الكتاب: موقف ابن تيمية من الأشاعرة تأليف: عبد الرحمن بن صالح بن صالح المحمود الناشر: مكتبة الرشد - الرياض الطبعة: الأولى، 1415 هـ / 1995 م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع ومذيل بالحواشي] ---------- موقف ابن تيمية من الأشاعرة عبد الرحمن بن صالح المحمود الكتاب: موقف ابن تيمية من الأشاعرة تأليف: عبد الرحمن بن صالح بن صالح المحمود الناشر: مكتبة الرشد - الرياض الطبعة: الأولى، 1415 هـ / 1995 م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع ومذيل بالحواشي] ـ[موقف ابن تيمية من الأشاعرة]ـ تأليف: عبد الرحمن بن صالح بن صالح المحمود الطبعة: الأولى سنة النشر: 1415 هـ / 1995 م الناشر: مكتبة الرشد - الرياض   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع ومذيل بالحواشي] -أعده للشاملة: أسامة بن الزهراء؛ فريق عمل الشاملة - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 أصل هذا الكتاب رسالة دكتوراة تقدم بها المؤلف إلى كلية أصول الدين بجامعة الإمام بن سعود الإسلامية - قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة - وتكونت لجنة المناقشة من: * الدكتور سالم بن عبد الله الدخيل:مشرفاً * معالي الشيخ ناصر بن حمد الراشد: عضواً * فضيلة الشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان: عضواً وذلك بتاريخ 19/5/1409 هـ. وقد نالت الدرجة العالمية الدكتوراة مع مرتبة الشرف الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. وبعد: فلا شك أن العالم الإسلامي مع بداية هذا القرن- الخامس عشر الهجري - وقبله بقليل، يمر بمرحلة مهمة من تاريخ المسلمين المعاصر، وقد تمثلت هذه المرحلة بشكل واضح في العودة إلى الإسلام والثقة به عقيدة وشريعة، وذلك في خضم العقائد والفلسفات والأنظمة والقوانين السائدة في العالم. ولا شك أن هذه العودة- والصحوة- تبهج وتسر قلب كل مؤمن، وتملؤه فخرا واعتزازا بهذا الدين، الذي حاربه أعداؤه بكل الوسائل والأساليب، ولكن {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (الصف:8) . ولما كان شعار كل مسلم وكل داعية العودة إلى الكتاب والسنة،- وهو ما يتفق على إعلانه الجميع- إلا أن الأمر حين ينتقل إلى التطبيق العملي والتربية المنهجية وتحديد المصادر المفسرة والشارحة لهذين المصدرين- المسلمين- يأخذ أشكالا وسمات متعددة، وكثيرا ما تكون متعارضة، وفي النهاية يتخذ كل واحد منها شكل طائفة أو فرقة أو مذهب فكري محدد. والعجيب أن كلا منهم يدعي أن أصول مذهبه قائمة على الكتاب والسنة، ومن ثم فمن لم يلتزم بأصوله فهو ضال مبتدع. وهذه المشكلة لا تختص بعصرنا هذا، بل هي مشكلة قديمة نشأت منذ ظهور الفرق والطوائف في أواخر عهد الصحابة- رضي الله عنهم أجمعين- وإلى عهود التابعين ومن جاء بعدهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وفي العصر الحاضر نشأت إضافة إلى الفرق والطوائف القديمة- تيارات فكرية متعددة، ومذاهب وفلسفات متباينة، ومن ثم أصبح تحديد المنطلق والمنهج والأصول أكثر إلحاحا وأشد حاجة من ذي قبل، خاصة مع كثرة التدليس والتلبيس، ومحاولة إخضاع الأصول والنصوص الإسلامية لتوافق كثيرا من النظريات والمذاهب السائدة أو التى يريد لها أعداء الاسلام أن تسود. وأخطر ما يواجه مسيرة المسلمين اليوم- إذا صرف النظر عن التيارات الإلحادية الصريحة، والمذاهب الباطنية، وما شابهها مما هو صريح في إلحاده وبعده عن حقيقة الإسلام- تياران كبيران: أحدها: تيار القوميين والعلمانيين، الذين لا يرفضون الإسلام صراحة، ولكنهم يجعلونه ضمن دائرة خاصة لا يتعداها، وذلك بجعله جزءا من التراث- كما يسمونهـ بحيث يشمل كل الفلسفات والأفكار والتقاليد والمناهج والنظم- سواء وجدت قبل الإسلام أو بعده، وسواء كانت موافقة لأصول الإسلام أو مخالفة، ما دام يدخل ضمن دائرة تراث هذه الأمة التي ينتسبون إليها. وهؤلاء ينظرون إلى الاسلام نظرة إكبار وإعزاز لا لأنه دين الله الذي لا يقبل من أحد سواه، وبه النجاة من عذابه يوم القيامة، وإنما لأنه أحد معطيات تراث الأمة القومي. ومن هؤلاء من يريد حصر الإسلام في جانب ضيق من حياة الإنسان، بحيث يبقى ضمن نطاق محدود من إقامة الشعائر التعبدية، والأحوال الشخصية، والالتزام الفردي بأخلاقياته ومحاسن آدبه، أما نواحي الحياة المختلفة فالأمر فيها متروك للأمة أن تستفيد من النظم والقوانين المختلفة، ومناهج التربية المتعددة، من الشرق أو الغرب ولو كانت مخالفة للاسلام وهذا ما يتبناه العلمانيون وأضرابهم. وهذا التيار غالبا ما يحمل أفراده أفكارا وفلسفات غريبة وفاسدة لها تصورها الخاص ومنطلقاته العقدية التي تغلب جانب العقل وتعلي من شأنه، وغالبا ما تكون لها جذور فلسفية أو كلامية سابقة تنطلق منها، أو تستفيد من آثارها وكتبها. والذي يميز هؤلاء عداؤهم للسلف أهل السنة والجماعة، ومن يدعو إلى العودة إلى عقيدتهم ومنهجهم، ووصمهم لهم بعبارات الاحتقار والازدراء وقلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 الفهم والعقل، والتخلف والتعقيد. والتيار الثاني: تيار أهل البدع من أهل الاعتزال والكلام والتصوف، وهم امتداد واضح وقوي لمن سبقهم من هذه الطوائف! وغيرها، ويقومون بجهود عظيمة في الدعوة إلى مذاهبهم، ونشر كتبهم، وإقناع الناس ممن حولهم، أو يسمع كلامهم بأن ما عندهم هو الحق وأن هذا اعتقاد كبار الشيوخ سلفا وخلفا. ويغضون من شأن الدعاة إلى مذهب السلف ويرمونهم بشتى التهم التى تنفر الناس منهم. وأخطر ما يمثل هذا التيار: الأشعرية والصوفية، حيث إن لهما امتدادا عريضا في أماكن مختلفة من العالم الإسلامي، وساعد على ذلك أمور من أهمها: 1- تبني كثير من الجامعات والمراجع العلمية للمذهب الأشعري- أو الماتريدي - على أنه المذهب الحق الذي يجب أن يكون ضمن مناهج التعليم. 2- استمرار تبني هذا المذهب من خلال دروس المشايخ- في بعض البلاد منذ قرون مضت، وربطه في الغالب بالمذاهب الفقهية المشهورة، بحيث أصبح أمرا معهودا، وطريقة مسلمة (1) . 3- وفرة الكتب والمراجع المخطوطة والمطبوعة التى تخدم هذا المذهب، والتي نشرت وطبعت بتحقيق وبدون تحقيق. 4- الترابط- أو الامتزاج- الذي وقع بين المذهب الصوفي والأشعري، مما جعل الطرق الصوفية المختلفة تجعل العقيدة الأشعرية عقيدتها المفضلة. والتصوف وطرقه منتشر في غالب بلاد العالم الاسلامي، ولهم أنشطة واضحة ومتعددة. ولكن هذه التيارات بإمكاناتها الكبيرة وجهودها المتواصلة يقابلها تيار قوي، منتشر في أنحاء العالم الإسلامي يتبنى عقيدة السلف ومنهجهم في الاستدلال،   (1) يذكر الهراس أنهـ في العصور المتأخرة استقرت أحوال الأمة- في كثير من بلاد الإسلام- على تحريم أخذ الأصول بغير المذهب الأشعري. انظر ابن تيمية السلفي للهراس (ص: 19) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ويدعو إلى العودة إلى ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولديه ثقة مطلقة بأنه لا عزة للمسلمين ولا رفعة ولا مكانة ولا نجاة من عذاب الله إلا بالرجوع إلى هذا الدين عقيدة وشريعة ومنهاج حياة، ويقومون بما يجب عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والرد على أهل الانحراف والإلحاد سواء من أصحاب الأفكار الغربية المستوردة، أو من أهل البدع والكلام والأهواء، كما يقومون بجهود مشكورة في الدعوة إلى مذهب السلف بالوسائل المختلفة، ونشر الكتب التي تخدم هذا المذهب وتوضحه، وتحقيق ما كان مخطوطا منها، والقيام بالدراسات المختلفة التي تختص بدراسة مسائل أو جوانب محددة تبين فيها وجه الحق وترد على أهل الباطل. وقد كان للأقسام الشرعية في جامعات هذه البلاد جهود مشكورة في هذا المجال، خاصة في البحوث التي يقوم بها الدارسون للحصول على الدرجات العلمية والتي تشمل تحقيق الخطوطات، ودراسة الموضوعات. ونسأل الله تعالى أن ييارك في هذه الجهود وأن يرزقنا جميعا الإخلاص في الأقوال والأعمال. ولما كنت قد حصلت على درجة الماجستير من قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في كلية أصول الدين بالرياض، رغبت في تسجيل بحث آخر للدكتوراه، فهداني الله إلى اختيار موضوع "موقف ابن تيمية من الأشاعرة"، وترجع أهمية هذا الموضوع إلى عدة أمور منها: 1- أن هناك خلطا في تحديد مذهب السلف، أهل السنة والجماعة، ومجمل اعتقادهم الذي يميزهم عن غيرهم من أهل البدع والأهواء. ومن المعلوم أن مذهب الأشاعرة قد اشتهر بين كثير من الناس على أنه هو مذهب أهل السنة والجماعة، وأن اعتقادهم يمثل اعتقاد السلف، ومن المؤسف أن هذا المفهوم سائد إلى الآن في كثير من البلاد الإسلامية (1) . ومن أبرز العلماء الذين عملوا- بشكل قوي ومركز وشامل- على بيان   (1) انظر: ابن تيمية السلفي، للهراس (ص: 6،23-24) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الحق في ذلك وتمييز مذهب السلف عما يدعيه هؤلاء: شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- تعالى (1) -. 2- أن مذهب الأشاعرة قد انتشر في العالم الإسلامي، قبل ابن تيمية (2) ، وقد حدثت له عدة تطورات قربته كثيرا من المعتزلة والفلاسفة والمتصوفة، ولم يأت عهد ابن تيمية إلا وقد بلغ أوجه في التطور والانتشار بعد الجهود الكبيرة التي قام بها علماء كبار من هذا المذهب كالغزالي والرازي وغيرهما، فلما جاء شيخ الإسلام ابن تيمية بعد ذلك ممثلا لمذهب السلف ومدافعا عنه ورادا على هؤلاء، تميز عهده بأمرين:- أحدهما: بروزه على أنه أول من تصدى بقوة للمذهب الأشعري- خاصة بعد تطوره الأخير- ولذلك يقول المقريزي- بعد عرضه لنشأة المذهب الأشعري وانتشاره على يد بعض العلماء والسلاطين: " فكان هذا هو السبب في اشتهار مذهب الأشعري وانتشاره في أمصار الاسلام، بحيث نسي غيره من المذاهب وجهل، حتى لم يبق اليوم مذهب يخالفه إلا أن يكون مذهب الحنابلة- أتباع الامام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل- رضي الله عنهـ، فإنهم كانوا على ما كان عليه السلف لا يرون تأويل ما ورد من الصفات- إلى أن كان بعد السبعمائة من سني الهجرة اشتهر بدمشق وأعمالها تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني، فتصدى للانتصار لمذهب السلف، وبالغ في الرد على مذهب الأشاعرة، وصدع بالنكير عليهم وعلى الرافضة وعلى الصوفية (3) . ولا شك أنه كانت لعلماء السلف في كل زمن جهود مشكورة في الدفاع عن عقيدة السلف والرد على خصومها،   (1) يقول عبد الحليم محمود- وهو صوفي-:ولايزال هذا الجدل حول تحديد مذهب السلف مستمرا إلى الآن بين مدرسة الأشعري ومدرسة ابن تيمية، كل منهما يزعم انتسابه للسلف ومتابعته لمالك وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما!، التفكير الفلسفي في الإسلام (ص: 135) . (2) سيأتي إن شاء الله بيان ذلك في الفصل الرابع من الباب الأول. (3) الخطط (2/358-359) ، مصورة بولاق، وانظر في علم الكلام- الأشاعرة- لأحمد صبحي (ص:14) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 ولكن ما قام به شيخ الإسلام كان من القوة والتأثير بحيث أصبح يمثل مرحلة بارزة من مراحل كل من مذهب الأشاعرة ومذهب السلف أيضا. والثاني: أن مجيئه في وقت متأخر- حيث ولد سنة 661 هـ وتوفي سنة 728 هـ- وفر له وسائل الاطلاع على ما انتهى إليه هؤلاء الأشاعرة في شرح مذهبهم، والاستدلال له والرد على خصومه، ومن ثم تميزت ردود شيخ الإسلام ومناقشاته لهم بالقوة والعمق والشمول، وكشف خبايا هذا المذهب وتناقضاته، وتسجيل اعترافات شيوخه وردود بعضهم على بعض. ولا شك ان هذه الأمور لها أثر كبير في بيان فساد أقوال الخصوم وتهافت أدلتهم. ومذهب الأشاعرة لا يزال موجودا ومنتشرا- معتمدا على الأصول التي انتهى إليها المذهب الأشعري قبيل عهد ابن تيمية- ولم يحدث له تطور آخر، وإنما بقى معتمدا على من سبقه، ومن ثم فالرد عليه وبيان ما فيه من مخالفة لمذهب السلف لابد أن يكون معتمدا على ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية. وهذا واقع الحال، فقلما يتصدى أحد للرد على المعتزلة أو الأشاعرة أو المتصوفة أو الرافضة أو غيرهم إلا ويكون جل اعتماده في ذلك- بعد الكتاب والسنة وأقوال السلف- على ردود ومناقشات هذا الإمام العظيم. 3- أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان صاحب منهج واضح ومحدد، سار فيه على وتيرة واحدة في جميع كتبه، لم تتغير طريقته، ولم تتناقض أقواله، مع كثرة كتبه، وطولها، وتشعب مسائلها، كا أن قناعته بمذهب السلف، وأن الحق كل الحق فيه، وأن ما عداه من الآراء والأقوال المبتدعة إما ضلال أو انحراف، أو في مذهب السلف ما يغني عنه تمام الغنى- لم تتغير أو تضعف. ولذلك كانت هناك أهمية خاصة لما كتبه في بيان عقيدة السلف والمنهج الصحيح في تقريرها، وكذلك ما كتبه في الرد على مخالفي عقيدة أهل السنة والجماعة والمنهج الصحيح لذلك. 4- وأخيرا فمما يلاحظ أن ردود شيخ الإسلام على كثير من الطوائف التي كانت أشد انحرافا من الأشاعرة، كالفلاسفة، وغلاة الصوفية، والمعتزلة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 والجهمية، وغيرهم- لم تكن مقصودة لذاتها، لأن أصحابها كانوا قلة وكان المجتمع الاسلامى رافضا لها ولأفكارها، فلما تغلغلت آراء وأقوال هذه الطوائف عن طريق إدخالها في المذهب الأشعري، وتبني بعض أعلام الأشاعرة لها، صار خطرها يتهدد عامة المسلمين الذين كانوا يثقون في كثير من هؤلاء الشيوخ لأنهم علماء الأمة وفقهاؤها وقضاتها. فلما رأى شيخ الإسلام ذلك شمر للرد عليهم جميعا وعرض لفساد الأصول التى ترجع إليها هذه الأقوال وزيفها، وأطال في نقضها. وما كان شيخ الإسلام ليشغل نفسه بالرد على الفلاسفة مثلا لولا أن كثيرا من أصولهم صارت جزءا من كتب أهل الكلام، يعتمدون عليها، ويشرحونها في كتببهم، ويبنون عليها كثيرا من أدلتهم، حتى أصبحت هذه الأصول هي الأصل، وما جاء به الكتاب والسنة وأقوال السلف فرعأ لا حجة فيه ولاقيمة له إلا في حدود ضيقة. فهذه الأمور وغيرها تبين أهمية بحث موقف! ابن تيمية من الأشاعرة، ولا شك أن البحوث حول كل من ابن تيمية وجهوده العلمية المختلفة (1) ، وحول الأشاعرة وأعلامهم وعقائدهم (2) - كثيرة جدا، كما أن لعلمائنا الأفاضل   (1) المؤلفات حول شيخ الإسلام ابن تيمية كثيرة جدا، ويصعب حصرها، ويمكن الاشارة إلى البحوث والأطروحات العلمية منها، فإضافة الى العدد الكبير من كتبه التي قدمت للتحقيق، كالجواب الصحيح، والتدمرية، وشرح الأصفهانية، والتسعينية، وبغية المرتاد، واقتضاء الصراط المستقيم، وشرح حديث النزول، والقواعد الفقهية، ومناسك الحج والعمرة من كاب شرح العمدة، والمسودة. وغيرها - هناك عدد من الموضوعات المقدمة رسائل علمية ومنها على سبيل المثال: منهج ابن تيمية في تفسير القرآن صبرى المتولي ومنطق ابن تيمية: محمد حسني الزين، وأصول الفقه وابن تيمية: صالح المنصور، وموقف ابن تيمية من التصوف والمتصوفة " أحمد بن محمد بناني، وهذه كلها مطبوعة. ومنها دور ابن تيمية في الجهاد ضد المغول: مريم محمد بن لادن، وابن تيمية ونقده للنصارى: فايزة بكري، وغيرها كئير جدا. (2) منها: أبو الحسن الأشعري بين السلف والمتكلمين: هادي طالبي، ونشأة الأشعرية تطورها: جلال موسى، والأشاعرة، لأحمد صبحي، وما كتبه عبد الرحمن بدوي في الجزء الأول من مذاهب الاسلاميين، وفخر الدين الرازى للرزكان، وآراء الغزالي في الالهيات: سليمان شيبي، والبيهقى وموقفه من الالهيات: أحمد عطية الغامدي، وغيرها كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ردود متنوعة على الأشاعرة وبيان ما خالفوا فيه مذهب السلف (1) . وهذا البحث الذي أقدمه اليوم- على ضعف مني وقلة حصيلة وقصر باع إنما هو محاولة لبيان الحق في هذه المسألة العظيمة من خلال ما كتبه شيخ الاسلام ابن تيمية-رحمه الله- تعالى-. وقد اشتملت خطة البحث- بعد المقدمة العامة- على تمهيد وبابين وخاتمة. أما التمهيد: فقد كان بعنوان: السلف ومنهجهم في العقيدة، وقد اشتمل على التعريف بالسلف وأهل السنة والجماعة، ثم بيان نشأة التسمية بهذا الاسم، ثم شرح منهجهم في العقيدة والاستدلال لها. وقد جاء هذا التمهيد مفصلا بعض الشيء لأن كلا من الأشاعرة وابن تيمية ينسب مذهبه إلى مذهب السلف، فكان لابد من ذكر مذهب السلف من مصادره ليتبين عند المقارنة من الذى كان سائرا على مذهب السلف ومن الذي انحرف عنه. وأما الباب الأول: فكان موضوعه: ابن تيمية والأشاعرة، وقد اشتمل على عدة فصول: الفصل الأول: عن حياة ابن تيمية، وقد اشتمل على مبحثين: المبحث الأول: عصر ابن تيمية وقد عُرضت فيه لبعض القضايا والأحداث التي حفل بها هذا العصر المليء بالاضطرابات، مثل الغزو الصليبي للعالم الإسلامي، وظهور التتار وسقوط الخلافة العباسية في بغداد، وقيام دولة المماليك،   (1) من ذلك ما كتبه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز في مجلة المجتمع الكويتية العدد (958) بتاريخ 12/5/1404 هـ- وأعيد نشر المقال في العدد الذى يليه من المجلة المذكورة- ردا على أقوال محمد على الصابوني حول الأشاعرة- نشرت آراء الصابوني في مجلة المجتمع ني الأعداد (613،629،646) كرد على الصابوني فضيلة الشيخ الدكتور صالح الفوزان، وقد نشر رده في مجلة المجتمع العدد (646،647) كما نشر في مجلة الدعوة السعودية العدد (904) . كما رد على الصابوني بشكل مركز وشامل الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالى، وقد نشر رده في مجلة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، ثم أعيدت طباعته في كتاب مستقل، نشر الدار السلفية في الكويت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 ودور الباطنيين والرافضة، إضافة إلى الجوانب العلمية والعقدية. وقد فصل القول في المبحث بعض الشيء لأمرين أحدهما: أنه عصر مليء بالأحداث الجسام فهو كثير الشبه بعصرنا، ومن ثم فلا يكفي الاختصار والعرض السريع. والثاني: أن تفصيل بعض المسائل أغنى عن ذكرها عند الحديث عن مواقف ابن تيمية تجاه أحداث عصره. المبحث الثاني: في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية، وذلك بتوضيح الجوانب المعهودة في التراجم مثل اسمه ونشأته، وشيوخه، وجهاده وربطه العلم بالعمل، ودوره في مقاومة التتار والرافضة، ثم بيان منزلته ومكانته، وما جرى له من محن على يد أعدائه في الشام ومصر، وقد فصل القول في ذلك مع التركيز على بيان الدور الإيجابي في هذه المحن كلها. ثم ذكر تلاميذه والمتأثرين به، ورسائله وكتبه مع التركيز على بيان ما ألفه منها في الرد على الأشاعرة، ثم ذكر وفاته رحمه الله. الفصل الثاني: في منهج ابن تيميه في تقرير عقيدة السلف والرد على خصومها، وقد شمل ذلك البحث منهجه في المعرفة والاستدلال، وبيان العقيدة والاستدلال لها، والرد على الخصوم، وما تميز به شيخ الاسلام من الأمانة العلمية. الفصل الثالث: عن حياة أبي الحسن الأشعري وعقيدته، واشتمل هذا الفصل إضافة إلى ترجمة الأشعري وحياته وشيوخه وتلاميذه ومؤلفاته بحث مسألة الأطوار التي مر بها في حياته العقدية وهل كانت طورين أو ثلاثة، وهل كان رجوعه في الإبانة إلى مذهب السلف رجوعاً كاملا أو بقيت عليه بقايا من أقوال أهل الكلام، ثم عرض لعقيدته وآرائه. الفصل الرابع: وموضوعه: نشأة الأشعرية وعقيدتهم، وقد اشتمل هذا الفصل على عدة مباحث، منها شيوخ الأشاعرة وأسلافهم الكلابية، مع الترجمة لأبرز أعلامهم. ومبحث الماتريدية وعلاقتهم بالأشاعرة، ثم مبحث نشأة المذهب الأشعري وأسباب اتنشاره. وأخيرا وبشكل مختصر عقيدة الأشاعرة. الفصل الخامس: وموضوعه: تطور مذهب الأشاعرة وأشهر رجالهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 إلى عهد ابن تيمية، وفي هذا الفصل عرض لما حدث لمذهب الأشاعرة من تطور على يد أبرز رجاله، سواء بالميل إلى التأويل وأقوال المعتزلة، أو الامتزاج بالتصوف، أو الخوض في علوم الفلاسفة وإدخال آرائهم وأصولهم لتصبح جزءا من كتب الأشاعرة الكلامية. وقد ترجم في هذا الفصل لأبرز أعلام الأشاعرة- مع عرض مركز لأثر كل علم في تطور المذهب الأشعري، وهؤلاء الأعلام هم: أبو الحسن على بن مهدي الطبري، والباقلاني، وابن فورك، والبغدادي، والبيهقي، والقشيرى، والجويني، والغزالي، وابن تومرت، وأبو بكر بن العربي، والشهرستاني، وابن عساكر، والفخر الرازي، والآمدي، والعز بن عبد السلام، والبيضاوي، وأبو عمر السكوني، وصفي الدين الهندي، وعضد الدين الإيجي، وبدر الدين بن جماعة، وهؤلاء الخمسة كانوا معاصرين لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمهم الله جميعا- ولم يكن الحديث عن هؤلاء من حيث التركيز والإطالة على وتيرة واحدة، بل منهم من أطيل الكلام حوله كالباقلاني، وابن فورك، والبيهقي، والجويني، والغزالي، والرازي، والباقون بين التوسط والاختصار، وذلك حسب أهمية العلم وكثرة مؤلفاته العقدية، ودوره في تطوير مذهب الأشا عرة. أما الباب الثاني: فموضوعه: موقف ابن تيمية من الأشاعرة، وقد اشتمل على ثلاثة فصول:- الفصل الأول: في عرض ابن تيمية لجوانب الأشاعرة الإيجابية، واعترافه بما عندهم من حق، وهذا جزء من منهجه العام في الرد على الخصوم- والذي وضح في الفصل الثاني من الباب السابق-، وشيخ الاسلام وهو يرد على الأشاعرة وأعلامهم ردودا طويلة لم يمنعه ذلك من الاعتراف بجوانبهم الإيجابية في الرد على الفلاسفة، والباطنية، والمعتزلة والنصارى وغيرهم، وهو يدل على صفة العدل والانصاف مع خصومه، حتى وهم يمتحنونه، ويكونون سببا في سجنه وإيذائه. الفصل الثاني: في منهج ابن تيمية العام في الرد على الأشاعرة، وهذا الفصل من أهم فصول الرسالة، وفيه عرض للقضايا العامة التي ناقش فيها شيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 الإسلام الأشاعرة، والتي لا تختص بباب معين من أبواب العقيدة، مثل مسألة أن الكتاب والسنة فيهما ما يغني عما ابتدعه هؤلاء، وحجية خبر الآحاد في العقيدة، وعلم الكلام المذموم، وكون مذهب السلف أعلم وأحكم وأسلم، وجهل الأشاعرة بمذهب السلف، وإرجاع أقوالهم إلى أصولها الاعتزالية والكلامية، وأنه لا تعارض بين العقل والنقل، والرد على متأخري الأشاعرة بأقوال شيوخهم، وتناقض الأشاعرة وما وقع فيه أعلامهم من الحيرة والشك، ثم رجوع بعضهم إلى الحق. ثم بيان تسلط الملاحدة من الفلاسفة والقرامطة عليهم لضعف ردودهم عليهم وأخذهم بأصول أهل الكلام الباطل. وكل مسألة من هذه المسائل يذكر لها شيخ الإسلام أمثلة متعددة. الفصل الثالث: وموضوعه: ردود شيخ الإسلام ابن تيمية عليهم تفصيلا، ويشمل عدة مباحث: المبحث الأول: ردوده عليهم في مسألة توحيد الألوهية والربوبية، ويدخل في هذا المبحث بعض المسائل مثل مسألة أول واجب على المكلف، ومفهوم التوحيد عند الأشاعرة، وبيان خطئهم وتقصيرهم في مسألة توحيد الربوبية، وإغفالهم لتوحيد الالوهية. المبحث الثاني: في الأسماء والصفات، وقد احتوى هذا المبحث على مسائل كثيرة جدا تتعلق بأسماء الله، والصفات التي أثبتها الأشاعرة، والصفات التى نفوها، وكيف رد عليهم شيخ الإسلام طويلا، وخاصة في المسائل الكبرى كمسألة العلو والاستواء، والصفات الفعلية، كالنزول والمجيء والغضب والرضا، والصفات الخبرية، وغيرها. المبحث الثالث: في القضاء والقدر، وبعض المسائل المتعلقة به، وردوده عليهم في ذلك. المبحث الرابع: في الإيمان، وميلهم إلى الإرجاء وردوده على أقوالهم. المبحث الخامس: وفيه عرض لبعض المسائل المتفرقة التي خالف فيها الأشاعرة مذهب أهل السنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 أما الخاتمة ففيها عرض مختصر لأهم نتائج البحث. وقد ذيلت الرسالة بالفهارس المهمة: كفهرس الآيات، والأحاديث، والأعلام المترجم لهم، والفرق والطوائف، والمصادر، والموضوعات. وفي الختام أسأل الله أن يجزل المثوبة لكل من أعانني على استكمال هذا البحث، وأخص بذلك الدكتور سالم بن عبد الله الدخيل المشرف على هذه الرسالة، الذي قرأ جميع فصولها ومباحثها، والذي كان لتوجيهاته وملاحظاته الدقيقة أكبر الأثر. كما أسأل اللة أن يجزل المثوبة لكل الإخوة الذين زودوني ببعض المصادر- أو مخطوطة ومطبوعة- وأخص منهم الدكتور/ ناصر العمر- وكيل الكلية للدراسات العليا سابقا- والأخ/ أحمد الحربي، والأخ/ محمد الخميس. وفي الختام أسأل الله أن يغفر لنا خطايانا وتقصيرنا، وأن يلهمنا الصواب، ويعيذنا من فتنة القول وفتنة العمل. إنه ولي ذلك والقادر عليه. والله أعلم وصلى اللة على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. وكتبه/ عبد الرحمن بن صالح المحمود الرياض- كلية أصول الدين ص- ب 17999 الرمز 11494 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 تمهيد: السلف ومنهجهم لب العقيدة أولا: التعريف بالسلف، أهل السنة والجماعة. ثانيا: نشأة التسمية بأهل السنة والجماعة. ثالثا: منهج السلف في العقيدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 تمهيد لما كان موضوع الرسالة يتعلق بشيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- وموقفه من الأشاعرة، وشيخ الإسلام يمثل في موقفه هذا مذهب السلف - رحمهم اللهـ كان من المهم التمهيد ببيان التعريف بالسلف وهل لهم أسماء أخرى عرفوا بها، وكيف تميزوا عن الطوائف والفرق الأخرى؟ ، ثم لابد من بيان منهجهم في العقيدة وضرورة هذا المنهج لكل مسلم يبحث عن الحق، ويرجو الفوز برضوان الله والنجاة من عذابه يوم القيامة. ومسألة الالتزام بمذهب السلف ليست مسألة اختيارية، من شاء سلكها ومن شاء سلك غيرها، بل هى مسألة تتعلق بالإيمان بالله وبما جاء به كتابه وسنة رسولهـ صلى الله عليه وسلم - واتباعهما قولا وعملا، وهذا مما لا يختلف فيه أحد ممن ينتسب إلى الإسلام ولذا تجد الفرق المنحرفة- على اختلاف فيما بينها- كل واحدة تزعم أنها تسير على ما سار عليه الرسول- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وتحتج على أقوالها بالنصوص، وحينما تعدد رجالاتها السابقين تذكر في الطبقة الأولى منهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وهي مع ذلك منحرفة انحرافا بينا، فهى تصادم النصوص، وأحيانا ترفض الاحتجاج ببعضها ... وغالبا ترفض فهنم الصحابة للنصوص وتفسيرهم لها. ولذا فلابد للباحث المسلم أن ينطلق في بحثه من منطلقين: أحدهما: الثقة المطلقة بمذهب السلف، أهل السنة والجماعة، وأن يكون عنده يقين في ذلك لا يتزعزع أبدا. والآخر: تحديد المقصود بالسلف، من هم؟، وما منهجهم، حتى يسلك طريقتهم على بصيرة، ولا يتخبط في سيره بين المناهج الأخرى. ولما كان المنطلق الأول مما لا يختلف! حوله أحد ولو بشكل مجمل، فإننا في هذا التمهيد نعرض للمنطلق الثافي من خلال المباحث التالية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 المبحث الأول: التعريف بالسلف، وأهل السنة والجماعة، وأهل الحديث. المبحث الثاني: من المقصودون بالسلف، ونشأة التسمية بأهل السنة والجماعة؟. المبحث الثالث: منهج السنف، أهل السنة والجماعة في العقيدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 المبحث الأول: التعريف بالسلف، وأهل السنة والجماعة وأهل الحديث أولا: السلف: قال ابن فارس: " سلف ": السين واللام والفاء أصل يدل على تقدم وسبق، من ذلك السلف الذين مضوا، والقوم السلاف: المتقدمون (1) . هذا هو أصل هذه الكلمة لغويا، ولذا قال في العباب الزاخر: " وسلف يسلف سلفا- بالتحريك- مثال طلب يطلب طلبا أي: مضى قال الله تعالى: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] ، والقوم السلاف: المتقدمون، وسلف الرجل: آباؤه المتقدمون، والجمع أسلاف وسلاف " (2) ، ثم نقل عن أبي عبيد الهروي معاني السلف ومنها: القرض، والسلم، ثم قال: " وللسلف معنيان آخران: أحدهما كل عمل صالح قدمه العبد أو فرط فرط له، والسلف من تقدمك من آبائك وذوي قرابتك " (3) ، وهذان المعنيان ذكرهما أهل غريب الحديث، ففي مشارق الأنوار: "والسلف: كل عمل صاع تقدم للعبد، ومنه قوله في الدعاء للطفل:"اجعله لنا فرطا وسلفا " (4) أي خيرا متقدما نجده في الآخرة، والسلف أيضا: من تقدمك من آبائك وقرابتك (5) ، ومثله في النهاية، ومجمع بحار الأنوار (6) ، ويشهد للمعنى الأخير: من تقدمك من آبائك وقرابتك،   (1) معجم مقاييس اللغة، مادة: سلف، (95/3) . (2) العباب الزاخر: للحسن بن محمد الصفاني. حرف الفاء، مادة: " سلف " (3) المصدر السابق. (4) هذا الأثر مروى عن الحسن، وقد علقه البخارى في صحيحه: باب الجنائز- باب قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة (فتح الباري: 3/3 0 2) ، وذكره البخارى قبل حديث رقم (1325) - وقد وصله ابن حجر كا في تغليق التعليق (2/483-484) - وقد روى مسلم لفظة (فرطا وسلفا) من حديث آخر مرفوع ونصه: " إن اللة تعالى (ذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبها قبلها فجحله لها فرطا وسلفا بين يديها000) (مسلم، كتاب الفضائل: باب إذا أراد اللة رحمة أمة قبض نبها قبلها، ورقمه: 2288) . (5) مشارق الأنوار (2/219) . (6) انظر النهاية لابن الأثير، مادة: "سلفا " (2/ 390) ..وانظر أيضا: مجمع بحار الأنوار: محمدطاهر الصديقي، مادة: (سلف) (3/ 100) . وانظر: لسان العرب، مادة: (سلف) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 حديث فاطمة- رضي الله عنها- أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال لها " ... ولا أراني إلا قد حضر أجلي وأنك أول أهلي لحوقا بى، ونعم السلف أنا لك" (1) ،أي المتقدم.وكذا لما ماتت ابنته قال:"الحقي بسلفنا الصالح الخير، عثمان بن مظعون" (2) ومنه الدعاء لأهل القبور: " أنتم سلفنا ونحن بالأثر " (3) . أي: المتقدمون. ونستخلص من هذا أن من معاني السلف: التقدم والسبق سواء كان بالعمل الصاع، أو من تقدم من الآباء وذوي القرابة وغيرهم، ومن هذا المعنى سمي الصدر الأول من التابعين السلف الصالح (4) . ولما حدث الافتراق ونشأت البدع بدأ يتحدد مصطلح السلف في عرف المتأخرين بأنهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان. وسيأتي مزيد إيضاح ومناقشة لهذا بعد التعريف بالمصطلحات المرادفة لمصطلح: " السلف "، مثل: أهل السنة، والجماعة، وأهل الحديث، والأثر، لأن هذه المصطلحات اشتهرت وكثر استعمالها، وخاصة في مجال أصول العقائد. ثانيا: أهل السنة: السنة لغة: السيرة والطريقة، قال ابن فارس: " سن ": السين والنون أصل واحد مطرد، وهو جريان الشىء واطراده في سهولة، والأصل قولهم: سننت الماء على وجهي أسنه سنا، إذا أرسلت إرسالا .... ، ومما اشتق منه السنة، وهى السيرة، وسنة رسول الله عليه السلام سيرته (5) ، فالسنة هي الطريقة،   (1) رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة- باب فضائل فاطمة، ورقمه (2450) مكرر، ورواه أحمد (6/282) . (2) رواه أحمد (1/237) ، ورقمه عند أحمد شاكر (27 1 2) وفيه: أنها زينب، ورواه أحمد أيضا (1/335) ورقمه عند أحمد شاكر (3103) وفيه: أنها رقية. (3) رواه الترمذي، كتاب الجنائز- باب ما يقول الرجل إذا دخل المقابر، ورقمه (1053) تحقيق: فؤاد عبد الباقي. (4) النهاية مادة " سلف " (2/ 390) ، وتاج العروس مادة: " سلف ". (5) معجم مقاييس اللغة، مادة: " عن " (3/60-61) ، وانظر: مجمل اللغة له (3/54- 55) . ط معهد المخطوطات- الكويت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 محمودة كانت أو مذمومة، وهي مأخوذة من السنن وهو الطريق (1) ، ومنه الحديث: " من سن في الاسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شىء، ومن سن في الاسلام سنة سيئة كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شىء " (2) ، يقول ابن الأثير: " وقد تكرر في الحديث ذكر " السنة " وما تصرف منها، والأصل فيها الطريقة والسيرة (3) ، وفي الحديث: " لتتبعن سنن من كان قبلكم " (4) ، أي طريقهم، وقولهم: " هي السنة " (5) أى الطريقة التي سنها النبي عليه الصلاة والسلام وأمر بها (6) ، ولذلك صار لفظ السنة يطلق على ما كان محمودا فيقال: فلان من أهل السنة، معناه، من أهل الطريقة المستقيمة المحمودة (7) . أما السنة في الاصطلاح فلها عدة إطلاقات: أ) ففى اصطلاح المحدثين: عرفها ابن حجر بأنها: " ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله وتقريره وما هم بفعله " (8) ، وعرفها البعض بأنها: " كل ما أثر عن النبي- صلى الله عليه وسلم - من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خلقية أو خلقية، أو سيرة، سواء كان ذلك قبل البعثة أو بعدها " (9) ،   (1) انظر: لسان العرب، مادة: "سنن ". (2) رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة، ورقمه (1017) . (3) النها ية، ما د ة: " سنن " (2/223) . (4) رواه البخارى، كناب أحاديث الأنبياء- باب ما ذكر عن بني اسرائيل ورقمه (3456) ، فتح البارى (6/495) - السلفية، ورواه مسلم كاب العلم- باب اتباع سنن اليهود والنصارى، ورقمه (2669) . (5) ترد كثيرا على لسان الصحابة والتابعين، انظر مثلا: صحيح مسلم، كتاب المساجد- باب جواز الاقعاء على العقبير، ورقمه (536) . (6) مشارق الأنوار (2/223) (7) انظر: لسان العرب، مادة:" سنن". (8) فتح الباري (13/245) . السلفية، وانظر: توجيه النظر (ص: 3) . (9) السنة ومكانتها في التشريع الاسلامى للسباعي (ص: 47) ، وانظر السنة قبل التدوين (ص: 16) ، دراسات في الحديث النبوي للأعظمى (1/1) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 فهي بهذا مرادفة للحديث. ب) وفي اصطلاح علماء أصول الفقه يطلق لفظ السنة على ما جاء منقولا عن النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص، مما لم ينص عليه في الكتاب العزيز، بل إن ما نص عليه من جهته عليه الصلاة والسلام، كان بيانا لما في الكتاب أولا " (1) ، فهي مختصة بما صدر عن النبي- صلى الله عليه وسلم - من غير القرآن مما يصلح أن يكون دليلا شرعيا (2) . ج-) وفي اصطلاح الفقهاء فهي: ما ثبت عن النبى- صلى الله عليه وسلم- ولم يكن من باب الفرض ولا الواجب (3) . فهى مرادفة للمندوب. د) وقد تطلق السنة على كل ما دل عليه دليل شرعي، سواء كان ذلك في الكتاب العزيز أو مأثورا عن النبى- صلى الله عليه وسلم -، أو اجتهد فيه الصحابة كجمع المصحف، وتدوين الدواوين ... (4) ، ودخول ما اجتهد فيه الصحابة يدل عليه حديث: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين " (5) ، وقول على في الخمر: " جلد النبي-صلى الله عليه وسلم- أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سنة " (6) . هـ) كما تطلق السنة في مقابل البدعة، " فيقال: فلان على سنة، إذا عمل على وفق ما عمل عليه السلام، كان ذلك مما نص عليه الكتاب أو لا " (7) .   (1) الموافقات للشاطبي (4/3) ، وانظر: النهاية لابن الأثير (2/409) . (2) انظر: السنة قبل التدوين (ص: 16) . (3) انظر: إرشاد الفحول (ص: 31) . (4) السنة للسباعي (ص: 48) ، وانظر: المرافقات (4/4-6) . (5) رواه الترمذى، كتاب العلم- باب ما جاء في الأخذ بالسنة اجتناب البدع، ورقمه (2676) ، تحقيق عطوه. ورواه أبو داود، كتاب السنة- باب لزوم لزوم السنة، ورقمه (4607) . ط الدعاس. (6) رواه مسلم، كتاب الحدود- باب حد الخمر، ورقمه (1707) . وأحمد (82/1) ، ورقمه عند أحمد شاكر (621) . (7) الموافقات (4/ 4) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 هذه أهم إطلاقات السنة عند العلماء (1) ، والذي يهمنا هنا اصطلاح " السنة " حينما يقال: " أهل السنة " في مجال العقائد، خاصة لما حدث الافتراق في الأمة الإسلامية. يقول ابن رجب: " وعن سفيان الثوري قال: " استوصوا بأهل السنة خيرا فإنهم غرباء " (2) ، ومراد هؤلاء الأئمة بالسنة طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي كان عليها هو وأصحابه، السالمة من الشبهات والشهوات، ولهذا كان الفضيل بن عياض يقول: " أهل السنة من عرف ما يدخل في بطنه من حلال " (3) ، وذلك لأن أكل الحلال من أعظم خصال السنة التى كان عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضى الله عنهم. ثم صار في عرف كثير من العلماء المتأخرين من أهل الحديث وغيرهم: السنة عبارة عما سلم من الشبهات في الاعتقادات خاصة في مسائل الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وكذلك في مسائل القدر، وفضائل الصحابة، وصنفوا في هذا العلم تصانيف وسموها كتب السنة، وإنما خصوا هذا العلم باسم السنة لأن خطره عظيم، والمخالف فيه على شفا هلكة، وأما السنة الكاملة فهي الطريقة السالمة من الشبهات والشهوات " (4) . وهذا الذي ذكره ابن رجب-رحمه الله- استقر عليه مصطلح أهل السنة، ولذلك لما وصل السمعافي في الأنساب إلى ذكر من نسب إلى السنة فقيل: " السني " قال: " السني: بضم السين المهملة، وتشديد النون المكسورة، هذه النسبة إلى السنة التي هي ضد البدعة، ولما كثر أهل البدع   (1) يطلق لفظ: " أهل السنة " في مقابل الرافضة، كما أن الرافضة يعنون به من عداهم، يقول ابن تيمية في منهاج السنة (2/163) ، المحققة: " فلفظ أهل السنة يراد به من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة، فبدخل في ذلك جميع الطواثف إلا الرافضة وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة فلا يدخل فيه الا من يثبت الصفات لله تعالى .... وهذا الرافضي- يعني المصنف- جعل أهل السنة بالاصطلاح الأول وهو اصطلاح العامة: كل من ليس يرافضي قالوا: هو من أهل السنة". (2) رواه اللالكائي في شرح السنة رتم (49) . (3) رواه بلفظ مقارب اللالكائي في شرح السنة رقم (51) ، وأبو نعيم في الحلية (8/104) . (4) كشف الكربة (ص: 19-. 2) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 خصوا بها جماعة بهذا الانتساب" (1) ، ولما سأل عمر بن عبد العزيز رجل عن القدر أجابه بجواب طويل أوله: " أما بعد، أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره (2) ، واتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وترك ما أحدث المحدثون بعد ما جرت به سنته، وكفوا مؤنته، فعليك بلزوم السنة، فإنها لك- بإذن اللهـ عصمة ... " (3) . فأمرهـ وهو يجيبه عن موضوع القدر وما أحدث فيه أهل البدع- بلزوم السنة وأن فيها وحدها العصمة من الانحراف. ثا لثا: الجما عة: يقال: " أهل السنة والجماعة "، وقد ورد الأمر بلزوم الجماعة في عدة أحاديث، منها ما رواه ابن عمر- رضي الله عنهما- أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهـ خطب بالجابية (4) ، فقال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقامي فيكم فقال: " استوصوا بأصحابي خيرا، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب، حتى إن الرجل ليبتدىء بالشهادة قبل أن يسألها، فمن أراد منكم بحبحة (5) الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد000" (6) ، وفي بعض روايات حديث الافتراق أن الفرقة الناجية: الجماعة (7) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الصلاة المكتوبة إلى الصلاة المكتوبة التي بعدها كفارة   (1) الأنساب (7/175) ط لبنان. (2) أي التوسط بين الإفراط والتفريط. حاشية سنن أبي داود (5/19) ، ط الدعاس. (3) رواه أبو داود، كتاب السنة- باب لزوم السنة، ورقمه (4612) ، ط الدعاس. (4) الجابية: قرية بدمشق. تحفة الأحوذى (3/207) هندية. (5) في بعض الألفاظ- منها لفظ الترمذى- بحبوحة الجنة- والمعنى: وسطها وخيارها. تحفة الأحوذ ى (3/207) هندية. (6) رواه أحمد (1/18، 26) ، وهو في المسند تحقيق شاكر برقم (114،177) . ورواه الترمذى في الفتن- باب ما جاء في لزوم الجماعة، ورقمه (2165) تحقيق: (براهيم عطوة، وقال فيه الترمذى: " هذا حديث حسن صحيح غريب". ورواه الحاكم في المستدرك (1/114-115) ، من طرق وصححه ووافقه الذهبي. ورواه ابن أبي عاصم في السنة (1/42) من عدة طرق وصححه الألباني. (7) منها: رواية معاوية- رضى الله عنهـ رواه الإمام أحمد (4/102) ، وأبو داود، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 لما بينهما، قال: والجمعة إلى الجمعة، والشهر إلى الشهر- يعني رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما- قال: ثم قال بعد ذلك: إلا من ثلاث- قال: فعرفت أن ذلك الأمر حدث- إلا من الاشراك بالله، ونكث الصفقة، وترك السنة، قال: أما نكث الصفقة أن تبايع رجلا ثم تخالف إليه تقاتله بسيفك، وأما ترك السنة فالخروج من الجماعة " (1) ، وعن ابن عباس- رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من رأى من أميره شيئا فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية" (2) ، وغيرها من الأحاديث التي وردت بالأمر بلزوم الجماعة، والنهي عن الخروج عليها. وقد اختلف العلماء في المقصود بالجماعة على أقوال أهمها: أ- أن الجماعة هم الصحابة دون من بعدهم، " فإنهم الذين أقاموا عماد الدين، وأرسوا أوتاده، وهم الذين لا يجتمعون على ضلالة أبدا " (3) ، وهذا القول مروى عن عمر بن عبد العزيز-رحمه الله- فمما روى عنه   (1) = كتاب السنة رقم (4597) - ط الدعاس، والحاكم في المستدرك (1/128) ، والدارمي (2/ 158) برقم (2521) - ط اليماني، والآجري في الشريعة (ص: 18) ، وابن أبي عاصم (1/34-35) ، واللالكائي في شرح السنة (1/ 01 ا-102) ، وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وحسنه ابن حجر أحاديث الكشاف (ص: 63) ، " ملحق في آخر الكشاف للزمخشري ". وجود اسناده العراقي- إحياء علوم الدين (3/255) ، وقال عنه ابن تيمية: " هذا حديث محفوظ " اقتضاء الصراط المستقيم (1/118) ، المحققة. وصححه الألباني: سلسلة الصحيحة، رقم (204) . ومنها: رواية عوف بن مالك- رضى الله عنهـ رواها ابن ماجه، كتاب الفتن، رقم (3992) ، وابن أبي عاصم (1/32) ، واللالكائي (1/ 101) ، وإسناده حسن، وذكره الألباني في الصحيحة رقم (1492) . ومنها: رواية أنس بن مالك- رضي الله عنهـ رواها الامام أحمد (3/ 120، 145) ، وابن ماجه في الفتن، ورقمه (3993) ، واللالكائي (1/ 0 0 1) ، والآجرى في الشريعة (ص: 16-17) ، والطبرافي في الصغير (1/256) ، والعقيلى في الضعفاء الكبير (2/262) ، ويصح بمحموع طرقه. (1) رواه أحمد (2/229) ، وهو في مسند شاكر، برقم (7129) وصححه، ورواه الحاكم (1/119 - 120) وقال: " صحيح على شرط مسلم، ولا أعرف له علة لا ووافقه الذهبي. (2) رواه البخارى في الفتن، ورقمه (7054) ، وفي الأحكام ورقمه (43 71) ، ورواه مسلم في الإمارة، ورقمه (1849) . (3) الاعتصام (2/262) ، وانظر: فتح الباري (13/37) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 أنه قال: (سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وولاة الأمر من بعده سننا، الأخذ بها تصديق بكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، من عمل بها مهتدى، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى وصلاه جهنم وساءت مصيرا" (1) ، قال مالك: (فأعجبني عزم عمر على ذلك" (2) ، فعلى هذا القول فلفظ الجماعة مطاب للرواية الأخرى لحديث الافتراق حيث قال: (وتفترق أمتي على ثلاث وسبعبن ملة كلهم في النار الا ملة واحدة قالوا: ومن هي يارسول الله؟، قال: ما أنا عليه وأصحابي" (3) ، والصحابة لهم خصوصيات كثيرة، فهم الذين شاهدوا التنزيل،- وسمعوا من الرسول، فلهم من العلم والفضل، والاقتداء ما ليس لغيرهم ممن جاء بعدهم. 2- وقيل: إن الجماعة هم أهل الحديث، أو أهل العلم (4) المجتهدون " لأن الله جعلهم حجة على الخلق، والناس تبع لهم في أمر الدين" (5) ،   (1) روا. ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/228) بسنده الى مالك عن عمر بن عبد العزيز، وأيضا رواه أبو نعيم في الحلية (6/364) ، والآجرى في الشريعة في عدة مواضع (ص: 48،65، 307) ، واللالكالي في شرح السنة رقم (134) . ولكن هذا الكلام مروى عن مالك، رواه الخطيب في شرف أصحاب الحديث (ص: 7) ، والذهبي في سير أعلام النبلاء (8/88) . (2) الاعتصام (2/263) . (3) رواه الترمذى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، كتاب الإيمان، ورقمه (2641) ، ورواه الحاكم (1/128-129) ، والآجرى في الشريعة من طريقين (ص: 5 ا-16) ، واللالكائي شرح السنة، رقم (45 1-147) ، والعقيلى في الضعفاء الكبير (2/262) ، وابن وضاح في البدع والنهى عنها (ص:85) . وقال فيه الترمذى: " هذا حدث حسن، غريب مفسر لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه، قال في تحفة الأحوذى (3/368) ، هندية: (في سنده عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وهو ضعيف، فتحسين الترمذى له لاعتضاده بأحاديث الباب". قول النرمذى " مفسر" اسم مفعول من التفسير، أى: مبين، بين فيه ما لم يبين في حديث أبي هريرة المتقدم (تحفة الأحوذى: 3/368- هندية) ، وذكره ابن تيمية محتجا به، حيث نقل تحسين الترمذي له. اقتضاء الصراط المستقيم (1/116) المحققة. (4) يلاحظ أن بعض العلماء عبر عن الحديث بالعلم، فالخطيب البغدادى سمى كتابه: تقييد العلم، واين عبد البر سمى كتابه:: جامع بيان العلم وفضله، وقصدهم الحديث. (5) فتح الباري (13/37) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وهذا رأى الإمام البخاري قال: " باب {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] ، وما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلزوم الجماعة، وهم أهل العلم " (1) ، وهو رأى الإمام أحمد-رحمه الله-، فإنه قال عن الجماعة: " إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم (2) ؟ "، وهو رأي الترمذي الذي قال: " وتفسر الجماعة عند أهل العلم: هم أهل الفقه والعلم والحديث " (3) ، وهو رأي ابن المبارك وعلي بن المديني، وأحمد بن سنان الذي قال: " هم أهل العلم وأصحاب الآثار" (4) . فعلى هذا القول فالجماعة هم أهل السنة العالمون المجتهدون، فيخرج منهم المبتدعة، كا يخرج العامة المقلدة لأن الغالب فيهم أنهم تبع للعلماء. 3- وقيل: إن الجماعة هم السواد الأعظم، وعليه رواية الافتراق التي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها أن الفرقة الناجية هم السواد الأعظم (5) ، قال في النهاية: " عليكم بالسواد الأعظم (6) : أى جملة الناس ومعظمهم، الذين يجتمعون على طاعة السلطان وسلوك النهج القويم " (7) ، يقول عبد اللة مسعود - رضي الله عنهـ في إحدى خطبه: "يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة، فإنهما السبيل في الأصل الى جبل الله الذى أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة " (8) ، ويقول أبو غالب -رحمه الله-:   (1) صحيح البخاري: فتح الباري (13/316) . (2) شرف أصحاب الحديث (صلى الله عليه وسلم:25) . (3) سنن الترمذي (4/465) . (4) شرف أصحاب الحديث (صلى الله عليه وسلم:26 - 27) . (5) رواه الطبراني في الكبير من طرق (8/321-328) ، وأرقامه (8035، 51 80،53 80، 8054) ، ورواه اللالكائي في شرح السنة من طريقين، رقمها (151-152) ، ورواه ابن أبي زمنين في أصول السنة (ص: 36) ، من المخطوطة، والحارث ابن أبي أسامة كا في المطالب العالية (3/86) ، كا رواه مختصرا بدون ذكر الافتراق: أحمد والترمذي وابن ماجه في قصة الخوارج. قال فى مجمع الزوائد (6/234) :" ورواه الطبراني ورجاله ثقات ". (6) رواه ابن ماجهـ مرفوعا- في الفتن، رقمه (3950) ، وإسناده ضعيف، رروى موقوفا عن أبي أمامة. مسند أحمد (4/ 278) ، وعن عبد الله بن أبي أوفى- المسند أيضا (4/383) . (7) النهاية (6/419) . (8) رواه اللالكائي، رقم (158-159) ، والآجري في الشريعة (ص: 13) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 " إن السواد الأعظم هم الناجون من الفرق، فما كانوا عليه من أمر دينهم فهو الحق، ومن خالفهم مات ميتة جاهلية سواء خالفهم في شىء من الشريعة أو في إمامهم وسلطانهم فهو مخالف! للحق " (1) ، ويقول أبو مسعود الأنصاري - رضي الله عنهـ حين خرج ونزل في طريق القادسية وقال له أصحابه: اعهد إلينا، فإن الناس قد وقعوا في الفتنة فلا ندري أنلقاك بعد اليوم أم لا. فقال: " اتقوا الله واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر، وعليكم بالجماعة فإن الله لا يجمع أمته على الضلالة " (2) ، يقول الشاطبي معقبا: فعلى هذا القول يدخل في الجماعة مجتهدو الأمة وعلماؤها، وأهل الشريعة العاملون بها، ومن سواهم داخلون في حكمهم لأنهم تابعون لهم ومقتدون بهم، فكل من خرج عن جماعتهم فهم الذين شذوا وهم نهبة الشيطان، ويدخل في هؤلاء جميع أهل البدع؟ لأنهم مخالفون لمن تقدم من الأمة، لم يدخلوا في سوادهم بحال " (3) . ويقول الآجري: " فمن أراد الله تعالى به خيرا فتح له باب الدعاء، والتجأ إلى مولاه الكريم وخاف على دينه، وحفظ لسانه، وعرف زمانه، ولزم الحجة الواضحة السواد الأعظم ... " (4) . 4- وقيل: إن الجماعة هم جماعة أهل الإسلام إذا أجمعوا على أمر من أمور الشرع سواء في أمور الأحكام أو المعتقدات، يقول الكرماني: " يلزم على المكلف متابعة حكم الجماعة والاعتصام به، وهو اتفاق المجتهدين من الأمة في عصر على أمر ديني (5) فهذا القول يفسر الجماعة بأهل الإجماع، ولذا فهو قريب من القول الثاني. 5- إن الجماعة: هم جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير، وهذا رأي الطبري الذي ذكر الأقوال السابقة، ثم قال: " والصواب أن المراد من الخبر   (1) الاعتصام (2/260) . (2) رواه اللالكائي، ورقمه (162 - 163) . (3) الاعتصام (2/ 261) . (4) الشريعة (ص: 44) . (5) شرح الكرماني على البخاري (25/75) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 لزوم الجماعة الذين لط طاعة من اجتمعوا على تأميره، فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة" (1) ، ولذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلزومه، ونهى عن الخروج عليه، وفراق الأمة فيما أجمعوا عليه من تأميره وتقديمه عليهم (2) . هذه أهم الأقوال في الجماعة وحاصلها أن الجماعة ترجع إلى أمرين: أحدهما: أن الجماعة هم الذين اجتمعوا على أمير على مقتضى الشرع، فيجب لزوم هذه الجماعة، ويحرم الخرو! عليها وعلى أميرها. الثاني: أن الجماعة ما عليه أهل السنة من الاتباع وترك الابتداع، وهو المذهب الحق الواجب اتباعه والسير على منهاجه، وهذا معنى تفسير الجماعة بالصحابة، أو أهل العلم والحديث، أو الاجماع، أو السواد الأعظم، فهي كلها ترجع إلى معنى واحد هو: ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فيجب الاتباع حينئذ ولو كان المتمسك بهذا قليلا، ولهذا قال عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنهـ إنما الجماعة ما وافق طاعة الله وإن كنت وحدك " (3) ، وروى عنه أنه قال: " إنما الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك " (4) ، يقول أبو شامة: " حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق وأتباعه، وإن كان المتمسك بالحق قليلا والمخالف كثيرا، لأن الحق الذي كانت عليه الجماعة الأولى من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابهـ رضي الله عنهم- ولا تنظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم " (5) ، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باطنا وظاهرا، واتباع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ،   (1) فتح الباري (13/37) . (2) انظر الاعتصام (2/264-265) . (3) رواه اللالكائي في شرح السنة، ورقمه (160) . (4) الحوادث والبدع لأبي شامة (ص: 22) . (5) المصدر السابق (ص: 22) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة " (1) ، ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد - صلى الله عليه وسلم - ويوثرون كلام الله على كلام غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - على هدى كل أحد، وبهذا سموا أهل الكتاب والسنة، وسموا أهل الجماعة؛ لأن الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة، وان كان لفظ الجماعة قد صار اسما لنفس القوم المجتمعين، و" الإجماع " هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين، وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة وظاهرة مما له تعلق بالدين " (2) . ولهذا نجد أحيانا بعض العلماء يفسرون الجماعة بأشخاص تمثل فيهم المنهج الحق والاتباع، فعبد الله ابن المبارك لما سئل عن الجماعة قال: " أبو بكر وعمر، فقيل له: قد مات أبو بكر وعمر، قال: ففلان وفلان، قيل له: قد مات فلان وفلان، قال ابن المبارك: أبو حمزة السكري جماعة " (3) . فأراد ابن المبارك أن يفسر الجماعة بمن اجتمعت فيه صفات الاتباع الكامل للكتاب والسنة. رابعا: أهل الحديث تقدم في القول الثاني من الأقوال في المقصود بالجماعة: أنهم أهل الحديث، وأن هذا قال به جماعة من أهل العلم كالبخاري والإمام أحمد، والترمذي، وابن المبارك، وابن المديني، وأحمد بن سنان، وغيرهم. ولذلك صار عند كثير من العلماء أن الفرقة الناجية والتي يجب السير على منهاجها هم أهل الحديث. ولذلك فسنعرف بهم هنا: الحديث في اللغة ضد القديم (4) ، وفي الاصطلاح: عرفه بعضهم بأنه:   (1) سبق تخريجه عند الكلام عن معنى " أهل السنة ". (2) مجموع الفتاوى - ط الرياض (2/ 157) . (3) سنن الترمذي (4/467) بعد حديث رقم (2167) ، تحقيق: عطوة، وشرح السنة للبغوي (1/205) ت: السيد صقر. (4) الصحاح للجوهري، مادة: حدث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 " ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير أو وصف خلقي أو خلقي " (1) ، وعلى هذا فلا يشمل الموقوف والمقطوع (2) ، ولكن جمهور العلماء ذهبوا إلى أنهما من الحديث (3) . علم الحديث: علم الحديث قسمان: أ) علم الحديث رواية: وهو: " علم يشتمل على أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وتقريراته، وصفاته، وروايتها وضبطها وتحرير ألفاظها " (4) . ب) علم الحديث دراية: وهو: " علم بقوانين يعرف بها أحوال السند والمتن " (5) ، وهو ما يعرف بمصطلح الحديث. واذا قيل: " أهل الحديث " فالمقصود بهم الذين يعنون بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواية ودراية، ولكن لابد لهؤلاء- حتى يكونوا من أهل الحديث حقا- أن يكونوا عالمين وعاملين، وأن يكونوا مطبقين لما يتعلمونه، متبعين للسنة مجانبين للبدعة، وبهذه الأمور يتميزون عن أهل الأهواء، أما إذا كانوا لا يعملون بعلمهم- كا يحدث من بعض من ينتسب إلى الحديث- فقد اشتد نكير العلماء على مثل هؤلاء (6) . وقد روى عن هارون الرشيد أنه قال: " طلبت أربعة فوجدتها في أربعة: طلبت الكفر فوجدته في الجهمية، وطلبت الكلام والشغب فوجدته في المعتزلة، وطلبت الكذب فوجدته عند الرافضة،   (1) منهج النقد في علوم الحديث (ص: 26) . (2) الموقوف: ما أضيف إلى الصحابي، والمقطوع: ما أضيف الى التابعي. (3) منهج النقد (ص: 27) ، وانظر: نزهة النظر (ص: 18) . (4) تد ريب الراوي (1/ 40) . (5) المصدر السابق (1/ 41) . (6) انظر مثلا: جامع بيان العلم وفضله (22941) وما بعدها، وشرف أصحاب الحديث (ص: 120) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وطلبت الحق فوجدته مع أصحاب الحديث" (1) ويروى الخطيب عن أحمد بن سنان قال: " كان الوليد الكرابيسى خالي، فلما حضرته الوفاة قال لبنيه: تعلمون أحدا أعلم بالكلام مني؟ قالوا: لا، قال: فتتهموني؟، قالوا: لا، قال: فإني أوصيكم أتقبلون؟، قالوا: نعم، قال: عليكم بما عليه أصحاب الحديث فإني رأيت الحق معهم ... " (2) . فأهل الحديث مرادف لأهل السنة، يقول اللالكائي: " فلم نجد في كتاب الله وسنة رسوله وآثار صحابته إلا الحث على الاتباع، وذم التكلف والاختراع، فمن اقتصر على هذه الآثار كان من المتبعين، وكان أولاهم بهذا الاسم، وأحقهم بهذا الوسم، وأخلصهم بهذا الرسم " أصحاب الحديث " لاختصاصهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتباعهم لقوله، وطول ملازمتهم له، وتحملهم علمه ... " (3) ، ثم يعلل وجه تسميتهم بأهل الحديث بأن اسمهم مأخوذ من الكتاب والسنة لاتباعهم ما فيهما، فهم حملة القرآن وأهله وقراؤه وحفظته، وهم نقلة حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحملته (4) . * * * هذه تعريفات للمصطلحات التي تطلق على السلف، أصحاب المذهب الحق، والمنهج الحق، وهى كلها تدل على معنى واحد، ولذلك يمكن أن يفسر بعضها بما تدل عليه معاني البعض الآخر، فهم الجماعة، وهم أهل السنة، وهم أيضا أهل الحديث، وهم الطائفة المنصورة التى قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم:   (1) شرف أصحاب الحديث (ص: 55) . (2) المصدر السابق (ص: 56) . (3) شرح السنة للالكائي (1/22) . (4) انظر: المصدر السابق (1/24) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 " لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس " (1) وفي لفظ " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك " (2) .   (1) راه مسلم، كتاب الامارة، ورقمه بعد حديث رقم (1923) . (2) رواه مسلم، ورقمه (1920) ، عن ثوبان، ورواه البخارى عن المغيرة بن شعبة، ورقمه (2640) ، وهذا الحديث مروى في جميع كتب السنة- تقرييا- عن عدد كبير من الصحابة، فهو متواتر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 المبحث الثاني: من المقصود بالسلف؟ ونشأة التسمية بأهل السنة والجماعة من المقصود بالسلف؟ لقد تنوعت الآراء والمذاهب حول المقصود بمذهب السلف، وعلى من ينطبق وصف " السلف " الذين يجب اتباع مذهبهم والسير على منهاجهم، والسبب أن كل فئة تنطلق من وضعها الخاص بها وتدعى أن ما معها هو المذهب الحق؟ لذلك نجد هذه الفئة تحدد المقصود بالسلف بما يتم مع ما عندها من أصول عقائدية، أو منهج ارتضته للوصول إلى ما يجب اعتقاده. أ) فأحيانا يتجه البعض (1) - من المحدثين- إلى حصر مذهب السلف بفترة معينة لا يتعداها، ثم يزعم أن الفكر الإسلامي قد تطور بعد ذلك على يد رجاله، وهذا التطور لا ينحصر عنده في نطاق فئة معينة، وإنما كل ما ظهر من الآراء والفرق منتسبا بعمومه إلى الإسلام فهو جزء منه، ولو خالف ما كان عليه السلف في المنهج والفهم والاعتقاد، وعلى هذا فالمعتزلة والرافضة بل والجهمية والباطنية هم نتاج مذهب السلف بعد تطويره وبعثه، وتجريده من ثوبه التقليدي البسيط إلى لباس العقل الفلسفى والتأويل الكلامي والباطني. ولذلك فكثيرا ما يزعم بعض هؤلاء أن عقيدتهم هي التعبير الصحيح عن مذهب السلف، وأن مذهب السلف- بشكله المعروف- إنما ناسب الزمن الذي نشأ فيه، وأن رجاله الأوائل لو عاشوا إلى الزمن الذي بعدهم لطوروه إلى المستوى الذي وجد عليه فيما بعد. ب) وبعضهم يفهم أن السلف نصيون، يعتمدون على النصوص فقط، أما العقل فلا يعتمد عليه في شيء أبدا، فهم يسلمون فقط لظاهر النصوص دون فهم لها، ويكلون علمها- معانيها وكيفيتها- إلى الله تعالى،   (1) أمثال مصطفى غالب وعارف تامر، وغيرهم، ممن يعنون ويميلون الى الأفكار الباطنية والفلسفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 ولذلك فقد شغلوا أنفسمهم بما يرون أنه أنفع، من العبادة والجهاد في سبيل الله، وإقراء القرآن، ونقل الحديث وروايته. والعجيب أن مفهوم هؤلاء عن السلف ومنهجهم منتشر بين جمهرة كبيرة من العلماء الذين نحوا منحى كلاميا- في عقائدهم أو في كتبهم حول العقيد ة- وأيضا من الذين كتبوا حول الفلسفة وعلم الكلام، أو أية قضية من قضاياه، ولذلك انتشرت بين هؤلاء-جميعا عبارة: أن مذهب السلف هو التفويض، أو عبارة بعض السلف: " أمروها كا جاءت "، أو أن مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم (1) . أما العقل عند السلف- على رأي هؤلاء- فلا يعتمد عليه مطلقا، ولا أدري ما يصنع هؤلاء بالدلائل العقلية التى جاء بها القرآن والسنة، والتى استخدمها علماء السلف في العصر الأول؟. ويعلل هؤلاء نشوء ما يسمى بمذهب " الخلف " أو " علم الكلام " بأنه لما كثرت الشبهات التي تثار ضد العقيدة الإسلامية، رأى علماء الإسلام أنه لا يكفى للرد عليها وإبطالها وحماية الناس- وخاصة العامة منهم- من شرورها وآثارها لا يكفي في ذلك الاعتماد على مذهب السلف النصي، فنشأ علم الكلام بمباحثه العقلية والكلامية ليرد الشبهات ويثبت العقيدة ويظهر الحجاج لها في أجواء سادت فيها مذاهب الفلاسفة والجهممية والمعتزلة والقرامطة. فهل فهم هؤلاء لمذهب السلف كان صحيحا؟ حين قصروه على الإيمان بالنصوص والتسليم دون فهم أو اقتناع؟ ج-) وتأتي فئة أخرى تزعم أن ما نشأ من الدراسات العقلية في علم الكلام لم ينشأ من المؤثرات الخارجية والشبهات التى أثارها أعداء العقيدة- وإن كان قد تطور بسببها- وإنما نشأ من مذهب السلف نفسه وأن بواكير الفلسفة الاسلامية وعلم الكلام إنما جاءت من القرآن الكريم، ففيه المجادلة للمخالفين من أهل الديانات الأخرى وغيرهم، وفيه ذكر الحكمة التي كانت   (1) كما هو منتشر في كتب كثير من الأشعرية وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 معروفة عند العرب وكان يفتخر بأصحابها، وأن ما نشأ من البحث حول الاجتهاد في الأحكام الشرعية، وذلك بما يسمى بأصول الفقه إنما هو بداية ظهور الاتجاه العقلي عند المسلمين (1) . فالذي يفهم من هذا أن السلف- رحمهم الله تعالى- كانوا يحترمون النصوص، ولكن من خلال منظار عقلي استخدموه ونشأ على أثره علم الكلام، فكيف يصح هذا على إطلاقه مع ما هو متواتر عن السلف من الإيمان والتسليم والثقة المطلقة بما جاءت به النصوص، وأن هذه الثقة توجد على أتمها حين ترد على النفس أو يورد بعض الناس- شبهات أو وساوس حولها؟. د) وإذا كانت الآراء السابقة تنحو منحى خاصا في فهم المقصود بمذهب السلف، فإن هناك اتجاها آخر يزعم أصحابه أن مذهب السلف يشتمل على عدة اتجاهات وتيارات، وأن هذه التيارات وإن تباينت في المنهج- إلأ أنها تلتقى في أنها قامت ونشأت على يد علماء الإسلام ممن هم من أهل الدين والفضل والعلم بالأحكام، يقول ابن السبكي في شرح عقيدة ابن الحاجب: " اعلم أن أهل السنة والجماعة كلهم قد اتفقوا على معتقد واحد فيما يجب ويجوز ويستحيل وإن اختلفوا في الطرق والمبادى الموصلة لذلك، وبالجملة فهم بالاستقراء ثلاث طوائف: الأولى: أهل الحديث، ومعتمد مبادئهم الأدلة السمعية: الكتاب والسنة والإجماع. الثانية: أهل النظر العقلي، وهم الأشعرية والحنفية، وشيخ الأشعرية أبو الحسمن الأشعري، وشيخ الحنفية: أبو منصور الماتريدي، وهم متفقون في المبادئ السمعية فيما يدرك العقل جوازه فقط، والعقلية والسمعية في غيرها، واتفقوا في جميع المطالب الاعتقادية إلا في مسائل.   (1) انظر: تمهيد لتاريخ الفلسفة الاسلامية، مصطفى عبد الرازق، (ص: 15 ا-123) ، وانظر: المدرسة السلفية، حسين نصار، (ص: 624- هـ 62) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الثالثة: أهل الوجدان والكشف، وهم الصوفية، ومبادئهم مبادئ أهل النظر والحديث في البداية والكشف والإلهام في النهاية " (1) ، وهكذا يخلط بين اتجاه أهل الحديث، والاتجاه التأويلي للأشعرية والماتريدية، واتجاه الكشف عند المتصوفة ليصبح كل اتجاه منها هو مذهب أهل السنة والجماعة. * * * وهذه الاتجاهات والآراء حول تحديد المقصود بالسلف نشأ الخطأ في كل واحد منها من جهة أنه لم ينطلق أصحابها من منطلق شرعي واضح، مبني على الكتاب والسنة اللذين أمرا بالاتباع ونهيا عن الابتداع، وحددا معا لم المنهج والطريق الذي يجب السير فيه، ومن ثم يجب اتباع من سار على هذا الطريق المستقيم. ومما ينبغي ملاحظته أنا إذا أردنا أن نبين القول الصحيح في تحديد من هم الذين يصدق علهم اسم السلف، تبرز بعض الملاحظات والاعتراضات: أ) فمثلا: حين نقول: إن السلف هم الصحابة والتابعون والتابعون لهم للحديث الوارد: " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم.. " (2) ، يرد الاعتراض بأن التفرق والاختلاف نشأ في عهد هؤلاء، فالخوارج والشيعة والقدرية وجدوا في عهد الصحابة، وكذا بقية الفرق بعد هؤلاء بقليل، فهل وجود هؤلاء في هذه الفترة الزمنية التى هي خير القرون يعطيهم صفة السلفية المفضلة؟، وإذا كان الجواب قطعا بالنفي فلابد من التقييد لمثل هذا الاطلاق في تحديد من هم السلف بحيث لا يقتصر على التحديد الزمني فقط.   (1) إشارات المرام للبياضي- الحاشية- (ص: 298) . (2) رواه البخاري، في الشهادات، ورقمه (2651) ، وانظر أطرافه بعد ذكر الحديث. ورواه مسلم في فضائل الصحابة، وأرقامه (533 2-536 2) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ب) وكذلك حينما يقال: إن السلف هم الذين يعتمدون في أقوالهم على الكتاب والسنة، يبرز اعتراض خلاصته: من الذي يعتمد عليه في فهم الكتاب والسنة؟ خاصة وأن الفرق كلها تدعي الاعتماد على القرآن والسنة؟، فالإطلاق هكذا يحتاج إلى بيان وإيضاح. ج-) وكذلك حين يحصر البعض مذهب السلف! بالأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، فمن كان قبل هؤلاء من الصحابة والتابعين أليسوا أوفى بوصف السلف!؟. لذلك لابد من التحديد الدقيق للتعريف بالسلف بحيث يشمل: أولا: التحديد الزمني: ليشمل الصحابة والتابعين والتابعين لهم بإحسان، وهذا لبيان المنطلق والبداية لمذهب السلف، وفائدة هذا التحديد الرجوع إلى أقوال رجال هذا الزمن وإلى فهمهم عند الاختلاف الذي قد ينشأ فيمن بعدهم. وهذه مسألة مهمة جدا؟ إذ الخلاف الحاصل بعد القرون المفضلة بين من يتمسك بمذهب السلف ومن عداهم من أهل الأهواء والبدع لا يمكن حسمه إلا بالاتفاق على مثل هذا التحديد التاريخي ليحتكم إلى إجماعهم- إذا أجمعوا- أو أقوالهم، أو فهمهم للنصوص. ولا يعني هذا حصر مذهب السلف في هؤلاء، لأن كل من قال بقولهم فهو على السلف وإن تأخر. ثانيا: ثم يأتي بعد ذلك بيان أن الفهم والمنطلق يجب أن يكون بما يوافق الكتاب والسنة، فمن ابتدع في أمر من الأمور واتخذ لبدعته منهاجا خاصا، لا يكون قوله قولا للسلف، ولو كان هذا في القرون الأولى، لأن وجوده في هذا الزمن لا يكفي للحكم عليه بأنه سائر على مذهب السلف. ثالثا: بعد ظهور الافتراق يصبح مدلول " السلف " منطبقا على من حافظ " على العقيدة والمنهج الإسلامي، طبقا لفهم الأوائل الذين تلقفوه جيلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 بعد جيل " (1) ، فمن سار على طريقة الصدر الأول من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، الذين اتبعوا ولم يبتدعوا فهو سائر على مذهب السلف، وهو أيضا بالنسبة لمن بعده من السلف. والخلاصة أن مصطلح السلف صار له مدلولان: * مدلول خاص: وهذا ينطق على مذهب الصحابة والتابعين، والتابعين لهم بإحسان، ممن لم يبتدعوا، وهذا فيه حصر تاريخي. * ومدلول أعم: يشمل ما بعد هذه القرون المفضلة، وهذا شامل لكل من سار على طريقة ومنهج خير القرون، والتزم النصوص والفهم الذي فهموه (2) . نشأة التسمية بأهل السنة والجماعة: إذا كان مذهب أهل السنة والجماعة هو ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فإطلاق القول بنشأة أهل السنة كا يقال نشأة المعتزلة، الجهمية أو نشأة الرافضة؟ لا معنى له؟ لأنه واضح تمام الوضوح، ولذلك آثرنا أن يكون العنوان: نشأة التسمية بأهل السنة والجماعة كمصطلح عليهم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " ومذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم، معروف، قبل أن يخلق الله أبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد، فإنه مذهب الصحابة الذين تلقوه عن نبيهم، ومن خالف ذلك كان مبتدعا عند أهل السنة والجماعة فإنهم متفقون على أن إجماع الصحابة حجة، ومتنازعون في إجماع من بعدهم " (3) . والمتتبع لنشأة التسمية بأهل السنة يلاحظ أنها ربطت بالإمام أحمد-رحمه الله- وليس ذلك لأن الإمام أحمد هو الذي أنشأه، وإنما لأنه هو الإمام الذي امتحن فيه فصبر فصار إماما من أئمة أهل السنة يقول شيخ الاسلام ابن تيمية   (1) قواعد المنهج السلفي، مصطفى حلمي (ص: 23) ط ثانية. (2) انظر: المصدر السابق، نفس الصفحة. (3) منهاج السنة (2/482) تحقيق محمد رشاد سالم، الطبعة الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 بعد الكلام السابق: " وأحمد بن حنبل وإن كان قد اشهر بإمامة السنة والصبر في المحنة، فليس ذلك لأنه انفرد بقول أو ابتدع قولا، بل لأن السنة التي كانت موجودة معروفة قبله علمها ودعا إليها، وصبر على من امتحنه ليفارقها، وكان الأئمة قبله قد ماتوا قبل المحنة، فلما وقعت محنة الجهمية نفاة الصفات في أوائل المئة الثالثة- عهد المأمون وأخيه المعتصم ثم الواثق- ودعوا الناس إلى التجهم وإبطال صفات الله تعالى، وهو المذهب الذى ذهب إليه متأخرو الرافضة، وكانوا قد أدخلوا معهم من أدخلوه من ولاة الأمور، فلم يوافقهم أهل السنة حتى تهددوا نجعضهم بالقتل، وقيدوا بعضهم، وعاقبوهم، وأخذوهم بالرغبة والرهبة، وثبت الإمام أحمد على ذلك الأمر حتى حبسوه مدة، ثم طلبوا أصحابهم لمناظرته، فانقطعوا معه في المناظرة يوما بعد يوم ... [وذكر المحنة] ثم قال: " ثم صارت هذه الأمور سببا في البحث عن مسائل الصفات وما فيها من النصوص والأدلة والشبهات من جانبي المثبتة والنفاة، وصنف الناس في ذلك مصنفات، وأحمد وغيره من علماء السنة والحديث ما زالوا يعرفون فساد مذهب الروافض والخوارج والقدرية والجهمية والمرجئة، ولكن بسبب المحنة كثر الكلام، ورفع الله قدر هذا الإمام، فصار إماماً من أئمة السنة، وعلما من أعلامها، لقيامه بإعلامها وإظهارها، واطلاعه على نصوصها وآثارها، وبيانه لخفي أسرارها، لا لأنه أحدث مقالة أو ابتدع رأيا، ولهذا قال بعض شيوخ المغرب: المذهب لمالك والشافعي، والظهور لأحمد، يعني أن مذاهب الأئمة في الأصول مذهب واحد، وهو كما قال " (1) . فمن هذا النص يتبين أن مذهب أهل السمنة والجماعة امتداد لما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فإذا ما قام إمام من الأئمة في زمن البدع بالدعوة إلى العقت ة السليمة وإلى منهج أهل السنة، ومحاربة ما يخالفها فهذا الإمام لم يأت بجديد، وإنما جدد ما اندرس من مذهب أهل السنة وأحيا ما مات منه، وإلا فالعقيدة لم تتغير، فإذا ما نسب - في بعض الأزمان أو الأمكنة - مذهب   (1) منهاج السنة (2/482 - 486) تحقيق: محمد رشاد سالم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 أهل السنة إلى عا لم من العلماء، أو مجدد من المجددين فلأنه دعا اليه لا لأنه ابتدعه أو اخترعه. ومما سبق يتبين أن طرح النشأة لمذهب أهل السنة ينبغي أن ينصب على التسمية، أما النشأة ذاتها فواضحة لأنها كانت مع مجيء الإسلام الذي وضح وكمل أتم كمال وأبينه في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فمن جاء بعده إذا قيل عنه: إنه إمام أهل السنة- في زمنه أو بعد زمنهـ فلأنه دعا إلى الأصول الأولى لمذهب أهل السنة وجدد ما اندرس منها. وبدء التسمية مرتبط بنشأة الفرق؟ لأن من الطبيعي أن يتميز أهل السنة عن بقية أهل الأهواء من أهل الفرق الذين انحرفوا عن المنهج السوي والذين ابتدعوا أقوالا وآراء مخالفة لما كان عليه أهل الصدر الأول. والكلام حول بدء الفتنة ونشوء الفرق يطول، ولكن نشير إلى لمحات في هذا الأمر لنصل إلى حقيقة تميز أهل السنة عن غيرهم: ا- من المعلوم أن الفتنة وقعت في آخر عهد عثمان بن عفان- رضي الله عنهـ وكان من آثارها استشهاده، ثم نشأت على أثر ذلك الفرق، وكان أول بدعة نشأت بدعة الخوارج والروافض، فالخوارج كفروا عليا- رضي الله عنهـ وخرجوا عليه، والروافض ادعوا إمامته وعصمته، أو نبوته أو إلهيته. ثم بعد ذلك أخذت البدع تتوالى في الظهور ف-" لما كان في آخر عصر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك حدثت بدعة المرجئة والقدرية، ثم لما كان في أول عصر التابعين- في أواخر الخلافة الأموية- حدثت بدعة الجهمية والمشبهة والممثلة، ولم يكن على عهد الصحابة شيء من ذلك " (1) 2- كانت بدعتا الروافض والخوارج- من أول البدع ظهورا- كما سبق- وكانتا من المعالم الرئيسة في تميز أهل السنة والجماعة أو أهل الحديث:   (1) المنتقى (ص: 387) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 أ) ففي أجواء هذه الفتنة بدأ المسلمون يعنون بالبحث عن الإسناد، والكلام في الرجال، وذلك لأن السلف خافوا من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خاصة وأن دواعي ذلك موجودة في مثل هذه الظروف، فقد روى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن سيرين أنه قال: " لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم " (1) ، وابن سيرين كان يقول: " إن هذا الحديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم" (2) . وهنا بدأ التميز لأهل السنة والجماعة، وذلك بتمييز من تقبل روايته ممن لا تقبل؟ فمن كان من أهل السنة والاتباع، ولم يقل بقول طائفة من الطوائف المنحرفة بل ثبت على الهدى الصحيح، هدي الصحابة والتابعين، فهذا له تميز عند علماء الحديث، وروايته مقبولة- مع الاعتراف بتفاوت الرجال الذين لهم هذه الصفة من ناحية الحفظ والضبط- وأما من كان من أهل البدعة فروايته مردودة إلا بشروط دقيقة (3) . ومما يلاحظ أن الكذب قد اشتهر عند الرافضة، ولذلك قال عنهم الإمام الشافعي-رحمه الله-: " لم أر من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة " (4) ، ولما وقعت فتنة المختار - ذى الميول الشيعية (5) - اشتهر في زمنه الكذب ووضع   (1) صحيح مسلم، المقدمة (ص: 15) ، وانظر: الكفاية (ص: 162-163) هندية، وشرح علل الترمذى (1/51) . (2) الكفاية (ص: 162) . (3) حكم الرواية عن أهل البدع تكلم عنها العلماء: انظر: الكفاية (ص: 159) وما بعدها، وشرح علل الترمذى (1/53) وما بعدها، وتدريب الراوي (1/324) وما بعدها. (4) الكفاية (ص: 167) ، وقال يزيد بن هارون [توفي سنة: 26 هـ] سير أعلام النبلاء: 9/358: " يكتب عن كل مبتدع- إذا لم يكن داعية- إلا الرافضة فإنهم يكذبون " (المنتقى ص: 22) . (5) من العجيب أن هذا الكذاب كان أول أمره ناصبيا، فأبغضته الشيعة، ثم تشيع. انظر ترجمته في: البداية والنهاية (8/289-292) ، وانظر سير أعلام النبلاء (3/538) ، وميزان الاعتدال (4/ 80) ، وكان المختار يزعم أنه يوحي إليه. انظر: المسند للإمام أحمد (5/223-224) قتل المختار سنة: 67 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الحديث على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا روى الإمام أحمد عن جابر بن نوح عن الأعمش عن إبراهيم [النخعي] قال: " إنما سئل عن الإسناد أيام المختار " (1) ، والمختار نفسه كان يأمر بأن توضع له الأحاديث المكذوبة، فقد أمر رجلا- من أصحاب الحديث- قائلا: " ضع لي حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أني كائن بعده خليفة "، فرفض الرجل (2) ، بل أمر محمد بن عمار بن ياسر أن يحدث عن أبيه بحديث كذب فأبى فقتله (3) . ولذلك فشا الكذب في عهده، كما روى شريك عن أبي إسحاق: سمعت خزيمة بن نصر العبسى- أيام المختار- وهم يقولون ما يقولون من الكذب- وكان من أصحاب علي- قال: " ما لهم قاتلهم الله، أي عصابة شانوا وأي حديث أفسدوا " (4) . وإذا كان الرافضة أهل كذب فقد ضموا إليه الطعن في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورميهم بالكفر والردة إلا أعدادا قليلة. وليس الغرض استقصاء هذه الأمور- فالموضوع فيها طويل- ولكن نشير هنا إلى أن تميز أهل السنة واكب ظهور الرافضة من جهتين: الأول: انتشار الكذب عندهم (5) ، مما أثار علماء السنة للبحث عن الرجال والأسانيد، فبدأ بتميز أهل الحديث عن غيرهم، وسبق أن ذكرنا أقوال العلماء بأن الفرقة الناجية هم أهل الحديث. الثانية: طعنهم في الصحابة، ونشوء البدع وكئرتها لديهم، حتى أصبح شعار " أهل السنة " كثيرا ما يستعمل في مقابل الرافضة، وسفيان الثوري-رحمه الله-   (1) شرح علل الترمذيا (1/52) ، ورواه الخطيب في الجامع عن خثيمة بن عبد الرحمن. (الجا مع: 1/ 130) تحقيق: الطحان. (2) التاريخ الكبير للبخاري (8 / 434- 435) ، والصغير (1 / 47) ، والموضوعات لابن الجوزي (1/39) . (3) الجامع للخطيب (1/131) ، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم (8/43) . (4) رواه البيهقى في المدخل، رقم (83) ، وانظر علل الترمذى (1/52) . (5) بل الكذب أحد أصولهم وذلك بما يسمى " التقية "! عندهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 فسر موافقة السنة ب- " تقدمة الشيخين أبو بكر وعمر- رضي الله عنهما- " (1) . ب) وفي مقابل فتنة الروافض جاءت فتنة الخوارج، والذي يلاحظ أن الخوارج اشتهر عنهم الصدق، ولعل مرد ذلك اعتقادهم أن مرتكب الكبيرة كافر، والكذب كبيرة من الكبائر، ولهذا روي عن أبي داود سليمان بن الأشعث أنه قال: " ليس في أصحاب الأهواء أصح حديثا من الخوارج " (2) . ولذلك روى البخاري وغيره عن دعاتهم، ولكن صدقهم وحماستهم لم يكن حائلا دون أن تكون فتنتهم وضلالهم شديدة الوطأة على المسلمين، لأنهم كفروا من عداهم، ولم يكتفوا بذلك، بل ميزوا صفوفهم عن صفوف غيرهم من المسلمين، وحاربوا وقاتلوا، فصارت بدعتهم وانحرافهم أشد من غيرها، ولذلك قاتلهم علي- رضي الله عنهـ وأجمع الصحابة على قتالهم. فالخوارج خرجوا على الجماعة الذين لهم إمام شرعي، ومع ظهور فتنة هؤلاء برز أهل السنة بحرصهم على الجماعة وعدم الخروج على الإمام الشرعي - ولو كان جائرا- وصاروا يذكرون هذا الاعتقاد ويدعون إليه ويحذرون من مخالفته، وحرص المسلمون على الجماعة ونبذ الفرقة، ولما اجتمعوا على معاوية - رضى الله عنهـ عام إحدى وأربعين بعد تنازل الحسن- رضى الله عنهـ سموا هذا العام عام الجماعة.   (1) شرح السنة للالكائي (1/152) ، ومما يلاحظ أن سفيان الثورى في اعتقاده هذا الذى سأله عنه شعيب بن حرب- لما ذكر بعض أمور الاعتقاد التى تميز أهل السنة ذكر مسألة المسح على الخفين وعدم الجهر بالبسملة- مع أن مسألة الجهر بالبسملة من المسائل الفرعية التي وقع فيها الخلاف بين أهل السنة. وقد علل ذلك ابن تيمية في منهاج السنة (2/184) ط مكتبة الرياض الحديثة، بقوله: " حتى أن سفيان الثورى وغيره من الأئمة يذكرون في عقائدهم ترك الجهر بالبسملة، لأنه كان عندهم من شعار الرافضة؟ يذكرون المسح على الخفين لأن تركه عندهم من شعار الرافضة.. ". (2) الكفاية (ص:172 - 173) هندية - ولكن وردت روايات أن الخوارج ربما يضعون الأحاديث، فقد روى عن أحد شيوخهم أنه قال: " إن هذه الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيرناه حديثا". (رواه الرامهرمزي في المحدث الفاصل ص: 415-416) ، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 فظهور بدعة الخوارج ميزت أهل السنة من جانبين: الأول: خروج الخوارج عن المذهب الحق بالتكفير لمن عداهم من المسلمين، ولا شك أن هذه بدعة شنيعة، وقد حرص المسلمون على الرد على أصحابها، وتحذير الناس أشد التحذير فهم. وصار من معا لم مذهب أهل السنة عدم التكفير لمرتكب الكبيرة. والثاني: خروجهم على الجماعة وعلى الإمام الشرعي وقتالهم للمسلمين بناء على أصل مذهبهم التكفير، وقد قابل أهل السنة هذا بمقاتلتهم حتى يقضي عليهم أو يكفوا شرهم وبالتحذير منهم وإعلان وجوب اتباع النصوص التي حذرت من الخروج على أئمة المسلمين وإن جاروا وظلموا، ولذا كان أحد المعاني المهمة للجماعة أنها الجماعة الذين اجتمعوا على أمير. 3- وبعد ظهور فتنة الروافض والخوارج أخذت بقية البدع تظهر بين المسلمين كبدعة القدر، والإرجاء، والتجهم، فقاومها أهل السنة وحذروا فها ومن أصحابها، حتى صار أهل البدع نشازا في المجتمع الإسلامي يأوي إليهم ويسمع أقوالهم إما أهل الزندقة والنفاق، ممن يكيدون لهذا الدين في الخفاء، وإما أصحاب الإيمان الضعيف ممن تؤثر فيهم وتستهويهم هذه البدع وما فيها من آراء وأفكار جديدة على المسلمين، أما السواد الأعظم من المسلمين فإنهم يتبعون علماء الآفاق من أهل السنة في كل مكان. وحذر علماء أهل السنة من أصحاب الأهواء، حتى كان الحسن يقول: " لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم " (1) ، ولما جاءه رجل فقال: " يا أبا سعيد أني أريد أن أخاصمك "، فقال الحسن: " إليك عني   (1) = والخطيب في الكفاية (ص:63 1) هندية، وابن الجوزي في الموضوعات (1/38-39) ، وانظر مناقشة الموضوع بشكل موسع في كتاب: " الوضع في الحديث (1/229-238) ، حيث رجح الدكتور عمر فلاتة في رسالته هذه أن الخوارج ليس لهم دور في الوضع في الحديث. (1) شرح السنة للالكائي، رقم (240) ، ورواه الدارمى في السنن، رقم (407) - ط اليماني - عن الحسن وابن سرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 فإني قد عرفت ديني، وإنما يخاصمك الشاك في دينه " (1) . واستمر تحذير العلماء من أهل الكلام والبدع، وصار مذهب أهل السنة متميزا بالاتباع والسير على منهاج الصحابة - رضي الله عنهم - مع البعد عن أهل البدع والإنكار عليهم - فصار لقب أهل السنة مقابل: أهل البدع والأهواء والكلام. ولما وقعت محنة القول بخلق القرآن - وصار للمعتزلة دولة وصولة امتحن أهل السنة وثبت الله الإمام أحمد -رحمه الله- فصار وقوفه وثباته مثالاً شامخاً للثبات على مذهب أهل السنة في مقابل أهل البدعة، فصار الإمام أحمد إمام أهل السنة لذلك. هذه خطوط عريضة لعلها تكون قد أوضحت كيف نشأت التسمية بأهل السنة والجماعة، أو اهل الحديث، وإن ذلك كان مع ظهور البدع ونشوء الفرق، وما صاحب ذلك من الاستهانة بحديث رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -، وبنقلته من الصحابة، فبدأ أهل السنة يعلنون تميزهم من خلال: 1 - العناية بالحديث رواية ودراية، والكلام في الرجال، والسبب في ذلك نشوء الكذب مع كثرة أهل الأهواء. 2 - المحافظة على السنة وعلى ما كان عليه رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - وأصحابه، من غير ابتداع في الدين أو اتباع لأهل الأهواء والكلام المذموم على اختلاف مذاهبهم وأقوالهم. 3 - المحافظة على الجماعة التي تعني الاتباع والسير على المنهج الحق، وتعني أيضاً المحافظة على وحدة الأمة وعدم الخروج على الجماعة التي لها إمام شرعي. أما التحديد الدقيق لنشأة التسمية بأهل السنة والجماعة، وربط ذلك بزمن محدد أو بعلم من أعلام أهل السنة، أو نشوء فرقة من الفرق، فلا أظن أن ذلك ممكن إلا من خلال خطوط عريضة كما أسلفنا - والله أعلم -.   (1) شرح السنة، رقم (215) ، والآجري في الشريعة (ص: 57) بلفظ مقارب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 المبحث الثالث: منهج السلف في العقيدة سنعرض في هذا المبحث- بشكل مختصر- لمنهج السلف في العقيدة، وتميزهم بهذا عن غيرهم من أهل البدع والأهواء، وهذا الموضوع قد كتب حوله الكثير، ولكن أغلب ما كتب جاء مقدمة لبعض النصوص المحققة في عقيدة أهل السنة، أو لبعض البحوث المتعلقة بجانب من جوانبها، وكان من الواجب أن يفرد برسالة جامعة تستقصي ما يتعلق بهذا الموضوع، وتبين الشبهات المثارة حول مذهب السلف، وترد عليها، كما ترد على دعاوى المنتسبين إليها ممن ليس من أهلها أو ممن انحرف عنها- وعلى حد علمي لم يكتب في ذلك رسالة- (1) . والكتابة حول هذا الموضوع من خلال التمهيد لهذا البحث المتعلق بموقف ابن تيمية من الأشاعرة لا يمكن التوسع فيها إلا من خلال ما يتعلق بالموضوع، وقد ناقش ابن تيمية-رحمه الله- كثيرا من الأشاعرة في هذه المسألة، وبين غلطهم في بعض القضايا المتعلقة بحقيقة مذهب السلف أو بحقيقة منهجهم - رحمهم اللهـ وسنشير إلى ذلك في موضعه من هذه الرسالة- إن شاء اللهـ. أما هنا فسنذكر لمحات في هذا الموضوع تكملة للمبحثين السابقين، والشىء الواضح في هذا أن السلف تميزوا عن أصحاب الأهواء والفرق بميزة الرجوع إلي الكتاب والسنة والاعتصام بهما، وبذلك سلموا من الانحراف، أما من عداهم فلابد أن تجد في انحرافهم أو بدعهم ما كان سببه وقوعهم في مخالفة أمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو ارتكاب ما نهى عنه الله ونهى عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أمثلة ذلك: * نهى الله ونهى رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن اتباع المتشابه، فجاءت فرق عديدة تتبع ما تشابه من القرآن، وتضرب كتاب الله بعضه ببعض.   (1) في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة سجلت رسالة بعنوان: العقيدة السلفية فى مسيرتها التاريخية وقدرتها على مواجهة التحديات. للباحث محمد المغراوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 * نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن سب الصحابة وبين فضلهم، فجاءت فرق الرافضة وغيرهم لتسب الصحابة- رضي الله عنهم- وتنتقص من شأنهم. * أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بطاعة الأمير- وإن جار أو ظلم- فجاءت الخوارج ليخرجوا على أئمة المسلمين ويثيروا الفتنة بين المسلمين. * نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الخوض في القدر، فجاءت القدرية وغيرهم ليخوضوا فيه بالباطل. * أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بابتاع سنته، وأخبر أنه سيأتي أناس من أمته لا يحتجون بسنته، ونشأ بعد ذلك من لا يحتج بخبر الآحاد في العقيدة. * وأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، فجاء أقوام يضربون بأقوالهم عرض الحائط ويقولون: نحن رجال وهم رجال. * وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق- أن هذه الأمة ستفترق إلى فرق عديدة، وذكر أن هناك فرقة هي الفرقة الناجية، وهي الطائفة المنصورة، ثم وجد بعد ذلك من يتزعم الفرق الضالة، أو يتبعها ويترك الاعتصام بالسنة وما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ومن تبعهم بإحسان. والسلف الذين لم يخوضوا في شيء مما خاض فيه أهل الأهواء استقام أمرهم لموافقتهم الكتاب والسنة، ولوعيهم- خاصة أثناء وقوع الفتن وانتشار البدع- وتذكرهم لمثل هذه النصوص التي حذر فيها المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أمته من الوقوع فيما نهى عنه: وسنعرض لمنهج السلف من خلال مايلي: أولا: منهج السلف في العقيدة. ثانيا: المميزات التى تميزوا بها عن غيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 أولا: منهج السلف في العقيدة ا- أول قاعدة في منهج السلف هي اقتصارهم في مصدر التلقي على الوحي: كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة، وقد تمثلت هذه القاعدة في عدة ركائز: أ) الاعتقاد الجازم أنه لا يتحقق رضا الله تبارك وتعالى والفوز بجنته والنجاة من عذابه إلا بالإيمان بهما والعمل بما جاءا به، وما يترتب على هذا من وجوب أن يعيش المسلم حياته كلها اعتقادا وعملا وسلوكا، مستمسكا ومعتصما بهما، لا يزيغ عنهما ولا يتعدى حدودهما. ومن مستلزمات هذا أن يتحاكم إليهما عند التنازع والاختلاف، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59] ، وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] ولقد تربى الصحابة على ذلك، فعاشوا لا يلتفتون إلى غير الكتاب والسنة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحذرهم كل التحذير من أن يلتفتوا إلى كتب السابقين التي نزلت على الأنبياء ودخلها التحريف- فضلا عن غيرها من كتب الفلاسفة والملاحدة، فقد روى عبد الله بن ثابت قال: " جاء عمر بن الخطاب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يارسول الله، إني مررت بأخ لي من قريظة فكتب لي جوامع من التوارة ألا أعرضها عليك، قال: فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال عبد الله: فقلت له: ألا ترى ما بوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال عمر: رضينا بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولا، قال: فسرى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: والذي نفسى بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين " (1) ،   (1) رواه الامام أحمد في مسنده (3/470- ا 47) ، وعبد الرزاق الصنعاني في المصنف (6/113) ورقمه (10164) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وفي رواية جابر أنه قال لما غضب على عمر: أمتهوكون (1) فيها يا ابن الخطاب، والذى نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى- عليه السلام- كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني " (2) ، وقد طبق هذا عمر- رضي الله عنهـ عمليا، فقد ضرب رجلا من عبد القيس لأنه انتسخ أحد الكتب السابقة وأمره بمحوه (3) . والاستغناء بالكتاب والسنة والاعتماد عليهما نابع من اليقين القاطع أن ما جاء به فهو حق وصدق، يقول شيخ الاسلام ابن تيمية: " وأما خبر الله ورسوله فهو صدق، موافق لما الأمر عليه في نفسه، لا يجوز أن يكون شيء من أخباره باطلا ولا مخالفا لما عليه في نفسه، ويعلم من حيث الجملة أن كل ما عارض شيئا من أخباره وناقضه فإنه باطل من جنس حجج السوفسطائية (4) ، وإن كان العالم بذلك لا يعلم وجه بطلان تلك الحجج المعارضة لأخباره، وهذه حال المؤمنين للرسول الذين علموا أن رسول اللة الصادق فيما يخبر به، ويعلمون   (1) أى: أمتحيرون، هكذا فسره الحسن وأبو قلابة،؟ في شعب الإيمان للبيهقي (1/ 481) والمر اسيل (ص: 224) . (2) رواه الإمام أحمد (3/387) ، والدارمي في سننهـ باب ما يتقى من تفسير حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - (1/95) ورقمه (441) ، والبيهقي في شعب الإيمان (1/479) - ط الدار السلفية في الهند. وهذا الحديث رواه أبو داود في المراسيل عن أبي قلابة في كتاب العلم (ص: 223) ت السيروان كما رواه ابن أبي حاتم مختصرا كما في تفسر ابن كثير (سورة يوسف: 3) . وانظر التعليق القادم. (3) ثم ذكر عمر قصته مع النبي - صلى الله عليه وسلم - رواه أبو يعلى الموصلي، وأبو بكر الاسماعيلي، كما نقله عنهما ابن كثير في تفسيره (سورة يوسف: 3) . والحديث حسنه الألباني كا في تخريج المشكاة رقم (177،194) (4) السوفسطائية: السفسطة: قياس مركب من الوهميات، والغرض منه تغليط الخصم وإسكاته، والسوفسطائيون: جماعة من فلاسفة اليونان، وزعيمهم بروتاجوراس الذى ولد سنة (480 ق. م) . ونظريتهم تقوم على أنه ليس هناك وجود خارجى مستقل عما في أذهاننا، فما يظهر للشخص أنه الحقيقة يكون هو الحقيقة له، فإذا رأى السراب ماء فهو عنده حقيقة ماء. انظر: التعريفات (ص:63) ، وكشاف اصطلاح الفنون (17313) ، وقصة الفلسفة اليونانية (ص: 62-72) ، وربيع الفكر اليوناني (ص: 65) ، والمعجم الفلسفى (1/658) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 من حيث الجملة أن ما ناقض خبره فهو باطل، وأنه لا يجوز أن يعارض خبره دليل صحيح لا عقلي ولا سمعي ... " (1) . ويقول: " وما أحد شذ بقول فاسد عن الجمهور إلا وفي الكتاب والسنة ما يبين فساد قوله، وإن كان القائل كثيرا ... ، وأما القول الذي يدل عليه الكتاب والسنة فلا يكون شاذا وإن [كان] (2) القائل به أقل من القائل بذاك القول، فلا عبرة بكثرة القائل باتفاق الناس " (3) . ب) أن هذا الدين كامل، والله تبارك وتعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3] ، ويقول أيضا: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] ، وقال {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:16] . يقول ابن تيمية بعد ذكره لهذه الآيات وغيرها: " ومثل هذا في القرآن كثير، مما يبين الله فيه أن كتابه مبين للدين كله، موضح لسبيل الهدى، كاف لمن اتبعه، لا يحتاج معه إلى غيره يجب اتباعه دون اتباع غيره من السبل " (4) ، ومسألة كمال الدين من المسائل المهمة في بيان منهج السلف- رحمهم الله تعالى-، فقد انطلقوا بقوة من هذا المنطلق، وهذا لا يعني أنه لم يكن في عهد الصحابة ومن بعدهم ديانات ومذاهب، بل كانت موجودة، لكن من الذى يلتفت إليها وهو مقتنع تمام الاقتناع بكمال ما لديه من كتاب وسنة وأن فيهما ما يغني ويكفي، وأن ما فيهما حق وصدق لا يأتيه الباطل أبدا، ف-" متى ذكرت ألفاظ القرآن والحديث وبين معناها   (1) درء تعارض العقل والنقل (5/ 255) . (2) في طبعة النبوات لدار الكتب العلمية (ص: 4 0 2) ، ودار الفكر (ص: 38 1) بدون " كان"، والسياق يقتضيها. (3) النبوات (ص: 204) ط دار الكب العلمية. (4) درء تعارض العقل والنقل (10/304) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 بيانا شافيا فإنها تنظم (1) جميع ما يقوله الناس من المعافي الصحيحة، وفيها زيادات عظيمة لا توجد في كلام الناس، وهي محفوظة مما دخل في الكلام من الباطل كما قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] ، وقال تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:41،42] ، وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] ، وقال: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [لقمان:2] ، وفيه من دلائل الربوبية والنبوة والمعاد ما لا يوجد في كلام أحد من العباد، ففيه أصول الدين المفيدة لليقين، وهو أصول دين الله لا أصول دين محدث ورأي مبتدع" (2) . ج-) وجوب تقديم الشرع على العقل عند توهم التعارض، وإلا ففي الحقيقة والواقع لا يمكن أن يتعارض النقل الصحيح مع العقل الصريح، ولقد كان تقديم ما في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على ما فى غيرهما من معقول أو غيره يعارضها من مسلمات منهج السلف رحمهم الله تعالى. وليس هذا موضع تفصيل الأدلة لذلك، ولكن نشير إلى أن الأنبياء أعلم بالله وأسمائه وصفاته واليوم الآخر من غيرهم فيجب رد الأمر إليهم، وهذا كما أن العامة يردون ما يختلفون فيه مما يتعلق بالطب وغيره من أمور الدنيا إلى من هو أعلم به منهم، "وإذا كان الأمر كذلك فإذا علم الإنسان بالعقل أن هذا رسول الله، وعلم أنه أخبر بشيء، ووجد في عقله ما ينازعه في خبره، كان عقله يوجب عليه أن يسلم موارد النزاع إلى من هو أعلم به منه، وأن لا يقدم رأيه على قوله، ويعلم أن عقله قاصر بالنسبة إليه، وأنه أعلم بالله وأسماائه وصفاته واليوم الآخر منه، وأن التفاوت الذي بينهما في العلم بذلك أعظم من التفاوت   (1) في الأصل: "فإنها لا تنظم" ط دار الكتب العلمية، وكذا في مصورة دار الفكر، (ص: 221) ، ولعل الصواب حذف " لا". (2) النبوات (ص: 334) ط دار الكتب العلمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 الذي بين العامة وأهل العلم بالطب" (1) . د) الأدب مع نصوص الكتاب والسنة، وذلك بأن تُراعى ألفاظهما عند بيان العقيدة، وأن لا تستخدم الألفاظ والمصطلحات الموهمة غير الشرعية، ف- "أهل السنة والحديث فيهم رعاية النصوص لألفاظ النصوص وألفاظ السلف" (2) . 2- عدم الخوض في علم الكلام والفلسفة، والاقتصار في بيان وفهم العقيدة على ما في الكتاب والسنة، وقد تجلي هذا في منهج السلف من خلال عدة أمور: أ) الحرص على العلم النافع مع العمل. فالعلم علمان: علم نافع يولد عملا، وينفع صاحبه فى الدنيا والآخرة، وعلم غير نافع، لا ينفع صاحبه في الدنيا أو لا ينفع صاحبه في الآخرة " ولذلك جاءت السنة بتقسيم العلم إلى نافع وغير نافع، والاستعاذة من العلم الذي لا ينفع، وسؤال العلم النافع، ففي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: " اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها" (3) " (4) . وقال معروف الكرخي (5) : "إذا أراد الله بعبد خيرا فتح له باب العمل، وأغلق عنه باب الجدل وإذا أراد الله بعبد شرا أغلق عنه باب العمل وفتح له باب الجدل" (6) . وللعلم النافع علامات ذكرها بعض العلماء (7) . ب) النهي عن البدع، ومن ذلك علم الكلام، وقد كان موقف السلف   (1) درء تعارض العقل والنقل (1/141) ، وانظر: قواعد المنهج السلفي مصطفى حلمى (ص: 253-257) ط ثانية. (2) نقض التأسيس المطبوع (2/110) . (3) رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء، ورقمه (2722) . (4) بيان فضل علم السلف على علم الخلف لابن رجب (ص: 17) ط دار الأرقم. (5) هو معروف بن فيروز أو فيرزان، أبو محفوظ البغدادى الكرخي، أحد الزهاد، مدحه الإمام أحمد. انظر ترجمته في: مناقب معروف الكرخي وأخباره لابن الجوزى، وتاريخ بغداد (13/199) وطبقات الحنابلة (1/ 1 38) ، وسير أعلام النبلاء (9/ 5 33) . (6) رواه أبو نعيم في الحلية (8/361) ، وابن الجوزى في مناقب معروف الكرخي (ص: 122-123) . (7) انظر مثلا: بيان فضل علم السلف على الخلف (ص: 51-54) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 واضحا ومشهورا من علم الكلام، فقصة عمر- رضي الله عنهـ مع صبيغ ابن عسل (1) لما علم أنه يتتبع متشابه الكلام ويسأل عنه، فضربه عمر ونفاه إلى البصرة- قصة مشهورة (2) -، لذلك لما حدث يزيد بن هارون بحديث الرؤية، فقال له رجل: يا أبا خالد، ما معنى هذا الحديث؟ فغضب وحرد (3) وقال: ما أشبهك بصبيغ وأحوجك إلى مثل ما فعل به (4) . وعمر- رضي الله عنهـ روي عنه أنه قال: " إنه سيأقي أناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله " (5) . وقد استمر السلف على هذا المنهج من التحذير من البدع وعلم الكلام وما عليه أهل الأهواء، فالشافعي أثر عنه الكثير في التحذير من أهل الكلام حتى قال: " لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك أحب إلي من أن يلقاه بشيء من الأهواء " (6) ، والإمام أحمد-رحمه الله- يقول في رسالتهـ الثابتة عنه - الى عبد الله بن يحيى بن خاقان - لما طلب منه المتوكل أن يكتب له حول مسألة "خلق القرآن ": وقد روى غير واحد ممن مضى من سلفنا - رحمهم اللهـ أنهم كانوا يقولون: القرآن كلام الله عز وجل وليس بمخلوق،   (1) هو صَبيغ بن شريك بن المنذر بن قشع بن عسل التميمي، ويقال صبيغ بن عسل، نسبة إلى جده. ترجمته في: الإكمال لابن ماكولا (5/ 221،6/206-208) ، والإصابة (3/458) ، ترجمة رقم (27 1 4) ، وتبصير المنتبه (3/4 95) ، والوافي في الوفيات (16/383) . (2) رواها: الدارمى في سننه، رقم (46 1) ، والآجرى في الشريعة (ص: 73) ، واللالكائي في شرح السنة، رقم (136 - 140) ، والصابوني في عقيدة السلف، رقم (83-85) ، تحقيق: بدر البدر، ورواها غيرهم. انظر: الإصابة (3/458) ، رقم الترجمة (27 41) ت البجاوى، والدر المنثور للسيوطي. أول سورة الذاريات. (3) " حرد " أي غضب واغتاظ وهم به. انظر: الصحاح، والمعجم الوسيط، مادة:"حرد". (4) عقيدة السلف للصابوني، رقم (82) . (5) رواه الدارمي رقم (121) ، واللالكائي رقم (202) ، والآجري في الشريعة (ص: 52) . (6) رواه البيهقي في: مناقب الشافعي (1/452) ، وفي الاعتقاد (ص: 39) ، تحقيق: أحمد عصام الكاتب، وأبو نعيم في الحلية (9/111) ، وابن عساكر في تبيين كذب المفتري (ص: 337) ، واللالكائي في شرح السنة، رقم (300) ، وابن أبي حاتم: كما في توالي التأسيس لابن حجر (ص:110) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وهو الذي أذهب إليه، ولست بصاحب كلام ولا أرى الكلام في شىء من هنا، إلا ما كان في كتاب الله عر وجل أو في حديث النبى - صلى الله عليه وسلم - أو عن أصحابه أو عن التابعين، فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود ... " (1) . واشتهر هذا الموقف من علم الكلام ومن المنطق عن أعلام السلف- رحمهم اللهـ وصارت دواوين السنة تذكر كثيرا من الآثار عنهم في موقفهم هذا. بل وصل الأمر في إحدى الحالات أن النساخ كانوا يقسمون أنهم لم ينسخوا كتابا في المنطق (2) . وموقف السلف من علم الكلام كان لأسباب (3) ، وليس لأنهم عجزوا أو جهلوا أو شغلوا عنه كما يحلو للبعض أن يفسر ذلك، ولا شك أن منهج علم الكلام يقوم على أسس غريبة على المنهج الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. وأية محاولة للعودة بالمسلمين إلى الإسلام فلابد أن تكون أولى مسلماته العودة إلى صفاء العقيدة وتخليصها مما ران عليها من شوائب علم الكلام والفلسفة، يقول سيد قطب-رحمه الله- في معرض كلامه عن المنهج الذي يراه في العقيدة: " ولما كانت هناك جفوة أصيلة بين منهج الفلسفة ومنهج العقيدة، وبين أسلوب الفلسفة وأسلوب العقيدة، وبين الحقائق الإيمانية الإسلامية وتلك المحاولات الصغيرة المضطربة المفتعلة التي تتضمنها الفلسفات والمباحث اللاهوتية البشرية .... فقد بدت " الفلسفة الاسلامية- كما سميت - نشازا كاملا في لحن العقيدة المتناسق، ونشأ من هذه المحاولات تخليط كثير، شاب صفاء التصور الإسلامي، وصغر مساحته،   (1) السنة لعبد الله بن الإمام أحمد (1/139-140) ، وأبو نعيم في الحلية (9/216) ، وابن الجوزى في المناقب (ص: 462) باختصار، والذهبي في تاريخ الإسلام (ترجمة الامام أحمد مفردة - ط: دار الوعي بحلب) (ص: 70- 71) ، وقال الذهبي في آخرها: " قلت: رواة هذه الرسالة عن أحمد أئمة أثبات أشهد بالله أنه أملاها على ولده"، وذكرها فى سير أعلام النبلاء (11/286) ، وقال: " إسنادها كالشمس". (2) انظر: الكامل لابن الأثير حوادث سنة: 279 (7/453) دار صادر. (3) انظر: بيان فضل علم السلف لابن رجب (ص: 55-58) ، ومنهج علماء الحديث والسنة مصطفى حلمي (ص: 0 6- ا 6) ، ومنطق ابن تيمية (ص: 277) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وأصابه بالسطحية، ذلك مع التعقيد والجفاف والتخليط، مما جعل تلك الفلسفة الإسلامية ومعها مباحث علم الكلام غريبة غربة كاملة على الإسلام وطبيعته، وحقيقته، ومنهجه وأسلوبه ". " وأنا أعلم أن هذا الكلام سيقابل بالدهشة- على الأقل- سواء من كثير من المشتغلين عندنا بما يسمى " الفلسفة الاسلامية " أو من المشتغلين بالمباحث الفلسفية بصفة عامة .... ولكني أقرر وأنا على يقين جازم بأن " التصور الإسلامي " لن يخلص من التشويه والانحراف والمسخ إلا حين نلقي عنه جملة بكل ما أطلق عليه اسم الفلسفة الاسلامية، وبكل مباحث علم الكلام، وبكل ما ثار من الجدل بين الفرق الإسلامية المختلفة في شتى العصور أيضا، ثم نعود إلى القرآن الكريم ... " (1) . ج-) الرد على المنحرفين وأصحاب الأهواء بمنهج متميز، فالسلف - رحمهم اللهـ لما حذروا من المنطق ومن علم الكلام لم يكتفوا بهذا، وإنما ردوا وناقشوا أصحاب البدع بالأدلة النقلية والعقلية المبنية على الكتاب والسنة. والسلف كانوا أصحاب منهج واضح، مقنع، وليس كما يزعم بعض أهل الكلام من أن السلف أو أهل الحديث لا يعرفون الرد ومجادلة الخصوم ويذكرون في ذلك قصة لهارون الرشيد لما منع الجدال في الدين وحبس أهل الكلام، وخلاصتها: أن ملك السند بعث يطلب منه أن يرسل إليه من يناظره، فأرسل إليه قاضيا- أو رجلا من أهل الحديث- فعجز عن مناظرته، فغضب الرشيد وسأل من حوله: " أليس لهذا الدين من يناضل عنه؟، فقيل له: بلى، هم الذين نهيتهم عن الجدال، وفيهم من هو في الحبس. فأحضروهم، وأرسل واحدا منهم إلى ملك السند، فدس له السم قبل وصوله إليه (2) . وهذه قصة باطلة لأن فتح السند وقتل ملكها كان سنة 93 هـ وهارون الرشيد تولى الخلافة سنة 170 هـ.   (1) خصائص التصور الاسلامي: كلمة في المنهج (ص:10 - 11) . (2) المصدر المعروف لهذه القصة- التي وردت بعدة روايات - هو كتاب المنية والأمل- لابن المرتضي المعتزلي (ص: 55 ا - 158) ت: محمد جواد مشكور، وهي في طبعة أرنلد التى أفرد فيها ذكر المعتزلة (ص: 31-33) ، وذكرها النشار في نشأة الفكر الإسلامي (1/504-505) ، وردها، وانظر قواعد المنهج السلفي (ص: 80-82) الطبعة الثانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وهذه القصة كما يظهر من مصدرها ليس لها سند صحيح، وسياق القصة يدل على الهدف من وضعها، واذا كان مصدر السلف الأول هو كتاب الله وفيه الحجج والبراهين الدامغة فكيف يخطر على البال أنهم يعجزون عن المناقشة والرد على أهل البدع. أما إن كان القصد المناقشة ببدع وأصول أهل الكلام فلا ريب أن السلف كانوا بعيدين عنها ولا يعرفونها لأنهم في غنى عنها، لكن من عاش منهم مع أهل الكلام ثم رجع إلى منهج ومذهب أهل الحديث فهذا قد تكون له خبرة بهم، ولذلك قال نعيم بن حماد (1) - الذى امتحن في مسألة القرآن فأبى أن يجيب، فحبس ومات في السجن- يقول عن نفسه: " أنا كنت جهميا، ولذلك عرفت كلامهم، فلما طلبت الحديث عرفت أن أمرهم يرجع إلى التعطيل " (2) . والسلف- رحمهم اللهـ لم ينهوا عن جنس النظر والاستدلال، ولكن معارضتهم تركزت على الأساليب الكلامية المبنية على غير الكتاب والسنة (3) . ولذلك روى الآجرى عن محمد بن سيرين لما ماراه (4) رجل في شيء، فقال له محمد: " إني أعلم ما تريد، وأعلم بالمماراة منك ولكني لا أماريك" (5) ، فهو لا يريد الممارأة والجدل، ولو جادله لجادله بمنهج القرآن والسنة لا بمنهج المتكلمين.   (1) هو نعيم بن حماد بن معاوية، أبو عبد الله الخزاعي - ت: 228 هـ، طبقات ابن سعد (7 / 519) ، وتاريخ بغداد (13 / 306) ، وتهذيب المزي- المخطوط (ص: 1419) ، وسير أعلام النبلاء (10/595) . (2) تاريخ بغداد (13/307) ، وتهذيب المزى (ص: 1420) ، وسير أعلام النبلاء (10/597) . (3) انظر: قواعد المنهج السلفى: مصطفى حلمي (ص: 85) ، ومنهج علماء الحديث والسنة له (ص:40) . (4) من المماراة: تقول ماريت الرجل، أى: جادلته. انظر: الصحاح مادة:" مرا" من حرف الياء، وقد وردت اللفظة في الشريعة وفي طبعتى فضل علم السلف " ومارآه" وهر تحريف. (5) الشريعة للآجري (ص: 61 - 62) ، وانظر: بيان فضل علم السلف لابن رجب (ص: 37) ط دار الأرقم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وهذا يدل على أن السلف لا يناظرون إلا عند الحاجة، ومناظرتهم لا تكون بمنهج المتكلمين، يقول الآجري: " فإن قال قائل: فإن اضطر في الأمر- وقتا من الأوقات- إلى مناظرتهم وإثبات الحجة عليهم، ألا يناظرهم؟، قيل: الاضطرار إنما يكون مع إمام له مذهب سوء، فيمتحن الناس ويدعوهم إلى مذهبه، كفعل من مضى في وقت أحمد بن حنبل-رحمه الله-: ثلاثة خلفاء امتحنوا الناس، ودعوهم إلى مذهبهم السوء، فلم يجد العلماء بدا من الذب عن الدين، وأرادوا بذلك معرفة العامة الحق من الباطل، فناظروهم ضرورة لا اختيارا، فأثبت الله عز وجل الحق مع أحمد بن حنبل ومن كان على طريقته وأذل الله العظيم المعتزلة وفضحهم وعرفت العامة أن الحق ما كان عليه أحمد ابن حنبل ومن تابعه إلى يوم القيامة " (1) . 3- حجية السنة في العقيدة ومن ذلك خبر الآحاد، وهذه من القواعد الكبرى في منهج السلف- رحمهم اللهـ تميزوا بها عن كثير من أهل الأهواء والبدع، وما عني أهل السنة بجمع السنة والكلام في متونها وأسانيدها، ونشأة هذا العلم الذى تميزت به الأمة الاسلامية عن غيرها من الأمم، وبذلوا في سبيل ذلك جهودا منقطعة النظير، كل ذلك إنما كان منهم حفاظا على المصدر الثاني الذى هو وحي يوحى من الله تعالى، ولم يميزوا بين الأحاديث المتعلقة بالأحكام والأحاديث المتعلقة بالعقائد. وقد كان اعمادهم على السنة وتعظيمهم لها مبنيا على أمور منها: أ) أن من مقتضيات شهادة أن محمدا رسول الله التى لا يتم الايمان إلا بها، ولذلك قرنت بشهادة أن لا إله إلا الله وجوب تصديقه فيما أخبر، سواء كان عن الله أو صفاته أو مخلوقاته أو ما يستقبل من أمور الآخرة وغيرها من المغيبات. ب) أن أعرف العباد بما صلح لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه أرغب الناس في نشرالخير وتعريف الخلق به، ولذلك فما من خير إلا ودل أمته عليه،   (1) الشريعة (ص: 62) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وما من شر إلا وحذرها منه، ومن المعلوم أن أهم الأمور بالنسبة للعباد ما يتعلق بالعقيدة من الأمور الإلهية والمعارف الدينية، والعلم في هذه " مأخذه عن الرسول، فالرسول أعلم الخلق بها، وأرغبهم في تعريف الخلق بها، وأقدرهم علي بيانها وتعريفها، فهو فوق كل أحد في: العلم، والقدرة، والإرادة، وهذه الثلاثة بها يتم المقصود. ومن سوى الرسول: إما أن يكون في علمه بها نقص أو فساد، وإما أن لا يكون له إرادة فيما علمه من ذلك فلم يبينه، إما لرغبة وإما لرهبة، وإما لغرض آخر. وإما أن يكون بيانه ناقصا، ليس بيانه البيان عما عرفه الجنان ". " وبيان الرسول على وجهين: تارة: يبين الأدلة العقلية الدالة عليها. والقرآن مملوء من الأدلة العقلية والبراهين اليقينية على المعارف الالهية والمطالب الدينية. وتارة: يخبر بها خبرا مجردا، لما قد أقامه من الآيات البينات، والدلائل اليقينيات على أنه رسول الله المبلغ عن الله، وأنه لا يقول عليه إلا الحق، وأن الله شهد له بذلك، وأعلم عباده وأخبرهم أنه صادق مصدوق فيما بلغه عنه، والأدلة التي بها نعلم أنه رسول الله كثيرة متنوعة، وهي أدلة عقلية تعلم صحتها بالعقل، وهي أيضا شرعية سمعية " (1) . ب) أن الرسول بلغ جميع ما أنزل إليه من ربه، لم يكتم شيئا من ذلك، وأنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ ذلك أتم بلاغ وأبينه حتى ترك أمته على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. وقد تمثلت هذه الأمور- السابقة- في موقف السلف من السنة وتعطمهم لها، وإنزالها منزلتها اللائقة بها، وذلك بكونها وحيا من الله تعالى وبكونه - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق عن الهوى. وبدا هذا واضحا من خلال: أ) الخضوع لحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا صح - وتعظيمه وعدم الاعتراض عليه بأي نوع من أنواع الاعتراض، ومن ذلك ما روي أن أبا معاوية   (1) رسالة الفرقان دين الحق والباطل- مجموع الفتاوى (13/136) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الضرير (1) كان يحدث " هارون الرشيد " فحدثه بحديث أبي هريرة- رضي الله عنهـ: " احتج آدم وموسى " (2) ، فقال عيسى بن جعفر: " كيف هذا، وبين آدم وموسى ما بينهما؟، قال: فوثب به هارون وقال: يحدثك عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتعارضه بكيف!، قال: فما زال يقول حتى سكت عنه" (3) ، وفي رواية أنه حبسه، ولم يطلقه حتى حلف الأيمان المغلظة أنه ما سمعه من أحد وما جرى بينه وبينه كلام (4) ، أي لم يتلق هذه الشبهة عن أحد، يقول الصابوني معلقا على هذا: " هكذا ينبغي للمرء أن يعظم أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقابلها بالقبول والتسليم والتصديق، وينكر أشد الإنكار على من يسلك فيها غير هذا الطريق الذي سلكه هارون الرشيد-رحمه الله- مع من اعترض على الخبر الصحيح الذى سمعه، - بكيف،- على طريق الإنكار والاستبعاد له، ولم يتلقه بالقبول كما يجب أن يتلقى جميع ما يرد من الرسول - صلى الله عليه وسلم - " (5) . ولما سئل ابن المبارك- حين روى حديث النزول- كيف ينزل؟ أجاب: " ينزل كيف يشاء " (6) ، وفي رواية أنه قال: " إذا جاءك الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاخضع له " (7) .   (1) هو: محمد بن خازم أبو معاوية الضرير- روى له الجماعة. تهذيب التهذيب (9/137) ، وتاريخ بغداد (5/242) . (2) متفق عليه: البخاري، كتاب القدر، ورقمه (6614) ، الفتح (11/505) ، مسلم في القدر، ورقمه (2652) . (3) رواه الصابوني: عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص: 16 ا-117) ط: بدر البدر، وانظر الفقرة التالية. (4) رواه الفسوي في المعرفة والتاريخ (2/ 181-182) ، والخطيب في تاريخ بغداد (5/243) ، [ومختصرا فى (14/7-8] ، وانظر سير أعلام النبلاء (9/288) ] ، وقد أوردوا القصة بطولها وهي قصة عجيبة تدلءلى مدى حرص الرشيد على السنة وحرب أهل البدع. (5) عقيدة السلف للصابوني (ص: 117) وهو آخر الرسالة. (6) رواه الصابوني في عقيدة السلف (ص: 29) ، البيهقي في الأسماء والصفات (ص: 453) عن الصابوني. (7) الصابوني في عقيدة السلف (ص: 172) تحقيق: الأخ ناصر الجديع- مطبوع على الآلة الكاتبة وهو في طبعة بدر البدر (ص: 29) ، لكن عبارته " فاصغ له". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 ب) اعتمادهم على الأحاديث الصحيحة، ونبذ الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وقد تمثل هذا عندهم بالإنكار على من اعترض على الأحاديث الصحيحة الثابتة، وتمثل أيضا بذكرهم للأسانيد فيما يروونه، ومعلوم أنه إذا أسند الراوي فلابد من النظر في إسناده والحكم على الحديث صحة وضعفا بعد جمع طرقه ورواياته، ومن الملاحظ على كتب السنة- التي اختصت بالعقيدة- ورود بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة فيها، ولا شك أن الناظر فيها- في العصور المتأخرة- يحس أنه كان من المفروض تمييز صحيحها من غيره، أو يراد ما صح منها فقط، أما إدخال هذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة فيها فله سلبيات لعل من أهمها التشهير بأهل السنة من جانب أهل التعطيل ووصفهم لهم بالحشو والتشبيه، والتندر بهم بذكر نماذج من هذه الأحاديث. ولكن لو رجعنا إلى هذا الزمن الذي دونت فيه لوجدنا ما يبرر فعلهم هذا، فالعناية بالحديث كانت شديدة، ومعرفة الضعفاء والوضاعين كانت مشهرة، ثم إن هذه الروايات التي أوردوها- ويعلمون أحيانا أنها ضعيفة- قد تكون وردت عند أحد أعلام المحدثين بطريق أو بطرق أخرى صحيحه، فليس هناك ما يضمن مع كثرة المحدثين والرواة في مختلف أمصار المسلمين أن هذه الأحاديث لم ترد إليهم بطرق أخرى. ج-) حجية خبر الآحاد في العقيدة إذا صح، وهذا من المعالم الرئيسة لمنهج السلف، والقول بأن أخبار الآحاد لا تفيد العلم ومن ثم فلا يحتج بها في العقيدة بدعة كبرى تلقفها أو أحدثها المعتزلة، ولكن من المؤسف أن كثيرا من العلماء ممن ينتسبون إلى السنة- وخاصة في كتبهم في أصول الفقهـ ظنوا أنها لا تفيد العلم وإنما تفيد الظن، وانتشرت هذه المقالة بنسبة القول بها إلى الجمهور، ومما يلاحظ أن كثيرا ممن ألف في أصول الفقه هم، إما من المعتزلة أو الأشاعرة أو الماتريدية، فأدخل هؤلاء هذه المسألة وصاروا يذكرون فيها أن أخبار الآحاد لا تفيد إلا الظن فيحتج بها في الأمور العملية من الأحكام لا العلمية، ويقصدون بها أمور العقائد بينما لو تتبعنا نصوص السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم لوجدنا الإجماع منهم- تقريبا- على عدم التفريق في أخبار الآحاد بين الأحكام والعقائد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ولذا يحسن هنا أن نذكر قصة إسحاق بن راهويه (1) مع عبد الله بن طاهر (2) ، فقد روى عن إسحاق بن راهويه قال: " دخلت على عبد الله بن طاهر، فقال لي: يا أبا يعقوب، تقول: إن الله ينزل كل ليلة؟، فقلت: أيها الأمير، إن الله تعالى بعث إلينا نبيا نقل إلينا عنه أخبار، بها نحلل الدماء وبها نحرم، وبها نحلل الفروج وبها نحرم، وبها نبيح الأموال وبها نحرم، فإن صح ذا صح ذاك، وإن بطل ذا بطل ذاك، قال: فأمسك عبد الله " (3) . هذا مذهب السلف ومنهجهم لم يؤثر عن أحد منهم ممن يعتد بقوله إذا ورد عليه حديث صح عنده ثبوته أن رد ما دل عليه من أمور العقيدة بأنه خبر آحاد- وليس هذا موضع استقصاء هذه المسألة المهمة، وإنما الغرض الإشارة المجملة. 4- أن الصحابة أعلم الناس- بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالعقيدة، لذلك فأقوالهم وتفاسيرهم للنصوص حجة لأنهم- رضي الله عنهم- قد اكتمل فيهم الفهم والمعرفة لأصول الدين التي دل عليها كتاب الله المنزل وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. والعجب أن بعض من يدعي الانتساب إلى مذهب أهل السنة يشتد غضبه حينما يعرض لرأي الرافضة في الصحابة وتنقيصهم لهم، ولكن لا يرى بأسا في أن يقرأ أو يسمع لبعض شيوخه من المنتسبين للسنة في مقابل الرافضة والمعتزلة كلاما يؤول إلى تنقيص الصحابة والطعن في فهمهم وعقولهم، مثل عبارة: أن الصحابة لم يعلموا - علم الكلام - لأنهم كانوا مشغولين بالجهاد،   (1) هو: إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلى، أبو محمد بن راهويه المروزى، قرين أحمد بن حنبل حياته (1 6 ا-237) أو (238 هـ) ،. تاريخ بغداد (5/6 34) ، وسير أعلام النبلاء (11/ 358) ، والتهذيب (1/6 1 2) ، وطبقات الحفاظ للسيوطي (ص: 88 1) . (2) عبد الله بن طاهر، أبو الحسين بن مصعب، الأمير العادل، أبو العباس، حاكم خراسان، توفى سنة: 230 هـ وله (48) سنة. تاريخ بغداد (9/483) ، وولاة مصر للكندي (ص: 4 0 2-08 2) ، وسير أعلام النبلاء (10/ 684) ، والفرج بعد الشدة (1/339) . (3) ذكره البيهقى في الأسماء والصفات (ص: 452) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 ومثل قول بعضهم: إن الصحابة كانوا يقرؤون القرآن ولكنهم يمرون النصوص المتعلقة بالصفات وغيرها دون فهم لها ولمعناها ... ، أو أن الصحابة لو واجهوا الشبهات التي واجهها من بعدهم لتأولوا كما تأولنا ... الخ. وهذا- بلا شك- منهج خطير، لا يقف الانحراف فيه عند حد الصحابة، بل قد يلزم منه اتهام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو الرسول المبلغ عن الله - بمثل هذه التهم التي توجه إلى الصحابة- رضي الله عنهم أجمعين-. والصحابة- في نظر أهل السنة، الذين هم أهل الحديث- كلهم عدول، ومن ثبتت صحبته ثبتت له العدالة بمجرد الصحبة، ولا شك أن هذه الأفضلية- أعني أفضلية الصحبة التى اختصوا بها، ولا يمكن أن ينال فضلها أحد ممن جاء بعدهم- تجعل لهم منزلة في فهم العقيدة وإدراكها، لا يمكن أن ينالها من جاء بعدهم. ولذلك كان السلف يفتخرون في أن دينهم أخذوه عن التابعين عن الصحابة، فشريك بن عبد الله (1) لما قيل له: إن قوما من المعتزلة ينكرون هذه الأحاديث أى أحاديث النزول، حدث بنحو عشرة أحاديث في هذا، وقال: " أما نحن فقد أخذنا ديننا هذا عن التابعين عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم عمن أخذوا؟ " (2) . ولمكانة الصحابة عند السلف حرصوا على تدوين أقوالهم وآرائهم في مختلف المسائل، فقد روى صالح بن كيسان (3) قال: " اجتمعت أنا والزهري (4)   (1) هو: شريك بن عبد الله النخعى الكوفي، القاضي، أبو عبد الله، صدوق، بخطئ كثيرا، كان عارفا عابدا، شديدا على أهل البدع، ولد سنة (90 هـ) وتوفى سنة 178 هـ. ميزان الاعتدال (2/270) ، سير أعلام النبلاء (8/172) ، تهذيب التهذيب (4/333) ، التقريب (1/ 351) . (2) رواه الصاغاني- كما في: سر أعلام النبلاء (8/158) ، والبيهقي فى الأسماء والصفات عن الصاغاني (ص: 451) . (3) هو: صالح بن كيسان المدني، أبو محمد أو أبو الحارث، مؤدب ولد عمر بن عبد العزيز، ثقة، ثبت، فقيه، مات بعد سنة: 140 هـ. تهذيب تاريخ دمشق (6/380) ، وتذ كرة الحفاظ (11/48) ، وسير أعلام النبلاء (5/454) ، والتقريب (1/362) ، وطبقات الحفاظ (ص: 63) . (4) هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله، أبو بكر القرشي الزهري المدني، أحد الأعلام، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 - ونحن نطلب العلم- فقلنا: نكتب السنن، فكتبنا ما جاء عن النبى - صلى الله عليه وسلم -، قال: ثم قال الزهري: نكتب ما جاء عن أصحابه فإنه سنة. قال: فقلت أنا: لا، ليس بسنة، لا نكتبه. قال: فكتب ولم أكتب، فأنجح وضيعت " (1) . والصحابة تميزوا في العقيدة وفهمها بعدة ميزات، أهمها: أ) أنهم شاهدوا التنزيل، وعاشوا مع النبى - صلى الله عليه وسلم - وهو يتلقى هذا الوحى من ربه الذي ينزل عليه مفرقا حسب الوقائع والأحداث، فعاصروها جميعا، واحدة فواحدة، فكيف لا يكونون وهم كذلك- أعلم الناس بالتنزيل وأسباب نزولهـ إن كانت له أسباب- وأعلم الناس- من ثم- بمراد الله ومراد رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ولا يقول عاقل: إن من حضر الواقعة أو الحادثة- أيا كانت- أقل علما بها ممن لم يحضرها ولم يشارك فيها. ب) من المعلوم أن حواري الرسل وصحابتهم الذين اتبعوهم وآمنوا بهم هم اكثر الناس فهما لرسالتهم وما يتلعق بها من أحكام سواء في العقيدة أو الشريعة؛ فهم العارفون بدقائقها المدركون لحقائقها، وهم اكمل الناس علما وعملا، ولا يكون من بعدهم اكمل منهم في شيء من ذلك، ولذلك روى عبد الله ابن مسعود- رضى الله عنهـ عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ما من نبى بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه   (1) = توفي سنة: 124 هـ. طبقات ابن سعد- الجزء المتمم (ص: 157) ، وتاريخ دمشق- طبعت ترجمته مفردة- ووفيات الأعيان (4/177) ، وغاية النهاية في طبقات القراء (2/262) ، وسير أعلام النبلاء (5/326) ، والواي للصفدي (5/24) ، وتهذيب الهذيب (9/445) . (1) رواه عبد الرزاق في المصنف (11/ 258) ورقمه (487 0 2) ، والخطيب في تقييد العلم (ص: 6 0 ا- 107) ، وابن سعد في الطبقات (2/388) ، وفي الجزء المتمم (ص: 68 1) ، والفسوى في المعرفة (1/637، 641) ، وابن عساكر- ترجمة الزهري مفردة- (ص: 62) ، وأبو نعيم في الحلية (3/360) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " (1) ، فمن سار على نهج الصحابة سلم من هذه الصفة الذميمة. ومع كل ذلك فمن أتى بعد الصحابة فلن يكون مثلهم في الفهم والعلم. ج-) لم يكن بين الصحابة خلات في العقيدة، فهم متفقون في أمور العقائد التى تلقوها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بكل وضوح وبيان، وهذا بخلاف مسائل الأحكام الفرعية القابلة للاجتهاد والاختلاف، يقول ابن القيم-رحمه الله-: " إن أهل الإيمان قد يتنازعون في بعض الأحكام، ولا يخرجون بذلك عن الايمان، وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام وهم سادات المؤمنين، وأكمل الأمة إيمانا. ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة، كلمة واحدة، من أولهم إلى آخرهم، لم يسوموها تأويلا، ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلا، ولم يبدوا لشىء منها إبطالا، ولا ضربوا لها أمثالا، ولم يدفعوا في صدورها وأعجازها، ولم يقل أحد منهم: يجب صرفها عن حقائقها، وحملها على مجازها، بل تلقوها بالقبول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم، وجعلوا الأمر فيها كلها أمرا واحدا، وأجروها على سنن واحدة " (2) . والأمور اليسيرة التى اختلفوا فيها- كرؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه، وغيرها لا تؤثر في هذه القاعدة العامة، لأن الخلاف فيها كان لأسباب وقد يكون لبعض الصحابة من العلم ما ليس عند الآخر، لكنهم- رضى الله عنهم- إذا جاءهم الدليل خضعوا له بلا تردد. د) كان الصحابة يسألون عما يشكل عليهم، وهذا أمر مشهور عنهم - رضى الله عنهم - فأم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - رُوي عنها أنها   (1) رواه مسلم، كتاب الايمان- باب كون النهي عن المنكر من الإيمان، ورقمه (80) . (2) إعلام الموقعين (1/ 51-52) ت: الوكيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 " كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه " (1) ولذلك سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما قال: " من نوقش الحساب عذب " عن الآية: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق:7،8] ، فأجابها: " إنما ذلك العرض ... " (2) ، كذلك سأل الصحابة عن رؤية الله فمثل لهم برؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب (3) ، وكذلك قدرة الله على البعث ضرب لها مثالا بالنبات (4) . ومن هذه الميزات تتضح بجلاء مكانة الصحابة وعلمهم وفهمهم- رضي الله عنهم أجمعين- كما يتبين فضلهم- في هذه الأمور وغيرها- على من جاء بعدهم، وأن أي تجهيل لهم بأسلوب صريح أو غير صريح يعتبر ضلالا وانحرافا، لا يتوقف عند حد اتهام الصحابة أنفسهم بل يتعداه إلى ما بلغوه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أمور الدين كلها. وإن العجب ليأخذ الإنسان وهو يقرأ مثل هذا الكلام لأحد الكتاب وهو يعرض لمذهب السلف ومدرستهم، يقول: " ولعلنا نلمح- من خلال هذا العرض- الفرق الواضح بين الايمان والمعرفة، فالأول محله القلب، والثانية محلها العقل. ومن ثم نستطع أن نقرر أن المتديني ن في الصدر الأول قد فقهوا النص الديني- وخاصة ما يتعلق بأمور العقيدة- بقلوبهم، قبل إدراكه بمقاييس العقل، كالذي عرف فيما بعد لدى بعض فرق المتكلمين، وتخريجهم نصوص العقيدة على مقتضى ما وضعوه من مقامات عقلية "   (1) رواه البخارى عن ابن أبي مليكة في العلم، رقم (103) ، واسمه: عبد الله بن عبيد الله ابن عبد الله بن أبي مليكة بن عبد بن جدعان ثقة، فقيه، روى عن مجموعة من الصحابة- منهم عائشة - روى له الجماعة. انظر: التهذيب (5/306) ، والتقريب (1/431) . (2) متفق عليه: رواه البخارى عن ابن أبي مليكة عن عائشة، كما رواه عن ابن أبي مليكة عن القاسم عن عائشة، وأرقامه (3 0 1، 4939،6536،6537) ، ومسلم في الجنة، ورقمة (2876) . (3) رواه أحمد - عن أبي رزين العقيلى ابن المنتفق - المسند (4/11) ، ورواه أبو داود في السنة، رقمه (4731) ، وابن ماجه في المقدمة، رقمه (180) ، وابن أبي عاصم في السنة، رقمه (459- 460) ، وحسنه الألباني. (4) رواه أحمد عن أبي رزين العقيلى، واسمه لقيط بن عامر بن المنتفق، وهو الذي سأله. المسند (4/11) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 ثم يعقب قائلا:" وليس في هذا القول نسبة لهم- أي المتدينين- إلى التجهيل كما فهم تقي الدين ابن تيمية " (1) . هكذا يقول الكاتب عن الصدر الأول- وفيهم الصحابة- إنهم كانوا يؤمنون بأمور العقيدة بقلوبهم، ولكنهم لا يعرفونها بعقولهم، وإنما عرفها أهل الكلام من بعد لما جاءوا بالمقدمات العقلية، ومع ذلك فليس في هذا تجهيل للصحابة والصدر الأول (2) . 5- ومن منهج السلف: التسليم لما جاء به الوحي، مع إعطاء العقل دوره الحقيقي، وعدم الخوض في الأمور الغيبية مما لا مجال للعقل فيه، فالسلف - رحمهم الله - لم يلغوا العقل كا يزعم خصومهم من أهل الكلام، أو من لا خبرة له بمذهب السلف من غيرهم، كما أنهم لم يحكموه في جميع أمورهم كما فعل أهل الضلال، وإنما وزنوا الأمر بموازين الشرع: فما جاء به الوحي فهو حق وصدق ولا يمكن أن يخالف معقولا صريحا أبدا، إذ كيف يخالفها والوحي من الله والعقول مخلوقة لله، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك والمقصود هنا بيان أن من منهجهم التسليم لما ورد في النصوص وعدم معارضتها بشيء من الأهواء أو العقول، مع إعطاء العقل دروه المناسب له (3) . 6- لم يكونوا يتلقون النصوص ومعهم أصول عقلية يحاكمون النصوص إليها،؟ فعل المعتزلة وغيرهم الذين وضعوا أصولأ عقلية، ثم لما جاءوا إلى القرآن والسنة وما فيهما من دلالات في الاعتقاد، نظروا فما وجدوه موافقا لتلك الأصول العقلية أخذوا به، وما وجدوه مخالفا لشيء نها أولوه أو أنكروا الاحتجاج به، وقد كان سيد قطب-رحمه الله- من الدعاة إلى هذا المنهج في العودة إلى العقيدة والتصور الإسلامي، يقول في كلامه حول المنهج الصحيح لذلك: " ومنهجنا   (1) المدرسة السلفية، تأليف: محمد عبد الستار نصار (ص: 478) . (2) انظر: في موضوع منزلة الصحابة، قواعد المنهج السلفي (ص: 51-68) الطبعة الثانية. (3) انظر: علاقة الاثبات والتفويض (ص: 23-26) ، ومنهج علماء الحديث والسنة (ص: 40) ، وانظر: نقض التأسيس المطبوع (1/246-247) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 في استلهام القرآن الكريم، ألا نواجهه بمقررات سابقة إطلاقا، لا مقررات عقلية، ولا مقررات شعورية- من رواسب الثقافات التي لم نستقها من القرآن ذاتهـ نحام إليها نصوصه، أو نستلهم معافي هذه النصوص وفق تلك المقررات السابقة ". " لقد جاء النص القرآني- ابتداء- لينشىء المقررات الصحيحة التي يريد الله أن تقوم عليا تصورات البشر، وأن تقوم عليها حياتهم، وأقل ما يستحقه هذا التفضل من العلى الكبير، هذه الرعاية من الله ذي الجلال- وهو الغني عن العالمين- أن يتلقوها وقد فرغوا لها قلوبهم وعقولهم من كل غبش دخيل، ليقوم تصورهم الجديد نطفا من كل رواسب الجاهليات- قديمها وحديثها على السواء- مستمدا من تعليم الله وحده، لا من ظنون البشر، التي لا تغنى من الحق شيئا ". " ليست هناك إذن مقررات سابقة نحاكم إليها كتاب الله تعالى، إنما نحن نستمد مقرراتنا من هذا الكتاب إبتداء، ونقيم على هذه المقررات تصوراتنا ومقرراتنا، وهذا- وحدهـ هو المنهج الصحيح، في مواجهة القرآن الكريم، وفي استلهامه خصائص التصور الإسلامي ومقوماته " (1) . 7- الرجوع إلى النصوص الواردة في مسألة معينة، وعدم الاقتصار على بعضها دون البعض الآخر، وهذا ناشيء من أنهم لا يفرقون بين النصوص وليس لديهم أصول عقلية متقررة سلفا عندهم ليأخذوا من النصوص ما وافقها ويدعوا ما خالفها، كما وقع فيه أهل الأهواء كلهم، إذ ما من طائفة من طوائفهم إلا وأخذت بجزء من النصوص مما يوافق مذهبها ثم تأتي طائفة تطعن في أدلة الطائفة الأخرى ... وهكذا في جميع مسائل العقيدة. أما السلف- ومذهبهم هو الوسط- فلا يسلكون مثل هذا المنهج، بل يأخذون بجميع النصوص، فيكون معهم الحق الذي مع كل من الطائفتين المنحرفتين،   (1) خصائص التصور الإسلامي (ص: 14-15) ، ومع هذا المنهج الواضح لسيد قطب فلا يخلو كتابه " في ظلال القرآن " من بعض الهفوات التي وقع بها، خاصة في بعض الصفات كالاستواء وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ويسلمون من الباطل الذي معهما. والأمثلة على ذلك كثيرة وواضحة والحمد لله. فالسلف يجمعون النصوص في المسألة الواحدة من مسائل العقيدة وغيرها، ثم يأخذون بها جميعا فيخلصون إلى مذهب وسط هو المذهب الحق والعدل. 8- التزام العدل والإنصاف مع أعدائهم، فهم يعترفون بما عند الخصوم من حق، ولا يعميهم ما يجدونه عندهم من ضلال فيصدهم عن قول الحق فيهم، أو يدعوهم إلى رميهم بما ليس فيهم من الباطل. وهذا بخلاف منهج أهل الأهواء الذين يرمون كل من لم يقل بمقالتهم بشتى أنواع التهم، ويحملون أقوال من يخالفهم أسوأ الاحتمالات، ولا يعترفون له بحق أبدا. أما أهل السنة فيلتزمون الإنصاف مع أنفسهم ومع من يخالفهم، ولذلك فهم يقسمون من عداهم إلى قسمين: أ) أهل كفر وعناد فهؤلاء يجاهدونهم ويكشفون باطلهم. ب) أهل بدعة وعصيان. فهؤلاء يحمدون لهم ما عندهم من إيمان وجهاد وخير وخدمة للإسلام، ويردون ما هم عليه من بدعة، ويبينون ما فيها من ضلال ومخالفة لمذهب أهل السنة، ومن كان داعيا إلى بدعته فالموقف منه يشتد حسب خطورة المقالة الضالة التي أتى بها، وحسب المصلحة التى تنجم عن كشف البدعة وتفسيق صاجها. 9- لا يتعصبون لشخص إلا للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فعندهم أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا الهادي البشير عليه الصلاة والسلام، لأنه الذي لا ينطق عن الهوى. وهذا بخلاف أهل الأهواء الذين يتعصبون لطائفتهم أو إلى رجل من رجالهم، ويجعلون أقوال هؤلاء كالنصوص، لا تقبل الرد ولا التأويل، ومن ثم يردون نصوص الكتاب والسنة لأجلها. أما أهل السنة فإمامهم وقائدهم الذي يتبعون ما جاء به ويزنون جميع أقوال الناس بأقواله؛ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثانيا: تميز السلف " أهل السنة والجماعة " عن غيرهم: والقصد من هذا بيان الميزات التى تميز بها أهل السنة عن غيرهم ومن أهمها: ا- أن أهل السنة ليس لهم اسم يسمون به إلا اسم " أهل السنة والجماعة "، أو " أهل الحديث " فهو الاسم الذي عرفوا به، وهذا بخلاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 أصحاب البدع الذين تسموا بأسماء وألقاب أو عرفوا بها فصارت علما عليهم، ومن المعلوم أن أهل السنة قد يسميهم غيرهم بأسماء وألقاب أخرى، إذ ما من فرقة إلا وسمت أهل السنة باسم يناسب ما خالفها فيه أهل السنة، ولكن بقي أهل السنة لم يلزمهم شىء من هذه الألقاب الباطلة. ولذلك ذكر ابن عبد البر أن رجلا جاء إلى الامام مالك فقال: " يا أبا عبد الله، أسألك عن مسألة أجعلك حجة فيما بينى وبين الله عز وجل، قال مالك: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، سل. قال: من أهل السنة؟، قال: أهل السنة الذين ليس لهم لقب يعرفون به، لا جهمى، ولا قدري، ولا رافضي (1) ، ويقول الشيخ عبد القادر الجيلى (2) في الغنية: " واعلم أن لأهل البدع علامات يعرفون بها فعلامة أهل البدعة الوقيعة في أهل الأثر، وعلامة الزنادقة تسميتهم أهل الأثر بالحشوية، ويريدون إبطال الآثار، وعلامة القدرية تسميتهم أهل الأثر مجبرة، وعلامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة، وعلامة الرافضة تسميتهم أهل الأثر ناصبة، وكل ذلك عصبية وغياض لأهل السنة، ولا اسم لهم إ، اسم واحد وهو: أصحاب الحديث، ولا يلتصق بهم ما لقبهم به أهل البدع، كمالم يلتصق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - تسمية كفار مكة ساحرا وشاعرا ومجنونا ومفتونا وكاهنا، ولم يكن اسمه عند الله وعند ملائكته وعند إنسه وجنه ولسائر خلقه إلا رسولا نبياً ... " (3) . 2- توسطهم بين الناس، وعدم الافراط أو التفريط، وهذا مبني على أن مذهبهم هو المذهب الوسط. وقد حرص السلف على أن يكونوا وسطا.   (1) الانتقاء لابن عبد البر (ص: 35) . (2) أو الجيلاني، وهو الشيخ عبد القادر بن أبي صالح بن عبد الله الجيلي الحنبلي، وفي مقدمة الغنية في ترجمته (ص: 3) عبد القادر بن موسى وكذا في الأعلام (4/47) - الطبعة الأخيرة-، ولد الشيخ عبد القادر سنة 470 هـ، وتوفى سنة 561هـ. قال عنه الذهبى: " وفي الجملة: الشيخ عبد القادر كبير الشأن، وعليه مآخذ في بعض أقواله ودعاويه"، وسماه في بداية الترجمة شيخ الاسلام وعلم الأولياء. سير أعلام النبلاء (20/439- 451) ، وانظر الأنساب (3/414) ، ط لبنان والمنتظم (10/219) ، وذيل طبقات الحنابلة (1/290-301) .. (3) الغنية (1/80) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 في الأمور كلها وأن لا ينساق أحد منهم مع أحد القولين المتطرفين، ولذلك كان الشعبي (1) يقول: " أحب أهل بيت نبيك ولا تكن رافضيا، واعمل بالقرآن ولا تكن حروريا، واعلم أن ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، ولا تكن قدريا، وأطع الامام وإن كان عبدا حبشيا ولا تكن خارجيا، وقف عند الشهات ولا تكن مرجيا، وأحب صاع بنى هاشم ولا تكن خشبيا (2) ، وأحب من رأيته يعمل الخير وإن كان أخرم سنديا " (3) . 3- ثباتهم على منهجهم لقناعتهم أنه الحق، وعدم تقلبهم كما هي عادة أهل الأهواء، ولذلك روى عن عمر بن عبد العزيز-رحمه الله- أنه قال: " من جعل دينه غرضا للخصومات اكثر التنقل " (4) ، كما روى عن الامام مالك أنه قال: " كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد - صلى الله عليه وسلم - لجدله " (5) ، وروى معن بن عيسى قال: " انصرف مالك بن أنس - رضى الله عنه - يوما من المسجد وهو متكىء على يدي، فلحقه رجل يقال له أبو الحورية- كان يتهم بالإرجاء- فقال: يا عبد الله، اسمع منى شيئا أكلمك به وأحاجك، وأخبرك رأي، قال: فإن غلبتني؟ قال: إن غلبتك اتبعني. قال: فإن جاء رجل آخر فكلمنا فغلبنا؟ قال نتبعه. قال مالك-رحمه الله- تعالى -: يا عبد الله، بعث الله عز وجل محمدا - صلى الله عليه وسلم - بدين واحد، وأراك تنتقل   (1) هو: الامام المشهور: عامر بن شراحيل بن عبد ذي كبار، أبو عمرو الهمذاني الشعبى، روى له الجماعة. توفى سنة 05 1 هـ، وقيل غير ذلك. انظر: أخبار القضاة (2/413-428) والحلية (4/ 0 31) ، وسير أعلام النبلاء (4/294) ، والوافي في الوفيات (16/587) . (2) هم أتباع المختار بن أبي عبيد، من الشيعة، وهم من الكيسانية وغيرهم، وسموا بذلك لاستعمالهم العكاكيز في الحرب. انظر: مروج الذهب (3/ 310) ، منشورات الجامعة اللبنانية، وانظر فهارس هذا الكتاب (6/306) . (3) تهذيب تاريخ دمشق (7/143) . (4) رواه الد ارمي، رقم (310) - باب من قال: العلم الخشية وتقوى الله، والآجري في الشريعة (ص: 56) ، والبغوى في شرح السنة (1 / 217) ، ط المكتب الإسلامي، ورواه اللالكائي في شرح السنة، رقم (216) . (5) رواه اللالكائي في شرح السنة، رقم (293-294) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 من دين إلى دين، قال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضا للخصومات اكثر التنقل " (1) . ولذلك ما أكثر تنقل أهل الأهواء، بخلاف السلف الذين عرفوا الحق فثبتوا عليه، وأهل الكلام " لو اعتصموا بالكتاب والسنة لا تفقوا كما اتفق أهل السنة والحديث، فإن أئمة السنة والحديث لم يختلفوا في شىء من أصول دينهم " (2) . 4- اتفاقهم على أمور العقيدة، وعدم اختلافهم مع اختلاف الزمان والمكان، وهذا ما يمكن أن يسمى به الوحدة الفكرية عندهم " فأهل السنة في أي قرن من القرون، وفي أي مكان لو اختبرت الواحد منهم لوجدته يحمل من العقيدة والمنهج- مع القناعة التامة بذلك- مثل ما يحمله الآخر يقول قوام السنة الأصبهاني (3) : " ومما يدل على أن أهل الحديث هم أهل الحق انك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم، مع اختلاف بلدانهم وزمانهم، وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل واحد منهم قطرا من الأقطار - وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة، ونمط واحد، يجرون على طريقة لا يحيدون عنها، ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد، ونقلهم واحد، لا ترى فيهم اختلافا ولاتفرقا في شيء ما وإن قل. بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنه جاء عن قلب واحد، وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟ " (4) .وهذا وصف دقيق لوحدة أهل السنة وعدم تباين واختلاف أقوالهم مثل ما حدث ويحدث لمن عداهم من أهل الأهواء والابتداع.   (1) الشريعة للآجري (ص: 56-57) . (2) درء تعارض العقل والنقل (10/306) . (3) هو: الإمام إسماعيل بن محمد بن الفضل بن علي القرشى، التيمي الأصبهاني، (ويقال له: الجوزي، نسبة إلى الجوزة، وهي الفرخة في لغة العجم) ، وبها نسبه تلميذه صاحب الأنساب، وذكر أنه كان يكرهها، لكنه قال: ولولا اشتهاره بها ما نسبته إليها، ويلقب بقوام السنة، ولد سنة: 457 هـ وتوفى سنة: 535 هـ. الأنساب (3/368) ، وطبقات الشافعية للأسنوي (1/359) وشذرات الذهب (4/105) ، وسير أعلام النبلاء (20/ 80) ، والأعلام (1/323) . (4) الحجة في بيان المحجة- مخطوط- ورقمة (164) ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 5- ردهم على أهل البدع- في كل زمان- حسب البدع التي نشأت فيه، وهذا لأنهم حريصون أتم الحرص على سلامة العقيدة من أن يشوبها شيء من كدر الهوى والابتداع، فكل ما حدثت بدعة ردوا عليها وبينوا فسادها، وهكذا في البدع التي تليها. ولا يفتعلون افتراضات وشبهات ثم يقومون بالرد عليها كما يفعل أهل البدع، وإنما يحرصون على تربية الناس على العقيدة الصحيحة من الكتاب والسنة، ويبينون للناس ذلك ويشرحونه، حتى تمتلىء قلوبهم بعظمة الله، وبعظمة الوحي من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وما يترتب على هذه التربية من الاعتزاز بهذا الدين وبمذهب أهل السنة والجماعة، وأنه طريق النجاح والفلاح. أما مجادلة أهل البدع والرد عليهم فإنما يأتي عرضا حسب خطورة البدعة والخوف من انتشارها، فيردون عليها فقط ولا يتعدى ذلك إلى افتراض بدع أخرى ثم الرد عليها، حتى توجد هذه البدعة، ولذلك فمن الواضح من منهج السلف أنه " قد يبين بعضهم في بعض الأوقات ما لا يبينه غيره لحاجته في ذلك، فمن ابتلي بمن يقول: ليس هذا كلام الله كالامام أحمد كان كلامه في ذم من يقول: هذا مخلوق، أكثر من ذمه لمن يقول: لفظي مخلوق. ومن ابتلى بمن يجعل بعض بعض صفات العباد غير مخلوق، كالبخاري صاحب الصحيح، كان كلامه في ذم من يجعل ذلك غر مخلوق أكثر. مع نص أحمد والبخاري وغيرهما على خطأ الفريقين " (1) . 6- حبهم لسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وموالاتهم لأهلها، وهذه ميزة بارزة لأهل السنة كما؟ أن ضدها من الإعراض عن السنة وعدم الاهتمام بها، والازراء أحيانا بمن يفنون أعمارهم في روايتها ونقلها وتعليمها للناس- إحدى علامات أهل البدع الكبرى. رُوي عن البخاري أنه قال: " كنا ثلالة أو أربعة على باب علي بن عبد الله فقال: إني لأرجو أن تأويل هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم" (2) ،   (1) الجواب الصحيح (3/103) . (2) سبق تخريجه (ص: 35) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 إني لأرجو أن تأويل هذا الحديث أنتم، لأن التجار قد شغلوا أنفسهم بالتجارات، وأهل الصنعة قد شغلوا أنفسهم بالصناعات، والملوك قد شغلوا أنفسهم بالمملكة، وأنتم تحبون سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) ، ويقول قتيبة بن سعيد (2) : " إذا رأيت الرجل يحب أهل الحديث مثل يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويهـ وذكر قوما آخرين- فإنه على السنة، ومن خالف هذا فاعلم أنه مبتدع " (3) ، ويقول الشيخ أبو اسماعيل الصابوني: " وإحدى علامات أهل السنة حبهم لأئمة السنة وعلمائها وأنصارها وأوليائها، وبغضهم لأئمة البدع الذين يدعون إلى النار، ويدلون أصحابهم على دار البوار، وقد زين الله سبحانه قلوب أهل السنة ونورها بحب علماء السنة فضلا منه جل جلاله " (4) . 7- قبولهم عند الناس والتمكين لهم، فهم العدول الذين تقبل أقوالهم ويحتج برواياتهم. ولو استعرضنا تاريخ الاسلام لوجدنا البارزين فيه كل عصر هم أهل السنة الذين قاموا بالحق ودعوا إليه، وجددوا ما اندرس من أمور الاسلام، وجاهدوا في الله حق جهاده بالنفس والمال والقلم واللسان. يقول إسحاق ابن موسى الخطمي (5) : ما مكن لأحد من هذه الأمة ما مكن لأصحاب الحديث لأن الله عز وجل قال في كتابه: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور: 55] فالذي ارتضاه الله قد مكن لأهله فيه، ولم يمكن لأصحاب   (1) شرف أصحاب الحديث (ص: 52) . (2) هو: قتيبة بن سعيد بن جميل بن طربف الثقفي، أبو رجاء البغلاني، ثقة ثبت، ولد سنة 149 هـ، وتوفى سنة 240 هـ. روى له الجماعة. سير أعلام النبلاء (11/13) ، والأنساب (2/257) ، والتقريب (2/123) . (3) شرف أصحاب الحديث (ص: 71-72) ، ورواهـ مع اختلاف يسير- الصابوني في عقيدة السلف (ص: 109) ، واللالكائي في شرح السنة، رقم (59) . (4) عقيدة السلف للصابوني (ص: 08 ا-109) . (5) هو: اسحاق بن موسى الخطمي، أبو موسى المدينى، ثقة متقن من رجال مسلم وبعض أصحاب السنن، توفي سنة 244 هـ، تهذيب الكمال للمزي (2/480) مطبوعة، وسير أعلام النبلاء (10/554) ، والتقريب (1/ 61) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 الأهواء في أن يقبل منهم حديث واحد عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأصحاب الحديث يقبل منهم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحديث أصحابه. ثم ان كان فيهم رجل أحدث بدعة سقط حديثه وإن كان من أصدق الناس " (1)) . وهذا على العموم، وإلا فقد روى بعض العلماء عن بعض أهل البدع بشروط دقيقة حددوها. 8- حرصهم على تنشئة الشباب على السنة، لأن الشاب إذا نشأ على قراءة القرآن ومحبة السنة ومدارستها، وما ينشأ عن ذلك من مجالسة أصحابها والتعلم منهم- أحرى أن يكون معهم وأن يكون صاحب سنة، مبغضا للبدعة وأصحابها. قال عمرو ابن قيس الملائي (2) : " إذا رأيت الشاب أول ما ينشأ مع أهل السنة والجماعة فارجه، وإذا رأيته مع أهل البدع فايئس منه فإن الشاب على أول نشوئه " (3) ، وقال عبد الله بن شوذب (4) : " إن من نعمة الله على الشاب إذا نسك أن يواخي صاحب سنة يحمله عليها " (5) ، وروى عن أيوب [السختياني] (6) أنه قال: " إن من سعادة الحدث والأعجمى أن يوفقهما الله لعالم من أهل السنة " (7) .   (1) شرف أصحاب الحديث (ص: 32) . (2) أبو عبد اللة الكوفي، ثقة متقن، عابد، مات سنة بعض وأربعين ومئة حددها بعضهم بسنة 146 هـ. تهذيب التهذيب (8/92) ، والتقريب (2/72) . (3) الإبانة لابن بطة (الصغرى) (ص: 133) رقم (92) . (4) هو: عبد الله بن شوذب الخراساني، أبو عبد الرحمن، صدوق عابد، ولد سنة 86 هـ، وتوفي سنة 144 هـ، وقيل: 156 هـ. الحلية (6/129) ، سير أعلام النبلاء (7/92) ، تهذيب الهذيب (5/ 255) ، التقريب (1/423) . (5) شرح السنة للالكائي رقم (31) ، وانظر: الإبانة (الصغرى) (ص: 133) . (6) هو: أيوب بن أبي تميمة، كيسان السختياني، أبو بكر البصرى، ثقة، ثبت، حجة، من كبار الفقهاء والعباد، توفي سنة 131 هـ. سير أعلام النبلاء (6/15) ، تهذيب المزي (3/457) ، رقم الترجمة: 07 6- مطبوعة-، وتهذيب التهذيب (1/397) (1/397) ، والتقريب (1/89) . (7) رواه اللالكائي، رقم: 30، وابن الجوزى في تلبيس (ص: 9) ، الطبعة المنيرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 9- الحرص على جماعة المسلمين ووحدتهم، فهم دائما يحضون على الوحدة وينبذون الفرقة والتفرق. وهذا واضح في منهج السلف! القائم على أن أي اتفاق بين المسلمين لا يكون إ، على أساس الرجوع إلى الكتاب والسنة، وتحكيمها، فهم أهل السنة والجماعة المجتمعون على الحق، الحريصون على حمع الناس على كلمة الحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الباب الأول: ابن تيمية والأشاعرة ويشمل الفصول التالية: الفصل الأول: حياة ابن تيمية - عصره، ونشأته وآثاره. الفصل الثاني: منهجه في تقرير عقيدة السلف وفي رده على الخصوم. الفصل الثالث: أبو الحسن الأشعري. الفصل الرابع: نشأة الأشاعرة وعقيدتهم. الفصل الحامس: تطور مذهب الأشاعرة، وأشهر رجالهم إلى عصر ابن تيمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الفصل الأول: حياة ابن تيمية ويشمل مبحثين:- المبحث الأول: عصر ابن تيمية. المبحث الثاني: ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 الفصل الأول تقدمة يعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- من العلماء البارزين الذين حظوا بتراجم عديدة، مفردة وغير مفردة. كما أن كتبه ورسائله وفتاواه وما تضمنته من اجتهادات في مسائل الفقه والأحكام، ودراسات أصولية- في الفقه والحديث والتفسير- وشروح لمذهب السلف وردود على المخالفين .... وغيرها- صارت مجالا خصبا للتأليف والدراسة والنشر والتحقيق، ولم تغفل هذه الكتب الترجمة لابن تيمية ودراسة جوانب من منهجه. لذا فإن الباحث يقف في حيرة من هذا الأمر: كيف يترجم لهذا العلم مع هذا العدد الكبير من المصادر والمراجع التى تناولت حياته بالشرح والتفصيل؟ خاصة إذا كان من المهم إبراز جوانب تتعلق بحياة المترجم لها مساس بموضوع البحث الأساسي. وقد جاء هذا الفصل المتعلق بحياة شيخ الإسلام يركز على مبحثين: الأول: عصر ابن تيمية، وأوضاعه السياسية والإدارية والعلمية والعقدية، ونظرا لتأخر عصر ابن تيمية نوعا ما فقد حرصت على أن لا يكون العرض مختصرا، بل شاملا ومركزا يعرض للخلفيات، والمواقف، خاصة مواقف العلماء ومنهم ابن تيمية، ولعل تفصيل بعض النقاط هنا يغني عن تفصيلها عند الحديث عن ترجة شيخ الإسلام. الثاني: ترجمة شيخ الإسلام، تركز على نسبه وشيوخه وجهوده العلمية والعملية، ومحنه التي مر بها، ثم تلاميذه، وآثاره مع التركيز على كتبه ورسائله التي رد فيها على الأشعرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 المبحث الأول: عصر ابن تيمية عاش شيخ الإسلام ابن تيمية في النصف الثاني من القرن السابع والنصف الأول من القرن الثامن الهجري، وبالتحديد بين عامي 661- 728 هـ، وقد كان هذا العصر امتدادا لعصور سابقة اعتورتها أحداث كبار ومتغيرات كثيرة في العالم الإسلامي، سواء في وضعه السياسى أو وضعه العقدي أو وضعه الاجتماعي وا لتشريعي. وتفصيل هذه الأمور يبعدنا عن موضوع هذه الرسالة، لذا سنقتصر على الإشارة إلى بعض القضايا التي تلقي الضوء على هذا العصر دون الدخول في متاهات الأوضاع السياسية وتقلباتها- التي فصلتها كتب التاريخ- وأهم هذه القضايا:- 1- الغزو الصليبي للعالم الإسلامي. 2 - ظهور التتار واجتياحهم للعالم الإسلامي. 3 - المماليك يخلفون الأيوبيين في حكم مصر والشام. 4 - سقوط الخلافة العباسية في بغداد، وانتقال مركز القيادة والثقل في العالم الإسلامي إلى مصر. 5 - الباطنيون والرافضة. 6 - بداية ظهور التقنين والتحاكم إلى غير الشريعة الإسلامية. 7 - الجوانب العلمية والعقائدية: أ- أهل الذمة. ب - التصوف والشركيات. جـ - المذهب الأشعري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 أولا: الصليبيون : [490 - 690 هـ] . الحرب بين المسلمين والنصارى لم تهدأ في يوم من الأيام منذ انتشار الاسلام فالدولة البيزنطية في شمال الشام كانت موجودة وبينها وبين المسلمين حروب ومناوشات كثيرة، وكذلك النصارى في الأندلس كانت بينهم وبين المسلمين حروب مستمرة. ولكن ما اصطلح عليه اسم " الحروب الصليبية " كانت خاصة بتلك الهجمات والحملات من جانب نصارى أوربا على قلب العالم الإسلامى في بلاد الشام، وما حققوه في البداية من انتصارات ثم تلك المقاومة الرائعة من جانب قادة عظام من قواد المسلمين برزوا في ذلك الوقت ليقارعوا الصليبين حتى أجلوهم وطردوهم من بلاد الإسلام. ولم يكن باستطاعة النصارى أن يفعلوا ما فعلوا لولا الواقع المؤسف الذي كان يعيشه العالم الإسلامي: فالدولة العباسية كانت مقسمة وسلطات الحلفاء كانت شكلية، والدويلات المتفرقة تتقاسم أجزاء مختلفة من العالم الإسلامي: فالسلاجقة (1) في بغداد، والفاطميون في المغرب ومصر، والشام والجزيرة في كل مدينة إمارة. ولم يقتصر الأمر على هذا التفرق فقط وإنما كان الصراع محتدما بين هؤلاء، فالفتن والحروب فيما بينهم مشتعلة، والتفرق والتباين المذهبي كان يجعل مسألة الوحدة مسألة شبه مستحيلة. أما في الأندلس فيكفي أنها كانت تعيش عهد دول الطوائف (2) . ومع هذا التفرق والانقسام فقد وقعت معركتان فاصلتان بين المسلمين والنصارى إحداهما في المشرق والأخرى في المغرب، انتصر فيها المسلمون انتصارا عظيما:   (1) كان السلاجقة سنة، وقد احتلوا بغداد سنة 447 هـ وقضوا على بني بويه الشيعة. انظر تاريخ دولة آل سلجوق للأصفهاني (ص: 12) . (2) قدمت عدة دراسات حول هذه الحقبة من تاريخ العالم الإسلامي: ففي أحوال بلاد الشام وما حولها. انظر: بلاد الشام قبل الغزو الصليبي علي محمد الغامدى، والمجتمع الاسلامي في بلاد الشام في عصر الحروب الصليبية أحمد رمضان محمد، والصراع السياسي والعسكري بين القوى الاسلامية زمن الحروب الصليبية، حامد زيان- ومدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية، سهيل زكار. أما الأندلس = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 أولاهما: معركة ملازكرد (1) في عام 463 هـ انتصر فيها ألب أرسلان السلجوقي على إمبراطور الروم مما أدى إلى انهزام الروم في الأناضول واستيلاء السلاجقة على غالب تلك المنطقة، حتى أصبحت مدينة القسطنطينية مهددة من جانب السلاجقة (2) . والأخرى: معركة الزلاقة (3) التي كانت بين يوسف بن تاشفين زعيم المرابطين وبين النصارى. وكانت عام 479 هـ. وقد كان من نتائج هذه المعركة تأخر إجلاء المسلمين عن الأندلس عدة قرون (4) . ولكن مع هذا فإن الضعف والتفرق المحيط بالمسلمين كان قد وصل إلى حالة مؤسفة، بحيث لم تكن مثل تلك المعارك الفاصلة التي انتصر فيها المسلمون بداية لتحركهم وزيادة فتوحاتهم واسترداد ما احتله أعداؤهم من بلادهم أو على الأقل إيقاف الخصوم عند حدودهم. لكن الذى حدث هو العكس تماما فبعد سنوات محدودة تجمعت أوربا الصليبية وسارت بحملات رهيبة إلى داخل العالم الإسلامي ليكونوا فيه دويلات لهم ويحتلوا القدس الشريف، وقد بدأت هذه الحملات عام 490 هـ. والذى يلفت الانتباهـ في مسألة نشوء هذه الحملات- ما يذكره ابن الأثير في الكامل من رواية تقول: " إن أصحاب مصر من العلويين لما رأوا قوة   (1) = والمغرب فانظر البيان المغرب (3/153) وما بعدها، والدراسة الشاملة لمحمد عبد اللة عنان في سلسلة دولة الاسلام في الأندلس جزء دول الطوائف. (1) تسمى "منازجرد" وهي هكذا في معجم البلدان، وقد تبدل الجيم كافا، بلد مشهور بين خلاط وبلاد الروم، يعد في أرمينية، انظر معجم البلدان (5/202) ، ومختصره مراصد الاطلاع (3/1314) . (2) انظر: تاريخ دولة آل سلجوق للأصفهاني (ص 40-44) ، والكامل (10/65-67) ، والبداية والنهاية (12/ 100- 101) . (3) بطحاء الزلاقة من اقليم بطليوس من غرب الأندلس- الروض المعطار (ص: 287) . (4) انظر: الروض المعطار (ص: 287-292) ، الذى علق في نهايتها قائلا: " خالفت بشرح هذه الوقيعة شرط الاختصار لحلاوة الظفر في وقت نزول الهمم ووقوعها في الزمن الخامل" وانظر الكامل (0 1/ 1 5 1) ونفح الطيب (1 / 439، 4 / 354 - 371) ، وروض القرطاس (ص: 45 ا - ا 5 1) ، والعجب (ص: 5 9 1) ، والحلل الموشيه (ص: 38- 66) ، ودول الطوائف لعنان (ص: 0 32- 332) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الدولة السلجوقية وتمكنها واستيلائها على بلاد الشام إلى غزة، ولم يبق بينهم وبين مصر ولاية أخرى تمنعهم، ودخول أقسيس إلى مصر وحصرها، خافوا وأرسلوا إلى الفرنج يدعونهم إلى الخروج إلى الشام! لكوه، ويكونوا بينهم وبين المسلمين، واللة أعلم" (1) . وقد ذكر قبل ذلك عزم النصارى على الخروج وكيف عدلوا عن عزمهم من السير إلى افريقية إلى الشام لكون الشام فيه بيت المقدس، وفتحها فخر للنصارى، ولوجود عهود مع أهل إفريقية (2) . ولا يعني هذا أن العبيديين لم يقاتلوا الصليبيين، بل قاتلوهم ولكن ذلك إنما يكون حين يهاجمهم الصليبيون الذين كانت لهم أطماع في الشام- وفيها ما هو تحت سيطرة العبيديين، كما كانت لهم أطماع في مصر أيضا (3) . وهكذا غزا الصليبيون بلاد الإسلام واحتلوا بيت المقدس، هدفهم الكبير وذبحوا المسلمين بشكل رهيب (4) وفجع العالم الإسلامي بذلك،   (1) الكامل (10/ 273) ، وانظر تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص: 679) ، وهذه القضية بحاجة إلى إبراز، لأن تعاون الدولة العبيدية الباطنية وتعاون الحركات الباطنية بعد ذلك مع النصارى أمر مشهور. ومما يجدر ملاحظته أن معركة ملازكرد التي أشرنا إليها قبل قليل كان من أهم آثارها وقف تعاون قوي بدت معالمه بين العبيديين والبيزنطين ضد السلاجقة السنيين. أما تعاون الدولة العبيدية مع النصارى- زمن الحروب الصليبية- فأحداث تاريخ تلك الحقبة تحمل حقائق مذهلة، حتى أن صاحب النجوم الزاهرة (ج- 5 ص 147) - يأسى لتقاعس صاحب مصر عن مناصرة السلاجقة في مواجهتهم للصليبيين. ولما انشغل السلاجقة في حرب الصليبيين شمال الشام انقض الباطنيون من مصر على بيت المقدس واحتلوه وقد أرسل الأفضل الوزير الفاطمي إلى الصليبيين وهم يحاصرون انطاكية سفارة عرضت التعاون معهم للقضاء على السلاجقة واقتسام الشام بينهم. وما هذه إلا أمثلة، وانظر الحركة الصليبية- عاشور (1/191،227) ، وكتاب " الفاطميون والصليبيون (ص: 53) وما بعدها، والحروب الصليبية: سميل (ص: 81) . (2) الكامل (0 1/ 272-273) . (3) انظر الحركة الصليبية (1/231) ، ومما يلاحظ أن الصليبيين عقدوا في الرملة سنة 492 هـ قبل زحفهم إلى بيت المقدس- اجتماعا ومجلسا للحرب ناقشوا فيه عدة مسائل منها الرأي القائل بأنه لابد من البدء بمهاجمة مصر، لأن استقرارهم في بيت المقدس لن ينعموا به إلا إذا أخضعوا القاهرة لهم. المصدر السابق (1/233) . (4) قتل الصليبيون كل مسلم وجدوه في أى مكان حتى أنهم قتلوا من احتمى بالمسجد الأقصى، فقتلوا فيه أكثر من سبعين ألفا، وهذا العدد لم يذكره مؤرخو الإسلام فقط وإنما ذكره مؤرخو النصارى ومنهم - ابن العبري- في كتابه مختصر الد ول (ص: 197) - حيث قال: " ولبث الافرنج في البلد أسبوعا يقتلون = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 حتى أن المستنفرين من بلاد الشام توجهوا في رمضان إلى بغداد عاصمة الخلافة "فأوردوا في الديوان كلاما أبكى العيون وأوجع القلوب، وقاموا بالجامع يوم الجمعة، فاستغاثوا، وبكوا، وأبكوا، وذكر ما دهم المسلمين بذلك البلد الشريف المعظم من قتل الرجال، وسبي الحريم والأولاد، ونهب الأموال، فلشدة ما أصابهم أفطروا " (1) ، وقد ندب الخليفة الفقهاء إلى الخروج إلى البلاد ليحرضوا الملوك على جهادهم، ولكن ذلك لم يفد شيئا (2) . وقد عبر أحد الشعراء عن أحوال المسلمين وتقاعسهم عن جهاد النصارى حين احتلوا بيت المقدس في ذلك الوقت فقال من قصيدة: وكيف تنام العين ملء جفونها ... على هفوات أيقظت كل نائم وإخوانكم بالشام يضحى مقيلهم ... ظهور المذاكى أو بطون القشاعم تسومهم الروم الهوان وأنتم ... تجرون ذيل الخفض فعل المسالم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أرى أمتي لا يشرعون إلى العدا ... رماحهم، والدين واهى الدعائم (3) ولما احتل النصارى. بيت المقدس أغاروا على ما حوله من المدن الساحلية وغيرها وتكونت لديهم عدة إمارات. أما المسلمون فقد قابلوا هذه الحملات بحركة جهاد عظيمة قادها أبطال عظام، كان لهم في إحياء روح الجهاد بين المسلمين، وتوحيد كلمتهم وبعث الغيرة على دين الله ومحارمهـ ما صار فيما بعد- غرة في جبين تاريخ المسلمين، فقاوم السلاجقة أولا ثم بدأ الجهاد آل زنكى   = فيه المسلمين، وقتل بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفا" وانظر مصادر أخرى افرنجية في الحركة الصليبية (1/237-238) والعجيب أن افتخار الدولة- حاكم بيت المقدس العبيدى عند احتلال النصارى لهـ خرج هو وجنده وحدهم سالمين- لم يصابوا بأذى- بعد أن أعطاهم الفرنج الأمان! الحركة الصليبية (1/236-237) . (1) الكامل (10/284) . (2) انظر: المصدر السابق، والبداية والنهاية (12/156) . (3) الشاعر هو: أبو المظفر الأبيوردى، والقصيدة في ديوانه (2/156) وذكرها ابن الأثير وابن كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وعلى رأسهم عماد الدين زنكي، وابنه نور الدين محمود، ثم جاء صلاح الدين الأيوبي وأولاده (1) ليوجهوا إلى الافرنج ضربات موجعة ويسترجعوا بيت المقدس بعد أن بقى في يد النصارى قرابة تسعين عاما. والذي يعنينا هنا- ونحن نعرض لعصر ابن تيمية ما يلي:- أ- واصل المماليك- الذين حكموا الشام ومصر بعد الأيوبيين- جهادهم ضد النصارى، فالظاهر بيبرس وجه إليهم حملات متتابعة، واستطاع أن يسترجع كثيرا من المدن التي احتلوها، ومنها أنطاكية - تلك المدينة المهمة بالنسبة للأفرنج وكان ذلك سنة 666 هـ (2) . ثم بعد ذلك جاء المنصور قلاوون - الذي عقد سنة 680 هـ مع النصارى صلحا ليقطع تحالفهم مع المغول الذين كانت قوتهم وخطرهم شديدا (3) -، ولكنه لم يمض على هذا الصلح أربع سنوات حتى نقض النصارى الصلح باعتدائهم على قافلة من تجار المسلمين، وهنا هاجم المنصور قلاوون الصليبيين فاستولى سنة 684 هـ على حصن المرقب الذي كان " في غاية العلو والحصانة، ولم يطمع أحد من الملوك الماضين في فتحه " (4) ثم استولى على مدينة طرابلس سنة 688 هـ (5) . وأخيرا جاء عهد ابنه الأشرف خليل الذي تولى تصفية الوجود الصليبى في بلاد الشام، والذى استهل عهده بفتح عكا سنة 690 هـ والتي شارك في فتحها كثير من العلماء   (1) انظر في الجهود العظيمة التي قام بها هؤلاء في كتب التاريخ وبالأخص: التاريخ الباهر لابن الأثير، والكواكب الدرية في السيرة النورية، لابن قاضي شهبة، والروضتين لأبي شامة، والنوادر السلطانية (سيرة صلاح الدين) لابن شداد. (2) الروض الزاهر (ص: 307) ، والمخصر لأبي الفداء (4/4) ، والسلوك للمقريزى (1/567) ، والبداية والنهاية (13/ 251) ، وانظر الظاهر بيبرس- عاشور- (ص: 59-74) . (3) انظر: السلوك (1/685) ، وتاريخ ابن الفرات- حوادث سنة 680 هـ، عن مقدمة تحقيق كتاب تشريف الأيام والعصور في سيرة الملك المنصور (ص: 82) ، وانظر دولة بني قلاوون في مصر (ص: 232) ، وانظر مصر والشام في عصر الأيوبيين والمماليك عاشور (ص: 96 1) . (4) المختصر لأبي الفداء (4/ 1 2) ، وانظر تشريف الأيام (ص: 77-86) ، والنجوم الزاهرة (7/314) . (5) انظر: السلوك (1/747) ، والبداية والنهاية (13/313) ، والنجوم الزاهرة (7/ 320) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 والفقهاء (1) ومنهم شيخ الاسلام ابن تيمية-رحمه الله- تعالى (2) - أما بقية معاقل الصليبيين فقد سقطت في أيدي المسلمين دون مقاومة. وبذلك أسدل الستار على قرنين من الزمان عاشتها بلاد الشام في ظل هذه الحروب والمعارك المتلاحقة فعادت بلاد الشام إلى حكم المسلمين. 2- بقيت قبرص في يد النصارى، وقد كان حكامها من أشد أعوان الصليبيين حيث كانوا يمدونهم بالمؤن والسلاح والرجال. وقد لجأ إليها من فر من النصارى من بلاد الشام- وقد بقيت في أيديهم إلى ما بعد عهد ابن تيمية، ولذلك رأينا شيخ الإسلام يرسل رسالة إلى ملكها يأمره بالرفق في أسارى المسلمين (3) . 3- لم تنته الحرب الصليبية بطردهم من بلاد الشام، وإنما انتقلت إلى تطور آخر أكثر خطورة، فقد " كان من الصعب أن يتخلى الغرب الأوربي عن الفكرة الصليبية تخليا تاما مفاجئا، فظلت تلك الفكرة تراود عقول بعض المتحمسين والمتدينين الذين دعوا لاستئناف الحرب ضد المسلمين، وعبروا عن حماستهم وآرائهم بمجموعة من المشاريع الصليبية ذات الأهمية البالغة منذ نهاية القرن الثالث عشر [السابع الهجري] وهنا نلاحظ في ذلك الدور الجديد من أدوار الحركة الصليبية أن الدعاة لم يكونوا خطباء من طراز بطرس الناسك، ولم يعتمدوا على البيان في تحريك عواطف الناس واستثارة شعورهم الدينى، وإنما صاروا كتابا يكتبون الرسائل والكتب ويرفعونها إلى البابوات والملوك والأمراء، شارحين فيها مشاريعهم الصليبية" (4) . وقد قاموا بهجمات على شمال إفريقية كان هدفها التبشير بالديانة النصراينة. فهل كانت تلك مقدمات لما شهده العالم الإسلامي في العصر الحاضر من هجوم صليبي   (1) انظر البداية والنهاية (13/ 0 32) ، وتذكرة النبيه (1/317) ، والسلوك (1/763، 03 0 1) ، والمختصر لأبي الفداء (4/24-25) ، وتاريخ بيروت (ص: 23) . (2) الأعلام العلية (ص: 68) ، والكواكب الدرية (ص: 92) . (3) انظر عن قبرص بعد جلاء الصليبيين من الشام: الحركة الصليبية (2/1162) وما بعدها. وقد استطاع المماليك استعادة قبرص وأسر ملكها- بعد سنين طويلة- سنة 829 هـ في عهد الملك الأشرف برساي، انظر المنهل الصافي (3/263) ، وبدائع الزهور (2/106-07 1) . (4) الحركة الصليبية (2/134) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 إستعماري كان هدفه الأول الغزو الثقافي والفكري للمسلمين؟ ثم إن من يطلع على ما كتبه علماء الإسلام في الرد على النصارى، ربيان تحريفهم وكذبهم- وفي مقدمتهم شيخ الاسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم- يدرك أن تأثير النصارى على المسلمين سواء كان ذلك إبان الحملات الصليبية أو فيما بعد؛ كان محل خطر يشعر به ذوو الغيرة على هذا الدين (1) . ثانيا: ظهور التتار (2) . اذا كان العالم الاسلامي قد مني بتلك الحملات الصليبية- على بلاد الشام - في أواخر القرن الخامس الهجري [490 هـ] ، فإن هذه الحروب لم تكد تنتهي حتى فجع العالم الإسلامي بمصيبة أخرى أشد وأفظع وأعظم خطرا. فقد اكتسح التتار (المغول) العالم الإسلامى من الشرق، وساروا في بلاد الاسلام يقتلون ويأسرون ويحرقون ويدمرون بطريقة همجية لم يشهد لها التاريخ مثيلا. وقد عبر عن ذلك المؤرخون المسلمون، وكان أصدقهم تعبيرا ابن الأثير- صاحب التاريخ- الذي عاصر بداية هجومهم ولم يعاصر سقوط بغداد [فقد توفي سنة 630 هـ] فقد قال- عن خروج التتر- في حوادث سنة 617 هـ: " لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها، كارها لذكرها،   (1) من الكتب في ذلك قبل ابن تيمية: الفصل لابن حزم ت 456 هـ- الفصل المتعلق بالنصارى- وكتاب الرد الجميل للغزالى ت 505 هـ- وكتاب مقامع الصلبان لابن أبي عبيدة- أحمد بن عبد الصمد الخزرجي ت 582 هـ (ط في تونس، وطبع في مصر- مكتبة وهبة- بعنوان: بين الإسلام والمسيحية) أما المعاصرون لابن تيمية فمنها الأعلام للقرطبي (إن كان المفسر فقد توفي سنة 671 هـ) ، وكتاب الأجوبة الفاخرة للقرافي ت 674 هـ، ومنظومة الأبوصيري في الرد على النصارى مع شرحها- للأبوصيري- ت 696 هـ ومنها كتاب على التوراة للباجي ت 714 هـ- وضمنه الرد على النصارى. أما الكتب التي ألفت بعد ابن تيمية فكثيرة. (2) ويسمونا "المغول" أو " المغل" وهم قبائل من الجنس الأصفر، كانوا يسكنون منغوليا جنوب شرق سيبيريا على حدود الصين، وقد اختلطوا بالقبائل التركية حتى أن البعض صار يجعلهم من قبائل الترك. ويقول مؤرخ المغول رشيد الدين فضل الله الهمذاني (وزير قازان) "ومع أن الأتراك والمغول وشعبهم يتشابهون، وأطلق عليهم في الأصل لقب واحد، فإن المغول صنف من الأتراك، وبينهم تفاوت واختلاف شاسع" جامع التواريخ المجلد الثاني. الجزء الأول (ص: 2 1 2) ، وانظر الكامل (2 1/ 361) ، ودائرة المعارف الإسلامية (4/576) ، ودائرة معارف وجدى (2/538) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 فأنا أقدم إليه رجلا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيا منسيا " (1) . أما السيوطي فقد نقل قائلا: " هو حديث يأكل الأحاديث وخبر يطوي الأخبار، وتاريخ ينسى التواريخ، ونازلة تصغر كل نازلة، وفادحة تطبق الأرض وتملؤها ما بين الطول والعرض " (2) . وقد كان هؤلاء التتار قبائل متفرقة لا تستقر في مكان محدد، بل كانت ظروف البلاد التي يعيشون فيها [ما بين الأراضي الصينية الحارة والباردة في سيبيريا] ، تجعلهم يتنقلون كما يتنقل الرعاة. وفي أواخر القرن السادس الهجري برز فيهم أحد شبابهم الذي استطاع أن يجذب إليه ثقة كبار رجال المغول من عشيرته، ثم القبائل من حوله، فوحد بينها وتوج عليهم ملكا، وكان اسمه " تموجين" فتسمى بعد اختياره امبراطوراً ب- (جنكيزخان) وكان ذلك سنة 602 هـ. وبدأ يرسم لنفسه سياسة التوسع، فاتجه إلى الجنوب لإخضاع الصين، وإلى الغرب لاخضاع دولة الخطا (3) ، وكذا ما حول ذلك من البلاد حتى أصبحت دولة المغول متاخمة للدولة الخوارزمية في إيران (4) . وحتى- نتجنب التوسع الذي ربما تفرضه أحداث هذه الفترة- نوضح الكلام حول المغول بما يلي:- أ- بلغت الدولة الخوارزمية (5) التي قامت وتوسعت بعد السلاجقة- أوج اتساعها في عهدعلاء الدين خوارزم شاه وابنه جلال الدين منكبرتي، وقدكان لهؤلاء   (1) الكامل (12/358) . (2) تاريخ الخلفاء (ص: 741) . (3) الخطا بكسر الخاء وفتح الطاء مجموعة من القبائل المغولية وغيرها كونوا لهم دولة في تركستان سنة: 519 هـ قضى عليهم جنكيزخان سنة: 615 هـ وكانت دولة وثنية. انظر صبح الأعشى (4/483) ، وكتاب الدولة الخوارزمية والمغول (ص: 46) وما بعدها. (4) انظر: تاريخ الخميس (2/367-368) ، الكامل (2 1/ 1 36) وما بعدها، سيرة السلطان جلال الدين للنسوى (ص: 38) وما بعدها، والدولة الخوارزمية والمغول (ص: 108-114) . (5) تنسب الدولة الخوارزمية إلى نوشتكين أحد الأتراك في بلاط ملكشاه السلجوقي، ثم اشتهر ولده محمد الذي عين حاكم على خوارزم ولقب خوارزم شاة، وبدأت هذه الدولة في التوسع، وصار صراع بينها وبين السلاجقة الذين تفرقوا وانهارت دولتهم بمقتل طغرلبك بعد معركة قرب الري سنة 590 هـ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 دور عظيم في مقاومة المغول، وإلحاق الهزائم بهم أحيانا، مما كان سببا في تأخير هجوم المغول على بغداد، ثم بلاد الشام. وهؤلاء وإن كان مؤرخو الإسلام ينتقدون ما كانوا يقومون به من القتل والسبى إلا أنهم يذكرون لهم ما قاموا به وبذلوه في حرب التتار (1) . حتى إنه لما قتل السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه سنة 628 هـ دخل جماعة على الملك الأشرف موسى- صاحب دمشق (2) فهنأوه بموتهـ لما كان بينهما من العداوة- فقال الأشرف: تهنئوني بموته وتفرحون، سوف ترون غبه، واللة لتكونن هذه الكسرة سببا لدخول التتار إلى بلاد الإسلام. ما كان الخوارزمي إلا مثل السد الذي بيننا وبين يأجوج ومأجوج " (3) . وكان كما قال، فإنه لما قضى على الدولة الخوارزمية تهيأ التتار لاجتياح بغداد. ب- قضى التتار- بقيادة هولاكو الذي عهد إليه أخوه قيادة الحملة إلى إيران- على الاسماعيلية المتمركزين في حصونهم في إيران وكان ذلك سنة 654 هـ، وقد كان هؤلاء الباطنيون يراسلون المغول ويحضونهم على القضاء على الخوارزميين ويدلونهم على عوراتهم. ولكن المغول يعرفون حقيقة هذه الطائفة وفسادها وأساليبها في حرب أعدائها، فلم يعبأوا بتلك العلاقات، بل سارعوا إلى القضاء عليهم حتى لا يكونوا شوكة في ظهورهم وهم سائرون إلى بغداد (4) . ومما تجدر ملاحظته أن نصير الدين الطوسى كان مقيما عند الاسماعيلية لما هاجمهم هولاكو، لكنه خرج سالما لممالأته له بل أدخله في خدمته واستوزره   = فسيطروا على العراق العجمى، وتقلدوا الحكم رسميا من الخليفة العباسي. انظر الكامل (12/106) ، والعبر لابن خلدون (5/94) ، وزبدة التواريخ للحسيني (ص: 311-314) ، وانظر: الدولة الخوارزمية والمغول (ص: 17-33) . (1) انظر: سير أعلام النبلاء (22/328) ، والعبر (3/198، 202-203) . (2) ترجمته في سير أعلام النبلاء (22/122) . (3) النجوم الزاهرة (6/277) . (4) دول الاسلام للذهبي (2/158) ، وسير أعلام النبلاء (23/ 180) ، وجامع التواريخ، المجلد الثاني، الجزء الأول (ص: 250-257) ، وانظر كتاب " مؤرخ المغول الكبير: رشيد الدين الهمذاني، تأليف: فؤاد الصياد (ص: 28- 31) ، وانظر الحركة الصليبية (12/062 1) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 لما علم هولاكو اخلاصه ونصحه (1) . ب- لما قضى التتار على الدولة الخوارزمية، وعلى الإسماعيلية اتجهوا إلى بغداد. وقد وقعت في سنة 655 هـ فتنة مهولة ببغداد بين أهل السنة والرافضة وقتل عدد من الفريقين، ونهب الكرخ- موطن الرافضة وذوي ابن العلقمى- فحنق ابن العلقمي (2) وزير المستعصم وكاتب التتار وأطمعهم في العراق، وعمل على تهيئة الأجواء فسرح جند الخلافة فلم يبق منهم إلا القليل، وحجب عن الخليفة الرسائل التي ترد إليه من صاحب الموصل وغيره، وبذلك تهيأت الأجواء لهؤلاء التتار، فجاءوا وأحاطوا ببغداد سنة 656 هـ فخرج إليهم ابن العلقمى واستوثق لنفسه من هولاكو، فرجع هو ونصير الدين الطوسى- وهما رؤوس الرافضة الخبثاء- إلى بغداد ليكملوا بقية دورهم في تخذيل الناس والخليفة بأساليب خادعة- حتى لا يبقى في وجه التتار مقاومة تذكر، يقول صاحب ذيل مرآة الزمان: " وقصد هولاكو بغداد من جهة البر الشرقي عن دجلة وهو البر الذي فيه مدينة بغداد ودور الخلافة، وضرب سورا على عسكره، وأحاط ببغداد، فحينئذ أشار ابن العلقمي الوزير على الخليفة بمصانعة ملك التتر ومصالحته، وسأله أن يخرج إليه في تقرير ذلك، فخرج وتوثق منه لنفسه ثم رجع إلى الخليفة وقال له: إنه قد رغب أن يزوج ابنته من ابنك الأمير أبي بكر، ويبقيك في منصب الخلافة كما أبقى سلطان الروم في سلطنة الروم، لا يؤثر إلا أن يكون الطاعة له، كما كان أجدادك [مع] السلاطين السلجوقية، وينصرف بعساكره عنك فتجيبه إلى هذا فإن فيه حقن دماء المسلمين، ويمكن بعد ذلك أن تفعل ما تريد، وحسن له الخروج إليه   (1) جامع التواريخ (م 2 ج 1ص: 257) ، وانظر حول علاقته ووزارته لهولاكو الوافي (1/179) ، وفوات الوفيات (3/246) ، والبداية والنهاية (13/ 1 20) ، وذيل مرآة الزمان (1/85-86) ، وانظر مجمرع الفتاوى لابن تيمية (35/142) . (2) هو: محمد بن محمد بن علي العلقمي، كان وزيرا للمستعصم، وكان رافضيا خبيثا، وكان من نيته لما اتصل بالتتار أن يقيم دولة رافضية في بغداد، فلم يتحقق له ما أراد، بل لقى أشد الاهانة من التتار فهلك غما وهما وكمدا في نفس هذا العام 656 هـ. انظر الوافي (1/184) ، وشذرات الذهب (5/272) ، والبداية والنهاية (13/ 212) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 فخرج في جمع من أكابر أصحابه فأنزل في خيمة، ثم دخل الوزير فاستدعى الفقهاء والأماثل ليحضروا عقد النكاح فيما أظهره، فخرجوا فقتلوا وكذلك صار يخرج طائفة بعد طائفة " (1) وقتل المستعصم قيل: إنه رفس حتى مات، "وبقى السيف في بغداد بضعة وثلاثين يوما، فأقل ماقيل: قتل فيها ثمانمائة ألف نفس، واكثر ما قيل بلغوا ألف ألف وثمانمائة ألف، وجرت السيول من الدماء فإنا لله وإنا إليه راجعون" (2) ولم ينج من بطشهم في بغداد إلا الرافضة وأهل الذمة (3) ، كا لم ينج من بطش النصارى لما فتحوا بيت المقدس إلا أتباع الدولة الفاطمية وولاتها على بيت المقدس. وهكذا فضي على الخلافة العباسية، وأصبح العالم الإسلامي بلا خلافة - وكان للأساليب الوحشية التي قام بها التتار في قتل المسلمين آثار نفسية شديدة على بقية المسلمين بحيث أصبح ذكر التتار يثير الرعب في النفوس، وغلب على الناس مقولة: إن التتار لا يغلبون. وسارع الأمراء في الشام كصاحب الموصل وصاحب حلب وكذا سلاطين سلاجقة الروم- إلى إعلان الولاء لهولاكو وتهنئته بفوزه على الخليفة في بغداد (4) . د- اتجه المغول بعد ذلك إلى الشام لاحتلاله، وكان يقتسمه النصارى من الفرنج، والأرمن، والأمراء الأيوبيون. وكان أول عمل عمله التتار عقد التحالف مع النصارى في أرمينية وأنطاكيا ضد الأمراء الأيوبيين وضد المماليك فيما بعد (5) . ثم ساروا إلى الشام والجزيرة فاحتلوا ميافارقين ثم ماردين (6) ،   (1) ذيل مرآة الزمان لليونيني (1/88-89) . (2) سير أعلام النبلاء (23/181) . (3) انظر: البداية والنهاية (13/2 0 1) ، والحركة الصليبية (2/067 1) . (4) انظر: في سقوط بغداد- وأحداثها المروعة- غير ما سبق: العبر للذهبي (3/277) ، ودول الإسلام (2/159) وشذرات الذهب (5/ 270) ، والنجوم الزاهرة (7/47) وما بعدها، والسلوك (ج 1 ق 2 ص:409) . (5) كان لهولاكو زوجة مسيحية، وكان لها دور في الصلات بين التتار والنصارى، وقد اشترك عدد كبير من الأرمن والنساطرة في جيش هولاكو لما هاجم بغداد ولم يكونوا أقل قسوة ووحشية من التتار أنفسهم. انظر الحركة الصليبية (2/1060،1067،1075) وما بعدها. (6) انظر: الامارات الأرتقية في الجزيرة والشام- عماد الدين خليل (ص: 327-332) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 كمااحتلوا نصيبين وحران والرها، وفي سنة 658هـ هاجموا حلب وقتلوا فيهاخلقا كثيراحتى امتلأت الطرقات بالقتلى وأسروا النساء ونهبوا الأموال. وأحرق النصارى الجامع الكبير فيها (1) ثم في نفس هذه السنة أخذ التتار دمشق، وصار لحلفائهم النصارى صولة وجولة، وتقدموا بالهدايا لهولاكو وعملوا أعمالا منكرة، من ذلك أنهم حملوا الصليب فوق الرؤوس وهم ينادون بشعارهم: ظهر الدين الصحيح دين المسيح ويذمون دين الإسلام وأهله، بل ألزموا المسلمين بالقيام في دكاكينهم للصليب وأهين القضاة والفقهاء لما جاءوا يشكون إلى متسلمها النصراني (2) . ثم رجع هولاكو إلى الشرق لما علم بوفاة أخيه وكان ذلك سنة 658 هـ بعد أن أقام له نائبا معه جيش قوامه عشرة آلاف من التتار وكان ذلك بضغط من النصارى الذين كانوا يأملون في استرداد بيت المقدس من المسلمين (3) . وقد واصل التتار زحفهم إلى بقية بلاد الشام فاحتلوا الخليل وغزة وبذلك أصبحوا على مشارف مصر. هـ- في هذه الأجواء التى عاشها العالم الإسلامي انقرضت دولة الأيوبيين ونشأت دولة المماليك، وكان السلطان وقت سقوط بغداد: المنصور نور الدين على بن المعز أيبك، وكان صبيا صغيرا، فلما ظهر الخطر المغولي خاصة بعد احتلالهم الشام رأى المماليك أن السلطان صبى لا يستطيع تدبير المملكة، ومن ثم أعلن السلطان قطز (4) سلطانا سنة 657 هـ، وقد أرسل هولاكو - قبل رجوعهـ رسالة إلى الملك المظفر ملؤها التهديد والوعيد والغطرسة وفيها يطلب منه   (1) انظر: البداية والنهاية (13/218) ، والنجوم الزاهرة (7/74-76) ، والسلوك (ج 1 ق 2 ص: 422) ، وذيل مراة الزمان (1/349) . (2) انظر: البداية والنهاية (9/13 21) ، والنجوم الزاهرة (7/76) ، والسلوك (ج 1ق 2ص: 423- 425) . (3) السلوك (ج 1 ق 2 ص: 427) ، مؤرخ المغول (ص: 51) . (4) هو: الملك المظفر سيف الدين قطز بن عبد الله المعزى، يقال: أنه بن أخت خوارزم شاه، جلال الدين- آخر ملوك الدولة الخوارزمية الذين قاوموا التتار في المشرق- قتل الملك المظفر بعد وقعة عين جالوت في 16 ذو القعدة سنة: 658 هـ. ذيل الروضتين (ص: 210) ، وسير أعلام النبلاء (23/ 200) ، والدليل الشافي (2/544) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الخضوع لسلطة المغول الذين لا تقف أمام قوتهم وسيوفهم أية قوة- كما يزعم-. وقد عقد السلطان مجلسا استشار فيه الأمراء، وبعد مداولات قرروا أنه لا مفر من الجهاد في سبيل الله ومقاومة التتار، وكان للملك المظفر دور في الخروج بهذه النتيجة، وأعلن الجهاد في سبيل الله في القاهرة وبقية أقاليم مصر، وأخذ يجمع المال اللازم للجهاد (1) . ولما تكامل العسكر طلب من الأمراء الرحيل فتلكأوا. ولكن الملك المظفر قال لهم: " وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين " (2) . وسار السلطان وقال: أنا ألقى التتار بنفسي فلما رأى الأمراء مسير السلطان ساروا معه وسار الجيش إلى غزة ثم تقدم عن طريق الساحل فمر على عكا- وقد أوقع الله الخلف بين المغول والنصارى (3) - فلم يتعرض النصارى للمسلمين بل استقبلوهم وفرحوا بمقدمهم- وتجمعت الجيوش في عين جالوت (4) ، وجرت تلك المعركة المشهورة، التى انتصر فيها المسلمون على التتار انتصارا ساحقا، وهزم التتار شر هزيمة، وقتل قائدهم، وطاردهم المسلمون يقتلونهم في كل مكان إلى أن وصلوا خلفهم إلى حلب، وفر منهم من كان بدمشق فتبعهم المسلمون يطاردون فلولهم، ودقت بشائر النصر في قلعة دمشق وغيرها وفرح المسلمون فرحا شديدا وكبت الله اليهود والنصارى ومن مالأ التتار من المنافقين. ودخل الملك المظفر قطز دمشق في موكب عظيم ثم أخضع بقية الشام الذي كان بأيدي الأيوبيين، فصفا الشام لحكم المماليك.   (1) كان للعز بن عبد السلام موقف عظيم، إذ أنه عارض أن يجبى شىء من المال من عامة الناس إلا بعد أن يحضر السلطان والأمراء ما عندهم وما عند حريمهم من المال والحلى، وإذا لم تكف جاز أن يقترض من أموال التجار وأن يفرض ضرائب على الرعية. النجوم الزاهرة (7/72) ، وطبقات السبكى (8/215) ، وكتاب العز بن عبد السلام: رضوان الندوى (ص: 49 ا- 151) . (2) السلوك (ج1 ق 2 ص: 429) . (3) انظر: أسباب ذلك وظروفه في كتاب الحركة الصليبية (2/1075) وما بعدها. (4) بلدة من أعمال فلسطين تقع في الشمال الغربي من بيسان، فهى بينها وبين نابلس، معحم البلدان (4/177) ، الموسوعة الفلسطنية (3/368) .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 كان لهذه المعركة أثر عظيم في نفوس المسلمين في كل مكان، وقد عبر عن مدى الفرح والتأثر بنتائجها مؤرخو الإسلام الذين ذكروا هذه المعركة حتى قال صاحب المختصر: " وتضاعف! شكر المسلمين لله تعالى على هذا النصر العظيم فإن القلوب كانت قد يئست من النصرة على التتر لاستيلائهم على معظم بلاد الاسلام ولأنهم ما قصدوا إقليما إلا فتحوه ولا عسكرا إلا هزموه فابتهجت الرعايا بالنصرة عليهم " (1) . كما كانت هذه المعركة بداية تحول في التاريخ الإسلامي فبرزت سلطة المماليك كدولة كبرى، كما مهدت للقضاء على الصليبيين، ولعل من أهم آثارها ظهور تغير عند التتار أنفسهم وتحول بعضهم إلى الإسلام. و مسألة تأثر التتار واعتناق بعضهم الإسلام تحتاج إلى تفصيل، لأن بعض التتار- من أبناء عم هولاكو- دخلوا في الإسلام قبل معركة عين جالوت ولذلك يمكن توضيح هذا الأمر كما يلي: أ- قسم جنكزخان مملكته بين أولاده، فكان من نصيب أحدهم وهو جوشى أكبر أبنائه؛ البلاد الواقعة بين نهر أرتش والسواحل الجنوبية لبحر قزوين، وكانت تلك البلاد تسمى القبشان، ويطلق عليها اسم القبيلة الذهبية- نسبة إلى خيام معسكراتها ذات اللون الذهبي- فلما مات جوشى خلفه أحد أولاده الذي تلقب بخان القبائل الذهبية ثم تولى بعده ولده، ثم تولى بعده بركة خان سنة 654 هـ (2) ، وكان بركة هذا مسلما لذلك عمل على نشر الاسلام بين قبيلته وأتباعه، وأظهر شعائر الإسلام واتخذ المدارس وأكرم الفقهاء وكان يميل إلى المسلمين ميلا شديدا. وقد بدا هذا في ظاهرتين: أولاهما: محاربته لابن عمه هولاكو، خاصة بعد استيلائه على بغداد وقتله   (1) المختصر لأبي الفداء (3/205) ، وانظر في هذه المعركة: الروض الزاهر (64) ، وبدائع الزهور (ج 1 ق اص: 306) ، وذيل مراة الزمان (1/360) ، والبداية والنهاية (13/ 0 22) ، والعبر للذهبي (3/288) ، وحسن المحاضرة (2/39) ، والنجوم الزاهرة (7/78) ، وانظر قيام دولة المماليك: أحمد مختار العبادي (ص: 158) وما بعدها. (2) انظر: السلوك (1/394-395) ،- حاشية- ودولة بني قلاوون في مصر (ص: 217) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 للخليفة، وقد ظهرت بينهما خصومات ومعارك. وقد أقلق موقفه وإسلامه الطاغية هولاكو الذي اتجه إلى محالفة المسيحين ضد بركة وحلفائه. ثانيهما: دخوله ومن جاء بعده في حلف سلاطين المماليك، الظاهر بيبرس، والناصر قلاوون وغيرهما، وقد توطدت العلاقة بين هاتين الدولتين، خاصة بعد المصاهرة التي تمت بينهم، وتبادل الرسل والهدايا، ومواجهتهم لعدو مشترك هم التتار الكفار (1) . 2- أما دولة المغول الكبرى في إيران وما جاورها والتي منها انطلقت جحافلهم لغزو العراق والشام فقد حدث في عام 680 هـ أن أسلم أحد أولاد هولاكو وهو السلطان تكودار بن هولاكو الذي تسمى بعد إسلامه باسم أحمد، فصار اسمه: أحمد بن هولاكو، وقد أعلن إسلامه في منشور أصدره لما جلس على العرش ووجهه إلى أهل بغداد، كما أرسل رسالة إلى السلطان المنصور قلاوون يعلن اهتداءه إلى الإسلام، ويدعو إلى المصالحة ونبذ الحرب، ولم يتخل- كما هو واضح من رسالته هذهـ عن افتخاره واستعلائه على سلطان المماليك، وقد رد عليه السلطان قلاوون، ثم تبودلت الرسائل بينهم، ولكن لم تكن العلاقات بينهم جيدة كما يظهر من صيغة الرسائل المتبادلة. ومما يجدر ذكره أن السلطان أحمد دخل لوحده في الإسلام، ولم يستطع أن يفرضه على أتباعه ولا على أمراء المغول من حوله، فصار دخوله في الإسلام فرديا، وهذا ما يفسر سرعة القضاء عليه وقتله من جانب منافسيه من أمراء المغول الذين تآمروا عليه فقتلوه سنة 683 هـ (2) .   (1) انظر إضافة إلى المصدرين السابقين: المنهل الصافي (3/349) ، والبداية والنهاية (13/249) ، والنجوم الزاهرة (7/222) ، وذلك في ترجمة بركة خان وإسلامه، وقد وقع خلاف في تاريخ (سلام بركة، هل كان بعد توليه الملك سنة: 654 هـ، أو قبل ذلك بكثير. ولعل الثاني أرجح، وقد توفي سنة 665 هـ، وانظر الوافي (10/117) ، والعبر (3/312) . (2) انظر تذكرة النبيه (1/90) ، تشريف الأيام والعصور (ص: 4- 71) وفيه نص المراسلات بين السلطان أحمد والسلطان قلاوون، وانظر جامع التواريخ (2/86-92) ، والوافي (8/227) ، والمنهل الصافي (2/254) ، ومؤرخ المغول (ص: 60) ، ومما ينبغي ملاحظته أن محيي الدين ابن عبد الظاهر ذكر أن الشيخ عبد الرحمن الذى أرسله السلطان أحمد رسولا من قبله كان هو المشير على السلطان أحمد بالإسلام وإن ذلك كان خديعة ومكرا حتى يطمئن إلى هذه الجهة ويكتفي أمر السلطان ويتفرغ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 3 - في سنة 693 هـ تولى محمود قازان عرش المغول، ثم في سنة 694هـ دخل في الإسلام، يقول الذهبي عن هذه السنة: " وفيها دخل ملك التتار غازان ابن أرغون في الإسلام وتلفظ بالشهادتين بإشارة نائبه نوروز، ونشر الذهب واللؤلؤ على رأسه، وكان يوما مشهودا، ثم لقنه نوروز شيئا من القرآن، ودخل رمضان فصامه، وفشا الإسلام في التتار " (1) ، وقد أعلن غازان الإسلام دينا رسميا للدولة المغولية في إيران، كما غير المغول زيهم فلبسوا العمامة، كما أمر بتدمير الكنائس المسيحية والمعابد اليهودية، والأصنام البوذية، كما أمر أهل الذمة بأن يتميزوا بلباس خاص بهم. وهكذا اختلف إسلام قازان عن إسلام السلطان أحمد بأن إسلامه لم يكن فرديا وإنما حوله إلى دين رسمي للدولة. لكن هذه الصورة التي قد تبدو جميلة سرعان ما تتغير حين يتابع المرء الأحداث التي تمت في عهد هذا السلطان، فقد هاجم وجيشه الشام مرات ودارت بينهم وبين أله الشام - ومعه سلاطين مصر- معارك كبيرة، وانتصر المغول في أولاها وهزموا فيما تلاها، وقد عاث الجيش التتري فسادا في الأرض وفعلوا - كما قال ابن تيمية لقازان نفسه لما التقى بهـ ما لم يفعله أسلافه من حكام التتار الوثنيين. وقد بقيت الأمور على هذه الحال إلى ما بعد وفاة غازان سنة703هـ (2) . وقد كان التتار يقدسون دستورهم الذي وضعه لهم جنكيز خان، وكان يسمى إلياسا أو اليساق وكانوا يتحاكمون إليه - وسيأتي عرض هذا الموضوع إن شاء الله - وبعد إسلامهم لم يتركوا التحاكم إلى هذا الدستور، فأوقع إسلامهم ونطقهم بالشهادتين شبهة لدى كثير من الناس - وفيهم بعض العلماء - حول جواز قتالهم وهم على هذه الحال. وقد حسم ذلك ابن تيمية - كما سيأتي.   (1) = لقتال قومه. انظر تشريف الأيام (ص: 48) ، والسلطان أحمد قتل ولم يجر بينه وبين المسلمين قتال. فالله أعلم بحقيقة الحال. انظر العبر (3/ 352) . (1) دول الإسلام (2/ 196) . (2) انظر فيما سبق وفي ترجمة قازان: شذرات الذهب (6/9) ، وذيول العبر (ص:9) ، والنجوم الزاهرة (8/212) ، والبداية والنهاية (14/29) ، وانظر مؤرخ المغول (ص: 70) وما بعدها. ووثائق الحروب الصليبية والغزو المغولي (ص: 83) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 4- بعد وفاة قازان تولى من بعده أخوه أولجاتيو، خدابنده، وصار اسمه محمد بن أرغون، وقد تولى عرش المغول سنة 703 هـ إلى سنة 716 هـ، وقد بدأ عهده بتحسين العلاقة مع سلطان المماليك، فأرسل إليه هدية وكتابا خاطب فيه السلطان بالأخوة " وسأله إخماد الفتن، وطلب الصلح، وقال في آخر كلامه: عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه، فأجيب، وجهزت له الهدية، وأكرم رسوله " (1) . ولكن لم يكد يمضي سنة من توليه سلطة المغول حتى حدث تحول خطير عند محمد بن أرغون هذا، فقد اعتنق مذهب الشيعة، وعمل على نشره في الجهات الغربية من دولته حتى إنه غير الخطة وأسقط اسم الخلفاء سوى علي - رضي الله عنهـ، وأظهر عداءه للمماليك السنيين، وطلب من النصارى أن يساعدوه ضدهم، ثم هاجم الشام سنة 712 هـ (2) . ومما ينبغي ملاحظته أن تشيع هذا السلطان كان بتأثير من أحد كبار الرافضة وهو ابن المطهر الحلي الذي صارت له منزلة كبيرة في عهده، وقد أقطعه عدة بلاد (3) ، ولعل نفوذ وشهرة هذا الرافضي- وهو صاحب كتاب منهاج الكرامة- دعا ابن تيمية-رحمه الله- إلى إفراد الرد على كتابه هذا بكتابه العظيم: " منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية ". وقد استمر سلطان المغول على تشيعه حتى مات، ثم تولى ابنه أبو سعيد- وهو صغير- الذي لعب كثير ممن حوله به، ثم لما كبر مال إلى العدل وإقامة السنة وإعادة الخطبة بالترضي عن الشيخين ثم عثمان ثم علي- وفرح الناس بذلك (4) . هذه خلاصة تاريخ المغول، وما يتعلق منه بأحوال العصر الذي عاش فيه شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد كانت له جهود عظيمة في صد هذا الخطر الزاحف، كما كانت له مواقف عظيمة منهم.   (1) السلوك (خ 2 ق اص: 6) . (2) انظر: الوافي (2/85) ، وتاريخ ابن الوردي (2/377) ، والسلوك (2/159) ، والنجوم الزاهرة (9/238) ، والدرر الكامنة (3/468) ، ودولة بنى قلاوون في مصر (ص: 03 2-4 0 2) . (3) البداية والنهاية (14 / 77) . (4) البداية والنهاية (14 / 77) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 ثالثا: المماليك : أ- نشأتهم وأشهر سلاطينهم: عاصر ابن تيمية دولة المماليك، التي امتدت من سنة 648 هـ إلى سنة 923 هـ لما سقطت مصر بأيدي العثمانيين. أما أصل التسمية بالمماليك فالمعروف أن " المملوك عبد يباع ويشترى، غير أن التسمية اقتصرت في معظم الدول المتأخرة على فئة من الرقيق الأبيض يشتريهم الحكام من أسواق النخاسة البيضاء لتكوين فرق عسكرية خاصة في أيام السلم، وإضافتها إلى الجيش أيام الحرب، ثم صار المملوك الأداة الحربية الوحيدة في بعض الدول مثل دولة المماليك في مصر والشام " (1) . ويعتبر المأمون العباسي [خلافته 198-218 هـ، أول من استخدمهم، خاصة وأن كثيرا منهم كان يؤتى بهم إليه هدايا من الأمراء التابعين له في المشرق ولكن استخدام المماليك كقوة عسكرية يعتمد عليها الخليفة برز في عهد المعتصم [خلافته 218-227 هـ] فقد أراد أن يحمي نفسه بجيش من جند الترك بعد أن فقد ثقته بجنده من العرب والفرس (2) . بعد ذلك أصبح استخدام المماليك- كجند وجيش وحماة للسلطة- أمرا مألوفا في الدول التي جاءت بعد ذلك سواء ضمن دائرة الخلافة العباسية أو انفصلت عنها، فأحمد بن طولون [مما يلاحظ أن أباه طولون كان من مماليك المأمون أهداه إليه أمير بخارى سنة 200 هـ وكان من الترك] مؤسس الدولة الطولونية في مصر والشام [254-292 هـ] والذي أعلن استقلاله عن الدولة العباسية استخدم عشرات الآلاف من المماليك من الترك والديلم [سكان جنوب بحر قزوين] والمرتزقة (3) . وكذلك الأخشيديون لما أسسوا دولتهم في مصر والشام سنة [323-358 هـ] جعل محمد بن ظغج [323-335 هـ] جيشه   (1) قيام دولة المماليك (ص: 11) . (2) انظر: تشريف الأيام والعصور (ص: 35) من مقدمات المحقق. (3) انظر: الخطط للمقريزيى (1/ 91) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 من الأتراك الذين بلغوا مئات الألوف (1) . ومثلهم فعل الفاطميون [297-567 هـ] لما استولوا على مصر سنة 358 هـ أضافوا إلى جيوشهم - التى كانت مكونة من المغاربة- أتراكا وأكرادا وديلما وسودانا وغيرهم (2) . وكذلك الأيوبيون [569- 650 هـ] اكثروا من استخدام المماليك، لكن الملك الصالح نجم الدين أيوب [637-647 هـ] اشتهر بأنه استكثر من مماليك الترك، وبنى لهم الثكنات في القلعة التى أنشأها سنة 638 هـ، ولذلك ينقل الذهبي عن ابن واصل أنه " اقتنى من الترك ما لم يشتره ملك، حتى صاروا معظم عسكره، ورجحهم على الاكراد، وأمر منهم وجعلهم بطانته والمحيطين بدهليزه، وسماهم البحرية" (3) ، وهؤلاء المماليك البحرية (4) الذين حكموا على أثر إنقراض الدولة الأيوبية، ونجم الدين أيوب هو زوج شجرة الدر (5) التي تولت السلطنة بعد ولده توران شاه الذي تولى بعد أبيه ثم قتلته شجرة الدر، وتولت بعده وكان ذلك سنة 648 هـ ولكن توليها لم يكن مقبولا، فقد اعترض عليه بعض العلماء منهم العز بن عبد السلام، وكذلك الخليفة العباسي الذى أرسل   (1) المصدر السابق- نفس الصفحة، وانظر النجوم الزاهرة (3/ 51) . (2) انظر: الخطط (1/ 91) . (3) سير أعلام النبلاء (23/191-92 1) ، وانظر شفاء القلوب (ص: 375، 380) ، والمختصر لأبي الفداء (4/179) . (4) يرى الذهبي أنهم سموا بذلك " لكون التجار جلبوهم في البحر من بلاد القفجاق " السير (23/192) . وهذا ما يرجحه العبادي في كتابه: قيام دولة المماليك (ص: 99) ، وكذا يوسف غوانمه في كتابه: التاريخ السياسى لشرق الأردن في العصر المملوكي (ص: اه) . " وهو الذى نبه إلى نص الذهبي من مخطوطة السير قبل طباعتها. أما الرأي الآخر الذي يذكره أغلب الدارسين لهذا العصر فهو أنهم سموا بالبحرية نسبة إلى جزيرة الروضة- على نهر النيل- التي أسكنهم نجم الدين أيوب فيها لما استقدمهم، انظر مثلا: عاشور: مصر والشام في عصر الأووبيين والمماليك (ص: 153) ، وانظر ماجد: نظم دولة سلاطين المماليك ورسومهم في مصر: النظم السياسية (ص: 10) وانظر مراد كامل: مقدمة تشريف الأيام والعصور (ص: 36) . وقد امتدت دولة المماليك البحرية إلى سنة: 792 هـ، ثم جاءت دولة المماليك الجراكسة أو البرجية لأن ثكناتهم كانت في قلعة القاهرة وامتد حكمهم إلى سنة: 923 هـ.. (5) كانت من مماليك نجم الدين أيوب، ولذلك يرى بعضهم أن حكمها كان بداية حكم المماليك، انظر: ترجمتها في بدائع الزهور (1/1/ 286) ، والسلوك (1/ 361) ، والسير (23/98 1-99 1) ضمن ترجمة المعز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 إلى أهل مصر كتابا يعاتبهم في ذلك ويقول: إن كان ما بقي عندم رجل تولونه فقولوا لنا نرسل إليكم رجلا (1) وقد وصل خطاب الخليفة هذا إلى المماليك بعد أن مضى على تولي شجرة الدر ثمانون يوما اقتنع أمراء المماليك بخطئهم وقالوا: لا يمكن حفظ البلاد والملك لامرأة، فأشاروا على شجرة الدر أن تتزوج كبير المماليك وهو الأتابك أبيك التركماني وتتنازل له عن العرش، فقبلت ذلك وخلعت نفسها من السلطنة، فتولى عز الدين أيبك هذا سنة 648 هـ، وبذلك قامت دولة المماليك في مصر (2) . وقد عاصر ابن تيمية سلطنة عدد من المماليك بلغوا عشرة خلال فترة حياته وقد برز منهم أربعة: الأول: الظاهر ركن الدين بيبرس [658-676 هـ] الذي تولى بعد وقعة عين جالوت وقتله للملك المظفر قطز، وتعتبر ولايته البداية الحقيقية لسلطة المماليك كحكام قاموا وعملوا على صد المغول ومقاومة الصليبيين عن بلاد الشام ومصر. وقد تميز عهده بمايلي: أ- مقاومة وصد العدوان المغولي على الشام. 2- مقاومة وحرب الصليبيين في بلاد الشام وتطهير بعض المدن من رجسهم-كما تقدم-. 3- إعادة وإحياء الخلافة العباسية في مصر سنة 659 هـ. 4- وفي ما يتعلق بالقضاء تميز عصره ببداية تولية أربعة قضاة للمذاهب الأربعة (3) بدل قاض واحد كما كان في السابق، وكان ذلك سنة 663 هـ   (1) بدائع الزهور (11 / 287) ، والسلوك (1 / 368) ، وحسن المحاضرة (2 / 36) ، والعز ابن عبد السلام للوهيبي (ص: 24- هـ 2) . (2) ليست هذه أول دولة للمماليك، بل سبق أن أسسوا دولة لهم في الهند في دلهي سنة 602 هـ وامتدت إلى سنة 962 هـ، وأول ملوكهم ايلتش الذى إعترف به الخليفة العباسي في بغداد سلطانا، ومن الطريف ونحن نشير إلى شجرة الدر- أنه بعد وفاة إيلتمش سنة 634 هـ تولت ابنته السلطة على عرش دهلى فحكمت إلى سنة: 638 هـ فاعترض على سلطتها وقتلت. انظر قيام دولة المماليلث (ص: 29-31) ، ومعجم الأسر الحاكمة (2/598) ، ورحلة ابن بطوطة (2/486-487) . (3) سبق في سنة: 525 هـ زمن الدولة الفاطمية أن عين أربعة قضاة لكنهم: شافعي، ومالكي،= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 أما سبب ذلك: أ- فقيل إنها بادرة من السلطان نفسه وإنه نظر " في كثرة الناس وإن القاهرة هى دار الملك، وقد جمعت أهل المذاهب من العلماء فأمر بنصب أربعة قضاة نوابا لقاضى القضاة تاج الدين " (1) . ب- وقيل السبب " توقف القاضى تاج الدين ابن بنت الأعز (2) عن تنفيذ كثير من الأحكام ... ، فكثرت الشكاوي منه وتعطلت الأمور فوقع الكلام في ذي الحجة بين يدى الملك الظاهر " (3) فأشار عليه جمال الدين أيدغدي العزيزي بذلك فمال إليه، وعين أربعة قضاة، وأبقى للشافعي النظر في أموال اليتامى وأمور بيت المال، وفي العام التالي فعل مثل ذلك في الشام (4) . 5- ومن الأمور الجليلة التي عملها الظاهر بيبرس، القضاء على الاسماعيلية في بلاد الشام، واحتلال حصونهم حصنا بعد آخر من سنة 668 هـ إلى سنة 671 هـ (5) . الثاني: المنصور سيف الدين قلاوون، وهو أول السلاطين من أسرة قلاوون التي حكمت فترة طويلة، وقد استمر حكم المنصور من سنة 678 هـ إلى سنة 689 هـ.   (1) = وإسماعيلى، وإمامي. حسن المحاضرة (2/165) ، وانظر الدولة الفاطمية في مصر- سرور (ص:120) . (1) الروض الزاهر (ص: 182) . (2) هو: الشيخ عبد الوهاب بن خلف بن بدر العلامي، تاج الدين ابن بنت الأعز ولد سنة: 604 هـ، وتوفي: سنة 665 هـ. طبقات السبكي (8/318) ، وحسن المحاضرة (1/415) ، وذيل الروضتين (ص: 240) ، آخر الكتاب، والنجوم الزاهرة (7/ 222-223) ، وفيه أن ولادته سنة: 614 هـ وهو خطأ- وطبقات الأسنوى (1/147) ، والبداية والنهاية (13/249) . (3) المنهل الصافي (3/466) ، ووضعت ترجمة القاضى تاج الدين في الحاشية خطأ فهي ليست له. (4) انظر أيضا: طبقات السبكي (8/319) ، والعبر (3/307) ، ودول الاسلام (12/68) ، وصبح الأعشى (1/ 419) ، وطبقات الأسنوى (1/149) ، والظاهر بيبرس- عاشور- (ص: 48 1) . (5) انظر: الروض الزاهر (ص: 365) ، والظاهر بيبرس (ص: 80) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وكان من أبرز ما جرى في عهده: 1- في سنة 678 هـ خرج عليه سنقر الأشقر في الشام، وهجم على القلعة في دمشق وتملكها، وبويع له ولقب بالسلطان الملك الكامل شمس الدين سنقر الصالحي، فأرسل إليه قلاوون جيشا قويا سنة 679 هـ أنزل الهزيمة به ففر سنقر واتصل بالمغول يزين لهم غزو الشام (1) . كذلك حاول بعض الأمراء الظاهرية- من مماليك الظاهر بيبرس- أن يتآمروا على المنصور قلاوون واتصلوا بالصليبيين سرا. ولكن قلاوون علم بهم وعاقبهم (2) . 2- اكثر قلاوون من شراء المماليك، وأنشأ فرقة منهم رباهم في أبراج القلعة وهؤلاء هم المماليك البرجية- والجراكسة- الذين حكموا فيما بعد (3) . 3- وفي عهده بنى المدرسة والبيمارستان- المستشفى- كما استحدثت كثير من الوظائف الديوانية (4) . 4- وفي عهده استمرت مقاومة التتار، ومن أشهر ما وقع في عهده هزيمة التتار في وقعة حمص، وكانت هزيمة ساحقة (5) . 5- أما النصارى فقد صالحهم، ثم نقضوا العهد فقاومهم واستولى على كثير من قلاعهم وحصونهم. الثالث: السلطان الأشرف صلاح الدين خليل- ابن المنصور قلاوون - وكانت ولايته من سنة 689-693 هـ. ومن أبرز ما جرى في عهده:- 1- فتح عكا سنة 690 هـ، وتصفية الوجود الصليبي في الشام. 2- فتح قلعة الروم سنة 691 هـ وهي قلعة غربي الفرات، وكان أهلها يمالئون التتار ضد المسلمين فكانت بمنزلة الشجى في الحلق (6) .   (1) انظر: السلوك (1/ 676) . (2) مصر والشام في عصر الأيوبيين والمماليك (ص: 195) . (3) انظر: بدائع الزهور (1/1/362) . (4) المصدر السابق (1/1/ 348-349، 353) . (5) انظر: العبر (3/ 342) ، والبداية والنهاية (13/295) . (6) انظر: البداية والنهاية (13 / 327) ، والسلوك (1 / 778) ، والنجوم الزاهرة (8 / 12) ، ودولة بنى قلاوون (ص: 172) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 الرابع: السلطان الناصر محمد بن قلاوون، وقد كانت سلطته غير مستقرة - خاصة في البداية- فقد تولى وهو صغير، ثم لما تولى السلطة في المرة الثالثة استقر الأمر له، بحيث أصبح من أكثر المماليك استقرارا وقوة وطول مدة. وسلطة الناصر محمد جاءت كما يلي:- الأولى: من سنة 692 هـ- 694 هـ وكان عمره لما تولى تسع سنوات، ولم يكن له من الأمر شىء، وقد استبد بالأمر في عهده هذا علم الدين سنجر ثم الأمير كتبغا المنصوري الذي تسلطن- بحجة أن السلطان صغير- وتسمى بالعادل، وكانت سلطته سنة 694 هـ، وفي سنة 696 هـ خرج عليه حسام الدين لاجين الذي لقب بالملك المنصور (1) . الثانية: في سنة 698 هـ- 708 هـ: وأبرز ما في هذا العهد ظهور التتار في الشام وقيام معارك انتهت بانتصار المسلمين، وكان لابن تيمية دور عظيم فيها. ومع ذلك فقد بقي الناصر مضيقا عليه من قبل أمراء المماليك حتى ضاق ذرعا وعزم على الذهاب إلى الكرك، فلما وصل إلى الكرك اضطرب أمر المماليك فأرسلوا إليه أن يرجع فأبى، فزوروا عليه كتابا أنه تنازل عن الملك (2) ، ثم تولى الملك الجاشنكير سنة 708 هـ وتسمى بالمظفر ركن الدين بيبرس الثاني، ولكن كئيرا من أمراء الشام لم يعترفوا به، واضطربت الأحوال في عهده، وأخذ الناصر يعد العدة لاسترداد ملكه وتم له ذلك. الثالثة: من سنة 609 هـ إلى سنة 741 هـ: وهي فترة طويلة امتدت إلى اكثر من ثلاثين عاما، وفيها صفا له الأمر، واتسعت دائرة حكمه من المغرب غربا حتى الشام والحجاز شرقا، ومن النوبة- في الحبشهـ جنوبا حتى آسيا الصغرى شمالا، كا أنه عنى بالإصلاح الداخلي، وبناء المنشآت من المساجد   (1) يلاحظ أن محنة ابن تيمية حول الحموية التي كانت سنة: 698 هـ إنما كانت في أواخر عهد لاجين هذا. انظر: البداية والنهاية (13/4) . (2) يرى البعض أنه تنازل، وهذا غير صحيح وقد ناقش هذه القضية بشكل جيد الدكتور يوسف درويش غوانمة في كتابه: التاريخ السياسي لشرقي الأردن في العصر المملوكي (ص: 60 ا-164) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 والقناطر والجسور وغيرها (1) . ومما يلاحظ أن محن ابن تيمية جاءت في عهد الناصر، مع وجود فترات تقوى صلة الناصر بابن تيمية ويتبنى آراءه ويستجيب لمطالبه خاصة ما يتعلق منها بالجهاد أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الموقف من أهل الذمة. وقد تميز عهد الناصر بما يلي: 1- مقاومة التتار الذين هجموا على بلاد الشام، وعاثوا فيه فسادا مع أنهم يعلنون الاسلام وينتسبون إليه. 2- مقاومة الرافضة في بلاد الشام أيضا. 3- العناية بالمنشآت-كما سبق-. أ- نظام المماليك الإداري : كتب الكثير عن نظام المماليك الإداري (2) ، ونعرض هنا لنظامهم باختصار شديد: 1- استجد في عهد المماليك كثير من النظم الادارية- التى لم تكن موجودة من قبل- خاصة وأنها كانت دولة يصح أن يطلق عليها بأنها دولة عسكرية، كا أنها قامت على يد المماليك، ويغلب عليهم اللغة التركية. 2- كان رأس المماليك الحاكم السلطان، ويأتي نتيجة لاختيار الأمراء له عندما يكون ذا نفوذ كبير، أو يقوم بقتل من سبقه، ولم تكن الوراثة مبدأ عاما لنظامهم، بل قد يتولى الابن بعد أبيه، وقد لا يتولى. وكان يلقب بالسلطان أو سلطان الاسلام والمسلمين، أو الملك، ومن ألقابه: نصير أمير المؤمنين أو ناصر الملة المحمدية، أو محيي الدولة العباسية- وهذا بعد إحيائها في القاهرة- حيث أصبح السلطان يتقلد الملك بعهد تولية من الخليفة العباسي ومبايعته حتى   (1) انظر: أحداث هذه السنين في كتب التاريخ وخاصة: البد اية والنهاية، والسلوك، والنجوم الزاهرة. (2) من الكتب القديمة: خطط المقريزي، وصبح الأعشى، ونهاية الأرب للنويري، ومن الحديثة: نظم دولة سلاطين المماليك ورسومهم في مصر، في جزأين: عبد المنعم ماجد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 تصبح توليته شرعية، ويشهد ذلك كبار القضاة وقد يخطب الخليفة بهذه المناسبة - ولكن يلاحظ أن الخليفة كانت سلطته شكلية- وإذا تولى خليفة جديد أقيمت له حفلة مبايعة كبرى يحضرها السلطان والنواب والقضاة وغيرهم من مختلف طبقات الشعب. 3- يأتي بعد مرتبة السلطان: النائب، وهناك نائب للسلطنة في مصر، ونائب في الشام، وكانت الشام مقسمة إلى عدة نيابات ولكن النائب الأساسى هو الذي يقيم في دمشق، وكان النائب يتولى تعيين الوظائف الديوانية والدينية. أما مرتبة الوزير ففي هذه الحالة- حالة وجود النائب- تصبح في المرتبة الثالثة ويختص عمل الوزير بالشئون المالية، وقد تلغي الوزارة نهائيا ويكتفى بكبار الكتاب. 4- كانت وظائف الدولة المملوكية تقسم إلى ثلاث وظائف: الأقلام ويتعلق بها الوظائف الديوانية، والعلماء: ويتعلق بهم الوظائف الدينية، والسيوف: ويقصد الوظائف الحربية، ويلاحظ تطور الفصل بين الوظائف الدينية وغيرها التى لم يكن في السابق يوجد حد فاصل بينها. 5- كان عماد الدواوين طبقة الكتاب، وكان السلطان يعين كبار الكتاب، وكانت هذه الوظائف يشغلها في الغالب مصريون لا أتراك، وكانوا كثيرا ما يكون من القبط النصارى الذين لهم عناية بمثل هذه الوظائف العزيزة. وكان أهم الأعمال الديوانية ديوان الانشاء وكان رئيسه يسمى كاتب السر، وكان تحته مجموعة من الكتاب الذين يحضرون مع السلطان وينفذون أوامره ونظره في المظا لم، وكان من تحتهم مجموعة من كتاب السجلات الذين يقومون بالمراجعة والتلخيص وكان عمل ديوان الانشاء يختص بأمور ثلاثة لها أهميتها الكبرى وهي: المكاتبات، من السلطان وإليه، والبريد، والنظر في المظا لم. 6- أما الأمور المالية فكان يتولاها الوزير، وكان يشاركه عدة موظفين على رأسهم ناظر الدولة الذي قد يسمى ناظر المال أو ناظر المملكة، وكانت أهم موارد الدولة: الخراج والضرائب من المكوس والعشور وكانت تفرض على الصادر والوارد- ومن الموارد الجوالي- من جالية وهم غير المسلمين- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 التى تفرض على رؤوس غير المسلمين، ومن الموارد: المعادن والزكاة، وما يتحصل من سك العملة. وغيرها. 7- أما القضاء فكان في يد الشافعية، حتى بعد تولية أربعة قضاة، وكان منصب قاضي القضاة، وما يتعلق به من أمور أخرى كالنظر في الأوقاف، والمحجور عليهم واليتامى والخطابة، والنظر في بيت المال والمدارس .... يتولاه قاض من الشافعية. ثم يأتي بعده. القضاة من المذاهب الأخرى الحنفية والمالكية والحنبلية، وكان لكل مذهب قاضى قضاة، وكان لهم نوابهم في مصر والشام. وكان قاضى القضاة يختار الشهود الذين يسمون الشهود العدول حيث يأتي إليهم أصحاب المعاملات للاشهاد. وكان لقاضى القضاة- الأعلى الشافعى- منزلة كبيرة في الدولة، حتى في تنصيب الخلفاء والسلاطين. وبالإضافة إلى القضاء كان هناك: النظر في المظالم، وكان يتولى النظر فيه السلطان في دار تسمى دار العدل، ثم أصبح ينظر فيه نائب السلطنة أو حاجب الحجاب. وكان أيضا نظام الحسبة، الذين يقومون بالنظر في الأسواق ومنع الغش فيها، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنع المنكرات الظاهرة من الدعارة والخمور والتبرج وغيره، كما كان يتولى النظر في أحوال أهل الذمة حتى يتميزوا عن المسلمين بهيئاتهما ولباسهم. 8- كما كان للمماليك نظمهم المتعلقة بالسيف، مثل الشرطة- في الداخل- ومثل النظم الحربية لإدارة الجيوش والجنود، والأساطيل، ولها أنظمتها الدقيقة (1) . 9- وقد انتشر في عهد المماليك دفع الرشوة أو البرطلة، للوصول إلى المناصب، ولذلك أحيانا تصدر الأوامر بأن لا يولى أحد بمال ولا رشوة لأن ذاك يفضى إلى ولاية من لا يستحق (2) .   (1) انظر: نظم دولة سلاطين المماليك للدكتور عبد المنعم ماجد. (2) انظر: االبداية والنهاية (14/66) ، ويذكر ابن كثير أن سبب صدور هذا الأمر ابن تيمية -رحمه الله-. وانظر كتاب: البذل والبرطلة زمن سلاطين المماليك (ص!: 25) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 رابعا: سقوط الخلافة العباسية في بغداد وإحياؤها في القاهرة : سبق أن أشرنا إلى سقوط الخلافة العباسية في بغداد على يد التتار وذكرنا - فيما سبق- إشارة سريعة إلى إعادتها في القاهرة سنة 659 هـ على يد الظاهر بيبرس (1) . وقد يقول قائل: إذا كانت إعادة الخلافة الإسلامية تحولت إلى إعادة شكلية لأن الأمور كلها- ومنها تحديد الخليفة- بيد السلطان، فما فائدة الاهتمام بهذه المسألة؟. والجواب على ذلك أنه حتى في العهود العباسية المتأخرة أصبحت السلطة كلها بيد الوزراء- مثل بنى بويه، والسلاجقة- ولم يكن للخليفة إلا الاسم، ومع ذلك لما قضي على الخلافة حزن الناس على ذلك وصاروا يذكرون الأمور الهائلة التي جرت وعلى رأسها قتل الخليفة ثم بقاء المسلمين بلا خليفة، ولذلك فبقدر هذا الحزن كان استبشارهم بإحيائها في القاهرة، فالخلافة عند المسلمين رمز للوحدة واتباع شرع الله في تعيين إمام للمسلمين، ولذلك لما قامت الخلافة في القاهرة صار بعض الملوك في الأقاليم البعيدة يرسلون إلى الخليفة يطلبون منه أن يقرهم على ملكهم وأن يكونوا تابعين له حتى يحظوا بالشرعية أمام شعوبهم (2) . ولا شك أن هناك أسبابا دعت المماليك إلى إعادة الخلافة ولعلها تتضح فيما يلي:- 1- أن فكرة إعادة الخلافة- كانت في البداية- على أساس أن الخليفة إذا بويع له فإن مهمته تبدأ بالعودة إلى بغداد وتخليصها من التتار وإعادة الخلافة هناك، والدليل على ذلك شيئان: أولهما: أن بعض الروايات تذكر أن المظفر قطز بايع في الشام الحاكم بأمر الله، وأرسل معه جماعة من أمراء العرب، وأن الخليفة سار وافتتح بعض المدن- جهة العراق- وأنه قاتل التتار وانتصر عليهم، وأن نائب دمشق استدعاه، وأن الظاهر بيبرس- بعد توليهـ استدعاه ولكنه علم أن المستنصر العبايي سبقه إلى القاهرة فلم يذهب إليها ولكن رجع إلى حلب   (1) يذكر السيوطي أن المظفر قطز هو أول من فكر في ذلك وأنه بايع فعلا أبا العباس الحاكم بأمر الله في دمشق- الذي تولى فيما بعد سنة 661 هـ. تاريخ الخلفاء (ص: 760) . (2) من هؤلاء: محمد بن تغلق، انظر: رحلة بن بطوطة (2/523) ، وانظر: الاسلام والخلافة: علي الخربوطلي (ص: 248-252) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 فبويع من هناك وكان ممن بايعه عبد الحليم بن تيمية (1) . أما الثاني: فهو ما قاله الخليفة العباسى المستنصر في خطته الأولى فإنه قال بعد مدحه للظاهر في إحيائه للخلافة العباسية، وبعد حثه على العدل والجهاد في سبيل الله، قال: " وبك يرجى أن يرجع مقر الخلافة إلى ما كان عليه في الأيام الأولى، فأيقظ لنصرة الاسلام جفنا ما كان غافيا ولا هاجعا، وكن في مجاهدة أعداء الله إماما متبوعا لا تابع ... " (2) ومقر الخلافة بغداد، وبعد وقت قصير سار الخليفة والسلطان إلى الشام فلما وصلا إلى دمشق جهز السلطان الخليفة ومعه الأمراء والجند، وسار الخليفة جهة العراق، وكان الظاهر يريد أن يبعث معه عشرة آلاف فارس حتى يستقر ببغداد، ولكن بعض الأمراء أشار إليه أن لا يفعل وقالوا: إن الخليفة إذا استقر أمره ببغداد نازعك وأخرجك من مصر، فلم يخرج مع الخليفة إلا قوة صغيرة لا تتناسب ومستوى المهمة، ولذلك سرعان ما قضى عليه سنة 660 هـ وبعد ذلك عزم الظاهر على إعادة الخلافة مرة أخرى فأعادها سنة 661 هـ، وتولى الخلافة أحمد الحاكم بأمر الله، ولكن بقي الخليفة في القاهرة ولم يسمح له بمغادرتها. 2- ومن الأسباب التى دعت المماليك إلى إحياء الخلافة الاسلامية كونهم مماليك وأن أصلهم غير حر ولعل حادثة بيعهم أيام نجم الدين أيوب على يد العز ابن عبد السلام (3) لم تكن غائبة غن أذهانهم وأذهان الناس- لذلك وحتى يضفوا الشرعية على ملكهم وسلطانهم عمدوا إلى إحياء الخلافة، وأنهم ليسوا إلا تابعين للخليفة. ولما كان شرط القرشية سائدا لم يجرؤ المماليك إلى نسبها إلى أنفسهم وإنما عينوا خليفة عباسيا.   (1) انظر: تاريخ الخلفاء (ص: 760) ، وانظر: النجوم الزاهرة (7/115-116) . (2) الروض الزاهر (ص: 108) ، والسلوك (1/456) ، وهذه البيعة حضرها القضاة والأمراء وعلى رأسهم العز بن عبد السلام- الذى يقال: إنه أول من بايع الخليفة- وتاج الدين بن بنت الأعز قاضي القضاة الذى أثبت بشهادة الشهود ثبوت نسب الخليفة إلى بني العباس، وانظر: حسن المحاضرة (2/53) ، والبداية والنهاية (13/231) ، ومما يلحظ أنه في سنة 690 هـ خطب الخليفة العباسي في مصر في إحدى المناسبات أمام السلطان وحض في خطبته على انتزاع العراق من التتار. الخطط (2/381) . (3) انظر: طبقات الشافعية للسبكي (8/216-217) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 3 - وهناك سبب آخر وهو أن بعض الدول المجاورة للمماليك لقبوا أميرهم بلقب الخليفة - بعد سقوط بغداد - ومن أبرز هذه الدول الدولة الحفصية في تونس (1) ، فحرص المماليك على قطع الطريق على أولئك لينالوا وحدهم المفخرة والشرعية فسارعوا إلى إعلان الخلافة عندهم في القاهرة. وعلى الرغم من ان الخلافة كانت شكلية، إذ ليس للخليفة حول ولا قوة إلا ان هذه الخطوة لم تخل من آثار لعل أهمها: أ - عودة الخلافة السنية كان بمثابة دعم قوي لما فعله نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي من إزالة الخلافة الفاطمية في مصر وإقامة دولة سنية، والقضاء على الفاطميين وإن كان قد مر عليه زمن طويل إلا أن هناك محاولات عديدة قام بها أفراد أو طوائف باطنية تدين بالولاء للدولة الفاطمية ومذهبها الباطني وذلك للعودة إلى الخلافة الشيعية، ومن هذه المحاولات ما فعله ابن العلقمي - في سقوط بغداد - الذي كان يطمع من خلال تعاونه وممالأته للتتار أن يقيم حاكما علويا بدل الخليفة العباسي السني، ولكنه فشل (2) . ومنها ما قام به رجل شيعي يعرف بالكوراني - نسبة إلى كوران من قرى إسفرايين - حين أظهر الزهد والورع، وأخذ يجمع حوله بعض خدم السلطان ويحرضهم على الخروج ضد المماليك ليتولى بدلهم حاكم شيعي، ثم ثاروا وشقوا القاهرة وهم ينادون: ياآل علي وفتحوا دكاكين السيوفيين وأخذوا مافيها من سلاح   (1) ينتسب بنو حفص إلى أبي حفص عمر رئيس قبيلة هتتانة البربرية، وكانوا في الأصل أتباعا للموحدين، وفي سنة 625هـ أعلن أبو زكريا الحفصي استقلاله، فبدأت الدولة الحفصية التي استمرت إلى أن سقطت تونس بأيدي العثمانيين سنة 982هـ، والذي بويع له بالخلافة من قبل شريف مكة [ويلاحظ أن الذي قام بإقناع الشريف كما قام بكتابة الولاية بن سبعين الصوفي صاحب القول بوحدة الوجود والذي فر من تونس إلى مكة لما أنكر عليه العلماء ورموه بالكفر والفسق] هو أبو عبد الله المستنصر الذي تولى سنة 647هـ، وفي سنة 657هـ وصلت بيعة شريف مكة له فسمي بأمير المؤمنين، ولكن الأمور اضطربت في عهده، ولذلك لم يعترف مؤرخو الإسلام - خاصة المشرق - بهذه الخلافة، وإنما اعترفوا بخلافة القاهرة. انظر العبر لابن خلدون (6/634) ، ط بيروت، والأدلة البينة النورانية لابن الشماع (ص:57) ، وكتاب السلطنة الحفصية (ص:188) وما بعدها. (2) سبق قريبا عند الكلام عن المغول وسقوط بغداد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 ولكن عسكر السلطان الظاهر بيبرس أحاطوا بهم وأوثقوهم فأصبحوا مصلوبين. وكان ذلك في أواخر سنة 658 هـ (1) . ب- تحول أنظار العالم الإسلامى من بغداد إلى القاهرة وما يتبعها من بلاد الشام وبذلك أصبحت حاضرة المسلمين وموئل العلماء وطالبي العلم وصارت مدارسها ومساجدها وشيوخها ذات أثر بالغ، مما لم يبلغه مكان آخر، ولهذا يقول السيوطى معلقا على موضوع انتقال الخلافة إلى مصر: " واعلم أن مصر حين صارت دار الخلافة عظم أمرها، وكثرت شعائر الإسلام فيها وعلت فيها السنة، وعفت منها البدعة، وصارت محل سكن العلماء ومحط رحال الفضلاء ... " (2) . إلى غير ذلك من الآثار (3) خامسا: الباطنية والرافضة : تعتبر الحركات الباطنية من أخطر الحركات في تاريخ العالم الإسلامى، وكذلك الرافضة، والطائفتان متداخلتان في المنهج والاعتقاد والموقف من أهل السنة، ولا عجب، إذ كلها قائمة على مبدأ التشيع ومنطلقة منه، وإن كان التطور في بعضها قد يصل إلى الغلو أو الإباحة كما حدث للإسماعيلية والقرامطة، إلا أن القاسم المشترك بينها هو دعوى موالاة أهل البيت والقيام بالواجب نحوهم، واستخلاص حقوقهم المغتصبة- من الإمامة وغيرها- من أعدائهم. وهذه الحركات لا تزال- حتى الآن- تقوم بدور خطير في عالمنا الاسلامى وتحظى- كما يحظى من يتبناها من دول وغيرها- بدعم كبير من اليهود والنصارى والملاحدة- من شيوعيين ولا دينيين-؛ إذ أدرك أعداء الإسلام أن حرب المسلمين- ويقصد أهل السنة- لا تتم إلا بإحياء الطائفية بينهم ودعم تلك الفرق والحركات المناهضة للإسلام الحق.   (1) انظر: السلوك (1/ 450) ، وقيام دولة المماليك (ص: 178) . (2) حسن المحاضرة (2/94) . (3) يحسن أن نشير هنا إلى أنه في عام 815 هـ تولى الخليفة العباسى أبو الفضل الملقب بالمستعين بالله السلطنة في مصر، فصار هو الخليفة وهو السلطان. انظر: أنباء العمر لابن حجر (7/53) - هندية وحسن المحاضرة (2/85) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وقد كتبت دراسات عن الحركات الباطنية، ولكن هذه الدراسات - حسب علمي- قامت على إحدى وجهتين: 1- إما وجهة تاريخية، تنظر إلى تاريخ هذه الطوائف، ودورها في الأحداث وما لها وما عليها، ولا تعطى الجانب العقائدي الذي قامت به إلا دورا صغيرا لا يتعدى التعريف والنشأة. 2- وإما وجهة عقائدية بحتة، تنظر إلى عقائد هذه الطوائف وفكرها، وأهم مبادئها، وأما دورها في الأحداث وما قامت في المجال السياسى والاجتماعي فلا تتعرض له بشيء. وفي رأيي- القاصر- أن مثل هذه الحركات الخطيرة لا تتم معرفة أبعادها والاستفادة من تاريخها السابق- وأبعاده العقائدية والسياسية- إلا بالجمع بين هاتين الوجهتين أثناء الدراسة والتحليل. والحركات الباطنية- في العصر الحاضر-كما أن لها نشاطا سياسيا ملحوظا فلها أيضا نشاط فكري تنشر من خلاله مذاهبها وعقائدها وكتبها ووثائقها (1) . والعصر- الذى نحن بصدد الحديث عنهـ كان للباطنية والرافضة فيه دور كبير، وهو وإن كان قد انحسر- بالنسبة للعصر الذي قبلهـ إلا أن بقاياهم قامت بأدوار تكميلية سواء بنشر مذاهبهم أو التعاون مع الصليبيين، ولذا رأينا كيف أن الظاهر بيبرس يهاجم حصونهم ويقضي عليها، والسلطان قلاوون وغيره يقومون بغزو الرافضة في جبل كسروان وما جاوره، ورأينا عالما مثل شيخ الاسلام ابن تيمية يتصدى لجهادهم وغزوهم، كما يتصدى لفضح المذهب الباطني ويبين حكم الشرع فيهم، ويرد على علمائهم في منهاج السنة وغيره.   (1) تأسست في الهند سنة 1946 م " الجمعية الإسماعيلية" ونشرت في الهند ومصر كثيرا من مؤلفاتها ومخطوطاتها. انظر: كتاب الحاكم بأمر اللهـ عنان- (ص: 13-14) ، كا أن كثيرا من الباحثين تفرغوا لنشر التراث الاسماعيلي والباطني وكتابة الدراسات حولهـ حتى أن واحدا منهم نشر قرابة أربعين كتابا حول هذه الحركات، وبعض الباحثين من هؤلاء لا يكتفون بالتحقيق أو الكتابة العلمية فقط، وإنما يبثون الدعاية لها ويدعون إلى الاستفادة من تجاربها، كما يزعمون أنها حركات مظلومة ولذا ينبغى إعادة كتابة تاريخها من خلال حرية الفكر والأديان التى ينادون بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 ونوجز الكلام حول هذه الحركات بمايلي: أولا: برز التشيع كظاهرة في وقت مبكر، في عهد علي بن أبي طالب - رضى الله عنهـ بل قبله بقليل حين ظهرت السبئية- أتباع عبد اللة بن سبأ - وكان التشيع في عمومه قد بدا معتدلا إلا أنه في هذه الظواهر بدا غاليا أشد ما يكون الغلو، وليسى تأليه علي بن أبى طالب الذي قال به أناس في عهده إلا نواة لتلك الحركات الباطنية التي أخذت أشكالا مختلفة في الظاهر، وهي متفقة في الحقيقة والباطن. أما ما قد يتبادر إلى الذهن من تفاوت بينها اعتدالا وغلوا فليس هذا إلا أمر عارض ينشأ في بعض الأحوال حسب ما يقتضيه مبدأ التقية، أو التدرج في المدعوين أو حين التطيق العملى لمبادئهم، إضافة إلى مبدأ السرية والعلنية في عقائدهم التى يجعلون جزءا مهما منها يبقى تحت دائرة الكتمان إلا عن القلة القليلة من أكابرهم وعلمائهم، ولذلك صدقت فيهم مقولة أبي حامد الغزالي: " إنه مذهب ظاهره الرفض، وباطنه الكفر المحض، ومفتتحه حصر مدارك العلوم في قول الإمام المعصوم " (1) . ثانيا: حدثت انقسامات داخل هذه المذاهب الرافضية الباطنية: ومنها: الانقسام الذي وقع حول من يكون الإمام بعد جعفر الصادق -رحمه الله-. فطائفة: قالت: الإمام بعده ابنه موسى واستمرت الإمامة بعده إلى الإمام الثاني عشر- المهدي المنتظر عندهم- وهؤلاء هم الرافضة الموسوية، الجعفرية، الاثنى عشرية، ومن يطلع على عقائدهم ومذاهبهم يرى أنه لا يمكن أن يكونوا طائفة معتدلة بحال من الأحوال، إلا حال التقية (2) .   (1) فضائح الباطنية (ص: 37) . (2) قدم الأخ العزيز- ناصر القفاري- رسالته للدكتوراه عن أصول الشيعة الاثنى عشرية وعقائدهم بعد دراستهـ الجادة والموفقة- إن شاء الله؛ حول مسألة التقريب بين السنة والشيعة في رسالته للماجستير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وطائفة: قالت: الإمام بعده أى- بعد جعفر الصادق- ابنه إسماعيل- الذي مات في عهد أبيهـ وهؤلاء هم طائفة الإسماعيلية التي انبثقت منها حركة القرامطة، والدولة الفاطمية في المغرب ومصر، والإسماعيلية في بلاد فارس وغيرها. ومنها:- أى من الانقسامات التي حدثت- ما حدث سنة 487 هـ- لما مات الخليفة المستنصر باللهـ الفاطمى العبيدى- فقد افترقت الإسماعيلة إلى فرقتين: إحداهما: قالت بأن الإمام بعده ولده نزار، وأن المستنصر نص على ذلك قبل وفاته، و" الإسماعيلية"، وملاحدة العجم وملاحدة الشام تعتقد إمامته، وتزعم أن المستنصر كان قد عهد اليه وكتب اسمه على الدينار والطرز، وأن المستنصر قال للحسن بن صباح: إنه الخليفة من بعده" (1) وهؤلاء ينكرون إمامة المستعلى الذكط تولى الخلافة- بعد أبيهـ ويرون أن خلافته ومن بعده باطلة. والأخرى: المستعلية، يرون صحة إمامة المستعلي ومن قام بعده من الخلفاء بمصر، وبسبب ذلك حدثت فتن بين الطائفتين (2) . ثالثا: لم تكن هذه الحركات الباطنية بعيدة عن الأحداث- خلال تاريخنا الإسلامي- وإنما أخذت تعمل سرا لنشر أفكارها، وتكوين أتباع لها- وذلك خوفا من الخلافة العباسية السنية- وكان بداية ذلك لما ظهرت حماعة من الملاحدة يتزعمهم رجل فارسي مجوسى اسمه: ميمون بن ديصان المعروف بالقداح، وكان قد تظاهر بالإسلام والتشيع، ثم قبض عليه مع جماعة من أصحابه وسجنوا في الكوفة أواخر عهد المنصور العباسى سنة 145 هـ. وفي السجن بدأوا وضع مذهبهم وأسس دعوتهم ثم ظهرت على أثر ذلك حركتان كان لهما دور في التاريخ الإسلامى، إحداهما: ظهور القرامطة، والأخرى: قيام الدولة الفاطمية.   (1) اتعاظ الحنفاء (3/15) . (2) انظر: تاريخ الفارقي (ص: 267) ، واتعاظ الحنفاء (3 / 27) ، والبداية والنهاية (12/148) ، وتاريخ عطا ملك الجوين- جزء منه ضمن دولة الاسماعيلية في إيران (ص: 79 1) ، وانظر الاسماعيلية - لاحسان الهى ظهير (ص: 58 ا - 59 1، 735) ، وانظر: مذاهب الاسلاميين - بدوي (2 / 352) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 رابعا: ولما جاء عهد المماليك واصلوا حربهم للصليبيين والباطنيين وخاصة بعد القضاء على حصونهم في بلاد فارس الذي تم على يد هولاكو. فالظاهر بيبرس قضى عليهم- حصنا بعد الآخر- سنة 670 هـ، وكانوا قبل ذلك يدفعون له الجزية وكان مسيطرا عليهم يعزل وينصب من يريد من زعمائهم، يقول المقريزي في حوادث سنة 671 هـ " وفي ثاني عشر ذي الحجة استولى السلطان على بقية حصون الدعوة الاسماعيلية وهي المينقة والقدموس والكهف، وأقيمت هناك الجمعة وترضى عن الصحابة بها، وعفيت المنكرات منها، وأظهرت شرائع الإسلام وشعائره " (1) . لكن هل انتهى دور الباطنين في بلاد الشام (2) بالقضاء على الاسماعيلية (3) ؟ لقد بقى من طوائفهم طائفتان كان لهم نفوذ في ذلك الوقت، واستمر نفوذهم في بلاد الشام إلى العصر الحاضر. وهما: أ- النصيرية: وهؤلاء سموا بذلك نسبة إلى محمد بن نصير النميرى (4) الذي عاش في القرن الثالث زمن الأئمة الثلاثة الأخيرين من أئمة الشيعة الاثنى عشرية، وزعم أنه الباب للإمام الحادي عشر " الحسن العسكري " وأنكر إمامة المهدي الثاني عشر، وبذلك انفصل عن الاثنى عشرية، وللنصيرية عقائد غالية مشهورة أهمها تأليه علي ابن أبي طالب- رضي الله عنهـ وفي عهد المما ليك كانوا يسكنون السواحل الشامية، وبعض الجبال في الكسروان وغيره، وكانوا موالين أتم الموالاة للنصارى وللتتار، وقد حرص الظاهر بيبرس على القضاء عليهم عن طريق إلزامهم ببناء المساجد   (1) السلوك (1/608) ، وانظر الروض الزاهر (ص: 413) ، والمختصر لأبي الفداء (7/41) . (2) أما في غير بلاد الشام فلا تزال الاسماعيلية باقية إلى اليوم كطائفة مستقلة. (3) المطلع على رحلة ابن بطوطة (1/93) ، حين زار الشام سنة 727 هـ يرى أنه يشير إلى قلاع الإسماعيلية والفداوية ويقول أنهم سهام الناصر قلاوون يصيب بهم أعداءه وعلى هذا الأساس يكرن الظاهر إنما قضى عليهم سياسيا، بحيث لم يصبع لهم دور مستقل. (4) وبعضهم ينسبهم إلى نصير غلام- رضى الله عنهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 في كل قرية، ولكنهم " بنوا بكل قرية مسجدا بعيدا عن العمارة، ولا يدخلونه ولا يعمرونه، وربما أوت إليه مواشيهم ودوابهم وربما وصل الغريب إليهم فينزل بالمسجد، ويؤذن إلى الصلاة فيقولون: لا تنهق علفك يأتيك (1) " استهزاء وسخرية، وفي سنة 717 هـ خرجت النصيرية عن الطاعة، وكان من بينهم رجل سموه محمد بن الحسن المهدي القائم بأمر الله كان تارة يدعى الألوهية لعلى وتارة يدعي أنه محمد بن عبد الله " وخرج يكفر المسلمين وأن النصيرية على الحق، واحتوى هذا الرجل على عقول كثير من كبار النصيرية الضلال، وعين لكل إنسان منهم تقدمة ألف وبلادا كثيرة ونيابات، وحملوا على مدينة جبلة فدخلوها وقتلوا خلقا من أهلها وخرجوا منها يقولون: لا إله إلا علي ولا حجاب إلا محمد ولا باب إلا سلمان، وسبوا الشيخين، وصاح أهل البلد: وا إسلاماه وا سلطاناه وا أميراه، فلم يكن لهم يومئذ نصر ولا منجد .... فجردت لهم العساكر فهزموهم وقتلوا منهم خلقا كثيرا وجما غفيرا وقتل المهدي " (2) . وقد حفظ لنا صاحب صبح الأعشى وثيقة تشتمل على مرسوم أصدره الناصر محمد بن قلاوون سنة 717 هـ يلغى فيه بعض المكوس في المملكة الطرابلسية، ويأمر بإبطال بعض المنكرات، ويذكر منكرات النصيرية، ومما ورد فيه عنهم " ومنها: أن بالأطراف القاصية من هذه المملكة قرى سكانها يعرفون بالنصيرية لم يلج الإسلام لهم قلبا، ولا خالط لهم لبا، ولا أظهروا له بينهم شعارا ... [ثم يقول] : وأما النصيرية فليعمروا في بلادهم بكل قرية مسجدا ... وكذلك رسمنا أيضا بمنع النصيرية من الخطاب (3) وأن لا يمكنوا بعد ورود هذا من الخطاب   (1) رحلة ابن بطوطة المسماة: تحفة النظار في غرائب الأمصار (1/96) ، وانظر: خطط الشام محمد كرد علي (6/263) ، وذكر أن ذلك في القرن التاسع- وهو خطأ، وتبعه على خطئه صاحب الحركات الباطنية في العالم الاسلامى- محمد أحمد الخطيب (ص: 332) . (2) البداية والنهاية (14/83-84) . (3) المقصود بالخطاب عندهم أن يحلفوا من يدخل في دينهم- بعد تعليمه وإطلاعه على أسرارهم- أن يكتم دينه، وشيوخه. انظر: مجموع الفتاوى (35/15) - ضمن السؤال الوارد لابن تيمية، وانظر: صبح الأعشى (13/250) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 جملة كافية، وتؤخذ الشهادة على أكابرهم ومشايخ قراهم لئلا يعود أحد منهم إلى التظاهر بالخطاب، ومن تظاهر به قوبل أشد مقابلة " (1) . ولابن تيمية-رحمه الله- فتوى مشهورة في النصيرية وحقيقة مذهبهم وخطرهم وتعاونهم مع النصارى والتتار، والحكم عليهم وواجب ولاة المسلمين نحوهم (2) . وستأتي الإشارة إلى دور ابن تيمية في قتالهم وإخضاعهم- مع غيرهم من دروز وملاحدة ورافضة جبل كسروان- إن شاء الله تعالى. ب- الدروز: وهم طائفة يقولون بتأليه الحاكم بأمر الله الفاطمي والتناسخ والحلول. وكان أول من دعا إلى ذلك سنة 408 هـ حمزة بن علي بن أحمد الزوزني، وفي نفس الوقت ظهر عدة دعاة على شاكلته منهم: حسن بن حيدرة الفرغاني المعروف بالأخرم، ومحمد بن إسماعيل الروزي، وفي سنة 411 هـ قتل الحاكم بأمر الله - ويزعم الدروز أنه اختفى- فانتقلت هذه الطائفة إلى مناطق أخرى في بلاد الشام، أما في مصر فلم يبق لهم بعد هلاك الحاكم وجود حقيقى (3) . وقد استجاب لهذه الدعوة من القبائل العربية في الشام: بنو تنوخ وآل بحتر، وآل أرسلان، وبعد اعتناقهم لهذا المذهب الباطني تحركوا في سنة 423 هـ إلى جبل السماق، وجاهروا بمذهبهم وأخربوا المساجد، واعتدوا على المسلمين المجاورين، وكثر شرهم، ولكن أهل أنطاكية خافوا من تفاقم أمرهم، فجاءوهم وتلطفوا لهم حتى قبضوا على دعاتهم وأكابرهم وقتلوهم جميعا (4) .   (1) صبح الأعشى (13/ 33-35) ، وانظر: الوثائق السياسية: العهد المملوكى (ص: 5 0 3) وما بعدها. (2) انظر: مجموع الفتاوى (35/145- 160) . (3) انظر في عقائدهم ونشأتهم: أخبار ملوك بني عبيد (ص: 94) وما بعدها، واتعاظ الحنفاء (2/13 1) ، وانظر: الحاكم بأمر الله (ص: 97 1) وما بعدها، و (ص: 4 31) وما بعدها، وتاريخ الدولة الفاطمية (ص:354) وما بعدها. (4) انظر: خطط الشام (1/224) ، والتنوخيون: نديم نايف حمزة (ص: 71) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وبعد مجيء الصليبيين ثم التتار كانوا يتعاونون معهم بما يخدم مصالحهم الخاصة (1) . وكان الدروز متوزعين في أماكن متفرقة من لبنان، ولذلك فقد انضم جزء منهم- من التنوخيين- إلى موالاة المماليك، وصاروا ينخرطون في جنود الحلقة (2) - الذين كانوا فرسانا يأتمرون بأمر السلطان دون أن يكونوا ملكا لهـ وعلى الرغم من سجن ثلاثة من زعمائهم في القاهرة فقد ردت إليهم إقطاعاتهم وصاروا مسؤولين عن الحفاظ على منطقة غرب بيروت (3) . والعجيب أنه حين هاجم جيش السلطان الناصر قلاوون سنة 705 هـ جبل الكسروان- وكان يسكنه النصيرية والرافضة والدروز- كان من ضمن الجيش الذي هاجمهم: التنوخيون الدروز مما أثار جدلا بين بعض الباحثين (4) . ج-- إن الرافضة الاثنى عشرية كانت لهم بعض الأدوار الإفسادية ولذلك تحدث عنهم ابن تيمية حينما ذكر غزوه لجبل الكسروان وهذا الجبل كانت تسكنه طوائف مختلفة من النصيرية والدروز والشيعة وأصحاب العقائد الفاسدة- ففي سنة 704 هـ ذهب إليهم شيخ الإسلام ابن تيمية ومعه نقيب الأشراف زين الدين ابن عدنان وألزموهم شرائع الإسلام، واستتابوا خلقا منهم، كما ذهب إليهم ومعه الأمير قراقوش المنصور وألزموهم بالطاعة وأن يصلحوا ما بينهم وبين التنوخين،   (1) انظر: تاريخ بيروت (ص: 60، 63، 64) ، وانظر: التنوخيرن (ص: 03 1- 0 11) . (2) انظر: نظم دولة سلاطين المماليك ورسومهم في مصر- النظم السياسية- (ص: 149) . (3) تاريخ بيروت (ص: 53-54، 70-85) ، وانظر: التنوخيون (ص: 125) ،وما بعدها. (4) ذكر المقريزى في السلوك (1/902 - 903) ، وابن تيمية كما في رسالته إلى السلطان الناصر - العقود الدرية (ص: 193) أن الحملة على أهل كسروان كانت حملة على الدروز- حساهم ابن تيمية الحاكمية- فإذا علم أن الجيش الذي قاتلهم فيه مئات من التنوخية الدروز فكيف يتم هذا؟ كمال الصليبي- وهو ماروني- أنكر ذلك- كا أنه دافع عن الذين كانوا في الجبل. وقد رد عليه زكي النقاش في كتابه: أضواء توضيحية على تاريخ المارونية (ص: 46- 50) ، و (ص: 63) وما بعدها. كما رد عليه صاحب كتاب التنوخيون (ص: 130) - ومؤلفه درزي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 ولكنهم رفضوا الطاعة (1) فأخذ ابن تيمية ونائب دمشق في الاستعداد لحربهم، يقول ابن كثير في حوادث سنة 705 هـ: " وفي ثانيه [أي المحرم] خرج نائب السلطة بمن بقى من الجيوش الشامية، وقد كان تقدم بين يديه طائفة من الجيش مع ابن تيمية في ثاني المحرم (2) ، فساروا إلى بلاد الجرد والرفض والتيامنة، فخرج نائب السلطنة بنفسه بعد خروج الشيخ لغزوهم، فنصرهم الله عليهم وأبادوا خلقا كثيرا منهم، ومن فرقتهم الضالة ووطئوا أراضى كثيرة من صنع بلادهم، وعاد نائب السلطنة إلى دمشق في صحبته الشيخ ابن تيمية والجيش، وقد حصل بسبب شهود الشيخ هذه الغزوة خير كثير، وأبان الشيخ علما وشجاعة في هذه الغزوة، وقد امتلأت قلوب أعدائه حسدا له وغما (3) . ويقول ابن تيمية بعد هذا النصر المبين عليهم- في كتابه إلى السلطان الناصر قلاوون في مصر- وقد ذكر بعد المقدمات شيئا من عقائدهم: " فأعان الله ويسر بحسن نية السلطان وهمته في إقامة شرائع الاسلام، وعنايته بجهاد المارقين أن غزوا غزوة شرعية كما أمر الله ورسوله، بعد أن كشفت أحوالهم، وأزيحت عللهم، وأزيلت شبههم، وبذل لهم من العدل والإنصاف ما لم يكونوا يطمعون به، وبين لهم أن غزوهم اقتداء بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب- رضى الله عنهـ في قتال الحرورية المارقين الذين تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر بقتالهم ... " (4) . ثم ذكر السبب في أخذ أموالهم وأنه كونهم خارجين عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - وسنته، ثم ذكر أنهم شر من التتار من وجوه متعددة، لكن التتر أظهر وأقوى   (1) البداية والنهاية (14/ 35) ، والسلوك (2/ 12) ، وتاريخ بيروت (ص: 27) . (2) هكذا، ولعل الصواب في ذي الحجة كما أفاده كلام ابن عبد الهادي في العقود، فإن قال (ص: 81 ا-182) " وتوجه نائب السلطنه الأمير جمال الدين الأفرم بمن تأخر من عسكر دمشق إليهم لغزوهم واستئصالهم في ثاني شهر المحرم من سنة خمس وسبعمائة، وكان قد توجه قبله العسكر طائفة بعد طائفة في ذي الحجة ". (3) البداية والنهاية (14/35) ، وانظر: مصر والشام في عصر الأيوبيين والمماليك (ص: 4 31- 9 31) وا نظر: التنو خيون (ص: 28 1- 0 3 1) . (4) العقود الدرية (ص: 87 ا-88 1) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 فلذلك يظهر كثرة شرهم، ثم ذكر السبب في قطع أشجارهم وتخريب بلادهم، ثم قال: " وأيضا فإنه بهذا قد انكسر من أهل البدع والنفاق بالشام ومصر والحجاز واليمن والعراق ما يرفع الله به درجات السلطان ويعز به أهل الإيمان " (1) ، ثم قال ابن تيمية: " فصل: تمام هذا الفتح وبركته تقدم مراسم السلطان بحسم مادة أهل الفساد وإقامة الشريعة في البلاد، فإن هؤلاء القوم لهم من المشايخ والإخوان في قرى كثيرة من يقتدون بهم وينتصرون لهم، وفي قلوبهم غل عظيم، وإبطان معاداة شديدة، لا يؤمنون معها على ما يمكنهم ولو أنه مباطنة العدو، فإذا أمسك رؤوسهم الذين يضلونهم- مثل بنى العود (2) - زال بذلك من الشر ما لا يعلمه إلا الله، ويتقدم إلى قراهم وهي قرى متعددة بأعمال دمشق، وصفد، وطرابلمس، وحماة، وحمص، وحلب، بأن تقام فيهم شرائع الاسلام، والجمعة، والجماعة، وقراءة القرآن، ويكون لهم خطباء ومؤذنون كسائر قرى المسلمين، وتقرأ فيهم الأحاديث النبوية وتنشر فيهم المعا لم الإسلامية ويعاقب من عرف منهم بالبدعة والنفاق بما توجبه شريعة الإسلام، فإن هؤلاء الحماربين وأمثالهم قالوا: نحن قوم جبال، وهؤلاء كانوا يعلموننا ويقولون لنا: أننا إذا قاتلنا هؤلاء تكونون مجاهدين، ومن قتل منكم فهو شهيد، وفي هؤلاء خلق كثير لا يقرون بصلاة، ولا صيام، ولا حج ولا عمرة، ولا يحرمون الميتة والدم، ولحم الخنزير، ولا يؤمنون بالجنة والنار، من جنس الاسماعيلية والنصيرية، والحاكمية، والباطنية، وهم كفار أكفر من اليهود والنصارى بإجماع المسلمين " (3) . وسئل ابن تيمية عن حكم قتالهم فأفتى بجواز ذلك إذا كانوا ممتنعين، وشرح حالهم والحكم عليهم وهى فتوى عظيمة (4) .   (1) المصدر السابق (ص: 191) . (2) على رأسهم: أبو القاسم الحسين بن العود، نجيب الدين الأسدى الحلبى، شيخ الشيعة وإمامهم وعالمهم في أنفسهم، ولد سنة 581 هـ، وتوفي سنة 677 هـ. البداية والنهاية (13/287) ، وهؤلاء الموجودون الذين يشير إليهم ابن تيمية من أولاده وأتباعه. (3) العقود الدرية (ص: 92 ا-193) . (4) انظر: نصها في مجموع الفتاوى (28/468- ا 50) ، بل قال لما بين إنهم شر من اليهود= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وفي عام 706 هـ صدر أمر برفع أيدي الرافضة عن كسروان وإقطاعها للأمراء التركمان (1) . سادسا: بداية ظهور التحاكم إلى غير الشريعة : هذه مسألة من المسائل المهمة التي تميز بها هذا العصر عن العصور التي سبقته، فقد عاش المسلمون منذ بدء الإسلام وانتشاره في البلاد التي فتحوها لا يعرفون نظاما وحكما إلا ما جاءت به شريعة الاسلام، ولا يعني هذا أن الظلم والجور لم يقع، ولا أن سفك الدماء وأخذ الأموال بالباطل لم يوجد، بل حدث من جور بعض السلاطين في العهد الأموي والعباسي وغيرهما- كما وجد من ظلم الولاة وغيرهم ممن قد تكون له سلطة- الشىء الكثير، بل وجد من الفتن والمحن التي أحاطت ببعض المسلمين أو ببعض أمصارهم ما هو مسطور في كتب التاريخ التى ألفها مؤرخون مسلمون، ولكن مع هذا كله كانت هذه المخالفات تقع وترتكب على أنها أمور مخالفة للإسلام أملاها الهوى أو الانتقام أو غير ذلك من الأسباب، ولذلك إذا تولى الحاكم أو السلطان العادل رد هذه المظا لم وانتصر لأصحابها بما يوافق شريعة الإسلام، ومذهب أهل السنة والجماعة أنه لا يجوز الخروج على الأئمة وإن جاروا أو ظلموا، وهذا فيه إقرار أن الظلم والجور قد يقع ولكنه لا يجوز أن يكون مبررا للخروج عليهم وخلع الطاعة ما لم يصل إلى الكفر البواح، أما أن يوجد نظام أو قانون- مخالف للشريعة- ويكون بوسع هذه الطائفة أو الدولة أن تتحاكم إليه مع انتسابها للإسلام فهذا لم يحدث إلا في هذا العصر الذي نتحدث عنه، وإذا وجد من الدول من حكم بعض بلاد المسلمين وفرض عقائد وسن شرائع مخالفة للاسلام وفرضها عليهم، فهؤلاء خارجون عن الإسلام، وذلك كالدولة الفاطمية التي قال عنها ابن تيمية:   (1) = والنصارى وأن كل طائفة ممتنعة يجب قتالها ... قال: " وليس هذا مختصا بغالية الرافضة، بل من غلا في أحد من المشايخ وقال: إنه يرزقه أو يسقط عنه الصلاة ... وكل هؤلاء كفار يجب قتالهم بإجماع المسلمين ". (1) انظر: تاريخ بيروت (ص: 29) ، والسلوك (2/16) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 " فإن القاهرة بقي ولاة أمورها نحو مائتي سنة على غير شريعة الإسلام، وكانوا يظهرون أنهم رافضة، وهم في الباطن إساعيلية ونصيرية وقرامطة باطنية، كما قال فيهم الغزالي-رحمه الله- تعالى- في كتابه الذي صنفه في الرد عليهم " ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض ". واتفق طوائف المسلمين: علماؤهم وملوكهم وعامتهم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم على أنهم كانوا خارجين عن شريعة الإسلام، وأن قتالهم كان جائزا، بل نصوا على أن نسبهم كان باطلا .... والذين يوجدون في بلاد الإسلام من الاسماعيلية والنصيرية والدرزية وأمثالهم من أتباعهم، وهم الذين أعانوا التتر على قتال المسلمين (1) ، وكان وزير هو! والنصير الطوسى من أئمتهم " (2) . وهذا الذي استجد في هذا العصر جاء مع ظهور التتار وهجومهم على العالم الإسلامى. وهؤلاء التتار كان يحكمهم نظام وقانون وضعه لهم زعيمهم جنكيزخان يسمى بالياسا، أو الياسق، وهذا القانون كانوا يطبقونه بحذافيره، وصارت له عندهم قداسة، وفي هجومهم على المسلمين حملوه معهم وطبقوه. وكلمة " ياسا" وقد يقال: ياسه، أو يساق أو يسق (3) ، كلمة مغولية [تركية] تعني قانون التتار الذى وضعه زعيمهم، يقول المقريزى- في أثناء ذكره لمهمات "الحجاب "- حجاب السلاطين- في عهده: وأن متوليها مهمته أن ينصف من الأمراء والجند، تارة بنفسه، وتارة بمشاورة السلطان، وتارة بمشاورة النائب،   (1) من العجيب- وابن تيمية يشير إلى تعاون الرافضة مع التتر- أن من نصوص قانون التتار الياسق الذي ذكرهـ أو بعضهـ المقريزي في خططه نصا يأمر بتمييز ولد علي بن أبي طالب- رضي الله عنهـ وأن لا يكون عليهم كلفة ولا مؤنة: يقول: " وشرط أن لا يكون على أحد من ولد علي ابن أبي طالب- رضى الله عنهـ مؤنة ولا كلفة ". الخطط (2/220) . (2) مجموع الفتاوى (28/635-636) . (3) في تاج العروس (7/98) - مما استدركه في فصل الياء مع القاف- قال عن كلمة " يساق "، " كسحاب" وربما قيل يسق بحذف الألف، والأصل فيه يساغ، بالغين المعجمة، وربما خفف فحذف، وربما قلب قافا، وهي كلمة تركية يعبر بها عن وضع قانون المعاملة "، ولما كان معظم الجزاءات المنصرص عليها في نظام الياسا الاعدام صار من معاني هذه الكلمة القتل أو الموت. انظر: المغول في التاريخ (ج-1 ص: 338) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وأن حكم الحاجب كان " لا يتعدى النظر في مخاصمات الأجناد واختلافهم في أمور الإقطاعات ونحو ذلك، ولم يكن أحد من الحجاب فيما سلف يتعرض للحكم في شيء من الأمور الشرعية كتداعي الزوجين وأرباب الديون، وإنما يرجع ذلك إلى قضاة الشرع، ولقد عهدنا دائما أن الواحد من الكتاب أو الضمان ونحوهم يفر من باب الحاجب ويصير إلى باب أحد القضاة ويستجير بحكم الشرع فلا يطمع أحد بعد ذلك في أخذه من باب القاضي .... " (1) ، ثم ذكر المقريزي التطور الذي حدث بعد ذلك لمهمات الحجاب فقال: " ثم تغير ما هنالك وصار الحاجب اليوم (2) اسما لعدة جماعة من الأمراء ينتصبون للحكم بين الناس ... وصار الحاجب اليوم يحكم في كل جليل وحقر بين الناس سواء كان الحكم شرعيا أو سياسيا بزعمهم، وإن تعرض قاض من قضاة الشرع لأخذ غريم من باب الحاجب لم يمكن من ذلك " (3) ، ثم قال: " وكانت أحكام الحجاب أولا يقال لها حكم السياسة وهي لفظة شيطانية لا يعرف اكثر أهل زمننا اليوم أصلها، ويتساهلون في التلفظ بها، ويقولون: هذا الأمر مما لا يمشي في الأحكام الشرعية وإنما هو من حكم السياسة ويحسبونه هينا وهو عند الله عظيم " (4) ، ثم ذكر المقريزي معنى " الشرع " ومعنى " السياسة " في اللغة، وأن السياسة نوعان: سياسة عادلة وهي السياسة الشرعية وقد ضنف فيها كتب متعددة، وسياسة ظالمة، وأن الشريعة تحرمها. ثم عرض لأصل هذه الكلمة وغلط الذين يظنون أن أصلها كلمة عربية فقال: " وليس ما يقوله أهل زماننا في شيء من هذا، وإنما هي كلمة فعلية أصلها ياسة، فحرفها أهل مصر وزادوا بأولها سينا فقالوا سياسة، وأدخلوا عليها الألف واللام فظن من لا علم عنده أنها كلمة عربية، وما الأمر فيها إلا ما قلت لك واسمع الآن كيف نشأت هذه الكلمة حتى انتشرت   (1) 1 لخطط (2/219) . (2) توفي المقريزي: تقى الدين أبو العباس أحمد بن على سنة845، وكان مولده سنة 766 هـ، انظر: اللامع (2/ 1 2) ، والبدر الطالع (1/79) ، والأعلام (1/77) . (3) 1 لخطط (219-220) . (4) المصدر السابق (ص: 220) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 بمصر والشام وذلك أن جنكزخان القائم بدولة التتر في بلاد الشرق لما غلب الملك أونك خان، وصارت له دولة قرر قواعد وعقوبات أثبتها في كتاب سماه ياسة، ومن الناس من يسميه يسق، والأصل في اسمه ياسة، ولما تمم وضعه كتب ذلك نقشا في صفائح الفولاذ، وجعله شريعة لقومه، فالتزموه بعده حتى قطع الله دابرهم، وكان جنكزخان لا يتدين بشيء من أديان أهل الأرض كما تعرف هذا إن كنت أشرفت على أخباره، فصار الياسة حكما بتا بقى في أعقابه لا يخرجون عن شيء من حكمه" (1) . وقد نقل القلقشندى (2) عن علاء الدين الجويني (3) - الذى كان أحد خواص كتبة أرغون زعيم التتار وكان هجوم هولاكو على بغداد في عهدهـ أنه قال: " ومن عادة بني جنكزخان؛ أن كل من انتحل منهم مذهبا لم ينكره الآخر عليه " (4) ، ثم ذكر القلقشندي الياسة فقال: " ثم الذي كان عليه جنكزخان في التدين وجرى عليه أعقابه بعده الجرى على منهاج ياسة التي قررها، وهي قوانين ضمنها من عقله وقررها من ذهنه، رتب فيها أحكاما وحدد فيها حدودا ربما وافق القليل منها الشريعة المحمدية وأكثرها مخالف لذلك سماها الياسة الكبرى، وقد اكتتبها وأمر أن تجعل في خزانته تتوارث عنه في أعقابه وأن يتعلمها صغار أهل بيته " (5) ، ويقول ابن كثير " وأما كتابه الياسة فإنه يكتب في مجلدين بخط غليظ، ويحمل على بعير عندهم " (6) .   (1) الخطط (2/320) . (2) أحمد بن علي بن أحمد الفزاري ولد سنة 756 هـ، وتوفي سنة 1 82 هـ، الضوء اللامع (2/ 8) ، والأعلام (1/ 177) . (3) هو: علاء الدين عطا ملك الجويني، اشتغل هو وأبوه في خدمة المغول، ولد سنة 623 هـ، وتوفي سنة 686 هـ. دولة الاسماعيلية في إيران (ص: 127-138) ، والجوينى أحد الذين أرخوا للمغول، وعليه وعلى المؤرخ الآخر رشيد الدين، إعتمد كثير من المؤرخين في تاريخهم للمغرل، ومنهم ابن كثير في ترجمته لجنكزخان البداية والنهاية (13/117) . (4) صبح الأعشى (4/310) . (5) المصدر السابق (4/310- 311) .. (6) البداية والنهاية (13/118) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 ومن نصوص هذا الياسة: " أن من زنى قتل- ولم يفرق بين المحصن وغير المحصن- ومن لاط قتل، ومن تعمد الكذب أو سحر أو تجسس على أحد، أو دخل بين اثنين وما يتخاصمان وأعان أحدهما على الآخر قتل، ومن بال في الماء أو على الرماد قتل، ومن أعطى بضاعة فخسر فيها فإنه يقتل بعد الثالثة، ومن أطعم أسير قوم أو كساه بغير إذنهم قتل .... وأن من ذبح حيوانا كذبيحة المسلمين ذبح .... وشرط تعظيم جميع الملل من غير تعصب لملة على أخرى ... وألزمهم أن لا يدخل أحد منهم يده في الماء ولكنه يتناول الماء بشيء يغترفه، ومنعهم من غسل ثيابهم بل يلبسونها حتى تبلى، ومنع أن يقال لشيء: إنه نجس، وقال جميع الأشياء طاهرة ولم يفرق بين طاهر ونجس وألزمهم أن لا يتعصبوا لشيء من المذاهب، (1) ومما يلفت الانتباه أن من ضمن هذا القانون أن السلطان ألزم بإقامة البريد حتى يعرف أخبار مملكته بسرعة (2) . هذا هو نظام الياسة الذى وضعه زعيم التتار و" لما مات التزم من بعده من أولاده، وأتباعهم حكم الياسة كالتزام أول المسلمين حكم القرآن، وجعلوا ذلك دينا لم يعرف عن أحد منهم مخالفته بوجه " (3) . هذه أحوال التتار وأنظمتهم لما هاجموا العالم الاسلامي، ولكن حدث لهم تطور- أشرنا إليه عند الحديث عنهم-، وذلك بدخولهم في الإسلام، وإعلان زعيمهم قازان الإسلام، ودخل كثير من التتار الإسلام. ولكن صاحب إسلام هؤلاء التتر عدة أمور- مخالفة لما يجب أن يكون عليه المسلم- ومنها: أ- مهاحمتهم لبلاد المسلمين ف! الشام وغيره، ومقاتلتهم ونهب أموالهم وغير ذلك من الفساد.   (1) الخطط (2/220-221) . (2) المصدر السابق، والملاحظ أيضا أنه في آخر العهد العباسى ألغى نظام البريد فكان ذلك من العوامل التي ساعدت على ضعف مقاومة المسلمين للتتار. (3) المصدر السابق (2/ 221) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 ب- تعظيم نظامهم الياسق، وتنفيذ بعض بنوده ولو كانت مخالفة للشريعة االإسلامية. ج-- تعطل بعض شرائع الإسلام، مثل إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والكف عن دماء المسلمين، وضرب الجزية على اليهود والنصارى، وغير ذلك. د- إقرار المنكرات، مثل أماكن الخمور والزنا، والسماح للنصارى بتعليق الصلبان، كما حدث في بيت المقدس والخليل زمن التتار. ولكنهم مع هذا يعلنون إسلامهم وإقرارهم بالشهادتين، بل ويزعم قازان في رسائله إلى السلطان الناصر قلاوون أنهم كلهم أهل ملة واحدة، شرفهم الله بدين الإسلام وأنه دافع عن أهل ماردين الذين هاجمهم بعض جنود المماليك، وأنه إنما يقاتلهم لما أخذته الحمية الإسلامية، وفي مرسوم آخر أصدره لما احتل دمشق يتهم فيه حكام مصر والشام بأنهم خارجون عن طريق الدين، غير متمسكين بأحكام الإسلام (1) . أمام هذه الأوضاع والدعاوي، ومع نشوب الحرب بين أهل الشام والتتار وقع الناس في حيرة من هذه المسألة، كيف يقاتلون التتر وهم يدعون الإسلام، ويعلنون الشهادتين؟، ولم تقتصر هذه الحيرة على عامة الناس، بل إن العلماء والفقهاء أيضا وقعوا في حيرة، واحتاج الأمر إلى وضوح الحكم في هذه المسألة الواقعية، وبيان الحق فيها، حتى يسير الناس وهم على الهدى، فكان ممن انتدب، وندب نفسه لبيانها شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- تعالى- وجاء ذلك على محورين: محور علمي: يبين حكم هؤلاء التتار، وقد وردت عدة أسئلة وجهت إلى ابن تيمية حول هؤلاء الذين يعلنون الشهادتين، ويقتلون المسلمين، ويسبون بعض ذراري المسلمين ويهتكون حرمات الدين من إذلال المسلمين، وإهانة المساجد لاسيما بيت المقدس .... وادعوا مع ذلك تحريم قتال مقاتلهم   (1) انظر: نصوص رسائل قازان إلى الناصر قلاوون وأجوبته عليها في وثائق الحروب الصليبية والغزو المغولي (ص: 383-3 5 4) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 لما زعموا من اتباع أصل الإسلام فهل يجوز قتالهم؟ وفي سؤال آخر إضافة إلى ما سبق: وما حكم من يكون من عسكرهم من المنتسبين إلى العلم والفقه والفقر والتصوف ونحو ذلك؟ ومايقال فيمن زعم أنهم مسلمون، والمقاتلون لهم مسلمون، وكلاهما ظا لم فلا يقاتل مع أحدهما .... أفتونا في ذلك بأجوبة مبسوطة شافية، فإن أمرهم قد أشكل على كثير من المسلمين، بل على أكثرهم، تارة لعدم العلم بأحوالهم، وتارة لعدم العلم بحكم الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في مثلهم، وفي سؤال آخر: سئل عن أجناد يمتنعون عن قتال التتار، ويقولون: إن فيهم من يخرج مكرها معهم، وإذا هرب أحدهم هل يتبع أم لا؟ وفي سؤال سئل عن أموالهم هل أخذها حلال أو حرام؟. وقد أجاب ابن تيمية عن هذه الأسئلة بأجوبة واضحة كل الوضوح، وبناها على قاعدة في الفتوى عزيزة، لازمة لكل من يتصدى للفتوى- خاصة في المسائل المستجدة- فقال في أحد الأجوبة: " نعم، يجب قتال هؤلاء بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق أئمة المسلمين، وهذا مبني على أصلين: أحدهما: المعرفة بحالهم. والثاني: معرفة حكم الله في مثلهم. فأما الأول: فكل من باشر القوم يعلم حالهم، ومن لم يباشرهم يعلم ذلك بما بلغه من الأخبار المتواترة وأخبار الصادقين، ونحن نذكر جل أمورهم بعد أن نبين الأصل الآخر الذي يختص بمعرفته أهل العلم بالشريعة الإسلامية فنقول: كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين وإن تكلمت في الشهادتين، فإذا أقروا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلوات الخمس وجب قتالهم حتى يصلوا، وإن امتنعوا عن الزكاة وجب قتالهم حتى يؤدوا الزكاة، وكذلك إن امتنعوا عن صيام شهر رمضان أو حج البيت العتيق، وكذلك إن امتنعوا عن تحريم الفواحش، أو الزنا، أو الميسر، أو الخمر، أو غير ذلك من محرمات الشريعة، وكذلك إن امتنعوا عن الحكم في الدماء والأموال والأعراض والأبضاع ونحوها بحكم الكتاب والسنة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وكذلك إن امتنعوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار إلى أن يسلموا ويؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وكذلك إن أظهروا البدع الخالفة للكتاب والسنة واتباع سلف الأمة وأئمتها: مثل أن يظهروا الالحاد في أسماء الله وآياته، أو التكذيب بأحماء الله وصفاته، أو التكذيب بقدره وقضائه، أو التكذيب بما كان عليه جماعة المسلمين على عهد الخلفاء الراشدين، أو الطعن في السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، أو مقاتلة المسلمين حتى يدخلوا في طاعتهم التى توجب الخروج عن شريعة الإسلام، وأمثال هذه الأمور .... " (1) ، ثم ذكر الأدلة من الكتاب والسنة وفعل الصحابة مع المرتدين والخوارج وغيرهم، ثم قال: " وأما الأصل الآخر وهو معرفة أحوالهم [أي التتار] فقد علم أن هؤلاء القوم جازوا على الشام في المرة الأولى عام تسعة وتسعين [بعد الستمائة] وأعطوا الناس الأمان وقرأوه على المنبر بدمشق، ومع هذا فقد سبوا من ذراري المسلمين ما يقال: إنه مئة ألف أو يزيد عليه وفعلوا ببيت المقدس وبجبل الصالحية ونابلس وحمص وداريا وغير ذلك من القتل والسبي ما لا يعلمه إلا الله، حتى يقال: إنهم سبوا من المسلمين قريبا من مئة ألف، وجعلوا يفجرون بخيار نساء المسلمين في المساجد وغيرها، كالمسجد الأقصى والأموي وغيره، وجعلوا الجامع الذي العقبه دكا؛ وقد شاهدنا عسكر القوم، فرأينا جمهورهم لا يصلون ولم نر في معسكرهم مؤذنا ولا إماما، وقد أخذوا من أموال المسلمين وذراريهم وخربوا من ديارهم ما لا يعلمه إلا الله .... وهم يقاتلون على ملك جنكزخان، فمن دخل في طاعتهم جعلوه ولما لهم، وإن كان كافرا، ومن خرج عن ذلك جعلوه عدوا لهم وإن كان من خيار المسلمين، ولا يقاتلون على الاسلام ولا يضعون الجزية والصغار " (2) ، ثم بين كيف أنهم يعظمون جنكزخان ويقرنونه بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويقدسون تعاليمه، ثم قال: " ومعلوم بالاضطرار من دين الاسلام باتفاق جميع المسلمين أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام،   (1) مجموع الفتاوى (28/510- 511) . (2) مجموع الفتاوى (28/519- 521) .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 أو اتباع شريعة غير شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر وهو ككفر من أمر ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب " (1) ، ثم تحدث عن وزرائهم، وإظهارهم الرفض، ثم أجاب عن بقية التساؤلات والشبهات (2) . هذا هو المحور الأول، أما المحور الثاني فهو: المحور العملي، وذلك بالحض على جهاد هؤلاء التتار وإعلان جهادهم، حتى انه ذهب من الشام إلى مصر ليلتقى بالسلطان ومن حوله من الأمراء والوزراء ليحضهم على جهادهم، وجمع الجيوش لقتالهم، وكان لابن تيمية في هذا الجهاد والإعداد له، وقيادة بعض فصائله ما هو مشهور ومسطور وقد أشار إلى هذه المسألة- مسألة شبهة مقاتلة التتار مع ادعائهم الاسلام- ابن كثير-رحمه الله- وهو يعرض لبعض وقائعهم، فقال عن وقعة " شقحب ": " وقد تكلم الناس في كيفية قتال هؤلاء التتر من أي قبيل هو؟ فإنهم يظهرون الإسلام وليسوا بغاة على الإمام، فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه "، فقال الشيخ تقي الدين [ابن تيمية] : " هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما. وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصى والظلم، وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، فتفطن العلماء والناس لذلك، وكان يقول للناس: إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسى مصحف فاقتلوني، فتشجع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم ونياتهم ولله الحمد " (3) ، وابن كثير يقول لما ذكر الياسة وبعض أحكامه، " وفي ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحام إلى الياسة وقدمها عليه؟ من فعل ذلك كفر بإحماع المسلمين " (4) وقال في تفسير قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]   (1) المصدر السابق (28/524) . (2) انظر: مجمرع الفتاوى (ج- 28، ص: 1 50-553، وص: 589) . (3) البداية والنهاية (14/23-24) . (4) البداية والنهاية (13/119) .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 "ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة من ملكهم جنكزخان، الذي وضع لهم اليساق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعا متبعا، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير " (1) . وهكذا أوضح ابن تيمية وتلامذته من بعده حكم هذه المسألة، وكان الجواب حاسما في بيان الحكم، وقويا في جهاد هؤلاء التتار وإبعاد خطرهم عن المسلمين. * * * وهناك أمر آخر - له علاقة بهذا الموضوع - وجد في عهد المماليك، ألا وهو إعطاء الامتيازات للأجانب - من النصارى وغيرهم - داخل الدولة الإسلامية، وكان الباعث على ذلك حرص المماليك على تنشيط التجارة، وكانت التجارة أكثر ما تكون في ذلك الوقت مع الهند وما جاورها، ومع أوربا، وبالأخص الأندلس وإيطاليا، وقد حرص المماليك على أن رد التجار ببضائعهم المختلفة وتجاراتهم إلى دولة المماليك، فقد أصدر المنصور قلاوون بيانا يعلن فيه - بعد مدح ممالك مصر والشام- حسن معاملة من يرد من التجار غير المسلمين والوفاء بالعهود لهم، كا أوصى بإعادة النظر فى ثغر الإسكندرية وأن يحرص الناظر   (1) تفسير ابن كثير (3/122-123) ، ط الشعب، وانظر: عمدة التفسير لأحمد شاكر (4/173) ، وتعليقه على هذا الموضوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 - في ضمن مهامهـ على معاملة التجار الواردين إليه بالعدل والرفق، وأن لايسلك بهم حالة تجلب لهم القلق والتظلم (1) . وكانت تتم أحيانا معاهدات- مع النصارى- تتضمن ما يتعلق بالأمور التجارية، وكان حكام المماليك في موقف الأقوى- خاصة بعد نهاية الحروب الصليبية بالشام-، وفي عهد المنصور قلاوون- في سنة 686 هـ- عقد صلح مع ملك أرغون- حاكم برشلونه في الأندلس، ومع أخيه صاحب صقلية- وكان ضمن هذا الصلح- الذي ينص على حماية كل بلد لتجار ومراكب وسفن البلد الآخر- نص يقول: " وعلى أنه متى كانت بين تجار المسلمين وتجار بلاد الريدراغون [أي ملك أرغون في شرق الأندلس] معاملة في بضائعهم وهم في بلاد مولانا السلطان كان أمرهم محمولا على موجب الشرع الشريف " (2) . ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، وإنما تعداهـ تشجيعا للتجار- إلى إعطائهم كثيرا من الامتيازات، بحيث جعلت لهم فنادق يسكنون فيها، وصار لهم قنصل دائم يتحدث باسم الممالك التي ينتمون إليها، وتطور الأمر إلى ما هو أخطر وذلك بالسماح لهم بإحضار الخمور ليستعملوها هم، وكذلك يتحاكمون إلى قناصلهم حسب قوانينهم لا حسب الشريعة (3) . سابعا: الجوانب العلمية والعقائدية : إذا كان هذا العصر- عصر المماليك- قد تميز بأنه عصر جهاد ومقاومة لأعداء الإسلام من المغول والصليبيين، الذين أرادوا أن يحطموا الإسلام وما يحمله من حضارة وعلوم ومعارف كانت محط أنظار العالم أجمع، وإذا كان المماليك   (1) انظر: صبح الأعشى (1 1/ 0 4- 42، 9 1 4-423) ، وأيضا (13/339- 342) . (2) تشريف الأيام والعصرر (ص: 161) ، وانظر نص الهدنة (ص: 56ا-164) ، وانظر صلحا آخر مابها مع أهل جنوة (ص: 165-169) . (3) انظر في هذه القضية: تشريف الأيام والعصور (ص: 51) من مقدمة المحقق، وانظر: بحوث ودراسات في تاريخ العصور الوسطى (ص: 31 ا- 140) ، ودراسات في تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب (ص: 02 ا-19 1) ، ودولة بني قلاوون (ص: 339-346) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 قد قاموا بدور عظيم في الجهاد والعناية بكل ما يدعمه وينمى جيوشه وأساطيله، فلا يعنى هذا أن هذه الأمور طغت عليه فلم يتميز بجوانب أخرى. لقد برزت الناحية العلمية- التى قادها علماء كبار- في شتى التخصصات، في التفسير والحديث والفقه والتاريخ والتراجم واللغة وغيرها، كما عنى علماء هذا العصر بالتأليف الموسوعي، وهذه المؤلفات وإن كان يغلب عليها الجمع والنقل عن السابقين، إلا أنها لا تخلو من بحوث لموضوعات جديدة، كما أنها حفظت لنا كثيرا من كتب السابقين المفقودة. لقد برز في هذا العصر أعلام أمثال: النووي والعز بن عبد السلام، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وبدر الدين بن جماعة، كما برز الذهبى والصفدي وابن حجر العسقلافي، والبدر العينى، وابن تغري بردي والمقريزي والسيوطي والقلقشندي وغيرهم ممن أصبحت مؤلفاتهم- في العصر الحاضر- من أشهر المؤلفات وأكثرها فائدة للعلماء والباحثين. ولم يكن العلماء قابعين في بيوتهم للتأليف والجمع فقط وإنما كانوا يقومون بدور كبير في التدريس والقضاء، والأمر بالمعروف والهي عن المنكر، وقد وجد في هذا العصر من كانت له مواقف مشهودة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كالإمام النووي [توفي سنة 676 هـ] الذي كتب إلى السلطان الظاهر بيبرس من ضمن ما كنب يقول- في جواب على جواب السلطان الذي يحمل التوبيخ والتهديد-: " وأما أنا في نفسي فلا يضرني التهديد ولا أكثر منه، ولا يمنعنى ذلك من نصيحة السلطان فإني أعتقد أن هذا واجب علي وعلى غيري، وما ترتب على الواجب فهو خير وزيادة عند الله تعالى .... " (1) ، أما مواقف العز ابن عبد السلام وشيخ الإسلام ابن تيمية فهي مشهورة.   (1) ترجمة النووى للسخاوى (ص: 42) ، وحسن المحاضره (2/ 100) ، وانظر: تفاصيل موقف النووي ورسائله في هذا الموضوع في المصدرين السابقين، في ترجمته للسخاوي (ص: 40- هـ ه) ، وحسن المحاضرة (2/97- 5 10) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 أما الناحية العقدية - في هذا العصر- فلتوضيحها نعرض لأحوال أهل الذمة ثم إلى انتشار التصوف والشركيات، وأخيرا نعرض إلى انتشار المذهب الأشعري. أولا: أهل الذمة: لأهل الذمة أحكام ذكرها العلماء، وأشهر ما جع في ذلك ما ورد في الشروط العمرية- نسبة الى عمر بن الخطاب- رضي الله عنهـ (1) ، ثم لما تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز-رحمه الله- كانت له مواقف من أهل الذمة (2) ، وقد اهتم العلماء في هذه المسألة وأبرز من اهتم بها وذكر فيها روايات عديدة عبد الرزاق الصنعاني [المتوفي سنة 211 هـ] وذلك ضمن موسوعته الحديثية " المصنف " وسماه " كتاب أهل الكتابين " (3) ، ولعل سر اهتمامه بذلك كونه عاش في اليمن حيث يوجد هناك بعض اليهود والنصارى. وقد بقى أهل الذمة في العالم الإسلامي غالبا ما يلتزمون هذه الشروط العمرية- سواء منها ما يتعلق باللباس المميز لهم أو غيره -، حتى إذا جاء الفاطميون واحتلوا مصر وهم يحملون معهم المذهب الشيعي الغالي الخالف لمذهب جمهور المسلمين السنيين، ورأوا أنه لا يمكن الاعتماد- كليا- على أهل السنة الموالين للخلافة العباسية، قرب الخلفاء الفاطميون أهل الذمة من اليهود والنصارى وولوهم مناصب كبيرة في الدولة بلغت أحيانا مرتبة الوزارة، وقد عمل هؤلاء - حتى ولو كانوا من اليهود- على التساع مع النصارى وتوظيفهم، وبناء الكنائس، وبلغ من تعاطف! بعض الخلفاء الفاطميين مع النصارى أن صاروا يحتفلون معهم بأعيادهم الخاصة بهم وقد لقى المسلمون من جراء هذه الأمور   (1) انظر: نص هذه الشروط والكلام حول رواياتها ثم شرحها في أحكام أهل الذمة لابن القيم (2/657) وما بعدها. وانظر الأموال لأبي عبيد (ص: 23 1) وما بعدها، وانظر: معالم القرية (ص: 94) ، ونهاية الرتبة (ص: 106) . (2) انظر: سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي (ص: 81) ولابن عبد الحكم (ص: 140) . (3) المصنف (0 1/1 1 3-378) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 أذى ومصاعب كثيرة (1) . وفي عهد المماليك - صارت الدولة تلزم رؤساء الطوائف بعد تعيينهم أن يلتزموا ويلزموا أتباعهم بالشروط المعروفة على أهل الذمة، وأن يلتزموا أيضا بالقيود المفروضة عليهم من تميزهم باللباس، وكانت هذه الأوامر تخف أحيانا بحيث لا يلتزمها أهل الذمة، ثم إذا طالت المدة - ووجد سبب معين - أعيد الأمر بالتزامها وشدد عليهم في ذلك. وكان من أبرز المراسيم الصارمة الصادرة في حق أهل الذمة المرسوم الصادر سنة 700هـ - في عهد السلطان قلاوون - بالزامهم بأحكام أهل الذمة من لباس ومركوب، وعدم استخدامهم في الوظائف الديوانية، وكان لنائب السلطان: الجاشنكير دور كبير في ذلك (2) . وفي سنة 709هـ لما عاد السلطان محمد بن قلاوون في سلطنته الثالثة، وأمر بإطلاق ابن تيمية - من السجن - وقدمه - فلما جلس ومعه العلماء والقضاة عرض الوزير (3) على السلطان أن أهل الذمة قد عرضوا أن يدفعوا للديوان سبعمائة ألف في كل سنة زيادة على الحالية، على أن يعودوا إلى لبس العمائم البيض - كالمسلمين - فاستشار السلطان العلماء " فقال لهم: ما تقولون؟ يستفتيهم في ذلك، فلم يتكلم احد، فجثى الشيخ تقي الدين على ركبتيه، وتكلم مع السلطان في ذلك بكلام غليظ ورد على الوزير ما قاله ردا عنيفا، وجعل يرفع صوته والسلطان يتلافاه ويسكنه بترفق وتؤدة وتوقير، وبالغ الشيخ في الكلام وقال ما لا يستطيع أحد أن يقوم بمثله ولا بقريب منه، وبالغ في التشنيع   (1) انظر: الدولة الفاطمية - سرور - (ص86) وما بعدها، وانظر: أهل الذمة في مصر في العصور الوسطى (ص51) ، وانظر أيضا: الفاطميون في مصر - حسن ابراهيم حسن (ص199) وما بعدها. (2) انظر صبح الأعشى (13/ 377) ، والبداية والنهاية (14/ 16) ، والنجوم الزاهرة (8/ 132) ، والسلوك (1/909) ، وعلل المقريزي ذلك بزيادة ترف أهل الذمة وركوبهم الخيل المسومة، ثم ذكر قصة قدوم وزير ملك المغرب ودوره في ذلك وقد أشار إلى دوره كال من القلقشندي وابن تغري بردي، كما فصل ذلك المقريزي في الخطط (2/498) . (3) هو: ابن الخليل - انظر حسن المحاضرة (2/300) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 على من يوافق فى ذلك، وقال للسلطان: حاشاك أن يكون أول مجلس جلسته في أبهة الملك تنصر فيه أهل الذمة لأجل حطام الدنيا الفانية، فاذكر نعمة الله عليك إذ رد ملكك إليك وكبت عدوك ونصرك على أعدائك " (1) ، ولما كان للجاشنكير- الذي كان نائبا لقلاوون ثم اغتصب السلطة منه وتولى بدلهـ دور في صدور قرار إلزام أهل الذمة بشروط عمر- رضى الله عنهـ سنة 700 هـ قال السلطان قلاوون لابن تيمية لما كلمه بما سبق: إن الجاشنكير هو الذي جدد عليهم ذلك- والجاشنكير كما أنه آذى السلطان وعزله وتولى بدله فقد آذى ابن تيمية أذى شديدا وسجنهـ لكن ابن تيمية لم ينظر إلى الأمر من هذه الزاوية وإنما قال للسلطان: " والذي فعله الجاشنكير كان من مراسيمك لأنه إنما كان نائبا لك، فأعجب السلطان ذلك واستمر بهم على ذلك " (2) . وقد وقعت الفتن بين المسلمين والنصارى الذين ضايقهم هدم بعض كنائسهم مما تسببوا في إشعال الحرائق في القاهرة سنة 702 هـ، وسنة 721 هـ (3) . ويبدو أن مثل القضايا في مصر والشام كانت سببا في ظهور المناقشات العلمية حول أحكام أهل الذمة، وكيف يعاملون؟، وحكم كنائسهم التي كانت موجودة عند الفتح الإسلامي لمصر والشام، وحكم الكنائس التى أحدثت في أمصار المسلمين ومنها- القاهرة- التي بنيت بعد الفتح الإسلامى بقرون، وقد أجاب العلماء على مثل هذه الأسئلة: ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية الذي أجاب بعدة فتاوى حول أهل الذمة وإلزامهم الشروط العمرية، وحكم كنائسهم وهدمها، وقد بين ذلك بكل قوة ووضوح حتى قال، وهو يعرض لحكم سبهم للرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -: " وهنا (4) الشروط على أهل الذمة حق لله، لا يجوز للسلطان ولا لغيره أن يأخذ منهم الجزية ويعاهدهم على المقام بدار الإسلام   (1) البداية والنهاية (14/54) . (2) المصدر السابق، وانظر العقود الدرية (ص: 281) ، والكواكب الدرية (ص: 137) . (3) انظر: السلوك (1/ 941،2/ 222) ، وحسن المحاضرة (2/301) . (4) لعل صوابه " وهذه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 إلا إذا التزموها وإلا وجب عليه قتالهم بنص القرآن " (1) ، فبين أن هذا الأمر ليس السلاطين هم الذين يقررون أن يلزموهم أو لا يلزمونهم، وإنما هو حق لله تعالى، كما بين في فتاويه حكم الكنائس التي بنيت في الأمصار التي مصرها المسلمون، وأنه لا يجوز إبقاؤها بحال (2) ... ، كما أن ابن القيم-رحمه الله- لما سئل عن حكم أهل الذمة أجاب بجواب طويل جدا- بلغ مجلدين- وأوضح فيه المسألة وبينها بيانا شافيأ ذاكرا الأدلة والنصوص وأقوال العلماء (3) . ثانيا- انتشار الشركيات والتصوف: كثرت في هذا العصر مظاهر الشرك، كما انتشر التصوف، وبين الشرك والتصوف المنحرف علاقة وطيدة، إذ غالبا ما يكون أهم مظاهر التصوف الشرك وذلك بالغلو في المشايخ والأولياء- الأحياء منهم والأموات- وقد كان أبرز مظاهر الشرك بناء المشاهد على القبور، وبناء المساجد عليها؛ بحيث تصبح هذه القبور أماكن للعبادة والتقرب إلى الله بشتى أنواع القرب فيأتيها الناس مستشفعين بهؤلاء الأموات، طالبين فهم قضاء الحاجات وكشف الكربات وس جع نشأة بناء المشاهد والأضرحة إلى الرافضة، فمن المعلوم أنه لم يكن في أول الإسلام حتى أوائل العهد العباسي شىء من هذه المظاهر بارزا، فلما جاءت دولة العبيديين - الفاطميين- في المغرب ثم فى مصر، ثم جاءت دولة بنى بويه في العراق - وكلهم رافضة- نشأت هذو الظاهرة الشركية في العراق ومصر وغيرهما، ولما كان هؤلاء الرافضة ليس لهم هم إلا إفساد دين الإسلام وحرب أهلهـ أهل السنة-   (1) الصارم المسلول (ص: 213) . (2) انظر فتاوى ابن تيمية في: مجموع الفتاوى (28/632) وما بعدها، وأحكام أهل الذمة (2/677) حيث نقل فتوى له أخرى بنصها كما كان لابن تيمية مناقشات للنصارى، انظر الجواب الصحيح (2/172) ، ومجمرع الفتاوى (1/370) وترجمته بقلم خادمه (ص: 23) . ... (3) وهو كتاب أحكام أهل الذمة وقد حققه الدكتور صبحي الصالح-رحمه الله- وكتب له مقدمة طوبلة- بروح انهزامية غربية- فهل كان متأثرا بالوضع الطائفي في لبنان وهو من أهله، أم كان متأثرا بحضارة العصر- حضارة هيئة الأمم المتحدة- ومع ذلك فمن المحزن المبكي أن الكتاب صدر بمقدمة صبحي الصالح سنة 1 38 1 هـ، ثم أعيدت طباعته سنة 1 0 4 1 هـ، وفي هذا العام 7 0 4 1 هـ اغتيل صبحي الصالح في لبنان في حمى الصراع الطائفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 عنوا بمثل هذه الأمور فبنوا الأضرحة وضخموها وعظموها ودعوا الناس لزيارتها ودعائها حتى صارت هذه المشاهد تعظم وتزار ويبذل لها أكثر من زيارة بيت الله الحرام وأداء فريضة الحج. والنصارى- بوثنيتهم وتقديسهم للصور والتماثيل والقبور- لهم أثرهم على من يلقونه من جهال المسلمين ممن يخالطهم ويسمع كلامهم، ولذلك لما ظهرت دولة العبيديين في مصر قدم النصارى إلى الشام واستوطنوا ثغوره وأمصاره. وهكذا تلتقي هذه الطوائف الثلاث: النصارى، والرافضة والمتصوفة، في هذا الإنحراف الخطير المتمثل في أنواع من الشرك بالله - بمظاهره العديدة التي لا تزال أكثر أقطار العالم الإسلامي تعاني منه ومن آثاره (1) . جاء عهد المماليك وكثير من هذه المشاهد والأضرحة موجودة، قبور بني عبيد، وقبر الشافعي، وقبر الحسن- الذي بناه بنو عبيد- وغيرها، فلم يحرك السلاطين ساكنا، بل الأمر على العكس أخذوا يبنون لأنفسهم ولأقاربهم الأضرحة والقبب وتفننوا فيها بحيث جعلوا عليها مساجد ومدارس، يأتيها العلماء وطلاب العلم وتلقى فيها الدروس المنتظمة، وأوقفوا عليها الأوقاف الكثيرة، فالظاهر بيبرس [توفي سنة 676 هـ] بنى على قبر أبى عبيدة- رضى الله عنه - مشهدا، وجدد قبة الخليل عليه السلام، كما وسع مشهد جعفر الطيار، وعمر تربة لزوجته (2) ، والمنصور قلاوون- ت 689 هـ- بنى في سنة 683 هـ تربة على قبر والدة السلطان الملك الصالح بن المنصور قلاوون (3) . أما أشهر المدارس فهى المدرسة المنصورية، وقد وضع فيها قبة سميت القبة المنصورية وفيها قبر المنصور قلاوون وابنه الناصر محمد، وهي من أكبر القباب وأشهرها، وصارت معظمة عند المماليك إلى حد أن السلطان إذا أمر أحدا   (1) انظر: مجموع الفتاوى (27/167، 460- 461،466) . (2) انظر: فوات الوفيات (1 / 243، 244) ، والبداية والنهاية (13 / 276) ، والظاهر بيبرس (ص: 60 ا- ا 16) ، ومملكة صفد (ص: 263) . (3) انظر: تشريف الأيام والعصور (ص: 55) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 من أمراء الشام أو مصر، فإن الأمير الجديد ينزل من قلعة الجبل إلى القبة المنصورية ثم يحلف عند القبر المذكور ويحضر تحليفه صاحب الحجاب (1) . وتليها المدرسة الناصرية التى بناها الناصر قلاوون وبنى فيها قبة دفن والدته وأحد أولاده (2) . ولما انتصر قلاوون سنة 702 هـ في وقعة شقحب وقدم إلى مصر كان أول عمل عمله أن زار قبر والدهـ في ضريحهـ والقراء يقرؤون القرآن عند القبر (3) . أما على المستوى العام فقد انتشر عند الناس تعظيم القبور والسفر لزيارتها، كما شاع عندهم تعظيم بعض الأماكن التي تنسب- كذبا- إلى نبي أو ولي، ففي دمشق كانت هناك صخرة عند مسجد التاريخ يعظمها الناس ويقبلونها، ويزعمون أن فيها أثر قدم النبى - صلى الله عليه وسلم -، كما كان هناك عند الباب الصغير العمود الخلق يتبرك به الناس وقد هدمهما ابن تيمية-رحمه الله- تعالى- (4) . أما موقف أكثر العلماء من هذه الشركيات فكان أحسن أحواله السكوت عنها - خاصة وأن كثيرا ممن تولى القضاء كانوا يميلون إلى التصوف- ويرون السفر لزيارة القبور، وهؤلاء هم الذين وقفوا ضد فتاوى ورسائل ابن تيمية حول هذه المسائل حتى سجن ومات فيه. أما موقف ابن تيمية من هذه الشركيات فقد كان موقفا عظيما، وقد قام على ثلاثة محاور: الأول: بيان حقيقة هذه المشاهد، وأن الكثير منها كذب، وليست قبورا لمن نسبت إليه (5) .   (1) انظر: الخطط (2/ 0 38- 381) ، والسلوك، ملاحق (1/997- 1 0 0 1) ، وكان الأمراء قبل ذلك يحلفون عند القبة فى المدرسة الصالحية. انظر: الخطط (2/374،0 38) . (2) انظر: الخطط (2/ 382) ، والسلوك- ملاحق- (1/1040- 0 5 0 1) . (3) انظر: السلوك- ملاحق- (1/1038- 39 0 1) . (4) انظر: ترجمة ابن تيمية بقلم خادمه (ص:10 - 11) ، والسلوك (2/8-9) ، وبدائع الزهور (1/417) ، والبداية والنهاية (14/ 34) . (5) انظر: كتاب رأس الحسين، ومجموع الفتاوى (17/ 0 0 5، 27/ 173) ، وأيضا (27/ 61) حول قبر نوح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 الثاني: البيان العلمى من خلال المناقشات المباشرة، ومن خلال المؤلفات والرسائل، وبيان ما فيها من بدع وشرك ومناقشة أقوال الخالفين. الثالث: الناحية العملية وذلك بإزالة هذه الأماكن الشركية ومنع المتلبسين بشيء منها (1) . أما التصوف فيعتبر هذا العصر- القرن السابع والثامن- العصر الذهبي له، ولعل الضعف والتفرق الذي أصاب العالم الاسلامي قبل ذلك، والحروب الصليبية التى صدمت المسلمين نفسيا قبل أن تصدمهم عسكريا، كانت من أسباب انتشاره في هذا العصر. والتطور الذي حدث للتصوف في هذا العصر تطور خطير، إذ أنه تحول من تصوف فردى في الغالب يقوم على جهود الأفراد واتباعهم الى تصوف منظم، له مدارسه التي يينيها الحكام وغرهم وتهيأ لهذه المدارس والأماكن كل ما يحتاجه ساكنو هذه المدارس ومرتادوها، ولأ تنقطع بموت الشيخ أو الصوفي وإنما يتوارثها من بعده ممن اشتهروا وزعم الناس فيهم الولاية وشاعت لهم الكرامة. وقد برز التصوف من خلال ممايلي: أ- بناء الخوانق والربط والزوايا (2) ، وقد انتشرت انتشارا عظيما في عصر الأيوبيين والمماليك، ومن المحزن حقا ما ذكره بعض الكتاب من أن أول خانقاه بنيت في الشام كانت برملة بيت المقدس بناها أمير النصارى حين استولى   (1) انظر: نماذج من ذلك في ترجمته بقلم خادمه (ص: 6-24) . (2) الخانقاه: كلمة فارسية وتنطق أحيانا خانكاه، ومعناها بيت، ثم جعلت علما على المكان الذي يتخلى فيه الصوفية لعبادة الله تعالى، انظر الخطط (2/414) ، ومنادمة الأطلال (ص: 272) . والربط: جمع رباط وأصله المكان الذي يرابط فيه المجاهدون في سبيل الله في الثغور، ثم بعد ذلك استخدم علما على بيت الصوفية ومنزلهم. انظر: عوارف العوارف (1/ 261- 281) ، والخطط (2/427) . والزوايا: جمع زاوية، وهي المكان الذي يخصصه شخص ما للعبادة ويختلى فيه ويأتيه فيه بعض مريديه. انظر منادمة الأطلال (ص: 299) . والفرق بينهما: أن الخانقاه على شكل مدرسة يعين لها شيخ رفيها مدرسون فلا يدخلها إلا من قبل فيه، أما الربط: فهى لفقراء الصوفية، أما الزاوية: فهي برسم شخص معين. انظر المجتمع الاسلامي في بلاد الشام (ص: 155) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 الفرنج على القدس، وأنه رأى طائفة من الصوفية فأعجبه ما بينهم من ألفة ومحبة - ولعله لمس أن فيها شبها من رهبنة النصارى - فسألهم عن حالهم فأخبروه، فقال لهم: أبني لكم مكانا لطيفا تتآلفون فيه وتتعبدون، فبنى لهم تلك الخانقاه ثم نتشرت بعد ذلك (1) وفي القرن السادس والسابع كثر بناء الخوانق والربط، فانتشرت في مصر والشام بحيث أصبحت أماكن معروفة ومشهورة يرتادها الصوفية من كل مكان ويتلقون فيها - إضافة إلى دروس العلماء وممارسة العبادات والأوراد الصوفية - وكافة ما يحتاجونه من مطعم ومشرب ومأوى وأموال تصرف لهم أحيانا، حتى أصبحت لها امتيازات ليست لغيرها - بسبب الأموال والأوقاف الكثيرة التي تجلب لها - (2) . ب - عاش في هذا العصر طائفة من كبار الصوفية الذين كان لهم أتباع ومريدون ولا شك أن وجود هؤلاء في أماكن مختلفة يؤدي إلى أن يصبح التصوف ظاهرة اجتماعية حيثما حل الإنسان في بلد يجد هذه الفئات المتزهدة المظهرة للفقر والحاجة، ومن أهم رجال التصوف المشهورين في هذا العصر: 1 - ابن عربي محيي الدين محمد بن علي بن محمد، توفي سنة 638هـ. 2 - ابن الفارض، عمر بن علي بن مرشد الحموي، توفي سنة 632هـ. 3 - أبو الحسن الشاذلي، علي بن عبد الله بن عبد الجبار، توفي سنة656هـ. 4 - أبو القاسم بن منصور بن يحيى المالكي الأسكندري المعروف بالقباري، توفي سنة 662هـ. 5 - خضر بن أبي بكر المهراني، كان الظاهر بيبرس يعتقد فيه ويخضع له، توفي سنة 676هـ. 6- أحمد البدوي، أحمد بن علي بن إبراهيم القدسي الملثم، توفي سنة675هـ 7- التلمساني المرسي، محمد بن موسى بن النعمان، توفي سنة 686هـ.   (1) انظر: خطط الشام (6/130) ، والمجتمع الإسلامي في بلاد الشام (ص151) . (2) انظر: حصراً بأسماء هذه الخوانق والربط والزوايا في مصر والشام: خطط المقريزي (2/ 414- 436) ، ومنادمة الأطلال (ص272 - 316) ، وحسن المحاضرة (2/265 - 267، 273) ، والمجتمع الإسلامي في بلاد الشام (ص150 - 155) ، خطط الشام (6/130 - 155) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 8- أبو العباس المرسى، أحمد بن عمر الأنصاري، توفي سنة 686 هـ 9- نصر بن سلمان المنبجى، أبو الفتح، توفي سنة 719 هـ. 10- أبو الحسن الشثتري، علي بن عبد الله، توفي سنة 668 هـ. 11 - ابن عطاء السكندري: أحمد بن محمد بن عبد الكريم، توفي سنة 709هـ (1) . جـ - ادعاء الكرامة وظهور السحر والشعوذة والأحوال الشيطانية، ونسبتها إلى الأولياء والصلحاء أو من يدعون أنهم منهم، ومذهب أهل السنة في الكرامة معروف وهو إثباتها إذا جاءت على يد الصالح المتمسك بالكتاب والسنة وليست دليلا على الولاية، أما الكثير من الكرامات الذي وجد في هذا العصر فقد كان يأتي على يد الدجالين والمنحرفين، أو أنها تنسب الى الصلحاء ولكنها أحوال شيطانية تقع لمن يعتقد فيهم من عامة الناس اعتقادا قد يؤدى إلى الشرك بالله تعالى. ولقد كان لشيخ الإسلام ابن تيمية مع كثير من هؤلاء وأتباعهم صولات وجولات فبين الحق في هذه الأمور وفضح أصحابها وبين المداخل الشيطانية لهؤلاء، ووضع أصولا للفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. وقد حكى في مناسبات كثيرة من كتبه قصصا شاهدها أو رواها له الثقات عن كثير ممن يدعي أو يدعى له الولاية والكرامة وبين كيف تجيء الشياطين وتصنع هذه الأمور الخارقة فيظن من شاهدها أو وقعت له أنها كرامة وليست كذلك. فمما ذكره وقد سئل عن الحلاج- المقتول على الكفر والزندقة سنة 309 هـ- فبين حاله وأحواله الشيطانية ثم قال: " ومثل هذا يحدث كثيرا لغير الحلاج ممن له حال شيطاني، ونحن نعرف كثيرا من هؤلاء في زماننا وغير زماننا مثل شخص هو الآن بدمشق كان الشيطان يحمله من جبل الصالحية إلى قرية حول دمشق، فيجىء من الهواء إلى طاقة البيت الذي فيه الناس فيدخل وهم يرونه،   (1) انظر: حسن المحاضرة (1 / 518 - 524) ، وانظر: الطرق الصوفية في مصر، عامر النجار (ص: 136-140) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 ويجئ بالليل إلى باب الصغير [أحد أبواب دمشق] فيعبر منه هو ورفيقه، وهو من أفجر الناس. وآخر كان بالشويك (1) من قرية يقال لها الشاهدة يطير في الهواء إلى رأس الجبل والناس يرونه، وكان شيطانه يحمله وكان يقطع الطريق، وأكثرهم شيوخ الشر ... وشيخ آخر أخبرني نفسه أنه كان يزني بالنساء ويتلوط بالصبيان الذين يقال لهم الحوارات، وكان يقول يأتيني كلب أسود بين عيينه نكتتان بيضاوان فيقول لي: فلان ابن فلان نذر لك نذرا وغدا نأتيك به ... فلما تاب هذا الشيخ وصار يصلي ويصوم ويجتنب المحارم ذهب الكلب الأسود ... وشيخ آخر كان له شياطين يرسلهم يصرعون بعض الناس فيأتي أهل ذلك المصروع إلى الشيخ يطلبون منه إبراءه، فيرسل إلى أتباعه فيفارقون ذلك المصروع، ويعطون ذلك الشيخ دراهم كثيرة، وكان أحيانا تأتيه الجن بدراهم وطعام تسرقه من الناس .... وآخر كان مشتغلا بالعلم والقراءة فجاءته الشياطين أغوته وقالوا له: نحن نسقط عنك الصلاة ونحضر لك ما تريد، فكانوا يأتونه بالحلوى والفاكهة، حتى حضر عند بعض الشيوخ العارفين بالسنة فاستتابه، وأعطى أهل الحلاوة ثمن حلاوتهم التي أكلها ذلك المفتون بالشيطان ... " (2) . بل إن ابن تيمية نفسه تعرص ر لمثل هذا فتمثلت بشخصه الشياطين وأغاثوا أقواما فجاءوا يخبرونه بما وقع لهم، يقول: " ذكر غير واحد أنه استغاث بي من بلاد بعيدة وأنه رآني قد جئته، ومنهم من قال: رأيتك راكبا بثيابك وصورتك، ومنهم من قال: رأيتك على جبل، ومنهم من قال غير ذلك، فأخبرتهم أني لم أغشهم، وإنما ذلك شيطان تصور بصورتي ليضلهم لما أشركوا بالله ودعوا غير الله " (3) . و! قول: " وأعرف من ذ! ك وقائع كثيرة في أقوام استغاثوا بي، وبغيري في حال غيبتنا عنهم، فرأوني أو ذاك الآخر الذي استغاثوا به   (1) الشويك، قلعة حصينة في أطراف الشام بين عمان وإيله، قرب الكرك، معجم البلدان (3/375) . (2) جامع الرسائل- ت رشاد سالم- (1/92 ا-194) . (3) الجواب الصحيح (1/319-320) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 قد جئنا في الهواء ورفعنا عنهم، ولما حدثوني بذلك بينت لهم أن ذلك إنما هو شيطان تصور بصورتي وصورة غيري من الشيوخ الذين استغاثوا بهم ليظنوا أن ذلك كرامات للشيخ فتقوى عزائمهم في الاستغاثة بالشيوخ الغائبين والميتين، وهذا من أكبر الأسباب التى بها أشرك المشركون وعبدة الأوثان " (1) ، وقد ذكر واقعة غريبة له وهو في السجن بمصر، قال: " كما جرى مثل هذا لي، كنت في مصر في قلعتها، وجرى مثل هذا إلى كثير (2) من الترك من ناحية المشرق، وقال له ذلك الشخص: أنا ابن تيمية، فلم يشك ذلك الأمير أني أنا هو، وأخبر بذلك ملك ماردين (3) وأرسل بذلك ملك ماردين إلى ملك مصر رسولا، وكنت في الحبس فاستعظموا ذلك وأنا لم أخرج من الحبس، ولكن كان هذا جنيا يحبنا فيصنع بالترك التتر مثل ما كنت أصنع بهم لما جاءوا إلى دمشق، كنت أدعوهم إلى الإسلام فإذا نطق أحدهم بالشهادتين أطعمتهم ماتيسر، فعمل معهم مثل ما كنت أعمل، وأراد بذلك إكرامي ليظن ذلك أني أنا الذي فعلت ذلك. قال لي طائفة من الناس: فلم لا يجوز أن يكون ملكا؟، قلت: لا، إن الملك لا يكذب وهذا قد قال: أنا ابن تيمية وهو يعلم أنه كاذب في ذلك (4) . والتصوف لم يقتصر على هذه الأمور، وإنما كان تصوفا يؤول في الغالب إلى الغلو من الوحدة والاتحاد والحلول، والوقوع في الشركيات بأنواعها، وتعظيم الملاحدة وتصحيح أقوالهم وكفرياتهم. وقد واجه ابن تيمية من هؤلاء أعدادا   (1) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص: 54 ا-155) ، ط المكتب الاسلامي. (2) هكذا في طبعة الفرقان الموجودة في مجموع الفتاوى (13/92) ، وطبعة دار البيان المفردة، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط (ص: 61) ، وفي طبعة دار إحياء العلوم، تحقيق: حسين يوسف غزال (ص: 117) كتب الكلمة: "كبير " بدل كثير، وهو لم يعتمد على نسخة خطية، لكن لعله هو الصواب. (3) ماردين، بكسر الراء والدال، قلعة مشهورة بعمل الموصل في الجزيرة قريية من دارا، وهي من أحسن القلاع وأعظمها. فتوح البلدان (5/39) ، والروض المعطار (518) ، وملك ماردين المشار إليه هو الملك المنصور نجم الدين غازى الأرتقى تولى ماردين (693 هـ - 712 هـ) ، انظر: تاريخ الدولة الإسلامية ومعجم الأسر الحاكمة (2/353) ، وانظر: الأمارات الأرتقية: عماد الدين خليل (ص: 352) . (4) الفرقان بين الحق والباطل- مجموع الفتاوى (13/ 92-93) ، وان! جامع الرسائل (1/195) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 كثيرة، وتوب بعض زعمائهم، وقتل بعضهم (1) . وإذا كان وجود مثل هذه النوعيات خطيرا على الأمة وعقائدها، فأخطر منه أن يتبع هؤلاء المتصوفة المنحرفين بعض العلماء والقضاة الذين يقتدى بهم، وهذا يعطى صورة للمستوى الذي وصل إليه التصوف في هذا العصر، يقول ابن تيمية في بيان حكم طلب الحاجات في القبور والاستغاثة بها: " والاستغاثة بالميت والغائب سواء كان نبيا أو وليا ليس مشروعا ولا هو من صالح الأعمال، إذ لو كان مشروعا أو حسنا من العمل لكانوا به أعلم وإليه أسبق، ولم يصح عن أحد من السلف أنه فعل ذلك، فكلام هؤلاء يقتضي جواز سؤال الميت والغائب، وقد وقع دعاء الأموات والغائبين لكثير من جهال الفقهاء والمفتين حتى لأقوام فيهم زهد وعبادة ودين ترى أحدهم يستغيث بمن يحسن به الظن حيا كان أو ميتا، وكثير منهم تتمثل له صورة المستغاث به وتخاطبه وتقضي بعض حوائجه وتخبره ببعض الأمور الغائبة، ويظن الغير أنه المستغاث به أو أن ملكا جاء على صورته وإنما هى شياطين تمثلت له به وخيالات باطلة فتراه يأتي قبر من يحسن به الظن إن كان ميتا فيقول: أنا في حسبك أنا في جوارك أنا في جاهك قد أصابنى كذا وجرى على كذا، ومقصوده قضاء حاجته إما عن الميت أو به، ومنهم من يقول للميت: اقض ديني واغفر ذنبي وتب على، ومنهم من يقول: سل لي ربك، ومنهم من يذكر ذلك في نظمه ونره، ومنهم من يقول: يا سيدي الشيخ فلان أو يا سيدي يا رسول الله نشكو إليك ما أصابنا من العدو وما نزل بنا من المرض وما حل بنا من البلاء، ومنهم من يظن أن الرسول أو الشيخ يعلم ذنوبه وحوائجه وإن لم يذكرها وأنه يقدر على غفرانها وقضاء حوائجه، ويقدر على ما يقدر عليه الله ويعلم ما يعلمه الله، وهؤلاء قد رأيتهم وععت هذا منهم ومن شيوخ يقتدى بهم ومفتين وقضاة ومدرسين " (2) . ويقول: " وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم وله فضل وعلم وزهد إذا نزل به أمر خطا جهة الشبخ عبد القادر خطوات معدودات واستغاث به " (3) . ويذكر أنه لما قدم مصر سال   (1) انظر: جامع الرسائل (1/195-196) . (2) تلخيص الاستغاثة (1/29-. 3) . (3) الاستغاثة- الجزء الثاني من المصدر السابق نص الاستغاثة وليس تلخيصا (2/ 250- 251) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 بعض ولاة الأمر قاضى القضاة عن فرعون " فقال: ما في القرآن ما يدل على أنه كان كافرا، ومعلوم أن دخول فرعون النار معلوم بالاضطرار من المسلمين واليهود والنصارى .... " (1) . ووصل الأمر بكثير من الناس أنه لما هاجم التتار بلاد الشام خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم .... وقال بعض الشعراء: يا خائفين من التتر لوذوا بقبرأبى عمر فصار ابن تيمية يأمر الناس بإخلاص الدين لله عز وجل وأن لا يستغيثوا بغيره. " فلما أصلح الناس أمورهم وصدقوا في الاستغاثة بربهم نصرهم على عدوهم نصرا عزيزا " (2) . ثالثا: المذهب الأشعري: انتشر المذهب الأشعري- في تطوره العقدي- في القرن الرابع والخامس، ولما جاء عهد الأيوبيين- وعلى رأسهم صلاح الدين الأيوبي- تبنوا المذهب الأشعري، وقربوا علماء الأشاعرة، وصلاح الدين نشأ على هذا المذهب؛ فقد حفظ " في صباه عقيدة ألفهاله قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري (3) ، وصار يحفظها صغار أولاده فلذلك عقدوا الخناصر وشدوا البنان على مذهب الأشعري، وحملوا في أيام دولتهم كافة الناس على التزامه فتمادي الحال على ذلك جميع أيام الملوك من بنى أيوب ثم في أيام مواليهم الملوك من الأتراك " (4) ، ولما تولى صلاح الدين حكم مصر ولى على القضاء صاحبه صدر الدين عبد الملك بن عيسى بن درباس الماراني (5) ، الذي ألف "رسالة في الذب   (1) نقض التأسيس المخطوط (2/270) . (2) 1 لاستغاثة (2/ 276-277) . (3) ولد سنة: 505 هـ، وتوفي سنة: 578 هـ، رأى أبا نصر القشيري، ودرس بالمدرسة النظامية في نيسابور نيابة عن الجويني، كما درس في دمشق وحلب، انظر: وفيات الأعيان (5/196) ، وطبقات السبكى (7/297) ، والنجوم الزاهرة (6/94) ، وطبقات الأسنوى (2/498) . (4) الخطط للمقريزى (2/358) . (5) ولد سنة 516 هـ، وتوفي سنة 655 هـ، انظر التكملة للمنذري (2 / 156) ، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 عن أبى الحسن الأشعري " (1) . ولما جاء عهد المماليك استمر تبنيهم لهذا المذهب من خلال توليه القضاء لأئمة الشافعية والمالكية الذين كانوا يلتزمون المذهب الأشعري، ومما يلاحظ- في هذا العصر- أن المذهب الأشعري صار تبنيه بيد من بيده السلطة من العلماء إلى الحد الذى يستنكر معه أشد الاستنكار أن يقوم أحد بمخالفته ويجاهر في رده ونقض أصوله. ولعل ما حدث لابن تيمية من محن كانت مع الأشاعرة دليل كل ذلك. وسنعرض- إن شاء اللهـ عند الحديث عن المذهب الأشعري وتطوره تفصيلات أخرى لهذا الموضوع. وبعد فهذا عرض لعصر ابن تيمية، وأحواله السياسية والعقائدية وهو إن كان فيه نوع من الإطالة إلا أنه سيساعد- بعون اللهـ على إدراك خلفيات هذا العصر الذي هو كالقنطرة بين عصرنا هذا والعصور السابقة، وكثير ممن ترجم لابن تيمية مر عليها مرورا سريعا، ولما كان موقف ابن تيمية من الأشاعرة - وغيرهم ممن كان له انحراف عن طريق السلف- موقفا بارزا وسمة واضحة من سمات هذا العصر، بحيث تحول إلى مدرسة كبرى في العالم الإسلامى لها أتباع ومؤيدون، واستمرت هذه المدرسة تخرج العلماء والمؤلفات والدراسات الداعية إلى العودة إلى مذهب السلف أهل السنة والجماعة ولما كان الأمر بهذا المستوى كان لابد من عرض مركز لأحوال هذا العصر وخلفيته. * * *   (1) = والبداية والنهاية (13 / 52) ، والعبر (3 / 139) ، وسير أعلام النبلاء (21 / 474) وحسن المحاضرة (1/ 408) . (1) طبعت في الهند مع مجموعة الرسائل السبعة قي العقائد، وقد حققها علي ناصر فقيهي وطبعها مع كتاب الأربعين في دلائل التوحيد للهروي، وقد أخطأ المحقق في ترجمة ابن درباس فوضع في حاشية (ص: 107) ترجمة ابنه محمد بن عبد الملك المتوفي سنة: 659 هـ، على أنها ترجمة المؤلف للرسالة، كما وضع تاريخ ميلاده ووفاته على الغلاف، وهو وهم. وعبد الملك بن درباس الأب مؤلف الرسالة في الذب عن الأشعري. كان صاحبا وقاضيا لصلاح الدين الأيوبي، وقد توفي صلاخ الدين سنة 589 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 المبحث الثاني: حياة ابن تيمية وآثاره أولا: اسمه ونسبه ومولده : هو شيخ الإسلام، تقي الدين أبو العباس، أحمد ابن العلامة شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن الشيخ الإمام شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام ابن أبي محمد عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر، ابن علي، بن عبد الله، بن تيمية الحراني (1) . ولد شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (2) بحران (3) يوم الاثنين عاشر- أو ثاني عشر- ربيع الأول سنة 661 هـ، وسافر به والده مع والدته واخوته بسبب   (1) انظر في ترجمة ابن تيمية: العقود الدرية، والبداية والنهاية (13/ 241) ، وما بعدها، والأعلام العلية للبزار (ص: 16) وما بعدها، وذيول العبر (ص: 84) ، وتذكرة الحفاظ (4/1496) ، وتتمة المختصر لابن الوردي (2/406) ، والوافي للصفدي (7/15) ، وأعيان العصر عن شيخ الإسلام ابن تيمية سيرته وأخباره عند المؤرخين للمنجد (ص: 49) ، وفوات الوفيات (1/74) ، والدرر الكامنة (1/154) ، وطبقات الحفاظ للسيوطى (ص: 516) ، ودرة الحجال (1/ 30) ، وتذكرة النبيه (2/185) ، وشذرات الذهب (6/ 80) ، والكواكب الدرية (ص:51) ، والشهادة الزكية والرد الوافر، وطبقات المفسرين للداودي (1/45) ، وذيل طبقات الحنابلة (2/387) ، والسلوك (4/2 30) ، والنجوم الزاهرة (9/ 271) ، والمنهل الصافي ط الثانية (1/358) ، والدليل الشافي (1/56) ، والبدر الطالع (1/63) ، وفهرس الفهارس (1/274) ، أما الكتب المعاصرة فكثيرة جدا. (2) سبب تلقيبه بابن تيمية: أن جده محمد بن الخضر- أو من فوقهـ حج على درب تيماء، فرأى جارية خرجت من خباء فلما رجع وجد زوجته ولدت بنتا فرفعوها إليه فقال: يا تيمية، يا تيمية أي إنها تشيه تلك الجارية التي رآها بتيماء، وقيل: إن جده محمدا كانت أمه تسمى تيمية فنسب إليها، العقود الدرية (ص: 2) ، وتاريخ أربل (1/97) ، وسير أعلام النبلاء (22/289) . (3) " حران " بتشديد الراء، بلدة في الجزيرة- بين الشام والعراق، وحران مدينة قديمة بين الرها والرقة وهذه هي التي ينسب إليها ابن تيمية، وهناك حران من قرى حلب، وحران قرية بغوطة دمشق- وأخطأ من نسبه إليها، انظر معجم البلدان (2/235) ، ومراصد (1/389) ، ومعحم ما استعجم (1/435) ، وأحسن التقاسيم (ص: 141) ، والروض المعطار (ص: 191) ، والأنساب للسمعافي (ص: 4/ 96) ، ومختصر كتاب البلدان (ص: 132) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 أوضاع ديار بنى بكر وما حولها- ومنها حران- التي كانت أحوالها سئية بعد استيلاء التتر عليها (1) ، فوصلوا إلى دمشق سنة 667 هـ واستوطنوها (2) . وقد اشهرت عائلته بالعلم والمكانة، فجده مجد الدين عبد السلام بن عبد الله من العلماء الأعلام، قال عنه الذهبي: " كان إماما كاملا، معدوم النظير في زمانه، رأسا في الفقه وأصوله بارعا في الحديث ومعانيه، وله اليد الطولى في معرفة القراءات والتفسير " (3) ، وذكر تقي الدين أبو العباس أن جمال الدين ابن مالك (4) كان يقول: ألين للشيخ المجد الفقه كما ألين لداود الحديد (5) . ولد المجد سنة 590 هـ؛ وتوفي سنة 652 هـ (6) ، أما والد تقى الدين فهو الشهاب عبد الحليم بن عبد السلام، ولد سنة 627 هـ، وتوفي سنة 682 هـ قال عنه الذهبي: " ذو الفنون .... صار شيخ حران وحاكمها وخطيبها بعد موت والده" (7) . وقال ابن كثير: " مفتي الفرق، الفارق بين الفرق، كان له فضيلة حسنة، ولديه فضائل كثيرة " (8) . وقال ابن شاكر الكتبي: " كان إماما في التفسير مبرزا في المذهب والخلاف وأصول الدين والنحو واللغة، وله معرفة تامة بعلم الحساب والجبر والهندسة وكان يعرف علوما كثيرة،   (1) حيث ضرب التتار هذه البلاد كما أن المماليك- في صراعهم مع التتار- كالوا يتلفون المزارع، انظر: الامارات الأرتقية في الجزيرة والشام (ص: 329) وما بعدها و (ص: 441) . (2) في عيون التواريخ لابن شاكر الكتبى (22/ 339) ما يفيد أن حران أخليت من أهلها فقدم والده دمشق. (3) معرفة القراء الكبار (2/654) ، ط الرسالة المحققة. (4) هو: جمال الدين محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك أبو عبد الله الطائي الجياني الشافعى النحوي- صاحب الألفية- ولد سنة 0 0 6 هـ، وتوفي سنة 672 هـ، بغية الوعاة (1/130) ، وإشارة التعيين (ص:/ 320) . (5) سير أعلام النبلاء (23/292) ، ومعرفة القراء الكبار (4/654) . (6) انظر في ترجمته المصدرين السابقين، وذيل طبقات الحنابلة (2/249) ، والنجوم الزاهرة (7/33) . (7) 1 لعبر (3/349-350) . (8) البداية والنهاية (13 / 303) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وكان حسن الأخلاق لطيفا " (1) . أما والدة تقى الدين فهى ست النعم بنت عبد الرحمن بن علي بن عبدوس الحرانية عمرت فوق السبعين، توفيت سنة 716 هـ (2) . ولشيخ الإسلام تقى الدين ثلاثة من الإخوة اشتهروا بالعلم والفضل وهم: 1- أخوه لأمه: بدر الدين أبو القاسم محمد بن خالد الحراني، ولد سنة 650 هـ تقريبا، وتوفي سنة 717 هـ كان عالما فقيها إماما، تولى التدريس عن أخيه تقى الدين (3) . 2- شقيقه زين الدين عبد الرحمن بن عبد الحليم، ولد سنة 663 هـ، وتوفي سنة 747 هـ، كان زاهدا عابدا، كما كان تاجرا، حبس نفسه مع أخيه تقى الدين في الإسكندرية ودمشق ليخدمه (4) . 3- شقيقه شرف الدين عبد الله بن عبد الحليم، ولد سنة 666 هـ، وتوفي سنة 727 هـ لما كان تقى الدين مسجونا في القلعة، كان عالما متبحرا وذهب مع أخيه إلى مصر وناظر خصومه وحده فانتصر عليهم (5) . ثانيا: حياته الأولى : نشأ ابن تيمية وتربى في كنف والده، فتلقى العلم عنه وعن غيره من شيوخ عصره، ولم يقتصر على التلقى عن المعاصرين له وإنما اتجه إلى مؤلفات   (1) عيود التواريخ (22/339) ، وانظر في ترجمتهـ غير ما سبق- ذيل طبقات الحنابلة (2/ 0 31) ، وجلاء العيمين (ص: 42) ط المدني، وشذرات الذهب (5/376) ، والنجوم الزاهرة (7/359) . (2) البداية والنهاية (14/79) . (3) انظر في ترجمته: ذيل طبقات الحنابلة (2/ 0 37) ، وشذرات الذهب (6/45) . (4) انظر في ترجمته: ذيل العبر للحسيني (ص: 143) ، البداية والنهاية (14/ 220) ، الدرر الكامنة (2/437) ، شذرات الذهب (6/ 152) . (5) انظر: العقود الدرية (ص: 1 36) ، وذيل طبقات الحنابلة (2/382) ، وشذرات الدهب (6/76) ، وجلاء العينين (ص: 42) ط المدني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 من سبقه من العلماء حفظا واطلاعا، ونلمح في حياته الأولى ما يلي: أ - قوة حافظته وسرعة إدراكه لما يسمع أو يقرأ، وذكر مترجموه لذلك قصة (1) . ب - محافظته على الوقت منذ صغره، وذكروا لذلك حكاية (2) ، ولذلك سار بقية حياته في عمل؛ إما جهاد أو تدريس أو أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر أو تأليف للكتب والرسائل والرد على المخالفين. جـ - قوة تأثيره وحجته، فقد أسلم على يديه يهودي وهو صغير (3) . د - بدؤه بالإفتاء والتدريس في وقت مبكر، فقد أفتى عمره 19سنة (4) ، كما درس بدار الحديث السكرية (5) مكان والده في الثاني من محرم سنة 683هـ - أي بعد وفاة والده بقليل - إذ توفي في سلخ (6) ذي الحجة سنة 682 هـ (7) . هـ - تمثلت مصادره الأولى مختلف فنون المعرفة ومنها: التفسير وعلوم القرآن، والسنة، الكتب الستة، ومسند الإمام أحمد، وسنن الدارقطني / ومعجم الطبراني، وما يتعلق بها من علوم الحديث والرجال، والفقه وأصوله، وأصول الدين والفرق، واللغة والخط والحساب، والتاريخ، إضافة إلى علوم أخرى   (1) انظر العقود الدرية (ص:40) ، والكزاكب الدرية (ص80) . (2) انظر الرد الوافر (ص218) ، أعيان العصر عن المنجد (ص51) . (3) انظر الأعلام الحلية (ص17) ، وهو غير اليهودي الآخر الذي أسلم على يديه سنة 701هـ، انظر البداية والنهاية (14/ 19) . (4) أذن له بالإفتاء شرف الدين المقدسي، توفي سنة 694هـ، وكان يفتخر بذلك ويقول: أنا أذنت له بالإفتاء، انظر البداية والنهاية (13/ 341) ، والعقود (ص: 4) . (5) دار الحديث السكرية: كانت بالقصاعين داخل باب الجابية بدمشق، وبعد تولي ابن تيمية تدريسها حرص على توسعتها، فانتدب لذلك أحد التجار المحبين لشيخ الإسلام يقال له: محمد بن عبد الكريم التدمري، فاعترض أحد نظار الوقف، ولكن بعد أمور وقعت بناها التدمري وأتم بناءها سنة 685هـ. الأطلال (ص: 45 - 46) . (6) السلخ - بالفتح - آخر الشهر، انظر: تاج العروس مادة: سلخ. (7) انظر: العقود (ص5) ، والبداية والنهاية (13/ 303) ،، وذيل طبقات ابن رجب (2/ 388) ، والرد الوافر (ص146) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 من فلك وطب وهندسة (1) ، وهذا واضح في كتبه التى ألفها فيما بعد، لا يتطرق إلى فن من الفنون إلا ويظنه القارىء متخصصا في هذا الفن. ثالثا: شيوخه : تتلمذ تقي الدين على شيوخ كثيرين، وقد خرج لنفسه مشيخة- رواها عنه الذهبى- روى فيها أربعين حديثا عن أكثر من أربعين شيخا وشيخة (2) ،؟ اشتهر برواية جزء حديثى مشهور- وهو جزء ابن عرفة (3) -، ومن شيوخه الذين لم يردوا في مشيخته: 1- شرف الدين المقدسى: أحمد بن الشيخ كمال الدين أحمد بن نعمة ابن أحمد الشافعى خطيب دمشق ومفتيها، وشيخ الشافعية فيها [622هـ -694 هـ] (4) . 2 - محمد بن عبد القوي بن بدران بن عبد اللة المقدسى، المداوي، الفقيه المحدث النحوي، شمس الدين أبو عبد الله، قرأ عليه ابن تيمية العربية [ولد سنة 603 هـ، وتوفي سنة 699 هـ] (5) . 3- تقى الدين الواسطي، أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن أحمد بن فضل الصالحي الحنبلى 1 602 هـ- 692 هـ، (6) .   (1) انظر: العقود (ص: 3، 7) ، والوافي (7/16) ، وتاريخ ابن الوردي (2/ 8 0 4-9 0 4) ، والأعلام العلية (ص: 8 1) ، وذيل ابن رجب (2/388) . (2) طبعت في مجموع الفتاوى (18/76- ا 2 1) ، كما طبعت مفردة في دار القلم بتحقيق الشيخ عبد العزيز السيروان- ترجم لرواتها فوهم في تراجم بعضهم- وعدد الشيوخ الواردين في المشيخة - وبعضهم تكرر في أكثر من حديث- واحد وأربعون شيخا وأربع شيخات. (3) طبع هذا الجزء وانظر الصفحات (23،25،28) من مقدمة المحقق، وممن روى هذا الجزء عن ابن تيمية التجيبي: القاسم بن يوسف التجيبى السبتي المتوفي سنة 730 هـ، انظر برنامجه (ص: 92 ا-193) ، هـ الدار العربية للكتاب. (4) انظر: البداية والنهاية (13/ 341) ، والعبر (3/ 381) ، وشذرات الذهب (5/ 424) . (5) انظر: العبر (3/ 402) ، وذيل طبقات الحنابلة (342/2) ، شذرات الذهب (5/ 352) . (6) انظر: العبر (3/378) ، والمنهل الصافي (1/122-126) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 4- محمد بن إسماعيل بن أبى سعد بن على الشيباني الآمدي ثم المصري، شمس الدين أبو عبد الله [687 هـ- 4 0 7 هـ] (1) . 5- المنجا بن عثمان بن أسعد بن المنجا التنوخى الدمشقى، زين الدين أبو البركات [631 هـ- 695 هـ] أخذ عنه ابن تيمية الفقه (2) . 6- عبد الرحيم بن محمد بن أحمد بن فارس العلثى ثم البغدادي، عفيف الدين أبو محمد [2 1 6 هـ- 685 هـ] (3) . ست الدار بنت عبد السلام ابن تيمية، عمة شيخ الإسلام، روى عنها، توفيت سنة 686 هـ (4) وغيرهم من الشيوخ الذين روى وأخذ عنهم والذين يزيدون على مئتي شيخ (5) .. رابعا: هل كان مقلدا لشيوخه ؟ كل عالم يبدأ حياته العلمية غالبا ما يبدؤها بتقليد شيوخه الذين أخذ عنهم ووثق في علومهم، والمتتبع لحياة شيخ الإسلام ابن تيمية يلمس منها أن ما أعطاه الله من ذكاء وقوة حافظة وسرعة إدراك وجو علمي مليء بالعلماء وبالكتب التى ألفها من كان قبلهم، ساعده على أن يكون ذا قدرة علمية مستقلة بعيدة عن التقليد الأعمى، ولذلك استمر طول حياته على منهج واحد لم يتغير، بخلاف بعض العلماء- خاصة من غاصوا في علم الكلام والفلسفة- تجد الواحد منهم يمر في حياته بأكثر من مرحلة، كل مرحلة لها منهج وطريقة تخالف المرحلة الأخرى.   (1) انظر: ذيل طبقات الحنابلة (2/352) . (2) انظر: المصدر السابق (2/332) . (3) انظر: العبر (3/359) ، وذيل ابن رجب (2/315) . (4) انظر: أعلام النساء (2/154) . (5) انظر: العقود (ص: 3) ، والكواكب (ص: 52) ، وانظر في شيوخ ابن تيمية: ديل ابن رجب (2/387) ، والبداية والنهاية (14/136- 137) ، والوافي (7/16) ، وتذكرة الحفاظ للذهبي (4/1496) ، والدرر الكامنة (1/ 154) وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 ومع ذلك فنلمس- من خلال تتبع حياة ابن تيمية- رجوعه عن بعض المسائل التي قد يكون أخذها تقليدا، أو لم تتكامل معرفته بالشخص أو المسألة المعينة: فمثلا: يذكر أنه كان يحسن الظن بابن عربي الصوفي صاحب الفتوحات ثم عرف حقيقة حاله، يقول: " وأنا كنت قديما ممن يحسن الظن بابن عربى ويعظمه، لما رأيت في كتبه من الفوائد مثل كلامه في كثير من الفتوحات، والكنه، والمحكم المربوط، والدرة الفاخرة، ومطالع النجوم، ونحو ذلك، ولم نكن بعد اطلعنا على حقيقة مقصوده، ولم نطالع الفصوص ونحوه، وكنا نجتمع مع إخواننا في الله نطلب الحق ونتبعه، ونكشف حقيقة الطريق، فلما تبين الأمر عرفنا نحن ما يجب علينا، فلما قدم من المشرق مشايخ معتبرون، وسألوا عن حقيقة الطريقة الإسلامية والدين الإسلامي وحقيقة هؤلاء وجب البيان " (1) . ومرة حضر مع الصوفية وأقاموا سماعا لكنه لم يشاركهم يقول: " وكنت في أوائل عمري حضرت مع جماعة من أهل الزهد والعبادة والارادة، فكانوا من خيار أهل هذه الطبقة، فبتنا بمكان، وأرادوا أن يقيموا سماعا وأن أحضر معهم، فامتنعت من ذلك، فجعلوا لي مكانا منفردا قعدت فيه، فلما سمععوا وحصل الوجد والحال، صار الشيخ الكبير يهتف بى في حال وجده ويقول: يا فلان قد جاءك نصيب عظيم، تعال خذ نصيبك، فقلت في نفسي- ثم أظهرته لهم لما اجتمعنا-: أنتم في حل من هذا النصيب، فكل نصيب لا يأتي عن طريق محمد بن عبد الله فإني لا آكل منه شيئا، وتبين لبعض من كان فيهم ممن له معرفة وعلم أنه كان معهم الشياطين، وكان فيهم من هو سكران بالخمر" (2) . وهذه القصة كانت في أوائل عمره، وهنا يلحظ حرص هؤلاء الصوفية عليه لادخاله في زمرتهم، لكن موقفه القوي ووضوح العقيدة عنده ومعرفته بأحوالهم يدل على وعي مبكر بحال هذه الطائفة المنحرفة، ولذلك استمر في موقفه منها ورد عليها وفضح دعاتها. كما حدث له في مسألة"حلول الحوادث- الصفات الاختيارية لله تعالى- ومسألة الزيارة البدعية والشرعية ما يذكره بقوله: " ولكن هذه المسألة   (1) رسالة ابن تيمية إلى نصر المنبجى، مجموع الفتاوى (2/464- 465) (2) مجموع الفتاوى (10/ 4180-419) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 [أي حلول الحوادث] ومسألة الزيارة وغيرهما حدث من المتأخرين فيها شبه، وأنا وغيري كنا على مذهب الآباء في ذلك، نقول في الأصلين بقول أهل البدع، فلما تبين لنا ما جاء به الرسول دار الأمر بين أن نتبع ما أنزل الله، أو نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، فكان الواجب هو اتباع الرسول وأن لا نكون ممن قيل فيه {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [لقمان:21] وقد قال تعالى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف:24] ... " (1) ، بل يذكر أنه صنف منسكا ذكر فيه استحباب زيارة مساجد مكة وما حولها ثم تبين له أن ذلك بدعة، يقول: " وقد ذكر طائفة من المصنفين في المناسك استحباب زيارة مساجد مكة وما حولها، وكنت قد كتبتها في منسك كتبته قبل أن أحج في أول عمري، لبعض الشيوخ جمعته من كلام العلماء، ثم تبين لنا أن هذا كله من البدع المحدثة التي لا أصل لها في الشريعة، وأن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لم يفعلوا شيئا من ذلك، وأن أئمة العلم والهدى ينهون عن ذلك، وأن المسجد الحرام هو المسجد الذي شرع لنا قصده للصلاة والدعاء والطواف وغير ذلك من العبادات " (2) . فهذه المواقف له تدل على المنهل الأصيل الذي انطلق منه، متبعا للكتاب والسنة ولو كان ذلك فيه مخالفة لما كان عليه الآباء والأجداد، أو ما يترسمه الشيوخ والعلماء والقضاة، فالحق أحق أن يتبع، والأمور لا توزن بكلام الناس وما اعتادوهـ ولو كانوا علماء فضلاء- وإنما توزن بميزان الحق والعدل المبني على الشرع المنزل. خامسا: جهاده وربطه بالعمل : لقد تميزت حياة ابن تيمية بهذه الميزة العظيمة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، فلم يكن العالم القابع في بيته، المتفرغ للإفتاء   (1) رسالة في الصفات الاختيارية- جامع الرسائل- تحقيق رشاد سا لم (2/56) ، وهو في مجموع الفتاوى (6/258) . (2) اقتضاء الصراط المستقيم (2/802) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 والتدريس والتأليف - وغنما كان رحمه الله - رابطا العلم بالعمل، فعلمه يدفعه إلى تحمل مسؤوليته فيبادر إلى القيام بالحق والجهاد في سبيل الله وردع أهل الباطل. وحياة ابن تيمية كلها كانت جهادا، والكلام حول هذا الجانب يطول ولكن نشير إلى بعض الأمثلة: أ - أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر: وكانت له في ذلك مواقف عظيمة، منها: 1 - كسره للأصنام والأماكن التي تعظم من دون الله - وقد مضى نماذج من ذلك عند الحديث عن انتشار بعض الشركيات في عصره - كما كان في ديار مصر - ينهى عن إتيان المشاهد وتعظيمها، وكان ينهى الذين يحلفون إذا أرادوا تغليظ أيمانهم حلفوا عند مشهد الحسين (1) . 2 - موقفه من النصارى: لما تضاءل الوجود النصراني في بلاد الشام صارت قبرص موطنا لهم يأوون إليها وهي تحت حكم النصارى وكانوا أحيانا يأخذون معهم أسارى المسلمين، وقد أرسل شيخ الإسلام ابن تيمية رسالة إلى ملك قبرص - سرجوان - يدعوه فيها إلى الإسلام، ويفضح ما يفعله القسس والرهبان من الكذب على الناس مع معرفتهم أنهم على الباطل، ثم بعد أن ذكر ما عند الملك من الديانة ومحبة العلم وطلب المذاكرة، وحسن المعاملة، دعاه إلى الإسلام والاعتقاد الصحيح - بأسلوب يفيض رقة وأدبا مع مخاطبة العقل - ثم يقول: " وإن رأيت من الملك رغبة في العلم والخير كاتبته وجاوبته عن مسائل يسألها، وقد كان خطر لي أن أجيء إلى قبرص لمصالح في الدين والدنيا ... " (2) ، ثم عقب بعد ذلك بذكر مواقفه من التتار وكيف أنه لما خاطبهم بإطلاق الأسارى وكيف أبى إلا أن يطلق جميع الأسارى من اليهود والنصارى ولا يقتصر على المسلمين، ثم يقول بلهجة قوية:: فيا أيها الملك، كيف تستحل سفك الدماء   (1) انظر ناحية من حياة شيخ الإسلام بقام خادمه (ص15 - 17) . (2) الرسالة القبرصية (ص54) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وسبى الحريم وأخذ الأموال بغير حجة من الله ورسوله " (1) . ثم أوصى في آخر الرسالة بالإحسان إلى من عنده من المسلمين، وأن لايسعى إلى تغيير دين أحد منهم (2) . كا كان لابن تيمية مناقشات لبعض النصارى، ففي الجواب الصحيح أشار إلى بعض مناقشاته لهم (3) ، وأيضا فقد ناقش ثلاثة من رهبان النصارى جاءوه من الصعيد لما كان في مصر (4) . وفي سنة 693 هـ كانت وقعة عساف (5) النصراني، حين سب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام عليه ابن تيمية والشيخ زين الدين الفارقي شيخ دار الحديث ودخلا على الأمير، وكانت قصة أوذي فيه الشيخان، ثم جاء الخبر بقتل النصراني (6) . 3- أما الصوفية فله معهم مواقف عدة، من أشهرها موقفه من الدجاجلة البطائحية (7) ، وهذه الطائفة كان له معها وقائع متعددة، بين لهم فيها ما عندهم من حق وباطل، كما فضح أحوالهم الشيطانية التي يزعمونها، وعزم على أن يدخل معهم النار التى يزعمون أنها من أحوالهم وخوارقهم، وقد استتابهم وأظهروا له الموافقة والطاعة، ولكنهم في تاسع جمادي الأولى سنة 705 هـ ذهبوا إلى الأمير   (1) المصدر السابق (ص: 61) . (2) انظر: رسالته إلى ملك قبرص (ص: 71-72) ، وقارن هذه الرسالة برسالة ألمط الوليد الباجي المتوفي سنة 474 هـ إلى راهب فرنسا النصرالمط جوابا لرمالته إلى المقتدر بالثة حام س قسطة 438 - 474 هـ يدعوه فيها إلى الدخول في النصرانية. فانتدب الباحي لإجابته، وكان أسلوبه جيدا. انظر الرسالتين بتحقيق: محمد عبد اللة الشرقاوي. (3) انظر: الجواب الصحيح (2/172) . (4) انظر: مجموع الفتاوى (1/ 370- 371) ، وترجمة ابن تيمية بقلم خادمه (ص: 23-24) . (5) هو عساف ابن أحمد بن حجى، البداية والنهاية (13/ 340) ، والنجوم الزاهرة (74/8) . (6) انظر: البداية والنهاية (13/ 335-336) . (7) يقال لهم الأحمدية والرفاعية نسبة إلى أحمد الرفاعى؛ مؤسسها في أم عبيدة من قرى البطائح بين البصرة وواسط وخلف الرفاعي خاله منصور البطائحي، انظر عن أحمد الرفاعي وأم عبيدة والبطائح: وفيات الأعيان (1/171-172) ، والطرق الصوفية في مصر (ص: 89) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 يشكون ابن تيمية ويطلبون منه أن يسلم لهم حالهم، وأن يكف إمارته عنهم، وأن لا يعارضهم ولا ينكر عليهم، وأرادوا أمام الناس إظهار أحوالهم الشيطانية، فلما جاء شيخ الإسلام تكلم عن اتباع الشريعة وأنه لا يسع أحدا الخروج عليها، ورد على دعواهم أنهم يستطعون دخول النار وأن أهل الشرع لا يستطعون ذلك، وعزم على أن يدخل معهم بشرط أن يغسلوا أجسامهم بالخل والماء الحار وقال في أثناء المناقشة: ومع هذا فلو دخلتم النار أو طرتم في الهواء وفعلتم ما فعلتم لم يكن دليلا على صحة ما تدعونه من نحالفة الشرع، وبعد ما غلبوا وبهتوا أقروا بأن يلتزموا التزاما تاما بالكتاب والسنة ومن خرج عنهما ضربت عنقه. وهكذا قضى على هذه الفتنة العطمة، وأحبطت مزاعم هذه الطائفة المنحرفة الذين " كانوا لفرط انتشارهم في البلاد، واستحواذهم على الملوك والأمراء والأجناد، لخفاء نور الإسلام، واستبدال اكثر الناس بالنور الظلام، وطموس آثار الرسول في أكثر الأمصار، ودروس حقيقة الإسلام في دولة التتار، لهم في القلوب موقع هائل، ولهم فيهم من الاعتقاد ما لا يزول بقول قائل " (1) . 4- في سنة 704 هـ قام باستتابة شيخ يسمى إبراهيم القطان، وحلق رأسه وقلم أظافره وكانوا طوالا جدا، واستتابه من كلام الفحشى وأكل ما يغير العقل، وما لا يجوز من المحرمات، وبعد ذلك استحضر الشيخ محمد الخباز البلاسي فاستتابه أيضا عن أكل المحرمات ومخالطة أهل الذمة (2) . وفي الاسكندرية توب رئيسا من رؤساء الصوفية (3) ، كما أنكر على طائفة القلندرية (4) ،   (1) مناظرة ابن تيمية لدجاجلة البطائحية. مجموع الفتاوى (11/456-457) ، وانظر: تفاصيل أخرى مهمة من (ص: 445-475) وهي ضمن مجموعة الرسائل والمسائل، ط المنار (1/ 121-146) ، وانظر في قصتهم: العقود (ص: 194) ، والبداية والنهاية (14/33) . (2) انظر: البداية والنهاية (14/33) . (3) انظر العقود (ص: 274) . (4) ويسمون الملامية أو الملامتية، واليونسية والحيدرية، وهى من طوائف الصوفية المنحرفة نشأت بعد الستمائة بقليل في دمشق، انظر: أخبارهم في خطط المقريزي (2/432-433) ، والرد الوافر مع الحاشية (ص: 94-95) ، وانظر: فتوى شيخ الاسلام فيهم في مجموع الفتاوى (35/163) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وفي سنة 726 هـ ضربت عنق ناصر بن الشرف الهيثي لكفره واستهتاره بآيات الله، شهد قتله ابن كثير وجاءه ابن تيمية وقرعه على ما كان يصدر منه (1) . وفي إحدى المرات عزر أحد المشايخ ممن يدعي أنه المهدي (2) . 5- في سنة 699 هـ قام مع أصحابه على الخمارات والحانات فكسروا آنية الخمور وأراقوها وعزروا جماعة من أهل الحانات ففرح الناس بذلك (3) . وفي سنة 701 هـ قام عليه مجموعة من الحسدة بسبب إقامته الحدود والتعزير (4) . 6- أما مواقفه من السلاطين فمشهورة وأشهرها موقفه من قازان سلطان التتار- والتتار في ذلك الوقت كانت لهم هيبة وصولة- وكيف أنه كلمه بكلام قوي عن أعمالهم وافسادهم وانتهاكهم لحرمات المسلمين مع ادعائهم الإسلام (5) . وكذلك موقفه من الناصر- حين عاد إلى سلطنته للمرة الثالثة وأفرج عن ابن تيمية- فعرض وزيره مسألة أهل الذمة وأنهم يريدون أن يدفعوا أموالا على أن لا يلزموا باللباس المخصوص بهم، فاستشار السلطان العلماء الحاضرين فسكنوا، فتكلم ابن تيمية بكلام غليظ حتى رجع السلطان (6) . وكذلك موقفه من الأمير قطلوبك الكبير الذي كان يأخذ أموال الناس بالباطل فجاءه ونهاه (7) . 7- وكان لابن تيمية تأثير على السلاطين ليقوموا بدورهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمثلا حين اشهرت الرشوة وأصبح لها دور في تولية بعض المناصب، بل وفي إسقاط الحدود في سنة 712 هـ ورد خطاب إلى دمشق   (1) انظر: البداية والنهاية (14/ 122-123) . (2) انظر: الاستغاثة (2/218- 219) . (3) انظر: البداية والهاية (14/ 11) . (4) المصدر السابق (14/19) . (5) انظر المصدر السابق (14/ 89) ، والأعلام العلية (ص: 69) ، والكواكب (ص: 93) ، ودولة بني قلاوون (ص: 178) . (6) انظر: العقود (ص: 281) ، وا لبدا ية وا لنها ية (4 1/54) ، والكواكب (ص: 137) ، وحسن المحاضرة (2/ 300) . (7) انظر: الوا في (7/17) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 من السلطان أن لا يولي أحد بمال ولا رشوة، وأن يقتص من القاتل بحكم الشرع. وكان ذلك بمشورة ابن تيمية (1) . كما حارب ابت تيمية بعض البدع ومنها صلاة الرغائب (2) فيذكر ابن كثير أنه في سنة 706هـ صليت صلاة الرغائب التي أبطلها ابن تيمية بسبب سجنه في مصر (3) ، ثم أبطلت سنة 707 هـ (4) . هذه نماذج من مواقف ابن تيمية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو لم يكن في حياته إلا هذا الجانب لكان دليلاً على جهاده وصبره -رحمه الله-. ومما يلحظ في هذا الجانب وفي غيره أن ابن تيمية كانت له جماعة من أصحابه يستعين بهم، وينفذون معه ما يريد، ويصحبونه في حالات جهاده، وأمره بالمعروف أو نهيه عن المنكر، وهذا ملاحظ في ترجمته، فابن كثير يذكر أنه في سنة 699هـ خرج الشيخ ابن تيمية وجماعة من أصحابه إلى ملك التتر (5) ... ، وفي سنة 704هـ ذهب مع أصحابه لهدم صخرة تزار (6) ، وفي نفس السنة ذهب مع أصحابه إلى جبل الكسروانيين، وفي سنة 709 هـ لم يخرج أحد من أصحابه معه إلى الاسكندرية، لكن بعد ذلك لحق به جماعة من أصحابه (7) . ب - جهاده للتتار: اكتنفت جهاد التتار حالة من الغموض في بعض الأمور المتعلقة بهم، كما صاحبها أحوال من الخوف والهلع من هذه الجيوش المدمرة، كما أن أوضاع العصر   (1) انظر البداية والنهاية (14/66) . (2) صلاة مبتدعة نشأت في القدس بعد الثمانين والأربعمائة، ورد فيها حديث موضوع، وهي صلاة في رجب تصلى في الليل على أثر صيام أول خميس فيه، وهذه الصلاة هي موضوع المساجلة العلمية بين العز بن عبد السلام وابن الصلاح، انظرها مع مقدمتها. طبع المكتب الإسلامي. (3) انظر البداية والنهاية (14/ 41) . (4) المصدر السابق (14/46) (5) المصدر نفسه (14/8) (6) المصدر نفسه (14/ 34) . (7) انظر البداية والنهاية (14/ 49 - 50) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وما فيه من فوضى جعلت موضوع " الجهاد في سبيل الله" الذي هو من أشرف الأعمال وأعظمها صورة نظرية تقرأ في نصوص الكتاب والسنة وأقوال العلماء، أو انحصرت في مسألة واضحة- لا يزال المسلمون يعيشون أحداثها- في جهادهم للنصارى. وقد هيأ الله لهذه الأمة في هذا الوضع رجلاً يقوم بدور كبير في هذا المجال وفي هذه الأحوال، وقد ظهرت مواقف ابن تيمية وجهاده العظيم من خلال مايلي: أ- توضيح حال التتار، وأنه يجب قتالهم- لاتفاق العلماء على وجوب قتال كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام- ثم بيانه لأحوال التتار وأنه ينطبق عليهم هذا الحكم- وقد تقدم بيان ذلك. ب- بيان أسباب النصر، وأن التتار- على قوتهم وكثرتهم ورهبة الناس منهم- ليس مستحيلا أو صعبا النصر عليهم متى ما أخذ المسلمون بأسباب النصر من تحكيم الشرع ورفع الظلم ونشر العدل، وإخلاص النية في الجهاد في سبيل اللة، ولذلك نجده في معركة " شقحب " (1) يأمر الناس بالفطر اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح وأفطر معهم، وكذلك لما حض السلطان على الجهاد سأله السلطان أن يقف معه فقال له الشيخ: السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم (2) ، وقبيل المعركة- وابن تيمية يحض على الجهاد- كان يحلف للأمراء والناس: إنكم في هذه الكرة منصورون فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا، وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله منها قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:60] . (3) .   (1) شقحب كجعفر، موضع قرب دمشق، وهي قرية صغرة قبلي دمشق على تخوم أرض حوران تبعد عن دمشق 37 كيلو مترا. وشقحب تقع تحت جبل غباغب وهي قرية في أول عمل حوران، انظر: تاج العروس (1/324) ط بولاق، ومعجم البلدان (4/184) ، والسلوك (1/932) ، وأعلام الورى لابن طولون (ص: 166) حاشية المحقق. (2) انظر: البداية والنهاية (14/26) . (3) المصدر السابق (14/23) وفيه وقع تحريف في الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 ب- ثم نجدهـ بعد جهاده لهؤلاء والانتصار عليهم- يحلل تلك المعارك ويبين الدروس المستفادة منها، ويقف فيها وقفات يبين وجه الشبه بين ما جرى مع التتار وغزوات النبى - صلى الله عليه وسلم -، يقول في بداية كلامه: " إن هذه الفتنة التي ابتلى بها المسلمون من هذا العدو المفسد الخارج عن شريعة الاسلام، قد جرى فيها شبيه ما جرى للمسلمين مع عدوهم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المغازي التى أنزل الله فيها كتابه، وابتلى بها نبيه والمؤمنين، ما هو أسوة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا إلى يوم القيامة، فإن نصوص الكتاب والسنة اللذين هما دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - يتناولان عموم الخلق بالعموم اللفظى والمعنوي، أو بالعموم المعنوي. وعهود الله في كتابه وسنة رسوله تنال آخر هذه الأمة كا نالت أولها وإنما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأم لتكون عبرة لنا، فنشبه حالنا بحالهم، ونقيس أواخر الأمم بأوائلها ... " (1) ، ثم يذكر هذه الفتنة التي وقعت فيقول: " ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران، وأنزلت الرجل الصاحي منزلة السكران، وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوسواس ليس بالنائم ولا اليقظان وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان " (2) . ثم بين أقسام الناس في هذه الحادثة ووجه الاعتبار منها، ثم أخذ يقارن بين أحداث السيرة وبين ما وقع في هذه الفتنة مع التتار؛ فيعرض لحال الأعداء ولحال المؤمنين، ثم يتكلم عن المنافقين وأفعالهم وصفاتهم، مع مقارنة دقيقة بأحوالهم في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيذكر تحزب الأحزاب من كل جانب على المدينة ثم يقول: " وهكذا هذا العام: جاء العدو من ناحيتي علو الشام، وهو شمال الفرات، وهو قبلي الفرات، فزاغت الأبصار زيغا عظيما، وبلغت القلوب الحناجر، لعظم البلاء، لا سيما لما استفاض الخبر بانصراف العسكر إلى مصر، وتقرب العدو وتوجهه إلى دمشق، وظن الناس بالله الظنونا: هذا يظن أنه لا يقف قدامهم أحد من جند الشام، حتى يصطلموا أهل الشام.   (1) العقود الدرية (ص: 121) . (2) المصدر السابق (ص: 124) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وهذا يظن أنهم لو وقفوا لكسروهم كسرة وأحاطوا بهم إحاطة الهالة بالقمر. وهذا يظن أن أرض الشام ما بقيت تسكن ولا بقيت تكون تحت مملكة الإسلام. وهذايظن أنهم يأخذونها ثم يذهبون إلى مصر فيستولون عليها، فلا يقف قدامهم أحد، فيحدث نفسه بالفرار إلى اليمن ونحوها. وهذا- إذا أحسن ظنهـ قال: إنهم يملكونها العام كما ملكوها عام هولاكو سنة سبع وخمسين، ثم قد يخرج العسكر من مصر فيستنقذها منها كما خرج ذلك العام، وهذا ظن خيارهم. وهذا يظن أن ما أخبره به أهل الآثار النبوية وأهل التحديث والمبشرات أماني كاذبة وخرافات لاغية. وهذا قد استولى عليه الرعب والفزع حتى يمر الظن بفؤاده مر السحاب ليس له عقل يتفهم ولا لسان يتكلم. وهذا قد تعارضت عنده الأمارات وتقابلت عنده الإرادات لاسيما وهو لا يفرق من المبشرات بين الصادق والكاذب ... فلذلك استولت الحيرة على من كان متسما بالاهتدار، وتراجمت به الآراء تراجم الصبيان بالحصباء هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا (1) . وجهود ابن تيمية في جهاد التتار يمكن تلخيص أهم أحداثها فيما يلي: أ- في عام 697 هـ في يوم الجمعة 17 شوال عمل ميعادا للجهاد، وحرض عليه، وبين أجر المجاهدين، وكان ميعادا حافلا جليلاً (2) . 2- وفي عام 699 هـ- حين قدم قازان بجيوشه إلى الشام- كانت له مواقف: أ- ففي الاثنين ثاك ربيع الآخر توجه ابن تيمية وأعيان البلد إلى قازان   (1) المصدر السابق (ص: 149- 150) ، وانظر: بقية التحليل الرائع لهذه الأحداث إلى (ص:175) . (2) انظر: البداية والنهاية (13/352) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 لمقابلته، وأخذ الأمان للبلد، وكلمه ابن تيمة كلاما قويا، شديدا، وكان في موقفه مصلحة عطمة عاد نفعها للمسلمين (1) ب- ولما كان التتر مستولين على مدينة دمشق فأرادوا الاستيلاء على قلعتها الحصينة، فأرسل ابن تيمية إلى نائب القلعة يقول له: لو لم يبق فيها إلا حجر واحد فلا تسلمهم ذلك إن استطعت، وقد حفظ هذا الحصن ولم يدخله التتار (2) . ب- خرج ابن تيمية مرة ثانية لمقابلة ملك التتر في العشرين من ربيع الآخر، فلم يتمكن من ذلك (3) ، ثم خرج لملاقاة بولاي فاجتمع به في فكاك من كان معه من أسارى المسلمين، فاستنقد كثيرا منهم من أيديهم وأقام عنده ثلاثة أيام ثم عاد (4) . د- بعد رحيل التتار من دمشق، بقيت البلد في خوف شديد لا يدري الناس متى يهجم التتار مرة أخرى، فاجتمع الناس حول الأسوار لحفظ البلد، وكان ابن تيمية يدور كل ليلة على الأسوار يحرض الناس على الصبر والقتال، ويتلو عليهم آيات الجهاد والرباط (5) . 3- في سنة 700 هـ أشيع أن التتار قادمون لغزو الشام، فأصيب الناس بالرعب، يقول ابن كثير: " وفي مستهل صفر وردت الأخبار بقصد التتار بلاد الشام وأنهم عازمون على دخول مصر، فانزعج الناس لذلك، وازدادوا ضعفا على ضعفهم وطاشت عقولهم وألبابهم، وشرع الناس في الهرب إلى بلاد مصر والشوبك والحصون المنيعة، فبلغت الحمارة إلى مصر خمسمائة، وبيع الجمل بألف والحمار بخمسمائة وبيعت الأمتعة والثياب والمغلات بأرخص الأثمان، وجلس الشيخ تقي الدين ابن تيمية في ثافي صفر بمجلسه في الجامع وحرض الناس   (1) انظر: البداية والنهاية (14/7) - وسبقت مصادرها- وكان ممن معه بدر الدين بن جماعة. السلوك (1/ 889) . (2) انظر: البداية والنهاية (14/7-8) . (3) المصدر السابق (14/ 8) ، في السلوك (1/892) ، إنه لم يمكنه الاجتماع به لسكره. (4) المصدر نفسه (4 1/ 0 1) ، والسلوك (1/896) . (5) المصدر نفسه (14/11) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 على القتال، وساق لهم الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، ونهى عن الإسراع في الفرار، ورغب في إنفاق الأموال في الذب عن المسلمين وبلادهم وأموالهم، وأن ما ينفق في أجرة الهرب إذا أنفق في سبيل الله كان خيرا، وأوجب جهاد التتر حتما في هذه الكرة وتابع المجالس في ذلك، ونودي في البلاد: لا يسافر أحد إلا بمرسوم وورقة، فتوقف الناس عن السير، وسكن جأشهم، وتحدث الناس بخروج السلطان من القاهرة بالعسكر ودقت البشائر لخروجه، لكن كان قد خرج جماعة من بيوتات دمشق كبيت ابن صعرى، وبيت ابن فضل الله، وابن منجا، وابن سويد، وابن الزملكاني، وابن جماعة " (1) ، ثم أرجف في ربيع الآخر بأمر التتر، وأن السلطان رجع إلى مصر فاشتد ذلك على الناس، وخرج الناس خفافا وثقالا هابين من المدينة وقد اشتدت الحال مع كثرة الأمطار والوحل والبرد، فذهب ابن تيمية إلى نائب الشام في المرج فثبتهم وقوى جأشهم، وبات عندهم فانتدبوه أن يذهب إلى السلطان يستحثه على المجيء، فسار إليه فلم يدركه إلا وقد دخل القاهرة، وتفرق الجند، لكن ابن تيمية قابل السلطان واستحثه على تجهيز العساكر إلى الشام وقال لهم: " إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانا يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن، ولم يزل بهم حتى جردت العساكر إلى الشام" (2) ، وأقام ابن تيمية بقلعة مصر ثمانية أيام يحثهم على الجهاد فأجابوه ثم رجع إلى الشام، ثم جاءت الأخبار إلى الشام أن التتار رجعوا فأمن الناس وسكن جأشهم. 4- في سنة 752 هـ كانت وقعة شقحب التي هزم فيها التتار وكان لابن تيمية دور عظيم فيها (3) .   (1) البداية والنهاية (14/14) . (2) المصدر السابق (14/15) ، وانظر: العقود (ص: 119) ، والكواكب (ص: 95) ، والرد الرافر (ص: 106) ، والدرر الكامنة (1/162) . (3) انظر: العقود (ص: 175) ، والبداية والنهاية (14/25) ، والكواكب (ص: 96) ، وبدائع الزهور (1/1/413) ، والسلوك (1/923) ، والوثائق السياسية لعهد المماليك (ص: 86) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 5- وفي سنة 712 هـ وابن تيمية في مصر بعد محنته وسجنه ثم الإفراج عنه خرج مع السلطان قلاوون للجهاد في سبيل الله (1) . هذه خلاصة مواقفه من التتار، وأسلوبه في معالجة هذه الفتن العظيمة التي حلت بالمسلمين. وفيها يتبين كيف أن هذا الإمام ذا المواقف المشهودة في مجال العلم والرد على الخصوم وتوضيح الحق للناس، كان إماما في الجهاد، وكان مثالا للشجاعة النادرة وقوة القلب وصدق اليقين بوعد الله في وقت ذهلت فيه قلوب الرجال. ج-- جهاد النصارى والرافضة: لم تشر أكثر المصادر إلى دور ابن تيمية في جهاد النصارى، قبل إجلائهم عن الشام نهائيا، إلا أن البزار (2) يذكر في معرض ذكره لقوة قلبه وشجاعته فيقول: " وحدثوا أنهم رأوا منه في فتح عكة أمورا من الشجاعة يعجز الواصف عن وصفها، قالوا: ولقد كان السبب في تملك المسلمين إياها بفعله ومشورته وحسن نظره (3) . وفتح عكا (4) كان سنة 690 هـ فيكون عمر ابن تيمية وقتها قرابة الثلاثين عاما فلا يستبعد أن يشارك في فتحها خاصة وأن ابن كثير قال في أحداث هذه السنة: " وفيها جاء البريد إلى دمشق في مستهل ربيع الأول لتجهيز آلات الحصار لعكا، ونودي في دمشق الغزاة في سبيل الله إلى عكا ... وخرجت العامة والمتطوعة يجرون في العجل، حتى الفقهاء والمدرسين والصلحاء .... " (5) . فمن البعيد أن يتخلف ابن تيمية- والحالة هذهـ مع شغفه بالجهاد في سبيل الله.   (1) انظر: البداية والنهاية (14/67) . (2) هو: عمر بن على البزار، كان من أصحاب ابن تيمية، ولد سنة 688 هـ- وتوفي سنة 749 هـ. انظر: ذيل ابن رجب (2/444) ، والرد الوافر (ص: 195) ،، والدرر الكامنة (3/256) . (3) الأعلام العلية. (ص: 68) ، ونقلها عنه في الكراكب (ص: 92) . (4) ويقال عكة، وهي مدينة حصينة على ماحل بكر الثام من عمل الأردن، معجم البلدان (4/143) ، وآثار العباد (ص: 223) ، والروض المعطار (ص: 410) . (5) البداية والنهاية (13/ 0 32) ، وانظر في فتح عكا السلوك (1/763) ، والملحق (ص: 3- 0 1) ، ومختصر أبي الفداء (4/24) ، والأنس الجليل (2/89) ، وتذكرة النبيه (1/137) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 أما الرافضة: فقد كانوا يتحصنون في جبال الجرد والكسروانيين، وقد ذهب إليهم ابن تيمية سنة 704 هـ ومعه جماعة من أصحابه فاستتابوا خلقا منهم وألزموهم شرائع الإسلام (1) ، وفي سنة 705 هـ- في أولها- خرج ابن تيمية ومعه طائفة من الجيش ونائب السلطنة فنصرهم الله عليهم وأبادوا خلقا منهم ومن فرقتهم الضالة، وقد حصل بسبب شهود ابن تيمية هذه الغزوة خير كثير، ولما رجع مع نائب الشام منتصرا امتلأت قلوب أعدائه حسدا له (2) . * * * هذه نماذج من جهود ابن تيمية وربطه العلم بالعمل، وإذا كان موضوع هذا البحث يدور حول قضايا علمية في مواقفه من الأشاعرة، إلا أن هذه الجوانب العظيمة العملية في حياته أضفت على مواقفه وكلامه ورسائله وكتبه طابعا معينا، فلم تكن المحن التي مر بها، والمناظرات التي عقدت له وما لقي في سبيل الدفاع عن الحق وبيانه للناس من أذى وسجن قر دون أن تظهر للناس، وتأخذ حيزاً كبيرا من اهتمامهم، وتشغلهم أوقاتا طويلة يتابعون أحداثها ويتفاعلون معها. سادسا: مكانته ومنزلته : لقد تبوأ شيخ الإسلام ابن تيمية مكانة ومنزلة عظيمة بين علماء عصره، وكان لذلك أسبابه، كما أن هذه المنزلة تمثلت في مظاهر مختلفة ... فمن أسباب ذلك: ا- بعده عن المناصب أو أخذ رواتب من الدولة، وكان ذلك عن عزم منه وتصميم، فلم يتول القضاء أو الإمارة، كما لم يأخذ أجرا على الدروس التى كان يلقيها في دور الحديث أو الجامع؟ فقد عرض عليه قازان لما قابله أن يعمر حران   (1) انظر: البداية والنهاية (14/35) ، والكواكب (ص: 92) ، وانظر: منهاج السنة (1/58- 66) ، المحققة، وأيضا (3/ 244) . (2) انظر: العقود (ص: 179- 194) ، تاريخ بيروت (ص: 27) ، والبداية والنهاية (14/ 35) ، والسلوك (2/12) ، وانظر موقفا من مواقفه في جهاده في مجموع الفتاوى (11/ 474) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وأن يكتب برسمه أميرا عليها، فرفض ذلك (1) ، كما أنه " لما سافر على البريد إلى القاهرة سنة سبعمائة وحض على الجهاد، رتب له مرتب في كل يوم، وهو دينار وتحفه وجاءته بقجة قماش، فلم يقبل من ذلك شيئا " (2) . بل إن بعض حساده قد وشوا به إلى السلطان الناصر وأنه يطلب الملك وأنه دائما يلهج بذكر ابن تومرت (3) ، فأحضره بين يديه وقال له من جملة كلامه: " إنني أخبرت أنك قد أطاعك الناس، وأن في نفسك أخذ الملك "، فلم يكترث به، بل قال له بنفس مطمئنة وقلب ثابت، وصوت عال سمعه كثير ممن حضر: أنا أفعل ذلك؟ والله إن ملكك وملك المغل لا يساوي عندى فلسين، فتبسم السلطان لذلك وأجابه في مقابلته بما أوقع الله له في قلبه من الهيبة العظيمة: إنك والله لصادق، وإن الذي وشى بك الي كاذب " (4) . لقد أعطى هذا الموقف- من البعد عن المناصب والرواتب- ابن تيمية استقلالية وحرية، كما أبعد عنه وسائل الضغط النفسية والحسية فهو لا يشعر بأن لهم منة عليه، كما أنه لا يخاف قطع رزقه المتمثل براتب أو نحوه. وكان لذلك أثر في مكانته وهيبته في النفوس. 2- توضيحه لأمور اشتبهت على علماء عصره: أ- فالتتر اشتبه أمرهم على الناس- بعد ادعائهم الدخول في الإسلام فبين ابن تيمية أمرهم للناس، فنشطوا لقتالهم حتى انتصروا عليهم (5) .   (1) انظر: الأعلام العلية (ص: 71) . (2) تتمة المختصر (2/410) ، ولما كان في السجن في الجب في مصر لم يقبل شيئا من النفقات 1لسلطانية، البداية والنهاية (14/43) (3) هو: محمد بن عبد الله بن تومرت، مهدى الموحدين- الذين قامت دولتهم على أثر دولة المرابطين في المغرب، ولد سنة 485 هـ، رتوفي سنة 524 هـ. انظر: طبقات السبكى (6/109) . (4) الأعلام العلية (ص: 72-73) ، والكراكب (ص: 98-99) . (5) حول اشتباه أمرهم على الناس انظر- إضافة إلى نصوص الأسئلة التى وردت إلى ابن تيمية: رسالة السلطان قلاوون منة 701 هـ. النجوم الزاهرة (8/144) ، ورسالة أخرى في صبح الأعشى (7/249- 250) ، وانظر: الوثائق السياسية للعهد الصليبى والمغولي (ص: 81،83-87) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 ب- كذلك اشتبه الناس في الأموال التي أخذت من الرافضة- النصيرية وغيرهم- فأجاب ابن تيمية المستفتي ووضح أمرهم للناس (1) . ج- في سنة 701 هـ جاء اليهود من أهل خيبر، فأظهروا كتابا يزعمون أنه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن فيه إسقاط الجزية عنهم، فبين ابن تيمية كذبهم، ونقد الكتاب المزعوم نقدا حديثيا معتمدا على التاريخ؛ وذلك أن في هذا الكتاب شهادة سعد بن معاذ- رضي الله عنهـ وقد توفي قبل خيبر، وشهادة معاوية ابن أبي سفيان- رضي الله عنهـ ولم يسلم إلا بعد فتح خيبر بوقت (2) . وقد سبق ابن تيمية إلى هذا النقد الخطيب البغدادى (3) . د- وفي سنة 717 هـ شرع في عمارة أحد جوامع دمشق الكبرى، فتردد القضاة في تحرير قبلته، فاستقر الحال في أمرها على ما قاله ابن تيمية (4) . هـ- وفي سجنهـ في القاهرة- كان- كما يقول ابن كثير- " تأتيه الفتاوى المشكلة التي لا يستطيعها الفقهاء من الأمراء وأعيان الناس، فيكتب عليها ما يحير العقول من الكتاب والسنة " (5) . 3- دوره في الجهاد في سبيل الله، ولم يكن فيه الجندي الشجاع فقط، وإنما كان القائد والمعلم، وصاحب المشورات والخطط العسكرية، وإذا خاض معركة مع التتار أو الروافض ورجع الجيش منتصرا كان ابن تيمية مقدم هذا الجيش الذي يحظى بتقدير واحترام الناس وإعجابهم الشديد.   (1) انظر: البداية والنهاية (14/78) (2) انظر البداية والنهاية (14/19) ، وانظر أيضا (4/219- 220، 5/351-352) وقد وقف ابن كثير على هذا الخطاب. (3) هو: أحمد بن علي بن ثابت، حياته [392 هـ- 463 هـ] ترجمته في المصاد التالية: وانظر في قصة كشفه لتزويرهم هذا الكتاب: طبقات السبكي (4/35) ، ومعجم الأدباء لياقوت (4/18) ، والبداية والنهاية (12/101-102) ، والاعلان بالتوبيخ (ص: 26) ، طبع مفردا- مؤسسة الرسالة- والمنار المنيف لابن القيم (ص: 105) ، وانظر: حاشية المحقق- ومقاييس نقد متون السنة (ص: 188) ، وانظر في بطلان ونقض الكتاب المزور أحكام أهل الذمة (1/7-9، 235) . (4) انظر: البداية والنهاية (4/81) . (5) انظر: المصدر السابق (14/46) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 4- أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وفضحه لأصحاب الحيل الشيطانية، وبيانه لأحوال أهل الفلسفة والكلام والطوائف الضالة، فكثيرا ما أقام الحدود على المرتدين، وكثيرا ما قام بكسر الخمارات، وعزر أصحابها. كا أنه بين أحوال أهل الضلالة- في عصرهـ أو من قبله ممن قد تكون له مكانة في نفوس بعض الناس. 5- ومن أهم أسباب تبوئه لهذه المكانة والمنزلة العلم الغزير، فهو إن درس أو خطب، أو أفتى، أو كتب رسالة أو كتابا في أي فن من الفنون أتى في ذلك بما يفوق علماء عصره، وما يبهر عقولهم، ولذلك صار ابن تيمية موضع ثقة الناس يسألونه عن كل ما عن لهم. وإذا اختلف اثنان- وقد يكونان من العلماء أو طلبة العلم، كا يدل على ذلك أسلوب بعض الأسئلة- كان مرجعهما والفيصل بينهما ما يقوله ابن تيمية، ولذلك صارت الأسئلة تأتيه من الأطراف ومن البلاد البعيدة، والأصل في ذلك كله الثقة في علومه ونهجه في النظر والاستدلال. هذه أهم أسباب تبوئه لهذه المنزلة، وقد تجلت هذه المنزلة في مظاهر عديدة ا) ما سبقت الإشارة إليه في عرض الأسباب من استفتائه في الأمور المشكلة وغيرها. وانتدابه للحض على الجهاد، كما حدث في انتدابه إلى مصر ليحض السلطان على المجيء إلى الشام. 2) تولية المناصب المهمة- أصبح غالبا- بإشارة ابن تيمية، فمثلا تولية النائب الأفرم- نائب دمشق- ونقله إلى نيابة طرابلس كان بإشارة ابن تيمية (1) ، ولما آذى النائب الجديد لدمشق الناس، تم عزله بإشارة ابن تيمية (2) .   (1) انظر: البداية والنهاية (14/ 60- 61) . (2) المصدر السابق (14/ 61-62) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 3) وفي سنة 709 هـ كان موقفه المشهور من أهل الذمة، فألزموا باللباس المميز لهم، وكذلك ورد سنة 712 هـ خطاب إلى دمشق أن لا يولى أحد بمال ولا رشوة (1) . 4) بل المناصب الشرعية من الخطابة، وإدارة دور الحديث كان يعين أصحابها بإشارة من ابن تيمية، كما حدث سنة 703 هـ (2) . سابعا: محنه وسجنه : امتحن شيخ الإسلام ابن تيمية محنا عديدة، وما تكاد تنتهى عاصفة إحدى المحن حتى تبدأ محنة جديدة، حتى لقي ربه وهو في سجن القلعة بدمشق. ومما يحز في النفس أن هذا الإيذاء والعداء له لم يأت من أعداء الاسلام الذين ظهرت عداوتهم له من اليهود والنصارى والتتار والرافضة، وإنما جاء من علماء وفضلاء، قضاة ومفتين، أشربوا شبه بعض أهل الكلام والتصوف فانضاف إلى ذلك حسدهم لشيخ الإسلام وما له من مكانة في نفوس الناس، فقاموا عليه معتمدين على مناصبهم في الفتيا والقضاء وعلاقتهم بالسلاطين والأمراء، ومما يلفت الانتباه أن غالب محنه كانت مع الأشاعرة متمثلين في علماء ذلك الوقت، حتى محنته مع المتصوفة في مصر لم يكن الأشاعرة بعيدين عنها، ومعلوم أن التصوف دخل في المذهب الأشعري ضمن التطورات التي مر بها هذا المذهب، أما محنته بسبب فتياه في الطلاق فلم تكن القضية قضية خلاف اجتهد فيه ابن تيمية وخالف بعض فقهاء عصره، وإنما كانت مرتبطة بما جرى قبلها حول ردوده على الأشاعرة والمحن التي وقعت بسبب ذلك. أما أسباب العداء له فلم تكن بعيدة عما سبق بيانه مما تبوأه ابن تيمية من مكانة ومنزلة غطت على مكانة أولئك العلماء- خاصة من كان منهم في منصب القضاء أو الافتاء أو الخطبة- فلم تكن لهم أو لبعضهم تلك المواقف العظيمة   (1) انظر: البداية والنهاية (14/66) . (2) المصدر السابق (14/28) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 في أيام المحن والشدائد حين كان التتار يثيرون الرعب في النفوس قبل قدومهم بوقت طويل إذا جاءت الإشاعة أنهم قادمون، وحين كان بعض هؤلاء القضاة والعلماء يحمل أولاده وأهل بيته وما يستطيع حمله من أثاث ومال مبتعدا بهم عن هذا الهول المرتقب القادم إلى دمشق، كان شيخ الإسلام ابن تيمية يلقي درسه في الجامع عن الجهاد في سبيل الله وفضله وفضل الانفاق فيه، بل ويصدر فتوى - يلزم بها الناس- بأنه لا يجوز لأحد الفرار من دمشق، بل يجب البقاء فيها لحمايتها من الأعداء، ويبقى أولئك العلماء في دمشق لكن أولادهم وأهليهم أرسلوهم إلى مصر وغيرها. وحين انتهت هذه المحن بطرد التتار وهزيمتهم برز ابن تيمية- كإمام من أئمة العلم والجهاد-، وصارت له الوجاهة والمنزلة عند الناس. وهناك أسباب أخرى- لهذه المحن التي مر بها- تتعلق بمواقفه من أهل الكلام والتصوف والفلسفة، إذ لم تقتصر هذه المواقف على بيان مذهب السلف والسكوت عمن عداهم، أو بيان حرمة القول الفلاني أو خطئة فقط، أو غير ذلك من المواقف الباردة، بل كانت مواقفه قائمة على الرد على تلك الفرق والطوائف المختلفة، وذلك ببيان أصولها المنحرفة التي ترجع إليها ومناقضتها لأصول ومنهج السلف- رحمهم الله تعالى- فلما بدأ وهو الخبير بأصول الفرق ونشأتها وتطور المقالات الفلسفية والكلامية وكيف يؤثر بعضها على بعض ويتلقي بعضها من بعض؟ يشرح أصول أهل الكلام- وفيهم الأشاعرة- ويرجعها إلى أصول أهل الفلسفة والتجهم والاعتزال، ويوضح أصول مذهب السلف وتميزها عن منهج هؤلاء جميعا، وكل ذلك بأسلوب علمى قوي قائم على الأدلة والنصوص والنقول عن كتب ومصادر هذه الطوائف مما لا يقدر أحد على إنكاره أو ادعاء التحريف في نقله لما صار يتحدث ويكتب بهذا الأسلوب أفزع أولئك العلماء المقلدة الذين نشأوا وتلقوا عن شيوخهم مذاهبهم وعقائدهم، وهم لا يشكون انها هي مذهب أهل السنة والجماعة. لذلك قاموا على ابن تيمية يتهمونه بالطعن على السلف، ويدافعون عن المذهب الأشعري، فكانت بينه وبينهم صولات وجولات استمرت زمنا طويلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 ومن الأشياء التي تلفت الانتباه ني محن ابن تيمية دوره الإيجابي فيها، فلم تكن تلك الأحداث وما يصاحبها من التشهير والسجن وصنوف الإيذاء النفسي والجسدي تبعد به عن أهدافه الكبرى من تعليم الناس وبيان الحق لهم، ولذا تجده وهو في وسط المحنة إذا أحس بانفراج- ولو كان محدودا- لا يلتفت إلى ذاته ونفسه والدفاع عنها، والانتقام لها، وإنما يتوجه إلى أصل القضية التي يدافع عنها يبين الدليل عليها، ويؤلف الكتب والرسائل حولها ولعل تلك الكتب العظيمة التي قد يبلغ الواحد منها مجلدات والتي ألفت على أثر بعض تلك المحن من أعظم الجوانب الإيجابية فيها. وسنعرض لجانبين اثنين حول محنه: الجانب الأول: عرض مختصر لمحنه التي مر بها. والجانب الآخر: أدوار ابن تيمية الإيجابية في هذه المحن. أ- عرض مختصر للمحن التي مر بها: 1- محنته بسبب " الحموية ": وكان ذلك في شهر ربيع الأول سنة 698 هـ، في آخر سلطة المنصور حسام الدين لاجين-[696- 698 هـ] وذلك بين سلطة الناصر قلاوون الأولى والثانيةوكان نائب الشام سيف الدين قبج المنصورى، فلما كان في أول عام 698 هـ بلغ النائب والأمراء أن السلطان غاضب عليهم، فعزموا على الذهاب إلى بلاد التتر والنجاة بأنفسهم (1) ، فوقع اضطراب شديد، ففى هذه الأثناء وقعت محنة ابن تيمية حول الحموية، رلعل الفقهاء استغلوا هذه الفوضى فحملوا على عقيدة الشيخ، وملخص هذه المحنة أنه كتب جوابا سئل عنه من حماه (2) في الصفات   (1) انظر: البداية والنهاية (14/2) . (2) يقول ابن تيمية: (كنت سئلت من مدة طويلة بعيدة سنة تسعين وستمائة عن الآيات والأحاديث الواردة في صفات الله، في فتيا قدمت من حماه فأحلت السائل على غيرى فذكر أنهم يريدون الجواب مني، فكتبت الجواب في قعدة بين الظهر والعصر، نقض التأسيس المخطوط (1/3) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 فذكر فيه مذهب السلف، ورجحه على مذهب المتكلمين، وكان قبل ذلك بقليل أنكر أمر المنجمين (1) ، واجتمع بسيف الدين جاغان (2) في ذلك في حمال نيابته بدمشق، وقيامه مقام نائب السلطة، وامتثل أمره، وقبل قوله، والتمس منه كثرة الاجتماع به، فحصل بسبب ذلك ضيق لجماعة، مع ما كان عندهم قبل ذلك من كراهية الشيخ، وتألمهم لظهوره وذكره الحسن، فانضاف شىء إلى أشياء، ولم يجدوا مساغا إلى الكلام فيه لزهده وعدم إقباله على الدنيا، وترك المزاحمة على المناصب، وكثرة علمه، وجودة أجوبته وفتاويه، وما يظهر فيها من غزارة العلم وجودة الفهم. فعمدوا إلى الكلام في العقيدة لكونهم يرجحون مذهب المتكلمين في الصفات القرآن على مذهب السلف، ويعتقدونه الصواب، فأخذوا الجواب الذي كتبه، وعملوا عليه أوراقا في رده، ثم سعوا السعي الشديد إلى القضاة والفقهاء، واحدا واحدا، وأغروا خواطرهم، وحرفوا الكلام، وكذبوا الكذب الفاحش وجعلوه يقول بالتجسيم- حاشاه من ذلك- وأنه قد أوعز ذلك المذهب إلى أصحابه، وأن العوام قد فسدت عقائدهم بذلك، ولم يقع من ذلك شيء، والعياذ بالله، وسعوا في ذلك سعيا شديدا 00. (3) ، وقد وافقهم القاضي الحنفى جلال الدين بن حسام الدين (4) ، ومشى معهم إلى دار الحديث الأشرفية (5) وطلب حضوره وأرسل إليه فلم يحضر، وإنما أجابه ابن تيمية بقوله: " إن العقائد   (1) انظر: مجموع الفتاوى (35/172) ، حين ناقش زعماءهم وبين فساد صناعتهم بالأدلة العقلية التي يعترفون بصحتها. (2) انظر في توليه النيابة أحيانا السلوك (1/828-829، 847،849) . (3) العقود الدرية (ص: 198- 0 0 2) ، وانظر: الكواكب (ص: 13 1- هـ 1 1) . (4) وهو: أحمد بن الحسن بن أحمد بن الحسن الرازى الحنفي، توفى قضاء الحنفية في الشام لما تولى أبوه القضاء بمصر. ولد سنة 651 هـ، وتوفي سنة 745هـ. انظر: البداية والنهاية (14/214) ، والسلوك (2/674) ، والجواهر المضية (1/ 154) ، والفوائد الالبهية (ص: 16) . (5) بناها الأشرف مظفر الدين موسى ابن العادل سنة 628 هـ، وأول من تولى مشيختها ابن الصلاح. انظر الأطلال (ص: 24-25) وما بعدها. وخطط الشام (6/ 71) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 ليس أمرها إليك، وإن السلطان إنما ولاك لتحكم بين الناس، وإن إنكار المنكرات ليس مما يختص به القاضي "، فلما وصل إلى القاضي هذا الجواب غضب وأمر بأن ينادى في البلد ببطلان هذه العقيدة، ولكن الأمير سيف الدين جاغان أرسل طائفة إلى المنادي فضرب ومن كان معه، وأمر الأمير بطلب من سعى في ذلك فاختفوا، ثم إن شيخ الاسلام ابن تيمية لما هدأت الأمور جلس يوم الجمعة ثالث عشر هذا الشهر- شهر ربيع الأول- وكان تفسيره في درسه لقوله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم: 4] وذكر الحلم وكان درسا عظيما (1) . ثم بعد ذلك اجتمع ابن تيمية بعد ذلك بالقاضى الشافعي إمام الدين القزوينى (2) وواعده لقراءة جزئه الذي أجاب فيه وهو المعروف بالحموية، فاجتمعوا يوم السبت رابع عشر الشهر- من الصباح إلى الثلث من الليل- ميعادا طويلا مستمرا، فقرئت جميع العقيدة وبين مراده من مواضع أشكلت، ولم يحصل إنكار عليه من الحاكم ولا ممن حضر المجلس بحيث انفصل عنهم والقاضي يقول: كل من تكلم في الشيخ يعزر "، ورجع ابن تيمية إلى دار في ملأ كثير من الناس، وهم في فرح واستبشار به (3) ، وكان إمام الدين-كما يذكر ابن كثير- معتقده حسنا ومقصده صالحا- (4) . وهكذا سكنت هذه الفتنة بالاعتراف للشيخ، في أنه على الحق في عقيدته التي كتبها و! يت " الحموية " وتعتبر من أهم وأقوى رسائل ابن تيمية التأصيلية لمذهب السلف. ومن خلال هذا العرض لهذه المحنة التي نقلها صاحب العقود الدرية نلمح الظروف والأسباب التي دعت هؤلاء للقيام عليه.   (1) انظر: العقود (ص: 200- 202) . (2) هو: عمر بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد القزويني تولى قضاء القضاة بدل بدر الدين ابن جماعة، ثم لما جاء التتار انجفل إلى مصر سنة: 699 هـ ومات بعد وصوله بقليل. انظر: طبقات السبكي (8/ 310) ، والبداية والنهاية (13/14) . (3) 1 نظر: العقود (ص: 202) . (4) انظر: البداية والنهاية (14/4) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 2-- محنته ومناظرته حول " الواسطية ": وبداية هذه المحنة في يوم الاثنين 8 رجب سنة 705 هـ حين ورد مرسوم من السلطان في مصر إلى نائب الشام أن يسأل الشيخ عن عقيدته، فجمع النائب القضاة والفقهاء وابن تيمية- وهم لا يدرون لماذا جمعوا- فقال النائب: هذا المجلس عقد لك لمساءلتك عن عقيدتك، يقول ابن تيمية: " فقلت: أما الاعتقاد فلا يؤخذ عني، ولا عمن هو أكبر مني، بل يؤخذ عن الله ورسوله، وما أجمع عليه سلف الأمة، فما كان في القرآن وجب اعتقاده، وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة مثل صحيح البخاري ومسلم. وأما الكتب فما كتبت إلى أحد كتابا ابتداء أدعوه به إلى شيء من ذلك، ولكنني كتبت أجوبة أجبت بها من يسألني من أهل الديار المصرية وغيرهم. وكان قد بلغني أنه زور على كتاب إلى الأمير ركن الدين الجاشنكير (1) - أستاذ دار السلطان- يتضمن ذكر عقيدة محرفة، ولم أعلم بحقيقته، لكن علمت أن هذا مكذوب، وكان يرد علي من مصر وغرها من يسألني مسائل في الاعتقاد أو غيره، فأجبته بالكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة " (2) ثم طلبوا منه أن يملي عقيدته فأملاها، ثم قال للأمر والحاضرين: " أنا أعلم أن أقواما يكذبون علي كما قد كذبوا علي مرة (3) ، وإن أمليت الاعتقاد من حفظي ربما يقولون: كتم بعضه، أو داهن   (1) هو: بيبرس البرجي الجاشنكو، تسلطن سنة 708 هـ، كان يعتقد في نصر المنبجي ولذلك آذوا ابن تيمية زمن سلطنته. وقتل سنة 709 هـ لما رجع الناصر الى السلطنة، انظر البداية والنهاية (14/55) ، والدرر الكامنة (2/36) ، والنجوم الزاهرة (8/ 232) ، والمنهل الصافي (3/467) . (2) العقود (ص: 207-208) . (3) قضية الكذب على ابن تيمية والتزوير عليه أمر مشهور حتى قبل: أنه رجع إلى عقيدة الأشاعرة وأنه كتب ذلك بخطه. وكل ذلك كذب- وليس العجب أن يقع الكذب عليه وإنما العجب أن يقوم مؤرخ ثقة فاضل- كابن حجر العسقلاني- فينقل ترجمته في الدرر الكامنة (1/154) ترجمة مطولة لابن تيمية وينقل عن غيره ويذكر هذه الأمور- التى هي في الحقيقة كذب عليهـ ثم يسكت عنها..ومن نماذج الكذب على ابن تيمية: أنه في سنة: 702 هـ وقع في يد نائب السلطنة كتاب مزور فيه أن ابن تيمية وجماعة يناصحون التتر ويكاتبوهم، ثم فضح المزورون ووجد معهم مسودة الكتاب وعوقبوا. البداية والنهاية (14/22) ، وكذلك وقع الكذب عليه أنه رجع عن عقيدته.= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 أو دارى، فأنا أحضر عقيدة مكتوبة من نحو سبع سنين، قبل مجيء التتر إلى الشام " (1) فأحضرت العقيدة الواسطة، وقرئت وتناقشوا فيها. ثم أجلت بعض المباحث منها إلى المجلس الثاني الذي عقد يوم الجمعة بعد الصلاة ثالث عصر رجب، وفي هذه المرة أخذوا أهبتهم في الاستعداد للمناظرة وأحضروا معهم من يعتبرونه أكبر شيوخهم وهو صفي الدين الهندي (2) ، فلما اجتمعوا بدأ ابن تيمية الكلام وذكر أن الله أمر بالجماعة والائتلاف ونهانا عن الفرقة والاختلاف، ثم قال بأسلوب قوي: " وربنا واحد، وكتابنا واحد، ونبينا واحد، وأصول الدين لا تحتمل التفرق والاختلاف، وأنا أقول ما يوجب الجماعة بين المسلمين وهو متفق عليه بين السلف!، فإن وافق الجماعة فالحمد لله، وإلا فمن خالفني بعد ذلك كشفت له الأسرار وهتكت الأستار، وبينت المذاهب الفاسدة،   (1) = انظر: العقود (ص: 204،207،209) ، وحين احتالوا عليه أن يرجع عن عقيدتهـ بأن بكتب كتابا ثم يمزقوهـ فرفض ذلك. ترجمة بقلم خادمه (ص: 27-29) ، وكذلك الكذب عليه في الزعم بأنه أنكر تبديل التوراة، وأنه طعن في عمر وعلى. القول الجلى (ص: 57،66،67) ، وكذلك الكذب عليه في مسألة ضد الرحال العقود (ص: 328) ، والبداية والنهاية (14/123) ، وكذلك الاخنائي كذب عليه. الرد على الاخنائي (ص:10) ط السلفية. وكذلك الكذب عليه لي مسألة النزول. الدرر الكامنة (1/164) ، وابن بطوطة في رحلته (ص: 110) ط الرسالة. (1) العقود (ص: 209) . (2) هو: محمد بن عبد الرحيم بن محمد الأرموى الهندى ولد سنة 644 هـ وتوفي سنة 715 هـ، وكان من الذين حضروا المجلس الثاني في مناظرة الواسطية، واستعان به العلماء لزعمهم أنه من محققي المذهب الأشعري لكن كا قال ابن كثير (البداية: 14/36) ساقيته لاطمت بحرا. ويذكر ابن تيمية أن الثقة حدثه بعد المناظرة أنه اجتمع به فقال: قلت لهم: مالك على الرجل اعتراض، فإنه نصر ترك التأويل، وقال أنا أختار قول ترك التأويل، وأخرج وصيته التي أوصى بها وفيها قول ترك التأويل. لكن ييدو أن الصفي رجع فإنه ألف " الرسالة التسعينية في الأصول الدينية نصر فيها مذهب الأشاعرة وقال في أولها " أما بعد فهذه رسالة مشتملة على تسعين مسألة من مسائل أصول الدين ألفها لما رأيت طلبة أهل الشام المحروس مقبلين على تحصيل هذا الفن بعد ما جرى من الفتنة المشهورة بين أهل السنة والجماعة، وبين بعض الحنابلة 00" (التسعينية للأرموى الهندى ورقة 2 مخطوطة) . انظر في ترجمته: البداية والنهاية (14/ 65) ، وطبقات السبكي (9/ 62 1) ، والوافي (3/239) ، ونزهة الخواطر (2/ 135) ، وتاريخ الصالحية (11/67) ، وطبقات الأسنوى (2/ 534) ، والبدر الطالع (2/187) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 التى أفسدت الملل والدول، وأنا أذهب إلى سلطان الوقت على البريد، وأعرفه من الأمور ما لا أقوله في هذا المجلس فإن للسلم كلاما وللحرب كلاما " (1) . ثم جرى نقاش حول عدة قضايا حول الكلام، والتجسيم، والاشتراك والتواطؤ في الصفات، وحديث الأوعال، وكان ابن تيمية الشيخ والمرجع فإذا تكلم لم يستطعوا رد كلامه وأدلته. وانتهى هذا المجلس ورجع تقى الدين إلى بيته معززا مكرما (2) . ثم عقد المجلس الثالث في سابع شعبان بالقصر، واجتمع الجماعة على الرضى بالعقيدة، وعزل القاضي ابن صصري (3) نفسه بسبب كلام سمعه من كمال الدين ابن الزملكاني (4) (4) ، ثم جاء مرسوم السلطان بإعادته إلى منصبه وفي الكتاب: " إنا كنا سمعنا بعقد مجلس للشيخ تقي الدين ابن تيمية، وقد بلغنا ما عقد له من المجالس وأنه على مذهب السلف وإنما أردنا بذلك براءة ساحته مما نسب إليه " (5) . وكان سبب هذه المناظرات- حول الواسطة- وأمر السلطان بذلك ما قام به ابن تيمية- أول هذا العام 705 هـ- من غزو الروافض والنصيرية في الكسروان، ثم بعد ما قام في جمادى الأولى من مناظرة الأحمدية المتصوفة وإنكاره عليهم،   (1) العقود (ص: 233- 234) . (2) انظر: البداية والنهاية (14/37) . (3) قاضي القضاة نجم الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن سالم ابن صصرى الشافعي ولد سنة 655 هـ، وترفي ممنة 723 هـ، انظر: البداية والنهاية (14/106) ، وطبقات السبكي (9/ 0 2) . (4) هو: محمد بن على بن عبد الواحد بن عبد الكريم الزملكاني، قاضى القضاة، ولد سنة 667 هـ وتوفي سنة 727 هـ، مدح ابن تيمية ثم رد عليه، وفي سنة 727 هـ- وهي قاضي قضاة حلب- فجاء الأمر بالذهاب إلى مصر ليتولى قضاء القضاة في الشام وكان من نيته أن يؤذي شيخ الاسلام إذا رجع- بسبب ما بينهما حول مسألة الزيارة- فدعا عليه شيخ الإسلام فمات ببلبيس قبل وصوله إلى القاهرة. انظر: البداية والنهاية (4 1/ 131) ، والدرر الكامنة (4/192) ، والوافي (4/ 4 21) ، وفوات الوفيات (4/7) ، وطبقات السبكي (9/ 190) . (5) انظر: البداية والنهاية (14/37) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وإلزامهم بالشرع وأن من خرج عليه ضربت عنقه، ثم ظهر الشيخ نصر المنبجي (1) - في مصر- وشاع أمره وميوله نحو المتصوفة، فأرسل إليه ابن تيمية بالانكار عليه، فأغرى الشيخ نصر القضاة والعلماء في مصر، وقال: إنه سىء العقيدة مبتدع معارض للفقراء وغيرهم، وطعنوا فيه عند السلطان، ولا يبعد أن يكون الروافض قد برطلوا- أي ارتشوا- عليه فورد مرسوم السلطان بمساءلته عن عقيدته فعقدت له تلك المجالس في رجب (2) . ولكن المنبجي لم يرض بما انتهت إليه المجالس، فعمد بأسلوب آخر إلى السعي لدى السلطان لامتحان ابن تيمية مرة أخرى. 3- محنته وذهابه إلى مصر: لم يقتنع نصر المنبجي بما انتهى إليه المرسوم السلطاني الأول، فسعى إلى السلطان الجاشنكير- الذي كان يعتقد في نصر- فاجتمع به مع طائفة من علماء مصر " فأوهمه الشيخ نصر أن ابن تيمية يخرجهم من الملك ويقيم غيرهم، وأنه مبتدع، فورد مرسوم السلطان إلى دمشق بإحضار ابن تيمية إلى مصر (3) في خامس شهر رمضان سنة 705 هـ فلما طلب إلى الديار المصرية مانع نائب الشام وقال: قد عقد له مجلسان بحضرتي، وحضرة القضاة والفقهاء وما ظهر عليه شىء، فقال الرسول لنائب دمشق: أنا ناصح لك، وقد قيل: إنه يجمع الناس عليك، وعقد لهم بيعة، فجزع من ذلك وأرسله إلى القاهرة على البريد " (4) ،   (1) هو: نصر بن سليمان، أبو الفتح المنبجي، توفي سنة 719 هـ، وكان الجاشنكير- السلطان يعتقد فيهـ وكان يغالي في محبة ابن عربي الصوفي، أنشأ له زاوية خارج باب النصر وصار يتعبد فيها ويتردد عليه فيها الأكابر، ثم مات ودفن فيها. انظر: البداية والنهاية (14/95) ، والدرر الكامنة (5/165) ، وطبقات الأولياء لابن الملقلن (ص: 477) ، والخطط للمقريزي (2/432) (2) . (2) انظر الكواكب (ص: 27 ا-128) . (3) وكان المرسوم بالكشف عما جرى في محنته الأولى أيام نيابة جاغان وولاية القاضي إمام الدين القزويني- حول الحموية- سنة 698 هـ، وموضوع المناظرة الأول والأخير واحد هر الصفات ولكن القصد إيهام الناس اختلاف الموضوع بالاحالة على ما كان قبل سنين رإلا فالمناظرات بسبب المرسوم الذي قبله انتهت قبل قليل من ورود هذا المرسوم. (4) 1 لكو اكب (ص: 128) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 ويقال: إن النائب أشار على الشيخ بترك التوجه إلى مصر، وأنه يكاتب في ذلك فامتنع الشيخ من ذلك ولم يقبل، وذكر أن في توجهه إلى مصر مصالح كثيرة (1) . ولما توجه ابن تيمية إلى مصر- ازدحم الناس لوداعه وكان يوما مشهودا - فلما كان يوم الخميس 22 رمضان وصل مع القاضي ابن صصري إلى القاهرة، وفي ثاني يوم بعد صلاة الجمعة جمع القضاة وأكابر الدولة في القاعة لمحفل، وادعى عليه القاضي ابن مخلوف المالكي (2) أنه يقول بالاستواء وأن الله يتكلم بحرف وصوت، فأخذ ابن تيمية في حمد الله والثناء عليه، فقيل له: أجب، ماجئنا بك لتخطب، فقال: ومن الحاكم فى، فقيل له القاضي المالكي، قال: كيف يحكم في وهو خصمي؟ وغضب غضبا شديدا وانزعج، فحبس في برج مرسما (3) عليه أياما، وفي ليلة عيد الفطر نقل إلى الحبس المعروف بالجب (4) هو وأخواه شرف الدين عبد الله وزين الدين عبد الرحمن وبقى في السجن عاما كاملا وقرىء تقليد في الشام ومصر بالحط على ابن تيمية ونحالفته في العقيدة، في ليلة عيد الفطر سنة 706 هـ اجتمع نائب السلطنة سيف الدين سلار (5) بالقضاة والفقهاء وتكلم في إخراج الشيخ من السجن فاتفقوا على أن يشترط عليه أمور وأن يرجع عن بعض العقيدة، فأرسلوا إليه من يحضره ليتكلموا معه فأبى أن يحضر، وتكرر إليه الرسول ست مرات وصمم على عدم الحضور فطال عليهم المجلس ثم انصرفوا من غير شىء.   (1) انظر: العقود الدرية (ص: 249) ، والبداية والنهاية (14/37-38) . (2) على بن مخلوف بن ناهض بن مسلم النوووي المالكي قاضي القضاة- ولد صنة 634 هـ وتوفي سنة 718 هـ، انظر: توشيح الديباج للقراني (ص: 162) ، رو دار الغرب- والبداية والنهابة (14/ 90) ، والدرر الكامنة (3/202) . (3) الترسيم معناه تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، ويكون في السجن غالبا، والبرج - أحد السجون في القاهرة- وكان الذى سجن فيه ابن تيمية بحارة الديلم في القاهرة، انظر نظم دولة ملاطين المماليك- النظم السياسية (ص: 136) ، والسلوك (2/18) . (4) سجن الجب كان بالقلعة، وكان يحبس فيه الأمراء وكان مهولا مظلما، كريه الرائحة يقاسي المسجون فيه ما هو كالموت وأضد منه. انظر: الخطط (2/213) وو بولاق.. (5) كان نائبا للسلطنة سنة 698 هـ، ئم قتل سنة 0 71 هـ، انظر: البداية والنهاية (14/ 58-59) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 ثم طلب أخوا الشيخ إلى نائب السلطة في ذي الحجة سنة 706 هـ وحضر ابن مخلوف وجرت مناقشات بين عبد الله شرف الدين وبين القاضي المالكي فظهر عليه وخطأه في مواضع (1) ، وفي صفر سنة 707 هـ اجتمع القاضي بدر الدين ابن جماعة (2) بالشيخ تقي الدين في دار الأوحدي بالقلعة وطال بينهما الكلام في غير نتيجة (3) . فلما كان في ربيع الأول من سنة 707 هـ دخل الأمير حسام الدين: مهنا بن عيسى ملك العرب (4) الى مصر، وحضر بنفسه إلى الجب وأقسم على الشيخ تقى الدين ليخرجن، فلما خرج أقسم عليه ليأتين معه إلى دار سلار، فاجتمع بعض الفقهاء وجرت بحوث ثم بات الشيخ في دار نائب السلطنة سلار، ثم اجتمعوا بعد ذلك مرة أخرى بمرسوم من السلطان- ولم يحضر القضاة- ولما طلبوا للحضور اعتذروا بعضهم بالمرض وبعضهم بغيره، والحقيقة أنه كان هروبا من مناقشة ابن تيمية فقبل نائب السلطنة عذرهم ولم يكلفهم الحضور بعد أن رسم السلطان بحضورهم أو بفصل المجلس على خير. وبات الشيخ عند نائب السلطنة ثم جاء حسام الدين بن مهنا وريد أن يستصحب معه الشيخ تقي الدين إلى دمشق، فأشار سلار بأن يقيم الشيخ عنده بمصر ليرى الناس فضله.   (1) انظر: البداية والنهاية (14/ 43) ، والعقود (ص: 252) . (2) محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة، قاضي القضاة، ولد سنة 639 هـ وتوفي منة 733 هـ، انظر: طبقات السبكي (9/139) ، وطبقات المفسرين (2/48) ، والدرر الكامنة (3/367) ، والأنس الجليل (12/36) ، وطبقات ابن قاضي شهبة (12/369) ، والوافي (2/18) . (3) انظر: البداية والنهاية (14/45) ، والعقود (ص: 252) . (4) في القرن السادس صارت منطقة الجزيرة وبادية الشام مكانا لكثير من البدو فنشأت إمارات متفرقة- يسمون أمراء العرب، ثم برزت أسرة آل مهنا بن عيسى، ابن آل فضل، يرجعون إلى ربيعة وصاروا في الأخير يتولون الامرة من سلاطين مصر، ولذلك لما برزت هذه الأمرة حمي أميرها ملك العرب، - كانت لمهنا علاقة قوية بالسلطان الناصر قلاوون الذي كان مشغوفا بالخيل وجمع النادر منها وكان مهنا يحضر له العدد الكثير، انظر: الخطط (2/255) . والذي يلفت الانتباه ويحتاج إلى بحث كيف توطدت الصلة بين آل مهنا وابن تيمية إلى حد أن يأتي إليه في السجن ويقسم عليه أن يخرج؟. انظر عن قبيلة آل مهنا ونسبها ودورها في الأحداث: مسالك الأبصار- قطعة عن قبائل العرب- (ص: 12 1-136) ، وصبح الأعشى (4/203) ، وتاريخ ابن خلدون (5/426) ط بولاق،- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وكتب ابن تيمية كتابا إلى الشام يتضمن ما وقع له، وكان مدة مقامه في الجب ثمانية عشر شهرا، وفرح الناس بخروجه فرحا شديدا. ثم تفرغ للتدريس والإفتاء (1) . أما أهل الشام فكانوا يتابعون ما يجري للشيخ ويتألمون لما وقع له، حتى إنه لما جاء خطاب من الشيخ وهو في الجب إلى دمشق أخبر نائب السلطنة في الشام فأرسل في طلبه فقرئ على الناس، وجعل النائب يشكر الشيخ ويثني على علمه (2) . 4- محنته مع الصوفية في مصر: بقي ابن تيمية في مصر- بعد خروجه من السجن- يعلم الناس ويفتيهم ويذكر اللة ويدعو إليه، ويتكلم في الجوامع بتفسير القرآن بعد صلاة الجمعة إلى العصر، ولما كان كثييرا ما يتطرق إلى جوانب عديدة في العقيدة منها ما له مساس بأحوال الصوفية وبدعهم، إضافة إلى أن خصمه نصرا المنبجي لم ينل- وهو المقدم عند الجاشنكير- ما أراد من إيذاء ابن تيمية، بل انعكس الأمر وصار ما جرى له سببا في شهرته وإكباب الناس على الاجتماع به والاستفادة من علومه ليلا ونهارا. فجاء الأسلوب هذه المرة من نصر المنبجي وابن عطاء الله السكندرى (3) بإثارة أتباعهم من المتصوفة فاجتمع خلق كثير منهم من أهل الخوانق والربط والزوايا واتفقوا على أن يشكوا الشيخ إلى السلطان، فطلع منهم خلق محمير إلى القلعة وكانت لهم ضجة شديدة لفتت انتباه السلطان، فقيل له هؤلاء قد جاءوا من أجل ابن تيمية يشكونه ويقولون: إنه يسب مشايخهم، واستعانوا عليه بالأمراء وغيرهم.   (1) = وانظر عشائر الشام: أحمد وصفي زكريا (ص: 89) وما بعدها. (1) انظر: العقود (252-256) ، و (ص: 131) ، والبداية والنهاية (12/45) . (2) انظر: البداية والنهاية (14/43) ، والعقود (ص: 251) . (3) هو: أحمد بن محمد بن عطاء الله السكندرى الشاذلي، توفي سنة 709 هـ، انظر: الديباج المذهب (1/242) ، والدرر الكامنة (1/ 191) ، وطبقات السبكي (9/23) ، وشجرة النور (1/204) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وكان ذلك في شوال سنة 707 هـ، فأمر بأن يعقد له مجلس فعقد له مجلس يوم الثلاثاء10 شوال 707 هـ، وظهر من علم الشيخ وشجاعته وقوة قلبه الشيء الكثير، فادعى عليه ابن عطاء بأشياء لم يثبت عليه منها شيء، ثم جاء الأمر من الدولة أن يخير بين ثلاثة أشياء، إما أن يسير إلى دمشق، أو الإسكندرية بشروط أو الحبس، فاختار الحبس، ثم دخل عليه جماعة في السفر إلى دمشق ملتزما ما شرط فأجاب أصحابه إلى ما اختاروه جبرا لخواطرهم، ثم لما سافر ليلة 18 شوال، رد من الطريق وقيل: إن الدولة لا ترضى إلا الحبس، واستناب ابن جماعة بعض القضاة أن يحكموا فيه بالحبس فامتنع أحدهم وتحير الآخر، فلما رأى الشيخ توقفهم في حبسه قال: أنا أمضى إلى الحبس وأتبع ما تقتضيه المصلحة، فأرسل إلى حبس القضاة وأذن له بأن يكون معه من يخدمه، فبقي الشيخ في السجن يستفتى في الأمور المعضلة ويجتمع الناس به ليلا ونهارا، وكان له دور عظيم في توجيه المحابيس وإصلاح أحوالهم حتى صار له منهم تلاميذ يختارون الإقامة عنده بعد خروجهم (1) ، ثم عقد له مجلس بالصالحية بعد ذلك كله ونزل الشيخ بالقاهرة بدار ابن شقير وأكب الناس على الاجتماع به ليلا ونهارا حتى دخلت سنة 708 هـ (2) . 5- نقله إلى ثغر الاسكندرية: لما كثر اجتماع الناس به وترددهم عليه ساء ذلك أعداءه وحصرت صدورهم وصاحب ذلك تطور سياسي فقد تسلطن الجاشنكير- حين خرج الناصر إلى الكرك مكرها بسبب كف يده عمليا عن السلطة (3) - وكان بيعة الجاشنكير في 23 شوال 708 هـ- وكان ابن تيمية وهو يعلم خفايا الأحداث وقصة ذهاب الناصر إلى الكرك- ينال من الجاشنكير ومن شيخه نصر ويقول:   (1) انظر: البداية والنهاية (14/45) ، والعقود (ص: 267) وما بعدها، والكواكب (133) . (2) انظر: البداية والنهاية (14/46) . (3) لقد زور علي السلطان كتاب يتضمن عزل نفسه فأثبت ذلك القضاة في مصر، وليس ذلك صحيحا، انظر: البداية والنهاية (14/48) ، وانظر: تحقيقا علميا ودراسة للموضوع في: التاريخ السياسي لشرق الأردن في العصر المملوكي (ص: 154) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 " زالت أيامه وانتهت رياسته وقرب انقضاء أجله ويتكلم فيه وفي ابن عربي وأتباعه " (1) ، فقرروا أن يسيروه إلى الإسكندرية كهيئة المنفى لعل أحدا من أهلها- وفيهم بقايا المتفلسفة والمتصوفة والغلاة- أن يقتله، ومنعوا أن يذهب أحد من أصحابه معه، يقول خادمه: فلما كان بعد العصر- وقد جاء الأمر بنقله إلى الاسكندرية- وقفت أبكي، فقال لي الشيخ لا تبك، ما بقيت هذه المحنة تبطىء. وركب على باب الحبس؟ قال له إنسان: يا سيدي هذا مقام الصبر، فقال له: بل هذا مقام الحمد والشكر، واللة إنه نازل على قلبي من الفرح والسرور شيء لو قسم على أهل الشام ومصر لففمل عنهم، ولو أن معي في هذا الموضع ذهبا وأنفقته ما أديت عشر هذه النعمة التي أنا فيها " (2) ، ولما ركب الشيخ- وقد منع أحد أن يصحبهـ قال ابن تيمية لخادمه إبراهيم: " يا إبراهيم انزل الشام وقل لأصحابنا، وحق القرآن- ثلاث مرات- ما بقيت هذه المحنة تبطيء وتنفرج قريبا فوق ما في النفوس، ويقلب اللة مملكة بيبرس أسفلها أعلاها، وليجعلن اللة أعز من فيها أذل من فيها " (3) . وكان ذهابه في نهاية شهر صفر سنة 709 هـ وأقام بثغر الاسكندرية في برج مليح واسع والناس يترددون عليه وقد لحق به بعض أصحابه، وفي رسالة كتبها أخو الشيخ شرف الدين إلى أخيه بدر الدين في الشام يقول فيها: " فنحن والجماعة في نعم اللة الكاملة ومننه الشاملة التي تفوق العد والإحصاء ... فمنها: نزل الأخ الكريم بالثغر المحروس، فإن أعداء الله قصدوا بذلك أمورا يكيدون بها الإسلام وأهله، وظنوا أن ذلك يحصل عن قريب، فانقلبت عليهم مقاصدهم الخبيثة المعلومة، وانعكست من كل الوجوه، وأصبحوا وما زالوا عند اللة وعند العارفين من المؤمنين سود الوجوه يتقطعون حسرات وندما على ما فعلوه، وأقبل أهل الثغر أجمعون إلى الأخ، متقبلين لما يذكره وينشره من كتاب اللة وسنة رسوله والحط والوقيعة في أعدائهما من أهل البدع   (1) انظر: البداية والنهاية (14/49) ، وقد جرت في هذه الأئناء أحداث ووساطات من الشيخ الدباهى الذى جاء من دمشق، ومن المشايخ التدامرة، وفيها أحداث عجيبة. انظر ترجمته بقلم خادمه (ص: 24) وما بعدها. (2) ناحية من حياة شيخ الإسلام بقلم خادمه إبراهيم أحمد الغباشى (ص: 31،32) . (3) المصدر السابق (ص: 32-33) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 والضلالات والكفر والجهالات، خصوصا أخبث الملاحدة والاتحادية ثم الجهمية. واتفق أنه وجد بها إبليس إلحادهم قد باض وفرخ، ونصب بها عرشه ودوح، وأضل بها فريقى السبعينية والعربية (1) ، فمزق الله بها بقدومه المغر جوعهم شذر مذر، وهتك أستارهم وكشف رمز إلحادهم وأسرارهم وفضحهم، واستتاب جاعات منهم وتؤب رئيسا من رؤسائهم، وصنف هذا التائب كتابا في كشف كفرهم وإلحادهم " (2) . وبقي الشيخ في الاسكندرية ثمانية أشهر، فلما رجع السلطان الناصر إلى الحكم وقدم إلى مصر يوم عيد الفطر سنة 709 هـ لم يكن له دأب إلا طلب الشيخ ابن تيمية من الإسكندرية، فوجه إليه في ثاني يوم من شوال فقدم الشيخ في ثامن هذا الشهر- وفي الإسكندرية خرج خلق يودعونهـ فاجتمع السلطان يوم الجمعة في مجلس فيه القضاة والفقهاء، وقد زالت دولة الجاشنكير وأتباعه، وعرض الناصر على ابن تيمية أن ينتقم له من أعدائه ولكنه رفض ذلك، وهنا يسجل للشيخ موقف عظيم ومعرفة بواقع الأمر، فالناصر لما عرض عليه أن يفتيه في قتل بعض الفقهاء والقضاة كان يريد أن ينتقم منهم بسبب موقفهم منه لما تسلطن الجاشنكير، ففطن ابن تيمية لمراده وأخذ يعظم القضاة والعلماء وينكر أن ينال أحدا منهم سوء، وقال له: إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم، فقال له: إنهم قد آذوك وأرادوا قتلك مرارا فقال الشيخ: من آذاني فهو في حل ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه وأنا لا أنتصر لنفسي، وما زال به حتى حلم عنهم السلطان وصفح (3) ، وإنه لموقف عظيم ينبغي أن يتفكر فيه العلماء مرارا، إذ كثيرا ما تأتي بعض القضايا مما لها وجه في الشرع ولكن الحكام يحرصون عليها لا لأجل ذاتها واتباعا للشرع فيها، وإنما لأنها تخدم أغراضا أخرى لهم، والدليل على ذلك أنهم لا يرجعون إلى الشرع دائما وإنما عند الحاجة.   (1) نسبة إلى ابن سبعين وابن عربي. (2) العقود (ص: 273- 275) . (3) انظر: البداية والنهاية (14/53-54) ، والعقود (ص: 278-282) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 ثم أقام ابن تيمية في القاهرة إلى سنة 712 هـ يفتي ويدرس ويؤلف والناس والأكابر يترددون عليه، وكتب إلى أقاربه بدمشق يقول: " والحق دائما في انتصار وعلو وازدياد، والباطل في انخفاض وسفال ونفاد، وقد أخضع الله رقاب الخصوم وأذلهم غاية الذل، وطلب أكابرهم من السلم والانقياد ما يطول وصفه. ونحن- ولله الحمد- قد اشترطنا عليهم في ذلك من الشروط ما فيه عز الإسلام والسنة، وانقماع الباطل والبدعة، وقد دخلوا في ذلك كله وأقنعنا حتى يظهر ذلك إلى الفعل، فلم نثق لهم بقول ولا عهد ولم نجبهم إلى مطلوبهم حتى يصير المشروط معمولا والمذكور مفعولا، ويظهر من عز الإسلام والسنة للخاصة والعامة ما يكون من الحسنات التي تمحو سيئاتهم، وقد أمد الله من الأسباب التى فيها عز الإسلام والسنة وقمع الكفر والبدعة بأمور يطول وصفها في كتاب!. " وكذلك جرى من الأسباب التي هى عز الإسلام وقمع اليهود والنصارى بعد أن كانوا قد استطالوا وحصلت لهم شوكة، وأعانهم من أعانهم على أمر فيه ذل كبير من الناس، فلطف الله باستعمالنا في بعض ما أمر الله به ورسوله وجرى في ذلك مما فيه عز المسلمين وتأليف قلوبهم، وقيامهبم على اليهود والنصارى وذل المشركين وأهل الكتاب مما هو من أعظم نعم الله على عباده المؤمنين، ووصف ذلك يطول، وقد أرسلت إليكم كتابا أطلب ما صنفته في أمر الكنائس وهي كراريس بخطي.." (1) . وكتب الشيخ- إلى والدتهـ كنابا يمتلىء رقة وحنانا ويعتذر لها عن بقائه في مصر، وعدم عودته إلى الشام ومما قاله لها:" وتعلمون أن مقامنا الساعة في هذه البلاد إنما هو لأمور ضرورية متى أهملناها فسد علينا أمر الدين والدنيا ولسنا والله مختارين للبعد عنكم، ولو حملتنا الطيور لسرنا إليكم، ولكن الغائب عذره معه، وأنخ لو اطلعغ على باطن الأمور، فإنكم ولله الحمد ما تختارون الساعة إلا ذلك، ولم نعزم على المقام والاستيطان شهرا واحدا، بل كل يوم نستخير الله لنا ولكم، وادعوا لنا بالخيرة 000" (2) .   (1) العقود (ص: 284- 285) . (2) العقود (ص: 257-258) ، ومجموع الفتاوى (28/49- 50) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وجرت على الشيخ بعض الأحداث في مصر (1) ، ثم لما كانت سنة 712 هـ خرج لجهاد التتر صحبة الجيش المصري، فلما وصلوا إلى عسقلان توجه إلى بيت المقدس لأنه علم أن التتار رجعوا إلى بلادهم فتحقق من عدم الغزاة، وأقام في القدس أياما، ثم قدم إلى دمشق أول ذي القعدة سنة 712 هـ، ثم استقر في دمشق زمنا طويلا تفرغ فيه للتأليف وكتابة الرسائل، وكانت من أخصب فترات عمره التى ألف! فيها كثيرا من كتبه (2) . 6- محنته بسبب " الطلاق ": كان استقرار ابن تيمية في دمشق بعد عودته من مصر-؟ يشير مترحموه - عاملا على تفرغه للبحث والتنقيب في مسائل العقيدة، والأحكام، وكان من نتيجة ذلك ترجيحه في بعض مسائل الأحكام ما يخالف فقهاء عصره، ومن هذه المسائل مسألة الحلف بالطلاق هل يكون طلاقا إذا حنث فيه؟ يرى الجمهور، أم يكون يمينا إذا كان القصد به ا! ين؟ رجحه ابن تيمية وصار يفتى فيه، ومسألة اعتبار الثلاث بكلمة واحدة طلاقا رجعيا، وكان لمنزلة الشيخ ومكانته عند الناس أبعد الأثر في ظهور وانتشار مثل هذه الفتاوى والاقتناع بها، بل ومناقشة من يعارضها ولو كان من العلماء. فاجتمع جاعة من كبار العلماء إلى القاضى الحنبلي كمالدين بن مسلم الحنبلي وكلموه في أن يكلم الشيخ وأن يشير عليه بترك الإفتاء في الحلف في الطلاق، فقبل الشيخ ابن تيمية إشارته ونصيحمه وترك الإفتاء بها وكان ذلك في منتصف ربيع الآخر سنة 718 هـ، فلما كان يوم السبت مستهل جمادى الأولى من هذه السنة   (1) منها قيام جماعة من الغوغاء عليه بجامع مصر في 4 رجب 711 هـ وانتصرت الحسينية له حتى كادوا أن يبطشوا بالذين آذوه ولم ينصرفوا إلا بعد مناقثة الشيخ لهم وأمرهم بالانصراف وأن الحق له وليس لهم، انظر: العقود (ص: 285) وما بعدها، وبعد أيام أوذى من فقيه يقال له المبدى، وحضر جماعة من الجند للانتصار للشيخ، ثم تراجع الفقيه وشفع فيه جماعة. العقود (ص: 289) . (2) انظر: البداية والنهاية (14/ 67) ، والعقود (ص: 1 32) . فقد ذكر أن الشيخ بعد عودته إلى دمشق لم يزل ملازما لنشر العلم وتصنيف الكتب وإفتاء الناس بالكلام والكتابة المطولة وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 جاء الأمر من السلطان بالمنع من الفتوى فيها، وأمر بعقد مجلس في ذلك فعقد يوم الاثنين ثالث الشهر المذكور، والفصل على ما أمر به السلطان ونودي بذلك في البلد من الغد. ثم إن ابن تيمية عاد إلى الإفتاء بذلك وقال لا يسعني كتمان العلم، فلما كان يوم الثلاثاء 29 رمضان سنة 719 هـ جمع القضاة وقرئ كتاب السلطان وفيه فصل يتعلق بالشيخ ابن تيمية بسبب الفتوى وأحضر وعوتب على فتياه، واكد عليه في المنع من ذلك، ولكن الشيخ لم يمتنع بل عاد إلى الإفتاء بذلك. فلما كان يوم 22 رجب سنة 720 هـ عقد مجلس بدار السعادة حضره النائب والقضاة وجماعة من المفتين وحضر الشيخ وعاودوه في الافتاء وعاتبوه، وحكموا بحبسه في القلعة فبقي فيها خمسة أشهر وثمانية عشر يوما، ثم ورد مرسوم السلطان بإخراجه فأخرج منها يوم الاثنين- يوم عاشوراء- سنة 721 هـ (1) . ثم تفرغ للعلم والتدريس والإفتاء. 7- محنته بسبب فتواه في " شد الرحال إلى القبور ": وهذه المحنة من أعظم المحن التى مرت على الشيخ وعلى أتباعه والذي يبدو أن أعداء الشيخ والحاقدين عليه والحاسدين له لم يجدوا في مسألة الطلاق- كل ما يأملونهـ وإن كان قد سجن بسببها الشيخ ابن تيمية، فصاروا يبحثون وسيلة وقضية أخرى يدخلون من خلالها على إيذاء شيخ الاسلام وأتباعه، فعثروا على فتوى لهـ منذ سبع عشرة سنة- حول شد الرحال وإعمال المطي إلى قبور الأنبياء والصالحين، ومنها قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانت الفتوى تتضمن ذكر القولين الواردين وترجيح أحدهما- وهو التحريم- مع الأدلة على ذلك. ففرحوا بذلك وكثر الكلام حولها، واشتد الأمر، يقول ابن عبد الهادى: " وكان للشيخ في هذه المسألة كلام متقدم أقدم من الجواب المذكور بكثير ذكره   (1) انظر: العقود (ص:325-327) ، والبداية والنهاية (14/87، 97-98) ، والكو اكب (146-147) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 في كتاب " اقتضاء الصراط المستقيم " (1) وغيره، وفيه ما هو أبلغ من هذا الجواب الذي ظفروا به، وكثر الكلام، والقيل والقال بسبب العثور على الجواب المذكور، وعظم التشنيع على الشيخ، وحرف عليه، ونقل عنه ما لم يقله، وحصل فتنة طار شررها في الآفاق واشتد الأمر، وخيف! على الشيخ من كيد القائمين في هذه القضية بالديار المصرية والشامية وكثر الدعاء والتضرع والابتهال إلى اللة تعالى، وضعف من أصحاب الشيخ من كان عنده قوة، وجبن نهم من كانت له همة. وأما الشيخ-رحمه الله- فكان ثابت الجأش قوي القلب، وظهر صدق توكله واعتماده على ربه " (2) . وفي يوم الاثنين 6 شعبان سنة 726 هـ جاء مرسوم السلطان بإقامته في القلعة (3) فأحضر له مركوب وسار إليها، وأخليت له فيها قاعة حسنة أجرى عليها الماء، وأقام معه أخوه زين الدين يخدمه بإذن السلطان، ويلاحظ مايلي: أ- سرور شيخ الإسلام العظيم بذلك، وقال: أنا كنت منتظرا ذلك، وهذا فيه خير عظيم. ب- مع أن الأمر السلطاني جاء بحبس شيخ الإسلام فقط، إلا أن نائب السلطنة وقاضى القضاة أصدروا أمرهم بحبس جماعة من أصحاب الشيخ والتضييق عليهم، بل عزر جماعة منهم على دواب ونودي عليهم، ثم أطلقوا سوى ابن القيم الذي بقى في حبس القلعة (4) (4) ، فما الداعى لذلك وقد حبس شيخ الإسلام.   (1) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/665) ، إلى آخر الكتاب كله حول القبور والشركيات فيها (2) العقود (ص: 328) . (3) هي قلعة دمشق، وتسمى الأسد الرابضي، وهي قلعة حصينة، يمر من عند النهر، بناها تاج الدولة تتشى سنة 471 هـ. وبنيت فيها دار الامارة وصارت مدينة كاملة لكنها محصنة. وفي سنة 691 هـ أكمل بناء قاعاتها ودورها. انظر نزهة الأنام في محاسن الشام للبدري (ص: 0 6) ، وخطط الشام (5/276) ، ومنادمة الأطلال (ص: 397) . (4) انظر: البداية والنهاية (14/123) ، والعقود (ص: 330) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 ج-- أخذ ابن تيمية يؤلف ويكتب وتنتشر رسائله ومنها رده على الاخنائي المسماة " الاخنائية ". ولذلك صدر أمر السلطان قبل وفاة شيخ الاسلام بأشهر باخراج ما عنده من الكتب، فكان ذلك من أعظم المصائب عليه وصار يكتب رسائله بالفحم (1) . د- أما علامة الاستفهام هنا فهي: لماذا تغير السلطان الناصر على ابن تيمية بعد تلك العلاقات الكبيرة بينهما في مصر؟ ومن خلال تتبع الأحداث تتبين أمور لعلها تفي بالجواب: ا- الكذب والتحريف على الشيخ وعلى فتواه، حتى حملت عباراته ما لم تحتمل، يقول ابن عبد الهادى بعد ذكره لنص فتوى شيخ الإسلام: " ولما ظفروا في دمشق بهذا الجواب كتبوه، وبعثوا به إلى الديار المصرية، وكتب عليه قاضى الشافعية: " قابلت الجواب عن هذا السؤال المكتوب على خط ابن تيمية فصح- إلى أن قال- وإنما الخزى (2) جعله زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبور الأنبياء صلوات الله عليهم معصية بالاجماع متطوعا بها " يقول ابن عبد الهادى: هذا كلامه فانظر إلى هذا التحريف على شيخ الاسلام والجواب ليس فيه المنع من زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وإنما ذكر فيه قولين في شد الرحل والسفر إلى مجرد زيارة القبور.." (3) 2- دور القضاة والمفتين في مصر والشام، الذين بادروا بأن كتبوا وشنعوا على ابن تيمية تشنيعا شديدا حتى كتب السلطان بحبسه وكذلك قد يكون للرافضة أو الصوفية دور في ذلك. 3- بعد السلطان عن ابن تيمية، ولو كان عنده لعرف حقيقة الأمر ولسمع من رأيه وأدلته مباشرة، ولكنه وهو في مصر إنما يسمع ما يقوله من حوله   (1) انظر: العقود (ص: 363- 364) ، والبداية والنهاية (4 1/ 34 1) ، والكواكب (ص: 173) . (2) في العقود: المحرف والتصويب من الكواكب. وفي البداية والنهاية (14/124) كتبت: المحز. (3) العقود (340- 341) ، والكواكب (ص: 157) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 من القضاة فإذا انضاف إلى ذلك ما في المسألة من تحريف على الشيخ، فلا يبعد أن يأمر السلطان بما أمر، والدليل على ذلك أن ابن تيمية لما مرض- مرض الوفاة- دخل عليه شمس الدين الوزير بدمشق فاعتذر له واقس منه أن يحلله فأجابه الشيخ: " إني قد أحللتك وجميع من عاداني وهو لا يعلم أني على الحق، وقال ما معناه: إني قد أحللت السلطان المعظم الملك الناصر من حب! سه إياي، كونه فعل ذلك مقلدا غيره، معذور، أو لم يفعله بحظ نفسه بل لما بلغه، مما ظنه حقا من مبلغه واللة يعلم أنه بخلافه " (1) . 4- انتصر لشيخ الإسلام علماء بغداد وكتبوا بما يوافق قوله في مسألة شد الرحال وسجلوا ذلك بخطوطهم- نقل بعضها ابن عبد الهادي (2) - بل وكتب علماء بغداد للملك الناصر- مع نفس الأجوبة- كتابا يثنون فيه على ابن تيمية ويستنكرون ما جرى له وكان مما قالوه في خطابهم هذا " أحمد ابن تيمية درة يتيمة يتنافس فيها، تشترى ولا تباع، ليس في خزائن الملوك درة تماثلها وتؤاخيها ... وليس يقع من مثله أمر ينقم منه عليه إلا أن يكون أمرا قد لبس عليه، ونسب إلى ما لا ينسب مثله إليه " (3) كما كتب إلى السلطان كتاب آخر، ويعلق صاحب الكواكب الدرية بقوله: " قلت والظاهر أن هذه الكتب لم تصل للسلطان الملك الناصر، إما لعدم من يوصلها أو لموت الشيخ قبل وصولها، وإلا لظهر لها نتيجة " (4) ب- دور ابن تيمية الإيجايى في هذه المحن: الذين يتعرضون لمثل هذه الابتلاءات والمحن كثيرون، والرجال الأشداء ذوو الإيمان الصادق هم الذين لا يضعفون أمامها، وثباتهم وعدم ضعفهم يعتبر نصرا لهم أمام هذه الابتلاءات التي قد تكون مما أجراه اللة على يد بعض الظالمين   (1) الأعلام العلية ص: 82) ، والكواكب (ص: 174- هـ 17) . (2) انظر: العقود (ص: 342- 360) ، والكواكب (ص: 159) وما بعدها (3) العقود (ص: 357) ، وا لكو اكب (ص: 169) . (4) 1 لكو اكب (ص: 171) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ليبتلى بهم عباده المؤمنين. فإذا ما تحولت المحنة والابتلاء إلى زيادة في الايمان وإيجابية في العمل في العلم وثقة تامة بهذه العقيدة التي أوذي من أجلها، وانطلاقة صادقة في الدعوة إليها، وتحويل جو المحنة- وما فيها من أذى شخصي ونفسي- إلى خدمة المبدأ الذى يدعو إليه، إذا ما أصبحت آثار وإيجابية المحنة بهذا المستوى فتلك قمة السموق التى لا يصل إليها إلا القليل من الرجال. وقد كان شيخ الإسلام من هؤلاء، فالمحن التى مر بها تحولت بفضل الله وعونه له إلى مواقف إيجابية كان فيها الخير للإسلام والمسلمين والعزة لعقيدة أهل السنة والجماعة التى يدعو إليها: وهذه نماذج من إيجابياته فيها: 1- اختياره الذهاب إلى مصر- لما جاء طلب السلطان بإشخاصه إلى مصر- وأراد النائب أن يعتذر عنه وأن يبقى في الشام، ولكن شيخ الإسلام اختار الذهاب وقال: إن فيه مصلحة، وفعلا كان من الخير والمصلحة في ذهابه إلى هناك ومناقشاته لنفاة الصفات وللصوفية الذين كان خطرهم قد عم وطم. 2- ثم وهو ذاهب إلى مصر- ويعلم أن أمامه قضاة يريدون محاكمتهـ يمر في الطريق على مدينة غزة ثم يعقد في جامعها مجلسا علميا عظيما، فهل كان وهو يعقد مجلسه هذا لتعليم الناس وتدريسهم لا يفكر فيما أمامه من سجن وإيذاء؟. 3- دوره التربوي داخل السجون- إذا كان مع بقية السجناء- كما حدث له في سجنه في مصر بسبب الصوفية، فإنه لما دخل وجد السجناء مشغولين باللهو واللعب كالنرد والشطرنج مع تضييع الصلوات، فأنكر عليهم الشيخ ذلك وأمرهم بملازمة الصلاة والتوجه إلى الله بالأعمال الصالحة، وعلمهم من السنة ما يحتاجون إليه ورغبهم في أعمال الخير، حتى صار الحبس بالاشتغال بالعلم والدين خيرا من كثير من المدارس والخوانق والربط والزوايا. ومثل ذلك ما حدث له في سجن الاسكندرية. 4- اختياره الذهاب إلى الحبس لما اختلف! فيه القضاة وتمنعوا في الحكم عليه والدولة تريد حبسه، فاختار أن يذهب بنفسه إلى الحبس دون أن يصدر في ذلك حكم قاض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 5- اختياره للبقاء في مصر بعد الإفراج عنه ومجيء الملك الناصر، وكان ذلك؟ يقول في خطابه لوالدته لأمور ضرورية في الدين والدنيا، وكان لبقائه في مصر هذه المدة خير كثير في نصر السنة وقمع البدعة، وإيقاف أهل الذمة من اليهود والنصارى عند حد الشرع وقد تطاولوا قبل ذلك كثيرا. 6- أما التأليف والكتابة في أثناء سجنه، وكذلك ما يضاف إلى ذلك من التدريس والتعليم بعد سجنه كل مرة، فتلك كانت من أعظم إيجابياته فيها، ففي سجنه في الإسكندرية وكذلك في سجنه الأخير في القلعة كان مكبا على التأليف والردود، خاصة في القضايا المطروحة التي سجن من أجلها، وكذلك كان لا يخرج من سجن إلا ويتجه مباشرة إلى التدريس والتعليم، لا يأخذ فترة راحة ولا استجمام. 