إذا ما ... احتَسَاها شاربٌ وقَعَتْ سجودا يُلَبِّسها المديرُ لها بروداً ... فيَسْلُبُ شُرْبُها تلك العقودا وله في ضمن رسالة: تَعْنُو لأحكامه الأيامُ خاضعةً ... فيما يحاوِل منها أو يطالبُهُ يا من حوى ما لو انَّ الدهر يجمعه ... من المناقب لم تُذْمَم نوائبه شمائلٌ كنسيم الروض قد عَطِرَت ... شمائلُ الجوِّ منه أو جنائبهُ وجودُ كَفٍ لو انَّ الغيث يُشْبهها ... فَيْضاً لما انقطعت يوماً سحائبُهُ وله أيامُ عَصْرِكَ كُلُّها قد أُلْبِسَتْ ... خِلَعَ الرّياضِ الزُّهْر غِبَّ سمائها فإذا أَتَتْ أيامُ عيدٍ لم تَبِنْ ... بفضيلةٍ فيها على نُظَرائها وله وقد أهدى أقلاماً: يا سيدَ الرؤساءِ والنَّدْب الذي ... جازتْ مناقبُه مَدَى الجَوْزَاءِ قد أَنَفَذَ المملوكُ أقلاماً لها ... بيديك فعلُ البيض والأَنْوَاءِ تُرْدِي العِدَا إِنْ أُعْمِلَت بالبأسِ أَوْ ... تُحْيِي الوَلِيَّ بنائلٍ وعطاء وذكره الأجل الفاضل وقال: كان من ثغر الإسكندرية وتوفي سنة ثمان عشرة وخمسمائة. ومن شعره في والده الأشرف ابن البيساني رحمه الله من قصيدة: أَجَلْ أَنْتَ من كلِّ مَلْكٍ أَجَلّ ... وفي رَاحَتَيْكَ المُنَى والأَجَلْ ومنها: فلا البابُ عن مُرْتجٍ مُرْتَجٌ ... ولا الوَفْرُ عن مُعْتَزٍ مُعْتَزِلْ فقيل له: ما مدحت ولا ذممت. علم الدولة مقرب ابن ماضي المقري صاحب واحات ذكرهه ابن الزبير قال: كان ثر الفواضل، كثير الفضائل، غمر النائل؛ مغناه مرمى ذوي الآداب من المصريين، ومنزع المسترفدين منهم والمنتجعين. فمن شعره قوله، وأنا أكبرها عنه: أَهْدَى إليَّ مُعَلِّلي ... وَرْداً ولم يكُ وَقتُهُ فسألتهُ عنه فقا ... لَ من الخُدود قَطَفْتُهُ قبَّلْتُهُ فكأَنني ... في خدِّه قبَّلْتُهُ الوضيع يحيى بن علي الكتبي المنبوز بالوضيع وكان مشتهراً بالمجون، له: ضَعُفْتُ عن الشكوى إليك وإنما ... يناجيكَ عما بي خفيُّ أَنِيني أقولُ لركبٍ هائمين ضلالةً ... وقد سَمَحَتْ عيني لهم بعُيُونِ رِدُوا تَرْتَوُوا، واستوقدوا تهتدوا، فَهَا ... مواقدُ أَحْشائي وغُدْرُ جُفُوني ومنها في المديح: صفاتُكَ تَسْبيحِي، ودارُكَ قِبْلَتِي ... ومدْحُكَ قرآني، وحُبُّكَ ديني وله من أخرى: لا القربُ يُدنيه من طرفي فأَنْطُرُهُ ... ولا التباعُدُ يُنْسِيهِ فأَذْكُرُهُ ممثَّلٌ في سَوادِ العَيْنِ يَسْكُنُهُ ... مُصَوَّرٌ في سُوَيْدَا القلب يَعْمُره يا قاتلَ الله شوقي كم يُحَلِّلُ لي ... ذاك الغزالَن وغَيمُ البُعْد يَكْفُرُهُ سَقْياً ورَعْياً لرِيمٍ ما تَصَوَّرَ لي ... إِلاّ سمحتُ بدمعٍ كنتُ أَذْخَرُهُ وله أنا نائبُ الشَّرْعِ النُّوَاسِي ... دَعْنِي وباطِيَتي وكاسي أَهوَى الغزالة كاعباً ... وأَهيمُ بالظَّبْيِ الخماسي من كلِّ معتدلٍ رشيقِ ... القَدِّ ممشوقٍ خِلاَسي متعكرشٌ فإذا اختبرْ ... تَ وجدت مُنْحَلَّ الأَساسِ لكن لإفلاسي حَبَبْتُ ... السامريَّ بلا مِسَاسِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 736 لي منزلٌ لا شيءَ فيه ... كأنَّهُ كِيسي وراسي أبو عبد الله بن الخمشي الإسكندري شاعرٌ قريب العصر. أنشدني سيدنا القاضي الفاضل للمذكور أول قصيدة: سِمِ الزُّرْقَ أطرافَ الظُّبَا واللهاذمِ ... وشِمْ من غمود الجِدِّ بيضَ العزائمِ وله في رجل ينعت بعين الملك: أَلا إِنَّ مُلْكاً أَنْتَ تُدْعَى بعينهِ ... جديرٌ بأن يمسي ويصبحَ أعورا فإن كنتَ عينَ المُلْكِ حقاً كما ادَّعَوْا ... فأنتَ له العينُ التي دَمْعُهَا جَرَا وله قد قال لي العاذلُ في حُبِّهِ ... وقَوْلُهُ زورٌ وبهتان ما وَجْهُ من أَحْبَبْتَهُ قبلةٌ ... قلتُ ولا قولُكَ قُرْآنُ الفقيه المعروف بالفسناس له من قصيدة يمدح بها أبا جعفر أحمد بن حسداي: خلعتُ رداءَ التَّصَابي المُعَارا ... وكان بفَوْدِي غرابٌ فطارا وكم خُضْتُ باللهو ليلَ الشبابِ ... إلى أَنْ أَرَاني المشيبُ النهارا لئن كَدَّر الشيبُ صفوَ الشبابِ ... وبات برغمي دياراً ديارا فلا بأس إِنْ مُدَّ لُجُّ البعادِ ... فإنَّ لكلِّ مَسيلٍ قرارا التاريخ محمد بن إسماعيل المعروف بالتاريخ قريب العصر، من أهل مصر، ومن شعره قوله: ما زال يسترُ وَجْدَهُ بجحودهِ ... جَزَعاً من الواشي ومن تَفنِيدِهِ والدمعُ أجدرُ مَنْ ينمُّ لأنه ... عَدْلُ الشهادةِ في أَسيلِ خدوده فعسى مدامِعُهُ تَفيضُ بعبرةٍ ... تُطْفِي لهيبَ فُؤَادِهِ ووقودِهِ وله هذا الرئيسُ أَبو عليٍ فالْقَهُ ... وانظرْ فما أَخبارُه كعِيانهِ هذا يزيدُ لوارديه تكرُّماً ... أَبداً وذاك يزيدُ في نقصانهِ إن كنتَ ترغبُ في الحياة مُمَتَّعاً ... بالسَّعْدِ فالْحَظْ وَجْهَهُ أو دانِهِ وقوله: ألا فاسْقِياني ما تُدِيرُ ثناياهُ ... وما أَوْدَعَتْ من خمرِها بابلٌ فاهُ ولا تُنكر اسُكْرِي بغير مُدَامَةٍ ... فسيانِ عندي ريقُهُ وحُمَيَّاهُ إذا كان كأسي مُتْرعاً من رُضَابِهِ ... ونُقْلِيَ ما يُبْدي من الوَرْدِ خدَّاه كَفَانيَ رَيْحاناً وراحاً سُلافُ ما ... حَوَى ثَغْرُهُ أو أَنْبَتَتْهُ عذاراه غزالٌ ينابيعُ المدامع وِرْدُهُ ... وروضُ القلوبِ المستهامةِ مَرْعاه سلِ البانَ عنه هلْ مِنَ البان أَصْلُهُ ... فريَّاهُ رَيَّاهُ، ورُؤْياهُ رُؤْياهُ فلله ما أَشجى فؤاداً مَلَكْتهُ ... وأَغْرَاهُ بالبيضِ الحسانِ وأَصْبَاه وكان يتصرف في باب الحكم، وولى قاضٍ يعرف بالنابلسي شديد التحرز، قليل التسمح، فبلغه علوقه باللهو، فصرفه، فكتب إلى أبي الرضا ابن أبي أسامة: ضاقتْ على مملوككمْ سَعَةُ الفَضَا ... وقضَى وقاتِلُهُ الذي وَلِيَ القَضَا ماذا وقد عَلِقَتْ به يدُ دهره ... يا دهرُ أين حُنُوُّ قلبِ أَبي الرِّضَا وله لاهٍ بغانيةٍ وراحِ ... ناهٍ لعاذلةٍ ولاحِ ما زال يشربُ كأسَهُ ... صِرْفاً على ضَرْب المِلاح ما بين زمزمةِ البنو ... دِ وبين وَسْوَاسِ الوِشاح حتى مضى مِسْكُ الدجى ... فأنارَ كافورُ الصباح وله يمدح ابن التبان وكان رئيساً في البحر: لما تَوَجَّه نحو مصرٍ قادماً ... والدهرُ بين يديه من أَعوانهِ نَشَر السفين جناحَهُ في راحهِ ... كجناحِ رحمته وفيضِ بَنَانهِ فتبارك الرحمنُ أَيَّةُ آيةٍ ... بحرٌ يكونُ البحرُ من رُكْبانه يا جَنَّةً للقاصدين تَزَخْرَفَتْ ... لهمُ وطابَ الخُلْدُ في رِضْوَانِه فلذاك لما اخضرَّ دَوْحُ نَوالِهِ ... غَنَّتْ طيورُ الحمدِ في أَغْصَانهِ وله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 737 لك السرورُ، وللواشي بكَ التَّعَبُ ... لكَ النعيمُ، وللساعي بك النَّصَبُ لك المفاخرُ والعلياءُ والرُّتَبُ ... لحاسديك الشقَا والوَيْلُ والْحَرَبُ هُمْ كالفراشِ رأَوْا ناراً تُضِيء لهمْ ... فيمَّموها فلا بِدءعٌ إِذا التهبوا الكاسات هو الفقيه أبو محمد عبد الله بن أبي سعدٍ المعروف بالكاسات. ذكر الرشيد بن الزبير في كتاب الجنان أنه كان خفيف الروح كثير المجون، يضحك بنوادره وسخفه المحزون، قال: ومما أنشدني لنفسه من شعر قوله: نَيْلُ العُلاَ بسوى الإِحسانِ مُمْتَنِعُ ... واللؤْمُ طَبْعٌ لمن في عِرْضِهِ طَبَعُ والحرُّ يأْلَفُ ما يأتيه من كَرَمٍ ... فليس يَرْدَعُهُ شيءٌ ولا يَزَعُ والمجدُ يَنْفِر مثلَ الوحشِ عن نَفَرٍ ... يكفيهمُ الرِّيُّ دون المجدِ والشِّبَعُ مَاتوا وفَاتوا فما ضَرُّوا بموتهمُ ... خَلْقاً كما أنَّهُمْ عاشوا وما نفعوا تبّاً لهمْ جَمَعُوا مالاً وغَالَهُمُ ... عنه الحِمامُ فما فازوا بما جمعوا منها: شكا انتزاحَ المَدَى صَحْبي فقلت لهم ... لا يَعْذُبُ الشَّهْدُ حتى يُؤْكلَ السَّلَعُ صَدُوا وإِنْعامُكَ الهامي أَمَامَهُمُ ... بحرٌ إذا ما دَنَوْا من سَيْبه شَرَعُوا يا من إِذا سَمِعَ الناسُ الكرامُ به ... وعاينوه، رأوا أضعافَ ما سمعوا قلْ فيه ما شئْتَ من جودٍ ومن كرم ... ففوقَ ما يَذْكُرُ المُدَّاحُ ما يبَدَعوا يا من يجاريه لا تَحْلُلْ بساحته ... فليسَ يُؤْمَنُ في آجامه السَّبُعُ وخُذْ من السهمِ حِذْراً في تأخُّرهِ ... فربما لم تَفُتْهُ حين ينتزع ولا تَخَفْ حين تلقى الليث داهيةً ... من وثبةِ الليثِ إِلا حين يجتمع منها في صفة دار الملك: شَمّاءُ كالجبلِ الرَّاسي يجاوِرُها ... بحرانِ، نِيلٌ ونَيْلٌ كيفَ يَنْقَطِعُ كأنها كعبةٌ والقاصدون لها ... مثلُ الحجيجِ إذا طافوا بها رَكعُوا منها: لا ترضَ لي بسوى الإكرام جائزةً ... فليس مِثْلي بكَسْب المالِ ينتفعُ واخْلَعْ عليَّ دنوّاً منك يَنْفَعُني ... ما ليس تنفعني الأَموالُ والخِلَعُ الشريف أبو الحسين علي بن حيدرة من ولد عقيل بن أبي طالب من أهل مصر، له: كأنّ الثُّرَيَّا والهلالُ أمامها ... يدٌ مَدَّها رامٍ إلى قوْسِ عَسْجَدِ وله وقائلٍ ما المُلْكُ يا مَنْ له ... أَجْوِبَةٌ يَشْفِي بها قلبي فقلتُ إِن كان على مَذْهَبِي ... فالملكُ عندي راحةُ القَلْبِ وله في زامر: وزامرٍ يَكْذِبُ فيه عائِبُهْ ... تكثرُ في صَنْعَتِهِ عَجَائِبُهْ يحجبُ صبرَ المرءِ عنه حاجِبُهْ ... ويُسْكِرُ الشاربَ مِنْهُ شَارِبُهْ كأنما ناياتهُ ذوائبُه وله اسْمَعْ جُعِلتُ فداكا ... نُصْحِي، وجانِبْ هواكا أَلسْتَ في كلِّ يومٍ ... تَرَى مُنَاكَ مُنَاكا وله وفتيانٍ بَنَوْا لهمُ فخاراً ... رفيعَ السَّمْكِ في خططِ المعالي إذا ما المرءُ صارَ لهم خليطاً ... تَفَكَّهَ في الجميلِ وفي الجَمَالِ أبو طاهر الإبرنسي له: لابن فَيَّاضٍ سليما ... نَ وَقَانا اللهُ شَرَّهْ لحيةٌ ليست تُسَاوِي ... في نَفَاقِ السِّعْرِ بَعْرَهْ وله سليمانُ بن فياضٍ وَقَاحُ ... له في الناس آثارٌ قِبَاحُ متى عامَلْتَهُ أَعطاك بُهْتاً ... وحَلْفاً حَشْوُهُ خُبْثٌ صُرَاحُ وتحلفُ عِرْسُهُ أَني حصانٌ ... وأَني لا يَلَذُّ لِيَ النكاح كأنَّهُمَا لِمَيْنِهِما جميعاً ... مُسَيْلِمَةٌ وزوجتهُ سَجاحُ أبو العباس أحمد بن مفرج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 738 تلميذ ابن سابق، ذكر ابن الزبير في الجنان أنه كان في زمان الحافظ وكان قد أمر الشعراء أن يختصروا في الإنشاد فعمل: أَمَرْتَنَا أَنْ نَصُوغَ المَدْحَ مُخْتَصَراًلِمْ لا أَمَرْتَ نَدَى كَفَّيْكَ يُخْتَصَرُ والله لابُدَّ أَنْ تُجْرِي سوابِقَنَا ... حتى يَبِينَ لها في مَدْحِكَ الأَثَرُ وقال: يَرِقُّ لِيَ العُذَّالُ حين أَبُثُّهُمْ ... دفائنَ شكوائي بحسنِ بيان وَأَخْرَسُ إِذْ أَلْقَاهُ عما أُريدُهُ ... كأَنِّيَ أَلْقَاهُ بغير لسان وقال يصف الغيث: ومن العجائبِ أَنْ أَتَى مِنْ نَسْجِهِ ... وخيوطُهُ بيضٌ بساطٌ أَخْضَرُ أبو الرضا سالم بن علي بن أبي أسامة بنو أبي أسامة كانوا أصحاب الديوان في زمان الحافظ وهذا منهم ذكره ابن الزبير في كتاب الجنان، وقال: بنو رياسة وأهل نفاسة ومعدن سماحة ورجاحة، وكان أبو الرضا واسطة عقدهم، وتاج مجدهم، واخترم قبل أن يدوم شعره. ومن شعره قوله في مركبٍ أوقر خطباً، فغرق، والمركب يعرف بالقرافة: قَرافَتي قد غَرِقَتْ ... وفُرِّقَتْ أَيدي سَبَا والنارُ في قَلْبِيَ لَمّا ... أَنْ عَدِمْتُ الْحَطَبَا وقولهه وقد استدعي إلى مجلس بعض الرؤساء: سمعاً لأَمْرِكَ عندنا ... يا أَيُّهَا المَوْلَى وطَاعَهْ سأصيرُ لا متأخراً ... إنْ مُدَّ لي في الصبرِ ساعهْ أبو المشرف الجرجاوي من أهل مصر، وكان في عصرنا الأقرب، ممن أورده أبو الصلت في رسالته. له في هجو قاضٍ، وقد أحسن: قاضٍ إذا انفصلَ الخصمانِ رَدَّهُما ... إلى الخصام بحكمٍ غيرِ مُنْفَصِلِ يُبْدِي الزهادةَ في الدنيا وزُخْرُفِها ... جَهْراً ويَقْبَلُ سِرّاً بَعْرَةَ الجَمَل مُهَلِّلُ الدهرِ لا في وقت هَيْلَلةٍ ... ويلزمُ الصمتَ وقتَ القولِ والعَمَل وما أُسمِّيهِ لكنِّي نَعَتُّ لكُمْ ... نعتاً أدُلكمُ فيه على الرَّجُل ومن شعره قوله من قصيدة: لله فيكَ سرائرٌ لا تُعْلَمُ ... يَمْضي بها القَدَرُ المُتَاحُ ويَحْكُمُ نَبْدَا بذكركَ في المديح لأنَّهُ ... بك يُبْتَدَا وبحسنِ ذِكرِكَ يُخْتَمُ شهدتْ لك الأعداءُ أَنَّكَ باسِلٌ ... بَطَلٌ يهابُكَ في النزال الضَّيْغَمُ للهِ درُّكَ من كَمِيٍ مُعْلَمٍ ... يخشاهُ في الحَرْبِ الكميُّ المُعْلَمُ هذا هوَ النصرُ العزيزُ لأنَّهُ ... نصرٌ حباكَ به الإلهُ الأعظَمُ انظُرْ إليَّ بعينِ جُودِكَ مُنْعِماً ... يا مَنْ هُوَ المَلِكُ الجوادُ المُنعِم جعفر بن أبي زيد مصري، له: وكم قائلٍ ليَ سافرْ إِلى ... بلادِ العراقِ تَقَعْ في الرَّخاءِ لعمري لقَدْ صَدَقوا، في الرخاءِ ... وقَعْنا، ولكنْ بتقديمِ خاء وله وما قصْدُنا بغدادَ شوقاً لأهْلِها ... ولا خَفِيَتْ مذ قَطُّ أخبارُها عنّا ولا أنَّنَا اخترْنَا على مِصْرَ بلدةً ... سواها، ولكنّ المقاديرَ ساقتنا هذه البيات أودعها رسالةً عملها في ذم بغداد، وكفاه ذلك دليلاً على غباوته وقساوته، وغلظ طبعه، ومرض قلبه. أبو علي حسن بن زيد بن إسماعيل الأنصاري كان من المقدمين في ديوان المكاتبات بمصر. وصفه القاضي الفاضل وأثنى على فضله، وأنه في فنه لم يسمح الدهر بمثله، طرقه حادث الزمان الغائظ فأحفظ عليه حسناً ولد المنبوز بالحافظ، وتقلد حوبته، وضرب رقبته، وذلك بسبب ابن قادوس، عمل بيتين هجا بهما حسن بن الحافظ، ودسهما في رقاع هذا الأنصاري، ثم سعى به إلى المذكور فأخذ، فوجدا معه، وقتل. وله قصيدة في مدح أفضهم يصف خيمة الفرج، يدل إحسانه فيها على أن بحره طامي اللجج، ودره نامي البهج، منها: مَجْداً فقد قَصَّرَتْ عن شأْوِكَ الأمَمُ ... وأَبدَتِ العجزَ منها هذه الهِمَمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 739 أخيمةٌ ما نَصَبَتْ الآنَ أَمْ فَلَكٌ ... ويَقْظَةٌ ما نراهُ منك أَم حُلُمُ ما كان يخطُرُ في الأفكارِ قبلك أَنْ ... تَسْمُو علوّاً على أفْقِ السُّهَا الخِيَمُ حتى أتيتَ بها شَمَّاءَ شاهقةً ... في مارنِ الدهر من تيهٍ بها شَمَمُ إنّ الدليلَ على تكوينها فَلَكاً ... أَنِ احتَوَتْكَ وأَنْتَ الناسُ كلهُمُ يَمُدُّ مَنْ في بلادِ الصينِ ناظِرَهُ ... حتى ليبصر عِلْماً أنَّها عَلَمُ ترى الكِنَاسَ وآرامَ الظباءِ بها ... أَضحَتْ تجاورها الآسادُ والأَجَلُ والطيرُ قد لَزِمَتْ فيها مواضِعَها ... لما تحقَّقْن منها أنها حَرَمُ لديكَ جيشٌ وجيشٌ في جوانبها ... مُصَوَّرٌ وكلا الجيشين مُزْدَحِم إذا الصَّبَا حَرَّكَتْها ماجَ مَوْكِبُها ... فمُقْدِمٌ منهمُ فيها ومُنْهَزِم أَخَيْلُها خَيْلُكَ اللاتي تُغِيرُ بها ... فليس تُنْزَعُ عنها الحُزْمُ واللُّجُم عَلَّمْتَ أَبْطالَها أنْ يُقْدِموا أبداً ... فكلُّهُمء لغمار الحَرْبِ مُقْتَحِمُ أَمَّنْتَهُمْ أَنْ يَخافوا سَطْوَةً لِرَدىً ... فقد تسالمتِ الأسيافُ والقِمَمُ كأنها جَنَّةٌ فالقاطنون بها ... لا يستطيلُ على أعمارِهِمْ هَرَمُ عَلَتْ فخلنا لها سِرّاً تُحَدِّثُهُ ... للفَرْقَدَيْنِ وفي سَمْعَيْهِما صَمَمُ إنْ أَنْبَتَتْ أَرْضُها زَهْراً فلا عجبٌ ... وقد هَمَتْ فوْقَها في كَفِّكَ الدِّيَمُ يا خيمةَ الفَرَجِ الميمونِ طائرُها ... أصبحتِ فأْلاً بهِ تَسْتبشرُ الأمَمُ ومنها: ما قالَ لا قطُّ مذ شُدَّتْ تَمَائمُهُ ... وكم له نَعَمٌ في طيِّها نِعَم لو كنتَ شاهدَ شعري حين أنْظِمُهُ ... إذَنْ رَأَيْتَ المعالي فيك تَخْتَصِمُ أَزَرْتُكَ اليومَ من فكري مُحَبَّرَةً ... في ناظر الشمسِ من لأْلاَئِهَا سَقَمُ ترى النجومَ لِلَفْظِي فيكَ حاسدةً ... تودُّ لو أنَّهَا في المدح تنتظم وله منالُ الثُّرَيَّا دون ما أنا طالبُ ... فلا لومَ إنْ عَاصَتْ عَلَيَّ المَطَالِبُ وإني وإنْ لم يسمح الدهرُ بالمُنَى ... فلي في كَفالاتِ الرِّماحِ مآرِبُ تُقَرِّبُ لِي مُسْتَبْعَدَاتِ مطالبي ... جِيَادي وعزمي والقَنَا والقواضبُ فما أنا ممن يقبضُ العَجْزَ خَطْوَهُ ... وَتَعْمَى عليه في البلاد المذاهب إذا ما كساك الدهرُ ثوباً من الغِنَى ... فَعَجِّلْ بِلاَهُ فالليالي سوالبُ وَلا تَغْتَرِرْ مِمَّنْ صَفَا لَكَ وُدُّهُ ... فكم غَصَّ بالماء المُصَفَّقِ شاربُ نلومُ على الغدرِ الزمانَ ضلالةً ... وقد سَنَّهُ أَحْبَابُنا والحبائبُ وله مغاني اللِّوى حَيّاكِ غادٍ من الوَبْلِ ... وطَلَّتْ دموعُ الطَّلِّ فيكِ دمَ المَحْلِ فلا زال هَطَّالُ الغَمامِ إذا بَكَى ... تبسَّمَ عن أَلْمَي من الرَّوضِ مُخْضَلِّ فكم ليَ في أظلالِ دَوْحِكِ ليلةٌ ... غَدَتْ سِمةً في جَبْهةِ الزَّمَنِ الغُفْلِ وله أَأَطْلُبُ الرزقَ لا أُنْضِي الركابَ له ... لا تَفْرُسُ الأُسْدُ أو تَنْأَى عن الأَجَمِ وكيف أُغْضِي على ضَيْمٍ وما رَوِيَتْ ... مني السيوفُ ولم تُسْقَ الصِّعادُ دمي من لي بعَوْدِ زمانٍ كنتُ أَكرَهُهُ ... وكيف للمَيْتِ بالرُّجْعَى إلى الألمِ وله أَطارقُ طَيْفٍ أَمْ خيالٌ مُرَجَّمُ ... أَراكَ به مرأَى اليقين التوهُّمُ سَرَى وكأنّ الأُفْقَ صفحةُ لُجَّةٍ ... كواكبُهُ فيها سفائنُ عُوَّمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 740 وكم للكَرَى من مِنّةٍ قَبْلَ هذه ... أَضاءَ بها وجهُ الدجى وهو أَسْحَمُ وما شِيَمُ الأيَّامِ أن تَمْنَحَ المُنَى ... ويبسمَ منها الكالحُ المُتَجَهِّمُ ولكن رَأَتْ نُعْمَآ شَهِنشاهَ في الوَرى ... فقد أَصبَحَتْ من جُودِهِ تَتَعَلَّمُ ومنها: إذا كُسِفَتْ شمسُ النهار فإنها ... لخجلتها من نُورِهِ تَتَلَثَّمُ وما أَطْلَعَ الأُفْقُ النجومَ لريبةٍ ... ولكنه عُجْباً بها يتبسَّمُ وليس صَليلُ البيضِ إِلاّ لأنَّهُ ... بِنُصْرَتِه يومَ الوَغى يترنَّمُ وما غَرَّدَ ابنُ الأَيْكِ إِلا بمَدْحِه ... لو انَّ غِنَاءَ ابنِ الأَراكةِ يُفْهَمُ وله يهنىء أفضلهم بخلعة: شَرَفاً فقد أَدْرَكْتَ قاصيةَ العُلاَ ... ورَدَدْتَ غَرْب النائبات مُفلَّلا هَمَّ الزمانُ على الورَى بجنايةٍ ... فأَنَابَ قبلَ وُقوعها وتَنَصَّلا فلو استطاعَ النطقَ أصبحَ سائلاً ... في الإذْنِ أن يَطَأَ البساطَ مُقَبِّلا الله أكرَمُ أن يُضَيِّعَ دوْلةً ... عنها فلم يَعْرِفْ إليها مَدْخَلا سَدَّتْ أياديك الطريقَ عن الرَّدَى ... عنها فلم يَعْرِفْ إليها مَدْخَلا ولقد رآك الله أَسْنَى خَلْقِهِ ... فَضْلاً وقَدَّرَ أن تُسَمَّى الأفْضَلا آتاكَ ما لم يُؤْتِ خَلْقاً مِثْلَهُ ... وحَباك من غُرَرِ الليالي مُجْزِلا خِلَعٌ خَلَعْنَ من العُداة قلوبَهُمْ ... وملأنَ بالإشراق أبْصَارَ المَلاَ لما برزتَ بها بَهَرْتَ فلم يُطِقْ ... طَرْفٌ إليكَ من الشعاعِ غَضَّيتْ وقد نَظَرَتْكَ من أجْفانِها ... شمسُ الضُّحَى فبِوَاجِبٍ أن تَخْجَلا وبَدا عليك التاجُ نُظِّمَ دُرُّهُ ... فطلعتَ بدراً بالنجومِ مُكلَّلاَ وله أَطاع أَمرَكَ في أعدائكَ القَدَرُ ... ولا دَنَتْ أبداً من مُلْكِكَ الغِيَرُ أَيَّامُكَ الغُرُّ مصقولٌ عوارِضُها ... كأنَّ آصالَهَا من رِقَّةٍ بُكَرُ أَخْمَلْتَ ذكْرَ ملوكٍ كنتَ خاتمَهُمْ ... وأَنجُمُ الليلِ في الإِصباحِ تَسْتَتِرُ أيْنَ الذي أنْتَ مُبْدِيه مُعَايَنَةً ... من الفضائلِ مما تنقلُ السِّيَرُ وما يدانيكَ في العلياءِ من أَحَدٍ ... هيهاتَ لاَ يسْتَوِي التحْجِيلُ والغُرَرُ بعضُ الوَرَى أنْتَ لكنْ فُقْتَهُمْ شَرَفاً ... إِنّ الحجارة منها الدُّرُّ والمَدَرُ لله عَزْمُكَ ما أَمْضَى مَضَارِبَهُ ... حيث الصوالجُ بيضٌ والطُّلاًَ أُكَر ظَنُّوا حُسَامَكَ سيفاً في يَدَي مَلِكٍ ... فعايَنوا مَلَكاً في كَفِّهِ قَدَرُ منها: لم تجتمع يدهُ والسيف يومَ وَغىً ... إلا تفرّقتِ الأجسامُ والقَصَرُ بَثَّ اللهَا راغباً في الحمد يُحْرِزُهُ ... فالمدحُ مُحْتَقَبٌ، والمالُ مُحْتَقَر يَرْضَى وقد غَضِبَتْ بيضُ السيوفِ له ... فيوسعُ الذنبَ عفواً حين يقتدر تخالُ راحتَه والمشرفيّ بها ... سحابةً ظلَّ فيها البرقُ يَسْتَعِرُ يَلْقَى الكتائبَ فَرْداً وهْو مُبْتَسِمٌ ... ويبذلُ الأرْضَ رِفْداً وهْو مُحْتَقِر وله سرَى واصلاً طيفُ الكرَى بعد ما صَدَّا ... فهل خَطَأً أَهدى الزيارةَ أَمْ عَمْدَا ولما أَتَى عُطْلاً من الدُّرِّ جيدُهُ ... نَظَمْتُ دموعي فوقَ لَبَّاتِهِ عِقْدَا من مديحها: سلِ الليلَ عنه كلَّ يومِ كريهةٍ ... يُخَبِّرْكَ عن أَمْضاهُما في الوَرَى حَدَّا أَبانَتْ له طُرْقَ المكارمِ نَفْسُهُ ... بغيرِ دليلٍ والمكارمُ لا تُهْدَى ومذ صارَ للإسلامِ سيفاً وللظُّبَا ... إليه انتسابٌ غادَرَتْ معه الْهِنْدَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 741 لأَضحى نَدَى كفَّيْك للنيلِ ثانياً ... وقد عَهِدْتُه أَرْضُ مِصْرَ بها فَرْدَا ولو قاسَ بين اللجّتين مُحَقِّقٌ ... رأَى البحرَ في تَيَّاره وَشَلاً ثَمْدَ وله من قصيدة في مدح أبي محمد بن أبي أسامة: لعلَّ سَنا البارقِ المُنْجِدِ ... يُخَبِّرُ عن ساكني ثَهْمَدِ ويا حبذا خَطْرَةٌ للنسيم ... تُجَدِّدُ من لوعةِ المُكْمَد وفي ذلك الحيِّ خُمْصَانةٌ ... لها عُنُقُ الشادنِ الأَغْيَدِ تَتيهُ بغُرَّةِ بدرِ التمامِ ... وسالفةِ الرَّشَإِ الأغْيَدِ وتُلْحِفُ عِطْفَ قضيبِ الأَراكِ ... رداءًا من الأَسْحَمِ الأَجْعَدِ أَعاذلُ أنحيتِ لوماً عليَّ ... يروحُ بعذٍلِكِ أو يَغْتَدِي تلومُ زماني على صَمْتِهِ ... وصوتيَ من ضَرْبِه المُعْمَدِ ففضليَ يبكي على نَفْسِهِ ... بكاءَ لبيدٍ على أَرْبَدِ ولو كان حَظِّيَ لونَ الشباب ... لما حالَ عن صِبْغِهِ الأَسْوَد فلا تأيسنَّ لمَطْلِ الزمانِ ... فإنِّيَ منه على مَوْعِد ولا تشكُ دَهْرَكَ إلا إليكَ ... فما في البَرِيَّةِ مِنْ مُسْعِد ولا تغتررْ بعطايا اللئامِ ... فقد ينضحُ الماءُ من جَلْمَدِ ومن نثره مما يدل حسنه على رونق فرنده وأثره، ما التقطته من ترسلٍ صنفه أبواباً، وألفه اقتضاباً. له تهنئة بولاية: من هنىء بمنزلةٍ يرتقيها، أو مرتبةٍ يعتليها، فالخدمُ تهنىء بالحضرة لما يكسوها من جميل السيرة، والإنصاف الذي يتعادل فيه الجهر والسريرة، فخلد الله ملك المجلس العالي المالكي وثبت أيامه، ونصر أعلامه فإنه منظورٌ فيها بناظر البصيرة التي تمده القوة الفلكية سلك بتقديمها نهج السعادة الذي توضحه المادة الإلهية، فأصاب الضريبة، ووقع العقد في التربية، وأرهف الحسام القاطع، وأضرم الشهاب الساطع. ومن أخرى: الخدم أطال الله بقاء الحضرة السامية تتشرف بمن يليها، والمنازل تسمو بمن يكون فيها، إذ كان غيرها يرقى إلى المآثر والمآثر إليها ترتقي، وينجح بيسير المفاخر وهي لديها تجتمع وتلتقي. ومن أخرى: هذا فجرٌ يتلوه الصباح المسفر، ووسميٌّ يتبعه العارض المثعنجر. ومن تهنئئته بقضاء: الحمد لله الذي طرز بمحاسن أيامها أردان الإسلام، وجعلها تاجاً على مفرق الأحكام، النظر السلطاني أصاب منها الغرض، وتناول الجوهر وترك العرض. من تهنئة بالعافية إلى السلطان: الحمد لله الذي أقر القلوب بعد وجيبها، وأضحك الأيام بعد قطوبها، وقوى المنن بعد انخزالها، وشد عرى الإسلام بعد انحلالها، بما أتاحه من البر الذي أقر عيون الأولياء، وأكمد قلوب الأعداء، وأصبحت الدنيا متحليةً بعقودها، مائسةً في برودها، باسمةً عن المضحك الأنيق، لاجئةً إلى الركن الوثيق، وغدا الدين عزيز الجانب، رفيع المناكب محمي الكواكب، فمملوك الدولة أحق الأولياء بأن يستفزه الجذل ويستطيره، وتتضاعف مسرته بهذه المنحة الخطيرة، إذ هو بيمنها مشمولٌ، وعلى موالاتها مجبول، وقد جذبت بباعه من الحضيض الأوهد، وسمقت به إلى المحل الأمجد، فهو يتازر بإنعامها ويرتدي، ويروح إلى إحسانها ويغتدي. الحمد لله الذي أبقى المجلس السامي شهاباً لا يخبو في اللأواء ثاقبه، وحساماً لا تنبو عن الأعداء مضاربه، وركناً تلوذ به الأمم، وسحاباً يهطل بأنواء الكرم. ومن تهنئة بالبرء إلى صديق: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 742 إذا قدم الوداد، وصح الاعتقاد، وصفت الضمائر، وخلصت السرائر، حل الإخاء المكتسب محل أخوة النسب، وصار المتعاقدان على الإيثار، والمتحابان على بعد الدار، متساهمين فيما ساء وسر، ومتشاركين فيما نفع وضر، وتلك حالي وحال حضرة مولاي، فإني وإياها كنفسٍ قسمت على جسمين، وروح فرقت بين شخصين، فأما ألمها فقد مضى وأزعجني، وأما برءها فقد سرني وأبهجني، وعرفت خبر إبلالها، من ألمٍ كان بها، فشكرت الله على خلتين معاً، ونفعين اجتمعا، أحدهما أنني لو كنت أعلم تألمها، لكنت ألاقي ما يكدر الشراب، ويمنع تلاقي الأهداب، وأجد على حال الصحة ما يجد المريض، وأرى الدنيا على آثارها بعين البغيض، والآخر علمي ببرءها عند حلوله، ومعرفتي به عند تخييمه بساحتها ونزوله. من تهنئة بولد: وردت البشارة السيارة بالقادم الأمجد، المستقبل بالطالع الأسعد، فأخذ المملوك من المسرة بأوفر حظ الأولياء، الملخصين في الولاء، المغمورين بجزيل الآلاء، وسأل الله سبحانه تخليد الأيام المالكية، مديدة الأمد، وافرة العدد، نامية الأهل والولد، حتى ترى هذا المبشر بقدومه ممتطياً صهوات الجياد، مخوف الشد يوم الجلاد، يخفق وراءه اللواء، وتخاف سطوته الأعداء، وتحصن البلاد بقواضبه، وتشنف الأسماع بذكر مناقبه، وترى من أولاده أمجاداً عن الإسلام ذادة، وأملاكاً لأملاك البلاد سادة، لا زالت تبلغ أقصى الأماني، وتسمع نغم التهاني، وتمد ظلها على القاصي والداني. ومن أخرى: حتى ترى نسل هذا المولود أقمار تمٍ تضيء هالاتها، وآساد غيلٍ تخاف غاباتها، وصوارم بأسٍ يحذر غربها، وأنواء جودٍ تهطل سحبها. تهنئة بظفر: الحمد لله الذي فضل دولة أمير المؤمنين على سائر الدول، كما فضل ملة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الملل، وجعل أيامه واضحة الحجول والغرر، مخصوصةً بالفتوح والظفر، يخفق النصر على بنوده، وتسير السعادة أمام جنوده، ويقابل الأقدار في جحافلها، وتصبح الملائكة الأبرار من قبائلها، فما يتوجه من جيوشه جيشٌ إلا والتأييد يقدمه، والقدرة تخدمه، والدهر يؤازره، والنصرة تضافره. نهنىء بهذا الفتح الذي ضحكت به الدنيا عن مباسمها، وتجلت به شموس النصر عن غمائمها، ونسأل الله أن يجعل الأرض قبضة يده، والأفلاك الجارية من أعوانه وعدده، وكل يوم من أيامه موفياً على أمسه، مقصراً عن غده، الفتح الذي نكست به رءوس ذوي الشقاق، وقطع به دوابر أهل الخلاف والنفاق، ورجفت به أكباد الأعداء رهباً وجزعاً، وتضعضعت به أركان الباطل خوفاً وهلعاً، وأصبح الإسلام به عزيز الجناب، فسيح الرحاب، منصور الأعوان والأحزاب، والدولة فاخرةً على الدول، بالغةً أقصى الأمل، يخفق النصر في أعلامها، ويحفها الظفر من ورائها وأمامها. من تهنئة بفتحك أعز الله سلطان الحضرة وهنأها ما منحها من الشرف الأثير، والذكر النابه الخطير، من الظفر بالفلانيين على اشتداد أسرهم، واستفحال أمرهم، وانبساط يدهم، وتكاثر عددهم، وتناكص المقدمين عنهم، وجزع الناس منهم. لا جرم أن المجلس العالي لما رأى شأنهم يتفاقم، وخطبهم يتعاظم، نقد رؤساء دولته نقد الصيرف الخبير وقلب مقدمي مملكته بطرف العارف البصير، ولم ير كفلان ألم ولا أدفع للخطب ولا أسد للخرق، ولا أرتق للفتق، ولا أخبر بتدبير الجحافل ولا أهجم على شفار المناصل، ولا أثبت في صدور الأعداء، ولا آثر في نفوس الأولياء، ولاأعرف بمجاري أمور الحرب، ولا أثبت جأشاً عند اختلاف الطعن والضرب، ولا أكثر اجتهاداً وتشميراً ولا أمضى رأياً وتدبيراً، ولا أيسر على الأبطال، ولا أحق بالتقدم على سائر الرجال، ولا أثبت في مواقف النزال، ولا أسرع إجابةً حين تدعى نزال. رأوا في عجاجها سحابة موت تهطل بالنكال، وتمطر نوافذ النصال، وتومض عن بوارق تشعشع بالصقال، وتقطع عرى الآجال، ونار بأسٍ تلفح القلوب، وتضرم الخطوب، وتدني الأجل المكتوب، فأصبحوا بين ناكصٍ على العقب، ومجدلٍ في الأرض تربٍ، ومرملٍ بدمائه، ومجرعٍ غصص ذمائه، وهاربٍ والأرض تحصبه، والآفات تطلبه، يخاف من ظل طرفه، ويرى المنية نصب طرفه. وأقشعت الحومة والدهر إليها باسم، والنصر عليها قادم، والظفر مسطورٌ بجبينها، والسعادة مخيمةٌ عن يمينها، والإسلام لسعيها شاكرٌ، والدين لجهادها منيرٌ زاهرٌ. ومن أخرى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 743 المملوك يقدم الهناءة بما يسره الله وسهله، وكمل به الإنعام وأجزله، من الظفر بالطائفة الفلانية وقط شوكتها، وإلانة شدتها، وإبادة خضرائها، وكف غلوائها ينهى أنه توجه إلى هذه الفئة واثقاً أن سعادة الدولة تعضده وتوفيقها يؤيده، ويمن تدبيرها يوضح له مناهج افقبال، وبركة أيامها تبلغه غاية الآمال، فهو يضمن لكل من يضمه الجيش أن الجبال لو عاندتها لنسفت نسفاً، والسماء لو خالفتها لسقط من كل جانب منها كسفاً، والأسد لو خافت سطواتها لما حمتها القفار، والطير لو حذرت بأسها لنبذتها إليها الأوكار، حتى تقرر في نفوسهم أن السعادة لهم شاملةٌ، ومشيئة الله بنصرهم كافلةٌ، وصاروا من مضاء عزائمهم أحد من شفار صوارمهم، فحين التقى الجمعان، وتراءت الفئتان، فما كان إلا كرجع الطرف قصراً، ومقدار ما أنيطت كل حنيةٍ وترا، انصاعوا مدحورين، وولوا الدبر مفلولين، وأصبحوا فيئاً للمنون مشهبا، واقتسمهم الفرار والبوار أيدي سبا، فغدوا بين قتيلٍ مجدلٍ وأسيرٍ مكبلٍ، يجود بنفسه، وشريدٍ يخاف من حسه. ومن فصل: لا زالت ماضية الأحكام في الآفاق، جاريةً أناملها بمجاري الأرزاق، حالة صوارمها في أعناق عداتها مكان الأطواق، حتى تخلو السماء من الكواكب، وتطلع الشموس من المغرب، ما تفتح الزهر عن أكمامه، وتردد الزبرقان بين سراره وتمامه، ما سطعت الأهلة بلألائها، ومزقت جلابيب الظلام بضيائها. ومن كتاب في هدية: إذا صح الاعتقاد، ذهب الانتقاد، وإذا ثبت الإدلال، حسن الاسترسال. وبحكم هذه القضية، أهديت إلى الحضرة العلية، معولاً في بسط العذر على شرف أخلاقها، وكرم أعراقها، تحفة منبسطٍ مسترسل، لا هديةَ محتفلٍ متجمل. ومن كتاب تعزية: الخطب الحادث، الفادح الكارث، الذي كادت له القلوب أن تتبرأ من أضالعها، والعيون أن تتعوض بدمائها من مدامعها، والضحى أن يدرع جلباب الدجنة، والحوامل أن تجهض بما في بطونها من الأجنة. إن المنية حوضٌ كل الناس وارده، ومنهلٌ كل الخليقة قاصده. المتهالك في الهلع، المتهافت في الجزع، مخالفٌ لأمر ربه، لا يستطيع دفع خطبة الموت. لا يسلم منه ملكٌ نافذ الأمر، ولا فقيرٌ خامل الذكر. ومن تعزية ثانية: إن من الرزية ما يعد عطية، ومن المحن ما يحتسب منحة، لاسيما ومن المشهور ما جاء في الخبر المأثور، من دفن أولات الخمر، وأن وفاتهن مخيرٌ لهن من امتداد العمر، وحبذا الموت صهراً، والقبر مهراً. ومن أخرى في العزاء بمقتول في الحرب: الدنيا دار غرور وخدعٍ، ومنزل زورٍ وطمعٍ، الموت أمرٌ لازمٌ، وحكمٌ جازمٌ، يشمل النبيه والخامل، ويحطم الزج والعامل. أكرم مصارع الرجال في معارك الأبطال، وأفضل مهالك الأجواد فوق صهوات الجياد، ولولا هذه الفضيلة، والخلة الجميلة، ما أنف الشجعان من الموت على الفراش، وتهافتت على السيوف تهافت الفراش، ورأت أن فراق النفس برماح الفوارس خيرٌ من فراقها في صدور المجالس. وفلان وقف مواقف الكرام، وأنف من فرار اللئام، وبرز في حومة اللقاء، وطعن في صدور الأعداء. وله في العزاء بغريق من فصل: لعمري لقد نزهه الله عن سهك الجرباء، وملاقاة الحصباء، والمقام تحت أديم الأرض، وانطباق بعضها على بعض، ورفعه عن أن يذال في الجدث جبينه، ويعفر في العثير عرنينه، فجعل ضريحه في شبيهه جوداً وكرماً، وضريبه محاسناً وشيماً، فتضمنه الماء، وغطغطت فوقه الدأماء، فإذا استسقى السحاب، واستسمح التراب، فهو في البحر الوافر، واللج الزاخر، بحيث تتفرع المناهل، ويرد كل ناهل. فصل فيمن قتل غيلة: لو كان بحيث يحمله الطرف الأجرد، ويهتز بكفه الحسام المهند، ويشرع سنان الزاعبي الأسمر، ويخرق بنوافذ النضال حجب العثير، لكان مقامه معروفاً، ونكصت عنه الجحافل ولو كانت ألوفاً، ولكنه حمامٌ حم وارده وطارقٌ لا يرد وافده، وأمرٌ سبق في القضاء المكتوب، وتبيين لعجز البشر عن مغالبة الخطوب. ومن شعره أيضاً قوله: وباهرةِ المحاسنِ إِنْ تَبَدَّتْ ... بليلٍ أَطْلَعَتْ بدرَ التّمامِ وإِنْ بَرَزَتْ نهاراً في نِقَابٍ ... أَرَتْكَ الشمسَ من تحتِ الغَمَامِ أَضاءَ جَبِينُها والشَّعْرُ داجٍ ... كذاك البدرُ يَحْسُنُ في الظلام وقوله من أول قصيدة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 744 إِذا أَرَدْتَ دفاعَ الحادثِ الْجَلَلِ ... فما مُقام الشِّفَارِ البيض في الْخَللِ لولا مخافةُ حملِ الضَيْمِ ما طُبِعَتْ ... ظُبا السيوفِ ولم تُرْهَفْ ظُبَا الأَسَلِ وله خَلَعَ الزمانُ عليَّ حُلَّةَ مَفْخَرٍ ... شَرَفاً بمدحِ الأَفْضَل المِفْضَالِ أَضْحَى به ليلي نهاراً بَعْدَ ما ... غَبَرَتْ به الأَيامُ وهَيَ ليال قَرْمٌ إِذا ما جالَ في رَهَجِ الوَغَى ... أَضْحَتْ به الآجالُ في الأَوْجَال وتَهُزُّ كَفَّاهُ طوالَ ذوابلٍ ... تغدُو بها الأَعْمارُ غَيْرَ طِوَالِ يَلْقَى المدائحَ بالمنائحِ واهباً ... ويُصَدِّقُ الأَقْوَالَ بالأَفْعَالِ وَسَمَتْ به العَلْيَا فأَصْبَح حافظاً ... ما ضَيَّعَ الأَغْفالُ بالإِغْفال وإِذا أَتَتْ منه سوابقُ نِعْمةٍ ... كفلتْ مواهبُهُ لها بنَوالِ وله من قصيدة: ونَدْمَاني بدور التِّمِّ تَبْدُو ... بأَغْصانٍ تميسُ على روابي ورنَّاتُ المثالثِ والمَثاني ... وفاقاً في اصطحابٍ واصطخاب فحيَّتْ والدُّجَى يحكي انحساراً ... نُصولَ الشيبِ من تحتِ الخِضاب براحٍ خِلْتَ كفَّ المَزْج جَادَتْ ... لمَفْرِقها بتاجٍ من حَبَابِ صَفَتْ وصَفَتْ زجاجَتُها وأَضْحَتْ ... كأَخْلاَقِ الأَجلِّ أَبي تراب مجبر بن محمد بن مجبر الصقلي ذكره القاضي الفاضل، وقرظه بالفضائل، وهو صقلي النجار، مصري الدار، وهو قريب العصر، توفي قبل الأربعين والخمسمائة. قال ابن الزبير ينقل إلى المصريين بحكم أن نشوءه واشتهاره بمصر، غزير موارد الفكرة، واري زناد القريحة؛ نقلت من مجموع ابن الزبير قوله من قصيدة: أَتُرَى يُفيقُ من الصبابة عاشقٌ ... قَذَفَتْ به الأهواءُ في الأهوالِ مُغْرىً بحبِّ الغانياتِ هَفَتْ به ... هِيفُ الخصورِ ورُجَّحُ الأَكْفَالِ غُرِسَ القضيبُ على الكثيبِ بقدِّها ... فأَتَتْ بميَّادٍ على مُنْهال تَتَرَدَّدُ الأبصارُ فيها حيرةً ... في الحُسْنِ بين الخالِ والخلخال غَرَّاءُ غَرَّتْها الشبيبةُ فاكتَسَتْ ... تيهَ الدلالِ وعِزَّةَ الإدْلال ممكورةٌ مَكَرَتْ بقلبي والهوى ... يستضعفُ المحتالَ للمختال حَلَّتْ مواشيَّ الوفاءِ وحَلَّلَتْ ... في الحبِّ قتلي وهو غيرُ حَلال قالوا تَسَلَّ وبئس ما أَمَرُوا به ... بؤسُ المحبِّ ولا نعيمُ السَّالي قلبي من الأجواد إلاّ أَنَّهُ ... في الحبِّ معدودٌ من البُخَّال سُقِيَتْ ليالينا برامةَ، والهوى ... حُلْوٌ، وأيامُ الشبابِ حَوَالي ولِجِدّةِ العشرين عندي ثَرْوَةٌ ... تُغني هُنَيْدَةَ عن هُنَيْدَةِ مالي ومنها: غيثٌ من الإحسانِ ما ينفكُّ مِنْ ... مَعْروفِهِ في وابلٍ هَطَّالِ وسحابُ جودٍ كلما ضنَّ الحَيَا ... بالماءِ جادَتْ كفُّهُ بالمال نادَى بحيَّ على النَّدَى فأَجابَهُ ... بالحمد كلُّ مُخَالفٍ ومُوَال وأَقَرَّ معترِفاً بثابتِ فضلهِ ... من لا يُقِرُّ بمُبْدِعِ الأشكال وله في أبي عبد الله ابن مسلم الكاتب، وكان يجري له خمسة دنانير في كل شهرٍ على تظم السيرة المصرية فسأل أن يجري له شيءٌ على الشعر، فزيد نصف دينار: جَرَى الحديثُ فقالوا: كلُّ ذي أَدَبٍ ... أَضحَتْ له خمسةٌ تَجْرِي بمقدار بأيِّ فضلٍ حواه ابن المُسَلَّمِ من ... دون الجماعة حتى زِيدَ في الجاري أَجْرَوْا له خمسةً عن حقِّ سيرته ... فقالَ لا تَنْقصوني حقَّ أشعاري نادَوْا عليه، وسعرُ الشِّعْرِ نافقةٌ ... فلم يَزِدْ قَدْرُها عن نصفِ دينار وله من قصيدة أولها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 745 بأيِّ لسانٍ عن معاليكَ أُعْرِبُ ... وفي كلِّ إحسانٍ معانيكَ تُغْرِبُ ومنها: هَصُورٌ له السَّرْدُ المُضاعَفُ لِبْدَةٌ ... لَدَى الحرب، والعَضْبلُ اليمانيُّ مِخْلَبُ ومنها يصف خيمة الفرج: وبيضِ خيامٍ يهتدي الركبُ في الدُّجى ... بها حين تَخْفَى النيِّراتُ وتُحْجَبُ تبوَّأْتَ منها خيمةَ الفَرَجِ التي ... لراجيك فألٌ في اسمها لا يُكَذَّبُ فتاهَ على إِيوانِ كسْرى وتاجِهِ ... رواقٌ لها في ظلِّ مُلْكِكَ يُضْرَبُ عَلا وعَلَتْ فاستوفتِ الجوَّ هالةً ... بها منك بدرٌ بالبهاءِ محجَّب يكادُ من الإحكام صافِنُ خَيْلها ... يجولُ وساجي وَحْشِها يَتوثَّبُ ويومٍ كيومِ الجِسْرِ هَوْلاً وشدّةً ... يُرَى الطفلُ فيه خيفةً وهو أَشْيَبُ سَفَرْتَ به عن وجهِ جَذْلان ضاحكٍ ... وللشمسِ وجْهٌ بالعَجاجِ مُنَقَّب وأَسمرَ عسَّالِ الأنابيبِ قد سَطَا ... على الأُسْدِ منه في يمينك ثَعْلَبُ أخُو الصِّلِّ شِبْهاً ما لَهُ الدهرَ مُذْ نَأَىعن التُّرْبِ إلا في التَّرَائب مَشْرَبُ وله امْلأْ كؤوسَكَ بالمُدَأمِ وهاتها ... إنَّ الهوى للنفسِ من لَذّاتِها اصْرِفْ عن المشتاقِ صِرْفَ مُدامةٍ ... رَشْفُ الرُّضابِ أَلَذُّ من رَشَفاتِها وأحلَّ أَشْربَتي وأَحلاها التي ... أَمْسَتْ ثغورُ البِيض من كاساتها ومريضةِ الأجفانِ سامَتْ في الهوى ... قتلي، فهانَ عليَّ في مرضاتها ما زلتُ أصْفح في القِلَى عن جُرْمِها ... وأَغُضُّ في الإعراضِ عن هَفَواتِها حتى توهَّمتُ الصدودَ زيادةً ... في حُسْنِها عندي وفي حَسَناتِها ومنها: ما خلتُ أَنَّ النفسَ يَنْكُدُ عَيْشُهَا ... حتى يكونَ الموتُ من شَهَواتها أَسْتودعُ الله القِبابَ وأوجهاً ... فيهنَّ كالأقمارِ في هالاتها والوردُ يحسدُ نرجساً وبنفسجاً ... في شُهْلِ أعينها ولُعْسِ لِثاتها تلكَ الرياضُ اللاءِ ما بَرِحَتْ يَدي ... تَجْنِي ثمارَ الوَصْلِ من وَجَناتِها ولربَّ قافيةٍ شرودٍ شَرَّدَتْ ... نومي فبتُّ أجوُّ في أَبيانها حتى وردتُ من التأسُّفِ بعدها ... ناراً دموعي الحُمْرُ من جمراتها مازلتُ أَنْظِمُ طيبَ ذكركَ عنبراً ... أَرِجاً خلالَ الدُّرِّ من كلماتها حتى إذا نَشَرَ الصباحُ رداءَهُ ... عن مِثْلِ نَفْحِ المِسْكِ من نَفَحَاتها وتَمَثَّلَتْ عِقْداً تَوَدُّ كواكبُ ... الجوزاءِ عُقْدَتُهُ على لَبَّاتِها أَعْدَدْتُها للقاءِ مَجْدكَ سُبْحَةً ... أَدعو بها لأنالَ من بَرَكَاتها ومدائحُ الكُرَماءِ خيرُ وسيلةٍ ... شُفِعَتْ بها الآمال في حاجاتها وأحقُّها بالنُّجْحِ مَدْحُكَ إِنَّهُ ... للنفس عند الله من قُرُبَاتِها فاليومَ أَنْثُرُها جواهرَ حكمةٍ ... عَقُمَتْ بحارُ الشعر عن أَخَواتِها فالبسْ بها حُلَلَ الثناءِ فإنها ... حُلَلٌ تروقُ عُلاكَ في بَدِنَاتِها وافسحْ لنا في لَثْمِ بُسْطِكَ إن أَبَتْ ... يُمْناكَ إِلا شُغْلَهَا بهِباتها قَسَماً بمن قَسَمَ الحظوظَ فنلتَ ... أَفْضَلها ونالَ الناسُ من فَضَلاتها وَبَنَى العُلاَ رتباً فكنتَ بفضله ... أَوْلى من استولى على غاياتها لولا وُجُودُكَ في الزمانِ وَجُودُكَ ... المُحْيي المكارمِ بَعْدَ بُعْدِ وَفَاتِها لم يُعْرَفِ المعروفُ في الدنيا ولو ... طُفْنَا عليهِ في جميع جِهاتها وله أول قصيدة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 746 أَترى السحابَ الجَوْنَ بات مَشُوقَا ... يبكي النَّوَى ويعاتبُ التفريقا فالبرقُ يلمعُ في حشاهُ كأنَّهُ ... قلبُ المحبِّ تلهُّباً وخُفُوقا وله أرأيت برقاً بالأَبارقِ قد بَدَا ... في أُفْقِهِ مُتَبَسِّماً مُتَوَقِّدا كيف اكتسى ثوبَ السحابِ مُمسَّكاً ... وأَحَالَه شَفَف الرِّداءِ مُوَرَّدَا وكأنَّما في الجوِّ كأْسٌ كُلَّمَا ... فاتَتْ نميرَ البرق صاحَ وعَرْبَدَا أو مُرْهَف كَشَفَتْ مداوسُ صَيْقَلٍ ... عن مَتْنِهِ صَدَءاً لكي يُرْوِي الصَّدَى كالحَبِّ أَوَ دِقِّ اللُّجَيْن يسيلُ من ... أُفُق أَحَالَتْهُ البوارقُ عَسْجَدَا وكلؤلؤٍ للغيثِ يأخذُهُ الثَّرَى ... فيعيدهُ نَبْتاً يُخَالُ زَبَرْجَدا هس مأخوذ من قول ابن أبي الخليل: ومن العجائب أن أتى من نَسْجه ... وخيوطُهُ بيضٌ بساطٌ أَخْضَرُ وله من قصيدة: لولا الهوَى ما عَبَّرَتْ عَبَرَاتُهُ ... عن وَجْدِهِوتصاعَدَتْ زَفَرَاتُهُ فَرَقُ الفِراقِ أَطارَ حَبَّةَ قلبه ... فتقطَّعت بمُدَى النوى عَزَمَاته من كانَ وَحْيُ الحبِّ بينَ ضلوعه ... نَزَلَتْ بفيضِ دموعِهِ آياته لا تنكروا حُمْرَ الدموعِ فإنه ... جَمْرُ الأَسى وتَنَفُّسِي نَفَحَاتُه وله من أخرى: ذو صَلاةٍ موصولةٍ بِصِلاتٍ ... ليلُهُ عامرٌ بها ونهَارُهْ سابقٌ في السماح كلَّ جوادٍ ... للعُلاَ لا بحلبةٍ مضْماره وله طَرَقَتْنا غيرَ مُختفِيَهْ ... غادةٌ بالحسْنِ مُرْتَدِيَهْ وَوَشَى طيبُ النسيم بها ... قَبْلَ أن تبدو، فقلتُ هِيَهْ ثُمَّ لما أقْبََتْ طَلَعَتْ ... مثلَ قَرْنِ الشمس مُعْتَلِيَهْ يا لَقَوْمي من لواحظها ... إنها بُرْئِي وعِلتِيَه واصَلتْ ليلى ونَفَّرَها ... أنْ رَأَتْ صُبْحاً بوَفْرَتِيَهْ إنّ صُبْحَ الشَّيبِ أيقظني ... من كَرَى عيني وغَفْلَتِيَه وحكى عني دُجىً سَفَهٌ ... زُرْتُ فيه طَوْفَ حَوْبَتِيَه وَنَهَتْني نُهْيَةٌ شَغَلَتْ ... بالعُلا هَمِّي وهَمَِّتيِه وقال: لا تجلسنَّ ببابِ مَنْ ... يَأْبَى عليكَ دُخولَ دارِهْ وتقولُ حاجاتي إليه ... يَعُوقها إنْ لم أُدَارِهْ واتْرُكْهُ واقصِدْ رَبَّهُ ... تُقْضَى وربُّ الدارِ كارِهْ وله وأَهيفٍ للغُصْنِ أَعطافُهُ ... واللظِّباءِ العِينِ عيناهُ شمسُ الضحى غُرَّتُهُ والدجى ... طُرَّتُه والمسْك رَيَّاهُ قد مَزَجَ الخمرة من ريقه ... ببَرْدِ كافورِ ثناياهُ ورقَّ ماءُ الحُسْنِ في خده ... ففتَّحَ الوردَ ونَدَّاهُ وله رعى الله رَيْعَانَ الصِّبَا وليالياً ... مَضَيْنَ بعهدٍ للشبابِ حميدِ لياليَ أَغْشَى في ليالي ذوائبٍ ... بدُورَ وُجوهٍ في غُصون قدود وأشرَبُ خمراً من كؤوسِ مَرَاشِفٍ ... وَقْطفُ ورداً من رياضِ خدود ولولا هوَى غِزْلان رامةَ لم يكُنْ ... يُرَى غَزَلي ذا رِقَّةٍ، ونشيدي ولكنْ صحبْتُ الجهلَ كهلاً ويافعاً ... وطفلاً إِلى أن رَثَّ فيه جَديدي فعلَّمني حُلْوَ العتابِ الذي به ... أَذَبْتُ دموعَ الخَوْدِ بعد جمود وله يمدح القائد أبا عبد الله الملقب بالمأمون: ليس الفراقُ بمستطعِ ... فدَعِيه من ذِكْرِ الوَدَاعِ وعِديه ما يَحْيا به ... من طيبِ وَصْلٍ واجتماع يا وَجْهَ مكتملِ البدو ... رِ وقدَّ مُعْتَدِل اليرَاع بجمالِ ما تحت الرّدا ... ءِ وحُسْنِ ما تحت القِناع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 747 يا أُختَ يوسف إنّ قلبي ... في هواك أَخُو الصُّوَاعِ فلئن ظفرتُ به لديك ... وكنتِ سارقةَ المتاع فلآخذنَّكِ من قبيلك ... أَخْذَ مِلْكٍ واقتطاع يا نفسُ حَسْبُكِ لا تُها ... لِي بالخُطوب ولا تراعي يكفيكِ أَنَّكِ في حِمَى ... من ليس يَرْضى أَنْ تُضَاعي وله يصف فوارة: وفوّارة يستمدُّ السحا ... بُ من فضلِ أخلافِها المُحْتَلَبْ رَأَتْ حُمْرَةَ القيظِ مُحْمَرَّةً ... لها شَرَرٌ كرجومِ الشَّهُبْ فظَلَّتْ بها الأرضُ تَسقى السما ... ءَ خوفاً على الجوِّ أنْ يلتهب أحسن ما قيل في الفوّارة قول البحتري: وفوَّارةٍ ماؤها في السماءِ ... فليست تُقَصِّرُ عن ثارِها تردُّ على المُزْنِ ما أَسْبَلَتْ ... على الأرضِ من فَيْضِ مِدْرَارِها جماعة من شعراء مصر في عهد الأفضل ذكرهم أبو الصلت الحكيم في رسالته، منهم: القاضي أبو الحسن علي بن محمد بن محمد ابن النضر المعروف ب الأديب من أهل صعيد مصر، من الأفاضل الأعيان المعدودين من حسنات الزمان ذو الأدب الجم، والعلم الواسع، والفضل الباهر، والنثر الرائع، والنظم البارع؛ وله في سائر أجزاء الحكمة اليد الطولى والرتبة الأولى. وقد كان ورد الفسطاط يلتمس من وزيرها الملقب بالأفضل نصرة أخدمة، فخاب فيه أمله، وضاع رجاؤه، وأخفق سعيه، فقال من قصيدة يعاتب فيها الزمان، ويشكو الخيبة والحرمان: بين التعزُّزِ والتذلُّلِ مسلكٌ ... بادي المَنارِ لعينِ كلِّ مُوَفَّقِ فاسلكْهُ في كلِّ المواطنِ واجتنِبْ ... كِبْرَ الأَبيِّ وذلَّةَ المتملّق ولقد جلبتُ من البضائع خيرَها ... لأجلِّ مختارٍ وأكرمِ مُتَّقِ ورجوتُ خَفْضَ العيشِ تحت رِوَاقه ... لابدَّ إنْ نَفَقَتْ وإِنْ لم تنفق ظَنّاً شبيهاً باليقين ولم أَخَلْ ... أنّ الزمانَ بما سقاني مُشْرِقي ولعائبي بالحرصِ قولٌ بَيِّنٌ ... لو كنتُ شِمْتُ سحابَهُ لم يَطْرُق ما ارتدْتُ إلاّ خيرَ مُرْتادٍ ولم ... أَصِلِ الرجاءَ بحَبْل غير الأوثق وإذا أَبى الرزقَ القضاءُ على امرىءٍ ... لم تُغْنِ فيه حيلةُ المسترزق ولَعَمْر عاديةِ الخطوبِ وإِنْ رَمَتْ ... شَمْلي بسَهْمِ تشتُّتٍ وتفرُّقِ لأُقارِعَنَّ الدهرَ دونَ مروءَتي ... وحُرِمْتُ عِزَّ النصرِ إنْ لم أَصْدُقِ وله في سفرته هذه وقد قوي يأسه من بلوغ أمله ونيل بغيته وعزم على الصدر عن الفسطاط إلى مستقره، يحض على الزهادة، ويحرض على القناعة، ويذم الضراعة، ويتأسف على إذالة خده، وإراقة ماء وجهه: لَهْفي لملك قناعةٍ لو أَنَّني ... مُتِّعْتُ فيه بعِزَّةِ المُتَمَلِّكِ ولكنزِ يأسٍ كنتُ قد أحرزتُهُ ... لو لم تَعِثْ فيه الخطوبُ وتفتكِ آليتُ أَجعلُ ماءَ وجهي بعده ... كدمٍ يُهِلُّ به الحجيجُ بمَنْسِكِ وأَخٍ من الصبر الجميل قَطَعْتُه ... في طاعةِ الأَمَلِ الذي لم يُدْرَكِ يا قاتلَ الله الضرورةَ حالةً ... أيَّ المسالكِ بالفتى لم تَسْلُكِ كم باتَ مشكوٌّ إليه تَحَيَّفَتْ ... حَلَقاتِهِ قَرْعاً براحةِ مُمْسِك وفَمٍ على قدَمٍ رَمَتْ ونواظرٍ ... كُحِلَتْ محاجرُها بموطىءِ سُنْبُكِ ومسربلٍ بالصبر والتقوى دَعَتْ ... فأجابها في مَعْرِضِ المُتَنَسِّك ظلَّتْ تُصَرِّفُهُ كتصريف العَصا ... رأَسَ البعيرِ لِمَبْرَكٍ عن مَبْرَك لا أَنشأَتْنِي الحادثاتُ لمثلها ... ورَمُيِتُ قبل وقوعها بالمهلك وله في رئيس كان يكلفه زيارته ويقعد عن ذلك تعاظماً وتكبراً: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 748 أَكْرَرْتَ نَفْسَكَ أن تسعى مُصَادفةً ... وَسُمْتنيهِ لَقَدْ كلَّفْتَني شطَطا لا تكذبنّ فما كُنَّا لنوجبَ مِنْ ... حَقٍ وأنت تراهُ عنكَ قد سَقَطا لو بعتكَ النفسَ بيعاً كنتَ تملكها ... به عليَّ لكان العدلُ مُشْتَرَطَا فهل سبيلٌ إلى أن لا تواصِلَنِي ... ولا تُكَلِّفَ مثلي هذه الخططا عسى صحيفةُ ما بيني وبينك أَنْ ... تُطْوَى وما ضُمِّنَتْ غيرَ الذي فَرَطَا وله في صدر رسالة: أتى كتابُكَ عن شَحْطٍ فآنسنِي ... بما تَضَمَّنَ أُنْسَ العَيْنِ بالوَسَنِ قرأتُهُ فجرتْ في كل جارحةٍ ... مني معانيه جَرْيَ الماءِ في الغُصُن فما أقولُ بعثتَ الرَّوْحَ فيه إلى ... قلبي، ولكن بَعَثْتَ الرُّوحَ في بدني وله في شدة أصابته: يا مستجيبَ دعاءِ المستجيرِ به ... ويا مُفَرِّجَ ليلِ الكُرْبَةِ الداجي قد أُرْتِجَتْ دوننا الأبوابُ وامتنعتْ ... وجَلَّ بابُكَ عن مَنْعٍ وإِرْتَاج نخافُ عَدْلَك أَن يجري القضاءُ به ... ونرتجيك فكنْ للخائف الراجي وله يا نفسُ صبراً واحتساباً إنها ... غمراتُ أَيام تمرُّ وتنجلِي في الله هُلْكُكِ إِنْ هَلَكْتِ حميدةً ... وعليه أَجْرُكِ فاصْبِرِي وتَوَكَّلي لا تَيْأَسِي من رَوْح ربِّكِ واحْذَري ... أَنء تستقرِّي بالقنوط فَتُخْذَلي ولو توجد له في الغزل إلا أبيات يسيرة منها: وفَتُوكِ سِحْرِ المقلتين يصولُ مِنْ ... لَحَظاتِهِنَّ على القلوب بِمُرْهَفِ حَيَّيْتُ نَدْماني بوردةِ خَدِّهِ ... ورشفتُ من فيه مُجَاجَة قَرْقَف ونزعتُ عنه ما تَعَلَّقَ ثوبُهُ ... مني هناك سوى تُقىً وتعفُّف وملام عاذلةٍ قد ابتكرتْ به ... سَحَراً إِلى سَجْعِ الحَمامِ الهُتَّف يا هذه أسرفتِ في عَذْلِي وما ... لعزيمتي عن وجهها من مَصْرَف فخذي إليك اللومَ عني إِنَّ لي ... نبأً سيُعْرَفُ بعد هذا الموقف لأَصافِحَنَّ يدَ الخطوبِ برحلةٍ ... تَجْلُو دُجُنَّتَها بِغُرَّةِ يوسف ثم طالعت ديوان ابن النضر بمصر فجبيت هذه الدرر من أصدافه، وجنيت هذه الثمر من قطافه، واجتليت هذه الغرر من ألطافه، فمن ذلك قوله من قصيدة: كتبتُ عن شَمْلِ أُنْسٍ غيرِ ملتئمٍ ... حتى اللقاءِ وشَعْبٍ غيرِ مُنْشَعِبِ وإِنَّ للبين كفّاً غيرَ وانيةٍ ... تظلُّ تَجْمَع بي جمعاً وتقذفُ بي ومنها: لو أَنَّ أنملةَ المقدار تكتبُهُ ... في صفحة الدهر لم يَبْلُغْ مدى أَرَبي وقوله من أخرى في الزهد: النفسُ أَكرمُ موضعاً ... من أَنْ تُدَنّسَ بالذنوبِ ما لذةُ الدنيا لها ... ثمناً وإنْ مُزِجَتْ بطيبِ فاسبقْ إلى إعداد زا ... دِكَ هَجْمَةَ الأَجَل القريب والقَ الإله على التُّقَى ... والخوفِ مَزْرُورَ الجيوب وقوله من أخرى في ذم الغربة: أرى غُرْبَة الإنسان أُخْتَ وفاته ... ولو نالَ فيها مُنْتَهى طلباتهِ فلا يشتري الدنيا ببلدته امرؤٌ ... فليس عزيزاً في سوى عَرَصَاتهِ ومنها في ذم الأناة ومدح بعض الطيش: نَدِمتُ على أني ثَبَتُّ وربما ... جَنَى ندماً للمرءِ بعضُ ثَبَاتهِ يُزَيِّنُ أَفعالَ الفتى بعضُ طيشه ... ويُزْرِي بفعلِ المرءِ بعضُ أَناتهِ وقوله من قصيدة في المدح: أَكرِمْ به بَدْرَ تِمٍ جاءَ تكنفه ... شُهْبُ الأَسِنَّةِ في سُحْبٍ من الرهَج تُعْمِي بَوارِقُها الأبصارَ لامعةً ... كما يُصِمُّ تَوَالي رَعْدِها الهَزِجِ مُشمِّرُ الذيلِ يُبْدِي عن نصيحته ... مُواشكاً يَصِلُ الرَّوْحاتِ بالدَّلَج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 749 إذا الجُنُوبُ تمطَّتْ في مضاجِعِها ... لهجعةٍ باتَ في سَرْجٍ على ثَبَج يُسايرُ النجمَ في دعجاءَ مظلمةٍ ... حتى يُمَزِّقَ ثَوْبَ الليلِ بالبَلَجِ في جحفلٍ مُعْلَمِ الأَكنافِ ذي زَجَلٍ ... شَبِّهْ به الليلَ أوْ شَبِّهْهُ باللُّجَج من كل أَصيدَ نَظَّارٍ إلى يده ... متى أشارَ بأن لِجْ حَوْمَةً يَلِج تَقِي الرماحُ وهيجَ الشمس أوْجُهَهُمْ ... فإنْ دجا الليلُ أَغْنَتْهُمْ عن السُّرُج كأنّ أَيديهمُ بالبيض سائلةً ... عن الجماجم بالأَقباس والخُلُج آلَى وحرَّجَ بَرّاً في أَلِيَّتِهِ ... وفي الأَلِيَّةِ ما يُغْني عن الحَرَجِ ألاَّ يؤوبَ برُمحٍ غيرِ مُخْتَضِبٍ ... من الدماءِ، وسيفٍ غيرِ مُنْضَرِج فويلُ مُرْتَضِعٍ دَرَّ النفاقِ إذنْ ... من ناظرٍ بسيوفِ الهند مُخْتَلِج ومنها: هو الذي يُبْرِىءُ الهاماتِ صارمُهُ ... في الرَّوْعِ من نَزَواتِ الكِبْرِ والهَوَج فليعتدلْ كلُّ رأسٍ مائلٍ صَعَراً ... من قبلِ عضِّ ثقافِ المَيْلِ والعَوج وقوله: خَلَّفْتُ خلفي للحوادث صبيةً ... بمحلِّ لا عمٍ لهنَّ ولا أَخِ يَعْلَقْنَ منه بحبلِ رحمةِ راحمٍ ... أو يعتصمنَ بظلِّ نخوة مُنْتَخ ولقد وَجِدت لهنَّ إِذ وَدَّعْنَني ... وَجْدَ القطاةِ بدامياتِ الأَفْرُخ وقوله: ملك يُحلِّي بالدمِ الأسيافَ إنْ ... حَلَّى الملوكُ جُفونَها بالعسجدِ وإذا تشكَّى من حَفاً فَرَسٌ له ... لم يُحْذَ غيرَ تَرِيبِ مَلْكٍ أَصْيَد وقوله في الزهد: جهادُ النفس مُفْتَرَضٌ فَخُذْها ... بآدابِ القناعةِ والزَّهادَهْ فإنْ جَنَحْتَ لذلك واستجابتْ ... وخالفَتِ الهوَى فهُوَ الإِرادَهْ وإن جَمَحَتْ بها الشهواتُ فاكبحْ ... شكيمتها بمِقْمَعَةِ العبادَهْ عساكَ تُحِلّها دَرَجَ المعالي ... وترفعها إلى رُتَبِ السعادَهْ وقوله: إِنْ تَنْأَ بي عَنْكَ أقدارٌ مُفرِّقَةٌ ... فإنّ لي فيكَ آمالاً وأوْطارا وإنْ أَسِرْ عن بلادٍ أَنْتَ قاطِنُها ... فالقلبُ فيها مقيمٌ بعد ما سارا وقوله من مرثية الرشيد إبراهيم بن الزبير: يا مُزْنُ ذا جَدَثُ الرشيدِ فقِفْ معي ... نَسْفَحْ بساحته مَزَادَ الأَدْمُع وامسحْ بأردانِ الصَّبا أركانَهُ ... كي لا يُلِمَّ به شحوبُ البَلْقَع فبودِّ نفسي لو سَقَيْتُ ترابه ... دمَ مهجتي، ووقيتُهُ بالأَضْلع ومنها يخاطب القبر: عَلِقَتْ عليكَ مَراحِمٌ كفلَتْ لمن ... واريت جملته ببَرْدِ المضجع وتنفَّستْ فيك الصَّبا مفتوقةً ... بنسيمِ مسكِ رياضِها المتضوّع ومنها: أو ما عجبتَ لطَوْدِ عزٍ باذخٍ ... مُسْتَوْدَعٍ في ذي الثلاث الأَذْرع ولخَدِّ من وَطِىءَ الكواكب راقياً ... كيف ارتَضى من بَعْدِها باليَرْمَعِ ومنها: ولقد قفتُ على ربوعِكِ شاكياً ... وبها الذي بي من أَسىً وتوجُّعِ فحمدتُ طرفي كيف أَرْشَدَني بها ... وذممتُ قلبي كيف لم يَتَقَطَّع وذكرتُ مُزدَحَمَ الوفودِ ببابها ... في كلِّ حينِ وِفادةٍ أو مَطْمَع وقوله: يا عيشُ إنْ لم تَطِبْ فلا تَطُلِ ... ويا حياةُ اهْجُري ولا تَصِلي كَمْ وإلى كم نَفْسي مُقَسَّمةٌ ... بين حُلولٍ وبين مُحْتَمَل لا حالَ لي تحمل المقامَ ولا ... استطاعةٌ تستغلُّ بالرَّحَل يَصْرِفُني اليأْسُ ثم تَعْطِفُني ... عواطفٌ من كواذب الأمل وقوله: لسانُ شُكْرِي حَسِيرٌ في يَدَيْ كَرَمِكْ ... وباعُ فِكْري قصيرٌ عن دُنا هِمَمِكْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 750 ما اهتزَّ غُصْنِيَ إِلاَّ في رُباكَ ولَمْ ... تَنْبُتْ قناتِيَ إِلاّ في ثَرَى نِعَمِكْ ومنها: أَنَا ابْنُ نِعْمَتِكَ المشكورِ مَوْقِعُها ... وعَبْدُ طاعتك المشهورُ في خِدَمِكْ وقوله، وقد أزعج من وطن كان يألفه: يا دارُ ما أنت لي داراً ولا وطنَا ... ولا قَطينُك لي أَهلاً ولا سَكَنا لئن تنكرتِ لي عما عهدتُ لقدْ ... خَرَّبْتُ فيكِ الذي عَمَّرْتُهُ زمنَا أَتشتكين لبَيْنٍ حُمَّ عن بَلَدٍ ... نَفْسِي تَرَى الذي في أنْ تَسْكُنَ البَدَنا وقوله من قصيدة: فأرْماحهُمْ مثلُ العرائس ما تني ... مخضبةً أطرافُها بالدم القاني ومنها: ولم ينثنوا حتى غدا الماءُ وهو مِنْ ... دماءِ عِدَاهُمْ لا يَحِلُّ لظمآنِ ومن الشعراء الذين ذكرهم أبو الصلت في رسالته: أبو الحسن علي بن البرقي من أهل قوص كانت بينه وبين ابن النضر صداقة، يقول: رماني الدهر منهُ بكلِّ سهمٍ ... وفاجأني ببَيْنٍ بعد بَيْنِ وأَلَّفَ في فؤادي كلَّ حُزْنٍ ... وفَرَّقَ بَيْنَ أَحْبابي وبَيْنِي ففي قلبي حَرَارَةُ كلِّ قَلْبٍ ... وفي عيني مدامعُ كلّ عيْنِ وله من أبيات: ولي سَنَةٌ لم أَدْرِ ما سِنَةُ الكَرَى ... كأنَّ جُفوني مِسْمَعِي والكَرَى عَذْلُ ومنهم: أبو محمد عبد الله بن الطباخ الكاتب له يهجو رجلاً: قَصُرَتْ أَخادِعُهُ وغَاضَ قَذَالُهُ ... فكأَنَّهُ مُتَوَقِّعٌ أَنْ يُصْفَعَا وكأنَّه قد ذاقَ أَوَّلَ دِرَّةٍ ... وأَحَسَّ ثانيةً لها فتَجَمْعَا وأورد له غير أبي الصلت قوله: أَطِلْ مُدَّةَ الهجرانِ ما شئت وارفضِ ... فما صدُّك المُضْنِي الحَشا صَدُّ مُبْغِضِ وإِلا فما للقلبِ أَنى ذَكَرْتُكُمْ ... ينازِعُنِي شوقاً إِليكم ويَقْتَضِي ولولا شهاداتُ الجوانحِ بالذي ... علمتمْ لما عَرَّضْتُ نَفْسِي لِمَعْرَض ومنها: وكم سائلٍ معْ كلِّ هذا عن القِلَى ... وعَنْ صبرِكمْ عَنِّي فقلت كذا قُضِي فيا مُبْعدي بالظنِّ والظنُّ كاسمه ... سلِ الناسَ عن مَشْهور خُلْقِي وارْتَضِ أَيَحْسُنُ أَنْ تُرْوِي سِوَايَ حِياضُكُمْ ... وأُحْرَمَ منها جُرْعَةَ المُتَرَرِّضِ أَخِلْتُمْ بأني قد تبدلتُ بعدكم ... هممتُ وشاورتُ الفؤاد فما رَضِي فإن قلتَ إِني اعتضتُ أرضاً بغيرها ... صدقتَ ولكنْ منكَ لمْ أَتَعَوَّضِ هذا عكس قول الآخر: تلقى بكل بلاد إِنْ حللتَ بها ... أهلاً بأهلٍ وجيراناً بجيران أَقِلْ واصطنعْ واصفحْ ولِنْ واغتفرْ وجُدْ ... ونِلْ وتفضلْ واحبُ وانْعِمْ وعَرِّضِ ولا تُحْوِجَنِّي للشفيعِ فما أَرى ... به ولو انَّ العمر في الهجر ينقضي فما أحدٌ في الأرض غيرَك نافعي ... وأَنت كما تهوى مُصِحِّي ومُمْرِضي ومالكَ مِثْلي والحظوظُ عجيبةٌ ... ولكنَّ منْ يُكْثِرْ على المرءِ يُدْحَضِ ومنهم من يقول وهو: محمود بن ناصر الإسكندراني كاتب ابن حديدٍ، في طبيب أعلم مشوه الخلقة: صديقنا المستطبُّ نادرةٌ ... قد أَخَذَتْ منه أعين الناسِ أنيابُ غولٍ ومِشْفَرَا جملٍ ... ورأسُ بَغْل وذقنُ نِسناس ومنهم من يقول وهو: مروان بن عثمان اللكي تمكَّنَ مني السقمُ حتى كأنَّني ... تَوَهُّمُ مَعْنىً في خَفِيِّ سُؤَالِ ولو سامحتْ عيناهُ عينيَّ في الكرى ... لأَشْكَلَ من طيفِ الخيال خيالي سَمَحْتُ بروحي وهيَ عِنْدِي عزيزةٌ ... وجُدْتُ بدمعي وهو عِنْدِي غالِي وقد خفتُ أَنْ تَقْضِي عليَّ منيَّتي ... ولم أَقْضِ أَوطاري بيومِ وصال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 751 وأَهْوَنَ ما أَلقى من الوجدِ أَنَّه ... صدودُ دلال، لا صدودُ مَلاَلِ هذا من قول العباس بن الأحنف: لو كنتِ عاتبةً لسَكَّنَ لوعتي ... أَملي رضاكِ وزرتُ غيرَ مُراقبِ لكن صددتِ فلم تَكُنْ لِي حيلةٌ ... صدُّ المَلول خلافُ صدِّ العاتب ولمروان: ما بالُ قلبك يستكينُ ... أَبِهِ غرامٌ أمْ جنونُ بَرِحَ الخفاءُ بما يُجِنُّ ... فَأَذْهَبَ الشكَّ اليقين حتى متى بينَ الجوا ... نحِ والضلوعِ هوىً دفين وإلى متى قلبي المتيّمُ ... في يدِ البَلْوَى رَهين يا ماطِلي بديونِ قلبي ... آنَ أنْ تُقْضَى الديون شَخَصَتْ له فيك العيو ... ن وقُسِّمَتْ فيكَ الظنون وسلبتَ أَلْبابَ الوَرَى ... بلواحظٍ فيها فُتُونُ وقَوامِ أَغصانِ الرّيا ... ض وأين تدركُكَ الغصون الحسنُ في الأغصان فنٌّ ... وهْو في هذا فنونُ من أين للأغصان ذا ... ك الغُنْجُ والسِّحْرُ المبين أَمْ ذلك الوَرْدُ الجَنِيُّ ... بخدِّه واليَاسَمِين ومنهم من يقول وهو: أبو إسحاق إبراهيم بن شعيب إذا حلَّ محمودٌ بأرضٍ فإنه ... يُفَجِّر فيها من ندى كَفِّهِ عَيْنَا فتنبت نَوْراً مشبهاً لِهبَاتِهِ ... ترى ورقاً بعضاً وبعضاً تَرَى عَيْنَا وقد مضى ذكره. وأنشدني الفقيه أبو الفتح نصر بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن علي بن الحسين الفزاري الإسكندري قال: أنشدني إبراهيم بن شعيب لنفسه، وأورده أبو الصلت في رسالته: يا ذا الذي يُنْفِقُ أموالَهُ ... في حبِّ هذا الأَسمرِ الفائقِ ما الذهبُ الصامتُ مستنكَراً ... ذهابُهُ في الذهبِ الناطق وذكره الرشيد بن الزبير في كتابه، وقال: كان غريب الفكاهة، حلو الدعابة، ينقاد أبداً بزمام الخلاعة والمجون، ويرى أن باذل النفس في اللذة غير مغبون، ويشهد بذلك قوله في البيتين السابقين. وحكى بعض خلطائه أنه جمعه وإياه مجلس أنس في منظرةٍ مطلةٍ على النيل وقد منطقت جدرانها بالماء، وكللت شرفاتها بنجوم السماء، فلما أخذت منه حميا العقار، وعملت فيه نغم الأوتار، هفا به جناح الطرب، إلى أن وثب، منشداً: هذا مقامُ مُذْهَبُ ... لكلِّ همٍ مُذْهِبُ يجلُّ عن وصفِ الورى ... فاغتنموهُ واشرَبوا ثم رمى بنفسه في النيل فاستنقذ منه بعد جهد جهيد. ومنهم: الناجي المصري أورده أبو الصلت في رسالته؛ له في حمام: حَمَّامنا هذا أشدُّ ضرورةً ... ممن يحلُّ بهِ إلى حَمَّام تبيضُّ أبدَانُ الوَرَى في غيره ... ويُعِيرُها هذا ثيابَ سُخَام قد كنتُ من سامٍ فحين دخلتُهُ ... لشقاءِ جَدِّي رَدَّني من حام وأورد الرشيد بن الزبير للناجي في كتاب الجنان في هجو الأفضل: قُل لابن بدرٍ مقالَ من صَدَقَهْ ... لا تفرحنْ بالوزارةِ الخَلَقَهْ إن كنتَ قد نِلْتَها مُرَاغَمَةً ... فهي على الكلب بعدكمْ صَدَقَهْ وأمر الأفضل بنفيه إلى واح، فأقام بها عند المُقَرَّب بن ماضي يمدحه، ويأخذ جوائزه، ثم هجاه بقوله: ما عَلَمُ الدولةِ إلاّ امرؤٌ ... لا يعرفُ الشكرَ ولا الحمدا لو دخلَ الحمامَ من لُؤْمهِ ... في الصيف لم يَعْرَقْ ولم يَنْدَا فعرف ذلك ونذر دمه، فهرب منه إلى أن ضاقت به سعة الفضاء، ورده إليه حكم القضاء، فقبل اعتذاره، وأقال عثاره، وأجازه بألف دينار، على أن لا يجاوره في دار. وله في الرشيد بن الزبير: جارَى أبو الحسنِ الرشيدُ لداتهِ ... فأَتى على الأَعقاب وهو إِمام منها: رَحَلَتْ ركابُكَ فاكفهرَّ الخَلْفُ من ... غَمَّائه واستبشَرَ القُدَّامُ والأَرْضُ تَحْظَى بالرجالِ وإنما ... نَعماؤها وشقاؤُها أقْسَام وله باليمن في الأمير مفضل بن أبي البركات الحميري: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 752 أنا بالعسكر المصونِ مقيمٌ ... عند مَلْكٍ سامي الخلائقِ نَدْبِ من على يَسْرَتي خِزانةُ خمرٍ ... وعلى يَمْنَتِي خِزانةُ كُتب فإذا ما طربتُ أَعملتُ كأسي ... وإذا ما صحوتُ أَعمَلْتُ قلبي وله في أمير باليمن: أقولُ لركبٍ وقد عَرَّسُوا ... بتَفْرِسَ لا سُقِيَتْ تَفْرِسُ كأنّ براحةِ سلطانها ... لشدّةِ ما انقبضتْ نِقْرِسُ وله فيه وفي فرسه: في رأس تاليةٍ وفي سريافِ ... ذَقْنان محتاجانِ للنَّتَّافِ أَوسعتَ جهدَ بشاشةٍ وقِرىً لنا ... يا مُكْرِمَ الأضياف بالأوْصافِ ويقال إنه لما بلغه هجاؤه قال: لأبذلن في رأسه وزنه، فقال: لو بذل لي من زنة رأسي وزن أذني استراح من هجائي وربح مدحي. جماعة من شعراء مصر أوردهم ابن جبر الشاعر يحيى بن حسن في ذكر مدائح بني أبي أسامة في سنة خمس وعشرين وخمسمائة فمنهم: عبد الله بن إسماعيل الحسيني الزيدي له من أبيات: فلأَشكُرَنَّكَ ما حييتُ مبالغاً ... شُكْرَ الرياضِ مواقعَ الأَنداء لا زلتَ في الرُّتَب الشريفة خالداً ... تعلو على النُّظَراءِ والأَكْفَاء ومنهم: البديع بن علي وهو دمشقي، وله: شوقي إليك شديدٌ ... مَعْ قُرْبِ عهدي بقُرْبِكْ يا ليتَ شُكْرِي وبِشْرِي ... كانا بمقدارِ حُبِّكْ ومنها: فإن تأخرتُ فالقلبُ ... مستقرٌّ بشِعْبِكْ خاب امرؤٌ أَطْعَمَتْهُ ... في الفضل نفسٌ بغَلْبِكْ وله في رمد الممدوح: نَقْدُكَ للناسِ والزمانِ معاً ... بناظرِ الفضل مُوجِبُ الرَّمَدِ كيف اهتدى عاثرُ القَذَى لفتىً ... بالسوءِ لم يلتفتْ إِلى أَحَدِ وله من أَجْلِ حُبِّكِ يا أُمَامَهْ ... ضَرَبَ الهوَى حَوْلي خِيامَهْ وحياةِ طَرْفك ما سلوْ ... تُ فإنها نعم القَسَامَهْ نادمتُ وصلكِ بُرْهَةً ... فهل انقضى لك من نَدَامَهْ ونثرتُ عقدَ تجلُّدٍ ... أَرجو بطلعتك انتظامَهْ أَتْلَفْتِ صبري فاجْعَلي ... من وَرْدِ خَدَّيْك الغَرَامَهْ كَدَّرْتِ إنعامَ الوصا ... لِ فضاعف الهجرُ انتقامهْ توقيعُ وصلك ليس يخرُجُ ... عن مماطلةِ العلامَهْ هيهات لا كشفتْ ظَلو ... مُ بحالِ مشتاقٍ ظُلاَمه ومنها: لا تتهمْ نَجْداً فما ... جلب الهوى إلاَّ تِهامَهْ لي والغرامُ وديعةٌ ... في ورد خدِّ الشامِ شامَهْ والدنُّ ملتثمي إذا ... حَدَرَتْ يَدُ الساقي لثامَه في روضةٍ نَدِّيَّةٍ ... كمآثِرَاتِ أَبي أُسَامَه إنْ عنَّ جيشُ تأَلمٍ ... ضمنتْ أياديه انهزامه أو لاح موكبُ رحمةٍ ... لِصَنيعةٍ قَوَّى اعتزامه كالمُشْتَرِي لكن لذ ... لِكَ رَجْعَةٌ ولِذَا استقامَه وعن الأَذِيَّةِ كالجبا ... نِ وفي عِنَايَتهِ شَهَامَه أقلامُهُ لم تُبْقِ مِنْ ... أَظْفارِ حادثةٍ قُلاَمه قالوا تَشَكَّى جسمُهُ ... من جَمْرِ خاطره ضِرَامَه كانت غَمامةَ وعكةٍ ... فتقشعتْ تلكَ الغمامهْ ولباسُهُ حُلَلُ العوا ... في طَرْزُها رُقُمُ السَّلاَمَه ومنهم: سالم بن مفرج بن أبي حصينة له من قصيدة: ومرحِّبٍ بالقاصدين ... يلين عِطْفاً حين يُقْصَدْ مُصْغٍ لأصواتِ العُفَا ... ةِ كأنها نغماتُ مَعْبَدْ أَمضى من السيفِ المُهَنَّد ... عزمةً في كلِّ مَشْهد ومنها: قسماً بأنَّكَ لم تَزَلْ ... روحَ الزمانِ إذا تَجَسَّد وله خذ ما صفا من فرحٍ ... واسْتَجْلِ وَجْهَ القدحِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 753 واسعَ إلى نيلِ المُنَى ... بِغُبَقٍ وصُبَح وعاجِلَنْها مُلَحاً ... فإنها كاللُّمَحِ ما سمحَ الدهرُ بها ... واصبرْ إذا لم يسمحِ فالعيشُ في مُدامةٍ ... تجمعُ شَمْلَ الفَرَح كالشمسِ لوناً وهي ... كالْمِسْكِ إذا لم تَفُح ومنهم: حسن بن عبد الباقي الكاتب ويعرف ب ابن أبي المواهب له من كلمة: تطاولَ أَمْرِيَ حتى رَجَعْتُ ... بخُفِّ حُنَيْنٍ من الخَيْبَةِ فإنْ أنت أَوْلَيْتَني نعمةً ... فأنتَ تُرَقِّعُ في رُقْعَتي وله نَطَقَتْ بفضلك أَلْسُنُ الأَقلامِ ... وجرَت بمدحك أَبْحُرُ الأَفهامِ وسمت بعلياكَ المعالي فاغتدتْ ... نقصانُها يَعْلو على بَهْرَام ومنهم: هبة الله بن عبد الغافر بن الصواف له من قصيدة: فيا ليتنا لما بُلِينَا بسُخطِكُمْ ... كَشَفْتمْ لنا قبل العُقوبة ذَنْبَنَا ومنها في المدح: كريمٌ رأَى الدنيا تزولُ وأَهْلَها ... فأَيقَنَ أنّ الحمد أَحْمَدُ ما اقْتَنَى فكنْ واثقاً يا مَنْ أَتاهُ مُؤَمِّلاً ... فقد وَصَلَتْ يمناكَ منه إلى المُنَى ومنهم: محسن بن إسماعيل له: أَسَيِّدنا ما زالَ فِعْلُكَ مَذْهباً ... وعن مَذْهَبِ الإِحسانِ غيرُكَ عادِلُ لئن فَعَلَ الناسُ الجميلَ تَكَلُّفاً ... فإِنكَ للمعروفِ بالطبعِ فاعلُ ومنهم: إبراهيم بن النمنام له: للمجد ما تُبْدِيه أَوْ تُخْفِيه ... ولنورِ وَجْهِ الله ما تُسْدِيه أَنت الذي شَرُفَ الزمانُ بفَخْرِه ... وغدا يجرُّ به ذيولَ التيه لا كثرةُ القصَّادِ تُضْجِرُ مَجْدَهُ ... يوماً ولا لَوْمُ الورى يَثْنِيه اللهُ يكفي المجدَ في أَفْعَالِهِ ... الحُسْنَى، وَيكْفينا المكارِهَ فيه يابنَ الذينَ تَسَرْبَلُوا بفضائلٍ ... طَهُرَتْ ملابِسُها من التمويه أَوْلَيْتَني ما لا أَقومُ بشُكْرِهِ ... ومَن القويمُ بشكرِ ما تُوليهِ ومنهم: محمد بن سلامة الكاتب له: إن اصطبارَ المحبِّ من أَدَبِهْ ... وإِنَّ كتمانَهُ لَمِنْ أَرَبِهْ أَقْلَقَهُ الوجدُ واسْتَرَأحَ إِلَى ... الدمعِ فأَعْيَاهُ فَيْضُ مُنْسَكِبِهْ واشتعل الشوقُ بينَ أَضْلُعِهِ ... وَعِيلَ صبراً فضاقَ مِنْهُ وَبِهْ ورُبَّ أَلْمى أَغَنَّ أَحْوَرَ لَمْ ... يُلْمِمْ بهجراننا على عجبه كالرُّمْحِ في القدِّ والمهنَّدِ في ... الحظ وكالأقحوانِ في شَنَبه وخمرةٍ عاتقٍ توارثها الرهبانُ ... عَمَّنْ تُعَدُّ مِنْ حِقَبه تُشْرَبُ في رَوْضِ جَنَّةٍ أُنُفٍ ... يَخْلَعُ فيها المدامُ عن حَبَبه قد لَثَمَ الطَّلُّ منه مَسْفَرَهُ ... إِذ أَسْفَرَ الغيمُ لَثْمَ مُنْتَقِبه ثم تَثَنَّتْ أَغصانُ ناظرِهِ ... تيهاً وغنَّى الحمامُ من طَرَبه وابتسَمَتْ أَرْضُهُ مضاحكةَ الشمس ... فخلْنَا الشعاع من لَهبِهْ كأنه أخضرُ الديابجِ مَوْ ... شِيّاً بأَعلى الْخِلاصِ من ذهبه مُرِنُّهُ هاطلٌ تُسَايِرُهُ ... ريح جنوبٍ تَلُمُّ مِنْ سُحُبِهْ ودامَ فيه حياً أَهَبَّ به ... ريحُ حياةٍ تُثْنِي على سَرَبه فضاع نشراً كالمسكِ خالطه ... الفِهْرُ وأثنى كلٌّ على جَلَبِهْ أَوْ فضُّ جَدْوَى أبي محمدٍ ... النَّدْبِ ختامَ الثناءِ عن نَسَبه ومنهم: محمد بن أبي البيان له: تملَّ بما به أصبحتَ أَعْلى ... من القمرين منزلةً ونُبْلا فقد حُزْتَ الكمالَ وسُدْتَ أهلَ ... الجلالِ وُفقْتَ أَهْلَ الفضلِ فَضْلا ومنهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 754 حسن بن محمد البابلي مالي أُذَادُ عن الورودِ وأُبْعَدُ ... والخَلْقُ يَصْدُرُ عن بحارٍ تُورَدُ يا دهرُ إِني قد عَلِقْتُ بماجدٍ ... سَمْحٍ يجيبُ لمن دعاه ويُنْجِدُ أَتظنُّ أَنِّي من صُروفكَ جازعٌ ... وأبو مُحَمَّدَ في البريةِ يُوجَد ومنهم عامر بن محمد القيسراني تأَنَّ ولا تَعْجَلْ أَعِلْمٌ وَصَبْوَةٌ ... بمقدودِ قَدٍ فاترِ الطرفِ ساحرِ له صورةٌ صِيغَتْ من الذَّهَبِ الذي ... يُؤَلِّفُ أَشتاتَ العقول النوافرِ ومنهم سعيد بن يحيى الكاتب عَبْدُكَ النظَّامُ قَدْ ... أَصْبَحَ لا يَمْلِكُ شَيَّا غيرَ ثوبٍ وقميصٍ ... قد كواه الدهرُ كَيَّا إِبَرُ الرفَّاءِ فيه ... أَبداً تَقْدَحُ هَيَّا كلما سُدِّدَ نَجْمٌ ... طَلَعَتْ فيه الثريَّا ليس لي ثوبٌ سِواه ... قَدْ طَوَاهُ الفَقْرُ طَيَّا ومنهم جعفر بن غنائم ما لي وأنت مُؤَمَّلِي ... دونَ البرية لا أُراعَى وبكَ استجرتُ وأَنْتَ أَعْلَى ... الخلق طَوْلاً واتِّسَاعَا ومنهم سليمان بن حسن الناسخ الفيومي له أول قطعة: خذ حديثي يا مَنْ به يَتَحَلَّى ... كلُّ عِقْدٍ في كلِّ حَلٍ وعَقْدِ وله في تقاضي كتاب أعاره: قد وربِّ الكتابِ يا أَكرمَ النا ... سِ جميعاً، أَتْعَبْتَ ربَّ الكتابِ وتمادَى تردادُهُ وتقاضيه ... وما يَشْتَكي منَ الأَوْصَاب فتفضلْ وامْنُنْ ونَفِّسْ خِنَاقِي ... واعْفِني من تَكَاثُرِ الطُلاَّبِ ومنهم موسى بن علي الشاعر الإسكندراني، أظنه السخاوي إنَّني بَدَا لي ... في الهوى بَدَا لي مذ جَفَتْ وصالي ... طلعةُ الهلال أَسْأَرْتَ بقَلْبٍ ... فيه حَلَّ قلبي صاح بَدْرُ حبي ... في وصال حبي قد سلبتِ لُبِّي ... فأنا أُلبِّي رَبَّةُ الحِجِالِ ... لم تدع حِجَى لي أسَرَتْ جَنَاني ... رَبَّةُ الْحَنَانِ خَدُّها دَهَاني ... فَهْوَ كالدِّهَانِ عاذِلَيْ دَعَاني ... جيدُهَا دَعَاني فأَبادَ حالي ... عاطِلاً وحالي لم يُحِطْ بِعَادِ ... ما جَنَى بِعَادِي ها أنا أُنَادي ... نَحْوَ كلِّ نادي مَنْ مُجيرُ صَادِ ... مؤمنٍ بصادِ سُل بالنصال ... للهوانِ صالِ ومنهم علي بن إسماعيل عنَّ من الآرامِ ... ظَبْيٌ بلَحْظِ رَامِ يَرْشُقُ بالسهام ... قلباً لمستهامِ حَيَّا بلا كلام ... بِنَكْأَةِ الكَلامِ باللَّدْنِ والصمصام ... في الطَّرْف والقوام والنظر المُدَام ... كل فؤاد دام بادرَ باهتمام ... كالبَدْرِ ذي التَّمام عدة من شعراء العصر بمصر أوردهم ابن بشرون المهدوي وهو عثمان بن عبد الرحيم بن عبد الرزاق ابن جعفر بن بشرون بن شبيب الأزدي المهدوي في كتابه الموسوم بالمختار في النظم والنثر لأفاضل أهل العصر. وقد صنف هذا الكتاب في عصرنا الأقرب، في سنة إحدى وستين وخمسمائة. محمد بن وهب المصري قال: أنشدت له في الفراق: ولما تنادَوْا بالرحيلِ رأيتُنِي ... أُكَفْكِفُ دَمْعَ العينِ من كلِّ جانبِ وأسأَلُ ربي أَن تُزَمَّ ركابُهُم ... عن السير حتى أَشْتَفِي بحبائبي فلم تكُ إلا ساعةً سارَ ركبهمْ ... وسار فؤادي بَيْنَ تِلْكَ الركائب فلم أَرَ يومَ البينِ أَعْظَمَ حَسْرَةً ... ولَلْبَيْنُ عندي من كبار المصائب هبة الله بن محمد التنيسي الوراق قال أنشدت له في الخمر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 755 قم هاتِها حمراءَ في كاسها ... كأنها شعلةُ مِقْبَاسِ من كفِّ ظبيٍ غَنِجٍ لَحْظُهُ ... تصبو إليه أَعْيُنُ الناسِ فواصلِ الشُّرْبَ ضُحىً أو مِساً ... دَأْباً فما بالشرب منْ باسِ إبراهيم بن إسماعيل الدمياطي النجار قال: أنشدت له في الغزل: يا هذه رِقِّي على صَبٍ دَنِفْ ... صَيَّرَهُ الهجرُ إلى حدِّ التَّلَفْ رِقِّي عليه وَصِلِي حِبَالَهُ ... فإِنَّهُ عن حُبِّكُمْ لا يَنْصَرِفْ أحمد بن محمد الماذرائي له: يا حبيبَ القلوبِ عطفاً فإِني ... بهواكمْ على لظىً أَتَقَلَّى إِنْ وَصَلْتُمْ وَصَلْتُمُ مستهاماً ... عن هواكمْ وحبِّكم ما تَخَلَّى هُوَ عَبْدُ الهوَى وليس بباغٍ ... عِتْقَهُ في هوىً ولو ماتَ قَتْلا طلائع الآمري سمعت أنه كان قريباً من الأفضل حسن المحضر، وأورد له ابن بشرون في كتابه: وقال أناسٌ إنَّ في الحبِّ ذلَّةً ... تُنَقِّصُ من قدر الفتى وتُخَفِّضُ فقلتُ صدقتمْ غيرَ أَنَّ أخا الهوى ... لذلِّ الهوى مُسْتَعْذِبٌ ليس يُبْغِضُ عبد الحميد بن حُميد الإسكندراني له في النحول والغزل: هواك كَسَا جسمي ثياباً من الضَّنَا ... فأصبحتُ فيها كالخيال لمبصري فلولا كلامي ما تبيَّنَ موضعي ... لضعفٍ بَرَاني بَرْيَ نَبْعٍ مُكَسَّر فَصِلْ أَوْ فَقَاطِعْ لستُ أَجفوك عندها ... ولو متُّ من شوقٍ وفرطِ تَذَكُّر فأعذبُ ما أَلقى الهوَى وأَلَذُّهُ ... إذا جارَ محبوبي، وَقَلَّ تصبُّري الأمير أبو الثريا قال: مجاوباً لأبي الصلت أمية عن كتاب، يشتمل على لوم وعتاب: أبا الصلتِ يا قُطْبَ المكارم والفضلِ ... وأَفْضَلَ من يُنْمَى إلى كَرَم الأَصْل ومن حاز أسبابَ الرياساتِ بالعُلاَ ... وبالجودِ، والفعل الجميل، وبالنُّبْلِ وأَصْبَحَ في كلّ العلوم مُبَرِّزاً ... يسابقُ فيها كلَّ مُجْرٍ على رِسْل ويقول فيها: ولستُ بمَنَّانٍ لدى السُّخْطِ والرّضَا ... بما أَنا مُسْدِيهِ من النائلِ الجَزْلِ ولا حاملاً حقداً على ذي حَفيظةٍ ... ولو أَنَّ ما يأْتِيهِ في ضِمْنِهِ قَتْلي ومنها: ألا ارْجِعْ إِلى الفضلِ الذي أَنْتَ أَهْلُهُ ... وخذ بيدي عفواً وإن زلَّ بي نَعْلِي وله بين نَسْرِينٍ ولبلابٍ وآسِ ... سَبِّنِي الخمرَ بكاسٍ وبطاسِ إِنَّ شُرْبَ الخمرِ للأحزانِ آسِ ... فاغْنَ بالعيش فثوب العيش كاس وله يا رسولَ الحبيب بالله قلْ لي ... أَرأَيْتَ الحبيب يُعْنَى بذِكْرِي فلقد شَفَّني وأَسْهَرَ طَرْفِي ... منه هَجْرٌ أصابني منذ شَهْرِ كيف لي بالبعادِ والجسمُ بالٍ ... وفؤادي مُقَلَّبٌ بين جَمْرِ وله أيضاً في جواب أبي الصَّلْت من قصيدة: قد أَتَتْنِي منه حديقةُ مدحٍ ... فاحَ من عَرْفِهَا فتيقُ الخزَامى وقفَ السحر عندها ليس يدري ... أين يمضي يمانِياً أم شآما كليب بن قاسم الدمياطي له في الفخر بقول الشعر، وقد ختمه بالهجر، الذي هو أولى بالهجر: وإنيَ في الشعرِ الذي أنا قائل ... كمثلِ امرىءِ القيسِ الذي هو يَشْعُرُ فإن كنتَ في شكٍ من الأَمْرِ فابْلُنِي ... لِتُخْبَرَ مِنِّي بالذي ليس يُخْبَرُ وإن أَنْتَ لم تقنعْ بذلك كلِّهِ ... فذقُنكَ في استِ الكلبِ والكلبُ أَبْتَرُ سالم بن ظافر الإفريقي ذكر له مجوناً فاحشاً، لوجه الأدب خادشاً، فلم أر له إثباتاً، وهو: أراه يظاهرني جاهداً ... بغمزٍ ولًَمْزٍ مع الاجتنابِ ولا ذنبَ غير ... له ... وتَمْعيك وجهته في الترابِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 756 وفيم التَّجَنِّي على من جَرَى ... على وَفْقِهِ في جميعِ المحابِّ خالد بن سنان الإسكندراني له يذم مدينة يافا بساحل الشام، قبل استيلاء الفرنج الطغام: مُقَامي بين أَظْهُرِ أَهْلِ يافا ... مُقَامُ غَضَنْفَرٍ بين الكلابِ تَصَوَّرُ أنه يعدو عليها ... فتنبَحُه وتُسْرِعُ بالذهاب ولو علموا بأني ذو لسانٍ ... يغادرُ عرضَهُمْ خَلقَ الإهابِ المظفر بن ماجد المصري له: تَعَبِي راحتي وأُنْسِي انْفِرادِي ... وشِفَائي الضَّنَا ونَوْمِي سُهادي لستُ أَشْكُو بعادَ من صدَّ عني ... أَيُّ بُعْدٍ وَقَدْ ثَوَى في فؤادي هو يختالُ بين جَفْني وعيني ... وهْوَ ذاك الذي يُرَى في السواد جماعة التقطتهم من الأفواه وهم عزيز والأمثال والأشباه العيني من أهل مصر أنشدني له القاضي الأجل الفاضل، ونحن بظاهر حماة مخيمون في خدمة الملك الناصر، حادي عشر رمضان سنة سبعين، وذكر أنه كان في زماننا الأقرب: رحلوا فلولا أنني ... أَرجو الإياب قضيت نَحْبِي والله ما فارقتهمْ ... لكنني فارقتُ قلبي ووجدت هذين البيتين في رسالة أبي الصلت منسوبين إلى ظافر الحداد، وأنشد له أيضاً: هذا كتابي إليكمْ لستُ أُودِعُهُ ... إِلاَّ السلامَ وما في ذاك تلبيسُ لأن شوقي إليكمْ حين أَذْكُرُهُ ... نارٌ وما تُودَعُ النارَ القراطيسُ وذكره نجم الدين بن مصال وقال: كان من الأكياس معدوداً من الأجناد مذكوراً بالباس، مطبوع الشعر رائقه، موافق النظم لائقه، توفي سنة ست وأربعين، وأنشدني له: ما أَنْصَفَتْ أَيامُنَا بيننا ... وما لها معذورةٌ عندنا مجتهدٌ خاب بها سَعْيُهُ ... وعَاجِزٌ أَدْركَ فيها المُنَى كذا الليالي لم يَزَلْ يشتكي ... صروفها مَنْ قَدْ مَضَى قبلنا أبو الزهر نائت الضرير ذكره المرهف بن أسامة بن منقذ، قال: اجتمعت به بمصر سنة أربعين وخمسمائة، وأنشدني لنفسه من قصيدة: لو كنتُ أَمْلِكُ صَبْري يومَ ذي سَلَمِ ... لما نزلتُ على حكم الهَوَى بدمي تبسمَ الروضُ عما أنت مبتسمٌ ... فكنتَ أحسنَ منه غيرَ مُبْتَسمِ ومنها في المدح: وكان الممدوح قد وقعت ضربة في أنفه في بعض الحروب، فجدعته: لا صوحبتْ ببنانٍ راحةٌ جَدَعَتْ ... أَنْفَ الزمانِ وجَذَّتْ مَارِنَ الكرمِ ودلَّ ما ناله في الحرب من قُبُلٍ ... بأنه كانَ فيها غيرَ مُنْهَزِم قيل لي: كان يحفظ نائت الضرير كتاب سيبويه جميعه، وكان هجاءً، ومن شعره في الهجاء قوله: ونائبٍ هو في ذا الدهر نائبةٌ ... وأَقرعٍ هو عندي من قوارِعِهِ قفاهُ يشهدُ وهو العَدْلُ أَنَّ يدي ... لا توقعُ الصفعَ إلاَّ في مواضعه يحيى بن علم الملك المعروف ب ابن النحاس المصري وصل مع الملك الناصر صلاح الدين إلى الشام في خدمة تقي الدين، وله شعر. وجدت له قطعة كتبها إليه في أواخر سنة إحدى وسبعين: يا مالكَ المصرِ والشامين واليمنِ ... ويا مُعيدَ حياةِ الفَرْضِ والسَنَنِ وناصرَ الحقِّ إذ عَزَّتْ خواذِلُهُ ... ومنقذَ الدين والدنيا من الفِتَنِ يا يوسفَ الحُسنِ والإحسانِ لا بَرِحَتْ ... نجومُ سَعْدِكَ والتوفيقِ في قَرَنِ جادَ الملوكُ بمالٍ بَعْدَ مَنِّهِم ... وجُدْتَ بالمال والأرزاقِ والمنن لقد بُعِثْتَ لإصلاح الوجودِ فما ... أَصبحتَ إلا مَحَلَّ الروح في البدن وما يداجيكَ إلا كافرٌ أَشِرٌ ... وينثني عنك إلا عابدُ الوَثَنِ ببابِ عدلك مظلومُ القوى زَمِنٌ ... يشكو إليك الأَذَى من عبدك الزَّمَنِ وإن تلافَتْهُ من بعد التَّلافِ يَدٌ ... بَسَطْتَهَا لتقيِّ الينِ بالمِنَنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 757 فلا عناءَ له إذْ كان صاحِبُهُ ... إليك مفتقراً عن جودِك الهَتِنِ مُجَرَّبٌ في الوفا مملوكُ دولتكمْ ... وحسنُ سيرته في السر والعَلَنِ هُنِّئْتَ بالفِطْر والفَتْح المبين وما ... أتى من اليُمْنِ والبُشْرَى من اليَمَن مُقَدَّمَ الملك المولى المعظَّمِ قد ... سرى السرور إلى الأفهامِ والفِطن علَّمْتَ قَوْمَكَ تفريقَ الممالكِ في ال ... عبيدِ حتى غَدَتْ من جُمْلَةِ المُؤَنِ فقد أَتاكَ وَمِنْ أَدْنى سماحتِهِ ... تخويلُ خادمِهِ مُلْكَ ابنِ ذي يزَن لا زلت في ذروةِ العلياءِ منفرداً ... بالنصر ما غَرَّدَ القُمْرِيُّ في فَننِ وذكر أنه لما تولى شاور مصر، وأخذ جماعةً من آل رزيك، وحبسهم في بيت، دخل عليه ابن النحاس، وأنشده من قصيدة، يعرض فيها بآل رزيك، حسام وبدر وقصة: نزلت القَرْقَرُونَ فَفَرَّ قومٌ ... ملكت عليهمُ بالبعدِ مصرا حَسَمْتَ بعَضْبِكَ الماضي حُسَاماً ... فولَّى خاسئاً وَبَدَرْتَ بَدْرَا وقصَّ جناحَ قصةَ منك حَزْمٌ ... يَطيرُ لبأسه شرَراً وجَمْرَا همُ أَسروا كمالَ الدين صبحاً ... فها هم في يديه اليوم أَسْرَى فإن جاءُوكَ واعتذروا بعذرٍ ... فلا تقبلْ من الطاغين عُذْرا قال أحد المحبوسين لابنه: ما الذي تسمع، فقال: واحدٌ يرقق قلب السلطان علينا. ومن شعره في طي بن شاور من قصيدة أولها: غَرَّدَ الطيرُ حين لاحَ الصباحُ ... وطَرِبْنَا فدارتِ الأَقداحُ ومنها: يا ابْنَ مَنْ خَلَّصَ الخلائقَ من ظُلْمٍ ... وعَسْفٍ وفكَّهُمْ فاستراحوا وغَزَا في ديارهم آلَ رُزِّيكٍ ... فلم يُغْنِ جمعُهمْ والسلاح أين وردٌ وبائسٌ وحُسَامٌ ... رأَوُا الذلَّ قد أحاط فراحوا فرَّ بَدْرٌ في البحر خوفاً وَوَلَّى ... قل له لا أهتدي بكَ الملاَّح أبو المظفر بن أحمد المصري الرفدلي ذكره الفقيه عيسى بن محمد بن محمد، الحجازي المولد، الدندري الدار. وفد إلى الملك الناصر بالشام لاستماحته واجتداء جنى الإنعام في سنة إحدى وسبعين وقال: هذا شابٌ بمصر من زقاق القناديل، وهو ذو أدبٍ وتحصيل، وله شعر. وأنشدني له بعض المتصرفين في الديوان بمصر: وقالوا الأميرُ أبو طاهرٍ ... يلوطُ جهاراً ولكنَّهُ يحبُّ الغلامَ إذا ما التحى ... وهذا دليلٌ على أَنَّهُ شلعلع هو أبو الفضل جعفر بن المفضل ابن زيد بن خلف بن محمد بن أبي حامد بن العباس القرشي من أهل عصرنا هذا، ويلقب بالمهذب وهو شيخ أثط. وله يهجو ابن الدباغ: تعالتْ قرونُ ابن الدِّباغِ فأصبحتْ ... تجلُّ عن التحديد في اللفظ والمعنى على بعضها ناجى النبيُّ إلهَهُ ... وقد كان منه قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدنى ووصل إلي بالقاهرة وقد خصني بقصيدة أولها: نظيرُكَ معدومٌ وراجيه مُخْفِقُ ... فلا تُلزمَّنا رَوْمَ ما ليس يُخْلَقُ لك المالُ والجاهُ اللذان هُدَاهما ... يُوافِقُ رُحْمَى من إليه يُوَفَّقُ متى سُئِلا سالا على الخلقِ أَنْعُماً ... لها سُحُبٌ بالمكرمات تَدَفَّقُ يُبِلُّ بها من قاتِلِ العُدْمِ مُدْنفٌ ... وينجو بها من زاخرِ الهمِّ مُغْرَقُ ويضحى أسيرُ الفقر فوزاً بمنها ... يُجَرِّرُ أَذيالَ الغنى وهو مُطْلَق فهل ليَ مما أَسْأَرَ الفضلُ فضلةٌ ... يُرَمِّقُ نفسي بَرْدُهَا حين يُرْمَق ويرجعُ لي غصنُ المنى بعد ما ذَوَى ... وجفَّ ثراه وهو فينانُ مُورِق فيا طَوْدَ عِزٍ مَدَّ شاملَ ظِلِّهِ ... على كل ضاحٍ بالحوادث يُحْرِقُ ويا من دعاه الدينُ حقّاً عمادَهُ ... موافقَ دعوى مَنْ برُحْمَاهُ يَعْلَق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 758 مِن اليوم لا أَخْشَى من الخَطْبِ طارقاً ... وبابُكَ منّي بالأَمَانيِّ يُطْرَق وإن يسيراً من يسارٍ لَمُقْنِعي ... إذا لم يَكُنْ إنفاقيَ الحمدَ يَنْفُقُ وما سُدَّ بابُ العُرْفِ دونَ مَطَالبي ... ولكنْ بك المعروفُ أَحْرَى وأَلْيق ثم أهدى لي من شعره قطعة فاثبت منها ما اتفق وسلكت في العقد منها ما اتسق، فمن ذلك قوله في مدح الملك الناصر صلاح الدين من قصيدة: عَدَاكَ إلى أَعدائك الذُّلُّ والقَهْرُ ... ولا زال مخصوصاً بك العزُّ والنصرُ وَدُمْتَ صلاحَ الدين للدين مُصْلِحاً ... يُطيعكَ في تصريفِ أَحوالِهِ الدهرُ وأبقاكَ للإِسلام من شاءَ كَوْنَهُ ... ببقياك في أمرٍ يُجَنَّبُهُ الذُّعْرُ مُفِيضاً على المُلْكِ الأغرِّ ملابساً ... من النصر حاكت نَسْجَه القَصَبُ الْخُضْرُ ومنها: أَفَضْتَ به الإِحسانَ والبِرَّ فانْثَنى ... نِهَاراً فلاقى خِصْبَهُ السَّهْلُ والوَعْرُ ومهَّدْتَها بالعدلِ والأَمن فاغتدى ... بها آمناً في سِرْبِهِ البرُّ والبحر فما هي إلاّ جنةٌ أنت خُلْدُها ... ورضوانُها والروضُ والكوثر الغَمْرُ وقوله من قصيدة في الملك عز الدين فرخشاه: جادَ بالوصْلِ بعد منعِ الخيالِ ... وأَنَالَ الوِداد بعد المَلال ومنها: وأَباحت حِمَى اللَّمَى مقلتاهُ ... صادياً صُدَّ عن شهيِّ الزُّلالِ وكَسَا بالقَبُولِ سُودَ الليالي ... وَجْهُ إقباله بياضَ اللآلي قمرٌ في هواه قامَرَ قلبي ... بهُدُوِّي فاعتاضَ نار الخَبال ورأى حُبُّهُ عليَّ حراماً ... كلَّ حال من السلوِّ حلال نَمْ هنيئاً يا ساهرَ الليل واقصرْ ... أَمَدَ الفكر في الليالي الطوالِ واجنِ ما أَثْمَرَتْهُ عاقبةُ الصَّبْرِ ... على الهجر من جِنانِ الوصال ومنها في المدح: جلَّ مدحُ الأَجلِّ عن كلِّ وَصْفٍ ... بمقالٍ يَحُدُّهُ أَو فَعالِ وتَغالى الورى فقال تعالى ... عن شبيهٍ في عصره أَوْ مثالِ مَلِكٌ يتقى عليه إذا ما ... قابَلْتَهُ العيونُ عينُ الكمال عَلَتِ المعتلين غُرُّ سجايا ... هُ فأضحت معالياً للمعالي وسما مجدهُ على كلِّ مجدٍ ... فأَعارَ الجَلالَ وَصْفَ الجلال أين من جوده حَيَا السحبِ أَمْ مِنْ ... بأْسِهِ المُتَّقى سُطَا الرئْبالِ همَّةٌ شأْوُهَا قَصِيٌّ وعزمٌ ... عضبُهُ المُنْتَضَى حديثُ الصِّقَال وعطايا تُرْبى على التُرْبِ في العَدِّ ... وتُزْرِي بالعارضِ الهَطَّال جُيِّشَتْ بالمديح منه وسارتْ ... من عبيرِ الثناءِ في قسطال تَتَّقِي زحفَها النجومُ ويَنْحَطُّ ... لها عن مَحلِّهِ كلُّ عالِ فترى قبلَ موقف البعثِ يوماً ... فيه دكُّ الرُّبَى وبسُّ الجبال ومقام العفاة بين دعاءٍ ... ونداءٍ، ورغبةٍ، وابتهال وقوله من تهنئة بمولود: إن أَخَّرَ العبدَ عُذْرٌ عن فريضته ... من الهناءِ فلم يَسْطِعْ يُؤَدِّيها فقد تفوتُ صلاةُ الوقت مجتهداً ... ويقبلُ اللهُ منه حين يَقْضيها فاهنأْ به قادماً عَمَّتْ مَسَرَّتُهُ ... وخُصَّ من فَضْلِ مُوَاليها ومنها: إنْ كان يَفْرَحُ بالمولودِ ذُو وَلَدٍ ... للفضلِ جادَ بجدواه لراجيها فلَلْمُفَضَّلُ أحْرَى أنْ يُسَرَّ بمَنْ ... يُرْجَى لأنْ يهبَ الدنيا وما فيها وقوله: شكرتُكَ غيرَ مُلْتمِسٍ مزيداً ... من النُّعْمَى تزيدُ على مزيدكْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 759 ولو لم أَلْقَ منه سوى التلِّقي ... ببشرك ذاك كانَ أَسَرَّ جودكْ ولا شيءٌ أَمِنْت على زماني ... به إِلاّ انتظامي في عَبيدك فيا كهفَ الوَرَى لقد اتَّقاني ... زماني إِذ رآني في وُفودِك وصالَحَني على دَخَلٍ وَمَكْرٍ ... مخافةَ أنْ أُضِفْتُ إلى جنودك وإن أَصْمتْ عن الشكوى فحالي ... إِليكَ عليَّ من أوكى شهودك خضوعُ الفقر في عزِّ التعازي ... وحالٌ لا يسرُّ سوى صدودك وقوله في نجم الدين بن مصال، وقد حجب عنه: حجبوكَ يا نجمَ الهدى فأَضَلَّنا ... ذاك الحجابُ وحارَ فيك القاصدُ والنجمُ يَهدي ما بَدا فإذا اختفى ... عَمِيَ البصيرُ له وأَكْدَى الرائدُ فتجلَّ للأَبصارِ تَجْلُ من العمى ... واقرُبْ ليَقْرُبَ نورُها المتباعد وقوله: إذا رَضِيَتْ بالدونِ نفسي ولم تصلْ ... إِليه فعيشٌ أن تموتَ بدائها وما قنعت بالنزرِ حِرْصاً على الغِنى ... كَفَاها من المطلوبِ فضْلُ غَنَائها ولو أُعْطِيَتْ بعضَ الذي تستحقُّه ... لقلَّتْ لها الدنيا وطولُ بقائها وقوله في هميان: حُمِلْتُ على ضعفي ودقَّتِيَ التي ... بباب المنى يا للتناصف والظلم! إِذا لِجَمالٍ جُلْتُ في خَصْرِ أَهْيَفٍ ... توهمتُ أَنِّي قد تعلقتُ بالوهم وقوله: طلبْنا القليل لتسهيلهِ ... فمُنُّوا علينا بتعجيلهِ فلا تمطلوا بالنَّدَى شاعراً ... رآكم نهايةَ مأْمولهِ فما كلُّ يومٍ لكم مادحٌ ... تَقِلُّ الكرائمُ عن سُولهِ وقوله، وقد بعث إليه بشيء، فأخذه الرسول: أتانا نصفُ دينارٍ سماعاً ... تهَّمْمَنا له في نِصْفِ شُكْرِ وهذا مُمْسَكٌ لوصولِ هذا ... فتوصلَ مثلَهُ قدراً بقدر ولو زدتمْ على الإحسانِ زِدْنا ... وأَحْسَنَّا لواحدةٍ بِعَشْر وقد قُبِلَ القليلُ وليْتَ أَنَّا ... تعجلناهُ من كَرَمٍ وَوَفْر ولو أَدَّى الأمانةَ حاملوها ... لأَغْنَوْا عن معاتبةٍ وَعُذْرِ وأنتمْ ضامنون لما أَضَعْتُمْ ... كَذلِكُمُ شريطةُ كل بِرِّ وقوله: بنفسي التي مَنَّتْ فمنَّتْ بزورةٍ ... تُحَجِّبُ نَوْمِي وَهْيَ تحتَ حجابِ أُنَقِّبُ عنها بين كل خَرِيدَةٍ ... وأَرْقُبُهَا في كل ذات نقابِ أُعَلِّلُ قلبي من سَنَاها بموعدٍ ... يُمثَّلُ بَرْقاً في خلال سحاب كما أَطْمع الصادي وقد عَزَّ ماؤهُ ... لُمُوعُ سرابٍ في الفَلا بشرابِ وقوله: ماذا حواهُ الشامُ من شاعرٍ ... تُجْنَى إِليه ثمراتُ العراقْ وشاعرٌ في مِصرَ لم يستطعْ ... بينَ بَنيها مُضْغَةً من عُرَاقْ وقوله في الغزل: قَسَا قلباً عليَّ ورقَّ خدَّا ... وبالصدِّ المُبَرِّحِ كم تَصَدَّى وأَخْجَلَهُ العِتابُ فبرقَعَتْهُ ... إيَاةُ الحُسْنِ بالوَرْدِ المُنَدَّى غزالٌ كم غَزَا باللحظِ ليثاً ... فصيَّرَهُ له في البِيد نِدَّا أَوَدُّ إِذا تعرَّضت الأَماني ... لتَرْكي عشقه أنْ لا أَوَدَّا وقوله في غلام بخده جراحة: أوْمَى إِليَّ بصارمٍ من لحظهِ ... غَنِيَتْ ظُباه بمهجتي عن غِمْدِهِ فرأَى حراماً في الهوى قتلي به ... ومَحَأ بلين الوصل قسوةَ صدِّهِ فأَعادَهُ خَجِلاً فمرَّ بخدِّهِ ... عَجِلاً فأَثَّرَ ما تراهُ بخدّهِ وقوله في المعنى: وذي حَوَرٍ لاحَ منهُ أَثَرْ ... على الخدِّ مما جناهُ النظرْ أَثارَ به كَمَدَ العاشقين ... ونامَ عن الثَّارِ لما قَدَرْ فيا مَن رأى عجباً قبلا ... هلالاً بَدَا في مُحَيَّا القمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 760 وقوله من قصيدة في تاج الملوك أخي الملك الناصر: سلِّ عنك الهموم بالسلسالِ ... وارتشفْهَا من الرحيقِ الزُّلاَلِ قهوةٌ رقَّتِ الكؤوسُ وَرَاقَتْ ... فَجَلَتْ من زجاجها لَمْعَ آلِ من يَدَيْ شادنٍ يصولُ بلحظٍ ... يتقي حَدَّه سُطا الرئبالِ في رياضٍ كأنها جنةُ الخُلْدِ ... بَدَتْ في عيونها والظِّلال عند تاجِ الملوكِ بورى بنِ أَيُّو ... بَ ومن بَوَّرَتْ عُلاَه المعالي ومنها يصف مجلساً صوره: صُوَرٌ لو نَطَقْنَ قَلْنَ تَعَالَى ... مَجْدُ بُورِي عن مُشْبِةٍ أَوْ مِثَالِ ثَمِلاَتٌ وما انتشتْ بِعُقَارٍ ... مُطْرباتٌ وما شَدَتْ بِمَقَالِ وقوله: ما في الحشا لسواكمْ مَوْضِعٌ خالِ ... ولا لغيركمُ ذكرٌ على بَالي نظرتُ أَوْجُهَ آمالي فكانَ بها ... حسنُ اتجاهي إِلكم خيرَ أعمالي وكيف أَعدو بها منكمْ ذوي كرمٍ ... أَرْجُو بإِقبالهمْ في الخير إِقبالي هُمْ أَسلفوني بحسنِ الصبر عارفةً ... ما ساءَني زمني مُذْ حَسَّنَتْ حَالي وقوله من قطعة لزم فيها ما لا يلزم: أَجْلَلْتُ مجدكَ أَيَّما إِجْلالِ ... عن ظنِّ إخلادٍ إِلى إِخلالِ أو ريبةٍ في الودِّ تُخْرِجُ قاصداً ... من فَرْطِ إِدلال إلى إِذْلاَلِ وحسابِ تسويفٍ ومطلٍ عن غِنىً ... يُفْضي بإِمهال إلى إِهمال آليتُ أَبْرَحُ سائلاً لك نائلاً ... يُوسَى ببلِّ نداه بالي البالي حتى يراجعَ فيَّ عاطفةَ العُلاَ ... كرَمٌ يَزِينُ الفَضْلَ بالإفْضَال وأَرى بعودِ نداك عودي مُورِقاً ... ومُعَطَّل التأميلِ حالي حالي أَأَرومُ دونك من أَروحُ بمطلبٍ ... عما لديه على المُحال مُحالِ هَبْكَ استطعتَ زيادةً في رغبتي ... وأَطَعْتَ في مَقْتِي مقالَ القالي هل تستطيعُ إزالةً لهواك عَنْ ... قلبي وقد ضَمِنَ المُنَى لمَنَالِ ما مَنْ أَحبَّ بتاركٍ أَحْبَابَهُ ... لملالِ مَيْلٍ أو ملال مِطَالِ وقوله في الاقتضاء: لو أَمْهلَ الدهرُ أَمْهَلْنَا ذوي الكرمِ ... وكان عذرهُمُ المبسوطُ في العَدَمِ لكنْ وراءَ خُطَانا من حوادِثِهِ ... عَيْنٌ علينا إذا ما نامَ لم تَنَمِ فلا تظنوا بنا عما نرومُ غِنىً ... ولا تَمُرُّوا بنا في معرض التُّهَم ولا تخافوا ملاماً في تغافلكم ... عنا فلله فضلُ الرزق والقسَم ما مَنْهَجُ الخيرِ خافٍ عن مُيَمِّمِهِ ... لكنْ له مانعٌ من زَلَّةِ القدَم وله هذا الوداعُ الذي تراهُ ... فليت شعري متى التلاقي وَدَّعْتُهُمْ سُحْرَةً فساروا ... والنفسُ في كرْبةِ السياق وعدتُ لم أَدرِ أَين قلبي ... رافَقَني أَمْ مَعَ الرفاق ما عند من شَفَّنِي هواهُ ... بَعْضُ غرامي ولا اشتياقي سَلاَ وأَبْدَى لديَّ وَجْداً ... سُقْمِي به ما حييتُ باقِ فوا الذي بالنَّوَى رماني ... وشدَّ في حُبِّكُمْ وَثَاقي لا سلتِ النفسُ عن هواكمْ ... لو بَلَغَتْ رُوحِيَ التراقي حسين بن أبي زفر المتطبب الأنصاري ممن لقيته بمصر، له: يا مَنْ لهم نفسي تهو ... ن وقدرهمْ عندي يَجِلُّ حاشاكمُ أَنْ تَسْمَعُوا ... قولَ الوشاةِ وأَنْ تَمَلُّوا إِنْ كنتُ أَهلاً للذنو ... بِ فأَنْتُمُ للعَفْوِ أَهْلُ أَقسمتُ لا حلَّ السرو ... رُ بِرَبْعِنا حتى تَحُلُّوا وله رَقَصَتْ في كأْسها طَرَباً ... قهوةٌ تَدْعُو إلى الطَّرَبِ فأَرَتْ في الكأسِ شمسَ ضُحىً ... قُلِّدَتْ بالأَنْجُمِ الشُّهُبِ الجهجهان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 761 ذكره عضد الدين مرهف بن أسامة بن منقذ فقال: هو شاعر بمصر، وله في ابن بري النحوي: صَيَّرَ اللَّهُ ليلةَ الهجرِ وَجْهاً ... لابنِ بَرِّي وليلةَ الوصلِ قدَّا ذو حديثٍ يُطْفِي جهنَّمَ بَرْداً ... ومُحَيّاً كالقرد قُرْباً وبُعْدَا الشريف الوبر من أهل العصر، الموجودين بمصر، أنشدني ابن المقلع له: لا يُحْوِجَنِّي سوءُ ما قَدْ أَرَى ... أَقْصِدُ فيكمْ غيرَ منهاجي إِنْ لمْ أَقُلْ شعراً فإني امرؤٌ ... أَحْفَظُ ما قد قاله الهاجي رجل سنبسي من بدو مصر في هذا العصر، من نواحي البحيرة بالإسكندرية. حضرت عند القاضي الفاضل للهناء بالعيد، ونحن في المعسكر الملكي الناصري والمنصور السعيد مخيمون تحت حصن أبي قبيس على مقابلة عسكر الموصل منتظرون ما ينجزه الله لنا من موعد النصر المستقبل، فجرى حديث البدو في زماننا، وأنه قد فسدت ألسنتهم، وظهرت لكنتهم، وقلت فصاحتهم، حتى لا يسمح منهم خاطر، ولا يسمع شاعر ماهر، فقال القاضي الفاضل: تنتقض هذه القاعدة برجل سنبسي من أهل البحيرة، سمعت له بيتين لو نسبا إلى مجنون بني عامر لحصلت العقول منهما بالحيرة، ولم يحضر الحضر فيهما بغير الغيرة، وهما: أَقولُ لحرَّاثَيْ بُرَاقٍ تَنَحَّيا ... عن الدار لا يَخْفَى عليَّ رُسُومُها أَيا دارَ مَنْ لو تُشْتَرَى منه نظرةٌ ... شرينا وغالينا على من يَسوُمُها وسألته عن اسمه فما عرفه، لكنه أثنى عليه ووصفه. اللبيب واصف الملك أبو الحسن علي بن الحسين ابن الدباغ المصري كان من أهل عصرنا، مولده بالإسكندرية مضى إلى اليمن، فركب البحر فانكسر لوحٌ من المركب تحته، فوقع، فتعلق الحبل في عنقه، فمات في البحر عتيقاً لا غريقاً. ومن سائر شعره. يا ربِّ إنْ قَدَّرْتَهُ لِمُقَبِّلٍ ... غيري، فللأَقداحِ أو للأَكْؤُسِ وإذا قضيتَ لنا بعينِ مُرَاقِبٍ ... في السرِّ فَلْتَكُ من عيونِ النرجسِ وله من قصيدة: غرامي فيكَ والكَلَفُ ... كحسنكَ فوق ما أَصِفُ وحمل إلي الأسعد بن الخطير بن مماتي قصائد من شعر المذكور بخطه، في والده وجده، فمن ذلك قصيدة: مُسْتَفَاضٌ من معجزاتِ الشَّمُولِ ... أَنها تُظْهِرُ الضُّحَى في الأَصيلِ فأروني كيف المساءُ أسيرٌ ... والأَسَى في سلاسل السلسبيل أَيُّ مَعْنَى هُدىً ولفظِ ضلالٍ ... أن تريك الأُفُولَ غيرَ أُفُولِ ما نُوَاسِي أَبا نُوَاسٍ عليها ... بانتقالٍ أَحْلَى من التقبيل وَمُحَلَّى ريقٍ وغصنٍ وَريقٍ ... عاطلٍ من مشابهٍ وعُدُولِ في فؤادي من حبِّه نارُ فرعو ... نَ وفي وجنتيه نارُ الخليل ومنها: قد وصفنا وصفَ الرياض الزواهي ... خَدَّه والوشاحَ وصْفَ الطلول وأردنا وَصْفَ الخطير المُرَجَّى ... فَعَجَزْنَا له عن التمثيل ومنها: جعلَ اللهُ من يراضِعُهُ المَذْ ... قَ لأَيْدي الخطوبِ كالمنديل كَلِفٌ أَنْ يَرى جريرَ القوافي ... أبداً يَنْثَنِي جريرَ الذيول كاد أن ينعتَ التبسمُ منه ... مُلْتَقى المالِ واللُّهَا بالعويل ومُواليه بالمصونِ المُوَقَّى ... ومُعَادي عُلاَهُ بالمَبْذُولِ وله من قصيدة فيه: كم لكفَّيْكَ يا خطيرَ المعالي ... عند عافيكَ من خطيرِ نوالِ كلما فُصِّلَ المديحُ عليهِ ... صحَّ تفضيلُهُ على الإجمالِ وإِذا رامه الزمانُ بحرْفٍ ... نَصَرَتْهُ روائِدُ الإِقبال كنت تُوليهِ بالجبلّةِ والعا ... دةِ لولا مُحَرِّ من سؤال لستُ أَدري من السرور على ما ... صحَّ عندي من قدرك المتعالي أَنُهنِّي ليثَ الشَّرَى بعرينٍ ... أن نُهنِّي العرينَ بالرئْبَالِ وله في العذار: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 762 عَنَّ لي أَسْتَسِرُّ مِنْهُ عِذَاراً ... فتذكَّرْتُ أنَّهُ نَمّامُ أخوه النجيب العلم عبد الله بن حسين بن الدباغ له خاطرٌ حسن وفصاحةٌ ولسن، ونظم مستوٍ، لملعاني مستوف وللنكت محتوٍ، وجدت له قصائد بخطه أعارنيها الأسعد الخطير بن مماتي، فمن جملتها قصيدة أولها: في دمي لو عليه جَرَّدْتُ دَعْوَى ... كان في وجنتيه شاهدُ عَدْوَى قَمَرِيُّ الأَوْصَافِ إن لاحَ حُسْناً ... غُصُنِيُّ الأَعطافِ إن ماسَ زَهْراً رَشَإِيٌّ إذا رَنا طَرْفُهُ الفا ... ترُ دانتْ له الضراغم عَنْوَا مَنْ سِوَائي أَحْوَى لصبرٍ ولكنْ ... كيف صبري وقد تعشَّقْتُ أَحْوَى لائمي في الغرام دَعْنِي فحسبي ... شُغْلُ قلبٍ بمن غدا منه خِلْوَا ما أُبالي باللوم فيه وإن زِدْ ... تَ ملاماً في حبِّهِ زدتُ بلوى في هواه استعذبتُ مُرَّ عذابي ... فتعنِّيكَ فيَّ يَذْهَبُ لَغْوَا ولئن صرتُ فيه نِضْواً فما ... أَبْغِي لثوبِ النحول عنِّيَ نَضْوَا بأَبي من يزيدُ قسوةَ قَلْبٍ ... في الهوى كلما تزايدتُ شَكْوَا ليته عندما بَدَانيَ بالهجرانِ ... لو يجعلُ التَّواصل تِلْوا حبذا ذاك منه لو سمح الدهرُ ... وهيهات منه تقريبُ جَدْوَى ومنها في الحث على السفر والتخلص إلى الممدوح: فتجرَّعْ كأسَ التغرُّبِ مُرّاً ... تَسْتَسِغْ مَطْعَمَ المآرب حُلْوَا وانتجعْ منزلَ الأَماني خصيباً ... من نداه ومنهلَ الجود صَفْواً سنَّ آباؤه المكارمَ شَرْعاً ... فلهمْ في النَّدَى أحاديثُ تُرْوَى وعليهِ نَصُّوا فلا تَتَطَلَّبْ ... صِنْوَهُ في النَّدَى فتعْدَمَ صِنْوَا ومنها: أصبحتْ رتبةُ الرياسةِ لمَّا ... سُلِبَتْهُ تَحِنُّ شوقاً وشَجْوَا هيَ لولا رجاؤُها فيكَ كانت ... تتلاشى من الفراقِ وَتَضْوَى فإذا ما صَدَدْتَ عنها دلالاً ... فَتَعَطَّفْ فليس غيرك تَهْوَى ومنها: وتملَّت بالسيفِ منك مَضَاءً ... واستظلَّتْ في الحلم منك برَضْوَى ومنها في صفة الثغر: هُوَ لمّا حللتَهُ شرفاً ذو ... شُرُفَاتٍ لها مع النَّجم نَجْوَى مكتيسٍ منك بهجةً وابتهاجاً ... حَلَّيَاهُ مع المَسَرّةِ سَرْوَا إنما أنت غيثُ جودٍ إذا ... حلَّ بربْعٍ سقى ثراءً وأَرْوى فجميعُ الأَقطار لو مَلَكَتْ سَعْياً ... لجاءت إليك تُسْرعُ خَطْوَا فأَعِدْ منك للبلاد جميعاً ... نظراً عائداً كما كان بَدْوَا وَلِّ تدبيرَ أَمْرِها فلها جي ... دُ التفاتٍ إليك يُثْنَى ويُلْوَى وابقَ ما غَرَّدَ الحمائمُ شدواً ... وشدا سائقُ الركائب حَدْوَا وله من قصيدة: مُذْ ماسَ تيهاً في غلائلِهِ ... باءَ القتيلُ بذنبِ قاتلهِ غُصنٌ جَلَتْ بدراً أَزِرَّتُهُ ... فالتاجُ في أَعلى منازلهِ مُتكَحِّلٌ بالسحر قد فَعَلَتْ ... أَلحاظُهُ أَلْحاظَ بابلِهِ فمتى يَرَى في حبِّهِ دَنِفٌ ... وَجْهَ التخلُّصِ من بلابله مولاي هَبْ وَصْلاً لذي حُرَقٍ ... قد بُحَّ في عِصْيانِ عاذِلِه فتلافَ مَنْ بِتَلافِ مُهْجَتِهِ ... شَهِدَ المُحَقِّقُ من دلائلهِ ولِصَبْرِهِ إِنْ سامَ نُصْرَتَهُ ... في حبِّه تسويفُ خاذِلِه ولسرِّه بلسانِ صامته ... من دَمْعه لَهَواتُ قاتِلِه وله من قصيدة نظمها سنة ست وستين وخمسمائة يهنىء الخطير بن مماتي بالإسلام: أبى قلي سوى تَلَفِي وذُلِّي ... ويأْمُرُني العواذل بالتَّسَلِّي وبدرُ التمِّ فوقَ قضيبِ بانٍ ... تَثَنَّى مائساً في دِعْصِ رَمْلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 763 غزالٌ من ظباءِ الإِنسِ تَسْطُو ... بنا أَلحاظُه سَطَواتِ شِبْلِ رخيمُ الدلِّ معشوقُ التجنِّي ... كحيلٌ طَرْفُهُ من غَيْرِ كُحْلِ تقولُ بُروقُ مَبْسمِهِ إِذا ما ... لَمَعْنَ لِسُحْبِ مُقْلَتيَّ استَهِلِّي يَرَى فيما يَرَى وَصْلي حراماً ... عليه ويستحلُّ حرامَ قتلي عَدِمْتُ تَصَبُّرِي ويُقالَ لَوْقَدْ ... صَبَرْتَ عن الهوى فأقولُ مَنْ لي! إذا ملكَ الغرامُ قيادَ صبٍ ... ثناهُ لما يُمِرُّ له ويُحْلِي فقلْ لعواذلي مَهْلاً فقلبي ... له شُغْلٌ به عن كلِّ شغل وقل للدهرِ قَدْكَ منَ امتهاني ... فبالشيخِ الخطيرِ عَلِقْتُ حَبْلي فللإسلام منه مَحَلُّ فخرٍ ... يُزَيَّنُ مِنْ مفاخره بأهْل ومنها في المقطع: ون شيم الزمانِ بلا مِراءٍ ... عداوةُ كلِّ ذي شَرَفٍ وفَضْلِ وها أَنا قدْ ضَرَبْتُ خيامَ قَصْدِي ... إليك وقد حَطَطْتُ عَلَيْكَ رَحْلِي وله من قصيدة: إن كنتَ لم تَرَ حالي يوْمَ يُجِدُّ لهُ ... شوقاً برسمٍ خَلاَ من ربِّه الخالي لا تسألوا عن سُلُوِّي واسألوا حُرَقِي ... فإنَّها حالُ مَنْ ما حالَ عَنْ حال لولاكمُ ما عرفتُ الحُبَّ معرفةً ... دَلَّتْ غرامي على إنكارِ عُذَّالي لم يدرِ يومَ حَدَا الحادي بعيسِهمُ ... للبينِ أيَّ جَمَالٍ فوق أَجْمَالي وما دَرَى قمرٌ في الركبِ قد خَضَعَتْ ... له القلوبُ عليها أَنَّهُ والِ غُصْنٌ ولا عَطْفَ يُرْجَى مِنْ تَعَطُّفِهِ ... ظبيٌ لأَلحاظه أفعالُ رِئْبَالِ أُحِبُّ أَن أَقْتَضِيهِ وَصْلَهُ أبداً ... وإن غدا منه ذنبي عند مَطَّالِ أَمَا رأَى مِنَنَ الشيخِ الخطير وقَدْ ... سالت سحائبُها من غيرِ تَسْآل وله من قصيدة: دَارِ طَرْفِي ولو بنَظْرَةِ شَزْرٍ ... فعساهُ أن لا يبوحَ بسِرِّ فجفوني تظَلُّ من دَمْعِها الجا ... ري لما مَرَّ من حديثيَ تَمْرِي ناظرٌ ذلَّ في هواه فؤادي ... وانْثَنَى عنه بالوشاياتِ يَسْري فَبِهِ صِرْتُ مِنْ غرامي وَعُذَّا ... لِيَ وقفاً ما بين عُرْفٍ ونُكْر يا مريضَ الجفونِ والودِّ ما با ... لُكَ تُمْسِي صحيحَ بُعْدٍ وهَجْر إنْ يكنْ طالَ في هواكَ هَوَاني ... فلقد قامَ في عِذارك عُذْري ما أَظنُّ انكسارَ جَفْنِكَ قد بثَّ ... سَرَايا الفتورِ إِلاّ بكَسْري منها في المديح: غيرُ نَدْرٍ ما قد أتاهُ من الجُو ... دِ وإنْ كان قد أتى كلَّ نَدْرِ فلهُ في النَّدَى عناصرُ للعُنْصُرِ ... منها تُرْوَى مكارمُ عَصْرِ وله من قصيدة: هل ناظرٌ في الهوى لناظرْ ... أو حاجرٌ من سُطَا مَحاجِرْ أَمَا مُعِينٌ على عيونٍ ... حاكمُ أَلحاظِهنَّ جائِرْ يا ساحِرَيْ مقلتيه يَكْفي ... قَلْبِيَ أَنْ يُبْتَلَى بساحر أسْرَعْتُمَأ قِتْلَتِي بطرفٍ ... ساجٍ ضعيفِ الجفون فاتر فيا لها منهُ فاتناتٌ ... يطلُّ مكسورُهُنَّ كاسر فديتُ مَنْ مَا يَمُرُّ إلاَّ ... عُوِّضْتُ من عاذلٍ بعاذر مِنْ قدِّه في الغصونِ زاهٍ ... وخدِّهِ في الرياضِ زاهرْ ورَائقُ الحسنِ ناطقٌ عَنْ ... وقوعِ قلبٍ عليه طائر وشمسُ كأْسٍ عليَّ دارتْ ... في فَلَكٍ للسُّرورِ دائر ليسَ لمحسوسها وجودٌ ... إلاَّ على ناشقٍ وناظر تَدِقُّ في واضحٍ جَلِيٍّ ... خَفِيُّهُ للعقولِ ظاهرْ كأنَّها في اجتلائِها مِنْ ... بديعِ صفِ الخطيرِ خاطر النظام المصري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 764 جبرائيل بن ناصر بن المثنى السلمي لقيت بدمشق معلماً على باب جيرون، نافق السوق كثير الزبون، ثم عاد إلى مصر عند المملكة الصلاحية بها، ودارت رحى رجائه بالنجح على قطبها، وقصد اليمن عند افتتاح الملك المعظم شمس الدولة توران شاه لها، وكان وعده بألف دينار فقبضها منه وحصلها، ولم يزل بمصر مستقيم الحال، مثمر المال، آلفا صعود جده بالصعيد، عارفاً سعود حظه بالمزيد، إلى أن نسب إليه وإلى قوص أنه واطأ الخارجي بها في آخر سنة اثنتين وسبعين، فطلبه وصلبه، بعد ما سلبه، وذلك في المحرم سنة ثلاث وسبعين بقوص. ووقعت إلي من شعره قصيدةٌ بخطه نظمها في سيف الدين أخي صلاح الدين عند خروج الكنز بأسوان وقتله والفتك بالسودان، من جملتها: ومن ذا يطيقُ التركَ في الحربِ إِنَّهُمْ ... بَنُوها، وكلُّ الناسِ زورٌ وباطلُ حُمَاةٌ كُمَاةٌ كالضراغمِ، خَيْلُهُمْ ... مَعاقِلُهُمْ، والخيلُ نِعْمَ المعاقلُ منها في صفة الجيش: بجيشٍ يضيعُ الليلُ فيه إذا سَرَى ... وتُخْفي نجومَ الجوِّ منه القساطلُ إِذا ما خَبَتْ فيه المشاعلُ عاضَها ... من ايدي الجيادِ المُنْعَلاتِ مشاعل وتَطَّرِدُ الراياتُ فيه كأنّها ... أَفاعٍ إلى أوكارهنَّ جوافل فما لاحَ ضوءُ الصبحِ حتى تحكَّمَتْ ... لهم في أعاديهمْ قناً ومناصل كأنّ مُثارَ النقعِ وَبِيضهُمْ ... بُرُوقٌ تَلاَلاَ فيه، والدم وابلُ ومنها: لكمْ يا بني أيُّبَ في البأسِ والندى ... مذاهبُ، تُعْيِي غيرَكم، ومداخلُ أَلَنْتُمْ لنا الأيامَ من بَعْدِ قَسْوَةٍ ... وحَلَّيْتُمُها، وهْي قَبْلُ عواطلُ وقلَّدْتمونا البيضَ تُثْقِلُ بالحُلَى ... عواتِقَنا أغمادُها والحمائلُ ضَرَبْنا بها أعداءَكُم فجيادُنا ... لها من دماءِ المارقينَ خلاخل وله من أخرى فيه نقلتها من خطه: أمَا ملَّ مِنْ عَذَلي عاذلي ... فيطرحَ حَبْلي على كاهِلي لقد أَطْمَعَ النفسَ في سلوَةٍ ... يُخَيِّبُها طَمَعُ العاقل ومن غير هذا الهوَى إنَّني ... لأَعْشَقُ، من عِشْقِه، قاتِلي أُحِبُّ فأقتلُ نفسي فلا ... أَفوزُ من الحُبِّ بالطائلِ ولي كلَّ يومٍ وقوفٌ على ... حمىً وسلامٌ على راحل متى يسأم القلبُ من هجركم ... فيصغي إلى عَذَلِ العاذلِ ويبطلُ سِحْرُ الجفونِ التي ... بها يَعملُ السحرُ في بابل ويخلو فؤادُ امرىءٍ لم يَزَلْ ... من الوجدِ في شُغُلٍ شاغل متى ما وَجَدْتُ لكمْ وَحْشَةً ... تَعَلَّلْتُ بالشَّبَحِ الماثل ومنها: صِلُوا واعْطِفوا وارحَمُوا واحْسِنوا ... وجُودوا فلا خيرَ في باخِلِ فلستُ بتاركِ حقِّ الهوَى ... ولو أنَّني منه في باطل ولكن إذا مَضَّنى جَوْرُكم ... شكوتُ إلى الملك العادل مليكٌ مَشَى الناسُ في عَصْرِه ... من العَدْلِ في مَنْهَجٍ سابلِ ومنها: أَقامَ الجهاد على سُوقهِ ... وحربٍ كحرْبِ بني وائلِ ففي كلِّ يومٍ له جَحْفَلٌ ... يُغِيرُ على الشِّرْك بالساحل ومنها: فديناك يا مَنْ سَنَا وَجْهِهِ ... يفوقُ سَنَا القمرِ الكامِلِ وإنك أنفَعُ في عَصْرِنا ... من الغَيْثِ في البَلَدِ الماحل أَنَلْتَ الرعيةَ ما فاتَها ... من الشركِ في عَصْرِنا الزائل فأَضحَتْ من العدلِ في عامرٍ ... وأَمْسَت من الأَمْنِ في شامِل وأنشدت له في غلامٍ نحويٍ في دمشق: زاد بي شوقي فَبُحْتُ ... وجرى دَمعي فَنُحْتُ أَيها العاذل هل يَثْني ... لسانَ العَذْل صَمْتُ إِنَّ نَعْتَ البدرِ والشمسِ ... لِمَنْ أَهْوَاهُ نَعْتُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 765 قَمَرٌ في حَلْقَةِ النحوِ ... له مَرْعىً وَنَبْتُ كلَّما أَقْبلَ يختا ... لُ إلى الحلقة قُلْتُ: ليتنا ظَرْفَا مكانٍ ... أَنا فوقٌ وهْو تَحْتُ النجيب أبو المكارم هبة الله بن وزير بن مقلد المصري ذكر لي بمصر أنه من أهل الإجادة؛ له في غلام حاسب: قد جادَ ذهنك في الحسابِ فَجُدْ ... للمستهامِ بأَوَّلِ العَدَدِ وله من علاماتِ المحبِّ إذا ... عاينَ المحبوبَ يَرْتَعِدُ خيفةً من غيرِ ما سَببٍ ... غَيْر إظهارِ الذي يَجِدُ دهشةُ العشاقِ واضحةٌ ... لم يُطِقْ كتمانَها الجَلَدُ وله في محبوبٍ وقد رأى عليه كراً: انْظُرُوا من أَبي الحسينِ عجيباً ... فَمُحَيَّاهُ في دُجَى الشَّعْرِ صُبْحُ كَرَّ في الكُرِّ منه فارسُ حُسْنٍ ... لَحْظُهُ سيَيْفُه، وعِطْفَاه رُمْحُ وله في بعض عدول مصر يستكفه عن الشهادة عليه: بأَكِيدِ وُدِّكَ للأَلوفِ ... وبما حَوَيْتَ من الأُلوفِ وبرحبِ مَنزلكِ الذي ... أَضْحَى مَحَلاً للضيوفِ وبما حَوَى من عُظْم ظَرْ ... فِ المُذْهَبات من السقوف ورُخامِهِ الموصوفِ مِنْ ... أَهْلِ البلاغة بالرصوف وبحقِّ وَجْهَِ إِنَّهُ ... كالبدرِ وُقِّيَ من كُسُوف وبروضِ خُلْقٍ ثَمْرُهُ ... هِيَ دانياتٌ للقطوف وبحقِّ خاطرِك الذي ... يجري ويأْنَفُ من وقُوفِ وبحقِّ ما قد حُزْتَ في ... الْخَلَوَاتِ من أَجْرِ العُكُوف وبحقِّ تأديةِ الشها ... دةِ خوفَ إنكارِ العسوف وبحقِّ مَدْحِكَ إِنَّهُ ... كالدرِّ يُدْخَرُ للشُّنوف وبمركبٍ لك جيِّدٍ ... لا بالحَرُونِ ولا القَطُوفِ وبحقِّ روسٍ فوقها ... تَمْشِي على رغْمِ الأُنُوفِ وبما حَوَيْتَ من الحُنُوِّ ... عليَّ من قلبٍ رَءُوفِ يا نجلَ يحيى المُكْتسِي ... بالمدحِ جِلبابَ العطوف أَمْسِكْ عن العبدِ الضعيفِ ... المستجيرِ من الحُتُوفِ إنَّ الشهودَ كلامُهُمْ ... في الخصمِ يَقْطَعُ كالسيوف لا زلتَ كَهْفاً مُنْجِياً ... للحُرِّ من شَرِّ المَخُوف وله في غلامٍ فقيهٍ مالكي: أَأَبا الحسينِ فقيهَ مذهبِ مالكٍ ... نفسي تقيكَ من الرَّدَى يا مالكي حَسْبِي بوجهكَ جَنَّةً رِضْوانُها ... بالصدِّ قَدْ نَقَلَ الفؤادَ لمالك وله يهج طبيباً يسمى ابن المد: لنَجْل المُدِّ عبدٌ ضرَّ خَلْقاً ... بِمِيلٍ مالَ عن طُرُقِ النجاحِ إذا ما حلَّ في الأَجفانِ أَبْدَى ... به وَخْزَ الأَسِنَّةِ بالرماح له كُحْلٌ أَعَاذَ اللهُ منهُ ... يسوقُ السقْمَ للحَدَقِ الصِّحاح إِذَا كَحَلَ العيونَ بهِ تَسَاوَى ... دُجَى ليلِ المريضِ مع الصباح وله مهفهفٌ في فيه ما ... يُبْرِي العليلَ رَشْفُهُ حَوَى نُحولي خَصْرُهُ ... وثِقْلَ وَجْدِي رِدْفُهُ ولونَ حظِّي صُدْغُهُ ... ولينَ قلبي عِطْفُهُ طُوبَى لمن كانَ على ... سَالِلَتَيْهِ قَصْفُهُ وَخَمْرُهُ ريقتُهُ الفائحُ ... منها عَرْفُهُ وَمِنْ جَنَى ورديِّ ... تلك الوَجَناتِ قَطْفُهُ وَظَهْرُهُ فِراشُهُ ... وساعِدَاه لُحْفُهُ وله من قصيدة في الملك الناصر صلاح الدين: لقد أَوضحَ الآياتِ في الحرب يُوسُفٌ ... فقام ببرهان النِّصال شُهُودُهَا مليكٌ له عَزْمٌ يُخَبِّرُ أَنَّهُ ... قديمُ سياساتِ الوَغَى وجديدها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 766 غدا وارثاً من شيركوهُ عزائماً ... له فَتَكَتْ بالشِّرْك منها حشودها جيوشٌ تَضِيقُ الأَرضُ عنها كأنها ... أَفاويضُ بحرٍ عَاجَلَتْها مُدُودُها تَمورُ نجود الأَرْضِ من عُظْمِ خَوْفِهِ ... إذا خَفَقَتْ في الخافقين بُنُودُها وهل للبرايا طاقةٌ بعساكرٍ ... ملائكةُ السبعِ الشدادِ جُنُودُها ومنها: أَمَا آن أَنْ يَرْثِي لخيْلٍ مُغيرةٍ ... وشهرين عنها ما أُزيلتْ لُبُودُها وأَنْ تُغْمَدَ البِيضُ الرقاقُ وقد شَكَتْ ... إلى عَفْوِهِ طولَ الفراقِ غُمودُها مواقعُهُ خَلْفَ العِدَأ وأَمَامَها ... فما يَنْثَني إلاَّ إليه طريدُها هيَ الشمسُ تأثيراتُها في قريبِهَا ... ولم يحتجزْ عنها بِبُعْدٍ بَعِيدُها فيوسفُ في مصرٍ شبيهُ سَمِيِّهِ ... بمملكةٍ يَسْمُو السماءَ صُعودُها لقد شَرُفَتْ أَرْضٌ علاها ركابُهُ ... وَعَزَّتْ جيوشٌ عَزْمُهُ يستقيدُهَا وفي أَيِّمَا أَرْضٌ علاها ركابُهُ ... تَضَوَّعَ من شرِ العبيرِ صَعيدها لأَيُّوبَ قد آبتْ من الغزو سادةٌ ... تسودُ ملوكَ الأَرض فهْيَ عبيدُها همُ قَدْ أَقاموا قُبَّةَ الحقِّ والهُدَى ... بأسيافهمْ حتى استقلَّ عَمُودُها فلا زالتِ الدنيا تُسَاسُ برأيهمْ ... وَتَسْعَى إِليهم بالثناءِ وُفُودُهَا وحمل إلي قطعة من شعره، منها قوله في مدح الملك المعظم شمس الدولة توران شاه ابن أيوب، من قصيدة، لما ملك اليمن. ومناقبٍ سارتْ كواكِبُهَا ... ذِكْراً وشمسُ الدولةِ الفَلَكُ بحرٌ جواهرُهُ مَفَاخِرُهُ الحسنى ... ونحن بِلُجِّهِ سَمَكُ وقلوبُنَا مثلُ الطيورِ على ... حافاته ونوالُهُ الشَّبَكُ ناديتُ من طَرَبٍ بأَنْعُمِهِ ... مَلَكُوا ولكن ما كذا مَلَكُوا وقوله في مدح جمال الدين فرج: أَيُّ جَوًى لمْ يَهجِ ... غداةَ رَفْعِ الهَوْدَجِ يأبَى العزاء مذ نأَتْ ... ذاتُ اللَّمَى والدَّعَجِ مَبْسِمُهَا من لُؤلؤٍ ... وشَعْرُهَأ من سَبَجِ ما خُلِقَتْ جُفُونُهَا ... إلاَّ لِحَتْفِ المُهَجِ فما عَلَى مَنْ مَاتَ مِنْ ... وجدٍ بها مِنْ حَرَجِ ولو أَمِنْتُ عقرباً ... من صُدْغِهَا المُنْعَوِجِ جَعَلْتُ وردَ خدِّها ... باللَّثْمِ كالبَنَفْسَجِ شَمْسٌ تُقِلُّ عالجاً ... في غُصْنِ بانٍ مُدْمَجِ ضاقَ كذرعي حَجْلُهَا ... عن ساقها المُدَمْلَجِ إنَّ الخليَّ لم يَبِتْ ... يحسُّ ما يَلْقَى الشَّجِي من لم يَذُقْ طعم الهوى ... لامَ مَلامَ الأهْوَجِ ولم يَبِتْ مُفَكِّراً ... في شَنَبٍ أو فَلَجِ ولم يَخَفْ من أسهمِ ... اللَّحْظِ ولا من زَجَجِ للهِ كم بتُّ بها ... في غِبطةِ المُبْتَهِجِ أرْشُفُ من رُضَابها ... مُدامةً لم تُمْزَجِ في ليلةٍ هلالُهَا ... لاحَ كنصف الدُّمْلُج يمتدُّ فوق النيلِ مِنْ ... شُعَاعِها المُسْتَسْرِج سَطْرٌ من العِقيانِ قَدْ ... رُقِّشَ وَسْطَ مَدْرَج كأنَّها الأَنجمُ في ... السماءِ ذاتِ الأَبْرُج جواهرٌ في طَبقٍ ... أزرقَ من فَيْرُوزج حتى تَبَدَّى فجرُهَا ... والروضُ ذو تأَرُّج قلْ لليالي صَرِّحي ... بالغدرِ لا تُمجَمِجي فقد أَزالتْ شِدَّتي ... بالجودِ جَدْوَى فرَج ذُو دَرَجاتٍ مَالها ... لصاعدٍ من دَرج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 767 يَسْحبُ أذيالَ عُلاً ... لغيره لم تُنْسَج من دوحةٍ قال لها ... اللهُ إلى الأُفْق اعرُجي مانحُ ما نرجوه بَلْ ... فاتحُ كلِّ مُرْتَج كم كاهلٍ من العدا ... هدَّ وكمْ من ثَبَج حسامُهُ يَشُقُّ ثو ... بَ نَفْعهِ المُنْتَسَج يَنْثُر بالسيف الطُّلاَ ... كاللؤْلُؤ المُدَحْرَج ينظم بالنظم الكُلَى ... نَظْمَ الجُمانِ المُزْوَج تَلْقَاهُ فرداً حاسراً ... كالجحفل المُدَجَّج وثابتاً في حيثُ لا ... يبصرُ مَنْ لمْ يُزْعَج لرأيه في حِنْدسِ ... الخَطْب ضياءُ السُّرُج فيا له من خائضٍ ... بحرَ ردىً مُلَجَّجِ رِئْبالُ غابٍ لم يُرَعْ ... يوماً ولم يُهَجْهَج ما في قناةِ الملك مُذْ ... ثَقَّفَهَا من عوجِ يَأْوِي الورى من ظِلَّهِ ... إلى ظليلٍ سَجْسَج بابُ جمالِ الدينِ أَضْحى ... ملجأً لِمُلْتَجِ إذا ذكرنا مَدْحَهُ ... هَبَّ نسيمُ الأَرَج فيا له من مُغْرَمٍ ... ببذلِ جودٍ لَهِجِ ليس على عاذِلِهِ ... في البذلِ بالمنعرِج فمن يَقِسْ بفضلهِ ... فضلَ سواه يحْرَج ما الآسُ كالضَّالِ ولا ... الوردُ كمثلِ العَوْسَج ولا خلاصُ العسجدِ ال ... أبريز مثلُ البَهْرَج يا كعبةِ الجود التي ... لغيرها لم نَحْجُجِ فَتَقْتَ لي معانياً ... في الفكر لم تَخْتَلج فاسْتَغْرَقَتْ دوائرَ ... الطويل ثُمَّ الهَزَج والله ما ذو حاجةٍ ... مِنِّي لكم بأَحْوَج دُمْ عِصْمةً لخائفٍ ... ونعمةً لِمُرْتَج وقوله: أَنَا مفتونٌ بمن لم أَسْتَفِدْ ... منه ما أَرجو كَعُبَّادِ الوَثَنْ عَجَبي من روضةٍ في وَجْهه ... نُورُها باقٍ على مرِّ الزمن تَجْمَعُ الأَضْدَادَ لكنْ كُلُّهَا ... كاملٌ في فَنِّه حلوٌ حَسَنْ فيه شمسٌ تحت ليلٍ كُلَّما ... أشرقتْ تلك دَجَا هذا وَجَنّ وضرامٌ فوق نارٍ راكدٌ ... ذاك لم يُطْفَ وهذا ما سَخَنْ وقضيبٌ في كثيبٍ أَفْرَطَا ... ذاك في الضَّعْفِ وهذا في السِّمَنْ سُنَّةُ الآدابِ عِشْقٌ وتُقىً ... فإذا كنت أديباً فاسْتَنِنْ إن في الحبِّ فنوناً خَفِيَتْ ... لم تَلُحْ إلا لأَرْبابِ الفِطَنْ يَشْحَذُ الأَفْهامَ بالشوقِ كما ... يَشْحذُ المُدْيَةَ والسيفَ المِسَنْ وبه يغدُو جبانٌ بطلاً ... وبه يُحْسَبُ ذو العِيِّ لَسِنْ ومنها في المديح: يبتدي بالجود مَنْ يقصِدُهُ ... فإذا ما حازه قال تَمَنْ نائلٌ أَحْلَى من المَنِّ وما ... أَعْذَبَ المنَّ الذي ما فيه مَنْ وقوله في غلام وراق: يا عاذلي كُفَّ فإِني امرؤٌ ... أَضْحَى سليماً ما لَهُ راقِ قد زَرَعَ الحسنُ بروضِ الهوَى ... غُصْناً له من مَدْمَعِي سَاقِ فكيف يَذْوِي عودُ عشقي وقدْ ... أَوْرَقَ في الحبِّ بِوَرَّاقِ وقوله في قواس: قِسِيُّ حواجبِ القَوَاسِ عنها ... سهامُ اللحظ في المُهَجَاتِ تُرْمَى فكمْ من عاشقٍ جَرَحَتْهُ جَرْحاً ... بأَنْصُلِها ولكنْ ليسَ تَدْمَى وقوله: لا تعجبوا إنْ رقَّ لي هاجري ... من أَجْلِ ما وافاه من عَتْبي فالماءُ لا يُنْكَرُ تأثيرُه ... في الصخرِ، كيفَ القولُ في القلْب وقوله فيمن جاءه سهم في وجهه وهو ابن الجمل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 768 قد قلتُ إذ قالوا المُعَظَّمُ ... جاءَهُ في الوجهِ سَهْمُ عَجَبي لذاك البدرِ منهُ ... كيفَ أَثَّرَ فيه نَجْمُ وقوله يهجو: ومشتهَرٍ بالبخلِ غاوٍ بلؤمه ... على يده قُفْلٌ منيعٌ وأَغْلاَقُ إذا زُرْتُهُ يَزْوَرُّ منِّي تَبَرُّماً ... فلا هو مسرورٌ ولا أنا مشتاقُ من الشَّجَرِ الملعونِ لا وَرَقٌ به ... ولا ثَمَرٌ، عُقباهُ نارٌ وإحراق وقوله في أحدب: انْظُرْ إلى الأَحْدَبِ مَعْ عِرْسِهِ ... وَهْيَ على الجبهة مبطوحَهْ كأنَّهُ لما عَلاَ ظَهْرَها ... فارةُ نَجَّارٍ على شُوحَهْ وقوله في مدح الأمير عز الدين موسك: كلُّ الأنامِ عبيدٌ ... لموسَكٍ نَجْلِ جَكُّو لدينِ أَحمدَ منه ... عزٌّ وللذلِّ شِرْكُ في الحربِ والسَّلْمِ منه ... زان البسالةَ نُسْكُ نوالُ كَفَّيْهِ بحرٌ ... آمالنا فيه فُلْكُ طيبُ الثناءِ عليه ... كأنما هو مِسْكُ دُرُّ المعاني بمدحي ... فيه له اللفظ سِلْكُ له أَقَرَّ بعزْمٍ ... في الحربِ عُرْبٌ وتُرْك فَسَلْبُهُ، روحَ طاغٍ ... طَغَى، تحاماهُ تَرْك حسامُهُ لم يُفارِقْهُ ... إن تجرَّد سَفْكُ يُواصلُ النَّصْرَ منه ... لما تزايدَ بَتْكُ وفي الفرنج سُطاهُ ... ما فاتها قطُّ فَتْكُ يا ماجداً رزقُ راجيهِ ... من عطاياهُ يَزْكُو لا زلتَ خيرَ مليكٍ ... به يُشَرَّفُ مُلْكُ ما أَسكنَ الجزمُ حَرْفاً ... به تَحَرَّكَ فَكُّ وقوله في بعض النحاة: ما حَسَدُ الخاسرِ للرابحِ ... ونظرةُ المذبوحِ للذابحِ أصعبُ في الأَنفسِ في عَصْرِنا ... من نظرةِ الممدوح للمادح هذا وقد أعطاهُ من مدحه ... تذلُّلُ المُذْنِبِ للصالح يُعطى ولا يَشكرُ بعد الأذى ... فالويلُ للمَمنُوحِ والمانح وقوله في منعوت بالزكي تولى الزكاة: واحَسْرَتاهُ على الثَّقاتِ ... جُعِلَ الزكيُّ على الزكاةِ وَهُوَ الذي لخيانةٍ ... أبداً يُعَدُّ من الجناة ومتى تأمَّلَ درهماً ... في الجوِّ صارَ من البُزَاةِ وقوله من قصيدة يشكو فيها حاله: قلمُ الفصاحةِ في يدي لكنني ... قد خانني دَرَجُ الحظوظِ المُلْصَقُ ومن العجائبِ أَنَّ نفسي وَسَّعَتْ ... في هِمَّتِي ومجال رزقي ضَيِّقُ عارٌ على الأيام خيبةُ شاعرٍ ... من حظه وهو المُجيدُ المُفْلِقُ أَنفاسُهُ مُتَفَتِّحٌ نُوَّارُهَا ... لكن على الأرزاق بابٌ مُغْلَقُ كَثُرَتْ محاسِنُهُ وقلَّ نظيرُهُ ... ونُضَارُهُ فهو الغنيُّ المُمْلِق من فاتَهُ النصرُ العزيز بملتقى ... الفئتين لا يُجْدِي عليه الفَيْلَق فانظرْ إِليَّ بعينِ مجدك نظرةً ... فلعلَّ محرومَ المطامع يُرْزَقُ طَيْرُ الرجاءِ إلى العَلاء مُحَلِّقٌ ... وأَظُنَّهُ سيعود وهو مُخَلَّقُ وقوله في غلام مغنٍ اسمه مرتضى: لِمُرْتَضَى مَعْبَدٌ عَبْدٌ إذا صَدَرَتْ ... أصواتُهُ عنه في النادي بتغريد قد غاضَ طوفانُ هَمِّي حين أَسْمَعني ... أَلحانَهُ فاستوى قلبي على الجُودِي وقوله يمدح كحالاً: إذا اشتكى الطَّرْفُ ضُرّاً من تأَلُّمِهِ ... نَجَّتْهُ من رَمَدٍ مُرْدٍ مَرَاوِدُهْ يَشْفِيه من بَعْدِ ما أَشْفَى على تَلَفٍ ... إِشَافُهُ فلسان البُرْءِ حامدُهُ وقوله في كحال: لقد أَظْهَرْتَ من ضِدِّيْنِ أَمْراً ... يحارُ من التعجُّبِ فيه فكرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 769 فبينَ النوم والأجفانِ حَرْبٌ ... وليس سوى المراود منك سُمْرُ فماءُ الجفن عند همولِ دمعي ... تضرَّمَ منه في عينيَّ جَمْر وقوله في الخمر: صَفْراءُ خالصةُ الفِرِنْدِ أَعَأدَها ... كالنصل من شمسِ الهَواجِرِ صَيْقَلُ شَعْشَعْتُها بيد المزاجِ ولم يَكُنْ ... من قبلها نارٌ بماءٍ تُشْعَل زُفَّتْ إلينا والسماءُ حديقةٌ ... والزَّهْرُ زَهْرٌ والمَجَرَّةُ جَدْوَلُ وقوله: الخندريسُ البابليَّهْ ... للناسِ أنواعُ البليَّهْ لاسيَّما لفتىً تُحَرِّكُ ... منه أَشواقاً خَفِيَّة وقوله فيمن طلب منه قمحاً فأعطاه شعيراًك طلبتُ من قوتِهِ قليلاً ... كَثَّرَ هَمِّي به انتظارُ ثم أَتى منه لي شعيرٌ ... دلَّ على أَنَّه حِمَار وقوله: تغيَّرَ حُسْنُ رأيك في السماح ... أَبِنْ لي أَمْ لَحَاكَ عليه لاحِ أَم التقصيرُ مني كان فيما ... خَصَصْتُكَ من ثنائي وامتداحي وقوله يصف طائراً أبيض طرف ذنبه أسود: وطائرٍ جازَ بالمطارِ لنا ... سوادُ قلبي بلونه اليَقَقِ كأنه الصبحُ فرَّ من فَرَقٍ ... فأمسكتْ ذيلَه يدُ الغَسَقِ وقوله في يوم مغيم بارد: يومٌ يُجَمِّدُ بَرْدُهُ الخمرا ... والطلُّ فيه يخمِدُ الجَمْرَا وتخالُ فيه ظُهْرَهُ سَحَراً ... وتخالُ فيه شَمْسَهُ بَدْرَا فكأنها خودٌ مُحَجَّبَةٌ ... تَخِذَتْ لها من غَيْمِها سِتْرا وكأنما رُمْنَا مُقَبَّلَها ... فرَنا إلينا طرفُها شزْرَا وقوله في الزهد: كن تَجَرَّيْتُ على الذنب ... وكم أَسْخَطْتُ ربي فَتُرَى تَمْحُو يدُ التو ... بةِ ما قد خطَّ ذنبي وقوله في شمس الدولة ملك اليمن: أيا شمسَ دولتِهِ البازغَهْ ... ويا نعمةَ الخالقِ السابغَهْ أَيا مَنْ يُقَصِّرُ عَنْ حَصْرِ ما ... يجودُ به في الورى النابغهْ بسطتُ إليكَ يمينَ الرجاءِ ... وحاشاك من ردِّها فارِغَهْ وقوله في وصف الخمر: ومحجوبةٍ في الدَّنِّ قد كانتِ الأُلى ... قديماً أَعَدَّتْها لصرف هُمومِهَا يلوحُ من الكاساتِ ساطعُ نورِها ... كشمسٍ تبدتْ من فُتُوقِ غيومها ولستَ ترى إلا شعاعاً وإِنما ... يدلُّ عليها نَغْمَةٌ من نسيمها وقوله في مدح الأجل القاضي الفاضل: نائلُ الفاضلِ عنه قال لي ... منه ما تعدم جوداً في الوجودِ سيدٌ سادَ أُولي الفضلِ بما ... دونَهُ فيه نرى عبدَ الحميد ذو أَساطيرَ على الفورِ أَتَتْ ... أين من أسطرا دُرُّ العقود ذو يراعٍ قد رأيناه له ... في محاريبِ المعاني ذا سجود طالما أذهبَ عنا نُوَباً ... شابَ من أهوالها رأسُ الوليد ولهُ ثاقبُ رأْيٍ أبداً ... يمنحُ الأرواحَ أَمْواتَ اللحود فصلاحُ الدين ناداه كما ... كان بالطور كليمُ اللهِ نُودِي خَفَضَتْ أعداءَهُ سَطْوتهُ ... وهْو من عُظْمِ سُعودٍ في صُعودِ وقوله في تعزية: هذا سبيلُ الأوّلين ... نعَمْ وكلُّ الآخرينا لا بدَّ أن يجري القضا ... ءُ به سَخطْنا أوْ رضينا الموتُ قد قطعَ الأُصُو ... لَ فكيف نستبقي الغُصُونا وقوله في زكمة أقامت معه: جاءَت بها مُزْنةُ رأسي نَدًى ... لكنها باخلةٌ بالنَّفَسْ وقوله يحض على الصبر والسعي في طلب الرزق: أَلطافُ ربك في الضَّرّاءِ كامنةٌ ... فكنْ لغائبةِ السرّاءِ مُنْتَظِرَا فغايةُ الليل فجرٌ والسهادِ كرًى ... ومن أَجابَ دواعي صَبْرِه قَدَرَا وَرُبَّ منثورِ شملٍ عادَ مُنتظماً ... وغائبٍ يَئِسَتْهُ أَهْلُهُ حَضَرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 770 ورُبَّ راجٍ أَتاحَ الله بُغْيَتَهُ ... عفواً وغارسِ آمالٍ جَنَى الثمرا فاسحبْ ذيولَ السُّرَى في كلِّ حادثةٍ ... وخضْ بحارَ الدجى تلقَ المُنَى دُرَرَا لولا ملازمةُ السيرِ الحثيثِ لما ... كان الهلالُ له فوقَ السما قَمَرا وقوله: تسائلُ عمّا حلَّ بي وهْي أَعلَمُ ... وأُخْفي هَوَاها والدموعُ تُتَرْجِمُ ولستُ وإنْ أَبْدَتْ جفاءً وغلظةً ... إلى غيرها من ظُلْمِها أَتَظَلَّم وقد خالفتني في هوانا لِشِقْوَتي ... فأَدْنُو وتنأَى ثم أبكي وتَبْسِم وقوله في قواس: أَرَى القَوّاسَ نفَّقَ منه حُسْنٌ ... له بذوي الهوَى مقلوبُ قَوْسِ فلو حاولتُ وصفَ حُلاَهُ يوماً ... لأعجزني ولو كنتُ ابنَ أَوْسِ وقوله في مدح السديد الكاتب: ساد السديدُ ذوي الأقلام قاطبةً ... لما عَلَتْ في سماءِ المجد رُتْبَتُهُ بسهلِ معنًى كأنّ الماءَ رِقَّتُهُ ... وجزلِ لفظٍ كأنّ النارَ قُوَّتُه وله يصف دوحة تساقط نورها: ودوحةٍ من سَبَجٍ أرْضُها ... وزهرها الناصعُ من جَوْهَرِ كأنما الساقطُ منها بها ... يَنْثُرُ كافوراً على عَنْبَر أحمد بن بلال المعروف برنقلة كتبي من أهل مصر، أنشدني لنفسه في غلامٍ نصراني، يعرف بابن النحال: نحُولي من بني النحَّالِ بادٍ ... ببدرٍ لَقَّبُوه أَباسعيدِ تقلَّدَ بالصليبِ ومرَّ يَسْعَى ... إلى قُرْبانهِ في يومِ عيد ولاثَ بذلك الزُّنّارِ خَصْراً ... حَكَى في سُقْمِه جِسْمَ العميد سأَلْتُ وصالَهُ فأَبَى دلالاً ... ومرَّ عليَّ كالظبي الشَّرُودِ وقال إذا عشقتَ البدرَ فاقْنَعْ ... إليه بِرَعْيِ طَرْفِكَ مِن بَعِيد وله فيه: مَنْ مُنْصِفي وأبو سعيدٍ هاجري ... مَن مُنْقِذي وبوصله لا أَسْعَدُ رشأٌ أذَلَّ العالمين كمالُهُ ... فهُمُ له لولا المخافةُ سُجَّدُ وإذا تكلَّمَ خلتَ مَعْدِنَ جَوْهَرٍ ... من فيه منه مُنَثَّرٌ ومُنَضَّدُ يحيى بن سالم بن أبي حصينة من أهل مصر وجده من أهل المعرة بالشام، من نسب الشاعر المعروف. شابٌ لقيته باب الجامع بمصر بعد انقضاء صلاة الجمعة، فأعطاني رقعة، مكتوبٌ فيها من شعره ما أوردته، وهو: أنا الشجيُّ فما أُصْغي إلى العَذَلِ ... فقلْ لمن لامني ما للخليِّ وَلِي سلوتَ أنْتَ وصبري عزَّ مَطْلَبُهُ ... فعنْ غرامي بعدَ اليومِ لا تَسَل واقبَلْ فصِحّةُ أقوالي بلا مَهَلٍ ... من قبل أن تكسب الآثام من قِبَلي فالعَتْبُ مُنفَصِلٌ والوجدُ مُتَّصِلٌ ... كم بين مُنْفَصِلٍ عنِّي ومُتَّصِل وفي المخلص: وما تغزَّلْتُ أنِّي مُغْرَمٌ بهوًى ... لكنها سُنّةٌ في الشعرِ للأُوَلِ لأنَّني بك عزَّالدين مُفتَخِرٌ ... فما أَضِلُّ ولا أُعْزَى إلى الزَّلَلِ الأمجد بن فري ذكره ابن عثمان وقال: كهلٌ من أهل مصر شاعرٌ حسنٌ يحب لزوج التجنيس في الشعر وأكثر مقامه بمنية زفتا، أنشدني له من قصيدة: هو الحبُّ أَلْجَاني إِلى التائهِ الجاني ... وما كان من شاني هو الغادِرُ الشاني عدة من فضلاء الصعيد أبو الغمر الإسناوي محمد بن علي الهاشمي كان أشعر أهل زمانه وأفضل أقرانه، ذكره لي بعض الكتبيين من مصر، وأثنى عليه، وقال: توفي سنة سبع وأربعين؛ وأنشدني من شعره قوله: ألحاظُكُمْ تجرَحُنَا في الحَشَا ... ولحظُنَا يجرحكمْ في الخدودْ جُرْحٌ بجرحٍ فاجْعَلُوا ذا بذا ... فما الذي أَوْحَبَ جُرْحَ الصُّدُودْ وله يا أَهْلَ قوصَ غَزَالُكُمْ ... قد صادَ قلبي واقْتَنَصْ نَصَّ الحديثَ فشفَّنِي ... يا ويحَ قلبي وَقْتَ نَصْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 771 وأورده ابن الزبير في كتاب الجنان، وذكر من شعره قوله: طَرَقْتنِي تلومُ لما رَأَتْ في ... طَلَبِ الرزق للتذلل زُهْدِي هَبْكِ أَنِّي أَرْضى لنفسيَ بالكد ... يةِ يا هذه فَمِمَّنْ أُكَدِّي وقوله في الخمر: عذراءُ تَفْتَرُّ عن دُرٍ على ذَهَبٍ ... إذا صببتًَ بها ماءً على لَهَبِ وَافَى إليها سنانُ الماءِ يَطْعَنُها ... فاستلأَمَتْ زَرَداً من فِضَّةِ الحَبَبِ وقوله: أيا ليلةً زارَ فيها الحبيبُ ... ولم يكُ ذا موعدٍ يُنْتَظَرْ وخاضَ إليَّ سوادَ الدجى ... فيا ليتَ كان سوادَ البصر وطابَتْ ولكنْ ذممنا بها ... على طيبِ رياهُ نَشَْرَ الشجر وبتنا من الوصلِ في حُلَّةٍ ... مُطَرَّزَةٍ بالتقى والخَفَر وعَقْلي بها نَهْبُ سُكْرِ المُدام ... وسُكْرِ الرُّضَابِ وسُكْرِ الحَوَر وقد أَخجلَ البدرَ بدرُ الجبينِ ... وتاه على الليلِ ليلُ الشَّعَر وأَعدى نحولِيَ جسمَ الهواء ... وأَعداهُ مِنْهُ نسيمٌ عَطِر فمنِّيَ مُعْتَبَرُ العاشقين ... ومن حُسْنِ معناه إحْدَى العِبَر ومن سَقَمِي وَسَنَا وجههِ ... أَريه السُّهَا وَيُرِيني القَمَر وقوله: أيها اللائمُ في الح ... بِّ لَحَاكَ اللهُ حَسْبي لستُ أَعصِي أبداً في ... طاعةِ العُذَّال قَلبي وقوله في العذار: وغزالٍ خَلَعْتُ قلبي عليه ... فهو بادٍ لأَعْيُنِ النُّظَّارِ قد أَرَانا بنفسَج الشَّعْر بَدْراً ... طالعاً من مَنَابِتِ الجُلّنَارِ وَقَدَتْ نارُ خَدِّهِ فسوادُ ... الشَّعْرِ فيه دخانُ تلك النار وله يفترُّ ذ1اكَ الثغرُ عن ريقهِ ... درَّ حَبَابٍ فَوْقَ جِرْيالِ ونونُ مِسْكِ الصُّدْغِ قد أُعْجِمَتْ ... بنقطةٍ من عَنْبَر الخال وقوله: وغزالٍ أَبْدَى لنا اللهُ من بُسْ ... تَانِ خَدَّيْهِ في الحياةِ الجِنانا قد أَرانا قدًّا وخدًّا وصدغاً ... وعذاراً وناظراً فَتَّانا غُصُناً يحمل البنفسجَ والنر ... جسَ والجلّنارَ والرَّيْحَانا وله في غلام لبس في عاشوراء ثوب صوف: أيا شادناً قد لاحَ في زِيِّ ناسكِ ... فباحَ بمكنونِ الهوى كلُّ ماسِكِ رويدَكَ قد أَعْجَزْتَ ما يُعْجِزُ الظُّبا ... وأَضْرَمْتَ نيرانَ الجوى المُتَدَارِكِ أَنَحْنُ فتكنا بابنِ بنتِ مُحَمَّدٍ ... فتثأرَ مِنَّا بالجفونِ الفَوَاتِكِ وقوله في المجون: لي شادنٌ هو أَدْنى ... إليَّ مُذْ كَانَ مِنِّي فقد تعجَّلْتُ قبلَ الممات ... جَنَّةَ عَدْنِ به تَعَفَفَّتُ عَمَّا ... يُصِمُّ بالعَذْلِ أُذْني لأنّهُ صانَ عرضي ... عن أَنْ أَلُوطَ وأَزْني وزادني فيه حُبّاً ... وصفٌ يطابق فَنِّي لم يَتَّسِعْ خَرْقُهُ لي ... كلاَّ ولا ضاقَ عني فحلْقَةُ الظهرِ منه ... صِيغَتْ لإصْبَعِ بَطْني وقوله في مثل ذلك: كثيبُ رملٍ فَوْقَهُ صَعْدَةٌ ... من فوقها بدرُ تمامٍ أَطَلْ إنْ كان من سَوَّاكَ لا عابثاً ... فأَنْتَ مَخْلُوقٌ لِذَاكَ العَمَلْ ولم يَكُنْ رِدْفُكَ دِعْصَ النَّقَا ... إلاَّ لأَنْ تُرْكَزَ فيه الأَسَلْ وقوله: زمانٌ يُخَلِّطُ في فعلِهِ ... كأَنَّ بهِ سَكْرَةَ العاشق وخَلْقٌ إذا ما تَأَمّلْتَهُمْ ... جحدَتَ بهم حكمة الخالقِ وقوله: عدا طَوْرَهُ حُمقاً وادَّعَى ... فخاراً وقد جَحَدَتْهُ المعالي وقالَ ألَمْ أَبْلُغِ الفرقدين ... فقلتُ بلى بقرونٍ طوال وقوله في أبخر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 772 من مُجيري من أَبْخَرٍ شَفَتَاهُ ... لرياحِ الكنيفِ جَذَّابَتانِ وإذا ما ألفاظُهُ فَغَرَتْ فا ... هـ فويل الأُنوفِ والآذان تستجيرُ البنانَ هذِي من البُعْدِ ... وهذي تلوذُ بالأَرْدَانِ أبو الفرج سهل بن حسن الإسناوي ذكر الرشيد بن الزبير في مجموعه الذي ألفه سنة ثمان وخمسين أنه شاعرٌ معدود من مجيدي الشعراء. قال: وهو إلى أن نظمت هذا التعليق حيٌّ ولا أقول يرزق إذ كانت أبواب الرزق دونه مغلقة، وسبيل المعروف عليه مرتجة؛ وتوفي سنة سبعين. وأورد من شعره قوله في محمد بن شيبان: قالتْ أَرَاكَ عظيمَ الهمِّ قلتُ لها ... لا يعظُمُ الهمُّ حتى تَعْظُمَ الهِمَمُ وَصَمَّم الحيُّ في عذلي فقلتُ لَهُمْ ... عَنِّي إليكم فبي عَنْ عَذْلِكُمْ صَمَمُ إن الضراغمَ لا تَلْقَى فرائسَهَا ... حتى تُفَارِقَهَا الأَغْيالُ والأُجُمُ والهندوانيُّ لا يُحْوَى به شَرَفٌ ... حتى يُجَرَّدَ وهو الصارمُ الخَذِم لأَفْصِمَنَّ قُوَى إِبْلِي بِمُتَّصِلٍ ... من السُّرَى مُسْتَمرٍ ليسَ يَنْفَصِمُ سارَتْ ونَارَ الضحَى بالآلِ مختلطاً ... وأَدْلَجَتْ وظلامُ الليل مُرْتَكمُ حتى أَنَخْنَا بها من بعد ما فنيت ... سيراً بحيث أقام الجود والكرم لما بَدَتْ دارُهُ والركبُ يَقْصِدُها ... من كلِّ فَجٍ ظَنَنَّا أَنها حَرَم وَقِيلَ هذا ابن شيبانٍ أَمَامَكُمُ ... قَدٍ فقلنا أَلاذَ الناسَ كُلَّهُمُ غَمْرُ الندى والشَّذَا لولا توَقُّدُهُ ... لأَوْرَقَ الرمحُ في كفيه والقَلَمُ لو لم يكنْ في يديه غيرُ مُهْجَتِهِ ... أَفادَهَا قاصديه وهو مُحْتَشِمُ ومنها: تَقَدَّمَ الرائدُ الراعي على ثقةٍ ... بالخِصْبِ منك ولم تَعْلق بك التُّهَمُ لا مجدَ إلا وأنتمْ شاهدوه ولا ... فَرْعٌ من الفخر إلاّ أَصْلُهُ لَكُمُ بيتٌ تَقَدَّمَ قَبْلَ الدهر مَنْصِبُهُ ... ولم يُكَسِّبْهِ إلاَّ الجِدَّةَ القِدَمُ كأنهمْ وسعيرُ الحربِ مُضْرَمَةٌ ... أُسْدٌ ولكن رماحُ الخطِّ غِيلُهُمُ كالعاصفاتِ السوافي إنْ همُ حَمَلوا ... والشاهداتِ الرواسي إنْ همُ حلموا هذا بعينه قول ابن حجاج: والشاهدات الرواسي إن هم حَلُموا ... والعاصفاتُ السَّوَاري إن همُ جَهِلوا وأكثر الناس جوراً في عطائِهِمُ ... وأَعدلُ الناس أحكاماً إذا حَكَمُوا من كلِّ أَزْهَرَ في معروفهِ شَرَفٌ ... وكلِّ أَرْوَعَ في عِرْنينه شَمَمُ وله في كبير وقد غرق في النيل: إني جُعِلْتُ فداكا ... أَشْكو إليك أَخَاكا كأنَّما حَسِبَتْني ... أَمْواجُهُ من عُلاَكا فغرَّقَتْني كما قَدْ ... غَرِقْتُ في نُعْماكا القاضي الأنجب أبو الحسن علي بن الغمر الهاشمي شاب مقيمٌ بقوص، له بالأدب خصوص. أنشدني ابن عمٍ له من قصيدة له ليس فيها نقطة وهي: أَأَطاعَ مسمعُهُ الأَصمُّ مَلاَمَا ... أَمْ هل كَرَاه أَعَارَهُ إِلْمامَا كلاَّ وَأَحْوَرَ كالمهاةِ مُصَارِم ... كلٌّ أَطَاعَ له هَوَاهُ وَهَاما وَطَلاَ أَرَاكٍ ما عَدَاكَ صُدُودُهُ ... أَسْلاَكَ دعداً دَلُّهُ وَأُمَامَا وأَعَدَّ عام وِصاله لك ساعةً ... وأَعَدَّ ساعةَ صدِّهِ لك عاما مُرْدٍ سُلُوَّكَ واصلاً ومصارماً ... إِرداءَ صارمِ سِحْرِهِ الأَحْلاَمَا لولا مُكَحَّله الأَحَمُّ وسِحْرُه ... ودلالهُ لم أُعْطِهِ ما سَامَا أَمُحَرَِّّماً وَصْلاً أَراهُ مُحَلَّلاً ... ومُحَلِّلاً صَدًّا أَراه حَرَاما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 773 أَو ما دَرَوْا لما رأَوْكَ مُحَكِّماً ... حَوَراً أَرَاهُ لَهُمْ أَعَدَّ حِمَاما هل سلَّ أَحْوَرُكَ الأَحَمُّ حُسَامَهُ ... أم سَلَّ مملوكُ الإمام حُسَاما مَلِكٌ رآهُ اللهُ أكرمَ عاملٍ ... عَمَلاً وأكرمَ سادةٍ أَعْمَاما ولحسمهِ داءَ العصاةِ أعَدَّهُ ... لهمُ حساماً ما رأَوْهُ كَهَاما عُمَراً دَعَوْهُ لِهَوْلِ مَطْلَعِه كما ... لكمالِ سُؤْدُدِهِ دَعَوْهُ عِصَاما سامٍ عُلاَهُ على السِّمَاكِ مَحَلُّهَا ... وأكلَّ حصرُ حدودِها الأوهاما وحُلاحِلٌ حُلْوٌ مُمِرٌّ حُوَّلٌ ... كالدهر صُوِّرَ واصلاً صَرَّاما حَسَدَ الأَكاسرُ لو رأوه مُلْكَهُ ... حَسَداً أَعَارَ صُدُورَهُمْ آلاما سهلٌ له عَسِرُ الأُمورِ وسَعْدُهُ ... المَحْروسُ أَدْرَكَ كلَّ أَمْرٍ رَاما وسُطَاه صارعةُ الأَسُودِ معاً وما ... عَلِمُوهُ أَعْمَلَ صارماً صَمْصَاما ولُهاهُ أَسْهَلُ ما أرَادَ مُؤَمِّلٌ ... وَعُلاه أَعْسَرُ ما أَراد مَرَاما راعَ الأسُودَ له مَصَالةُ مُصْطَلٍ ... لو رامَ حَطَّمَ هَوْلُهُ الأَعْلاَمَا ملأَ السهولَ مع الوعورِ صَوَاهِلاً ... وَصَوَارِماً وَعَواسلاً وَسِهامَا وملوكُ أَهْلِ الدهر أَكرمُ رَهْطِهِ ... أَرْداهم حَدُّ الحُسَامِ كِراما وهوَ المُصَرِّعُ كلَّ دارعِ لأَمَةٍ ... حَصْداءَ أُحْكِمَ سَرْدُهَا إِحْكَامَا ولكم رعالٍ هدَّ ساعةَ كَرِّهِ ... ومُعَسْكَرٍ عَدَد الرمالِ أَهامَا ولكمْ علومٍ ما أَطَاعَ مَرَامُهَا ال ... أَوْهامَ أُلْهِمَ سِرَّها إلهاما ولكم رَوَاسٍ حَطَّ عُصْمَ وعُولِهَا ... سِحْرٌ دعَاهُ حاسِدوهُ كَلاَمَا والمادحوهُ مَدْحُهُمْ مُهْدٍ له ... سُكْراً كما علَّ الكرامَ مداما كم آمل لك راحَ مأمولاً وكمْ ... أَمَلٍ أَراه حَوْلَ وُدِّكَ حَامَا وَكَلاكَ مَوْلاَكَ المُعِدُّكَ عُمْدَةً ... لهمُ كلاءَةَ عدلِكَ الإِسْلاَما بنو عرام شعراء الصعيد وشعرهم معسول من الصنعة مقبول الحلة. منهم: السيد أبو الحسن علي بن أحمد بن عرام الربعي شيخ من أهل الأدب مقيم بأسوان فوق قوص، ملك من الأدب الخلوص، ومن الشعر الخصوص، وعدم ظل فضله القلوص، وهجر في لزوم وطنه الرحل والقلوص. وسألت عنه بمصر سنة ثلاث وسبعين فقيل إنه حيٌّ في أسوان، وهو على حظه أسوان، وطلبت شعره فأحضر لي بعض أصدقائي من أهلها ديوانه، فوجدت عالياً في سماء السحر كيوانه، وجمعت شارد حسنه وألزمته صوانه، وغبطت عليه أسوانه، وجلوت بكر نظمه وعوانه، ووضعت لمأدبة أهل الأدب إخوانه خوانه، وأحضرت عليه ألوانه، فاحمد إذا حققت برهانه أوانه. وقد أوردت من جملة نظمه الفائق الرائق، ولفظه الرائع الشائق، ما إذا حسر سحر، وإذا أصحر أحصر، وإذا أنشد نشد ضالة الأماني، وإذا أقمر نور هالة المعاني، فلابن عرام في ميدان النظز عرام، وبابتكار المعاني الحسان غرام، ولرويته في إذكاء نار الذكاء ضرام، والملوك باصطناع أمثاله يقال لهم كرام، وكل سحرٍ وخمر سوى منسوج فدامه وممزوج مدامه حرام. اعجب، بحرٌ في الصعيد يقصد بالتيمم لمائه، ونجمٌ في صعود السعود لا يرتقى إلى سمائه. فمن ذلك أنه سأله ابن عمه أبو محمد هبة إجازة بيتٍ نظمه وهو: هذه آدُرُ الهَوَى والهواءِ ... وَمَحَلُّ الغرام والغُرَمَاءِ فقال: كم ليالٍ نَعِمْتُ فيها بِخَوْدٍ ... فاتتِ البدرَ في السَّنَا والسَّنَاءِ ذات جيدٍ كالريمِ حَلاَّهُ عِقْدٌ ... حَلَّ فيه بحلِّ عَقْدِ عَزَائي وترشَّفْتُ من رُضابٍ بَرُودٍ ... فاقَ طَعْمَ السُّلافَةِ الصَّهْبَاءِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 774 وتنزهتُ في رياضٍ حِسَانٍ ... غانياتٍ عَنْ صَوْبِ ماءِ السماء بَيْنَ وَرْدٍ وَنَرْجِسٍ وأَقَاحٍ ... ففؤادي مُقَسَّمُ الأَهْوَاء وله أَلاَ مَنْ مُبْلِغٌ سُعْدَى بأَني ... ظَمِئْتُ إلى مراشفها العِذَابِ فإني والمهيمنِ مُنْذُ بانَتْ ... رأيتُ الشَّوْقَ من أَلَم العَذَابِ وله حللتَ قلبي فعيني ... عليكَ تَحْسُدُ قَلْبَا فما أرَى البُعْدَ إِلاَّ ... قد زادني منكَ قُرْبَا وله أَغرَّكِ من قلبي انعطافٌ ورقَّةٌ ... عليكِ وأَنْ تَجْنِي فَلاَ أَتَجَنَّبُ فلا تأْمَني حلْمي على كلِّ هَفْوَةٍ ... ولا تحسبي أَنْ لَيْسَ لي عنكِ مَذْهَب وكيف وعندي فَضْلةٌ من جَلاَدَةٍ ... تُعَلِّمُ أَصْلاَدَ الصَّفَا كيفَ تَصْلُبُ وله كتبتُ ولو أَنَّني أَسْتَطيعُ ... من الشوق والوجدِ كنتُ الكتابا بحيثُ أَبُثُّكَ مِنِّي إليك ... حديثي وأَسْمَعُ مِنْكَ الجوابا وله تهنئة بمولود: قد أَطلعَ اللهُ لنا كوكباً ... أَضاءَ شرقَ الأرضِ والمغربا قادمُ سَعْدٍ يَقْتَضِي سَعْدُهُ ... سعادةَ الوالد إِذْ أَنْجَبَا والأَصْلُ إِنْ طابَ ثَرَى غَرْسِهِ ... أَنْبَتَتَ فَرْعاً مُثْمِراً طَيِّبا مَوْهِبَةٌ خصَّ بها اللهُ مَنْ ... أَصْبَحَ للنعمةِ مُسْتوْجِبَا فَدُمْ قريرَ العينِ حَتَّى تَرَى ... خَلْفَكَ من إِخوته مَوْكِبَا وله من قصيدة في عز الدين موسك النصري وكان والي قوص وأسوان بَلَغْتَ بِسَعْدِ الجدِّ أَسْنَى المراتبِ ... فناجِ إذا ما شئتَ زُهْرَ الكواكبِ ومنها: يُبيحون في سُبْلِ المكارمِ ما غَدَتْ ... تُبيحُهُمُ في الرَّوْعِ بيضُ القَضائبِ فآراؤهُمْ تكفي النصالَ نصالَهُمْ ... كما كُتْبُهُمْ تُغْنِي غَنَاءَ الكتائب ومنها: أقولُ لِمَمْنُوٍ برَيْبِ زمانهِ ... ومَن ظلَّ مَعْضوضاً بنابِ النَّوائب ومن أَخَذَتْ منه التَّنائفُ والسُّرَى ... فليس تراهُ غيرَ أَغْبَرَ شاحبِ عليكَ بعزِّ الدين فاستَذِرْ ظِلَّهُ ... ولُذْ بعزيزِ الجارِ رَحْبِ الجوانب إذا ظَمِئَتْ سُمْرُ الرماحِ بكفِّه ... سَقَاها فروّاها دماءَ الترائبِ ومنها: بأفعالكَ الحُسْنَى بَلغْتَ إلى العُلاَ ... وأَصبَحْتَ فَرْداً في اجتنابِ المعَايبِ فها أنتَ مَرْضِيُّ الشمائلِ ماجِدٌ ... كريمُ السجايا طيِّبٌ من أَطَايب قصدناكَ يا خيرَ الأَنامِ لنكبةٍ ... عرَت أَقْصَدَتْنا بالسهامِ الصوائب وقد وَثِقَتْ آمالُنَا أَنّ قَصْدَنَا ... جَنَابَكَ يا خيرَ الورى غَيْرُ خائب وقد عَلِقَتْ أَيْمَانُنَا منكَ ذِمَّةً ... وَقَتْنَا مُلِمَّاتِ الزمانِ المُغَالب وإن لم تَسَعْنَا منكَ عَطْفَةُ راحمٍ ... وإِلا فَقَدْ ضاقتْ فِجاجُ المَذَاهبِ ومنها: ودونَك معروفاً يُفيدك عاجلاً ... ثناءً ويَبْقَى أَجْرُهُ في العواقب وله من قطعة في مرض ممدوح: قد قلتُ ليت الشَّكَاةَ قَدْ نَزَلَتْ ... بِمُهْجَتي لا بأَوْحَدِ العَرَبِ ليستْ بِحُمَّى وإِنما اشْتَعَلَتْ ... نيرانُ فرطِ الذكاء باللهبِ قد خَلُصَ الجسمُ من أَذاه كما ... تَنْقَى بِسبكٍ خُلاَصةُ الذَّهَبِ وله من قصيدة في الأمير مبارك بن منقذ: همُ حَمَّلوا ثِقْلَ المغارمِ مَالَهُمْ ... وخَلَّوْهُ وَقْفاً بينهمْ لِلْمَنَاهِبِ صفائحُ في أَيديهمُ أَو صحائفٌ ... فهمْ بين كُتْبٍ تُقْتَنَى أَوْ كَتَائبِ هواهمْ على أنَّ المآربَ جَمَّةٌ ... صريرُ يراعٍ أَوْ صَليلُ قَوَاضِب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 775 وجادوا بفضلٍ باهرٍ وفضائلٍ ... عَطاءَيْنِ من عِلْمٍ وَفَيْضِ مَوَاهب ومنها: مدحتك فاسمعْ من مديحيَ قَهْوةً ... تلذُّ لذي سمعٍ وَنَشْوَانَ شاربِ عليَّ امتداحي للكرام مناصباً ... فذلك أحلى من غناء الجنائب وله من أخرى: وَرِعٌ وَأَرْوَعُ باسلٌ ... عِنْدَ المَحَارِبِ والمُحَاربْ يَهَوى المعارِفَ لا المعا ... زِفَ والمشاعِرَ لا المشارِبْ سُمْرُ العوالي في العُلاَ ... تُلْهيه عن بيضِ الكواعب وله من قصيدة في الملك المعظم سلطان اليمن شمس الدولة توران شاه بن أيوب، وكانت بلاد الصعيد له من أخيه قبل اليمن، يصف فيها دمشق فإن الممدوح كان يعجبه ذلك: أرقتُ لبرقٍ في الدُّجُنَّةِ مشبوبِ ... ودمعِ سحابٍ ناشىءٍ منه مسكوبِ فَمِنْ قلبِ صبٍ لَفْحُهُ وَخُفُوقُهُ ... كما غَيْثُهُ مِنْ مَدْمَعٍ منه مصبوبِ ولم أَرَ ناراً من مياهٍ وَقُودُهَا ... أَلا إِنَّ هذا من فُنون الأعاجيب وبي جِنَّةٌ من ذكرِ جَنَّات جِلَّقٍ ... وَجَنَّةُ مُشْتَاقٍ وأَنَّةُ مَكْرُوبِ وفي شرف الوادي وفي النيربِ اغتدتْ ... مآربُ للغرِّ الكرامِ الأَعاريب فيا بَرَدى هل جُرْعَةٌ منك عَذْبَةٌ ... لتبريدِ حَرٍ في الجوانحِ مشبوب ويا نهرَ ثَوْرا قد أَثَرْتَ صَبَابةً ... لقلبٍ شجٍ من لوعةِ الحبِّ مَنْدُوبِ وهل لسراةِ الناسِ عِلْمٌ بأنني ... ظمئتُ إلى ماءٍ بباناسَ مَشْروبِ وها أنا مستسقٍ لِمزَّةَ مُزْنَةً ... كَفَتْها عُيونٌ مَدُّها من أَهاضيب ويا ذا الجلالِ احرس حَرَسْتَا فَحُسْنُها ... شفاءٌ لمهمومٍ وداٌ لمطبوب ودومةُ دامَ العيشُ حلواً بربعها ... وواهاً له لو أنه غيرُ مسلوب وفي برزةٍ مكحولةُ الطرفِ بَرْزَةٌ ... تُصَبِّرُني للوجد منها، وتُغْرى بي ويا حسنَ ولدانٍ تَرَامُوْا بطابةٍ ... فمن غالبٍ عند النضالِ وَمَغْلُوبِ وَدِدْتُ حُلولي في رياضكِ حَلَّةً ... وهيهاتَ أين الشامُ من بلدِ النُّوبِ بنفسيَ من تَجْنِي وأَحْمِلُ عَتْبَها ... وَيَعْذُبُ عَيْشي في هواها بِتَعْذِيبي كظبيٍ يصيدُ الليث قَمْراً فيغتدي ... من الرُّعْبِ مأسوراً بفتكةِ رعبوب لئن قَصَّرتْ بالقصرِ عما أَلِفْتُهُ ... وقد كنتُ عنها قَبْلَها غير محجوب فقد جَسَرَتْ بالجسرِ وهي جَبَانةٌ ... وزارت بليلٍ أَسودِ اللونِ غِرْبيبِ نَعِمْتُ بها في جَنَّةٍ عُجِّلَتْ لنا ... بِجِلَّقَ إِذْ لَهْوِي بها غيرُ مَقْضُوبِ مغانٍ غوانٍ من عيونٍ بسفحها ... وقيعانِها عن ساجمِ الغيثِ شُؤْبوب بنفسجَهُا غَضٌّ يخالِطُ زُرْقَةً ... كآثارِ عضٍ قد عَلاَ خَدَّ مَحْبوبِ ونَرْجِسُها المبثوثُ فيها كأَعْينٍ ... بَدَتْ فاتراتٍ من خَصَاصةِ تَنْقيب وقد غَرَّدَتْ أَطيارُهَأ فكأنّها ... قِيانٌ يُرَجِّعْنَ اللحُونَ بتطريب رياضٌ نضيراتٌ تَرفُّ كأَنّها ... سَقَاها فَرَوَّاها بَنَانُ ابنِ أَيُّوبِ ومنها يصف وصولهم إلى مصر حين نزل الفرنج عليها: ولما دُعُوا من مِصرَ لَبُّوا دعاءَنا ... على كلِّ نَهْدٍ لَيِّنِ العُنْقِ يَعْبُوبِ فأردَى كماةَ الروم شدَّةُ بَطْشِهِمْ ... فهم بين مطلولِ الدماءِ ومطلوب فلستَ ترى في عصبةِ الشركِ حاملاً ... صليباً ولا عِلْجاً لهم غيرَ مَصْلوب وحسبهمُ ذاكَ الطعانُ الذي غَدَتْ ... بهم قِصَداً فيهم صدورُ الأنابيب وظلَّ عميدُ الرومِ من حَذَرِ الرَّدَى ... يَؤُمُّ طريقاً بينهم غيرَ ملحوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 776 ونَكَّبَ عن مصرٍ وَوَلَّى بمَنْكَبٍ ... جريحٍ بأنيابِ النوائبِ مَنْكُوبِ وقد كادَ دينُ اللهِ يَخْفتُ نُورُهُ ... ويُرْمَى بتبديلٍ وشيكٍ وتقليب فحصَّنْتُمُوهُ بالأَسِنَّةِ والظُّبَا ... وتصعيدِ آراءٍ كَفَتْهُ وتَصْويب فلست ترى إِلا مَحَاريبَ في وغى ... حَمَوْا بيضةَ الإسلامِ أَوْفى مَحَاريبِ ومنها: وما المُلْكُ إلا لائقٌ بأَخيكُمُ ... وغارِبُهُ إِلاّ لَهُ غيرُ مَرْكوبِ أنتم نجومٌ وهو كالشمسِ ضَوْءُها ... مَلِيٌّ بتَشْرِيقٍ يَعُمُّ وتغريب أَيُوسفَ مصرٍ إنما أَنْتَ يوسُفٌ ... فأَنْتَ ابنُ أَيُّوبٍ وذاكَ ابنُ يعقوب وما بَرِحَتْ مصرٌ قديماً حُمَاتُها ... ببعثٍ من القُطْرِ الشآميِّ مَجْلوبِ وله لو كنتُ أَعْلَمُ أنني ... أَلقى لبُعدكِ ما لقيتُ لأَقَمْتُ عندكِ ما بقيتِ ... على الحياةِ وما بقيتُ فلئن نَعِمْتُ بقرْبكمْ ... فبِنأْيِكُمْ عَنِّي شَقِيتُ وله إذا ساءَ خُلْقُ كَريمِ الرجالِ ... لضيقٍ من الحالِ أَو نكبةِ فإني مليءٌ بصبرٍ جميلٍ ... يُحَسِّنُ في عُسْرَتي عِشْرَتي وله في الهجو: شاعرُنا ذو لحيةٍ ... قد عَرَضَتْ وانفَسَحَتْ لحيةُ تيسٍ صَلُحَتْ ... لِفَقْحَةٍ قد سَلَحَتْ وله قد طوىَ بعدَ أَرْضِكم سُوقَ شوقٍ ... ظلَّ للقلبِ مُزْعِجاً مُسْتَحِثَّا وَرَمَى بي فجاجَ كلِّ فلاةٍ ... جُبْتُ حَزْناً مِنْكُمْ إليه وَوَعْثَا وله قصيدة يرثي بها بعض العلويين: مَوْرِدُ الموتِ واضحُ المنهاجِ ... ليس حيٌّ من الحِمَامِ بناجِ وسواءٌ لديه ثاوٍ بِقَفْرٍ ... أوْ بقصر مُشَيَّدِ الأَبراجِ ومنها: إنما هذه الحياةُ غُرورٌ ... كسرابٍ بدا لنا في فِجَاجِ تُتْبِعُ الحلوَ مَن جَنَى عَيْشِها الحُلْوِ ... بِمُرٍ من الرزايا أُجَاج نحنُ فيها كمثلِ ركبٍ أَناخوا ... ساعةً ثم أُرْهِقوا بانزعاج وله يعتذر من الهجو: أُحْوِجْتُ في رَقْمِ أَهاجيهمُ ... واللومُ مصروفٌ لمن هاجَهَا لو لم يكنْ تقبيحُهُمْ زائداً ... لكنتُ قد عَفَّيْتُ منهاجَها وله إني وإِن كنتُ أَمْضَي ... من الظُّبَا والرِّماحِ فالحبُّ أَنَفذُ منِّي ... يا صاحِ في الأرْواحِ وله من قصيدة أولها: الوَجْدُ للدنفِ المُعَنَّى فاضحُ ... ودليلُهُ بادٍ عليه وَوَاضِحُ كيفَ السبيلُ له إلى كِتْمانِه ... والدمعُ والسَّقَمُ المُبَرِّحُ بارحُ إن يُمْسِ قلبي وهو صبٌّ نازحٌ ... فلأنّ من يهواهُ عنهُ نازحُ فجوارحي وجداً عليه جَرِيحةٌ ... وجوانحي شَوْقاً إليهِ جَوَانح وله من قصيدة في مدح الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب أخي الملك الناصر يصف عصيان المعروف بالكنز: فأيْنَ يَنْجُو هائبٌ هارِبٌ ... من نكبةٍ شنعاءَ ذاتِ اجتياحْ أَنَّى وظهرُ الأرضِ مَعْ بطنها ... لناصرِ الإِسلامِ في بَطْنِ راحْ وله من قصيدة: وإذا انتَضَى سيفاً هناك فنصلُهُ ... في غِمْدِ ثَجَّاجٍ من الدم مُزْبِدِ وكأنما هو مُغْمَدٌ في هامِهِمْ ... فلذاك يُلْفَى الدهرَ غيرَ مُجَرَّد وله من قصيدة في ابن عين الزمان: يزيدُ ضياءُ الحسنِ من أَلْمَعِيَّةٍ ... مصادِرُ ما تأتيه قبلَ الموارد ومنها: فإن ينقرضْ عيْنُ الزمانِ فإنه ... لإنسانِ تلك العينِ عينُ المُشاهدِ وله من قصيدة: كريمٌ عليمٌ فهو يَلْقَى مديحه ... ومادِحَهُ في الناس بالنَّقْدِ والنقدِ ترى الخيرَ طبعاً في علاه عزيمةً ... فهل كان مَهْدِيًّا لذاك من المَهْدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 777 وله من قصيدة تنشد على المقابر أولها: الرَّدَى للأَنامِ بالمرصادِ ... كلُّ حيٍ منه على مِيعادِ كيفَ يُرْجَى ثباتُ أَمْرِ زمانٍ ... هو جارٍ طبعاً على الأَضداد فإذا سرَّ ساءَ حتماً وَيَقْضِي ... بوُجودٍ إلى بِلىً ونَفَادِ ومنها: نحنُ في هذه الحياة كَسَفْرٍ ... ربما أُعْجلوا عن الإرْوادِ عَرَّسُوا ساعةً بها ثم نادى ... بالرحيلِ المجدِّ فيهمْ مُناد كم أَبٍ والِهٍ بثُكْلِ بَنيهِ ... كم يَتيمٍ فينا من الأوْلادِ فعَلامَ المُشاجَرَاتُ وفيما ... ولماذا تحاسدُ الحُسَّادِ يَدَّعي المرءُ إرْثَ أَرْضٍ وَدارٍ ... سَفَهاً غيرَ لائقٍ بالسَّدادِ وهو مَوْرُوثُها إذا كان يَبْقى ... وهي تَبْقَى على مدى الآباد وقُصَاراهُ أن يُشَيَّعَ مَحْمُو ... لاً بأكْفانِه على الأَعوادِ وإذا الأَهْلُ والأَقارِبُ والأَحْسَابُ ... راحوا فأنتَ في الإثْرِ غاد فالقبورُ البيوتُ مَضْجَعُنا فيها ... وما إنْ سِوَى الثَّرى من وِساد ومنها: كم أَحالَ البِلَى إليه قديماً ... جَسَداً ناعماً من الأجْسادِ شاهدُ الموتِ لائحٌ في جبين ... الحَيِّ منا في ساعةِ الميلاد وله في ضمن كتاب: وماذا عليه لو أَجابَ بلفظةٍ ... ولم يُلْهِهِ عن ذاك سَعْدٌ ولا سُعْدَى غرامٌ لهُ مَا بينَ بطنٍ لهذه ... وظهرٍ لذا أَنْسَى الصَّدَاقَةَ والوُدَّا وله في الهجو: عناصرُ الإِنسان من أربعٍ ... وخالدٌ عُنْصُرُهُ واحدُ فمن كثيفِ الأَرْضِ تكوينُهُ ... فَهْوَ ثَقِيلٌ يابسٌ باردُ وله من رجز في الحكمة: من لم يَمُتْ في يومهِ مات غَدَهْ ... لا بُدَّ مِنْ مَنْهَلِهِ أَنْ يَرِدَهْ ومنها: من تَخِذَ العلمَ خَدِيناً عَضَّدَهْ ... وحاطَه في دينه وأَيَّدَهْ فأَْنَسْ بهِ تُكْفَ شُرورَ الحَسَدهْ ... وَبِنْ من الناسِ وَكُنْ على حِدَهْ وَدَعْ لهم دنياهُمُ المُسْتَعْبِدَهْ ... حاجزةً عن الرشاد مُبْعِدَهْ دونكَ فعلَ الخير فاسلُكْ مَقْصِدَهْ ... مَنْ عَرَفَ اللهَ يقيناً عَبَدَهْ وله في الأمير مبارك بن منقذ من قصيدة: لجأْتُ إِلى خير الأَنام ابنِ مُنْقِذِ ... ليصبحَ من أَسْرِ الحوادثِ مُنْقِذِي ولذتُ بِحُرٍ في الأَنامِ مُنَجَّدٍ ... بصيرٍ خبيرٍ بالأَنامِ مُنَجَّذِ أَقُولُ لنفسي إِن تداني مَزَارُهُ ... خذي ذِمَّةً منه لنائبة خُذِي وله من قصيدة: قد قُلْتُ للمُجْرى إِلى مضمارِهِ ... والمجدُ نَهْجٌ صَعْبَةٌ أَوْعَارُهُ مما يَشُقُّ لحاقُ شَهْمٍ سابقٍ ... فإِليكَ عَمَّنْ لا يُشَقُّ غُبَارُه بَشَرٌ تَحَلَّتْ بالفضائلِ نَفْسُهُ ... قَمَرٌ تَجَلَّتْ للورى أَنْوَارُه وله من قصيدة أخرى: يُغْضِي عن الزَّلَّةِ حتى يُرَى ... كأَنَّهُ من حِلْمِهِ ما دَرَى ذو قلَمٍ يَرْقُمُ ما شاءَهُ ... إنشاؤُهُ فهو كبرقٍ سَرَى كأنما القرطاسُ في كَفِّهِ ... أُودِعَ من أَلْفَاظِهِ جَوْهَرا ومنها: دُونَكَ من عَبْدِكَ مدحاً غَدَا ... قَدْرُكَ من مِقْدَارِهِ أَكْبَرا فاصفحْ عن الهفوةِ في نُطْقِهِ ... إذا تصفَّحْتَ الذي حُبِّرَا وله من قصيدة: وما الحظُّ منقوصاً بقوصٍ وإنها ... أَجلُّ محطٍ للغريبِ وللسَّفْرِ وأْسنى بلادِ الله إِسْنا لساكنٍ ... وخيرٌ من الكلِّ الرحيلُ إلى مصر فلستُ على أَسْوان أَسوانَ بعدها ... وما أنا مجرٍ ذِكْرَهَا لي على فِكْرِ فلا بارك الرحمنُ فيمن أَزاحني ... عن الظلِّ والماءِ الزُّلالِ الذي يجري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 778 مَقيلٌ ولكن أينَ مِنِّيَ ظِلُّهُ ... وسُقْيا ولكنِّي بعيدٌ عن القطر وله من قصيدة في مرثية أبي محمد هبة الله بن علي بن عرام وكان شاعراً مجيداً: مَنْ لسودِ الخطوب غَيْرُكَ يُجْلِيهَا ... وقد غابَ منك بَدْرٌ منيرُ من يحوكُ القريضَ مِثْلكَ يُسْدِيه ... على خِبْرةٍ به وَيُنِيرُ ليس في العيشِ بَعْدَ فقْدِك خَيْرٌ ... حَبَّذَا وافدُ الردى لو يَزُور كان ظنِّي إذا المنايا انْتَحَتْنَا ... أَنَّني أَوَّلٌ وأَنْتَ أخير خانني الدهرُ فيه آمَنَ ما كنتُ ... عليه وعَزَّني المَقْدُورُ كيف لي بالسلوِّ عنه وَطَيُّ ... القلبِ من فَقْدِهِ جَوًى مَنْشُور فسقى قبرَهث نداه فَفِيهِ ... لثراهُ غِنًى وَرِيٌّ غَزِيرُ وله بيت مفرد: أَنْحَلَني بُعْدِيَ عَنْها فَقَدْ ... صِرْتُ كأني دِقَّةً خَصْرُهَا فعمل ابن عمه أبو محمد أبياتاً، وأتبعه تضميناً، فقال: وقائلٍ عهدي بهذا الفتى ... كروضةٍ مُقْتَبِلٍ زَهْرُهَا واليومَ أَضْحَى ناحلاً جِسْمُهُ ... بحالةٍ قد رابني أَمْرُها فقلتُ إذ ذاك مجيباً له ... والعينُ مِنِّي قد وَهَى دُرُّها أَنْحَلَنِي بُعْدِيَ عنها فَقَدْ ... صِرْتُ كأَنِّي دِقَّةً خَصْرُهَا وله في الحكمة: وما المرءُ إِلاَّ من وَقَي الذمَّ عِرْضَهُ ... وعزَّ فلا ذامٌ لديه ولا غِشُّ وليس بمن يرضى الدناءَةَ والخَنا ... طِباعاً ولا مَنْ دأْبُهُ الهُجْرُ والفُحْشُ وله من قطعة: أَسَعْدَ الدين قد نَشَأَتْ سَحَابٌ ... بِوَعْدِكَ والمُراد هو الرَّشَاشُ فما بالغيمِ لي نَقْعٌ ولكن ... بفيضِ الغَيْث قد يَرْوَى العِطَاشُ فلم أَقْصِدْكَ دونَ الناس إلا ... رجاءً أَنْ يكونَ بك انتعاشُ ومنها: وكم جَازَ القِفَارَ إِليكَ عَبْدٌ ... يُؤَمِّلُ أَنْ يكونَ بكَ انتياش وأوْفَى من بلادٍ شاسعاتٍ ... يضيقُ بها لساكنها المَعَاشُ فَآمَنَهُ الزمانُ فقد قَصَدّى ... له وأَصَابَهُ منهُ خِدَاش وكم حصَّ الزمانُ جناحَ قَوْمٍ ... ولكنَّ الكرامَ رَعَوْا فَرَاشُوا وله من قصيدة: قَمَرٌ ولكنْ في الغناءِ تخالُها ... قُمْرِيَّةً قد غَرَّدَتْ برياضِ والخدُّ وَرْدٌ والبنفسجُ فَوْقَهُ ... آثارُ تقبيلٍ ببعضِ عِضَاضِ كَانَ السرورُ بها فلما أَنْ نَأْتْ ... ذَهَبَ السرورُ وكلُّ آتٍ ماضِ وله كَرِهْتُمْ مُقامي فارتحلتُ ولم يكُنْ ... مَسِيرِيَ عنكم لا مَلاَلاً ولا بُغْضَا ولو قد صَبَرْتم فرَّقَ الدهرُ بَيْنَنا ... بِموتٍ إلى أن لا يَرَى بعضُنا بَعضا وله تحقَّقَ صِدْقُ الودِّ مني وصَفْوهُ ... فأصبَحَ ذا حُكْمٍ على القلبِ مُشتَطِّ وأَعْرَضَ إعراضَ المُدِلِّ بنفسِهِ ... وتاهَ بأن أَعطى من الحُسْنِ ما أَعْطِي وله من كلمة في الهجو: يا سائراً في غير نَهْجِ التُّقَى ... وسادراً في غَيِّهِ خابِطَا ومنها: فَحْلٌ كما يَزْعُمُ لكِنّهُ ... بالدُّبْرِ للمُرْدِ غدا لائطا وله أَغيٌّ وقد لاحَ المشيبُ بعارضي ... وفيه لَعَمْرِي واعظٌ أيُّ واعِظِ سأُكْرِمُ نفسي أن تُقارِفَ ريبةً ... بسرٍ دفينٍ أو بعينِ مُلاحِظ وله أَأُثْنِي عليكم وأَكْسُوُكُم ... مدائحَ تُطْرِبُ من يَسْمَعُ وأُبخَسُ حَقِّي ويُخْارُ مَعْ ... عتابي على مَوْضِعي مَوْضِعُ إذا ما رضيتُ بها خُطَّةً ... فقد زادَ من قَدْركم أَوْضَع وله سأَحلمُ عن خَصْمي بمجلسِ لَغْوهِ ... ولستُ حليماً عنه في حَوْمة الوَغَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 779 وأَستُرُ طولَ الدهر في الغيب عَيْبه ... حِفاظاً ولا أَبْغي رِضاهُ إذا بَغَى له من قصيدة: وعَهْدِي بريَّا وهْيَ شمْسٌ مُنِيرةٌ ... عَلَتْ غُصُنَا لَدْناً يَميسُ على نَقَا خَلَعْتُ عِذَارِي وادَّرَعْتُ بحبها ... فَظَلْتُ أسيراً في الحُبَالةِ مُطْلَقا تُلاحِظُني أَلحاظُها في حديقةٍ ... بها الحسنُ من كلِّ الجوانبِ أَحْدَقا تمايلتِ الأشجارُ فيها كأنَّما ... سَقَنْها يدُ الأَنواءِ خمراً مُعَتَّقا وصاحَ فِصَاحٌ في الغُصُونِ فخلتها ... قياناً تُغَنِّي لا حماماً مُطَوَّقا إذا ما نسيمٌ هَبَّ ألقَيْتُ عَرْفَها ... لمشتاقهِ من مِسْكِ دارينَ أَعبَقا بها الوردُ غَضٌّ والأقاحي مُفَلَّجٌ ... ونَرْجِسُها يَرْنو إليكَ مُحَدِّقا تَرَى أصفراً من نُورِها ومَرَائشاً ... وأَدْكَنَ مُخْضرًّا وأَحْمَرَ مُشْرِقَا كأنّ هديرَ الماءِ عَوْلَةُ لَوْعةٍ ... لصبٍ مَشُوقٍ لا يُطيقُ التَّفَرُّقا يَفيضُ على تلك الرياضِ انسكابُهُ ... كجودِ ابن شَيْبانٍ إذا ما تَدَفَّقا ومنها في وصف مجلس عرسٍ، ومعرس أنسٍ: كأنّ دخانَ النَّدِّ في جَنَباتِها ... ضَبَابٌ وماءُ الوردِ غَيْثٌ ترقرقا وقوله في الأمير مبارك بن منقذ وهي قصيدة طويلة: أقولُ لنفسي إذ تزايدَ ظُلْمُهُمْ ... فِرَارَكِ من دارِ الهُويْنا فِرَارَكِ فَلَلْمَوْتُ خيرٌ من مُقامٍ مُذَمَّمٍ ... تَرَيْنَ به بَيْنَ الليالي احتقارَكِ وفي غيرِ أسوانٍ مَرَادٌ ومَذْهَبٌ ... فلا تَجْعَلي شَرَّ النواحي قَرَارَك فخيرُ بلادِ الله ما صانَ مِن أَذًى ... وأَضحى مَحلاًّ للأميرِ مُبارك يقولُ له من جاءَ يَطْلُبُ رِفْدَهُ ... ونَجْدَتَهُ انعَشْ بالندى وتَدَارك ويَشْرَكُهُ في ماله كلُّ قاصدٍ ... ولكنه في المجد غيرُ مُشارَكِ وله وإني مُحِبٌّ للقناعة والتُّقَى ... وللْحِرْصِ والطبعِ المُذَمَّمِ فارِكُ وساعٍ إلى صُنْعِ الجميل مُسارِعٌ ... ومُطَّرِحٌ فِعْلَ القبيحِ وتاركُ ومَنْ لي بخِلٍ في الزمانِ مُصادِقٍ ... يُساهِمُ في بأْسائه ويشارك وله من قصيدة في مدح الملك العادل سيف الدين أبي بكر أخي صلاح الدين: أَحْبِبْ بعصرِ الصِّبَا المأثورِ والغَزَلِ ... أَيَّامَ لي بالغواني أعظَمُ الشُّغُلِ وإذْ غَرِيمي غَرَامٌ لستُ أَفتَرُ مِنْ ... أوْصابِهِ وعَذَابي فيه يَعْذُبُ لي مَنْ لي بعَوْدِ شَبَابٍ مُنْذُ فارقني ... لم ألْقَ من عِوَضٍ عنه ولا بَدَلِ لبستُ بُرْدَ الصِّبَا حيناً بجِدَّتِه ... فأَخْلَقَ البُرْدُ حتى صِرْتُ في سَمَلِ كم ليلةٍ نِلْتُ من نَيْل المُنَى وَشَفَت ... بذلك الوَصْلِ ما بالصدر من غُلَل عُلِّقْتُها غِرَّةً غَرَّاءَ غُرَّتُها ... كالبدرِ حَفَّ بليلٍ فاحمِ رَجِلِ ومنها: صَدَّتْ وكم قد تَصَدَّتْ للوصالِ وما ... يُرْجي انعطافٌ لمنْ قد صَدَّ عن مَلَلِ وله من قصيدةٍ في مدح الفاضل أولهاك على الله مُعْتَمَدُ السائلِ ... فَعَوِّلْ على لُطْفِهِ الشاملِ وقد مَسَّني الضرُّ حتى لَجَأْتُ ... إلى كَنَفِ الفاضِلِ الفاضِلِ لقد وفِّقْتْ دولةٌ رأْيُها ... إلى الوَرِعِ العالِمِ العامِلِي مليٌّ بتدبير أَحْكامِها ... وأَحكامِ مُشْكلِهِا النازلِ وَمَنْ يَفْزعُ الحرُّ مِن فَضْلهِ ... إلى خيرِ كافٍ له كافلِ ومن تَمَّمَ اللهُ نقصَ الأَنامِ ... بسؤْدُدِهِ الباذخِ الكامل تَوَاضَعَ عن رِفعَةٍ فاعتَلَى ... وكم حَطَّ كِبْرٌ إلى سافِل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 780 كتائبُهُ كُتْبُهُ في العِدَا ... وأقلامُهُ كالقنا الذابل إذا ما استمدَّ أتاك اليَرَاعُ ... بمَدِّ بلاغتِهِ الهاطل ترى البَرْقَ في جَرْي أقلامِهِ ... كما الوبلُ في جُودِهِ الهامل تظاهَر بالحقِّ في حُكْمِه ... ويأْنَفُ من باطنِ الباطل وله من قصيدة أولها: أَطَلْتَ من اللَّوْمِ المُرَدَّدِ والعَذْلِ ... عليَّ وإِنِّي في الغرامِ لَفِي شُغْلِ فما الحبُّ إلا النارُ والعَذْلُ عنده ... هواءٌ به يزدادُ في قُوَّةِ الفِعْلِ رَضِيتُ بسُلطانِ الهوَى مُتَسَلِّطاً ... عَلَى مُهْجَتي في الحكْمِ بالجَوْرِ لا العَدْلِ بِقَلْبيَ سَهْمٌ لا بِقَلْبِكَ صائبٌ ... رُمِيْتُ به عن سِحْرِ أَعيُنِها النُّجْل تَنامُ خليَّ الحالِ مما يُحِسُّهُ ... شَجٍ كُحِلَت عيناهُ بالسُّهْدِ لا الكُحْل ومنها: وإِنَّ غَزَالاً كالغزالةِ وَجْهُهُ ... ضعيفُ القوى يَسْطُو بليثٍ أَبي شِبْل ومَنْ خَصْرُهُ المهضومُ كَيْفَ مع الضَّنَا ... ينوءُ بِرِدْفٍ باهظٍ حَمْلُهُ عَبْلِ وفي خدِّهِ نارٌ وَمَاءُ شبيبةٍ ... وما اجتمع الضدانِ إِلاَّ عَلَى قَتْلي ومشمولةٍ سُقِّيتُهَا من رُضَابِهِ ... وما لي سوى تقبيل خَدَّيْهِ من نُقْل فمن شفتيه كأسُها وحَبابُها ... يَرى عِقْدَ ثَغْرٍ عِقْدُهُ غيرُ مُنْحَلِّ ومنها: وإني وإن شَبَّبْتُ لا عَنْ شبيبةٍ ... فمَذْهَبُ قومٍِ في القريضِ مَضَوْا قَبْلِي أَأُخْطِىءُ في قَصْدي وأَخْطُو لِصَبْوَةٍ ... وجامعةُ الستين قد جَمَعتْ رجلي ومنها يصف بستاناً وبركة وسواقي: كأنّ خرير الماءِ في جَنَباتِه ... أَنينٌ لمهجورٍ يَحِنُّ إلى وَصْلِ جَدَاوِلُهُ تَجْري عُيُوناً كأنّها ... نُصُولُ سيوفٍ لامعاتٌ من الصَّقْل ومنها: وفوقَ قوامِ الغُصْنِ طيرٌ لهَزِّهِ ... على أَلِفٍ للقَطْعِ ثُبِّتَ لا الوَصْلِ وقد غَرَّدَتْ أطيارُهُ فكأَنَّها ... قيانٌ تَطارَحْنَ الغناءَ على مَهْل وطابقها الدولابُ في حُسْنِ زَمْرِهِ ... مطابقةَ الشكلِ الملائمِ للشكل وأظهرتِ الأسحارُ سرَّ نسيمها ... بوَسْوَسَةٍ كالخَ " ِّ يُعْرَفُ بالشكل فلذَّ لنا ذاك النسيمُ كأنَّه ... سِرَارٌ تَهادَاهُ الأحِبَّةُ بالرُّسُل وله إِنْ تَمَادَى الهِجْرَانُ منك اتِّصالا ... صَيَّلاَ الحُبَّ بيننا ذا انفصالِ وصَدودُ الدَّلالِ إن زادَ أَفْضَى ... بك عندي إلى صُدودِ المَلاَلِ واعتقادي أنْ لوْ صَبَرْت قليلاً ... فَرَّقَتْ بيننا صروفُ الليالي وله مما ينقش على سكين: إذا مَلَكَتْنِيَ كفُّ الفَتَى ... فما السيفُ والأسمرُ الذابلُ وأَفْتَكُ مِنِّي العيونُ التي ... تُعَلَّمُ من سِحْرِها بابلُ له من قصيدة: شكوت لها نَهْدَين في الصدرِ باعَدَا ... مُعانِقَها عن ضَمِّهِ وَهْوَ مُغْرَمُ ولو مَلَكَتْ أَمْرًا لما كانَ خَصْرُها ... على ضَعْفِه من رِدْفِها يَتَظَلَّمُ وله في أثناء كتاب كتبه إلى بعض أصدقائه: أَظُنُّهُما قد صافَحَا وَرْدَ خَدِّهِ ... ومَرَّا على تلْك السوالفِ واللَّمَى وإلاَّ غرامي فيهما وصَبابتي ... وكثرة تقبيلي هُمَا دائماً لِمَا وله من قصيدة أولها شكوى: لا تُطِيلي على الرحيلِ مَلاَمِي ... فلأَمْرٍ إمْرٍ كَرِهْتُ مُقامي أيُّ خيرٍ في بلدةٍ يستوي ذو ... النقصِ فيها بفاضلِ الأَقوامِ منها: ضاعَ سَعْيِي وما أَفَدْتُ من الآ ... دابِ فيما مَضَى من الأعوَامِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 781 كم كتابٍ مثلِ الكتائبِ أَغْنَى ... عنهمُ في العِدا غَنَاءَ الحسام كم بقَوْلٍ أَقَلْتُ من عَثَراتٍ ... كم كِلامٍ أَسَوْتُها بكَلاَمِ منها: وَغْدُهُمْ وَهْوَ رِفْدُهُمْ كَسَرَابٍ ... أو خيالٍ من كاذبِ الأحلامِ وإذا نَكْبَةٌ عَرَتْهُمْ وحَلَّتْ ... بذُرَاهُمْ من الخُطوبِ الجِسَام فَهْيَ فَوْقي تَحْتي يَميني يَسَاري ... وَوَرائي من هَوْلها وأَمامي وإذا الأَمْنُ عَمَّهُمْ واستَقَرُّوا ... خِفْتُ منهمْ بوادِرَ الإنتقام فأنا الدهرَ في عَذَابٍ إذا ما ... سَخَطوا أوْ رَضُوا عن الأيَّام ليسَ دنياهمُ لغيرِ عبيدٍ ... أَدنياءِ النفوسِ من آلِ حام حكَّمُوهُمْ فيها وفيهمْ فعادوا ... كلُّ رأسٍ منهم بغيرِ زِمام وتولَّوْا تدبيرَها وهي كالشمسِ ... ضياءً فأصبَحَتْ كالظلام فَدَعُونا لا تأخُذُوا ما بأيدينا ... وَرُوحُوا يا ويحكمْ بسلام إنّ في الأرض غيرَ أُسْوانَ فاهْرَبْ ... من أَذاهُمْ إلى بلادِ الشام فالرحيلَ الرحيلَ عنهم سريعاً ... فهمُ من لئامِ هذا الأَنام وله من قصيدة: قامَ بعذري له عذارٌ ... أَشْبَهُ شيءٍ ببعضِ نُونِ انْظُرْ إِلى شَخْصِهِ تشاهِدْ ... محاسناً جَمَّةَ الفُتُونِ وله من قصيدة يطلب فروة: مليكٌ جميلُ الخُلْقِ والخَلْقِ لم يَزَلْ ... يروعكَ في جِدٍ، يَرُوقُكَ في لَهْوِ يَمُنُّ بلا مَنٍ وَيُعْطِي تَعَمُّداً ... إذا غَيْرُهُ أعطاكَ عن خَطأَ السَّهْوِ منها: أَيَا مَلِكاً يُعْطِي على كلِّ حالةٍ ... ويُعْطي أَخُوهُ الغيثُ في الغَيْمِ لا الصَّحْوِ وما أَبْتَغِي مالاً، ولو شئتُ لم يَفُتْ ... لديك، وهذا ليسَ قَصْدِي ولا نَحْوِي ولكنْ لِفَضْلِ البَرْدِ في الجسم سَوْرَةٌ ... وليس بِوَاقٍ من أَذاه سوى الفَرْوِ فجودُكَ يَكْسُوني وَيُرْوِي من الظَّمَا ... ومَدْحي لما أَوْلَيْتُ من حَسَنٍ يَرْوِي وما أَنا ممن يَجْحَدُ العُرْفَ رَبَّهُ ... ويسترُ مشهورَ الصنيعةِ أَوْ يَزْوي وظاهرُ أَمْرِيَ في الولاءِ كباطني ... وكم ذي نِفَاقٍ مُعْلِنٍ ضِدَّ ما يَنْوي ومنها: وقافيةٍ لَيْسَتْ تفارقُ مَرْكَزاً ... وتقطعُ آفاق البلادِ بلا عَدْوِ لها رَوْنَقٌ من قبل تلحينِ وَزْنِهَا ... إِذا كان بعضُ الشعرِ يَحْسُنُ بالحَدْوِ أَمادِحَهُ استيقظْ فشعرُكَ وافدٌ ... على لُغَوِيٍ شاعرٍ ناقدٍ نَحْوِي فمن كان في قولٍ مُجيداً وقاصداً ... مجِيداً به فَلْيَحْذُ في نَظْمِهِ حَذْوِي وله كم قد تَصَبَّرْتُ عَنْهُ ... فما أَطَقْتُ سُلُوَّهْ أَرَى الصَّلاحَ لقلبي ... إِذا نَظرْتُ دُنُوَّهْ وله إِنّ نهاري من بَعْدِ فُرْقَتِهِ ... كالليلِ هذا بذاكَ مُشْتَبِهُ يقطعُ هذين مُدْنَفٌ كَلِفٌ ... يكابِدُ الوَجْدَ وَهْوَ مُنْتَبِهُ أبو محمد هبة الله بن علي بن عرام السديد ذكر قاضي أسوان أنه كان أشعر من ابن عمه، وكان قوياً في فهمه، جرياً في نظمه، ماضياً في عزمه، راضياً بحزمه، وتوفي سنة خمسين وخمسمائة، ثم أهدى لي فخر الدولة بن الزبير ديوان المذكور، فحصلت على الدر المنظوم والمنثور، وقلدت الخريدة منه كل قلادة، تزين كل غادة، وأوردت في الجريدة من شعره ما يشعر بإفادة وإجادة. وهو ديوانٌ نقحه لنفسه، وصححه بحدسه، وقفى قوافيه على ترتيب الحروف، وهي للمعاني الطريفة والحكم الظريفة كالظروف. فمن ذلك قوله: بحقٍ وقد صُغْتُ فيك المديحَ ... جَعَلْتَ القبيحَ عَلَيْهِ جَزَائ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 782 وَصَفْتُكَ فيه بما ليسَ فيك ... وهذا لَعَمْرُكَ عَيْنُ الهجاء وقوله: أَيُّها العشّاقُ هل أَحَدٌ ... قائمٌ في الله مُحْتَسِبُ مَنْ مُجيري من مُدَلَّلَةٍ ... لَحْظُها الهنديّةُ القُضُبُ هيَ بدرُ التمِّ إِنْ سَفَرَتْ ... وهلالٌ حِينَ تَنْتَقِبُ سَفَكَتْ يومَ الفراقِ دَمِي ... فهْو مِنْ جَفْنَيَّ مُنْسَكِبُ وله يذم السفر: لا عِزّ للمرءِ إِلاَّ في مواطنهِ ... والذلُّ أَجْمَعُ يَلْقَاهُ مَنِ اغْتَرَبَا فاقنعْ بما كانَ مما قَدْ حُبِيتَ به ... بحيثُ أَنْتَ وَكُن للبينِ مُجْتَنِبَا وقوله: ظَلَمْتُكَ مِنْ حَيْثُ قَدَّرْتُ فِيكَ ... حِفْظَ الودادِ وَرَعْيَ الْحَسَبْ كأَنِّي جَهِلْتُ بأَنّ اللئيمَ ... عدوٌّ لكلِّ كريمِ الْحَسَبْ وقوله: كنتُ فيما مضى إذا صُغْتُ شِعْراً ... صُغْتُهُ في المديحِ أَوْ في النّسِيبِ وأنا اليومَ إن صَنَعْتُ قَريضاً ... فهْو في ذمِّ الزمانِ العَجيب وقوله في حسود: وذي عيوبٍ بَغَى عَيْبي فَأَعْوَزَهُ ... فَظَلَّ يَحْسُدُني للعلمِ والأَدب نَزَّهْتُ نَفْسيَ عَنْهُ غيرَ مُكْتَرِثٍ ... بِفِعْلِهِ فأَتى بالزُّورِ والكَذِب وقوله: ليت شعري هل يَعْلَمَنَّ بما أَلْقَى ... من الوَجْدِ مَنْ بِهِ قَد كَلِفْتُ كيف يَدْري بذاك يا صاحِ من با ... تَ خَلِيّاً من الهَوَى وَسَهِرْتُ وقوله: لا تُنْكِرُوا ما بِهِ عُرِفْتُمْ ... دونَ سِوَاكُمْ من الحِرَاثَهْ فَهْيَ لآبائكمْ قديماً ... وَهْيَ لَكُمْ بَعْدَهُمْ وِرَاثَهْ وقوله في المدح: أجِدَّكَ ما تَنْفَكُّ تَعْتَسِفُ الفَلاَ ... نهاراً وتَطْوِي البيدَ في غَسَقِ الدُّجَى أخا غَزَواتٍ ما تزالُ مُخَاطِراً ... بنفسِكَ فيها حاسِراً ومُدَجَّجَا متى يَدْعُكَ الداعي تُجِبْهُ إلى الوَغَى ... على سابحٍ كالبرقِ من نَسْلِ أَعْوَجا أَرِحْ جِسْمَكَ المكدودَ من دَلَجِ السَّرَى ... قليلاً وذاك الطِّرْفَ من أَلَمِ الوَجَا وقوله: وَجَدْتُ هجائي لقومٍ مَدَحْ ... تُ يعلو، ويَسْفُلُ عند المديحْ وهذا دليلٌ على أنّ مَدْحِ ... يَ فيهمْ محالٌ وهَجْوِي صحيح وقوله: لو كان للجودِ شَخْصٌ ... كان ابنُ شيبانَ رُوحَهْ وقوله في مدح طبيب: سيِّدُنا ما زالَ في طِبِّهِ ... بالحِذْقِ والتمييزِ مَمْدُوحَا نَبُثُّهُ ظاهِرَ أحوالِنا ... فيكشفُ الباطنَ مَشْروُحا كأنما فِكْرَتُهُ مازَجَتْ ... من العليلِ الجسْمَ والرُّوحا نَظُنُّ من توفيقِهِ أَنَّهُ ... وَحْيٌ إليهِ أبداً يُوحَى مَنْ لم يكُنْ في طِبِّهِ مِثْلَهُ ... كان بعينِ النَّقْصِ مَلْمُوحا وقوله: قُلْ للذي أَبْدَى الشما ... تَةَ في ابن شيبانٍ فَتُوحِ لا بدَّ أنْ تَرِدَ المنو ... نَ ولو خُصِصْتَ بِعُمْرِ نُوحِ وقوله: لم يَبْقَ في الناس إلا التيهُ والبَذَخُ ... وكلُّهُمْ من فَعَال الخيرِ مُنْسَلِخُ إن أَبْرَمُوا نَقَضُوا، أَوْ أَقْسَمُوا حَنَثُواأو عاهَدُوا نكثوا، أو عاقَدُوا فَسَخُوا وقوله في الهجو: كم عَذَلوه على بِغَاهُ ... شُحًّا عليه فما أَصَاخَأ ولو رأَى في الكنيف ... ... لغاصَ فغي إثرِهِ وَسَاخا أَعياهُمُ داؤه صَبِيًّا ... فاستيأَسُوا منه حين شاخا وقوله في المدح: لو زُرْتُهُ في اليومِ ما زُرْتُهُ ... أوْسَعَنِي جُوداً وأَسْدَى يَدَا كأنَّهُ أَقْسَمَ أنْ لا يَرَى ... شَخْصِيَ إِلاّ جاد لي بالنَّدَى وقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 783 لا تَعْرِضَنَّ لشاعرٍ ذي مِقْوَلٍ ... عَضْبٍ يَفُلُّ غِرارَ كلِّ مُهَنَّدِ وتَوَقَّ ما يَبْقَى جديداً وَسْمُهُ ... جُرْحُ اللِّسانِ أَشَدُّ مِن جُرْحِ اليَدِ وقوله: لا يَخْدَعَنَّكَ ما تَرَى مِن مَعْشَرٍ ... قد صارَ شُغْلُهُمُ اعتمادِيَ بالأَذَى أنا في حُلُوقِهِمُ شَجاً يَغْشَاهُمُ ... حتى المماتِ وفي عُيونهمُ قَذَى وله لئن كنتَ عن مُقْلَتِي نائياً ... فإنّكَ بالذِّكْرِ في خاطري وإنّ مَحَلَّكَ مِنِّي ... مَحَلُّ إنسانٍ عَيْنِيَ مِن ناظري وقوله يستدعي صديقاً له: نحنُ ثِمادٌ وأنتَ بَحْرُ ... بنا إِلى القُرْبِ منك فَقْرُ فَعُدْ إلينا تَجِدْ نجوماً ... أنْتَ لها ما حَضَرْتَ بَدْرُ وقوله: خَدَمْتُكُمْ بالنظمِ والنثرِ ... عُمْرِي فما أَصْلَحْتُمُ أَمْرِي فَرُحْتُ عنكمْ خائباً حائراً ... في فِقَرٍ أَدَّتْ إلى فَقْر أَقْرَعُ سِنِّي ندماً تارةً ... وتارةً أَقرَأُ والْعَصْرِ وقوله من أول مرثية: نميلُ مع الآمالِ وهْيَ غَرُورُ ... ونطمعُ أن تَبْقَى وذلك زُورُ وتخدعُنا الدنيا القليلُ مَتَاعُها ... وللشيب فينا واعظٌ ونَذِير ونزدادُ فيها كلَّ يومٍ تَنافُساً ... وحِرْصاً عليها والمُرادُ حقِيرُ ونطلبُ ما لا يُسْتَطاعُ وجودُهُ ... وللمَوْتِ منَّا أوَّلٌ وأخيرُ وقوله في مرثية أبي الغمر: لِيَبْكِ بنو الآداب طُرًّا أَديبَهُمْ ... وفارسَهُمْ في حَلْبَةِ النَّظْمِ والنَّثْرِ ولا يَطْمَعوا من دَهْرِه بنظيرهِ ... فهيهات أن يَأْتِي بمثل أَبي الغمر وقوله في الحكمة: إذا حصَلَ القوتُ فاقنعْ به ... فإنَّ القناعةَ للمرءِ كَنْزُ وصُنْ ماءَ وَجْهِكَ عن بَذْلِهِ ... فإنّ الصِّيَانَةَ للوَجْهِ عِزُّ وقوله: يا من دَعَوْهُ الرئيسَ لا عَنْ ... حقيقةٍ بل عَلَى مَجازِ لستُ أُكافِيكَ عن قَبيحٍ ... منك بهجوٍ ولا أُجازِي وما عسى تبلغُ الأَهاجي ... من رَجُلٍ كلُّهُ مَخَازي وقوله في الزهد: لما بدا لي سرُّ هذا الورَى ... وكنتُ من خيرِهِمُ آيسَا لَزِمْتُ بيتي راحةً منهمُ ... وصِرْتُ بالوحدة مُسْتَأنِسَا وقوله في الغزل: قلتُ لإخواني وقد زارني ... ظَبْيٌ سقيمُ الطرفِ طاوِي الحَشا مُفْتَتِنٌ في كل أحواله ... مُحَكَّمٌ في مهجتي كيف شا ها فانْظُرُوا واعتَبِروا واعجَبُوا ... من أَسَدٍ يَحُكُم فيه رَشَا وقوله: ضِقْتُ ذرعاً فباح صَدْري بِسِرِّي ... وَسُلُوِّي فَمُعْوِزٌ مُعْتَاصُ أَوْقَعَ القَلْبَ لَفْظُكَ العذبُ في كلِّ ... عَذَابٍ وَلَحْظُكَ القَنَّاصُ ليس لي فيكَ مَطْمَعٌ فأُرَجِّيكَ ... ولا مِنْكَ ما حَيِيتُ خَلاَص وقوله: يا من غَدَتْ أَخْلاَقُهُ ... في الحُسْنِ كالرَّوْضِ الأَريضِ اسْتُرْ بِحَقِّكَ ما تُشَا ... هِدُ من عَوارِي في قَريضي فلأَِنْتَ تَعلَمُ أَنَّني ... ذو خاطرٍ زَمِنٍ مَريض مُتِّعْتَ بالعُمْرِ الطويلِ ... وَفُزْتَ بالعزِّ العَرِيض وقوله في مدح الوحدة: أَنِسْتُ بالوَحْدَةِ حتى لَقَدْ ... صِرْتُ أَرَى الوَحْشَةَ في الخِلْطَهْ وكنتُ فيما قَدْ مَضَى غالطاً ... وَلَنْ ترى من بَعْدِها غَلْطَهْ وقوله في الغزل: بأبي غزالٌ إِنْ رَنَا ... أَصْمَى بفاترِ لَحظِهِ وإِذا رَثَى مِمَّا جَنَى ... أَحيا بباهرِ لفظه وقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 784 كُنْ موقناً أَنَّ الزمانَ وإِنْ غَدَا ... لك رافعاً سيعودُ يوماً واضعا والطيرُ لو بَلَغَ السماءَ مَحَلُّهُ ... لا بُدَّ يوماً أَنْ تَرَاهُ واقعا وقوله: لا تَرْجُ عند اللئامِ مَنْفَعَةً ... ما لَمْ تُهِنْهُمْ بها ولا تَطْمَعُ فالهُونُ بالطبعِ عندهُمْ أبداً ... يُفيد نفعاً وفيهمُ يَنْجَعُ وقال في الغزل: مَنْ مُعِيني على اقتناصِ غَزَالٍ ... نافرٍ عن حبائلي رَوَّاغِ قَلْبُهُ قَسْوَةً كجُلْمُودِ صَخْرٍ ... خَدُّهُ رِقَّةً كَزَهْرِ الباغِ كلما رُمْتُ أَنْ أُقَبِّلَ فَاهُ ... لَدَغَتْنِي عقاربُ الأَصْدَاغ وله في الهجو من أبيات: فلو كان مِمَّنْ يُساوي الهجاءَ ... إذَنْ لهجوتُ وَدَاخَلْتُهُ في مَديحي وَهَجْوِي كفيلانِ لي ... برفعِ الوَضِيعِ وَوَضْعِ الشريفِ وقوله في الغزل: لَدَغَتْنِي عقاربُ الصُّدْغِ منهُ ... فَسَلُوه من ريقه دِرْيَاقَا إِنَّني عاشقٌ له وهو مُذْ كا ... نَ ظَلُومٌ لا يَرْحَمُ العُشَّاقَا وقوله في خلٍ أخل بوده وعامله بقبيح صده: وخلٍ سَكَنْتُ إلى وُدِّهِ ... وكدتُ له يعلمُ اللهُ وامقْ وَقَدَّرْتُ فيه جميلَ الإِخاءِ ... ولمَّا أَخَلْهُ عدوًّا مُمَاذِقْ فعامَلَنِي بصنوفِ القبيح ... فِعْلَ لئيمٍ خبيثٍ مُنَافِقْ على غير شيءٍ سوى أَنَّني ... بذلتُ له الودَّ دونَ الأَصادِق ولستُ بأَوَّل مَنْ خانَهُ ... وِدادُ صديقٍ به كان وَاثِقْ وقوله في الغزل: يا لَقَوْمِي لغادةٍ جَمَعَتْ دَل ... الأغاني وسَطْوَة الأَمْلاكِ فَتَنَتْنِي بلفظها وَثَنَتْنِي ... عَنْ رَشَادِي بِطَرْفِها الفَتَّاكِ صَيَّرَتْنِي في العِشْقِ أَوْحَدَ دَهْرِي ... بَعْدَ أَنْ كُنْتُ أَوْحَدَ النُّسَّاكِ وقوله: أَتَتْنِي منك أَبْيَاتٌ حِسَانٌ ... هي الدرُّ الثمين بغيرِ شَكِّ فكانت لا عَدِمْتُكَ بُرْءَ جِسْمي ... من البَلْوَى فَقَدْ زالَ التشكِّي وقوله: إذا أَثْرَيْتَ من أَدَبٍ وَعِلْمٍ ... فلا تَجْزَعْ ولو تَرِبَتْ يَدَاكَا فمعنى الفقرِ فَقْرُ النفسِ، فاعْلَمْ ... وإنْ أَلْفَيْتَ في اللفظِ اشتراكا وقوله: قالوا فلانٌ قد تَعَدَّى طَوْرَهُ ... جَهْلاً عليكَ ولستَ من أَشْكالِهِ هو يَقْتَضِي لا شكَّ ما عَوَّدْتَهُ ... من حَلْقِ لحيتهِ وَنَتْفِ سِبَالِهِ وقوله من أول قصيدة في رضوان الوزير: جَدَّدْتَ بعد دُروسِهِ الإِسْلاَمَا ... وَجَلَوْتَ عنه الظُّلْمَ والإِظْلاَما وَطَوَيْتَ راياتِ الضلالِ مجاهداً ... وَنَشَرْتَ في عِزِّ الهُدَى أَعْلاَما وقوله: معاذ الله أَن أَغْدُو كَقَوْمٍ ... متى افتقروا فَهُمْ حُلفاءُ همِّ إِذا تَرِبَتْ يداي فلستُ آسَى ... وَقَدْ أَثْرَيْتُ من أَدَبٍ وعلم وقوله: أَتْعَبْتُ نَفْسي وَفِكْري ... في مَدْحِ قَوْمٍ لِئَامِ وَعزَّنِي حُسْنُ بِشْرٍ ... مِنْهُمْ وَطيبُ كلامِ فما حَصُلْتُ لَدَيْهِمْ ... إِلاَّ عَلَى الإِعْدَام ولو جَعَلْتُ قَرِيضي ... مَرَاثياً في الكرام لَحُزْتُ ذِكْراً جميلاً ... يَبْقَى على الأيَّام وقوله: إنْ كانَ غَرَّكُمُ حِلْمٌ عُرِفْتُ به ... فإنَّ لي مَعَ حِلْمي جانباً خَشِنَا وإنْ تَكُنْ مِدَحي أَضْحَتْ لكمْ جُنَناً ... فإنَّ أَسْهُمَ هَجْوِي تَخْرِقُ الجُنَنَا وقوله: كيف لا يُزْهَى علينا ... مُسْتَطِيلاً وَيَتِيهُ وَهْوَ في الحُسْنِ فَريدٌ ... ما له فيه شبيهُ وقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 785 جميعُ أَقوالِهِ دَعَاوِي ... وكلُّ أَفْعَالِهِ مَساوِي ما زالَ في فَنِّه غريباً ... ليسَ له في الوَرَى مُسَاوي وقوله: هو المَجْفُوُّ ما أَمِنُا لدهْرٍ ... إذا ما نابَهُمْ خَطْبٌ دَعَوْهُ فصار كأنه سَبَبٌ لديهمْ ... مَتَى حَصَلَتْ نَتَائِجُهْ رَمَوْهُ وقوله: يا لائمِي في غزالٍ ... قلبي رهينُ يَدَيْهِ لا تطمعنْ في سُلُوِّي ... فلا سبيلَ إليه كم لامني فيه قومٌ ... وَعَنَّفُوني عليه حتى إذا أَبْصَرُوهُ ... خرُّوا سجوداً لديه فاحفظْ فؤادَكَ فالمو ... تُ في ظُبا مُقْلَتَيْهِ وقوله: علامَ أَجوبُ الأَرْضَ في طَلَبِ الغنى ... وأُتْعِبُ نَفْسي والقلاصَ النواجيا إذا كان لِي رزقٌ فليس يَفُوتُنِي ... أَكُنْتُ قريباً منه أَوْ كُنْتُ نائيا وقوله في النزاهة والحمد: لم تَزَلْ أَلطافُ رَبِّي ... أَبَداً عندي حَفِيّهْ دائباً يُذْهِبُ عَنِّي ... كلَّ سُقْمٍ وَبَلِيّهْ وقُصارَايَ وإن ... عُمِّرْتُ أَنْ أَلْقَى المنيه ولده أبو الحسين بن هبة الله بن عرام كان له شعر ويهاجي ابن عمه السديد، وتوفي وهو شاب بالقاهرة سنة سعبين وخمسمائة. أبو القاسم عبد الحميد بن عبد المحسن بن محمد الكتامي المقيم بأسيوط الصعي من أدباء أسيوط، وهو بالعلم مغتبط مغبوط. ومما نقلته من خطه له في مدح القاضي الأجل الفاضل: ما الحبُّ ما أَوْلاَكَ من سَكَراَتِهِ ... أَمْراً يحولُ حُلاَك من حَالاَتِهِ كلا وليس الحبُّ عندي غيرَ ما ... صادَ الغزالُ به أُسُودَ فلاتِهِ قسماً بأيامِ العُذَيْبِ وباللِّوَى ... وبما تَشَاكَيْنَا على عَذَبَاتِه لقد استجاشَ من المحاسنِ عَسْكَراً ... لا يستطيعُ القَلْبُ حَرْبَ كماته قَمَرٌ تَجَلَّى للعيونِ فَلَمْ تَكُنْ ... بأَجَلَّ مِنْ مُوسَى لدى ميقاته يَرْمِي القلوبَ بأَسْهُمٍ من جَفْنِه ... فكأنما الكُسَعِيُّ في لَحَظاته وَلَئِنْ تَبَرَّأَ لَحْظُهُ من قَتْلَتي ... فكفاه نَضْحُ دَمِي على وجناته غُصْنٌ إذا ماستْ به ريحُ الصَّبَا ... خَجِلَتْ غصونُ البان من حركاته أَقْطَعْتُهُ قلبي فَقَطَّعَهُ أَسًى ... فعلامَ يُتْلِفَ ذاتهَ بأَذَانِهِ من لي بوصلٍ إِنْ ظَفِرْتُ بِوَقْتِهِ ... أَحْيَيْتُ داعي الشوقِ بعد مماته أَيَّامَ يَسْلُكُ بي هواهُ مَنْهجاً ... شهدَ التقى بالفوزِ مِنْ تَبِعَاته والعينُ ليس ترى سوى ما تَشْتَهِي ... والقلبُ مَوْقُوفٌ على لذاته والروضُ قد راضَ الخواطرَ عندما ... رَكَضَتْ خيولُ الغَيْثِ في جنباتِه قد أَشْرَعَ الأَغْصَانَ أَرْمَاحاً وَقَدْ ... نَشَرَ الشقيقَ هناك من راياتِهِ وتَدَرَّعَتْ عَذَبَاتُهُ بنسيمه ... بتشاجرِ الأَطْيَارِ في شَجَرَاتِهِ كَتَبَ الغمامُ به سُطُورَ مُنَمِّقٍ ... في خَطِّهِ ودواتُهُ مِنْ ذَاتِهِ ورأَى الطيورَ تُمِيلُهُنَّ بلحنها ... فأتى بها هَمْزاً على أَلِفَاتِه وَتَبَرَّجَتْ فيه محاسنُ كِدْنَ أَنْ ... يَنْطِقْنَ من عَجَبٍ به بصفاته فكأنما الأيامُ حين رَأَت إلى ... عبدِ الرحيمِ جَرَتْ على عَادَاتهِ الفاضلُ اليَقِظُ المُعَظَّمُ قَدْرُهُ ... مَنْ كلُّ فضلِ الناسِ مِنْ فَضَلاته قُطْبُ الرئاسةِ لم تَدُرْ أَفْلاَكُهُ ... مُذْ كُوِّنَتْ إِلا عَلَى إِثْبَاتِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 786 وَمُذَلِّلُ الدهر الأَبِيِّ فَقَدْ به ... صَحَّ الزمان بنا على عِلاَّتهِ مُتَواضِعٌ والدهرُ يَعْلَمُ أنّهُ ... لا يرتقي أبداً إلى هِمَّاتِهِ ما استَنَّ في مَيْدانِ فَضْلٍ مُنْتشاً ... إلا انتهى سَبْقاً إلى غاياته ويميسُ في بُرْدِ الكمال مُؤَدِّياً ... شكراً ليُرْفَعَ فوقَ كلِّ لداته ثِقةُ المليكِ ومَنْ رآه كُفَاتُهُ ... مِن دونِ هذا الخلق خيرَ كُفَاتهِ كم عَزْمَةٍ لله أو في حَقِّهِ ... لكَ تَغْتَدِي سَبَباً إلى إثباتِه ما أَعجزَ الفضلُ المُنيفُ مُباهراً ... إلاّ وأنْتَ هناك مِن آياتِهِ تجلو بحُكْمِكَ وهْوَ حُكْمُ اللهِ عَنْ ... شَرْعِ الهُدَى ما عنَّ من شُبُهاته والوقتُ عبدٌ ما تَشَرَّفَ قَدْرُه ... حتَّى غَدَوْتَ اليومَ مِن ساداته كم قد زَرَعْتَ صنائعاً في ذا الورى ... وَحَميْتَ زَرْعَكَ في حَصَادِ نَبَاتِه يَتْلُو مَحَاسِنَكَ الزَّمانُ لحسْنِ ما ... عَمَّرْتَ بالإحسانِ من أوقاتهِ أنتَ الذي شَهِدَتْ فضيلتُهُ بما ... رَفَعَ الإلهُ لَدَيْهِ مِن دَرَجاتهِ وَزَها الربيعُ فقيلَ مِن أخْلاقِهِ ... وَهَمَى الغمامُ فقيل بعضُ هِباته وحياتهِ وَهْيَ اليمينُ لم أكُنْ ... أبداً لأحْلِفَ كاذباً بحياتهِ لقد استعدَّ من الفضائلِ مَعْقِلاً ... لا يُمكِنُ الأيامَ قَرْعُ صفاتهِ ولقد أُعِيرَ من الصُّدُودِ مَوَدّةً ... أَدْنى لقلبِ المرءِ من خَطَراته وتناصَرَت فيه النجومُ فَسَعْدُها ... لِوَلِيِّهِ ونُحُوسُها لِعُدَاتِه فإليكَ مِن مِدَحِ الخواطر شُعْلَةً ... أَوْرَى زنادُ رَوِيِّها لِرُوَاتِهِ مِن مُخْلِصٍ لكَ في الوَلاءِ مُحَقِّقٍ ... بكَ أن يُبَلَّغَ مُنْتَهَى طَلَبَاتِهِ أبو الحزم مكي القوصي له في مروحة: ما مُنْيَةُ النفسِ غيرُ مِرْوَحةٍ ... تُوصِلُ للقَلْبِ غايةَ الرّاحهْ تجودُ لكن بمُسْعِدٍ ولقَدْ ... تَبْخَلُ إن لم تساعدِ الراحهْ أَزِفَ الرحيلُ وليسَ لي من زادِ ... غيرُ الذنوبِ لِشِقْوَتِي ونَكادِي يا غَفْلَتي عما جَنَيْتُ وَحَيْرَتي ... يوماً يُنَادى للحسابِ مُنَادِ غَلَبَتْ عليَّ شَقَاوَتِي وَمَطَامِعي ... حتى فَنِيتُ وما بَلَغْتُ مُرَادي يا غافلاً عمَّا يُرَادُ به غداً ... في مَوْقِفٍ صَعْبٍ على الوُرَّاد اقرأْ كتابَكَ كلُّ ما قَدَّمْتَهُ ... يُحْصَى عليكَ بِصَيْحَةِ الميعاد كيفَ النجاةُ لعبدِ سوءٍ عاجِزٍ ... وعلى الجرائم قادرٍ مُعْتادِ يا غافلاً من قَبْلِ مَوْتِكَ فاتَّعِظْ ... والْبَسْ ليومِ الجمعِ ثوبَ حدادِ أبو الربيع سليمان بن فياض الإسكندراني من أهل الإسكندرية، ذو علمٍ فياض، وذيلٍ في العلوم فضفاض، وشعرٍ كزمان الربيع في الاعتدال، ونظمٍ أرق من الشمول والشمال؛ تاجر في العراق، وجاب الآفاق، وصحب التجر، وركب البحر، ودخل الهند وبلادها، وفوف بها من علومه أبرادها. قرأت في مجموع السيد الإمام فضل الله أبي الرضا الراوندي، أنشدني ابن طارق أبو علي الحسن الحلبي، أنشدني الفقيه سليمان بن الفياض لنفسه: مُزَنَّرُ الخصرِ ثانِي العِطْف تياهُ ... المستعانُ على وَجْدِي به اللهُ علامَ يُسْخِنُ عيني وَهْوَ قُرَّتُها ... ويُسْكنُ الحُزْنَ قلبي وهو مأْوَاهُ حدث محمد بن عيسى اليمني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 787 أنه رآه باليمن وكان تاجراً وغرق في البحر، وقرأت فيما صنفه السمعاني أن سليمان بن الفياض تلميذ الحكيم أمية بن أبي الصلت المصري، وعليه قرأ من علومهم المهجورة، وله شعرٌ يدخل في الأذن، بغير إذن، ونثرٌ كالروض ضم إلى غدير، والمسك شيب بعبير، وذكر أنه كان بعزته سنة ست عشرة وخمسمائة قال: ومن شعر سليمان فيما ذكره صديقنا أبو العلاء محمد بن محمود النيسابوري رحمه الله. باتت عليَّ مِنَ الأَراكِ تَنُوحُ ... تُخْفِي الصبابةَ مَرَّةً وَتَبُوحُ قُمْرِيَّةٌ تَغْدُو تُحَاضِرُ بَثَّها ... وتُرِيحُ عازبةً أَوانَ تَرُوح عجماءُ ما كادَتْ تُبينُ لسامعٍ ... ولها حديثٌ في الفُؤَادِ صحيح عَجَباً لها تُبْكي الخليَّ وَجَفْنُهُ ... وهي السخيَّةُ بالدموع شَحِيحُ أَمريضةَ الأَحْشَاءِ مِنْ فَرَقِ النوى ... مَهْلاً بِشَمْلِكِ إِنَّهُ لَصَحِيحُ أَوَ ما رأيتِ تَجَلُّدِي وَأَنا الذي ... شَمْلِي على سَنَنِ الفراقِ طريح تتقاذفُ الأيام بي فكأَنَّني ... لجسومِ أصحاب التناسخ روح هذا البيت الأخير أحسن من الكل وما أظن أنه سبق إلى معناه. قال: وقال أبو الربيع سليمان في ابتداء قصيدةٍ يمدح بها القاضي الإمام علي البستي. تَوَجَّعَتْ أَنْ رأَتْني ذاويَ الغُصُنِ ... وكم أَمَالَتْ صَبَا عَهْدِ الصِّبَا فَنَنِي ماذا يَرِيبُكَ من نِضْوٍ جَنيبِ نَوًى ... لستَّةِ البين مطروحٍ على سَنَنِ رمى به الغربُ عن قوس النوى عَرَضاً ... بالشرقِ أعنى على المَهْرِيَّةِ الهُجُنِ أرضٌ سَحَبْتُ وأترابي تمائمنا ... طِفلاً وَجَرَّرْتُ فيها ناشئاً رَسَني أَنَّى التفتُّ فكم روضٍ على نَهَرٍ ... أو استمعت فكم داعٍ على غُصُن كم لي بظاهرِ ذاك الربعِ من فَرَحٍ ... ولي بباطنِ ذاك القاع من حَزَن ولي بالأَّف هاتيك المنازل من ... إلف وسكان تلك الدار من سكن ما اخترتُ قطُّ على عهدي بقربهمُ ... حظًّا ولا بِعْتُ يوماً منه بالزمن قال: وقال سليمان يتقاضى مالاً على بعضهم وقد شمر ذيله للسفر: فديتك زُمَّتْ للرحيل ركابي ... وَشُدَّتْ على حُدْب المطيّ عِيَابي ولم تبق إلا وقفة لمودِّع ... فرأْيكَ في باقي يسيرِ حسابي قال وكتب سليمان إلى القاضي أبي العلاء الغزنوي في رقعة من لوهور: الغزنويون إخوانٌ لزائرهم ... ما دام منهم إزاءَ السمع والبصرِ قال: ومن منثور كلامه ما كتب إلى بعض الفلاسفة بالهند يستأذنه في المصير إليه: ماذا عسى أن يصف من شوقه مشتاقٌ، يقدم قدماً ويؤخر أخرى، بين أمر أمير الشوق ونهي نهى الهيبة. فإن رأيت أن تبله من غلله وتبله من علله بالإذن له، فما أولاك به، وأحوجه إليك، والله المسئول في بلوغ المأمول بك ولك. الشريف أبو الحسن الحسني الإسكندراني أنشدني الفقيه أبو بكر بن أبي القاسم بن خلف التميمي الإسكندراني بمكة، حرسها الله تعالى، حذاء الكعبة المعظمة في أواخر ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة للشريف أبي الحسن الحسني الإسكندراني. فإني شِبْهُ ظمآنٍ بِبيدٍ ... رَأَى الأنعامَ ظنَّ بها شرابا فبدَّدَ ماءَه وأتى إليها ... فلما جاءَها وَجَدَ السرابا القائد أبو طاهر إسماعيل بن محمد المعروف ب ابن مكنسة من شعراء مصر ورد علينا واسطاً من شيراز في سنة خمس وخمسين وخمسمائة رجل شريف من مصر، يقال له فخر العرب أحمد بن حيدرة الحسني الزيدي المدني الأصل المصري المولد، وكان رائضاً حسناً وله شعر قريب، فلما لم ينفق شعره عاد يروض الخيل، وكان يروض فرساً لي، ويحضر عندي، وسألته عن شعراء مصر ومن يروي شعره منهم، فذكر من جملتهم القائد ابن مكنسة. وذكر أنه كان شيخاً مسناً وهجره الأفضل لكونه رثى نصرانياً بقصيدة منها: طُوِيتْ سماءُ المكرما ... تِ وكوِّرَتْ شمسُ المديحِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 788 فأبعده لأجل هذا البيت فكتب إلى الأفضل أبياتاً منها: مثلي بمصرٍ وأنت مَلْكٌ ... يقالُ ذا شاعرٌ فقيرُ عطاؤك الشمسُ ليس تخفى ... وإنما حظِّيَ الضريرُ وأنشدني له في العذر عن العربدة من أبيات: ركبتُ كميتَ الراح وهي جماحُهَا ... شديدٌ ومالي بالتَفَرُّس من خُبْرِ وألقيتُ ما بين الندامى عِنانَها ... فجالتْ وأَلقَتْني على وَعِرِ السُّكْر وإن بساطَ السكر يُطْوى كما جرى ... به الرسمُ فيما قيل بالسكر في العُذْر قال: وكنت جالساً معه على دكان أبي عبد الله الكتبي بمصر فمر بنا غلام في ثوب أزرق، فقيل له: أنشدنا في هذا شيئاً، فقال بديهاًز مرَّ بنا في ثوبهِ الأزرق ... كبدرِ تِمٍ لاح في المَشْرِقِ لا بارك الرحمنُ فِيمَنْ رأى ... حُسْنَ عِذَارَيْه ولم يَعْشَقِ قال: وله من أبيات: رَقَّتْ معاقدُ خصرِهِ فكأنّها ... مُشْتَقَّةٌ من تِيهه وتَجَلُّدِي وتَجَعَّدَتْ أَصداغُه فكأنها ... مسروقةٌ من خلقه المتجعدِ وتأودت أعطافهُ والبانةُ السمراءُ ... لا تُرْدِيكَ دونَ تأَوُّد ما باله يجفو وقد زَعَمَ الورى ... أنَّ النَّدَى يختصُّ بالوجهِ النَّدِي لا تخدعنَّكَ وَجْنَةٌ محمرّةٌ ... رَقَّتْ ففي الياقوتِ طَبْعُ الجلمدِ ووجدت هذه الأبيات في رسالة أبي الصلت الحكيم، ومن هذا المعنى أخذ أبو الحسين بن منير حيث يقول: خُدَعُ الخدودِ تلوحُ تحت صفائها ... فحَذَارِها إنْ مُوِّهَت بحَيَائها تلك الحبائلُ للنفوسِ وإنما ... قَطْعُ الصوارمِ تحت رَوْنَقِ مائها وهذا أخذٌ مليحٌ خفيٌ. ثم قرأت بعد ذلك في رسالة لأبي الصلت الحكيم يصف مصر قال: ومن شعرائها المشهورين أبو طاهر اسماعيل بن محمد المعروف بابن مكنسة وهو شاعرٌ مكثر التصرف، قليل التكلف، يفتن في نوعي جد القريض وهزله، وضاربٌ بسهمٍ في رقيقه وجزله، وكان في ريعان شبيبته وعنفوان حداثته يعشق غلاماً من أبناء عسكرية المصريين يدعى عز الدولة وهو الآن بمصر من رجال دولتها المعدودين وأكابرها المتقدمين، ولم يزل مقيماً على عشقه له وغرامه به إلى أن محا محاسنه الشعر، وغير معالمه الدهر، وكان في أيام أمير الجيوش بدر الجمالي منقطعاً إلى عامل من النصارى يعرف بأبي مليح وأكثر أشعاره فيه، فلما انتقل الأمر إلى الأفضل تعرض لامتداحه واستماحته، فلم يقبله ولم يقبل عليه، وكان سبب حرمانه ما سبق من مدائحه لأبي مليح ومراثيه ميتاً لاسيما قوله: طُوِيَتْ سماءُ المكرما ... تِ وكُوِّرَتْ شمسُ المديحِ من أبيات منها: ماذا أُرَجِّي في حيا ... تي بعد موتِ أبي مَليحِ ما كان بالنِّكْسِ الدّنيِّ ... من الرجالِ ولا الشحيحِ كَفَرَ النصارى بعد ما ... عَقَدُوا به دينَ المسيح وكفله عز الدولة بن فائق وقام بحاله إلى أن مات. ومما أورده أبو الصلت من شعره وذكرته بلفظه، قال أبو الطاهر بن مكنسة من قصيدة: أَعاذِلُ ما هَبَّتْ رياحُ مَلامةٍ ... بنار هوًى إلاّ وزادتْ تضرُّما فكِلْني إلى عينٍ إذا جفَّ ماؤها ... رأَتْ من حقوقِ الحُبِّ أنْ تَذْرِفَ الدما فكم عبرةٍ أَعْطَتْ غرامي زِمامَها ... عَشِيَّةَ أَعْمَلْنَ المطيَّ المُزَمَّمَا وعينٍ حماها أن يُلِمَّ بها الكرى ... أَحاديثُ أيامٍ تقضَّيْنَ بالحمى فللهِ قلبٌ قارَعَتْهُ هُمُومُهُ ... فلم يَبْقَ حَدٌّ منه إلاَّ تَثَلَّما وله من قصيدة: وعسكريٍ أبداً حيثما ... تلقاهُ يلقاك بكلِّ السلاحْ حاجبُهُ قَوْسٌ وأَجفانُهُ ... نَبْلٌ وعطفاه تَثَنِّي الرماحْ رَاحَ وَفِعْلُ الراح فيه كما ... يَفْعلُ بالغصنِ نسيمُ الرياح أغار في هذا البيت على خالد الكاتب في قوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 789 رَأَتْ منه عيني منظرين كما رأَتْ ... من الشمس والبدرِ المنير على الأَرْضِ عشيَّةَ حيّاني بوردٍ كأَنّهُ ... خدودٌ أضيفَتْ بعضُهُنَّ إلى بعض وناولني كأساً كأن مِزَأجَهَا ... دُمُوعِيَ لما صدَّ عن مقلتي غُمْضي وراحَ وفعل الراحِ في حركاته ... كفعلِ نسيمِ الريح في الغُصُنِ الغَضِّ وله في غلام مريض: وقالوا براه السُّقْمُ فاعتلَّ جسمُهُ ... عساه يَرَى في الصبر عن حِبِّه عُذْرا إذا كنتُ أَهْوَى خَصْرَهُ لنحوله ... أَاَسْلُوه لمَّا صار أَجْمَعُهُ خَصْرا ولأبي طاهر في ورقٍ كاغدٍ أهدي إليه: أَهْدَيْتَ لي ورقاً أَرَقَّ ... من الشراب المُسْتَحيلِ خَلَقاً تُمَزِّقُهُ الخطو ... طُ كأَنَّه عِرْضُ البخيلِ لا بالصبيغِ ولا الصَّقيلِ ... ولا العريضِ ولا الطويلِ إلا بياضاً خِلْتُهُ ... وَضَحَاً على جسمٍ نَحِيلِ وقال أبو طاهر: قلتُ إذ عَقْرَبَ الدلا ... لُ على خَدِّه الشَّعَرْ هذه آيةٌ بها ... ظَهَرَ الحُسْنُ واشتهر ما رُئِي قطُّ قبلَ ذا ... عقربٌ حَلَّتِ القمر هذا معنى مليح ولكنه سرقه من بيتين أنشدهما رجل للإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله: حَلَّتْ عقاربُ صدغه في خدِّهِ ... قمراً يَجِلُّ به عن التشبيهِ ولقد عهدناهُ يَحُلُّ ببرجها ... فمن العجائب كيف حَلَّتْ فيه وله، نقلت من جنان الجنان لابن الزبير: مالي وهذا البدرُ عندي ليلُهُ ... الدَّاجِي الطويلُ وعندَكُمْ أَقْمَارُهُ يَثْنِي اللثامَ على مراشِفِهِ التي ... حُظِرَتْ عليَّ وعندكم إِسْفَارُهُ وله يا من صفا ماءُ النعيم بوجهه ... كم عيشةٍ كَدَّرْتَهَا بِصَفَائِهِ وزجاجةٍ قَابَلْتَها فتبسَّمَتْ ... عن ثَغْرِهِ وَرُضَابِهِ وسَنَائِهِ مُزِجَتْ فلانت مِثْلَما مُزِجَتْ بها ... أَخْلاقُهُ فأَطاعَ بعد إِبائه ما زلتُ أرْشُفُهَا وَيَغْضَبُ ريقُهُ ... لمَّا جَعَلْتُ الخمرَ مِنْ نُظَرَائِهِ وله بنفسي خيالٌ زارَ وهو قريبُ ... أَحَقًّا عليه في المنام رقيبُ سرى وغديرُ الليل طامٍ جمامُهُ ... وللشُّهْبِ فيه طَفْوَةٌ ورسوبُ وقد أعجلته للصباح التفاتَةٌ ... فلم تكُ إلاَّ خفقةٌ وهبوب ولولاكمُ لَمْ أَرْضَ أَنْ تَسْتَقِرَّ بي ... زخارِفُ حلمٍ صِدْقُهُنَّ كذوب وكم أنَّةٍ أيقظتمُ نَفَسِي بها ... لها بين أَحْنَاءِ الضلوع نُدُوب تَجَاوَر فيها بين هامٍ وجاحمٍ ... لعيني وقلبي جَدَوَلٌ ولهيب ومنها: أَمَسَّتْكُمُ ريحُ الصَّبا إِنَّ نَشْرَهَا ... إِذا هبَّ من تلقائكم لَيَطِيبُ وَيَشِفِي غليلي أَنْ تَمُرَّ مريضةً ... وَبَرْدُ غليلٍ بالعليلِ عجيب وله لم أَرَ قَبْلَ شَعْرِهِ وَوَجْهِهِ ... ليلاً على ضَوْءِ الصباحِ عَسْعَسَا والسكرُ في وَجْنَتِهِ وَطَرْفِهِ ... يَفْتَحُ وَرْداً وَيَغُضُّ نَرْجِساً وله أقولُ وَمَجْرَى النيلِ بيني وبينكم ... ونارُ الأَسَى مشبوبةٌ بضلوعي تُرَاكمْ علمتمْ أَنَّني لو بَكَيْتُكُمْ ... على النيل لاستغرقْتُهُ بدموعي وله مَدَى صَبْرِي وَإنْ وَصَلُوا قصيرُ ... وَأَنْجُمُ ليلِ شوقي ما تَغُورُ وفي أَسْرِ الغرام إذا استَقَلُّوا ... فؤادٌ كيفما ساروا يَسيرُ غزالُ الرَّمْلِ سالفة وعياً ... ولكنْ لَحْظُهُ أَسَدٌ هَصُورُ وهل سودُ العيونِ سوى أُسودٍ ... تَأَمَّلْ كيفَ يَفْتَرِسُ الفُتُورُ وقفنا والهواجدُ مُشْمِسَاتٌ ... وفي الأحشاء بالهَجْرِ الهجيرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 790 كأَنَّ لكلِّ كُورٍ في فؤادي ... إِذا أَذكى لَظَى الأشواقِ كِير ومنها: وأَغْيَدَ ما لوجنَتِهِ وفيه ... ولا ما في زجاجَتِهِ نظيرُ سقى فأدارَ من عينيه أُخْرَى ... لأَمْرِ ما تَنَوَّعَتِ الخُمُورُ وله قل لأَيَّامِنَا التي قَدْ تَقَضَّتْ ... بالغَضَا هل لنا إِليكِ سَبيلُ أَتُرَى البان في رياضك ينآ ... دُ إِذا مَسَّهُ النسيمُ العليلُ أم ترى الشادن الغرير له ب ... ين كثِيبَيْك مَسْرَحٌ وَمَقِيل سَلْ بِوَعْسائِهَا الخمائلَ تُجْلَى ... أشَمالٌ تَمَسُّها أَمْ شَمُولُ إن يكن عَنْكَ عَزَّ صَبْرٌ فصبراً ... إن عُمْرَ البكاءِ فيك طويل وإذا بانَ عَنْكَ من كنتَ تهوا ... هُ فغيرُ الجميل صبرٌ جميل وله من قطعة: مَنْ سُكْرُهُ بين رُضابٍ وراحْ ... فكيف يا صاحِ يُرى ذاك صاحْ ومنها: أَغَنُّ مجدولٌ هَضيمُ الحَشَا ... مُرْتَدِفُ الأَرْدَاف نِضْوُ الوشاحْ في لحظهِ سِحْرٌ وفي خَدِّه ... وَرْدٌ وفي فيه أَقَاحٌ وراحْ راحَ وفِعْلُ الراحِ فيه كما ... يَفْعَلُ بالغُصْنِ نَسيمُ الرياح وكيف يُرْجَى لي صلاحٌ وقد ... بُليتُ يا صاحِ بحبِّ الملاحْ شققتُ ثَوْبَ الصبرِ مِن بَعْدِه ... فليعذلِ العاذلُ وَلْيَلْحَ لاح وله كم ليلةٍ نادمتُ في ظلمائها ... بدراً وشمسُ الكأْسِ مَطْلَعُ زندِهِ مشمولةٌ يا ليت رِقَّةَ طبعها ... في قلبه وصفاءَها في وُدِّه فكأنها من ريقه وَحَبَابَها ... من ثغرِهِ، وشُعَاعَها من خدِّه وله ظَلَّتْ مِظَلَّتُهُمْ مثلَ الفراشةِ والبيضُ ... اللوامعُ في أيْديِكمُ لَهَبُ جَاءُوا بها هالةً لم يستتر قمرٌ ... فيها ودائرةً ما حَلَّها قُطُبُ لم تَبْدُ إلا وبيضُ الهندِ عائدةٌ ... إليك وهي على أَطْرَافها سَلَبُ ومنها: خَفَّ الحديدُ على جسمٍ تعوّدَ أَنْ ... يَجْفُو على منكبيه اللاَّذُ والقَصَبُ وله مَلْكٌ بكفيه وأَسْيَافِهِ ... تُقْسَمُ آجالٌ وأرْزَاقُ ذلَّتْ لنعماك نفوسٌ كما ... ذَلَّتْ لأَسْيافِكَ أَعْنَاقُ وله يمدح أحد أخوين ويعرض بالآخر: همُ خَبَثُ الحديد وأَنْتَ مما ... يُصَفَّى جوهرُ السيفِ اليماني وإن أَوْرَى زنادكمُ شراراً ... فبين النارِ بَوْنٌ والدُّخَانِ وإن جَمَعَتْ أنابيباً قناةٌ ... فأين الكعبُ من رأْسِ السنان وله في المدح: قل للغمام تُبَارى فَيْضَ راحتِهِ ... وأنت في كلِّ وقتٍ غيرُ منهمرِ وأين برقُكَ من إيماض صارِمِهِ ... وأين سَيْبُكَ من جَدْوَأه بالبِدَر يلقاك مبتهجاً والغيثُ في يده ... يَهْمِي فيجمعُ بين الشمس والمطر وله في جواب كتاب: نَشَرْتُ كتابك عند الورودِ ... فناهيكَ من جَوْهَرٍ مُلْتَقَطْ ولم أَرَ من قبله رَوْضَةً ... من الحظِّ مَطْلُولةً بالنُّقَطْ وله أيضاً جواب كتاب: أهلاً بها جنةً أَهْدَ ثمارَ نُهى ... وعرَّس الطَّرْفُ فيها أَيَّ تعريسِ ما دار في خَلَدِي لولا كتابكُمُ ... أَنَّ البساتينَ تُهْدَى في القراطيس وله يصف قبح منزله وضيقه: ليَ بَيْتٌ كأَنَّهُ بيتُ شِعْرٍ ... لابن حجَّاجَ من قصيدٍ سخيفٍ ضايقتني بناتُ ورْدان حتى ... أنا فيه كفارةٍ في كنيف أين للعنكبوتِ بَيْتٌ ضعيفٌ ... مثله وهو مثلُ عقلي الضعيف وإذا هبَّ فيه ريحُ السراويلِ ... فَسَلِّمْ على اللِّحَى والأنوف بُقْعَةٌ صَدَّ مطلعُ الشمس عنها ... فأنا مُذْ سَكَنْتُهَا في الكسوف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 791 وهْو لو كان بين حجِّي وَنُسْكِي ... صدَّ في بغضهِ عن التَّطْوِيف أنت وسَّعْتَ بيتَ مالي فَوَسِّعْ ... منزلي فهو منزلٌ للضيوف وَأَجِرْني من الضنا واجْرِني منك ... على حسن خُلْقِكَ المأْلُوفِ وله يعتذر عن عثرة جرت منه في سكرة: إِذا ضاقُ عن دنيا الفتى سعةُ العُذْرِ ... فبالسيفِ عَاقِبْ فهو أَيْسَرُ مِنْ هَجْرِ ركبتُ كُمَيْتَ الرَّاح وهْي جِمَاحُهَا ... شديدٌ ومالي بالتَّفَرُّسِ مِنْ خُبْرِ وأرسلتُ ما بين الندامى عِنَانَها ... فجالتْ وأَلْقَتنِي على وَعِرِ السكر فإن جدتَ بالصفح الذي أنْتَ أَهْلُهُ ... تدارك ذاك الكسر منِّيَ بالجبر وإلا فإني غيرُ باقٍ بغُلَّةٍ ... أَضُمُّ لها عُوجَ الضلوع على الجمر وما ضاقت الدنيا على مُتَغَرِّبٍ ... تَحمَّلَ ثقلاً أن ترحَّلَ عن مصر وإن كنتُ قد أَذَنَبْتُ ثم غَفَرْتَ لي ... فذاك على مقدار قَدْرِكَ لا قَدْرِي وله في رمد طال بغير أمد: ما لنهاري كأَنَّهُ الغَسَقُ ... وما لليلي ما شَقَّهُ الفَلَقُ وما لعيني أَرَى بها عَجَباً ... تَغْرَقُ في مائها وتحترق ولي طبيبٌ تشكو مراوِدَهُ ... وتستغيثُ الجفونُ والحدق شِيافُهُ تطرد الشفاءَ إِذا ... مرَّ بعيني وَكحْلُهُ الأرق وإنْ تمادى عليَّ زرتكمُ ... وقائداي العِصِيُّ والحَلَقُ لم يَبْقَ من صيغَةِ المدام سوى ... جفونِ عَيْنٍ كأنها الشَّفَقُ وبي من الدَّاءِ ما حكايته ... لا بدَّ منها وتركها خُرُقُ طَبْعي ووجهُ البخيل في قَرَنٍ ... هذا وهذاك ليس ينطلق يا عيْنُ حَتَّامَ أَنْتِ باكيةٌ ... قد نَفَذَ العيْنُ فيك والوَرِقُ وله في صفة روضة: ذاتُ غديرٍ خِلْتُهُ ... صَرْحَ زُجَاج مُرِّدا ثم انثنى مُنْعَطِفاً ... مرتعشاً مُرَدَّدا خافَ من الريح وقد ... هَبَّت به فارْتَعَدا كأنما يد الصَّبَا ... مَدَّت عليه زَرَدَا ومنها: واحسرتا حتى متى ... أُنْهِضُ حَظًّا مُقْعَدا وله في المديح: ولم يُرَ كالمدائح فيه تَسْرِي ... خفافاً تَحمِلُ المِنَنَ الثِّقَالاَ ونُنْشِدُهُ مدائحَهُ اقتضاباً ... فيعطينا مَنائحَهُ ارْتِجالاَ وقال أبو الطاهر من قصيدة، وقد عزم عيه بعض الأمراء في المسير معه إلى الشام لقتال الغز، أولها: غيرُ عاسٍ عليكِ تقويمُ عودي ... فانُقضي من ملامتي أو فزِيدي قلْ لمولاي إذ دعاني لأمرٍ ... قُمْتُ فيه له مقامَ العبيد ضَعُفَت حيلتي وقلَّ غَنائي ... وَدَنَتْ غايتي وَرَثَّ جَديدي أنا ما لي وللشآم وإني ... لأَرى نارَ حَرْبِها في وَقُودِ بَلَدٌ جِنُّهُ عَفَارِيَةُ الْغُزِّ ... وأرضٌ وحوشُها من أُسُودِ والجِفارُ التي تقول إذا ما ... قيلَ هلا امتلأَتِ هَلْ من مزيد وكأنْ بي على بعيرٍ تراني ... آخرَ الناس في لفيفِ الحُشُود أَسْوَدَ الوجه ناظراً في أُمُورٍ ... معضلاتٍ من الحوادث سُود وإذا قيلَ في غدٍ يلتقي النا ... سُ فلا تنسَ فهْو بيتُ القصيد حين لا ناظري تراهُ ححديداً ... حين يبدو له بريقُ الحديد حين لا يُتَّقَى لساني ولا ... يَثْنِي زمامَ البعيرِ عنِّي نشيدي إنّ رأْيِي إذا تَسَدَّدَ نحوي ... سهمُ رامٍ لَغَيْرُ رَأْيٍ سديدِ وإِذا ما قُتِلْتُ كنت خليقاً ... بدخولي جَهَنَّماً في خلودِ فأقِلْني عثارها وابْق للحمد ... وكَبْتِ العِدَا وغَيْظِ الحَسُود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 792 وقال من قصيدة في طريقة أبي الرقعمق: أنا الذي حَدَّثَكُمْ ... عنه أبو الشَّمَقْمَقِ وقالَ عنِّي إنني ... كنتُ نَدِيم المُتَّقِي وكنتُ كنت كنت كنتُ ... من رُمَاةِ البُنْدُقِ حتى متى أبقى كذا ... تَيْساً طويلَ العُنُق بِلِحْيَةٍ مُسْبَلَةٍ ... وشاربٍ مُحَلَّق يا ليتها قد حُلِقَتْ ... من وجه شيخٍ خَلَقِ وقال من أخرى: عشتُ خمسين بل تزيدُ ... رقيعاً كما ترى أحسبُ المُقْلَ بُنْدُقَا ... وكذا الملحَ سُكَّرَا وأظنُّ الطويل من كُلِّ ... شيءٍ مُدَوَّرَا قد كَبِرْ بِرْ بِبِرْ بِبِرْ ... تُ وعقلي إِلى وَرَا عجباً كيف كلّ شيءٍ ... أَرَاهُ تَغَيَّرَا لا أرى البَيْضَ صار يُؤْ ... كَلُ إِلاّ مُقَشَّرَا وإذا دُقَّ بالحجا ... رِ زُجَاجٌ تَكَسَّرَا وكتب إلى أبي الصلت حين عاد من المهدية: وما طائرٌ قَصَّ الزمان جناحه ... وأَعْدَمَهُ وكْراً وأَفْقَدَهُ إِلْفَا تذكَّرَ فَرْخاً بين أَفْنَانِ بانةٍ ... خوافِي الخوافي ما يَطِرْنَ به ضعفا إذا التحف الظلماءَ ناجى همومَهُ ... بترجيع نَوْحٍ كاد من دِقَّةٍ يَخْفَى بأشفقَ مني مُذْ أطاعت بك النَّوَى ... هوائيةٌ مائيةٌ تسبق الطَّرْفَا تولَّتْ وفيها منك ما لو أَقِيسُهُ ... بما هي فيه كان في فَضْلِهِ أَوْفَى عبد العزيز بن فادي شيخ من مصر له نظم مقارب. أنشدني له في سنة إحدى وسبعين وخمسمائة بدمشق بعض المصريين وذكر أنه يعيش: يا شادناً بالحُسْنِ حالِ ... سَلْ بَعْدَ بُعْدِكَ كيفَ حالي خَلَّفْتَني نَهْبَ السّقا ... مِ أَعُدُّ أَنْفَاسَ الليالي خالٍ من الصبرِ الجميلِ ... وَرَبْعُ سُقْمِي غيرُ خالِ أَرْعَى نجومَ الأُفْقِ وَهْيَ ... إِلى الزَّوالِ بلا زوال ومُعَرْبِدُ الألحاظِ صا ... حي الوعدِ سكران المِطَال يرنو بأجفانٍ كأنّ ... لحاظَها رَشْقُ النِّبَال أَيّامَ كان الرشدُ عندي ... أنْ أقيمَ على الضلال سألت القاضي الفاضل عنه فقال ما هو من المعدودين، فقلت له هذا شعره، وأنشدته الذي فيه: صاحي الوعد سكران المطال. فقال هذه غاية، وعهدي به لا يصل إليها. أبو الحسن العسكري المصري ذكره السمعاني في تاريخه قال أنشدني أبو بكر محمد بن عثمان الدينوري أنشدني خراداذ المعري إملاءً بدمشق أنشدني أبو الحسن المصري العسكري: رفقاً هديت وسِرْ على مَهَلٍ ... كلُّ الجمالِ عليك يا جَمَلُ فلو انَّ ناقة صالحٍ حَملت ... ما قد حَمَلْتَ لفاتَها الأَجَلُ وعليك أَن لا تشتكي كَللاً ... ما دام فَوْقَكَ هذه الكِلَلُ أبو المسك كافور بن عبد الله الليثي الحبشي الخصي المعروف ب الصوري وقيل أبو الحسن كان مصري المنشأ، ومن مواليهم، سكن صور فنسب إليها. رحل عنها، وقطع سكناه منها، وطاف البلدان، ودخل بلاد خراسان، وأقام ببست مدةً من الدهر، ووصل إلى غزنة وما وراء النهر. وكان يحفظ كثيراً من الملح والنوادر، ويزف إليك ما شئت من بنات الخواطر. عارفٌ باللغة معرفةً صحيحة، ناظمٌ في القريض كلمات فصيحة، فاضل أديب، عارفٌ أريب. عاد إلى بغداد وأقام بها إلى أن أدركه صرف المنية، وذلك في رجب سنة إحدى وعشرين وخمسمائة، ذكره السمعاني في تاريخه حسبما ذكرناه، وقال: قرأت بخط أبي الحسن عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي في سياق تاريخ نيسابور: أنشدنا كافور بن عبد الله لنفسه، كتب بها إلى الرئيس محمد بن منصور البيهقي: هل من قِرًى يا أبا سَعْدِ بنِ منصورِ ... لخادمٍ قادمٍ وافاك من صُورِ شِعارُهُ إنْ دَنَتْ دارٌ وإن بَعُدَتْ ... اللهُ يُبْقي أَبا سَعْدِ بن منصور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 793 وقال: أنشدني أبو القاسم علي بن الحسن الشافعي بدمشق أنشدني أبو المسك كافور لنفسه: باء بخاري أبداً زائدهْ ... والأَلِفُ الأُخْرَى بلا فائدهْ فهي خرا بَحْتٌ وسكَّانها ... آبدةٌ ما مثلها آبده وقال قرأت في كتاب سر السرور لصديقنا أبي العلاء محمد بن محمود النيسابوري قاضي غزنة لكافور، هذا: هل من لواعجِ هذا البَيْنِ من جارِ ... لمستهامٍ عميدٍ دَمْعُهُ جارِ أَم هل على فَتَكاتِ الشوقِ من عَضُدٍ ... يُجِيرُني من يدِ الضرغامةِ الضَّارِي فيضُ الدموعِ ونيرانُ الضلوعِ معاً ... يا قومُ كيف اجتماعُ الماءِ والنارِ وأنشد له: راحَ الفراقُ بما لا أَرْتَضِي وَغَدا ... وجارَ حُكْمُ الهوى فيما قَضَى وَعَدا فارقْتُكم فُرْقَة لا عُدْتُ أّذكُرُها ... فإِن رجعتُ فلا فارقتكمْ أَبَدا هذا كافور أبو المسك، كلامه أطيب رائحة من المسك، خصيٌّ خص بما لم يخص به الفحول، خادمٌ خدمته لفضله الألباب والعقول: نظمه تبر المحك، وإبريز السبك، أوتي المعرفة، حتى نسج البرود المفوفة، وأنشأ الحدائق المزخرفة، ونظم اللآلىء المفوفة. أبو الفرج الموففي أحد كتاب مصر، من الطبقة الأولى. له في ناعورة: ناعورةٌ تَحْسِبُ في صَوْتِهَا ... مُتَيَّماً يَشْكُو إِلى زائرِ كأنَّما كِيزَانُهَا عُصْبَةٌ ... صِيبُوا بِرَيْبِ الزَّمَنِ الوافر قد مُنِعُوا أن يَلْتَقُوا فاغْتَدَا ... أَوَّلُهُمْ يَبْكي على الآخِر قمر الدولة أبو طاهر جعفر بن رواس المصري كان عمره بالعراق قمرٌ قمر القلوب بظرافته، وسلب العقول بلطافته، نديمٌ عديم النظير في فنونه، ظريف طريف الصنعة في مجونه، اجتمعت فيه أسباب المنادمة، وكان يقرع أبواب المسالمة، يضرب بالعود وأين إسحاق وإبراهيم، فكلاهما لو كان في عصره كاد به يهيم، ويغني ولا مثله غناء معبد والغريض، فلو رأياه لعثرا في ميدانه الطويل العريض، ويلعب بالشطرنج وأين اللجلاج، لو عاش لقتله منه الغيظ واللجاج، كان نديم قسيم الدولة سنقر البرسقي، كل يوم لقبوله عنده يرتفع ويرتقي. وهو ينظم أبياتاً مطبوعة، وينثر كلماتٍ مسجوعة، وهو صاحب نوادر ومضاحك، ولسانٌ كحد السيف باتك، يلعب ويطرب، ويشعر ويكتب، ويغني بالعود ويضرب، ويسقي ويشرب، وإن لعب بالشطرنج فاق، أو بالنرد راق، أو غنى شاق، أو ضرب بالبربط انشرح القلب الذي ضاق. أنشدني أبو الفتح نصر الله بن أبي الفضل الخازن ببغداد: أنشدني قمر الدولة ابن دواس لنفسه في ابن أفلح الشاعر، وكان ابن أفلح أسود مشوه الخلقة: هذا ابنُ أَفْلَحَ كاتبٌ ... مُتَفَرِّدٌ بصفاتِهِ أَقْلاَمُهُ من غَيْرِهِ ... ودواتُهُ من ذاته وأنشدني له فيه: أبا قاسمٍ وَيْكَ دَعْ ذا الفَعَالَ ... هذا التكبُّرُ لا يَصْلُحُ أتزعمُ أَنَّكَ من أَفْلَحٍ ... فَهَبْكَ صَدَقْتَ فمن أَفْلَحُ وأنشدني له فيه: يا ذا الذي أُقْطِعَ هَجْوَ الوَرَى ... كأنما أُعْطِي به رُوزَا إن كان إقطاعُكَ ذا صادقاً ... فاهجُ لنا الخادمَ بَهْرُوزَا وأنشدني له أيضاً: أراني الله نعمته سريعاً ... تزولُ وَعَيْشُهُ عَنْهُ يُوَلِّي وما مِنْ بُغْضِهِ أَدْعُو عليه ... ولكنْ أَشْتَهِيهِ يكونُ مِثْلي وقال أبو المعالي الكتبي: أنشدني ابن أفلح الشاعر له: لما رأيتُ المشيبَ في الشَّعَرِ الأسْوَدِ ... قد لاحَ صِحْتُ واحَزَنِي هذا وحقِّ الإلهِ أَحْسَبُهُ ... أَوَّلَ خَيْطٍ سُدِّى مِنَ الكَفَنِ وزارني للهناء بشهر رمضان من سنة أربع وخمسين وخمسمائة في واسط الفقيه رضي الدين أبو العلاء محمد بن السوقي، وقال: حكى لي اليوم والدي شيخ الإسلام أبو جعفر أنه حضر قمر الدولة مجلس مؤتمن الدولة ابن صدقة، وكان ناظرَ الخواص وغيرها بواسط، والناس يهنئونه بشهر رمضان، فقال قمر الدولة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 794 لا أُهَنِّي بالصيامِ لأَنِّي ... واثقٌ بالهناءِ يَوْمَ العيدِ بل أُهَنِّي بالأَكْلِ والشرب والزَّفْنِ ... وصوتِ الغِنا وَجَسِّ العود لا بصومٍ يُجَفَفُ الكِبْدَ حتى ... يَجْعَلَ العُودَ وهْو مثلُ العودِ وله، أنشدني نصر الله بن الخازن: أَرَانِيَ والمولى الذي أَنَا عَمْدُهُ ... طَرِيفَين في أَمْرٍ له طَرَفَانِ قريبٌ تراني منه أَبْعَدَ ما ترى ... كأَنِّيَ يومُ العيدِ مِنْ رَمَضَانِ وله فغدوتَ كالبطيخ لا حُلْواً بل ال ... تشبيهُ يحكي قائماً أو قاعدا لا يَحْمَدُ الوصَّافُ من أَوْصَافِهِ ... ما لم يكن خَشِنَاً ثقيلاً باردا وأنشدني له أيضاً: أَنَا مِمَّن إِذا أَتَى ... صاحبُ الدار للْكِرَا تتجافَى جُنُبُهُمْ ... كلَّ وَقْتٍ عن الكَرَى وأنشدني له أيضاً: لا يظنَّ العدوُّ أنَّ انحنائي ... كِبَرٌ عندما عَدِمْتُ شبابي ضاع مني أعزَّ ما كان مني ... فأنا ناظرٌ له في التراب وذكر أنه سمع منه جميع هذه الأبيات. وسألته عن موته فقال كان يعيش في أيام البرسقي وهي سنة ثماني عشرة وخمسمائة، وعاش بعد ذلك سنين كثيرة. حسناء المصرية من الطبقة الأولى، مغنية عن الملاهي مغنية، وغانية بالحسن غنية، ولدت باليمن وتربت بالحجاز، وتعلمت ببغداد الغناء، وانخرطت في سلك قيان الملوك، ولها شعر به للشعراء تعارض، ولأهل القريض تقارض، ومن قيلها: سلامٌ على من ليس يَدْرِي بأَنَّهُ ... هواي من الدنيا وقاصيةُ المُنَى كتبتُ إليكم خاطباً لرضاكُمُ ... فردُّوا جواباً بالنجاح مُعَنْوَنَا ومن النساء أيضاً ابنتها بدمشق. تقية الصورية من أهل الإسكندرية هي الأديبة أم علي تقية ابنة غيث بن علي بن عبد السلام الأرمنازي الصوري، مولدها صور، وهي من أهل الإسكندرية. أتحفني القاضي أبو القاسم حمزة بن القاضي علي بن عثمان المخزومي المغربي المصري، وقد وفد إلى دمشق في شعبان سنة إحدى وسبعين بكراسة فيها شعر تقية بنت غيث، قد سمعه منها، وخطها عليه بسماعه منها، بتاريخ محرم سنة تسع وستين وخمسمائة بالإسكندرية، وأنشدني ذلك رواية عنها، فمن قولها: أعوامُنَا قد أَشْرَقَتْ أَيَّامُهَا ... وعلاَ على ظَهْرِ السِّماكِ خيامُهَا والروضُ مُبْتَسِمٌ بِنَوْرِ أَقاحِهِ ... لما بكى فَرَحاً عليه غَمَامُهَا والنَّرْجِسُ الغضُّ الذي أَحْدَاقُهُ ... تَرْنُو لِتَفْهَمَ ما يقولُ خُزَامها والوردُ يحكي وجنةً محمَرَّةً ... انحلَّ من فَرْطِ الحياءِ لِثامها وأهدت إلى بعض الأفاضل توتا، فكتب إليها. وَتُوتٍ أَتَانا ماؤُهُ في احمرارِهِ ... كَدَمْعِي على الأَحباب حين تَرَحَّلُوا هدية من فافَتْ جمالاً وفطنةً ... وأبهى من البَدْرِ المنيرِ وأَجْمَلُ فلا عَدِمَتْ نفسي تَفَضُّلَها الذي ... يُقَصِّر وَصْفِي عن مَدَاه وَيَعْدِل فكتبت إليه تقية: أتاني مديحٌ يُخْجِلُ الطَرْفَ حُسْنُهُ ... كمثل بهيِّ الدرِّ في طيِّ قِرْطسِ ولها وقد أعارت ابن حريز دفتراً، فحبسه عنده أشهراً: قل لذوي العلم وأهلِ النهى ... وَيْحَكُمُ لا تَبْذُلُوا دفترا فإن تُعيروهُ لذي فطنةٍ ... لا بدَّ أَنْ يَحْبِسَه أَشْهُرَا وإِنْ تَعُودُوا بَعْدَ نُصْحِي لكمْ ... تخالفوني فالبراءَ البَرا ولها من قصيدة: خانَ أَخِلاَّئِي وما خُنْتُهُمْ ... وأَبْرَزُوا للشرِّ وجهاً صَفِيقْ وكُدِّرَ الودُّ القديمُ الذي ... قد كان قِدْماً صافياً كالرحيق وباعدوني بعد قُرْبي لَهُمْ ... وَحَمَّلُوا قلبيَ ما لا أُطِيقْ ولها من قصيدة: هاجَتْ وساوسُ شوقي نَحْوَ أَوْطَانِي ... وبان عَنِّي اصطِبَاري بعد سُلْواني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 795 وبتُّ أَرْعَى السُّهَا والليلُ مُعْتَكِرٌ ... والدمعُ مُنْسَجِمٌ من سُحْبِ أَجْفَني وعاتَبَتْ مُقْلَتِي طيفاً أَلَمَّ بها ... أَهكَذَا فِعْلُ خِلاّنٍ بخلاّنِ نأَيْتُ عنكم وفي الأحشاءِ جَمْرُ لَظىً ... وسُقْمُ جِسْمي لِمَا أَهْوَاهُ عُنْواني إذا تذكرتُ أيّاماً لنا سَلَفَتْ ... أَعانَ دمعي على تَغْريق نسياني وكتب بعض الأفاضل إليها، وقد مدحت نفسي: وما شَرَفٌ أن يَمْدَحَ المرءُ نفسَه ... ولكنّ أفعالاً تُذَمُّ وتُمْدَحُ وما كلَّ حينٍ يَصْدُقُ المرءَ قَلْبُهُ ... ولا كلُّ أصحابِ التجارةِ تَرْبَحُ ولا كلُّ من ترجو لغيبِكَ حافظٌ ... ولا كلُّ من ضمَّ الوديعةَ يَصْلُحُ فكتبت إليه: تعيبُ على الإنسان إظهارَ عِلْمِه ... أَبا لِجدِّ هذا منك أمْ أنْتَ تَمْزَحُ فَدَتْكَ حياتي قد تقَدَّمَ قبلنا ... إلى مَدْحهِم قومٌ وقالوا فأَفْصَحوا وللمتنبي أحرُفٌ في مديحهِ ... على نَفْسِهِ بالحقِّ والحقُّ أَوْضَحُ أَرُوني فتاةً في زماني تَفُوقُني ... وتَعْلُو على عِلْمي وتَهْجُو وتَمْدَ؛ ُ عبد المحسن الإسكندري المعروف ب ابن الرقيق ذكره الفقيه أبو الفتح نصر الفزاري وقال: هو كثير الهجو، بذيء اللسان، وله شعر جيد، عارف بصناعة الطب والهندسة. قال: أنشدني أبو الفتح نصر المصري، قال: أنشدني عبد المحسن لنفسه في ابن عبد القوي: قُلْ لابْنِ عَبْدِ القَوِيِّ يا خَرِفُ ... علامَ ذا التِّيهُ منك والصَّلَفُ لا يَغْرُرَنْكَ الثيابُ أَبْيَضُها ... فإنما منك تَحْتَها جِيَفُ فالدُّرُّ مُسْتَوْدَعٌ حَشَا صَدَفٍ ... وأنت درٌّ في جَوْفِهِ صَدَفُ وله في ابني كامل: لا بدّ لابْنَيْ كاملٍ من نَكْبَةٍ ... يَزِنانِ فيها كلَّ ما ادّخراهُ فالكلبُ يَفْرَحُ بالذي هو آكِلٌ ... ويَضِيقُ ذرعاً بالذي يخراه وله في أعور: لنصرَ خُبْرٌ يُحَقِّقُ الخَبَرَا ... فَهْوَ على حالتَيْهِ ذَقْنُ خرا وأَعْوَرُ العينِ قُبْحُ مَنْظَرِهِ ... أَثَّرَ في عَيْنِ دَهْرِنَا عَوَرا ما كنت أَدْرِي قُبَيْلَ أَنْظُرُهُ ... أنّ المسيخَ الدجّال قد ظهرا من قال إنّ الإله خالِقُهُ ... فإنه بالإله قد كَفَرَا وله يا يهودَ الزمانِ أَنتُمْ حميرٌ ... وتيوسٌ بكمْ تُقَاسُ التيوسُ حين أَضْحى شَمْوِيلُ فيكمْ رئيساً ... وبقدرِ المَرْءُوسِ يَأْتي الرئيسُ هوَ ثَوْرٌ وربُّهُ كان عِجْلاً ... من قديمٍ وصِهْرُهُ جامُوس ابن سلمان القرشي من أهل الإسكندرية هو أبو الفضل يوسف بن سلمان القرشي. أنشدني نصر بن عبد الرحمن الإسكندري الفزاري ببغداد قال: أنشدني القاضي أبو محمد العثماني الديباجي بالإسكندرية قال: أنشدني أبو الفضل يوسف بن سلمان القرشي لنفسه ذكر أنه كان من أهل الفضل وذوي اليسار بها: أرى كُتُباً قد طال في جمعها جُهْدِي ... وزادَ إليها قَبْلَ تحصيلها وَجْدِي تمنيتُ فيها نظرةً فَحُرِمْتُهَا ... وجاءَتْ عقيبَ المنع عَفْواً بلا كَدِّ فأصبحتُ فيها ناظراً مُتَحَكِّماً ... جواداً بما فيها على الصادقِ الوُدِّ أَقَلِّبُهَا من بَعْدِ غيري مُحَكَّما ... فيا ليت شعري مَنْ يُقَلِّبُهَا بَعْدي نصر بن عبد الرحمن الفزاري وللفقيه نصر بن عبد الرحمن الأسكندري الفزاري في معناه، وكتب لي نسبه وهو: نصر بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن علي بن الحسين بن زياد بن عبد القوي ابن عامر بن محمد بن جعفر بن أشعث بن يزيد بن حاتم بن حمل الفزاري، أنشدنيه وذكر أنه كان عني بتصنيف كتب سماها لي، أنشدنيه لنفسه في بغداد، رأيته شاباً متوقداً بالذكاء والفطنة عارفاً بالأدب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 796 أُقَلِّبُ كُتْباً طالما قد جَمَعْتُهَا ... وأَفْنَيْتُ فيها العَيْنَ والعَيْنَ واليدا وأصبحتُ ذا ضنٍ بها وتمسُّكٍ ... لِعِلْمِي بما قد صُغْتُ فيها مُنَضَّدَا وأَحْذَر جَهْدي أن تُنَالَ بنائلٍ ... مُبيرٍ وأن يغتالَهَا غائلُ الرَّدَى وأعلمُ حقًّا أنني لستُ باقياً ... فيا ليت شعري من يُقَلِّبُها غدا مسعود الدولة بن حريز الشاعر المصري أنشدني الفقيه نصر بن عبد الرحمن الفزاري الإسكندري ببغداد قال أنشدني أبو الفتح نصر المصري قال سمعت ابن حريز ينشد. ظَنَّتْ مَعينَ الدمع غيرَ مُعينها ... في بينها أو في تَعَسُّفِ بَيْنِها صَدَقَتْ وفي صَدَفِ الجفون لآلىءٌ ... نابَ العقيقُ الرَّطْبُ عن مكنونها ومنها: أيامَ عيشي تشتكي سلمى وما ... تشكُو سوى تصحيفِ أَحْرف سينها حَلَفَتْ لَتَرْقَنَّ السماءَ فمذ أًتَتْ ... قَصْرَ الخلافةِ بَرَّ عَقْدُ يمينها أبو الحسن التنيسي يلقب برضي الدولة أنشدني الفقيه نصر، قال: أنشدني أبو الفتح نصر قال: سمعت أبا الحسن التنيسي ينشد: راحَ من خَمْرِ الصِّبَا مُغْتَبِقَا ... ثَمِلاً أَحْسَنَ شيءٍ خُلُقُا تفعلُ النشوةُ في أَعْطَافِهِ ... فِعْلَ عينيه بأرباب النَّقَا رشأٌ قد أَقْسَمَتْ أَلْحَاظُهُ ... لتُريقنَّ دِمَا مَنْ عَشِقَا فيهما سهمان تنصيل الهوى ... فإذا مافُوِّقا قد رَشَقَا مَنْ عذيري من غزالٍ كلَّمَا ... سُئِلَ الرحمةَ أَبْدَى حَنَقَا ورأيتُ النرجسَ الغضَّ وقد ... أخجلَ الوردَ بما قد أَحْدَقَا ينهبُ الناهبُ من زهرته ... ويذودُ اللمسَ عما بَسَقَا كم أناديه وذلِّي شافعٌ ... وفؤادي يَتَلظَّى حُرَقَا هكذا يُجْزَى بكمْ من عشقا ... لاعجاً يَسْري وقلباً مُوثَقَا إِنْ يكن بُعْدُكَ عن حُمَةً ... فمديحي حافظُ الدين الرُّقَى ابن غسان الكاتب المصري أبو الحسن علي بن المؤمل بن علي بن غسان. أنشدني الفقيه أبو الفتح نصر ابن عبد الرحمن ببغداد، قال: كان ابن غسان مكثراً من الشعر عارفاً بالكتابة، رأيت ديوانه في مجلدين بخطه بالإسكندرية، وهو رواية العثماني، قال أنشدني الشيخ أبو الحسن علي بن المؤمل بن علي بن غسان الكاتب المصري لنفسه. بكىأَسَفاً لفراق الحبيب ... وأَفْرَقَ من سطواتِ الفراقِ عسى الله من بَعْدِ حَرِّ الفراقِ ... يَمنُّ عليه بِبَرْدِ التَّلاَقِ وأنشدني أيضاً، قال: أنشدني القاضي العثماني، قال: أنشدني ابن غسان لنفسه: فُتِنْتُ بفاتنِ الْحَدَقِ ... وزاد بِهَجْرِهِ أَرَقِي إذا ناديتُ من جَزَعٍ ... أخذتُ القلْبَ في طَلَقِ رويدك سَوْفَ تَلْقَاهَا ... بلا قَلْب ولا رَمَقِ قال: وأنشدني القاضي العثماني قال: أنشدني ابن غسان لنفسه. توكَّلْ على الله جلَّ اسمُهُ ... ولا ترجونَّ سواه تَعَالَى وكلُّ امرىءٍ يَرْتَجِي غيرَهُ ... لكشفِ المُلِمَّاتِ يَرْجُو مُحَالاَ قال: وأنشدني أيضاً لنفسه. إلى كم منك حظي في انتقاصِ ... ومالِي عن غرامك من مَنَاصِ لقد ضيَّعتَ حين أَضَعْتَ حَقِّي ... وودِّي لم تُرَاع ولا اختصاصي إذا أَوْعدتني شرًّا أتاني ... ووعدُ الخيرِ عندكَ في اعْتِيَاصِ فَشرُّكَ كلَّ يومٍ في ازديادٍ ... وخيرُكَ كلَّ يومٍ في انتقاصِ وصدُّكَ لا يَصُدُّكَ عنه شيءٌ ... وَوَصْلُكَ ذو اعتلالٍ وانتكاص عجبتُ لِمَنْ يُؤَمِّلُ مِنْكَ خيراً ... يفوزُ به إلى يوم القصاص وأَعْجَبُ من صدودك أَنَّ مالي ... وقد أَنْكَرْتُ فِعْلَكَ مِنْ خَلاَصِ ابن قتادة المعدل المصري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 797 أبو الفتح منصور بن إبراهيم بن قتادة الأنصاري توفي في عصرنا. أنشدني الفقيه أبو الفتح نصر بن عبد الرحمن الإسكندري قال: أنشدني القاضي العثماني، قال: أنشدني الشيخ أبو الفتح منصور بن إبرايهم ابن قتادة الأنصاري المعدل بمصر المصري بالإسكندرية سنة اثنتي عشرة وخمسمائة لنفسه في التغزل: نظري إليك يزيدُ في نَظَري ... فعلامَ تَحْجُبُنِي عن النَّظَرِ يا جُمْلةَ الْحُسْنِ التي اقْتَسَمَتْ ... منها المحاسنَ جُمْلةُ البشَر لِهَوَاكَ بين جَوانِحِي كُتُبٌ ... قد عُنْوِنَتْ بالدَّمْعِ والسَّهَر قال: وأنشدني العثماني قال: أنشدني أيضاً لنفسه: أَفْدِي خيالاً من حبيبٍ زارني ... في جنحِ ليلٍ كالقطيعة مُظْلمِ فطفقتُ مسروراً به وسأَلْتُهُ ... أَنّى اهتدى والليلُ لم يَتَصَرَّمِ فأَجابني إِني هتكتُ سُدُولَهُ ... حتى اهتديتُ إليكمُ بِتَبَسُّمِي قال: وأنشدني له أيضاً: أَسَباك منه جيدُهُ أَمْ طَرْفُهُ ... أم شَكْلُهُ أم دَلُّهُ أم ظَرْفُهُ يا ناظري أَمْ وردُ وَجْنته الذي ... يلتذُّ للعينِ البصيرةِ قَطْفُهُ صافحتُهُ فشكتْ أناملُهُ الأَذَى ... وتألمتْ من لَمْسِ كفَي كَفُّه فكأنَّ جسمي جَفْنُهُ في سُقْمِهِ ... أو خَصْرُهُ وكأَنَّ هَمِّي رِدْفُه وله في المكربل، وكان هجاه: ما نال خَلْقٌ في الهِجا ... ما نالَهُ المُكَرْبَلُ كلُّ الهجاءِ أخِرٌ ... وهو الهجاءُ الأَوَّلُ لأَنَّهُ يأَخْذُهُ ... من عِرْضه وَيَعْمَلُ وقرأت في كتاب الجنان لابن الزبير، أنشدني قتادة لنفسه في المكربل لما مات: قالوا المكربلُ قد قضى فأَجَبْتُهُمْ ... ماتَ الهجاءُ وعاش عِرْضُ العَالَمِ ما تسمعون ضجيج مالكَ مُعْلِنا ... وجنوده لا مرحباً بالقادم الشيخ الأديب أبو محمد عبد الله بن عتيق الشاعر المصري المعروف ب ابن الرفا شيخٌ ظريفٌ، لطيف العبارة، مطبوع النظم، ذكر أنه أقام باليمن أربعين سنة، وأجفل عنها غلبة المهدي على زبيد، وأقام ببغداد، وكان يحضر مجلس ابن الصيفي عند سماع شعره، وأفاوضه في الشعر وغيره، ولا تخلو مجاذبة أطراف الحديث معه من فائدةٍ ليلة، وجدوى جديدة، وأنشدني كثيراً من شعره ووعدني بإثباته لي. فمما أنشدنيه لنفسه يوم الجمعة غرة محرمٍ سنة اثنتين وستين وخمسمائة ببغداد: تفعلُ بي ألحاظُ هذا الغزالْ ... فعلَ الحُمَيَّا بعقول الرجالْ قلت له وقد انفصلنا من مجلس ابن الصيفي: اكتب لي شيئاً من شعرك فقال: من عنده السكر لا يطلب الملح. قلت: الملح لا يستغني عنه طعامٌ؛ ثم وصفت نفسك، فإن البحر ملحٌ قال: ولكن لا يشرب، قلت ولكن لا يمنع الراكب ولا يحرم الجدوى، وأنشدت متمثلاً: كالبحرِ يُعطي للقريب إذا دنا ... دُرًّا ويبعثُ للبعيدِ سحائبا ابن مجبر الإسكندري وهو أبو القاسم بن مجبر بن محمد ذكر أنه كان من أهل الإسكندرية. وله شعرٌ صالحٌ ومذهبٌ في الشعر عجيبٌ أنشدني الفقيه نصر بن عبد الرحمن الفزاري ببغداد سنة ستين، قال: أنشدني القاضي أبو محمد العثماني، قال: أنشدني أبو القاسم بن مجبر بن محمد لنفسه ملغزاً. أُحاجيكَ ما سابقٌ للخيو ... لِ لا تُحْسِنُ الريحُ تَجْرِي مَعَهْ يسيرُ على حافرٍ واحدٍ ... قوائِمُهْ فَوْقَهُ أَرْبَعَهْ إذا المرءُ أَوْدَعَهُ عِدَّةً ... أَتَاهُ بأَضْعَافِ ما أَوْدَعَه وَيُطْعِمُه جَهْدَهُ وهو لا ... يكادُ من الحِرْصِ أَنْ يُشْبِعَه يَخِفُّ فتحسبُهُ ريشةً ... ولا يقدرُ البغلُ أَنْ يَرْفَعَه وأنشدني أيضاً القاضي العثماني قال: أنشدني أبو القاسم لنفسه ملغزاً. ما أَحرُفٌ تقرأُ مَقْلوبَهْ ... للطيرِ والأَنْعامِ مَنْسُوبَهْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 798 صحيحةُ الشكْلِ ولكنَّها ... مكسورةُ الأَبْعاضِ مَضْروبَهْ أظهرتُها جَهْدي وأَخْفَيْتُها ... فهيَ مع الهتكةِ مَحْجُوبَهْ وأنشدني أيضاً قال: أنشدني القاضي العثماني، قال: أنشدني الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد اللخمي، قال: أنشدني أبو القاسم بن مجبر لنفسه ملغزاً أيضاً: أُحْجِيَةٌ شأْنُها عجيبٌ ... يَفْهَمُها كلُّ ذي قَرِيحَهْ ما ذاتُ خدٍ به سَوَادٌ ... كخدِّ نوبيَّةٍ صَرِيحَهْ وآخرٌ أَبيَضٌ نَقِيٌّ ... يُخالُ من فِضَّةٍ صريحَهْ محجوبةٌ تُشْتَهَى ولكِنْ ... يَمْحَضُكَ الودَّ والنصيحَهْ قال: بمصر طيرٌ يسمى الطفل يؤكل، الواحدة طفلة. ابن جبر هو أبو محمد يحيى بن حسن بن جبر شرف الدولة من شعراء صاحب مصر. أنشدني الفقيه أبو الفتح نصر الإسكندري، قال: أنشدني أبو الفتح نصر المصري، قال: أنشد ابن جبر وأنا أسمع: مديحُكَ فَرْضٌ كالصلاةِ لوَقْتِها ... تُؤَدَّى، فإن فاتت فلا بُدّ أَنْ تُقْضَى وما أَخَّرَ المملوكَ إلاّ توعُّكٌ ... أَلَمَّ به واللهُ قد عَذَرَ المَرْضَى وقرأت له من قصيدة في مدح ابن رزيك: ما بَ. من عزَّ إِلا البيضُ والأسلُ ... ولا اجتنى الحمدَ إلا الفارسُ البطلُ ولا اقتنى المجدَ إلا مَنْ له هِمَمٌ ... بعيدةٌ بمحلِّ النَّجْمِ تَتَّصِلُ كفارسِ المسلمينَ الأكملِ الملك النَّدْبِ ... الهمامِ الذي تَحْيا به الدُّوَلُ هل كان قطُّ ابنُ زُرِّيكٍ بملحمةٍ ... إلا وكان مُلاقيه له الهَبَل وله فيه أيضاً: ولرُبَّ يومٍ قد تطايرَ شرُّهُ ... عنه يَخِيمُ الهِبِزِرِيُّ الأَرْوَعُ أَطْفَا ابنُ رزِّيكٍ لهيبَ ضِرَامِه ... والبيضُ تَخْطبُ في الرءُوس فَتُسْمَعُ وكتائبٌ للشِّرْكِ كنتَ إِزاءَها ... مُتعرِّضاً فانفضَّ ذاك المَجْمَعُ ولكمْ صَرَعْتَ من الفرنجِ سَمَيْدَعاً ... بلقائه لكَ قِيلَ أَنْتَ سَمَيْدَعُ ابن شمول المقرىء أبو الحسين من أهل مصر. وكان الغالب عليه القرآن، وانتهت إليه رئاسة الإفراء بمصر، وهو كبير الشأن، وتوفي بعد سنة خمسمائة. أنشدني القاضي حمزة بن علي بن عثمان، وقد وفد إلى دمشق سنة إحدى وسبعين، قال: أنشدني أبو الجيوش عساكر بن علي المقري، قال: أنشدني أبو الحسين بن شمول لنفسه: تَبَسَّمَتْ إذْ رَأَتْني ... وشيبُ رَأْسي يَحُومُ فقلتُ شَعْرِيَ ليلٌ ... والشيبُ فيه نجومُ فاستضحكتْ ثم قالتْ ... كما يقولُ الظَّلومُ يا ليتها من نجومٍ ... غَطَّتْ عليها الغُيُومُ ابن معبد القرشي الإسكندري هو أبو الحسن علي بن الحسن بن معبد، أنشدني الفقيه نصر بن عبد الرحمن الإسكندري الفزاري ببغداد سنة ستين، قال: أنشدني أبو الحسن الأديب هذا لنفسه بالإسكندرية، وكان حسن التصرف في النظم والنثر، كثير المعاني، لطيف الطبع، صحب ملوك المغرب مدة طويلة، وشعره مشهور مستجاد: ومُهَفْهَفٍ طالَتْ ذوائبُ فَرْعِهِ ... كالليل فاضَ على الصباح المُسْفِرِ قَصَرَ الدَّلالُ خُطاهُ فاعتلقتْ به ... لي مهجةٌ عن حُبِّهِ لم تَقْصُرِ وَسْنانُ كُحْلُ السِّحرِ حَشْوُ جُفُونِه ... ففتورُها عن مُهجَتي لم يَفْتُرِ مَلَكَ القلوبَ بدُرِّ سِمْطَيْ لؤْلُؤٍ ... عَذْبِ اللَّمَى في غُنْجِ طَرْفٍ أَحْوَر وبوجنةٍ رَقَمَ الجمالُ رياضَها ... ببنفسجٍ من فوقِ وردٍ أحمر كتبَ العذارُ على صحيفةِ خَدِّهِ ... هذا بداءَةُ حيرةِ المتحيّر وَهَبَتْ محاسنه الكمالَ فأصبحتْ ... فِتَنَ العقولِ وَرَوْضَ عينِ المُبْصِر قال: وأنشدني أيضاً لنفسه: وَهَبْتُ سُلُوِّي لدينِ الصِّبا ... فصيرَّتُ مَذْهَبَهُ مَرْكَبَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 799 وصرتُ إِذا ما الهوى مَرَّ بي ... يقولُ له خاطري مرحبا وإِني لأَهْوى رشاً ساحراً ... أَعارَ فتورَ العيونِ الظِّبَا إذا ما تَثَنَّى فغُصْنُ نَقَاً ... وبدرٌ جلا شَعْرَه غَيْهَبا وزانتْ مُحيَّاهُ خيلانُهُ ... كما تيبعُ الكوكبُ الكوكبا وبي أَسمَرٌ ناسَبَتْهُ القَنَا ... يرُوقُكَ خدًّا حَلا مُذْهَبا سَقَى روضَ خَدَّيه ماءُ الشبابِ ... ففتَّحَ زهراً به مُعْجِبا وخيلانُهُ خَيَّلَتْ عنبراً ... على صفحةِ التِّبْر قد حَبَّبا تَقَلَّدَ من لحظه صارماً ... أَسالَ النفوسَ وما ذُنِّبا وَمُلِّكَ من حُسْنِه دَولةً ... لطاعتها كلُّ قلبٍ صَبَا وأورده ابن بشرون في المصريين وقال: ابن معبد الطرابلسي أنشدني لنفسه: يا حاديَ الركْب رفقاً بالحبيب فقد ... طارَ الفؤادُ وقلَّ الصبرُ والجَلَدُ لعلّ حِبِّي يرى ذُلِّي فيرحمني ... بنظرةٍ عَلَّها تشفي الذي أَجِدُ يا ويحَ من ظَعَنَتْ أحْبابُه وَغَدَا ... مُخَلِّفاً بعدهم أكْبادَه تَقِدُ قال: وأنشدني أيضاً لنفسه: هواك لقلبي أَجلُّ المِلَلْ ... وإِنْ سِمْتَهُ غارِماً بالمَلَلْ حَلَوْتَ فكنت كعصرِ الصِّبا ... فَجُدْ بالقَبُولِ وَطِيبِ القُبَلْ فوجْهُكَ حُسْناً وَوَجْدِي به ... غدا ذا وذا في البرايا مَثَلْ قال: وأنشدني أيضاً لنفسه: تنامُ وعندي غُلَّةٌ وأَلِيلُ ... وَتَلْهو وَلبْسِي لَوْعَةٌ ونُحُولُ وأَرْضَى بحملِ الذلِّ فيكَ وليسَ لي ... لديكَ إلى نَيْلِ الوِصالِ وُصُولُ فوا أسفاً إن لم تَجُدْ لي بزورةٍ ... يقابلني منها رِضاً وقبولُ الشيخ أبو الحسين بن مطير شاعرٌ مجيدٌ، وله ديوان، ووجدت له في مجموع: مُحْكَمَةٌ كاساتُنا هذه ... وَلَهْوُنَا أَسْبابُهُ مُحْكَمَهْ فَمَهْ لحاكَ اللهُ من لائمٍ ... وكُنْ كمنْ سَدَّ بِصَمْتٍ فَمَهْ تم التأليف الحاوي لشعراء مصر وأدباء العصر بمن الله تعالى بتاريخ العشرين من رجب من سنة اثنتين وأربعين وستمائة والحمد لله وصلى الله على محمد وآله وأصحابه. قسم شعراء المغرب بسم الله الرحمن الرحيم ربّ أعنّ الجزء الثاني من القسم الرابع باب في ذكر محاسن فضلاء جزيرة صقلية أبو الحسن علي بن عبد الرحمان بن أبي البشر الكاتب الصقلي الأنصاري سمّاه أبو الصلت في رسالته من أهل العصر، وأثنى على بلاغته بعد ذكر أبيات لنفسه في وصف النيل كتبها الى الأفضل ليلة المهرجان وهي: أبْدعتَ للناس منظراً عجبا ... لا زلتَ تُحيي السّرورَ والطّرَبا جمعتَ بين الضّديْنِ مُقتدراً ... فمَنْ رأى الماء خالط اللهبا كأنّما النّيلُ والشّموعُ به ... أفْقُ سماءٍ تألّقتْ شُهُبا قد كان في فِضّةٍ فصيّرهُ ... توقُّدُ النارِ فوقَه ذهَبا قال: وقد تعاور الشعراء وصف وقوع الشعاع على صفحات الماء. ومن مليح ما قيل فيه قول بعض أهل العصر، وهو أبو الحسن علي بن أبي البشر الكاتب: شرِبْنا مع غُروب الشّمسِ شمسا ... مُشَعشَعةً الى وقتِ الطّلوعِ وضوءُ الشمسِ فوقَ النّيل بادٍ ... كأطرافِ الأسنّة في الدّروعِ ولأبي الصلت في المعنى: بشاطئِ نهرٍ كأنّ الزّجاجَ ... وصفْوَ اللّجينِ به ذُوِّبا إذا جمّشَتْه الصَّبا بالضُحى ... توهّمْتَه زرَداً مُذْهبا ولابن خفاجة الأندلسي: والرّيحُ تعبثُ بالغُصونِ وقد جرَى ... ذهبُ الأصيل على لجين الماءِ وقرأت في مجموع شعر نظماً حراً، يفوق ياقوتاً ودراً، منسوباً الى أبي الحسن بن أبي البشر، مشتملاً من المعاني على الغرر، فمن ذلك قوله في راقصة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 800 هيفاء إن رقصت في مجلس رقصت ... قلوبُ مَنْ حولها من حِذْقها طربا خَفيفة الوطءِ لو جالت بخطوتها ... في جفن ذي رمدٍ لم يشتكِ الوصبا وقوله: لنا في كلّ مُقترَح وصوتٍ ... مناجاةٌ بأسْرار القلوبِ فنفْهمُ بالتّشاكي ما نُلاقي ... بلا واشٍ نخافُ ولا رقيب وقوله: وساقٍ كمثل الغزال الرّبيب ... بصيرِ اللّحاظِ بصيدِ القُلوبِ جسَرْتُ عليهِ فقبّلتُه ... مُجاهرةً في جُفونِ الرّقيب فلما توسّد كفَّ الكرى ... وأهداه لي سُكرُه من قريب تعجّلتُ ذنباً بفتكي به ... ولكنّه من مليح الذّنوبِ وقوله: كتبتَ فهلاّ إذ ردَدْتَ جوابي ... جعلتَ عنّي مكان عتابي لئِنْ كان ذنباً أنّني لم أزركمُ ... لفَقْدي للقياكم أشدُّ عِقابِ وهذا كقول الصابئ: إن يكن تركي لقصْدِكَ ذنبا ... فكفى بي ألاّ أراك عقابا وقال أبو الحسن بن أبي البشر: اللهُ يعلم كيف سرتُ ... وما لقيتُ وكيفَ بتُّ حذَراً عليكَ وُقيتُ فيك ... من الحوادثِ ما حذرْتُ إن لم تمُنَّ بوصف حا ... لِكَ لي بخطِّ يديك متُّ وقال، ومما يقرأ على خمسة أوزان: وغزالٍ مُشنَّفٍ ... قد رثى لي بعدَ بُعدي لمّا رأى ما لقيتُ مثل روض مُفوَّفٍ ... لا أبالي وهو عِندي في حُبّه إذْ ضنيتُ وجهه البدرُ طالعاً ... تاه لمّا حاز ودي فإنني قد شَقيتُ في قضيب مُهفهَفٍ ... لذّ فيه طولُ وجْدي جفا فكدت أموتُ مانع غيرُ مُسعِفٍ ... ليس يأبى نقْضَ عهدي وليس إلا السّكوتُ جائر غير مُنصفٍ ... حالَ عمّا كان يُبْدي إنّ الوِصالَ بُخوتُ وقال: أتراني أحْيا الى أن يعودا ... نازحٌ لم يدعْ لعيني هُجودا كيف أرجو الحياةَ بعد حبيب ... كان يومي به من الدهر عيدا كنت أشكو الصّدود في القرب والآ ... ن قد استغرق البِعادُ الصّدودا أشتهي أن أبوح باسمك لكن ... لقّنَتْني الوُشاة فيك الجُحودا وقال: الى الله أشكو دَخيلَ الكمدْ ... فليس على البُعد عندي جلَدْ ومنْ كنتُ في القرب أشتاقهُ ... فكيف أكون إذا ما بعُدْ وقال: إليك أشكو عيوناً أنت قلتَ لها ... فيضي فقد فضحَتْني بين جُلاّسي وما تركتَ عدوّاً لي علمْتَ به ... إلا وقد رقّ لي من قلبك القاسي فإن رضيتَ بأن ألقى الحِمامَ فيا ... أهلاً بذاك على العينين والرّاسِ وقال، وقد سئل في إجازة البيت الأخير: تولّوا وأسرابُ الدّموع تفيضُ ... وليلي طويلٌ بالهموم عريضُ ولما استقلّوا أسلمَ الوجد مُهجَتي ... الى عزَماتٍ ما لهنّ نهوض توقّدُ نيران الجوى بين أضلُعي ... إذا لاح من برق العِشاء وميض ولم تبق لي إلا جفون قريحةٌ ... وعظْم بَراهُ الشّوق فهو مهيض فغنِّ لمحزون جفا النومُ جفنَه ... فليس له حتى الوصالِ غموض شجاني مغاني الحي وانشقت العصا ... وصاح غراب البين: أنت مريض وقال: ألم يأنِ للطيف أن يعطفا ... وأن يطرُق الهائِمَ المُدْنفا جفا بعد ما كان لي واصلاً ... وخلّف عندي ما خلّفا أما تعطفنّ على خاضع ... لديك يناجيك مستعطفا إذا كتبتْ يدُه أحرفا ... إليك محا دمعُه أحرُفا ولو كنتُ أملك غرْبَ الدموع ... منعتُ جفونيَ أن تذرِفا غراماً بإشعال نار الغرام ... وما عُذرُ صب بكى واشتفى وقال: قد أنصف السقمُ من عينيكَ وانتصفا ... فها هما يحكيان العاشقَ الدّنِفا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 801 يا ساحرَ الطرف قد أُغريتَ بي كلَفا ... برْحاً وصيّرتني أستحسنُ الكلَفا أظنّ خدّيكَ من جاري دمي اختَضَبا ... لقد تناهيْتَ في قتلي وقد ظرُفا وقال: يا سيّئَ القُدرة كم ذا الجفا ... لقد شفا هجرُك بي واشتفى تُراكَ لم يكفِك ما حلّ بي ... بعدَك من طول الضّنى أو كفى وقال مُلغزاً: اسمُ الذي صيّرني مدنفا ... لمّا انتضى من جفنه مرهَفا يلعب إنْ رُخِّم معكوسه ... لأنه قد نسّق الأحرفا ألم ترَ كيف غدا ثُلثُه ... جذراً لثلثيه إذ ألِّفا قد غلب القلب على صبره ... وهكذا يخرج إن صُحِّفا وقال: يا غزالاً صاغه الصا ... ئغُ من حسنٍ وظُرفِ لا وزهرٍ في رياض ... غيرِ مبذول لقَطْفِ ما تعرّضْتُ لريْبٍ ... إنّما نزّهْتُ طرْفي وقال: كيف لم يشتعل بنار اشتياقي ... قلَم لي أبُشّهُ ما ألاقي كان حلوَ المذاق عيشيَ للقُر ... بِ فأضحى للبُعد مُرّ المذاق فوَصَبري لآخُذنّ بثاري ... من ليالي الفراق يوم التّلاقي وقال: هجرتك يا سؤْلَ نفسي ولي ... فؤاد متى تذكري يخْفق وما ذاك منّي اطّراحُ المَلول ... ولكنه نظرُ المُشفِقِ أخاف عليكِ فلولاك لم ... أكن أتّقي جُلّ ما أتّقي كما تتزكين بَرودَ الشّرا ... ب ظمأى مخافة أن تشرَقي فإن سرّ حاسدَنا بُعدُنا ... فنحن على رغمه نلتقي ومهما علِمتِ فلا تجهلي ... فإن المُحبّ سعيدٌ شقي وقال: عذّبتَ قلبي ببُخلِك ... فامنُنْ عليّ بوصلكْ يا علّتي وشقائي ... ماذا لقيت لأجلك بحُسنِ وجهك إلا ... أمّنْتني قُبحَ فعلك أرجو انعطافَك لكن ... أخاف من طول مَطلِك نَهاك أهلك عني ... من أجل أهلِك أهلِك وقال وهذان البيتان يجمعان حروف المعجم: مُزَرْفَنُ الصّدغ يسطو لحظُن عبثا ... بالخلق جذْلانُ إن تشكُ الهوى ضحكا لا تعرِضَنّ لوَردٍ فوق وجنته ... فإنّما نصبَتْه عينُه شَرَكا وقال في مغنٍّ: ولنا مغنٍّ لا يزا ... ل يغيظنا ما يفعلُ صلَف وتيه زائد ... وتبَظْرُم وتمحّل غنّى ثقيلاً أوّلا ... وهو الثّقيل الأولُ وقال في الشيب والتغزل: تبلّج هذا الصبح أو كاد يفعلُ ... فأقصَر واستحيى معنّىً مُضلَّل أتاهُ نذير الشّيب قبل أوانه ... فأقلع عن لذّاته وهو معجَلُ فأهلاً بضيف قال هزلي لجده ... ترفق فإني حين تنزل أرحل سقى ورعى الله الشبابَ فإنّه ... على ما جنى سترٌ من اللهو مُسبَل بنَفسيَ من شطّت به غربة النّوى ... ومن هو في لحظي وفكري ممثّل ومن لجّ قلبي في هواه وغرّني ... رضاه فلا يسلو ولا يتبدل صحوت وعندي من هواه بقية ... تعمّ جميع العاشقين وتفضُل عجبت لطرف قد تضرّجَ من دمي ... فما احمرّ إلا خده وهو أكحل وما كنت أدري قبل لُقيا لحاظِنا ... بأن لدى الألحاظ سهم ومقتَل وقال: يا ذا الذي كل يومٍ ... يزيد عقلي خبالا ولّهْتَني بك حتى ... رأيت رُشْدي ضلالا أدعو عليك وقلبي ... يقول يا ربّ لا، لا وقال: ولقد وجدتُ الصبر بعدكمُ ... صعباً وكنت أظنه سهلا واستعبَرَتْ عيني فقلت لها ... هلاّ حذرْتِ الأعيُنَ النُّجْلا لا مرحباً بالبيْن من أجَلٍ ... تنْأى الحياةُ به ولا أهلا قد كان لي مُلْكاً دُنوّكمُ ... فالآن أصبح بُعدُكم عَزْلا وقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 802 كيف أعتدّ بلُقيا هاجر ... قبلما حاول وصلي صرَما عجبي من سقَمٍ في طرفه ... يورِثُ السُّقْم ويَشْفي السّقَما لو تجاسرتُ على الفتك به ... لم أعُدْ أقرَعُ سنّي ندَما أيّ شيء ضرّني لو أنّني ... كنت في الحِلّ طرقت الحرَما أنا عندي من شفى غُلّته ... من حبيب مُسعِدٍ ما أثِما وقال: فيه لي جنة وفيه نعيم ... وعذاب أشقى به ونعيمُ جاءني عائداً ليعلمَ ما بي ... من تجنّي هواه وهو عليم هو يدري ما أوجب السُقمَ لكن ... ليس يدري بما يقاسي السقيم ثم نادى وقد رأى سوءَ حالي ... جلّ محْيي العِظام وهي رميم وقال: ألا فليُوطِّنْ نفسَه كلّ عاشق ... على خمسة محثوثةٍ بغَرام رقيبٍ وواشٍ كاشح ومفنِّدٍ ... مُلحّ ودمعٍ واكفٍ وسَقام وقال: لا فرّج الله عنّي ... ولا شفى طولَ حُزني وألهبَ الشّوقُ قلبي ... وأمكن العجزُ منّي إن لم أروّحْ فؤادي ... من ذا القِلَى والتّجنّي وقال: وصلَ الكتابُ وكان آنسَ واصلٍ ... عندي وأحسنَ قادمٍ ألقاه لا شيء أنفَسُ منه مُهدَى جامعاً ... شمِلَ المنى إلا الذي أهداه ففضَضْتُه وجعلت ألثُم كلّ ما ... كتبَتْهُ أو مرّت عليه يداه وفهمت مودَعَه فرحت بغِبطة ... جذْلانَ مبتهجاً بما أدّاه وعجِبْتُ من لفظٍ تناسق فيه ما ... أعْلاه ما أجْلاه ما أحْلاه ولقد غُبِطتُ عليه عِلْقَ مضِنّةٍ ... عُدِمتْ له الأشكال والأشْباه كالروض باكَرَهُ الحَيا فتفتّحت ... أزهاره وتضوّعَت ريّاه كالعقد فُصِّل لُؤلؤاً وزبرجدا ... فتقابلت أولاهُ معْ أُخراه دُرٌ ترفّعَ قدْرُه عن قيمة ... منظومة صُغراهُ معْ كُبْراه وقال معمى وهو تميم، وموضعه حرف التاء: اسمُ الذي أضحى فؤادي به ... مُعذّباً صبّاً بتعذيبه إن صيّروا أوّلَه ثانيا ... غدا اسمُه بعضَ صِفاتي به وقال: الموت في صحُفِ العشّاق مكتوبُ ... والهجر مِن قبلُ تنكيدٌ وتعذيبُ إن طال ليلي فوجه الصّبح مطلعُهُ ... من وجه من هو عن عينيّ محجوب من لي بإعلامِه أنّي لغيبته ... ذيل المدامع في خدّيّ مسحوب كأنّ أجفانَ عيني من تذكّرهِ ... غصن مَروح من الطّرْفاءِ مهْضوب طالعتُ كتاباً صنفه بعض فضلاء عصري هذا الأقرب بالمهدية، وذكر فضلاء صقلية. فمنهم: أبو الفضل جعفر بن البرون الصقلي ذكر أنه أحد الأفراد، في النظم المستجاد، وأورد من شعره ما يصف الراح، ويصافي الأرواح، فمن ذلك قوله: وساحِرِ المقلتين تحسَبُه ... من حور عِين الجِنان منفَلِتا يَبسِمُ عن لؤلؤٍ وعن برَدٍ ... ما بين زهر العقيق قد فُتِتا تكسف بدرَ السماء بهجتُه ... وإن رنَتْ مقلتاه أسكرتا فالوجهُ كالشمس مُذهَب شرِق ... والصدرُ والجيدُ جوهر نُحِتا قلت له والغراب يعبثُ بي ... وناظري في سناه قد بُهِتا ألا وهل عطفَة تُعدّ مُنى ... منكَ فإنّ العَذول قد شمِتا فقال منّي إليك شيْمُ سَنا ... يسوم ذا الشوقِ في الهوى عنَتا ومرّ كالبَدْرِ في سماوَتِه ... يختال في زهوِه وما التفتا وقوله: إني أبثّكَ سيّدي ... ما ليس يحملُه بشرْ محَن كتِبنَ بمَفرِقي ... وافى بهنّ ليَ القدر عُلِّقتُ ألوَدَ لم أكن ... أدري لعَمرُك ما الخبر أبصرتُه في يلمَّقٍ ... كالغُصنِ أثمرَ بالقمَر فسطا عليّ بجورِه ... أكذا الكريمُ إذا قدَر وقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 803 حتى متى قلبي عليكَ عليل ... والى متى هذا الصّدودُ يطولُ أشكو إليك كأنني لكَ راغب ... ألا يكون عليّ منكَ قَبول وإذا تعرّض لي هواكَ بنظرة ... أعرضْتَ حتى ما إليك سبيل وقوله: ولولا أنني أُغفي لعلّي ... ألاقي الطّيفَ مُزوَرَّ الجنابِ فأقضي من ذِمامكَ بعضَ حقٍّ ... تقاصر دونه أيدي الركاب لما طعِمتْ جفوني الغمْض حتى ... يُجَدِّد عهدَها منك اقترابي الفقيه أبو محمد بن صمنة الصقلي وصفه بحسن المحاضرة والمحاورة، وطيب المفاكهة والمذاكرة، واستضافة علم الشعر الى علم الشرع، وظرافة الخلق، وسلامة الطبع، وأورد له شعراً سنيِّ الصنع، جنّي الينع، وهو قوله: ترَكوا العتاب وجانبوا العَتْبا ... فأقِلهُمُ وأنثلهُمُ العُتْبَى واصفح لهم عمّا جنَوا كرَما ... حُباً لهم وكرامةً حُبا أحبابَنا لي عندكم مِقَة ... نهبَتْ جميعَ إساءةٍ نهْبا ومحبّةٌ في الصدر ثابتَة ... محَتِ الذّنوبَ فلم تدع ذنْبا أوليتكم مني صحيح هوى ... فشفى مريضَ سقامكم طِيّا وجزيتكم بقطيعةٍ صِلةً ... وحمَلْتُ ما حُمِّلْتُ من أعْبا ووردْتُ مِلحاً ماءَ وُدِّكُمُ ... فشربتُه وسقيتكم عذْبا وذكر أن الفقيه عيسى بن عبد المنعم الصقلي بلغه عنه كلام أحفظَه، فكتب إليه: جنّبَنا اللهُ سيّئَ القالَهْ ... وصاننا عن مواقف الخالَهْ منّا وفينا فلا رعَوْا أبدا ... حرّابَة بالمقال نبّالَهْ ذوو بضاع تُعدُّ ألسنَة ... وهْيَ مُدى في النّفوس فَعّاله فأجابه، وقرن بالعتبى عتابه: ما لحبيبي مُعتباً ماله ... أحال إفْكُ الوشاة أحوالَهْ غيّره ميْنُ كاشِح مذِقٍ ... وشَى وكان الإله سئّالَهْ بفيه عفر التراب بل تربت ... يداه في ما حكى وما قاله أراد قطْعاً لوصْلِنا حسَدا ... قطّع حدّ الحُسام أوصاله وُدٌ برَضْوى شددْتُ عُقدَتَه ... فكيف رام الغبيّ زلزاله بل كيف أرمي بأسهُمي بصَري ... أعمى ويحوي الحسود آماله يا ولدي والمَكينُ من خلَدي ... بموضع لم أبِحْهُ إلا لَهْ فناقلُ الزّور غير ما ثِقَة ... إذ كان يسعى ليُفسِدَ الحاله عبد الرحمان بن رمضان المالطي قال: ويعرف بالقاضي، وليس له في علوم الشريعة يد، بل هو شاعر له من بحر خاطره وغزارة غريزته مدد، ومعظم شعره في مدح روجار الإفرنجي المستولي على صقليه يسأله العودة الى مدينة مالطة، ولا يحصل منه إلا على المغالطة. له وقد احتجب عنه بعض الرؤساء: تاه الذي زُرتُه ولاذا ... عنّي ولم يُخفِ ذا ولا ذا وكان من قبلُ إن رآني ... يبسُطُ لي سُندُسا ولاذا فصار كلّي عليه كلاًّ ... يا ليتني متّ قبلَ هذا وقال في ذم إخوان الزمان: إخوان دهرِكَ فالقَهُمْ ... مثلَ العِدا بسلاحكا لا تغتَرِرْ بتبسّمٍ ... فالسّيف يقتُل ضاحكا عبد الحليم بن عبد الواحد السوسي الأصل، الإفريقي المنشأ، الصقلي الدار سكن مدينة بلرم، واستدر من ذوي كرمها الكرم، وله نظم كالعقود، وحلب كالعنقود، له في صقلية: عشقْتُ صقليّةَ يافعا ... وكانت كبعض جنان الخلود فما قُدِّر الوصلُ حتى اكتهلتُ ... وصارت جهنّم ذاتَ الوَقود ونسب إليه هذه الأبيات وهي مشهورة جداً: قالت لأتراب لها يشفَعْنَ لي ... قولَ امرئٍ يُزْهى على أترابه وحياةِ حاجته إليّ وفقرِه ... لأُواصلنّ عذابه بعذابه ولأمنَعنّ جفونَه طعْم الكرى ... ولأمزِجنّ دموعه بشرابه لمَ باح باسمي بعد ما كتمَ الهوى ... دهراً وكان صيانتي أوْلى به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 804 ونسب إليه أيضاً هذه الأبيات: شكوتُ فقالت كل هذا تبرُّما ... بحُبّي أراح الله قلبكَ من حُبّي فلما كتمتُ الحبّ قالت لشدّ ما ... صبرْتَ وما هذا بفعل شجيّ القلب فأدنو فتُقصيني فأبعُدُ طالبا ... رضاها فتعْتَدّ التباعد من ذنْبي فشكواي تُؤْذيها وصبري يسوءها ... وتُحرَجُ من بُعدي وتنفر من قربي فيا قوم هل من حيلة تعلمونها ... أشيروا بها واستوجبوا الأجْرَ من ربي وله: كرّرتُ لحظيَ فيمن لحظه سقمي ... فقال لي: فيمَ تكرارٌ وتردادُ فقلت عيناك مرضى يا فديتُهُما ... فلا تلُمْ لحظاتي فهي عوّاد البثيري الصقلي هو عبد الرحمان بن محمد بن عمر، من مدينة بثيرة حامل القرآن، ومساجل الأقران، ذكر أنّ باعه في الترسّل أمدّ، وخاطره في النثر أحدّ، وأورد له قصيدة مدح بها روجار الفرنجي صاحب قصلية، يصف المباني العلية، ذكر أنه أنشدها لنفسه، منها: أدِرِ الرّحيق العسْجَديّه ... وصِلِ اصطباحَكَ بالعشيّهْ واشرَبْ على وقْع المثا ... ني والأغاني المعبَديّه ما عيشة تصفو سوى ... بذُرى صقليّةٍ هنيّه في دولة أرْبَتْ على ... دول الملوك القيصريّه ومنها: وقصورِ منصوريةٍ ... حطّ السّرورُ بها المطيّه أعجِبْ بمنزلها الذي ... قد أكمل الرحمان زِيّه والملعبِ الزاهي على ... كل المباني الهندسيّه ورياضِه الأُنُفُ التي ... عادت بها الدُنْيا زهيّه وأسودِ شاذِروانِه ... تهمي مياهاً كوثريّه وكسا الربيعُ ربوعَها ... من حسنه حُللاً بهيّه وغدا وكلّل وجهَها ... بمُصبَّغاتٍ جوهريّه عطّرنَ أنفاسَ الصَّبا ... عند الصّبيحة والعشيّه وهي قصيدة طويلة. قال ابن بشرون: لما عرض عبد الرحمان عليّ هذه القصيدة، سألني أن أعمل على وزنها ورويها، فقلت: لله منصوريّة ... راقت ببهجتها البهيّه وبقصرها الحَسَنِ البِنا ... والشّكل والغُرَفِ العليّه وبوحشِها ومياهِها ال ... غُزْرِ العُيونِ الكوثريّه فقد اكتست جنّاتُها ... من نبتِها حُللا بهيّه غطّى عبيرَ تُرابِها ... بمُدبّجاتٍ سُندسيّه يُهدي إليكَ نسيمُها ... أفواه طيبٍ عنبريّه واستوسَقَتْ أشجارُها ... بأطايِبِ الشّجر الجنيّه وتجاوبت أطيارُها ... في الصّبح دأباً والعشيّه وبِها رُجارُ سما العُلا ... مِلكُ الملوكِ القيصريّه في طيب عيشٍ دائِمٍ ... ومشاهِدٍ فيها شهيّه واقتصرت من القصيدتين على ما أوردته، لأنهما في مدح الكفّار فما أثبته. عبد الرحمن بن أبي العباس الكاتب الاطرابنشي أورد له في وصف منتزه المعتزية المعروف بالفوّارة: فوّارةَ البحرينِ جمّعْتِ المُنى ... عيش يطيبُ ومنظر يُستعظَمُ قُسمتْ مياهُك في جداولَ تسعةٍ ... يا حبّذا جرَيانُها المتقسِّمُ في مُلتقى بحرَيك معتركُ الهوى ... وعلى خليجِكِ للغَرام مخيَّمُ لله بحْرُ النّخلتَيْنِ وما حوى ال ... بحرُ المَشيدُ به المقام الأعظمُ وكأنّ ماء المفرَغيْن وصفْوَه ... دُرّ مُذاب والبسيطة عندَمُ وكأن أغصان الرّياض تطاولت ... ترنو الى سمَكِ المياه وتبسِمُ والحوتُ يسبَحُ في صفاء مياهها ... والطير بين رياضها يترنّم وكأنّ نارنْجَ الجزيرة إذ زَها ... نار على قُضُب الزّبرجدِ تُضرَمُ وكأنّما الليمونُ صُفرةُ عاشق ... قد بات من ألم النّوى يتألم والنخلتان كعاشقَيْنِ استَخلَصا ... حذَرَ العدى حِصْنا منيعاً منهُمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 805 أو ريبَة علقَتْهُما فتطاولا ... يستَمحِيان ظُنونَ من يتوهّم يا نخلتَيْ بحرَيْ بلِرْم سُقيتُما ... صوبَ الحيا بتواصلٍ لا يُصرَمُ هُنّيتُما أمْن الزّمان ونِلتُما ... كلّ الأماني والحوادثُ نوّمُ بالله رِقّا واستُرا أهلَ الهوى ... فبأمْنِ ظلكما الهوى يتحرّمُ هذا العيان بلا امْتراءٍ إنّما ... سمْعُ الكيان زخارف تُتوهَّمُ الغاون الصقلي أبو علي حسن بن واد الملقب بالغاون وجدت في شعره لحناً كثيراً. له من قصيد: وكم من رفيع حطّه الدهر للّتي ... تضعضع منه الحال بعد تسامِ وكم خامل في الناس أمسى مُرَفّعا ... ترقّى الى العلياء كل سَنام فتعساً لدهر حطّ عُلْوَ مراتبي ... وقلّل إخواني وأكثر ذامي إذا اخضرّ يوماً منه للمرء جانب ... غدا فجلا للعين كيف بنام وله: ألا لا تكُن في الهوى ظالمي ... فما قطّ أفلحَ من يظلمُ ومنها: ألا في سبيل الهوى ميتتي ... ومثلُك في الحبّ لا يظلمُ إليك استَنَمْتُ فما قد ترى ... أتُنْعمُ بالوصل أم تصرِمُ ألا ارْحَمْ عُبَيدَك هذا الضعيف ... فكلّ رحيم له يرحَمُ ولا تكُ بالجور بِئْسَ الولي ... فإنّي لك الدهرَ مُستَسْلمُ الفقيه أبو موسى عيسى بن عبد المنعم الصقلي ذكر أنه كان كبير الشان، ذا الحجة والبرهان، فقيه الأمة وأمثل الأيمة له في المعاني الأبكار البعيدة مرامي مرامها، والألفاظ التي هي كالرياض جادها هامي رهامها. وقد أورد من كلامه ما يأسو سماعه الكلوم، ويجلو سنا إحسانه العلوم، ويحكي درر الأصداف ودراري النجوم، فمن بديع قوله في الغزل، وهو أحلى من نجح الأمل: يا بني الأصفَرِ أنتم بدَمي ... منكمُ القاتلُ لي والمُستَبيح أمليحٌ هجر من يهواكمُ ... وحلالٌ ذاك في دين المسيح يا عليلَ الطّرْفِ من غير ضنى ... وإذا لاحظ قلباً فصحيح كلّ شيء بعدما أبصرتكم ... من صنوف الحسن في عيني قبيح وله: سلب الفؤادَ من الجوانح غادةٌ ... أدلت إليه بدلِّها المستحكم عذراءُ تُنسبُ درعها من خدها ... وخمارها من ذي ذوائب أسحَم وعقودُها من نهدِها في شكلِها ... وحلاتها من لوني المُتسهِّم فكأنّها ووشاحَها وخمارَها ... وحليَّها للناظر المتوسِّم شمس توشحت السّنا وتتوجت ... جنحَ الدجى وتقلّدت بالأنجم وقال: يا أملحَ الناس وجهاً ... جاوزتَ في الحسن حدّكْ للغصن منك انعطاف ... يكاد يُشبه قدّك قد كان قلبيَ عندي ... والآن أصبح عندك وكنتُ من قبلُ حراً ... فها أنا صرتُ عبدَك وقال في جارية مصفرة اللون، بديعة الحسن: فضح الهوى دمعي وعيل تصبّري ... بخريدة ترنو بعَينَي جُؤذَر صفرا تولّعَ بالبياض لباسها ... وخمارها بمعصفرات الأخمُر فكأنها في دِرعها وخمارها ال ... مُبيَضِّ والمحمرّ عند المنظر ياقوتَة كسيَتْ صفيحةَ فضّةٍ ... وتتوجت صفْحَ العقيق الأحمر وله من قصيدة طويلة في الرثاء أولها: جَلّ المصابُ وجُلّ الخطب أوله ... فالحزن آخرُ ما آتى وأولُه ومنها: وكل وجدٍ وإن جلّت مواقعه ... فقدُ الأخلاءِ إن فكّرت أثكلُه أبا عليّ ابْنِ عبدِ الله إنّ بنا ... عليك وجْداً غدا أدناه أقتَلُه هل في السرور وقد أوديتَ من طمع ... لصاحب أو عديم كنتَ تكفُلُه كم صاحب نال ما يبغي بجاهكمُ ... عفوا وكم من سرور كنتَ تشمَلُه قد كان سعيُك في محياكَ أحمده ... وذكراك اليوم بعد الموت أجمَلُه وله من قصيدة في المجون، يصف قول معشوقته، وقد أرسلت إليه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 806 أشتهي أن أرى له وتَدَ الأر ... ض لنا في بيت الرّجا والسّعادَهْ وله: قِفْ باللِّوى المنعَرِج ... ونادِ بالركْبِ عُج واسألْ سُليمى أين با ... نَ ركبُها بالدَّلَج كأنها شمس الضّحى ... مكنونةٌ في الهودَج غراءُ تهدي ركبها ... في غسق المُدَّلج فلا يكاد دائبا ... يُخطي سَواءَ المنهج كأنها في درعها ... كافورة بدرُج لاعبتُها فتيّة ... بمثلها في منعج وأحسن الدهر لنا ... إحسان غير محرج ينعم كلٌ بالذي ... يهواه غير مزعج من لثم خدٍ أصبح ... ورشف ثغر أفلج وعضِّ نهد معصر ... وعضُدٍ مُدملج من عُكَنٍ كأنها ... طيُّ رباط المدرج وفوقها وتحتها ... من مركَبٍ ومولِج كلٌ على كلّ كما ... رُكِّبَ زوْجا مِسْحَج في راحتَيْ ريح بلي ... ل وظلالِ سجْسَج كأسُ السّرور بيننا ... صافية لم تُمزَج حتى أتَتْ من دونِها ... زعازع في رهَج هل راجع عهدي بها ... بالكَرْخ أو بالكرَجِ هيهات ما في أوبةٍ ... من طمع لمُرتجي فدعْ هُديتَ ما مضى ... وخذْ فُديتَ ما يجي واسمعْ حديثاً حسَنا ... تقصُر عنه حُجَجي أبصرتُ بدراً ساعياً ... بالأرض غير منبَج وحوله كواكبٌ ... تُضيء مثلَ السُّرُج بيضاءُ كالثلج تُري ... وجهاً كصبح أبلج مُنَعّماً مُكلّلا ... بغيهَبٍ من سبَج وحولَها لداتُها ... عوابثٌ بالمُهَج يفتكْنَ بالألحاظ فت ... كَ البطل المدجّج يجذب خصراً مُخطَفا ... بكفَلٍ مرَجْرَج كمثل زِقٍّ ناقصٍ ... على حمار أعرج يشفَعُه صدرٌ لها ... كأنّه في نهَجِ مواخِرُ الفُلكِ غدتْ ... زخّارَة في لُجَج تبسِمُ إذ تبسِمُ عن ... ذي أشرٍ مفلّج يا ليتني قبّلتُه ... ففي لماهُ فرَجي تُصبي الحليم ذا النُهى ... بذي احْوِرارٍ أدعَج وبِدلالٍ فاحم ... مُعقرَبٍ مصولَج ومن رسائله في وصف الخط: ورد عليه كتاب فلان أطال الله بقاء فلان لفلك السيادة والكرم، وعماداً تعلو به الهمم، ليشيد من عرصات الفضل دارسها، ويبين من أعلام المجد طامسها، وينير من آفاق المعالي حنادسها، ويبسط من أوجه الليالي عوابسها، فنظرت منه الى خط موصوف، معتدل الحروف، أملس المتون، مفتح العيون، لطيف الإشارات، دقيق الحركات، لين المعاطف والأرداف، متناسب الأوائل والأطراف، يروق العيون حسنه وشكله، ويعجز المحاول بيد التناول صنعه وفعله، متضمناً معاني كأنها رقية الزمان، وصُمتَةُ الأمان، لو كانت مسارب كانت الحياة، أو مشارب فادت النجاة، فأوجب تأملي لها تألبي، واستنار بفكري فيها تعجبي، قلت سبحان ربي القيوم، أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون أكل هذا الإحسان في طاقة الإنسان، ما أرى ذلك في الممكن والإمكان، ولئن كان ذلك فنحن الأنعام يشملنا اسم الحيوان، ثم رجعت الى نفسي، وثاب إليّ حسي، فقلت عند سكون جاشي، وثبوت طيشي، وإفراخ روعي وذهاب دهشي: إن من دبّ في الفصاحة ودرج في وجرها ورضع بلبانها، وجرع من درّها، وصاحب السادات مقتبلاً، والأمجاد مكتهلاً، لخليق أن يحل الفضل وسائطه ويجمع قطريه، بل يستولي على غواربه ويملك شطريه. وله من رسالة أسقط فيها حرف الألف واللام: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 807 رقعتي نحوك سيدي وسندي، وذخري وعضدي، ومن بذّ وبزّ، جمع من سبق وعزّ، فذّ دهره، ووحيد عصره، وغريب زمنه، ونسيج وحده، مدّ ربي مدتك في مربوب نعمته، ومدد نصرته، وكبت من نكب عن ودك، بعظيم ذخره ومخوف زجره، وصيره موطئ قدميك، وصريع نكبته بين يديك، وسوّغك من ضروب نعمه بهنيّه ومريّه، ومتعك من موفور قسمه بحميده ومزيده، كتبت، وكبدي تسعر بجحيم ودك، ومهجتي تصهر بسموم توقك، ونفسي تجذر من فظيع بعدك ونفسي يحصر بوجيع فقدك: وكنتُ من بعدُ غير مَيْنٍ ... قريرَ عيش قريرَ عين حتى رمتْني صُروف دهري ... عن قوس غدْرٍ بسهم بيْنِ فشتّتَتْ زُمرَتي وهدّتْ ... ركني ومرّت تجري بحَيْني عجبت من عيشتي وعمري ... وكيف بي عشتُ بين ذَيْن فصل له من رقعة: لولا أن ذنوب الحبيب تصغر عن التأنيب، وقدر الرئيس يكبر عن اللوم والتعنيف، لكان لنا وللرئيس مجال واسع، ومتسع بالغ، فيما أتاه، إن لم نقل جناه، وفيما وعد فأخلف، إن لم نقل الذنب الذي اقترف، ومهما أجللنا قدره عن أن ينسب إليه خلف الوعد وإن كان جليلاً، ما عذره إن لم يكتب بوجه العذر أنه ما وجد سبيلاً، وقد كنا نتوقع تداني العناق، فصرنا نقنع بأماني التلاق: فجميلُ الصبر والصف ... ح بهذا الشأن أولى قُل ومن شاء المصافا ... ة على ذا الشّرط أوْ لا وذكر المهم، آثر وأهمّ، فشوق البعيد شديد، وسؤال القاصي أكيد، وكلاهما على الأيام يزيد، فكِلهما الى يوم جديد. ولده أبو عبد الله محمد بن عيسى الفقيه ذكر أنه كاتب شاعر، بارع ماهر، مهندس منجم، لغارب الفصاحة متسنّم، في ملتقى أولي العلم كميٌ معلم، وقد أورد من شعره ما يهزّ أعطاف القلوب مراحا، ويدير على الأسماع من الرحيق المختوم راحا، وله من قصيدة: أفشى هواه بأدمُعِ الأجفان ... وأبتْ عليه مطالبُ الكتمان رام التّجمُّل للوشاة فلم يُطِقْ ... فعصى النّصيحَ ولجّ في العصيان عنّتْ له فأرَتْهُ بدراً طالعاً ... من فوق غُصنٍ بان في كثبان هيفاءُ يحسد جيدَها ريمُ الفلا ... ظلماً ويغبِطُ وجهَها القمران ومنها: سلبَتْ نُهاه وأورطَتْهُ تعمُّدا ... في فِتنة من لحظِها الفتّان إنّي ابتُليتُ بحبها وأجبْتُه ... لمّا بَدا لي شخصُه ودعاني فلُهيتُ من ولَهي العظيم عن النُهى ... وسلوتُ من شغفي عن السلوان قولي لهما ما تأمرين لمدنف ... كلِفٍ بحبّك هائم حرّان سنة له لم يدر ما سِنة الكَرى ... ملقى أسنّة طرفك الوسنان أبليت طوعاً في المحبة جِدّتي ... ورضيت قسراً في الهوى بهوان وصرفت نحو هوى الملاح بصيرتي ... وسرحت في بيدائهنّ عِناني حتى تبيّن لي الصوابُ وأنني ... أفنيت في طلب الضّلال زماني فتركت لهوي واطّرحت مجانتي ... وجفوت من نبَذَ الهوى وجفاني وله من قصيدة: كتمتُ الذي بي فانتفعت بكتماني ... وأعلنتُ حالي فاتُّهمت بإعلاني وما خلت أنّ الأمر يفضي الى الذي ... رأيت ولكن كل شيء يُرى وانِي وله: لا تعذلوه فإنه مفتونُ ... سلبت نهاه مَها القصورِ العينُ برزت فتاة منهمُ في خدّها ... وردٌ وفي وجناتها نسرينُ في طرفها سقم وفي ألحاظها ... غنَجٌ وفي تلك المعاطف لينُ عنّت له وتبخترت في مشيها ... فأرت غصونَ البان كيف تلين وترجرجت أردافها فرأى بها ... كيف انتقى كثبانها يَبرينُ ولو أنها سفرتْ فأبدت وجهَها ... لأرت ضياءَ الصُبح كيف يَبين أنَسيتِ ليلتنا وقد خلص الهوى ... منا وحبلُ الوصلِ وهو متين بتنا على فرش العفاف وبينا ... نجوى ترقّ لها الصفا وتلين والليل كالزّنجيّ شدّ وثاقه ... والنجم مطّلع عليه أمين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 808 ومنها في المدح: هذا الذي جدواه سبعة أبحر ... تجري ولكن ماؤهنّ معين ذو هيبةٍ كالليث إلا أنه ... متردد وله النفوس عرين برٌ فليس الوعد منه بمخلف ... أبداً وليس العهد منه يخون فوليُّه في الأكبرين معظم ... وعدوه في الأصغرين مهين وله الى الفعل الجميل توثّبٌ ... وله عن القول القبيح سكون فالظل لا متنقل والورد لا ... متكدر، والمنّ لا ممنون خلق كنوار الحدائق زاهر ... وحِجى كأعلام الجبال رصين وحميّة تولي الأذلّةَ عزةً ... وتعلِّم الأيام كيف تكون ونصيحة لله يوضح نورها ... ظُلَمَ الشكوك إذا دجت فتبين وله في الغزل؛ ويغنّى به: مولاي يا نورَ قلبي ... ونور كلِّ القلوبِ أما ترى ما بجسمي ... من رقةٍ وشحوب وما بداخلِ قلبي ... من لوعةٍ ووجيبِ فلِم بخلتَ بوصلي ... وليس لي من ذنوب فإن يكن لي ذنبٌ ... فأنت فيه حسيبي ومحنتي فيك جلّت ... عن فهم كل لبيب وما لسقمي شفاء ... ولا له من طبيب ولا لدائي دواء ... إلا وصالُ الحبيب مولاي إن ذبتُ عشقاً ... فليس ذا بعجيب برِّدْ غليل فؤادي ... بزورة عن قريب ففي صميم فؤادي ... جهنّم في اللهيب وله: بمهجتي ظبي خدر زار مكتتما ... فردّ روحي الى جسمي وما علما أبدى القبول مع الإقبال حين بدا ... وقدّم البشرَ والتسليمَ إذ قدما فقلت: مولاي صلْ من شفّه سقم ... فجاد لي بوصال أذهب السقما فعاد شكّي يقيناً في زيارته ... فلو ترحّل عن عيني لما عدما وله في المعنى: أتاني من أهوى على غير موعد ... فخيّل لي أن الزيارة في الحُلْمِ تبختر في الأرداف كالغصن في النقا ... ولاح على الأزرار كالقمر التّمِّ خضعتُ له والذلّ من شيم الهوى ... فأسعد بالتقبيل والضمّ والشمِّ وأطلعته عمداً على ما يجنّه ... جناني من البلوى وجسمي من السقم فأشفق من حالي ورق لذلّتي ... وجاد بوصل ردّ روحي الى جسمي ولما مضى فكّرت في كل ما انقضى ... فصار يقيني فيه أثبتَ من وهمي وله: جاد بالياسمين والورد خدٌ ... وحبا الأقحوان والخمرَ ثغرُ أنا والله عاشق لك حتى ... ليس لي عنك يا منى النفس صبر فحياتي إن تمّ لي منك وصل ... ومماتي إن دام لي منك هجر وله: بأبي ظبي مليح فائق ... بابليّ اللحظ غصنيّ القوام عسليّ الريق خمريّ الهوى ... لؤلؤي الثغر درّي الكلام إن تثنّى ماس غصناً في نقا ... أو تبدّى لاح بدراً في تمام حزتُ إذ نادمني من وجهه ... دعوة تمّت بروض ومدام وخشيت البين إذ ودّعني ... فانثنى يومُ وداعي بالسّلام وله من المراثي، ما يحل للقيام حبى المستمع الجاثي، فمنه قوله من قصيدة طويلة: عزّ العزاء وجلّ البينُ والجزعُ ... وحل بالنفس منه فوق ما تسعُ يا عينُ جودي بدمع خالص ودمٍ ... فما عليك لهذا الرزءِ ممتنع فالجسمُ ينحلُ والأنفاسُ خافتة ... والقلب يخفق والأحشاء تنصدع كوني على الحزن لي يا عين مسعدة ... فإن قلبي لما تأتينه تبَع ومنه: وكانت الأرض لا تحوي محاسنه ... وقد حوى شخصَه اللحدُ الذي وضعوا مَن لليتامى وأبناء السبيل وهم ... قد ارتوَوا من أياديه وقد شبعوا بُعداً ليوم أتاه الموت فيه فما ... به الذي بصر من بعدُ مطّلع بكته شمس ضحاه واختفت جزعاً ... وألفيت تحت ستر الغيم تطلع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 809 سعوا مشاةً وهم في الزي أغربة ... مسودّة من وراء النعش تتبع ولم يكن لهمُ بالعيد من فرح ... ولا لهم في التسلي بعده طمع لو يُفتدى لافتدته من عشيرته ... ذوو الحفيظة والأنصارُ والشيع لكنّ من غاله الموت المحتم لا ... يفدى ولا من نيوب الخطب ينتزع جاءت ملائكة الرضوان معلمة ... بأنّه بجنان الخلد مرتفع وقد أعدت له أعماله غرفاً ... فيها لأنفس أهل الفضل مرتبع الموت وِرد وكل الناس وارده ... وقد رأوه عياناً بعد ما سمعوا ما بالهم شعروا بالموت أنهم ... سَفْر وهم لاقتناء الزاد ما شرعوا نالوا مغبّة ما قد قدموه له ... فعلا به حصدوا منه الذي زرعوا يا فجعةً لم تدع في العيش من أرب ... وغُصّةً في لَهاهُ ليس تبتلع أضرمتِ ناراً على الأحشاء موصدة ... أكبادنا في لظى أنفاسها قطَع ومنها: بني لُبانة إنّ الله فضّلكم ... على الورى فبِكمْ في الدّهر يُنتفع آراؤكم لذوي الإرشاد مرشدة ... وجودُكم لذوي الإكثار منتَجع وقدركم قد سما عزاً مدى زحلٍ ... وجاهكم في ذراه الخلق قد وقعوا وقوله من قصيدة أخرى: استهلال: شهابُ المنايا من سماء الردى انقضّا ... وركن المعالي والجلالِ قد انفضّا ومنها: بكتْه المذاكي المقربات وقطّعت ... شكائمها إذ منه أعدمت الركضا مشت وهي بين الخيل أبرَرُها دما ... وأبرزها جسماً وأهزلها نحضا وكادت سيوف الهند تندقّ حسرة ... وأجفانها تنشقّ عنها لكي تُنضى وخطّ على الخطية الرزءُ أحرفا ... أرادت لها حِفظاً فحوّلها حفضا وكادت تفانَى حوله كل جُنّة ... أسىً وتذوب البيض واللامة القضّا شهدنا على قربٍ بمشهد موته ... مشاهدَ لم تخط القيام والعرضا ومنه: أعاد سرورَ العيد حزناً مماتُه ... ومُبرَمُ أمر فيه حوّله نقضا فما أحد وافى المصلى ضحى ولا ... دُجى أبصرت من همه عينه غمضا ومنها: ألا لم يمت من كان خلّف بعده ... أخاه علياً إذ إليه العلا أفضى أحبّ محب للفضائل كلها ... وأفضل إنسان على كسبها حضا ومنها: تعزّوا فإن الموت حتم على الورى ... توافي به الآجال في الوقت إذ يقضى وكم إسوة في المصطفى وصحابه ... وقُدْماً قفا آثارَهم فقضى الفرضا لقد مات فيه عدّة أيُّ عدة ... لنا فعدمنا كل عيش به يرضى وأبصارُنا كانت تسامى له وقد ... غدا الكلّ منا طرفه اليوم قد غُضّا وقد كان طرفي ليس يغضي على القذى ... فأضحى على أقذائه اليوم قد أغضى فظُفر الجوى الباقي بقلبي ناشب ... وباب الأسى الملقى على مهجتي عضا ومن شعره المودَع رسائله. له في وصف كتاب: تضوّع منه إذ فضضتُ ختامه ... نسيمُ فتيتِ المسك والعود والندّ ونزّهت طرفي في حدائق أزهرت ... بها زهرة السوسان والآس والورد بصفحة نور من نهار دجت بها ... سطور ظلام حالك اللون مسودّ وطالعت ألفاظاً يواقيت نُظّمت ... مع الجوهر المكنون والدرّ في عقد يزيل الضنى عن ذي السّقام مرورُها ... به بل تقيم الميت من رقدة اللّحد ومنها: مضمنة من علم أحواله الذي ... يسرّ سرور الوصلِ في زمن الصدّ وله صدر رسالة: يا حالَ حالٍ بسقم النفس والجسد ... قد رُدّ عن ورد ماء الأمن والرّشَدِ قد قيدته الليالي عن تصرفه ... الى النجاة بقيد الأهل والولد ولو أمنتُ عليهم بعد منصرفي ... صرف الليالي لقوّت عزمتي جلدي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 810 من بعدِ نعمةَ لم تنعم بلذّتها ... نفسي ولا بردت من لوعة كبدي قد أسس البين عندي منزلي ولهٍ ... فمهجتي للجوى والعين للسّهد وأرّق البعد جفني ثم فرّقني ... فالجسم في بلدٍ والروح في بلد أخي ومولاي علّ الدهر يجمعنا ... بمنزلٍ عن جميع الشرّ مبتعد شوقي إلى لقائك شوق الظمئان الى الماء الزلال، وارتياحي الى ما يرد من تلقائك ارتياح السقيم الى الصحة والإبلال، وتلهفي على فراقك تلهف الحيران، وتأسفي على بعدك تأسف الولهان، لكنني إذا رجعت الى شاهد العقل، وعدلت الى طريق العدل، يمازج قلبي سروراً، ويخالط شوقي بهجة وحبوراً، بما ألهمك الله تعالى إليه من صفاء النية والإخلاص، والظفر بأمل النجاة والخلاص، وأتلو عند ذلك (يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً) ثم أرجع الى قول النبي صلى الله عليه وسلم (الإيمان بالقدر يذهب الهم والحزن) ، فأعلم أن الأمور كلها مقدرة، وأنه في اللوح مسطرة فأفزع الى الدعاء لمقدر الأمور، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أن يحسن لنا العقبى، ويقضي لنا بالحسنى، ويسبل علينا من العافية ستراً سابغاً ضافيا، ويوردنا من السلامة مورداً سائغاً صافيا، وأن يقرب بك الاجتماع، حيث يوجد الاستمتاع، بما تقرّ به الأعين وتلذّ الأسماع. فصل من رسالة أخرى في العتب قد عاملني في مشاهد هذه الأيام، التي قمعت الخاص والعام، بأشياء لو جرت بيني وبينه على خلوة لعددتها من لذيذ الأنس، لكنها أتت في الملا بما آلم النفس، واحتملت ذلك منه رجاء أن يقلع عنه، فازداد لجاجة، وازددت حراجة، حتى استفحل الثُغاة عليّ بسبب ذلك المزاح، واستنسر البغاث إليّ وهزّ الجناح، ولو شئت حينئذ لعرفت كل واحد بما جهله من أبوّته وقيمته، وأعلمته بما لم يعلمه من خُلقه وشيمته: فمن جهلت نفسُه قدرَه ... رأى غيرُه فيه ما لا يرى لكنني أغضيت على موجع القذى، وصبرت على مفجع الأذى، وأعرضت عن أشياء لو شئت قلتُها. ولو قلته لم أبق للصلح موضعاً، وأنا أحرص على صحبته ممّن يرعاها حق رعايتها، وأروم حفظ ذلك بالمحافظة على ما سلف بيننا من المصافاة، والاعتداد بما له قبَلي من الحقوق المثبتة بخالص المؤاخاة، وأطرح ما أعاين من الزلات والهفوات، فأحب أن يحسن الظن بي، والذكر عني، فإن فعل ذلك فعل الأشكل به والأليق بأدبه، والأولى بجميل مذهبه، وقد أطفأت عن قلبي هذه المعاتبة ناراً موصدة، وبردت من صدري غلة موقدة. فصل من أخرى مسترقّ أياديها، يرغب الى شريف معاليها، أن تحلّه من نفسه النقيّة محل المصطنعين المخلصين، وتنزله من حضته الرئيسية منزلة الأولياء المختصين، فإنّ غرس فضلها السابق إليه أثمر عنده شكراً وحمداً، وأثبت لديه محبة ووداً، وهو يقسم بالله العظيم، إنه من موالاتها لعلى صراط مستقيم، ومن الإقرار بفضلها لعلى منهج قويم، ومن الدعاء لها لعلى حال مقيم، وكيف لا يكون كذلك وقد صيّره سالف إحسانه في الرق، وملكه فارط امتنانه ملك المستحق، فهو لا يفتر من جميل شكرها لساناً، ولا يخلي من خلوص ودّها جنانا. أبو حفص عمر بن حسن النحوي الصقلي ذكر أنه شيخ لغة ونحو، وله في علمهما سبْحُ صحة وصحو، حصل في اعتقال الإفرنج في صقلية، وسيم أنواع البليّة، وشعره متناسب الحَوْك، متناسق السلك والسبك، وله قصيدة في مدح روجار، صاحب صقلية، وهو في قبضة الإيسار، أولها: طلب السّلوّ لوَ انّ غير سُعادِه ... حلّت سويدا قلبه وفؤادِه ورجا زيارة طيفها في صدّها ... وغرامُه يأبى لذيذَ رقاده والله لولا المَلْك روجار الذي ... أزدى لحبيّه عظيمَ وداده ما عاف كأسَ الوجد يومَ فراقها ... ورأى محيّا المجد في ميلاده ومنها في المدح: يهتزّ للجدوى اهتزاز مهنّد ... يهتزّ في كفيه يوم جلادِه ويضيء في الديجور صبحُ جبينه ... فتخال ضوءَ الشمس من حسّاده ومطالع الجوزاء أرض خيامه ... والنجم والقمران من أوتاده وإذا الأمور تشابهت فلعَضْبه ... خطٌ يبيّض سودَها بمداده ومنها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 811 يا أيها الملك الذي ثُنيَتْ به ... قدَما الفظاظة في صفا أصلادِه ودَعته أرواح العدى فرمى بها ... لعَباً تلقّتْها ظُبى أغماده واقتصرت منها على هذه النُغْبة مع الظمإ إليها، فما أوثر إثبات مديح الكفرة، عجل الله بهم الى لفح ناره المسعرة، وهذا الشاعر معذور، فإنه مأسور. عثمان بن عبد الرحمن المعروف ب ابن السوسي مالطة مسقط رأسه، ومربط ناسه، ومغبط كأسه، وبه تهذب، وقرأ على أبيه الأدب، ثم سكن بلرم واتخذها دارا، ووجد به قرارا، ونيّف على السبعين، ومُتِّع ببنين، وله شعر صحيح المعنى، قويم المبنى، لذيذ المجنى، وذكر أنه أنشده لنفسه قبل وفاته بأيام قلائل، مرثية في بعض رؤساء المسلمين بصقلية تدل على ما حواه من فضائل، وهي قصيدة طويلة أولها: ركابُ المعالي بالأسى رحلَه حطّا ... وطودُ العلى العالي تهدّم وانحطّا فنائي مساءات الأسى متقرّب ... وقرب مسرات السرور لنا شطا وكيف لنور الشمسِ والبدرِ عودةٌ ... وهذا منارُ المجد والعز قد قُطّا أصيبَ فما ردّ الردى عنه رهطه ... بلى أودع الأحزان إذ ودّع الرّهطا ومنها: يعز علينا إن ثوى في بسيطة ... وردّ الردى عن كفّه القبضَ والبسطا كأن حَماماً للحمام قد انبرى ... لأرواح أهل الفضل يلقطها لقطا فيا رزء ما أنكى ويا حزن ما أبكى ... ويا دهر ما أعدى ويا موت ما أسْطى عزاءً عزاءً قد محا الموت قبلنا ... ملوكاً كما يمحون من كتبٍ خطّا جماعة من شعراء جزيرة صقلية ذكرهم أبو القاسم علي بن جعفر بن علي السعدي المعروف بابن القطاع في كتاب: الدرة الخطيرة والمختار من شعراء الجزيرة، وهم أقدم عصراً وأسبق شعراً وقد أوردت منها غرراً والتقطت من عقدها درراً، فمنهم: ابن القطاع مؤلف الدرّة الخطيرة ذكر أن مولده سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، وأنه قال الشعر صبياً سنة ست وأربعين، وعمّر، ورأيت أنا بمصر من رآه وعاش الى آخر زمان الأفضل ورأيت خطّه على دفتر في سنة تسع وخمسمائة فممّا أورده من شعره قوله من قصيدة: فلا تنفدنّ العمرَ في طلب الصبا ... ولا تشقينْ يوماً بسعدى ولا نُعْمُ فإن قصارى المرء إدراك حاجة ... وتبقى مذمّات الأحاديث والإثمُ وقوله من أخرى: قهوةٌ إن تبسّمت لمزاج ... خِلْتَ ثغراً في كأسها لؤلئيّا فاصطحبها سلافةً تترك الشي ... خ، إذا ما أصاب منها صبيا واغتنم غفلة الزمان فإن ال ... مرء رهنٌ ما دام يوجد حيا قطعَ العذرَ يا عذولي عذارٌ ... كهلال أنار بدراً سويّا وقوله من أخرى في مدح الأفضل، أولها: صاحبيّ وا أسفا ... ذي ديارُها فقِفا واسمعا أبثكما ... من حديثها طرفا وقوله في أخرى: فيا نفس عدّي عن صباك فإنّه ... قبيح برأسٍ بالمشي معمَّمِ أفِق إنّ في خمسين عاماً لحجة ... على ذي الحجى إن لم يكن قلبه عَمِ وقوله في أخرى: من ذا يطيق صفات قوم مجدهم ... وسناؤهم من عهد سامٍ سامِ وحِماهُمُ من عهد حام لم يزل ... يحميه منهم ليثُ غابٍ حامِ وقوله من أخرى: إذا ابتسمتْ يوماً حسبتَ بثغرها ... سموطاً من الياقوت قد رُصِّعتْ درّا وإن سفرتْ عاينتَ شمساً مُنيرةً ... تردّ عيون الناظرين لها حسْرى وتسلب عيناها العقولَ إذا رنتْ ... كأن بعينيها إذا نظرت سحرا ومنها: ألا إنما البيض الحسان غوادرُ ... ومن قبحت أفعاله استحسن الغدرا يملن الى سود القرون وميلُها ... الى البيض منها كان لو أنصفت أحرى وقوله في وصف الرمان: رمانة مثل نهد العاتِق الرّيم ... يزهى بلون وشكل غير مسؤوم كأنها حقّة من عسجدمُلِئتمن اليواقيت نثْراً غير منظوم وقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 812 أنت كالموت تدرك الناسَ طرّا ... مثلما يدرك الصباحَ المساءُ كيف يرجو من قد أخفتَ نجاءً ... منك هيهات أين منك النجاءُ وقوله في لثغة اللسان: وشادنٍ في لسانه عُقَدٌ ... حلّت عقودي وأوهنت جلَدي عابوه جهلاً بها فقلت لهم ... أما سمعتم بالنفث في العُقَدِ وقوله: أقبل الصبحُ وصاح الدّيَكهْ ... فاسقنيها قهوةً منسفكهْ قهوة لو ذاقها ذو نُسُكٍ ... لزم الفتك وخلّى نسكهْ فأهِنْ دُنياك تعززك ولا ... تترك المال كمن قد تركهْ واغتنم عمرك فيها طائراً ... قبل أن تحصل وسطَ الشبكهْ وقوله: انظر الى الماء حاملاً لهباً ... واعجب لنار تضيء في ماء وقوله: شربت درياقة للْ ... هُموم إذ لبستني دبّت بجسمي فأرْدتْ ... همومه وشفتني قتَلْتُها بمزاج ... وبعد ذا قتلتني كأنها طلبتني ... بالثأر إذ صرعتني وقوله: تنبّه أيها الرجل النّؤوم ... فقد نجمَت بعارضك النجومُ وقد أبدى ضياء الصبح عمّا ... أجنّ ظلامه الليل البهيمُ عنى بالضياء الرشاد، وبالصبح الشيب، وبالظلام الغي، وبالليل الشباب. فلا تغررك يا مغرور دنيا ... غَرور لا يدوم به نعيم ولا تخبط بمعوجّ غموض ... فقد وضح الطريق المستقيم أبو عبد الله محمد بن الحسن ابن الطوبي ذكر أنه كان صاحب ديوان الرسائل والإنشاء، ومن ذوي الفضائل البلغاء، طبيباً، مترسلاً، شاعراً، وأورد من نظمه كل مليح الحوك صحيح السبك، فمن ذلك قوله في الغزل: يا قاسي القلب ألا رحمة ... تنالني من قلبك القاسي جسمُك من ماء فما لي أرى ... قلبَك جلموداً على الناس أخاف من لين ومن نعمة ... عليك من ترديد أنفاسي سبحانَ من صاغك دون الورى ... بداً على غصن من الآس وقوله: أي ورد يلوح من وجنتيه ... طار منّي الفؤاد شوقاً إليه فإذا رمتُ أجتنيه ثناني ... عنه وقْعُ السيوف من مقلتيه وقوله في العذار: انظرْ الى حسَن وحُسْن عذاره ... لترى محاسنَ تسحر الأبصارا فإذا رأيت عذاره في خدّه ... أبصرتَ ذا ليلاً وذاك نهارا وقوله في العذار: قام عذري بعذاري ... هـ فما أعظم كرْبي قلت لمّا أن تبدّى ... نبتُه: سبحان ربّي أحرِقَتْ فضّةُ خدي ... ك لكي تحرقَ قلبي وقوله في غلام عرضت له بفيه حرارة: قالوا بفيك حرارةٌ ... فعجبت كيف يكون ذاكا ورضابُ ريقك مطفئٌ ... نيرانَ أقوام سواكا يقع لي أن المعنى حسن، ولكن اللفظ مضطرب. وقوله في المعنى وهو أجود سبكاً: شكا لحرارة في فيه أعيتْ ... معالجةً فبات لها كئيبا وكيف يصحّ ذا تفديه نفسي ... وبرْدُ رضابه يطفي اللهيبا وقوله: ما لامني قطّ فيه ... إلا الذي لا يراه حتى يراه فيضحي ... مشاركي في هواهُ وقوله: بخدّك آسٌ وتفاحةٌ ... وعينك نرجسةٌ ذابلهْ وريقُك من طيبه قهوة ... فوجهك لي دعوة كاملهْ وقوله: ومُسقمي من طرفه ... بما به من سقمِ أوْما لتقبيل يدي ... فقلت ما ذنبُ فمي وقوله: قُسِم الحسن على الخل ... ق ولكن ما أقلّه فهو في الأمة تفصي ... لٌ وفي وجهك جُملَهْ وقوله في غلام ناوله حصرماً: أتعبت قلبي بالصدو ... د وليس أيأسَ من وصالكْ فخُذِ الدليل فقد زجر ... تَ لما أؤمّل من نوالك ناولتني من حصرم ... فرجوت نقْلَك عن فعالك إذ كان يحمض أولاً ... وتراه يحلو بعد ذلك وقوله: يا سَميّي وحبيبي ... نحن في أمرٍ عجيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 813 اتّفاقٌ في الأسامي ... واختلافٌ في القلوبِ وقوله: فمُه فيه لؤلؤ في شقيق ... فوقه خاتَمٌ له من عقيقِ وله في جفونه حدّ سيف ... مرهفِ الشّفرتين عضبٍ رقيق فإذا رمتُ أن أقبّل فاه ... صدّ عما أريد خوف الطريق وقوله في النحول: يا من لجسم تقضّى ... حَراكه والسكون فعاد شكلاً بسيطاً ... تزلّ عنه العيون يخفى على الموت لطفاً ... فما يكاد يبين فلو تجسّم يوماً ... تناولت المنون وقوله في المعنى: دقّ حتى لا تراه ... فهو كالمعنى الخفيّ أو كما يهجس في الخا ... طر شيء غير شيّ وقوله في المعنى: سهامُ اللحظ ترشقُه ... فتدميه وتؤلمُه ودقّ فما تكادُ ترى ... له شخصاً تكلِّمُهُ كمثل الروح ينبئ عن ... حقيقته توهّمُه وقوله في غلام قبّله، فقيل له: سرقت الورد من خده، والقطع لازم في حده: قالوا: سرقتَ الورد في قبلةٍ ... من خدّ يحيى بن أبي المعزِّ فقلت: لا قطع على سارقٍ ... إلا إذا استخلص من حرزِ وقوله: لي سيدٌ جارَ على عبده ... وعبدُه باقٍ على ودِّهِ يمنعني من يده قبلةً ... حذار أن ترقى الى خدّه وقوله في سوداء: تحبّكِ يا سوداء نفسي بجهدها ... فما لك لا تجزينها بودادها وأنتِ سواد العين مني أرى به ... وليس بياضُ العين مثلَ سوادها وقوله في وصف مغنٍّ: إذا غنى يزيل الهمَّ عنّا ... ويأتينا بما نهواه منه له وتر يطالب كل هم ... بوتْر فالهموم تفرُّ عنه وقوله، مما تكتبه الشيعة على فصٍ أسود غروي: أنا غَرَويّ شديدُ السوادْ ... وقد كنتُ أبيض مثل اللّجين وما كنت أسودَ لكنني ... صُبِغْتُ سواداً لقتل الحسين وقوله في فص أحمر: حمرتي من دم قلبي ... أين من يندب أينا أنا من أحجار أرضٍ ... قتلوا فيها الحُسينا هو من قول الشاعر في فص أخضر: لا تعجبوا من خضرتي ... فإنها مَرارتي تقطّرتْ لما رأت ... ما صنعوا بسادتي وقوله في وصف اللوز الأخضر: أرابَك اللوز له لذة ... تجلّ عن وصف ومقدارِ انظر إليه فله خلقةٌ ... قد أحكمتْها صنعةُ الباري لؤلؤة في صرّةٍ ضمنت ... حُقاً وقد قُيِّر بالقاري وقوله في وصف لحية كبيرة: ما إن رأيتُ ولا سمعت بلحية ... عرضت كلحية جعفر بن محمد سدّتْ عليه وجهه فكأنّما ... عيناه في ثُقبَي كساء أسود وقوله في اعتزاله عن الناس: يا لائمي في انتزاعي ... عن الورى وانقطاعي لا أستطيعُ على أن ... أكون بين الأفاعي وقوله في الخضاب: يا خاضبَ الشيب دعْهُ ... فليس يخفى المشيبُ حصلتَ منه على أن ... يقال شيخ خضيبُ وقوله في عذر الخضاب: ما خضبت المشيب للغانيات ... لا ولكن ستَرْتُه عن عِداتي حذراً أن يروا مشيبي فيبدو ... ليَ منهم سرورُهم بوفاتي وقوله في ذم الخضاب: رضيتَ يا خاضب الشي ... ب خطة ليس تُرضى سوّدْتَ منك ثلاثاً ... وجهاً وعقلاً وعِرضا وفي مدح الشيب: يا بكياً للشباب إذ ذهبا ... بكيت في إثر غادرٍ هرَبا الشيبُ أوفى منه بذمته ... هل فارق الشيب قط من صخبا وقوله في المعنى: بكى الشباب رجالٌ بئس ما صنعوا ... والشيب أفضل في التحصيل والنظرِ إن الشبابَ كليلٍ ضلّ مسلكه ... والشيبَ كالصبح يهدي العين للأثر وقوله في صفة الخشخاش: حُقٌ من العاج وفي وسطه ... دقّ من اللؤلؤ منثورُ وقوله في لبس بني العباس السواد: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 814 بنو العباس قد فطنوا لسر ... بنزعهم لمبيضِّ الثياب لئن لبسوا السوادَ لقد أصابوا ... لأنهم حكوا لون الشباب وقوله في استدعاء صديق له الى مجلس أنس: قد شربنا المدام من كف خود ... أقبلت كالهلال والليلُ داجِ ونعمنا لولا مغيبك عنا ... بسماع الأرمال والأهزاج وعجبنا للماء يحمل ناراً ... في قنان كأنها خرط عاج وفتاةٍ تكشفت للنّدامى ... وعجوزٍ تستّرت بالزجاج فاغتنم لذّة الزمان وبادِرْ ... كلّ ضيق تخافه لانفراج وقوله في كبير اللحية: لحية حمدون دثارٌ له ... تكنّه من شدة البردِ كأنها إذ غاب في وسطها ... قطيفة لُفّتْ على قِرْد وقوله في العناق: لم أنسَ إذ عانقتُ بدر التمام ... في غسق الليل وجنحِ الظلامْ كأنّنا لامانِ قد قوربا ... فألصق الخطّ فصارا كلام وقوله في الخضاب: خضبت شعرَك زوراً ... والشيب قد فاض فيضا كذبتَ في كل شيء ... حتى على الشعر أيضا وقوله في المعنى: صبْغُ المشيب بليّهْ ... على الفتى ورزيّهْ حصلت منه على أن ... أضحكت مني البريّه وقوله في مدح البخل: يا لائمي في اشغالي ... بحفظ مالٍ قليلِ البخلُ أجملُ بالح ... رِّ من سؤال البخيل وقوله في نار الفحم: ونار فحم ذي منظر عجب ... يطرد عنه الشرار باللهب كأنما النار مبرد جعلت ... تبرد منه برادة الذهب وقوله في فتى بارد: أتيتُ إليه في قيظٍ شديدِ ... فحيّاني محيّاه بثلجِ فقلت: عدمت عندي بادهنجاً ... ولكن وجه هذا بادهنجي وقوله في بخيل: أتيته زائراً أحدّثه ... ولست في ماله بذي طمعِ فظن أني أتيت أسأله ... فكاد يقضي من شدة الجزعِ وقوله في النرجس، وقد أتى فيه بأربع تشبيهات: أريد لأشفي سقم قلبي بنرجس ... فيذبل إن صافحته بتنفسي له مقلة كالتّبر والجفن فضّة ... وقدّ كغصن البان في ثوب سندس وقوله في ذم مغن: غنّى وإن كان مقيتاً فلا ... ينسبه الله الى المقتِ من حُمَّ فلينظر الى وجهه ... فإنه يبرد في الوقتِ وقوله: لا تصلْ من صدّ تيهاً ... أبداً واستغنِ عنه كن كمثل الكرم يعلقْ ... بالذي يقرب منه وقوله: يحبّ بنو آدم ربّهم ... ولكنهم بعدُ يعصونه وإبليسُ قد شربوا بغضه ... وهم بعد ذاك يطيعونه فهذا التنافي فما بالهم ... يرون الضلالَ ويأتونه وقوله في الشيب: أرى عيني إذا ثقلت مشيباً ... يكون لها انقباضٌ وانخفاضُ كأن العين تشفق أن تراه ... مخافة أن يحلّ بها البياض وقوله: سلَوْنا حبّه لما جفانا ... وكان بموضع منّا شريفِ كمثل الزهر تكرمه طرياً ... ويُطرَح إن تغير في الكنيف وقوله: إن أنت لم يحتج إليك الورى ... كنتَ بهم في تعب متعب ألا ترى الماء إذا لم يكن ... شاربه عطشان لم يُشرَبِ وقوله: احذر صديقك إنه ... يخفى عليك ولا يبينُ إن العدو مبارز ... لك والصديق هو الكمينُ وقوله في راقصة: راقصة كالغصن من فوقه ... بدرٌ منيرٌ تحت ظلماء تلهب مثل النار في رقصها ... وهي من النعمة كالماء كأنما في رجلها عودُها ... وزامرٌ يتبع بالنّاء ساحرة الرقص غلامية ... منها دوائي وبها دائي إذا بدت ترقص ما بيننا ... يرقص قلبي بين أحشائي وقوله في العذار: عذاره في خدّه أنه ... سبحان ربي الخالق الباري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 815 معجزة يا قوم ما مثلها ... هل ينبت الآس على النار وقوله فيه: قلت لما كثّر الشّع ... رُ عليه عاشقيه أحرِقَت فضة خدي ... هـ فغالى الناسُ فيه وقوله فيه: كأنما عذاره ... والخد منه الأحمر غلالة ورديةٌ ... فيها طراز أخضرُ وقوله في مجدور: جُدّرَ فازدادت مداجاته ... ونحن في الحب له زدنا وكان كالفضة ما نقشت ... فزادها أن نُقِشَتْ حسنا وقوله في العذار أيضاً: يقول لي الآسُ قُل لي ... علامَ تكثر لَثمي فقلت أشبهت عندي ... عذار من لا أسمّي وقوله: يخصّ البعيدَ بإحسانه ... وذو القرب من سيبه مخفقُ كمثل العيون ترى ما نأى ... وليست ترى ما بها يلصق وقوله: لا تنكري أخلاقيَ الخارجهْ ... واختبري أخلاقيَ الوالجهْ فالمِسك ما في الطيب شبهٌ له ... وإنما كسوته نافجَهْ وقوله في ذم مغن: ومغنٍ لو تغنى ... لك صوتَين لمُتّا سمج الخلقة غثٌ ... ينحت الآذان نحتا ويغني ما اشتهاه ... ولا يغنّي ما أردتا كلما قال: اقترح قل ... ت: اقتراحي لو سكتا وقوله في مثله: غنّى كمن قد صاح في خابِيَه ... لا وهب الله له العافيهْ ما أحد يسمعه مرةً ... فيشتهي يسمعه ثانيهْ وقوله في مثله: ومغنٍّ نحن منه ... بين أسقام وكُربهْ يضرب العودَ ولكن ... ضربُه يوجب ضربَهْ وقوله في مثله: ومغنّ قد لقينا ... منه كرباً وبلاء هو من برد غناهُ ... يجعل الصيفَ شتاء وقوله في مثله: يغني فنهوى انسداد الصماخ ... ونبصره فنحبّ العمى دعاه رجال الى عرسهم ... فصيّر عرسهمُ مأتما وقوله في مثله: لنا مغنٍ غِناه ... يعود شراً عليهِ لم يأتي منزل قوم ... فعاد قطّ إليه وقوله في العذار: لما رأيت عذاراً ... له خلعت عذاري وبان للناس عذري ... فما أخاف اشتهاري كأنه لامُ مسك ... خُطّت على جلّنار أو البنفسجُ في الور ... د خضرة في احمرار وقوله فيه: وعذار كأنه لام مسك ... خطّها كاتب على جلّنار عجب العاذلون منه وقالوا ... طاب في ذا العذار خلعُ العذار ما رأينا بنفسجاً قبل هذا ... نابتاً في صحيفة من نُضار وقوله في أبخر: مالي أرى صاحبنا مَعْمرا ... قد عدم المنظر والمخبرا تفسد ريحَ المسك أنفاسُه ... وتبطل الكافور والعنبرا وكلّ من حدثه ساعة ... يقيم أياماً يشمّ الخرا وقوله في أبخر دميم الخلقة: وأبخر في فمه دبره ... تراه إن حدث يفْسو فمُه يخفى عن الأعين لكنه ... يظهره النتنُ ولا يكتمه وقوله في بارد: لو كان في النار لما أحرقت ... وخاف أهلوها من الفالج وعذِّبوا فوق الذي عذِّبوا ... إن هو لم يطرح الى خارج وقوله في مثله: قالوا به حمّى لها صولةٌ ... فقلت هذا كذب بينُ قد أجمع الناس على أنه ... ما سخن الثلج ولا يسخن وقوله في تفضيل السود على البيض: شبيهاتِ المشيب تعافُ نفسي ... وأشباه الشبيبة هنّ حورُ سواد العين نور العين فيه ... وما لبياضها في العين نور وقوله في بخيل: تبرّم إذ دخلت عليه لكن ... فطنت فقلت في عرض المقال عليّ اليوم نذرٌ في صيام ... فأشرق لونه مثلَ الهلال وقوله: منجّم بكّر في حاجة ... ونجمه في الفلك العُلوي حتى إذا حاول تحصيلها ... قارنه المريخ بالدّلو وقوله في بعض إخوانه وقد استبطأ جواب كتابه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 816 أمثلي يا فدتك نفسي يُجفى ... ويُصرَف عنه وجه الود صرْفا كتبت فلم تجبني عن كتابي ... ولم يُعِد الرسولُ عليّ حرفا فآهاً ثم آهاً ثم آها ... وأفاً ثم أفّاً ثم أفّا وله من قطعة يستدعي بعض إخوانه: عندي الذي تتمنى ... عندي الذي تشتهيه وما يتمّ سرورٌ ... إلا إذا كنتَ فيه وقوله: تأمّلْ إن في اسمك شرَّ معنى ... وقد يدري الغرائبَ مبتغيها لئن سمّوك يعلى ما أرادوا ... بفتح الياء إلا الضمَّ فيها وقوله: صبرتُ على سوء أخلاقه ... زماناً أقدّر أن يصلحا فلما تزوّج قاطعته ... لأني تخوّفت أن ينطحا وقوله: إذا سبك إنسان ... فدعه يكفك الربُّ ولا تنبح على كلب ... إذا ما ينبحُ الكلب وقوله: يقرب قولُه لك كلّ شيء ... وتطلبه فتبصره بعيدا فما يرجو الصديق الوعدَ منه ... ولا يخشى العدوّ له وعيدا طابق ثلاثة بثلاثة في هذا البيت. وقوله: قاطعتُ عمران ولم أستطع ... صبراً على أشياء ليست تليقْ فالكفّ إن حلّت بها آفة ... يقطعها المرء فكيف الصديقْ وقوله في التصوف: ليس التصوّف لبس الصوف ترقعه ... ولا بكاؤك إن غنى المغنّونا ولا صياح ولا رقص ولا طرب ... ولا تَغاش كأن قد صرت مجنونا بل التصوف أن تصفو بلا كدر ... وتتبع الحقّ والقرآن والدينا وأن تُرى خائفاً لله ذا ندمٍ ... على ذنوبك طولَ الدهر محزونا وقوله في الزهد: لو قلت لي أي شيء ... تهوى لقلت خلاصي الناس طراً أفاعٍ ... فلات حين مناص نسوا الشريعة حتى ... تجاهروا بالمعاصي فشرّهم في ازدياد ... وخيرُهم في انتقاص حتى يوافوا المنايا ... فيؤخذوا بالنواصي يا ويحَهم لو أعدّوا ... لهول يوم القصاص أبو الحسن علي بن الحسن ابن الطوبي ذكر أنه إمام البلغاء، وزمام الشعراء، مؤلف دفاتر، ومصنف جواهر، ومقلد دواوين، ومعتمد سلاطين، سافر الى الشرق، وحل منه في الأفق، وكان في زمان المعز بن باديس عنفوانه، وله فيه قصيدة رُصّع بها ديوانه: أجارتنا شدّي حزيمك للتي ... هي الحزم أو لا تعذلي في ارتكابها وكفّي فإن العذل منك زيادة ... عليّ كفى نفسي الحزينةَ ما بها ومنها: وإما المُنى أو فالمنيّة إنها ... حياة لبيب لم ينل من لبابها وهل نعمة إلا ببؤسي وإنما ... عذوبة دنيا المرء عند عذابها سآوي الى عزّ المعزّ لعله ... سيأوي لنفس حرة واكتئابها إليك معز الدين وابن نصيره ... حملت عقود المدح بعد انتخابها وأثواب حمد حُكتُ أثواب وشيها ... على ثقةٍ مني بعظم ثوابها وله من قصيدة: أجارتنا إن الزمان لجائرُ ... وإن أذاه للكرام لظاهر أجارتنا إن الحوادث جمة ... ومن ذا على ريب الحوادث صابر أجيراننا إن الفؤاد لديكم ... لثاوٍ وإن الجسم عنكم لسائر أأترك قلبي عندكم وهو حائر ... وآخذ طرفي منكمُ وهو ساهر كذا يغلب الصبر الجميل كما أرى ... ويخسر في بيع الأحبة تاجر وله: أعددتُ للدهر إن أردَت حوادثه ... عزماً يحل عليه كلّ ما عقدا وصار ما تتخطى العين هزته ... كأنما ارتاع من حدّيه فارتعدا وذابلاً توضح العليا ذبالته ... كأنها نجم سعد لاح منفردا ونشرةٌ ليس للريح المضيّ بها ... إلا كما عرضت للنهي فاطّردا وسابحاً لا تروع الأرضَ أربعُهُ ... كأنه ناقد مالاً قد انتقدا فداك مالٌ متى يحرزه وارثه ... فخير ما وجد الإنسان ما وجدا وله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 817 سلِ الليل عني هل أنامُ إذا سجى ... وهل ملّ جنبي مضجعي ومكاني على أنني جلْد إذا الضرّ مسّني ... صبور على ما نابني وعراني وله في الغزل: ما أحسَب السحرَ غير معناها ... والعنبر الجون غير ريّاها إنا جهلنا ديارها فبدا ... من عرفها ما به عرفناها كأنما خلّفت بساحتها ... منه دليلاً لكلّ من تاها لا كثَبٌ دارها فأغشاها ... ولا فؤادي يريم ذكراها ومنها: الموت أولى مى قضيت بها ... نحبي فمحياي في محيّاها وأغبط الماءَ حين ترشفه ... إذ كان دوني مقبّلاً فاها ومنها: وما ثنائي على قلائدها ... إلا بأن أشبهت ثناياها أجزع من عتبها ويبعثني ... إليه كرهاً طلاب عتباها دنوّها منك من شمائلها ... وبعدها عنك من سجاياها وله من أخرى أولها: رأى نورَها أو رأى نارَها ... فلما تجلى اجتلى دارَها وقد ضرب الليل أرواقه ... وأرخت دياجيه أستارَها فقل في جمال يضيء الدجى ... ويغشى النجومَ وأنوارَها ومنها: وشاطرة ردفها شطرها ... وما يبلغ الخصر معشارها ومنها: فيا لك عصراً قطعنا به ... لياليَ تشبه أسحارها ولذّات عيش مضى عينها ... فها أنا أطلب آثارها فها هي لم يبق منها سوى ... أحاديث أعشق تكرارها قضيت الصّبا بين أوطاره ... ولم تقض نفسيَ أوطارها وله من أخرى: أما من وقفة أم من مقام ... أبثك عنده داءً دخيلا جفوتَ فضاقت الدنيا وكانت ... عليّ رحيبة عرضاً وطولا لعلك يا قضيبَ البان يوماً ... تمهد في ظلالك لي مقيلا أما لو كان قلبك من صفاةٍ ... لشيّعني على حبّي قليلا ولكني دُفعت الى حديد ... ينوّل كلما قرع الصليلا لئن أنبطتَ من عيني دموعاً ... لقد أذكيتَ في قلبي غليلا فيا عجباً دموعٌ ليس ترقا ... ووجدٌ ليس يمكن أن يزولا ولم أسمع بأنّ حياً توالى ... على أرض تزيد به مُحولا أين هذا من قول القاضي أبي بكر الأرّجاني حيث قال وابتكر المعنى: يروّي ضاحيَ الوجنات دمعي ... ويعدل عن لهيب جوًى دخيلِ وما نفعي وإن هطلت غيوث ... إذا أخطأن أمكنة المحولِ ولأبي الحسن الطوبي: خالسته نظراً تحمّل بيننا ... نجوى هوًى خفيَت على الجلاّس فاحمرّ ثم اصفرّ خيفة كاشح ... فعلَ المدامة عند مزج الكاس وله: أيا رب قرِّبْ دارها ونوالها ... وإلا فأعظم إن هلكتُ بها أجري ويا رب قدّر أن أعيش بأرضها ... وإلا فقدّر أن يكون بها قبري وله: هبني أسأتُ فأين إق ... راري بذنبي واعتذاري هلاّ ثناك عن الحفا ... ء غناك عنّي وافتقاري لو أن غيرك رام بي ... غدراً لكان بك انتصاري وله: ارفق بعينيك فإنّ الذي ... ضُمِّنَتا من سقَمٍ زائدُ فاستودع اللحظَ لأجفانها ... فهي مِراض وهو العائدُ وله أيضاً: وعيشٌ هززناه هزّ النسيمْ ... قضيبَ الإراكة عند الهبوب مزجناه باللهو مزج الكؤوس ... بشكوى الهوى ورضاب الحبيب فيا لك عصراً قضينا به ... حقوقَ الشبيبة دون المشيب وله في العذار: البدرُ في أزراره ... والغصن في زُنّاره وكأنما فتّ العبي ... رُ على مخَطِّ عِذاره وله أيضاً: يا عاذلي أنتَ الخليُّ فخلّني ... وحَشاً عليه من الصبابة نارُ كيف السلوّ وكيف صبري عندما ... قامت بعذري قامةٌ وعِذار وله في الخمر وغيرها من قصيدة: قضيتُ أوطارَ نفسي غير متّركِ ... ولم أعقها على لحْقٍ ولا حرَكِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 818 وكم رددت على العذّال ما سهروا ... في حوكة فهو لم ينجح ولم يحك وكم عدوت الى الحانات منهمكاً ... بكل عاد الى اللذات منهمك أهين مالي وأغلي الراح دونهم ... في ظلّ عيش كما تهوون مشترك ومسمعاً يجمع الأسماع في قرَن ... من صوت غِرّ عليه لحن محتنك وساقياً تركب الصهباءُ نظرتَه ... الى صريع من الفتيان منبتك غدا يصرِّفها فينا ويمزجها ... فنحن وهي مع الأيام في ضحك والماء يحذر منها أن تطير فقد ... صاغ الحُباب عليها صيغة الشّبك ومنها: كأنها جوهر في ذاته عرَضٌ ... قد شيب مُنسبِكٌ منه بمنسبك فاسمع بعينيك عنها مثل ما سمعت ... أذناك ما قيل عن نوح وعن لمَكِ وليلة بتُّها والأرض عامرة ... حولي بحور وبانٍ ماس في نبَك ومنها في الدّبيب: والكأس تخدعهم عني وقد نذروا ... بأنني غير مأمون على التّكك حتى إذا أقبلوا منه ومال بهم ... أخذ الكرى وتداعى كل ممتسك دببت أكتم في أنفاسهم قدمي ... كأنني بينهم ماش على الحسَك وقد تخلص غيّي من يدَي رشدي ... فيهم وأطلق فتكي من عرى نُسكي فبتّ أنقد مما خولوا سِككاً ... وكنت قدماً أجيد النقد للسكك وقد وثقت بعفو الله عن زللي ... فما أبالي بما خطّت يد الملك وله من أخرى في الخمر: وصهباء كالإبريز تبصر كأسها ... من اللمع في مثل الشراع المدّد كما حفّ نور البدر من حول هالة ... وفاض لهيب الشوق من قلب مكمد إذا ما احتوتها راحة المرء أمسكت ... بهُدّاب ظل من سناها مورّد وإن ناولتها بالمزاج يدٌ عَلا ... لها زبد مثل الدِّلاص المسرّد إذا ما تبدّى تحسب العين أنه ... نجوم لجين لُحْن في أفق مسجد وله: حيّى بريحان وقد ... حصِرَ اللسانُ فناب عنه وفهمتُ من معكوسه ... تأخير ما أبغيه منه أحسن من هذا ما طالعتُه من مجموع في الأترج: أترجّة قد أتتك تُهدى ... لا تقبلنه وإن سُرِرْتا لا تهوَ أُترجّة فإنّي ... رأيت مقلوبها هجرتا عدنا الى شعر ابن الطوبي. نبَذٌ منه في الأوصاف والتشبيهات له في وصف الثريا: انظر الى الأفق كيف بهجتُه ... وللثريا عليه تنكتُه كأنها وهي فيه طالعة ... قميص وشيٍ وتلك عروته وله في الخضاب ومدحه: بعيشك ما أنكرت من ذي صبابة ... تجمّل في ردّ الصبا فأعادَه هبِ الشيب في خدي بياض أديمه ... زمان شبابي في الخضاب سوادَه وله في العذر: قدّ من الأغصان يشرق فوقه ... وجهٌ عليه بهجة الأقمار وكأنّ ممتدّ العذار بخده ... ليل أمرّ على ضياء نهار وله: يا حبّذا كأسٌ يكون بها ... ريقٌ كأنّ ختامه مسكُ باتت تعلّلني بها وبه ... حسناء ما في حسنها شكُّ هاتيك كالدنيا فلا أحدٌ ... إلا لها بفؤاده فتكُ وله في العذار: قال: العذول التحى فقلت له ... حسنٌ جديدٌ قضى بتجديد أما ترى عارضيْه فوقهما ... لام ابتداء ولام توكيد وله يصف الكأس والحباب: يا حبذا كأس بدت فوقها ... حبابة زهراء ما تذهب أداره الساقي فردّ الضحى ... وانجابت الظلماء والغيهب فقلت للشِّرب انظروا واعجبوا ... من حسن شمس وسطها كوكب وله يصف قوّاداً يحسن الصناعة: وأحور مائل النظرات عني ... دسست إليه من يسعى وسيطا فجاء به على مهَلٍ وستر ... كما يستدرج اللهبُ السّليطا أبو محمد عبد العزيز بن الحاكم عمر بن عبد العزيز المعافري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 819 وصفه بالبراعة في الصناعة، والمهارة في العبارة، والتنزه في رياض الرياضيت، والتنبه في سحريات السحريات، وأورد له ما اخترت منه، قوله في العذار: فيه للعين مُنيةٌ واعتذار ... حين أبدى البديعُ منه العِذار فات حدّ القياس إذا صيغَ ماء ... وسط درّ مركّبٍ فيه نار وقوله في الأوصاف: انظر الى الزُهرة والمُشتري ... إذ قابلا البدر يريكا العجبا قد أشبها قرطين قد علِّقا ... في جانبيْ تاج صقيل المذهب وله أيضاً: وكأن البدر والمرْ ... ريخ إذ وافى إليه ملكٌ توقد ليلاً ... شمعةٌ بين يديه وله في القناعة: أنا لعمري يئستُ ... من الغنى فاسترحتُ وقد قنعت فحسبي ... من الغنى أن قنعت أبو الحسن علي بن أبي اسحاق ابراهيم بن الودّاني وصفه بالرئاسة والنفاسة، ومن شره قوله يصف ليلة: من يشري مني النجوم بليلة ... لا فرق بين نجومها وصحابي دارت على فلك السماء ونحن قد ... دُرْنا على فلَك من الآداب وأتى الصباحُ فلا أتى وكأنه ... شيبٌ أطلّ على سواد شباب وله في الشيب: وبرغمي لما أتاني مشيبي ... قلت أهلاً بذا الضّحوك القَطوب ولعمري ما كنت ممن يحي ... يه ولكن تملّقُ المغلوبِ كان في عهد ابن رشيق وبينهما مكاتبات. أبو القاسم أحمد بن ابراهيم الوداني أنشدت له: ترفّق بنفسك لا تضنه ... بحرص فحرصك لا ينفعُ فكم عاجزٍ واسعٌ ماله ... وكم حازم فقرُه مدقعُ أبو عبد الله محمد بن علي ابن الصباغ الكاتب كان في عهد ابن رشيق وبينهما مراسلات، ذكر أنه ناظم ناثر. له: وليلٍ قطعناه بأختِ نهاره ... الى أن أماط الصبحُ عنه لثامَهُ إذا ما أردنا أن نشب لقاصد ... ضِراماً سكبناها فقامت مقامه ليالي نوفي اللهو منّا نصيبه ... ونعطي الصبي مما أراد احتكامه وله: قومي الذين إذا السنابكُ أنشأت ... دون السحاب سحائباً من عِثيرِ برقت صوارمهم وأمطرتِ الطُلى ... علَقاً كثرثار الحيا المتفجر الواترين فلا يقاد وتيرهم ... والفاتكين بحمير وبقيصر والمانعين حماهم أن يُرتعى ... والحاسمين لكل داء يعتري وله: لا يخدعنّك حِبٌ ... يطولُ منه السكوت فالزِّند يضمر ناراً ... وهو الأصمّ الصموت وكتب إليه أبو علي بن رشيق عند وصوله من القيروان الى مازر في أول رسالة: كتابٌ من أخ كشفت ... قناعَ ضميره يدُهُ تذكّرْ منزلاً رحباً ... وعذْباً طاب مورده وكان يطير من شوقٍ ... الى عهد يجدّدُه فكتب إليه في جوابه: أخٌ بل أنت سيّده ... على ما كنت تعهده بودٍّ غير محتاج ... الى شيء يؤكّده لعلّ الله باللقيا ... كما يختارُ يسعده وله في وصف ذكي: أذكَى الورى كلِّهم وأعلمم ... فما يرى مثل لبّه لبُّ يوضح بالفهم كلّ مشكلة ... كأنما كلُّ جسمه قلب الأمير مستخلص الدولة عبد الرحمان بن الحسن الكلبي له في بعض الكتاب: نحن كلانا يضمّنا أدبٌ ... حُرمتنا فيه حرمة النّسبِ فعَدِّ عمّن معناك خالفه ... في كل فنٍ تسلمْ من التعب واجنحْ إلينا فإنّ أُلفتنا ... تدفع باليمن حرفة الأدب وقوله: قلت يومها لها وقد أحرجتني ... قولة ما قدرت أنفكّ عنها أشتهي لو ملكتُ أمركِ حتى ... آمر الآن فيك قهراً وأنهى فبكت ثم أعرضت ثم قالت ... خنتني في محبة لم أخنها قلت إن أنتِ لم تجودي بوصل ... فالمنى ما عليك لو نلتِ منها الأمير أبو محمد القاسم بن نزار الكلبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 820 ذكر أنه كان مقيماً بمصر وتولى شرطتها. وله: عضّ تفاحة وناولنيها ... آهِ منها وآهِ من مهديها فإن اشتقتُ منه طيب ثنايا ... هـ أقبّلْ مواضع العضّ فيها وله: إنّي متى يجفو الحبي ... ب وصلت جفوته ببيْن ومنعتُ عيني أن ترا ... هـ ولو رأته فقأتُ عيني وجعلتُه بفعاله ... في العين مثل قذاة عين ووضته دون الحضي ... ض لو انّهُ في الفرقدين وقطعتُه لو كان يش ... به أحمد ابن أبي الحسين أبو علي بن محمد بن القاف الكاتب له: ولما رأيتُالناس لا خير عندهم ... صددت وبيت الله عن صحبة الناس وصرتُ جليسَ الفكر ما دمت فيهمُ ... وأعملتُ حسنَ الصبر فيه مع الياس وله: سأكرم نفسي جاهداً وأصونها ... وإن قرّحت من ناظريّ جفونُها ولست بزوّار لمن لا يزورني ... ولا طارحاً نفسي على من يهينُها وله: إذا ما أراد المرء إكرام نفسه ... رعاها ووقّاها القبيح وزيّنا وإن هو لم يبخل بها وأهانها ... ولم يرْعَها كانت على الناس أهونا وله في إفشاء السر: حدثتُ خِلّي بهمّ ... رجوت منه انفراجي وكان سرّي لديه ... كالنّار والليلُ داج وله: أيها الخائف المكا ... رِهَ وطّن لها الحشا رُبّ أمرٍ كرهتَه ... نلتَ فيه الذي تشا أخوه أبو العباس بن محمد بن القاف يا تائِهاً بجماله رِفقا ... أنت الذي عذّبتني عشقا وزعمتَ أنك لا تكلمني ... عشراً فمَنْ لك أنني أبقى وله: وسقانا الراحَ ساقٍ ... ما له في الحسن نِدُّ فهي في الكأس أقاح ... وهي في خدّيه ورد وله: أموالكم في النجم أودعتم ... ولا تحبّون الجفا والأذى وتكرهون الهجوَ مني لكم ... هيهاتَ ما تسمح نفسي بذا القائد أبو الفتوح ابن القائد بدير المكلاتي، سند الدولة، حاجب السلطان له: ليس في الدنيا سرورٌ ... إنما الدنيا همومُ وإذا كان سرورٌ ... فقليلٌ لا يدوم تركها أفضلُ منها ... ذا بهذا لا يقومُ أبو الحسن علي بن عبد الجبار ابن الوداني من أهل القرآن، وسبق ذكر والده وعمه له: يا قانطاً من حالِه ... إن القنوط من البليّهْ لا تيأسنّ من الغِنى ... لله ألطاف خفيّهْ أبو علي بن حسين بن خالد الكاتب له: وشادن قُدّ قميص الهوى ... في حبّه ما عنه لي مذهبُ كأنما الصّدغ على خدّه ... ياقوتة تلبسها عقربُ وله: لا تحاول من يَزيدٍ ... فضلَه واستغن عنه ربما عضّك كلبٌ ... إن طلبت العظْم منه أبو بكر محمد بن سهل الكاتب المعروف ب الرزيق له: ضرائبُ الناس وأخلاقُهم ... شتى ضروب عندما تخبر منها الزلال العذب إن ذقته ... يوماً ومنها الآجن الأكدر فالخير فيهم ثمَدٌ آجن ... والشرُّ فيهم حصرم يزْحَر أبو الفضل مشرف بن راشد له: سرتْ ورداء الليل أسحمُ حالك ... ولا سائرٌ إلا النجوم الشوابك عشية أعشى الدمعُ إنسانَ مقلتي ... ونمّت بأسراري الدموع السوافك وطاف الكرى بالطرف وهو محجّبٌ ... كما طاف بالبيت المحجّب ناسك سرت موهِناً ثم استقلّت فودّعت ... يجاذبها حِقفٌ من الرمل عاتك به غصنُ بانٍ أثمر البدرَ طالعاً ... عليه قناع من دُجى الليل حالك غريبة حسن يحسن الهجر عندها ... وأعجِبْ بها محبوبةً وهي فاتك وأحور مكحول المدامع عاقني ... عن الصبر فاستولت عليه مهالك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 821 رعى الله أكنافَ الجزيرة إن رعى ... سوائمها عضْبُ الغِرارين باتك يشيد أعاديه الحصونَ منيفةً ... وهل منع الإفشينَ ما شاد بابك وإني لآتي الحقَّ فيما أقوله ... وما أنا فيما يعلم الله فاتك شهدتُ لقد حاز العلا بيمينه ... غداة تصدّاه الرّدى وهو ضاحك ليوث وغًى أذكت خلال ضلوعها ... لهياً أنارته لهنّ الحسائك ومنه يصف القتلى، وطابق أربعة بأربعة في بيت واحد: فأقصاهمُ رضوانُ عن روح جنة ... وأدناهمُ من نفحة النار مالك وأنا أقول إن كان قد طابق ولكن في البيت اضطراب بيّن من قبل المقابلة، فأمعن النظر فيه. وله من أخرى: للتّلاقي يهونُ ما قد ألاقي ... من سُهاد وعَبرة واشتياقِ لو تخلّصت للقاء لأطفأ ... تُ غليلي بدمعيَ المهراقِ فدموع الفراق كالنار حَرّا ... وكذا ضدّها دموعُ التلاقي كنتُ في غبطةٍ وطيب حياة ... لو وقاني من سطوة البيْن واق كم قطعت الدجى بوصل حبيب ... وسّع العيشَ منه ضيقُ العناق آهِ من صبوتي التي لم تدعني ... نازعاً من صبابةِ العشّاق وله من أخرى: أيه الغصن لِنْ بعطفك غضّا ... وليكن منك للقطيعة رفْضُ وأجزِ ودّي بمثله ودع السخ ... ط وعُد للرضا فللختم فضُّ يا شقيق الفؤاد حكمُك جورٌ ... لك مني حبٌ ولي منك بغضُ نمْ هنيئاً فما دنا من جفوني ... مذ تناءيت عن جفوني غمضُ غير أني إذا تأخر حظي ... منك والدمع واكف مُرفضُّ كان لي مدح صاحب الخمس إبرا ... هيم حظا له على الفخر حضُّ وله: ما للحبيب وما لي ... تفديه نفسي ومالي أريدُ عنه سلواً ... فإن بدا لي بدا لي وله: بثناياكَ العِذابِ ... لا تُطِلْ فيك عذابي كنْ رحيماً بي رفيقاً ... واجعلِ الوصلَ ثوابي لا يغرّنّك صبري ... واحتمالي منك ما بي فالأسى بين ضلوعي ... والضّني بين ثيابي وله في ذم مغنٍ: غنّى فكدّ وعنّى ... مني فؤاداً مُعنّى فقلت ماذا غناء ... تنحّ بالله عنّا وله: ما روضةٌ بالحَزْنِ ممطورةٌ ... لم تنتهبها أعينُ الناسِ بكى عليه الغيث فاستضحكت ... عن نرجس غضٍّ وعن آسِ أحسنَ من وجه أبي طاهر ... وإن رمى قلبي بوسواسِ وله في صفة الليل الطويل: وليلٍ كأن الحشرَ أول ساعة ... به بتّه والصبرُ ليس بنافعي غنائي به لحنُ الثقيل من الأسى ... وشربي وإن أظمأ كؤوس مدامعي فيا لك من ليلٍ أضاقَ مذاهبي ... وإن بتّ في ثوبٍ من الحزن واسعِ سليمان بن محمد الطرابلسي ذكر أنه سافر الى افريقية، وانتقل الى الأندلس، وتوطّنها، واتخذها لمخالطة ملوكها سكَناً، ومن شعره قوله من قصيدة: نبّهتهُ لما تغنّى الحمام ... ومزّق الفجرُ قميصَ الظلامْ وقلت قم يا بدرَ تمّ أدر ... في فلك اللهو شموسَ المدام فقام نشوان وشمل الكرى ... له يرتمي مقلتيه التئام ومجّ في الدنّ خلوقية ... عتّقها في الدنّ طول المقام لاحت تحاكي ذهباً خالصاً ... دار من الدرّ عليها نظام بِنتُ عناقيد إذا خامرت ... شيخاً أعارته مجون الغلام يا هل لعيشي معه أوبة ... تعيد في وجه حياتي ابتسام وله من قصيدة: أجِرْ جفوني من دمعٍ ومن سهر ... وأضلعي من جوى فيهن مستعر جرى عليّ بما شاء الهوى قدرٌ ... يا قومُ ما حيلة الإنسان في القدر ما كنت أحسب دمعي سافكاً لدمي ... حتى أبحتُ لعيني لذّة النظر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 822 رميتُ نبلاً أصابتني فلست أرى ... يوماً أعاود ذاك النزعَ في وتري وله: سبحانَ من صاغ الأنامَ بقدرة ... منه وأفرد بالملاحة جعفرا حمل المحاسنَ كلّها مجموعة ... في وجهه كالصيد في جوف الفَرا أبو الفتح محمد بن الحسين ابن القرقوري الكاتب أثنى على نظمه ونثره كثيراً، وذكر أنه كان قدْرُه كبيراً. له: حسب العواذل ما قد مرّ من عذلي ... شغلن بي وأنا عنهنّ في شُغُلي يسُمْنَني النّسك لا يسأمن معتبتي ... ولا وحقّ الصبا ما النّسك من عملي هيهاتَ خامرني خمر العيون كما ... تخامر الخمر عقل الشارب الثّمِل إن العيون نفثن السّحر في عُقدي ... سحراً يوهّن كيدَ الفاتك البطل وله: بلا مِريةٍ إنّ العذولَ لمسرفُ ... غداةَ اغتدى في مجهَلِ اللوم يعسفُ أطال صحيحاً من ملامة مدنف ... وشتّان في أمر صحيح ومدنف فيا طيبها من كفّه إذ يديرها ... ويدني ثناياه إليّ فأرشف رضاب أبِن لي ما بردت ببرده ... غليليَ أم ماء زلال وقَرقفُ ووجهك أم صبح وفرعك أم دجى ... ولحظك أم عضب الغرارين مرهف فيا زهرة الدنيا التي ليس تُجْتَنى ... من الصون إلا بالعيون وتقطف تقاسمك الضدان شطرٌ مثقّل ... تحمّل أعباء وشطرٌ مخفّف أقلبي الذي راع العذولَ اضطرابُ ... فأقصر عني أو جناح يرفرف ضَلالٌ رجاء العاذلين إنابتي ... وإن قيّدوني جاهلين وعنّفوا وفي المخلص: وماذا عليهم أن أجود بتالدي ... وأفني طريفي قبل يومي وأتلف لهم ما اقتنوا فليحرصوا في ادّخاره ... ولي كنز شِعر لا يبيد ويوسف أبو عبد الله محمد بن الحسن ابن القرني الكاتب ذكر أنه منجّم، حاسب، كاتب. له في وصف الغرق: ينضج جسمي على الفراش لما ... بالقلب من لوعة ومن حُرق لعارض يستهلّ واكفه ... عليّ واش بالوابل الغدِق مثل غريق نجا بمهجته ... وكابد الموجَ خشيةَ الغرق أبو القاسم هاشم بن يونس الكاتب ذكر أنه صاحب ترسل ومقامات، وملَح وروايات وله من قصيدة: ألمّت بنا والليل سود ذوائبه ... تطالعنا راياتُه ومواكبُه وبين سواد الليل أبيض ماجد ... تخرّ لديه ساجدات كواكبه على حينَ نام الليل وانتبه الهوى ... وأونس مغناه وأوحش راكبه ولما بدا طيف البخيلة سامحت ... بوصل ولا وصلٌ لمن هو طالبه عجبت لدانٍ وصله وهو نازحٌ ... كأني على بعد الدّيار أقاربه بعيدٌ قريبٌ في الفؤاد محلّه ... فدر تنائيه ونفس تصاقِبه وبتنا ونار الحب تضرم بيننا ... ودمع الهوى يهمي على الخد ساكبه أقبّله طوراً وطوراً أضمّه ... وأعرضتُ عن دهري فلست أعاتبه وفارقني عند الصباح برغمه ... وكل عطاء النوم فالصبحُ سالبه وله من أخرى: وأغيد مجدول القوام مهفهف ... دعاني فلم ألبث ولم أتخلّفِ فلما استمرّ الحب بيني وبينه ... وفيت له بالعهد فيه ولم يفِ ومنها: أكلُّ خليل هكذا غير مسعف ... وكل حبيب في الهوى غير منصف نعم كل مسدول الغدائر غادر ... وكل لطيف الكشح ليس بملطف ومنها: ويوم كأن الشمس فيه عليلةٌ ... لها من وراء السّجْفِ نظرةُ مُدنَفِ جمعتُ الهوى فيه لأبيض ماجد ... أعلّ ببكر من ثناياه قرقَفِ وصَحْبٍ سمتْ بي همة فصحبتهم ... فمن متلفٍ مالاً وآخرَ مخلف ومنها: ويوم تنادوا من يجير من الرّدى ... وما لخيول القوم من متصرف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 823 وقفتَ أبا نصر تكفكف عنهمُ ... وتطعن بالخطيِّ أشرفَ موقف ومنها: لقاء أعادٍ وامتطاء مطيّهم ... وتقليب هنديّ وهزّ مثقّف أحب إليه من مُدام وقينة ... وأحور معشوق الشمائل أهيف وله: رُبّ ليلٍ سوادُه ... كسواد الذوائبِ صارمي فيه حاجبي ... والرّديني كاتبي سرت فيه كأنّني ... بعض زُهْر الكواكب راكباً عزمة الهوى ... أي طِرْف وراكب ونهار بياضه ... كبياض التّرائب وهجير يحَرّ قل ... بي لهجر الحبائب واشتياقي إليك كا ... ن دليلي وصاحبي وله مما يكتب على سكين: مطبوعة من شَفار ... ومن شَبا الأشفارِ أعارها فعلُ عيني ... ك فاتكٌ لا يباري القاضي أبو الفضل الحسن بن ابراهيم بن الشامي الكناني له من قصيدة، مرثية: فلا البؤسُ مدفوعٌ بما أنت جازع ... ولا الخيرُ مجلوبٌ بعلم ولا فهم وأن الحريص العمر يلقيه حرصه ... الى حفرة جوفاء واهية الرضم تعلّم بأن الموت أزينُ للفتى ... وأهونُ من عيش يشين ومن وصم أبو الفضل أحمد بن علي الفهري صاحب الشرطة له: خليليّ مالي قد حُرِمتُ التدانيا ... وأصبحتُ عن وصل الأحبة نائيا وما كان لي صبرٌ على البين ساعةً ... فها أنا في بينٍ سنينَ ثمانيا رعى الله أحباباً وقرّب دارَهم ... وبلّغ مشتاقاً وأطلقَ عانيا عبد الجبار بن عبد الرحمان ابن سرعين الكاتب له في حاسد: وحاسدٍ لا يزال منّي ... فؤادُه الدهرَ في اشتعال كاتبُ يمناه مثل حالي ... ومثله كاتبُ الشّمال ذاك في راحةٍ وهذا ... في تعبٍ منه واشتغال وله: يا بدر تمّ على غصن من الآس ... ألا يرقُّ لقلبي قلبُك القاسي ما لامني الناس إلا زدتُ فيك هوى ... قلبي بحبكَ مشغول عن الناس الأمير أبو محمد عمار بن المنصور الكلبي ذكر أنه من أفاضل العلماء، وسادات الأماء، وذو يد في الفقه والحديث. وله: تقول: وقد رأيتُ رجالَ نجد ... وما أبصرتَ مثلَك من يَمانِ ألِفْتَ وقائع الغمرات حتى ... كأنك من رداها في أمانِ الى كم ذا الهجوم على المنايا ... وكم هذا التعرّض للطعانِ فقلت لها: سمعت بكل شيء ... ولم أسمع بكلبيٍّ جبان ويقول في ابن عمه شكاية: ظننتُك سيفاً أنتضيكَ على العدى ... وما خلتُ أني أنتضيك على نفسي وجئتك أبغي رفعةً وكرامةً ... فأمسيتُ مقهوراً بقربك في حبس الأمير ثقة الدولة جعفر ابن تأييد الدولة الكلبي كان أحد ملوك صقلية. كتب إليه بعض الكتاب: أنت مولى النّدى ومولايَ لكن ... رُبّ مولىً يجور في الأحكام قد وعدت الإنعام فامْنُنْ بإنجا ... زك ما قد وعدت من إنعام فكتب إليه: حاش لله أن أقصّرَ فيما ... يبتغيه الوليّ من إنعامي أنا موفٍ بما وعدت ولكن ... شغلتني حوادثُ الأيام أبو الحسن علي بن عبد الله ابن الشامي له من قصيدة: يا سيدي لي أوامر كرمت ... فارْعَ لها لا عدمتُك الذِّمما فكم أناس حقوقها جحدوا ... ظلماً وما عادل كمن ظلما فحسّنوا جحدها بلؤمهمُ ... وإنما هجّنوا به الكُرَما وله في الوداع: ودّعني وانصرفا ... يحملُ وجداً متلفا ملتفتاً وكلّما ... ثقل رجلاً وقفا وله: إذا نحن أعيانا اللقاء فودنا ... بمحْضِ التصافي كل حين له ورد ولا صنعَ للأيام في نقض مُبرَمٍ ... يعودُ جديداً كلّما قدم العهد القائد أبو محمد الحسن بن عمر بن منكود له يصف النيلوفر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 824 كؤوسٌ من يواقيت ... تفتّحُ عن دنانير وفي جنباتها زهرٌ ... كألسنة العصافير أبو حفص عمر بن الحسن ابن الفوني الكاتب ذكر أنه لغوي، شعر، كاتب، منجم، مهند. وله في مرثية أولها: للموت ما يولد لا للحياه ... وإنما المرءُ رهينُ الوفاه كأنما ينشره عمره ... حتى إذا الموت أتاه طواه من ترْم أيدي الدهر لا تُخطِه ... والدهرُ لا يخطئ من قد رماه وله: نفس الفتى عارية عنده ... ما بخله بالرّدّ إلا سفاه وله: بأبي من غدا صَمي ... مَ فؤادي محلُّهْ والذي عقْدُ حبّه ... ليس خلْق يحُلّهْ أيها العاذل الذي ... طال في الحب عذْلُهْ أتراني مللْتُه ... لست ممن يملّه لا ولا اعتضت غيره ... بل له الودّ كلّه وله: يا لدمعٍ أعلن الس ... رّ وقد كان مصونا باح بالوجد فأبدى ... للورى داءً دفينا مااذي يصلح عيني ... قبّح الله العيونا جلبت حتفي ونمّت ... فاحْتفَتْ منّي الظنونا وغدا ما كان شكّاً ... عند أقوامٍ يقينا أبو بكر محمد بن علي بن عبد الجبار الكموني له: ما إن رأيتُ كراقص ... مستظرف في كل فنِ يحكي الغناءً برقصه ... كمراقص يحكي المغني رجلاه مزمار وعو ... د في نهاية كلّ حسن فهو السرورُ لكل عي ... ن والنعيمُ لكل أذن وله: يا بأبي ريّان طاوي الحشا ... يقطعه الدلّ إذا ما مشى يحسبه الناس إذا ما خطا ... منتشياً لكنّه ما انتشى رزيق بن عبد الله الشاعر ذكر أنه كان محارفاً، ولم يزل حرمانه بضعف حظّه متضاعفاً، برّه بعض الرؤساء بدنانير وظن أنه يعينه، فلما عاد الى بيته وجد لصاً قد سرق جميع ما فيه. فقال: محاني اللهُ من ديوان سعدِهْ ... وأيأسَ راحتي من نيل رِفدِهْ إذا ما السعدُ أسعفني بشيء ... يقوم النّحس محتسباً لردّه أبو محمد عبد الله بن مخلوف الفأفأ له: يا من أقلّ فؤادي ... ولحظ عينيَ علّه صِلْني تصلني حياتي ... وامْنُنْ عليّ بقُبله وله: يا من يجود بدائِه ... لا تبخلنْ بدوائِهِ واعطف على قلب غدا ... مثواك في سودائه وانضح بماء الوصل نا ... رَ الهجر في أحشائِه أمرَضْتَه بجفونك ال ... مرضى فجُدْ بشفائه أبو حفص عمر بن حسن ابن السطبرق ذكر أنه من أهل الدين، والورع، والعفاف. وله في الزهد: سيلقى العبدُ ما كسبت يداه ... ويقرأ في الصّحيفة ما جناه ويسأل عن ذنوب سالفات ... فيبقى حائراً فيما دهاه فيا ذا الجهل ما لك والتمادي ... ونارُ الله تحرق من عصاه فعوّلْ في الأمور على كريم ... توحد في الجلالة في علاه وأمِّلْ عفوه وافزع إليه ... وليس يخيب مخلوق رجاه أبو حفص عمر بن خلف بن مكي ذكر أنه انتقل الى تونس، وولي قضاءها، وهو فقيه، محدث، خطيب، لغوي، وفضله بالألسنة في جميع الأمكنة مأثور مروي، وله خطب لا تقصر عن خطب ابن نباتة، تعجب رواته. ومن شعره قوله: يا حريصاً قطع الأيامَ في ... بؤس عيش، وعناء، وتعبْ ليس يعدوك من الرزق الذي ... قسم الله فأجمِلْ في الطلبْ وقوله: نعماكمُ طردتنا عن زيارتكم ... وقنّعتْنا حياءً آخرَ الأبد إنّ الزيادة في الإحسان طاردة ... للحرِّ عن موضع الإحسان فاقْتصِد وقوله: لا تبادرْ بالرأي من قبل أن تس ... أل عنه وإن رأيتَ عوارا أحمقُ الناس من أشار على النا ... س برأي من قبل أن يُستشارا وقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 825 لا تصحبنّ إذا صحبت أخا ... جهلٍ ولو أنّ الحياة معَهْ إن الجهول يضرّ صاحبَه ... من حيث يحسب أنه نفعَهْ وقوله: صديقي الذي في كل يوم وليلة ... يكلفني من أمره ما لَهُ بال ولا يؤثر التخفيف عني فإنما ... علامة صدق الودّ عندي إدلال وقوله من قطعة: عادِ الجهولَ فإنه ... ممن يعينُك في هلاكِهْ واحذر معاداة اللبي ... ب فليس يخلص من شباكِهْ وقوله: اجعلْ صديقك نفسك ... وجوفَ بيتك حِلْسَك واقنع بخبزٍ وملح ... واجعل كتابَك أنسك واقطع رجاءك إلا ... ممن يصرِّفُ نفسك تعشْ سليماً كريماً ... حتى توافيَ رمسك وقوله: وإذا الفتى بعد طو ... ل خصاصة بلغ الأملْ فكأنّ بؤسي لم تكن ... وكأنّ نُعمى لم تزُلْ وقوله في مدح الانفراد: من كان منفرداً في ذا الزمان فقد ... نجا من الذل والأحزان والقلقِ تزويجنا كركوب البحر ثم إذا ... صرنا الى ولدٍ صرنا الى الغرق وقوله في الشيب: أيروم من نزلَ المشيب برأسه ... ما قد تعوّد قبلُه من فعلِه من لم يميّز نقصَه في جسمه ... في الأربعين فإنّه في عقله وقوله: عجَباً للموت يُنسى ... وهو ما لا بدّ منه قُل لمن يغفل عنه ... وهو لا يغفل عنه كيف تنساه وقد جا ... ءتك رُسْل من لدنه سوف تلقى الويلَ إن جئ ... تَ بعذرٍ لم تبِنه وترى جسمَك في النا ... ر غداً إن لم تصنه والذي ينجو من النا ... ر أخو التقوى فكُنْه أبو الحسن بن عبد الله الطرابلسي له في بدوّ الشيب: وزائرة للشيب حلّت بعارضي ... فعاجلتُها بالنّتْفِ خوفاً من الحتف فقالت: على ضعفي استطلْتَ ووحدتي ... رويدَك للجيش الذي جاء من خلفي وله: أتدري ما يقول لك العذولُ ... وتدري ما يريدُ بما يقولُ يريد بك السلوّ وهل جميل ... سلوّك عن بُثينة يا جميلُ وله من قطعة: يا ربّة الهودج المزرور كيف لنا ... بالقرب منك وهل في وصلكم طمَعُ إن تبذليه فإن الماءَ من حجرٍ ... أو تبخلي فمنال الشمس يمتنعُ أبو القاسم عبد الرحمان بن عبد الغني المقرئ الواعظ له مرثية: سيف المنية آفةُ العمْرِ ... كلّ العباد بحدّه يفْري حكم المهيمن بالفناء لنا ... فمَنِ الذي يبقى على الدّهْر وله: أيا من نال في الدنيا مُناه ... تأهّبْ للفراق وللرحيل ولا تفرحْ بشيء قد تناهى ... فما بعد الطلوع سوى النزول أبو بكر عتيق بن عبد الله بن رحمون الخولاني المقرئ لا تخش في بلدة ضياعا ... حيث حياة فثمّ رِزقُ قد ضمن الله للبرايا ... رزقهم فالعناء حُمقُ أبو سعيد عثمان بن عتيق الصفار الكاتب له من قصيدة في الأمير المعتصم أبي يحيى محمد بن معن بن صمادح: فاضَ عقيق الدمع فوق البهر ... وانحدر الطّلُّ على الجلّنار واجتمع الغصنان لكنّ ذا ... ذاوٍ وهذا يانع ذو اخضرار وكاد ذا ينقدُّ من لينه ... وكاد هذا يعتريه انكسار واضطرمت في القلب نارُ الجوى ... فهذه الأدمعُ عنه شَرار أبو حفص عمر بن عبد الله الكاتب له: أرقٌ أراقَ مصونَ دمعيَ كاربُه ... وهوًى هوى بجمل صبريَ غالبُه ومنه: نازعته بعد الجماح عنانه ... والليل أليَلُ ترجحنّ غياهبه فقضيتُ بالتمويه منه لبانةً ... وجعلت إعتابي بحيث أعاتبه وتشكُلُ الحالين أشكل أمره ... لما استوى صدقُ العناقِ وكاذبه وله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 826 ألا إن قلبي بالغرام موكّل ... ومذ غبتَ عن عيني فقدتُ هُجوعي منحتُ سوادَ القلب صفوَ ودادكم ... وقسّمتُه بين الحشا وضلوعي فإن كنتِ لا تأسي لبعدي فإنني ... لبعدك وجْداً ما تجفّ دموعي الأمير أبو محمد جعفر بن الطيب الكلبي أثنى عليه مصنف الدرة الخطيرة، بالفضائل الكثيرة، وذكر أن بينهما مكاتبات وشدا منها طرَفاً وطُرفاً، وأورد من شعره قوله: ما الصبر بعد فراقكم من شاني ... رحَلَ العزاء برحلة الأظعان ما كنت أحسب للمنية ثانياً ... فإذا الفراق هو الحِمام الثاني بُعْداً لذاك اليوم بُعداً إنه ... أجرى دموع العين بالهملان من ساترٍ دمعاً بفضل ردائه ... أو ممسكٍ قلباً من الخفقان وألفت فيك الحزنَ حتى أنني ... لأسَرّ فيك بكثرة الأشجان ومنها في المديح: ملكٌ إذا لاذ العُفاة ببابه ... أخذوا من الأيام عقدَ أمان يعطي الجزيل ولا يمنّ كأنّما ... فرضٌ عليه نوافلُ الإحسان وله من قصيدة: أراها للرحيل مُثوّرات ... جِمالاً بالجَمال محمّلاتِ تتيهُ على الركائب في سُراها ... بأقمارٍ عليها طالعاتِ ولو نظرت لمن تسري إليه ... لصدّت عن وجوه الغانياتِ وجازت والفلاةُ لها ركابٌ ... كما كانت ركاباً للفلاة ولم تعلق بشيء غير شعر ... منابتُه بأفواه الرّواة تمرّ على المياه ولم تردها ... كأن الريّ في زجر الحُداة أقول لها وقد علقت ذميلاً ... بأجفان لزجْري سامعات سأتركُ عنكِ في مرعى خصيب ... وماء بارد عذب فرات بأرضِ مدافع مأوى الأماني ... وقتّال السنين المجدبات فيحمل عنك همّي فوق طِرْفٍ ... سَبوقٍ من خيول سابقات أغرّ تخاله ريحاً أعيرت ... قوائم باللجين محجّلات كساه الليل أثواباً ولكن ... تراها بالصباح مرقّعات وحسبك ما يفرّق من نوال ... بأيدٍ للمكارم جامعات فقد أطمعتَ في جدواك حتى ... سباع الطير من بعض العفاة وله من أخرى: ضحوكٌ مرةً جَهْداً وباكٍ ... وشاكرُ حالِه حيناً وشاك ومغتبط بعيشٍ غير باق ... يروم سلامةً تحت الهلاك ألا يا حارِ قد حارت عقول ... وعلّت بالعليل عن الحراك وقد نصبت لك الدنيا شِباكاً ... فإيّاك الدنوّ من الشّباك وإن شيّدت لي يا حارِ بيتاً ... فحاوِل أن يكون على السّماك وأبْعِدْ إن قدرت على مكان ... فإني والحوادث في عراك وله في الغزل: لقد بليتُ بشيءلستُ أعرفه ... مولىً يجور على ضعفي وأنصفه ما زال يطمعني لفظ له خَنِثٌ ... يمنّ بالوعد سراً ثم يخلِفُه يا رب زدني غَراماً في محبته ... ودع فؤادي بالأشواق يتلفه وله: فارقتكم لا عن قِلىً وتركتُكم ... رغماً على حكم الزمان الجائر وفقدتكم من ناظري فوجدتكم ... لما أردت لقاءكم في خاطري وله في ذم الاجتداء من البخلاء: وحقّك لو نلتَ النّوال معجَّلاً ... لغير سؤال كان غيرَ جميل فكيف وما في الأرض وجه مؤمّلٍ ... ولا يُرتجى للجود غير بخيل وله: ألا سكنٌ إذا ما ضقتُ يوماً ... سكنْتُ إليه في شكوى همومي أوسّع صدره وأحلّ منه ... محلّ الجود من قلب الكريم أبو الفتح أحمد بن علي الشامي ذكر أنه زين الأدباء، وغرة الدهماء. له: في السمهريّ مشابه ... ممن أحبُّ وأعشق اللون والقدّ الرشي ... ق وطرفه إذ يرمق قلبي لسهم لحاظه ... غرض ففيه يرشق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 827 قال مصنف الدرة الخطيرة: سألته أن ينفذ إليّ بشيء من شعره في حين تأليف الكتاب، فكتب إليّ: أبا قاسم والفضل فيك سجية ... وأنت بكل المعلوات خليق ومن مجْده فوق السّماك محلِّقٌ ... ومنصبه في المكرمات عريق يكلفني إظهار ما قد نظمته ... لياليَ غصني ناضر ووريق وإذ لمّتي تحكي خوافيَ ناعب ... وعندي لوصل الغانيات طريق فكن ساتراً عورات خِلّك إنه ... شقيقك والخِلُّ الصديق شقيق وله في المجون: احتَل لأيرِك في درع مُضعّفة ... فبين فخذيه أرماح من الشّعر الفقيه أبو القاسم عبد الرحمان بن أبي بكر السرقوسي له: أما منكمُ من مسعد ومعاون ... على حرّ وجد في السويداء كامِن أبانَ الكرى عن مقلتيّ التهابُه ... وما هو يوماً عن فؤادي ببائن ومنها: وبيداء قفر ذات آل كأنما ... هو البحر إلا أنه غيرُ آسن ترى ظعنَهم فيه غداة تحمّلوا ... طوافي فوق الآل مثل السفائن وله: أسارقه اللحظَ الخفيّ مخافةً ... عليه من الواشين والرّقباء وأجهد أن أشكو إليه صبابتي ... فيمنعني من ذاك فرط حيائي وإني وإن أضحى ضنيناً بودّه ... لأمنحه ودّي وحسن صفائي سأكتم ما ألقاه من حُرَق الأسى ... عليه ولو أني أموت بدائي وله: لا تبغِ من أهل الزمان تناصفاً ... والغدرُ من شيم الزّمان وأهله وإذا أردت دوام ودّ مصاحب ... فاغضض جفونك جاهداً عن فعله أبو عبد الله محمد بن قاسم بن زيد اللخمي الكاتب القاضي له من قصيدة: يا عذبةَ الريق عودي بعض مرضاكِ ... وعلّليه برشْفٍ من ثناياكِ قد حاربته الليالي فيكِ جاهدة ... فصار من حيث ما يرجوك يخشاكِ وله: أيه المهدي لعيني السّهرا ... كان وجدي بك مقدوراً جرى لم أكن أعلم ما عُلِّمْته ... من هواك اليوم إلا خبرا ربّ لا حول ولا قوة لي ... صرتُ بعد العين أقفو الأثرا عاذلي مهلاً فما العذر على ... عاشق مثلي حديث يفترى أنت لا تأسى فدعني والأسى ... أشتفي منه وأقضي الوطرا إنّ أوفى الناس حباً كلِف ... ظلّ فيه بالأسى مشتهرا فعصى العاذلَ فيما قد نهى ... وأطاع الشوق فيما أمرا وله يصف ضيق يده عن مساعدة صديقه فيما يقوم بأوده: ولي مال من يغنى به فيكفّه ... ويعجز عن برِّ الصديق الملاطف فلا البخل أرضاه ولا الجود أنتهي ... إليه لقد أوقِفْتُ شر المواقف وما حيلة الحرّ المساعف إن سعى ... ولم يعط حظاً من زمان مساعف وله في الشيب من قصيدة: أساء صنيعاً شيبه بشبابه ... وأوقف خطّاب الخطوب ببابه تجنّبه الأحبابُ من غير زلّة ... سوى ما تبدّى من فضول خضابه وما أن وشى واشٍ به فأجبتُه ... ولكن شيب العارضين وشى به ومن كانت الخمسون منه قريبة ... تباعد عن نيل المنى باقترابه بنفسي شباب بان غير مُذمّمٍ ... ووكّل قلبي بالأسى وعذابه فيا ليت إذ ولّى تولّى بحرمة ... وأبْرأني من موبقات احتقابه ولكنه أبقاني الدهرَ بعدَه ... لعفْوِ إلاهي أو لمسّ عقابه عدمت الأماني فاجتزيت بدونها ... ومن عدم الماء اجتزى بترابه وله في الزهد: يا ربّ صفحاً وغفراناً ومعذرة ... لمذنب كثرت منه المعاذير يُبكيه إجرامه طوراً ويُضحكه ... رجاؤه فهو محزون ومسرور عبد الوهاب بن عبد الله بن مبارك له: نفسي الفداء لظبي ... قد جاز في التيه حدّهْ حكى القضيَ انعطافاً ... كما حكى الليث نجدَهْ بالدمع طرّز خدي ... مذ طرّز الشَّعر خدّهْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 828 كأنه بدرُ تمّ ... في الأفق قابل سعده يا ليته بات عندي ... أو ليتني بتُّ عنده يا عاذلي فيه دعه ... يُطِلْ كما شاء صدّه فإنما هو مولىً ... أضحى يؤدب عبد وله: إذا المء لم يُعرف بجدّ ولا أب ... ولم يشتهر في الناس إلا بأمّه فلا تسألنْ عن حاله فهو ساقط ... وإن لم يشع في الناس أسباب ذمّه أبو عبد الله محمد ابن العطار الكاتب له: لولا عيونُ جآذر وظباء ... ما راضت الأشواقُ صعبَ إبائي واقتاد قلبي بعد طول تمنّع ... نحو الصبابة قائدُ البرحاء وصبوتُ صبوةَ عاشق ذي غرة ... لعبت بمهجته يد الأهواء باب في ذكر محاسن جماعة من المغرب الأدنى والقيروان وأفريقية من أهل هذا العصر ابن فرحان القابسي هو سلاّم بن أبي بكر بن فرحان، من قابس مدينة من أعمال القيروان وكان جليساً ووزيراً لأميره مدافع بن رشيد بن رافع بن مكي بن كامل بن جامع الهلالي من بني فادع من بني علي ثم من هلال، وقتِل ابن فرحان يوم خروج الأمير المذكور من قابس واستيلاء المصامدة عليها بعسكر عبد المؤمن بن علي وذلك في سلخ شعبان سنة أربع وخمسين وخمسمائة، قال الشريف إدريس الإدريسي أنشدني أبو عمران شكر بن عامر بن محمد بن عسكر بن كامل بن جامع الهلالي الفلاعي لابن فرحان في تهنئة الأمير مدافع المذكور بشهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة من قصيدة أولها: برَبْعِ رامةَ رام الركبُ إلماما ... فغاض صبري وفاض الدمع تَسْجاما وقل للرّبع منا أن نلمّ به ... وأن نُحيّي به رسماً وأعلاما سقياً لعصر الصِّبا لو كان متصلاً ... ما كان أطيبَ ذاك العيشَ لو داما وكم كتمتُ الهوى جهدي فنمّ به ... دمعي وما زال دمع العين نمّاما فاخلعْ عِذاركَ في راح وفي رشأ ... طاوي الوشاح ولا تحفَلْ بمن لاما لله ريمٌ رمى قلبي فأقصده ... وأضرم النارَ في الأحشاء إضراما بخصره هيَف أهدى النّحولَ الى ... جسمي وأهدى لسقمِ اللحظ أسقاما ومنها: ذرني أكفّ عن التّطواف راحلتي ... ملّت جياديَ إسراجاً وإلْجاما ما زلتُ أفري أديمَ الأرض منفرداً ... أطوي المفاوزَ غيطاناً وأعلاما حتى حططتُ رِحالي في ذُرى ملك ... غمر المواهب للقصّاد بسّاما ومنها: في متن أدهمَ ما ينفكّ يُقحمه ... على أعاديه يومَ الروع إقحاما ما أبصرت مقلتي من قبل صافنِه ... طِرْفاً غدا حاملاً في الحرب ضرغاما في عُصبة كأسود الغاب قد جعلت ... سمرَ الرماح وبيضَ الهند آجاما هنِّئ مُدافعَ إن الله خوله ... عزاً ينال به كلّ الذي راما إذا رآه العدا في يوم ملحمة ... يغشي عيونهم نوراً وإظلاما وقبّلوا التُربَ تعظيماً لطلعته ... كما رأتْ فارسٌ كسرى وبَهْراما يا أيها الملك المرهوبُ جانبه ... شملتَ هذا الورى فضلاً وإنعاما سُسْتَ الرّعايا وصنتَ الملك فامتنعا ... بصارمٍ ذكرٍ تفرى به الهاما ومنها: قُم فافتحِ الأرضَ فالأملاك كلّهم ... سواك أضحوا عن العلياء نوّاما ومنها: خذ هاكها يا أبا الحملات نظم فتى ... ما زال في مدحكم للدرّ نظّاما يشدو بأفنان أغصانِ الثناء على ... علاك فيها طيورُ المدح تَرناما في بلدة مثل الخلد قد جمعت ... براً وبحراً وحيتاناً وآراما كما جمعتَ خلالاً كلها حسن ... تُقىً وحلماً ومعروفاً وإقداما لا زلت تُفني زماناً بعده زمنٌ ... مؤثل المجد وهّاباً وغنّاما أبو الفضل ابن الفقيه عبد الله بن نزار الهواري القابسي وهو حي الى الآن، يخدم ولد عبد المؤمن كاتباً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 829 وهوّارة قبيلة من قبائل البربر، قال: أنشدني للمذكور في مدح الأمير محمد بن رشيد الهلالي أخي مدافع من قصيدة أولها: لم يبقَ لي بعد الرحيل عزاءُ ... بان الخليطُ وشتِّتتْ أهواءُ فاصرف عنان اللّوم عن قلِقِ الحشا ... مغرَى فإن ملامه إغراء ومنها: فعلتْ به أحبابه يوم النّوى ... والبينُ ما لا تفعل الأعداءُ ساروا ولمّا يسمحوا بوداعه ... فكأن خالص ودّه شحناء أتراهمُ خالوا الوداع محرّماً ... أم أجمعوا أن لا يكونَ لقاء رقّت مياه الحسن فوق خدودهم ... وقسَتْ قلوبهمُ فبان جفاء ومنها: يا ويحَ من عبث الهوى بفؤاده ... وتحكّمت وقضت عليه ظباء من كلّ ما في القلب من لحظاتها ... نفثات سحر ما لهنّ دواء للبدر سُنّةُ وجهها وقوامها ... للغصن مخطفة الحشا هيفاء إن امتداحي ما يلِمّ من الورى ... إلا لمن دانت له العلياء مثل المليك ابن الرشيد فإنه ... بهر الملوك وحلّ حيث يشاء وتشابهت آراؤه وسيوفه ... كلٌ بما يهوى له ضمناء لبس الجلالةَ حلة أعلامها ... حلُمٌ يزيّن ثوبها وحياء فهو القريب تطوّلاً وتجمّلاً ... وهو البعيد محلّهُ الجوزاء وله المهبة في النفوس، وإن غدا ... متواضعاً والعزة القعساء يا من شكا جورَ الزمان وظلمه ... وأصابه من مسّه الضراء لُذ بالمليك محمدٍ فبجوده ... يحيا السماح وتكشف الغمّاء سَلْهُ تفد واقصدْ تجدْ واشرع ترِدْ ... عذبَ النّمير وما به أقذاء هذا العيان يُريك من أوصافه ... فوقَ الذي أهدتْ لك الأنباء لو نظّم الأملاك سلكاً لاغتدى ... لسناه وهو الدرة الغرّاء يحيى ابن التيفاشي القفصي من قفصة، مدينة بالقيروان، انتقل الى قابس، وسكن بها، ومدح بني هلال، وقتله الإفرنج بصقلية بعد سنة خمسين وخمسمائة عند فتكهم بالمسلمين، قال وأنشدني لهذا الشاعر من قصيدة في الأمير مدافع أولها: رأى البرق فازدادت جوانحه جمرا ... وبات يراعي النّجم يرتقبُ الفجرا وما البرق مما هاجه غير أنه ... تذكّرَ من يهوى فما ملك الصبرا خليليّ عوجا نندب الرّبرب الذي ... غدا بعدهم من بعد سكانه قفرا دياراً بها قدْماً ملأن جوانحي ... عيون المها جمراً كما ملئت سحرا كأن لم أجُلْ فيها بمعترك الصبا ... ولم أرتشف ثغراً ولم أنتشق زهرا ولم أدعِ النايات فيها مجيبة ... أغانيَ أغصان تميسُ بها خضرا ويا بأبي ذات الوشاح إذا بدت ... كشمس الضحى وجهاً وجنحِ الدجى شَعْرا تميسُ لنا غصناً وترنو غزالة ... وتعبق كافوراً وتبدو لنا بدرا ويأبى لها النهدان والردف أن ترى ... تمس له الأثواب بطناً ولا ظهرا أتتني وقلب البرق يرعد غيرة ... عليها وعينُ النّجم تنظرها شزرا وقد هجعت عين الوشاة وأسبلت ... علينا الدياجي من ملابسها سترا فبتنا الى وجه الصباح كأنّنا ... قضيبان لا صدّاً نخافُ ولا هجرا الى أن رأيتُ الفجر عند طلوعه ... قد التاح في إثر الدجنّة وافترّا كأن محياه المدافع قد بدا ... بغُرّتِه في النقع يسطو بها قهرا رضيع الندى ثدياً حليف العلا وفا ... شقيق الحيا بذلاً لخير الورى طرا هو الغيث في بذل النّوال إذا طما ... هو الليث في يوم النّزال إذا كرّا يريك الردى سخطاً ووجه المنى رضا ... وصوب الحيا بذلاً وحكم القضا أمرا ومنها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 830 ولولاك ما أوحشت أهليَ والحمى ... ولا أصبحت يوماً يدي منهمُ صِفرا فلي مهجة تهفو بقابس لوعةً ... وقلبٌ إذا فارقتُها يألف الضّرّا محمد التيفاشي عم الشاعر المقدم ذكره يحيى هو الذي وفد على عبد المؤمن بن علي ملك المغرب ومدحه بالقصيدة المشهورة التي أولها: ما هزّ عطفيه بين البيض والأسُلِ ... مثلُ الخليفة عبد المؤمن بن علي قال عبد المؤمن لا ينشد بعده شيئاً وأمر له بألف دينار السكدلي من أهل قفصة قال وأنشدني للسكدلي في مدافع بن رشيد يهنيه بعيد النحر من قصيدة موسومة بالممدوح أولها: خليليّ عوجا بي لتلك المرابع ... لنفسحَ بالسفحين درّ مدامعي ولا تبخلا بالدمع علّ الذي بنا ... يبرّده سحّ الدموع الهوامع منازل ساداتي ومغنى أحبتي ... وموضع أطرابي وخير مواضعي به قد جنيت العيشَ غضاً وملبسي ... شبابي ومن أهواه غير ممانعي ومنها: ألا قاتل الله اللوى من محلة ... وقاتلَ دهراً باللوى غير راجع يكاد فؤادي من تذكّره الحِمى ... وأهل الحمى ينقَدُّ بين الأضالع ومنها في التخلص: لقد ملكت روحي كما ملك العلا ... وحازَ الندى جودُ المليك المدافع ومنها في المديح: فما أنت إلا جوهرٌ قام ذاته ... بنور هدى من جوهر العدل ساطع وراجيك موفور وشانيك هالك ... وأيامُك الدنيا بغير مضارع التراب السوسي من أهل سوسة، وهي مدينة بالقرب من المهدية، وتوفي بسوسة، قال: وأنشدني للتراب في مدح صاحب سوسة، الأمير جبارة بن كامل بن سرحان بن أبي العينين الفادعي العلوي الهلالي، من قصيدة: سلّمْ على ذي سلَمِ ... مغنى الهوى المستغنم وقفْ عليه سائلاً ... عن قاصرات الخِيَم واستمطِر العينَ به ... صوبَ دموع ودم فهذه أطلالُه ... مندرسات الأرسم وهذه عِراصُه ... مستوحشات المَعلَم كئيبة في حالة ال ... مُنفرِد المتيّم لم يبق منهنّ الصبا ... ومغدقات الدّيم سوى ثلاثٍ صائما ... تٍ قائماتٍ جُثّم وأشعثٍ معفّر ... في بونها المهدّم أضحت خلاء بلقعاً ... بَوالياً كالرّمم ومنها: وطالما عهدتُها ... خضرَ الرُبى والأكم مأهولةً في زينة ... من نعَمٍ وأنعم وللقيان حولها ... بمفصحات النّغم لغالغ ما خُلِقت ... إلا لقتل المغرم والغانيات كالدُمى ... يسحبن كل مُعلَمِ من أبيض مفضّض ... وأخضر مُنَمنَم من كل خَودٍ كُحِّلت ... مقتلها بالسقم جبينها من قمر ... وفرعها من ظلم تُريك في بنانها ... وكفِّها والمِعصم رقماً من الوشي حكى ... رقمَ إهاب الأرقم يفترّ عن مفلّج ... عذبِ الثنايا شبِم حلو اللّمى وإنما ... لحظي جناه لا فمي سقياً لأيامي بها ... وعيشِنا المنصرم أيام غصني أخضر ... ولمّتي كالحمم وقامتي قويمةٌ ... شبابُه لم يهرَم وللهوى في خلَدي ... سرائر لم تُعلَم والدهر لم يخطُ الى ... مساءتي عن قدم ولا نهاني صاحبي ... ولا نهاني لوّمي ثم انقضت عن سرعة ... أيامُ ذاك الموسم كأنّني كنتُ أرى ... عيشي به في الحلم يا رسم أحباب نأوا ... عن عاشق متيّم إذا أباح شوقُهم ... عن شوقه المكتّم تناثرتْ دموعُه ... عن سلكه المنظّم أنعِمْ صباحاً واسلَمِ ... سُقيت نوءَ المرزم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 831 إن لم أمت من أسفٍ ... وحسرةٍ عليهمِ كذبتُ في دعوى الهوى ... لست لهم بمغرم ومنها: كأنني بالوصل من ... نعمان لم أنعّم ولم أبت ريّان من ... رشف عقار المبسم في فُرُش وثيرة ... لم تفترش لمحرم ومنها: حتى تولى الليلُ في ... خميسه المنهزمِ وأقبل الصباح في ... جحفله العرَمرَمِ كأنه لما بدا ... يشرق تحت الظلم وجه الأمير ابن الأمي ... ر الأكرم ابن الأكرم جُبارة ابنِ كامل ... كهفِ الندى والكرم العارض الذي إذا ... أخلف صوبَ الدّيم سرت سحابُ جوده ... من غيثه المنسجم وأمطرت من الحيا ... نهراً لكلّ معدم الفارس الذي إذا ... أسرج كلّ شيظم وسلّ كلّ مرهف ... وسلّ كلّ لهذم واضطرمت نار الوغى ... وفرّ حامي الحرم وافى على طاوي الحشا ... عبْلِ الشوا مسوّم من الهلال مسرَج ... من الثريا ملجَم تراه إن صاحب بهم ... تحت وطيس قد حَمي تراكبوا من خوفه ... بعضاً على بعضِهمِ وله من قصيدة على وزن قصيدة مهيار الديلمي: بكر العارض تحدوه النعامى: بات بالأبرق برق يتسامى ... فجفا الجفنُ لمرآه المناما طلعتْ رايتُه خافقةً ... خفقانَ القلب أمسى مُستهاما يسحب السحبَ به في أفقها ... معصفاتٌ من جنوبٍ ونعامى تحت ليل كسواد البيْنِ في ... عين منْ ذاب من البين سِقاما فأعارتْه كراهاً مقلتي ... واستعادت منه للدمع انسجاما ثم بتنا نتبارى لوعةً ... وبكاء ونرى النوم حراما فإذا شبّ ضرامٌ في الدجى ... قدح الشوقُ على قلبي ضِراما وإذا حيّا بغيث دمنة ... جدت بالدمع فأنسيت الرِّهاما فتشابهنا بكاءً واضطراماً ... وتخالفنا اهتماماً واهتماما أيها البارقُ قد هجتَ الى ... ساكن الأبرق شوقاً وغراما وأذعتَ السرّ بالدمع الذي ... لم أُطقْ إذ فاض للحبِّ اكتتاما ومنها: بذمام الحبّ يا برقُ عسى ... لك علمٌ حيّهم أين أقاما وعسى في السحب من ماء ثووا ... حوله من جرعة تبري سقاما أنسوا عاماً فلمّا ملكوا ... رِقّ قلبي أوحشوا عاماً وعاما واستمالوني بوصلٍ في الهوى ... فكما ملت رأوا وصلي حراما بعثوا العرف فأذكى لوعتي ... وسنى البرق فأبكاني سجاما فكأنّ البرق سيفٌ ضارب ... وكأن الديم دمعي حين داما ومنها: وإذا هبّتْ صباً قلت لها ... بلّغي يا ريحُ من نهوى السّلاما عُجْ شوامي السحب تحدوه الصبا ... مثلَ ما تحدو يد الحادي السّواما فاسقِ أوطاناً بعلياء الحمى ... وابلَ الودق وجيراناً كِراما دِمَناً جرّرْتُ أذيال الصبا ... والتّصابي في مغانيها غلاما ومنها: وعليها قام لي عذرُ الهوى ... في عَذارى كاليواقيت اليتامى كبدور التمّ حسناً وبها ... وغصونِ البان ليناً وقواما يتدللن فيورثْن الضّنا ... ويواصلن فيشفين السّقاما ومنها: خلّ أوصاف التصابي والصبا ... والمغاني والغواني والنّدامى وانقلِ الهزلَ الى الجدّ ولا ... تلْهُ عن أوصاف من ساد الأناما من إذا أبصرتَه أكبرته ... وإذا خاطبت خاطبت هُماما وإذا استصرختَه في حادث ... فعلى الحادث جرّدتَ حساما مقبل القلب على سُبْلِ الهدى ... معرض عن كل ما جرّ الأناما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 832 ليس يدري ما المزاميرُ ولا ... يسمع الصّنْجَ ولا ذاق المداما لا ولا تحمِله الأطماعُ أن ... ينقضَ العهدَ إذا أعطى الذِّماما بيتُه كعبة بِشْر نصبت ... يفصم العزّ عن الناس انفصاما ركنها يُمْنى يديه فاجعلوا ... بدل الركن بيُمناه استلاما لذوي الحاج زحامٌ حولها ... زحمَةَ الحجّاج قد زاروا المقاما كل وِردٍ هكذا مستعذب ... يُكثر الناس حواليهِ الزِّحاما الشيخ أبو الحسين ابن الصبان المهدوي قال: ورد الشم، واشتم بارق الفضل وشام، ولقي دولة نور الدين، وتوفي بدمشق سنة ستين، فمما أنشد لنفسه في مدح جبارة ابن أبي العينين صاحب سوسة قوله: أرى دمعَ عينيك فاض انهمالا ... أظنّ الأحبةَ راموا زِيالا أعدّوا الجِمال ليوم الرّحيل ... فزدتُ اشتياقاً وزادت جَمالا وبين السّجوف هلاليةٌ ... تحل النقاب فتبدي الهلالا وتبدي أناملَ مثل اللجين ... كُسينَ من الوشي سحراً حلالا بعيدة مهوى مجال الشنوف ... وفي جيد أحْوى بدا القرط خالا من البدويّات تهوى البروق ... إذا هبّتِ الريح عنها شمالا وتنتجع الغيثَ حيث استهل ... فتطلب سهلاً سقى أم تلالا تشدّ سُحَيراً لغاراتها ... فتلزم سرجاً وتلقى جلالا منازلَنا بحواشي الكثيب ... سُقيتِ الغوادي غزاراً بلالا فكيف عهدت الصبا ناسياً ... نناجي غزالته والغزالا ويا رُبّ بيداء عند الهجير ... قطعتُ سباسبها والرِّمالا بعَيرانةٍ أجُدٍ عرْمسٍ ... تُجدّ فتجذب آلاً فآلا إذا ونيَت قمت في غرزها ... أقول لها سوف ننسى الكلالا سألقي زمامَك في منزل ... تشدّ الرجال إليه الرّحالا بحيث جبارة مُستمْطر ... يجود على معتَفيه نَوالا فتىً للعشيرة عزّ لها ... غدا لجميع البرايا ثمالا إذا ما العشيرة في حادث ... شكت مرضاً طب منها اعتلالا وقال في صبي نصراني خمّار بمدينة صقلية: ومزنّر عقَد الصليبَ بنحره ... وأدار حول وشاحه إنجيلا خمدت بجنح الليل جمرة ناره ... فأقام خمرة دنّه قَنديلا متطلع لذوي السُرى من كأسه ... نجمٌ يكون الى الصباح دليلا أبو عمران ساكن بن عامر الهلالي أصله من عرب بني هلال بإفريقية، قد مضى ذكر نسبه وهو معنى الفضل الى مطلع أدبه، ورد الى دمشق، ولما أنشدني الشريف إدريس شعره، ذكر أنه مقيم بها في سنة إحدى وسبعين وهو الذي أفادنا بمن أوردناهم من الشعراء وذكرناهم من الفضلاء. ومن شعره: إذا مرّ من أهوى أغضّ له طرْفي ... وأخفي الذي بي من سقام ومن ضعفِ وأكتم عنْ سرّي هواه صيانةً ... ولو كان في كتمانه أبداً حتفي مخافةَ أن يشكو فؤادي تحرّقي ... الى مقلتي يوماً فتبدي الذي أخفي وأنشده زيد الحتسب بدمشق هذا البيت: هُدِّدْتُ بالسلطان فيك وإنّما ... أخشى صدودَك لا من السلطان والده أبو ساكن عامر بن محمد بن عسكر الهلالي ذكر أنه كان بدوياً، وأميراً سرياً، أنشد له ولده من قصيدة كتب بها الى قومه: يا جار طرْفي غير هاجعْ ... والدمعُ من عينيّ هامعْ ولقد أرقتُ مسامراً ... نجماً بدا في الشرقِ طالع متذكّراً بصروف ده ... رٍ أصبحت فينا قواطع إني من الشمِّ الألى ... أهل العلا أبناءِ جامع أهلِ المراتبِ والكتا ... ئبِ والمواهبِ والصنائع يتسابقون الى المعا ... لي كلّهم فيها مُسارِع ولقد ملكنا قابساً ... بالمشرفيات القواطع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 833 تسعين عاماً لم يكن ... خلقٌ لنا فيها منازع كم من عزيزٍ كان يأ ... تي نحوَنا بالرغم خاضع كم قاصدٍ أو طالب ... لنوالنا يأتيه طامع وجنابُنا للمعتفي ... ن بزهرة المعروف يانع وإذا شهدنا مجمعاً ... يوما إلينا بالأصابع في كل يوم عَروبةٍ ... تدعو لنا زُمرُ الجوامع عبثت بنا أيدي الزما ... ن وأحدثتْ فينا البدائعْ الأمير عبد الرحمان بن زيري الصنهاجي كتب الى الأمير ساكن بدمشق وقد وعده بكتاب: سرى البرقُ من عَليا معالِم قابس ... وفي القلب من لمع البروق كوامِنُ يذكّرني عهدي به ومنازلي ... بساحتها والحادثاتُ سواكنُ ونحن على تلك المواطن والرُبى ... نُزولٌ ووشكُ البين بالوصل بائن أخادع عن سُكانها الدهرَ وحدَه ... كأني لما يأتي به الدهرُ ضامن فمنْ لي بتبليغ السّلام إليهمُ ... فكيف وقد شاقتك تلك المواطن ولما سرى البرقُ الذي ذكر الصّبا ... تأوهتُ شوقاً والدّموع هواتن وناديت من عليا هلالِ بن عام ... فتًى صادقَ الدعوى إذا مانَ مائن نمتْه رياحٌ من صليبةِ فادع ... لآل عليّ وهو للمجد صائن وحلّت بنو دهمان منه بعشْوةٍ ... وعزّ به بين الأفاضل ظاعن فما هو إلا في ذرى آل عسكرٍ ... لعامرهم نجلٌ وذلك ساكن الملك أبو يحيى تميم بن المعز بن باديس صاحب المهدية نسبه: تميم بن المعز بن باديس بن منصور بن بُلكّين بن زيري بن مَناد بن منقوش بن زناك بن زيد الأصغر بن واشفال بن وزغفي بن سري بن وتلكي بن سليمان بن الحارث بن عدي الأصغر وهو المثنى بن المسور بن يحصب بن مالك بن زيد بن الغوث الأصغر بن سعد وهو عبد الله بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن شداد بن زرعة وهو حمير الأصغر بن سبأ الأصغر بن كعب بن زيد بن سهل بن عمر بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وايل بن الغوث بن حيدان بن قطر بن عوف بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميع بن عمرو بن حمير وهو العرنجج بن سبأ الأكبر بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر وهو هود عليه السلام بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام بن لمك بن متوشلح بن أخنوخ وهو إدريس عليه السلام بن برد بن مهلايل بن قينان بن الوشن بن شيث بن آدم عليه السلام. مولده: بالمنصورة يوم الإثنين ثالث عشر شهر رجب الفرد سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، ووفاته ليلة السبت خامس عشر رجب سنة إحدى وخمسمائة وولد له من الأولاد الذكور مائة وعشرة بنين وأقام في ملك المهدية وما يليها من البلاد معظم عمره عظيم القدر، كريم النجر، طيب الذكر، مهذب الأمر، مذهب العصر، لقيت بدمشق ولد ولده وهو الأمير عبد العزيز بن شداد بن تميم وهو بها مقيم، وأعارني في سنة إحدى وسبعين ديوان جده فطالعته فاطّلعت على كل ما دل على جدّه وجودته وجِدّه، وأثبتّ من شعره ما تترنح له أعطاف السامعين اهتزازاً، فمن ذلك قوله: ما اختلف الصبحُ والمساءُ ... وأنفِذَ الحكمُ والقضاءُ إلا ولله فيه سرّ ... يحكم في الخلق ما يشاء وقوله في بعض السقاة: وساقٍ قد تكنّفه الحياء ... فوجنتُه وقهوته سواء يمجّ المسكَ من ثغر نقيّ ... كأن رُضابَه خمرٌ وماء وقد ولِع الخُمارُ بمقلتيه ... وظل التيه يفعل ما يشاء ويبخل بالسّلام وما يليه ... فليس لمُدنفٍ منه شفاء وقوله: وجهٌ هو البدر المنير وقامةٌ ... كالغصن ماسَ نَضارةً وشبابا يسقيك من حلبِ العصير مدامة ... ومن المؤشّر مسكةً ورضابا غنّت وكاسات المدام مدارة ... عذُبَ الوصالُ لنا بهنّ وطابا كأسٌ من الذهب السبيك تضمّه ... قصب اللجين تعمّمَت عُنّابا وقوله: سُعادٌ قد ألمّت بي ... ستمحو البعدَ بالقرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 834 كبدرٍ تحته غصنٌ ... على حقْفٍ من الكثب فحلّت في حمى قلبي ... على التأهيل والرّحب وقوله: وجاهلة بالحبّ لم تدرِ طعمَه ... وقد تركتني أعلمَ الناس بالحبِّ أقامت على قلبي رقيباً وحارساً ... فليس لدانٍ من سواها الى قلبي أدرتُ الهوى حتى إذا صار كالرّحا ... جعلتُ له قلبي بمنزلة القُطب وقوله يصف منافقاً مماذقاً: رأيتُك قاعداً عن كل خيرٍ ... وأنت الشهمُ في قالوا وقلتُ وطَرّاراً له لطف وحذق ... وألفاظ ينمّقُها وسمْت وثقت إليه من حسبٍ وبيتٍ ... ولولا ذاك منه ما وثقتُ وقد يعِدُ الوعود وليس يوفى ... وليس بقائلٍ يوماً فعلتُ كخز الماء فوق الماء طافٍ ... يروق وما له أصلٌ ونبت كذلك زهرة الدّفلى تراها ... تشوق العينَ حسناً وهي سُحْتُ وقوله: ألا يا نداماي الكرام وسادتي ... سألتكمُ إلا أجبتم مقالتي أليس معاطاةُ الكؤوس وحثُّها ... وحسنُ المثاني كارتجاع الفواخت أحب إليكم من زمان مصرّدٍ ... تحكَّم في الفتيان حكمَ الشوامت وقوله: بنفسيَ تفاحَ الخدود المضرّج ... وأنفسنا أشهى إليه وأحوج بنفسي وجه جيشه نبلُ لحظه ... يجيّشه ذاك الجبين المتوّج وأسقيه من كأسي وأشرب فضلَه ... فنقليَ من فيه ومن فيه أمزج هو الخمرُ إلا أنه خمر مرشف ... يمج به الثغر النقيُّ المفلّج وقوله من قطعة: ما العيشُ إلا مع التّهجير والدلَج ... أو المدام وصوت الطائر الهزِج والشرب بين الغواني والقيان معاً ... فإن أوجهها تغني عن السُرّج والقصر والبحر والبستان في نسق ... ونحن في مشرف من منظر بهج والكأس دائرة في كفّ غانية ... بيضاء في دعج صفراء في نعج أقول والكأس تزهى في أناملها ... رفقاً على هذه الأرواح والمهج اللهَ في مدنَفٍ أودى بمهجته ... طرفٌ تقلّب بين السحر والغنَج كم حجة لي ولكن ليس يقبلُها ... لو كان ينتفع المشتاقُ بالحجج وقوله: بنبلِ الجفون وسحْر العيون ... وميلِ الغصون كمثل الرّماحِ ولمعِ الثغور وبيض النّحور ... وضيق الخصور وجوْلِ الوِشاح ووردِ الخدود وميْسِ القدود ... وضمّ النهود ولثم الأقاح وساقٍ مليحٍ كظبي ربيب ... وعود فصيح يهيج ارتياحي وكأس المدام غداةَ الغمام ... بكفِّ الغلام فراحٌ براح كأن الرحيقَ بكف العشيق ... نظام العقيق بجيد الرّداح على المستهام حليف الغرام ... فما في السلام له من جناح وقوله: بلحظك يُقتَل البطل المشيح ... وبعض جيوشك الوجه المليح وأنت البدر يكمل كلَّ شهرٍ ... وغصن البان فالظبي السّنيح دنوّكمُ يبرِّد من غليلي ... وودكمُ هو الودّ الصحيح وقوله في جارية نصرانية: أليسَ الله يعلمُ أن قلبي ... يحبّك أيُّها الوجهُ المليح وأهوى لفظك العذبَ المفدّى ... إذا درس الذي قال المسيح أظاهرُ غيرَكم بالود عمداً ... وودكمُ هو الود الصحيح وفيكم أشتهي عيدَ النصارى ... وأصواتاً لها لحنٌ فصيح وقوله من قطعة: رمتني سهامٌ من لحاظ غريرةٍ ... معقربة الصدغين قائمة النهدِ مخنّثة الأعطاف مهضومة الحشا ... غلامية التقطيع ممشوقة القدِّ وقوله من أخرى: لئن خنتمُ أو ملتمُ لملالة ... فإني سأرعاكم على القرب والبعد وما أنسَ لا أنس العناقَ عشيةً ... وبردي ذكيّ النّشر من ذلك البرد وقوله من أخرى: أيا من حلّ في عيني وقلبي ... وجال من السّويْدا في السّواد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 835 ليهنك أن حللْتَ حمى فؤادي ... وسلّطت السهاد على رقادي وأنك قد خلعتَ على جفوني ... من الأشواق أثوابَ الحِداد وله: أتسقيني وتسكرني بلحظ ... فلي سُكْرانِ من هذا وهذا فإن كان المراد بذاك قتلي ... على حُبّيك صبراً كان ماذا وقد فنيتْ دموعي من جفوني ... فأمسى وبْلُ أجفاني رَذاذا وله: يا قمراً أبصرتُه طالعاً ... ما بين أطواق وأزرارِ يرنو بعينَيْ شادن أحور ... قد عقد الخِصر بزنّار يطوفُ بالكأس كبدر الدُجى ... وكأسه كالكوكب الساري قد كتبَ الحسنُ على خدّه ... هذا طرازُ الخالِق الباري وله من أخرى: فنادِ بمسمَعيْك لكي يغنّوا ... وحث العود من بمٍّ وزير ولا تشربْ بلا طرب فإني ... رأيتُ الخيل تشرب بالصفير وله من أخرى: قمْ يا نديمي هاتِها ... حمراءَ ترمي بالشّررْ وأمرْ سقاتك تسقنا ... فالديك ينذر بالسّحر واشربْ على قمر الورى ... إن غاب في الغرب القمر ما العيش إلا بالمدا ... م وبالقيان وبالوتر تسقيكها ممشوقةٌ ... أو أهيفٌ زين الطُّرَر وكأنما هيَ رقّةً ... دينُ المعرّي في الخبر وله: يا غزالاً إذا نظرْ ... وقضينا إذا خطرْ أنت علّمت مقلتي ... رعية النجم والسهرْ طاف بالكأس أغيدُ ... وجهه كاسمِه قمر كيف لي بالسلوِّ عن ... هـ وما عنه مصطبَر وله من أخرى: أغرّك قول الناس يا غاية المنى ... ويا مخجلَ الشمس المنيرة والقمر وما خلقت عيناك إلا لآتي ... وما آفة الإنسان إلا من النظر وله: بأبي وجه مليح ... فيه ماءُ الحسن حارا وله طيفٌ إذا ما ... لجّ في الهجران زارا وله من أخرى: أخَوْدٌ ألمّت بنا آنفاً ... أم الشمسُ والقمرُ الباهر أرتك الهلالَ وغصن النقا ... يميّله روضه الزاهر بعثتُ إليها بلحظ الهوى ... وطرفي لموعدها ساهر منعّمة من بنات الملو ... ك فالحسن في وجهها حائر وله يصف الرّاووق: تأمل من الراووق والخمر يقطرُ ... كعيني محبٍ للتفرّق ينظرُ براه الهوى فالدمع يغلب جفنَه ... فيخفيه أحياناً ولا بدّ يظهر وله: فما شفق قد ضمّ بدر غمامةٍ ... ولا كأس بلّور دِهاق من الخمر بأحسنَ منها حين مرّت عشية ... تميس بتيه في غلائلها الخضر وله من أخرى: سأصبرُ مغلوباً على بعد دارنا ... وما كلّ مشتاقٍ على البعد صابر فيا عزّ قد عزّ الذي أنت واصل ... كما ذل يا عزّ الذي أنت هاجر فللْغصن ما شدّت عليه مناطق ... وللحقف ما ليثَتْ عليه المعاجر تميس كغصن البانِ يهتزّ ناعماً ... وتثقلها أردافُها والغدائر وله: ألا حبّذا راحٌ براحٍ تديرها ... ظباءُ قصورٍ بين تلك المقاصر معتّقة لم تلفح النار وجهها ... بعيدة عهد من قِطافٍ وعاصر على حلو أخبار إذا ما تكرّرت ... ثنينا على تذكارها بالخناصر وله وقد أوقد الراهب ناراً في منارة: يا راهبَ الدير الذي ... عمرَ المنارُ بناره هل أبصرتْ عيناك لي ... ظبياً نأى عن داره لبس الصّليبَ مقلداً ... إذ ماس في زنّاره كالسيف في آثاره ... والغصن في إثماره عيناه أوشك قتلة ... من غربِه وغِرارِه وله: كأن الكأس لؤلؤة وفيها ... عقار عتِّقت في دون تِبر وله: هلالٌ ألمّ بنا موهِناً ... تحيّر في حسنه ناظري وأوما إليّ بتقبيله ... فردّ عليه نعم خاطري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 836 يريك الرّدينيّ من قدّه ... ويرنو عن المُرهفِ الباتر فكم شعلة في صميم الفؤاد ... تضرّمُ من لحظه الفاتر وله: يا قُبلة قد نِلتها من مؤنسِ ... فتضوّعت أنفاسُها في المجلس وضممته فضممت غصناً مائلاً ... ورشفت من ريمٍ ثنايا ألْعَس وتأرّجَتْ أثوابه فكأنها ... ريح القَبول على جفون النرجس وتضرجت وجناتُه فتورّدت ... وتحكمت ألحاظه في الأنفس وله من أخرى: وخمرٍ قد شربت على وجوه ... إذا وصفت تجلُّ عن القياس خدود مثل ورد في ثغور ... كدُرّ في شعور مثل آس وله: يا رُبّ راح جلونا كأسَها سحَراً ... عذراء صافية في حلّة الورس في راحة رخصة الأطراف ناعمة ... من كف جارية تُدمى من اللمس بيض ترائبُها سود ذوائبها ... كأن طرَّتها غيم على شمس وله في جارية بوجهها أثر جرح: ومجروحة في الوجه أحسن من مشى ... وترنو بعيني ظبية تكلأ الرشا وما جرحها في الوجه مما يشينها ... وما ضُرِب الدينار إلا لينقشا مهفهفة تصبي الحليمَ بدلِّها ... فلو حدّثَتْ صخراً من الصمّ لانتشى تريك النقا والغصن إمّا تعرضت ... مثقّلةَ الأرداف مهضومة الحشا مسيحية فيها من الحسن مسحة ... فشا حسنها مثل الذي بي قد فشا وله: فكّرت في نار الجحيم وهولها ... يا ويلاه ولات حين مناص فدعوت ربي أن خير وسائلي ... يومَ المعاد شهادةُ الإخلاص وله: ومجلس فيه ريحانٌ وفاكهةٌ ... نظلُّ نلهو به طوراً ونغتبط كأن سوسنه المبيَضّ حين بدا ... رأس لراهبة بادٍ به الشّمَط وله: لله من وجهه لنا قمر ... على قضيب مهفهف طلعا ضممتُه مرة فقبلني ... فخلتُ زهر الرياض قد سطعا وله: سلِ المطر العام الذي عمّ أرضكم ... أجاء بمقدار الذي فاض من دمعي إذا كنت مطبوعاً على الصدّ والجفا ... فمن أين لي صبرٌ فأجعله طبعي وله: تلوّتْ عليّ بوعد كما ... تلوّي على الخدّ أصداغَها أيا دُميةَ الدّير في بيعة ... تنوّق فيها الذي صاغها بقلبي أمورٌ طواها الهوى ... أريد الى فيكِ إبلاغَها الى شفة قد بهاها الهوى ... فسبّحْتُ ما شئت صبّاغها وله من أخرى: فيا مَنْ وجهُها سبب التّصابي ... ويا من وصلُها للقلب رافَهْ إليك صبوتُ يا من حلّ مني ... فأكلؤهُ بإشفاق المخافه فيا من ريقها شهْد جنيّ ... بماء الورد نكهتُه مُضافه وله: بليت بظبية تهوى لجاجي ... هي الشمس المنيرة في السّجوف مبرقعة بخزّ من سواد ... كمثل البدر في وقت الكسوف بلا قلبي وطرفي كان يحْيا ... فقلبي المبتلي والطرف عوفي وله: رويدكَ يا مُنى نفسي ... فما في الحب من أنفَهْ بحق الجمر إذ تُرمى ... بحق الحجّ في عرفَهْ بحق مِنًى ومن فيه ... وركبٍ حلّ مزدلِفَه ألمّي بي ولو يوماً ... لتُحيي مهجتي الكِلفَهْ وله: يا رب غانية حُمر غلائلها ... كأنها قمرٌ في حُمرة الشفق كأنّ غرّتَها من تحت طُرّتها ... بدرُ التّمام بدا في ظلمة الغسق قد زرْفنَتْ فوق خديها سوالفها ... كأنما كتبت لاميْنِ في يَققِ باتت تعللني راحاً وترشفني ... فبتّ أشرب راحَ الكرْم والحدق وله: أهلاً وسهلاً بقَيصَريّ ... يرشُقُني قدّه الرشيقُ تفعل ألحاظه بلُبّي ... أضعافَ ما تفعل الرحيق يا حاملاً خدّه وكأساً ... فذاك وردٌ وذا شقيق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 837 يا مشبهَ البدر في كمالٍ ... يا حبّذا وجهك الطليق وله: يا مليكاً على القلو ... ب بجيش من الحدقِ بأبي صدغك البهي ... م على خدك اليققِ وله: ألمّت بوجه كبدر الدجى ... تقنّع بالمِعجَر الأزرق كبدر السماء بدا طالعاً ... تحفّ به زُرقةُ المشرِق وله: أضحكَ مَن في هواكِ باكِ ... حبُّكِ عن حبّ مَن سواك إذ لا وصال سوى نسيم ... من نشْر مرْط ومن سِواك وله: أبدَيْنَ أقمارَ الوجوه طوالعاً ... من فوق أغصان القدودِ المُيّلِ وبسَمْنَ عن دُرّ الثّغور فخِلْته ... برَداً تحدّر من سحابٍ هُطَّل وله من أخرى: رُبّ يوم نحن في ظل القَنا ... رُبّ يوم نحن مع بيض الدّمى إن تكن حرب صليْنا نارَها ... أو تكن سِلماً بذلنا النِّعَما وله: منع التنسّكَ والوقار وبجْمَه ... مُقلٌ تقلّبها بنات الرّوم مُقل لها فعل المُدام وتارة ... فعل الحسام بمهجة المهزوم بيض كأنّ شعورها ووجوهها ... ليل يبلّجهُ ضياء نجوم حدّثنَني وخلال ذاك تبسُّم ... كالدرّ منثور على منظوم لله ليلتُنا ونحن نُديرها ... كأساً معتّقة من الخُرطوم والطبل يخفق والمزامر حوله ... تتخالف العيدان في المزْموم فلئن صبوتُ فقد صبا أهل النهى ... ولئن هفوتُ فلست بالمعصوم وله: بسقام جفونك من سقم ... وشحوب خدودي من ألم وولوع الحب بذي شجنٍ ... وبقرعْ السن على ندم أرضيت الشوق يعذّبني ... يا مَن قد نام ولم أنم ولقد أصبحت لنا شغُلاً ... كعكوف الشِّرْك على الصّنم فلئن أسفرتَ فعن قمر ... ولئن سلّمْت فبالعنَم أفلا أشفى بوعود من ... ك شفاء المحْل من الدّيَم أهوىً وجوىً ونوىً وأسىً ... ووقوفُ الحال على العدم وهمُ أشجوك وقد سلِموا ... وهمُ أردَوْك بذي سلَم وهمُ قصدوك بنبلِهِمُ ... وأقاموا الحرب على قدَم وهم دلّوك بدلِّهمُ ... وهمُ راموك فلم ترُم ولقد أزمعتُ سلوّكُمُ ... وعرضْتُ الغدرَ على شيمي فكرهت الغدرَ لخسّته ... وأبتْهُ نفوس ذوي الهِممِ وله: يا شبيهَ الغزال عيناً وجيدا ... وشبيهَ القضيب قداً وقامهْ أنت بدر الجمال فوق قضيب ... خدّك الورد والرّضاب مُدامَهْ وله: ألا حبّذا الوجهُ الذي جمع الحُسْنا ... كأن سناه الشّمسُ لكنّه أسنى ويا من هواه في ضميري مخلّد ... وأدنى إذا فكّرْت من ثوبي الأدنى طلبت سلوّاً من هواكَ فلم أجد ... وألزَمْتُ نفسي الصبرَ عنك فما أغنى هواكَ الى قلبي ألذّ من المُنى ... وأعذب من ماء السّحائب بل أهنا وله: بنفسي القناني بأيدي الغواني ... وشدوِ القِيان وصوت المثاني وقد ستر الشمسَ ثوبُ الغمام ... وقد ودجَ العِلجُ نحرَ الدّنان فخُذْها عقاراً ترى لونها ... كحُمرةِ خدّ بقَرْص البنان وبادرْ زماناً قليل الوفاء ... فكلّ مع الدهر والعيشُ فان وله: أيها البدرُ إلينا ... لا تبِعْ بالنّقدِ دَيْنا دعْ نقبّلْ كفّك المخْ ... ضوبَ شئنا أم أبينا واسقِنا سِحراً بلحظٍ ... وأدِرْ كأسا علينا اسقِنيها مُرّةَ الطّعْ ... مِ تُريكَ الشَّيْنَ زيْنا أنت أبهى كل من يم ... شي على الأرض الهوينا وله: أيا من وجهُه حُلوُ ... ويا من قلبُه خِلوُ ويا من لحظُه سكر ... ويا من لفظُه صحوُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 838 ويا من قدّهُ غُصن ... نماه الدلّ والزهْوُ لقدأصبحتَ ذا جورٍ ... على من جسمُه نِضوُ وقد طالتْ مواعيدي ... أهذا منكَ بي لهوو فإنْ كنتُ أخا ذنب ... أما عندكَ لي عفوُ وله قد غُنّيَ بين يديه بقول ابن أخي عتّاب الجوهري: إذا لم أطِقْ صبراً رجعتُ الى الشكوى ... وناديتُ جنح الليل يا عالم النجوى فعمل ارتجالاً: أيا قلبُ كم حذّرْتُك البثّ والبلوى ... أليس قصارى العاشقين الى الشكوى فإن قلتَ إن الطّرْف أصلُ بليّتي ... فأنت الذي تصبو وأنت الذي تهوى لعَمري لقد بالغْتُما في نكايتي ... وحمّلتُماني في الهوى فوق ما أهوى بُليتُ بقاسي القلب في غاية المُنى ... فصيّرني في الحبّ في الغاية القصوى ولا يقبل الأيْمانَ إن جئتُ حالفاً ... ولا يرحمُ الشّكوى ولا يسمعُ النجوى وله: إن نظرتْ مُقلتي لمُقلتِها ... تعلمُ ممّا أريدُ فحْواه كأنّها في الفؤاد ناظرة ... تكشِفُ أسرارهُ ونجواه وله: وكأسٍ مثل عينِ الدّيكِ صِرْف ... وماء المُزنِ بالشّهْدِ الجَنيّ يطوف بها مليح ذو دلالٍ ... مريض الطرف ذو خُلُقٍ رضيّ أقام عقاربَ الأصداغ تيهاً ... ليمنَع بهجةَ الوجه الوضيّ شربت على لواحظِه مُداماً ... كماء المُزن والمِسك الذّكيّ وله من أخرى: وإذا حرّك المثاني عنيدٌ ... وسمعنا زَمراً ولحْنا شجيّا وسعى بالكؤوس بدر منير ... وسقانا الرّحيقَ صرْفاً وحيّا ما أبالي إذا شربتُ ثلاثاً ... أيّ قاضٍ بالجَورِ يقضي عليّا حميد بن سعيد بن يحيى الخزرجي من ندماء تميم بن المعز بن باديس بالمهدية، وشعرائه المجيدين في البديهة والروية، وهو الذي جمع شعر الملك تميم، ونظم في عقد سلكه كل در يتيم، ومما أورده لنفسه فيه أبيات عملها على وزن شعر لتميم قال: حضرنا ليلة بين يديه فأملى علي، يعني تميماً: يا باعثَ السُكرِ من كأس ومن مُقلِ ... يسبي الحليمَ بتكسير وتخنيث وحاملَ البدر فوق الغُصن منتصباً ... وخالِطَ الدرّ تذكيراً بتأنيث عاهدْتني عهْد من للعهْد ينكثُه ... فصرتَ تأخذ في طرْق المناكيث حدثتني بأحاديث منمّقةٍ ... فما حصلتُ على غير الأحاديث فالوعد ينشُرُني والخلفُ يقتلني ... فصرتُ ما بين مقتول ومبعوث قال حميد وسأل الحاضرين إجازته فأنشدته: يا من حُرمتُ وِصالاً منه يُنعشُني ... وصرتُ أقنعُ منه بالأحاديث تشبّث السُقْمُ بي لما هجرتُ فما ... بغير طولِ الأسى والهجرِ تشبيثي اللهَ في هجرِ مقتولٍ أضرّ به ... وجْد عليكَ وميتٍ غيرِ مبعوث قال ثم أنشده الحصيبي: يا ساقيَ الكأس ليس الكأس تُسكرُني ... السُكرُ من مُقلةٍ أغرتْ بتخنيثي وهذا الحصيبي من شعراء العصر ويستغنى بذكره هاهنا عن ذكره في موضع آخر. ثم أنشده الكفيف: بثثْتُ حبَّك إذ ضاقَ الفؤادُ به ... فمنْ يلوم لسرٍ فيكَ مبثوثِ نفثْتَ في القلب سحراً لا طيبَ له ... فيا لسحرٍ من الألحاظ منفوثِ وقد حلفتُ يميناً لا يُكلّمني ... والشوقُ يقضي على رَغْمي بتحنيث فقال له تميم: أنا انتقدت على الحصيبي، فانتقد أنت على الكفيف، فقلت: كلامه كله مختل، لأنه ذكر ضيق صدره بمحبوبه، ومن كان صحيح المحبة فما يضيق فؤاده، ثم قال: فمن يلوم لسر فيك مبثوث، والبهائم لو نطقت، تلومه، وإنما الصواب: فلا تلمني لسر فيك منثوث، والمبثوث لا وجه له، فإن المبثوث بمعنى المفرّق وكيف يبث حبه بمعنى يفرقه، وإنما أراد أن يقول نثثت حبك بالنون أي ذكرته بعد ما كان مكتوماً. قال حميد الخزرجي: وعملت بيتين ابتداء لأبيات وهما: وغانيةٍ محيّاها ... به يُغْنى عن السُرْجِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 839 لو اطّلعَتْ على الحُجّا ... ج ألهتْهُمْ عن الحجّ وبعدهما من شعر تميم: لها وجْه لها شعَر ... كمثل الروم والزّنْج لها جفْنان قد شُحِنا ... بنَبل السّحْر والغنْج لها ثغر، لها ريق ... كمثل الخمر والبنجِ لها نهدان قد نجُما ... كنابَي فيل شِطرَنْجِ وحكى حميد أنه دخل الى أبي عبد الله ابن النعناع وفي يده رقعة من الملك تميم إليه يتأملها ويكثر النظر فيها وقد ألهته عنّا معانيها، فقلت: عجبت لرقعةٍ ألهتْك عنّا ... وعما كنت فيه من الحديث أظنك قد شُغِفْتَ بها لسِرّ ... قديم قد حوتْهُ أو حديث وحكى أبو الصلت في الحديقة: أخبرني محمد بن حبيب المهدوي قال: حضرنا ليلة في جملة النّدامى مجلس السلطان أبي يحيى تميم ابن المعز فالتفت حميد بن سعيد الشاعر الى غلامين من مماليكه متناجيين قد ضمّا خداً لخدّ فقال حميد: انظر الى اللِّمّتَين قد حكتا فقلت: جنحَيْ ظلام على صباحَيْنِ فقال: واعجَب لغصنين كلّما انعطفا فقلت: ماسا من اللّين في وشاحَيْن فقال: ظَبْيان يحْمي حِماهما أسدٌ فقلت: لولاهُ كانا لنا مُباحينِ فقال: فلو تدانيت منهما لدنت فقلت: منّي في الحين أسهم الحَيْنِ محمد بن حبيب المهدوي القلانسي ذكره أبو الصلت في الحديقة وأورد قوله: بدورُ وجوهٍ في ليالي ذوائبٍ ... لعِبْنَ بلبّي بين تلك الملاعب تبرقَعْن من خوف العيون وإنما ... طلعن شموساً تحت غُرّ السحائب وفوّقن من تحت البراقع أسهُماً ... من اللّحظ ترمي عن قِسيّ الحواجب باب في ذكر محاسن جماعة من أهل المغرب الأقصى من العصر أوردهم عثمان بن بشرون المهدوي الكاتب في المختار في النظم والنثر وذكر أنهم من المُقلين محمد بن عبد الله المهدي المعروف ب ابن تومرت هو الذي خرج بالمغرب، ودعا الى التوحيد، وتولّى بعده عبد المؤمن. ذكر ابن بشرون: أنشدني محمد بن محمد النثري لابن تومرت أبياتاً قالها قبل قيامه بالمغرب، وهي: إنّي وفي النفس أشياء مخبّاة ... لألبَسنّ لها دِرْعاً وجِلبابا كيما أطهر دينَ الله من دنَسٍ ... وأوجب الفضل للسادات إيجابا تا الله لو ظفرَتْ كفّي بمطلبها ... ما كنتُ عن ضرب أعناق الورى آبى اليمان بن فاطمة المرابط أورد له: سل مُستَهاماً بكم قد شفّه السّقم ... لا يرقدُ الليل من فِكر ومن قلق قد أنفدَ الدمعَ فيما قد يكابدُه ... فالدمع في نزَفٍ والقلبُ في حرَق يا ويْحَ من قد بُلي من حبّه بنَوى ... إن قال صِلْ مال للإعراض والنّزَقِ وقال موعدُ وصْلي الحشرُ فاغن بما ... ترى إذا أو نهاكَ الحبلَ فاختنِقِ كم مرة قلت علّ الدهرَ يسعدني ... بالوصل منكَ فيحيى عندهُ رمقي قال اصطبرْ واحتسبْ ما صرتَ لاقيه ... مثل احتسابِ الشجي المشفي على الغرق ثم انثنى مرِحاً والتيهُ يعطِفه ... ووردة الخدّ تحكي حمرةَ الشّفقِ وقال: دعني واصنعْ ما تشاء ولا ... تلمُمْ بربعي واحذر أن تُسي خلقي فحين أبصرَ ذُلّي في هواه رثى ... لحالتي واعترته سَورة الفَرَق ومنها: ومال نحوي يفدّيني بأسرته ... وسار بي لذُراه سير منطلق وقال: خذها عَقاراً في زُجاجتها ... تلألأتْ كتلالي الشمس في الأفق ونِل وصالي وقبّلْ عند ذاك فمي ... وعضّ خدّي ولا تعبأ بمطّرق فلم يزلْ دأبنا هذا ومقصدُنا ... أيامَ شهرٍ جرتْ طلْقاً على نسقِ يا حبذا زمن قضيتُ أطيبَه ... ما بين عود وناي خائر الطرق في روضة أنُفٍ تزهو بأحمرها ... نعم وأصفرها والأبيض اليقق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 840 إذا بكى القطرُ وانهلّت مدامعه ... تبسّمت ورنت إليه بالحدق عبد الله بن حماد المراكشي أورد من شعره قوله ينتجز وعداً ويقتضي رفداً: يا من إليه في الحواديث يُسنَدُ ... وعليه ألوية المحامد تُعقَد إني أتيتُ بشطر بيت سائر ... اليوم يومكم فأين الموعد وقوله في المعنى: بتّ ليلي أنافرُ النوم حتى ... لاح لي الصبح لا أغمّضُ عينا وكأني لمّا وعدت، ضرير ... أجذَم قد أتاك يطلبُ ديْنا عبد المؤمن بن يحيى السجلماسي له في ذم قاض: أيا عُرّة في جميع القضاة ... وأجورَ قاضٍ قضى واحتكَم أمثلك يصلُح في قُطرنا ... يلي الحُكمَ في الشرع بين الأمم ودارك مقسمة للزناة ... يناك بها لك كل الحُرم فقُل لولاة الأمور اللئام ... أبعد الفقيه علي الحكَم تولّي القضا مثل هذا البغيض ... ونجمُ قيادته قد نجَم نصحت لكم فاقبَلوا نصح مَنْ ... يرى قتل قاضيكم في الحرَم عبد الخالة بن عبد الصمد النولي أورد له من قطعة: يا لَقَومي ما لصبّ ... مُستهامٍ من نصير شفّه حُبّ غزال ... غنج اللّحظ غرير أهيفِ الخصر مليح ال ... قَدّ كالغُصن النضير بمحيّا ذي جمال ... مثل بدر مستنير ليته جاد بوصل ... بعد بُعْدٍ ونفور وغدا وهو عنيقي ... وضجيعي في السرير إيتني الوصل هنيئاً ... في خلوّ من غيور وشرابي ريق ثغر ... طيّب الطعم خصير الأفرم هذا لقبه، وهو محمد بن علي المسيلي. أورد من شعره في الرزق وطلبه، وأنه يجري من الله بقدره: يقولون إنّ الرزق بالحرص يجلبُ ... وليس بمقدور يُنال ويُكسب فصوّب وصعّدْ في البلاد مطالباً ... لرزق تنلْ منه الذي تتطلّب وإياك والتّضجيع فيه وإنّما ... أخو الرّزق من يشقى عليه ويتعب فما الرزق يأتي بالتوكل إنّه ... بعيد لذا التّضجيع لا يتقرّب فقلت: بعيد أن تُنال معيشة ... بحرص عليها فالحريص معذّب ألا إنما الأرزاق تجري بقدر ما ... يقدّرُ والمقدور عنّا مغيَّبُ وما أن ينال المرءُ منها سوى الذي ... به الله يقضي والقضاء مغلَّب فأرزاق هذا الخلقِ بينهمُ جرتْ ... فذا نائل عفواً وذاك مخيَّب ولكن علينا الاجتهاد وأن نُرى ... لربّ الورى في الرّزق ندعو ونرغب فرَبّ الورى يعطي ويمنع كيف ما ... أراد وما في ذاك منه تعقُّب رضيتُ به ربّاً ومولى وسيّداً ... وحسبي من رب يرجَّى ويرْهب محمد المكناسي المعروف بينطلق له في الفراق: إن يوم الفراق يوم عسير ... يتوقّى وقوعَه المهجور كم أديلت للشوق فيه دموع ... واستحرّتْ للبَيْن فيه صدور واغتدى العاقل الصّبور جَزوعاً ... للنّوى والنوى عليه أمير أي عقل يبقى وأي اصطبار ... لمُحبّ فؤاده مستطير إذ أحبّاؤه أشاعوا ارتحالاً ... بينهم غدوةً وقالوا المسير ومطاياهم تُشدّ ولم يب ... ق سوى أن يقال للركب سيروا لو تراني يوم ارتحال المطايا ... وبنان الحبيب نحوي يشير لرأيتَ امرأ أجِنّ من الشو ... ق فأضحى كأنّه مسحور ليس يسطيعُ أن يودّعَ حِيّاً ... دونه كاشح له وغيور لم يزل يتبَع الحبيبَ بطرْف ... دمعُه للفراق دمعٌ غزير وينادي والشوق يضرِم في الأح ... شاء ناراً لها لديه سعير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 841 يا إلاهي قرّب مزار حبيبي ... ولأنْت القدير نِعْمَ النّضير حماد بن الرفا الفاسي الشاعر له في الاستعطاف، والتنصل من الذنب، والاستعفاء من العتب: دع العتْبَ وارجع لي حنانيك للعتبى ... وواصل إليّ الكَتْبَ واغتفر الذّنبا وكن كالذي ما زال في الناس مُحسناً ... وإن هم أتوا ذنبا وهاجوا به كرْبا وللعفو عن ذنب المُسيء عبادة ... تطيب بها ذكراً وتُرضي بها الرّبّا ونحرز في أثنائها خيرَ مكسبٍ ... يكون جمالاً في الحياة وفي العُقبى فإن اعترافي أنني لك مُذنب ... يجدّد لي عهداً ويثمرُ لي قربا لعلّ الليالي تستجِدّ لقاءنا ... فأشكو بِعاداً زادني فيكمُ حُبّا لقد طال هذا البعد حتى أذاقَني ... عذاباً ولقّاني به خطبُه خطْبا إذا الريح هبّتْ من سماوة أرضكم ... ذهِلتُ فلم أملِك فؤاداً ولا لُبّا وأستخبرُ الركبانَ عنكم لعلّني ... بذاك أقضي من سلام لكم نحبا فلا مبلغ عنكم إليّ رسالة ... ولا قائل خيراً ولا دافع كتْبا فأرجع مكلوم الفؤاد تشب به ... نار الصبابات لي شبّا لعل الذي أفضى بنا لتفرّقٍ ... يسنّي لنا لقيا ويُسنِي لنا قربا يحيى بن عمارة له من قطعة: قد كنت من قبلِ أن أهوى وأعشق لا ... أرثي لأهل الهوى في كل ما صنعوا فاليوم أعذرُهم فيه وأرحمُهم ... إذ نحن فيه سواء كلنا شرَع فدع عتابكَ في ريم علِقْتَ به ... فقلما عاشق بالعَتْب ينتفع قد حصحص الحقُّ إني عاشق كلِفٌ ... والعاشقون لسلطان الهوى تبَع علي بن عبد الله المقدسي أورد قوله في الطيف: طاف طيفُ الحبيب ليلاً وزارا ... ما رثى لي لما ألمّ ازْوِرارا عجباً منه إذ أتى ما تأنّى ... بل ثنى طيفَه المُلِمّ وسارا هاج لي ساكناً وأقلق منّي ... أضرم الشوق في الجوائح نارا ولقد نمتُ قبل زورة سارٍ ... عن أمور هيّجْن لي تذْكارا أذكرُ الحيّ والصّبا وسُليْمى ... وأموراً أظهرتُ منها استتارا إذ عيون الخطوب عنّا نيام ... وثغور القبول تُبدي افتِرارا أمطر الله بالغُوَير ربوعاً ... وسقاهُنّ وابلاً مدرارا كم قطعنا بها ليالي وصلٍ ... ووصلنا بها السرور نهارا ولنَشْرِ الصباح عرْف ذكيّ ... عِنبَريّ النّسيم لمّا استثارا في رياض مدبّجات بنَورٍ ... مدرِجات كِمامها أزهارا وكؤوس المُدام تجلى علينا ... حملت في لجَينهنّ نُضارا من رحيق في الدنّ يذكر كسرى ... قِدَماً في الزمان والنّوْبَهارا أنجُم في الكؤوس تُبدي طلوعاً ... لعيون وفي اللهى أنوارا والتي تيّم الفؤاد هواها ... شمس حُسنٍ بها العقول حيارى يُخجل الناظرين منها محيّا ... كمحيّا الصّباح حين أنارا هي أنْسي ولذّتي ونديمي ... ودوائي إذا شكوتُ أوارا شمّرتْ للوقوف منها بُروداً ... وأماطت عن وجنتَيْها خِمارا ورمتني بأسهُمٍ من لِحاظٍ ... ماحطَتْ من فؤادي الأعشارا ومتى شئت وصلها كان منها ... كون منع ولا رقيبٌ يُدارى فلقد حال من زمانيَ حال ... ترك العقل والفؤاد مُطارا وسعى بيننا من البيْن ساع ... شتّ شملاً مستجمعاً حين ثارا قدرٌ سابق وحكم نَفوذ ... وخطوب رددْن منها المُعارا أودعَتْنا الخطوب في كل أرض ... ودعتنا لحكمهنّ اضطرارا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 842 ليت شعري وقد تنكّر دهري ... هل أرى لي عليه منه انتصارا لا جزى الله زائر الطيف خيراً ... إنه هاج لي أموراً كبارا سوف أبكي أيام قرب سُليمي ... ما حييتُ وأندُبُ الأقدارا جماعة أوردهم ابن بشرون في مختاره من أهل المغرب الأوسط الذي كان لبني حماد واستولى عليهم عبد المؤمن الفقيه أبو حفص عمر بن فلفول قال: هو كاتب السلطان بتلك البلاد يحيى بن العزيز الحمادي وخالصته وصاحب سرّه، وله اليد الطولى في الإنشاء الدال إعجازه فيه على البلاغة المؤدية لسحره في نثره. قال: أنشدني له الأمير عبد الله بن العزيز الحمادي عند الاجتماع به في جزيرة صقلية: وقالوا: نأى عنك الحبيب فما الذي ... تراه إذا بان الحبيبُ المواصل فإن أنت أحببتَ التصبّر بعده ... ولم تستطع صبراً فما أنت فاعل فإنّ الهوى مهما تمكّن في الحشا ... وحلّ شغاف القلب ليس يُزايلُ فكم رام أهلُ الحب قبلكَ سلوة ... وزادهم عنها هوىً متواصل فقلت: ألا للصّبر مفزع عاشق ... وللصبر أحرى بي وإن غال غائل سأصبرُ حتى يفتح الله في الهوى ... بوصلِ حبيبٍ طال فيها الطوائل أبو عبد الله محمد الكاتب المعروف ب ابن دفرير ذكر أنه أحد كتّاب الدولة الحمادية، المتصرّفين في الكتابة السلطانية، وأورد له رسالة كتبها عن سلطانها يحيى بن العزيز الحمادي، وقد فرّ من مدينة بجاية أمام عسكر عبد المؤمن يستنجد بعض أمراء العرب بتلك الولاية: كتابنا ونحن نحمد الله على ما شاء وسرّ، رضىً بالقسم وتسليماً للقدر، وتعويلاً على جزائه الذي يجزي به من شكر، ونصلي على النبي محمد خير البشر، وعلى آله وصحبه ما لاح نجم بحر، وبعد: فإنه لما أراد الله أن يقع ما وقع، لقبح آثار من خان في دولتنا وضبع، استفز أهل موالاتنا الشنآن، وأغرى من اصطنعناه وأنعمنا عليه الكفران، فأتوا من حيث لا يحذرون، ورموا من حيث لا ينصرون، فكنّا في الاستعانة بهم والتعويل عليهم كمن يستشفي من داء بداء، ويفرّ من صلّ خبيث الى حيّة صماء، حتى بغت مكرهم، وأعجل عن التلاقي أمرهم، ويرد وبال أمرهم إليهم، فعند ذلك اعتزلنا محلة الفتنة، وملنا الى مظنة الأمنة، وبعثنا في أحياء هلال نستنجد منهم أهل النجدة، ونستنفر من كنّا نراه للمهم عدّة، وأنتم في هذا الأمر أول من يليهم الخاطر، وتُثنَى عليه الخناصر. أبو القاسم عبد الرحمان الكاتب المعروف ب ابن العالمي من كتاب الدولة الحمادية، له من رسالة: ولما كنت في مضمار سلفك جارياً، ولنا موالياً، وفي قضاء طاعتنا متباهياً، رأينا أن نثبت مبانيك، ونؤكد أواخيك، ونوجب لك ولخلفك، ما أوجبه سلفنا لسلفك، تمييزاً لهم عن الأكفاء، ومجازاة لهم على محض الصفاء والولاء، فاستدم هذه النعمة العظيم خطرها بالشكر فأنت به جدير، ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً إن الله غفور شكور. علي بن الزيتوني الشاعر ذكر أنه شاعر المغرب الأوسط وأديبه، وألمعيّه وأريبه، وهو صاحب توشيح وتوشيع، وتقصيد وتقطيع، وقد سار شعره غناء، وأورد من شعره قوله في ذم المركاز: لا آكل المِرْكازَ دهري ولو ... تقطّفه كفّي بروض الجنان لأنه أشبه فيما يُرى ... أصابع المصلوب بعد الثمان وقوله من قصيدة في مدح بعض القضاة وهي: نهاه عن محارمه نُهاه ... وقرّبه لخالقه تُقاه وقال الله ليس سواي ربّ ... ولا لشَريعتي أحدٌ سواه هو البَرّ العطوفُ على البرايا ... وبالأيتام يرحمُ من أتاه وشدّ به عُرى الإسلام حتى ... رأينا النُجْح وانعقدت عُراه أمينٌ عدلُه غمر البرايا ... فما يُخشى على أحد قضاه مسيحٌ خطوه في كل علم ... ومن ذا يقتفي أبداً خطاه أبي شأنه طلب المعالي ... ومن يحصي ثناه أو نداه لقد ظفرت يد علِقَتْ نداه ... ومن ناواه قد تبّتْ يداه ابراهيم بن الهازي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 843 ذكر أنه صاحب توشيح مليح، وربما قصر إذا قصّد، وأحسن إذا قطّع، ومن شعره: ألا فدعوا عذلي فما أسمع العَذْلا ... كفاكم فإنّ العذل قد زادني خبْلا وهي قصيدة واهية ومقطعها: فواصلْ وقاطِع لستُ أبغي تحوّلاً ... فإن شئتمُ جوْراً وإن شئتمُ عدلا علي بن الطبيب ذكر أنّه أديب وطبيب، وأورد من شعره قوله: يا حملة الحُسنِ هبْ لي منك إحسانا ... إني أحبّك إسراراً وإعلانا ومنها: إني لعبدَك لا أبغي بكم بدلاً ... ولا أحبّ سواك الدهرَ إنسانا يوسف بن المبارك ذكر أنه من موالي بني حماد، وله في مدائحهم من الشعر ما انسحب عليه ذيل حماد، ومن ذلك قوله: هناكُمُ النّصر ونيل النّجاح ... في يومكم هذا بسُمْر الرّماح فأنتم الصِّيدُ الكرامُ الألى ... شادوا العلا بالنّائل المُستَماح ما منكم إلا همام حوى ... مناقباً جُلّى ومجداً صُراح لا ترهبون الدهر أعداءكم ... وتمنعون العِرْض من أن يُباح وتبذلون الرّفْدَ يوم النّدى ... وتسْعرون الحرب يوم الكفاح وترفعون الجار فوق السُهى ... وتُكرِمون الضيف مهما استماح لا زلتم تجنون زهر العلا ... في معرض العِزّ بحد الصّفاح ابن أبي المليح ذكر أنه طبيب ماهر، وكاتب شاعر، واشتهاره بالطب، وله مقطّعات جالبة للحب، سالبة للب، وله من قصيدة عيدية في الأمير عبد الله بن العزيز الحمادي يصف جنائبه، وقضاءه حق العيد وواجبه: وجالتْ به جرد المذاكي كأنها ... عذارى ولكن نطقهنّ تحمحم بصفراء كالتّبرِ العتيقِ صقيلة ... ودهماء يتلوها كُميْت وأدهم وأشقر لو يجري وللبرق جهده ... لكان له يوم الرّهان التقدم وقام لواء النّصر يتبع راية ... بها العزّ معقود عليها متمَّم فلما قضى حق الصلاة معظماً ... ثنى والهدى في وجهه يتوسّم فلا زال يقضي نفْلهُ وفروضه ... وبرْدُ علاه بالمدائح مُعلَم علي بن مكوك الطيبي أورد له هذه الأبيات: ألا ليت شعري هل من الدهر عودة ... ليقرب ناءٍ ليس يُدرَى له أينُ تكدّر صفو العيش مذ جدّ بينُنا ... وأي التِذاذ لا يكدّره البين لعلّ الذي يبلي ويشفي من الأسى ... يُعيد الذي ولّى فكل به هيْنُ غدوتُ من الأيام في حال عسرة ... تطالبني ديْناً وليس لها ديْن حماد بن علي الملقب بالبين له: لمن أتشكّى ما أرابَ من الدهر ... وقد ضاق بي عن حملِ أيسرِه صدري وقلّ الذي يجدي التشكّي وأي من ... أرجّيه في يومي لقاصمة الظهر أراني قد أصبحت في قطر باجةٍ ... غريباً وحيداً في هوان وفي قهر فقيراً لمن قد كنت أغنى بنيله ... وأنعم في أيامه مدّةَ العمر أرنِّقُ عيشاً كدّر الدهر صفوه ... وصيّره بعد انجِبار الى الكسر وعهدي به روضاً أريضاً وجنّة ... مذلّلة الأكناف رائقة الزهر وإن رمتُ أن أغدو لأهلي عاجلاً ... بلا مهلٍ في أوّل الركب والسفْر ثنائيَ عنه عامل الثّغر وانثنى ... يقابلني بالعُنف منه وبالزّجر وقال: اقتنع واقنَعْ برزق تناله ... بلطف لعلّ اليُسرَ يذهب بالعُسر وأطرق إطراق البُغاث لدى الصقر ... كأنْ لم أكن إذ ذاك منه على ذكر محمد بن البين أورده الرشيد بن الزبير في كتاب الجِنان من الأندلسيين، ولم أعرفه إلا منه، وأورد له: جعلوا رُضابَك كي يُحرّمَ راحا ... ورأوا به قتلَ النفوسِ مباحا نشروا عليك من الذّوائب حِندِساً ... فملأته من وجنتيك صباحا ومتى أحسّوا منك طيفاً طارقاً ... ملؤوا أعنّتهم إليّ رياحا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 844 ضربوا عليك من القَتام سُرادِقاً ... ركَزوا شعاع الشمس فيه رماحا وجلَوْا ظلام الليل بالصبح الذي ... قسموه بين جيادهم أوضاحا وأتوا بغدران المياه جوامداً ... قد فصّلوها ملبساً وسلاحا هذا معنى حسن، قد جوّده الأعشى النحوي من شعراء المغرب، ولا أدري أيهما أسبق إليه: ملك إذا ادّرع الدلاص حسبته ... لبس الغديرَ وهزّ منه منصلا ولمحمد بن البين: بُرودٌ قد خلِقنَ عليّ حتّى ... حكينَ الصّبرَ في يوم الوَداع فجدّدْها ليشهد كلّ راءٍ ... بأني من هباتِك باتّساع وحمِّلْ عاتِقي ثقْلَ المعالي ... فإنّي بالتحمّل ذو اضطلاع باب في ذكر عدة من شعراء المغرب من أهل العصر الأديب الحكيم أبو الصلت أمية ابن عبد العزيز بن أبي الصلت الأندلسي كان أوحد زمانه، وأفضل أقرانه، متبحراً في العلوم، وأفضلُ فضائله إنشاء المنثور والمنظوم، وكان قدوة في علم الأوائل، ذا منطق في المنطق بذّ سحبان وائل، سمعت أبا الفتح نصر بن عبد الرحمان بن إسماعيل الفزاري في ذي الحجة سنة سنتين ببغداد وروى لي كثياً من شعره: أن أمية من أهل المغرب، وسكن ثغر الإسكندرية، وله الباع الأطول في الأصول والتصانيف الحسنة على أسلوب كتاب اليتيمة للثعالبي، ثم وقع ديوان هذا أبي الصلت بيدي في دمشق فأخذته وانتخبت منه ما أوردته ونبهت على ما هو من روايتي في مواضعه، وكل شره منقح ملقح، ممدح مستملح، صحيح السبك، محكم الحوك، نظيم السلك، قويم الفلك، وذلك على ترتيب الحروف، وقد قرأت في ديوانه شعره بتاريخ سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، ولا شك أنه عاش بعد ذلك. الهمزة فمن ذلك قوله في غلام اسمه واصل وهو مغنٍ مليح: يا هاجراً سمّوه عمداً واصلا ... وبضدّها تتبيّن الأشياء ألغيتَني حتى كأنّك واصل ... وكأنني من طول هجرك راء وله ملغزاً بالظل من قطعة: أُحاجيك ما لاهٍ بذي اللبِّ هادئ ... على أنه لا يعرفُ اللهْوَ والهُزْءا بعيد على لمس الأكفّ منالُه ... وإنْ هو لم يبعد عِياناً ولا مرْأى يُراسِل خِلاً إن عدا عدوَ مسرعٍ ... حكاه وإن يبطئ لأمرٍ حكى البطئا ترى الرّحْلَ محمولاً عليه كأنّما ... مراسله من دونه يحمل العِبئا ولم يخشَ يوماً من تعسف قفْرةٍ ... أساودها تسعى وآسادها تدْأى يغيب إذا جنح الظّلام أظلّه ... لِزاماً ويبدو كلّما أنِسَ الضّوءا ولكن يحيى ضده في ثباته ... فلا برعتنا الحادثات به رزءا مليك إذا استسقى العفاة يمينه: توهّمتها من فيض نائلها نوءا شوى مجده قلب الحسود لما به ... وأعياه أن يلقى لعلّته بُرءا وقوله: كم أرجّي الأراذلَ اللؤماءَ ... وإخال السّراب في القفْر ماءَ ويْحَ نفسي ألا جعلت لربّي ... دون هذا الأنام هذا الرجاءَ وقوله: لا غرْوَ أنْ سبقتْ لهاكَ مدائحي ... وتدفّقتْ جدواك ملءَ إنائها يُكسى القضيب ولم يحن إثماره ... وتطوّق الوَرْقاء قبل غِنائها الباء وقوله من قصيدة في الأفضل سنة أربع عشرة وخمسمائة: نسختْ غرائب مدحكَ التّشبيبا ... وكفى به غزَلاً لنا ونسيبا لله شاهِنْشاه عزمَتُك التي ... تركت لك الغرضَ البعيدَ قريبا لا تستقرّ ظباك في أغمادها ... حتى تروّيها دَماً مصبوبا والخيللا تنفكّ تعتسِف الدّجى ... خبباً الى الغارات أو تقريبا تصبو الى ما عُوّدتْ من شنها ... فتواصل الإسآدَ والتّزويبا وترى نَمير الماء صفْواً كلّما ... وردَتْه طرْقاً بالدّماء مَشوبا ومنها في صفة الخيل: من كل منتصب القَذال تخالُه ... رشأ بإحدى الجهلتين رَبيبا حكم الوجيهُ له وأعوَج أنّه ... سيجيء فرْداً في الجياد نجيبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 845 من أدهمَ للحِلي فوق لِباتِه ... شُهب تُضيء ظلامَه الغربيبا متألق إفرَنْده في حلكةٍ ... وكأنّما ثبجٌ عله أذيبا أو أشهب ضبغ النّجيع أديمه ... لوناً أعار لحسنه تذْهيبا ما خِلْت ريحاً قبله امتُطيَت ولا ... أبصرتُ برقاً قبله مركوبا تُردي بكل فتىً إذا شهد الوغى ... نثر الرّماح على الدّروع كعوبا قد لوّحته يدُ الهواجر فاغتدى ... مثل القناة قصافةً وشحوبا يتسابقون الى الكفاح بأنفسٍ ... ترك الإباء ضرامها مشْبوبا تخِذوا القنا أشطانهم واستنبطوا ... في كل قلب بالطِّعان قليبا أحييتَ عدل السّابقين الى الهدى ... وسلكتَ فيه ذلك الأسلوبا وبثثتَ في كلّ البلاد مهابة ... طفِق الغزال بها يؤاخي الذّيبا وهمَتْ يداك بها سحائبَ رحمة ... ينهلّ كل بنانة شؤبوبا ومنها: ونصرتَ دينَ الله حين رأيته ... متخفّياً بيد الرّدى منكوبا فالخيل تسرع والفوارس ترتمي ... مُرْداً الى أجر الجِلاد وشيبا ومنه في الدرع: متسَرْبِلي غُدَر المياه ملابِساً ... مُستنْبِطي زُيُر الحديد قلوبا ونصبتَ من هام العِدى لك مِنبراً ... أوفى حسامك في ذراه خطيبا لما أعدّوا البيض هيفاً جُرّدا ... والطّاس يفهقّ مرّة والكوبا أعددتَ للغمرات خير عَتادها ... رمحاً أصمّ وسابحاً يعْبوبا ومنها في الدرع: ومُفاضة كالنهر درّج متنَه ... ولعُ الرّياح به صباً وجنوبا ومنها في السيف: ومهنّدٍ عضْب الغرار كأنّما ... درجَتْ صغار النّمل فيه دبيبا ذكر الكميّ مضاءَه في وهمه ... فرأيتَه بنجيعه مخضوبا تعطي الذي أعطتكه سمْر القنا ... أبداً فتغدو السّالبَ المسلوبا وكّلْتَ فكرَك بالأمور مراعياً ... وأقمتَ منه على القلوب رقيبا ومنها: وأنا الغريب مكانُه وبيانُه ... فاجعل صَنيعَك في الغريب غريبا وقوله من قصيدة في يحيى بن تميم سنة اثنتي عشرة وخمسمائة في صفة الحرب: تألّق منك للخُرْصان شُهْب ... على لِمم الدّجى منها مشيبُ نجوم في العجاج لها طلوعٌ ... وفي ثغْر الكُماة له غُروب ومنها: وقد غشّاك من سود المنايا ... سحائب ودقهنّ له صبيب فلا برق سوى بيض خفاف ... تُقَطُّ بها الجماجم والتّريبُ تغادر كل سابغة دلاص ... كما شقّت من الطرب الجيوب وقوله من قصيدة في مدحه: بكم فضَلَ المشرقَ المغربُ ... وفي مدحكم قصّر المُطنِب وما اعترف المجدُ إلا لكم ... فليس الى غيركم يُنسب توارثتموه أباً عن أبٍ ... كما اطّردت في القنا الأكعب ومنها: إذا بلدٌ ضاق عن آملٍ ... فعندكمُ البلد الأرحب بحيث ينادي النّدى بالعُفاة ... هلمّوا فقد طفحَ المشرب ومنها: دنا كرَماً ونأى هيبة ... فتاهَ به الدّست والموكب وسالت ندًى وردًى كفّه ... فهذا يرجّى وذا يرهَبُ وقوله من قصيدة في مدح حسن بن علي بن يحيى بن تميم: عذيريَ من شيْب أمات شبابي ... وداعٍ لغير اللهو غير مُجاب فقدتُ الصّبا إلا حُشاشةَ نازع ... تداركتها إذ آذنَتْ بذهاب بصفراءَ من ماء الكروم سقيتُها ... بكفّ فتاةٍ كالغلام كعاب تُنير فيستغشي الزجاجة نورها ... كما ذرّ قرن الشمس دون سراب فهل من جُناح ويكما أو تِباعةٍ ... على رجل أحيا صبًى بتصاب ومنها: ولم يطْف نار الهمّ مثل رجاجة ... تُشَجّ حُميّاها بماء رضاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 846 ولثْم خدود كالشّقائق غضّة ... وضمّ قدود كالغصون رِطاب فقم يا نديمي سقّني ثم سقّني ... فبي ظمأ أصبحت منه لِما بي أما والذي لو شاء لم يخلق الهوى ... لهوني ولا عذْبَ اللّمى لعذابي لقد طال ذمّي الدّهْرَ حتى أقرّني ... من ابن عليٍّ في أعزّ خِصاب وجدت ذراه الرحبَ أكرمَ منزل ... فقيّدْت أفراسي به وركابي وكم ردّدَتْ نحوي الملوكُ خطابها ... فما حليتْ منّي بردّ جواب وقوله من قصيدة في مدحه: لم يدعُني الشوقُ إلا اقتادني طرباً ... ولم يدعْ ليَ في غير الصّبا أرَبا وذو العلاقة من لجّ الغرامُ به ... وكلّما ليمَ أو سيمَ النزوع أبى كانت لنا وقفة بالشِّعْب واحدة ... عنها تفرّع هذا الحب وانشعبا ولائم ليَ لم أحفل ملامته ... ولا سمحتُ له منّي بما طلبا قال: اسلُ فالحب قد عنّاك قلت أجل ... حتى أراجعَ من لبّي الذي عزَبا طرفي الذي جلب البلوى الى بدَني ... فلُمْه دوني في الخطب الذي جلبا هو الهوى وهواني فيه محتمَل ... وربّ مُرّ عذاب في الهوى عذُبا أما ترى ابنَ عليٍ حين تيّمَه ... حبّ العُلا كيف لا يشكو له وصبا أغرّ ما برحت تثني عزائمُه ... سيفَ الهدى بنجيع الشّرك مُختضبا قد أصبح المُلك منه في يدي ملِكٍ ... مُرّ الحفيظة يُرضي الله إن غضبا لو أنّ أيسر جزء من محاسنِه ... بالغيث ما كفّ أو بالبدر ما غرَبا ومنها في وصف قصر له بناه: إذا سقى الله أرضاً صوبَ غادية ... فليسقِ قصرَك صوبَ الرّاح ما شربا قصر تقاصرَت الدنيا بأجمعها ... عنه وضاق من الأقطار ما رحُبا ومنها يصف شجر النّارنج: وحبّذا قُضُب النّارنج مُثمرة ... بين الزّبرجَدِ من أوراقها ذهَبا وفي صفة النهر: وحبّذا الوُرق فوق القُضب ساجعة ... والماء في خلَل الأشجار منسربا سلّتْ سواقيه منه صارماً عجباً ... لا يأتلي الجدْبُ منه مُمعِناً هربا حُسام ماءٍ إذا كفّ الصّبا انبعثت ... لصقلِه تركتْ في متنه شُطُبا صفا ورقّ فكاد الجو يشبهه ... لو أن جواً جرى في الروض وانسكبا ومنها في صفة الخمر: ...... ترتمي شرراً ... فوق البنان وهذا يرتقي حبَبا شمطاء ما برحَتْ في الدنّ قائمة ... تفني الليالي والأيام والحِقَبا حتى لقد جهلتْ للبُعْد عاصرَها ... وأنسيت لتراخي عهدها العنبا وقوله فيه: بسُمر الرّماح وبيض القُضبْ ... تُنال العُلا وتُحاز الرُتبْ وما بلغ المجدَ إلا فتًى ... يمتّ إليه بأقوى سببْ فكن كلِفاً بالقَنا والظُبى ... إذا كلِفوا باللّمى والشّنبْ إليّ تناهى الهوى مثلما ... الى ابن عليّ تناهى الحسَب كأن هواي قدودَ المِلاح ... هواه قدود الرّماح السُلُبْ أهيم ببيض الدُمى مثلما ... تهيم يداه ببيض القُضُبْ ويُسهرني صدّ ذات اللّمى ... ويُسهِره نيلُ أعلى الرُتبْ ولا أقبل العذْرَ فيمن أحب ... ولا يقبل العذْلَ فيما يهَبْ ويخفق قلبي جوًى كالبُروق ... وتهمي يداه ندًى كالسُحُبْ وقد فعل السُقمُ بي والنُحو ... لُ فعلَ عوارفِ بالنّشبْ فلا حسُّ في بدني للحياة ... ولا حسّ في ظله للنّوَبْ وعهد جفوني بطيب الكرى ... كعهد مُغالبِه بالغَلَبْ ووجدي ومفخرُه باقيا ... ن في كلّ حين بقاءَ الحقَبْ فأبقى لي الوجدَ جيدٌ وخال ... وأبقى له المجدُ جدّاً وأبْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 847 وقرأت في مجموع السيد أبي الرضا الراوندي بخطه: أنشدني الزّكي بن طارق، أنشدني سليمان بن الفياض لأبي الصلت: إذا كان جسمي من تُراب فكلّها ... بلادي وكل العالمين أقاربي ولا بدّ لي أن أسألَ العيشَ حاجة ... تشُقّ على شُمّ الذّرى والغوارب وقوله: وربّ قريب الدار أبعده القِلى ... وربّ بعيد الدار وهو قريب وما ائتلفَتْ أجسام قومٍ تناكرتْ ... على القُرْب أرواحٌ لهم وقلوب وقوله يصف بِركة الحبش: علّلْ فؤادَك باللذات والطرب ... وباكرِ الراح بالطّاسات والنُخَب أما ترى البِركةَ الغنّاء قد لبِست ... فرْشاً من النّور حاكته يد السُحُب وأصبحتْ من جديد النّبْت في حللٍ ... قد أبرز القطْر فيها كلّ محتجِب من سوْسنٍ شرقٍ بالطّلّ محْجره ... وأقحوانٍ شهيّ الظَّلم والشّنَب وانظر الى الورد يحكي خدّ محتشم ... من نرجس ظل يحكي لحظَ مرتقب والنيل من ذهب يطفو على ورقٍ ... والراح من ورِقٍ يطفو على ذهب وربّ يوم نقعْنا فيه غُلّتنا ... بجاحم من حشا الإبريق ملتهب شمس من الراح حيّانا بها قمر ... موفٍ على غُصنٍ يهتز في كثب أرخى ذوائبه واهتزّ منعطفاً ... كصَعْدة الرمح في مسودّة العذب وقوله في العذار: دب العِذار بخدّه ثم انثنى ... عن لثْم مبسمه البَرود الأشنَب لا غَروَ أن خشي الرّدى في لثمِه ... فالرّيق سُمّ قاتل للعقرب يقال: من خواص ريق الإنسان أنه يقتل العقرب، وهو مجرَّب. وقوله وهو من رائق شعره: صَبا إذ تنسّم ريّا الصِّبا ... ولجّ فأنّب من أنّبا وكان على العذْل سهل المرا ... م سمحَ المَقادة فاستصعبا ولم يُدْعَ للغَيّ إلا أطاع ... ولم يُدْعَ للرشد إلا أبى فكيف السلوّ لصب يرى ... عذاب الصّبابة مستعذبا خليليّ لي والهوى والرقيب ... حديث يحلّ عقود الحُبى وبي والركائب والظّاعنين ... ظباء لواحظهنّ الظُّبى وخلفَ الستور وطيّ الخدور ... ودون العَجاج وتحت الكُبا شموس مطالعهنّ الجيوب ... وقُضْب مغارسهنّ الرّبى حشدن لقتليَ جيشَ الغرام ... وفرّقنَ صبري أيدي سَبا وقوله: لا تدْعُنا ولتَدْعُ من شئتَه ... إليكَ من عُجْمٍ ومن عرب فنحن أكّالون للسُحْت في ... دارك سمّاعون للكذب ومن قوله وقد جفا بعض إخوانه في سكره: يا ليت أنّ حبابَ الرمل ساورني ... بما استدار بأعلاها من الحبب فما يفي بالذي أخفيتُ من ندم ... ما نلتُ بالكأس من لهوٍ ومن طرب اصرف كؤوسكَ عنّي يا مصرّفها ... فليس لي بعدها في اللهو من أرب في ابن الغمامة لي مُغنٍ يؤمنني ... من أن تحكّم في عقلي ابنة العنب ومنها: تُرى رضيتَ فعاد الودّ أم بقيت ... بقيةٌ تتقاضى عودةَ الغضب التاء وقوله في ذم عبيده: قُيِّض لي في العبيد بخْت ... أتعسه الله في البُخوت لم أحْظَ منهم بغير فدْمٍ ... أرعنَ أم مبرمٍ مقيت يكْلم عند الكلام إن لم ... يفلح سكيتاً لدى السكوت ورُبّ عِلْقٍ ملكت منهم ... كالظبي في مُقلة ولِيت أتى على الصبر كل شيء ... أعطي من حسنه وأوتي تعجّ أحقاؤه عليه ... فويق خلخاله الصموت سهْل على طالبيه سمْح ... يجذبه خيط عنكبوت لا يأتَلي من مَقيل سوء ... عند ذوي الفِسْق أو مبيت يوسع أعْفاجَه طِعاناً ... من بطلٍ غير مستميت في كل يوم يجر عرضي ... في سكل الدور والبيوت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 848 أنعَت بالفسق فيه إفكاً ... والفسق من أقبح النعوت ورُبّ يوم حُميت غيظاً ... من أسود اللون كالحَميت أرفَع صوتي به اشتِكاء ... والرفع في الصوت رفع صيت أقول: يا ربّ هل أراه ... تحت الدّبابيس واللتوت كم شمل كرْبٍ به جميع ... وشمل أنْسٍ به شتيت ويحَك يا نفس أيّ جهد ... من لؤم أخلاقهم لقيت وقوله في مدح حسن بن علي: أيُحيي الدهر منّي ما أماتا ... ويرجِع من شبابي ما أفاتا وما بلغَ الفتى الخمسينَ إلا ... ذوي غُصْن الصّبا منه فماتا يقول الركب هاتا دارَ هِندٍ ... فهل يُجدي مقالُ الركب هاتا ومنها: بكيتُ على الفُرات غداةَ شطّوا ... فظنّ الناس من دمعي الفُراتا وبي من ساكن الأحداج أحوى ... كريم العصر صدّاً والتفاتا أعادَ دلالُه وجْدي جميعاً ... وأوسع صدّه صبري شتاتا وولّى بالعزاء غداةَ ولّى ... وكيف يردّ ما ولّى وفاتا فسائلْ عن جفونيَ كيف باتت ... وعن قلبي المعذّب كيف باتا أما لو عادني لأعاد روحي ... وأحيا أعظُمي الرِّمَم الرّفاتا كما أحْيى ندى الحسن البرايا ... وكان الغيثَ إذ كانوا النّباتا مليك ما لجأت إليه إلا ... قمرت من الحوادث ما أماتا يهزّ الرّفد عِطفيه ارتياحا ... ويحكي الطّودَ في الهيجا ثباتا وصلت بحبله الممدود حبلي ... فما أخشى له الدهر انبتاتا وهابتْني الليالي في ذراه ... فلست بخائف منها افتياتا ولما حدّث الرُكبانُ عنه ... بما أولاه من فضل وآتى مرقت إليه من خلل الدّياجي ... مروقَ السهم إذ جدّ انفلاتا الى أن حطّ رحلي في ذراه ... بحيث انقاد لي زمني وواتى فلا عدمَتْ به الدنيا جمالاً ... ولا فقدتْ له العلياء ذاتا الثّاء خلِّ لها في الزّمام تنبعث ... وارمِ بها البيد غير مكترث من كل موّارة المِلاط لها ... وخْدٌ متى تستثِرْه لم ترث فالحيّ كالميْتِ ما أقام على ... حالة بؤس والبيت كالجدَث أقسمت بالله بارئِ النّسَم ال ... باعث بالحقّ غير منبعِث والراقصات العِجال تبتدر الرُكْ ... نَ بغُرّ فوَيْقها شُعُث إليةً لا أاف من كذِب ... يقدح في صدقها ولا حنَثِ إنّ ابن يحيى كهل البصيرة والر ... رأي وإن لم يجُزْ مدى الحدث الواعد الوعدَ غيرَ منتقض ... والعاهد العهدَ غيرَ منتكث والأسد الورد والمكر والمو ... ت غرثان والكماة جُثي ... يُستمنح يجُدْ ومتى ... يُدْعَ به في ملمّةٍ يغِثِ فأي أرض لم يسْقِ مُجدبَها ... بصوبِ معروفِه ولم يغِثِ ... بدلُها الخنث ال ... فاتر ذات الدّلال والخنث ويلاه مما ينوب كل فتى ... لم يكتسب مجدَه ولم يرث ما الطيّب النّجر كالخبيث ولا ... يُعَدّ صفو النُضار كالخبث من نفرٍ لم تُدَرْ عمائمهُم ... يوماً على ريبَةٍ ولم تُلَثِ فالشّعر وقْف على محاسنهم ... وليس جِدّ المقال كالعبث وقوله في الغزل: جدّ بقلبي وعبثْ ... ثم مضى وما اكترثْ وا حزَني من شادن ... في عُقَد الصبر نفث يقتُل من شاء بعي ... نيه ومن شاء بعث فأي ودّ لم يخُنْ ... وأي عهد ما نكث الجيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 849 وقوله من قصيدة في مدح حسن بن علي بن يحيى بن تميم وقد كثر الإرجاف بخروج أسطول صاحب صقلية الى إفريقية وقصد به المهدية في سنة سبع عشرة وخمسمائة: للَفظك يُهجَر الروضُ البهيج ... ودون ثيابك المسكُ الأريجُ وأنت الشمسُ مطلعُها ذراها ... وليس سوى الدّسوت لها بروج وإن قُدِحَت زِناد الحرب يوماً ... وكان لنار معركةٍ أجيجُ تركتَ برأيك الأبطالَ فيها ... ومن تحتِ العجاجِ لها عجيج نماك بنو المعزّ فطُلتَ فرعاً ... كذا الخطّي ينميه الوشيج وأمّ جنابَكَ العافون طُراً ... كما يتيمّم الركنَ الحجيج وأعداهم سماحكَ فاستُميحوا ... ولولا البحر لم يفضِ الخليج ولما أن توعّدكَ النّصارى ... كما يتوعّد الأسد المهيج أتتك غُزاتها بالقُرب تتْرى ... ليُنقَضَ ما تُعالجه العُلوج وحولكَ من حُماتِكَ كل ذمر ... له في كلّ مشتَجَرٍ ولوج ومقرَبَةٍ تفرّج كل كرب ... إذا ملّتْ من الركض الفروج إذا كُسيَت دمَ الأبطال عادت ... ودون لبوسِها الذّهب النسيج وقد ريعتْ قلوب الشِّرك حتى ... كأنّ لها بأندلسٍ ضجيج فبلّغهم رسولكَ كي يقرّوا ... فإن الأمر بينهم مريج وإنّا الداخلون الى بلِرم ... إذا ما لم يكن منهم خروج لأنّا القومَ ترضيناالمذاكي ... إذا صهلتْ وتؤنسنا الرّهوج بقيتَ لنا وللإسلم ركناً ... تجانيه الخطوب ولا يَعيج ولا غُمِدَتْ لنُصرتك المواضي ... ولا حُطّتْ عن الخيل السّروج شأى الدرّ القريض بكم وتاهت ... على أدراجه هذي الدّروج وقوله في يحيى بن تميم بن المعز بن باديس: ذكرَ المعاهدَ والرسومَ فعرّجا ... وشجاه من طللِ البخيلةِ ما شجا هيفاءُ أخجلتِ القضيبَ معاطفاً ... والريمَ سالفة وطَرْفاً أدْعَجا وسقى النعيمُ بذَوبِه وجناتِها ... فوشى به حلل الرّياض ودبّجا الآس أخضر والشّقائق غضّة ... والأقحوان كما علمْتَ مفلَّجا لا تسألنّي عن صنيع جفونِها ... يوم الوداع وسلْ بذلك مَنْ نجا لو كنت أملِك خدّها للثَمتُه ... حى أعيدَ به الشقيقَ بنفسَجا أو كنت أهجع لاحتضنت خيالها ... ومنعت ضوء الصبح أن يتبلّجا فبثثت في الظلماء كُحْلَ جفونها ... وعقدت هاتيك الذوائبَ بالدّجى عرضت فعطلت القضيب على الكثي ... ب تأوّداً وتموّجاً وترجْرجا وكأنما استلبتْ غلالةُ خدّها ... من سيف يحيى حدّه المتضرّجا ملِك عنَتْ منه الملوك مهابة ... لأغَرّ في ظلم الحوادث أبلجا أحلى على كبد الوليّ من المُنى ... وأمرّ في حنكَ العدوّ من الشّجا من سرّ يعربَ ما استقلّ بمهدِه ... حتى استقلّ له المجرةَ معرَجا يا من إذا نطق العَلاء بمجده ... خرس العدوّ مهابة وتلجلُجا ومنها في صفة الفرس: عجباً لطرفك إذ سما بك متنُه ... كيف استقلّ بما عليه من الحِجى سبق البروقَ وجاء يلتهم المدى ... فثنى الرياح وراءه تشكو الوجى وعدا فألحق بالهجائن لاحِقاً ... وأراك أعوج في الحقيقة أعوجا كالسّيل مجّتْه المذانبُ فانْكفا ... والبحر هزته الصّبا فتموّجا ومشى العِرَضْنة بالكواكب ملجماً ... مما عليه وبالأهلّة مُسرَجا ما دون كفِّك مرتَجى لمؤمّلٍ ... لم يُلْفِ بابَك دون سيْبكَ مُرتَجا بكَ يُستجار من الزّمان وريْبِه ... وإليك من نوَبِ الليالي يُلتَجا فمتى نقِسْ بك ذا ندى كنت الحيا ... صدقتْ مخيلته وكان الزّبرِجا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 850 وإذا عِداك بغَوْا وسعتَهم ندى ... وتكرّماً وتعفُّفاً وتحرُّجا بشمائل تُبدى ولكن طيّها ... لفحات بأس تستطير تأجُّجا والبأس ليس ببالغٍ في نفعه ... حتى يُقارن بالسّماح ويُمزَجا لم نأل تدْأب في المكارم والعُلا ... متوقِّلاً هضباتِها متدرّجا حتى أقرّك ذو العلا بقرارها ... وشفا بدولتك الصدورَ وأثلجا فأقمْت من عُمَدِ السّياسة ما وهى ... وجلوْتَ من ظُللِ الضّلالة ما دجى فاسلم لدفع ملمّةٍ تُخْشى ودُمْ ... أبدَ الزّمان لنيلِ حظّ يُرتجى وأنشدي نصر الفزاري، قال: أنشدني أبو الحسن بن شهاب، قال: أنشدني أمية لنفسه: سترتْ وجهَها بخزّ وجاءتْ ... بمُدام منقَّبٍ في زجاج فتأملتُ في النِّقابَيْن منها ... قمَراً طالعاً وضوءَ سِراج الحاء وقوله من قصيدة: صَبّ براه السّقم برْيَ القِداح ... يودّ لو ذاق الرّدى فاسْتراح غرامُه الدهرَ غريم له ... وما لبَرْح الشوق عنه بَراح لم يرِم الوجدُ حشاه ولا ... خلتْ له جارحة من جِراح له إذا آنسَ برق الحِمى ... جوانحُ تخفِق خفق الجناح وإن شدَتْ ورقاء في أيكةٍ ... عاودَه ذكر حبيٍ فناح أصبحتُ في حلبةِ أهل الهوى ... أركُض في طِرْف شديد الجِماح وفي سبيل الحبّ لي مُهجة ... كان لها صبر جميل فطاح أغرى بها السُقم هوى شادنٍ ... لم يخْشَ في سفْكِ دمي من جُناح يعذّب القلبَ بهجرانِه ... وليس للقلب سواه انشراح تلاقتِ الأضداد في خمسةٍ ... على اتفاقٍ بينهم واصطلاح إن لان عِطفاه قسا قلبُه ... أو ثبتَ الخلخال جال الوِشاح يا ابنَ الملوك الصّيد من حمير ... ووارثِ المجدِ القديمِ الصّراح ليهْنكَ الجدّ الذي نلتَه ... بالجِدّ من أمرك لا بالمِزاح مزجتَ بالبأس النّدى والتُقى ... ملحٌ أجاجٌ وزُلالٌ قَراح كم منهلٍ مطْرَدٍ بالرّدى ... في موقف مشتَجِرٍ بالرّماح أوردته كل سليم الشّظى ... منعّلة أربَعُه بالرّياح كأنما سُربِل جُنح الدجى ... وبُرقِعت غرّتُه بالصباح ينصِت للنّبْأة من حشْرةٍ ... كأنها قادمة من جناح وقوله: أصحوتَ اليوم أم لستَ صاحي ... يوم نادوا أصلاً بالرّواح يوم تُصميكَ لِحاظ الغواني ... بسهام نافذات الجِراح جدّ بي ما كان منّي مِزاحاً ... ربّ جِدّ حادثٍ عن مِزاح فالحَ إن شئتَ أو دعْ فإنّي ... قد تمرّسْت بخطْبِ اللواحي ولئن غالَ شبابي مشيب ... كفّ من شأويَ بعد المَراح ولكم ردّ بغيظ عذولي ... فتولّى مؤيِساً من صلاح ببدور من سُقاة أداروا ... أنجُمَ الراح بأفلاك راح كلما ولّى أوان اغتباق ... شفَعوه بأوانِ اصطباح ورخيم الدلّ عذبِ الثّنايا ... شرِقِ الخلخالِ صادي الوِشاح باتَ يسقيني الى أن تردّى ... منكب الليل رداءَ الصباح كلما مال فقبّلت فاه ... مجّ خمراً في فمي من أقاح كنفَتْني لك يا ابن عليّ ... نظَرات منكَ راشتْ جناحي نزل الدهر بها عند حُلمي ... وأجاب الحظّ حسب اقتراحي وأيادٍ شفعتْها أيادٍ ... سبقتْ شكري لكم وامتداحي تلك راضت جامحاتِ الأماني ... فتأتّت لي بعد الجِماح ومنه يصف خلعة ممدوحه عليه: وحوى رِقّي بُرد سناء ... فوقَى عِطفي بكفّ السّماح رحت من هذا وهذا كأنّي ... قد تغشّيت دجى في صباح ومنها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 851 حكتِ الأعلام منه مُذالاً ... تتهاداه بنان الرياح كلما أرسلْتُه فوق متْني ... نازعَتْنيه صدور الرماح أفصحَتْ في شُكره وهي خُرْس ... عجباً منها لخُرسٍ فِصاح منَح من مَلِكٍ ليس يفْنى ... بحرُ جدواه على الامتياح يملأ المِغفَرَ والتاج منه ... قمر الدّسْتِ وليث الكفاح من ملوكٍ ملكوا الناس قِدْماً ... واسترقوا كل حي لِقاح كلّما اقتيدَ لهم واستُقيلوا ... غمَدوا في الصّفح بيض الصفاح دام في عمرٍ مديدٍ وعيشٍ ... خضِلِ الأكناف زاهي النّواحي وقوله: قل لذي الوجه المليحِ ... ولذي الفعلِ القبيحِ وشبهِ القمر الطا ... لعِ والغصنِ المروح نمْ خليّاً ودعِ التّس ... هيدَ للصبّ القريح يا عليلَ الجفنِ علّلْ ... بجَنى ريقِكَ روحي جد بوصلٍ منكَ أو مو ... تٍ من الصدّ مُريح الخاء وقوله في جواب أبي عبد الله بن بشير الشاعر التنوخي عن قطعة كتبها إليه في الوزن والروي: غير مجدٍ ملام غيرِ مُصيخ ... ومُمِضّ الكلام كالتوبيخِ أنتَ في اللوم لي كمن لقي النا ... ر بريح وقال يا نار بوخي أنا مالي وللهَياج وقرْع ال ... بطلِ الستميت في اليافوخ بين أسْدٍ جروا الأساوِدَ واستغ ... شوا الى الطعن ما نضَتْ من سلوخ قم خليلي فأنت أنبَل من عو ... شِرَ في مذهب المجون وأوخي قم نُدِرْها سُلافة حُبِستْ من ... قبلِ شيثٍ في الدّنّ أو أخنوخ فهي معلومة المناسبِ في أك ... رم عِرقٍ مجهولة في التاريخ بنت كرْمٍ تحبو الشّباب شباباً ... وتُريك الشّيوخَ غيرَ شيوخ فاسقنيه صفراءَ كالشمس أو حم ... راءَ صهباءَ فهي كالمريخ في ذرى من يستجبِن الليثَ إن هي ... جَ ويستبْخِل الحيا إن سوخي قلت لما سرتْ الى المُدلجِ السّا ... ري عطاياه والمقيمِ المُنيخ أين ثمْدٌ من غامرٍ ونضوبٌ ... من جموم وراشحٌ من نضوخ دام كهفَ العاني الطريد وغيث الر ... رائِد المقتفي وغوثَ الصّريخ في ارتقاءٍ في عزّة وتمادٍ ... وثبوت في ملكه ورسوخ الدال وقوله من تهنئة بمولود اسمه يحيى: وأفضلُ الأيام يوم غدا ... لمثْلِ يحْيى المُرتضى مولدا أعز مأمول الجَدا حاز عن ... أغرّ نائي العيب داني الجدا يلوح في المهد على وجهه ... تجهُّم البأس وبِشرُ النّدى فخِلتُ منه الليثَ والغيثَ ذا ... يرهَب غضبانَ وذا يُجتدى وكوكب الحسن الذي لا يني ... يضيء وجه السُرى الأرْبَدا والشمس والبدر إذا استجمعا ... لم يلْبَثا أن يلِدا فرْقَدا فابقَ له حتى ترى نجلَه ... وإن عرا خطب فنحن الفدا وقوله في الشّمعة: وناحلةٍ صفراءَ لم تدْرِ ما الهوى ... فتبكي لهجرٍ أو لطولِ بِعاد حكتني نُحولاً واصفراراً وحُرقة ... وفيضَ دموع واتصالَ سهاد وقوله في استزارة صديق: بمعاليكَ وجدّكْ ... جُدْ بلُقياك لعبدك حضر الكلّ ولكن ... لم يطِبْ شيء لفقْدِك وقوله: وورد عبق أهدَيْ ... تَه غضاً الى عبدك فلم أدرِ ومن أنقذ ... ني بالوصل من صدّك أذاكَ الورد من خد ... دكَ أم خدّك من ورْدك وقوله: لا تتركَن يوماً صفا ... لك فيه طيب العيشِ للغَدْ وانعم بها ورديةً ... من كفِّ ذي خدّ مورّد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 852 ذاب النُضار بوجنتي ... هـ وقام دونهما الزّبرْجَدْ قال الحكيم وقد رآ ... ها في زجاجتها توقّدْ ما بال هذي النّار لا ... ترقى كعادتها وتصعَدْ أم ما أرى الذّهب المذا ... ب أبى الجمودَ فليس يجمُدْ وقوله فيمن يجتهد في العلم ولا يفهمه: وراغبٍ في العلوم مجتهدٍ ... لكنه في القَبول جلمود فهو كذي عنّة به شبق ... ومشتهي الأكل وهو ممعود وقوله في غلام لابس قباء أحمر: أفدي الذي زار في قِباءٍ ... قايس في الاحمرار خدّه صينَ به جسمُه فحاكى ... سوسنَة علِّقَتْ بورْدَه وقوله في تمني قرب الدار: لئن أعرَضْتِ أو عادت عوادي ... أدالت من دنوّك بالبعاد فما بعُدَتْ عن اللُقيا جسوم ... تدانت بالمحبّة والوداد ولكن قرب دارِك كان أنْدى ... على كبِدي وأحلى في فؤادي وقوله في مجمرة: ومحرورةِ الأحشاء لم تدرِ ما الهوى ... ولم تدر ما يلقى المحبّ من الوجد إذا ما بدا برق المُدام رأيتَها ... تُثير غَماماً في النّدى من النّد ولم أرَ ناراً كلّما شبّ جمرها ... رأيت النّدامى منه في جنّة الخلد وقوله من قطعة: لا تظنّوا الدمعَ يطفئ ما ... ضُمّنَتْ من حرّها الكبِد إن نيران الهوى أبداً ... بمياه الدمع تتّقد قصَر البلوى على جسدي ... قيصَريّ عيده الأحد مُنتضٍ من لحظه ظُبَة ... ما لمَن أوْدى بها قوَد وقوله: لم أدْرِ والله وقد أقبلَتْ ... تُخجِل غُصْنَ ...... واستضحكت من لمّتي إذ رأتْ ... ............ أعِقْدها ألِّفَ من ثغرِها ... أم ثغرها ......... وقوله من قصيدة: معاهد الحيّ كنت أعهدها ... بسْلاً على الحائمين مورِدها والبيض بيض الظُبى مجرّدة ... يحْمي حِمى هندها مهنّدُها وكم وكم ليلةٍ غنيت بها ... تُسعِدني غيدها وأسعِدُها إذ لمّتي كالغُدافِ حالكَة ... يروق بيضَ الحسان أسودُها وإذ لياليَ كلّها غُرَر ... لا ينقَضي لهوها ولا دَدُها وربّ بيضاءَ من عقائِلها ... تبيت شمس النّهار تحسُدها تَشيم من جفنها إذا نظرتْ ... صوارماً في القلوب تغمُدها طرقتُها موهِناً على خطرٍ ... والنفس تُدني المُنى وتُبعِدها فبتّ ألهو بضم ناعمةٍ ... ينْدى بريّا العبيرِ موقِدها طاوٍ حشاها فعْمٌ مخلخَلها ... عذب لماها بضّ مجرّدها ترشفني من فُوَيهها برَداً ... يشبّ نارَ الهوى ويوقِدها وقوله في مغنّ قبيح الوجه حسن الصنعة: لنا مُسمِع ما في الزّمان له نِدّ ... ولكنّه في قُبحِ صورته قِرْد لطَرْفي وسمعي منه حالانِ هذه ... وأخرى إذا قايستَ بينهما ضدّ يعذّب طرفي حين يلْحَظ وجهَه ... وينعُم سمعي دونه عندما يشدو إساءَة مرآه لإحسان فعله ... كِفاء فلا حُسْن يدوم ولا سعْد وقوله في كلب صيد: خيرُ مُعدّ متّخَذْ ... ليومِ عيشٍ مستلَذّ منفرد بالحسن قد ... سوبق بالجُرد فبَذْ سبْق النّصول للقُذَذْ ... فما انبرى إلا مُغِذْ ولا رأى حتى أخذْ الراء وقوله من قصيدة: أجِدُّكَ لا يسليك بينٌ ولا هجْر ... وأنّ مواعيدَ الهوى دونَها الحشْر ومنها: ومهما طرقْتَ الحيّ لاقاكَ دونَه ... غراب وأعراب لقاؤهما مُرّ فهزتْ دوَينَ البيضِ بيض وأشرِعتْ ... الى الطّعن دون السُمرِ خِطيّة سُمرُ فلا قُربَ إلا أن يخيّله الكرى ... ولا وصلَ إلا أن يسهّله الفكرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 853 وبرْق دوَيْنَ الأبرقيْن كأنّما ... تُهَزّ له في الجوّ ألوية حُمرُ أرِقْت له حتى طوى الليل ثوبَه ... وزلّت توالي الشُهْب يطردها الفجرُ لعزمٍ قصرْتُ العيش فيه على السُرى ... وقلت لها سيري فموعدكِ القصْر فما برحتْ ترمي بعزمي وهمّتي ... إليه الفِجاج الغُبْر واللُجج الخُضرُ وأسري ولا يدري سُرى الليل موضعي ... كأنّ الدُجى صدري وشخصي به سرُّ الى أن حططْتُ الرّحْلَ منه بعرْصةٍ ... أقام الغِنى في ظلّها ونأى الفقرُ وعرّستُ حيث العيشُ أزهر مونقٌ ... وشرب الندى غمر وفينانُه نُضْر ومنها: تأتّى لي الإحسانُ لما مدحتُه ... وساعدني في شكره النظمُ والنثرُ وأوفت قوافي الشّعر تتْرى كأنّها ... عوارفُه عندي ونائلُه الغمْرُ وقوله من قصيدة: هي العزائم من أنصارها القدر ... وهْيَ الكتائب من أشياعها الظّفَرُ جرّدتَ للدّين والأسياف مغمدَة ... سيفاً تُفكّ بالأحداث والغيَرُ وقمتَ إذ قعد الأملاك كلّهم ... تذبّ عنه وتحميه وتنتصرُ بالبيض تُسقِط فوق البيض أنجُمها ... والسُمْر تحت ظِلال النّقْع تشتجِر بيض إذا خطبَتْ بالنّصر ألسُنُها ... فمن منابرها الأكباد والقصَر وذُبَّل من رِماح الخطّ مُشرعة ... في طولهنّ لأعمار الورى قِصَر تغشى بها غمرات الموت أسْد شرى ... من الكماة إذا ما استُنجدوا ابتدروا مستلئمين إذا شاموا سيوفهم ... شبّهتها خُلُجاً مُدّتْ بها غُدرُ قوم تطول ببيض الهند أذرعُهم ... فما يَضير ظُباها أنّها بُتُرُ إذا انتضوْها وذيل النّقْع فوقَهم ... فالشمس طالعة والليل معتكرُ ترتاح أنفسهم نحو الوغى طرباً ... كأنّما الدّم راحٌ والظُبى زهُر وإن هم نكصوا يوماً فلا عجب ... قد يكهم السّيف وهو الصارم الذّكر العَود أحمد والأيام ضامنة ... عقبى النجاح ووعد الله منتظَر وربما ساءت الأقدار ثم جرتْ ... بما يسرّك ساعات لها أخَر ومنها: لله بأسُك والألباب طائشة ... والخيل ترْدَى ونار الحرب تستعِر وللعجاج على صُمّ القنا ظللٌ ... هي الدُخان وأطراف القنا شرَر إذ يرجع السيف يبدي حدّه علقاً ... كصفحة البكر أدمى خدّها الخَفر أما يهولك ما لاقيتَ من عدد ... سيّان عندك قلّ القوم أو كثروا هي السّماحة إلا أنها سرَف ... وهي الشجاعة إلا أنها غَرر ومنها في الحث على الفتك بجماعة: فاضربْ بسيفكَ من ناواك منتقماً ... إنّ السيوف لأهل البغي تُدّخر ما كل حين ترى الأملاكَ صافحة ... عن الجرائر تعفو حين تقتدر ومن ذوي البغي من لا يُستهان به ... وفي الذّنوب ذنوب ليس تغتفَر إنّ الرماحَ غصون يُستظلّ بها ... وما لهنّ سوى هام العِدا ثمَر وليس يُصبح شمل المُلك منتظماً ... إلا بحيث ترى الهاماتِ تنتشِر أضحى شهِنْشاه غيثاً للنّدى غدِقاً ... كل البلاد الى سُقياه تفتقِر الطّاعن الألْفَ إلا أنها نسق ... والواهب الألفَ إلا أنها بِدر ملك تبوّأ فوق النّجم مقعدَه ... فكيف يطمع في غاياته البشَر يرجى نداه ويُخشى حدّ سطوته ... كالدهر يوجَد فيه النّفع والضّر وما سمعتُ ولا حُدِّثت عن أحد ... من قبله يَهب الدنيا ويعتذر جاءتكَ من كلمي الحالي محبّرة ... تُطوى لبهجتها الأبْراد والحبَر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 854 هي اللآلئ إلا أن لجّتَها ... طيّ الضّمير ومن غُوّاصها الفكَر تبقى وتذهب أشعار ملفّقة ... أولى بقائلها من قولها الحصَر ولم أطِلها لأني جِدّ معترِف ... بأنّ كل مطيلٍ فيك مختصر وقوله من قصيدة: مظلومة باللحظِ ظلاّمة ... تفعل بالأشفار فِعْل الشِّفار للدّمع في ما احمرّ من خدّها ... ترقْرق الطّلّ على الجُلّنار قيل لي - وأنا قد انتهيت الى كتب هذا البيت -: عرفنا معنى كونها ظلامة باللحظ، فما عنى مظلومة باللحظ؟ قلت: قد وقعت لي عدة معان، منها: يجوز أن يكون المراد أنها يؤثر فيها لحظ من ينظر إليها لرقّة بشرتها فهي مظلومة بلحظ الناس، ظلاّمة بلحظها، وذكر اللحظ وهو يعمّ الجميع. ومنه يجوز أن يكون المراد أنّ لحظه مريض سقيم دون سائر جوارحها، فهي مظلومة به، ومنها أنها بلحظها تظلم الناس بقتلها وتظلم نفسها بتقلد الدماء وتأثيمها، فهي مظلومة بلحظها ظلاّمة. ومنها في المدح: موقّر الشّيمة إن جاذبتْ ... يوماً يد الخفّة عطف الوقار وقوله من قصيدة: وقائلٍ: لو سلوتَ قلت له ... مالي على ما يسومني قُدرَهْ قليلُ عقلٍ وصادني قمر ... مبلبل الصّدغ حالك الطُرّهْ لم يصحُ منذ انتشت لواحظُه ... وكيف يصحو وريقه الخَمرَهْ ومنها: كم صاحب غرّني بظاهره ... وخان عند السِّفار والخِبرهْ يزورني مُثرياً ويطرقني ... ولا أراه في الضّيق والعُسرَهْ نفضت منه يدي وقلت له ... لا أشتهي الخِلّ سيئَ العِشره حسبي انحرافي عن الورى خلَفاً ... وحسب عيني بفقدهم قُرّهْ وقوله يصف فرساً أحمر ذا غرّة: كأنّ الصباحَ الطلق قبّل وجهه ... وسالَ على باقيهِ صافية الخمرِ ولما رآه الورد يحكيه صِبغة ... تعاظم واستعلى على سائر الزّهْرِ كأنّك منه إذ جذبتَ عِنانه ... على منكب الجوزاء أو مفرق النّسْر كأنك إذ أرسلتَه فوق موجةٍ ... تدفِّعُها أيدي الرّياح الى العبْرِ تدفّقتما بحرينِ جوداً وجودة ... ومن أعجب الأشياء بحرٌ على بحر وقوله يصف الهرمين: بعيشكَ هل أبصرت أعجبَ منظراً ... على طول ما أبصرتَ من هرمي مصر أنافا بأعنان السّماء وأشرفا ... على الجوّ إشراف السِّماك أو النّسر وقد وافيا نشْزاً من الأرض عالياً ... كأنّهما ثديان قاما على صدْرِ وقوله: تقريب ذي الأمر لأهلِ النُهى ... أفضل ما ساس به أمرَهْ هذا به أولى وما ضرّه ... تقريب أهل اللهو في النّدره عُطارِد في جُلّ أوقاته ... أدنى الى الشّمس من الزّهْرَه وقوله: تفكّر في نقصان مالِك دائماً ... وتغفَل عن نقصان جسمك والعُمر ويُثنيك خوف الفقر عن كل بُغيةٍ ... وخوفُك حال الفقر شيء من الفقر ألم ترَ أنّ الفقرَ حكّم صرْفَه ... وأن ليس من شيء يدوم على الدّهر فكم ترْحةٍ فيه أديلت بفرحةٍ ... وكم حالِ عُسرٍ فيه آلت الى اليسر وقوله في أبخر كثير الكلام: وذي حديثٍ لا ينقضي أبدَ الد ... هر على ما فيه من بخَر يصدِمُني منه إذ يكلّمني ... تنفس المستراح في السّحر لم أدرِ لمّا دنا أحدّثني ... أم بال في جوف منخري وخَري وقوله يصف الاصطرلاب: أفضل ما استحبَ النّبيل فلا ... تعدِلْ به في المُقام والسّفَر جِرْم إذا ما التمستَ قيمته ... جلّ عن التّبرِ وهو من صُفرِ مختصَر وهو إذ تفتّشه ... عن مُلَح العلم غير مختصر ذو مُقلةٍ تستَبين ما رمَقَتْ ... عن صائب اللحظِ صادق النّظر تحملُه وهو حامل فلكاً ... لو لم يُدَرْ بالبنان لم يدرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 855 مسكنه الأرض وهو مُنبِئُنا ... عن جُلّ ما في السماء من خبر أبدَعهُ ربّ فكرةٍ بعُدتْ ... غايتها أن تُقاسَ بالفِكَر فاستوجبَ الشُكرَ والثناءَ له ... من كل ذي فطنةٍ من البشر فهو لذي اللبّ شاهد عجب ... على اختلاف العقول والفِطر وإنّ هذي النجوم بائنة ... بقدر ما أعطيتْ من الصّور وقوله في قصر الليل في الوصل: يا ليلة لم تبِنْ من القِصَر ... كأنّها قُبلة على حذَر لم تكُ إلا كَلا ولا ومضَتْ ... تدفع في صدرها يدَ السّحر زار بها من هويت مستتراً ... والبدر في الليل غير مستتر فبتّ حتى الصباح مضطجعاً ... بين النّقا والقضيبِ والقمر حتى انقضتْ ليلة عدَلْت بها ... ما مرّ لي في الشّباب من عمُري وقوله في غلام نظر إليه فأعرض عنه: قالوا ثنى عنكَ بعد البِشرِ صفحتَه ... فهل أصاخ الى الواشي فغيّره فقلت لا بل درى وجدي بعارضِه ... فردّ صفحتَه عمداً لأبصِرَه وقوله: وعاقد في الخِصْر زُنّارا ... أضرم في أحشائي النّارا ما أطولَ الليلَ إذا لم يزر ... وأقصرَ الليلَ إذا زارا كأنّما ليلي فني حُبّه ... يجري على ما شاءَ واختارا وقوله: إنّي كلِفْت ببعضِ أرْبا ... بِ المقاصِر والخُدورِ بعزيزة ذلّت فؤا ... دي في هواها بالغُرور هيفاء تذكُر إن مشت ... مشيَ القَطاة الى الغدير الرّدْف منها كالنّقا ... والقدّ كالغُصن النّضير حكتِ الزّمان تلوّناً ... لمحبِّها العاني الأسير فوصالُها برْد الأصي ... لِ وهجرها حرّ الهجير وقوله يستدعي صديقاً له في يوم مطر وبرد: هو يوم كما تراه مطير ... كلبَ القرّ فيه والزّمهرير وهمى ماؤه كما ذرفَ الدّم ... عَ من الوجد عاشقٌ مهجورُ وأرانا الغمامَ والبردَ ذيلَيْ ... نِ علينا كِلاهما مجرور ولدينا شمْسانِ شمس من الرّا ... ح وشمس يسعى بها ويدور ومغنّ جيش الهموم بما تُب ... دع أوتاره لنا موتور وعلى الدير كان قِدْر تفور ... لشهيّ الطعام فيها وُفور ولدينا من التّذاكُرِ روض ... ولدينا من المُدام غدير فمن الرأي أن تُشَبّ الكواني ... نُ بأجزالِها وتُرْخى السّتور ويُحَثّ الكبيرُ إنّ كثيراً ... أن يهمّ الكبير إلا الكبير فاترك الاعتذارَ فيه فترْكُ الش ... شُرْبِ في مثل يومنا تعذيرُ وقوله مداعبة في شهر الصوم: أشَهْرَ الصوم ما مثْ ... لُك عند الله من شهْر ولكنّك حجّرْ ... تَ علينا لذّةَ السُكرِ وغمزَ اللحظِ باللحظِ ... وقرعَ الثّغْر بالثّغْر وإني والذي شر ... رَف أوقاتكَ بالذّكْر وما بات يُصلّى في ... كَ من شفْعٍ ومن وتْر لمَسْرور بأنْ تَفْنى ... على أنّك من عُمْري وقوله: غبْتَ عنا فغابَ كل جمالٍ ... ونأى إذ نأيتَ كل سرور ثم لما قدِمْتَ عاودنا الأنسُ وقرّتْ قلوبنا في الصدورفلو انّا نجزي البشير بنُعمىلوهبْنا حياتنا للبشير الزاي وقوله: وقائلةٍ ما بال مثلِك خاملاً ... أأنتَ ضعيف الرأي أم أنتَ عاجز فقلت لها ذنبي الى القوم أنني ... لِما لم يحوزوه من المجْد حائز وما فاتَني شيء سوى الحظ وحدَه ... وأما المعالي فهي فيّ غرائز السين وقوله، وهي قصيدة تامة من غرر قصائده: نفسي الفداء لمُطمع لي مؤْيس ... غريَتْ لواحظُه بقتل الأنفس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 856 ما ضرّ من كمُلتْ محاسن وجهه ... لو كان يحسن في الصّنيع كما يُسي رشأ جعلت له ضلوعي مرتعاً ... ومدامعي ورداً فلم يتأنّس وكتمت سرّ هواه خيفةَ كاشحٍ ... مترقّبٍ لحديثنا متجسّس فوشى به دمعي ولم أرَ واشياً ... كالدّمع يُعرب عن لسانٍ أخرس فلن تكنّفَني الوشاة وراعني ... أسْد العرين دوَين ظبْي المكنس فلربّ مقتبل الشّباب مقابل ... بين الغزالة والغزال الألْعس عاطَيْته حلَبَ الكروم ودَرّها ... وخلوت منه بمُسعدٍ لي مؤنس ثم انثنى عجِلاً يكتّم سِرّه ... ويشي به ولع الحَليّ المجرّس كالظبي آنسَ نبأة من قانصٍ ... فرنا بمُقلة خائفٍ متوجّس قُم يا غلام وذَر مجالسةَ الكرى ... لمهجّر يصف النوى ومغلّس أوَ ما تَرى ذا النّور بشّر بالنّدى ... والفجر ينصل من خضاب حندس والترْبَ من خلل الحديقة مرتوٍ ... والفجر في حُلل الشّبيبة مكتسي والروض يبرز في قلائد لؤلؤٍ ... والأرض ترفُل في غلائل سنْدس لا تعدِمُ اللحظات كيف تصرّفت ... وجَنات وردٍ أو لواحظَ نرجِس والجوّ بين مفكّرٍ ومصندل ... وممسّكٍ ومورّد ومورّس وكأنّما تُسقى الأباطح والرّبى ... بنوال يحْيى لا الحيا المتبجّس وكأنّما نفحتْ حدائق زهرها ... عن ذكره المتعطِّر المتقدّس يا ابْنَ الذي بجودهم وسماحهمْ ... جُبِرَ الكسير وسُدّ فقْر المُفلس الضاربين بكلّ أبيضَ مِخذَم ... والطاعنين بكل أسرَ مِدعَس من كل أزهَ في العِمامة أبلجٍ ... أو كُل أخزرَ في التّريكة أشوَس سكبتْ أكفهُم المنايا والمُنى ... سكْبَ الصواعق في الغيوم الرّجَّس ومنه يصف داره: لله مجلسك المنيفُ قبابه ... بموطّدٍ فوق السّماك مؤسَّس موف على حُبُك المجرّة تلتقي ... فيه الجواري بالجواري الخنَّس تتقابل الأنوار من جنَباتِه ... فالليل فيه كالنهار المُشمِس عطِفَتْ حناياه دوَيْن سمائه ... عطف الأهلّة والحواجب والقِسي واستشرفتْ عُمَدُ الرّخام وظوهِرتْ ... بأجلّ من زهَر الرّبيع وأنْفَس فهواؤه من كل قدّ أهيفٍ ... وقراره في كل خدّ أملس فلك تحيّرَ فيه كل منجِّمٍ ... وأقرّ بالتّقصير كل مهندس فباد للَحْظ العين أحسنَ منظرٍ ... وغدا لطيب اليش خيرَ معرّس فاطلعْ به قمراً إذا ما أطلعَتْ ... شمس الخدور عليك شمس الأكؤس فالناس أجمع دون فضلكَ رتبة ... والأرضُ أجمع دون هذا المجلِس وقوله في أحبّة له ركبوا البحر مسافرين: لا واخذ الله منْ هوَيتُهم ... بما جرى منهم على راسي حتى إذا لجّجتْ سفائنُهم ... ولجّ وجدي بهم ووسواسي قلت لصحبي والدمع مُستَبق ... يُظهر ما بي لأعيُن الناس ما ركِبوا البحرَ بل جرتْ بهمُ ... في بحر دمعي رياح أنفاسي وقوله في عود الغناء: عجباً لهذا العود لا ... ينفكّ عن غردٍ مؤانِسْ شدَت الحمام عليه رطْ ... باً والغواني وهْوَ يابِسْ الشين وقوله: تحكّمَ في مهجتي كيف شا ... سقيمُ الجفون هضيمُ الحش سقتْه يدالحسن خمرَ الدّلال ... فعرْبَد بالصدّ لما انتشى وصدّ يُسالِفُني شادن ... أضلّ الخميلة فاستوحَشا حبيب كتمتُ غرامي به ... فما زال يعظُم حتى فشا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 857 خذوا اللومَ عنّي وخلوا الفؤاد ... لطائر حُسنٍ به عشّشا ومن جرحتْه لِحاظ العيون ... فكيف يكون إذا جُمِّشا ومن أم ورْدَ بن يحْيى الرّضا ... فكيف يحاذر أن يعْطشا وليس بمُحوجِه وارد ... الى أن يمُدّ له في الرّشا أغرّ قضى الله أن لا يُرَد ... د عمّا يريد وعما يشا تنوب مهابتُه في القلوب ... مناب ظُباه وما جيّشا مقيم من المُلك في سُدّةٍ ... ترى الذئبَ يصحب فيه الرّشا تكاد تزاحم أفقَ السّما ... مناكِبُ أرضٍ عليها مشى وجدنا مخائلهُ الزّاكيات ... نواطقَ عن مجده مُذْ نَشا وقوله يصف بركة الحبش بمصر، وأورد السمعاني هذه الأبيات: لله يومي ببِرْكة الحبَش ... والأفُق بين الضّياء والغبَش والنّيل تحت الرياح مضطرب ... كصارم في يمين مُرتَعِش ونحن في روضةٍ مفوقةٍ ... دبِّجَ بالنور عطفُها ووشي قد نسجتْها يد الربيع لنا ... فنحن من نسجِها على فُرش وأثقلَ النّاس كلّهم رجل ... دعاه داعي الصّبا فلم يطِش فعاطِني الراح إنّ تاركَها ... من سورة الهمّ غير مُنتعِش وسقِّني بالكبار مترَعَة ... فتلك أشْفى لشدة العطش وقوله: قمْ يا غُلام اسقِنا فإنّا ... الى مُعاطاتِها عِطاش قمْ فانتعِشْنا بها دراكا ... فليس إلا بها انتِعاش قم قتِّل الهمّ من أناسٍ ... ثم سُقوا صِرْفَها فعاشوا في مثلِها وهي دون مِثلٍ ... خفّ وقار وطاش جاش إنْ قُصّ من صبوةٍ جناح ... فهو بأقداحها يراش وقوله: لما رأيت الناسَ قد أصبحتْ ... صدورهم بالغلّ مغشوشهْ وكلّ من أجبْتُه منهم ... منقلب العهد ولا الرّيشَهْ لزمت بيتي وتجنّبتُهمْ ... فصرت من أطيبِهم عِيشَهْ وقوله، وأول الأبيات استطراد: أبا القاسم اشرَبْ واسقنيه سُلافة ... صفتْ فأتتْ تحكي ودادَ أبي الجيش خليل فقدت الأنسَ يومَ فقدتُه ... وودّعت إذ ودّعتُه لذّة العيش مُعنًّى بإرضاء النّديم مساعد ... على كل حالٍ من وقارٍ ومن طيْش الصاد وقوله: يا قوم هل لفؤادي ... مما يجنّ خلاصُ إني بُليت بظَبي ... في القرب منه اعتياصُ أضحتْ دموعي الغوالي ... وهنّ فيه رخاصُ جرحت باللحظ خدّيْ ... هـ والقنا عَرّاص فشك قلبي بلحظٍ ... لم تحمِنيه الدّلاص وقال: هذا بهذا ... إنّ الجروح قصاصُ وقوله وقد حبس: يا رب ذي حسدٍ قد زدْته كمَدا ... إذْ رام يُنقِص من قدري فما نقصا إني رخصْت ولم أنفُقْ فلا عجَبٌ ... للفضل في زمن النقصان إن رخصا وإن حُبِسْت فخير الطّير محتبس ... متى رأيت حَداة أودعَ القَفَصا الضاد وقوله في الشيب: عذيري من طَوالعَ في عِذارى ... مُنيتُ بمنظر منها بغيض له لوْنان مختلفان جِدّاً ... كما اختلط الدّجى بسنى الوميض فسوّد من شباب غيرَ سودٍ ... وبيّض من مشيبي غيرَ بي وقوله في صدر رسالة يصف كتاب صديق ورد عليه: تدانت به الأقطار وهي بعيدة ... وصحّتْ به الآمال وهي مراض فمن صدْغ لامٍ جالَ في خدّ مهرَق ... فراقَ سوادٌ منهم وبياض ومن زهْر لفظٍ صابه الدّهر فازدهت ... له بين هاتيك السطور رياض تُراح لها منّا قلوب وأنفُس ... وتؤسَى كلومٌ بالحشا وعضاض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 858 فلله طوْد للنُهى ليس يُرتَقى ... وبحر من الآداب ليس يُخاض وميدان سبقٍ جلت فيه لغايةٍ ... يُحصّ جناحي دونها ويُهاض الطّاء وقوله في الزهد: حسبي فكم بعُدَتْ في اللهو أشواطي ... وطال في الغيّ إسرافي وإفراطي أنفقت في اللهو عمري غير مُزدَجرٍ ... وجُدْت فيه فوفري غير محْتاط علّي أخلّص من بحر الذنوب وقد ... غرقْت فيه على بُعْدٍ من الشّاطي نعم وما لي ما أرجو رضاكَ به ... إلا اعترافي بأنّي المذنب الخاطي وقوله: سرَتْ فتخيّلت الثريّا لها قُرْطا ... وشُهْب الدّجى في صبح لبّتها سِمْطا ولما رنَتْ عن مقلة الرّيم أقصدَتْ ... فؤادي بسهم فوّقته فما أخْطا وخطّتْ بقلبي أسطر الشّوق صفحة ... قرأت بها سطراً من المِسك قد خطا ونونات أصداغٍ كأنّ جفونَها ... تولّتْ بحبّات القلوب لها نقطا ومنها في صفة المجاديف: كأنّ حَباب الماء درّ مُبدّد ... وهنّ أكف الغيد يُعجِلنَه لقْط وقوله في الاستعطاف: لعلّ الرضا يوماً بديلٌ من السخط ... فيعقب روْحات الدّنوّ من الشّحْط ويُنصفُ من دهرٍ على الحُرّ معتَدٍ ... وللجَوْر معتاد وفي الحكم مُشْتَطّ أنا المذنب المخطي وأنت فلم تزَلْ ... تغمِّد ما يأتي به المذنب المخطي وأجدر خلق الله بالعفو والرّضا ... مُحبّ أتت منه الإساءة في الفَرْط وقوله يستدعي بعض الأدباء مداعباً: أيها الخِلّ الذي جد ... د للقصف نشاطي والإمام الفرد في الش ... عر وفي دين اللّواط أنا ما بين دنانٍ ... وقِيان وبواطي وأباريقَ صُفوفٍ ... مثل غزلانٍ عواطي من سُلافٍ تذر العا ... قلَ في حال اختلاط وترى الشيخَ بها كالط ... فل في حال القِماط كلّما رامتْ لها مز ... جاً يدُ السّاقي المُعاطي وثبتْ كالُهرة الشّق ... راء من تحت السّياط فأتِنا دون اعتلالٍ ... وتراخٍ وتباطي وقوله في المنع من ركوب البحر: يا من يخوض البحر مقتحماً ... ما بين لجّته الى الشّطّ لا يُطمِعنّكَ ما حباكَ به ... فالبحر يأخذ ضعفَ ما يُعطي الظّاء وقوله: كم ضيعتْ منك المُنى حاصلاً ... كان من الأحزَم أن يُحفَظا فالفظْ بها عنكَ فمن حقّ ما ... يُخفي صواب الرّأي أن يلفظا وإن تعلّلتَ بأطعماعها ... فإنّما تحلُم مستيقظا وقوله: أقول وقد شطّتْ به غربة النوى ... وللحبّ سلطان على مهجتي فظّ لئن بان عنّي من كلِفْت بحبه ... وشطّ فما للعين من شخصه حظّ فإنّ له في أسود القلب منزلاً ... تكنّفه فيه الرّعاية والحِفْظ أراه بعين الوهم والوهم مُدرك ... معانيَ شتّى ليس يُدركها اللحظ العين وقوله: يا قاتلَ الله قلبي كم يجشّمني ... ما يُعجِز الناسَ عن همّ وإزْماع كم مهمَه قُذُفٍ تمشي الرياح به ... حسْرى تلوذ بأكناف وأجزاعِ لا يملك الذّمْر فيه قلبه فرَقاً ... ولا يهِمّ به طرْف بتَهْجاع يبيت للجنّ في أرجائه زجَل ... كالشَّرْب هُزّ بتطريبٍ وإيقاع أعملت للمجد فيه كل يعمُلةٍ ... كالهَيْق تنصاع من أثناء أنساع في ليلة لِحجاج الطّير دامسةٍ ... يأوي بها الذّئب من ذعْرٍ الى الرّاعي مرَقْت من حوزها كالنّجم مرتدياً ... بمُرهف الحدّ مثل النجم قطّاع لا يكسِب المجدَ إلا كلّ ذي مرَح ... يُرْخي العنانَ لسيلٍ منه دفّاع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 859 بكلّ أبيضَ ماضي الغرْب منصلتٍ ... في كفّ أبيض رحْب الصّدر والباع يلقى الخطوبَ بجأشٍ غير مكترثٍ ... بالنائبات وقلبٍ غيرَ مُرتاع وقوله في التجنيس: ذكرْت نواهم لدى قُربِهم ... فجدت بأدمُعي الهُمّع فكيف أكون إذا هم نأوا ... وهذا بُكائي إذا هُمْ معي وقوله في الغزل: ما قطّعَ القلبَ إلا ... غزال آل قطاعهْ وسنان ليس على الصّب ... ر في هواه استطاعهْ لمّا دعاني الى الحُب ... ب قلت سمعاً وطاعهْ وقوله في الصبر على الشدة: يقولون لي صبراً وإني لصابر ... على نائبات الدّهر وهي فواجع سأصبر حتى يقضي الله ما قضى ... وإن لم أصبِرْ فما أنا صانِع وقوله في جارية قدمت شمعة: بأبي خَوْد شَموع ... أقبلت تحمِل شمعهْ فالتقى نوراهما واخ ... تلفا قدراً ورفعهْ ومسير الشّمس يستهْ ... دي بضوءِ النّجم بدْعَهْ الغين وقوله: إني لأشفِقُ أن يراني حُسّدي ... إلا مُقيدَ يدٍ ومرغِمَ باغِ أو مُعمِلاً لزجاجةٍ يسعى بها ... خنِث الجُفون مبلبل الأصدغِ فلو انّ عمري عُمر نوع لم أبَلْ ... فيه بمُهلةِ عطلةٍ وفراغِ وقوله في شاعرين مدحاه، وكان أوّل قولَهُما، وعرّض بشعر آخر خبيث الطبع: وا بأبي شاعران قد نبَغا ... بل بأبي نيّران قد بزغا ما بلغ الأوّلون قاطبة ... من رتَبِ الفضل بعضَ ما بلغا تدفّقا والقريض قد نضبتْ ... بحوره والكلام قد فرَغا وأبْرَزا منه كلّ معجزةٍ ... يعجز عنها أيمّة البُلَغا ومنها: إنْ نسَبا أطرَبا وإنْ مدَحا ... زانا وإن يهجُوا فقد لدَغا من قال في العالمين مثلُهما ... فقد هذَى في مقاله ولغا ليسا كمن كنتُ حين يُنشدني ... أقول ما بال ذا البعير رَغا كلبُ هِراشٍ تراه منفلِتاً ... عندَ حضور الخِوان ليثَ وغى عِيبَ به ثغرنا المَصون فلو ... يكون ثغراً لكان فيها شغا ما زلت ألقى سِفاهَه بحِجى ... يروع شيطانه إذا نزغا أفديكُما شاعِرَيْن لو شهِدا ... عصرَ زيادٍ إذن لما نبَغا صاغا لجيدي حُليّ لفظِهما ... فأتْقَناه وأحْكما الصّيَغا وأهْدَيا ليَ مدْحاً سحبت به ... بُرْدَ جمالٍ عليّ قد سبَغا أنشدهُ حاسدي فأكمِدَهُ ... حتى توهمت أنّه دمِغا لو عدِمَتْ مُقلتاي شخصَهُما ... ما رفَهَ العيشُ لي ولا رفَغا الفاء وقوله من قصيدة: فهاتِها إذا النّديم أغفى ناراً بها نار الهموم تُطفى أشدّ من كلّ لطيفٍ لُطفا ترى الهواءَ عنده يُستَجْفى من يدِ ساقٍ ساقَ نحوي الحتفا بمقلةٍ تفري الدِّلاصَ الزّغْفا تُنعِشُ ألْفاً وتُميت ألْفا صوّرهُ الله فأعْيا الوَصْفا بدْراً وغُصْناً ناعماً وحِقْفا يرْتَجّ نِصْفاً ويميسُ نِصْفا وصيّر الحُسنَ عليه وَقْفا فما رآهُ أحد فعفّا وقوله في غلام واعظ حسن الوجه: وا حزَني من جفنِك الأوطَفِ ... وخصرِك المختصر المخطفِ يا واعظاً ما زادَني وعظه ... إلا جوى أيسرُه مُتلِفي ما بالُ ذا الورد بخدّيْك قدْ ... أينَع للقطفِ ولم يُطَفِ وما لفِيكَ العذْبِ لم يُلثَمِ ... وريقِك المعسولِ لم يرشَفِ برزتَ في معرض أهل التَّقى ... وما بدا منك سوى ما خَفي أيمنعُ القرْقَفَ مَن ريقُه ... أشدّ إسْكاراً من القَرْقف يا موقِداً بالهجر في أضلُعي ... ناراً بغير الوصلِ ما تنطفي إن لم يكُنْ وصل فعِدْني به ... رضيت بالوعد وإن لم تفِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 860 وقوله في التجنيس: وقائلة سِرْ وابتَغِ الرّزْقَ طائِفاً ... فإنّك فيما لا يفيد لطائف فقلت ذريني رُبّ ساعٍ مخيَّبٍ ... ولله في كلّ الأمور لطائِف القاف وقوله من قصيدة في صفة جيش: وملمومةٍ ظلّت بها أوجهُ الرّدى ... تديرُ عيوناً من أسنّتها زرْقا مظاهرةٍ بالأسْدِ غُلْباً وبالظُبى ... حِداداً وبالخِرْصان مذروبةً ذلقا إذا نشأتْ للنقع فيه غمامة ... فلستَ ترى غير النّجيع لها وَدْقا ملأنا بها قلبَ العدوّ وسمعَه ... وناظرَهُ والبَرّ والبحرَ والأفْقا وقوله في البراغيث: وليلةٍ دائمةِ الغُسوقِ بعيدةِ الممْسى من الشُروقِ كليلةِ المتيّم المَشوق أطال في ظلمائها تأريقي أخبث خلْقٍ للأذى مخلوق يرى دمي أشهى من الرّحيق يعُبّ فيه غيرَ مُستفيق لا يترك الصّبوح للغَبوق لو بتّ فوق قمّة العيّوق ما عاقهُ ذلك عن طُروق كعاشق أسرى الى معشوق أعلمَ من بُقْراطَ بالعُروق من أكحلٍ منه وباسَليقِ يفصدُه بمبضَعٍ رقيقِ من خطمِه المذَرّب الذّليق فصدَ الطبيب الحاذقِ الرّفيق وقوله: طرقَتْني لدى الهُجوع فقالت ... أكذا يهجَعُ المحبّ المشوّق قلت لا تعجلي فلم أغْفُ إلا ... طمعاً أن يكون منكِ طُروق فتولّت تقول: لفظ ذوي الأل ... باب سحر يُصْبي النُهى ويَروق قد يُمَجّ الكلامُ وهو صحيح ... ويلَذّ المزوّر المخلوق وقوله يستدعي صديقاً له الى أكل تين وشرب: قد نعسَ التّين خلالَ الورق ... وراحَ من جِلدَتِه في خلَقْ فانشط إليه والى قهوة ... لم يُبْق منها الدهرُ إلا الرّمقْ كأنّها في الكأس ياقوتَة ... في درّة أو شفَقٍ في فلَقْ والشّرط في عشرة أمثالها ... أن تسقط الحشمة فيما اتّفق وقوله في غلام غُزّى عليه قرمزية: أقبل يسعى أبو الفوارس في ... مرأى عجيب ومنظر أنق أقبل في قِرمزيّة عجب ... قد صبغَتْ لونَ خدّه الشَّرِق كأنّما جيدهُ وغرّته ... من دونها إذا برَزْن في نسق عمود فجر فُويقه قمر ... دارَتْ به قطعة من الشّفق وقوله: دعْه أمام العيس تُعنَقْ ... كالسّيْل في صَيْبٍ تدفّقْ لم يستَعِنْ بذَميلِها ... يوماً أخو أملٍ فأخْفَقْ وأغَنّ نور الصّبْح أسْ ... فَر تحت غُرّته وأشرَقْ قد صيغَ فتنة مَن تنَسْ ... سَك بل منيّةَ من تعشّقْ حسنَ المخلخلِ والمؤَزْ ... زَر والموشّح والممَنطَق أبكي دماً جفني بهجْ ... رتِه فأغرقني وأحْدَق لم يدْرِ قلبي إذ تعلْ ... لَقَه بأي هوى تعلّقْ وسعى بها فكأن برْ ... قاً في زجاجتِها تألّقْ والنّجمُ يجنحُ للأفو ... ل كما هوى القُرْطُ المعلق وكأن فأرةَ تاجرٍ ... منها خلال الشُرْبِ تعبق وكأنّها من رقّةٍ ... دمع المحبّ إذا ترقرق إنّي رأيت شَبيبَتي ... وصبايَ يوماً سوف يَخلقْ وعلمْت أنّي للذّها ... ب فإن دَنيتُ فسوف أسحق فالعمرُ ظلٌ والمُنى ... خُدَع ووعْدُ الله أصدقْ وقوله: لم تعْلُ كأس الرّاح يمنى الساقي ... إلا لتُرجِعَ ذاهِبَ الأرماق فأدر عليّ دهاقها إنّي امرؤ ... لا أستسيغ الكأس غيرَ دِهاق أو ما ترى ضحكَ الرّبى بغمائمٍ ... تبكي كمثل مدامع العشّاق من كل باكيةٍ تسيل دموعها ... من غير أجفان ولا آماق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 861 طفقت تُزجّيه البوارقُ حُفّلاً ... تروي البلد بوبلها الغيْداق حتى تسربل كل جِزْعٍ روضة ... محتَفّة بغديرِه الرّقراق وإذا الهواء الطلق جرّ نسيمه ... أذيال أرديةٍ عليه رِقاق ضمّ الغصون على الغصون كما التقى ال ... أحباب بالأحباب غِبّ فراق فانعمْ بورد كالخدود ونرجس ... غضّ الجنى كنواظر الأحداق حيّا به السّاقي المدير وربّما ... ألهاكَ عنه بمقلتيه السّاقي رشأ يُنير دجى الظّلام بغُرّةٍ ... كالبدْرِ بل كالشمس في الإشراق كتبَ الجمالُ بخطّه في خدّه ... هذي بدائع صنعةِ الخَلاّق الدّعصُ حشْو إزاره والغصن طيْ ... يُ وشاحه والبدر في الأطواق ما بان صبري يوم بان وإنّما ... بدّدْته من دمعيَ المُهراق الكاف وقوله من قصيدة: ملك أعزّ بسيفه دين الهُدى ... وأذلّ دينَ الكفر والإشراك وأنار في ظُلم الحوادث رأيه ... فأراك فعل الشمس في الأحلاك لم يبق في ظهر البسيطة جامح ... إلا استقاد لسيفه البتاك ومنها: يا شاكياً عنتَ الزّمان وجورَه ... ألمِمْ به تلمم بمُشْكي الشاكي يا أرض لولا حلمه ووقاره ... ما دمْت ساكنة بغير حِراك يا شمس لو واجهْت غُرّةَ وجهِه ... لسترت نوركِ دونها وسناك يا سُحْب لو شاهدتِه يوم النّدى ... لحصرْت جودك عنده ونداك شتّان بين اثنين هذا ضاحك ... أبداً لآمله وهذا باكي وقوله من قصيدة: أنّى يفوتك مطلب حاولتَه ... وظُباك ضامنة لك الإدراكا وبراعة تنهل مسكاً أذفراً ... من راحة لا تعرف الإمساكا اللام وقوله يشكر حسن وساطة الممدوح في خلاصه من الحبس: حُيّيتَ من طللٍ برامة محول ... عبثت به أيدي الصّبا والشّمأل وغدا بكَ النّوار من درر النّدى ... ينْآد بين مؤزّر ومكلّل وإذا أدار بك الغمام كؤوسه ... شرب النّبات على غناء البلبل دعْ ذا لهمّ في فؤادك شاغِلٍ ... عن ذكر دارٍ للحبيب ومنزل طرقت عَوادٍ للخطوب عدتْك عن ... ذاك الغزالِ فلاتَ حين تغزّل إنّي سُقيت من الخُطوب سُلافة ... جعل السُقاةُ مزاجَها من حنظل كأس ثمِلْتُ بها فملت وإنّما ... دحضت بها قدمي من الشّرف العَلي فاحلب بضَبْعَيْ منقذي من هوة ... أصبحتُ منها في الحضيض الأسفل وامدد إليّ يد المغيث فكم يد ... لك أنقذَتْ من كل خطب معضِل إنّي دعوتُك حين أجحفَ بي الرّدى ... فأغث فإني منه تحت الكلكل فإليْك مفزَعُ كل عان خائف ... ولديك فُرجةُ كل باب مقفل قد طالت الشّكْوى وأقصَرُ وقتِها ... مودٍ بكلّ تصبّرٍ وتجمّل واشتدّت البلوى وأنت لرفعها ... فأجبْ فإني قد دعوتُك يا علي عمر يمرّ وكُرْبة ما تنقضي ... أبد الزمان وغُمّة لا تنجلي وزمان سخط ما له من آخرٍ ... ورجاء عفوٍ ما له من أوّل كم ذا التّغافل عن وليّكَ وحده ... والأمرُ يحزم دون كل مؤمّل وعلامَ يهمل أمرَه ويضيعُه ... من ليس للصنع الجميلبمهمل قم في خلاصي واصطنعني تصطنع ... رطْبَ اللّسان مدير باع المقول يُثْني عليكَ بما صنعتَ وربّما ... كرُمَ الثّناءُ فذُمّ عرف المبذل وقوله ملغزاً بالبَكرة من قصيدة: فما كُدريَة لم تَعْلُ مذ ... طارتْ ولم تسفُلْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 862 لها في الجو وكْر لم ... ترِمْ عنه ولم ترْحَلْ فما ترقى مع النِّسر ... ولا تهوي مع الأجدلْ عَوانٌ نُكِحَتْ دهْراً ... فلم تعلَقْ ولم تحبَلْ نشِبْتُ بها دهْراً ... في ساحتها أنزل وواصلتُ مراسيها ... ولكن كنت من أسفلْ فلما أن أصبتُ الما ... ءَ صبّ العارضُ المُسبَلْ تنحّيْتُ ولم أستح ... يِ من فعلي ولم أخجلْ وثِبْتُ ...... ... ولم أعْيَ ولم أنْكلْ وقوله: حُجِبَتْ مسامعه عن العُذّال ... وأبى فليس عن الغرام بسال ويح المتيّم لا يزال معذّباً ... بخُفوق برقٍ أو طروق خيال وإذا البلابل بالعشيّ تجاوبت ... بعثت بأضلعه جوى البلبال وا رحمتا لمعذّب يشكو الجوى ... بمنعّم يشكو فراغ البال نشوان من خمرين: خمرِ زُجاجةٍ ... عبثت بمقلته وخمر دلال كالرّيم إلا أن هذا عاطل ... أبداً وذا في كل حالٍ حالي لا يستفيق وهل يُفيقُ بحالة ... من ريقُ فيه سُلافةُ الجِريال علِم العدوّ بما لقيتُ فرقّ لي ... ورأى الحسودُ بليّتي فرثى لي يا من برَى جسمي بطول صدوده ... هلاّ سمحت ولو بوعد وصال قد كنتُ أطمعُ فيك لو عاقبتني ... بصدود عتْبٍ لا صدودِ ملال وقوله، وذلك مما أنشدنيه الفقيه نصر بن عبد الرحمان الإسكندراني الفزاري ببغداد، قال: أنشدني أبو الحسن علي بن الحسن بن معبد القرشي بالإسكندرية، قال: أنشدني أبو الصلت لنفسه بالمهديّة سنة تسع وخمسمائة في داره يصف فرساً: وأشهب كالشِّهاب أضحى ... يلوح في مُذهَبِ الجِلال قال حسودي وقد رآه ... يخِبّ خلفي الى القِتال من ألجَم الصّبحَ بالثريا ... وأسرجَ البرقَ بالهلال قال: قال أميّة: عملت هذه قبل أن أسمع بشعر ابن خفاجة الأندلسي في لاميته، له منها: أشهبُ اللون أثقلته حُليّ ... خبّ فيهنّ فهو ملقي الجِلال فبدا الصبح مُلجَماً بالثريّا ... وسرى البرق مُسرَجاً بالهلال فما أعجب توارد خاطريهما، وهما في زمان واحد، في بلدين متباعدين. وقوله في كاتب: ومجيدٌ في النظم والنثر فذّ ... لست تدري ألفظُه الدرّ أم لا ظلّ يملي فكان أبلغَ مُمْلٍ ... بهر السّمعَ حكمة حين أملى وقوله: أقول لمسرورٍ بأن ريعَ سربُنا ... وصوّح مرعانا وزلّت بنا النّعْل لنا حسب إن غالنا الدهرُ مرّة ... وزلّت بنا نعلٌ فإنّا به نعلو وقوله في الحث على الكسب والحركة: لا تقعُدنّ بكِسر البيت مكتئباً ... يفنى زمانُك بين اليأس والأمل واحتلْ لنفسِك في شيءٍ تعيش به ... فإنّ أكثر عيش الناس بالحيَل ولا تقل إنّ رزقي سوف يدركني ... وإن قعدتُ فليس الرزق كالأجل وقوله: لا ترْجُ في أمركَ سعد المُشتري ... ولا تخف في فوتِه نحسَ زُحَلْ وارْجُ وخف ربَّهُما فهو الذي ... ما شاء من خيْر ومن شرّ فعل وقوله: رمتني صروف الدهر بين معاشر ... أصحّهم وداً عدواً مقاتلُ وما غربة الإنسان في بُعدِ دارِه ... ولكنها في قرب من لا يشاكل وقوله في ثقيل: لي جليس عجبتُ كيف استطاعت ... هذه الأرض والجبال تقلّه أنا أرعاه مُكرَهاً وبقلبي ... منه ما يتلفُ الحياة أقلّه فهو مثل المشيب أكره مرآ ... هـ ولكن أصونه وأجلّه الميم وقوله: كبدٌ تذوب ومقلة تدمى ... فمتى أطيقُ للوْعتي كتما يا تاركي غرضاً لأسهُمِه ... إذ لم تخفْ دركاً ولا إثْما زدني جوًى بل استَزِدْكَ جوًى ... وإذا ظلمت فعاود الظّلما فالحبّ أعدلُ ما يكون إذا ... صدعَ الفؤادَ وأنحلَ الجسْما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 863 بأبي وغير أبي وقل له ... قمر ليقضي بالضّنى تمّا يرنو إليك بعين مغزلة ... لم ترن إلا فوقت سهما قبّلته إذ زار مكتتماً ... وهصرْتُ بانةَ قدّه ضمّا ورشفْتُ من فيه على ظمإ ... برْداً إذا نقع الصّدى أظما ثم انثنى حذر الرقيب وقد ... نمّ الصباحُ عليه إذ همّا وطفِقت أرقب لمّتي جزِعٍ ... شيماً لذاك البرق أو شمّا وإذا انقضى زمن فكيف به ... إلا أن استوهَبْتَه الحُلما وقوله من قصيدة طويلة: تقول سليمى ما لجسمكَ ناحلاً ... كأنْ قد رأتْ أنّ الحوادثَ لي سِلمُ فقلت لها لا تعجبي رُبّ ناحلٍ ... محاسنه شتّى وسؤدده ضخْم ولا تنكري همّ امرئ فاقَ همّة ... فكان على مقدار همّته الهم وما أنا من يثري فيُبطرهُ الغنى ... ويُعدِم أحياناً فيضجره العُدْمُ وقوله من قصيدة: لا أحمد الدّمع إلا حين ينسجم ... فخلّ دمعك يسقي الرّبعَ وهو دم أما ترى الحيّ قد زُمّتْ ركائبه ... وصاح بالبَينِ حادي الركب بينهم وفي حشا الهودج المزرور شمس ضحى ... تنير للركب من أنوارها الظُلم بيضاء فضّلها في الحُسن خالقنا ... فأصبحتْ وهي في الأرواح تحتكم سكرى من الذلّ لكن ما بها سكر ... سقيمة اللحظِ لكن ما بها سقم كروضة الحَزْنِ في رأدِ الضحى خطرت ... بها الصّباحين روّت تربها الدِّيَم ليست تزور وإن زارت لنمّ بها ... برق من الثّغر يبدو حين تبتسم بانوا فأي بُدور عنهم غربتْ ... بمغرب وغصون ضمّها إضَم وللظباء وأُسد الغيل ما ضمنتْ ... تلك البراقع يوم البيْن واللثُمُ وخلفوا الدّنفَ المشتاقَ منطوياً ... على جوانح مشبوب بها الضرَمُ يرعى كواكبَ ليلٍ لا بَراح لها ... كأنّ إصباحه في الناس منه هُمُ يزيدني اللوم فيهم لوعةً بهِمُ ... كالنار بالرّيح تُستشْرى وتضْطرمُ فما تغيّرني الأقداحُ دائرة ... ولا تحركني الأوتار والنّغمُ مالي وللدهر أرضيه ويسخطني ... وأستجدّ له مجداً ويهتدِمُ تقلّدَتْني لياليه مولّية ... كما تقلّد نصلَ السيف منهزمُ إن يخْفَ عن أهل دهري كنهُ منزلتي ... فالصبْحُ عن بصر العُميان منكتِمُ ولم يزل مرتقى الأقدام سامية ... فيه وتستسفل الهامات والقمم وقوله من أخرى: وكأنّ الشّقيق خدّ ثَكولٍ ... ضرّجتْه دماً بموجِعِ لطْم وكأنّ الأقاحَ بيضُ ثنايا ... جال فيها من النّدى ماءُ ظَلْم وقوله: صلْ هائماً بك مُغرماً ... أبكيتَ مقلتَه دما دمع إذا ما قيلَ غا ... ضَ وهمّ أن يرْقا همَى وكفى بدمع أخي الغرا ... م عن الضّمير متَرْجِما قد دقّ حتى ليسَ يُدْ ... رَكُ دون أن يتوهّما وعَداهُ خوفُ عِداهُ عن ... بثّ الغرام فجمجَما وشَفاءُ ما يشكوهُ من ... ألمِ الهوى ذاك اللّمى أسلمْتني لجوى الصَّبا ... بةِ يوم رُحتَ مسلِّما وأريْتَني قدّ القضي ... ب على الكثيبِ مقوّما عيناك عاونتا علَيْ ... يَ وأصلُ ما بي منهُما بل يا أخا قيْسٍ إذا ... جئتَ الحطيمَ وزمْزَما فلتُبلِغَنّ عشيرتي ... أنّي قتِلتُ على الحِمى عرّضْت قلبي للّحا ... ظِ ولم أخلْها أسهُما وقوله: رشأٌ تفعلُ عيناهُ بنا ... ضِعفَ ما تفعلُ باللُّبّ المُدام سالمتْ وجنتُه من صبغِها ... جمرة في كبدي منها ضِرام ورمى قلبي فأدْمى خدّه ... أتراهُ انعكسَتْ فيه السِّهام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 864 وقوله في غلام مستحسن صلى الى جنبه: صلى الى جنْبي من لم يزَلْ ... يصْلى به قلبي نار الجحيم فلم يكنْ لي في صلاتي سوى ... كوني في المُقعد منها المُقيم وقلّما صحّتْ صلاة امرئٍ ... مبلبل البال بطرفٍ سقيم وقوله في غلام مرّ وسلّم عليه: أصبحت صباً مدنفاً مغرَما ... أشكو جوى الحب وأبكي دما هذا وقد سلّم إذ مرّ بي ... فكيف لو مرّ وما سلّما وقوله: قلت لما رأيت بالدّرب عَمْراً ... تحت جحش ينيكه وحريمه وهو من دائه المبرّح قد قا ... م على أربع بغير شكيمه كيف حال الشيخ الأجلّ فقال ال ... حال ما حال هكذا مستقيمه وقوله في غلام يرمي بالنشاب، ويلعب في الميدان بالصّولجان: نفسي فداء أبي الفوارس فارساً ... من مقلتيه سنانُه وحُسامه بطل كأنّ بسرجه من قدّه ... غصناً بعطفيه يميلُ قوامه يزهى الجوادُ به فتحسب أنّه ... ذو نشوة قد رنّحتْه مدامه وكأنّ عطف الصولجان بكفّه ... صدغ بدا في الخدّ منه لامُه وكأنّما قلبي له كرةٌ فما ... تعدوه جفوتُه ولا إيلامُه يرمي وما يخطي الرّميَّ كأنّما ... نجَلتْ لواحظَ مقلتيه سهامه يا من تقول البدرُ يشبه وجهَهُ ... مهما تكشّف عن سناه جَهامُه من أين للقمر المنير ضياؤهُ ... وبهاؤهُ وكمالُه وتمامُه الله صوّرَهُ وقدّر أنّه ... حتف المحبّ وسقمُه وحِمامه وقوله: وأغْيد للنَّقا ما ارتجّ منهُ ... وللغصن التثنّي والقَوام تصارمَ وصله وهوايَ حتّى ... كأنّهما جُفوني والمَنام وقوله في طبيب اسمُه شعبان: يا طبيباً ضجرَ العا ... لَمُ منه وتبرّم فيك شهران من العا ... م إذا العام تصرّم أنت شعبانُ ولكن ... قتلُك النّاس المحرّم وقوله: غَريَتْ يدي بثلاثةٍ عجبٍ ... بالكأس والمِضْراب والقلَم بثلاثة لم تحوِهنّ يد ... إلا يد طُبِعتْ على الكرَم هذان للأفراح إن شردَتْ ... يوماً وذا لشوارد الحِكم النون وقوله من قصيدة: وقفنا للنوى فهفت قلوبأضرّ بها الجوى وهمَتْ شؤونيناجي بعضنا باللّحظ بعضاًفتعرب عن ضمائرنا العيون فلا والله ما حُفظت عهود ... كما ضمنوا ولا قُضيتْ دُيون ولو حكم الهوى يوماً بعدلٍ ... لأنصفَ من يفي ممّن يخون أمرّ بداركم فأغضّ طرفي ... مخافة أن تُظَنّ بنا الظّنون ومنها: جحاجِحُ ما ادْلهمّ الخطبُ إلا ... دُعوا ورُجوا ونُودوا واستُعينوا كأنّ على أسرّتهم شُموساً ... تُنير بها الحنادسُ والدّجون إذا حكموا بأمرٍ لم يميلوا ... وإنْ سبَقوا بوعدٍ لم يَمينوا وقوله في اعتقاله من قصيدة: همومُ سكنّ القلبَ أيسرُها يضني ... ووقْد خطوبٍ بعضها المهلك المضني عذيريَ من دهرٍ كأنّي وترْتُه ... بباهِرِ فضلي فاستفاد به منّي تعجّلني بالشّيب قبل أوانِه ... فجرّعني الدُرْديَّ من أوّل الدنّ ومنها: ولو لم أكن حُرّ الخلائق ماجداً ... لما كان دهري ينطوي لي على ضِغْن وما مرّ بي كالسّجن فيه ملمّة ... وشرٌ من السجن المصاحب في السجن أظنّ الليالي مبقياتي لحالة ... تبدّل فيها حالتي هذه عنّي وإلا فما كانت لتبقي حُشاشَتي ... على طول ما ألقى من الذلّ والغبن ومنها: وكم شامت بي أن حُبِسْت وما درى ... بأني حُسام قد أقروه في الجفن وناظر عين غضَّ منه التفاتُه ... الى منظرٍ مقذٍ فغمّض في العفن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 865 متى صفتِ الدنيا لحرٍّ فأبتغي ... بها صفو عيش أو خُلُويِّ من الحزن وهل هي إلا دار كل ملمة ... أمض لأحشاء الكرام من الطعن وإن هي لانت مرة لك فاخشَها ... فإنّ أشد الطعن طعنُ القنا اللّدن ومن أخرى: الى كم أستنيمُ الى الزّمان ... وتخدعني أباطيلُ الأماني ومنها: ومضطرمُ الضّلوع عليّ غيضاً ... ألنْتُ له قيادي فازدَراني تسحّب في المقال عليّ لمّا ... سكنتُ له سكون الأفعوانِ ولو أنّي أساجِلُ منه كفؤاً ... بيوم الفخرِ أو يوم الطعانِ لكفّ لسانَه عنّي بليغٌ ... كأنّ لسانهُ العضْبُ اليَماني ومنها: نجاءَك من لساني فهو أمضى ... بمعتركِ الجدالِ من السّنانِ ولا تعرض لهجْوي فهو باقٍ ... على مرّ الزّمان وأنتَ فانِ وجُرح السّيف يبرأ عن قريبٍ ... ويَعْيا البُرءُ من جرح اللّسان ومن أخرى: حتّامَ تنوحُ على الدِّمَن ... وتسائِلُهنّ عن السّكَن وتروح أخا شجنَيْن فمن ... بادٍ للنّاس ومكتمن ... فقد الألاّفُ الى ... جفْنٍ يشكو فقد الوسن ... جريكَ منهتكاً ... في طرق اللهو بلا رسن ... ... صافية ... تعدي الأفراحَ على الحزن ... الدهر سوى رمَقٍ ... لو لم تتداركه لفَني يسقيكَ سُلافتَها رشأٌ ... خلِقَتْ عيناه من الفتن وكأنّ بأعلاه قمراً ... في جُنحِ ظلامٍ في غُصنِ وكأنّ لواحظَ مقلتِه ... نحِلتْ أطراف ظُبَى الحسَن ملِكٍ هطلتْ كفّاهُ لنا ... بحَيا الجَوْدِ الحوذِ الهُتُن في سنّ البدر وسُنّتِه ... وسناه ومنظرِه الحسَنِ يعطيك ولا يمنّ وقد ... يحمي بالمَنّ حِمَى المنَن ندْبٍ، ندْسٍ، حلوٍ، شرس ... شهمٍ، فطِنٍ، ليْنٍ، خشِنِ لو للأيّام شمائلُه ... لم تجْنِ عليكَ ولم تخُنِ ولوَ انّ البحرَ كنائِلِه ... لم يدْن مداه على السفُنِ ومن قوله في غلام اسمه جوشن: صيّرْتُ صبريَ جوشناً لما رمتْ ... نحوي بأسهمها لواحظُ جوشَنِ ولقد رُميتُ بأسهمٍ لكنّني ... لم ألقَ أقتلَ من سهامِ الأعيُن وقوله: عذّبْتني بالتّجنّي ... يا غايةَ المُتمني قسّمت لحظي وقلبي ... ما بين حُسنٍ وحُزْنِ وأيّ أعجب شيءٍ ... يكون منك ومنّي إنّي إذا جئتُ ذنباً ... أسومُك الصّفْحَ عنّي وقوله في جارية سوداء اسمه عزّة: يا عزُّ عزَّ الوجْد صبري بما ... أصبحتِ من حسنِك تُبدينَه ما أنتِ إلا لعبة ما بدتْ ... للمرء إلا أفسدتْ دينَه وقد أفدتِ المسكَ فخْراً بأنْ ... أصبح يحكيكِ وتحكينه لا شكّ إذ لونُكُما واحِد ... أنّكُما في الأصل من طينه وقوله في غلام زنجيّ حسن الوجه سابح: وشادنٍ من بني الزّن ... ج ساحر المقلتين قد حال تفتير عيني ... هـ بين صبري وبيني أبصرْتُه وسْطَ نهرٍ ... طافٍ على الضّفتين فقلت أسود عيني ... يعوم في دمع عيني وقوله في العذار وقد لزم فيه التجنيس: لو يعلم العاذلان ماذا جرى ... إذ عذَلاني جهلاً ولاماني أودعني من هواه وسوسةً ... لم يلْقَها خالد ولا ماني ظبي بخدّيه لا عدمتهما ... راءان من عنبرٍ ولامان وقوله: قم يا غلام الى المُدام ففضَّها ... وأدرْ زجاجتَها عليّ وثنّها حتى أعوّضَ من دمي بسُلافها ... وأعودَ من عدم الحَراكِ كدنّها وقوله في جارية اسمها تجنّي، قدمت شمعة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 866 لله هيفاءُ قدّمتْها ... هيفاءُ كالغصنِ في التثنّي إشراقُها والضياءُ منها ... وحرّها والدموع منّي جاءتْ بها ساطعٌ سناها ... يرفعُ سجْفَ الظّلام عني وقوله من قصيدة: أقصرتُ من كلفي بالخُرّدِ العين ... فما الصبابة من شُغلي ولا ديني ورُبّ أكلفَ قد طال الثّواء به ... في بيت أشمطَ من رهبان جيرون يمّمتُ ساحته بالشُهب من نفَرٍ ... بيض وجوهُهُمُ شمّ العرانين ثم انتحيت له أستامُ ذروته ... بمرهف الحدّ ماضي الغرْبِ مسنون فانصابَ منه على كفّي غبيط دمٍ ... كأنّه سرِب من جوف مطعون دمٌ من الراح مسفوك بمعركة ... يغادر الشَّرْبَ صرعى دون تجنينِ أيامُ لهوٍ ولذاتٍ جريتُ بها ... مرخي الأعنّة في تلك الميادين أستنزلُ البدرَ من أعلى منازله ... وأقنص الظّبيَ من بين السّراحين ثم ارعويت فلم أعطِ الهوى رسَني ... وانجابَ عنّي فلم أتبع شياطيني وقوله: جرّد معاني الشّعر إن رمتَه ... كيما تُوَقّى اللّومَ والطّعنا ولا تُراعِ اللفظَ من دونِها ... فاللفظ جسم روحه المعنى وقوله في وصف كتاب وصل إليه: وافى كتابُك قد أودَعْتَه فِقَراً ... شكا افتقاراً إليه لفظُ سَحْبانا نظماً ونثراً تكافا الحسنُ بينهما ... حتى لخلتهما شكراً وإحسانا ومنها: لله أي كتابٍ زار مكتئباً ... منه وحُرّ كلام زار حرّانا ولم أكن حيث بستانٌ ولا نهرٌ ... فزار لحظي وفكري منه بُستانا أرى قوافيه أطياراً مغرّدة ... بألسُنِ الحمد والأبيات أغصانا أجل وأقطف من ميماته زهَراً ... إذا وردتُ من الصّادات غُدْرانا زهر تقيمُ على الأيام جدّته ... وإنّما توجدُ الأزهارُ أحيانا من كل لفظٍ كماءِ المُزْن يوسعني ... ما شئتُ رِيّاً ولا أنفكّ ظمآنا وقوله في ذمّ الدهر: سادَ صغارُ الناس في عصرنا ... لا دامَ من عصرٍ ولا كانا كالدّسْتِ مهما همّ أن ينقضي ... عادَ به البيدَقُ فرْزانا الهاء وقوله يصف منزلاً في قصر: منزلٌ ودّتِ المنازلُ في أعْ ... لى ذُراها لو أنّها إيّاه فأجِلْ فيه لحظَ عينيكَ تُبصرْ ... أيّ حسنٍ دون القصور حواه سال في سقفِه النُضار ولكن ... جمدتْ في قراره الأمواه ومنها: منظر يبعث السّرورَ ومرأى ... يُذكِرُ المرءَ طيبَ عصرِ صباهُ طاب ممْساه للعيون فأكّد ... طيبه بالصّبوح في مغداه وأدِرْها سُلافةً كدَمِ الخِشْ ... فِ لجفن السّرور عنها انتباه من يدَيْ كل فاتنِ اللحظ عينا ... هُ على فعل كأسِه عوْناه ريم قفرٍ بل ريم قصر، شغاف ال ... قلب مأواه والحشا مرعاه قوبِلَ الحُسن فيه فاختصرت خص ... راه عمداً وأذرِفَتْ عيناهُ وقوله: أسلفتني الغرام سالفَتاه ... وأطرتْ عني الكرى طرّتاهُ وأعانت وجدي على الصبر عينا ... هـ فويحي مما جنت عيناهُ رشأٌ وِردُه المدامع والأض ... لع مأواهُ والحشا مرعاهُ لم يعِدْني بالوصل يوماً فأخشى ... بتمادي الصّدود أن ينساهُ وقوله في وصف فرس: وخيرُ ذخائر الأملاكِ طِرْف ... يروق الطّرْفَ حين يجولُ فيه ترى ما بينه والخيلِ طُرّاً ... كما بين الرّويّة والبَديه وقوله في أمرد التحى فقبُح: قد صوّحتْ نرجسَتا مُقلتيْه ... واصفرّ ذاك الوردُ من وجنتيْه وكان قيد اللّحظ في حُسنه ... فصار لا يوما بلحظٍ إليه قد مسخَتْ صورتَهُ لحية ... أفرِغْ منها كل ذُلّ عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 867 كأنما رقّتْ لعشّاقِه ... فاسترجعتْ أرواحهم من يديهِ وقوله: قامت تديرُ المُدامَ كفّاها ... شمسٌ ينيرُ الدّجى محيّاها إن أقبلتْ فالقضيبُ قامتُها ... أو أدبرتْ فالكثيبُ رِدْفاها للمسكِ ما فاحَ من مراشِفِها ... والبرقِ ما لاحَ من ثناياها غزالةٌ أخجلتْ سمّيتها ... فلم تُشبَّه بها وحاشاها هبْكَ لها حُسنَها وبهجتَها ... فهل لها خدّها وعيناها وله يذمّ كاغداً: كاغِدُنا يشبه حالاتِنا ... في كلّ معنى ويحاكيها خسّ فللخَطّ به صورة ... لا شيء في القُبح يدانيها لو كان خُلْقاً كان مُستَشْنَعاً ... أو كان خلْقاً كان تشويها يعشّرُ الأقلامَ حتى تُرى ... مفلولةَ الحدّ مواضيها يتركُها تُشبه أعجازُها ... في عدم البَرْي هواديها من بعدِ ما ضاهى بأطرافِها ... أطرافَ سُمرِ الخطّ باريها ومنها: يقول من أبصرَ أطباقَها ... شُلّتْ يدٌ باتت تعبّيها قد عبثَ السّوسُ بأوساطها ... وقرّضَ الفأرُ حواشيها الياء وقوله: عزِفْتُ عن التّشاغل بالملاهي ... وحثّ الكأسِ والطّاسِ الرّويّه فما لي رغبةٌ في غير عِلمٍ ... تُنيرُ بديهتي فيه الرّويّه ومن مراثيه: أ - قوله في مرثية أم علي بن يحيى: تُضايقُنا الدنيا ونحن لها نهبُ ... وتوسعُنا حرباً ونحن لها حربُ وما وهبَتْ إلا استردّتْ هباتِها ... وجدوى الليالي إن تحقّقتَها سلبُ تؤمّل أن يصفو بها العيشُ ضلّة ... وهيهاتَ أن يصفو لساكنها شُربُ إذا صقبَتْ دارٌ بأهل مودّة ... رغا بيننا في الدار بينهمُ سقْبُ ألا إنّ أيام الحياة بأسرها ... مراحلُ نطويها ونحن لها ركْبُ ومنها: وما أنشبتْ كف المنيّة ظُفرَها ... فينجي طبيب من شَباها ولا طِبُ ولا وألتْ من صيدِها ذاتُ مخلبٍ ... به كل حين من فرائسها خِلبُ ولا ضَبِرٌ ذو لبدتين غضنْفرٌ ... له من قلوب الأرضِ في صدره قلْبُ ومنها: ولم أرَ يوماً مثلَ يومٍ شهدتُه ... وقد غابَ حسنُ الصبر واستحوذ الكربُ ومأتِم شكوى وانتخابٍ تشابهتْ ... دموع البواكي فيه واللؤلؤ الرّطْبُ فلا قلبَ إلا وهو دامٍ مفجّع ... ولا دمع إلا وهو منهملٌ سكْبُ وقد كسفتْ شمسُ العُلا وتضاءلت ... لها الشمسُ حتى كاد مصباحها يخبو ومنها: مشت حولها الصّيدُ الكرامُ كرامةً ... الى أن تلقّتْها الملائكُ والرّبُّ ومنها: فإن لا تكن شمسُ النهار التي وهَتْ ... وهيلَ عليها التُربُ فهي لها تِربُ لها كنَف من رحمة الله واسِع ... ومنزلُ صدقٍ عند فردوسِه رحْبُ ب - وقوله من قصيدة في مرثية نُمَيّ بن زياد: أتدري من بكتْهُ الباكياتُ ... ومن فجِعَتْ بمصرعه النُعاةُ ألا فُجِعَتْ بأبلجَ من هلالٍ ... عليه لكل معلوَةٍ سمات ضمينٌ أن تُكادَ به الأعادي ... علي أن تُنال به التِّراتُ نمى في دوحتَيْ شرفٍ وعزٍ ... تزيّنُه العُلا والمَكرُمات بحيثُ تكنّهُ السُمرُ العوالي ... وتكنُفُه الجياد الصافِناتُ فلا برحَتْ جفونُ المُزنِ تهمي ... عليه دموعهنّ السّافحاتُ غواديَ كل حين رائِحاتٍ ... إذا ونتِ الغوادي الرائحاتُ تزجّيها الجنائبُ موقِراتٍ ... كما مشتِ العشار المُثقَلاتُ ومنها: فلا تنفكّ ترْفي التّرْبَ منها ... رياض بالشّقائقِ مُذهَباتُ ومنها: رمتْه يدُ الحِمام فأقصدتْهُ ... ولم تفغنِ العوائدُ والأساةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 868 ولو غير الحِمام بغى سميّاً ... لفلّ شباة أسرته السَّراةُ وهبّ لآل زيّادٍ أسود ... براثنُها السّيوفُ المُرهفاتُ إذا وقع الصريخُ نحاهُ منهم ... ثُبات من سجيّتها الثّباتُ وأحسنُ ما تلاقيهم وجوهاً ... إذا كلحَتْ من الطّعن الكماةُ وأسمحُ ما توافيهمْ أكفّاً ... إذا ذهبتْ بوفرِهمُ الهِباتُ وخيرُ ذخائِرِ الدنيا لديهم ... جواد أو حُسام أو قناة وسابغةُ الذّيول كما تغشّتْ ... ذُيول الريح صافية أضاةُ فما عبثتْ بلبّهمُ الحُميّا ... ولا شربتْ عقولهمُ السُقاةُ هذا البيت يتشرّبه العقل السليم، ويشرئبّ الى حِماهُ الخاطر المستقيم: ولا حضَروا لأنّ العزّ شيء ... تضمّنه البداوةُ والفلاةُ لهمُ هِمم بعيداتُ المرامي ... وأيدٍ بالمواهب دانِياتُ جرَوا وجرى الكرامُ ليُدرِكوهم ... فخلّوهم وراءَهُمُ وفاتوا محوتُ بهم ذنوبَ الدهر عندي ... وبالحسنات تُمْحى السّيئاتُ عليهم عمدتي إنْ رابَ دهرٌ ... وهم ثقتي إذا خانَ الثِّقاتُ ج - وقوله في صديق له: فجعتني يدُ المنون بخِلٍ ... ثابتِ الودّ صادقِ الإخلاص غائصِ الفكرِ في بحورِ علومٍ ... كل بحرٍ بها بعيدُ المغاصِ فجعتني فيه صروفُ الليالي ... بالحلال الحلوِ اللُباب المُصاص وترتني فيه وما لقتيلٍ ... صرعَتْهُ يدُ الرّدى من قِصاصِ حادثٌ أرخصَ الدموعَ الغوالي ... ولَعَهدي بهنّ غيرُ رِخاصِ فلئن فاتني فللدهرُ خلفي ... مُستحِثّ يجدّ في إشخاصي أيها المبتغي مناضاً من المو ... ت رويداً فلاتَ حين مناصِ قهرَ الموتُ كل عزّ وأوهى ... كل حِرزٍ وفضّ كل دِلاص لو حللنا على الذّرى في الصّياصي ... ما طمعنا من الرّدى بخلاص د - وقوله في شريف قتل: حُقّ للجفن أن يصوبَ نجيعا ... لنعيّ برْحٍ أصمّ السّميعا جلّ رُزْءُ الشريف عن أن نشقّ ال ... جيبَ فيه وأن نريقَ الدموعا ندِس إن طرقتَ منزلَه الرّحْ ... بَ ووافيتَ بابَه المشروعا لم تجدْ بِشْرَ وجهه عنكَ محجو ... باً ولا سيْبَ كفّه ممنوعا عاد شملُ العُلا شتيتاً وقد كا ... ن به آهلَ المحلّ منيعا فأجِلْ مقلتيك في الأرض هل تُبْ ... صِرُ إلا مُرزّأ مفجوعا أين من كان للعُداةِ سِماماً ... أين من كان للعُفاة ربيعا من يسدّ الثّغور بعدَك يا سي ... يِدَ فهرٍ أم من يقود الجميعا من يعولُ الفقيرَ من يُنعشُ العا ... ثرَ من يؤنسُ المَخوفَ المروعا أيها البدرُ قد أطلتَ غروباً ... عن جفوني فهل تطيقُ طلوعا أيها الغيثُ إنّ روضَ الأماني ... آضَ يُبْساً فهل تطيقُ هموعا ما ظنَنّا بأنّ قبلك للمج ... دِ ولا السّماح صريعا هـ - وقوله يرثي والدته وتوفيت فجأة، وكان بعض المنجّمين قد حكم بذلك في مولده واتفقت الإصابة - من قصيدة طويلة: منها: مدامعَ عيني استبدلي الدمعَ بالدّمِ ... ولا تسأمي أن يسْتبِلّ وتسْجمي لحُقّ بأن يبكي دماً جفنُ مقلتي ... لأوجبِ من فارقتُ حقاً وألزَمِ أخِلاءُ صدقٍ بدّد الدهرُ شملَهم ... فعاد سحيلاً منهمُ كل مبرَمِ طوت منهمُ الأحداثُ أوجهَ أوجُه ... وأيمنَ أيمانٍ وأعظمَ أعظُمِ فقد كثرَت في كل أرض قبورهم ... ككثرة أشجاني ولهفي عليهمِ وما تلك لو تدري قبورُ أحبّة ... ولكنها حقاً مساقطُ أنجُم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 869 رزِئْتُ بأحفى الناس بي وأبرهم ... وأكبِرْ بفقْدِ الأم رزءاً وأعظِمِ فأصبحَ دُرّ الشِّعْر فيكِ منظَّماً ... وأصبح دَرّ الدمع غيرَ منظّم تصرّمُ أيامي وأمّا تلهّفي ... فباقٍ على الأيام لم يتصرّمِ كأن جفوني يومَ أودعتكِ الثّرى ... نضحْنَ على جيْبِ القميصِ بعندمِ يهيجُ لي الأحزان كَلّ فلا أرى ... سوى موجعٍ لي بادّكاركِ مؤلمِ أنوح لتغريد الحمائم بالضّحى ... وأبكي للَمْعِ البارقِ المتبسّم وأرسلُ طرفاً لا يراكِ فأنطوي ... على كبدٍ حرّى وقلبٍ مكلّمِ وما أشتكي فقدَ الصّباح لأنّني ... لفقدكِ في ليلٍ مدى الدهر مُظلِم تطول ليالي العاشقين وإنّما ... يطولُ عليكِ الليلُ ما لم تهوّمي وما ليلُ من وارى الترابَ حبيبهُ ... بأقصرَ من ليل المحبّ المتيّمِ فكم من بين راجٍ للإياب وآيسٍ ... وأين جميل في الأسى من متمِّمِ ومنها: ولم يبقَ في الباقين حافظ خُلّةٍ ... فعشْ واحداً ما عشتَ تنجُ وتسلمِ فلستَ ترى إلا صديق لموسرٍ ... حسوداً لمجدودٍ عدواً لمعدِم وكنتُ إذا استبدلتُ خِلاً بغيره ... كمستبدلٍ من ذئب فقرٍ بأرقَمِ فجانبْهمُ ما اسطَعْتَ واقبلْ نصيحتي ... ومن لم يطِعْ يوماً أخا النُصح يندَمِ فإن لم يكن بُدّ من الناس فالقَهُم ... ببِشْرٍ وصُنْ عنهم حديثك واكتُم فمن يلقَهُم بالبِشْرِ يُحْمَدْ بفعلِه ... ومن يلقهم بالكبْرِ يُعتبْ ويُذمَمِ ومن لم يصانع في أمورٍ كثيرة ... يُضرّس بأنيابٍ ويوطأ بمنسِم وحين وفاة أمية بن أبي الصلت أهدى إليّ سيدنا القاضي الفاضل حديقة أبي الصّلت وقرأت في آخرها مكتوباً: توفي الشيخ الأجل أمية ابن أبي الصلت يوم الاثنين الثاني عشر من محرم سنة ست وأربعين وخمسمائة وكان آخر ما سمع منه: سكنتكِ يا دارَ الفناءِ مصدّقاً ... بأني الى دارِ البقاء أصيرُ وأعظَمُ ما في الأمر أنّي صائِر ... الى عادلٍ في الحُكم ليس يجورُ فيا ليتَ شِعري كيف ألقاهُ بعدها ... وزادي قليلٌ والذّنوبُ كثيرُ فإنْ أكُ مَجزيّاً بذنبي فإنّني ... بحَرّ عذاب المذنبين جديرُ وإن يكُ عفو ثم عنّي ورحمة ... فثمّ نعيم دائِم وسُرورُ وقال لعبد العزيز ولده: عبدَ العزيز خليفتي ... ربُّ السماءِ عليكَ بعْدي أنا قد عهدتُ إليك ما ... تدْريه فاحفَظْ فيه عهدي ولئن عملْتَ به فإنْ ... نَكَ لا تزالُ حليفَ رُشد ولئن نكثتَ فقد ضلل ... تَ وقد نصحتكَ حسب جهدي وقرأت في موضع آخر أنه توفي في المحرم سنة تسع وعشرين. جماعة من الفضلاء كانت بينهم وبين الحكيم أبي الصلت مكاتبات منظومة ومنثورة ولم أثبت من شعرهم شيئاً فإنني لم أصادفه أبو الضوء سراج بن أحمد بن رجاء الكاتب قرأت من ديوان أبي الصّلت ما كتبه الى سراج الكاتب، فمن جملة ما قرأت فيه، ما يقول فيه أبو الصلت من قصيدة طويلة، جواباً عن أبيات، قوله وهو يدلّ على فضله ونبله: حلفتُ بها أنضاءَ كل تنوفةٍ ... إذا قطعَتْ شَهْبا أبيح لها حزْمُ تزورُ لوفد الله أكرمَ بقعة ... وأفضلَ ما تنحو الرّكابُ وتأتمّ لقد نالَ في رِفقٍ أبو الضوءِ رتبة ... يقصّرُ عن غاياتِها العربُ والعجم فتًى خصّني منه على الشّحْط والنّوى ... بعهدِ وفاءٍ ما لعروته فصْمُ تناهى لديه العلمُ والحلمُ والحِجا ... وكُمِّلَ فيه الظّرفُ والنُبلُ والفهم رقيقُ حواشي الطّبْعِ رقّ حواشياً ... لأنْ عُدّ من أبنائِه الزّمنُ العُدْمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 870 إذا هدّم الناسُ المعاليَ شادَها ... ولن يستوي الباني ومن شأنُه الهدْمُ وإن أخّرَ الأقوامَ نقص تقدّمتْ ... به رتبة تعنو لها الرتَبُ الشُمّ له قلم ماضي الشَّباةِ كأنّما ... يمجّ به في طِرسِه الأرقمُ السُم كفيل بصرفِ الدهر يصرفُ كيْده ... وقد عزّ من حدّ الحُسام له حسْمُ شدوتُ بذكراهُ فمُصْغٍ وقائِلٌ ... أخو كرمٍ حيّاه بابنته الكرْمُ أبا الضوءِ وافاني كتابكُ يزدهي ... به النثْرُ من تلك البلاغةِ والنُظمُ كتابٌ لو استدعى به العُصمَ قانِصٌ ... لما استعصمتْ من أن تخِرّ له العُصم ولما فضضتُ الختْمَ عنه تضوّعتْ ... لطيمةُ سفرٍ فُضّ عن مِسكها الختم وسرّحتُ طرْفي في رياضِ محاسنٍ ... وشاها الحيا المنهلّ بل علمكَ الجمّ فدُم، وابقَ، واسلَمْ، واستطِلْ عِزّةً، وصِلْوسُدْ، وارْقَ، واغنَمْ، واستزِدْ نعمة، وانْمُ فلن يتنافى اثنان: رأيُك والنُهى ... ولن يتلاقى اثنان: فعلُك والذّمُّ ولأبي الصّلت أيضاً فيه من قصيدة، جواباً: إيهٍ أبا الضوء هل يقضي اللقاء لنا ... وبيننا لُجَح والموجُ يلتطمُ وافى كتابكَ مختوماً على دُرَرٍ ... يروق منتثرٌ منها ومنتظمُ طرس غدا الغيثُ بالتّقصير معترفاً ... عما وشاهُ به من روضه القلمُ قد أودع الزهْرَ إلا أنه فِقَر ... والأنجمَ الزّهرَ إلا أنها كلِم ولأبي الصلت أيضاً في أبي الضوء في صدر كتاب جواباً عن أبيات: أزَهْرَ الرّبى برُضوب الغوادي ... أم الحَلْيُ فوق نُحور الغواني أم الإلْفُ زار بِلا موعدٍ ... فأبرأني منهُ ما قد براني وغيّضَ دمعي وكم قد طفِقْتُ ... وعينايَ عيناه نضّاحَتانِ أم الطِّرسُ أعملَ فيه اليراع ... وأودعَ أحسنَ رقِم البنانِ فذُمّ لمرآه وشي الصّناع ... وبيع له الدرّ بيع الهوان وما خِلتُ أن بُرودَ الكلام ... تقدّرُ حسبَ قدود المعاني ولم أدرِ أنّ بنات العقو ... ل تفعلُ فعلَ بنات الدّنان وما السّحر سحر مراض الجفونِ ... ولكنّما السّحرُ سحرُ البيان وأين الخدودُ من الجُلّنار ... وأين الثّغور من الأقحوان كتاب نفيْتُ اكتئابي به ... ونلتُ الأماني بظلّ الأماني أتى من بعيدِ مرامي الضّمي ... رِ والفِكرِ مرهف غرب اللسان زرى في التّرسلِ بابْنِ العميد ... كما قد شأى في القريض ابنَ هاني فقرّب من فرَحي كلّ ناءٍ ... وأبعدَ من ترحي كلّ دانِ صَفيّ نأى ودَنا ذكرُه ... فناب السّماعُ منابَ العِيان ومهما تصافت قلوبُ الرجال ... فحالُ تباعدها كالتّداني ولكن على ذاكَ قربُ المزار ... وأشهى وأحلى جنى في الجَنان أبا الضوء سُدْتَ فباتَ الحسود ... يراك بحيث يُرى الفرْقَدان فجادَك عارضُ صوب الغمام ... وجازك عارضُ صرْفِ الزّمان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 871 هذا الفاضل لم يقع إليّ من شعره شيء، لكنني أحببت ذكره بإثبات ما قيل فيه، وشهادة ذلك على قدره النّبيه، وإن سمح الدهر الضّنين بعد هذا بشيء من فوائده، اغتنمت إثباته، وجمعت في هذا المؤلّف شتاته، ثم وقع بيدي كتاب ألّفه ابن بشرون الكاتب بصقلية في عصرنا هذا، ووسمه بالمختار في النظم والنثر لأفاضل العصر، وذكر فيه الشيخ أبا الضوء سراجاً، وأوضح من محاسنه الغرّ ومناقبه الزّهر منهاجاً، ووصفه بصحة التصوّر، وصدق التخيّل، وسداد الرأي، وحدة الخاطر، وأنّ شعره بديع الحوك، رفيع السّلك، فمنه أنّ الفقيه عيسى بن عبد المنعم الصقلي كتب إليه يستعير منه كتاباً: لنا حاج وأنتَ بها مليّ ... ورأيكَ في السّماح بها عليّ فإنْ وافَتْ فذلك ما ظننّا ... وأشبه أهلهُ الفعلُ الزكيّ وإن يعتاقُها منعٌ فقُلْ لي ... الى من يُنسَبُ الفعلُ الرضيّ فأجابه أبو الضوء: ألا انجابَتْ فضاءَ لنا الخفيّ ... وأعشى الأعينَ القمرُ المُضيّ وما خابتْ بما شامَت نُفوس ... شفى غُلاتِها جود ورِيّ من الخبرِ الذي وافى بلِرْماً ... أعيسى المجدُ أم عيسى النّبي وكيف بدا وما أنْ حان حشْر ... وكل مواتِ هذا الخلْقِ حي رويدَك رُبّ خوّارٍ ضعيفٍ ... غدا وهو القويّ القَسْوريّ أعِدْ نظراً وجَلّ بحسنِ ظنٍ ... غبايا الشّكّ يبْدُ لك الجليّ ألا خُذها وِداداً لا عِناداً ... أجَدّ صفاءَها قلبٌ صفي وقال في رمد الحبيب، والبيت الأخير تضمين: قالوا حبيبي أصابه رمَد ... جفا الكرى جفنَه لِما وجَدا يا ليتني كنتُ دونَه ولهُ ... نفسي فِداء فقلّ ذاك فِدا مرّ فأبْدى احمرارُ وجنتِه ... من دمِ قلبي هواهُ ما وجَدا فراعني بهجةً وأدهشني ... فظلتُ أدعوهُ منشِداً غرِدا يا أرمدَ العينِ قف بساحتِنا ... كيما نُداوي من جفنِك الرّمدا وقوله من مرثية في ولد رُجار الإفرنجي صاحب صقلية أولها: بكاء وما سالتْ عيون وأجفانُ ... شجون وما ذابتْ قلوب وأبدانُ ومنها: خبا القمرُ الأسْنى فأظلمتِ الدّنا ... ومادَ من العلياء والمجدِ أركانُ أحينَ استوى في حُسنِه وجلالِه ... وتاهتْ به أطواد عزّ وأوطانُ تخطّفَه ريبُ المَنون مخاتِلاً ... على غِرّة إنّ المنونَ لخوّانُ كذلك أعراضُ البُدور يعوقُها ... إذا كمُلتْ من حادث الدّهر نقصانُ لحُقّ بأن نبكي عليه بأدمُعٍ ... لها في مسيلِ الخدّ درّ ومَرْجانُ وتُحرَقُ أكباد وتمرضُ أنفُس ... وتعظُم أتراح وتكبُر أشجانُ وتهتاجُ أحزانٌ وتهمي مدامع ... وتُجمع أمواه غِزار ونيرانُ تبكّتْ له خيماتُه وقُصورُه ... وناحتْ عليه مرهفاتٌ ومُرّانُ وعاد صهيلُ الخيلِ في لهواتِه ... حنيناً وعافتْهُنّ لُجم وأرْسانُ وما ناح وُرْقُ الأيكِ إلا له فلو ... درَتْ لبكتْ قبلَ الحمائم أغصانُ فيا لك من رُزْءٍ عظيمٍ وحادثٍ ... يعزّ له صبر ويُعوِزُ سُلوانُ ويا يومَه ما كان أقطعَ هولَهُ ... تشيبُ لمرآهُ المروّعِ وُلْدانُ كأن منادي البعثِ قام منادياً ... لحشرٍ فهبّ الخلْقُ طُرّاً كما كانوا وقد ضاق رحبُ الأرضِ بالخلقِ والتقتْ ... جموعهُم مرجاً رجالٌ ونسوانُ وشُقّتْ قلوبٌ لا جيوب ورجّعتْ ... بلابِلُ وارتجّتْ نفوس وأذهان وكانوا بلُبْسِ اللهوِ بيضاً حمائماً ... فعادوا وهم في ملبَسِ الحزن غرْبان أبو عبد الله محمد بن عبد الصمد بن بشير التنوخي الشاعر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 872 هو من معاصري الحكيم أبي الصلت أمية، وقد أثبتنا شعر أميّة فيه، وهو قطعة خائية موسومة بتنوخ، ولم يقع إلينا من شعره ما نورده إلا ما ذكره في الحديقة، وكان أبو الصلت يرى في المنام كثيراً أبا عبد الله بن بشير، وتجري بينهما محاورات في فنون الآداب، وملح الأشعار، ويجد هو أيضاً من نفسه مثل ذلك في المنام. فقال أبو الصلت: بأبي من صَفا فأصبَح في اليق ... ظَة والنّوم مؤنِسي ونَديمي قُدّ بيني وبينه الوِدّ والإخ ... لاصُ في الحالتين قَدّ الأديمِ نلتقي فيهما فنرتَعُ من آ ... دابِنا الغُرّ في جِنانِ النّعيمِ غير أنّ اللقاءَ في الحُلمِ أشْفى ... لجَوى الشّوْقِ عند أهلِ الحُلومِ فتلاقي الأرواح ألطفُ معنًى ... في المُصافاةِ من تلاقي الجُسومِ وأورد أبو الصلت في الحديقة هذه الأبيات، ونسبها الي محمد بن بشير: ولقد نظمتُ من القريضِ لئالِئاً ... غُراً جعلتُ سلوكهنّ طُروسا ورميتُ علويّ الكلامِ بمنطقٍ ... حتى انتظمتُ بليلهِ البِرْجيسا وجليتُ للحسَنِ الهُمامِ قلائِدي ... فحبوْتُ منها بالنّفيسِ نفيسا ملِك يودّ البدرُ لو يلقى له ... في مُنتدى شرَفِ الجلالِ جَليسا أبو جعفر عبد الولي البني الكاتب معروف من أهل الفضل، ولم يقع إليّ أيضاً شيء من شعره، لكنني قرأتُ في ديوان أبي الصّلت أمية الأندلسي، أنه كتب الى عبد الولي البنّي مجاوباً عن قصيدة خاطبه بها، ومن جملة أبيات أبي الصّلت فيه يصفه بكثرة الأسفار: مجدُك عُلويّ يا جعفرُ ... والشُهبُ لا تعرِفُ سُكنى القرارْ أنِسْتَ بالبيْن وطولِ السّرى ... فالنّاسُ أهلُك والأرضُ دارْ إنْ سِرْت كنتَ الشّمسَ أو لم تسِرْ ... فأنتَ كالقُطبِ عليه المَدارْ ثم طالعت كتاب الجِنان لابن الزبير، وذكر أنّه خليعُ العِذار، قليل المحاشمة في اللهو والاعتذار، لا يبالي أيّ مذهب ذهب، ولا يفكّر فيمن عذر أو عتب، وله أهاجٍ أرغمت المعاطس، وبدائع أخّرت المُنافس، وأخذت المنافِس. وله: قالوا تصيبُ طيورَ الجوّ أسهُمُه ... إذا رماها فقلنا: عندنا الخبرُ تعلّمَتْ قوسُه من قوسِ حاجبِه ... وأيّد السّهْمَ من أجفانه الحورُ يلوحُ في بُردةٍ كالنِّقْس حالكةٍ ... كما أضاءَ بجُنح الليلةِ القمرُ وربّما راقَ في خضراءَ مونقةٍ ... كما تفتّح في أوراقه الزّهَرُ وله: وكأنّما رشأ الحِمى لما بدا ... لك في مضلّعه الجديدِ المُعْلم غصَبَ الحِمامَ قِسيّهُ وأعارها ... من حُسنِ معطفه قوامَ الأسهُم وله: غصبْتِ الثُريّا في البعاد مكانها ... وأودعتِ في عينيّ صادق نوئِها وفي كل حالٍ لم تزالي بخيلة ... فكيف أعرْتِ الشمسَ حلة ضوئها وله: صدّني عن حلاوة التّشييع ... اجتِنابي مرارةَ التّوديع لم يقم أنسُ ذا بوحشةِ هذا ... فرأيتُ الصّواب تركَ الجميع أبو حفص عمر بن علي المعروف ب الزكرمي المهدوي الشاعر لم يقع إليّ شيء من شعره. قرأت لأبي الصّلت أمية الأندلسي فيه قصيدة ضادية وهي: سوابقَ عَبرَتي سُحّي وفيضي ... وإنْ تعْصِ الدموعُ فلا تغيضي فقد أخذ الرّدى من كان منّي ... بمنزلةِ الشّفاء من المريض وما وُقِيَ الرّدى بطِعان سُمر ... وشدّ سوابقٍ وقِراع بيض أبا حفصٍ ذهبتَ بحُسنِ صبري ... وبنتَ فبانَ عن عيني غُموضي خلصتَ الى النّعيم وبي اشتياقٌ ... دفعتَ به الطّويل الى العريض فما أصبو الى عَبّ الحُميّا ... ولا أهفو الى نغَم الغريض ذهبتَ فمن تركتَ لكل معنى ... شديد اللبسِ بعدكَ والغُموض ومن خلفتَ بعدكَ للمعمى ... وللشعرِ المحَككِ والعَروض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 873 ويا لرَجاءِ نفسٍ فيك أفضى ... الى نبإ بموتكَ مُستفيض مصاب صاب بالمُهَجات فيْضي ... ورُزْء قال للعَبَرات فيضي فإن قصّرْتُ في البابيْن فاعذر ... فقد شغلَ الجريضُ عن القريض شرقتُ بأدمعي وصليتُ وحدي ... فها أنا منكَ في طرَفَيْ نقيض سقاكَ وجاد قبركَ صوبُ مُزْنٍ ... يشقّ ثَراه من روضٍ أريض إذا استقرى الحَيا نحرتْ عليه ... عِشار المُزْن مرهقَة الوميض وإن مسحتْ جوانبَهُ النُعامى ... أعيرَتْ نفحة المِسك الفضيض فقدتُك والشّبابَ وريعَ فَوْدي ... بمرأى من مطالعِه بغيض ألمّ بلمّتي وذؤابتَيْها ... فعوّضهُنّ من سودٍ وبيض وقبلكَ ما انتحتْ عودي الليالي ... بنابٍ من نوائبها عَضوض فما فوجئتُ ذا قلبٍ جزوعٍ ... ولا ألفيتُ ذا طرْفٍ غضيض ولكن قائلاً يا نفسُ شُقّي ... غمارَ الموتِ مقدِمَة وخوضي فما قعَد الأنام عن المعالي ... لعجزِهمُ وخان بها نهوضي وما بلغ العَلاء كشمّريّ ... قؤومٍ بالذي يعني نَهوض سأعمِلُها هملّعةً دِقاقاً ... تقلْقلُ في الأزمّةِ والعَروضِ لها من كلّ مرقبَةٍ وفجٍّ ... هُوِيّ القِدْح من كفّ المُفيض فإمّا أخمص فوق الثُريّا ... وإمّا مفرِقٌ تحت الحضيض فأشقى النّاسِ ذو عقلٍ صحيحٍ ... يعودُ به الى حظٍ مريض قال العماد: ذكرته في من أورده أبو الصلت: ولم أورد شعره. ومما أورد له في كتاب الجِنان قوله: كيف تُقْلى وأنتَ جنّةُ عدْنٍ ... من رآها ليس يصبِرُ عنها غير أنّي لشَقوتي ليس عندي ... عمل صالح يقرّبُ منها وقوله وقد طولب بمكس بضاعة من أبيات: ولقد رجوْنا أن ننال بمدحكم ... رِفْداً يكون على الزّمان مُعينا فالآن نقنَعُ بالسّلامة منكمُ ... لا تأخذوا منّا ولا تُعطونا وله في رجل بالقيروان يعرف بشبيب يهوى غلاماً اسمه جيرون فلما كبر زوّجه ابنته فقال فيه: لله درّ شَبيبٍ في تفسّدِه ... فقد أتى بدعةً من أعظم البِدع حداهُ فرطُ الهوى أن ينكح ابنته ... فردّه الدّينُ والإفراطُ في الورع فظلّ ينكحُ جيروناً وينكحها ... جيرون فهو يَنيكُ البنتَ بالقمع الشيخ أبو الفضل جعفر بن الطيب ابن أبي الحسن الواعظ لم يقع إليّ أيضاً من نظمه شيء، وإنما أثبت اسمه من ديوان أبي الصّلت لما لقيه فشكا إليه الإجبال للضعف والكبر، فقال فيه أبو الصلت من قطعة: إمامَ الهُدى رفِّهْ بدائِهَك التي ... بهرْتَ بها كلّ الأنام خِطابا فإن يكُ عاصاك القريضُ فلم يُجبْ ... فقد طالما استدعيتَه فأجابا ولا غرو أن خلّى عن النّزْع خاطر ... رمى زمناً عن قوسه فأصابا ألستَ ترى الصّمصامَ لم ينْبُ حدّه ... عن الضّربِ إلا حين ملّ ضرابا باب في ذكر جماعة وافدين إلى مصر وغيرها من المغرب أبو الحسن علي بن فضال القيرواني المجاشعي النحوي هو علي بن فضّال بن علي بن غالب بن جابر بن عبد الرحمان بن محمد بن عمرو بن عيسى بن حسن بن زمعة بن هميم بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع. قرأت في مؤلف السمعاني أنه هجر مسقط رأسه، ورفض مألوف نفسه، وطفق يدرج بسيط الأرض، ذات الطول والعرض، حتى ألقى عصاه بغَزْنَة ودرّت له أخلافها، ووجد وجه الأماني طلقاً، واتفقت له عدّة تصانيف بأسامي أكابر غزْنة، سارت في البلاد، ثم عاد الى العراق، وانخرط في سلك الخدمة النظامية مع أفاضل الآفاق، وما حلَتْ له أيامه، حتى جُلب له حِماه، وذلك في ثاني عشرين شهر ربيع الأول سنة تسع وسبعين وأربعمائة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 874 قال السّمعاني: قرأت بخط شجاع بن فارس الدّهري الشهرزوري أبي غالب، أنشدنا أبو الحسن علي بن فضال لنفسه: كتبتُ والشوقُ يملي ... عليّ ما في الكتاب والقلبُ قد طار شوقاً ... الى رجوع الحراب قال: وقرأت بخط شجاع، أنشدنا علي بن فضّال لنفسه: لا عُذْرَ للصبّ إذا لم يكن ... يخلع في ذاكَ العذارِ العذارْ كأنّه في خدّه إذ بدا ... ليل تبدّى طالعاً من نهار تخاله جنح ظلام وقد ... صاح به ضوء صباح فحار قال: وقرأت بخطه، أنشدنا علي بن فضّال لنفسه: كأن بَهرام وقد عارضت ... فيه الثُريا نظر المبصر ياقوتة يعرضها بائع ... في كفّه والمشتري مشتري قال: وأنشدنا عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي كتابة: أنشدنا أبو الحسن بن فضّال المجاشعي لنفسه: يا يوسُفيّ الجمال عبدُك لم ... تبقَ له حيلةٌ من الحِيل إن قُدّ فيه القميصُ من دُبُرٍ ... قد قُدّ فيكَ الفؤادُ من قُبُل قال: وأخبرنا أبو الحسن علي بن أبي عبد الله بن أبي الحسين النسوي إجازة، قال أنشدنا علي بن فضّال لنفسه: واللهِ إن الله ربّ العِباد ... وخالص النّيّة والاعتقاد يا أملح الناس بلا مِرْيَةِ ... من غير مُستثنى ولا مُستعاد ما زادني صدّك إلا هوى ... وسوء أفعالك إلا وِداد وإنّني منكَ لفي لوعةٍ ... أقلّ ما فيها يُذيب الجَماد فكن كما شئتَ فأنتَ المُنى ... واحكم بما شئتَ فأنت المُراد وما عسى تبلُغُه طاقَتي ... وإنّما بين ضلوعي فؤاد وقرأت في بعض الكتب للمُجاشعي يمدح نظام الملك: قالوا الوزيرُ ابنُ عبّادٍ حوى شرفاً ... فكم وكم لكَ عبد كابنِ عبّاد ما جاوزَ الرّيّ شِبْراً رأي صاحبه ... وأنتَ بالشّام شمس الحفل والنادي ولابن فضّال المجاشعي: إن تُلقِكَ الغُربةُ في معشرٍ ... قد أجمعوا فيكَ على بُغضهم فدارِهم ما دُمتَ في دارِهم ... وأرضِهِمْ ما دُمْتَ في أرضِهمْ أبو الحكم المغربي الحكيم الأديب تاج الحكماء أبو الحكم عبيد الله بن المظفر بن عبد الله المريني المغربي صاحب عمّي الصدر الشهيد العزيز أبي نصر أحمد بن حامد بن محمد روّح الله روحه وروّض ضريحه. كان طبيب البيمارستان الذي كان يحمله أربعون جملاً في المعسكر أين خيّم وابن المرخم يحيى بن سعيد الذي صار أقضى القضاة في الأيام المقتفية ببغداد، كان فصّاداً فيه وطبيباً أيضاً وكان أبو الحكم كثير الهزل والمداعبة، دائم اللهو والمطايبة. سمعت بعض أهل أصحاب عمّي يقول: كان يأتي إليه الغلام وما به شيء، فيريه نبضه فيقول له: تصلح لك الهريسة، وما زال يخدم ملازماً للعمّ، الى حين نزول الحادث الملم، فآلى أن لا يقيم بالعراق بعده، وآثر على قربه منها بعده، وركب مطية الغسق، الى دمشق، وأقام بها الى أن أتاه الأجل المحتوم، والقدر المعلوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 875 فأقول: الحكيم أبو الحكم، حكم له بالحِكم، ولم يمنعه حكمه وحكمته، عن الجري في ميدان الهزل، والجمع في نظمه السّخيف بين الإبريسم والغزْل، ولم يميز في شعره حلاوة العمل من مرارة العزل، بل مزج السخف بالظرف، ولم يتكلف مكابدة النقد والصرف، فخلط المدح بالهجو، وشاب الكدر بالصفو، ونظمه في فنّه سلس، وللقلوب مختلس، ومقطّعاته مقطِّعات للأعراض، مفوّقات الى أغراض الأغراض، إذا جال في مضمار القريض الطويل العريض، يؤمن عثاره، ولا يشقّ غباره، وله قصائد غرّاء في مدح عمّي العزيز، صار بها من أولي التمييز، فلعلّه لم يُجِدْ في غيرها، لأجل ما يوالي عليه من خيرها، فقد استغنى في نعمته، وعرف بدولته، وتلك القصائد مع المدائح التي جمعت في العزيز، نهبت في جملة كتبه، لعن الله من جاهر بحربه، ولم يقع إليّ من شعر أبي الحكم، صاحب الحِكم، إلا جزئيات من جملة ما نظمه بدمشق لهواً، وضرب على الجد فيه عفواً، من كتاب، سماها نهج الوضاعة لأولي الخلاعة، فأثبتّ من الجزأين المقطوعين ما استطبته، وتركت ما عِبته، وكان أعارني من الجزأين ببغداد الشيخ البائع يحيى بن نزار. فمن ذلك له قصيدة يمدح بها منير الدولة حاتم بن محسن بن نصر بن سرايا، ويصف مشروباً أهداه له في سنة أربعين وخمسمائة، وهو من نظيف نظمه: لي أدمعٌ لا تزال منسكبهْ ... وزفرة لا تزالُ ملتهِبهْ على فتاة ألِفتُها فغدَتْ ... عنّي عند الوِصال محتجبهْ تُخجِلْ شمس الضحى إذا انتقبت ... والقمرَ التمّ غير منتقبهْ للحسن سطْر من فوقِ وجنتها ... فليس يقرأهُ غيرُ من كتبَهْ فقُفْل صبري لمّا طمِعْتُ بها ... أصبح من وصْلِها على خرِبَهْ يا حبّذا ليلة لهوتُ بها ... أرشفُ من برْدِ ريقها شنَبَهْ تخاف أن يغدرَ الظّلام بنا ... فهي لضوء الصّباح مرتقِبَهْ ومنها في صفة المطية: هذا وكم جبتُ مهْمَهاً قذفا ... على بعيرٍ في ظهره حدَبَهْ ومنها في الهزل: إذا ذُبابُ الفَلاةِ طاف به ... حرّك من خوف قَرْصِه ذنَبَهْ يأمَنُ ممّا يخافُ راكبُه ... لأنّه عصمةٌ لمن ركِبهْ إن هو أرخى الزّمام أسرعَ في الس ... سَيْر وإن رام مهلة جدبَهْ ومنها في المديح: ولست أعتدّ للفتى حسباً ... حتّى أرى في فِعاله حسبَهْ سميّه لو غدا مساجله ... في المجدِ والمكرُماتِ ما غلبَهْ مُبرّأ من خنًى ومن دنَسٍ ... مطهّر الجيب سالم الجنبَهْ تصبح من عِفّةٍ صحيفتُه ... مبيضّةً ليس تُتعبِ الكتبَهْ لم يعدم الراغبون نائله ... ولم يضيع لقاصدٍ تعبَهْ وكل شخص يؤمّ منزله ... يقرع باباً مُبارك العتبَهْ ما يصفُ الآن منه مادحُه ... أبشْرَه أم نداه، أم أدبَهْ أعيَتْ سجاياه وصفَ مادحه ... وإن أجادَ المديحَ وانتخبَهْ أهلاً بمن جاد بالعقار ومن ... جاء به مسرعاً ومن شربهْ فدَيْتُ قطّافَهُ وعاصرَه ... ومن سعى فيه وانتفى عنَبَهْ ومن وعاهُ في دنّه زمناً ... واكتاله في الظّروف إذ حلبَهْ بَني سرايا لله درّهم ... ليس لهم بين ذا الأنام شبَهْ من أبصر الأجنبيّ بينهم ... يظنّه واحداً من العصبَهْ لا مُتّ حتى أرى عدوّهم ... مستنداً ظهرُه الى خشبَهْ وله من قصيدة في مدح الأديب نصر الهيتي، ويوصيه فيها بمهاجرة أبي الوحش الأديب: إذا رام قافية نظمها ... غدا طوعَه سهلُها والعسيرُ وذاك الذي شعرُه حِنطة ... وشِعْر سواهُ لدينا شَعيرُ وما كمقاماتِه للبديع ... وليس له اليومَ فيها نظيرُ فقد حسد الشّامُ فيه العراقَ ... وظلّتْ به جِلّقٌ تستَنيرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 876 هو ابنُ جَلا دهرِه في الخطوب ... وطلاّع أنجدةٍ ما يغورُ إن استجمعتْ مشكلاتُ الأمو ... رِ فهو الخبيرُ بها والبصيرُ ومنها في مدحه لجودة لعبه في النّرد: وإن ولعتْ كفّه بالفصوص ... فإنّ الغنيّ لديه فقيرُ تدين الشّيوشُ له والبُنوجُ ... وما لليُكوكِ لديه ظُهورُ ومنها: فيا من يظلّ لساني له ... يترجم عمّا يكنّ الضمير تجنّبْ وُحَيْشاً وإنّ الفتى ... على حتفِ من يصطفيه يدور فأخِّرْ وِدادَك عنه فقد ... يؤخَّرُ في رمضانَ السّحور وله يتشوق الى ابن سهيل، وقد طالت غيبته: وحشتي لابن سُهيلٍ ... أسهرتني طولَ ليلي فبه قد كان أنسي ... وإليه كان ميلي كم أنادي وا شقائي ... بعده، وا طولَ ويْلي كان يكتالُ لي الوِدْ ... دَ بكيلٍ أي كيْل فلقد طوّل بالإن ... عام والمعروفِ ذيْلي لم يكن يُخلي الذي وا ... لاهُ من بِرّ ونَيل حُقّ لي بعدكَ مما ... ذُبْتُ أن يسقط حَيْلي ما لدائي اليوم من ط ... بّ ولو عاش الجُبَيلي وله في الشريف الواسطي: وواسطي معجب طولُه ... يشهد بالنّوْكِ له والخرَفْ منتحل للشِّعر لا يرْعَوي ... جهلاً، مدلّ بادّعاء الشّرفْ لو قيل منْ جدّك بيّنْ لنا ... خلّط، أو قلْ بيت شعرٍ، وقَف وله لغز في عبد الكريم: بمهجتي يا صاحِ أفدي الذي ... يُميتني تفتيرُ عينَيْه صرت له ثُلث اسمه طائعاً ... وهو بوصْلي ضدْ ثلثيه كأنما وجنته إذ بدتْ ... أنجُم خيلانٍ بخديه هلالُ تمّ والثريّا له ... مقلوب ما يشبهُ صدغَيْه أراد أن شبيه صدغيه عقرب، ومقلوبها برقع. وله في عبد خصي بعد مجيئه من الحج: جاء ريحانُ من الحَجْ ... جِ وقدأسرعَ سيرَهْ عدم المنحوس في جلْ ... لَق خصييه وأيره ما أراه بعدها يط ... مع في جلد عميره وله في الهزل: إذا جاءني يوماً نعيّ أبي الوحش ... وأبصرته فوق الرؤوس على نعشِ وقد جعلوا من نهر قلّوط غسله ... وكفِّن في كرش وألحِدَ في حشّ وظل لم يلقاهُ من هولِ منكرٍ ... وشدة ضيق القبر يضرط كالجحش بذلت لصحبي زقّ خمر وقينة ... وزخرفتُ داري بالنّمارق والفُرشِ فإنْ قيلَ لي ماذا التكرّم والسّخا ... أقول لهم مات الوضيعُ أو الوحش وله في الأديب أبي الوحش وقد وعده بليمو ولم ينفذه إليه: أبا الوحش يا من غدتْ عرسه ... تجود بما بين أفخاذها وعشرون مما حوى القطرميز ... بخلت علينا بإنْفاذها وله من قصيدة يرثي الأمير الاسفهسلار أتابك زنكي بن آق سنقر رحمه الله وهو شبيه بالهزل: عينُ لا تذخَري الدموع وبكّي ... واستهلّي دماً على فقد زَنكي لم يهب شخصَه الرّدى بعد أن كا ... نتْ لهُ هيبة على كل تُركي ومنها: خير ملك ذي هيبة وبهاءٍ ... وعظيم من الأنام بُزُرْكِ يهَبُ المال والجياد لمن يمْ ... مَمهُ مادحاً بغير تلكّي رُبّ بازٍ لصيدهِ وسلو ... قيّ وصقرٍ وباشقٍ وبلنْكِ ضاع من بعده وعاش غزال ... ومَهاة وطيرُ ماءٍ وكُرْكي ومنها: لست أدري أمن بلادةِ حِسٍ ... ركّ شِعري أو من رخاوة فكّي ومنها: إنّ داراً تمدّنا بالرّزايا ... هي عندي أحقّ دارٍ بترْكِ فاسكبوا فوقَ قبرِه ماءَ وردٍ ... وانضحوه بزعفرانٍ ومسكِ أي فتكٍ جرى له في الأعادي ... عندما استفتح الرّها أيّ فتْكِ إذ رمى كل نعمةٍ بزَوالٍ ... وانتقالٍ وكلّ سِترٍ بهتْكِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 877 عندما اعتاضَ أهلُها من سُعودٍ ... بنُحوسٍ ومن حياةٍ بهُلْكِ ويكِ نفسي أترتَجين سُلوّاً ... بعدما قد تمكّن الحزنُ منكِ كل خطبٍ أتتْ به نوَبُ الده ... رِ يسيرٌ بجنْبِ مصرَعِ زَنْكي بعدما كاد أن يدينَ له الرّو ... مُ ويحوي البلادَ من غير شكّ له من قصيدة في الهزل: فديتُ قَذالَه ما كان إلا ... له جَلد على وقْعِ الأكفّ وأصلبُ منه رأساً ما رأينا ... تُقاسي ما قليلٌ منه يكفي وكانوا كلّما صفعوه ألْفاً ... أبى إلا مغالطة بألفِ ولا يرضيه منهم ذاك حتّى ... يحابوه ببرطاش وخفّ وله وقد زُيِّن سوق دمشق وعُلِّق سَبُعٌ على رمح: يا رُبّ سوقٍ مزيّن حسن ... جُزتُ به والنّهارُ منسلِخُ رأيتُ من فوقِ بابه سبُعاً ... يدخلُ فيه الهوا فينتفخُ وله من قطعة: وللمنايا مواقيت مقدّرة ... وذاك حُكم جرى في سالف الأبدِ ولم تزلْ أسهُمُ الأقدار صائبة ... ولا سبيلَ الى عقلٍ ولا قوَدِ وله من قصيدة: ألا رُبّ وغدٍ قوّمَ الموتُ درّه ... كما أخرجت ضِغْنَ الشموسِ المهامزُ وقِدْماً رأينا اللؤمَ يفضح أهلَه ... وتشهَد للقوم الكرام الغرائز وفي الناس محظوظٌ سعيد ومُدبِر ... وفيهم إذا فتّشتَ ضانٌ وماعز وله يرثي كلباً من قصيدة: كان ذا ألفةٍ بنا وحِفاظ ... لم يكن فيه خصلة مذمومه لم يزلْ دائماً يبصبِصُ للضي ... فِ فاعتدّ ذاك منه غنيمه لو يباحُ الفداءُ فديناهُ بالنفس ... وإن لم تكن له النّفسُ قيمه لو تأمّلتَه لراقَك حُسْناً ... وتمنّيت أن تكون نديمَه إنّ هذا الزمانَ شيمتُه الغدرُ ... قديماً والغدْرُ أقبحُ شيمَه وله، وكان ابن منير الشاعر بشيزر، وأراد أبو الوحش الأديب السفر إليه، فسأل أبا الحكم أن يكتب أبياتاً إليه في حقه فكتب: أبا الحسين استمعْ مقالَ فتًى ... عوجِل فيما يقول فارتجَلا هذا أبو الوحش جاء ممتدِحاً ... للقوم نوِّهْ به إذا وصَلا واتلُ عليهم بحُسنِ شرحِك ما ... تلوتَه من حديثه جُمَلا وخبِّر القومَ أنّه رجُل ... ما أبصرَ الناسُ مثلَه رجُلا ينوبُ عن وصفه شمائلُه ... لا يبتغي غاقلٌ به بدَلا ومنها: وهو على خفّةٍ به أبداً ... معترفٌ أنّه من الثُقَلا يمتّ بالثّلْب والرّقاعة والسُخْ ... فِ وأمّا بما سواهُ فلا إن أنتَ فاتَحتَه لتُخبِر ما ... يصدُر عنه فتحتَ منه خَلا فسُمْه إنْ حلّ خطّة الخسف والهو ... ن ورحِّبْ به إذا انتقَلا واسقِه السمّ إن ظفرت به ... وامزجْ له من لسانكَ العسَلا وله مقصورة هزلية في الشعراء وطردية، واقتصرت على ما كتبته. الشيخ أبو محمد عبد الله بن محمد بن المغربي الأندلسي له في عميد الدولة بن جهير من قصيدة: لا زال مجدُك يكبت الحُسّادا ... ويُبيرُ من ناوَى وصدّ عِنادا ويُعيدُ أرواحاً أبتْ لنوائِبٍ ... دارتْ بها أن تصحبَ الأجْسادا لله أيام بقربك أنعمت ... ما ضرّها إنْ لمْ تكنْ أعيادا راقتْ محاسنُها وطاب نعيمُها ... فأتى الزمانُ حدائقاً وعِهادا أسفي على زمنٍ مضى في غيرها ... يا ليتَ ذاهبَه استعادَ فعادا مَن مبلِغٌ عنّي الأحبّةَ إذ نأتْ ... أوطانُهم والمعشرَ الحُسّادا أنّي وجدتُ الجوّ طلْقاً بعدهُمْ ... والماءَ مصقولَ الأديمَ برادا وقرَرْتُ عيناً في قرارة ماجدٍ ... بطباعهِ يستعبِد الأمجادا وحللتُ في كنَفِ السّيادةِ فانثنى ... زمني وعاد المنصفَ النّقادا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 878 وله فيه من أخرى مطلعها: تبيّن من سرّهِ ما كتَمْ ... فلاحَ كنارٍ بأعلى علَمْ ومنها: ظننتُ الشّبابَ يفي إذ أتى ... فلم يكُ إلا خيالاً ألَمْ وكلّ جناحِ دُجى حالك ... فأنجَمَ عن فلَق قد نجَم ووافى المشيبُ فأهلاً به ... ولكنّه زائدٌ في الهرَمْ ويوجِبُ ضعف القُوى والهوى ... ويبعثُ في كل حينٍ ألمْ ومنها: وما زال يقْفو زمانٌ زماناً ... فإمّا بحمْدٍ وإما بذَم ولكنّ هذا الزّمان استقام ... ولولا السّياسةُ لم يستقم لسيّدِ تغلِبَ لاحتْ له ... أناة وكفّ وقدماً ظلم ومنها: عميدٌ لدولة خيرِ الورى ... بذكراهُ قد طابَ نشرٌ وفمْ وقد سكنتْ عينُ أعدائِه ... كما سكن الفعلُ جزماً بلَمْ فليستْ على فمِ ذي البُخْلِ لا ... بأولى على فمِه من نعَمْ ومنها: سلِ العَضْبَ عنه تجدْ مخبِراً ... فُلولاً به من قِراعِ البُهَمْ ويشكو امتلاء بما قد غذاهُ ... فيرعفُ في كل حينٍ بدَمْ اسماعيل الطليطلي وهو مستثنى في هذا الباب. وجدت له في مجموع: ودون البراقعِ معكوسُها ... تدبّ على وردِ خدّ نَدي تُسالمُ في قُربِها خدّهُ ... وتلسعُ قلبَ الشّجي الأبعَد عبد الودود الطبيب الأندلسي من بلنسية بالأندلس هاجر الى العراق وخُراسان وعرف عند السّلاطين في عصر السلطان ملِكْشاه وهو الذي يقول فيه بعض أهل العصر وقد ضمن شعر المتنبي أنشدنيه الشيخ عبد الرحيم بن الأخوة: عبد الودود طبيب طِبُهُ حسن ... أحيا وأيسر ما قاسيت ما قتلا لولا تطببه فينا لما وجدت ... لها المنايا الى أرواحنا سبلا وأنشدني الأمير جمال الدين ابن الصيفي سنة ثمان وستين لعبد الودود بيتين يكتبان بالذهب على بيضة النّعام وكان يستحسنهما: قبيح لمثلي أن يُحَلّى بعسجَدٍ ... وألبسَ أثواباً وملبسي الدّرّ ولو كنتُ في بحرٍ لعزّتْ مطالبي ... ولكنّ عيبي أنّ مسكني البر أبو هارون موسى بن عبد الله ابن ابراهيم بن محمد بن سنان بن عطاء بن عبد العزيز بن عطية بن ياسين بن عبد الوهاب بن عاصم القحطاني المغربي الأغماتي. وأغمات آخر مدينة بالغرب عند السوس الأقصى بينها وبين بحر الظلمات مسيرة ثلاثة أيام. رحل موسى الى مصر، والحجاز، والعراق، والجبال، وخراسان. وأقام بنيسابور مدّة يتفقه على أبي نصر القشيري، وببهارى على البُرهان. قرأت في تاريخ السّمعاني يقول: ذكره أبو حفص عمر بن محمد النّسفي اليخشبي في كتاب القَند في ذكر علماء سمرقند وقال: موسى بن عبد الله الأغماتي قدم علينا سنة ست عشرة وخمسمائة وهو شاب فاضل، فقيه، مناظر، بليغ، شاعر. وفيه قلت: لقد طلع الشمسُ من غربِها ... على خافِقَيْها وأوساطِها فقلت: القيامةُ قد أقبلتْ ... فقد جاء أوّل أشراطِها قال وفيه قلت: سرّ قربُ الشيخ موسى ... كلّ قلبٍ كان يوسى ومحا الهمّ كما يم ... حو شُعور الرّاس موسى قرأت في كتاب السّمعاني: أنشدنا أبو بكر محمد بن محمد بن علي السّعدي بسمرقند، أنشدنا عمر بن محمد اليخشبي، أنشدني موسى المغربي لنفسه مما قاله بنيسابور: لعمرُ الهوى إنّي وإن شطّتِ النّوى ... لذو كبِدٍ حرّى وذو مدمعٍ سكبِ فإن كنتُ في أقصى خُراسانَ نازحاً ... فجسميَ في شرقٍ وقلبي في غربِ أبو محمد عبد الله بن يحيى بن محمد بن بهلول السرقسطي الأندلسي وسرقسطه من بلاد الأندلس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 879 كان من فقهاء الفضلاء، ويعدّ من الشعراء النّبلاء، حسن الكلام فصيحه، ظريف النّظم مليحه، مستقيم اللفظ صحيحه، قرأت في مؤلف السّمعاني أنّه ورد بغداد وأقام مدة في المدرسة النّظامية في حدود سنة خمسمائة أو قبلها، ثم خرج الى خُراسان، وسكن بمرو الرّوذِ الى أن توفي في حدود سنة ست عشر وخمسمائة، قال: أنشدني ولده أبو محمود سالم، قال: أنشدني سيدي أبو محمد بن بهلول لنفسه: ومهفهفٍ يختالُ في أبرادِه ... مرح القضيبِ اللّدْن تحت البارِحِ أبصرتُ في مرآةِ فكري خدّه ... فحكيتُ فعلَ جفونه بجوارحي ما كنتُ أحسبُ أنّ فعل توهّمي ... يقوى تعدّيه فيجرحُ جارحي لا غرْوَ أن جرحَ التّوهمُ خدّهُ ... فالسّحر يعملُ في البعيد النّازحِ وقال: أنشدنا سالم، أنشدني والدي أبو محمد بن بهلول لنفسه، مما يخاطب به ممدوحه: أيا شمسُ إنّي إن أتتْكِ مدائحي ... وهنّ لآلٍ نُظّمتْ وقلائدُ فلستُ بمن يبْغي على الشّعر رشوةً ... أبى ذاك لي جدّ كريم ووالدُ وإنّي من قومٍ قديماً ومُحدَثاً ... تُباعُ عليهم بالألوف القصائد وقال: سمعت سالم بن عبد الله بمرو الرّوذ يقول: لمّا دنا أجل سيدي أبي محمد بن بهلول الأندلسي، وكان مريضاً، أنشأ هذه القطعة عشيةً: خليليّ لو أبصرتُماني وقد جنى ... عليّ الضّنى ما كنتما تعرِفانيا خليليّ لو غيرُ الذي بي أضرّني ... لكنتُ أعانيه بعلمي وماليا ولكنّما أشكوهُ وجْدٌ مبَرّح ... ألا إنّه أعيا الطبيبَ المُداويا إذا سألوه قال قولَ معلِّلٍ ... وإن كان يدري أنّه غيرُ ما بيا فهل لمُحبٍّ قد تناءى حبيبُه ... بشيءٍ سوى وصل الحبيب تداويا أيا رَبّ فارجعني بخيرٍ معجَّلاً ... الى خيرِ دارٍ ظل فيها شِفائيا هذا شعر أضعفه مرض قائله، ولا بأس به. أبو محمد عبد الله بن عيسى بن عبد الله ابن أبي حبيب الأندلسي من بيت العلم والوزارة، قرأت في مصنّف المعاني يقول: ولي القضاء بالأندلس مدة بكورة، يقال لها كورة منجة، من غرب الأندلس، ثم خرج منها على عزم الحج، وجاور بمكّة سنةً، ثم قدم العراق، وأقام ببغداد مدة، ثم أوى الى خراسان، وتوفي بهرات سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وأنشدنا لنفسه: تلوّنتِ الأيامُ لي بصُروفِها ... فكنتُ على لونٍ من الصبرِ واحدِ فإن أقبلتْ أدبرتُ عنها وإن نأتْ ... فأهوَنُ مفقودٍ لأكرمِ فاقِدِ قال، وأنشدنا أبو محمد بن أبي حبيب الأندلسي لنفسه: قد غدا مُستأنِساً بالعلمِ مَنْ ... خالطَتْهُ روعةُ المَها بِهِ لا ينالُ العلمَ جسم رائح ... حُفَّتِ الجنّةُ بالمَكارِه جماعة من أهل المغرب الشيخ أبو علي الطليطلي المغربي متبحر في جميع العلوم، ذو فنون، كلامه فيها كلؤلؤ مكنون، لم يسمح الدهر بنظيره، وافر العلم غزيره، مشرق الفضل منيره، ذكره القاضي البرهان أبو طالب النحوي عند وصوله في خدمة الوزير عون الدين يحيى بن محمد بن هبيرة الى واسط لما انحدر السّرادق الشريف المقتفوي الى العراق في رمضان سنة أربع وخمسين وخمسمائة، وكنت نائباً للوزير بواسط في أسبابه فتقدّم إليّ بمقام أبي طالب النحوي عندي الى حين العود من العراق، وكنا نتجارى في العلوم مدة مقامه وأقتبس من كلامه، فذكر يوماً أبا عليّ الطليطلي وأثنى على فضله، وقال: لا يجود الزمان بمثله. وقال أنشدني الشيخ أبو علي لنفسه: قد مللتُ العيشَ في دارِ دُنيا ... حُلوُها مُرٌ فما إنْ تُمَلُّ وأرى دينيَ فيها عِياناً ... كلّما أكثرتُ منها يقِلّ كلما زادتْ يزيدُ انتِقاصاً ... فإذنْ لو كمُلتْ يضمَحِلّ جماعة مدحوا عميد الدولة بن جهير في الأيام المقتدية والمستظهرية من أهل المغرب الأديب أبو الحسن علي بن محمد المغربي القيرواني تلميذ الشيخ أبي إسحاق الشيرازي رحمة الله تعالى عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 880 طالعت مجموعاً من قصائد مدح بها عميد الدولة ابن جهير الوزير، فوجدت لأبي الحسن المغربي من قصيدة فيه: هجرَ الظَّلومُ وزاد في الهجران ... وسطا عليّ بجَورِه وجفاني غدْرُ الزّمانِ كغدره فتظاهرا ... فبقيتُ بينهما أسيراً عاني فمتى يؤمّلُ طيبَ عيشٍ من غدا ... في صدّ محبوبٍ وجوْرِ زمان قلْ للزّمان تراكَ تعدِلُ ساعة ... أخرى فتصلحَ ساعة من شاني هيهات قد خرفَ الزّمانُ فما له ... في الاجتماع بمن أحِبّ يَدانِ ومنها في المدح: لو أنّ ثَهْلاناً وحلمَك قُنطِرا ... لأمالَ حلمُك قُنّتَي ثَهْلانِ فاصعدْ هضابَ المجدِ إنّك حُزتَها ... بالجاهِ والتّمكين والإمكانِ قرأت في مصنّف السّمعاني، قرأت في كتاب الوشاح لأبي الحسن علي بن محمد بن القيرواني: ما في زمانِك ماجد ... لو قد تأمّلْتَ الشّواهد فاشهَدْ بصدْقِ مقالتي ... أو لا فكذّبْني بواحِدِ الأديب محمد بن أبي بكر الأندلسي وجدت له مخلص قصيدة في أبي جهير الوزير ولا بأس به: أيا صاح في نفسي عن النّاس سلوةٌ ... إذا سلِمَتْ لي مُهجتي ووزيرها لئن سامَتِ الأيام نفسي تعسُّفاً ... فإنّ عميدَ الدولتين نصيرُها طائفة من أهل المغرب ذكرهم السّمعاني في جملة أصحاب الحديث العدل أبو الفضل بن لادخان هو عطية بن علي بن عطية بن علي بن الحسن بن يوسف القرشي الطبني القيرواني، كان أحد الشهود ببغداد، وهو ظريف كيس، له نظم سلس، حسن الشعر رقيقه، غامض المعنى دقيقه، قرأت في الذيل للسمعاني يقول: لا أدري ولد بالغرب أو بمكة في مدة مجاورة أبيه بها، وانتقل من مكة الى بغداد وسكنها الى أن توفي بها سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة. قال: أنشدنا الشيخ الأجل أبو الحسين عبيد الله بن علي بن المعمر الحسيني غير مرة. أنشدني أبو الفضل بن لادخان الشاهد لنفسه: قالوا التَحى وانكسفتْ شمسُه ... وما دروا عُذْرَ عِذارَيْهِ مرآةُ خدّيه جلاها الصِّبا ... فبان فيها ضوءُ صدْغيه وقرأت في مدائح ابن جهير الوزير لابن لادخان من قصيدة فيه: أراكَ من معجزاتِ السّعْدِ إسعادا ... جَدٌ أعاد لك الأفلاكَ حُسّادا أيا بشيرَ المعالي عود مالِكِها ... فوقَ المُنى لك قد أطربتَ إنشادا أطَرْتَ أنفسَ من بشّرتَ من فرحٍ ... وقيل يوم النّوى ما كنّ أجلادا أبعْدَ ما تمّ بينٌ لا بُليتُ به ... أبكي وأقرَح أجفاناً وأكبادا وليلةٍ بتّ من بعدِ النّعيم بها ... أشقى وأكثِرُ إعوالاً وتَعْدادا وموقفٍ من سُليمى لستُ أذكره ... إلا رأيتُ لجيش الشوق أمْدادا بيضاءَ تخطر في ثوب الصّبا مرَحاً ... كما تمايلَ خوطُ البان وانْآدا ظلّتْ تُساقطُ دُرّ الدّمع والهةً ... والوجدُ ينهبُ أرواحاً وأجسادا وقد جلا البينُ من أزرارها قمراً ... لا يعدِمُ الرّكب في لألاه إسآدا بكيتُ في إثْر من أهوى وصحتُ فما ... عاج الحُمولُ ولا حاديهمُ حادا راحوا بشمسٍ سحابُ النّقع يسترُها ... والمشرفيّة لا يعرِفْن إغْمادا وفتيةٍ لقنا الخطّيّ مُشرعةٌ ... لا يألفون سوى الأدْراعِ أبرادا لا يرهبون لصرْف الدّهرِ نائبةً ... ولا يهابون داعي الموت إذ نادى كأنّما شرف الدين استدل لهم ... من الزّمان فما يخشون إبعادا ومنها ما أورده ابن الهمذاني المؤرخ في الذيل، في تهنئته بفتح برْكيارُقْ وقتل تُتُشْ في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة: ورايةٍ كاد أن يُعْنى الزمانُ بها ... أمدها بجيوش الرأي إمدادا ضربْنَ بالرّيّ من آرائه قُضُباً ... أضحى لها مِغْفَرُ التّيجان أغمادا ومأتمٌ قام نحو الغرب صارخُهُ ... فعاد أيامُ من بالشّرق أعيادا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 881 ومعجزاتٍ أراد اللهُ يُظهِرُها ... في كبته لكَ أعداءً وحُسّادا فليهن ذا الفتح من آراؤه فتحَتْ ... عن المكارم أغلالاً وأقيادا رحلتُ والدهرُ قد ألوى بجانبِه ... وعدتُ والدهرُ بالأتباع منقادا وذكر أن هذه القصيدة وازن بها قصيدة فيه للأبيوَرْدي منها: يا خير من وجدَتْ أيدي المطيّ به ... من فرْعِ تغلِبَ آباءً وأجدادا رحلتَ والمجدُ لم ترْقأ مدامِعُه ... ولم ترِقّ علينا المُزْنُ أكبادا وغابَ إذ غبتَ عن بغدادَ رونَقُها ... حتى إذا عُدتَ لا فارقْتها عادا محمد بن الوليد بن الأندلسي الكاتب بمصر قرأت بخط السّمعاني في تاريخه: ذكر أبو العلاء محمد بن محمود النيسابوري، أنشد شيخنا أبو القاسم طلحة بن نصر المقدسي، قول محمد بن الوليد الأندلسي: أدِرْها على وصْلِ الحبيبِ فربّما ... شربتُ على فقد الأحبّة والفجع وما صلتني الكأسُ إلا شربتُها ... وأسقيتُ وجه الأرض كأساً من الدمع باب في ذكر محاسن جماعة من فضلاء العصر بالقيروان أوردهم ابن الزبير في كتاب الجِنان الفقيه أبو الفضل يوسف المعروف ب ابن النحوي قال: أنشدني عمر بن الصّقّال، أنشدني أبو الفضل لنفسه بالقلعة في مدح مصر: أين مصرُ وأين سُكّانُ مصر ... بيننا شُقّةُ النّوى والبعادِ حدّثاني عن نِيلِ مصرَ فإني ... منذ فارقتُه الى الماءِ صادِ والرياض التي على جانبيهِ ... واجعَلاهُ من الأحاديث زادي رقّ قلبي حتى لقد خلتُ أني ... بين أيدي الزّوار والعوّادِ ما تراني أبكي على كل ربْعٍ ... ما تراني أهيم في كل وادِ روشنٌ من رواشنِ النّيل خير ... بعدُ من دَجلةٍ ومن بغدادِ ومن القصر قصرُ شدّاد ذاكَ ال ... مشرف المرتقى على سنداد إن مصرَ لها عانٍ لعَمري ... قد تأبّتْ على جميع البلادِ هذه الأرض إنّما هي نادٍ ... مصرُ من بينها سراجُ النادي أسعداني يا صاحبيّ على هـ ... ذا البُكا حاجتي الى الإسعادِ وله في الإمام حجّة الإسلام أبي حامد الغزالي: أبو حامدٍ أحيا من الدّين علمَهُ ... وجدّد منه ما تقادم من عهدِ ووفّقه الرحمانُ فيما أتى به ... وألهمَهُ في ما أراد الى الرّشد ففصّلها تفصيلَها فأتى بها ... فجاءت كأمثال النجوم التي تهدي أبو بكر عتيق بن محمد بن الوراق له يرثي رجلاً، دفن بليل: دفنوا صُبحَهمْ بليلٍ وجاءوا ... حين لا صُبْحَ يطلبون الصّباحا خدّوج امرأة من أهل رُصفة لُقّبت بهذا اللقب، واسمها: خديجة ابنة أحمد بن كلثوم العامري، وهي شاعرة حاذقة مشهورة، ولها ترسّل لا يقع مثله إلا لحذّاق المترسلين، ومن شعرها: فرّقوا بيننا ولما اجتمعنا ... فرّقونا بالزّور والبهتان ما أرى فعلَهم بنا اليومَ إلا ... مثلَ فعل الشيطان بالإنسانِ لهف نفسي عليك بل لهف نفسي ... منك إن بنت يا أبا مروان كان هذا أبو مروان من أهل الأندلس، شاعراً يودّها ويشبّب بها، فغار ذلك إخوتها، وفرّقوا بينهما، فعملت لذلك أشعاراً، وكتبت الى أخيها: أأخي الكبير وسيّدي ورئيسي ... ما بالُ حظي منكَ حظّ نحيس أبغي رضاكَ بطاعةٍ مقرونةٍ ... عندي بطاعة ربّي القُدّوسِ يا سيّدي ما هكذا حكمُ النُهى ... حقّ الرّئيس الرّفقُ بالمرؤوسِ وإذا رضيتَ ليَ الهوانَ رضيتُه ... ورأيتُ ثوب الذّلّ خيرَ لَبوسِ واشهر أبو مروان هذا، فقتله إخوتها. محمد بن أبي بكر الصقلي ذكره ابن القطاع في الدرة الخطيرة، وذكر أنّه كان يهوى بعض القواد، وخامره هوى برّح منه بالفؤاد، وكتم غرامه به حتى تقطعت كبده، وهو مع ذلك يستر وجده، ويزيد كمده. وقال فيه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 882 هذا خيالكَ في الجفون يلوحُ ... لو كان في الجسم المعذّب روح يا سالماً مما أقاسي في الهوى ... هل يشتفي من قلبيَ التّبريح غادرتني غرَضَ الرّدى وتركتني ... لا عضوَ لي إلا وفيه جروح لو عاينتْ عيناكَ قذْفي من فمي ... كبِدي ودمعي معْ دمي مسْفوح لرأيتَ مقتولاً ولم ترَ مقْتَلاً ... ولخلتَ أنّي من فمي مذبوح يا ويحَ أهلي قد جُرِحْتُ وما دروا ... أنّي بأسياف الجفون جريح كبدي على صدري جرتْ فإلى متى ... أغدو أعذّبُ في الهوى وأروح باب في ذكر جماعة وافدين إلى مصر وغيرها من المغرب محمود بن عبد الجبار الأندلسي الطرسوسي له يهجو الآمدي العجلي الوافد الى مصر: أيها الآمديّ حُمقُك قد دلْ ... ل على أن آمِداً هي حِمصُ بسَوادِ الرّمادِ تُخضب شَيْباً ... فلهذا سوادُه لا يَبُصّ أخلِطِ العفْصَ فيه يا أحوجَ النّا ... سِ الى العفصِ حين يُعكس عفص فلما بلغ الآمدي هذا الشعر، لم يهجه بل كتب إليه معاتباً: أبِنْ لي ما الذي تبغيهِ منّي ... وما هذا التعنّتُ والتّجنّي وأين خِلالُك الغُرّ اللواتي ... يُخَلْنَ من العذوبة ماءَ مُزْنِ فيا من ليس يلحَن في مقالٍ ... أترضى في المقال بشرّ لحْنِ أبو الحسن عبد الودود بن عبد القدوس القرطبي أورده ابن الزبير في كتابه من الطارئين على مصر، واستطرد بابن قادوس في ذكر ابن عبد القدوس بفصل هو: كان انتجع مصر معتقداً أنّه يُحمد بها المَراد، ويُنال المُراد، فاتّفق لنكد الزمان، وحظّ الحرمان، أن ورد بعض ثغور مصر، وبها رجل يعرف باسماعيل بن حميد المنبوز بابن قادوس، وكان ممّن يهتم بالجمع والادّخار، ويدين بعبادة الدّرهم والدينار، لا تندى حصاته، ولا يظفر بغير الخيبة عفاته، ولا يرشح له كفّ، ولا يُعرف له عرف، إلا أنّ له رواءً وجِدة، وبنين وحفدة، يطمع الغِرّ في نواله، ومنال النّجم دون مناله، فقصده عبد الودود بمدائح أرقّ سلكها، وأجاد سبكها، وتأنّق في وشيها وحبكها، وظن أنّ سهمه قد أصاب الغرض وقرطس، وأنه يفوز بأكثر ما التمس، فكان بارقه خُلّباً لا يجود بقَطرة، وشرابه سراباً بقفرة، ولمّا تحقق إكداء كدّه، وصلود قدحه في مدحه، قال: شقى رجالٌ ويشقى آخرون بهم ... ويُسعِدُ اللهُ أقواماً بأقوامِ وليس رزقُ الفتى من حسنِ حيلته ... لكن جُدودٌ بأرزاقِ وأقسام كالصّيد يُحرَمُه الرّامي المُجيد وقد ... يرمي فيُرزَقُه من ليس بالرامي وقال في هجو ابن قادوس: تسلّ فللأيام بِشرٌ وتعبيسُ ... وأيقِنْ فلا النُعمى تدومُ ولا البوس صديْتَ على قُربٍ وخُلقُكَ عسجد ... ومِلْتَ الى لغْوٍ ولفظُك تقديس ومنها: ترحّلْ إذا ما دنّس العزّ ملبَسٌ ... فغيرُك من يرضى به وهو ملبوس وما ضاقتِ الدنيا على ذي عزيمةٍ ... ولا غرقَتْ فُلْك ولا نفَقتْ عيس وكم من أخي عزمٍ جفتْهُ سُعوده ... يموتُ احتراقاً وهو في الماء مغموس تُفَلّ السّيوف البيضُ وهي صوارم ... ويرجع صدر الرّمحِ والرمْحُ دِعْيسُ ولولا أناسٌ زيّنوا بسعادةٍ ... لما ضرّ تربيع ولا سَرّ تسْديسُ ولكنّ في الأفلاك سرّ حُكومةٍ ... تحيّر بطليموسُ فيها وإدريسُ أفاضتْ سعوداً بالحجارة دونَها ... يُطافُ سُبوعاً حولها الغُلْبُ والشّوسُ وصار فُلاناً كلّ من كان لمْ يكُنْ ... ودانَ له بالرقّ قوم مناحيسُ فحقِّقْ ولا يغْرُرْكَ قولُ مُمَخرِقٍ ... فأكثرُ ما يُدْعى إليه نواميس أفيقوا بني الأيّام من سِنَةِ الكَرى ... وسيروا بسيرِ الدهر فالدهرُ معكوس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 883 هيَ القِسمةُ الضّيزى يُخوّلُ جاهِل ... وذو العلم في أنشوطةِ الدهر محبوس وإرضاءُ ذي جهلٍ وإسخاط ذي حِجى ... نِعاج مياسير وأسْدٌ مفاليس خُذِ العلمَ قنطاراً بفَلسِ سعادةٍ ... عسى العلم أن يفنى فيمتلئَ الكيس ومُذْ لقّب الفرد القصير موفّقاً ... هَذَى الدهرُ واستولتْ عليه الوساويس وقالوا سديد الدولة السيّد الرّضى ... فأكثِرَ حُجّابٌ وشدّدَ ناموس وأعجبُ من ذا أن يلقَّب قاضياً ... وأكثرُ ما يجري من الحكم تلبيس وأصدقُ ما نصّ الحديث فكاذب ... وأطهرُ ما صلى الصلاة فمنجوس وأعرَفُ منه بالفرائض راهبٌ ... وأفقَه منه في الحكومة قِسّيسُ وما الغَبنُ إلا أن تُحكّمَ نعجة ... وضرغامُ أسد الغاب في الغيل مفروس وما لي فوق الأرض مغرز إبرةٍ ... وتُحمَلُ دِمياط إليه وتنّيس مصائبُ من يسكُتْ لها مات حسرة ... ومن ثِقلِها بثّاً يمُتْ وهو منحوس وفي جورِه هذا الدهر ما بأقلّه ... سيضرب في أرجاء مكّةَ ناقوس ويُبْتاعُ مِسك بالخراء مدلّس ... ويُعبَدُ خنزير ويُرسل جاموس وقالوا ابن قادوس تقدّس كاسمه ... ومن هو قادوس فلا كان قادوس أيا من غدا ضِداً لكلّ فضيلةٍ ... ومن نجمُهُ في طالع السّعد منكوس ومنها: وقد قُلتُها هجْواً وأنفُكَ راغم ... فلا يدخُلنْ ريْب عليكَ وتلبيس أبا الفضل إنْ أصبحتَ قاضيَ أمةٍ ... وللحكم في أرجاء ذكركَ تعريس فإنّ قريضي بين أذنيك درّة ... وإنّ هجائي في دماغِكَ دبّوس ورأسي ومِثلا شرِه سفْن خرْدل ... ......... مدسوس تجمّع فيّ الخيرُ والشرّ جملةً ... فخيريَ جِبريل وشرّيَ إبليس أطاعه في هذه القصيدة الطبع الجافي، وجاد بالكدر خاطره الصافي، وأبان فيها عن رقّة دينه وتهلهله، وعُدِم عُبوسُ بؤسِه، بِشرَ الفضلِ في تهلله. ومما وجب إيراده في شعراء صقلية: الأمير شيخ الدولة عبد الرحمان بن لؤلؤ صاحب صقلية أنشدني للطاهر الحريري في صفة الفرس، فقال شيخ الدولة في المعنى: وأدهمَ كالليل البهيم مطهّمٍ ... فقد عزّ من يعلو لساحة عُرْفِه يفوتُ هبوب الرّيح سبْقاً إذا جرى ... نهايةُ رجليه مواقعُ طرفِهِ القاضي الرشيد أحمد بن قاسم الصقلي من الطارئين على مصر، وكان قاضي قضاتها في أيام الأفضل، فدخل يوماً الى الأفضل وبين يديه دواة من عاج محلاّة بمرجان فقال: أُلينَ لداوودَ الحديدُ بقدرةٍ ... يُقدّرُهُ في السّرْدِ كيف يريد ولان لك المرجانُ وهو حجارة ... على أنّه صعبُ المرام شديدُ وكان الأفضل قد أجرى الماء الى قرافة مصر، فكتب إليه يرجو إجراء الماء الى دار له بها: أيا مَولى الأنام بلا احتشامٍ ... وسيّدَهُم على رغم الحسود لعبدِك بالقَرافةِ دارُ نُزلٍ ... لموجود الحياة أو الفقيد لموجودٍ يعيشُ بها لوقتٍ ... ومفقودٍ يوارَى في الصّعيد وفي أرجائها شجرٌ ظِماء ... عُدِمْنَ الحُسنَ من ورقٍ وعود فمذ غدتِ المصانعُ مُمْتِعاتٍ ... عدمْنَ الرّيّ في زمن الوجود يقُلْنَ إذا سمعْنَ شجى السّواقي ... مقالةَ هائمٍ صبّ عَميد أرى ماءً وبي عطش شديد ... ولكن لا سبيلَ الى الورودِ وله: إن لم أزرك ولم أقنعْ برؤياك ... فللفؤادِ طوافٌ حول مغناكِ يا ظبية ظلْتُ من أشراكِها علِقاً ... يوم الوداع ولم تعلقْ بأشراكي رعيت قلبي وما راعيت حُرمتَهُ ... يا هذه كيف ما راعيتِ مرعاكِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 884 أتحرقين فؤاداً قد حللتِ به ... بنار حبّكِ عمداً وهو مأواكِ ما نفحة الريح من أرض بها شجني ... هل للمُحبّ حياة غير ذكراك أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن زكرياء القلعي الأصم من قلعة بني حماد بالمغرب ذكره ابن الزبير في مجموعه وقال: كان جيّد الشعر، وارى زناد الفكر، لكنه مبخوس الجدّ، ورد الى الإسكندرية ومصر، وأقام بها زماناً، لا يجد من يروي ظمأته، ولا يسدّ خلّته، وعاد الى المغرب في غير أوان سفر المركب، فسار راجلاً، نعله مطيته، وزاده كُديَتُه، الى أن وصل الى قوم يعرفون ببني الأشقر من طرابلس الغرب، فامتدحهم بالقصيدة الميمية التي أولها: تُرى فاض شؤبوب من الغيم ساجم ... ... فأحسنوا صلته، وعظّموا جائزته، ولم أدر ما فُعل به بعد ذلك. فمن قصيدته الميمية في مدح بني الأشقر: تُرى فاضَ شؤبوب من الوَدْقِ ساجمُ ... وأومضَ مشبوب من البرق جاحِمُ وماذا النّدى والوقتُ بالصيف حائمُ ... وماذا السّنا والجوّ بالليل فاحمُ وما هذه مُزْن وما ذي بوارِق ... ولكنها أيمانُكم والصّوارم بني الأشقر استعْلوا بحقّ على الورى ... كما لم يزل فوق الكُعوب اللهاذِمُ مشيْتُمْ الى العليا وطار سواكُمُ ... فلم تبلغِ الأقدامَ فيها القوادمُ وأوقعُ من تلقاهُ من طار للعُلا ... إذا لم يكن ريش الجناح المكارمُ وفي ذا الحمى المأمولِ يأمنُ خائفٌ ... وفي ذا النّدى المعسولِ ينقعُ حائمُ عضَدْتُمْ على أحسابكم بفِعالكم ... كما عضدَتْ أسّ البِناء الدعائمُ تغار على مسّ الدّروع جُسومكم ... غلائلُ فيها للنُضار مراقِمُ تتوجتمُ بالبيض حتى تخيّلتْ ... بأنّكم حرّمتموها العمائمُ ولم يحْظَ منكم بالبَنان خواتم ... مذ اتّفقتْ أيديكمُ والقوائمُ وما اختلفتْ أقوالكمْ وفِعالكم ... مذ اتفقت آراؤكُم والعزائمُ على كل أرض من نداكم مياسم ... وفي كل نادٍ من ثناكم مواسمُ وُليتم على طُلْمَيثَةٍ وهي مَعلَمٌ ... لكم بالنّدى والبأس فيها معالم ومنها: فإن لم أعدّدْ في قريضي كُناكُمُ ... وأسماءَكم فليفتقد ذاك لائمُ ويغني اشتهارُ البيتِ عن ذِكر أهله ... ويُغني عن اسمِ المِسكِ بالشمّ ناسمُ وله يمدح الأفضل: ملِك أنتَ أم ملَكْ ... حارَ طرْف تأمَّلَكْ أنت إن أُسعِد الورى ... فلك مُسعِد فلَك وله: بما استرقَتْهُ من جفونك بابلُ ... بما علمَتْ من مقلتيْكَ المناصلُ بوجهكَ ماءُ الحسنِ في صفحاته ... كذكرك منّي في الضمائر جائل خذوني على التّجريب عبداً فإن أكنْ ... أخالفُ أمراً فاطِّراح مُعاجل فما طوِيَتْ إلا عليكم جوانِح ... ولا بُسِطتْ إلا عليكم أنامِل وله يعظم حُرفَتَه: مضى الناسُ يستَسقون من كل وجهةٍ ... الى كل مسموع الدّعاء مُجاب فوافاهُمُ الغيثُ الذي سمحتْ به ... لهم بعد طول المنع كلّ سحاب وفي ظنّهم أنْ قد أجيب دعاؤهُمْ ... وما علموا أنّي غسلتُ ثِيابي وله في صفة فوّارة: وحاكيةٍ بالماء لون اضطرابِه ... قواماً وحُسناً حين يبدو ويوبِصُ قضيب لُجَينٍ ألمعَ الصّقْلُ متنَه ... وأخلصَهُ في السّبْكِ من قبلُ مُخلصُ تسامى قليلاً ثمّ عاد كأنّه ... جُمان حواليها على الماء يرقُصُ تُضايقُ أعنانَ السّماء كأنّها ... لها بين هاتيك النّجوم تلصّصُ كأنّ نَوالاً من يمين كرامَةٍ ... يمدّ به إذ لا نرى الماءَ ينقُصُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 885 كرامة، الممدوح، هو: كرامة بن المنصور بن الناصر بن علّناس بن حماد صاحب القلعة، وما سمع في الفوّارة أحسن من قول علي بن الجهم: وفوارة ثأرُها في السّما ... فليستْ تُقصّرُ عن ثارِها ترُدّ على المُزْنِ ما أسبلتْ ... الى الأرض من صوْبِ مِدْرارِها وله: أخي كم تجمّعْنا مِراراً وضمّنا ... على الناس شمل بعد أن يتصدّعا فإن كان من فعلِ الليالي ودأبها ... فلا تأسُ إن فرّقتَ أن نتجمّعا وله: إيّاكَ من حتْفٍ يُسيمُ بطُرّةٍ ... من حاسر في حُسنِه مستلئِم فمصارعُ العُشّاق بين جُفونِه ... انظرْ تجدْ في خدّه أثرَ الدّم علي بن اسماعيل القلعي المعروف ب الطميش من الواردين على مصر من أهل العصر، وله حين قتل ابن الأفضل أبو علي بعد حبسه المدعوّ الحافظ وإلقائه في نفوس شيعته بذور الحفائظ وإقصابه مِياجَهُم في مغائظ المفائظ واستيلائه على المملكة سنةً يدعو الى القائم المنتظر، ونقش اسمَه على الذهب الأحمر، ثم احتيل عليه فاغتيل وحان القبيل فكان القتيل، وأعيد الحافظ بعد ضياعه، وأذن ذلك بتأهيل رباعه، وتطويل باعه. فنظم الطميش فيه قصيدة منها - وقال ابن الزبير هي منسوبة إليه مما ادعاها -: ولا بدّ من عزْمٍ يخيِّلُ أنّني ... قدحْت على الظلماء من ندْزِه فجرا يجوبُ ظلاماً كالظّليم إذا سرى ... إذا جنّ جوْن كان بيضته البدرا وليل صحبتُ السّيفَ يُرعدَ حدّه ... وقد شاب فيه مفرِق الصّعدةِ السمْرا حملتُ به درعي وسيفي وإنّما ... حملتُ غديرَ الماء والغُصنَ والنّهْرا وأشْقر وردُ اللون لولا انتسابُه ... الى البرقِ سيراً خلتُه المسك والهجرا الى أن بدا وجهَ الصّباح كأنّه ... لحافظِ دين الله آيته الكبرى أستغفر الله من ذلك، فإنّه لم يكن حافظاً، وإنما كان مضيّعاً. ومنها: وقد كان دينُ الله بالأمس عابساً ... لجرّاهُ حتى لاحَ في وجهه بِشرا وكان عليّاً حين كان الذي طغى ... معاوية والحارثيّ له عَمْرا والحارثي كان من أعوانه. أخذه من ابن شرف حيث يقول: مالي يُعاقبُني الزمانُ وليس لي ... ذنب كأنّي عَمْرو المضروب ما كان أولاني بحُكمِ المُبْتَدا ... في النّحو لو أنّ الزّمانَ أديب وله من قصيدة أخرى تجري مجرى الأولى: زارَ الحبيبُ فلم يزُرْني غيهَب ... إنّي وقد لبس الذّوائب غيْهَبا وكأنّها الظّلماءُ قد جُعِلتْ على ... بحر ... من السّحائب طحلبا حكمَتْ على دمِه سيوفُ بُروقِه ... أنْ لا يُصان وأن يُراق ويُسكَبا يستقبلُ الرّوضاتِ ماءً جارياً ... فيعودُ درّاً في الغصون مركّبا ومنها في المديح: ...... برعْي الكلا ... حتى تراهُ بالدّماء مخضّبا وتعافُ وِردَ الماء حتى تشْتكي ... وجناتُه بدمِ الأعادي طُحلُبا من قصيدة منسوبة إليه: ... لكم وِداً ودمْتُم على الجفا ... ويزدادُ حُباً كلّما زدتُمُ قِلَى ولو كان سقماً في الهوى من رضاكُمُ ... لما اخترتُ عنه ما بقيتُ تنقّلا وزَنْتُ مماتي بالبقا عند غيرِكُم ... فألفيتُ موتي عندكم ليَ أفضَلا الفقيه أبو محمد عبد الله بن سلامة أصله من بجاية، ومقامه بالإسكندرية، ثم مصر، والصعيد، والريف، وهو القائل: لي حرمةُ الضّيف لو كُنتم ذوي كرم ... وحرمةُ الجارِ لو كنتم ذوي حسبِ لكنّكم يا بني اللّخناءِ ليس لكُم ... فضلٌ ولا أنتمُ من طينة العربِ كم لا أزالُ على حالٍ أساءُ بها ... منكم وأغضي على الفحْشاء والرّيب لأترُكنّ لكم أرضاً بكم عُرِفتْ ... فأخبثُ البومِ يأوي أخبثَ الخِرَبِ وما مُقامي بأرضٍ تسكنون بها ... منّي يطيبُ ولكن حرفة الأدبِ علي بن يقظان السّبتي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 886 شاعر، أديب، متطبب، أصله من سبتة، ذكره بعض أهل الأدب بمصر، وقال: ورد الى البلاد المصرية سنة أربع وأربعين وخمسمائة، ومضى منه الى اليمن، ورحل الى غَدن من عدن، وسافر الى الشرق، في طلب الرزق، وزار العراق، ودار الآفاق، وله من قصيدة في الوزير الجواد جمال الدين أبي جعفر محمد بن علي بن منصور بالموصل: أإخوانَنا ما حُلتُ عن كرم العهدِ ... فيا ليتَ شِعري هل تغيّرتُم بعدي وكم من كؤوس قد أدرتُ بوِدّكمْ ... فهل ليَ كأس بينكمْ دار في وِدّي أحِنّ الى مصرَ حنينَ متيّم ... بها مستهامَ القلبِ محترِقَ الكبْدِ ومنها: أراهُم بلحظِ الشوق في كل بلدة ... كأنّهمُ بالقرب منّي أو عندي ولو أنّ طعْمَ الصّاب جرّعْتُ فيهمُ ... لفضّلتُه للحبّ فيهم على الشهد ومنها في المخلص: فكم قد قطَعْنا من مفاوِزَ بعدَهم ... وخُضْنا بها الصعْب المرامِ من الوهْد الى أن وصلْنا الموصلَ الآن فانتهتْ ... بنا لجمالِ الدّين راحلةُ القصْدِ وله من قصيدة في مدح الدّاعي عمران بن محمد بن سبأ، بمدينة عدن: صبا الفؤادُ لريمٍ رمتُه فأبى ... وكان من شأنِه التّبريزُ فاحتجَبا عاطَيتُه الكأسَ فاستحيَتْ مدامتها ... من ذلك الشّنبِ المعسول إذ عذُبا حتى إذا غازَلتْ أجفانَه سنَةٌ ... وصيّرَتْه يدُ الصّهباء مُقترِبا ظَلْنا به طرَباً من حسنِ نَغمتِه ... في عودِه نجْتني التّأنيسَ والطّرَبا ونقطعُ الليلَ شدْواً بامتداح فتى ... غدا لخيرِ انتسابٍ حازض مُنتَسبا فتى توارث دسْتَ المُلكِ في عدَنٍ ... ببابِه عن أبيه الأوحدِ ابنِ سَبا وله في مدح أحمد بن راشد صاحب بلاد الشّحر: اللهُ يعلمُ والفضائلُ تشهدُ ... أنّ ابنَ بجْدَتِها ابنُ راشد أحمدُ ومنها: لما حططتُ ببابه حفّتْ بنا ... منهُ مكارمُ في القرى لا تُجحَدُ وتبسّمَ الجَعْدُ الثّرى لي ضاحكاً ... واخضرّ بالأرض البسيطةِ فرقدُ وبدَتْ ليَ البشْرى من البِشْر الذي ... أبداه لي لألاؤه المتوقِّد ورأيتُ همّتَهُ وبُعدَ صعودِها ... فعجِبْتُ من هِممٍ إليها تصْعَد ابن شقرق السّبتي ذُكِر لي سنة ثلاث وسبعين بمصر أنّه يعيش. له في مدح عبد المؤمن صاحب المغرب: قِفوا عيسَكُم في حضرةِ الملكِ الأتقى ... وقضّوا بلَثْم التُربِ من ربعِه حَقّا وحُثّوا المَطايا المقرِباتِ ويمِّموا ... ذَراهُ الرّحيبَ الأخصبَ الأمنعَ الأوْقى ونادِ قِطارَ العيسِ شتّان بيننا ... فيا جِدّ ما تلقى ويا جِدّ ما ألقى سأشْدو معاليه احتفالاً كما شدَتْ ... على الرّوضةِ الغنّاء ساجعةٌ وَرْقا ولوْ رامتِ الأفكارُ مدحةَ غيرِه ... لما أحرزَتْ فهْماً ولا وجدَتْ نُطْقا ومنها: وما هو إلا رحمة لمن اهتدَى ... وغوث وغيث هاطل شمَلَ الخَلْقا وشدّ عُرَى التّوحيد فاشتدّ أزْرُه ... فدونكَ فاستمْسِكْ بعُروتِه الوُثْقى هو البحرُ حدّثْ عن عطاياهُ إنّها ... عطايا جوادٍ عمّتِ الغرْبَ والشّرْقا ودعْ حاتماً في جودِه فهو مثلُ ما ... تحدِّثُ عن بَيضِ الأنوقِ أو العَنْقا وله الى صديق له: دعني أطيلُ تأسّفي وتفجّعي ... قلبي غداةَ البيْن جِدّ مروّعِ تبدّتْ ببَينِهمُ القطارُ فأصبحتْ ... كبِدي وقلْبي يجرِيان بأدمُعي أسفي على زمن الوصال كأنّني ... لم أستظِلّ بظِلّه في مربَعِ فلأمْنَعَنّ الجَفْنَ من طعْمِ الكَرى ... أسَفاً على ذاك الزّمانِ المُمْرِعِ ولأحْفظنّ العهدَ من خِلّ نأى ... بعد التألّفِ والوِدادِ المُمْتِعِ ومنها يصف السفينة ويحثّ صاحبه على ركوبها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 887 فاركبْ على اسمِ الله متْنَ ركوبَة ... خضراءَ تسبحُ فوقَ لجّ مترِع تخِذَتْ جناحاً مثلَ قلبي خافِقاً ... وحوتْ قوادِمَ كل طيرٍ مُسرِع تسري وتُزْجيها الرياحُ إذا سرَتْ ... وتمرّ مرّ العارض المتقشِّعِ تستعذِبُ المِلحَ الأجاجَ لدى الظّما ... مهما العِطاشُ وردْن عذْبَ المشرع وكأنّما رُكبانُها أبناؤها ... تحنو عليهم رأفَة بالأضلُعِ وكأنّما الملاّحُ فيها آمِر ... يُمضي أوامرَهُ لأوّل موقِع وله في مولود ولد عند موت أخيه: الله أكبرُ بدرُ تمّ أطلَعا ... في إثرِ بدرٍ بالأفول تقنّعا وبكى الغمامُ لذاك مُنتحباً كما ... ضحك الزمانُ لذا غداةَ تطلُّعا فعجبتُ من قمرين ذلك آفِل ... بادي السّرار وذا تبلّجَ مَطْلعا وعجبتُ من غُصنَين ذلك ذابِل ... بادي النّحول وذا رطيب أينَعا وعجبتُ من عينٍ قد أقرّتْ وقد ... سخِنتْ بمصرَع ذاك في حالٍ معا يا من رأى من سرّ حالة حُزنِه ... ورأى الهناءَ مع العزاءِ تجمّعا يهني المعالي أنّها قد أسمعَتْ ... حُسنَ الحديثِ غداةَ صُمَّتْ مسمعا هذا بنَسْجِ اليُمْنِ جاءَ مبشِّراً ... لكمُ الغداةَ فكان ناعٍ قد نعى ولك الهناءُ أبا محمدٍ الرّضا ... ولك العزاءُ مسرة وتفجّعا فيما تُسَرّ به تُسَرّ وبالذي ... يوماً تُساءُ به تُساءُ تَوجعا يونس القسطلي من الجزيرة الخضراء، وهو حيّ في زماننا هذا، له في ابن عبد المؤمن أبي سعيد، وقد جاء الى البلد: أهلاً بمرآكَ السّعيد ومرحبا ... اليومَ رقّ لنا الزّمانُ وأعتبا ومنها: بكمُ تحلّى الدهرُ أحسنَ حِليةٍ ... فغدتْ لياليه صباحاً أشهَبا وأنارَتِ الدنيا بهَديِكُمُ الذي ... أحيا مشارِقَها وخصّ المغرِبا لله ......... له ... نور من العلم المَصون تشعَّبا فإذا نظرتَ رأيتَ غِراً يافِعاً ... وإذا اختبَرْتَ وجدتَ عَضاً أشيبا تبدو البدورُ له طماعةَ أن ترى ... وجهاً برَقْراقِ الشّبيبةِ مُشرَبا فيصدّها عنه علوّ مكانِه ... عنها ونور ما هناكَ تطنّبا ومنها: هزّازُ أعطاف اليراعةِ والقَنا ... يصلُ الكتائبَ تارة والمكْتَبا وتراهُ بين روايةٍ مهديةٍ ... أو رايةٍ بالنّصر تخفُق هيْدَبا وإذا تشابهتِ الأمورُ أعادها ... عزْماً يفلّ شبا الحُسام المُقضبا وله شمائلُ كالخمائلِ جادَها ... صوبُ السحائب عطّرتْ نور الرّبى وله خِلال كالزّلالِ نفى القَذى ... عنه الصّبا كادتْ هوًى أن تشرَبا ويثوبَ ذاك مرارة لمن اعتدى ... لله درّكَ ما أمرّ وأعْذَبا يهتزّ للمعروف يفعلُه كما ... يهتزّ عطف البان تحت يد الصّبا ويهشّ نحو المكرُماتِ سجيّة ... ويمدّ للمجد الذّراعَ الأرْحَبا ومنها: يا سرّ قيسٍ يا ذؤابةَ فرعها ال ... أصلي وكوكبَها المنيف المُجتبى قد طالما اشتاقتْ إليكَ ديارُنا ... زمناً وأهدتكَ السّلام الأطْيَبا وله من قصيدة في صاحب الجزيرة: في البدر أثمرهُ قضيبُ البان ... برءُ المتيم أو عناءُ العاني يا غُرّة أخذتْ فؤادي غِرّة ... ورمتْ سهام السهدِ في أجفاني كم ليلةٍ قد بِتّ في ظلمائِها ... حلف السُهى أرعاهُ أو يرعاني ولطالما جرّرت أذيالَ الصِّبا ... ولعاً بكُم وعصيتُ من يلْحاني حتى ارعويتُ عن الضّلالة بالهُدى ... ورأيتُ نورَ الحقّ والبُرهانِ بأبي عليّ طوْدُ كل فضيلةٍ ... قمرُ النّدى وضيغَمُ الشجعانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 888 المورِدُ الراياتِ بيضاً في الكُلى ... ومعيدُها كشقائق النّعمان والملجمُ الأسيافَ أرقابَ العِدا ... ومعلُّها علقَ النّجيعِ القاني والقائدُ الخيلَ العتاقَ كأنّها ... طير تمطَّرُ من عيون عنانِ يغزو بها بُدُناً فترجعُ ضُمَّراً ... قُبّاً كأطرافِ القِسيّ حَوانِ ومنها: من كلّ طعّان إذا اشْتجَرَ القَنا ... ينقضّ كالضّاري من العُقبانِ يُهدي الى حدّ الأسنّة غُرّة ... ويردّها والموتُ ذو ألْوانِ في حيثُ يعتنقُ الفوارسَ لا هوًى ... ويبيحُ أنفُسَها لغيرِ هَوانِ والحرْبُ قد كشفَتْ لهم عن ساقها ... والطّعنُ يذهل منه كل جبانِ ومنها: قومٌ إذا ركبوا الجيادَ وجرّدوا ... بيضَ الظُبى من حيلة الأجفانِ آدوا الكتائبَ بعضَها في بعضِها ... ومضوا بها كالنّور في النّيرانِ وإذا هُمُ اعتقلوا القَنا وتدرّعوا ... أيقَنتَ أن اليومَ يومُ طِعان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 889 باب في ذكر محاسن شعراء قلائد العقيان تصنيف أبي نصر الفتح ابن خاقان القيسي الأندلسي بالأندلس والمغرب طالعت كتاب قلائد العقيان في محاسن الأعيان بعد إيراد الذين ذكرتهم من الشعراء، فوجدته مشتملا على ذكر طائفة من أهل هذه العصر الفضلاء، شذوا عن الاثبات، وقد بذوا الغايات، فأوردتهم في هذا المجموع، ليشرقوا في آفاقه إشراق السعود في الطلوع، ولو نقلت كلام مصنف الكتاب المذكور لكان أشرح للصدور، وأوقع في نفوس الجمهور، فإنه كاللؤلؤ المنثور، والفرائد المستخرجة من البحور، والقلائد المتبلجة على النحور، لكنني أجريت جواد خاطري في جواد الخطر، وأنضيت ضامر ضميري في مضمار الفكر، المضيئة القطن بأضواء الفطر، فاستغنيت بعسلي الشافي، عن سكر غيري الكافي، ونسجت على منواله، وما عرجت على نواله، فالحكاية له واللفظ لي، وتركت له عمله ولي عملي، فمن سبق ذكره وورد شعره وألفيت له فائدة زائدة، بحسنها للألباب صائدة، وللأداب شائدة، ولأعطاف الاستحسان مائدة، ولأضياف الامتحان مائدة، رددت سمطه إلى عقده، وأوردت شرطه في عقده، ومن استفدت من هذا الكتاب اسمه ونظمه افردته في هذا الموضع، ونوهت بذكره في هذا المجمع ونبهت على نوره في هذا المطلع، فمنهم: المتوكل أبو محمد عمر بن المظفر كان قبل سنة خمسمائة أورده في الملوك بعد المعتمد وابنه الراضي، وأثنى على عزمه الماضي، ذوحزمه القاضي، ووصفه بسوق الحنود، وخفق البنود، وسبق الملوك في البأس والجود، واعتمار الآمال إلى كعبته، وائتمار الليالي والأيام لإمرتهن وحلاوة جنى جنابه، ورحب ساحته، وطلاوة لهجته، وحلاوة بهجته، وعذب فصاحته، وسياسته في نهيه وأمره، وسلاسته في نظمه ونثره، وصفاء أيامه، ومضاء أحكامه، ونمو مكارمه، وسمو دعائمه، حتى رمته مصيبات الأيام، بمصيبات السهام، وعدا عليه الدهر العادي، ووقع في الاسر حيث لا فادي، ونقل هو وابناه، إلى حيث أمرت المنون جنى مناه، قد ألحفوا أرداء الردى، وعطل منهم نادي الندي، وأنزلوا من الثريا إلى الثرى، وصاروا عبرة لمن يرى، واحل ذمام ذمائهم، وطل حرام دمائهم، وطلوا بنجيع طلاهم، وعلوا بكأس البؤس بعد رفيع علاهم، وحليت ترائبهم بالترب عاطلين من حلاهم، وخليت مطالبهم من النجح لما عراهم، من جور الزمان وعلاهم، وقتل ولداه بين يديه صبرا، وقام ليصلي فبادروه وكشفوا منه بدرا، وصار لأشلائهم بطن النسر قبرا، ولم يقبل كسرهم بعدها جبرا. وهذه عادة الأيام، غمة مصيبتها بالغم صائبة الغمام، وحمى حماتها المصون مبتذل بيد الحمام. فمن شعره ما كتبه إلى يحيى المنصور أخيه وقد بلغه أنه ذكر بسوء في ناديه: فما بالهم لا أنعم الله بالهم ... ينوطون بي ذاما وقد علموا فضلي يسيئون فِيَّ القول جهلا وضلة ... وإني لأرجو أن يسوءهم فعلي لئن كان حقا ما ادعوه فلا مشت ... إلى غاية العلياء من بعدها رجلي ولم ألق أضيافي بوجه طلاقة ... ولم أمنح الباقين في زمن المحل وكيف وراحي درس كل غريبة ... وورد التقى شمي وحرب العدى نقلي ولي خلق في السخط كالشري طعمه ... وعند الرضا أحلى جنى من جنى النَّحْل فيا أيها الساقي أخاه على النوى ... كؤوس القلا مهلا رويدك بالعل لتطفئ نارا أضرمت في نفوسنا ... فمثلي لا يقلى ومثلك لا يقلي وقد كنت تشكيني إذا جئت شاكيا ... فقل لي لمن أشكو صنيعك بي قل لي فبادر إلى الاولى وإلا فإنني ... سأشكوك في الأخرى إلى الحكم العدل قال: وصل أبو يوسف المغني والمتوكل مقلع عن الشرب، متورع بالجد عن اللعب، وقد لبس ثوب الخشوع، واستسقى واكف الدموع، وكثرة السجود والركوع، وقد أجيبت دعوته في إغاثة الغيث بتربة مجدب الثرى، وإنامة عيون الورى، بعد السهاد، لقدوم العهاد، في مهاد الكرى، وهو باق على التوبة، متوق على الحوبة، فكتب إليه: ألمّ أبو يوسف والمطر ... فيا ليت شعري ما ينتظر ولست بآب وأنت الشهيد ... حضور نديك فيمن حضر ولا مطلعي وسط تلك السما ... ء بين النجوم وبين القمر وركضي فيها جياد المدا ... م محثوثة بسياط الوتر فبعث إليه المتوكل مركوبا وكتب معه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 890 بعثت إليك جناحا فطر ... على خفية من عيون البشر على ذلل من نتاج البروق ... وفي ظلل من نسيج الشجر فحسبي ممن نأي من دنا ... فمن غاب كان فدا من حضر وكتب إليه الوزير أبو محمد بن عبدون مع خمر وورد أهداهما له: إليكها فاجتلها منيرة ... وقد خبا حتى الشهاب الثاقب واقفة بالباب لم يؤذن لها ... إلا وقد كاد ينام الحاجب فبعضها من المخاف جامد ... وبعضها من الحياء ذائب فقبلها وكتب إليه: قد وصلت تلك التي زففتها ... بكرا وقد شابت لها ذوائب فهبّ حتى نسترد ذاهبا ... من أنسنا ان استرد ذاهب وكتب إلى أبي طالب بن غانم أحد وزرائه وكان وزير رأيه، ونديم أنسه، وحميم نفسه، يستدعيه: أقبل أبا طالب إلينا ... وقع وقوع الندى علينا فنحن عقد بغير وسطى ... إن لم تكن حاضرا لدينا الحاجب ذو الرئاستين أبو مروان عبد الملك بن رزين وصفه بالجلالة والاصالة والبسالة، وموروث المجد التالد ومكتسبه الطارف. وترويجه سوق أولي المعارف بإيلاء العوارف، وتبليجه وجوه المكارم بشمس فضله الوافر في ظله الوارف، وأنه من قوم قوموا الجوانح، وذللوا الجوامح، وراضوا من الخطوب صعابا، وفاضوا ثوابا وعقابا، وهو واسطة عقدهم، ورابطة عقدهم، وأسد خيسهم، وهزبر عريسهم. وكانت دولته حافلة الاخلاف، كافلة بالإنصاف، رافلة في ثوب الائتلاف، مهتزة الأعطاف، معتزة الأطراف، ولكنه كثير الشطط على ندمانه، سريع السخط على خلانه، وربما عاد نواله وبالا، وإرغابه إرغاما، وإنعامه انتقاما، لا يرى الجاني صفحة صفحه ولا يرضى من دم المذنب إلا بسفكه وسفحه، وكان حيا النادي في الندى، وحية الوادي على العدى، وله نظم ونثر لم يقصرا عن الغاية، وكلاهما في الجود عالي الراية. فمما أورد من شعره الرائق، وسحره الفائق، قوله في وصف روضة أرجت أرجاؤها، وتلألأت آلاؤها، وتشابه لمقابلة الزهر الزهر أرضها وسماؤها، وحكت جلاؤها صفاء الصفاح ونشرت معاطفها ملاء الملاح، وأطلعت أسحارها صباح الصباح. فروض كساه الطل وشيا مجددا ... فأضحى مقيما للنفوس ومقعدا إذا صافحته الريح خلت غصونه ... رواقص في خضر من العصف ميدا إذا ما انسكاب الماء عاينت خلته ... وقد كسرته راحة الريح مبردا وإن سكنت عنه حسبت صفاءه ... حساما صقيلا صافي المتن جُرَّدا وغنت به ورق الحمائم حولنا ... غناء ينسّيك الغريض ومعبدا فلا تَجْفَوَنَّ الدهر ما دام مسعدا ... ومد إلى ما قد حباك به يدا وخذها مداما من غزال كأنه ... إذا ما سعى، بدر تحمل فرقدا وركب في يوم غيم للصيد، وقد فصم المدام منه عرى الأيد، وشمس الضحى محجوبة، وكأس الودق مسكوبة، والسماء متدفقة، والأرض مزلفة، فعثر به جواده، وقد تفرد وغابت عنه أجناده وأنجاده، فآل تعثر كميته، إلى التأخر في بيته، وبلغه أن عدوا له سر بسقطته، وفرح بفرطته، في ورطته، فقال: إني سقطت ولا جبن ولا خور ... وليس يدفع ما قد ساقه القدر لا يشمتن حسودي إن سقطت فقد ... يكبو الجواد وينبو الصارم الذكر هذا الكسوف يرى تأثيره أبدا ... ولا يعاب به شمس ولا قمر وقال في خليط ودع، وأسال فراقه المدمع: دع الدمع يفني الجفن ليلة ودعوا ... إذا انقلبوا بالقلب لا كان مدمع سروا كاقتداء الطير لا الصبر بعدهم ... جميل ولا طول الندامة ينفع أضيق بحمل الحادثات من النوى ... وصدري من الأرض البسيطة أوسع وإن كنت خلاع العذار فإنني ... لبست من العلياء ما ليس يخلع إذا سلت الألحاظ سيفا خشيته ... وفي الحرب لا أخشى ولا أتوقع وقال فيمن سكر فمثل له سكره معترك النزال، ومقتحم الأبطال، فاستدعى حرب الحرب، واستحلى طعم الطعن وضرب الضرب: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 891 نفس الذليل تعز بالجريال ... فيقاتل الأقران دون قتال كم من جبان ذي افتخار باطل ... بالخمر تحسبه من الأبطال كبش النديِّ تخَبُّطاً وعرامة ... وإذا تشد الحرب شاة نزال وقال في الحنين والنزاع، إلى التلاقي والاجتماع: أترى الزمان يسرنا بتلاقي ... ويضم مشتاقا إلى مشتاق وتعض تفاح الخدود شفاهنا ... ونرى منى الأحداق للأحداق ويعيد أنفسنا إلى أجسادنا ... فلطالما شردت على الآفاق وقال: برّح السقم بي فليس صحيحا ... من رأت عينه عيونا مراضا إن للأعبن المراض سهاما ... صيرت أنفس الورى أغراضا وقال في شمعة: ربّ صفراء تردت ... بشحوب العاشقينا مثل فعل النار فيها ... تفعل الآجال فينا وبقي بعد ملوك الأندلس وانقرض ملكهم، وانتقاض سلكهم، ملكا مطاعا، ضرارا نفاعا، لم تخطئه الأمنية إلى أن تخطت إليه المنية، وبقي ابنه على رسمه، يجري الزمان على حكمه، إلى أن دب إليه الكيد، ووهن منه الأيد، وأوحش منه عرشه، وأنس به نعشه، فتبارك الواحد الذي ليس له ثان، ولا يفنى ملكه وكل شيء فان. الرئيس الأجل أبو عبد الرحمان محمد بن طاهر وصفه بالملكة في البراعة، والمملكة في تصريف اليراعة، والتفرد بالبيان، والتوحد في الإحسان، في جده طود الوقار، وفي مزحه مزج العقار، وعلى مفرقه تاج الملك، وفي مهرقه مزاج المسك، تسلطت عليه الخطوب في سلطانه، ونزع من أوطاره، ونزح من أوطانه، وبقي في أسر ابن عمار وزير المعتمد عانيا، للمحن معانيا، حتى خلصه الوزير أبو بكر بن عبد العزيز، وآواه ببلنسية إلى معقله الحريز، وتنقلت الأحوال به بين نعمى وبؤس، وبش وعبوس، وشدة ورخاء، وسعادة وشقاء. قال مصنف قلائد العقيان: شهدت وفاته سنة سبع وخمسمائة وقد نيف على التسعين، وجف ماء عمره المعين، وزعم أنه انقرض بانقراضه الكلام، وبدأ به وهو الختام، وأورد من رسائله كثيرا، ونظم من فضائله درا نثيرا. قال: ولم أسمع له شعرا إلا ما أنشدني في أبي أحمد بن جحاف عند قتله الملك الملقب بالقادر فظن أنه تتم له الرئاسة فقصده القدر الناثر. أيها الأخيف مهلا ... فلقد جئت عويصا إذ قتلت الملك يحيى ... وتقمصت القميصا رب يوم فيه تجزى ... لم تجد عنه محيصا ومن نثره من جملة كتاب إلى المعتصم أيام رئاسته يصف العدو العابث بالأندلس: كتابي - أعزك الله -، وقد ورد كتاب للمنصور ملاذي والمعتمد بك أيده الله أودعه ما ودع من حياة، ولم يدع مكانا لمسلاة، فإنه للقوب مؤذ، وللعيون مقذ، وللظهور قاصم، ولعرى الحزم فاصم، فليندب الإسلام نادب، وليبك له شاهد وغائب. فقد طفيئ مصباحه، ووطيء ساحه، وهيض عضده، وغيض ثمده. ومن أخرى: الآن عاد الشباب خير معاده، وابيض الرجاء بعد اسوداده وترك الزمان فضل عنانه، فلله الشكر المردد بإحسانه. وافاني أيدك الله لك كتاب كريم كما طرز البدر النهر، أو كما بلل الغيث الزهر، طوقني طوق الحمامة، وألبسني ظل الغمامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 892 وله إلى إقبال الدولة برجوع أحد معاقله إليه من رسالة: جراحات الأيام هدر، وجنايتها قدر، وليس للمرء حيلة وإنما هي ألطاف لله جميلة، تستنزل الأعصم من هضابه، وتأخذ المعتر بأثوابه، أحمده عوداً وبدءاً بالنعمة التي ألبسك سربالها، والفتنة التي أطفأ عنك اشتعالها، والرئاسة التي حمى فيها حماك، فرد خاتمها بيمناك، وقد تناولته للباطل يد خشناء، فاستقالته يدك الحسناء، فأقر الله عز وجل الحال في نصابها، وأبرزها في كمالها، تتراءى بين أترابها، ووضعت الحرب أوزارها وأخفت الأسود أخياسها وزؤارها ومن كانت مذاهبه كمذاهبك وجوانبه للسلامة كجوانبك، أعطته القلوب أسرارها، وأعلقته المعاقل أسوارها، وانجلت عنه الظلماء، وأكرم قرضه والجزاء، فليهنئك الإياب والغنيمة، وهما المنة العظيمة، وليكن لها من نفسك مكان، ومن شكرك الله بالموهبة إعلان، وأما حظي منها فحظ مسلوب أمكنه سلبه، وذي مشيب عاوده شبابه وطربه، ولمكا اقترنا لي، وكانا معظم آمالي، وعلمت أن بهما زوال الخلاف، وتواطيء الأكناف، وأن بالصدر تثلج الصدور وينتهج السرور، بادرت إلى توفية الحق لك، وتعرف الحال بك، مشيعا بالدعاء في مزيدك، ضارعاً في الإدامة لتأييدك، فإن الوقت إساءة وأنت إحسانه، والخير عين وأنت إنسانه، فإن مننت بما سألته، أفضلت وأحسنت إن شاء الله. وله إلى صاحب ميورقة ناصر الدولة: أطال الله بقاء الأمير منيفا حرمه، رفيعا علمه، إن الذي بينته الدنيا من مناقبك العليا فتجلت منه أقاصيها، وتكللت به نواصيها، لجاذب نحوك أحرارها، وجالب إلى ظلك أعيانها، وأخبارها، بقلوب تملكها هواها، وحركها نهاها، وهذا الوزير الكاتب أبو جعفر ابن البني عبدك الآمل صممت به إلى ذراك همم عوال، كأنها للرماح عوال يحملها السفين والعزم الناهد المكين، وريح جد ما تلين، إلى حلي من البيان يتقلدها، يكاد السحر يحسدها، وخلائق محمودة كأنها الخلوق، تنفح مسكا وتشوق، وإن للوشي ماخط، وربما أزرى به إذا حط، والخبر يغنيه عن الخبر، ويعلمه بالعين لا بالأثر لازلت كلفا بالإحسان، منصفا من الزمان، إن شاء الله تعالى. وله إليه: أطال الله بقاء الأمير وأيده، وأعلى يده، الشفاعات على مقدار ملتحفيها، ولكل عندك منزلة توافيها، ولما تأمل ذو الوزارتين.. أبو الحسن العامري مالك في الناس، من الطول والإيناس، بما جبلت عليه من شرف السجية، والهمم السنية، حتى مالت إليك الأهواء ورفع لك بالحمد اللواء، قصد ذراك، واعتقد اليمن في أن يراك، فملأ من زهر العلى أجفانا، ومن نهر الندى جفانا، ويستبدل من صد الزمان إقبالا، ومن تهاون الأيام اهتبالا، وله قدم الوجاهة، وقدم النباهة، ويدل عليه عيانه، كما يدل على الجواد عنانه. وأرجو أن ينال بك الآمال غضة، والأيادي منك مبيضة، فأقوم عنه على منبر الثناء خطيبا، وأوقد على جمر الآلاء عودا رطيبا، لازلت للقاصدين ملاذا، وللراغبين معاذا، إن شاء الله تعالى. وكتب إلى الوزير ابن عبد العزيز حين نجا من اعتقاله بسعيه، ونجا إلى بلنسية، راجيا لاجئا إلى فيئه: كتابي وقد طفل العشي، وسال بنا إليك المطي، لها من ذكراك حاد، ومن لقياك هاد، وسنوافيك المساء، فنغفر للدهر ما قد أساء، ونرد ساحة الأمن، ونشكر عظيم ذلك المن. فهذه النفس أنت مقيلها، وفي برد ظلك يكون مقيلها، فلله مجدك وما تأتيه، لازلت للوفاء تحميه، فدانت لك الدنيا، ودامت لك الأخرى العليا. إن شاء الله تعالى. وكتب إليه: من ذا يضاهيك، وإلى النجم مراميك، فثناؤك لا يدرك، وشعبك لا يسلك، أقسم لأعقدن على علاك من الثناء إكليلا، يرد اللحظ من سناه كليلا، ولأطوفنه شرق البلاد وغربها، ولأحملنه عجم الرجال وعربها، وكيف لا، وقد نصرتني نصرا مؤزرا، وصرفت عني الصيم عفيرا معفرا، وألبستني البأو بردا مسهما، وأوليتني البر متمما. وله في الاعلام بخبر السيل بمرسية: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 893 ورد كتابه مستفهما لما طار إليه الخبر، من السيل الحامل الذي عظم منه الضرر. وقد كنت آخذا في الاعلام، بحوادثه العظام، فإنه أذهل الأذهان، وشغل الجنان، إذ أقبل يملأ السهل والجبل، والجنوب كما اضطجعت، والعيون قد هومت للنوم أو هجعت، فمن ماض قد استلبه، وناج قد حربه وفازغ قد أثكله، وحائر لا يدري ما حم له، والبرق يجب فؤاده، والودق ينسرب مزاده، قد استسلم للقدر، واعتصم بالله عز وجل ليس سواه من وزر، حتى أرانا آية إعجازه وبراهينه، وغيض الماء لحينه، وطلع الصباح على معالم قد غيرها، وآكام قد خربها، لا ينقضى منها عجب الناظر، ولا يسمع بمثلها في الزمن الغابر، فالحمد لله على وافي دفعه، ومتلافي عونه ونفعه، لا إلاه إلا هو. وله من رسالة في وصف جوارح: قصدني مملوكه في ارتياد أفرخ من الشوذانقات عند أوانها والبعثة بها وقت تهيئها وإمكانها، فلم أفارق لها ارتقابا، ولا حدرت للمباحثة عنها نقابا، ولمظانها طلابا، إلى أن حان حين ظهورها وامتلأت منها حجور وكورها وبدا سعيها، واكتسى عريها، وجهت طبا رفيقا لاستنزالها، يرتقي إلى ذرى أجبالها، ويميز أفرهها ويحوز أشرهها، فحصلت منها عددا، جربت يدا فيداً، إلى أن تخرج منها ثلاثة أطيار، كأنها شعل نار، صيدها أجل كل صيد وقيدها أيما قيد، تقلب حوادق مقل، وتنظر نظر مختبل، وتسرع في الانقضاض، كالوحي والإيماض، وترجع إلى يد وثاقها، كأنما أشفقت من فراقها بمخلب دام، وأبهة مقدام. وله في تولية حاكم: قلدت فلانا سلمه الله النظر في أحكاك فلانة وتخيرته لها بعدما خبرته واستخلفته، وقد عرفته واثقا بدينه، راجيا لتحصينه، لأنه ان احتاط سلم، وإن أضاع أثم، فليقم الحق على أركانه، ليضع العدل في ميزانه، وليسو بين خصومه، وليأخذ من الظالم لمظلومه، وليقف في الحكم عند اشتباهه، ولينفذه عند اتجاهه، ولا يقبل غير المرضي في شهادته، ولا يتعرف الاستقامة إلا من عادته، وليعلم أن الله مطلع على خفياته، وسائله يوم ملاقاته. وكتب إلى صاحب قلبيرة يستدعي منه أقلاما: قد عدمت - أيدك الله - بهذا القطر الأقلام، وبها يتشخص الكلام، وهي حلية البيان وترجمة اللسان، عليها تفرع شعاب الفكر وذكرها منزل في محكم الذكر، ومنابتها بلدك، ويدك فيها يدك، وأريد أن ترتاد منها سبعة كعدد الأقاليم، حسنة التقليم، فضية الأديم، ولا يعتمد منها إلا صليبها والطوال أنابيبها، وإذا استمدت من أنفاسها، وافاك الشكر بطيب أنفاسها إن شاء الله تعالى. وكتب إلى الوزير عبد الملك بن عبد العزيز عند الحادثة بقونكة: كتبت أعزك الله والحد فليل، والذهن كليل، بما حدث من عظيم الخرق، على جميع الخلق، فلتقم على الدين نوادبه، فقد جب سنامه وغاربه، ولتفض عليه مدامعه وعبراته، فقد غشيه حمامه وغمراته، وكان منيع الذرى، بعيدا عن أن يلحظ أو يرى، تحميه المناصل البتر، والذوابل السمر، والمسومة الجرد، ومشيخة كأنهم من طول ما التثموا مرد، فأبى القدر إلا أن يفجع بأشمخ مدائنه ومعاقله، ولا يترك له سوى سواحله، وكانت لطليطلة أختا، فاستلبها فجأة وبغتا، وقبل ما سلب الجزيرة وسطى عقدها، بلنسية جبرها الله. وأرجو أن يتلافى جميعها، من نظر أمير المسلمين ما يعيدها، فيملؤها خيلا ورجالا، وينفر بهم خفافا وثقالا، عليهم من قوادها شيبها وشبانها، وفيهم من أجناده زنجها وعربانها. من كل أبلج باسم يوم الوغى ... يمشي إلى الهيجاء مشي غضنفر يلقى الرماح بوجهه وبنحره ... ويقيم هامته مقام المغفر حتى يستقال جدها العاثر، ويحيا رسمها الدائر، فتبتهج الأرض بعد غبرتها، وتكتسي الدنيا بزهرتها، وما قصر القائد الأعلى في الجد والتشمير، والاحتفال بالأبطال المغاوير، حتى بلغ بنفسه أبلغ المجهود، والجود بالنفس أقصى غاية الجود، ولكن نفذ حكم من له الحكم، ورمى قضاؤه فما أخطأ السهم، والله لا يضيع له مقامه في العام السالف، وما أورد المشركين فيه من المتالف، فما انقضى فتح إلا ورد فتح، كالفجر يتبعه صبح، مد الله بسطته، وثبت وطأته، ولا زال الصنع الجميل على هذا الدين مراميا، وله محاميا، بعزته. وله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 894 كتبت - أعزك الله - عن ضمير اندمج على سر اعتقادك صدره، وتبلج في أفق مرادك بدره، وسال على صفحات ثنائك مسكه، وصار في راحتي سنائك ملكه، ولما ظفرت بفلان حملته من تحيتي زهرا جنيا، يوافيك عرفه ذكيا، ويواليك أنسه نجيا، ويقضي من حقك فرضا مأتيا، على أن شخص جلالك لي ماثل، وبين ضلوعي نازل، لا يمله خاطر ولا يمسه عرض دابر. وله: كل المعالي إليك ابتسامها، وفي يدك انتظامها، وعليك إصفاقها، ولديك إشراقها، وإن كتابك الرفيع وافاني فكان كالزهر الجني، والبشرى أتت بعد النعي، سرى إلى نفسي فأحياها، وأجلى عني كرب الخطوب وجلاها، وتنبه لي وقد نامت عني العيون، وتهمم بي وقد أغفلني الزمن الخؤون، فملكني بإجماله، واستخفني باهتباله، فلتأتينه بالثناء الركائب، تحمله أعجازها والغوارب. وأما ما وصف به الأيام من ذميم أوصافها، وتقلبها واعتسافها، فما جهلتها، ولقد بلوتها خبرا، ورددتها على أعقابها صغرا فلم أخضع بجفوتها، ولم أتضعضع لنبوتها، وعلمت أن الدنيا قليل بقاؤها، وشيك فناؤها، فأعدت قول القائل: تفانى الرجال على حبها ... وما يحصلون على طائل وعلى حالاتها فما عدمت بها من الله صنعا لطيفا، وسترا كثيفا، له الحمد ما أومض بارق، ولمع شارق، وأما ما عرضه من الانتقال إلى ذراه، والتقلب في نعماه، والحلول بجنابه، فكيف، وأني به، وقد قيدني الهرم فما أستطيع نهضا، ولا أطيق بسطا ولا قبضا، ولو أمكنني لاستقبلت العمر جديدا، والفضل مشهودا، عند من تقر بسوابقه العجم والعرب، وتؤكل خلائقه بالضمير وتشرب، جازاه الله بالحسنى وأولاه، ثواب ما تولى بعزته تعالى. وله وقد دعي إلى زفاف بعض الملوك: نعمه، أيده الله، قد أغرقتني مدودها، وأثقلتني لواحقها ووفودها. وافاني كتابه العزيز داعيا إلى المشهد الأعظم، والمحفل الأكرم، الذي ألبس الدنيا إشراقا، والمجد إبراقا، فألفى الدعاء مني سميعا، لا سيما وقد قلدتني به الشرف والسؤدد والبر جميعا، وسما لناظري فيه إلى حيث النجوم شوابك والمعالي أرائك، إلا أنه أيده الله أتم نظرا، وأوضح تدبرا من أن يلحق بخاصته الزلل، ويوقع عليهم الخلل. وقد علم أن الأيام تركن بالي كاسفا، وخطوي واقفا، فكيف يسوغ أن القاه بذهن كليل، وفكر عليل، إذن فقد أخللت بأياديه، وما أجللت رفيع ناديه، وأقسم القسم البربحياته - أطالها الله - ما كان من وطري أن أتأخر عنه ولي فيه الآمال العريضة، والقداح المفيضة، وفي يدي منه مواعد زهر النظام، ومواهب زرق الجمام، وإذا عرف الحقيقة رأى العذر واضحا، والسر لائحا، وعسى أن يلاحظ سعد، ويستنجز للمنى وعد، وينفسح خاطر، ويهتدي حائر، فيقف بببابه ملازما، ويخر على بساطه لاثما، إن شاء الله تعالى. وحكى القيسي مؤلف قلائد العقيان أنه دخل بلنسية سنة ثلاث وخمسمائة فلقي أبا عبد الرحمان قد انحنى وهو يمسي بالعيش على صخر، ويمشي على ساق من الشجر، ودارت بينهما مراسلات. وكتب إليه الرئيس أبو عبد الرحمان: أنا - أعزك الله - عليك شحيح، ولك فيما تأتيه وتحتذيه نصيح، فالزمان لا يساعد، والأيام تعوق وتباعد، فاقصر من هذه الهمة، واقتصر من أمورك على المهمة، التي تفجأ مع الأوقات، ولا تلجأ فيها إلى ميقات، واقتصد في مواهبك، واقصد إلى العدل في مذاهبك، ولا تكلف في الجود بشرف، ولا تقف من التبذير على سرف، فلو أن البحر لك مشرب، والترب مكتسب، لنفدا معا، ولم يسدا موضعا، ولو كان النجم لك مصعدا، والفلك مقعدا، لما ثنيت إلى ذلك عنانا، ولا ارتضيتها لهمتك مكانا، وقد خطبتك في الحظوة سرا وجهرا، وبذلت لك الامرة اسنى مراتبك مهرا. وكتب إليه بعد مفارقته: يا كوكب مجد أظلمت لغروبه منيرات الآفاق، وذهب ما كنت عهدته من الإشراق، لقد استرجعت مسراتي أجمعها، وأزلت عن نفسي في السلوة طمعها. فسقيا لعهدك، وقل له السقيا ويا لهفي بعدك، إن قضى لك البقيا وإن لي من الشوق ببعدك، والكدر لفقدك، ما لو كان بالفلك الدوار لم يدر، ولقد كانت غراء أيام تلاقينا، والأنس يساقينا، وإنها لممثلة لعيني، ما يحول السلو بينها وبيني، وعساها تعود، فتطلع معها السعود، إن شاء الله تعالى. ذو الوزارتين القائد أبو عيسى ابن لبون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 895 وصفه القيسي بعزة العظماء، وهزة الكرماء، والشغف بالجود، الكلف بالوفود، ونفاق بضائع البدائع في زمانه، واشراق مطالع الصنائع بإحسانه، واتسقت مناظم سلكه، في مراسم ملكه، وجرى مدار فلكه على مراد ملكه وكانت مربيطر مربض جياده، ومنهض أجناده، ومربط أفراس بأسه، ومسقط رأس إيناسه، والدهر مسالمه، والقدر مساعده، والأمل مساعفه، والوطر معاضده، فأخذها منه ابن رزين، وتركه على أرض السائب الحزين، وانعكس حظه، وانتكس لحظه، ونابه القدر في قدره النابه السلطان بنابه السلط، وشابه العير من دهره المتشابه الحدثان بعد الرفع بالحط، ورابه الزمن بالمكاره دون مكارمه، وحار مهتما في بحار مهامه بحارمه. وله نظم نظمأ إلى مناهل ورده، ونجتلي الحسن من مطالع سعده، فمن ذلك قوله في خليط مزائل، وحبيب راحل: سقى أرضا ثوَوْها كل مزن ... وسايرهم سرور وارتياح فما ألوى بهم ملل ولكن ... صروف الدهر والقدر المتاح سأبكي بعدهم حزنا عليهم ... بدمع في أعنّته جماع وقال: قم يا نديم أدر عليَّ القَرْقَفَا ... أو ما ترى زهر الرياض مفوّفا فتخال محبوبا مدلا وردها ... وتظن نرجسها محبا مدنفا والجلنار دماء قتلى معرك ... والياسمين حباب ماء قد طفا وقال يعاتب بعض إخوانه ويخاطب بعض خلانه: لحى الله قلبي كم يحنّ إليكم ... وقد بعتُمُ حظّي وضاع لديكم إذا نحن أنصفناكم من نفوسنا ... ولم تنصفونا فالسلام عليكم وقال بعد التسلط عليه في سلطانه، يحن إلى أوطاره في أوطانه: يا ليت شعري وهل في ليت من أرب ... هيهات لا تنقضي من ليت آراب وأين تلك الليالي إذ تلم بنا ... فيها وقد نام حرّاس وحجّاب أين الشموس التي كانت تطالعنا ... والجو من فوقه لليل جلباب تهدي إلينا لجينا حشوه ذهب ... أنامل العاج والأطراف عنّاب وقال يندب أيامه الموسومة السعود بالإشراق، المنظومة العقود على الاتساق، ويذكر تعثر آماله، وتغير أحواله: خليليّ عوجا بي على مسقط اللوى ... لعل رسوم الدار أن تتغيرا وأسأل عن ليل تولى بأنسنا ... وأندب أياما تقضّت وأعصرا لياليَ إذ كان الزمان مُسَالِماً ... وإذ كان غصن العيش فينان أخضرا وإذ كنت أسقى الراح من كف أغيد ... يناولنيها رائحا ومبكرا أعانق منه الغصن يهتز ناعما ... وألثم منه البدر يطلع مقمرا وقد ضربت أيدي الأماني رواقها ... علينا وكف الدهر عنا وأقصرا فما شئت من لهو وما شئت من ددٍ ... ومن مبسم يجنيك عذبا مؤشّرا وما شئت من عود يغنيك مفصحا ... سما لك شوق بعد ما كان قصرا ولكنّها الدنيا تخادع أهلها ... تَغُرُّ بصفو وهي تطوي مكدّرا لقد اوردتني بعد ذلك كله ... موارد ما ألفيت عنهنّ مصدرا وكم كابدت نفسي لها من ملمّة ... وكم بات طرفي من أساها مسهرّا خليليّ ما بالي على صدق عزمتي ... أرى من زماني ونْيةً وتعذرا ووالله ما أدري لأيّ جريمة ... تجنّى ولا عن أيّ ذنب تغيّرا ولم أك عن كسب المكارم عاجزا ... ولا كنت في نيل أنيل مقصّرا لئن ساء تمزيق الزمان لدولتي ... لقد رد عن جهل كثير وبصّرا وأيقظ من نوم الغرارة نائما ... وكسّب علما بالزمان وبالورى وقال: يا رب ليل شربنا فيه صافية ... صفراء في لونها تنفي التباريحا نرى الفراش على الأكواس ساقطة ... كأنّها أبصرت منها مصابيحا وقال يأنف من المقام والربوض، ويتقاضى عزمه بالسير والنهوض، ويعاف ما رتب له من الإجراء، ويميل إلى الإدلاج والإسراء: ذروني أجُبْ شرق البلاد وغربها ... لأسعى بنفسي أو أموت بدائي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 896 فلست ككلب السوء يرضيه مَرْبض ... وعظم ولكنّي عقاب سماء تحوم لكيما يدرك الخصب حومها ... أمام أمام أو وراء وراء وكنت إذا ما بلدة لي تنكرت ... شددت إلى أخرى مطي إبائي وسرت ولا ألوي على متعذر ... وصممت لا أصغي إلى النصحاء كشمس تبدت للعيون بمشرق ... صباحا وفي غرب أصيل مساء وقال عند زهده في الدنيا وانقباضه، ونفض يده عنها وإعراضه: نفضت كفي عن الدنيا وقلت لها ... إليك عنّي فما في الحق أغتبن من كِسر بيتي لي روض ومن كتبي ... جليس صدق على الأسرار مؤتمن أدري به ما جرى في الدهر من خبر ... فعنده الحق مسطور ومختزن وما مصابي سوى موتي ويدفنني ... قوم وما لهم علم بمن دفنوا الوزير أبو عمرو الباجي الكاتب، قرأت له من مجموع هذين البيتين: غلطت يا دهر أكثر الغلط ... فارجع فإن الأنام في قنط فلم تزل ترفع الخفاف على ... حال ولكن من غير ذا النمط ووصفه كتاب قلائد العقيان بالإعجاز في البيان، والسبق في ميدان الإحسان، وأنه كان في زمان نفاق الفضائل، وإشراق الوسائل، وتزين سماء السماح بكواكب الأكارم، وترنم أطيار الأوطار في رياض النجاح بغناء الغنائم، وحظي من المعروف بالمقتدر، بكل معروف وقدر، وتمكن منه تمكن القلب في الصدر، ولقي من أهل سرقسطه، ما أجزل من كل عارفة قسطه، ثم رحل عنهم، فحن إلى لقائهم، فقال يخاطبهم ويثني على آلائهم: سلام على صفحات الكرم ... على الغرر الفارجات الغمم على الهمم الفارعات النجوم ... على الأيمن الغامرات الديم سلام شج لانقلاب المزار ... نوى غربة عن جوار أمم شجى عن نزاع يذيب الدموع ... بنار الجوانح لا عن ندم وأيّ الندامة من مجمع ... على ما نوى همّه أي هم وهل يتلوّن رأي الأريب ... إذا جدّ في أمره واعتزم عزمت على رحلتي عنكم ... فسرت بقلب شديد الألم أضاحك ضيفي وأطوي الفجاج ... وفي كبدي لاعج كالضرم فما أنس لا أنس ذاك السّنا ... وذاك السناء وتلك الشيم ودنيا بكم طلقة المجتلى ... ودهرا بكم واضح المبتسم وساعة أنس تجول النفو ... س فيها مجال حمام الحرم أحنّ إليكم فمن شاقه ... تذكر عهدكم لم يلم وإن كنت مغتبطا ساحبا ... ذيول الرضى في قرار النعم وأنشر من فضلكم ما حييت ... على أنه سافر كالعلم فما روضة الحزن ذات الفنون ... إذا ما الصباح عليها ابتسم وقد بلل الطل أحداقها ... كأنّ الفريد عليها انتظم بأطيب من نفحات الثناء ... أسيّرها عنكم في الأمم أروح وأغدو بها خاطبا ... لدى سامعي عرب أو عجم لدى كل معترف تابع ... إذا قلت، ألقى إلي السلم ومن حقكم شكر آلائكم ... ومن حق شانئكم أن يذم ومن نثره كنظم السمط، يصف المطر غب القحط: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 897 إن لله تعالى قضايا واقعة بالعدل، وعطايا جامعة للفضل، ومنحا يبسطها إذا شاء ترفيها وإنعاما، ويقبضها إذا أراد تنبيها وإلهاما، ويجعلها لقوم صلاحا وخيرا، وعلى آخرين فسادا وضيرا، وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد، وأنه بعد ما كان من امتساك الحيا، وتوقف السقيا، الذي ريع به الآمن، واستطير له الساكن، ورجفت الأكباد فزعا، وذهبت الألباب جزعا، وأذكت ذكاء حرها، ومنعت السماء درها واكتست الأرض غبرة بعد خضرة، ولبست شحوبا بعد نضرة، وكادت برود الأرض تطوى، ومدود نعمه تزوى. يسر الله تعالى رحمته، وبسط نعمته، وأتاح منته، وأزاح محنته، فبعث الرياح لواقح، وأرسل الغمام سوافح، بماء دفق، ورواء غدق، من سماء طبق، استهل جفنها فدمع، وسح مزنها وهمع، وصاب وبلها ونفع، فاستوفت الأرض ريا، واستكملت من نباتها أثاثا وريا، فزينة الأرض مشهورة، وحلة الرياض منشورة، ومنة الرب موفورة، والقلوب ناعمة بعد بؤسها، والوجوه ضاحكة بعد عبوسها، وآثار الجوع ممحوة، وسور الحمد متلوة ونحن نستزيد الواهب نعمة التوفيق، ونستهديه في قضاء الحقوق إلى سواء الطريق، ونستعيذ به من المنة أن تصير فتنة، ومن المنحة أن تعود محنة، وهو حسبنا ونعم الوكيل. الوزير أبو بكر محمد بن القصيرة قرأت له في بعض التعاليق، هذا البيت شاهدا له بجودة النظم بالتوفيق والتحقيق، وهو من أبيات يهنىء فيها بمولود: لم يستهل بُكىً ولكن منكرا ... أن لم تُعدّ له الدروع لفائفا ولم يورد القيسي مصنف قلائد العقيان شيئا من شعره، لكنه وشح كتابه بنثره، ووصفه بترجح الأقلام في بيانه، وتبجح الأيام بمكانه، وإنه كان في سماء العلى وتاجها دريا ودره، ولمشرفي الشرف وجهة الوجاهة غرارا وغرة، واشتملت عليه دولة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين اشتمال الجفن على البصر، والأكمام على الثمر، والهالة على القمر، إلى أن أضمر رمسه، وكورت شمسه. قال القيسي: فمن كلامه رقعة راجعني بها: وافتني لك - أطال اله بقاءك - أحرف كأنها الوشم في الخدود، تميس في حلل إبداعها كالغصن الاملود، وإنك لسابق هذه الحلبة لا يدرك غبارك في مضمارها، ولا يضاف سرارك إلى إبدارها، وما أنت في أهل البلاغة إلا نكتة فلكها، ومعجزة تتشرف الدول بتملكها، وما كان أخلقك بملك يدنيك، وملك يقتنيك، ولكنها الحظوظ لا تعتمد من تتجمل به وتتشرف، ولا تقف إلا على من توقف، ولو اتفقت بحسب الرتب لما ضربت إلا عليك قبابها، ولا خلعت إلا عليك أثوابها، وأما ما عرضته فلا أرى إنفاذه قواما، ولا أرضى لك أن تترك عيون آرائك نياما، ولو كففت من هذا الخلق، وانصرفت عن تلك الطرق، لكان أليق بك، وأذهب مع حسن مذهبك، فقديما أوردت الأنفة أهلها موارد لم يحمدوا صدرها والموفق من أبعدها وهجرها، وسأستدرك الأمر قبل فواته، وأرهف لك مفلول شباته، فتوقف قليلا، ولا تنفذ فيه دبيرا ولا قبيلا، حتى ألقاك هذه العشية، وأعلمك بما تنبني عليه القضية. وكتب عن أمير المسلمين إلى طائفة متعدية: يا أمة لا تعقل رشدها، ولا تجري إلى ما تقتضيه نعم الله عندها، ولا تقلع عن أذي تفشيه قربا وبعدا جهدها، فإنكم لا ترعون لجار ولا غيره حرمة، ولا تراقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، قد أعماكم عن مصالحكم الأشر، وأضلكم ضلالا بعيدا البطر، ونبذتم المعروف وراء ظهوركم، وأتيتم ما ينكر مقتديا في ذلك صغيركم بكبيركم، وخاملكم بمشهوركم، ليس فيكم زاجر، ولا منكم إلا غوي فاجر، وما ترى إلا الله عز وجل قد شاء مسخكم وأراد نسخكم وفسخكم، فسلط عليكم الشيطان الرجيم يغركم ويغريكم، ويزين لكم قبائح معاصيكم، وكأنكم به قد نكص على عقبيه عنكم، وقال إني بريء منكم، وترككم في صفقة خاسرة، لا تستقيلونها إن لم تتوبوا في دنيا ولا آخرة، وحسبنا هذا إعذارا لكم، وإنذارا قبلكم، فتوبوا وأنيبوا وأقلعوا وانزعوا، واقضوا من أنفسكم كل من وترتموه، وأنصفوا جميع من ظلمتموه وغششتموه ولا تستطيلوا على أحد بعد، ولا يكن إلى أذاه صدر ولا ورد، إلا عاجلكم من عقوبتكم ما يجعلكم مثلا سائرا، وحديثا غابرا، فاتقوا الله في أنفسكم وأهليكم، وإياكم والاعتزاز فإنه يورطكم فيما يرديكم ويسوقكم، إلى ما يشمت به أعاديكم، وكفى بهذا تبصرة وتذكرة، ليست لكم بعدها حجة ولا معذرة ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 898 وكتب عن أمير المسلمين إلى صاحب قلعة حماد: وصل كتابك، الذي أنفذته من وادي مني صادرا عن الوجهة التي استظهرت عليها بأضدادك، وأجحفت فيها بطارفك وتلادك، وأخفقت فيها من مطلبك ومرادك، فوقفنا على معانيه، وعرفنا المصرح به والمشار إليه فيه، ووجدناك تتجنى وتثرب على من لم يستوجب التثريب وتجعل سيئك حسنا، ونكرك معروفا وخلافك صوابا بينا، وتقضي لنفسك بفلح الخصام، وتوافيها الحجة البالغة في جميع الأحكام، ولم تتأول أن وراء كل حجة أدليت بها ما يدحضها، وإزاء كل دعوى أبرمتها ما ينقضها، وتلقاء كل شكوى صححتها ما يمرضها، ولولا استنكاف الجدال، واجتناب تردد القيل والقال، لفضضنا فصول كتابك أولا فأولا، وتقريناها تفاصيل وجملا، وأضفنا إلى كل فصل ما يبطله، ويخجل من ينتحله، حتى لا يدفع حجته دافع، ولا ينبو عن قبول أدلته راء ولا سامع. ومنها: وأنت تحتفل وتحتشد، وتقوم وتقعد، وتبرق غيظا وترعد، وتستدعي ذؤبان العرب، وصعاليكهم من مبتعد ومقترب؛ فتعطيهم ما في خزائنك جزافا، وتنفق عليهم ما كنزه أوائلك إسرافا، وتمنح أهل العشرات مئين وأهل المئين آلافا، كل ذلك لتعتضد بهم، وتعتمد على تعصبهم، وتعتقد أنهم جنتك من المحاذير، وحماتك من المقادير، وتذهل عما في الغيب من أحكام العزيز القدير ... وكتب إلى أهل مكناسة عنه: أما بعد، - أصلح الله من أعمالكم ما اختل، وأصح من وجوه صلاحكم ما اعتل -، فقد بلغنا ما أنتم بسبيله من التقاطع والتدابر، وما ركبتم رؤوسكم فيه من التنازع والتهاتر، قد استوى في ذلك عالمكم وجاهلكم، وصار شرعا سواء فيه نبيهكم وخاملكم، لا تأتمرون رشدا، ولا تطيعون مرشدا، ولا تقيمون سددا ولا تنحون مقصدا، ولا تفلحون إن لم ترعووا عن غوايتكم أبدا، فلا يسوغ لنا أن نترككم فوضى وندعكم سدى، ولابد لنا من أخذ قناتكم بثقاف إما أن تستقيم أو تتشظى قصدا، فتوبوا من ذنب التباغض بينكم والتباين، واعصوا شياطين التحاقد والتشاحن، وكونوا على الخير أعوانا، وفي ذات الله إخوانا، ولا تجعلوا للغواية عليكم يدا ولا سلطانا. واعلموا أن من نزغ بينكم بشر، أو نفث في فتنة بضر، وقام عندنا عليه الدليل، واتجه إليه السبيل، أخرجناه عنكم، وأبعدناه منكم. فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين، ولا تتولوا عن الموعظة وأنتم معرضون، ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون. الوزير أبو المطرف ابن الدباغ الكاتب لم يورد له نظما، ووصفه بالاشتهار بالبلاغة، والاقتصار على حسن البلاغ في كل إراغة، وكلف المعتمد به، فاعتماده عليه لحسن مذهبه، فانبري لشأنه الشاني، فأصابت كماله عين الراني، فأحله اضطراب الحالة حلة الاضطرار، وأفضى به الاغترار إلى الاعترار، وحصل دون درك الإيثار، في شرك العثار، فانتقل إلى المتوكل متوكلا، فرفع ووسع له منزلة ومنزلا، وكر إلى سرقسطة بلده ومحله، ليكون مع ولده وأهله، فبات ليلة في بعض حدائقها، فرمقته النوائب بأحداق بوائقها، فطرقه عدو له وهنا، وكسا قواه بفري أوداجه وهنا، وطعنه بمداه ورداه رداه، وسقاه من الموت الأحمر كأس حمامه، وتركه لا يستيقظ من منامه. ومن كتبه، وكان كثير الشكوى من الدهر ونوبه: كتابي، وأنا كما تدريه، غرض للأيام ترميه، ولكن غير شاك لآلامها، لأن قلبي في أغشية من سهامها، فالنصل على مثله يقع، والتألم بهذه الحالة قد ارتفع، كذلك التقريع إذا تتابع هان، والخطب إذا أفرط في الشدة لان، والحوادث تنعكس إلى الأضداد، إذا تناهت في الاشتداد، وتزايدت على الآماد. وكتب في مثل ذلك: كتابي، وعندي من الدهر ما يهز أيسره الرواسي، ويفتت الحجر القاسي، ومن أجلها قلب محاسني مساويا، وانقلاب أوليائي أعاديا، وقصدني بالبغضة من جهة المقة، واعتمدني بالخيانة من جانب الثقة، فقس هذا على سواه، وعارض به ما عداه، ولا تعجب إلا لثبوتي لما لا يثبت عليه الحلق السرد، وبقائي على مالا يبقى عليه الحجر الصلد، ولا أطول عليك فقد غير علي حتى شرابي، وأوحشتني ثيابي، فها أنا أتهم عياني، وأستريب من بناني، وأجني الإساءة من غرس إحساني، وقاتل الله الحطيئة في قوله، فلشد ما غرر بقوله: من يزرع الخير يحصد ما يسر به ... وزارع الشر منكوس على الراس من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 899 أنا والله فعلت خيرا فعدمت جوازيه، وما أحمدت عوائده ومباديه، وزرعته فلم أحصد إلا شرا، ولا اجتنيت منه إلا ضرا، وهكذا جدي فما أصنع، وقد أبى لي القضاء إلا أن أفني عمري في بوس، ولا أنفك من نحوس. ويا ليت باقيه قد انصرم، وغائب الحمام قد قدم، وعسى أن تكون بعد الممات راحة من هذا النصب، وسلوة عن هذه الخطوب والنوب، ودع بنا هذا التشكي فالدهر ليس بمعتب من يجزع، ولا في الأيام رجاء ومطمع. وله من فصل في تعزية: من أي الثنايا طلعت النوائب، وأي حمى رتعت فيه المصائب، فواها لحشاشة الفضل أرصدها الردى غوائله، وبقية الكرم جر عليها الدهر كلاكله، ويا حسرتا للجة المواهب كيف سجرت، ولشمس المعالي كيف كورت، ويالهفي على هضبة الحكم كيف زلزلت، وحدة الذكاء والفهم كيف فللت، فإنا لله وإنا إليه راجعون أخذا بوصاياه، وتسليما لقضاياه. وله فصل: لئن كانت الأيام تنئيك، فالأماني تدنيك، ولئن كنت محجوبا عن الناظر، فإنك مصور في الخاطر، أناجيك بلسان الضمير، وأعاطيك سلاف السرور. وله فصل في ذم كتاب: وردني لك كتاب خلته للطفه سماء، وتوهمته من خفته هباء، وفضضته عن أسطر فيها سواد، لم يتحصل منه مستفاد، فتعوذت برب ذلك الفلق، من شر ذلك الغسق. وله: كنت عهدتك لا تمتنع من مداعبة من يداعبك، ولا تنقبض عن مراجعة من يخاطبك، فمن أين حدث هذا التعالي، وما سبب هذا التغالي، عرفني، - جعلت فداك -، ما الذي عداك، ولعلك رأيت الحضرة قد خلت من قاض فطمعت في القضاء وجعلت تأخذ نفسك بأهبته، وتترشح لرتبته، وأنت الآن لا شك تنفقه في الأحكام، وتتطلع شريعة الإسلام، وهبك تحليت بهذا السمت، وتأهبت وتهيأت لذلك الدست، ما تصنع في قصة السبت، دع عنك هذا التخلق وارجع إلى أخلاقك، وعد في إطراقك، وتجاهل، ما قبلك جاهل، وتحامق مع الحمقى وأنت عاقل، فلا تمنع لذة الاسترسال، ولا تبع الدنيا بخدمتك في سائر الأحوال، فما أشبه إدبارها بالإقبال، وكثرتها بالإقلال. وله يستدعي خمرا: أوصافك العطرة، ومكارمك المشتهرة، تنشط سامعها من غير توطية، في اقتضاء ما عرض من أمنية، وللراح من قلبي محل لا تصل إليه سلوة، ولا تعترضه جفوة، إلا أن معينها قد جف، وقطينها قد خف، فما توجد للسباء، ولو بحشاشة الحوباء، فصلني منها بما يوازي قدري، ويقوم له شكري، فإن قدرك أرفع من أن تقتضي حقه زاخرات البحار، ولو سالت بذوب النضار، لا يصافنه العقار. وله يستدعي إلى مجلس أنس: يومنا يوم قد تجهم محياه، ودمعت عيناه، وبرقعت شمسه الغيوم، ونثرت صباه لؤلؤه المنظوم، وملأ الخافقين دخان دجنه، وطبق بساط الأرض هملان جفنه، فأعرضنا عنه إلى مجلس وجهه كالصباح المسفر، وجلبابه كالرداء المحبر، وحليه يشرق في ترائبه، ونده يعبق في جوانبه، وطلائع أنواره تظهر، وكواكب إيناسه تزهر، وأباريقه تركع وتسجد، وأوتاره تنشد وتغرد، وبدوره تستحث أنجمها محيية، وتقبل أنملها مفدية، وسائر نغماتها خذ وهاتها، وأملها أن تحث خطاك، حتى يلوح سناك، ونشتفي بمرآك. وله: ورد كتابك فنور ما كان بالإغباب داجيا، وحسن مشافها عنك ومناجيا، واسترد إلى الخلة بهاءها، وأجرى في صفحة الصلة ماءها، وعند شدة الظمأ يعذب الماء، وبعد مشقة السهر يطيب الاغفاء، ورأيت ما وعدت به من الزيارة فسرني سرورا بعث من إطرابي، وحسن لي دين التصابي، فارتحت كأنما أدار علي المدام مديرها، وجاوب المثاني والمثالث زيرها، ولا تسأل عن حالي استطلعتها فهي كاسفة بالي، كاشفة عن خبالي بصبح لاح من خلال ذؤابتي، وتنفس في ليل لمتي، فأدجى مطالع أعملي، وأراني مصارع آمالي. وله فصل: يا ليت شعري كيف اتغير على بعضي، وأمنحه قطيعتي وبغضي. وله فصل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 900 طلع علينا هذا اليوم فكاد يمطر من الغضارة صحوه، ويقبس من الإنارة جوه، ويحيي الرميم اعتداله، ويصبي الحليم جماله، فلفتنا زهرته، ونظمتنا بهجته، في روضة أرضعتها السماء شآبيبها ونثرت عليها كواكبها، ووفد عليها النعمان بشقيقه، أو قبل فيها الهند بخلوقه، وبكر إليها بابل برحيقه، فالجمال يثني بحسنه طرفه، والنسيم يهز لأنفاسه عطفه، وتمنينا أن يتبلج صبحك من خلال فروجه، وتحل شمسك في منازل بروجه، فيطلع علينا الأنس بطلوعك، وتهديه بوقوعك، ولن تعدم نورا يحكي شمائلك طيبا وبهجة، وراحا تخالها خلالك صفاء ورقة، وألحانا تثير أشجان الصب، وتبعث أطراب القلب، وندامى ترتاح إليهم الشمول، وتتعطر بأرجهم القبول، ويحسد الصبح عليهم الأصيل، ويقصر بمجالستهم الليل الطويل. الوزير الفقيه الكاتب أبو القاسم ابن الجد وصفه بالإعجاز، في الصدور والأعجاز، وإقطاع استعارته جانبي الحقيقة والمجاز، وإنارة أفق أدبه، ونضارة روض السداد به، والافتتان بالعلم، والازديان بالحلم، قد احتوت على السحر الحلال مهارقه، وأضاءت بنور الإقبال مشارقه، وجادت بصوب النوال بوارقه. كان بالدرس مشتغلا، وللأنس بالعلم معتزلا، حتى استدعاه أمير المسلمين فأجاب، وأحسن عنه المناب. وقد أورد من نثره الباهر، ونظمه الزاهر، ما تسلب الألباب أساليبه، وتروي الآداب شآبيبه، وفي رسائله ما هو مؤرخ لسنة اثنتي عشرة وخمسمائة وقد عاش بعد ذلك طويلا، وأوتي جاها عريضا طويلا. فمن ذلك رقعة ذكر القيسي أنه راجعه بها عن معاتبة، في توقف مجاوبة، وهي: لو أطعت نفسي، - أعزك الله -، بحسب هواها، ومحتمل قواها، لما خططت طرسا، ولا سمعت للقلم جرسا، ولنمت في حجر العطلة مستريحا، ولزمت بيت العزلة حلسا طريحا، ولكنني بحكم الزمان مغلوب، وبحقوق الإخوان مطلوب، فلا أجد بدا من إعمال الخاطر وإن غدا طليحا، وتناهى تبليحا ولما طلع علي طالع خطابك الكريم، في صورة المقتضي الغريم، تعين الأداء، ووجب الأعداء، واتصل بالتلبية النداء وقد كنت تغافلت عن الكتاب الأول، تغافل الساكن إلى العدو المنازل، فهزتني من الثاني كلمات مؤلمات، ولكنها في وجوه الحسن والإحسان سمات، لم توجد في المعرفة طريقا، ولا سوغتني في النظرة ريقا، فتكلفت هذه الأسطر تكلف المضطر، حفزه ثقل البر، وأنت بفضلك تقبل وجيزها، ولا تبخل بأن تجيزها، والله يطيل بقاءك محسود النجابة، ولا يخلي دعوتي لك من الإجابة. وله من قصيدة: لئن راق مرأى للحسان ومسمع ... فحسناؤك الغراء أبهى وأمتع عروس جلاها مطلع الفكر فانثنت ... إليها النجوم الزاهرات تطلع زففت بها بكرا تضوَّع طيبها ... وما طيبها إلا الثناء المضوّع لها من طراز الحسن وشي مهلل ... ومن صنعة الإحسان تاج مرصّع وله مراجعا: سلام كأنفاس الأحبّة موهنا ... سرت بشذاها العنبري صبا نجد سلام كإيماض الغزالة بالضحى ... إلى الروضة الغناء غبّ الحيا العد على من تحراني بمعجز شعره ... فأعجز أدنى عفوه منتهى جهدي حبانِيَ من حَبْك اللسان بِلاَمَة ... مضاعفة التأليف محكمة السرد دلاص من النظم البديع حصينةٍ ... ترد سنان النقد منثلم الحد عليها من الإحسان والحسن رونق ... كما ديس متن السيف من صدأ الغمد وفيها على الطبع الكريم دلالة ... كما افترَّ ضوء السقط عن كرم الزند أبا عامر لا زال ربعك عامرا ... بوفد الثناء الحر والسؤدد الرغد لقد سمتني في حومة القول خطة ... لففت لها رأسي حياء من المجد وكتب إلى أحد الشعراء مراجعا: أما ونسيم الروض طاب به فجر ... وهبّ له من كلّ زاهرة عِطْرُ تَحَامَى له من سرّه زَهَرُ الرُّبى ... ولم يَدْرِ أن السر في طيه نشر ففي كلّ سهب من أحاديث طيبه ... تمائم لم يعلق بحاملها وزر لقد فغّمتني من ثنائك نفحة ... ينافسني في طيب أنفاسها العطر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 901 تضوّع منها العنبر الورد فانثنت ... وقد أوهمتني أن منزلها السِّحْر سرى الكبر في نفسي لها ولربّما ... تجانف عن مسرى ضرائِبِي الكبر وشيت بها معنى من الراح مطربا ... فخيل لي أن ارتياحي بها سكر أبا عامر، أنصف أخاك فإنّه ... وإياك في محض الهوى الماء والخمر أمثلك يبغي في سمائيَ كوكبا ... وفي جوك الشمس المنيرة والبدر ويلتمس الحصباء في ثَعَب الحصى ... ومن بحرك الفيّاض يُستخرج الدر عجبت لمن يهوى من الصَّفر تَوْمَةً ... وقد سال في أرجاء معدنه التبر ومن رسائله، كتب عن أمير المسلمين، وناصر الدين، إلى أهل إشبيلية: كتابنا - أبقاكم الله، وعصمكم بتقواه، ويسركم من الاتفاق والائتلاف لما يرضاه، وجنبكم من أسباب الشقاق والخلاف ما يسخطه ويأباه -، من حضرة مراكش حرسها الله لست بقين من جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وخمسمائة، وقد بلغنا ما تأكد بين أعيانكم من أسباب التباعد والتباين، ودواعي التحاسد والتضاغن، واتصال التباغض والتدابر، وتمادي التقاطع والتهاجر، وفي هذا على فقهائكم وصلحائكم مطعن بين، ومغمزلا يرضاه مؤمن دين. فهلا سعوا في إصلاح ذات البين، سعي الصالحين، وجدوا في إبطال أعمال المفسدين، وبذلوا في تأليف الآراء المختلفة، وجمع الاهواء المفترقة، جهد المجتهدين، ورأينا والله الموفق للصواب، أن نعذر إليكم بهذا الخطاب، فإذا وصل إليكم، وقرىء عليكم، فاقمعوا الأنفس الأمارة بالسوء، وارغبوا في السكون والهدوء، ونكبوا عن طريق البغي الذميم المشنوء، واحذروا دواعي الفتن، وعواقب الإحن، وما يجر داء الضمائر، وفساد السرائر، وعمى البصائر، ووخيم المصائر، وأشفقوا على دياركم وأعراضكم، وثوبوا إلى الصلاح في جميع أغراضكم وأخلصوا السمع والطاعة لوالي أموركم، وخليفتنا في تدبيركم وسياسة جمهوركم، أخينا الكريم علينا أبي القاسم إبراهيم، أبقاه الله، وأدام عزه بتقواه، واعلموا أن يده فيكم كيدنا، ومشهده كمشهدنا، فقفوا عند ما يحضكم عليه، ويدعوكم إليه، ولا تختلفوا في أمر من الأمور لديه، وانقادوا أسلس انقياد لحكمه وعزمه، ولا تقيموا على ثبج عناد بين حده ورسمه، والله تعالى يفيء بكم إلى الحسنى، وييسركم لما فيه صلاح الدين والدنيا، بقدرته. وله فصل لأجل الفقيه أبي الفضل ابن عياض إلى أحمد بن حمدين: أما وكنف برك لمن أمك من أهل الفضل ممهد، وجفن رعايتك لهم مسهد، ومنزل حفايتك بهم متعهد، وكل وعر يلقونه في سبيل قصدك مستسهل، لا يرويهم دونك منهل، ولا يضل بهم للعلم مجهل، وممن رأى أن يقتحم نحوك ظهري لجة ومحجة، ويقرن في أم كعبة فضلك بين عمرة وحجة، ويرحل إلى حضرتك المألوفة مهاجرا، ويعتمدها في طلب العلم تاجرا، ليجتهد في جمعه وكسبه اجتهاد مغترب، ويملأ من بضائعه وفوائده وعاء غير سرب، ومذهبه الاقتباس من أنوارك، والالتباس برهة من الدهر بجوارك، والاستئناس بأسرة بشرك ومسرة جوارك، فلان وله في الفضل مذاهب يبهرج عندها الذهب، وعنده من النبل ضرائب لا يفارق زندها اللهب، وستقربه، فتستغربه، وتخبره، فتكبره، إن شاء الله تعالى. وكتب عن أمير المسلمين في معنى ابن عياض إلى ابن حمدين: فلان - أعزه الله، وأعانه على ما نواه -، ممن له في العلم حظ وافر، ووجه سافر، وعنده دواوين إغفال، لم تفتح لها على الشيوخ أقفال، وقصد تلك الحضرة ليقيم أود متونها، ويعاني رمد عيونها، وله إلينا ماتة مرعية أوجبت الإشادة بذكره، والاعتناء بأمره، وله عندنا مكانة حفية تقتضي مخاطبتك بخبره، وإنهاضك إلى قضاء وطره، وأنت إن شاء الله تسدد عمله، وتقرب أمله، وتصل أسباب العون له. وكتب عن أمير المسلمين إلى أهل سبتة بولاية الأمير أبي زكرياء يحي بن أبي بكر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 902 كتابنا، - أبقاكم الله وأكرمكم بتقواه، ويسركم لما يرضاه، وأسبغ عليكم نعماه -، وقد رأينا، والله بفضله يقرن جميع آرائنا بالتسديد، ولا يخلينا في كافة أنحائنا من النظر الحميد، أن نولي أبا زكريا يحي بن أبي بكر محل ابننا الناشيء في حجرنا أعزه الله، وسدده في ما قلدناه إياه، مدينتي فاس وسبتة وجميع أعمالهما حرسهما الله، على الرسم الذي تولاه غيره قبله فأنفذنا ذلك لما توسمناه من مخائل النجابة قبله، ووصيناه بما نرجو أن يحتذيه ويمتثله، ويجري عليه قوله وعمله، ونحن من وراء اختباره، والفحص عن أخباره، لأنني بحمد الله في امتحانه وتجريبه، والعناية بتخريجه وتدريبه، والله عز وجل يحقق مخيلتنا فيه، ويوفقه من سداد القول والعمل لما يرضيه، فإذا وصل إليكم خطابنا فالتزموا له السمع والطاعة، والنصح والمشايعة جهد الاستطاعة، وعظموا بحسب مكانه منا قدره، وامتثلوا في كل عمل من أعمال الحق نهيه وأمره، والله تعالى يمده بتوفيقه وهدايته، ويعرفكم يمن ولايته بعزته. وكتب عنه إلى أبي محمد عبد الله بن فاطمة: كتابي، - أطال الله في طاعته عمرك، وأعز بتقواه قدرك، وشد في ما تتولاه أزرك، وعضد بالتسديد والتوفيق أمرك - من حضرة مراكش حرسها الله وقد رأينا والله ولي التوفيق، والهادي إلى سواء الطريق، أن نجدد عهدنا إلى عمالنا عصمهم الله بالتزام أحكام الحق، وإيثار أسباب الرفق، لما نرجوه في ذلك من الصلاح الشامل، والخير العاجل والآجل، والله تعالى ييسر لما يرضيه من قول وعمل منه، وأنت - أعزك الله -، ممن يستغني بإشارة التذكير، ويكتفي بلمحة التبصير، لما تأوي إليه من السياسة والتجربة، فاتخذ الحق أمامك، وملك يده زمامك، وأجر عليه في القوي والضعيف أحكامك، وارفع لدعوة المظلوم حجابك، ولا تسد في وجه المضطهد المهضوم بابك، ووطيء للرعية حاطها الله أكنافك، وابذل لها إنصافك، واستعمل عليها من يرفق بها، ويعدل فيها، واطرح كل من يحيف عليها ويؤذيها، ومن سبب عليها من عمالك زيادة، أو خرق في أمرها عادة، أو غير رسما، أو بذل حكما، أو أخذ لنفسه منها درهما ظلما، فاعز له عن عمله، وعاقبه في بدنه، وألزمه رد ما أخذ متعديا إلى أهله، واجعله نكالا لغيره حتى لا يقدم أحد منهم على مثل فعله، إن شاء الله وهو تعالى ولي تسديدك، والملي بعضدك وتأييدك، لا إلاه غيره. وكتب عنه إلى أهل غرناطة من كتاب: قد اتصل بنا أنكم من مطالبة فلان على أولكم، وفي عنفوان عملكم، وإنه لا يعدم تشغيبا وتأليبا من قبلكم، فإلى متى تلحون في الطلب، وتجدون في الغلب، وتقرعون النبع بالغرب، ولقد آن لحركتكم به أن تهدأ، وللنائرة بينكم أن تطفأ، ولذات بينكم أن تصلح، ولوجوه المراشد قبلكم أن تتضح وإذا وصل إليكم خطابنا هذا فاتركوا متابعة الهوى، واسلكوا معه الطريقة المثلى، ودعوا التنافس على حطام الدنيا. وليقبل كل واحد منكم على ما يعنيه، ولا يشتغل بما ينصبه ويعنيه، ولابد لكل عمل، من أجل، ولكل ولاية، من غاية، ولن يسبق شيء إناه، وإذا أراد الله أمرا أسناه، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون، وفقكم الله لما فيه صون أديانكم وأعراضكم، وتسديد أنحائكم وأغراضكم. ذو الوزارتين المشرف أبو بكر محمد بن أحمد بن رحيم ذكره لي الفقيه اليسع بمصر، وقال أدركته سنة عشرين وخمسمائة وهو صاحب ديوان إشبيلية وذكره الفتح في قلائد العقيان وأثنى عليه وعلى نجاره، وثنى الحمد إلى علاء مجاره، ووصفه بشرف السؤدد، وكرم المحتد، والسجاحة في السجية، والسماحة والأريحية، والسلامة من الكبر والخيلاء، والاستقامة في الفكر والذكاء، والاستقلال بالإبرام والنقض، والاستبداد بالبسط والقبض، والرفع والخفض، وافتقار الدولة إليه افتقار الجسد إلى الروح، والمشكل إلى الوضوح. وقد أورد من شعره قصيدة نظمها في شعبان سنة خمس عشرة وخمسمائة في الأمير أبي إسحاق إبراهيم بن يوسف بن تاشفين: سقى الله الحمى صوب الولي ... وحيا بالاراكة كل حي وإن ذكر العقيق فباكرته ... سحائب معقبات بالروي تروي مسقط العلمين سكبا ... تُلبَسِّهُ جنى الزهر الجني ولا بليت لمرسية برود ... مطرزة بأسباب الحلي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 903 ذكرت معاهدا أقوت وكانت ... أواهل بالقريب وبالقصي أقول وإن غدوت حليف شجو ... أعلل لوعة القلب الشجي لأصرف عفة طرفي وكفي ... عن اللحظ العليل النرجسي وأخزن منطقي عن كل هُجر ... وأهجر كلّ مِلْسَانٍ بَذِيّ ولما أن رأيت الدهر يدني ... دَنِيَّا ثم يسطو بالسني وجدت به على الأيام غيظا ... كما وجد اليتيم على الوصي طلبت فما سقطت على خبير ... يخبّر عن ودود أو صفي كما أني بحثت على كريم ... فما ألفيت ذا خلق رضي ولولا واحد لسددت عيني ... فلم تفتح على شخص سري هو الملك المعظم من ملوك ... ينير بها سنا الأفق السني لهم همم تعالى كل حين ... يفوت بها ذرى النجم العلي وحسن خلائق رقت فجاءت ... كما وهب النسيم مع العشي مصون العرض مبذول العطايا ... ندي الترب مبرور الندي جواد جوده أن سِيلَ سَيْلٌ ... ويأتي عرفه مثل الأتي يمد إلى العفاة يمين يمن ... تُلَيِّنُ قَسْوةَ الدهر الأبي تحلى ملكه بعلى نهاه ... كما ازدان المقلد بالحلي تدار عليه أكواس المعالي ... فتأخذ1 من هِزَبْر أريحي يطارد بالضحى خيل الأعادي ... ويأوي كل وفد بالعشي لإبراهيم عند الله سرّ ... يدق به عن النظر الخفي يرى غيب الأمور إذا ادلهمّت ... بعين الرأي والفكر البدي ويوضح كل مشكلة فيرمي ... بها فيصيب شاكلة الرمي درت صنهاجة ولها علاها ... بأن علاه مفتخر الندي وتعلم أنه سيف محلّى ... لدفع الخطب أو قرع الكمي وكم من سيد فيهم ولكن ... أتى الوادي فطمّ على القَرِيّ أيا لَيْثَ الحروب ومن تردّى ... رداء الفضل والخلق الرضي لقد أصبحت روح العدل حقا ... وأسود مقلة الملك الحفي سواك يريح من وخد المطي ... ويقصر عن مدى الأمد القصي وأنت تصادم العلياء لما ... غدت مرقى لكل فتى علي تصادر كل معضلة نؤود ... متى هجمت بصدر السمهري وتكشف كل غماء بهدي ... حكى هدي النبي الهاشمي أبا إسحاق يا ابن أمير ملك ... يقصر عنه ملك التُّبَّعيِّ ليوسف مفخر يروى ويتلى ... كما يتلى الحديث عن النبي ركبت مناهج التقوى ففاتت ... أمورك كل أمر معتلي وسرت بسيرة العمرين عدلا ... ولم تقعد مضاء عن علي أيا ملك الملوك لدي قول ... فوطيء لي على كنف وطي وحسِّن فضل أخلاق كرام ... إذا حيّت فعن مسك ذكي لك الفضل الذي أوليتنيه ... فأشكره ولي حق الولي وأمري مظلم بالشرق حتّى ... تبلجه لدى المولى العليّ وهذا وقت خدمة كل أمر ... فسبب لي إلى السَّبب الحظي ومهما دار قول نمقته ... رجال لا تضاف إلى سري فلا تسمع لمشاء نميم ... ودع أقوال همّاز غوي دعي في الصفاء فليس يعطي ... بقدر الحب والود الخفي وليت قلوبنا شقت فتدري ... بها فضل الخؤون على الوفي ويهني المجد عزّ نلت فيه ... جزيل الاجر بالسعي الزكي كلامي قاده ودي فأهدي ... إليك قصيدة مثل الهدي فخدها كالعروس تفوت طبعا ... أيا ويح الشجي من الخلي وله من قصيدة فيه: بيني وبين النوى دخل فان صدعت ... شملي فعنديَ تفويض وتسليم وإن تكن نثرت سلكي نوى قذف ... فان سلك رجائي فيك منظوم وله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 904 نفديك من منزل بالنفس والذات ... كم لي بمغناك من أيام لذات نجني بك العيش والآمال دانية ... أعوام وصل قطعناها كساعات تُسْقَى لديك اغتباقات مسلسلة ... والدهر قد نام عنا باصطباحات يا قبة الدهر لا زالت مجددة ... تلك المعالم ما دامت مقيمات حفظت من قبة بيضاء حف بها ... نهر تفضض يجري بين دوحات عليك منِّيَ ريحان السماء كما ... حيتك مسكة دارين بنفحات لله يوم ضربنا للمدام به ... رواق لهو بكاسات وجامات ومنها: وللمياه ابتسام في جداولها ... كما تشق جيوب فوق لبات حدائق أحدقتها للمنى شجر ... خضر وأودية حفت بروضات جنات أنس رعى الرحمان بهجتها ... حسبت نفسي منها وسط جنات منازل لست أهوى غيرها سقيت ... حيا يعمم وخصت بالتحيات وله من قصيدة يهنيء فيها أخاه الوزير أبا الحسن بمولود: خلصت إليك مع الأصيل الأنور ... أمنية مثل الصباح المسفر غراء إلا أنها من خاطري ... بمكان أسود ناظري من محجري أرجت شَذىً أرْجَاؤُها فكأنها ... قد ضمخت بلخالخ من عنبر أهدت إليك مع النسيم تحية ... فتقت نوافجها بمسك أذفر فأتت كما زارتك عاطرة اللمى ... بيضاء صيغت جوهرا في جوهر هيفاء رود ذات خصر صائم ... ومعاطف لدن وردف مفطر هزت جوانب همتي فكأنما ... عجبا بها أنا تُبَّع في حمير يا حسن موقع ذلك الأمل الذي ... تزري حلاوته بطعم السكر نظم السرور كما نظمت لآلئاً ... بيد الصبابة في مقلد معصر ورد الكتاب، به فرحت كأنني ... نشوان راح في ثياب تبختر لما فضضت ختامه فتبلجت ... بيض الأماني من سواد الأسطر قبلت من فرح به خد الثرى ... شكرا ولا حظ لمن لم يشكر يا مورد الخبر الشهي وحامل ال ... أمل القصي وهاديَ النبأ السري زدني من الخبر الذي أوردته ... يا برد ذاك على فؤاد المخبر صفحا وعفوا للزمان فإنه ... ضحكت أسرّة وجهه المتنمر طلع البشير بنجم سعد لاح من ... أفق العلى وبشبل ليث مخدر لله درك أي فرع سيادة ... أعطيته وقضيب دوحة مفخر طابت أرومته وأينع فرعه ... والفرع يعرف فيه طيب العنصر أنت الجدير بكل فضل نلته ... وحويته وبكل مكرمة حري تهنى رُحَيْماً انها قد أنجبت ... برحيم المحمود أسنى مذخر نامت عيون الدهر عن جنباته ... وحمت مناهله متون الضمر وصفا له ولأخوة يتلونه ... ماء الحياء لديك غير مكدر فلآنت بدر السعد وهو هلاله ... ولأنت سيف المجد وهو السمهري أفدي البشير بمهجتي وبتالدي ... وبطار في وعذرت ان لم يعذر بأبي أبوه أخي كبيري سيدي ... أسدى إليّ مواهبا لم تصغر ذاك الذي علقت بعلق نفاسة ... منه المنى فكأنه لم يشعر مصباح من هامت به ظَلْمَاؤُهُ ... ومنار هدي السائر المتحير بدر ولكن إن تطلع كامل ... ليث ولكن عند عزمته جري ندب تدل على علاه خِلاَلُهُ ... كالسيف يدري فضله في الجوهر سيف تحلى بالعلاء رئاسة ... وصفت جواهره لطيب المكسر لو كانت العلياء شخصا ماثلا ... لرأيته منها مكان المغفر ومنها: نحن الرحيميون إن ذكر الندى ... نذكر وإن ذكر الخنى لم نذكر إن أخبروك أو اختبرت علاهم ... أنساك طول الخبر طيب المخبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 905 شرف سقاه الفضل وسمي العلى ... فتضوع أزهار الثناء الأعطر ساداتنا سادات كل معاشر ... إن حصلوا ولآنت سيد معشري فإذا تلاحظت المكارم من فتى ... مضر أشار إليك أهل المحضر وإذا جروا يوم المكرِّ سبقتهم ... وأتوا لقسمة مغنم، لم تحضر ومنها: هو مفخري يوم الجدال ومنصلي ... يوم النزال ورايتي في العسكر من لم يرد علياه لم يرد العلى ... ما لم يرد بحريمه لم ينصر ومنها: أنا ذاك شيمتي الوفاء وإننّي ... لا بالملول ولست بالمتغيّر وإذا تنكرت الأحبة فالرضى ... مني الجزاء ولست بالمتكبر إني لأصبر عند كل عظيمة ... وإذا ظلمت مجاهرا لم أصبر مهما تقسني بالرّجال وجدتهم ... مثل الحصا ووجدتني كالجوهر فإليكها مثل العروس زففتها ... سكرى تجرّ ذيولها بتبختر ومنها: فابسط بفضلك عذر وافدة العلى ... وابسط لها وجه الكريم الموسر واسمح لها لا تنتقدها إنها ... مع مفرط الاعجاز قول مقصر وغني له بشعر يشهد قبول القلوب بحسنه، فعمل على وزنه، والشعر الذي غني به: خليلي سيرا واربعا بالمناهل ... وردَّا تحيات الخليط المنازل فإن سأل الأحباب عني تشوقا ... فقولا تركناه رهين البلابل فقال: وإن يَتناسوني لعذر فذكرا ... بأمري ولا تدري بذاك عواذلي لعل الصبا تأتي فتحيي بنفحة ... فؤاديَ من تلقاء من هو قاتلي فيا ليت أعناق الرياح تقلني ... وتنزلني ما بين تلك المنازل وله من قطعة أولها: خص يا غيث مربع الأحباب ... وتعاهد بالعهد عهد التصابي ولتسلم على معرس سلمى ... ولتصل بالرباب دار الرباب هي روضات كل أنس وطيب ... ومغان سكانها أصل ما بي فكساها العلاء ثوب بهاء ... وسقاها الجمال ماء الشباب ثم سارت ألبابنا فبقينا ... بين أهل الهوى بلا ألباب فأصيب بها القلوب فصارت ... لشقائي مآلف الأوصاب أمرضتني مرضى صحاح ولك ... نّ عذابي بين الثنايا العذاب أقسم الشوق أن يقسم قلبي ... بين قوم لم يسألوا عن مصابي فرقة آثرت صدودي وأخرى ... أخذت جِدَّ سيرها في الذهاب أي وجد أشكو وقد صار قلبي ... رهن أيدي الصدود والاغتراب بعت حظي من الوفاء متى ما ... لم أمت حسرة على الأحباب ولئن همت بالجمال فإني ... أبدا عفت موضع الارتياب ودعتني عن المقابح نفس ... خلقت من محاسن الآداب وله: يا بغيتي قلبي لديك رهينة ... فلتحفظيه فربما قد ضاعا أوقدته وتركته متضرما ... بأوار حبّك يستطير شعاعا لا تسلميه فإنه نزعت به ... تلك الخلال إلى هواك نزاعا حاشا لمثلك أن تضيع ضراعتي ... ولمثل حبي أن يكون مضاعا إني لأقنع من وصالك بالمنى ... ومن الحديث بأن يَكون سماعا الوزير الكاتب أبو محمد ابن القاسم كان والده صاحب شنتبريه، وصفه بالكرم والنفاسة، والشرف والرئاسة، والتدبير والسياسة، والوقار، الذي لا تستخفه كأس العقار، والمآثر التي آثرتها ألسنة الإيثار، بحسن الآثار، وذكر أن الدولة مع فقرها إلى غنائه، وفخرها بمضائه، وإنارة فجرها بأضوائه، ونضارة روضها بنواره وأنواره، تخلت عنه تخلي الحسناء عن حليها، والعقود عن درها، والبروج عن دريها، وذكر أنه قد أنس بوحشة انفراده، ولبس حلة انزوائه عن أنداده، وانقبض عن مخالطة الناس، ورفض مجالسة سائر الأنواع والأجناس، وولى وجهه شطر مسجد التقوى، ولزم بيته ونفسه تتقوت بغذاء العلم وتتقوى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 906 فهذا على ما ذكره صاحب قلائد العقيان، قريب الزمان من عصر أهلنا الأعيان، وحكى عنه أنه لما انفصل عن أمير المسلمين، اختار لمسكنه سلا، واعتقد أنه بمجاورة بني القاسم يتسلى، وكانت ولايتها إلى أبي العباس، ولأبي محمد لديه يد أنجته من نكبة تمت له من البؤس واليأس، فلما سار إليه لم يرفع له الرأس ولم يوله في حال الوحشة الإيناس، فنسبه فيه إلى قلة الوفاء، وحسبه من كثرة الجفاء، ة فكتب إليه أبو العباس يعتذر، بأنه من أمير المسلمين يحذر: واحسرتا لصديق ما له عوض ... إن قلت من هو لا يلقاك معترض ألقاه بالنفس لا بالجسم من حذر ... لعلة ما رأيت الحر ينقبض فكتب الوزير أبو محمد ابن القاسم إليه في جوابه: شدّ الجياد إذا أجريت منقبض ... ما للوجيه على الميدان معترض أنى تضاهيه فرسان الكلام ومن ... غباره في هواديهن ما نفضوا جرت على مستو من طبعه كلم ... هي المشارب لكن ما لها فرض كأن منشدها نشوان من طرب ... أو بلبل من سقيط الطل ينتفض تحية من أبي العباس زار بها ... طيف من العذر في أثوابه يمض لا بالجلي فتستوفي حقيقته ... ويستبان بعين ما لها غمض لكن أغض عليه جفن ذي مقة ... كما يسد مكان الجوهر العرض يا من يعز علينا أن نعاتبه ... إلا عتاب محبّ ليس يمتعض ناشدتك الله والانصاف مكرمة ... أما الوفاء بحسن العهد مفترض هب المزار لمعنى الريب مرتفع ... ما للوداد بظهر الغيب ينخفض أما لكل نبيه في العلى حيل ... تقضى الحقوق بها والمرء منقبض كن كيف شئت فمن دأبي محافظة ... على الذمام وعهد ليس ينتقض وهمة لم تضق ذرعا بحادثة ... إن الكريم على العلات ينتهض والحر حر وصنع الله منتظر ... والذكر يبقى وعمر المرء ينقرض ومن منثوره ما ذكر القيسي في كتابه، أنه كتب إليه في جوابه، فراجعه به من رقعة كتبها إليه مودعا ووصف النجوم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 907 عذيري من ساحر بيان، وناثر جمان، ومظاهر إبداع وإحسان، ما كفاه أن اعتام الجواهر اعتياما، وجلاها في أبهج مطالعها نثرا ونظاما، حتى حشر الكواكب والافلاك، وجلبها نحوي كتائب من هنا وهناك، وقدماً حمل لواء النباهة، وأعجز دواء البداهة، فكيف بمن نكل حتى عن الروية، ورفض الخطابة رفضا غير ذي مثنوية، وليس الغمر كالنزر، رويدك أبا النصر، فما سميت فتحا لتفتح علينا أبواب المعجزات، ولا مليت سروا لترتقي عنا إلى الأنجم الزاهرات، فتأتي بها قبيلا، وتريد منا أن نسومها كما سمتها قودا وتذليلا، وأنى لنا أن نساجل احتكاما، أو نباسل اقداما، من أقدم حتى على القمرين، وتحكم حتى في انتقال الفرقدين، وقص قوادم النسرين. ثم ورد المجرة وقد تسلسلت غدرانها، وتفتح في حافاتها أقحوانها، وهناك اعتقد التنجيم، وأحمد المراد الكريم، حتى إذا رفع قبابه، ومد ما أحب أطنابه، سئم الدهناء، وصمم المضاء، فاقتحم على العذراء رواقها، وفصم عن الجوزاء نطاقها، وتغلغل في تلك الارجاء، واستباح ما شاء أن يستبيحه من نجوم السماء، ثم ما أقنعه أن بهر بإدلا له، حتى ذعرها بجياد أقواله، وغمرها باطراد سلساله، فله ثم خيل وسيل، لأجلهما شمر عن سوق التوأمين ذيل، وتعلق برجل السفينة سهيل، هنالك سلم المسالم، وأسلم المعارض والمقاوم، فما الأسد وإن لبس الزبرة يلباً، واتخذ الهلال مخلبا، وإنما انتهض تحت صبا أعنته، وقبض على شبا أسنته، وما الشجاع وإن هال مقتحما، وفغر عن الدواهي فما، وقد أطرق مما رآه، وما وجد مساغا يأباه. وما الرامي وقد أقعص عن مرامه، ووجئت لبته بسهامه، أو السماك وقد قطر دفينا، وغودر بذابله طعينا، وما الفوارس وقد جللت سربتها عجاجة، ومسخت حليتها زجاجة، وكذلك قطب زحل، واضطرب المريخ في نار وجده واشتعل، ووجل المشتري فامتقع لونه وضياؤه، وشعشع بالصفرة بياضه ولألاؤه، وتاهت الزهرة بين دل الجمال، وذل الاستبسال، فلذلك ما تتقدم آونة وتتأخر، وتغيب تارة ثم تظهر، وأما عطارد فلاذ بكناسه، ورد بضاعته في أكياسه، وتحجبت الشمس بالغمام، واعتصم بمغربه قمر التمام. هذه حال النجوم معك، فكيف بمن يتعاطى أن يشرع في قول مشرعك، أو يطلع من ثنية فضل مطلعك. ومنها في وداعه: فخذ السانح من عفوي، وتجاوز لمقتي وصفوي، ثم متعني بفكري فقد رجع فليلا، ودع لي ذهني عسى أن يتودع قليلا، وإني وقد أضله من بينك الشغل الشاغل، وردعه من قربك الظل الزائل، ولا أنس بعدك إلا في تخيل معاهدك، وتذكر مصادرك النبيلة ومواردك، فسر في أمن السلامة محافظا، وتوجه في ضمن الكرامة مشاهدا بالأوهام ملاحظا، رعاك الله في حلك ومرتحلك، وقدمت على السني من متمناك والمرضي من أملك، بمن الله وفضله. وكتب إليهما الفقيه الحافظ أبو الفضل ابن عياض في ذلك: قد وقفت - أعزكما الله - على بدائعكما الغريبة، ومنازعكما البعيدة القريبة، ورأيت ترقيكما من الزهر إلى الزهر، وتنقلكما من الدراري بعد الدر، فأبحتما حمى النجوم، وقذفتماها من ثواقب افهامكما بالرجوم، وتركتماها بعد الطلاقة ذات وجوم، فحللتما بسيطها غارة شعواء، لها عوت أكلب العواء، هناك افترست الفوارس، ولم تغن عن السماك الداعس، وغودرت النثرة نثارا، وأغشى لألأؤها نقعا مثارا، كأن لكما عندها ثأرا، وأشعرت الشعريان ذعرا، وقطعت إحداهما أواصر الأخرى، فأخذت بالحزم منها العبور، وبدرت خيلكما وسيلكما بالعبور، وحذرت اللحاق عن أن تعوق، عن منحنى العيوق. فخلفت أختها تندب الوفاء، وتجهد جهدها في الاختفاء، وكأن الثريا حين ثر تم بقطينها، اتقتكم بيمينها، فجذذتم بناتها، وبذلتم للخضيب أمانها، فعندها استسهل سهيل الفرار، فأبعد بيمينه القرار، وولى الدبران إثره مدبرا، فذكر البعاد فوقف متحيرا، وعادت العوائد بعراقها وشامها، وألقت الجوزاء الأمان بنطاقها ونظامها، فمهلا أعزكما الله سكنا الدهماء، فقد ذعرتما حتى نجوم السماء، فغادرتماها بين برق وفرق، وغرق أو حرق، فزحزحا في مجدكما قليلا، واجعلا بعدكما للناس إلى البيان سبيلا، فقد أخذتما بآفاق المعالي والبدائع، لكما قمراها والنجوم الطوالع. فكتب أبو محمد ابن القاسم إليه مراجعا عنها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 908 لمثل نباهتك سارت الأخبار، وفيك وفي بداهتك اعتبار، لقد نلت فيها كل طائل، وقلت فلم تترك مقالا لقائل، وعززت بثالث هو الجميع، وبرزت فأين من شأوك الصاحب والبديع، جلاء بيان، في خفاء معان، هذا أثبت للسهى جلالا، وأشاد فيه لذوي النهى أمثالا، وذاك رفع للأقمار لواء، وألقى على شمس النهار بهجة وضياء، أقسم بسبقك، ومقدم حقك، لئن أفحمت بما نطقت، لقد أفهمت عن أي صبوح رققت، ومهما أبهمت تفسيرا، فدونك منه شيئا يسيرا، لمالا اعتمدنا نحن ذلك المظهر، فما أبعدنا هنالك الأثر، بل اقتصدنا في الإصعاد، وقدنا من تلك النيرات كل سلس القياد، حتى إذا اشمأز طلقها، فعز أبلقها، وصبحنا مواردها، فافتتحنا ماردها، وثنينا عنان الكريمة، وارتضينا إيانا ببعض الغنيمة، هببت أنت هبوب زيد الفوارس، وقربت تقريب الالد المداعس، تومض في رجوم، وتمتعض للنجوم، فاستخرجتها من أيدينا، وازعجتها عن نواحينا، ثم صيرت إليك شملها، وكنت أحق بها وأهلها، ومن هنالك أوصلت سراك، فصبحت الفيالق، وفتحت المغالق، وتسنمت تلك الحصون، وأقسمت لتخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون، فأذعن لشروطك الشرطان، وازدحمت بالبطين حلقتا البطان، وثار بالثريا ثبور، وعصفت بالدبران دبور، وهكذا استعرضت المنازل، واستهضم جميعنا الخطب النازل، ثم تيامنت نحو الجنوب، فواها للمعاصم والجنوب: لم يبق غير طريد غير منفلت ... وموثق في حبال القِدّ مسلوب استخرجت السفينة من لججها، وجالت الناقة بهودجها، وغودرت العقرب يخفق فؤادها، وذعرت النعائم فخاب إصدارها وإيرادها، ولما تصفحت تلك الآفاق، وأنخت فيها وشددت الوثاق، عطفت الشمال، واتبعت أسباب الشمال، فلا مطلع إلا ألقى إليك اليمين، واستدارت حوله الفكة فسميت قصعة المساكين، وانتهيت إلى القطب فكان عليه المدار، وتبوأته ففيه عن جلالتك افتخار، ثم أزحت صعادك، وأرحت ممسك الأعنة جيادك، ونعمت بدار منك محلال، ثم ما نمت عن ذي إكبار لك وإجلال، تتيمه بسحر الكلام، وتشجمه أن يستقبل استقلالك بالإعلام، وإذ لا يتعاطى مضمارك، ولا يشق غبارك، فدونك ما قبلي من بضاعة مزجاة، وإليك مني معطي طاعة وطالب نجاة، إن شاء الله عز وجل. وله من رسالة: أبابل في ضمن أقلامك، وما أنزل على الملكين في وزن كلامك، أم وهو البيان لا غطاء دونه، وما أحقه بأن يكونه. الوزير أبو عامر ابن أرقم وصفه بالارتواء من ورد الآداب النمير، والاحتواء على كنز الفضل الغزير، والاستواء على سرير الملك في البراعة، والاستيلاء على إبداع الصنائع بسر الصناعة، والانتشاء من سلاف سلفه، في فضله وشرفه، فقد كان أبوه الوزير الكاتب أبو الأصبغ مبرا في الكتابة على مباريه، سابقا لمجاريه، فنشأ ولده أبو عامر عامرا بحد أبيه، مربوبا في حجر حجره، مهادا في مهاد الإحسان بين سحر البيان ونحره، ومن شعره الذي أورده ما يشعر بفضله، ويعرف بفرده، في مدح الأمير عبد الله بن مزدلي: سريت والليل من مسراك في وهل ... مبرأ العزم من أيْنٍ ومن كسل وسرتَ في جحفل يهدي فوارسه ... سناك تحت الدجى والعارض الهطل والبدر محتجب لم تدر أنجمه ... أغاب عن سَرَرٍ أم غاب عن خجل هوت أعاديك من سار يُؤرّقه ... ركض الجواد وحمل اللامة الفضل إذِ الملوك نيام في مضاجعهم ... يستحسنون بهاء الحلي والحلل لله صومك برا يوم فطرهم ... وما توخيت من وجه ومن عمل نحرت فيه الكماة الصيد محتسبا ... وحسب غيرك نحر الشاء والإبل إذا صرير المدارى هزهم طربا ... ألهاك عنه صرير البيض والأسل وإن ثنتهم عن الاقدام عاذلة ... مضيت قدما ولم تأذن إلى العذل كم ضم ذا العيد من لاه به غزل ... وأنت تنشد أهل اللهو والغزل في الخيل والخافقات البيض لي شغل ... ليس الصبابة والصهباء من شغلي ظللت يومك لم تنقع به ظَمَأ ... وظل رمحك في علّ وفي نهل وكلما رامت الروم الفرار أتت ... من كل صوب وضمتها يد الاجل فصار مقبلهم نهبا ومدبرهم ... وعاد غانمهم من جملة النفل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 909 وكم فككت من الاغلال عن عنق ... وكم سددت بهذا الفتح من خلل أنت الأمير الذي للمجد همتّه ... وللمسالك يحميها وللدول وللمواهب أو للخَطّ أنمله ... ما لم تحنّ إلى الخطية الذبل ومنها: الجابرين صدوع المعتفي كرما ... والكاسرين الظبي في هامة البطل والعادلين عن الدنيا ونضرتها ... والسالكين على الاهدى من السبل ومن نثره ما كتبه في حق رجل حرفته استجداء الأعيان، واستعداء معروفهم على نوب الزمان، يعرف بالزريزير ويصف الزرزور: يا سيدي الأعلى، وعلقي الأغلى، وسراجي الأجلى، ومن أبقاه الله، والأمكنة بمساعيه فسيحة، والألسنة بمعاليه فصيحة، موصله وصل الله حبلك حيوان يصفر كل أوان، ويسفر بين الإخوان، رقيق الحاشية، أنيق الشاشية، يعتمد على كدواء، ويسمع بجدواء، وينظر من عين، كأنها عين، ويلقط بمنقار، كأنه من قار، أطبق على لسانه كأنه إغريضة، في جوف إحريضة، يسلي المحزون، بالمقطع والموزون، وينفس عن المكظوم، بالمنثور والمنظوم، مسكي الطيلسان، تولد بين الطائر والإنسان، كما سمعت بسمع الفلاة، وعمرو بن السعلاة، قطع من منابت الربيع، إلى منازل الصقيع، ومن مطالع الزيتون، إلى مواقع السحاب الهتون، فصادف من الجليد، ما يذهب قوى الجليد، ومن البرد، ما لا يدفعه ريش ولا برد، والحدائق قد غمضتى أحداقها، وانحسرت أوراقها، والبطاح قد قيدت الفور، بحبائل الكافور، وأوقعت الصرد، في شرك الصرد، فمني البائس بما لم يعهده، كما وسم بالزرزورولم يشهده، ولما فال رأيه، وأخفق أو كاد سعيه، التفت إلى عطفة أشمط، وإلى أديمة أرقط، فناح، ثم سوى الجناح، وقد نكر مزاجه، ونسي ألحانه وأهزاجه، ولا شك أنه واقع بفنائك، وراشف من إنائك، وآمل حسن غنائك واعتنائك، وأنت بارق ذلك العارض، ورائد ذلك الأنف البارض، تهيء له حبا، يجزيك عنه ثناء جميلا رحبا، وقد تحفظ يا سيدي رسائل، جعلت له وسائل، فسام بها أهل الأدب، سوء العذاب، ودعي البطي منهم إلى الإهذاب: وابن اللبون إذا ما لز في قرن ... لم يستطع صولة البُزْل القناعيس وإذا ألقي كتابي إليك، يفسر هذه الجملة عليك، لازلت منافسا للعلوم، آسيا للأحوال والكلوم. الوزير أبو محمد ابن سفيان قرضه صاحب القلائد بالرتبة العالية، والحالة الحالية، والجد الصاعد، والهمة الواطئة بأخمصها هام الفراقد، والرأي المتوصل به إلى إنالة المقاصد، وإلانة الشدائد، واليراع المستخدم به بيض الصفائح لسود الصحائف، والبلاغة الموضحة غرر الكلم الفصائح في جباه المعارف، وقيامه في دولة آل ذي النون، قيام الأمين المأمون، حتى أنقت نظارة أيامها، وأغدقت غزارة انعامها، ورجيت بوارقها، وأمنت بوائقها، ووصفه بالأدب العذب الجني، الرحب الجناب، السامي الربى، الهامي الرباب، والكلمات الآخذة بمجامع القلوب الوالجة في مسامع القبول، وأثبت من عقوده ما يثبت شهادة العقول، بشهدها المعسول. فمن ذلك من أبيات كتبها إلى القادر ابن ذي النون: خطبت بسيفي في الزمان يراعة ... سبقت إلى كفي وصلى المنصل أو لست من وطيء السماء تأوّدا ... وسما فقد سفل السماك الاعزل أغْشَى العوالي والمعالي باسما ... وأقوم في الخطب البهيم فأفضل ومتى أعُدْ ليلا نهار صحيفة ... وضحت كواكبه عليه تهلل وإذا أجلت جياد فكري في مدى ... سبقت فكبر حاسدون وعللوا رمدت عيون الحاسدين أما ترى ... قمر العلى والمجد ليلة يكمل ما الذنب عندهم ودونك فاختبر ... إلا هوى بالمكرمات موكل همم إلى صرف العلى مصروفة ... وحجى أقام وقد تزحزح يذبل وبلاغة بلغت بآفاق الدنا ... وغدت تحية من يقيم ويرحل ولئن يضع فضلي ويذهب نقصهم ... صعدا فأرجح كفّة من يسفل فلأغشينّ الحادثات بصارم ... خَذِمٍ غِرَارَاهُ حريق مشعل وبصيرة تذر الخطوب لوائحا ... فكأنَّها في كفّهن سجنجل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 910 ومشرب كالنّار إن يذهب به ... حَضْرٌ وإن يسكن فماء سلسل نهد إذا استنهضته لملمّة ... أعطاك عفوا عدوه ما تسأل قيد الأوابد والنواظر إن بدا ... قلت: الجواد أم الحبيب المقبل ومفاضة زَغْفٌ كأنّ قميصها ... ماء الغدير جرت عليه الشمأل ترد العوالي منه شرعة حتفها ... وتعب فيه مناصل فتفلّل وعزائم بيض الوجوه كأنها ... سرج توقد أو زمان يقبل شيم عمرن ربوع مجد قد خلت ... فأضاء معتكر وأخصب ممحل وله: يا ضرة الشمس قلبي منك في وهج ... لو كان بالنّار لم تسكن ذُرى حجر أبيت أسهر لا أغفي وإن سنحت ... إغفاءة فكمثل اللمح بالبصر إذا رأيت الدجى تعلو غواربها ... والنجم في قيده حيران لم يسر أقول ما بال بازي الصبح ليس له ... وقع وما لغراب الليل لم يطر فإن سمحت بوصل أو بَخِلْت به ... شكوت ليلي من طول ومن قصر لا أفقد النجم أرعاه وأرقبه ... في الوصل منك وفي الهجران من قمر وله في الغزل أيضا: نفسي فداك وعدتني بزيارة ... فظللت أرقبها إلى الإمساء حتى رأيت قسيم وجهك طالعا ... لم تنتقصه غضاضة استحياء فعلمت أنك قد حجبت وأنه ... لوراء وجهك ما سرى بسماء وله يعرض بأحد الملوك، ويخاطب أبا أمية إبراهيم بن عصام: امرر بقاضي القضاة إن له ... حقا على كل مسلم يجب وقل له إن ما سمعت به ... عن سرّ من راء كلّه كذب قد غرّني مثل ما غُرِرْتَ به ... فجئته يستحثّني الطرب حتى إذا ما انتهيت سرت إلى ... سراب قَفْرٍ من دونه حجب وملّة للسماح ناسخة ... لها نبيّ الاهه الذهب وله إليه وقد كتب عين زمانه فوقعت نقطة على العين، فظن أبو أمية أنه أبهمها، واعتقدها وعددها وانتقدها: لا تلزمنّي ما جنته يراعة ... طمست بريقتها عيون ثنائي حقدت عليّ لزامها فتحولت ... أفعى تمجّ سمامها بسخاء غدر الزمان وأهله عرف ولم ... أسمع بغدر يراعة وإناء ومن نثره ما كتبه إلى الوزير أبي محمد ابن القاسم من رسالة: كتبت وما عندي من الود أصفى من الراح، وأضوأ من سقط الزند عند الاقتداح، وليس فيما أدعيه من ذلك لبس، وكيف وهو ما تجزي به نفسا نفس، فإن شككت فيه، فسل ما تطوي لي جوانحك عليه، أو اتهمته فارجع، إلى ما أرجع، عند الاشتباه إليه، تجده عذباً قراحا، سائل الغرة لياحاً. ولم لا يكون ذلك وبيننا ذمة تجل أن تحصى بالحساب، بيض الوجوه كريمة الأنساب، لو كانت نسيما لكان بليلا، ولو كانت زمانا لم تكن إلا سحرا أو أصيلا. فراجعه أبو محمد برقعة فيها. كتبت عن ود ولا أقول كصفو الراح فإن فيها جناحا، ولا كسقط الزند فربما كان شحاحا، ولكن أصفى من ماء الغمام، وأضوأ من القمر في التمام. فراجعه عنها: كتبت - دام عزك - عن ود كماء الورد نفحة، وعهد كصفائه صفحة، ولا أقول أصفى من ماء الغمام، فقد يكون معه الشرق، ولا أضوأ من القمر في التمام، فقد يدركه النقص ويمحق، وليس ما وقع به الاعتراض مختصا بصفو الراح، ولا بسقط الزند عند الاقتداح، فإن أمور العالم هذه سبيلها، وجياد الكلم تجول كيف شاء مجيلها، وإنما نقول ما قيل، ونتبع من أجاد التحصيل، وحسن التأويل، فنستعير ما استعار، ونسير في التملح في القول إلى ما أشار، وبين أنا لم نرد من الراح الجناح، ولا من الزند الشحاح، ولا من ماء الورد ما فيه مادة الزكام، ولا زيادة في بعض الأسقام. الوزراء بنو القبطرنه ذكر أنهم أركان المجد وأثافيه، ولهم قوادم الحمد وخوافيه، وإنهم للمعالي نجوم، وللأعادي رجوم، ولهم النظم الفائح الفائق، والنثر الشائع السابق، فمنهم: أبو محمد ذكر أنه كتب إليه وذكر منها أبياتا: أبا النصر إن الجدّ لا شكّ عاثر ... وإن زمانا شاء بينك جائر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 911 ولا توّجت من بعد بعدك راحة ... براح ولا حنّت عليك المزامر ولا اكتحلت من بعد نأيك مقلة ... بنوم ولا ضمّت عليها المحاجر ومنها: تشيّعك الألباب وهي أواسف ... وتتبعك الألحاظ وهي مواطر وله: يا خليليّ لقلب ... نيل من كل الجهات ليم أن هام بريَّا ... وبِلَيْلَى والبنات وبأن صادته أسْمَا ... بين بيض خفرات بلحاظ ساحرات ... وجفون فاترات وبجيد الظبية ارتا ... عت وظلت في التفات وبعيني مغزل تر ... عى غزالا في الفلاة تتمشّى بين أترا ... ب لها حور لِدات وعليها الوشي والخ ... زّ وبرد الحبرات راعها لما التقينا ... ما درت من فتكات عثرت ذعرا فقلنا ... لا لعاً لِلْعَثَرات ضحكت عجبا وقالت ... لأخصّ الفتيات راجعيه ثم قولي ... إئتنا في السمرات وارقب الأعداء واحذر ... للعيون الناظرات فإذا أعلق فيها النو ... م أشراك السنات وعلا البدر جلابي ... ب لباس الظلمات فاطرق الحي تجدنا ... في ظهور الحجرات فالتفينا بعد يأس ... بدليل النفحات وتلازمنا اعتناقا ... كالتواء الألِفاَت وبثثنا بيننا شج ... وا كنفث الراقيات وبردنا لوعة الح ... بّ بماء العبرات وتشاغلنا ولم نعل ... م بأن الصبح آت وبدت فيه تباشي ... ر مشيب في شوات وله: ومنكرة شيبي لعرفان مولدي ... ترجّع والاجفان ذات غروب فقلت: يسوق الشيب من قبل وقته ... زوال نعيم أو فراق حبيب وله: إذا ما الشوق أرقني ... وبات الهمّ من كثب فضضت الطينة الحمرا ... ء عن صفراء كالذهب وذكر صاحب قلائد العقيان أنه بات مع إخوته في أيام الصبا، في روضة رائقة الحلى، موهوبة الربى، وقد عاقروا العقار، ونبذوا الوقار، وقد ارتضعوا للانتشاء درا، وصرعوا للإغفاء سكرا، فلما خلع الصباح رداءه على الأفق، وهزم كتائب الغياهب يقق الفلق، قام الوزير أبو محمد فقال: يا شَقِيقِي وافي الصباح بوجه ... ستر الليل نوره وبهاؤه فاصطبح واغتنم مسرّة يوم ... لست تدري بما يجيء مساؤه ثم استيقظ أخوه أبو بكر فقال: يا أخي قم تر النسيم عليلا ... باكر الروض والمدام شمولا في رياض تعانق الزهر فيها ... مثلما عانق الخليل خليلا لا تنم واغتنم مسرّة يوم ... إن تحت التراب نوما طويلا ثم استيقظ أخوهما أبو الحسن، وقد هبّ من الوسن، فقال: يا صاحبيَّ ذرا لَوْمِي ومعتبتي ... قم نصطبح خمرة من خير ما ذخروا وبادرا غفلة الأيام واغتنما ... فاليوم خمر ويبدو في غد خبر وقال الوزير أبو بكر يستدعي: دعاك خليلك واليوم طل ... وعارض خدّ الثرى قد بقل لِقِدريْن فاحا وشمّامة ... وإبريق راح ونعم المحل فلو شاء زاد ولكنّه ... يلام الصديق إذا ما احتفل وللوزير أبي بكر أيضا في المعنى: هلمّ إلى روضنا يا زهر ... ولح في سماء المنى يا قمر هلمّ إلى الأنس سهم الإخاء ... فقد عطلت قوسه والوتر إذا لم تكن عندنا حاضرا ... فما لغصون الأماني ثمر وقعت من القلب وقع المنى ... وحسّنت في العين حسن الحور وله إلى الوزير أبي محمد ابن عبدون يستدعي شواذانقا: أغادية باتت مع النّور والتقت ... على الغور ريح الفجر مرت بدارين خطت فوق أرض من عرار وحبوة ... وحطت بروض من بهار ونسرين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 912 وباتت بوادي الشحر تحت ندى الصَّبا ... إلى الصبح فيما بين رشّ وتدخين ومرّت بوادي الرند ليلا فأيقظت ... به نائمات الورد بين الرياحين إذا ملت عن مجرى الجنوب فبلّغي ... سلاميَ مبلول الجناح ابن عبدون وبين يدي شوقي إليه لبانة ... تخفّق من قلب للقياه محزون مضى الأنس إلاّ لوعة تستفزّني ... إلى الصيد إلا أنّني دون شاهين فمنَّ به ضافي الجناح كأنّه ... على دستبان الكف بعض السلاطين إذا أخذت كفاه يوما فريسة ... فمن عقد سبعين إلى عقد تسعين ولأبي الحسن أخيه: ذكرت سُلَيْمَى وحرّ الوغى ... كجسمي ساعة فارقتها وأبصرت بين القنا قدّها ... وقد ملن نحوي فعانقتها أبو محمد عبد الرحيم بن عبد الرزاق الوزير الكاتب، وصفه باشتمال مطارف المعارف، واعتلاق حبائل الفضائل، وإعلام اعلام العلوم، والتبحر في علوم النجوم، واشتغاله آخر عمره بطلب الكيمياء، واشتعاله بحبها اشتعال النار في الحلفاء، وأفسد ذلك شكل عينيه، ولم يحصل منها طائل في يديه. وأورد له هذين البيتين في الغزل: إن التي منتك نفسك نائلا ... منها وبرق عداتها لك خلب أمست يعللها سواك فأصبحت ... علقت معالقها وصرّ الجندب أبو محمد ابن الحبير الوزير الكاتب، قال: شيخ الأوان، القاعد على كيوان، ووصفه بالكلام الرائق، والنظام المتناسق، ومن شعره الذي أورده: رأيت الكتابة والجاهلو ... ن قد لبسوا عزّها لامه فقلت لكل فتى عالم ... بديع الفصاحة علاّمه إذا عزّ غيركم بالوداد ... فلا أنبت الله أقلامه وله: أركابهم شطر العذيب تساق ... يوم النوى أم قلبي المشتاق عميت عليّ عيون رأيي في الهوى ... لله ما صنعت بي الأشواق ولقد أقول لصاحب ودّعته ... وقد استهل بدمعي الإشفاق يا فائزا قبلي برؤية دوحة ... أضفت ظلال فروعها الأعراق من تغلب الحرب التي إن غولبت ... شقيت بحد سيوفها الأعناق فَهُمُ إذا ما جالسوا أو راكبوا ... أخذوا بحقهم الصدور فراقوا قاض كأنّ الليث حشو بروده ... وكأنّ ضوء جبينه الإشراق بالله ربّك خُصَّهُ بتحية ... من ذي خلوص قلبه تواق يصبو إلى تلك العلى فكأنّه ... صبّ أصابت لبّه الأحداق ثاو بأرض بداوة لكنّها ... بالمالكِييِّنَ الكرام عراق قوم إذا ومضت بروقهمُ همى ... صوب الحيا وأنارت الآفاق وإذا استقل بنانهم بيراعة ... لبست وشيع برودها الأوراق وإذا انتدوا وتكلموا أنسيت ما ... صانته من أعلاقها الأحقاق أنصاركم وحماة مجدكم وما ... أولاكموه من العلى الخلاّق بلقالق ذَلِقٍ كأنّ حديثها ... دُرُّ يفصّل بينها النساق فهم إذا ألقوا حبال كلامهم ... غلبوا جهابذة الكلام وَفَاقُوا لمّا جروا شَأواً ونالوا ما اشتهوا ... وثنوا أعنتهم وهم سبّاق نصبت لهم حسدا على ما خوّلوا ... من سؤدد ونفاسة أوهاق أبو محمّد ابن عبد الغفور الوزير الكاتب. ذكره لي الفقيه اليسع بمصر وقال: أدركته بمرّاكش سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، وهو كاتب أمير المسلمين، ووجدت مؤلف قلائد العقيان يذكر هوجه، ويستوعر منهجه، ويرميه بالحقد والحسد، وينميه إلى الغل والنكد، غير أنه يثني على نظمه البديع، ونثره الصنيع. ومن شعره في مدح الأمير، أبي بكر يحيى بن سير، يذكر فرسا أشهب سابقا: يا ملكا لم يزل قديما ... بكلّ علياء جدّ وامق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 913 وسابقا في الندى أتتنا ... جياده في المدى سوابق لله منها أسيل خَدّ ... هَرِيتُ شِدْقٍ مثل الجوالق حديد قلب حديد طرف ... ذو منكب يشبه البواسق ذو وحشة في الصهيل دلت ... منه على أكرم الخلائق أشهب، كالرجع مستطير ... كأنّه الشيب في المفارق حَثّ غداة الرهان حتّى ... أجهد في إثره البوارق ما أنس لا أنس إذ شآها ... مشرّبات مثل البواشق وبذّها شرّبا عتاقا ... لم يَرض عن حَضرها العواتق فقمن يمسحن منه رشحا ... مطيّبات به المخانق أفديه من شافع لبيض ... قد كنّ عن بغيتي عوائق أنصع منه لرأي عيني ... سود عذار الفتى الغرانق وله من قصيدة يمدح أمير المسلمين: خليليّ عوجا بي على جانب الحمى ... عسى الظبية اللعساء تكشف عن ضرّي وإن خفتما جورا عن القصد فاكشفا ... نوافج يفعمن التنوفة بالعطر ولما رنت تلك الفتاة وأعرضت ... إلى القبة الغراء بالكُثُبِ العفو خلعت لها نعلي حياء من الحجى ... وطفت بأركان العلى ثاني النّحر قبّل منها ترب كسرى جلالة ... وأستنزل الشعري بأدمعي الغزر فيا مقلة ما كان أضيع دمعها ... ويا لوعة يغلي بها مرجل الصدر ومنها: أمير له في سدفة الخطب مطلع ... كما انشقت الظلماء عن وضح الفجر لأذهب بالضرغام هاجر نومه ... وأرعب فالدنيا به جمّة الوكر ومنها يصف الخيل: بأشقروقاد الإهاب كأنّما ... تشجّم من خمر صريح ومن جمر أظل بهاديه على كل ريعة ... كما نبهت نار المعالم للسفر خفي السرى للطيف لم يسم الندى ... بوقع ولم يشعر به نوّم الكدر تودّ الثريا أن تكون عليقة ... بالسماكين والنسر وله من قصيدة: أرعى من النجم للرعايا ... أروع سام عن النظير لذت به من صروف دهري ... وكان من جورها مجيري ومدّ نحوي كفا بجود ... أهمى من العارض المطير ألقى شعاعا عليّ ليلا ... فخلتني في ضحى منير حمى بأرض الاله ثغرا ... حقا له لذّة الثغور وأصبح الشرك في تباب ... يدعون بالويل والثّبور قرّت به أعين البرايا ... وأعلموا أكؤس السرور ومنها: وَشنّ غاراتها عليهم ... مثل العراجين في ضمور أهلّة لا تزال تسري ... لتحرز الحظ من ظهور وله إلى أمير المسلمين في غزوة غزاها: سر حيث شئت تحلّه النوار ... وأراد فيك مرادك المقدار وإذا ارتحلت فشيّعتك سلامة ... وغمامة لا ديمة مدرار تنفي الهجير بظلها وتنيم بال ... رش القتام وكيف شئت تدار وقضى الإلاه بأن تعود مظفرا ... وقضت بسيفك نحبها الكفار هذا ممّا تمنّاه الولي، لا ما تمنَّاه الجعفي فإنه قال: حيث ارتحلت وديمة، ما تكاد تنفذ معها عزيمة، وإذا سفحت على ذي سفر، فما أحراها بأن تعوق عن الظفر، ونعتها بمدرار، وكأن ذلك أبلغ في الإضرار: فسر ذا راية خفقت بنصر ... وعد في جحفل بهج الجمال إلى حمص فأنت لها حلي ... تغاير فيه ربّات الحجال وحمص أيضا بلدة في المغرب وهي إشبيلية. وكتب عن أمير المسلمين إلى بعض الأمراء جوابا عن كتاب يعتذر فيه عن هزيمة انهزمها، ويصف من فر من العساكر ومن لزمها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 914 وما بعثناك لتشهد، وإنما بعثناك لتجهد، في طعن بخطي أو ضرب بمهند، فإذا لم تفعل فلا أقل من أن تجلد، وتصبر وتحمل من معك على الصبر، ولا تكون أول من فر، فتعدي بفرارك، تثبت جارك، ولو كتمتها من شهادة لما أثم قلبك، فلا تؤثر الكتب، بما يثير عليك العتب، ولتأنف، من المستأنف، من إيثار الدنية، على المنية، ولتكن لك نفس أبية، والسلام. أبو بكر ابن عبد العزيز الأندلسي الوزير الكاتب المعروف ب ابن المرخي قال الفقيه اليسع، ما كتب قط لأحد لجلالة قدره. توفي سنة أربعين وخمسمائة، والفتح مصنف القلائد وصفه بالبراعة القاضية، واليراعة الماضية، والهمة العالية، والحالة الحالية، والنظم الباهر، والفضل الظاهر، ومما أورد له قوله: قد هززناك في المكارم غصنا ... واستلمناك في النوائب ركنا ووجدنا الزمان قد لان عطفا ... وتأنّى فعلا وأشرق حسنا فإذا ما سألته كان سمحا ... وإذا ما هززته كان لدنا مؤثرا أحسن الخلائق لا يع ... رف ضنا ولا يكذب ظنا أنت ماء السماء أخصب وادي ... هـ ورقت رياضه فانتجعنا نزعت بي إلى ودادك نفس ... قل ما استصحبت من الفضل خدنا وله يودع الوزير أبا محمد ابن عبدون: في ذمة المجد والعلياء مرتحل ... فارقتُ صبريَ إذْ فارقت موضعه ضاءت به برهةً أرجاء قرطبة ... ثمّ استقل فسدّ البين مطلعه ومن نثره مما كتبه إلى الوزير أبي محمد ابن القاسم: كيف رأي مولاي في عبد له موات يرى الوفاء دينا وملة، ولا يعتقد في حفظ الأخاء ملة، فصدته الأقدار عن رأيه، وأخرته الأيام عن سعيه، فادرع العقوق ولبئست الحلة، وضيع الحقوق ولم تضع الخلة، أيرده بعيب ما جناه الدهر، أم يسمح فشيمته الصبر، بل يسمح ويصفح، ولو كان الغضب يفيض على صدره ويطفح، وله أعزه الله العقل الأرجح، والخلق الأسجح، والأناة التي يزل الذنب عن صفحاتها، ولا يتعلق العيب بصفاتها، وإن كتابه الكريم وردني مشيرا إلى جملة تفصيلها في يد العواقب، والزمان المتعاقب. ومنها: وفلان أيده الله كما يدريه يردد محاسنه ويرويها، وينشر فضائله ويطويها، إلا أن الأمور انقلبت عليه في هذه البلاد ولا تعرف له حالة، إلا وقد داخلتها استحالة، وربما عاد ذلك إلى نقصان في الوفاء، وإن كان باطنه على غاية الأستيفاء، ولله تعالى نظر، وعنده خير منتظر. وكتب إليه مسليا عن نكبته: الوزير الفقيه - أدام الله عزه، وكفاه ما عزه -، أعلم بأحكام الزمان من أن يرفع إليها طرفا أو ينكر بها صرفا، أو يطلب في مشارعها شربا زلالا أو صرفا، فشهدها مشوب بعلقم، وروضها مكمن لكل صل أرقم، وما فجأته الحوادث بنكبة، ولا حطته النوائب عن رتبة، ولا كانت الأيام قبل رفعته بوزارة ولا كتبه. فهو المرء يرفعه دينه ولبه، وينفعه لسانه وقلبه، ويشفع له علمه وحسبه، وتسمو به همته وأدبه، ويعنو بين يديه شانئه وحاسده، ويثبت في أرض الكرم حين يريد أن يجتثه حاصده، ويقر له بالفضل من لا يوده، وينصره الله بإخلاصه حين لا ينصره سواعه ولا وده. شعر: وإن أمير المسلمين وعتبه ... لكالدهر لا عار بما فعل الدهر وما هو إلا نصل أغمد ليجرد، وسهم سد طريقه ليسدد، وجواد ارتبط عنانه، وقطر يأتي به سحابه وسيسيله عنانه، وإن لمهارق لتلبس بعده من ثياب حداد، وإن ألسنة الأقلام لتخاصم عنه بألسنة حداد، وسينجلي هذا القتام عن سابق لا يدرك مهله، ويعتمده الملك الهمام بإكرام لا يكدر منهله، ويؤنس ربع الملك الذي أوحش ويوهله، ويرقيه أيده الله إلى أعلى المنازل ويؤهله، وينشد فيه وفي طالبيه: وسعى إلي بِعَيْبِ عزَّةَ نسوة ... جعل الإلاه خدودهن نعالها وأنا أعلم أنه سيتبرم بهذا الكلام، ويوليني جانب الملام، ويعد قولي مع السفاهات والأحلام، فقد ذهب في رفض الدنيا مذهبا، وتجلى التوفيق عن عينيه غيهبا، وتركنا عبيد الشهوات نمسك بخطامها، ونرتع في حطامها، وأسأل الله عملا صالحا، وقلبا مصالحا، ويقينا نافعا، وإخلاصا شافعا، بمنه. ومن مكاتبة إلى الوزير أبي الحسن ابن مهلب: أسير وقد ختمت على فؤادي ... بحبك أن يحل به سواكا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 915 فلو أني استطعت خفضت طرفي ... فلم أبصر به حتّى أراكا عمادي الأعلى وصل الله اعتلاءه ممن قدس الله شريعته، وأنفس طبيعته، وصير كرم الرأي في مضمار التجارب طليعته، وجعل الحق ينطق على لسانه، والفضل يجري على إنسانه، فمن حصل منه أدنى محبة، وأعطي من إخائه ولو مثقال حبة، نال ما اشتهاه، وبلغ من الأمل منتهاه، وعد ممن رجحت نهاه، كما عد من بهرج في نقده، وأخرج من عقده، وأسقط من ديوانه، وأهبط عن إيوانه، تبرأت منه ذمة الأدب، وهلك نعمه وزنده فلم يقم على ندب، وما زلت منذ أحرزت وده، وعلمت مكاني عنده، أحسن الظن بفهمي، وألقي بين أهل الحظوة سهمي، وأعلم أني في ولادة الإخاء منجب، ولفضل المسعى موجب، فإن واليت المخاطبة فللإدلال، وإن هبت المكاتبة فللإجلال، وإني لأنتظر من رأيه في الحالين ما يسدد سمتي ويحسن كلامي أو صمتي، وما أخلو مع تقديم المشاورة من هداية يطلع نجمها أفقه، ودراية يفتح علمها وفقه، وهو أدرى بالجميل يؤمى إليه، ويحمل عليه، إن شاء الله. ومنها: وقد كنت أسلفت من الرغبة في أمر الوزير أبي فلان ما هو باهتباله منوط، وبين يدي إجماله مبسوط، ومن شروط رغبتي على إنعامه، وشفاعتي عل إكرامه، أن ترد عنه ظلم ذلك الخارص الذي جمع الإصرار مع الإضرار، واللجاج إلى الاعوجاج، ومتى تم عليه اعتداؤه زادت حاله اختلالا، وأمره اعتلالا، وعمادي المعظم يجعل دونه من حمايته سدا لا يستطيع الظالم أن يظهره، ويسكنه من عنايته ظلالا لا تبلغ تلك السمائم أن تصهره، بزينه واستخدامه وأقرأ عليك سلاما يترجم عن ودي، وينوب عني فيما يؤدي. الوزير أبو القاسم ابن عبد الغفور وصفه بالذكاء والدهاء، والبهجة والبهاء، والنظم المصون من الوهاء، والفضل المقرون حسن ابتدائه بحسن الانتهاء، والخاطر الغني غربه في اقتضاب كل غريبة، واقتصاص كل رغيبة، عن آلامها؟ وقد أورد منه شعرا كالوشي المنسوج، والرحيق المختوم الممزوج، فمن ذلك قوله: تركت التصابي للصواب وأهله ... وبيض الطلى للبيض والسمر للسمر مدادي مدامي والكؤوس محابري ... وندماي أقلامي ومنقلتي شعري ومسمعتي ورقاء ضنت بحسنها ... فأسدلت الاستار من ورق خضر وقال: لا تنكروا أننا في رحلة أبدا ... نحثّ في نفنف طورا وفي هدف فدهرنا سدفة ونحن أنجمها ... وليس ينكر مجرى النجم في السدف لو أسفر الدهر لي أقصرت في سفري ... وملت عن كلفي بهذه الكلف وقال: رويدك يا بدر التمام فإنني ... أرى العيس حسرى والكواكب طلعا كأنّ أديم الصبح قد قدّ أنجما ... وغودر درع الليل منه مرقعا فيا ليل هل أضمرت عني رحلة ... ويا صبح هل أسررت نحوي مرجعا يحض على زور الشباب سمية ... لأصبح شيخا بالشباب مبرقعا وإني وإن كان الجمال محبّبا ... وأشهى إلى قلبي وأبرد موقعا لآنف من حسن بشعري مفترى ... فآنف من حسن بشعري مدّعى الوزير أبو جعفر ابن أحمد ذكره اليسع وقال: وزر لعبد المؤمن سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، ليس هذا ذاك، فإن وزير عبد المؤمن هو ابن عطية ومصنف القلائد وصفه بالعقل والإصابة، والإجادة في الكتابة، لكنه كان منحوسا غير مبخوت، ومنحوا بصرف الحدثان ذا أثل بخطواته منحوت، وقد أورد من نثره، ما يدل على كرم فرنده وجودة أثره، فمن ذلك قوله وقد أهدي إليه ورد: زارنا الورد بأنفاسك، وسقانا مدامة الأنس من كأسك، وأعاد لنا معاهد الأنس جديدة، وزفّ إلينا من فتيات البر خريدة، واحمر حتى خلته شفقا، وابيض حتى أبصرته من النور فلقا، وأرج حتى قلت أرج المسك في ذكائه، وتضاعف حتى قلت الورد من حيائه، فليتصور شكري في رواه، وليتخيله في نفحته ورياه. إن شاء الله تعالى. الوزير أبو مروان ابن مثنى وصفه بالتقعير والتقعيب، والتوغير في المبهج الغريب، وكان من وراد حياض دولة ابن ذي النون، ورواد رياض جوده الهتون. وله إلى ابن عكاشة يذكر من عدم الراح استيحاشه: يا فريدا دون ثان ... وهلالا في العيان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 916 عدم الراح فصارت ... مثل دهن البلسان فكتب إليه ابن عكاشة: يا فريدا لا يُجَارَى ... بين أبناء الزمان جاء من شعرك روض ... جاده صوب البيان فبعثناها سلافا ... كسجاياك الحسان الوزير القائد أبو الحسن علي بن محمد ابن اليسع قال الفقيه اليسع، هو ابن عم جده حزم ولم يدركه. ومصنف القلائد وصفه مع علو شانه، وسمو مكانه، بخلع العذار، والاشتهار في الاستهتار، واقتصاص عذرة الخد مع العذراء ذات الخمار، وأخذ العقار، ونبذ الوقار، وحب المجون، وشرب الزرجون، فأفضى به ذلك إلى وهن ملكه، ووهي سلكه، وخلعه بسبب الخلاعه، وضياع قدره لما قدره من الإضاعه. وأورد من شعره ما يدل على حسنه وإحسانه في العبارة والبراعه. فمن ذلك قوله يخاطب أبا بكر ابن اللبانة، وكانا على طريقين فلم يظفرا من التلاقي باللبانة. تشرق آمالي وشعري يغرب ... وتطلع أشجاني وأنسي يغرب سريت أبا بكر اليك وإنّما ... أنا الكوكب الساري تخطّاه كوكب فبالله إلا ما منحت تحية ... تكر بها السبع الدراري وتذهب وبعد فعندي كل علق تصونه ... خلائق لا تبلى ولا تتقلّب كتبت على حالين بعد وعجمة ... فياليت شعري كيف يدنو ويقرب وذكر أنه قصد المعتمد فأمر الوزيرين أبا الحسن ابن سراج وأبا بكر ابن القبطرنه بالمشي إليه إجلالا لموضعه، واحتفالا بموقعه، وتنويها بقدومه، وتنبيها على خصوص فضله وعمومه، فوافياه وهو في خلوة مع خشف، وطرف ونشوة ورشف، فاختفى عنهما خشفه، وشف لهما عنه سجفه، فلما انصرفا عزما على أن يكتبا إليه. كتب الوزير أبو الحسن إليه: سمعنا خشفة الخشف ... وشمنا طرفة الطرف وصدقنا ولم نقطع ... وكذبنا ولم ننف وأغضينا لإجلال ... ك عن أكرومة الضيف ولم تنصف وقد جئنا ... ك ما تنهض من ضعف وكان الحق أن تحمل ... أو تردف في الردف فكتب إليهما مراجعا لهما: أيا أسفي على حال ... سلت بها من الظرف ويا لهفي على جهل ... بضيف كان من صنفي الوزير المشرف أبو محمد ابن مالك من غرناطة، مات سنة ثلاثين. وصفه بسمو الهمم، ونمو الكرم، وصفو الشيم، كصوب الديم، ووفور الوقار، وظهور المقدار، وذكر أنه ولاه أمير المسلمين ابن تاشفين ماله بالأندلس، وتمكن قبوله الأنفس من الأنفس، وبحر أدبه زاخر، وزهر فضله باهر، وأورد من نظمه بيتين زعم أنه قالهما في مجلس طرب مؤنس وهي: لا تلمني إذا طربت لشجو ... يبعث الأنس والكريم طروب ليس شق الجيوب حقا علينا ... إنما الحق أن تشقّ القلوب وذكر أنه اجتاز عليه بطرطوشة، والحدود فيها بحده منغوشة، وأنه أسمعه من شعره كل مستطاب مستفاد، استطابته العين الساهدة للرقاد، فمن ذلك قوله: سالت بِمَيّ صروف الدهر والنُّوَب ... وبان حظك منها وانقضى السبب فماء خدّك في الخدين منسجم ... ونار وجدك في الأحشاء تلتهب تعجّب النّاس من حاليك فاعتبروا ... وكل أمرك فيه عبرة عجب ضدّان في موضع كيف التقاؤهما ... النار مضرمة والماء منسكب وذكر أنه اجتمع به في إشبيلية في روض مونق، وزهر مفتق، وقطف وسيم زهره، كأنما البدر قارن الزهرة، فسألني وهي في كفه، أن أقول شيئا في وصفه، فقلت: وبدر بدا والطرف مطلع حسنه ... وفي كفه من رائق النور كوكب فقال أبو محمد: يروح لتعذيب القلوب ويغتدي ... ويطلع في أفق الجمال ويغرب ويحسد منه الغصن أيّ مهفهف ... يجيء على مثل الكثيب ويذهب الوزير أبو القاسم ابن السقاط الكاتب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 917 كان كاتبا لأبي محمد ابن مالك المذكور. وصف استعذاب مقاطعه، واستغراب مطالعه، وتضوع نشر وفائه، وتوضح بشر صفائه، وتبسم ثغر أدبه عن أقاحي المعاني الزهر، وتنسم أرج فضله في نواحي الأماني الغر، لكنه عابه بالاشتهار بالمردان، والاستهتار بحب الصبيان، وأورد من نظمه ما شاكل عقود اللآلي في نحو الحسان، فمن ذلك قوله: سقى الله أيامنا بالعذيب ... وأزماننا الغرّ صوب السحاب إذا الحب يا بثن ريحانة ... تجاذبها خطرات العتاب وإذ أنت نوّارة تجتنى ... بكف المنى من رياض التصابي ليالي والعيش سهل الجنى ... نظير الجوانب طلق تالجناب رميتك طيرا بدوح الصبا ... وصدتك ظبيا بوادي الشباب وقوله يصف يوما رق ظله، وراق طله، ودارت أفلاك سعادته، ودرت أخلاف إرادته: ويوم ظللنا والمنى تحت ظله ... تدار علينا بالسعادة أفلاك بروض سقته الجاشرية مزنة ... لها صارم من لامع البرق بتاك توسّدنا الصهباء أضعاف كأسه ... كأنا على خضر الأرائك أملاك وقد نظمتنا للرضى راحة الهوى ... فنحن اللآلي والمودات أسلاك تطاعننا فيه ثُدِيّ نواهد ... نهدن لحربي والسنوّر أفناك وتجلى لنا فيه وجوه نواعم ... يخلن بدورا والغدائر أحلاك وقوله: ويوم لنا بالخيف راق أصيله ... كما راق تبر للعيون مذاب نعمنا به والنهر ينساب ماؤه ... كما انساب ذعرا حين ريع حباب وللموج تحت الريح منه تكسّر ... تؤلف فوق المتن منه حباب وقد نجمت قضب لدان بشطه ... حكتها قدود للحسان رطاب وأسنع مخضر النبات خلالها ... كما أقبلت نعمى فراقَ شباب قال: وكتبت إليه: عسى روضة تهدي إليّ أنيقة ... تُدَبِّجُ أسطارا على ظهر مهرق أحلّي بها نحري علاء وسؤددا ... وأجعلها تاجا بَهِيَّا لمفرقي فكتب إلي مراجعا: أتتني عن شخص العلاء تحية ... كرأد الضحى في رونق وتألق أنمّ من الريحان ينضح بالندى ... وأطرب من سجع الحمام المطوق سُطيران في مغزاهما أمن خائف ... وسلوة مشغوف وأنس مشوّق نصرت أبا نصر بها همم العلى ... وأطلقت من آمالها كل مُوثَقِ قال: فزارني متجهما فبسطني، وواجما فنشطني، والسماء قد نسَخ صحوها، وغيّم جوها، فأنشدني: يوم تجهّم فيه الأفق وانتثرت ... مدامع الغيث في خد الثرى هملا رأى وجومك فارتدت طلاقته ... مضاهيا لك في الاخلاق ممتثلا ومن رسائله المعسولة، وفضائله المقبولة، مما تهش إليه كل نفس، مكاتبته في استدعاء صديق إلى مجلس أنس: يومنا - أعزك الله - يوم نقبت شمسه بقناع الغمام، وذهبت كأسه بشعاع المدام، ونحن من قطار الوسمي، في رداء هدي، ومن نضير النوار، على نضائد النضار، ومن نواسم الزهر، في لطائم العطر، ومن غر الندمان، بين زهر البستان، ومن حركات الأوتار، خلال نغمات الأطيار، ومن سقاة الكؤوس، ومعاطي المدام، بين مشرقات الشموس، وعواطي الآرام، فرأيك في مصافحة الأقمار، ومنافحة الأنوار، واجتلاء غرر الظباء الجوازي، وانتقاء درر الغناء الحجازي، موفقا إن شاء الله تعالى. وله فصل من رسالة في إهداء فرس: قد بعثنا إليك بجواد يسبق الحلبة وهو يرسف ويتمهل، متى ما ترقى العين فيه تسهل، يزحم منكب الجوزاء بك منكبه، وينزل، عنه مثله حين يركبه، إن بدا قلت ظبية ذات غرارة تعطو إلى العرارة، أو عدا، قلت انقضاضة شهاب، أو اعتراضة بارق ذي التهاب، فاضممه إلى آري جيادك، واتخذه ليومي رهانك وطرادك، إن شاء الله تعالى. وله فصل: ما روضة الحزن، وقد نفح بها النسيم بليلا، وسفح عليها الغمام دمعا همولا، فريعت أحداق أنوارها، وتفتحت نوافج آسها وعرارها، بأعطر من شكري لك وقد غص النّديّ بزواره، وقرئت آيات القطر واستقريت معالم آثاره. وكتب عن أحد الأمراء إلى قوم علية شفعوا لجناة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 918 طاعتكم - وفقكم الله - ثابتة الرسوم، واضحة الوسوم، وصانتكم بالسلطان عصمه الله صيانة الجبان بالحياة، وإعدادكم للمكافحة عن الدولة وطدها الله، إعداد المهلب للبيات. فمالكم والشفاعة، لرعاع ندوا عن عصمة الجماعة، ونفروا وخاسوا بذمام الطاعة، وختروا ثم ودوا لو تكفرون كما كفروا فارفضوهم عن جماعتكم، وذودوهم عن حياض شفاعتكم، ذياد الأجرب، عن المشرب، نحن لا نقبل على توسل مستخف بالنفاق مستتر، ولا نقبل الخدعة من متماد على الغواية مصر. وله يستشفع بمدل بذمام شباب صوح نوره، وبرح به الزمان وجوره: يا سيدي الأعلى وظهيري، ومنجدي في الجُلّى ونصيري، المنيف في دوحة النبل فرعه، الحنيف في ملة الفضل شرعه، ومن أبقاه الله لرحمة أدب مجفوة ينظمها، وحرمة مقطوعة يلحمها، الوفاء لمحاسن الأخلاق، وفى الله جديد أنعمك من الدروس والاخلاق، كالعلم المذهب، والخضاب الموشى لراحة الحسب، تستفيد به بهجة التكحل في العين، ورونق التشبب في مصوغ التبر واللجين، وقد رتبته النهى أشرف ترتيب، وبوبته العلى أبدع تبويب، فما أحقه بصدر النادي، وأسبقه إلى المرتبة بشرف المبادي، رعاية لأواصر الآداب، والمحافظة على الخلة في أعصر الشباب، وتذكرا بعهود الصبا وأطلاله، وأوقات اللذات المنثالة في بكره وآصاله وما أسحبت الليالي في ميادينه من لبوس، نعيم وبوس، وأجنت الأيام في بساتينه من زهرات، أفراح ومسرات، حذوا للخلق الاكمل، وأخذا بقول الأول: إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن وموصله وصل الله سراءك، وأثل علاءك، أبو فلان ذاكر مشاهدك الغر الحسان، وناشر ما تعتمده في صلته من مقاصد الحسن والإحسان، ما نظمني معه سمط ناد، وما احتواني وإياه مضمار شكر وأحماد، إلا وأثبت من مآثرك خليطي الدر والمرجان، وجاء بطليعة السوابق في إمضاء مفاخرك رخي اللبب مرخي العنان، ولقد فاوضني من أحاديث ائتلافكما في العصور الدارسة العافية، وانتظامكما في زهرات الأنس في ظلال العافية، واتساقكما في حبرات العيش الرقاق الضافية، وارتشافكما لسلافة النعيم المزة الصافية، بأفانين الغيطان والنجود، وزخارف الروض المجود، ومعاطف الطرر بين خيلان الخدود، ما لو لقيت بشاشته الصخر لمنح بهجة الإيراق، ولو ألقيت عذوبته في البحر لأصبح حلو المذاق، ولو رقي به البدر لوقي آفة المحاق، ولو مر ببيداء لعادت كسواد العراق وأزمع أن يسير بنواعج لواعجه في ذلك الدو، ويطير بجناح ارتياحه إلى متقاذف ذلك الجو، ليكحل بالتماحك جفونه، ويجلو بأوضاحك دجونه، ويجدد بلقائك عهدا أنهج البين رسمه، ويشاهد بمشاهدة علائك سرور محت يد البين وسمه، ويحط من أفناء بشرك بالآهل العامر، ويسقط من أنواء برك على الحافل الغامر، فخاطبت معرضا عن التحريض، ومجتزيا بنبذ العرض ولمح التعريض، وبائحا له بأسرارك الخطرات ذكر العهود القديمة، وارتياحك للقاء مثله من أعلاق العشرة الكريمة، وأنت ولي ما تتلقاه من تأنيس ينشر موت رجائه، ويعمرؤ مقفر أرجائه، لازلت عاطفا على الاخلاء بكرم الود، قاطفا زهر الثناء من كمام الحمد. ذو الوزارتين أبو عبد الله محمد ابن أبي الخصال الكاتب الغافقي ثم القرطبي ذكره مصنف تاريخ الأندلسيين وقال: مات في أول وهلة من الفتنة الثانية بالأندلس في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة. لقيته طائفه من عبيد لمتونة المتغلبين على قرطبة وهو يخرج من داره للفرار إلى موضع يتحصن فيه فذبح عند باب ولم يعرفوا قدره ولا علموا مكانه، وأما مصنف قلائد العقيان فإنه وصفه بالرواء والنباهة، والروية والبداهة، والنبل والوجاهة، والفضل والنزاهة، والوقار الواقي حلمه من السفاهة، والفخار العاري رسمه من عار العاهة، والأدب الزاخر البحر، والحسب الزاهر البدر، والمذهب الباهر الفخر، لكنه نبه على خمول منشاه، ونزول مرباه، وإنما ظهر بذاته، وتطهر من بذاذاته، وقدمته براعته، وفخمته عبارته، وبلغت به بهو البهاء بلاغته، وخصته للمراتب خصاله، وأخلصته للمناصب خلاله، وأورد من بدائعه ما بدا به سنا إحسانه، وجرى شأن شانئه حسدا لعلو شأنه، فمن ذلك قوله في مغن زار بعد الإغباب، ومحا رسم العتاب بالإعتاب: وافى وقد عظمت علي ذنوبه ... في غيبة قَبُحَتْ بها آثاره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 919 فمحا إساءته بها إحسانه ... واستغفرت لذنوبه أوتاره وذكر أنه كان باشبيلية سنة ثلاث وخمسمائة، ورحل أمير المسلمين عنها فسار ابن أبي الخصال معه، وأخلى بالبلد مجمعه، فكتب إليه يستدعي من كلامه، ما يثبته في ديوانه، وينبته بين زهر بستانه، فكتب إليه الوزير جوابا: الحذر - أعزك الله -، يؤتى من الثقة، والحبيب يؤذى من المقة، وقد كنت أرضى من ودك، وهو الصحيح بلمحة، وأقنع من ثنائك، وهو المسك بنفحة، فما زلت تعرضني للامتحان، وتطالبني بالبرهان، وتأخذني بالبيان، وأنا بنفسي أعلم، وعلى مقداري أحوط وأحزم، والمعيدي يسمع به لا أن يرى، وإن وردت أخباره تترى، فشخصه مقتحم مزدرى، لا سيما بمن لا يجلي ناطقا، ولا يبرز سابقا، فتركه والظنون ترجمه، والقيل والقال يقسمه، والأوهام تحله وتحرمه، وتحفيه وتخترمه أولى به من كشف القناع، والتخلف على منزلة الامتناع، وفي الوقت من فرسان هذا الشأن، وأذمار هذا المضمار، وقطان هذه المنازل، وهداة تلك المجاهل، من تحسد فقره الكواكب، ويترجل إليه منها الراكب، فأما الأزاهر فملقاة في رباها، ولو حلت عن المسك حباها، وصيغت من الشمس حلاها، فهي من الوجد تنظر بكل عين شكرا لا نكرا، وإذا كانت أنفاس هؤلاء الأقران مبثوثة، وبدائعهم منثوثة، وجواهرهم على محاسن الكلام مبعوثة، فما غادرت متردما، ولا استقبلت لمتأخرها متقدما، فعندها يقف الاختيار، وبها يقع المختار، وأنا أنزه ديوانه النزيه، وتوجيهه الوجيه، عن سقط من المتاع، قليل الإمتاع، ثقيل روح السرد، مهلك صر البرد إلا أن يعود به جماله، ويحرس بنقصه كماله، وهبه أعزه الله استسهل استلحاقه، وطامن له أخلاقه، أتراني أعطي الكاشحين في إثباته يدا، وأترك عقلي لهم سدى، وما إخالك ترضاها لي مع الود خطة خسف، ومهواة حتف، لا يستقل ظعينها، ولا يبل طعينها. وله من أخرى: أوثر حقك وإن أبقى علي دركا، وبوأني دركا، وقد حملت فلانا ما سمح به الوقت، وإن اشتبه القصد والسمت. ومن أخرى: نبذ الوفاء، فحذفنا الفاء، وجفا الكريم، فالغينا الميم ... أقسم بالمتبسم البارد، والحبيب الوارد، قسما تبقى على الشيب حدته، ويعز على المشيب جدته، ذكرى من ذلك العهد مدت بسببه، ومتت إلى القلب بنسبه ... وله يعتذر من استبطاء المكاتبة: ألم تعلموا والقلب رهن لديكم ... يخبركم عني بمضمره بعدي ولو قلبتني الحادثات مكانكم ... لأنهبتها وفري وأوطأتها خدي ألم تعلموا أنّي وأهلي وواحدي ... فداء ولا أرضى بتفدية وحدي وله من رسالة إلى وزير نكب، وكبير للنصب نصب، وهو أبو محمد ابن القاسم: مثلك - ثبت الله فؤادك، وخفف عن كاهل المكارم ما آدها وآدك -، يلقى دهره غير مكترث، وينازله بصبر غير منتكث، ويبسم عند قطوبه، ويفل شباة خطوبه، فما هي إلا غمرة ثم تنجلي، وخطرة يليها من الصنع الجميل ما يلي، لا جرم أن الحر كيف كان حر، وإن الدربرغم من جهله در، وهل كنت إلا حساما انتضاه، قدر أمضاه، وساعد ارتضاه، فإن أغمده فقد قضى ما عليه، وإن جرده فذلك إليه، أما أنه ما سلم حده، ولبس جوهر الفرند خده، لا يعدم طبنا يشترطه، ويمينا تخترطه، هذه الصمصامة، تقوم على ذكرها القيامة، طبقت البلاد أخباره، وقامت مقامه، في كل أفق آثاره. وأما حامله فنسي منسي ... وما الحسن إلا المجرد العريان، وما الصبح إلا الطلق الإضحيان، وما النور إلا ما صادم الظلام، ولا النور إلا ما فارق الكمام، وما ذهب ذاهب، أجزل حظه لعوض واهب .... إلى هاهنا من قلائد العقيان. وذكر محمد الغرناطي في نزهة الأنفس، في أخبار أهل الأندلس، الوزير أبا عبد الله محمد ابن أبي الخصال وأثني عليه، وأورد له مسمطة في منادب قرطبة والزهراء. وهي: سمت لهم بالغور والشمل جامع ... بروق بأعلام العذيب لوامع فباحت بأسرار الضمير المدامع ... ورب غرام لم تنله المسامع أذاع بها مرفضها المتصوب ألا في سبيل الشوق قلب موكّل ... بركب إذا شاموا البروق تحملوا هو الموت إلا أنّني أتجمّل ... إذا قلت هذا منهل عنّ منهل وراية برق نحوها القلب يجنب أفي الله أما كل بعد فثابت ... وأما دنوّ الدار منهم ففائت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 920 ولا يلفت البين المصمّم لافت ... ويا ربّ حتى البارق المتهافت غراب بتفريق الأحبة ينعب خذوا بدمي ذاك الوميض المضرجا ... وروضا لقبر العاشقين تأرّجا عفا الله عنه قائلا ما تحرجا ... تمشَّى الردى في نشره وتدرجا وفي كل شيء للمنية مرهب سقى الله عهدا قد تقلّص ظلّه ... حيا نظرة يحيي الربى مستهله وحيا به شخصا كريما أجلّه ... يصحّ فؤادي تارة ويعلّه ويلأمه بالذكر طورا ويَشْعَب رماني على فوت بشرح ذكائه ... فأعشت جفوني نظرة من ذكائه وغصت بأدنى شعبة من سمائه ... سعاني وجاء البحر في غلوائه فكل قريّ ردع خدّيه يركب ألم يأته أني ركبت قعودا ... وأجمعت عن وفد الكلام قعودا ولم أهتصر للبين بعدك عودا ... وأرهقني هذا الزمان صعودا فربع الذي بين الجوانح سبسب على تلك من حال دعوت سميعا ... وذكّرت روضا بالعقاب مريعا وشملا بشعب المذحجي جميعا ... وسِرْباً بأكناف الرصافة ريعا وأحداق عين بالحمام تقلب ولم أنس ممشانا إلى القصر ذي النخل ... بحيث تجافى الطود عن دمث سهل وأشرف لا عن عظم قدر ولا فضل ... ولكنّه للملك قام على رجل تقيه تباريح الرياح وتحجب وكم مرجع ينتابه برسيسه ... ومعتبر ألقى بأرجل عيسه يرى أم عمرو في بقايا دريسه ... كسحق اليماني معتليه نفيسه فرفعته تسبي القلوب وتعجب ببيضاء للبيض البهاليل تعتزي ... وتعتزّ بالبالي جلالا وتنتزي سوى أنها بعد الصنيع المطرّز ... كساها البلى والثكل أسْمال مُعْوِز فتبكي وتبكي الزائرين وتندب وكم لك بالزهراء من متردد ... ووقفة مستنّ المدامع مقصد تسكن من خفق الجوانح باليد ... وتهتك حجب الناصر بن محمد ولا هيبة تخشى هناك وترقب لنعم مقام الخاشع المتنسك ... وكانت محل العَبْشَمِيّ المملك متى يزد النفس العزيزة يسفك ... وإن يسم نحو الأبلق الفرد يملك وأي مرام رامه يتصعّب قصور كأن الماء يعشق مبناها ... وطورا يرى تاجا بمفرق أعلاها وطورا يرى خلخال أسواق سفلاها ... إذا زل وهنا عن ذوائب مهواها يقول هوى بدر أو انقض كوكب أتاها على رغم الجبال الشواهق ... وكلّ منيف للنجوم مراهق وكم دفعت في الصدر منه بعائق ... فأودع في أحشائها والمفارق حُساماً بأنفاس الرياح يذوّب هي الخود من قرن إلى قدم حسنا ... تناصف أقصاها جمالا مع الأدنى ودرجن بالأفلاك مبنى على مبنى ... توافقن في الإتقان واختلف المعنى وأسباب هذا الحسن قد تتشعَّبُ فأين الشموس الطالعات بها ليلا ... وأين الغصون المائلات بها ميلا وأين الظباء الساحبات بها ذيلا ... وأين الثرى رحلا وأين الحصا خيلا فواعجبا لو أن من يتعجب كم احتضنت فيها القيان المزاهرا ... وكم قد أجاب الطير فيها المزامرا وكم فاوحت فيها الرياض المجامرا ... وكم شهدت فيها الكواكب سامرا عليهم من الدنيا شعاع مطنب كأن لم يكن يقضى بها النهي والأمر ... ويجنى إلى خزَّانها البر والبحر ويسفر مخفورا بذمتها الفجر ... ويصبح مختوما بطينتها الدهر وأيامه تعزى إليها وتنسب ومالك عن ذات القسي النواضح ... وناصحة تعزى قديما لناصح وذي أثر باق على الدهر واضح ... يُخَبّرُ عن عهد هنالك صالح ويعمر ذكر الذاهبين ويخرب تلاقى عليها فيض نهر وجدول ... تصعد من سفل وأقبل من علِ وهذي جَنُوبِيّ وذلك شمألي ... وما اتفقا إلا على خير منزل وإلا فإنّ الفضل فيه مجرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 921 كأنّهما في الطيب كانا تنافرا ... فسارا إلى فَصْلِ القضاء وسافرا فلما تلاقى السابقان تناظرا ... فقال ولي الحق مهلا تضافرا فكلكما عذب المجاجة طيب ألم تعلما أن اللجاج هو المقت ... وأن الذي لا يقبل النصح منبتّ وما منكما إلا له عندنا وقت ... فلما استبان الحق واتجه السمت تقشّع عن نور المودة غيهب وإن لنا بالعامري لمظهرا ... ومستشرفا يلهي العيون ومنظرا وروضا على شطي خضارة أخضرا ... وجوسق ملك قد عَلاَ وتجبرا له تِرَةٌ عند الكواكب تطلب تَخَيَّرَهُ في عنفوان الموارد ... وأثبته في ملتقى كل وارد وأبرزه للأريحي المجاهد ... وكل فتى عن حرمة الدين ذائد حفيظته في صدره تتلهب تقدم عن قصر الخلافة فرسخا ... وأصْحَر بالأرض الفضاء ليصرخا فخالتْه أرض الشرك فيها منوخا ... كذلك من جاس الخلال ودوخا فروعته في القلب تسري وتذهب أولائك قوم قد مضوا وتصدعوا ... قضوا ما قضوا من أمرهم ثم ودّعوا فهل لهم ركن يحس ويسمع ... تأمّل فهذا ظاهر الأرض بلقع ألا انهم في بطنها حيث غيّبوا ألست ترى أن المقام على شفا ... وأن بياض الصبح ليس بذي خفا وكم رسم دار للأحبة قد عفا ... وكان حديثا للوفود معرّفا فأصبح وحش المنتدى يتجنّب ولله في الدارات ذات المصانع ... أخلاء صدق كالنجوم الطوالع أشيع منهم كل أبيض ناصع ... وأرجع حتى لست يوما براجع فياليتني في فسحة أتأهّب أقرطبة لم يثنني عنك سلوان ... ولا مثل إخواني بمغناك إخوان وإني إذا لم أسق ماءك ضمآن ... ولكن عداني عنك خطب له شان وموطىء آثار تعد وتكتب لك الحق والفضل الذي ليس يدفع ... وأنت لشمس الدين والعلم مطلع ولولاك كان العلم يطوى ويرفع ... وكل التقى والهدي والخير أجمع إليك تناهى والحسود معذب ألم تك خصت باختيار الخلائف ... ودانت لهم فيها ملوك الطوائف وعض ثقاف الملك كل مخالف ... بكل حسام مرهف الحد راعف به تحقن الآجال طورا وتسكب إلى ملكها انقاد الملوك وسلّموا ... وكعبتها زار الوفود ويمموا ومنها استفادوا شرعهم وتعلموا ... وعاذوا بها من دهرهم وتحرموا فنكب عنهم صرفه المتصحب علوت فما في الحسن فوقك مرتقى ... هواؤك مختار وتربك منتقى وجِسْرُكِ للدنيا وللدين ملتقى ... وبيتك مرفوع القواعد بالتقى إلى فضله الأكباد تنضى وتضرب تولّى خيار التابعين بناءه ... ومدوا طويلا صيته وثناءه وخطّوا بأطراف العوالي فِنَاءَهُ ... فلا خلع الرحمان منه بهاءه ولا زال مسعى كَائِدِيِهِ يخيب وتابع فيه كل أروع أصيد ... طويل المعالي والمكارم باليد وشادوا وجادوا سيدا بعد سيد ... فبادوا جميعا عن صنيع مخلد يقوم عليهم بالثناء ويخطب مصابيحه مثل النجوم الشوابك ... تخرق أثواب الليالي الحوالك وتحفظه من كل لاه وسالك ... أجادل تنقض انقضاض النيازك فأنشازهم بالطبطبية تنهب أجِدَّكَ لم تشهد به ليلة القدر ... وقد جاش مد الناس منه إلى بحر وقد أسرجت فيه جبال من الزهر ... فلو إن ذاك النور يقبس من فجر لأوشك نور الفجر يفنى وينضُب كأن الثريا ذات أطواد نرجس ... ذوائبها تهفو بأدنى تنفس وطيب دخان الند في كل معطس ... وأنفاسه في كل جسم وملبس وأذياله فوق الكواكب تسحب إلى أن تبدت راية الفجر تزحف ... وقد قضي الفرض الذي لا يسوف تولوا وأزهار المصابيح تقطف ... وأبصارها صونا تغض وتطرف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 922 كما تنصل الأرماح ثم تركب سلام على غيَّابها وحضورها ... سلام على أوطانها وقصورها سلام على صحرائها وقبورها ... ولا زال سور الله من دون سورها فحسن دفاع الله أحمى وأرهب وفي ظهرها المعشوق كل مرفع ... وفي بطنها الممشوق كل مشفع متى تأته شكوى الظّلامة ترفع ... وكلّ بعيد المستغاث مدفع من الله في تلك المواطن يقرب وكم كربة ملء الجوانح والقلب ... طرقت وقد نام المُوَاسُون من صحبْي بروعتها قبر الولي أبي وهب ... وناديت في الترب المقدس: يا رب فلبّت بما يهوى الفؤاد ويرغب فيا صاحبي إن كان قبلك مصرعي ... وكنت على عهد الوفا والرضا معي فحط بضاحي ذلك الترب مضجعي ... وذرني فجار القوم غير مروع وعندهم للجار أمن ومرحب رعى الله من يرعى العهود على النوى ... ويظهر بالقول المخير ما نوى ولبيه من مستحكم الود والهوى ... يرى كل واد غير واديه محتوى وأهدى سبيليه التي يتجنب ذو الوزارتين الكاتب أبو محمد ابن عبد البر ذكره صاحب قلائد العقيان بأنه كان واحد الأندلس، وهادى الأنفس بالهدى، وبحر البيان، وفخر الزمان، إلا أنه حصل عند عبَّاد المنبوز بالمعتضد في طالع سعده آفل، وبغمام نعماه حافل، ولولا فراره، لأظلم نهاره، ولولا هربه، لم يقض قبل أن يقضى نحبه أربه، وقد أورد من نظمه ونثره ما يسخر بالسحر، ويسخر له قلائد الدر، فمن ذلك في رجل مات مجذوما: مات من كنّا نراه أبدا ... سالم العقل سقيم الجسد بحر سقم ماج في أعضائه ... فرمى في جلده بالزبد كان مثل السيف إلا أنه ... حسد الدهر عليه فصدي وقوله: لا تكثرنّ تأملا ... واحبس عليك عنان طرفك فلربما أرسلته ... فرماك في ميدان حتفك ومن نثره من رسالة: كتابي عن حال قد طال جناحها، وآمال قد أسفر صباحها، ويد قد اشتد زندها، ونفس قد انتجز في كل محاول وعدها، بما وردني به كتابك. ومن أخرى: مكاتبة الصديق عوض من لقائه إذا امتنع اللقاء، واستدعاء لأنبائه إذا انقطعت الأنباء، وفيهما أنس، تلذ به النفس، وارتياح تنعش به الارواح، وارتباط يتصل فيه الاغتباط، وافتقاد، يتبين منه الاعتقاد والوداد، ومثل خلتك الكريمة عمرت معاهدها، ومثل عشرتك الجميلة شدت معاقدها، ومثل مكارمك البرة حمدت مصادرها ومواردها، وإذ قد تسببت لي أسبابها، فلا أقطعها، وإذ قد انفتحت لي أبوابها، فلا أدعها ... الوزير الكاتب أبو الفضل ابن حسداى وصفه بالإجراء في ميدان البلاغة إلى أبعد أمد، والاستمداد من البيان والبراعة أغزر مدد، وكان من درجة الأكفاء محطوطا غير محظوظ، وبأهل الذمة ملحقا غير ملحوظ، محفوفا بالحرمة لكن في منصب غير محفوظ، حتى هداه الله فلحق به، وسما بعد ذلك في رتبه، وكان في زمان المنعوت في المغرب بالمقتدر، وأورد له قطعة فيه كالدر المنتثر نظمها في مجلس أنس دارت كؤوسه، وأنارت شموسه، ورقدت حوادثه، وتنبهت مثانيه ومثالثه، وهي: توريد خدك للأحداق لذّات ... عليه من عنبر الأصداغ لامات نيران هجرك للعشاق نار لظى ... لكن وصلك إن واصلت جنات كأنما الراح والراحات تحملها ... بدور تم وأيدي الشرب هالات حشاشة ما تركنا الماء يقتلها ... إلا لتحيا بها منا حشاشات قد كان في كأسها من قبلها ثقل ... فخف إذ ملئت منها الزجاجات عهدٌ لِلُبْنَى تقاضته الأمانات ... بانت وما قضيت منها لبانات يدني التوهم للمشتاق منتزحا ... من الأمور وفي الأوهام راحات تقضى عدات إذا عاد الكرى وإذا ... هب النسيم فقد تهدى تحيّات زور تعلل قلب المستهام به ... دهرا وقد بقيت في النفس حاجات لعل عتب الليالي أن يعود إلى ... عتبي فتبلغ أوطار ولذات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 923 حتى تفوز بما جاد الخيال به ... فربما صدقت تلك المنامات وله وقد ركب مع المنعوت بالمستعين في زورق، في يوم مونق: لله يوم أنيق واضح الغرر ... مفضض مذهب الآصال والبكر كأنما الدهر لما ساء أعتبنا ... فيه بعتبى وأبدى صفح معتذر نسير في زورق حف السفين به ... من جانبيه بمنظوم ومنتثر مد الشراع به نشرا على ملك ... بذ الأوائل في أيامه الأخر هو الإمام الهمام المستعين حوى ... علياء مؤتمن عن هدي مقتدر تحوي السفينة منه آية عجبا ... بحر تجمع حتى صار في نهر تثار في قعره النينان مصعدة ... صيدا كما ظفر الغوّاص بالدرر وللندامى به عبّ ومرتشف ... كالريق يعذب في ورد وفي صدر والشرب في ود مولى خلقه زهر ... يذكو وغرتّه أبهى من القمر ومن نثره استدعاء كبير إلى عرس أمير وهو أبو عبد الرحمان ابن طاهر صاحب المظالم: محلك - أعزك الله - في طي الجوانح ثابت وإن نزحت الدار، وعيانك في أحناء الضلوع باد وإن شحط المزار، فالنفس فائزة منك لتمثل الخاطر بأوفر الحظ، والعين منازعة إلى أن تمتع من لقائك بظفر اللحظ، فلا عائدة أسبغ بردا، ولا موهبة أسوغ وردا، من تفضلك بالحفوف إلى مأنس يتم بمشاهدتك التئامه، ويتصل بمحاضرتك انتظامه، ولك فضل الإجمال، بالإمتاع من ذلك بأعظم الآمال، وأنا، أعزك الله على شرف سؤددك حاكم، وعلى مشرع سنائك حائم، وحسبي ما تتحققه من نزاعي وتشوقي، وتنبينه من تطلعي وتتوقي، وقد تمكن الارتياح، باستحكام الثقة، واعترض الانتزاح، بارتقاب الصلة، وأنت، وصل الله سعدك، بسماحة شيمك، وبارع كرمك، تنشئ للموانسة عهدا، وتوري بالمكارمة زندا، وتقتضي بالمشاركة شكرا، حافلا وحمدا، لازلت مهنئا بالسعود المستقبلة، مسوغا احتلاء غرر الأماني المتهللة، بمنه. الوزير أبو عامر ابن ينق قال اليسع: طبيب كاتب شاعر، وأنا أروي عنه شعره كله وأجازني. ومصنف القلائد وصفه بالذكاء الباهر، والذهن الزاهر، والفهم الحاضر، وحدة القريحة والخاطر، لكنه ذو عجب مستهو، غير أن فضله الحسن على نسخ قبح عجبه محتو، وأورد من شعره المستبدع، ونظمه المصرع لمرصع قوله: حسبي من الدهر أن الدهر يفتح لي ... بكر الخطوب وإني عاثر الأمل دعني أصادي زماني في تقلّبه ... فهل سمعت بظل غير منتقل وكلما راح جهما رحت مبتسما ... والبدر يزداد إشراقا مع الطفل ولا يروعك إطراقي لحادثة ... فالليث مكمنه في الغيل للغيل فما تأطّر عطف الرمح من خور ... فيه ولا احمرّ صفح السيف من خجل لا غرو إن عطلت من حليها هممي ... فهل يعيّر جيد الظبي بالعطل ويلاه هلا أنال القوس باريها ... وقلد السيف جيد الفارس البطل ومنها في المديح: أغرّ إن تدعه يوما لنائبة ... جلى ولا يكشف الجلى سوى جلل قد أوسع الأرض عدلا والبلاد ندى ... والروض طلق الربى والشمس في الحمل يرعى الممالك في قرب وفي بعد ... ويأخذ الأمر بين الريث والعجل ذو عزمة لخطوب الدهر جردها ... أمضى من الصارم المطرور في القلل وذو أياد على العافين جاد بها ... أشفى من البارد السلسال لِلْغُلَلِ مصرّف قصب الأقلام نال بها ... مناله بشبا الخطية الذبل من كل أهيف ما في متنه خطل ... والسمهرية قد تعزى إلى خطل دع عنك ما خلدت يونان من حكم ... وسار في حكماء الفرس من مثل وانظر إليها تجدها أحرزت سبقا ... في الحمد منها وحاز السبق في مهل وله يتغزل: وهيفاء يحكيها القضيب تأودا ... إذا ما انثنت في الرَّيْط أو حبراتها يضيق الإزار الرحب عن ردفها كما ... تضيق بها الأحناء من زفراتها وما ظبية وجناء تألف وجرة ... ترود ظلال الضال أو أثَلاتها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 924 بأحسن منها يوم أومت بلحظها ... إلينا ولم تنطق حذار وشاتها الوزير الكاتب أبو بكر ابن قزمان خدم في أول عمره المنعوت بالمتوكل. في الغرب آخر يعرف بابن قزمان ينظم الأزجال وصفه بالإعجاز والإيجاز، والتبريز في البيان في ميدان الإحراز، وإن صدور عمره كانت أحسن له من الأعجاز، فإنه مني بالذلة بعد الاعتزاز، وأخلف الدهر له في مواعده فلواها دون النجاز، وأورد له من قوله ما يترنح لحسنه عطف الاهتزاز، وهو: ركبوا السيول من الخيول وركّبوا ... فوق العوالي السمر زرق نطاف وتجللوا الغدران من ماذيهم ... مرتجة إلا على الأكتاف الوزير الكاتب أبو بكر ابن الملح وصفه بالأخذ من طرفي الدين والدنيا، وحلول كنفي العلم والعلياء، فإنه لاذ بالتوبة، بعد الحوبة، وطلب الوزر، من الوزر، وخطا بالصفوةن بعد الصهوة، ورقى صهوة المنابر بعد القهوة، وكاس، بعد الكأس، وأدنى سنا الطهر بعد دجى الأدناس، ولبى سريعا منادي الهدى في نزع ما ارتداه في خلع العذار من اللباس، وقد أورد من قوله ما هو أنضر من روض الورد والآس، وهو قوله: والروض يبعث بالنسيم كأنما ... أهداه يضرب لاصطباحك موعدا سكرانُ من ماء النعيم فكلّما ... غنّاه طائره وأطرب رددا يأوي إلى زهر كأن عيونه ... رقباء تقعد للأحبة مرصدا زهر يبوح به اخضرار نباته ... كالزهر أسرجها الظلام وأوقدا ويبيت في فنن توهم ظله ... يمسي ويصبح في القرارة مرودا قد خفّ موقعه عليه وربّما ... مسح النعيم بعطفه وتأودا وله يتغزل: حسب القوم أنني عنك سال ... أنت تدري قضيتي ما أبالي قمري أنت كل حين وبدري ... فمتى كنت قبل هذا هلالي أنت كالشمس لم تَغِبَّ ولكن ... حجبت ليلها حذار الملال وله يتغزل أيضا: ظبي يموج الهوى بناظره ... حتى إذا ما رمى به انبعثا مبتدع الخلق لاكفاء له ... يعد شكوى صبابتي رفثا أنكر سقمي وما قصدت له ... وما تعرّضت للهوى عبثا أقسم في الحب أن أموت به ... فما قضى برّه ولا حنثا الوزير الفقيه أبو أيوب ابن أبي أمية توفي سنة اثنتين وعشرين أثنى عليه بكل فضيلة، وثنى عليه عنان كل محمدة جميلة، ونزهه من كل رذيلة، ووصفه بأنه في وفاء الوقار، ونجاء النجار، يبقي بوفائه ذماء الذمار، ويذكي لذكائه كباء الكبار، رأيه ري، وزنده وري، شيم بارق الحسنى والحسن من شيمه، ولم شعث الأمل كرمه من كرمه، يستسقى الحيا بمحياه، ويستنشق نشر الخير من رياه، وذكر أنه دعي للقضاء فاستعفى، وعاف الأوزار وناظر ديانته ما أغفى، وإن لديه ينبت الحق وينبت الباطل، ويثبت العالم وينتفي الجاهل، وإنه كالبحر الزاخر في المحاضرة، وكالبدر الزاهر في المجاورة، وهو واحد الأندلس الأوحد، وعضبها المجرد، وله إنشاء، للسامع منه انتشاء، وقد أثبت من شعره ما يثني الإحسان إلى جيده الجيد، وتغري الاعراب بصيده الصيد، فمن ذلك يصف متنزها حله: يا منزل الحسن أهواه وآلفه ... حقا لقد جمعت في صحنك البدع لله ما اصطنعت نعماك عندي في ... يوم نعمت به والشمل مجتمع وله أيضا في وصف متنزه: يا دار أمّنك الزما ... ن صروفه ونوائبه وجرت سعودك بالذي ... يهوى نزيلك دائبه فلنعم مثوى الضيف أن ... ت إذا تحاموا جانبه خطر شأوت به الديا ... ر فأذعنت لك ناصبه وله فيه: أمسك دارين حيّاك النسيم به ... أم عنبر الشحر أم هذي البساتين بشاطىء النهر حيث النور مؤتلق ... والراح تعبق أم تلك الرياحين الوزير الفقيه القاضي أبو الفضل جعفر ابن الأعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 925 وصفه بتدرع التورع عبادة، متنسكا زهادة، واعتقال العقل واعتلاقه، والاعتناء بالنبل واعتناقه، إلا صبوة أخذت بالعافية صبوة، ونوبة لم يجد في الاقلاع منها نبوة، وجده أبو الحجاج الأعلم، وهو في عصره العلامة والعلم، وأورد لأبي الفضل ما أبى الفضل به أن يصادف نظير، وعرف أن روض معرفته بالأدب مؤنق نضير، وذكر أنه لقيه بشنتمرية داره، ومطلع اهلاله وابداره، ومن جملة ما أشعرنا به من شعره وأدرأنا به من دره، في وصف قلم: متألّق تنبيك صفرة لونه ... بقديم صحبته لآل الأصفر ومهفهف ذلق صليب المكسر ... سبب لنيل المطلب المتعذر ما ضرّه أن كان كعب يراعة ... وبحكمه اطَّرَدَتْ كعوب السمهري وله عند فراق الصبا والصبوة، واكتهال نبت الكهولة وشد عقد التوبة، بانحلال ما كان للحوبة من الحبوة: أما أنا فقد ارعويت عن الصبا ... وعضضت من ندم عليه بناني وأطعت نصّاحي وربّ نصيحة ... جاءوا بها فلججت في العصيان أيام أحْيَا بالغواني والغنا ... وأموت بين الرّاح والريحان أيام أسحب من ذيول شبيبتي ... مرحا وأعثر في فضول عناني وأجل كأسي أن ترى موضوعة ... فعلى يدي أو في يدي ندماني في فتية فرضوا اتصال هواهم ... بمناهم دينا من الأديان هزت عُلاهم اريحيات الصبا ... فهي النسيم وهم غصون البان من كل مخلوع الأعنة لم يبل ... في غَيِّهِ بتصارف الأزمان أنحى على الجريال حتّى نوّرت ... في وجنتيه شقائق النعمان أقول: قد هز عطف طربي هذا المعنى، وانتشيت لما انتشقت هذا النسيم الذي يبل به المعنى. وله في الزهد والعظة، وذكر الموت لاستقامة اليقظة: الموت سغْلٌ ذكره ... عن كلّ معلوم سواه فاعمر به ربع إدّكا ... رك بالعَشِيّ وبالغداه واكحل به طرف اعتبا ... رك طول أيام الحياه قبل ارتكاض النفس ما ... بين الترائب واللهاه فيقال هذا جعفر ... رهن بما كسبت يداه عصفت به ريح المنو ... ن فصيرته كما تراه فضعوه في أكفانه ... ودعوه يجني ما جناه وتمتّعوا بمتاعهال ... مخزون واحووا ما حواه يا مصرعا مستبشعا ... بلغ الكتاب به مداه لقيِّتُ فيك بشارة ... تشفي فؤادي من جواه ولقيت بعدك أحمدا ... عبد الإلاه ومجتباه في دار خفض ما اشتهت ... نفس المقيم به أتاه وأورد من نثره في الأوصاف، ما هو أروق وأرق من السوالف والسلالف. فمن ذلك في وصف فرس: أنظر إليه سليم الأديم، كريم القديم، كأنما نشأ بين غبراء واليحموم، نجم إذا بدا، ووهم إذا عدا، يستقبل بغزال، ويستدبر برال، ويتحلى بشيات تقسمت الجمال. وفي وصف سرج: بزة جياد، ومركب أجواد، جميل الظاهر، رحيب ما بين القام والآخر، كأنما قد من الخدود أديمه، واختص بإتقان المجيد تحكيمه. وفي وصف لجام: متناسب الأشلاء، صحيح الانتماء، إلى ثريا السماء، نكله نكال، وسائره جمال. وفي وصف رمح: مطرد الكعوب، صحيح اتصال العالية بالأنبوب، أخ كلما استنبته ينوب، ويصدق كل أمل مكذوب، خطي الأرومة، سهمي العزيمة، يستد برديني، ويرد بقعضيني، ظمآن على كثرة وروده، عريان تنسب صنعاء إلى وشي بروده. في وصف قميص: كافوري الأديم، بابلي الرسوم، تباشر منه الجسوم، ما يباشر الروض من النسيم. وفي وصف بغل: مقرف النسب، مستخبر للشرف من كثب إن ركب أقنع اعتماله، وإن نسب استقل به أخواله. في وصف حمار: وثيق المفاصل، عتيق النهضة إذا ونت المراسل، يشفي امتهانه ويدني من الأمل رديانه. الفقيه القاضي أبو الوليد الباجي إمام في الأصول والفروع، ومن مصنفاته: الوصول إلى معرفة الأصول، كتاب التسديد في أصول الدين، الإشارة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 926 ذكر أنه كان فقيه الأندلس وامامها، والذي جلى بنور علمه ظلامها، وأنه رحل إلى المشرق فأشرقت أنوار أقباسه، وأحيا ليالي الطلب بنعي نعاسه، وأنفق أنفاسه في العلم حتى اقتبس من أنفاسه، وعاد إلى الأندلس فاستقر من العزة في الأعين والأنفس، وصار إلى المنعوت بالمقتدر، فراش جناح نجاحه في الورد والصدر، وذكر أن نظمه موقوف، على ذاته غير مصروف، إلى رفث القول وبذاذاته، وله في الزهد: إذا كنت أعلم مستيقنا ... بأن جميع حياتي كساعه فلم لا أكون ضنينا بها ... وأجعلها في صلاح وطاعه وله يرثي ولديه وقد ماتا غريبين، وذويا قضيبين: رعى الله قبرين استكانا ببلدة ... هما أسكناها في السواد من القلب لئن غيبا عن ناظري وتبوّءا ... فؤادي لقد زاد التباعد في القرب يقر بعيني أن أزور ثراكما ... وألزق مكنون الترائب بالترب وأبَكي وأبُكي ساكنيها لعلنّي ... سأنجد من صحب وأسعد من سحب فما ساعدت ورق الحمام أخا أسى ... ولا روّحت ريح الصبا عن أخي كرب ولا استعذبت عيناي بعدكما كرى ... ولا ظمئت نفسي إلى البارد العذب أحنّ ويثني اليأس نفسي عن الأسى ... كما اضطر محمول على المركب الصعب الوزير الفقيه أبو مروان ابن سراج ذكر أنه درس علوما درست معالمها، ودعا للرفع آدابا تداعت دعائمها، فتح أقفال المبهمات، وبين أغفال المشكلات، وشرح وأوضح، ونصح مناضليه وفصح، ولما طوي بساط عمره طويت المعارف، وتنقص فضلها الوافر وتقلص لها الوارف، ووصفه بالضجر عند السؤال فما يكاد يجيب، والمستفيد منه يكاد لغيظه عليه يخيب، وأورد من شعره قوله في مدح المظفر ابن جهور: أمّا هواك ففي أعزّ مكان ... كم صارم من دونه وسنان وبني حروب لم تزل تغذوهم ... حتى الفطام ثديها بلبان في كلّ أرض يضربون قبابهم ... لا يمنعون تخيّر الأوطان أو ما ترى أوتادها قصد القنا ... وحبالهنّ ذوائب الفرسان عجبا لأسد في القباب تكفّلت ... برعاية الظبيات والغزلان ولقد سريت وما صحبت على السرى ... غير النجوم إرادة الكتمان في ليلة نظرت إليّ نجومها ... ومقحم الغمرات غير جبان قالت فتاتهم وقد نبهتها ... والليل ملقي كلكل وجران كيف اجترأت على تجاوز من ترى ... من نائم حولي ومن يقظان أو لست إنسانا وما إن تنتهي ... هذي نهاية جرأة الإنسان فأجبتها: أنّ ابْنَ جَهْوَرٍ الرّضى ... منع المخاوف أن تحل جناني ومنها في العتاب والاستماحة: أتعود دلوي من بحور سماحكم ... صفرا وليست رئة الأشطان ويكون ربعي مستبينا جدبة ... حتى أهيم بنجعة البلدان قسي بمن ينأى برفع مكانه ... بنديّك العالي وخفض مكاني أمن السوية أن تحلوا بالربى ... من أرضه وأحل بالغيطان إن ترخصوا خطري فكم مغل له ... يستام فيه بأرفع الأثمان الوزير الفقيه أبو عبيد البكري ذكر أنه رأى هذا الفقيه في سن ابن محكم، وقد فاق كل متكلم، وهو غلام ما أبدر قمره، ولا أينع ثمره، ولا تفتق لعذاره زهره، وقرظه بأنه كان حلي الزمان العاطل، وصيت الدهر الخامل، وقطب مدار الأدب في أفلاكه، وواحد المغرب ومقرب أملاكه، وكانوا يتهادونه تهادي العيون للوسن، والأسماع للصوت الحسن، غير أن شربه المدام مدام، ولم يزل منه له من غير ندامة ندام، قد صار هجيره، لا يهجره أصيله وهجيره، وله في البيان مصنفات، بفرائد الحكم مشنفات، قال أبو نصر صاحب قلائد العقيان إنه رآه وقد جرى ذكر ابن مقلة وخطه فقال: خط ابن مقلة من أرعاه مقلته ... ودت جوارحه لو أصبحت مقلا فالدر يصفر لاستحسانه حسدا ... والورد يحمر من إبداعه خجلا وله فصل من كتاب راجع به الفقيه أبا الحسن ابن دري: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 927 وتالله إني لأتطعم جنى محاورتك فتقف في اللهاة، وأجد لتخيل مجالستك ما يجده الغريق من النجاة، وأعتقد في مجاورتك ما يعتقده الجبان في الحياة. أما تخطئ الأيام في بأن ترى ... بغيضا تنائي أو حبيبا تقرب ورأيت رغبتك في الكتاب الذي لم يتحرر ولم يتهذب، وكيف التفرغ لقضاء ارب، والنشاط قد ولي وذهب، فما أجد، إلا كما قال: نزراً كما استنكهت عائر نفحة ... من فارة المسك التي لم تفتق وإن يعن الله على المراد، فيك والله يستفاد، وبرغبتك أخرجه إلى الوجود من العدم، وإليك يصل أدنى ظلم. وله فصل يهني الوزير أبا بكر بن زيدون بالوزارة: أسعد الله بوزارة سيدي الدنيا والدين، وأجرى لها الطير الميامين، ووصل بها التأييد والتمكين، فالحمد لله على أمل بلغه، وجذل قد سوغه، وضمان حققه، ورجاء صدقه، وله المة في ظلام كان أعزه الله صبحه ومستبهم، غدا شرحه، وعطل نحر كان حليه، وضلال دهر صار هديه: فقد عمر الله الوزارة باسمه ... ورد إليها أهلها بعد إقصار الفقيه الأجل قاضي الجماعة أبو عبد الله ابن حمدين وأظنه هو الذي سبق ذكره في مصنف ابن بشرون، وصفه بحماية الدين ورعاية أهله، والهداية إلى سبله، وأنه مالك زمام العلوم ومحيي رسمها، ومعلي اسمها، وبه اجتثت أصول الملحدين، ورثت حبال المفسدين، في سنة تسع وتسعين، وأورد من نثره ما لذت قطوفه، وبذت قلائد الدر صنوفه، وذلك من كتاب، فضل يراجع به ابن شماخ: عمر بابك، وأخصب جنابك، وطاوعك زمانك، ونعم به إيوانك: وسقي بلادك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمي فما درج لسبيله من كنت سلالة سليله، ووارث معرسه ومقيله: ومنها: بيننا وسائل، أحكمتها الأوائل، ما هي بالأنكاث، والوشائج الرثاث، من دونها عهد جناه شهد، أرج عرف النسيم، مشرق جبين الأديم، رائق رقعة الجلبات، مقبل رداء الشباب، كالصباح المنجاب، تروق أساريره، ويلقاك قبل اللقاء تباشيره. ورثناهن عن آباء صدق ... ونورثها إذا متنا بنينا الفقيه الأستاذ أبو محمد عبد الله بن محمد ابن السيد البطليوسي ذكر أنه رَكن في آخر زمانه إلى إقراء علوم النحو، وإثبات ما عفت منه يد المحو، والقناعة بشكر الحظ بعد الصحو، وأورد من كلامه، ما يجلو عن الليل بسناه دجى ظلامه، فمن ذلك قوله في طول الليل: ترى ليلنا شابت نواصيه كبرة ... كما شبت، أم في الجو روض بهار كأن الليالي السبع في الأفق علقت ... ولا فصل فيها بينها لنهار وله رقعة يصف فيها كتاب قلائد العقيان: تأملت كتابه الذي شرع في إنشائه، فرأيت كتابا ينجد ويغور، ويبلغ حيث لا يبلغ البدور، وتبين به الذرى والمناسم، وتغتدي له غرر في أوجه ومواسم، فقد أسجد الله الكلام لكلامك، وجعل النيرات طوع أقلامك، فأنت تهدي بنجومها، وتردي برجومها، فالنثرة من نثرك، والشعري من شعرك، والبلغاء لك معترفون، وبين يديك متصرفون، وليس يباريك مبار، ولا يجاريك إلى الغاية مجار، إلا وقف حسيرا، وسبقت ودعي أخيرا، وتقدمت لا عدمت شفوفا، ولا برح مكانك بالآمال محفوقا. وله في وصف زيرطانة: وذات عمى لها طرف بصير ... إذا رمدت فأبصر ما تكون لها من غيرها نفس معار ... وناظرها لدى الأبصار طين وتبطش باليمين إذا أردنا ... وليس لها إذا بطشت يمين وله يجيب شاعرا قرطيبا: قل للذي غاص في بحر من الفكر ... بذهنه فحوى ما شاء من درر لله عذراء زفّت منك رائحة ... تختال من حبرها المرقوم في حبر صداقها الصدق من ودي ومنزلها ... بصيرتي وسواد القلب والبصر هزّت بدائعها عطفيَّ من طرب ... لحسنها هزّة المشغوف بالذكر كأنما خامرتني من بشاشتها ... راح وسكر بلا راح ولا سكر ما كنت أحسب أن النيرات غدت ... بصيدها شرك الأوهام والفطر ولا توهّمت أيام الربيع ترى ... في ناضر غضّة الأنوار والزهر أما الجزاء بشيء لست مدركه ... ولو بدرت إلى التوجيه بالبدر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 928 لكن جزائي صفاء الود أضمره ... إذا القلوب انطوت منه على كدر جاراك ذهني في مضمارك فكبا ... ذهني وفزت بخصل السبق والظفر وهل بطليوس في نظم مناظرة ... يوما لقرطبة في حكم ذي نظر وله من مكاتبة: نحن نتدانى إخلاصا، وإن كنا نتناءى أشخاصا، ويجمعنا الأدب، وإن فرقنا النسب، فالأشكال أقارب، والأداب مناسب، وليس يضر تنائي الأشباح، مع تقارب الأرواح، وما مثلنا في هذا الانتظام، إلا كما قال أبو تمام: نسيبي في رأيي وعلمي ومذهبي ... وإن باعدتنا في الأصول المناسب وله في الزهد: وما دارنا إلا موات لو أننا ... نفكر والأخرى هي الحيوان شربنا بها عزّا بدون جهالة ... وشتان عز للفتى وهوان وله من قصيدة يمدح المستعين ابن هود: هم سلبوني حسن صبري إذ بانوا ... بأقمار أطواق مطالعها بان لئن غادروني في اللوى إنّ مهجتي ... مسائرة أضغانهم أينما كانوا سقى عهدهم بالخيف عهد غمائم ... ينازعها مزن من الدمع هتّان أأحبابنا هل ذلك العهد راجع ... وهل لي عنكم آخر الدهر سلوان ولي مقلة عبري وبين جوانحي ... فؤادٌ إلى لقياكم الدهر حنّان تنكّرت الدنيا لنا بعد بعدكم ... وحفت بنا من معضل الخطب ألوان ومنها: رحلنا سوام الحمد عنها بغيرها ... فلا ماؤها صدَّا ولا النبت سعدان إلى ملك حاباه بالمجد يوسف ... وشاد له البيت الرفيع سليمان إلى مستعين بالإلاه مؤيد ... له النصر حزب والمقادير أعوان بوجه ابن هود كلما عرض الورى ... صحيفة إقبال لها البشر عنوان فتى المجد في برديه بدر وضيغم ... وبحر وقدس ذو الهضاب وثهلان من النفر البيض الذين أكفهم ... غيوث ولكن الخواطر نيران ليوث شرى ما زال منهم لدى الوغى ... هزبر بيمناه من السمر ثعبان وله يعزّي الوزير أبا عيسى ابن لبون في أخيه: للمرء في أيامه عبر ... ولصفو يحدث بعده كدر خرس الزمان لمن تأمّله ... نطق وخبر صروفه خبر نادى فأسمع لو وعت أذن ... وأرى العواقب لورأى بصر كم قال: خبّوا طالما هجعت ... منكم عيون حقها السهر أبأذن من هو مبصري صمم ... أم قلب من هو سامعي حجر لولا عماكم عن هدى نذري ... ومواعظي ما جاءت النذر هذي مصارع معشر هلكوا ... ووعظتكم بالصمت فاعتبروا ومنها في الشيب: قالت أرى ليل الشباب بدت ... للشيب فيه أنجم زهر فأجبتها: لا تكثري عجبا ... من شيبة لم يجنها كبر بكن طويت من الهموم لظى ... أضحى لها في عارضي شرر ومنها: حسنت شمائلكم وأوجهكم ... فتطابقا مرأى ومختبر والحسن في صور النفوس وإن ... راقتك من أجسامها الصور لا ضعضعت أيدي الخطوب لكم ... ركنا ولا راعتكم الغير وله في وصف فرس: وأدهم من آل الوجيه ولاحق ... له الليل لون والصباح حجول تحيّر ماء الحسن فوق أديمه ... فلولا التهاب الخضر ظل يسيل كأن هلال الأفق لاح بوجهه ... فأعيننا شوقا إليه تميل كأنّ الرياح العاصفات تقلّه ... إذا ابتلّ منه محزم وتليل إذا عابد الرحمان في متنه علا ... بدا الزهو في العطفين منه يجول فمن رام تشبيها له قال موجزا ... وإن كان وصف الحسن منه يطول هو الفلك الدوار في صهواته ... لبدر الدياجي مطلع وأفول وله يتشوق حرسها الله تعالى: أمكّة تفديك النفوس الكرائم ... ولا برحت تنهل فيك الغمائم وكفت أكفّ السوء عنك وبلغّت ... مناها قلوب في ثراك حوائم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 929 فإنّك بيت الله والحرم الذي ... لعزّته ذل الملوك الأعاظم وقد رفعت منك القواعد بالتقى ... وشادتك أيد برّة وعواصم وساويت في الفضل المقام كلاهما ... ينال به الزلفي وتمحى المآثم ومن أين تعدوك الفضائل كلها ... وفيك مقامات الهدى والمعالم ومبعث من ساد الورى وحوى العلى ... بمولده عبد الإلاه وهاشم نبي حوى فضل النبيين واغتدى ... لهم أولا في فضله وهو خاتم وفيك يمين الله يلثمها الورى ... كما يلثم اليمنى من الملك لاثم وفيك إبراهيم إذ وطيء الصفا ... ضحى قدم برهانها متقادم دعا دعوة فوق الصَّفا فأجابه ... قطوف من الفج العميق وراسم فاعجب بدعوى لم تلج مسمعي فتى ... ولم يعها إلا ذكيّ وعالم ألهفي لأقدار عدت عنك همّتي ... فلم تنتهض مني إليك العزائم فياليت شعري هل أرى منك داعيا ... إذا جأرَتْ لله فيك الغماغم وهل تمحون عني خطايا اقترفتها ... خطى فيك لي أو يَعْمُلاتٍ رواسم وهل لي من سقيا حجيجك شربة ... ومن زمزم يروي بها النفس حائم وهل لي في أجر الملبين مقسم ... إذا بذلت للناس فيك المقاسم وكم زار مغناك المعظم مجرم ... فحطت به عنه الخطايا العظائم ومن أين لا يضحي مرجيك آمنا ... وقد أمنت فيك المها والحمائم لئن فاتني منك الذي أنا رائم ... فإن هوى نفسي عليك لرائم وإن يحمني حامي المقادير مقدما ... عليك فإني بالفؤاد لقادم عليك سلام الله ما طاف طائف ... بكعبتك العليا وما قام قائم إذا نسم لم يهد عني تحية ... إليك فتهديها الرياح النواسم أعوذ بمن أسناك من شر خلقه ... ونفسي فما منها سوى الله عاصم وأهدي صلاتي والسلام لأحمد ... لعليّ به من كبّة النار سالم الوزير الأستاذ أبو الحسين ابن سراج أطرى فضله، بما أطرب أهله، وذكر أنه لما ضمت عليه من القبر ضلوعه، عفت رسوم المجد ودرست ربوعه، وتفرقت جموعه، وعادت المعارف مناكر، والمعالم مجاهل، وأورد له من رقعة خاطبه بها: كتبت وروض العهد قد أفصحت أناشيده، وديوان الود د صحت أسانيده، ودوح الإخاء يتفاوح زهرا، ويتناوح مجتني ومهتصرا، والله يصوب مزنته بشآبيب الوفاء، ويمنح نغبته، أعلى درجات العذوبة والصفاء، برحمته، وأما تلك المراجعة فكأنها لما عاقت عقّت، وقد نالها من عتابي في ذلك ما استحقت. وله يصف كتابا: كتاب يزدري بالسحر حسنا ... وسمت به زمانك وهو غفل معان تعبق الآفاق عنها ... يشيب لها حسودك وهو طفل وله في ثوب رآه على غير أهله، وكان عهده، على من كان يوده: يا لابس الثوب لا عربت من سقم ... ولا تخطاك صرف الدهر والغير ويحي عليه ولهفي من تبدّله ... كم قد تطلّع من أطواقه القمر وكم ترنّح في أثنائه غصن ... منعم النبت يدمي خده النظر وكم ثنيت يدي عنه وقد نعمت ... وظل منها فتيت المسك ينتثر فاليوم أوحش عما كنت أعهده ... كذاك صفو الليالي بعده الكدر وله: لما تبوأ من فؤادي منزلا ... وغدا يسلط مقلتيه عليه ناديته مترحما من زفرة ... أفضت بأسرار الضمير إليه رفقا بمنزلك الذي تحتلّه ... يا من يخرّب بيته بيديه وله: لئن لم تفز عيناي منك بنظرة ... ولم أقض من لقياك ما كنت آمل فعالم ما تخفي السرائر عالم ... بأنّك في عيني وقلبي ممثل وأنّك ممن أنتحيه بخلتي ... وأمحضه ودي لصدر وأوّل وله: بما يعينيك من غنج ومن دعج ... ومن صوارم تنضوها على المهج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 930 لا ترتضي الحلف في وعد تركت به ... قتيل حبك قد أوفى على الفرج أولا فثنّيه للمشتاق يله به ... وفيت أم لم تفي قولي بلا حرج وكتب شافعا: بثّ الصنائع لا تحفل بموضعها ... فيمن نأى أو دنا ما كنت مقتدرا كالغيث ليس يبالي حيثما انسكبت ... منه الغمائم تربا كان أو حجرا ذو الوزارتين الفقيه القاضي، قاضي قضاة المشرق أبو أمية إبراهيم ابن عصام وصفه بالمهابة التي يطرق الدهر لها توقيرا، ويشرق السعد لبهائها منيرا، وإنه نظم الرئاسة في سلك القضاء، وهزم الكتائب بالمضاء، مستنير بذكائه لا يستشير غير رأيه، وأورد من نظمه ونثره ما يستمد البحر من غزارته، والروض من نضارته، فمن ذلك أنه كتب إليه أبو الحسن ابن الحاج: ما زلت أضرب في علاك بمقولي ... دأبا وأورد في رضاك وأصدر واليوم أعذر من يطيل ملامة ... وأقول زد شكوى وأنت مقصر فأجابه أبو أمية: الفخر يأبى والسيادة تحجر ... أن يستبيح حمى الوفاء مزور وعليك أن ترضي بسمع ملامة ... عنّي السناء وعهده لا يُفخر ولديّ أن نفث الصديق لراحة ... صبر الوفي وشيمة لا تغدر وكتب إليه أبو العباس الغرباقي: أما ترى اليوم يا ملاذي ... يحكيك في البشر الطلاقه والقلب يرتج مثل قلب ... راقب من إلفه فراقه والجو صافي الأديم زهر ... مدّ على أرضه رواقه فامنن بمشي إليه إنّي ... مالي على الصبر عنه طاقه فأجابه أبو أمية: عندي لما تشتهي بدار ... يشهد أني عل علاقه فاخبر بما شئت صدق عهدي ... تجد دليلا على الصداقه واسكن إلى رأي ذي احتفاء ... يعجز من رامه لحاقه يطلع برّ الصديق بدرا ... أمّنه عمره محاقه وكتب إلى أبي العباس المذكور: كتبت وعندي للنزاع عزيمة ... تسهل تجشيم اللقاء على بعد ومعهد أنس ما عهدت تحفيا ... فهل مقرض بري ومستقرض حمدي وإن عاق من عهد لبرك عائق ... تلطفت في العذر الجميل إلى ودّي وكتب إليه كاتبه باق وهو بالعدوة، بهذه الأبيات: قصي الدار في أسر الغرام ... أليم القلب من وقع الملام يضاهي دمعه دمع الغوادي ... ويحكي شجوه شجو الحمام وتذكره البدور سنا وجوه ... زهاها الحسن عن حمل اللثام ترق له الرياح فتقتضيه ... إذا هبّت تحية مستهام ولولا طاعة ملكت قيادي ... لأبلج في الذؤابة من عصام لما آثرت بعدا عن حبيب ... تجرع بعده غصص الحمام فأجابه أبو أمية: ذخرنا البر من لطف النظام ... ومال برأينا سحر الكلام وعندي للمطيع مطاع أمر ... يجرد للقاء ظبي اعتزام الفقيه الإمام الحافظ أبو بكر ابن عطية ذكر أنه حافظ الحديث النبوي، وضابط المسموع منه والمروي، وشيخ العلم وحامل رايته، والعارف بالأدب وروايته، طال عمره، وطار ذكره، وطاب نشره، وطاف في الآفاق نظمه ونثره. فمن شعره قوله يحذر من أهل الزمان: كن يذئب صائد مستأنسا ... وإذا أبصرت إنسانا ففر إنما الإنسان بحر ما له ... ساحل فاحذره إياك الغرر واجعل الناس كشخص واحد ... ثم كن من ذلك الشخص حذر وقوله في الزهد: أيها المطرود عن باب الرضا ... كم يراك الله تلهو معرضا كم إلى كم أنت في جهل الصبا ... قد مضى عمر الصبا وانقرضا ثم إذا الليل دجت ظلمته ... واستلذ الجفن أن يغتمضا فضع الخد على الأرض ونح ... واقرع السن على ما قد مضى وقه في هذا المعنى: قلبي يا قلبي المعنًّي ... كم أنا أدعى فلا أجيب كم أتمادى على ضلال ... لا أرعوي لا ولا أنيب ويلاه من سوء ما دهاني ... يتوب غيري ولا أتوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 931 وا أسفي كيف برء دائي ... داء كما شاءه الطبيب لو كنت أدنو لكدت أشكو ... ما أنا من بابه قريب أبعدني منه سوء فعلي ... وهكذا يبعد المريب ما لي قدر وأي قدر ... لمن أحلت به الذنوب وله في الزهد أيضاً: لا تجعلن رمضان شهر فكاهة ... تلهيك فيه من القبيح فنونه واعلم بأنك لا تنال قبوله ... حتى تكون تصومه وتصونه وله في المعنى: إذا لم يكن في السمع مني تصاون ... وفي بصري غضّ وفي مقولي صمت فحظي إذن من صومي الجوع والظما ... وإن قلت إني صمت يومي، فما صمت وله يعاتب بعض إخوانه: وكنت أظن أن جبال رضوى ... تزول وأنّ ودك لا يزول ولكن الأمور لها اضطراب ... وأحوال ابن آدم تستحيل فإن يك بيننا وصل جميل ... وإلا فليكن صبر جميل وله: كيف السلو ولي حبيب هاجر ... قاسي الفؤاد يسومني تعذيبا لما درى أن الخيال مواصلي ... جعل السهاد على الجفون رقيبا ابنه الوزير الفقيه الحافظ القاضي أبو محمد عبد الحق ابن عطية قرظه بأنه فرع أصل العلاء، ونبع دوح الذكاء، وهو في كل علم علم، وله في كل معرفة يد وقدم. وأورد من نظمه المستجاد ما يتضوع كباء، ويتضوح ذكاء، فمن ذلك قوله من قصيدة: وليلة جبت فيها الجزع مرتديا ... بالسيف أسحب أذيالا من الظلم والنجم حيران في بحر الدجى غرق ... والبرق فوق رداء الليل كالعلم كأنما الليل زنجي بكاهله ... جرح فيثعب أحيانا له بدم وله يتخلق بأخلاق الشيب قبل المشيب من قطعة: سقيا لعهد شباب ظلت أمرح في ... ريعانه وليالي العيش أسحار ايام روض الصبا لم تذو أغصنه ... ورونق العمر غض والهوى جار والنفس تركض من تضمير شرتها ... طرفا له في رهان الفتك إحضار عهدا كريما لبسنا منه أردية ... كانت عيونا ومحت وهي آثار مضى وأبقى بقلبي منه نار أسى ... كوني سلاما وبردا فيه يا نار وله في الأمير عبد الله ابن مزدلي وقد قفل منصورا في بعض غزواته: ضاءت بنور إيابك الأيام ... فاعتز تحت لوائك الإسلام أما الجميع ففي أعم مسرة ... لما انجلى بظهورك الاظلام ومنها: كم صدمة لك في العدى مشهورة ... غصّ العراق بذكرها والشام في مأزق فيه الأسنة والظبي ... برق ونقع العاديات غمام والضرب قد صبغ النصول كأنما ... يجري على ماء الحديد ضرام والطعن يبتعث النجيع كأنما ... ينشق عن زهر الشقيق كمام وله يصف روضا ونرجسا غضا: نرجس باكرت منه روضة ... لذّ قطع الروض فيها وعذب حثّت الريح بها خمر حيا ... رقص النبت لها ثم شرب فغدا يسفر عن وجنته ... نوره الغض ويهتز طرب خلت لمع الشمس في مشرقه ... لهبا يحمله منه لهب وبياض الطل في صفرته ... نقط الفضّة في خط الذهب ومن نثره: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 932 فأول ما أقول في شكره الذي أفعم الأفق طيبا، وأسمع الصم خطيا واعتقادك في جهتي أن الوشاة أثنوا بالذي عابوا، وصافت سهامهم فما أصابوا، الغواة لا يتركون أديما صحيحا، ولا يدرون في المعالي رأيا رجيحا، بل يتسنمون إلى ذوائب الشرف بالأذى، ويطرقون المشارب الزرق الجمام بالقذى، فإن ألفوا مهزا، أوصادفوا الشفرة محزا، سدوا وألجموا وصرخوا بالغضاضة وهيمنوا، وأي حيلة فيمن يخلق مايقول، وإني بالخلاصة والسلامة من الناس شيء ما إليه سبيل، وما زلت مذ صحبت الأمجاد، وثافنت الحساد، أجعل هذه الأمور دبر الأذن، وأقنع لها بابلاء التجارب والفتن، علما بأن سري سيبينه اطراد الإعلان، وأن قول الغوي ستفضحه شواهد الامتحان، وبأواخر الأمور يقضى للأوائل، والله عز وجهه عند لسان كل قائل، ولو تتبعت كل وشاية بالتكذيب، وأجبت كل نعيق ونعيب، لما اتسع لغير ذلك العمر، ولا استراح من وساوسه الفكر، وعياذا أن يخفى الصواب بين عهدك الوفي، وظنك الألمعي، وتثبتك الشرعي، والله تعالى يعمر بالسؤدد ريعك، ويوسع بحمل أثقال المعالي وأعبائها ذرعك، ويجعل من كفايته ووقايته جنَّتَكَ من الزمن ودرعك. وله من كتاب تعزيه إلى الأمير عبد الله ابن مزدلي بمصاب أخيه المستشهد: أدام الله تأييد الأمير الأجل محروسة بحسام القدر جوانبه، مكتنفة بجنن السعد مذاهبه، جارية مسرى الأنجم مراتبه، وأطال بقاءه، جابر صدوع الرئاسة عند انفصامها، وخلف سلف النفاسة وسطى نظامها، ولا زال توزن به الأوائل فيرجع، ويعارض بعزته بهيم النوائب فيصيح. كتبته من فؤاد دام، ودمع هام، ولب حائر، وقلب في جناحي طائر، ونفس يجري بذوبها النفس، ولا تفيق إلا ريثما تنتكس، بهذا الطارق المطرق، والنبأ المغص المشرق، والضارب بين مفرق الإسلام وجبينه، والمغيل في غيل الملك وعرينه، مصاب أخيك سقى الله ثراه، وضوأ بأنوار الشهادة أفقه وذراه، وبرد له بنوافح الرحمة مضجعا، وأزجى إليه الغوادي مربعا ثم مربعا، هلال ملك بادره السرار عند إبداره، ودوح مجد هصرته المنون أوان إثماره، حين مالت به الرئاسة كما اهتز الغصن تحت البارح، وافتر بابه عن شباة القارح، فإنا لله وإنا إليه راجعون تسليما فيه للقضاء المصمم، وتأسفا منه على فرد يفدي بالخميس العرمرم، ولله دره حين التقت عليه الفوارس وحمى الوطيس واشتد التداعس، وعظم المطلوب فقل المساعد، وهب من سيفه مولى نصله لا يجارد، فرأى المنية، ولا الدنية، وجرع الحمام، ولا النجاء برأس طمرة ولجام، فشمر عن أكرم ساعد وبنان، وقضى حق المهند والسنان، ولبس قلبه فوق درعه، ولم يضق بالجلاد رحيب ذرعه. وأثبت في مستنقع الموت رجله ... وقال لها من تحت أخمصك الحشر ومضى وقد وقع على الله أجره، ورفع في عليين ذكره، وخلد في ديوان الشهادة فخره ولا غرو أن عض الزمان في غارب، فالشر لا يحسب ضربة لازب، أو أناخ كلكله مرة، فالعيش طورا شماس وطورا غرة، ومثلك، دام أمرك من حلب الدهر أشطرا، وعرف الأيام بطونا وأظهرا، وخبر امتزاج النعم بالنوائب، وغني بفهم التجارب، يرغم بجميل الصبر أنف الحادث، ويفل بلامة الجلد جد الكارث، ويعلم أن الدهر وإن سر حينا فهمه ناصب، والدنيا إذا أخضر منها جانب جف جانب، فأنت أعلى الله يدك أثقف قناة، وأصلد صفاة، وأصلب على البري عودا، وأثقب مع الوري زنودا، من أن يضعضع الريب لهضبة عزمك ركنا، أو يعمر الخطب بساحة حلمك مغني، أو يقذف الدهر عليك بصرف، أو يبدع إلا بسجية وعرف لا يعتب الجازع الزمن، ولا يرد الفائت الحزن، والله عز وجل يلم بسعدك الشعث ويرأب الشعب، ويضفي من رئاستك الذوائب ويعلي الكعب، ويذيق الذين يضاهونك هونك، ويجعل الذين يحسدونك دونك. وله يصف فحما: جعلوا القرى للقر فحما حالكا ... قدح الزناد به فأورى نارا فبدا دبيب السقط في جنباته ... كالبرق في جنح الظلام أنارا ثم انبرى لهبا وثار كأنه ... في الحرق ذو حرق يطالب ثارا فكأنه ليل تفجر فجره ... نهرا فكان على المقام نهارا وله في الوداع: أستودع الله من ودعته ويدي ... على فؤادي خوفا من تصدّعه بدر من الود حازته مغاربه ... فالنفس قد أشخصت طرفا لمطلعه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 933 أتبعته بعد توديعي له نظرا ... إنسانه غرق في بحر أدمعه ما أوجع البين في قلب الكريم غدا ... يفارق المجد في ثوبي مودّعه يذيقه البين تعذيبا ويمنعه ... من أن يطير شعاعا أسر أضلعه يسطو به البين مغلوبا فليس سوى ... تململ في فراش من تفجعه وله يصف الزمان وأهله: داء الزمان وأهله ... داء يعزّ له العلاج أطلعت في ظلماته ... ودّا كما سطع السراج لصحابة أعيا ثقا ... في من قناتهم اعوجاج كالدر ما لم تختبر ... فإذا اختبرت فهم زجاج ومن مكاتبة له: لا زال منهلّ سحاب العدل، ممتدّ أطناب الظل، مخضر جوانب الفضل، لا يقرع باب أمل إلا ولجه، ولا يعن لما تكره النفوس من أمر إلا فرّجه. كتبته عن منبر ودك الذي لا تخبو ناره، ولا تأفل عندي شموسه وأقماره، ونظير عهدك الذي لا يخلع لبسة الكرم، ولا يزداد إلا طيبا على القدم، وعطر حمدك الذي بنوافجه أحاور وأحاضر، وبمحاسنه أباهي وأكاثر، والله تعالى يملأ بمحامدك أسماعا ويطلق ألسنا، ويبقيك للفضل عينا كريمة وأثرا حسنا، ويديم ما بيننا في ذاته زكي الفروع ثابت الأصول حصين الشّكّة مرهف النصول. ورد كتابك الكريم روضة الحزن، غب المزن، وحديقة الزهر، تبسمت لوفد المطر، تتجارى إلى محاسنه العين والنفس، ويترقرق من خلاله الأنس، فانتهيت منه إلى ما ما يقتضي رضى وتسليما، ويسر كما سمي اللديع سليما أطل عليهم إطلال الفجر على الظلام، وأخذ هنالك بضبع الإسلام، وأقام مرة كالحية النضناض، وطورا كالأسد القضقاض، يسرب إلى محلتهم من يضرم نار الحرب في أكنافها، ويأتي أرضهم ينقضها من أطرافها، ولولاه ما علا هنالك للإسلام اسم، ولا حيي للمدافعة رسم ولا لاح للمكافحة وسم، ولا عنّ لتلك العلل المجهولة على تلك الأقطار جسم، ولكنه ركب صعب الأهوال وصدق الصيال، وهي أقطار أن لم تقم القوة منها ميلا وجنفا، ويستعمل الجد لها نظرا أنفا، وإلا فعقدها بمدرج نثار، وهي في طريق انتكاث وعثار، والله يكفي المسلمين فيها، وينعم عليهم بتلافيها. الوزير الفقيه الحسيب المشاور القاضي أبو الحسن ابن أضحى وصفه بالنسب المضي، والحسب الرضي، والشرف الباذخ، والعلم الراسخ، والحلم الراجح، والعلم الصالح، والمحتد القديم، والعنصر الكريم، والمعشر الأكابر، الموروث مجد أوائلهم للأواخر، إن سخا فالغيث، أو سطا فالليث، له الوقار والسكينة واللبث، وفي المعالي الإسراع وعن الدنايا الإبطاء والمكث، قال: وبما أحليه وعنه تقصر الحلي، وبه يتزين الدهر ويتحلى، ما عرفت له صبوة، ولا حلّت له في محظور حبوة، وقد تولى القضاء وحكم بالعدل، وأتى بالخطاب الفصل. ومن شعره المعتدل المزاج، المشتعل السراج، العذب المجاج، الرحب الفجاج، قوله في جواب شفيق رفيع: ومستشفع عندي بخير الورى عندي ... وأولاهم بالشكر مني وبالحمد وصلت فلما لم أقم بجزائه ... لففت له رأسي حياء من المجد قال صاحب قلائد العقيان: كان لصاحب البلد الذي تولى القضاء به ابن من أحسن الناس صورة، وكانت محاسن الأقوال والأفعال عليه مقصورة فكتبت إلى القاضي فيه مداعبا له فراجعني بهذه القطعة: أتتني أبا نصر نتيجة خاطر ... سريع كرجع الطرف في الخطرات فأعربت عن وجد كمين طويته ... بأهيف طاو فاتر اللحظات غزال أحم المقلتين عرفته ... بخيف مني للحين أو عرفات رماك فأصمى والقلوب رمية ... لكل كحيل الطرف ذي فتكات فظن بأنّ القلب منك محصب ... فلباك من عينيه بالجمرات تقرب بالنساك من كلّ منسك ... وضحى غداة النحر بالمهجات وكانت له جيان مثوى فأصحبت ... ضلوعك مثواه بكلّ فلاة يعز علينا أن تهيم فتنطوي ... كئيبا على الأشجان والزفرات فلو قبلت للناس في الحب فدية ... فديناك بالأموال والبشرات وله: يا ساكن القلب رفقاكم تقطّعه ... الله في منزل قد ظلّ مثواكا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 934 يشيّد الناس للتحصين منزلهم ... وأنت تهدمه بالعنف عيناكا والله والله ما حبي لفاحشة ... أعاذني الله من هذا وعافاكا وله يتوجع من الفراق ويصف الوداع: أزف الفراق وفي الفؤاد كلوم ... ودنا الترحل والحمام يحوم قل للأحبة كيف أنعم بعدكم ... وأنا أسافر والفؤاد مقيم قالوا الوداع يهيج منك صبابة ... ويثير ما هو في الهوى مكتوم قلت اسمحوا لي أن أفوز بنظرة ... ودعوا القيامة بعد ذاك تقوم وله إلى الأمير عبد الله ابن مزدلي من قطعة: يا أيها الملك مضمون لك الظفر ... أبشر فمن جندك التأييد والقدر ومنها: وقد طلعت على البيضاء من كثب ... كما تطلّع من جنح الدجى القمر حللت في أرضنا في جحفل لجب ... كما يحل بها في الأزمة المطر وحولك الصيد من لمتونة وهم ال ... أبطال يوم الوغى والأنجم الزهر والعرب ترفل فوق الغرب سابحة ... كالأسد ليس لها إلا القنا ظفر من كل أروع وضّاع عمامته ... كالبدر نحو لقاء البدر يبتدر شعراه البر والتقوى ومؤنسه ... في ليله رمحه والصارم الذكر ذؤابة المجد من قحطان كلهم ... أبوهم حمير ذو المجد أو مضر الفقيه الكاتب أبو عبد الله اللوشي وصفه بالشيمة المشيمة منها بارقة الوفاء، والسريرة المديمة له بحسن السيرة ديمة الصفاء، والفضل المحتوية عليه أثوابه، والنبل المنتمية إليه آدابه، ووصمه بعد ذلك بالخلق الحرج، والعطن الضيق اللجج، وأورد من نظمه ونثره، ما يعرب عن رفعة قدره، فمن ذلك من قطعة راجع بها أبا القاسم ابن السقاط: لله أبيات أتتنا خمسة ... مثل الفرند نظمن نظم الجوهر جمعت من السحر الحلال محاسنا ... من كل معنى رائق مستندر سوَّى وشيعتها لسان حائك ... ووشى سداها خاطر كالسمهري فأتت حبيبا أن يفوه بمثلها ... وأتت بما يزري بنبل البحتري فالبس هنيئا برد مجد سابغ ... واسحب ذيولك زاهيا وتبختر وله من رسالة إلى الفقيه عبد الحق ابن عطية: أطال الله بقاءك مخدوما بأيدي الأقدار، معصوما من عوادي الليل والنهار، مكتنفا من لطائف الله الخفية، وعوارف صنائعه الحفية، بما يدفع عن حوزتك نوائب الخطوب، ويصنع لك في طي المكروه نهاية المحبوب، لله تعالى أقدار لا يتجاوز مداها، وأحكام لا تخطئ مراميها ولا تتخطاها، وآثار يحلها المرء ويغشاها، ولهذا من كتبت عليه خطى مشاها، غير أنه قد يخير الله لعبده في الأمر المكروه، ويلبسه في أثناء المحنة ثوبا من المنحة لا يسروه، فمن الحزامة لمن تحقق بالأيام ومعرفتها، وعلم صروف الليالي بكنه صفتها، أن يضحى عند الخطوب شهما يواثبه، ولا يتوقى ظهر ما هو راكبه، إذ لا محالة أن العيش ألوان، وأن حرب الزمان عوان، وحتم أن يستشعر الصبر والجلد مناوي الرجال، ويقرر في نفسه أن الأيام دول وأن الحرب سجال، ويعتقد أ، ما يعرضه في خلال النضال من زخز الكفاح، ويعترضه بمجال الرجال من حفز الرماح، غمار يقلع، وغبار يقشع، لا سيما إذا كان الذي أصابه جرح أشواه، وسهم غرب صاف عن المقتل إلى سواه، ثم أجلت الحرب عن قرنه ترب الجبين، شرقاً بدم الوتين، وقد اربت لذة غلبه، وفرحة منقلبه، على ما غاله من وصبه، وناله من تجشم نصبه، وراح بعزة الظفر، وهزة بلوغ الأمل وقضاء الوطر وأيم الله يا سيدي تكدر بعدك المحيا، ونغص فراقك الدنيا، واقشعرت بعدك النعمى، وأصبح طرف لا أراك به أعمى، إلى أن وافى راجلك بشيرا، فاغتديت جذلا وارتددت بصيرا، وقلت عودة من الزمان، وعطفة من درك الآمال والأمان، فالحمد لله الذي وهب هذه المسرة بتمامها، وأطلق النفس من عقلة اغتمامها، والشكر له على ما من به من إيابك، وأنعم فيه من فيئتك واقترابك، فإنها النعمة المالكة خلدي، المالئة لساني ويدي، التي هي أحلى من الأمان، وأسنى من كرة العمر وعودة الزمان. الفقيه الحافظ القاضي أبو الفضل عياض بن موسى ابن عياض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 935 توفي بفاس سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. وصفه بالاعتناء بعلوم الشريعة، واختصاصه برتبتها الرفعية، والانتباه للنباهة، والاتجاه للوجاهة، وكان كبير الشان، غزير البيان، وأورد من نثره رقعة ذكر أنه كتبها على يدي تحية للرئيس أبي عبد الرحمن ابن طاهر وهي: عمادي أبا نصر، مثنى الوزارة وحيد العصر، هل لك في منة تفوت الحصر، تخف محملا، وتبلغ أملا، وتشكر قولا وعملا، شكرا تترنم به الحداة ثقيلاً ورملا، إذا بلغت الحضرة مسلما، ولقيت الطاهر ابن الطاهر فخر الوزارة مسلما، وحللت من فنائه الأرحب حرما، ولمست بمصافحته ركن المجد يندي كرما، فقف شوقي بعرفات تلك المعارف، وأنسك شكري بمشاعر تلك العوارف، وأطف إكباري بكعبة ذلك الجلال سبعا، وبوئي لودادي في مقر ذاك الكمال ربعا، وأبلغ عني تلك الفضائل سلاما، يلتئم بصريح الحب التئاما، ويحسن عني بظهر الغيب مقاما، ويسير عني بارح الجد إنجادا وإتهاما. وله إليه: أبا النصر إن شدّوا رحالك للنوى ... فإن جميل الصبر عنك بها شدّوا وإن تتركوا قلبي مقيما وترحلوا ... فماذا ترى في مهجة معكم تغدو ومن شعره قوله: عسى تعرف العلياء ذنبي إلى الدهر ... فأبدي له جهد اعترافي أو عذري فقد حال ما بيني وبين أحبة ... ألفتهم إلف الخمائل للقطر هم أودعوا قلبي تباريح لوعة ... بنانهم أذكى وأنكى من الجمر على أن لي سلوى بأنّ فراقهم ... فإن طال لم يمزج بصد ولا هجر سأفزع للريح الشمال لعلّني ... أحمّلها نجوى تلجلج في صدري تبلغ منها للوزير تحية ... معطرة الأرجاء دائمة النشر تظلله من حر كل هجيرة ... وتؤنسه في وحشة البلد القفر وتنبئه أني أكنّ صبابة ... لحسن بدا في غير شعر ولا شعر أهزّ بها عطفيّ من غير نشوة ... وأرخي بها ذيلا من التيه والكبر وإني أشدو في النّوادي بذكره ... كما شدت الورقاء في الغصن النضر أجل، وعساها أن تبلغ مهجتي ... فأبلي بها عذري وأقضي بها نذري وله في زروع بينها شقائق النعمان: أنظر إلى الزرع وخاماته ... تحكي وقد هبت عليها الرياح كتيبة خضراء مهزومة ... شقائق النعمان فيها جراح وله عند ارتحاله من قرطبة، أنشدني الفقيه اليسع بمصر قال أنشدني القاضي عياض لنفسه: أقول وقد جدّ ارتحالي وغرّدت ... حداتي وزمًّت للفراق ركائبي وقد غمضت من كثرة الدمع مقلتي ... وصارت هواء من فؤادي ترائبي ولم تبق إلا وقفة يستحثها ... وداعيَ للأحباب لا للحبائب رعى الله جيرانا بقرطبة العلى ... وجاد رباها بالعهاد السواكب وحيَّا زمانا بينهم قد ألفته ... طليق المحيا مستلان الجوانب أإخواننا بالله فيها تذكروا ... معاهد جار أو مودّة صاحب غدوت بهم من برّهم واحتفائهم ... كأني في أهلي وبين أقاربي وله في لزوم ما لا يلزم المتشابه: إذا ما نشرت بساط انبساط ... فعنه فديتك فاطو المزاحا فإنّ المزاح كما قد حكى ... أو لو العلم قبل عن العلم زاحا أي بعد. قال صاحب قلائد العقيان: خرجنا لنزهة فلما انصرفنا أصاب غفارتي شوك شقّها فلما وصلت موضعي أمر ببعثها إليه فتأخرت وحضرت الجمعة فكتبت إليه معاتبا في توقفها: قد بقيت أعزك الله كالأسير، ولقيت التوحش بجناح كسير، إن أردت النهوض لم تنهض، وليت من لا يريش لم يهض، وقد غدوت من المقام، في مثل السقام، فلتأمر من يردها، لعلي أحضر الصلاة وأشهدها، لا زلت سريا، تطلق من يد الوحشة محبوسا بريا. قال، فكتب في جوابه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 936 أدام الله يا وليي جلالك، وأبقى حليا في جيد الدهر خلالك، الغفار عند من ينر فيها، وقد بلغت غير مضيع تلافيها، ونرجو تمامها قبل الصلاة وإدراكها، وتصل مع رسولي وكأنما قد شراكها، وإن عاق عائق، فليس مع صحى الود مضائق، والعوض رائق لائق، وهو واصل، وأنت بقبوله مواصل، والسلام ما ذر شارق، وأومض بارق. ومن شعره: لك الخير ندي لهذا الودا ... ع عقل يهيم وعقل يراع يعز علينا تنائي الديار ... وذاك سلامك لي والوداع لكم أمل كان لي في اللقاء ... وأمنية قد طواها الزماع فلم أجن منها سوى حسرة ... فوجد جميع وأنس شعاع لئن حمل القلب ما لا يطاق ... فما كلف الجفن لا يستطاع الفقيه القاضي أبو الحسن ابن بياع ذكر أنه صاحب وقار وسكون، وروضة أزهار وعيون، ودوحة أفنان وفنون، وبحر علم علت قيمة درره، وهطلت ديمة غرره، رواية شعر العرب ورجزها، والعارف بمطول المعاني وموجزها، وله في الطب يد حاذق، ومعرفة موفق موافق، وأورد من شعره قوله في صفة الربيع: أبدت لنا الأيام زهرة طيبها ... وتسربلت بنضيرها وعشيبها واهتزّ عطف الدهر بعد خشوعها ... وبدت بها النعماء بعد شحوبها وتطلعت في عنفوان شبابها ... من بعد ما بلغت عتيَّ مشيبها وقفت عليه السحب وقفة راحم ... فبكت لها بعيونها وقلوبها فعجبت للأزهار كيف تضاحكت ... ببكائها وتباشرت بقطوبها وتسربلت حللا تجر ذيولها ... من لَدْمها فيها وشق جيوبها ولقد أجاد المزن في إنجادها ... وأجاد حر الشمس في تربيبها ما أنصف الخيري يمنع طيبه ... لحضورها ويبيحه لمغيبها وهي التي قامت عليه بدفئها ... وتعاهدته بدرها وحليبها فكأنّه فرض عليه موقت ... ووجوبه متعلق بوجوبها وعلى سماء الياسمين كواكب ... أبدت ذكاء العجز عن تغيبها زهر توقد ليلها ونهارها ... وتفوت شأو خسوفها وغروبها فضلت على سير النجوم بسيرها ... وسروِّها ف الخلفتين وطيبها فتأرّجت أرجاؤها بهبوبها ... وتعانقت أزهارها بنكوبها وتصوبت فيها فروع جداول ... تتصاعد الأبصار في تصويبها تطفو وترسب في أصول ثمارها ... والحسن بين طفوّها ورسوبها فكأنما هي موحشات أساود ... تنساب بين نقابها ولصوبها فأدر كؤوس الأنس في حافاتها ... واجعل سديد القول في مشروبها فحديث إخوان الصفاء لذاذة ... تجنى ويؤمن من حمالة حوبها واركض إلى اللذات في ميدانها ... واسبق لسد ثغورها ودروبها أعريت خيلك صيفها وخريفها ... وشتاءها هذا أوان ركوبها أو ما ترى الأزهار ما من زهرة ... إلا وقد ركبت فقار قيبها والطير قد خفقت على أفنانها ... تلقي فنون الشدو في أسلوبها تشدو وتهتز الغصون كأنما ... حركاتها رقص على تطريبها وله في فتح: كذا تصان السيوف في الخلل ... ويفخر الحظ بالقنا الذيل وتكرم الخيل في مرابطها ... بر الفتاة العَرُوب بالرجل ويعطف النبع كالحواجب أو ... أحنى وتُمقى السهام كالمقل ويؤثر النثرة الكمي إذا ... خير بين الدروع والحلل فتح أنارت له البلاد كما ... أشرفت المقربات للنهل هدّت له الروم هدة ملأت ... قلوب أبطالهم من الوجل فما أطاقوا الولوج في نفق ... وما أطاقوا الصعود في جبل ألقوا بأديهم فلا سبب ... يفرق بين القناة والبطل فمجرءى الأسد في مرابضها ... كمجرئ الغانيات في الكلل وربما لم تقم مناصلها ... مقام تلك اللواحظ النجل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 937 تغامسوا في الدروع زاخرة ... كي يسلموا من حرارة الأسل فما أفادتهم الدروع سوى ال ... نقلة من خفّة إلى ثقل كأنّهم والرماح تحفزهم ... جري فِصَالٍ سلكن في الوحل جاءوا بها زغفا مضاعفة ... قد أخلصت بالحديد والعمل مثل عيون الدبا فصيرها ... دم وطعن كأعين الحجل هناك سل بالوزير من شهد ال ... حرب وإن كنت شاهدا فقل ولا تخف إن حكيت مغربة ... عنه مقام المكذّب الخطل فإنه الأوحد الذي ترك ال ... هر بلا مشبه ولا مثل حدِّث بما شئت عنه من حسن ... وعظّم الأمر ثم لا تسَل ففضله يبهر الأهلّة في ... سعودها والشموس في الحمل وذكر أنه كتب إليه مراجعا من قصيدة: هوى منجد يلقى به الليل متهم ... يصرّح عنه الدمع وهو مجمجم ومنها: لأجفانه من كل شيء مؤرق ... ومن أين للمشتاق شيء ينوم وليس الهوى ما الرّأي عنه مزحزح ... ولكنه ما الرأي فيه مفخم ومنها: ولولا أبو نصر ولذّات أنسه ... تقضَّت حياتي كلها وهي علقم فتى فتح الله المعارف باسمه ... ومن دونه باب من الجهل مبهم وقوله: أرى بارقا بالأبلق الفرد يومض ... يذهِّب جلباب الدجى ويفضِّض كأن سليمى من أعاليه أشرفت ... تمد لنا كفا خضيبا وتقبض إذا ما توالى ومضه نفض الدجى ... له صبغة المسودِّ أو كاد ينفض أرقت له والقلب يهفو هفوّه ... على أنّه منه أحرّ وأرمض وبت أداري الشوق والشوق مقبل ... عليَّ وأدعو الصبر والصبر معرض وأستنجد الدمع الأبيًّ قياده ... فتنجدني منه جداول فيّض وأعذل قلبا لا يزال يروعه ... سنا النار يستشري أو البرق يومض تظنهما ثغر الحبيب وخدّه ... فذا ضاحك منه وذا متعرّض إذا بلغت منك الخيالات ما أرى ... فأنت لماذا بالشخوص معرض إلى أن تعرّى عن سنا الصبح سدفة ... كما انشق عن صفح من الماء عرمض ومدت إلى الغرب النجوم مروعة ... كما نفرت عير من السيل ركَّض وأدركها من فجأة الصبح بهتة ... فتحسبها فيه عيونا تمرّض كأن الثريا والغروب يحثها ... لجام على رأس الدجى وهو يركض وما تمتري في الهقعة العين أنها ... على عاتق الجوزاء قرط مفضض ومنها في صفة الحرب: سل الحرب عنه والسيوف جداول ... تدفَّق والأرماح رقط تنضنض وبالأرض من وقع الجياد تمدد ... ولكنه مما يروم تقبض وبالأفق للنقع المثار سحائب ... مواخض لكن بالصواعق تمخض وقد سهكت تحت الحديد من الصدا ... جسوم بما علَّت من المسك ترحض ومدّت إلى ورد الصدور عيونها ... صدور العوالي والعيون تغمض وأشرفت البيض الرقاق إلى الطلى ... لتكرع فيها والرؤوس تخفض فلست ترى إلا دماء مراقة ... تخاض إلى أكباد قوم تخضخض وقوله من أخرى: جهلت وقد علاك الشيب أمرا ... يقوم بعلمه الطفل الرضيع ولولا ذاك ما قدرت أني ... أنوء بحمل ما لا أستطيع فحسبك أو فحسبي منك دهر ... يشت بصرفه الشمل الجميع وشوق تقتضيه نوى شطون ... فتقضي عنه واجبها الدموع حملت الحب مؤتما عليه ... فكيف تضيع ذلك أو تذيع لقد جشمت نفسك متلفات ... بكل ثنية منها صريع وحال الصب تخضبه دموع ... كحال القرن يخضبه النجيع وقد تحمي الدروع من العوالي ... ولا تحمي من الحدق الدروع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 938 وربّ فتى تراع الأسد منه ... يقنِّص قلبه الرشأ المروع وقوله: لهواك في قلبي كريقك في فمي ... غيري يقول: الحب مر المطعم فأدر علي بمقلتيك كؤوسه ... حتى يدبّ خماره في أعظمي إن التلذذ في هواك تلذذ ... لو كان أقتل من ذعاف الأرقم أحبب بحب لا يثير ملامة ... ملئت بمؤلمه عيون اللوم شغل النواظر والقلوب ولم يدع ... من لم يسمْه من الأنام بميسم ومن العجائب شغل شيء واحد ... في الحال أمكنه ولم يتقسم وأقام أزمنة وليس بجوهر ... وجرى وليس بمائع مجرى الدم يا أيها القمر الذي إنسانه ... يرمي أناسا للعيون بأسهم لم أبد حبك غير أنّ جوانحي ... فاضت به فيض الإناء المفعم لا ذنب لي، علم الذي أسررته ... نظرا ولم أرمق ولم أتكلم وأمرت بالشكوى إليك وإنما ... ينمي إلى الإنسان ما لم يعلم ولربما لم تشكني فأماتني ... يأسي فذرني تحت أمر مبهم وتلافني قبل التلاف فإنني ... من حمير وسيأخذونك في دمي الطاعنين بكل أسمر داعس ... والضاربين بكلّ أبيض مخذم والواردين الصادرين إذا الوغى ... لفحت بجمرتها وجوه الحوم ولعلهم تسمو بهم هماتهم ... أن يدركوا في الظبي ثأر الضيغم وزاره نفر من إخوانه فقال فيهم عند تلقيهم بإحسانه: أهلا وسهلا بكم من سادة نجب ... كالذبل السمر أو كالأنجم الشهب أجملتم وتفضلتم بزورتكم ... وليس ينكر فضل من ذوي الحسب أضاء منزلنا من نور أوجهكم ... وطاب من عيشنا ما كان لم يطب الأديب أبو جعفر الأعمى التطيلي وصفه بالفهم الفائض، والذهن الدّرّاك لخفيات الغوامض، والبصيرة بأسرار المعاني بعين الإطلاع، والفكرة المستخرجة من معادن الفوائد فرائد الجواهر بيد الاضطلاع. إن فقد المرئيات لفقد ناظره، فقد أبصر مغيبات النكت بناظر خاطره، لم يفز حيا نجحه بالهطول، ولم تعز حياته بالطول، وقد أثبت له كل ما يعجب ويطرب، ويحظى به المستحلي له المستعذب. فمن ذلك قصيدة رثى بها بعض أعيان إشبيلية وقد اغتيل، ولم ير بعده إلا على عويله التعويل، فإنه كان له مفتقدا، وفي فضله معتقدا، وهي من سياراته التي بها الآفاق طنت، وارتاحت أسماع الرفاق إليها وحنت: خذا حدّثاني عن فُلٍ وفلان ... لعلَّ يرى باق على الحدثان وعن دول جسن الديار وأهلها ... فنين وصرف الدهر ليس بفان وعن خرمي مصر الغداة أمُتِّعَا ... بشرخ شباب أم هما هَرِمَان وعن مخلتي حلوان كيف تناءتا ... ولم تطويا كشحا على شنآن وطال ثواء الفرقدي بغبطة ... أما علما أن سوف يفترقان وزايل بين الشعريين تصرّف ... من الدهر لا وانٍ ولا متوان وإن تذهب الشعرى العبور لشأنها ... فإن الغظُمَيْضا في بقية شان وجنّ سهيل بالثرايا جنونه ... ولكن سلاه كيف يلتقيان وهيهات من جور القضاء وعدله ... شآمية ألوت بدين يمان فأجمع عنها آخر الدهر سلوة ... على طمع خلاّة للدبران وأعلن صرف الدهر لابنَيْ نُويرة ... بيوم ثناء غال كلّ تداني وكانا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر لو لم تنصرم لأوان وهان دم بين الدّكادك واللِّوى ... وما كان في أمثالها بمهان فضاعت دموع بات يبعثها أسىً ... يهيِّجه قبر بكلّ مكَان ومال على عبس وذبيان ميلة ... فأودى بمجني عليه وجان فعوجا على جفر الهباءة عوجة ... لضيعة أعلاق هناك ثماني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 939 دماء جرت منها التلاع بملئها ... ولا دخل إلا أن جرى فرسان وأيام حرب لا ينادي وليدها ... أهاب بها في الحرب يوم رهان فبات ربيع والكلاب تهرَّه ... ولا مثل مود من وراء عُمان وأنحى على ابني وائل فتهاصرا ... غصون الردى من كرّة ولدان تعاطى كليب فاستمر بطعنة ... أقامت لها الأبطال سوق طعان وبات عديٌّ بالذنائب يصطلي ... بنار وغى ليست بذات دخان فذلت رقاب من رجال أعزّة ... إليهم تناهى عزّ كل مكان وهبوا يلاقون الصوارم والقنا ... بكل جبين واضح ولبان فلا خدّ إلا فيه خَدّ مهند ولا صدر إلا فيه صدر سنان وصال على الجونين بالشعب فانثنى ... بأسلاب مطلول وربقة عان وأمضى على أبناء قيلة حكمه ... على شرس أدلوا به وليان ولو شاء عدوان الزمان ولم يشأ ... لكان عذير الحي من عدوان وأي قبيل لم يصدع جميعهم ... ببكر من الأرزاء أو بعوان خليلي أبصرت الردى وسمعته ... فإن كنتما في مرية فسلاني خُذَا من فمي هلا وسوف فإنني ... أرى بهما غير الذي تريان ولا تعداني أن أعيش إلى غد ... لعل المنايا دون ما تعدان أبا حسن ألق السلاح فإنها ... منايا وإن قال الجهول أماني أبا حسن إن المنايا وقيتها ... إذا أتلفت لم تتبع بضمان أبا حسن إحدى يديك رزئتها ... فهل لك بالصبر الجميل يدان أبا حسن هل يدفع المرء حينّه ... بأيد شجاع أو بكيد جبان أبا حسن أما أخوك فقد قضى ... فيا لهف نفسي ما التقى أخوان ونبهني ناع مع الصبح كلما ... تشاغلت عنه عنّ لي وعناني أغمِّض أجفاني كأني نائم ... وقد لجت الأحشاء في الخفقان بنفسي وأهلي أي بدر دُجنّة ... لستّ خلت من شهره وثمان وأي فتى لو جاءكم في سلاحه ... متى صلحت كف بغير بنان يقولون لا تبعد ولله دره ... وقد حيل بين العير والنزوان ويأبون إلا ليته ولعلّه ... ومن أين للمقصوص بالطيران تَوَقَّوْهُ شيئا ثم كروا وجعجعوا ... بأروع فضفاض الرداء هجان فتى كان يعروري الفيافيَ والدجى ... ذوات جماح أو ذوات حران قليل حديث النفس عما يريبه ... وإن لم يزل من ظنه بمكان أبيّ فإن يتبع رضاه فمصحب ... بعيد وإن يطلب جداه فدان لك الله خوّفت العدى وأمنتهم ... فذقت الردى من خيفة وأمان إذا أنت خوَّفت الرجال فخفهم ... فإنك لا تجزي هوى بهوان رياح وهبها عارضتك عواصفا ... فكيف انثنى أو كان ركن أبان بلى ربّ مشهور البلاء مشيع ... قتيل بمنخوب الفؤاد هدان أتيحت لبسطام حَيدَة عاصم ... فخر كما خرت سحوق ليان تداعت له أبيات بكر بن وائل ... ولم ترجعيه لا ظفرت بثان وحسب المنايا أن تفوز بمثله ... كفاك ولو أبقيته لكفاني سقاك كدمعي أو كجودك واكف ... من المزن بين السح والهملان شآبيب غيث لا تزال ملثة ... بقبرك حتى يلتقي الثريان أبا حسن وفّ اعتزاءك حقه ... فقد كنتما أرضعتما بلبان تماسك قليلا لست أول مبتلى ... ببين حبيب أو بغدر زمان وله يرثي: سل دمعيَ المبذول من حيلة ... لي أو له من نوميَ الممنوع وحنينيَ الموصول كيف تعرضت ... شبهاته لرجائيَ المقطوع لا تركننّ إلى الزمان وصرفه ... فتك الزمان بآمن ومروع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 940 يا وانيا يَأسى على ما فاته ... إن الونى طرف من التضييع ومداجيا تخذ الخديعة جُنة ... ألا أنفت لرأيك المخدوع دافع بعزمك أبو بجهدك إنها ... عزمات حكم ليس بالمدفوع وانظر بعينك أو بقلبك هل ترى ... إلا صريعا أو مثال صريع أبني عبيد الله أين سراتكم ... من عاثر بعنانه المخلوع دهر كأن صروفه قد جمعت ... من نثر منتظم وشتّ جميع يهْنِ البقيع وليته لم يَهَنِهِ ... قبر غدا شرفا بكلّ بقيع ومنها: وإذا عجبت من الزمان بحادث ... فلتابع يبكي على متبوع وإذا اعتبرت العمر فهو ظلامة ... والموت منها موضع التوقيع وله في المعنى: السوم حين لففت المجد في كفن ... نفسي الفداء على أن لات حين فدا يا حسرة ملأت بين الضلوع جوى ... ما ضر لاعجها أن لا يكون ردى في ذمة الله قبر ما مررت به ... إلا اختبلت أسى أن لم أمت كمدا أودى الزمان وكيف اسطاعه بفتى ... قد طال ما راح في أتباعه وغدا ملء القلوب جلالا والعيون سنا ... والحرب بأسا وأكناف النَّديّ ندى من لا يقدم في غير العلى قدما ... ولا يمد لغير المكرمات يدا كأنه كان ثأرا بات يطلبه ... حتّى رآه فلم يعدل به أحدا يا يوم منعي عبيد الله أي جوي ... بين الجوانح يأبى أن يجيب نِدَا وأي غرب مصاب لا يكفكفه ... دمعي الهتون ولا أنفاسي الصعدا ولا البلابل من مثنى وواحدة ... باتت تسلّ سيوفا أو تسن مُدَى ولا الهموم وقد أعيت طوارقها ... كأنّما بتن لي أو للدجى رصدا قل للدجى وقد التفت غياهبها ... فلو تصوب فيها الماء ما اطردا إن الشهاب الذي كنا نجوب به ... أجوازها قد خبا في الترب أو خمدا لهفي ولهف المعالي جار بي وبها ... صرف الردى وأرانا أيَّةً قصدا يا صاحبيَّ ولا يحبسكما ظمأ ... طال الحيام وهذي أدمعي فردا وحدثاني عن العليا وقد رزئت ... مسنونها اللدن أو مصقولها الفردا واه لها وترته ثم قد علمت ... أن لا تنال به عقلا ولا قودَا هل نافع والأماني كلها خدع ... قولي له اليوم: لا تبْعُدْ وقد بعدا وهل تذمم هذا الرزء من قلق ... قام المصاب به أضعاف ما قعدا أما ويوم عبيد الله وهو أسى ... لقد تخير منا الموت وانتقدا يا ماجدا أنجز العلياء موعده ... اليوم أنجز فيك الموت ما وعدا إن الفؤاد الذي ما زلت تعمره ... قد ريع بعدك حتى صار مفْتَأدا سل المنايا على علم وتجربة ... في أي شيء بغى الإنسان أو حسد تنافس الناس في الدنيا وقد علموا ... أن سوف تقتلهم لذاتها بددا تبادروها وقد آدتهم فشلا ... وكاثروها وقد أحصتهم عددا قل للمحدث عن لقمان أو لُبَدٍ ... لم يترك الموت لقمانا ولا لُبَدَا ولا الذي همّه البنيان يرفعه ... إن الردى لم يغادر في الشرى أسدا ما لابن آدم لا تفنى مطالبه ... يرجو غدا وعسى أن لا يعيش غدا وله يتغزل: بحياة عصياني عليك عواذلي ... إن كانت القربات مما تنفع هل تذكرين لياليا بتنا بها ... لا أنت باخلة ولا أنا أقنع وله: هو الهوى وقديما كنت أحذره ... والسقم مورده والموت مصدره يا لوعة رجلا من نظرة أمل ... الآن أعرف رشدا كنت أنكره جدّ من الشوق كان الهزل أوله ... أقل شيء إذا فكرت أكثره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 941 ولي حبيب دنا لولا تمنعه ... وقد أقول نأى لولا تذكره وله من قصيدة: سطا أسدا وأشرق بدرتم ... ودارت بالحتوف رحى طحون وأحدقت الرماح به فأعيا ... عليّ أهالة هي أم عين وله: مللت حمص وملّتني ولو نطقت ... كما نطقت تلاحينا على قدر وسوّلت لي نفسي أن أفارقها ... والماء في المزن أصفى منه في الغدر أما اشتفت مني الأيام في وطني ... حتى تضايق في ما عزَّ من وطري ولا قضت من سواد العين حاجتها ... حتى تكر على ما كان في الشعر وله يمدح أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين من قصيدة: كم مقلة ذهبت في الغي مذهبها ... بنظرة هي شان أو لها شان رهن بأضغاث أحلام إذا هجعت ... وربما حلمت والمرء يقظان فانظر بعقلك إن العين كاذبة ... واسمع بحسك أن السمع خوّان ولا تقل كل ذي عين له نظر ... إن الرعاة ترى ما لا ترى الضان دع الغنى لرجال ينصبون له ... إن الغِنَى لفضول الهم ميدان واخلع لبَوسَكَ من شُحّ ومن أمل ... لا يقطع السيف إلا وهو عريان وصاحب لم أزل منه على خطر ... كأنّني علم غيب وهو حسان أغراه حظ توخاه وأخطأني ... أما درى أن بعض الرزق حرمان ومن مديحها: إني استجرت على ريب الزمان فتى ... إن لا يكن ليث غاب فهو إنسان حسبي بعليا عليّ معقلا أشبا ... زمان سربي به في الأمن إيمان صعب المراقي ولكن ربما سهلت ... على المنى منه أوطار وأوطان ومنها في صفة الخيل: الواهب الخيل عقبانا مسوَّمة ... لو سوِّمت قبلها في الجوعقبان من كل ساع أمام الريح يقدمها ... منه مهاة وإن شاءت فسرحان دجنة نصف الأنوار غرتها ... ونبعة يدعي أعطافها البان عصا جذيمة إلا ما أتيح لها ... من أمر موسى فجاءت وهي ثعبان ومنها في صفة السيف: هيم رواء لو أن الماء صافحها ... لزال أو زل عنها وهو ظمآن يكاد يخلق مهراق الدماء بها ... فلا تقل هي أنصاب وأوثان موتى فإن خلعت أكفانها علمت ... أن الدروع على الأبطال أكفان نفسي فداؤك لا كفؤ ولا ثمن ... ولو غدا المشتري منها وكيوان والتبر قد وزنوه بالحديد فما ... ساوى ولكن مقادير وأوزان الوزير أبو العلاء ابن صهيب وصفه بالاستيلاء في حلبة الذكاء على السباق، والاعتلاء على رتبة الأكفاء والاستحقاق، وإصابة سهم الفهم إلى المرئي الخفي، وإهداء هدى الفكر البكر من فضائل ذوي الفواضل إلى الكفؤ الكفي. وذكر أنه صحب أبا أمية وبه شقي، ولقي من الهوان عنده ما لقي، وائتلفا على مماذقة، وغير موافاة ولا موافقة، وزعم أن له فيه أهاجي لم ير إثباته وقد أورد من شعره في مدحه أبياته وهي: ذكرت وقد نم الرياض بعرفه ... فأبدى جمان الطل في الزهر النضر حديثا ومرأى للسعيد يروقني ... كما راق نور الشمس في صفحة الدهر سريت وثوب الليل أسود حالك ... فشق بذاك السير عن غرة البدر فلا أفق إلا من جبينك نوره ... ولا نقش إلا في أناملك العشر حنانيك في بر النفوس لعلها ... تؤدي بلثم الكف عارفة البر وعندي حديث من علاك علقته ... يسير كما سار النسيم على النهر فيبلغ أقصى الأرض وهي عريضة ... ويهدي جَنِيّ النًّوْرِ من روضة الشعر ففي كل أفق من حديثك عاطر ... يسير به لفظي ويطلعه فكري ودونك مني قطعة الرّوض قطعة ... تحييك عن ودي وتنفح عن شكري وله إلى ذي الوزارتين الكاتب أبي بكر ابن القصيرة: كتبت على رسمي قبرّا بطالب ... رضاك وطولا من نهاك بأحرف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 942 أبَاهي بها عبد الحميد براعة ... وأحملها حمل الغريب المصنف الأديب أبو القاسم ابن العطار ذكر أنه أحد نحاة إشبيلية وأدبائها وظرفائها، الخالعين العذار وألبائها، لا يقبل ملاما في مدام، ولا يقتل غراما في غلام، ولا ينهر هواه عن نهر، ولا يبهر إلا بمزهر وزهر. وقد أورد من شعره في ذلك ما يتقلد به لبات الرياض، وتنظر عن فتونه وفنونه في السحر فاترات العيون المراض، فمن ذلك في وصف نهر ركبه، حين استعذبه وأعجبه: ركبنا على اسم الله نهرا كأنه ... حباب على عطفيه وشي حباب وإلا حُسَامٌ جال فيه فرنده ... له من مديد الظل أي قراب ول فيه: عبرنا سماء النهر والجو مشرق ... وليس له إلا الحباب نجوم وقد ألبسته الأيك برد ظلالها ... وللشمس في تلك البروج وجوم وله فيه: لله بهجة منزه ضربت به ... فوق الغدير رواقها الأنسام فمع الأصيل النهر درع سابغ ... ومع الضحى يلتاح فيه حسام وله فيه: مررنا بشاطي النهر بين حدائق ... بها حدق الأزهار تستوقف الحدق وقد نسجت كف النسيم مفاضة ... عليه وما غير الحباب لها حلق وله فيه: هبت الريح بالعشي فحاكت ... زردا للغدير ناهيك جنّه وانجلى البدر بعدهدء فصاغت ... كفّه للقتال منه أسنّه وله يصف عشية أنس: لا كالعشية في رواء جمالها ... وبلوغ نفسي منتهى آمالها ما شئت شمس الأرض مشرقة السنا ... والشمس قد شدت مطي رحالها في حيث تنساب المياه أراقما ... وتعيرك الأفياء برد ظلالها وله: لله حسن حديقة بسطت لنا ... فيها النفوس سوالف ومعاطف تختال في حلل الربيع وحليه ... ومن الربيع قلائد ومطارف وله فيالغزل: وسنان ما إن يزال عارضه ... يعطف قلبي بعطفة اللام أسلمني للهوى فواحزنا ... إن بزّني عفّتي وإسلامي لحاظه أسهم وحاجبه ... قوس وإنسان عينه رام وله: رقّت محاسنها ورقّ نعيمها ... فكأنّما ماء الحياة أديمها رشأ إذا أهدى السلام بمقلة ... ولى بلب سليمها تسليمها سكرى ولكن من مدامة لحظها ... واغضض جفونك فالمنون نديمها وله: الحب نسبح في أمواجه المهج ... لو مد كفا إلى الغرقى به الفرج بحر الهوى غرقت فيه سواحله ... فهل سمعتم ببحر كله لجج بين الردى والهوى في لحظه نسب ... هذي القلوب وهذي الأعين الدعج دين الهوى حظّه عقل بلا كتب ... كما مسائله ليست لها حجج لا العدل يدخل في سمع المشوق ولا ... شخص السلو على باب الهوى يلج كأن عيني وقد سالت مدامعها ... بحر ييض ومن آماقها خلج جار الزمان على أبنائه وكذا ... تغتال أعمارنا الآصال والدلج بين الورى وصروف الدهر ملحمة ... وإنما الشيب في هاماتها رهج وله: بأبي غزال ساحر الأحداق ... مثل الغزالة في سنا الإشراق شمس لها فوق الجيوب مشارق ... ومغارب بجوانح العشاق نثر العقيق ونظم در رائق ... في مرشقيه وثغره البراق عقد من السحر الحلال بلفظه ... وبها تحل معاقد الميثاق هلا وقد مدّت إليه ضراعتي ... يدها تصافحها يد الاشفاق ديَم الغمام برعدها وببرقها ... كاثرتها بسحائب الأشواق ما أدمعي تنهل سحا إنما ... هي مهجتي سالت على الآماق وله: ألا يا نسيم الريح بلغ تحيتي ... فما لي إلى إلف سواك رسول وقل لعليل الطررف عني بأنّني ... صحيح التصابي والفؤاد عليل أينشر ما بيني وبينك في الهوى ... وسرك في طي الضلوع قتيل وله: هب النسيم مع العشي فشاقني ... إذ كان من جهة الحبيب هبوبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 943 وكأنه إذ هب من تلقائه ... عرف القرنفل والعبير يشوبه قد كنت ودعت الصبا بوداعه ... وأخو الصبابة لا تفيق ندوبه لو لم أجب داعي الهوى وعصيته ... لغدت جفوني بالدموع تجيبه وله: لا بد للدمع بعد الجري أن يقفا ... وهبك سال فؤادي عنده أسفا وبي غزال إذا صادفت غرته ... جنيت من وجنتيه روضة أنفا كالبدر مكتملا كالظبي ملتفتا ... والروض مبتسما والغصن منعطفا ما همت فيه ولا هام الأنام به ... حتى غدا الدهر مشغوفا به كلفا أيرتضي الفضل أن أطوى على حرق ... وفي مراشفه اللعس الشفاه شفا ما صافح الروض كف المزن من مقة ... إلا أرتنا به من خطه صحفا وله: ما لي على سطوات الدهر من جلد ... ألقيت نحو تباريح الهوى بيدي حلئت عن منهل السلوان في رشأ ... بجيده حلية من صنعة الغيد مذ قادني طرفه للحين أعلمني ... أن العيون لها قتل بلا قود وله في الوزير أبي حفص الهوزني وقد مات بنهر طلبيرة عند افتتاحها من قصيدة: وفي كفه من مائع الهند جدول ... عليه لأرواح العداة تحوّم بحيث الصّدَى بين الجوانح يلتظي ... ونار الوغى بالمشرفية تضرم وما من قليب غير قلب مدجّج ... ولا شطن إلا الوشيج المقوّم ووجه الضّحى من ساطع النقع كاسف ... بيوم له زرق الأسنة أنجم ولما رأوا أن لا مقرّ لسيفه ... سوى هامهم لاذوا بأجرأ منهم وكان من النهر المعين معينهم ... ومن ثلم السدّ الحسام المثلّم فهلا ثنى عنه الردى في زلاله ... رداء برقراق الفقاقيع معلم فيا عجبا للبحر غالته نطفة ... وللأسد الضرغام أردَاهُ أرقم وله يتغزل: ليل يعارضه الزمان بطوله ... ما لي به إلا الأسى من مسعد نظّمت لؤلؤ أدمعي في جيده ... فكأنّها فيه نجوم الأسعد الأديب الحاج أبو عامر ابن عيشون وصفه بأنه أحيا لبوس البؤس والنعيم، ووجد تعب المسافر وراحة المقيم، فآونة كالنسر الطائر، وتارة النسر الواقع، وطورا في القصور، وبرهة في البلاقع، ومرة في غنى، وأخرى في فقر، وليلة في مغنى، ويوما في قفر، وذكر أنه رحل إلى المشرق فما أحمد الرحلة، ولا حصل منها النحلة، ودخل مصر في عهد الأفضل خاملا لا يعرف، وآملا لا يسعف، خالي الكيس، بادي الأخلال بالعذير والتنكيس، كاسيا من الإفلاس، عاريا من اللباس، قد بات ليله اتقد، وقد كاد يتلفه البرد، وكان قد دخل عليه ابن طوفان وهو مغنّي الأفضل وشم ريح حاله، وشام بارقة إمحاله، فاستدعى منه أن يعمل أبياته يلحنها، ويشدوها عند الأفضل لحسنها، فلعله يجد فرصة، ويجر إلى نار أمله من النجح قرصة، فعمل: قل للملوك وإن كانت لهم همم ... تأوي إليها الأماني غير متئد إذا وصلت بشاهنشاه لي سببا ... فلن أبالي بمن منهم نفضت يدي من واجه الشمس لم يعدل بها قمرا ... يعشو إلى ضوئه لو كان ذا رمد فلما كان من الغد، وافاه بخمسين دينار وكسوة، وذكر أنه غناه بالشعر فحل منه بقبول وحظوة. وله: قصدت على أن الزيارة سنة ... يؤكّدها فرض من الودّ واجب فألقيت بابا سهل الله إذنه ... ولكن عليه من عبوسك حاجب مرضت ومرّضت الكلام تثاقلا ... علي إلى أن خلت أنك عاتب فلا تتكلّف للعبوس مشقّة ... سأرضيك بالهجران إذ أنت غاضب فما الأرض تدمير ولا أنت أهلها ... ولا الرزق إن أعرضت عني جانب وله: كتبت ولو وفّيت برك حقه ... لما اقتصرت كفى على رقم قرطاس ونابت عن الخط الخطي وتبادرت ... فطورا على عيني وطورا على رأسي سل الكأس عني هل أديرت فلم أصغ ... مديحك ألحانا يسوغ لها كاسي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 944 وهل نافح الآس الندامى فلم أدع ... ثناءك أذكى من منافحة الآس الأديب أبو الحسن حكم بن محمد غلام البكري وسفه بالخاطر المولد المخترع، المفتضّ عذرة المعاني المفترع وذكر أنه كان ذا جأش جاش، وبرى نبل النبل وراش، وطال رشاء غمره حتى برح زكي غمره، وطواه الدهر بعد طول نشره، ولقي آخر الدولة العبادية في عنفوانه، وريعان الدولة المرابطية في آخر زمانه، وله قلائد استغربت واستعذبت، وسوائر شرقت في البلاد وغربت، فمن ذلك: أرقني بعدك البعاد ... فناظري كحله سهاد يا غائبا وهو في فؤادي ... إن كان لي بعده فؤاد الله يدري وأنت تدري ... أن اعتقادري لك اعتقاد تذكر والحادثات بله ... ليس لها ألسن حداد ونحن في مكتب المعالي ... يصبغ أفواهنا المداد يستر ستر الصبا علينا ... والأمن من تحتنا مهاد لا نتهدى لما خلقنا ... نجهل ما الكون والفساد ومنها: أذمة بيننا لعمري ... يحفظها السيد الجواد سبحان من خصكم بأيد ... بهنّ تستعبد العباد إذا استهلت لنا سماء ... أو رق من تحتها الجماد آثاركم في العلا قديما ... دانت لها جرهم وعاد والآن تبلى وربّ جود ... حل على ناره الرماد وأنت في ألْسُنِ البرايا ... معنى بألفاظها معاد حسب العدى منك ما رأوه ... لا وريت للعدى زناد لم يعلم الصائدون منهم ... أنك عنقاء لا تصاد وإ، في راحتيك سعدا ... تندق من دونه الصعاد والليث شبعان لا يبالي ... إذا نزت حوله النِّقاد وله: تظن مرادا بالعقيق وجدولا ... إذا كرعت فيه القبول تسلسلا وإن مدت الأغصان أطناب ظلها ... بشطيه خلناه حساما مفللا تنفس من تلقائه بعد هجعة ... نسيم فخلناه عليلا معللا وجرر ذيلا صافح النور سحرة ... وذاع فحيّاه الحيا فتبللا يحث البهار الغض يوميء باسما ... لتقبيله خدا من الورد مخجلا ولم أر عيرا كالرباب إذا ونى ... وجد به سوط العقيقة أرقلا يرنّ حفافيه أجش مقهقه ... يوهمنا في الدار ضبطا مرسلا وليل ككحل العين قد مد جنحه ... جناحا على الأرض البسيطة مرسلا وسمت بنار الكأس قطري بهيمه ... فغادره وسمي أغر محجلا كأن بقاياه غداف شبيبتي ... ألمّ به صفر المشيب ليرحلا وله: ألاحت وللظلماء من ودنها سدل ... عقيقة برق مثل ما انتضيَ النصل أطارت سناها في دجاها كأنها ... تبلج خد حوله فاحم جثل لدى ليلة رومية حبشية ... تغازلنا من شهبها أعين شهل تودّ عيون الغانيات لو أنّها ... إذا مرضت عند الصباح لها كحل بدت في حلاها فاتّقينا نجومها ... بأنجم راح في الشفاه لها أقل إلى أن بدا للصبح في طرة الدجى ... دبيب كما استقرت مدارجها النمل نعيم أرى الأيام تثني عنانه ... علينا إذا ألقى ثنيته الحسل أفي لهوات الليث رَبْعٌ أبيته ... ولو علني فيها مجاجته الصل ذكرت الدنا والأهل فيها فليس لي ... بها عقوة آوي إليها ولا أهل وأفردني صرف الزمان كأنّني ... طرير من الهندي أخلصه الصقل الأديب أبو عامر ابن المرابط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 945 ذكر أنه كان يقصد في نظمه الترقيق لا التشديق، والإعذاب لا الإغراب، والإحلال لا الإعلاء، والتفهيم لا التفخيم، والتقريب لا التغريب، والتحريك لا التعريك. لكن هلاله لم يقمر، وقمره لم يبدر، وبدره لم يتم، وتمامه ما أزهر، وزهره ما أنور، ونوره ما أثمر، وثمره ما ينع، وينعه ما طلع، وطلعه ما بسر، وبسره ما أتمر، وحج عمرة، لم يبلغ قران العمرة، ومشتري شبابه لم يصادف قران الزهرة، فحضره الأجل مغيرا، واحتضره دون الأمل صغيرا. ومن شعره قوله: سر إن اسْطَعْتَ فإنّي ... لست أسطيع مسارا ذلك البدر الذي قا ... بلت لا يهوى السرارا قلدوا مبسمه الدر ... وجفنيه الشِّفارا كلّما أومأ باللح ... ظ يمينا ويسارا لا ترى عيناه إلا ال ... قوم قتلى وأسارى لا ترع يا شادن الأج ... رع كم تهوى النفارا لك هذا القلب ترعا ... هـ أرَاكاً وعَرَارا وقوله: هنالك الريّ من دموعي ... يا ظبيُ والظل من ربوعي فرد معينا ورِد ظليلا ... غير مذود ولا مروع وقوله: من رأى ذاك الغزال ضُحىً ... يتمشّى في أجَارِعِه ينفض الأجفان عن سنة ... أشربتها في مضاجعه نظرت الظبي روعه ... قانص أدنى مراتعه بشر ما مثله قمر ... سنّ قتلي في شرائعه وقوله من قصيدة: أعيدوا عليّ الربع إلا تحية ... أخفف منها والركاب تبَوُعُ دعونيَ والأطفال أبكي فإن يكن ... ضلالا فإني للضلال تبوع وقوله من أخرى: فتناوحت فيه الرياح ضُحىً ... حتى تبل ترابه المزن وتسيل أبطحه وأجرعه ... ويرفّ ذاك السهل والحزن وقوله: تقول مطيتي لما رأتني ... وبينك لا توادعني فُواقا لقد أخذ السرى مني ومنها ... مآخذ لا نطيق بها مساقا لقد عنيت بنا النّكبات حتّى ... لودّت كل نائية فراقا الأديب أبو الحسن باقي بن أحمد وصفه بالأدب الباهر، والحسب الزاهر، وذكر أنه لم يزل منقبضا، وبدهره في صد عرضه غرضا، وقصر مدحه، على القاضي أبي أمية ولزم كسره، وألف مع عدم الانجبار كسره، فمن شعره ما كتب به إليه: الدهر لولاك ما رقّت سجاياه ... والمجد لفظ عرفنا منك معناه كَانَ العُلى والنُّهى سرا تضمنه ... صدر الزمان فلما لحت أفشاه آيات فضلك تتلوها ونكتبها ... في صفحة البدر ما أبدى محياه فأنت عضب وكف الدهر ضاربة ... تنبو الخطوب ولا تنبو غِرَارَاهُ وله: يا ماجدا في قربه ... من كل هم لي فرج ومملكا بمقاله ... وفعاله رق المهج هل طَنّ أذنك لِلِّقَا ... ءِ عيني تختلج قال: وصحب القاضي أبا أمية إلى العدوة، فمرّوا بفاس، وفيها الوزير أبو محمد بن القاسم. فكتب إليه: نسيم الصّبا بذمام العلى ... تَمَشَّ على الروض مشي الكسير وسر عبق النشر حتى تحل ... محل السيادة ربع الوزير فطأمن حشاها دُوَيْنَ الضلوع ... حذار مهابته أن تطير وقبّل أنامله إنّها ... ضرائر في فيضها للبحور وذكر بحاجة ضيف له ... فؤاد يقيم وجسم يسير له أمل قبل وشك الرحيل ... طويل المدى ومداه قصير وقل إن لقيا الوزير الأجل يقرّب كلّ بعيد عسير الأديب أبو جعفر ابن البني وصفه بالانتهاك، والمجون والاستهلاك، وامتطاء مركب الهوى، والانضواء إلى من غوى، والانطباع في النظم، واضطلاع بحدة الفهم، وله في الطرب سهم يخطي، وحظ يبطي، وذكر أنه أبعده ناصر الدولة إلى ميورقة، فلما قربت السفينة منها، نشأت ريح فردته إلى موضعه عنها، فقال في أصحابه وأحبابه، وقد صدوا عن جنابه: أحبتنا الألى عتبوا علينا ... فأقصرنا وقد أزف الوداع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 946 لقد كنتم لنا جذلا وأنسا ... فهل في العيش بعد كم انتفاع أقول وقد صدرنا بعد يوم ... أشوق بالسفينة أن نزاع إذا طارت بنا حامت عليكم ... كأن قلوبنا فيها شراع وله: يا من يعذبني لما تملكني ... ماذا تريد بتعذيبي وإضراري تروق حسنا وفيك الموت أجمعه ... كالصقل في السيف أو كالنور في النار وله يهجو قوما ويمدح منهم رجلين: ما في بني يوسف ساع لمكرمة ... سواك أو صنوك العالي أبي الحسن كرُمْتما واغتدى باللؤم غيركما ... والشوك والورد موجودان في غصن هذا آخر الجماعة الذين أوردهم بالذكر من الأعيان أبو نصر الفتح بن محمد القيسي الأندلسي مصنف قلائد العقيان، وسألت عنه بمصر فقيل عاش بالمغرب إلى عهد شاور بمصر فقد توفي سنة خمس وخمسين وخمسمائة وقال لي بعض المغاربة: توفي قبل هذا التاريخ. وقد أتى في كتابه بكلام كالسحر رقة ودقة، وكالزلال عذوبة وصفاء، وكالخمير طربا وانتشاء، ولو نقلته على وجهه لم أكن إلا ناسخا، ولم أبد في الصنعة علما راسخا، لكنني اختصرت وصفه لكل فاضل بلفظي، ونمقته بمعنى من حفظي، وكسوت المعنى صورة أخرى، وجلوته في الحلية الحسنى، فإن فتحا قبًّح ذكر قوم ووضعهم، ونبه خاملين فرفعهم، وحاد عن الصحيح لمرضه، ووسم الحسن بالقبيح لغرضه، ومن جملة ذلك أنه ترب على أبي بكر ابن باجة، وأطلع نوره في سماء السماجة، وقد أجمع الفضلاء على أنه لم يلحق أحد مداه في زمانه، ولم يوجد شرواه في إحسانه، وقد ختم به علم الهندسة، وتداعت بموته في إقليمه مباني الحكم المؤسسة. من جماعة ذكرهم أبو نصر الفتح بن محمد بن عبيد الله القيسي الأندلسي مؤلف قلائد العقيان في محاسن الأعيان لم نثبتهم إلا من هذا الكتاب، ولم ننظم إلا بعقودهم منه شمل الآداب. أبو بكر ابن عبد الصمد وذكره ابن بشرون في كتابه فقال: أبو يحيى ابن عبد الصمد. ذكره في آخر حديث المعتمد ابن عباد وأنه جاء إلى قبره بأغمات، بعد أن مات، وقال بعد أن طاف بقبره والتزمه، وخر على تربه ولثمه: ملك الملوك أسامع فأنادي ... أم قد عدتك عن السماع عواد لما خلت منك القصور فلم تكن ... فيها كما قد كنت في الأعياد أقبلت في هذا الثرى لك خاضعا ... وتخذت قبرك موضع الانشاد قال: وه قصيدة أطال إنشادها، وبني بها اللواعج وشادها. أبو نصر الفتح بن عبيد الله ابن خاقان مؤلف كتاب قلائد العقيان. وصفه الرشيد ابن الزبير في كتاب الجنان وقال: كان ذرب طية اللسان، غزير ركيًّة البيان، كأنما يغرف من بحر زاخر، أو يقطف من زهر ناضر، حسن صناعة، وسعة براعة، وله تواليف تشهد له بدارية، وتصانيف تدل على توسعه في الرواية، إلا أنه كان يضع من نفسه بشدة تبدله، وكثرة تنقله، وغضه من ذوي الرتب، وإساءة الأدب على الأدب، وتحليه من الخلاعة بما تعزف عنه نفس كل ذي عقل رصين، واشتفافه من الدنايا إلى ما لا يرضاه أهل المروءة والدين، وهو متوسع في النثر، قليل البضاعة في النظم، ولم أجد له منه ما يدخل فيما يدخل لأهل طبقته، فأما رسائله فقد أورد منها ما يغني الوقوف عليه من صفته. فمن ذلك رسالة يصف فيها نزهة وقنصا وهي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 947 ما تزال الغرائب أيد الله الملك الأجل معرضة في متنزهاته، وتثور له في ثنيات متوجهاته، فتزيد الأنس انفساحا، وتورث النفس ارتياحا، فتنطلق من عقالها ويتدفق بحر مقالها، وخرجنا معه في لمة من جنوده، وأمة من عبيده، وهو يقتادهم بزمام اصطناعه، ويرتاد لهم أخصب بقاعه، ووجه الشمس أومض إيماضه، وأفاض من سناها ما أفاضه، واعلام الدولة قد حفوا بلوائه، وتألقوا بسمائه، كأنهم النجوم إشراقا، والدرر انتظاما واتساقا، فساروا يسمون صفحات البسيطة بحوافر الخيل، ويثيرون قتاما كقطع الليل، فبينما هم ينجدون ويتهمون، ويبحثون عن القنص في كل مكان يتوهمون، إذ سنح لهم في البسائط سائح، وارتاع من رجة الموكب آمن سارح، قد اتخذ العشب جحراً، وضم إلى ترائبه سحرا ونحراً، فمرق كالسهم يمرق من الفوق، ومر لا يستمسك بواضح طريق، فتارة يسلك مستبينا، وتارة لا يعرج شمالا ولا يمينا، وما زالت الجياد تباري استنانه، وذوات المخالب تحاكي روغانه، حتى عادت عليه الأرض قفصا، وساقته إلينا قنصا، فعلقته كف كائد، لا حبالة صائد، فأخذه صاغرا، وفم الحمام قد تعرض له فاغرا، فذكاه بشفرته، وقذف زاده في ثغرته، وما زلنا نستوفر عددها، ونقصر أمدها، حتى ملأت الحائق، وأتبعت الركائب، وأذكت الهاجرة شواظ لهيبها، ولوت الصبا عنان هبوبها، فملنا إلى حدائق امتد عليها من أوراقها رواق، وغازلتنا من أزهارها جفون وأحداق، فحططنا بساحتها، وانبسطنا في رحب سياحتها، ودارت بيننا راح، تلقيناها بالراح ولوعا، وحسبناها شمسا طلعت طلوعا، ومازلنا نديرها كبارا وصغارا، نجوم اتخذت الأفواه مغارا، إلى أن فني اليوم أو هم، وكاد وجهه أن يدلهم، فقمنا إلى صهوات الجياد، وما منا إلا من يميل كالغصن المياد، فصرنا وما نفرق بين البكر والأصائل، ولا ندري الأواخر من الأوائل، ويمن الملك الأجل يهدينا، ونوره يسعى بين أيدينا، فلا زالت ليالينا به مشرقة، وغصون أمانينا في جنابه مورقة، ما عبق زهر، وتدفق نهر. ومن أخرى: أطال الله بقاء الوزير الأجل، عتادي الأسرى، وزنادي الأوري، وأيامه أعياد، وللسعد في زمانه انقياد، أما أنا أدام الله عزك فجوي عاتم، وأعيادي مآتم، وصبحي عشاء، وما لي إلا من الخطوب انتشاء، أبيت بين فؤاد قلق، وطرف مسهد، نائي المحل عن مزار العود، حيران لا أرى الروض المنور، ولا أحس سهيلا إذا ما لاح ثم غور، قد بعدت دار إليّص حبيبة، ودنت مني حوادث بأدناها تودي الشبيبة، وأي عيش لمن لزم المفاوز لا يريمها، حتى ألفه ريمها، قد رمته النوائب فما ابقى، وارتقت إليه الحوائج في وعر المرتقى، يواصل النوى ولا يهجر سيرا، ولا يزجر في الإراحة طيرا، قد هام بالوطن، هيام ابن طاب بالحوض والعطن، وحن إلى تلك البقاع، حنين أثلات القاع، ولا سبيل إلى تشعب صدع بينه مشاعب، أو تكلمه للدار أحجار وملاعب، وليس له إلى أن يجنح، ولا يرى أمله يسنح، قد طوى البلاد وتطرف الأرض وتوسطها ولم يلف مقيلا، ولا وجد مقيلا. إلى الله الشكوى لما أقاسي، وبيده الأقدام والنواصي، فإلى متى يعتري السعد، ولله الأمر من قبل ومن بعد. ومن أخرى: سقى بلدا أمست سليمى تحله ... من المزن ما يروي به ويسيم سقى الله ذلك الجانب الذي حواك، وخص منه بالوابل مثواك، حتى يخلع الربيع فيه سندسيات بروده، ويجمع في النضرة بين تهامته ونجوده، فإنه جناب حل فيه الذكاء والنبل، وقل لسقياه عندنا الوبل، ورعيا لأيامنا المعلمات الذيول، المعطلات عرفي الصبا والقبول، وقد نعمنا ببكرها وآصالها، وأمتعنا بتواليها واتصالها، فاليوم لم يبق منها إلا ذكره لها في الفؤاد صدع، وللعراك والسلوة ردع، وعساها تعود، فيورق عود. وكتب عن أحد الرؤساء: أما بعد: فإن الأيدي قد امتدت، ودواعي التعدي قد اشتدت، وأموال الناس تنتهب، وزواجر كتاب الله لا ترهب، وأنت تنام عن كف هذا الانتهاب، وتلين في موضع السطوة والارهاب، وتعكف على الراح وروحاتها وتقف بين بكرها وروحاتها وقدماً أفسدت الراحة الأحوال، وجرت إلى أهلها الأهوال، فدعها فليس بأوانها، واكتف من صحيفة الشر بعنانها وأكثر الصولة، وأجدر أن يكون للمكروه عندك جولة، فلينب عن سوطك سيفك، حتى يرهب خيالك وطيفك. ومن أخرى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 948 الدهر أعزك الله إن بني مشيدا هده، وإن وهب نفيسا استرده، وإن حل نعمة أصارها شرقا، وإن كحل نومة أعقبها أرقا، ولا برهان إلا ما شاهدته غداة لقيتك بظهر الفلاة، وسقيتك ألذّ من طيب الحياة، والسرور قد غار في جو الجوى، والقرب قد حار في جيش النوى، فلم يك بين التسليم والوداع مهلة، ولم يبح من الالتياع من الشفاء نهلة، فما وخدت ركابك إلا وقلبي يتبعها، ولا أنجدت قناتك إلا وطرفي يقرعها، فما جيرة ابن حطان وقد انتسب إلى القبائل، ولا الحارث ابن عباد وقد نشب في حر بوائل ولا ابن مفرغ وقد خاف ولاة سمية، ولا عبد الله ابن قيس وقد فر من بني أمية. إلا دون وجدي غداة كففت دمعي المتسرب، ووقفت كناظر مع الصبح في أعقاب نجم مغرب، فلله أيامنا الموشية، وقوفنا بالسراة عشية، وانتشائي من مقلة وكأس، واجتلائي شارب زبرجد أو عذار آس، والتماحي خدّاً كمورد الشقيق، واستصباحي بثغر كالدر في حق من العقيق، زمان صحونا إلا من المدام، وسلونا إلا عن الندام، وتفرعنا إلا من الندى، وتورعنا إلا من معاقبة العدى، وأدرنا ذهبا سائلة، ونظرنا رقبا شائلة، وبتنا لم نرم السهر، ولم نشم برقا إلا الكأس والزهر، والشمل جامع، والدهر مجيب وسامع، فالآن منازلي أكوار، ومواصلي بطل مغوار، فتلك تضنيني بطول السفار، وذاك ينتضيني للملمات انتضاء الشفار، فأنا بين عر يعيي، وذعر يميت ويحيي، ونوى لا يقال لعاثرها لعا، وهوى قد حشا بالجوى أضلعا، والله يريح مما عرى، ويمن بنظره إلى قرقرى. وله إلى بعض إخوانه يوصيه بكتب أودعها عنده ويصف هرا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 949 استوهب الله لك أيها العماد الأعلى، والسراج الأجلى، والطود الأشم، والبدر الأتم، من النعم أبقاها، ومن العصم أوقاها، لا زلت لعنان السيادة مالكا، ولمنهاج السعادة سالكا، كتبت أعزك الله والود قائم رسمه، لائح وسمه، وإن كانت الأيام قد أزاحتني عن قربك، وأظمأتني إلى شربك، فإنها لم تلحق وثاقة عقدنا انحلالا، ولا صحة عهدنا اعتلالا، ولو جرت الأقدار على اقتراحي، وأطلقت من الأشغال سراحي، لاخترت مجاورتك، وآثرت محاورتك، فإنك بحر تلفظ الجواهر غواريه، وتعذب للوارد مشاربه، فيصدر عنك وقد ملأ من الدر حقائبه، وأثقل من البر ركائبه، والله يقرب لقاءك ويدنيه، ويهنئه على أفضل حال ويسنيه، وفي علمك ما استودعته أمانتك، واستحفظته صيانتك، من كتبي التي هي أنفس ذخائري وأسراها، وأحقها بالصيانة وأحراها، وما كنت أرتضي منها بالتغريب، لولا الترجي لمعاودة الطلب عن قريب، ولا شك أنها منك تنال، وبمكان تهمم واهتبال، ولكن ربما طرقها من مردة الفأر طارق، وعاث فيها كما يعيث الفاسق المارق، فينزل فيها قرظاً، أو يفسد منها طولا وعرضا، إلا أن يطوف عليها هر نبيل، ينتمي من القطاط إلى أنجب قبيل، له رأس كجمع الكف، وأذنان قد قامتا على صف، ذواتا لطافة ودقة، وسباطة ورقة، يقيمهما عند التشوف، ويضجعهما عند التخوف، ومقلة كأنها تقطيعة من الزجاج المجزع، وكأن ناظها من عيون الباقلاء منتزع، قد استطال الشعر فوق أحداقه، وحول أشداقه، كإبر مغروزة على العيون، كما تبرد أطرافه القيون، له ناب كحد المطرد، ولسان كظاهر المبرد، وأنف أخنس، وعنق أوقص، وحلق سرق، غير ملتصق، أهرت الشدقين، لاحق الأطلين، موشى الساعدين والساقين، منمنم اليدين والرجلي، يرجل بها وبره ترجيل ذوي الهمم، لما شعث من اللمم، فينفض ما لصق به من الغبار، وعلق به من الأوبار، ثم يجلوه جلاء الصيقل للحسام، والحمام للأجسام، فينفي قذاه، ويواري أذاه، ويقعي إقعاء الأسد إذا جلس، ويثب وثبة النمر إذا اختلس، له ظهر شديد، وذنب مديد، تارة يهزّه هزّ السمهري المثقف، وتارة يلويه لي الصولج المعقف، تجول يداه في الخشب والأرائك، كما يجول في الكسائد شائك، يكب على الماء حين يلغه، ويدني منه فاه ولا يبلغه، ويتخذ من لسانه رشاء ودلوا، ويعلم به إن كان الماء مرا أو حلوا، فتسمع للماء خضخضة من نزعه، وترى للسان نضنضة من جرعه، يحمي داره حماية النقيب، ويحرسها حراسة الرقيب، فإن رأى كلبا، صار عليه إلبا، وصعر خده، وعظم قده، حتى يصير نده، أنفة من جنابه أن يطرق، وغيرة على حجابهأن يخرق، فإذا رأى فيه هرا، أوجف إليه مكفهرا، فدافعه بالساعد الأشد، ونازعه منازعة الخصم الألد، فإذا أطال مفاوضته، وأدام مراوضته، أبرز برثنه لمبادرته، وجوشنه لمصادرته، ثم تسلل إليه لواذا، واستحوذ عليه استحواذا، فشد عليه شدة، وضمه من غير مودة، فأطار وبره نسالا، وأرسل دمه إرسالا، بأنياب عصل، أمضى من النصل، ومخلب كمنقار الصقر، درب للأقتناص والعقر، ففر قرنه ممزق الإهاب، مستبصرا في الذهاب، قد أفلت من بين أظفار وناب، ورضي من الغنيمة بالإياب، هذا وهو يخاتله دون جنة، ويقابله بلا سيوف ولا أسنة، وإنما جنته، منته، وشفاره، أظفاره، وسنانه، أسنانه، إذا سمعت الفأر منه مغاء، لم تستطع له إصغاء، وتصدعت قلوبها من الحذر، وتفرقت شذر مذر، تهجع العيون وهو ساهر، وتستثير الشخوص وهو ظاهر، يسري من عينيه بنيرين وضاحين، تخالهما في الإظلام مصباحين، يسوف الأركان، ويطوف في كل مكان، ويحكي في ضجعته السوار تحنّيا، وقضيب الخيزران تثنيا، يغط إذا نام، ويتمطي إذا قام، لا يكون للنار مستدفئا، ولا للقدر مكفئاً، ولا الرماد مضطجعا، ولا للجار منتجعا بل يدبر بكيده، ويقتصر على صيده، قد تمرد بقتل الأحناش والخشاش، وافترس الطير في المسارح والأعشاش، فيستقبل بمشمه، ويجعل الاستدلال أكبر همة، ثم يكن للفأر حيث يجد لها عيثا، أو يسمع لها عوثا، أو يلمح منها ريثا، فيلصق بالأرض، وينطوي بعضه في بعض، حتى يستوي منه الطول والعرض، فإذا تشوفت الفأر في جحرها، وأشرفت بنحرها وصدرها، دب إليها دبيب الصل، وامتد نحوها امتداد الظل، ثم وثب في الحين عليها، وجلب الحين إليها، فأثخنها جراحا، ولم يعطها براحا، فصاحت من شدة أسره، وقوة كسره، وكلما كانت صيحتها أمد، كانت قبضته عليها أشد، حتى يستأصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 950 أوداجها فريا، وعظامها بريا، ثم يدعها محرجة الذماء، مضرجة بالدماء، وإن كان جردا مسنا، لم يضع عليه سنا، وإن كان درصا صغيرا فغر عليه فاه، وقبض مترفقا على قفاه، ليزداد منه تشهيا، وبه تلهيا، ثم يتلاعب به تلاعب الفرسان بالأعنة، والأبطال بالأسنة، فإذا أوجعه عضا، وأوعبه رضا، أجهز في الفور عليه، وعمد بالأكل إليه، فازدرد منه أطيب طعمة، واعتقده أهنأ نعمة، ثم أظهر بالالتعاق شكره، وأعمل في غيره فكره، فرجع إلى حيث أثاره، وتتبع آثاره، راجيا أن يجد في رباعه، ثانيا من أتباعه، فيلحقه بصاحبه في الردى، حتى يفني جميع العدى، وربما انحرف عن هذه العوائد، والتقط الفتات من حول الموائد، إبلاغا في الاحتماء، وبروزا في النعماء، فما له على خصاله ثمن، ولا جاء بمثاله زمن. اجها فريا، وعظامها بريا، ثم يدعها محرجة الذماء، مضرجة بالدماء، وإن كان جردا مسنا، لم يضع عليه سنا، وإن كان درصا صغيرا فغر عليه فاه، وقبض مترفقا على قفاه، ليزداد منه تشهيا، وبه تلهيا، ثم يتلاعب به تلاعب الفرسان بالأعنة، والأبطال بالأسنة، فإذا أوجعه عضا، وأوعبه رضا، أجهز في الفور عليه، وعمد بالأكل إليه، فازدرد منه أطيب طعمة، واعتقده أهنأ نعمة، ثم أظهر بالالتعاق شكره، وأعمل في غيره فكره، فرجع إلى حيث أثاره، وتتبع آثاره، راجيا أن يجد في رباعه، ثانيا من أتباعه، فيلحقه بصاحبه في الردى، حتى يفني جميع العدى، وربما انحرف عن هذه العوائد، والتقط الفتات من حول الموائد، إبلاغا في الاحتماء، وبروزا في النعماء، فما له على خصاله ثمن، ولا جاء بمثاله زمن. وقد أوردت أدام الله عزك من وصفه فصلا معربا، وهزلا مطربا، إخلاصا من الطوية واسترسالا، وتسريحا للسجية وإرسالا، على أني إذا استعرت في لغته لسان أبي عبيد، وأظهرت في صفته شأن أبي زبيد، ما انتهيت في النطق إلى نصابك، ولا احتويت في السبق على قصابك، والله تعالى يبقيك لثمر النبل جانيا، ولدرج الفضل بانيا، ما طلع في أفق بدر، وانطبق على قلب صدر، إن شاء الله تعالى. وكتب معزيا: كتبت أعزك الله والجوانح ملتهبة، واللوعة للسلو منتهبة، والدموع متسربة، والضلوع مضطربة، لوفاة من هدت ركن المجد وفاته، وأعيت الواصف صفاته، وأحسنت مساعيه، وأخصبت للرائد مراعيه، فوا رحمة للحسب قبضت روحه، وللأدب ركدت ريحه، وللذكاء خبت شعله، وللعلاء تمزقت حلله، لقد نصب من الصبر عده، وعاد شحاحا زنده، وذوى عراره المتنسم ورنده، وحق له أن يقفر ضلوعا، ولا يظهر في سماء الجزع طلوعا، وقد تعطل الزمن ممن كان في لبته حليا، وفي فمه ضريا، وفي حره نسيما، وفي كؤوسه خمرا وتسنيما. ومنها: ومما كف اللوعة عن مجده، وخفف لذعة وجده، أنه أودى وقد استوفى طلقه، ولبس العمر حتى أخلقه، وسحب أذيال تمنيه، وصحب الدهر حتى كاد يفنيه، ومضى وما حملته المنساة، ولا ملته الأساة، ولا شجيت بالعيش نفسه شجو لبيد، ولا أقفر من أهله عبيد، ولا ذوي من جدب غرسه، ولا مل كما ملت صخرا سليمى عرسه، وهي المنية لا يثنيها التعمير، ولا يصرفها التأميل بل والتأمير، فقد مضى من كانت السيوف له يقمن وينحنين، وقضى كعب بعد أن طوى سنين وشايع بعد بنين، وأودى الجعدي وقد أدرك أيام الخنان، وأبقت منه الحوادث ما أبقت من السيف اليمان. ومن أخرى في وصف غريق في البحر: أتاني وأهلي بالعراق عشية ... وأيدي المطايا قد قطعن بها نجدا نعي أطار القلب عن مستقره ... وكنت على قصد فأغلطني القصدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 951 نعوا والله باسق الأخلاق فلا يخلف، ورموا قلبي بسهم أصاب صميمه وما أخلف، لقد سام الردى فيه حسنا ووسامة، وطوى بطيه نجدا وتهامة، فتعطل منه الندى والندي، وأثكل فيه الهدى والهدي، كم راع البدر ليلة إبداره، فروع العدو في عقر داره، وكم فل السيوف طول قراعه، ودل عليه الضيوف موقد النار ببفاعه، وتشوف إليه السرير والمنبر، وتصرف فيه الثناء المحبر، أي فتى، غدا له البحر ضريحا، واعتدى عليه الحين ماء وريحا، فتبدل من ظل علاء ومفاخر، إلى قعر طامي البحر زاخر، وعوض من صهوات الخيل، بلهوات اللجج والليل غريق حكى مقلتي في دمعها، وأصاب نفسي في سمعها، ومن حزني لا استسقى له الغمام فما له قبر تجوده، ولا ثرى تروى به تهائمه ونجوده، فقد آليت أن لا أودع الريح تحية، ولايورثني هبوبها أريحية، فهي التي أثارت من الموج حنقا، ومشت عليه خببا وعنقا، حتى أعادته كالكثبان، وأودعته فيه قضيب بان، فيا عجبا للبحر ختل شكله، وللدهر كيف حمل ثكله، ووا أسفا لزلال غاص في أجاج، ولسلسال فاض عليه بحر عجاج، وما كان إلا جوهرا آب إلى عنصهر، وغاب عن عين مبصره، لقد آن للحسام أن يغمد ويشام، وللحمام أن يبكيه بكل أراكة وبشام، وللعذارى أن لا يحجبهن الخفر والاحتشام، وينحن فتى ما ذرت الشمس إلا ضر او نفع، ويبكين من لم يدع فقده للأنس المنتفع، صديق ما حمدت فيه الأيام حتى ذممتها، ولا ينبت به أركان المنى حتى هدمتها، ولو غير الحمام زحف إليه جيشه، أو سوى البحر رجف عليه ارتجاجه وطيشه، لشبا من شدته من يهيبه ليث الشرى، ويرهبه البطل الباسل إذا استشرى، من كل أروع إن عجل إليه المكروه ثبطه، أو جاءه الشر تأبطه، لكنه الموت لا ترده الصوارم ولا الأسل، ولا يفوته ذباب لفظ العسل. أبو إسحاق إبراهيم ابن خفاجة الأندلسي سبق ذكره وقد أوردت من شعره البديع، وآثرت من فجره الصديع، ثم عثرت من رسائله، التي هي من دلائل فضائله، ما أثبته هاهنا، فمن ذلك رسالة كتبها إلى أبي الفتح ابن خاقان المقدم ذكره: سيدي الأعلى، وعلقي الأغلى، حلى بك وطنك، ولا خلا منك عطنك، كتبته والود على أولاه، والعهد بحلاه، ترف زهرة ذكراه، ويمج الري ثراه، منطويا على لذعة حرقة، ولوعة فرقة، أبيت بها بليل لا يندى جناحه، ولا يتنفس صباحه، فها أنا كلما تنسمت الريح أصيلا، وتنفست نفسا بليلا، أصانع البرحاء تنشقا، وأتنفس الصعداء تشوقا، فهل تجد على الشمال لفحة كما أجد على الجنوب نفحة، أم هل تحس لذلك الوهج ألما، كما أجد لهذا الأرج لمما، وحقك قسما، تشتمل على الإيمان كرما، إن في هذه اللواعج، ما يقتضي إنضاء النواعج، ويحمل على حزق، جيب الخرق، وجر ذيل، وبرد الليل، حتى أهبط أرض ذلك الفضل، فأغتبط وأرد مشرع ذلك النبل، فأتبرد، وعسى الله بلطفه أن ينظم هذا البرد، ويعيد ذلك الود، فيبرد الاحشاء، كيف شاء، بمنه. وإن كتابك الكريم وافاني فأنهى تحية، هزتني أريحية، هز المدامة تتمنى، والحمامة تتعنى، فلولا أن يقال صبا لالتزمت سطوره، ولثمت مسطوره، وماأنطقتني صبوة استفزتني، فهزتني، ولكن فضلة راح في كأس العلى تناولتها، فكلما شربت، طربت، فلوى توقع غمرات الشيب، لابتدرت شق الجيب، ثم صحت: واطرباه، وناديت: واحر قلباه، ووقفت من جملته على ما وقع موقع القطر، وحسبك ثلجا، وطلع طلوع هلال الفطر، وكفاك مبتهجا، وما أغرب فيما أعرب عنه من تفسير حالك، وتفصيل حلك وارتحالك، ولا غرو أن تجد بك الرواحل، وتتهاداك المراحل، فما للنجم أخيك من دار، ولا في غير الشرف من مدار، فحل أنى شئت وارتع، وطر حيث أحببت أوقع، فما انتضتك يد المغارب، إلا ماضي المضارب، ولا تعاطتك أقطار البلاد، إلا طيب الميلاد، فما صار أن نعق ببينك غراب، وخفق برحلك سراب، إذ لم يغض من فضلك اغتراب، ولا أخل بنصلك ضراب، لا زلت مخيما بمنزلة مجد يجتمع من اتساع، في ارتفاع وامتناع، بين إمرة بغدان، ومنعة غمدان، بحول الله ومنه. وكتب أبو إسحاق ابن خافجة أيضاً إلى بعض الوزراء: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 952 وكيف ي بقربك ودونك كل علم باذخ، مج الليل عليه رضابه، وصافحت النجوم هضابه، قد نأى بطرفه، وشمخ بأنفه، وسال الوقار على عطفه، فهو يعبس، ولا ينبس، كأنما أطرق به اعتبار، واجتنى منه جبار، وقد لاث من غمامة عمامة، وأرسل من ربابة ذؤابة، تطرزها البروق الخواطف، وتهفو بها الرياح العواصف، بحيث مدت البسيطة بساطا، وضربت السماء فسطاطا، فلا حظ منك إلا ذكر يجري، وطيف يسري، وعسى، أن يلين من جانب الدهر ما عسى، فيجذب بضبعي جاذب من سنائك، إلى سمائك، حتى أرتقى، إلى حيث السهى، والمجرة من مجر أذيالك، ومواطيء نعالك. ومنها في صفة قصيدة: قد كنت صنعتها، منذ الزمان الأطول فأفرعتها، وفرغت منها غير أن إرجاءها، لا يقطع رجاءها، وإمهالها، لا يوجب إهمالها، وقد استثبت مجدك في جلائها، واستنهضت سروك لزفافها وهدائها، علما أن ما أوتيته في البلاغة من امتداد عنان، وانفساح ميدان، يطلعها هنالك في ملح تترى، ويبرزها في صور من الملاحة ترى، فلا تنشرها حلة حتى تجلى عروس، ولا يسمع منها تكميل حتى يجتلى طاووي، ومعذرة في ميدان العجز عن إنصاف تلك الأوصاف، وأما والبحر من كرمك، والسحر من قلمك، إنه لينقل من قلم علم مشهور بالسياسة، وخدمة الرئاسة، من انتساب واكتساب. ورث السيّادة كابرا عن كابر ... موصولة الأسناد بالإسناد لا زلت تجتلي من كنف ذلك الشرف وسماء ذلك السناء بحيث تطيف النعم بك نجوما، وتنقض النقم دونك رجوما. فصل من أخرى: أطال الله أيها السيد بقاءك، كما وصل عزتك واتقاءك، وأسنى مرتبتك وأعلاك، كما أسنى مناقبك وجلاك، وأخلق بها من دعوة هتكت حجاب الظلماء، وقرعت باب السماء، تثبت هنالك مع التوحيد سطرا، وتكتب في ديوان القبول صدرا، فإنها من قلب كرم في مشايعتك سره حتى لست أدري أضمير، أم ماء نمير، وهل من محيد، عن هوى أروع وحيد، أرى به الفضل قد مثل صوره، والنبل قد أنزل سوره، والصبح قد تبلج باسما، والروض قد تأرج ناسما، فهنيئا لتلك الدولة الميمونة أنك علم تلك السعادة، ووسطى قلادة تلك السيادة، وآخر مملك خلع عليك نجاده، وأوطأ عقبيك أنجاده، وأتبع برأي ورايتك إنجاده، أ، تسمو أعطافه عزة، وتحتمي أطرافه نجدة، ويستقل على قدم به النصر، ويبسم عن ثغر إليه الثغر، ويطلع من تجاهه الفتح يندي جبينه عرقا، ويمينه علقا، وقد قام على قد من الرمح رطيب، وسفر عن خد من السيف خضيب، وخفق جناح العلم سرورا، ونطق لسان القلم صريرا. فصل من رسالة أخرى: واتفق لي أن فصلت تلك العشية والأفق قد أضحى، وأبل من مرضه وصحا، وصفحة الشمس محطوطة القناع، مصقولة كمرآة الصناع، فما هممت بأن أجزع وادي الحضرة حتى طفق جفن الجو يندي، ومطرف الغمامة يتأر ويسدي، أقسمت المطي أن تخف، وبسقت السماء أن تكف، فمال بي وأقلع، وتسنم المقطع، حتى أن حكم الهواء طيشا، ورذاذ ذلك الرباب طشا، فقلت: اللهم حوالينا ولا علينا، فما كان إلا أن عدل عنا، وضرب بجرانه غير بعيد منا، والرعد نفث رقى، وغنى ما شاء وسقى، وأفضى بنا الركض إلى مصاب سمائه، ومهراق عزالي مائه، وقد عمه لثق، وعمره غدق، وصعوده زلق، وهبوطه غرق، وحسبك من وحل يقيد مطايا الركبان، ويكب الرجالة على الأذقان، فلا ترى إلا خدودا، تعفر سجودا، ويروداً تصبغ حما وسودا، فما شئت من ممسك ومزعفر، ومعنبر ومصندل ومعصفر. وسواء نجد هناك ووهد ... وسبيل قصدته ومسيل وقد اعتل بين ظل وصحو ... نشر تلك الصبا وذاك الأصيل وانتشى منه كل قطر فلولا ... هضب تلك العلى لكان يميل فسرنا، وما كدنا، بين ساحة، ومساحة، حتى شارفنا الديار وقد عبس وجه السماء، وأدركنا أدهم المساء، يسمو النشاط بطرفه، وسيل عرق الندى على عطفه، وأشقر الشفق قد جاء خلفه، ونفض على مسقط الشمس عرفه، يمرح عزة لسبقه، ويجر من نحره عنان برقه، وذكر الله ملء الصدور والأفواه، وشفاء الألسنة والشفاه، وما كنا لنعبر مسافة تلك المجابة، إلا بدعوة اتفقت هناك مجابة، ولحقنا أدهم الإظلام يخب، وتنفس عن شمال تهب، فما اجتلينا وجه الأنس إبلا بشعلة مصباح، ينوب عن غرة صباح، كأنما كرع مجاجة راح، وأطلع إلى بارقة سماح. عدة من فضلاء الأندلس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 953 كانت بهم حياة معالم العلم الدرس، أوردهم الرشيد ابن الزبير في كتاب الجنان، ولهم في النظم والنثر سموط الجمان، وعقود اللؤلؤ والمرجان. فمنهم: أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن شهيد هذا من شعراء اليتيمة، وصفه برجاحة الفضل على كل مواز موازن، فإنه كان ذا فكر لأنوف أبيات المعاني خازم، ولشنوف أبيات المعالي خازن، وله تصانيف وتواليف أغرب فيها وأعرب، وأعجز وأعجب، ومن ذلك كتاب حانوت عطار، وهو يتمل على ملح من أبكار الأفكار، ومن جملة فقره قوله: من كتم الحق بعد ما ظهر، وستر البرهان بعد ما بهر، فإنما يجحد المسك طيبه بعد شمه، ويدعي ظلمة البدر ليلة تمه. وقوله في وصف جبان: يزحف يوم الزحف إلى خلف، ويروعه الواحد وهو في ألف أزهد في الحرب من بني العنبر، وأدهش من مستطعم الماء على المنبر، بنو العنبر أشار إلى قول بعضهم: لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا ومستطعم الماء على المنبر خالد بن عبد الله القسري وخبره مشهور. وقوله في سلطان مضيع: إن كان من يعجبه اللهو، ويغلبه السهو، فهو. وقوله في أوصاف، أهل إنصاف: إخوان استوت بواطنهم وظواهرهم، وصفت علانيتهم وسرائرهم، كلهم السموءل إلا دينه وفاء، وحاتم إلا جاهليته سخاء، وزياد إلا سميًّتهُ دهاء، وإيَّاس إلا عجبه ذكاء. وقوله في ضد ذلك: إخوان أخون من السراب للعين، ومن أهل الكوفة للحسين، يادرون الهفوة بالإشاعة، ويسبقون الزّلَّة بالإذاعة. وقوله في المؤاساة: المقل يرثي للمقل، لعلمه مرارة الفاقة، وضعف الطاقة، حتى أنه ليشد من أزره، بالنزر من بره، وللمساكين أيضا بالندى ولع. وقوله في الشفاعة: جعلني سبيلا من جعلك مقصدا، ورآني زائدا من رآك موردا. وقوله في المطل: المطل عدو النفس والإنجاز حبيبها، والتسويف مرضها والتعجيل طبيبها. وقوله في ذم رجل: فيه عن الشكر سكر، وعن الحمد جمد، وعن الحسن وسن، وعن الإعطاء إبطاء، وأنا أرغب إلى الله في وجهين: أحدهما لقاؤك بلا وجهين، والآخر أن أرى علق النفاق، في سوقك قليل النفاق. ومن قوله في صفة الشعراء: جرير كلب منابحة، وكبش مناطحة، جارى السوابق بمطية، وفاخر غالبا بعطية. أبونواس، خرم القياس، وترك السيرة الأولى، ونكب عن الطريقة المثلى، وجعل الجد هزلا، والصعب سهلا وصادف الأفهام قد كلت ونكلت، وأسباب العربية قد انحلت ونحلت، والفصاحات الصحيحة قد سئمت وملت، فمال الناس إلى ما عرفوه، وعلقت نفوسهم بما ألفوه، فتهادوا شعره، وأغلوا سعره، وشغفوا بأسخفه، وفتنوا بأضعفه وقد فطن باستضافه، وخاف من استخفافه، فاستطرد بفصيح طرده. ومن شعره ابن شهيد قوله من قصيدة أولها: طرقتك بالدهنا وصحبك نوًّم ... والليل أدهم بالثريا ملجم ومنها في مدح بني الشامي وتنزيه الممدوح عن النسبة إلى بلد، ولم يسبقه إليه أحد: والشام خطتكم وليست نسبة ... إلا كما نسبت إليه الأنجم وله: ولما تَمَلَّأ من سكره ... ونام ونامت عيون العسس دنوت إليه على بعده ... دنوًّ رفيق درى ما التمس أدب إليه دبيب الكرى ... وأسمو إليه سموَّ النفس فبت به ليلتي ناعما ... إلى أن تبسم ثغر الغلس أقبل منه بياض الطلى ... وألثم منه سواد اللعس قوله: أدب إليه دبيب الكرى، أحسن ما قيل في هذا المعنى، قول أمريء القيس: سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سموَّ حباب الماء حالا على حال ونحوه قول ابن حجاج: فديته من طارق في الكرى ... يسقط بالليل سقوط الندى ولأبي عامر ابن شهيد في وصف السيف والرمح: ومن تحت حضني أبيض ذو شقائق ... وفي الكف من عسَّالة الخط أسمر هما صاحباي من لدن كنت يافعا ... مقيلان من جد الفتى حين يعثر فذا جدول في الغمد يشفى به الصدا ... وذا غصن في الكف يجنى ويثمر وله في وصف حمَّام: أنعم أبا عامر بلذّته ... واعجب لأمرين فيه قد جمعا نيرانه من زنادكم قدحت ... وماؤه من بنانكم نبعا وله في وصف فرس: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 954 وكأنني لما انحططت به ... أرمي الفلاة بكوكب طلق وكأنّني لما طلبت به ... وحش الفلاة على مطا برق وله: بطل إذا خطب النفوس إلى الوغى ... جعل الظبي تحت العجاج صداقها وإذا الملوك جرت جيادا في الندى ... والباس قطًّع سيفه أعناقها ومنها: ولو أن أفواه الضراغم منهل ... للورد أورد خيله أشداقها وله من أبيات مرثية: وقالوا أصاب الموت نفسا كريمة ... فقلت لصحبي هذه نفس صالح هذا من قول دريد ابن الصمة: تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا ... فقلت: أعبد الله ذلكم الرّدي وقد أحسن مهيار الاتباع في قوله: بكر النعيّ فقال أودى خيرها ... إن كان يصدق فالرضيُّ هو الرّدِي ولابن شهيد رسالة في البرد: صبحتنا اليوم خيل البرد، مغيرة على سوام كل ممتد، وانقبضت إلى باب الإيوان، وقد خدشني بصارم وسنان، وجعلت مجني حطبا دل على نفسه، وقد تشظى من يبسه، وسلطت عليه حاجب الشرر، ورميته منها ببنات الحديد والحجر فوافقها قليلا، وعاركها حينا، لها عجيج، وله من حر نزالها ضجيج، ثم أثخن بها ضربا فبددت شمله وألفت شملنا واستحالت حية لا يستحل قتلها ترمي من ألوان، وتهدد بلسان، فلذعت البرد لذعة، ونكزته على فؤاده نكزة، خرّ لها عن جبينه، ومات من حينه، وغشينا من فائض حمتها حرّ كان لنا حياة، ولذلك وفاة، فالحمد لله على نعمته، وما أرانا من غريب قدرته، ودلّنا على لطيف بدعته، ولما استحال الجمر رمادا، وتمهد لنا من الدفء مهادا، ولمحته العين كالورد، عليه كافور الهند، انبسطت يد شاكرك فذكر ما كلفته، من الزيادة في المعنى الذي اعتمدته أبو مروان ابن أبي الخصال سبق ذكر أخيه أبي عبد الله ابن أبي الخصال، وكان حميد الخصال، شديد النصال، سديد المصال، ولهذا رسائل كثيرة، ومحاسن أثيرة، فمن رسائل أبي مروان، رسالة كتبها إلى بعض الإخوان: أرى النوى تقتضيني كل مرحلة ... لا تستقل بها الوخّادة الرسم كتبت أدام الله عزكم واللوعة مرتكمة، وأيدي النوى محتكمة، وزمامي بكفها تقوده وأتبع من خلفها على مشيتها أنقلب، وليس لي وراءها مذهب، ترميني منها بكل حاصب، وأغدو وأروح على سقم واصب: وأرجو غدا فإذا ما أتى ... بكيت على أمسه الذاهب بينا أتوهم مصافحكتكم، وأمثل لنفسي مناجاتكم، وأتخيل مسامحة الأيام بلقائكم، وأن تطلع نجومي في سمائكم، فأكرع في مواردكم شاربا، وأصبح عن الحوادث بكم جانبا، إذا بها قد جرت في سجيتها من الإقصاء، ودفعت في صدري إلى الصحراء، فسقط في يدي، وتضاعف الأسى والوجد علي، وخذل بعضي بعضي، وأطبقت سمائي على أرضي، وصارت الصغرى التي كانت العظمى، وجلت الحادثة بي أن تنمى، ومت غمّا أو كدت وإن لم أمت حقيقة فقد مت. وإن أسلم فلم أسلم ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام وكنت أرى أن قد انتهيت من البلاء إلى أبعد طرف وغاية لا تتخلف، والآن فقد عادت لي الأطراف أوساطا، وأفرطت في التناهي إفراطا، إلى الله أشكو فقدكم وبعدكم، فطالما لقيت منها بعدكم، وأسأله وهو الملي، وأستوهبه وهو الغني، لما يعقب اعتباطا، ويطوي من الأرض بيني وبينكم بساطا، وذلك إليه، وهين عليه. وكتب إلى مغنّ: للسرور أطال الله بقاءك مخضوبة بالمدام راحتك، وموصولة بالدوام راحتك. آلتان أنيستان، وحالتان نفسيتان، فمتى اقترنتا فقد اقترنت بيمنى يسرى، وعظم سلطان السرور واستولى، وحضرتنا إحداهما وهي ابنة العنقود، وتعذرت الأخرى وهي رنة العود، فإن رأى أن يضيف إلى اليسرى يمنى، ويجعل للقلادة وسطى، حتى يشرف خامل المسرة قدرا ويطلع هلال الأنس بدرا، فعل منعما. ومن أخرى إلى صديق أراد زيارته ثم انصرف قبل الوصول إليه: ذهبت من الهجران في كل مذهب ... ولم يك حقا كل هذا التجنب ما بال سيدي راجع به الله، وأجارنا من عتبه بعتباه، وقد قبض خطوه، وقصر عن الزيارة شأوه، بعد أن شارف أفقنا، وشام برقنا، ونزل منا بحيث يسمع السرار، وتتراءى للناظر النار. كأن لم يكن يوما يزورة صالح ... وبالقصر ظل دائم وصديق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 955 فهلا ذكر أيام الحمى فعطف، ومر بربع الأحبة فوقف، ورعى عهد أثلاث القاع، وحنّ إلى نسيم الخزامى بهذه الأجزاع، ولولا أشغال تصدت، وأعواد صدت، لتيممت أرضه، وقضيت فرضه، وهيني فعلت وحدي ذلك فما أقع من معشر يتوكفون لقاءه، ويتطلعون سناءه. وكتب إلى أمير المسلمين: أطال الله بقاء أمير المسلمين، وناصر الدين، والعدل حلية أيامه، والنجح عاقد أعلامه، واليمن مكانف سلطانه، وحافظ نظامه، ولا زال يمده النظر، ويطالعه اليسر، ويشرق بمساعيه المنيرة العصر، كتبته من نصيحته التي فرضتها الشريعة، وطاعته التي هي العروة الوثقى الوثيقة المنيعة، والتزامي لأمره سريع أقيمه، وحظ من البر أستديمه، وأستعين الله على إتيان وفقه، وأداء ما فرض من حقه. وكتب إليه أيضاً: أطال الله بقاء أمير المسلمين، ورايته معوَّدة الظفر، ودولته مشرقة الغرر، وعز سلطانه ملء السمع والبصر، كتبته وأنا أعتصم بحلبه، وأستوطن حزم عدله، وأتوسد بردي ظله. أبو الحسن علي بن عطية البلنسي المعروف ب ابن الزقاق قال: شاعر متأخر في الزمان، متقدم في الإحسان، له ألفاظ أرق من نفحات حدائق الرياض، ومعان أدق من عبرات الأحداق المراض، فمن ذلك قوله: يا برق نجد هل شعرت بمتهم ... وهب الكرى لوميضك المتبسم ما طالعته في الدجى لك لمحة ... إلا وقال لِمُزْنِ مقلته اسجم ومنها: ولقد طرقت الحي في غسق الدجى ... والليل في زي الحصان الأدهم متنكبا زوراء مثل هلاله ... نَصّلْتُ أسهمها بمثل الأنجم وقوله: وقفت على الربوع ولي حنين ... إلى الأحباب ليس إلى الربوع ولو أني حننت إلى مغاني ... أحبائي حننت إلى دموعي وقوله: وحبب يوم السبت عِنْدي إنَّه ... ينادمني فيه الذي أنا أحببت ومن أعجب الأشياء أنِّيَ مُسْلِمٌ ... حنيف ولكن خير أيَّامِي السبت وقوله: أديراها على الزهر الندي ... فحكم الصبح في الظلماء ماض وكأس الراح تنظر عن حباب ... ينوب لنا عن الحدق المراض وما غربت نجوم الليل لكن ... نقلن من السماء إلى الرياض وقوله يصف حمَّاما: رب حمَّام تلظى ... كتلظي كل وامق ثم أذرت عبرات ... صوبها بالوجد ناطق فغدا منه ومني ... عاشق في جوف عاشق وقوله مما يكتب على قوس: دع الخطيَّ يثني عطفه لي ... فإن لأسهمي فضلا عليه إذا كان العلى قتل الأعادي ... أيفضل غير أسْرَعِنَا إليه وقوله وهو أحسن ما قيل في دقة الخصر: وإنسية زارت مع الليل مضجعي ... فعانقت غصن البان منها إلى الفجر أسائلها أين الوشاح وقد سرت ... معطلة منه معطرة النشر فقالت وأومت للسوار: نقلته ... إلى معصمي لما تقلقل في خصري وقوله: ومرتجة الأعطاف أما قوامها ... فلدن وأما ردفها فرداح ألمت بنا والليل في قصر بها ... يطير وما غير السرور جناح فبت وقد زارت بأنعم ليلة ... يعانقني حتى الصباح صباح على عاتقي من ساعديها حمائل ... وفي خصرها من ساعديَّ وشاح وقوله: وعشية لبست ملاء شقيق ... تزهى بلون في الخدود أنيق أبقت بها الشمس المنيرة مثل ما ... أبقى الحياء بوجنة المعشوق ولو استطعت شربتها كلفا بها ... وغنيت منها عن كؤوس رحيق وقوله في غلام جرح في خده: وأحوى رمى عن قسيِّ الحور ... سهاما يُفَوّقُهُن النظر يقولون وجنته قسمت ... ورسم محاسنه قد دثر وما شق وجنته عابثا ... ولكنها آية للشر جلاها لنا الله كيما نرى ... بها كيف كان انشقاق القمر هذا معنى مخترع، أغرب فيه وأبدع. وقوله: زارتك من رقبة الواشي على فرق ... حتى تبدي وميض المرهف الذلق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 956 وخفض الجأش منها أن ملك يدي ... بحر يغص به الواشي من الشرق سَكَّنْتُها بعد ما جالت مدامعها ... من مقلتيها فريدا في ظبي الحدق فأقبلت بين صمت من خلاخلها ... وبين نطق وشاح حائل قلق تبدو هلالا ويبدو حليها شهبا ... فما نفرق بين الأرض والأفق فأرسلت من مثنى فرعها غسقا ... في ليلة أرسلت فرعا من الغسق في ليلة خلتها زنجية طفقت ... تزهى بعقد من الجوزاء متّسق غازلتها والدجى الغربيب قد خلعت ... منه على وجنتيها حلة الشفق فودعت ودموع المزن تسعدني ... عند الفراق بدمع واكف غدق ومنها: أنا الذي ظل بالأحداث مشتملا ... دون الأنام اشتمال السيف بالعلق كأس وعاري حظوظ في شبيبته ... وكم قضيب يد عار من الورق وقوله: مظلول أملود الصبا مياسه ... خلع الشباب عليه فهو لباسه قمر وأكناف الحشا آفاقه ... ظبي وأحناء الضلوع كناسه لم أدر إذ جاءت بنكهته الصبا ... أتضوٌّع الكافور أم أنفاسه ولقد عيينا غذ تمايل سكرة ... ألحاظه مالت به أم كاسه للحسن مرقوم على وجناته ... سطر وصفحة خده فرطاسه إن خالفت تلك المحاسن فعله ... فالسيف يطبع من سواه باسه وقوله يصف فرسان حرب: ومسددين إلى الطعان ذوابلا ... فازوا بها يوم الكفاح قداحا متسربلي قِمْص الحديد كأنها ... غدران ماء قد ملأن بطاحا شبوا ذبال الزرق في ليل الوغى ... وأبان كل مذرب مصباحا سرج ترى الأرواح تطفيء غيرها ... أبدا وهذي تطفيء الأرواحا لا فرق بين النيرات وبينها ... إلا بتسمية الوَشِيجِ رماحا هبها تبدت في الظلام كواكبا ... لم لا تغور مع النجوم صباحا يجني الكماة النصر من أشجارها ... لما غدت بأكفهم أدواحا لا غرو أن راحت نشاوى واغتدت ... فلقد شربن دم الفوارس راحا أبو العلاء عبد الحق بن خلف بن مفرج الشاطبي الكاتب المعروف ب ابن الجنان ذكره ابن الزبير في كتاب الجنان، وقال: هو حي إلى الآن، وذلك في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة. وله: وكنا وريب الدهر وسنان والنوى ... بعيد مداها لا تروع لنا سِرْبَا فعدنا وقد صرنا بمرأى ومسمع ... فأبصِر به عينا وأسمِع بها قربا أبا حسن إن كنت أصبحت نازحا ... أراقب لمع البرق أو أسأل الركبا فكم قد تجاذبنا الحديث لياليا ... تقلده أجيادها لؤلؤا رطبا وهل كنت إلا الشمس لاحت لناظر ... فآونة شرقا وآونة غربا باب في ذكر جماعة من الغرب استفدت شعرهم من الشيخ الصالح أبي علي الحسن بن صالح الأندلسي المالقي وغيره: ابن الطراوة المالقي هو الشيخ الأستاذ أبو الحسين النحوي، ذكر لي الشيخ الصالح الحافظ أبو علي الأندلسي أنه عاش ابن الطراوة نيفا وتسعين سنة ومات قبل سنة ثلاثين وخمسمائة. وله مصنفات في النحو. وكان من الشعراء المجيدين. وكان يعرف بالأستاذ. وذكر أنه لا يلقب بالأستاذ في المغرب إلا النحوي الأديب. قال: أنشدني لنفسه، في أهل بلد استسقوا فلم يمطروا وأقشع سحابهم بعد بدوّه: خرجوا ليستسقوا وقد نشأت ... سَحَرية قمِن بها رشح حتى إذا اصطفوا لدعوتهم ... وبدا لأعينهم بها نضح كشف الغطاء إجابة لهم ... فكأنّهم خرجوا ليستصحوا ووجدت له في كتاب الجنان لابن الزبير قوله: وقائلة أتكلف بالغواني ... وقد أضحى بمفرقك النهار فقلت لها حضضت على التصابي ... أحق الخيل بالركض المعار ولأبي الحسين ابن الطراوة: ولماتخلوا من جراوة وانتموا ... لكلب وراموا أن يقال لهم عرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 957 أباحوا فروج المحصنات تشبها ... بما فعلت في جاهليتها كلب وله يهجو: تظلمنا ولم نزل أبدا للظلم جنانا ... قد كان من خطأ الأيام ما كانا أبو الحسن ابن هارون المالقي الفقيه المشاور. أنشدني الشيخ الصالح أبو علي الحسن بن صالح، قال أنشدني الفقيه المشاور أبو الحسين ابن هارون لأخيه أبي الحسن: لا تحرصن فإنّ الحرص مندمة ... إذ ما يصيب الفتى قد خط بالقلم قال وأنشدني لأخيه يمدح القاضي أبا الفضل عياض بن عياض قاضي سبتة: ظلموا عياضا وهو يحكم عنهم ... والظلم بين العالمين قديم جعلوا مكان الراء عينا في اسمه ... كي يكتموه وأنه معلوم لولاه ما فاحت أباطح سبتة ... والروض ول فنائها معدوم وأنشدني الشيخ الصالح ابن صالح الأندلسي لأبي الحسن ابن هارون الأندلسي في الزهد: أراك يغرّك الأمل ... ويقطع دونه الأجل وحالك في تنقله ... كمثل الفيء ينتقل فديتك كيف لا تبكي ... وأنت غدا سترتحل ورأسك بعد حلكته ... غدا بالشيب تشتعل أرى زمن الصبا ولى ... وجاء الشيب والكسل فهل لشبابنا رد ... وهل في رده حيل نعم سيعود إن عادت ... عليك الأعصر الأول وفي الأيام معتبر ... لها في أهلها دول فقوم قد علوا فيها ... وأقوام بها سفلوا وكم صرعت محبيها ... ولا بيض ولا أسل وكم باتوا على فرش ... عليها تضرب الكلل أباد الدهر جمعهم ... وجوزوا بالذي عملوا فما للنفس غافلة ... وبالشهوات تشتغل وتزعم أن غدت نجدا ... بمن تهواهم الإبل وكم من قبلكم قوم ... على الدنيا قد اقتتلوا فما بلغوا الذي طلبوا ... ولا ما أمَّلوا وصلوا ألا لله ذو جد ... بنوم ليس يكتحل ينادي الله مجتهدا ... وثوب الليل منسدل بقلب حازن وجل ... ودمع العين منهمل ابن حلو الشاعر بالمغرب الأوسط، من أهل جيجل، أنشدني الفقيه نصر بن عبد الرحمان الإسكندري ببغداد في ذي الحجة سنة ستين وكتبه لي وقال أنشدني الشيخ أبو العباس النجامي الأنصاري المغربي بدمشق لابن حلو الشاعر المغربي: يحتاج من كلف الحاجات مثلكم ... نقف الشوارب بعد الكي في الراس فلو سلختم قرانا في جماجمكم ... كونوا حثالة خلق الله في النّاس قال: أنشدني أبو العباس أيضاً، قال: أنشدني ابن حلو وقد قدمته في زقاق ضيق وقلت: للسن حق: إن كنت قدمتني للسن معتمدا ... فالعلم أفضل تقديما من العمر ما للكبير بلا فهم مقدمة ... ولو يكون بعمر الشمس والقمر أبو القاسم عبد الرحمان ابن خرشوش المغربي ذكره أبوالفتح نصر بن عبد الرحمان الغزاري الإسكندري قال: كان ذا أدب مجيدا في علم الشعر، آباؤه من سلاطين المغرب، له نفس سامية، وهمة عالية، وقصائد كثيرة، وأنشدني كثيرا من شعره قال: وأنشدني بدمشق لنفسه في وصف صبي كان يستحسنه جدا يعرف بابن أبي النجم: مَلامِيَ في حُبِّيكَ يا ابن أبي النجم ... يطول وصدي عنه في غاية الحزم سأعصي مقال العاذلين وإن غدا ... وصالك عن مضناك أقصى من النجم وما يظُبى عينيك من سحر بابل ... ومن سقم أهدى السقام إلى جسمي أرح دنفا لم تدر عيناه ما الكرى ... ولا جسمه يدري شعارا سوى السقم أبو الحسن عبد الله ابن شمّاخ الكاتب له: لئن بعدت دار اعتاربك وانتهى ... بك الشوق فيها منتهى لا تحدّه فما أنت إلا بين ذكر تشيده ... وعقد اصطبار للملم تشده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 958 وقد يكره المرء النوى وهي سلم ... إلى كل ما يختاره ويودّه وكم مرة ذقت الحوادث مرة ... وقاسيتها والبين قد جد جدّه فلم يلق مني حد صبر يفله ... ولم يلف عندي طود عز يهدّه وله في الهناء بمولود: أيها الدهر لنت بعد عناد ... وبثثت السرور في كل ناد نشأت نعمة وعندي شكر ... في ذرى الحاجب الرفيع العماد وانجلى الليل عن تلألؤ نجم ... ثاقب النور طيب الميلاد فالزمان القطوب طلق المحيا ... والمراد الجموح سهل القياد هي بشرى لت لكل ولي ... وأمرت على قلوب الأعادي فلنا دولة الصّعود وفيهم ... ما بقوا صولة الظبي والصعاد أنت حظي من الملوك وسؤلي ... وطريقي من المنى وتلادي فاستدم ما منحت بالحمد حتّى ... تدرك الشيب من بني الأولاد نقل قول البحتري: وبقيت حتى تستضيء برأيه ... وترى الكهول الشيب من أولاده وله: وبنفسي أحوى الجفون غرير ... مخصب الحسن مجدب الإحسان محمد ابن السبّي يهجو القاضي ابن حمدين أنشدني الحكيم يحيى بن إسماعيل بن يحيى البياسي من الأندلس: يريد ابن حمدين أن يجتدى ... وجدواه أدنى من الكوكب إذا سئل حكّ استه ... ليثبت دعواه من تغلب هذا ينظر إلى قول جرير يهجو الأخطل: والتغلبي إذا تنبه للقرى ... حك استه وتمثل الأمثالا وذكر أنه لقبه ابن سارة وهو حينئذ حدث السن، فقال له: أجز يا فتى: هذي البسيطة كاعب أترابها ... حلل الربيع ووشيها الأزهار فأجازه بديها: وكأن هذا الجو فيها عاشق ... قد شفه التعذيب والأضرار فإذا شكا فالبرق قلب خافق ... وإذا بكى فدموعه الأمطار ولفرط ذلة ذا وعزة هذه ... تبكي الزهور ويبسم النّوار وأنشدني له وقد قضى له بعضهم بعض حاجة: سألتك أيها الأستاذ حاجه ... بلا ضجر تكون ولا لجاجه فجئت ببعضها وتركت بعضا ... ومن حق المقصر أن يفاجه جزاك الله عني نصف خير ... فإنّك قد أتيت بنصف حاجه وله من قصيدة في ابن حمدين: لا بد أن يقع المطلوب من سؤلي ... ولو بني داره في دارة القمر ابن الرّفاء ومن أهل بلنسية، توفي شابا في حدود سنة أربعين وخمسمائة، وله: يا ضياء الصبح تحت الغبش ... أطراز فوق خديك وشي أم رياض دَبَّجَتْهَا مزنة ... وبدا الصدغ بها كالحنش لست أدري أسهام اللحظ ما ... أتقى أم لدغ ذاك الأرقش بأبي منك قسيّ لم تزل ... راميات أسهما لم تطش رَشَقَتْ قلبا خفوقا يلتظي ... كضرام بيديْ مرتعش رب ليل بته ذا أرق ... ليس إلا من قتاد فُرُشي سابحا في لجج الدمع ول ... كنبي أشكو غليل العطش ونجوم الليل في أسدافه ... كسيوف بأكف الحبش وسماء الله تبدي قمرا ... أوضح الغرة كابن القرشي ليس فرقا في السنا بينهما ... والبها إن طَلَعَا في غبش غير أن الأفق مغمور بذا ... وبذا حومة باب الحبش باب من أبواب بلنسية. ولقيت في هذا أبياتا قالها بعضهم وكانت: معشر الناس بباب الحبش ... بدر تمّ طالع في غبش بائع الفخار في حانوته ... عجبا من حسنه كيف وشي علق القرط على مسمعه ... من عليه آفة العين خشي أنا ظمآن إلى ريقته ... لو بها جاد لروّى عطشي أبو بكر يحيى ابن بقي الأندلسي من شعراء الخريدة، توفي سنة أربعين وخمسمائة ومشمولة في الكأس تحسب أنها ... سماء عقيق زينب بالكواكب بنت كعبة اللذات في حرم الصبا ... فحج إليها اللهو من كل جانب المخزومي الأعمى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 959 من غرناطة ذكره وقال: كان نذلا هجاء. ومن هجائه في ابن رعمان وهو رجل من أكابر غرناطة: خلا نجل رعمان ليلا بعرسه ... فجامعها في ساعة الدبران فجاءت به مأبون أشوه خلقة ... كريم عجان لا كريم بنان وتدور إحدى مقلتيه لأختها ... كأنهما عنزان ينتطحان وما وقع المأبون من حِرِ أمِّهِ ... إلى الأرض إلا فوق رأس ختان أبو بكر البكّي وبكة حصن في شرق الأندلس. بلغ الهرن وتوفي بعد سنة ستين وخمسمائة وكل ما ينظمه هجو ومن شعره قوله: أخاف من الجوارح أن يلموا ... ومالي بالجوارح من يدين فإما تدخلونيَ حِرْحَ أسْمَا ... فأقلب كل ذي نظر وعين يعني: لاتّساع الموضع: وإلا فارفعوني إن قدرتم ... على قرن الوزير أبي الحسين أسماء: زوجته وله: قالوا الكتابة أعلى خطة رفعت ... قلت الحجامة أعلى عند أقوام لا تحسبوا المجد في طرس ولا قلم ... المجد في صوفة أو مبضع دام أبو بكر محمد الأبيض توفي بعد سنة ثلاثين وخمسمائة، أنشدني له في تهنئة مولود: يا خَيْرَ معن وأولاها بعارفة ... شُكْراً لِنَعْمَاء عنها الدهر قد نفسا ليهنك الفارس الميمون طائره ... لله أنت فقد أذكيته قبسا وتعشق الدرع مذ شدت لفائفه ... وأبغض المهد لما أبصر الفرسا أصاخت الخيل آذانالصرختهواهتز كل هِزَبْرٍ عند ما عطسا تعلم الركض أيام المخاض به ... فما امتطى الخيل إلا وهو قد فرسا أبو عبد الله محمد ابن عائشة البلنسي قد سبق ذكره وأوردت له بيتين. أحد كتاب أمير المسلمين، والبلغاء الموصوفين، وكان متعففا، متزهدا متقشفا، أجاب إلى الكتابة بعد امتناع وإباء، وحصل منه بكل حظ وحباء، ومن شعره قوله: لله ليل بات في جنحه ... طوع يدي مَن مهجتي في يديه وبته أسهر أنسا به ... ولم أزل أسهر شوقا إليه عاطيته صفراءمشمولةكأنها تعصر من وجنتيه ما أحسن قول القائل حين قال: أمن خديك تعصر قال: كلا ... متى عصرت من الورد المدام ولابن عائشة قوله: وهو مما أبدع فيه وزاد على من تقدم: إذا كنت تهوى وجهه وهو روضة ... بها نرجس غض وورد مضرج فزد كلفا فيه وفرط صبابة ... فقد زاد فيه من عذار بنفسج وقوله وقد سبق: ودوحة قد علت سماء ... تطلع أزهارها نجوما كأنما الجو غار لما ... بدت فأغرى بها النسيما هفا نسيم الصبا عليها ... فخلتها أرسلت رجوما وقوله وقد أسن واكتهل، واهتبل فرصة العمر وإلى الله ابتهل: ألا خلياني والأسى والقوافيا ... أرددها شجوا وأجهش باكيا أآمن شخصا للمسرة باديا ... وأندب رسما للشبيبة باليا تولى الصبا إلا توالي ذكرة ... قدحت بها زندا من الوجد واريا وقد بان حلو العيش إلا تعلة ... تحدثني عنها الأماني خواليا فيا يرد ذاك الماء هل مك قطرة ... فها أنا أستسقي غمامك ناشيا وهيهات حالت دون حُزْوَى وعهدها ... ليال وأيام تخال لياليا قفل في كبير عادة عائد الصبا ... فأصبح محتاجا وقد كان ساليا فيا راكبا مستعجل الخطو قاصدا ... ألا عج بشقر رائحا ومغاديا وقف حيث سال النهر ينساب أرقما ... وهبَّ نسيم الأيك ينفث راقيا معنى ابتكره، وما من ذي فضل إلا وعلى هذا الإغراب شكره: وقل لأثيلات هناك وأجرع ... سقيت أثيلات وحييت واديا وليس ببدع أن تعذب في الهوى ... فحييت من أجل الحبيب المغانيا أبو بكر الخولاني المنجم منجم المعتمد ابن عباد، كتب إلى ابن اللبانة وقد عاد من أغمات فقصدنا زائرا للمعتمد عند اعتقاله بها وزوال أمره: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 960 بدرت إلى تقبيل عين أبي بكر ... لرؤيته البدر المنير على البدر وقبلت فَاهُ ناقل الحكم التي ... هي السحر من نظم يروق ومن نثر ولو لم يدافعني عن القدم التي ... خطت نحوه قبلت أخمصها عمري لقد نال ما استدعى حسادتنا به ... وما حسد في مثل هذا بنا يزري حسدناه أن نال البعيد مزاره ال ... ممثل منا في الخواطر والفكر وإن قبّل الكف المبرة في الندى ... على الزاخر الفياض والواكف البشر وإن شام لألاء الجبين الذي به ... تكشفت الظلماء في سالف الدهر وما أبعدتنا عن مزارك غدرة ... يضاف بها للدائمين على الغدر ولكن أمور ليس تخفى لناظر ... فلسنا بمحتاجين فيها إلى العذر وأحفل بتسليم على البش دائما ... لرؤية ملهوف ورؤية معتر على مكسب الأملاك زهوا ونخوة ... بنيلهم تقبيل أنمله العشر إذا ما استرحنا بالتمني فإنه ... لقاؤك في الزاهي وساحاته الخضر ولا بأس أن يدني الأله مزارنا ... ويجمعنا من حيث ندري ولا ندري أمين ولا تكريرها لي مقنع ... ولو أنني كررتها عدد القطر أبو القاسم الأسعد بن إبراهيم ابن بلّيطة شاعر المعتصم ابن صمادح، ومجازيه المنائح بالمدائح، سبق ذكره في ما أورده ابن بشرون المهدوي، فلما اشتبه أوردت ها هنا مما أورده ابن الزبير في كتاب الجنان من شعره وهو قوله من قصيدة طائية: برامة ريم زارني بعد ما شطا ... تقنصته بالحلم والشط فاشتطا رعى من أناس في الحشا ثمر الهوى ... جنيا ولم يرع العرار ولا الخمطا فاشممني من خده روضة الجنى ... وألذعني من صدغه حية رقطا أمحمرة العينين من ذوق سكره ... متى شربت ألحاظ عينيك أسفنطا وما ذاب كحل الليل في دمع فجره ... إلى أن تبدي الصبح كاللمة الشمطا كأن الدجى جيش من الزنج وافد ... وقد أرسل الإصباح في أثره القبطا ومنها في وصف الديك: وقام لنا ينعي الدجى وشقيقه ... يدير لنا من بين أجفانه سقطا إذا صاح أصغى سمعه لندائه ... وبادر ضربا من قوادمه الأبطا ومهما اطمأنت نفسه قام صارخا ... على خيزران نيط من ظفره خرطا كأن أنوشروان أعلاه تاجه ... وناطت عليه كف مارية القرطا ومنها في العذار: أرى صورة المسواك في حمرة اللمى ... وشاربك المخضر بالمسك قد خطا عسى قزح قبلته فأخاله ... على الشفة اللمياء قد جاء مختطا توهم عطف الصدغ نونا بخدها ... فباتت بمسك الخال تنقطه نقطا وقوله: جرت بمسك الدجى كافوة السحر فغاب إلا بقايا منه في الطرر صيح يفيض وشخص الليل منغمس ... فيه كما غرق الزنجي في نهر قد حار بينهما عن برزخ قمر ... يلوح كالشّنف بين الخد والشعر وقال في مجدور الوجه: من رأى الورد تحت قطر نداه ... لم يعب فوق وجنتي جدريا أنا شمس أردت في الأرض مشيا ... فنثرت النجوم فوقي حليا وقوله وينسب إلى غيره: لَبِسُوا من الزرد المضاعف نَسْجه ... ماء طفا للبيض فيه حباب صف كحاشية الرداء يؤمه ... صف القنا فكأنّه هداب هذا معنى ابتكره واخترعه وابتدعه ولم يجز أحد في مضماره معه وإليه نظر قول ابن خفاجة: وغدت تحف به العصون كأنّها ... هدب تحف بمقلة زرقاء ولابن بليطة: سكران لا أدري وقد وافى بنا ... أمن الملاحة أم من الجريال تتنفس الصهباء من لهواته ... كتنفس الريحان في الآصال وكأنّما الخيلان في وجناته ... ساعات هجر في زمان وصال وقوله في أسود أحدب يسقي الخمر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 961 يا رب زنجي لهوت به ... شمس الضحى لدجاه ممقوته محدودب قد غاب كاهله ... في منكبيه فما ترى ليته وكأنّه والكأس في يده ... جُعَلٌ يدحرج فَصَّ ياقوته ابن المصيصي الأندلسي له يتغزل: شكوت إليه بفرط الدنف ... فأنكر من علتي ما عرف وقال: الشهود على المدعي ... وأما أنا فعليّ الخلف فجئت ابن جهور المرتضى ... فقيه الملاح وقاضي الكلف فقلت له إنني عاشق ... فقال الشهود على ما تصف فقلت له: أدمعي شُهَّدِي ... فقال: لئن شهدت تنتصف فأرسلت منهملات معا ... كمثل السحاب إذا ما يكف وكان بصيرا بأمر الملاح ... ويعلم من أين أكل الكتف فأوما إلى الخد أن يُجْتَنَى ... وأوما إلى الريق أن يرتشف ومنها: فلما رآه حبيبي معي ... ولم يختلف في الهوى مختلف أزال العتاب فعانقته ... كأني لام وإلْفِي ألف وظلت أعاتبه في الجفا ... فقال عفا الله عما سلف هذا آخر ما أورده من كتاب خريدة القصر وجريدة العصر الإمام العالم الأوحد الصاحب الصدر الصاحب ذو الرئاستين جمال الحضرتين أكفى الكفاة أفصح البلغاء، أبلغ الفصحاء شرف الكتاب أمين الملك عمدة الملوك والسلاطين عماد الدين عزيز الإسلام فتى الفرق ذو البلاغتين رئيس الأصحاب أبو عبد الله محمد بن محمد بن حامد الأصفهاني الكاتب الملكي الناصري قدس الله روحه ونور ضريحه. والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 962