7- ولما أراد الذهاب إلى الشام- موطنه، وفيه والدته الحنون- لم يذهب إلا مع الجيش للجهاد في سبيل الله، ثم لما علم أن الجيش! لن يلقى قتالا توجه في طريقه إلى القدس وعجلون وبلاد السواد وزرع- ولا تذكر الكتب ماذا فعل هناك- ولكنه لن يترك التعجل إلى دمشق إلا لأمر من أمور الخير مما اعتادهـ رحمه الله. 8- عفوه عمن ظلمه، ومسامحته لأعدائه حتى بعد القدرة عليهم وتلك سجية فريدة شهد له بها أعداؤه، حتى قال ابن ت لوف قاضي المالكية وخصمه - بعد مجادلته للملك الناصر حتى حلم عنهم وصفح-: ما رأينا مثل ابن تيمية، حرضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا " (1) وقال أيضا: " ما رأينا أتقى من ابن تيمية، لم نبق ممكنات في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا عنا" (2) . 9- وأخيرا فقد كانت المحنة بحد ذاتها سببا في ذيوع وانتشار كتب ورسائل ابن تيمية حتى قال في سجنه الأخير- في ورقة مكتوبة بالفحم- " وكانوا قد سعوا   (1) البداية والنهاية (14/54) . (2) العقود (ص: 283) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 في أن لا يظهر من جهة حزب الله ورسوله خطاب ولا كتاب وجزعوا من ظهور الإخنائية، فاستعملهم الله تعالى حتى أظهروا أضعاف ذلك وأعظم وألزمهم بتفتيشه ومطالعته، ومقصودهم إظهار عيوبه وما يحتجون به فلم يجدوا فيه إلا ما هو حجة عليهم ... " (1) . ثامنا: تلاميذه والمتأثرون به : من الصعب الإحاطة بتلاميذ ابن تيمية والمتأثرين به، لأن كتبه ومنهجه تحول إلى مدرسة كبرى لها تلاميذها الذين تحولوا إلى شيوخ كبار وهذه المدرسة قائمة إلى اليوم ومنتشرة في العالم الإسلامي والحمد لله، وستبقى إن شاء الله تعالى، لأنها تسير على وفق منهج السلف أهل السنة والجماعة، ومن ثم فهى لا تنتنسب إلى شخص أو طائفة، بل تحصر انتسابها في متابعة الكتاب والسنة والسير على طريق الرسول - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح، فليس لابن تيمية ولا لمن بعده إلا فضيلة تجديد ما اندرس أو نسى منها، وبذل الجهد في الدفاع عنها والدعوة إليها. وشيخ الإسلام ابن تيمية كثرت في عصره الطوائف والفرق وصار لكل طائفة شيوخ وأتباع، ومنهج وكتب يتداولونها، فعظمت مصيبة الأمة الإسلامية بهذه الفرقة، خاصة وأن كل طائفة تدعي أنها على الحق، وكان من أعظم ما دخل على المسلمين- وخفي على كثير منهم- اختلاط الحق بالباطل، وامتزاج العقيدة السلفية بعلم الكلام والفلسفة، حتى وصل الأمر إلى أن قعدت قواعد وأصلت أصول كلامية ونسبت إلى مذهب أهل السنة والجماعة، فكان دور شيخ الإسلام دور المميز لمذهب ومنهج السلف، والمصفى له عن تلك الشوائب، مضيفا إلى ذلك نقد تلك الأصول الكلامية ونقض أسسها التي قامت عليها، فظهر- منهج السلف- واضحا بينا لمن أراده، وتبين أن غيره ما هى إلا أصول كلامية وقواعد فلسفية جاء بها أصحابها واستقوها بعيدا عن المنابع الصافية من الكتاب والسنة.   (1) المصدر السابق (ص: 364) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 ولذلك نرى بعض العلماء يعيش في حيرة دهرا يقلب في كتب أهل الكلام، فلا يهتدي إلى الصواب فيها، فلما اطلع على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية تبين له الحق الذي كان يبحث عنه يقول أحدهم: " وكنت قبل وقوفي على مباحث إمام الدنيا-رحمه الله- قد طالعت مصنفات المتقدمين، ووقفت على مقالات المتأخرين من أهل الفلسفة ونظار أهل الإسلام، فرأيت نها الزخارف والأباطيل والشكوكات التي يأنف المسلم الضعيف في الإسلام أن يخطرها بباله فضلا عن القوى في الدين مكان يتعب قلبي ويحزننى ما يصير إليه الأعاظم من المقالات السخيفة والآراء الضعيفة التي لا يعتقد جوازها آحاد العامة، وكنت أفتش على السنة المحضة في مصنفات المتكلمين من أصحاب الإمام أحمد-رحمه الله- على الخصوص، لاشتهارهم بالتمسك بمنصوصات إمامهم في أصول العقائد، فلا أجد عندهم ما يكفى، وكنت أراهم يتناقضون إذ يؤصلون أصولا يلزم فيها ضد ما يعتقدونه، ويعتقدون خلاف مقتضى أدلتهم، ... وكنت ألتجي " إلى الله سبحانه وتعالى وأتضرع إليه، وأهرب إلى ظواهر النصوص وألقى المعقولات المتباينة والتأويلات المصنوعة لنبو الفطرة عن قبولها، ثم قد تشبثت فطرتي بالحق الصريح في أمهات المسائل، غير متجاسرة على التصريح بالمجاهرة قولا وتصميما للعقد عليه، حيث لا أراه مأثورا عن الأئمة وقدماء السلف، إلى أن قدر الله تعالى وقوع مصنفى الشيخ إمام الدنيا-رحمه الله- في يدي قبيل واقعته الأخيرة بقليل، فوجدت ما بهرني، من موافقة فطرتي لما فيه، وعزو الحق إلى أئمة السنة وسلف الأمة، مع مطابقة المعقول والمنقول، فبهت لذلك، سرورا بالحق وفرحا بوجود الضالة التي ليس لفقدها عوض، فصارت محبة هذا الرجل-رحمه الله- محبة ضرورية، يقصر عن شرح أقلها العبارة ولو أطنبت، ولما عزمت على المهاجرة إلى لقيه، وصلني خبر اعتقاله، وأصابني لذلك المقيم المقعد ... " (1) وصمم على السفر إليه سنة 728 هـ ولكن جاءه بخبر وفاته فحزن عليه حزنا عميقا (2) .   (1) العقود الدرية (ص: 503- 505) ..وهذا الرجل اسمه عبد الله بن حامد من بغداد، وانظر: الأعلام العلية (ص: 32) ، والرد الوافر (ص: 196،216) ، ففيهما شيء مشابه. وقد رجع بعض الصوفية، انظر: السبعينية (ص: 135) ، والاستغاثة (2/276) . (2) انظر: العقود (ص: 505) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 هذا نموذج لكيفية ونوعية التأثير في مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية، ونشير بإجمال إلى بعض تلاميذه والمتأثرين به، فمنهم: 1- ابن القيم، محمد بن أبي بكر، ت 751 هـ. 2- الذهبي، محمد بن أحمد، ت 748 هـ. 3- المزممط، يوسف بن عبد الرحمن، ت 742 هـ. 4- ابن كثير، إسماعيل بن عمر، ت 774 هـ. 5- ابن عبد الهادى، محمد بن أحمد بن عبد الهادى بن قدامة. ولد سنة 704 هـ وتوفي سنة 744 هـ (1) . 6- البزار، عمر بن علي، 688- 749 هـ (2) . 7- ابن قاضي الجبل، أحمد بن حسن بن عبد الله بن عمر بن قدامة، قاضي القضاة، 693- 771هـ (3) . 8- ابن فضل الله العمرى، أحمد بن يحى بن فضل الله بن المحلى بن دعجان 697- 749 هـ (4) . 9- محمد بن المنجا بن عثمان التنوخي، 675- 724 هـ (5) . 10- يوسف بن عبد المحمود بن عبد السلام البتي، توفي سنة 726 هـ (6) .   (1) انظر: تاريخ الصالحية (ص: 432) ، وذيل طبقات الحنابلة (2/436) ، وذيل تذكرة الحفاظ للحسينى (ص: 49) ، والرد الوافر (ص: 62) . (2) انظر: الدرر الكامنة (3/256) ، وذ! ل ابن رجب (2/444) . (3) انظر: المنهل الصافي (1/ 284) ، والدرر الكامنة (11/29) ، وشذرات الذب (6/ 9 21) . (4) انظر: المنهل الصافي (2/ 261) . (5) انظر: البداية والنهاية (14/6 1 1) ، وذيل ابن رجب (2/377) . (6) انظر: ذيل طبقات الحنابلة (2/379) ، وهو من الذين انتصروا لابن تيمية من علماء بغداد في مسألة ضد الرحال، وناله بسبب ذلك سجن ومحنة، وانظر: العقود (ص: 353) ، والكواكب (ص:159) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 11- ابن شيخ الحزاميين، أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الواسطي، 657-711 هـ (1) . 12- أبو العباس الزرعي، أحمد بن موسى، توفي سنة 761 هـ (2) . 13- شمس الدين الأصبهاني محمود بن عبد الرحمن بن أحمد، توفي سنة 749 هـ (3) . 14- محمد بن أحمد أو نصر الدباهي، الزاهد، شمس الدين، 636- 711 هـ (4) . 15 - محمد بن عمر بن عبد المحمود الحراني، 677- 718 هـ (5) 16 - ابن أبى النجيح: شرف الدين محمد بن سعد اللهـ ت 723 هـ (6) 17 - وأخوه: زين الدين عمر بن سعد اللهـ ت 749 هـ (7) . 18 - محمد بن عمر بن قوام البالس- 650- 718 هـ (8) .   (1) كان أبوه شيخ الطائفة الأحمدية، ولما جاء إلى دمشق صحب ابن تيمية وتأثر به، وصنف في الرد على الاتحادية، وكان على عقيدة السلف الصالح. ذيل طبقات الحنابلة (2/358-. 36) . (2) قدم القاهرة لما سجن ابن تيمية وكلم الأمير الجاشنكير في أمره وأمعن، المنهل الصافي (2/231-232) . (3) وهو غير الأصبهاني- صاحب العقيدة التي شرحها وناقشها ابن تيمية، أما هذا فقد قدم دمشق سنة 725 هـ وصار يتردد على ابن تيمية ولازمه، انظر: الدرر الكامنة (5/95) ، وبغية الوعاة (2/278) ، وطبقات السبكى (10/383) ، وطبقات الأسنوى (1/172) ، وطبقات المفسرين للد او دي (2/313) . (4) ذهب إلى مصر ليصلح بين ابن تيمية والمنبجى، انظر ترجمة ابن تيمية بقلم خادمه (ص: 24) . وانظر في ترجمة الدباهى: ذيل ابن رجب (2/361) . (5) سافر سنة 711 هـ لزيارة شيخ الاسلام في مصر فأسر في الطريق، انظر: ذيل طبقات الحنابلة (2/373) . (6) كان مع ابن تيمية في المواطن الصعبة التى لا يستطيع الأقدام عليها إلا الأبطال الخلص الخواص. البداية والنهاية (14/ 210) . (7) انظر: البداية والنهاية (14/227) . (8) انظر: المصدر السابق (14/89- 90) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 19- السرمري: يوسف بن محمد بن مسعود العقيلي، 696- 776 هـ (1) . 20- يعقوب بن فارس الجعبري، توفي سنة 726 هـ (2) . 21- علي بن أحمد بن هوس الهلالمط، ت 727 هـ (3) . 22- محمد بن علي البابا الحلبي العوام، توفي سنة 725 هـ (4) . 23- إبراهيم بن الموله البعلبكي، توفي سنة 725 هـ (5) . 24- عبد الله بن مومى الجزرى، توفي سنة 725 هـ (6) . 25- أم زينب فاطمة بنت عباس، توفيت سنة 714 هـ (7) . وغيرهم كثير، ذكرهم في الرد الوافر، والشهادة الزكية. تاسعا: مؤلفاته ورسائله : قبل الدخول في الكلام عن مؤلفاته نشير إلى بعض الملامح حول طريقته في الكتابة فابن تيمية كان سريعا في الكتابة، وكان له جلد عليها، يقول أخوه عبد الله: "وقد من الله عليه بسرعة الكتابة، ويكتب من حفظه من غير نقل" (8) ويقول ابن عبد الهادي: " وأخبرني غير واحد أنه كتب مجلدا لطفيا في يوم، وكتب غير مرة أربعين ورقة في جلسة وأكثر، وأحصيت ما كتبه وبيضه في يوم فكان ثماني كراريس في مسألة من أشكل المسائل" (9) .   (1) له نظم: الحمية الاسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية " لحظ الألحاظ (ص: 160) ، أو بغية الوعاة (2/360) ، والدرر الكامنة (5/249) . (2) البداية والنهاية (14/127) . (3) المصدر السابق (14/ 130) . (4) نفسه (14/120) . (5) نفسه (14/119) . (6) نفسه (14/119) . (7) نفسه (14/72) . (8) العقود (ص: 64) ، وانظر أعيان العصر- مجموع للمنجد (ص: 50) . (9) المصدر السابق (ص: 64) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وكان عند ابن تيمية من يبيض له كتبه لأنه يكتب بسرعة، وكان هناك شخص يكتب مصنفات الشيخ اسمه: عبد الله بن رشيق المغربي، [توفي سنة 749 هـ] يقول ابن كثير: " وكان أبصر بخط الشيخ منه " (1) . وكان أحيانا يتفرغ للاصلاح في كتبه والزيادة فيها والنقصان. كما حدث له بعد خروجه من السجن- بسبب الطلاق- سنة 721 هـ (2) . وبعد رجوعه من مصر إلى الشام سنة 712 هـ تفرغ للكتابة المطولة (3) . وكان يهتم كثيرا بما ينسب إليه أنه من خطه (4) ، ويبدو أن الكذب عليه وتحريف كلامه جعله حساسا من هذا الجانب. وكان لا يؤخر الأجوبة- إذا سئل- بل " يكتب في الحال عدة أوصال بخط سريع في غاية التعليق والاغلاق " (5) ، وقد يكون صاحب الرسالة مستعجلا فيشير إلى ذلك (6) . وكان يؤلف في سجنه من حفظه، وينسب الأقوال إلى قائليها، ثم تأتي بعد المقابلة كما نقل (7) . وكان يقرأ كثيرا فيطلع أحيانا على تفسير الآية الواحدة اكثر من مئة تفسير (8) . وكان يسأل إذا احتاج إلى الكتب، فسأل مرة هل للمدينة كتاب يتضمن أخبارها كما صنف في أخبار مكة (9) .   (1) البداية والنهاية (14/229) . (2) انظر: العقو د (ص: 327) . (3) انظر: البداية والنهاية (14/67) . (4) انظر: مجموع الفتاوى (27/ 315) - الجواب الباهر-. (5) انظر: تاريخ ابن الوردى (2/408) . (6) انظر مثلا: الكيلانية مجموع الفتاوى (12/416-417) ، وانظر: مسألة الأحرف مجموع الفتاوى (12/116) (7) انظر: الأعلام العلية (ص: 22) ، والكواكب (ص: 81) ، والدرر الكامنة (1/163) . (8) انظر: العقود (ص: 26) ، وا لكو اكب (ص: 78) ، والو افي (7/ 16) . (9) انظر: الرسالة المدنية، مجموع الفتاوى (6/373) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وكان يرى أنه لا يجوز لمالك الكتب أن يمنعها من سأل عنها، ويقول: لا ينبغي أن يمنع العلم ممن يطلبه (1) . وكتب ورسائل ابن تيمية كثيرة جدا وقد ضاع بعضها لأسباب منها: المحن التى مر بها هو وأتباعه فلابد أن تنال المحنة كتبه ورسائله، وقد وصل الأمر أن يخاف أتباعه أن يظهروا كتبه. إضافة إلى حرص تلاميذ الشيخ على رسائله حتى أنه إذا سئل عن مسألة قال كتبت في هذا، فلا يدري أين هو، فيلتفت إلى أصحابه ويقول: ردوا خطي وأظهروه لينقل، فمن حرصهم عليه لا يردونه، ومن عجزهم لا ينقلونه فيذهب (2) . أما مؤلفاته ورسائله فكثيرة جدا، بلغت أكثر من ثلاثمائة مجلد، وقال الذهبى: إنه وجدها أكثر من ألف مصنف (3) ، وقد قام بمحاولة لإحصائها بعض العلماء (4) ونحن هنا نقصر الكلام على بعض مؤلفاته التي أفردها في العقيدة وفيها ردود على الأشاعرة: 1- العقيدة الحموية: وهي جواب لسؤال ورد من حماه، وموضوع السؤال آيات الصفات كالاستواء وأحاديث الصفات كالأصابع والقدم، فأجاب شيخ الإسلام بهذه الرسالة التى حميت: الفتوى الحموية الكبرى، وقد يكون هناك فتوى حموية صغرى قبلها، وكان قد كتبها في قعدة بين الظهر والعصر. والحموية خالصة في الرد على الأشاعرة، وقد جاءت بأسلوب تقريري قوي، فهي على اختصارها- بالنسبة للكتب الأخرى- مليئة بالقواعد الأصولية   (1) انظر: الأعلام العلية (ص: 66) ، والكواكب (ص: 87) . (2) العقود (ص: 65) . (3) انظر: الرد الوافر (ص: 72) . (4) منهم ابن القيم، له رسالة في مؤلفات ابن تيمية، والصفدى في الوافي (7/23) ، وفي العصر الحديث صالح المنصور في كتابه أصول الفقه وابن تيمية (1/156) وما بعدها. وصبرى المتولي في منهج ابن تيمية في تفسير القرآن (ص: 272) وما بعدها- ترجمه عن غيرهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وقد تعرض لمقولة الأشاعرة: إن مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم، ونقضها وبين أن مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم. كما عرض لنشأة تأويل الصفات وأرجع تأويلات ابن فورك والرازي والغزالي إلى تاءويلات المريسي، ثم ختمها بنقول كثيرة للعلماء الذين ينتسب إليهم الأشاعرة وغيرهم وفيها ما يرد عليهم. ومن يقرأ هذه الرسالة العطمة لا يستبعد أن تطيش بسببها عقول أشاعرة ذلك العصر. ولذلك امتحن بسيها مرتين مرة في الشام ومرة في مصر. 2- جواب الاعتراضات المصرية على الفتاوى الحموية: ويقع في أربعة مجلدات، وقد ألفه في مصر (1) ، وواضح من عنوانه أنه جاء بعد محنته الأولى في مصر حين استدعي لمساءلته عن الحموية- ومناظرته الأولى فيها- ولم يصلنا شيء عن هذا الكتاب. 3- نقض أساس التقديس: ويسمى أحيانا: كتاب تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية ويسمى نقض تأسيس الجهمية، والذين تحدثوا عنه قديما ذكروا أنه في ست مجلدات، وأنه أكبر من درء تعارض العقل والنقل (2) . والكتاب من أهم كتب ابن تيمية لأنه جعله خاصا بالرد على كتاب من أعظم كتب الأشاعرة، وقد عول عليه من جاء بعده، وهو كتاب " أساس التقديس للرازي " والمطلع على كتاب الرازى هذا يرى خطورة هذا الكتاب لأنه حشد فيه خلاصة أدلة الأشاعرة وشبههم بأسلوب عقلى قوى، خاصة وأنه أفرده   (1) انظر: ذيل طبقات الحنابلة (2/403) . (2) يذكر ابن عبد الهادي في العقود (ص: 25) أن درء تعارض العقل والنقل في أربع مجلدات - وبعض النسخ في أكثر من أربعة مجلدات-، ويذكر في (ص: 28) أن بيان تلبيس الجهمية في ست مجلدات، وبعض النسخ منه في أكز من ذلك. أما البزار في الأعلام العلية (ص: 23) فيذكر أن تلخيص التلبيس في اثنى عشر مجلدا، وأن درء العقل والنقل في سبع مجلدات، أما ابن الوردى في تتمة المختصر (2/409) فيذكر أن تأسيس التقديس في سبع مجلدات والموافقة في مجلدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 في مسائل الصفات فقط. يقول ابن تيمية مبينا ظروف تأليفه لهذا الكتاب وأسبابه: (اأما بعد فإني كنت سئلت من مدة طويلة بعيدة سنة تسعين وستمائة عن الآيات والأحاديث الواردة في صفات الله في فتيا قدمت من حماه، فأحلت السائل على غيري، فذكر أنهم يريدون الجواب مني زائد، فكتبت الجواب في قعدة بين الظهر والعصر وذكرت فيه مذهب السلف والأئمة المبني على الكتاب والسنة، المطابق لفطرة اللة التي فطر الناس عليها ... وحصل بعد ذلك من الأهواء والظنون ما اقتضى أن اعترض قوم على خفي هذه الفتيا بشبهات مقرونة بشهوات، وأوصل الى بعض الناس مصنفا لأفضل القضاة المعارضين، وفيه أنواع من الأسئلة والمعارضات، فكتبت جواب ذلك وبسطته في مجلدات، ثم رأيت أن هؤلاء المعترضين ليسوا مستقلين بهذا الأمر استقلال شيوخ الفلاسفة والمتكلمين، فالاكتفاء بجوابهم لا يحصل ما فيه المقصود للطالبين ... واستشعر المعارضون لنا أنهم عاجزون عن المناظرة التي تكون بين أهل العلم والايمان، فعدلوا إلى طريق أهل الجهل والظلم والبهتان، وقابلوا أهل السنة بما قدروا عليه من البغي باليد عندهم واللسان، نظير ما فعلوه قديما من الامتحان، وإنما يعتمدون على ما يجدونه في كتب المتجهمة المتكلمين، وأجل ما يعتمدون كلامه هو أبو عبد اللة الرازي إمام هؤلاء المستأخرين، فاقتضى ذلك أن أتم الجواب عن الاعتراضات المصرية الواردة على الفتيا الحموية بالكلام على ما ذكره أبو عبد الله الرازى في كتابه الملقب بتأسيس التقديس، لتبيين الفرق بين البيان والتلبيس، ويحصل بذلك تخليص التلبيس، ويعرف فصل الخطاب فيما في هذا الباب من أصول الكلام، التى كثر بسيها بين الأمة النزاع والخصام " (1) ثم تحدث عن منزلة الرازي عند المتكلمين. وهذا الكتاب- للأسف الشديد- لم يصل إلينا كاملا وإنما وصل بعضه، وقد طبع جزء من هذا الذي وصل (2) ، وبعضه لا زال مخطوطا (3) ،   (1) نقض أساس التقديس المخطوط (3/1- هـ) . (2) طبع مجلدان بتحقيق ابن قاسم، والأول منهما لم يتمحض للكتاب وإنما فيه تكميلات وضعت في صلب الكتاب من كتب ابن تيمية الأخرى. (3) في جامعة الملك سعود ثلاثة أجزاء مخطوطة- ليس في المطبوع منها شيء - ويلاحظ أن الثالث منها منزلته الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 والذي لم يصل من الكتاب أكثر مما وصل (1) . وهكذا تأتي هذه الكتب الثلاثة على الترتيب، الحموية، فالجواب عن الاعتراضات عليها، فنقض أساس التقديس. 4- درء تعارض العقل والنقل: وهذا الكتاب من أعظم كتب ابن تيمية، وقد ألفه في الرد على الأشاعرة الذين يقولون بوجوب تقديم العقل على النقل إذا تعارضا، وجعلوا ذلك قانونا كليا لهم، ومن الذين قالوا بهذا القانون الرازي (2) وأتباعه، والغزالي (3) ، والجويني (4) ، والقاضي أبو بكر بن العربى (5) ، وغيرهم. وقد ألف ابن تيمية هذا الكتاب بعد تأليفه لنقض أساس التقديس، وقد رجح المحقق-رحمه الله- أنه ألفه بعد وصوله إلى الشام من مصر أي بين عامي 712- 718 هـ (6) ، ويقول ابن تيمية مشيرا إلى ذلك " وهذه الطريقة هي ثابتة في الأدلة الشرعية والعقلية، فإنا قد بينا في الرد على أصول الجهمية النفاة للصفات في الكلام على تأسيس التقديس وغيره " (7) ، فهذا النص أخر تأليف هذا الكتاب عن كتابه الآخر الذي ألفه في مصر نقض أساس التقديس، ونلمح هنا التدرج التأليفي في نقض أصول الأشاعرة، فهو في البداية رد على أدلتهم مباشرة وأجاب عن الاعتراضات الواردة عليها، ثم رأى أن هؤلاء إنما يعتمدون في شبههم واعتراضاتهم على ما كتبه شيخهم ومقدمهم الرازي فرأى أن من تمام الكلام في نقض كلامهم نقض كلام شيوخهم- كالرازي- فألف نقض أساس التقديس،   (1) كتاب الرازي يقع في 196 وعدد الصفحات التي شملها الرد- المخطوط والمطبوع- ما يقارب 60 صفحة فقط. (2) في كتبه ومنها: أساس التقديس (ص: 172) . (3) في كتابه قانون التأويل. طبع مع معارج القدس للغزالمط. مكتبة الجندى. (4) انظر مثلا: الإرشاد (ص: 358) . (5) انظر: قانون التأويل له (ص: 646-647) . (6) انظر: درء تعارض العقل والنقل (ج-1 االمقدمة ص: 7-. 1) . (7) درء تعارض العقل والنقل (14/218) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 ثم بعد ذلك رأى أن الرازى وأمثاله ليسوا مستقلين بذلك استقلالا كاملا وإنما مادة كلامهم من كلام الفلاسفة فأراد أن يكمل الرد بنقض أصولهم الفلسفية فجاء هذا الكتاب! درء تعارض العقل والنقل " الذي لم يكن مقتصرا على جواب هذه المسألة فقط: تقديم العقل على النقل، وإنما حوى مباحث طويلة مع الفلاسفة - شيوخ الرازي- وغيرهم، ونقل أقوالهم وبين من وجوه عديدة أنواعا من تناقضاتهم ورد بعضهم على بعض. والكتاب- والحمد للهـ وصل إلينا كاملا ونشر نشرا علميا ممتازا، فجزى الله محققه خيرا وغفر له ورحمه. 5- القاعدة المراكشية: وهي أيضا في الرد على الأشاعرة في مسألة " العلو " والاستواء على العرش، وقد ألفها في السنة الأخيرة من سنوات مقامه في مصر 712 هـ، وسبب تأليفها حدوث نزاع بين بعض المغاربة المالكيين حول مسألة العلو، واختلافهم حول معنى ما جرى للإمام مالك مع السائل له عن الاستواء حين قال له " وما أراك إلا رجل سوء "، وهل معنى ذلك أنه لا يجب معرفة هذا الأمر بل من تكلم فيه فهو مبتدع مجسم؟، وقد ورد سؤال في ذلك وجه إلى شيخ الإسلام ابن تيمية فأجاب بهذه القاعدة العظيمة التي سيبت ب " القاعدة المراكشية " (1) ، وقد ذكر فيها أصولا مهمة تتعلق بإكمال الدين، وفهم النصوص، ثم تكلم عن العلو وثبوته والرد على شبه الخالفين، ثم رد على " الواقفة " (2) - الذين أوحى بهم ظاهر السؤال واحتجوا بقول الإمام مالك- وبين خطأهم من وجوه، وبين أن قول الإمام مالك صريح في الإثبات وأنه لم يكن من الواقفة بحال، ثم نقل أقوال العلماء في ذلك من المغاربة وغيرهم.   (1) طبعت مع مجموع الفتاوى (5/153-193) ، ومجموعة الرسائل والمسائل (ج-1ص: 85 ا-216) ،؟ طبعت مستقلة ومحققة، ط دار طيبة. (2) انظر: المراكشة (ص: 54) ، وما بعدها، المحققة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وهذه الرسالة تجيب على التساؤل الذي يرد دائما بالنسبة للمغاربة وهو: كيف يتبنى المغاربة المذهب الأشعري، وفيه نفي العلو وتأويل الاستواء، مع أن الامام مالكا إمامهم، وهم لا يخرجون عن أقواله بل ويتعصبون له، وهذا الإمام يثبت الاستواء- كما في الرواية المشهورة عنهـ؟. 6- الرسالة التدمرية: وهي من الرسائل- ذات القواعد العظيمة- في إثبات الصفات والشرع والقدر، والرد على الخالفين من الأشاعرة وغيرهم، وهي رسالة مشهورة لكن لم يتبين تاريخ كتابة هذه الرسالة، وإن كان فيها ما يدل على أن السائلين كانوا من تدمر وقد وصفهم ابن تيمية بقوله: " أما بعد فقد سألني من تعينت إجابتهم أن اكتب لهم مضمون ماسمعوه مني في بعض المجالس " (1) فالظاهر من حالهم أنهم من تلاميذه، أو ممن قدموا إليه وتتلمذوا عليه زمنا وحضروا مجالسه، ويرد ذكر مجموعة من المشايخ التدامرة- في مصر- ولهم محاولات للوساطة بين شيخ الإسلام ومناوئيه (2) 7- شرح الأصفهانية: والأصفهانية متن في العقيدة مختصر لشمس الدين الأصبهاني، محمد ابن محمود بن عباد (3) ، قدم القاهرة وتولى القضاء ثم استقر بها، وقد ورد في مقدمة شرح ابن تيمية تاريخ ومكان كتابتها، ففيها: " سئل شيخ الاسلام أبو العباس تقي الدين ابن تيمية قدس الله روحه .... وهو مقيم بالديار المصرية في شهور سنة اثنتي عشرة وسبعمائة أن يشرح العقيدة، التي ألفها الشيخ ثهس الدين محمد بن الأصفهاني، الإمام المتكلم المشهور الذمم! قيل: إنه لم يدخل   (1) التد مر ية (ص: 3) المحققة. (2) انظر: ناحية من حياة ضيخ الاسلام بقلم خادمه (ص:5 2-.3) . (3) ولد سنة 6 1 6 هـ، وتوفي سنة 688 هـ، وفي بغية الوعاة أنه توفي سنة 678 هـ. ولعله وهم: انظر: طبقات السبكى (8/ 100) ، وبغية الوعاة (1/ 240) ، والوا في (5/ 12) ، وفوات الوفيات (5/38) والعبر (3/367) وشذرات الذهب (5/ 6 0 4) ، والنجرم الزاهرة (7/ 382) ، وحسن المحاضرة (1/542) ، ومتن العقيدة ذكره السبكي (8/102-103) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 إلى الديار المصرية أحد من رؤوس علماء الكلام مثله، وأن يبين ما فيها " (1) . فأجاب إلى ذلك واعتذر بأنه لابد عند شرح ذلك الكلام من مخالفة بعض مقاصده لما توجبه قواعد الإسلام فإن الحق أحق أن يتبع والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين " (2) . وتد شرح ابن تيمية هذه العقيدة، ورد الأصول الكلامية فيها، وبين ما فيها من انحراف عن منهج أهل الحق، وقد ذكر شيخ الإسلام أن المصنف سلك في الصفات مسلك الرازي (3) . وقد اشتمل الشرح على مباحث العقيدة كلها ومنها الصفات والإيمان، والمعاد، واليوم الآخر والقدر والنبوات وغيرها. 8- المناظرة حول الواسطية: وهي تسجيل لما جرى حول " الواسطية " من مجالس ناقشه فيها الأشاعرة وجوابه لهم، وقد سجلها ابن تيمية بنفسمه وذكر ما ورد فيها من اعتراضات ومناقشات حول التحريف والتأويل، ومسألة الحرف والصوت، والإيمان وأت قول وعمل، والاستواء، والأشعري ومذهبه في الصفات الخبرية. 9- الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز في الصفات: وقد لخص فيها ابن تيمية مناظرة جرت له مع بعض الأشاعرة حول: وصف اللة بالعلو على العرش، ومسألة القرآن، ومسألة تأويل الصفات، وتكلم على مقولة: هل الظاهر مراد أو غير مراد، وبين أنه لا يجوز صرف النصوص عن ظاهرها اللائق بجلال الله تعالى، وقد كتبها الزاهد شمس الدين من أهل المدينة (4) .   (1) شرح الأصفهانية، هـ مخلوف (ص: 3) . (2) نفس المصدر (ص: 3) . (3) انظر: نفس المصدر (ص: 8،15،18،19) . (4) انظر: مجموع الفتاوى (1/1 35-373) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 10- التسعينية: وهي في الرد عك الأشاعرة في مسألة " الكلام النفسي " رد فيها عليهم من أوجه عديدة، وهذه الرسالة كتبها في مصر في محنته الأولى سنة 706 هـ (1) ، وذلك حينما ناقشه علماء الأشاعرة في مسائل العلو والكلام، وجرى في ذلك فصول سطرها ابن تيمية في مقدمته للتسعينية، وقال: " وقد كتبت هنا بعض ما يتعلق بهذه المحنة التي طلبوها مني في هذا اليوم، وبينت بعض ما فيها من تبديل الدين واتباع غير سبيل المؤمنين لما في ذلك من المنفعة للمسلمين وذلك من وجوه محميرة نكتب منها ما يسره الله تعالى " (2) ، وهذه الرسالة من رسائل ابن تيمية الفريدة التي ذكر فيها أمورا مهمة ومسائل قد لا توجد في كتبه الأخرى. 11- النبوات: وهو في الرد على الأشاعرة- ومنهم الباقلاني (3) - في مسألة معجزات الأنبياء والفرق بينها وبين الكرامات والخوارق الشيطانية، وهو مطبوع لكن فيه نقص ولعل الله أن ييسر مخطوطات هذا الكتاب ليحقق ويخرج بشكل جيد. 12- الإيمان: وفيه الرد على المرجئة، ومنهم الأشاعرة، ونقل أقوالهم في الإيمان وأدلتهم ثم ناقشها (4) . وهو مطبوع. 13- شرح أول المحصل للرازي: ولم يصل إلينا، وكثيرا ما يشير إليه ابن تيمية في كتبه.   (1) في المطبوعة سنة ست وعشرين، وهو خطأ، إذ في هذه السنة 726 هـ كان معتقلا بسبب شد الرحال، وقد ظن البعض- اعتمادا على ما في المطبوعة- أن هذه الرسالة كتبها ابن تيمية في آخر حياته. وقد قال ابن تيمية فيها (ص: 3) " فقد قلت هذا بالشام وأنا قائله هنا". (2) التسعينية (ص:4) . (3) انظر : النبوات (ص: 44) وما بعدها، ط دار الكتب العلمية (4) انظر: الايمان (ص: 115) وما بعدها، ط المكتب الاسلامى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 14- مسائل من الأربعين للرازي: والأربعين في أصول الدين للرازى مطوع، أما كتاب ابن تيمية فلم يصل إلينا. أما كتب ابن تيمية ورسائله التي رد فيها على مسائل عقيدة الأشاعرة فكثيرة جدأ، ومنها: منهاج السنة، والاستقامة، والصفدية، والجواب الصحيح، وشرح حديث النزول، والسبعينية، والرد على الاخنالى، والرد على البكري المعروف بالاستغاثة، وقاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، والحسنة والسيئة، والرسالة العرشية، وقاعدة في المعجزات والكرامات، والمسألة المصرية في القرآن، والأحتجاج بالقدر، ورسالة في علم الظاهر والباطن، والإكليل في المتشابه والتأويل، وتفسير سورة الإخلاص، وغيرها، ولم تفرد هنا لكونها ألفت في الرد على غير الأشاعرة، لكن جاء الحديث عنهم فيها ضمن ردود ومناقشات أخرى. عاشرا: عبادته وتوكله وذكره لربه : لقد تحدث مترجموه عما اشتهر عنهـ رحمه الله تعالى- من العبادة والزهد والورع والإيثار والتواضع والكرم الجم (1) . وأبرز ما في عبادته صدق توكله على ربه وإيمانه بقضائه وقدره ولذلك فهو في أشد حالات الايذاء والمضايقة تجده يكون في أشد حالات التوكل والثقة بالله تعالى، ولما جاءه الخبر بنفيه إلى الاسكندرية وقيل له: هم عاملون على قتلك أو نفيك أو حبسك فقال لهم: " أنا إن قتلت كانت لي شهادة، وإن نفوني كانت لي هجرة، ولو نفوني إلى قبرص لدعوت أهلها إلى الله وأجابوني، وإن حبسوني كان لي معبدا، وأنا مثل الغنمة كيفما تقلبت تقلبت على صوف " (2) . ومن أقواله: " إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة " (3) يقول ابن القيم وقال لي مرة: " ما يصنع أعدئي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري،   (1) انظر: الأعلام العلية (ص: 36- 1 4، 2 4، 48، 63) ، والكواكب (83-88) . (2) ناحية من حياة شيخ الاسلام بقلم خادمه (ص: 30) . (3) الوابل الصيب (ص: 60) - ط دار البيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة " (1) ويقول ابن القيم: " وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبا ما عدل عندى شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير ونحو هذا، وكان يقول في سجوده وهو محبوس:" اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" ما شاء الله، وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه " (2) ويقول ابن القيم أيضا: "وعلم الله ما رأيت أحدا أطيب عيشا منه قط مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والارهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشا، وأشرحهم صدرا وأقواهم قلبا وأسرهم نفسا، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض، أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحا وقوة ويقينا وطمأنينة " (3) . ويقول ابن القيم عن ذكره لربه: " وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله تعالى روحه يقول: " الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء.. وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إلي وقال: " هذه غدوتي ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي " (4) . حادي عشر: وفاته : لما أخرجت الكتب والأوراق والدواة والقلم من عند شيخ الإسلام في القلعة في يوم الاثنين تاسع جمادى الآخر سنة 728 هـ، تفرغ الشيخ للعبادة وقراءة القرآن واستمر على هذه الحال حتى توفي في ليلة الاثنين العشرين من ذى القعدة من هذه السنة 728 هـ. وكانت وفاته على أثر مرض ألم به أياما يسيرة،   (1) الوابل الصيب (ص: 60) ط دار البيان. (2) المصدر السابق (ص: 61) . (3) المصدر السابق، نفس الصفحة. (4) المصدر نفسه (ص: 53-54) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 ولما كان الشيخ قد ضيق عليه - خاصة بعد إخراج كتبه وأوراقه - فقد كانت وفاته مفاجئة للناس جميعا، فقد أصيبوا بصدمة وما كادوا يعلمون صباح الاثنين حتى خرجوا جميعا في جنازته، واشتد زحامهم عليها، وقد اعتبرها المؤرخون من الجنائز النادرة فيشبهونها بجنازة الإمام أثط عبد اللة أحمد بن حنبل-رحمه الله- في بغداد، وابن تيمية مات في دمشق وهى أصغر من بغداد وليست عاصمة للخلافة، كا أن ابن تيمية مات مسجونا مسخوطا عليه من جهة السلطان وكثير من الفقهاء والصوفية الفقراء يذكرون عنه للناس- مما يسىء- أشياء كثيرة، ومع ذلك كانت جنازته مشهودة ومشهورة. يقول البزار: " ثم إن الشيخ- رحمه اللة- بقي إلى ليلة الاثنين العشرين من ذى القعدة الحرام وتوفي إلى رحمه الله تعالى ورضوانه في بكرة ذلك اليوم وذلك من سنة ثمان وعشرين وسبع مئة وهو على حاله، مجاهدا في ذات الله تعالى، صابرا، محتسبا لم يجبن ولم يهلع، ولم يضعف، ولم يتتعتع، بل كان رضى الله عنه إلى حين وفاته مشتغلا بالله عن جميع ما سواه، قالوا: فما هو إلا أن سمع الناس بموته، فلم يبق في دمشق من يستطع المجيء للصلاة عليه وأراده إلا حضر لذلك وتفرغ له، حتى غلقت الأسواق بدمشق، وعطلت معايشها حينئذ وحصل للناس بمصابه أمر شغلهم عن غالب أمورهم وأسبابهم، وخرج الأمراء والرؤساء والعلماء والفقهاء، والأتراك، والأجناد، والرجال والنساء والصبيان من الخواص والعوام، قالوا: لم يتخلف أحد من غالب الناس فيما أعلم إلا ثلاثة أنفس، كانوا قد اشتهروا بمعاداته، فاختفوا من الناس خوفا على أنفسهم، بحيث غلب على ظنهم أنهم متى خرجوا رجمهم الناس فأهلكوهم " (1) . ويذكر ابن كثير أن نائب السلطنة كان غائبا فحارت الدولة ماذا يصنعون، وجاء الصاحب شمس الدين غبريال- نائب القلعة- فعزاه فيه، وجلس عنده،   (1) الأعلام العلية (ص: 82-83) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وفتح باب القلعة لمن يدخل من الخواص والأصحاب والأحباب، فاجتمع عند الشيخ في قاعته خلق من أخصاء أصحابه من الدولة وغيرهم من أهل البلد والصالحية، فجلسوا عنده يبكون ويثنون (1) . " ثم شرعوا في غسل الشيخ ... ولم يدعوا عنده إلا من ساعد في غسله منهم شيخنا الحافظ المزي وجماعة من كبار الصالحين الأخيار، أهل العلم والإيمان، فما فرغ منه حتى امتلأت القلعة رجنح الناس بالبكاء والثناء والدعاء والترحم، ثم ساروا به ... إلى الجامع الأموى والخلائق فيه بين يدي الجنازة وخلفها وعن يمينها وشمالها ما لا يحصى عدتهم إلا الله تعالى، فصرخ صارخ وصاح صائح: هكذا تكون جنائز أئمة السنة، فتباكى الناس، وضجوا عند سماع هذا الصارخ، ووضع الشيخ في موضع الجنائز مما يلي المقصورة، وجلس الناس من كثرتهم وزحمتهم على غير صفوف بل مرصوصين رصا، لا يتمكن أحد من السجود إلا بكلفة، جو الجامع ويرى الأزقة والأسواق، وذلك قبل أذان الظهر بقليل، وجاء الناس من كل مكان، ونوى خلق الصيام لأنهم لا يتفرغون هذا اليوم لأكل ولا لشرب، وكثر الناس كثرة لا تحد ولا توصف، فلما فرغ من أذان الظهر أقيمت الصلاة عقبه على السدة خلاف العادة، فلما فرغوا من الصلاة خرج نائب الخطيب- لغيبة الخطيب بمصر- فصلى عليه إماما، وهو الشيخ علاء الدين الخراط، ثم خرج الناس من كل مكان من أبواب الجامع والبلد ... واجتمعوا بسوق الخيل " (2) في أرض فسيحة فوضعت الجنازة وتقدم للصلاة عليه هناك أخوه زين الدين عبد الرحمن ثم حملت جنازته إلى قبره، ودفن بمقابر الصوفية إلى جانب أخيه شرف الدين عبد الله قبيل العصر- رحمهم الله جميعا-. ثم صاروا يتناوبون بالصلاة عليه في قبرهـ ممن لم يتمكن من الصلاة عليه في المرات السابقة-، وما وصل خبر موته إلى بلد إلا وصلى عليه في جميع جوامعه   (1) انظر: البداية والنهاية (14/138) . (2) المصدر السابق (14/138-39 1) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 ومساجده خصوصا الشام ومصر والعراق وتبريز والبصرة وغيرها (1) . وقد رثى بمراثي عديدة، ذكرها كثير ممن ترجم له (2) .   (1) انظر: الأعلام العلية (ص: 85) . (2) انظر: في وفاته ومراثيه: العقود الدرية (ص: 369-502) ، وتاريخ ابن الوردى (2/406 - 407) ، وذيل ابن رجب (2/405) ، والكواكب (ص: 174) وما بعدها، والدرر الكامنة (1/159) ، وتذكرة النبيه (185/2) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 الفصل الثاني: منهج ابن تيمية في تقرير عقيدة السلف وفي رده على الخصوم تمهيد . أولا: مقدمات في المنهج. ثانيا: منهجه لي المعرفة والاستدلال. ثالثا: منهجه في بيان العقيدة وتوضيحها. رابعا: منهجه في الرد على الخصوم. خامسا: الأمانة العلمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 الفصل الثاني تمهيد الكتابة عن منهج ابن تيمية تحتاج إلى بحث مستقل، لأن هناك قضايا في منهجه لابد من طرحها بوضوح وشمول حتى يتبين حقيقة مذهبه ومنهجه فيها. ومن ثم فمن الصعوبة أن يحصر الباحث الكلام في منهجه في العقيدة في فصل ضمن فصول أخرى يحتاج كل واحد منها إلى استقصاء المراجع حوله وأن يأخذ ما يستحقه ضمن فصول الرسالة من الدراسة والتحقيق. وابن تيمية-رحمه الله- لم يركز في كتاباته حول العقيدة على جانب معين فقط، بل تنوعت كتبه وردوده، ومناقشاته للمخالفين، فكتب في شرح عقيدة السلف، وأقوال أئمة الإسلام، كما رد وناقش الفلاسفة، والمعتزلة، وا لقد رية، والجهمية، والمر جئة، والمشبهة، والخوارج، والصوفية، والر افضة، والأشاعرة، وغرهم، وكان موقفه من هؤلاء، ومنهجه في الرد عليهم نابعا من المنهج السلفي القائم على الكتاب والسنة بموازين دقيقة. وهذه الحقيقة تميز شيخ الإسلام عن غيره من العلماء، الذين كانت لهم جهود مشكورة ومساع محمودة في نصرة هذا الدين والذب عن حوزته، لكن الواحد منهم إنما يشتهر في قضية واحدة من قضايا العقيدة، أو الرد على طائفة واحدة فقط من هذه الطوائف المنحرفة، وقد يكون متلبسا بانحراف معين قالت به طائفة أخرى، والمقصود بهذا الكلام العلماء المتأخرون بعد القرون المفضلة، وذلك حين كانت هذه الفرق والطوائف المنحرفة موجودة في كل مكان في العالم الإسلامي. إن من نعم الله الكبرى- على شيخ الإسلام ابن تيمية- أنه ود على كل طائفة وما وقع في انحراف الطائفة المقابلة لها، ولا شك أن من اعتصم بالله وبكتابه وسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - من غير غلو ولا تقصير فإن الله يوفقه إلى الوسطية، ودين الله وسط بين الأديان، وأهل السنة وسط بين الطوائف!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 لقد كان شيخ الإسلام صاحب منهج واضح، وقد وظف هذا المنهج في جميع ما كتب، فما تغيرت طريقته ولا وقع في التناقض كما حدث لغيره. ولا نريد أن نقارن بينه وبين الغزالي- مثلا- كما فعل بعضهم، لأن الغزالي وإن كان قد رد على الفلاسفة والباطنية، إلا أنه لم يكن مستمرا على منهج واحد ثابت، ولذلك تقلبت به الأحوال كثيرا. ولكن نقارن بين شيخ الإسلام وعلم آخر، كان صاحب منهج، سطر منهجه في كتبه،؟ كان صاحب آراء اجتهادية وأصولية جدد فيها تجديدا جعله من أعلام هذا العلم، وهذا الإمام هو أبو إسحاق الشاطبى المتوفي سنة 790 هـ (1) أي بعد وفاة ابن تيمية بما يزيد قليلا عن ستين عاما، فهذا الإمام كانت له جهود مشكورة في مجالات متعددة، أهمها جانبان: أحدها: التجديد في مجال " أصول الفقه "، والتركيز على مسائل المصالح المرسلة، وبيان كمال هذه الشريعة، وشرح الكليات المتضمنة لمقاصد الشارع في وضع الشريعة، كما طرق مباحث أصول الفقه وربطها بتلك الكليات والمقدمات فجاءت مباحث هذا الكتاب فريدة في منهجها وأسلوب عرضها. والآخر: التجديد في مجال تمحيص السنة ورد البدعة، وقد كانت له مواقف عملية في هذا الجانب، ولما رأى الناس في عصرهـ مالوا إلى ما أحدثه متصوفة عصره وغيرهم من البدع في الأذكار والعبادات وإقامة الموالد وغيرها- أيقن أنه لابد من الرجوع إلى الأصول الشرعية لتمييز ما هو من قبيل الشرع موافق لأصوله وأدلته، عن ما هو من قبيل البدع التى حرمها دين الاسلام ونهى عنها، فجاء كتاب " الاعتصام " فريدا في أسلوبه ومنهجه، فعرض بشكل مفصل لقضايا البدع   (1) هو: الامام إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشاطبي، صاحب الموافقات والاعتصام والافادات والانشادات وغيرها، توفي سنة 790 هـ، انظر: برنامج المجارى (ص: 116) ، ونيل الابتهاج بحاشية الديباج (ص: 46) ، وفهرس الفهارس (1/ 191) ، وشجرة النور الزكية (1/ 231) ، والفكر السامي (2/248) ، وانظر أوفى ترجمة له في مقدمة تحقيق الفتاوى للشاطبي: لمحمد أبو الأجفان (ص:19 - 64) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 ومنشئها وحكمها، فمن القضايا المنهجية في كتابه: 1- مأخذ أهل البدع في الاستدلال (1) . 2- أحكام البدع الحقيقية والاضافية والفرق بينهما (2) . 3- الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والإستحسان (3) . 4- أنواع دخول البدعة في الشرع أربعة: الجهل بأدوات المقاصد، والجهل بالمقاصد، وتحسين الظن بالعقل، واتباع الهوى (4) . فهذان الكتابان- الموافقات والاعتصام- بما فيهما من تجديد ومنهجية كانا سببا في شهرة مؤلفهما، وتبوئه لمكانة في النفوس بوصفه من المدافعين عن مذهب السلف الذين عملوا على تمحيصه مما شابه من بدع وضلالات. ولكن هل هذا المنهج استمر مع الشاطبي في جميع مباحث العقيدة؟ وهل الأصول المنهجية التي وضعها في كتاب " الاعتصام " طبقها في جوانب العقيدة الأخرى؟. الجواب عن ذلك (5) يتبين من خلال تتبع بعض أقواله في العقيدة وقضاياها التي يذكرها عرضا: وهذه أمثلة: 1- يقول في معرض ذكره لانحراف المنحرفين الذين يتبعون المتشابه:   (1) انظر: الاعتصام (1/ 220) . (2) المصدر السابق (1/286) . (3) نفسه (2/111) . (4) نفسه (2/293) وما بعدها. (5) الشاطبي وكتبه لها مكانة في النفوس رما كنت أقصد زعزعة هذه المكانة بهذه المناقشات، والذي دعاني إلى ذلك أمران، أحدهما: انتشار كتاب الاعتصام بين عامة الناس وثقهم به، وقد يغتر من لا علم عنده بمثل هذه الزلات التى وقع فيها الشاطبى، أما الأمر الثاني: فهو أن بعض الناس ليس عنده إلا أبيض أو أسود، فأما أن يقبل هذا العالم أو هذا الكتاب بكل ما فيه أويرده بكل ما فيه لوجود ملاحظات عليه، والمنهج الصحيح الاعتراف لأهل الحق بما عندهم من حق وقبوله ولو كانت عليهم ملاحظات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 " ومثاله في ملة الاسلام مذهب الظاهرية (1) في إثبات الجوارح للرب- المنزه عن النقائص- من العين واليد والرجل والوجه - المحسوسات، والجهة، وغير ذلك من الثابت للمحدثات " (2) ، قد يتبادر إلى الذهن أنه يقصد الرد على المشبهة خاصة وأنه قال " المحسوسات "، ولكن ذكره للجهة- والسملف يثبتون لثة صفة العلو- وقوله " وغير ذلك من الثابت للمحدثات " يدل على أن إثبات هذه الصفات: العين، اليد، وغيرها لله تعالى على الوجه اللائق بجلال الله وعظمته عنده لا تجوز لأنها من الصفات التى تثبت للمحدثات، ومن ثم فيجب تأويلها وهذا هو مذهب الأشاعرة، وإذا كان قد ذكر من مآخذ أهل البدع في الاستدلال " ردهم للأحاديث التى جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم، ويدعون أنها مخالفة للمعقول، وغر جارية على مقتضى الدليل فيجب ردها كالمنكرين لعذاب القبر، والصراط، والميزان، ورؤية اللة عز وجل في الآخرة " (3) فكيف- وهذه عبارة الشاطبي نفسهـ نفرق بين الموقفين والمنهجين؟. 2- ويقول أيضا في معرض رده على أهل البدع في استدلالهم بأحد الأحاديث: " والثاني أنه خبر واحد في مسألة قطعية فلا يسمع " (4) ، هذا كلام واضح وصريح في هذه المسألة الخطيرة، التي بسببها ردت أحاديث كثيرة في الصفات، ولكن الشاطبى نفسه - في موضع آخر لا يتبنى هذا القول بل يرد- في أثناء عرضه لمآخذ أهل البدع في الاستدلال على الذين لا يأخذون بأحايث الآحاد فيقول: " وذهبت طائفة إلى نفي أخبار الآحاد جملة، والاقتصار على ما استحسنته عقولهم في فهم القرآن، حتى أباحوا الخمر بقوله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية [المائدة: 93] ففي هؤلاء وأمثالهم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري ما وجدنا   (1) ما بعد هذه الكلمة يوضح المراد منها، وقد يقصد بعض علماء الظاهرية كداود وغيره فإنهم مثبتة في الصفات. (2) الاعتصام (1/ 240) . (3) المصدر السابق (1/ 231) . (4) الاعتصام (2/ 152) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 في كتاب الله اتبعناه " (1) وهذا وعيد شديد تضمنه النهي لاحق بمن ارتكب رد السنة (2) ، فهل الرد للحديث في الموضع الأول مختلف عنه في الموضع الثاني. 3- ونضرب مثالا ثالثا- والتركيز في الأمثلة على ما فيها منهج ليس على الجزئيات- يقول الشاطبي في معرض ذكره لأنواع دخول البدع في الشرع وأسبابه وأن منها تحسين الظن بالعقل، يقول بعد كلام طويل: " فهو أصل اقتضى للعاقل أمرين: أحدهما: أن لا يجعل العقل حاكما بإطلاق، وقد ثبت عليه حاكم بإطلاق وهو الشرع، بل الواجب عليه أن يقدم ما حقه التقديم- وهو الشرع- ويؤخر ما حقه التأخير- وهو نظير العقل- لأنه لا يصح تقديم الناقص حاكما على الكامل، لأنه خلاف المعقول والمنقول، بل ضد القضية هو الموافق للأدلة ولا معدل عنه " (3) هذا الكلام منهجي وسليم- موافق لمذهب أهل السنة-، لكنه لما ذكر الأمثلة على ذلك مما قد يتوهم أن العقل يحيله وهو ثابت في الشرع ذكر هذا المثال: " والسابع: رؤية الله في الآخرة جائزة، إذ لا دليل في العقل يدل على أنه لا رؤية إلا على الوجه المعتاد عندنا، إذ يمكن أن تصح الرؤية على أوجه صحيحة ليس فيها اتصال أشعة، ولا مقابلة، ولا تصور جهة، ولا فضل جسم شفاف، ولا غير ذلك، والعقل لا يجزم بامتناع ذلك بديهة، وهو إلى القصور في النظر أميل، والشرع قد جاء بإثباتها فلا معدل عن التصديق " (4) . أراد الشاطبي أن يقول لا مانع من إثبات الرؤية ونفى صفة العلو دثة تعالى؟ وذلك حين تال: " ولا تصور جهة ولا نضل جسم "،   (1) رواه الامام أحمد (4/ 131، 6/ 8) ، والدارمي- باب السنة قاضية على الكتاب (1/144) ط دهمان، وأبو داود في السنة- باب لزوم السنة ورقمه (4604-4605، 5/10-12) - ط الدعاس، والترمذى في العلم، باب ما نهى عنه أن يقال عند حديث النبى - صلى الله عليه وسلم - ورقمه (2663،3715) ، ط عطوة، وابن ماجه فى المقدمة، باب حديث رسول - صلى الله عليه وسلم - (12/13) . والحاكم (1/ 108-109) وصححه ووافقه الذهبى، كا قال فيه الترمذى: حديث حسن صحيح، رصححه الألباني في صحيح الجامع. (2) الاعتصام (1/132) . (3) الاعنصام (2/ 326) . (4) المصدر السابق (2/ 330) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 ولكن كيف يصنع بأدلة العلو التي هي أضعاف أضعاف أدلة الرؤية؟ وكيف يسلم لمن نفى العلو- الجهة- لشبهة التجسيم أو مخالفة العقل، وينعي على نفي الرؤية لنفس التعليل، وكلاهما وردت به النصوص؟ وهذا التناقض إنما ساير فيه الشاطبي الأشاعرة، وهو من المضايق الخانقة في مذهبهم، وقد فشلوا في الجواب عنه فشلا ذريعا- كا سيأتي إن شاء اللهـ. هذه أمثلة توضح الفرق بين المنهجين: منهج الشاطبي، ومنهج شيخ الإسلام ابن تيمية، الذي جاءت كتبه كلها- سائرة على نهج واحد- حتى أن الانسان ليحتار أي كتبه ألفه أولا، ليس هناك مراحل في منهجه وحياتهـ كماحدث لغيرهـ وإنما هو منهج وطريق واحد في جميع القضايا التي طرحها في كتبه. لقد التزم شيخ الإسلام بمذهب ونهج السلف- في جميع ما كتب- حتى أن بعض عباراته لا يتبين لأول وهلة أهي عبارته أم عبارة غيره من السلف حين ينقل شيئا من كلامهم. ومما يعجب له في هذا الباب أن أحد العلماء (1) - المعاصرين لابن تيمية- رد على ابن تيمية في مسألة العلو- أو الجهة كما يسميها- في كتاب ذكره السبكي بتمامه في طبقاته (2) ، فكان مما قاله هذا العالم: " ولو تنازل (3) واكتفى بما نقل عن إمامه الإمام أحمد بن حنبل- رضي الله عنه- حيث قال: " لا يوصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لا نتجاوز القرآن والحديث، ونعلم أن ما وصف الله به من ذلك فهو حق، ليس فيه لغو ولا أحاج، بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه   (1) هو: أحمد بن يحيى بن إسماعيل شهاب الدين، ابن جهبل الكلابي الحلبي الأصل، ولد سنة 0 67 هـ وتوفي سنة 733 هـ، طبقات السبكي (9/34) ، والبداية والنهاية (14/163) ، وشذرات الذهب (6/104) ، وطبقات الأسنوي (1/ 0 39) ، والدرر الكامنة (1/ 0 35) . (2) طبقات الشافعية الكبرى (ج- 9 ص: 35- 91) . (3) في الطبقات " ولا تنازل، والتصويب من تنبيه النبيه والغبي في الرد على المدرايسى والحلبي، لأحمد ابن إبراهيم بن عيسى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وهو مع ذلك ليس كمثله شيء في نفسه المقدسة، المذكورة بأسمائه وصفاته، ولا في أفعاله فكما نتيقن (1) أن الله سبحانه له ذات حقيقة (2) وأفعال حقيقة (2) فكذلك (3) له صفات حقيقة (2) وهو ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وكل ما أوجب نقصا أو حدوثا فإن الله عز وجل منزه عنه حقيقة، فإنه سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه، ممتنع عليه الحدوث لامتناع العدم عليه، واستلزام الحدوث سابقة العدم وافتقار المحدث إلى محدث ووجوب وجوده بنفسه سبحانه وتعالى " [يقول ابن جهبل بعد هذا مباشرة:] هذا نص إمامه فهلا اكتفى به، ولقد أتى إمامه في هذا المكان بجوامع الكلم، وساق أدلة المتكلمين على ما يدعيه هذا المارق بأحسن رد وأوضح بيان " (4) . يقول الشيخ أحمد ابن إبراهيم بن عيسى النجدي (5) في رده على هذا الكتاب لما نقل النص السابق: " أقول: لله در هذا الحلبي ما أمد باعه وأشد جمعه للعلوم واطلاعه، حيث أدرج كلام الإمام أحمد بن تيمية مع كلام الإمام أحمد من غير تمييز، وكلام الامام أحمد انتهى إلى قوله " لا نتجاوز القرآن والحديث فظن الحلبي بجهله أن الجميع كلام الامام أحمد، فأخذ يحتج به على ابن تيمية   (1) في الطبقات (9/39) لا فكان ينبغي والتصويب من الفتوى الحموية، مجموع الفتاوى (5/ 26) ، والذي في تنبيه النبيه والغبى " فكما " فقط والمعنى صحيح. (2) في المواضع الثلاثة في طبقات السبكى " حقيقية" والتصويب من الحموية والتنبيه. (3) في طبقات السبكى " وكذلك" والتصويب من نفس المصدرين السابقين. (4) طبقات الشافعية للسبكي (9/39-. 4) ، وتنبيه النبيه والغبى (ص: 244) . (5) ولد في شقراء سنة: 1253 هـ، تتلمذ على الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وعلى ابنه عبد اللطيف، كان يتردد على مكة وجده للتجارة " والتقى بعبد القادر التلمساني التاجر وجرت بيهما مناقشات اقتنع الشيخ عبد القادر هذا بمذهب السلف، وصار ينشر كتبهم في مصر، وهو الذى نشر على نفقته كتاب ابن عيسى هذا التنبيه مع مجموعة مها الرد الوافر وغيرهـ ط الكردى- من كتب أحمد ابن عيسى شرح النونية المطبوع، ولم يذكر طابعوه - المكتب الاسلامي- له ترجمة! توفي سنة 1327 هـ. انظر: فهرس الفهارس (1/25) ، ومعجم المؤلفين (1/141) ، ومشاهير علماء نجد (ص:85) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وهو نفس كلامه ... ونظير هذا أن بعض معاصري (1) شيخ الإسلام ممن رد عليه في مسألة الاستغاثة صار يرد على الشيخ من كتابه " الصارم المسلول على منتقص الرسول "، فانظر إلى هذه السذاجة يرد عليه من كتابه " (2) . يقول ابن تيمية- في المسألة الثانية قضية البكري- بعد أن نقل كلامه في حرص السلف على حمايته - صلى الله عليه وسلم - من السب أو التنقص: " هذا كله منقول من كلام المجيب من كتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول، لكنه أزال بهجته وحذف من محاسنه ما ييين حقيقته، فالمجيب هو المنافح عن الله ورسوله، وهذا كلام المتشبع بما لم يعط، ومن تشبع بما لم يعط فهو كلابس ثوبي زور (3) " (4) . هناك ملاحظة أخرى حول منهج ابن تيمية وهي أنه أطال النفس في مناقشة الخصوم من أهل الكلام والفلسفة، ونقل نصوصا طويلة من كتبهم وناقشها، حتى أن القارىء- وقد يكون من المهتمين بمثل هذه القضايا- يجد صعوبة بالغة في ملاحقة الأفكار التي يناقشها، وهذا جزء من منهجه الذي ارتآه، لأنه لا يمكن قطع دابر بعض الشبه إلا بملاحقة أصولها، ومناقشة تلك الأصول التى قد تكون من المسائل الفلسفية التي لابد لردها من عرضها بوضوح ليغ نقضها بوضوح أيضا، وهذه بعض الأسباب نتلمسها من منهجه في هذا:   (1) هو البكرى: واسمه علي بن يعقوب بن جبريل البكري الشافعى المصري، أبو الحسن، نور الدين، فقيه أهل القاهرة، هاجم القبط في كنائسهم، وكانت له مواقف من السلطان، رد عليه ابن تيمية في مسألة الاستغاثة، ولد سنة 673 هـ، وتوفي سنة 724 هـ، انظر: البداية والنهاية (14/114) ، والدرر الكامنة (4/3 1 2) ، وطبقات ابن قاضي شهبة (2/ 0 36) ، والأسنوى (1/288) ، وشذرات الذهب (6/64) ، وذيول العبر (ص: 69) . (2) تنبيه النبيه والغبى (ص: 244- هـ 24) . (3) متفق عليه لكن بلفظ " المتشبع "، البخاري كتاب النكاح، باب المتشبع بما لم ينل، رقمه (5219) ، الفتح (9/317) ، رمسلم في اللباس، باب النهي عن التزوير في اللباس ورقمه (2129- 2130) ، وانظر: المقاصد الحسنة (ض: 639) تحقيق الخشت. (4) 1 لاستغاثة (2/360) .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 أ- فقد سأله البزار- أحد تلاميذهـ عن سبب اهتمامه بالأصول، فأجابه، يقول البزار: " ولقد أكثر- رضى الله عنهـ التصنيف في الأصول، فضلا عن غيره من بقية العلوم، فسألته عن سبب ذلك، والتمست منه تأليف نص في الفقه يجمع اختياراته وترجيحاته، ليكون عمدة في الإفتاء، فقال لي ما معناه: الفروع أمرها قريب، فإذا قلد المسلم فيها أحد العلماء المقلدين، جاز له العمل بقوله، ما لم يتيقن خطأه، وأما الأصول: فإني رأيت أهل البدع والضلالات والأهواء كالمتفلسفة، والباطنية، والملاحدة، والقائلين بوحدة الو جود، وا لد هرية، وا لقد رية ة، والنصيرية، والجهمية، والحلولية، وا لمعطلة، والمجسمة، والمشبهة، والراوندية (1) ، والكلابية، والسليمية (2) ، وغيرهم من أهل البدع قد تجاذبوا فيها بأزمة الضلال، وبان لي أن كثيرا منهم إنما قصد إبطال الشريعة المقدسة المحمدية، الظاهرة العلية على كل دين، وإن جمهورهم أوقع الناس في التشكيك في أصول دينهم، ولهذا قل أن حمعت أو رأيت معرضأ عن الكتاب والسنة مقبلا على مقالاتهم إلا وقد تزندق أوصار على غير يقين في دينه وا عتقا ده ". " فلما رأيت الأمر على ذلك بان لي أنه يجب على كل من يقدر على دفع شبههم وأباطيلهم، وقطع حجتهم وأضاليلهم، أن يبذل جهده ليكشف رذائلهم، ويزيف دلائلهم، ذبا عن الملة الحنيفية والسنة الصحيحة الجليلة ".   (1) الراوندية أو الريوندية أتباع ابن الريوندى، وهي إحدى فرق الكيسانية، يزعمون أن الامامة كانت أولا حقا للعباس، انظر: إعتقادات فرق المسلمين والمشركين (ص: 63) ، ت النشار. وابن الريوندي هو: أحمد بن يحيى بن إسحاق، أبو الحسن، فيلسوف مجاهر بالالحاد، توفي سنة 298 هـ، انظر وفيات الأعيان (1/94) ، والمنتظم (6/96) ، ولسان الميزان (1/323) . (2) هكذا، وفي طبعة المنجد (ص: 34) ! السلمية، والمشهور " السليمانية " إحدى فرق الزيدية، أتباع سليمان بن جرير الزيدي، يزعمون الامامة شورى، ويقول بصحة إمامة المفضول مع وجود الفاضل، ولذا يقرون بإمامة الشيخين، لكنهم يكفرون عثمان وطلحة والزبير. انظر: مقالات الإسلاميين (ص: 68) - ت ريتر- الفرق بين الفرق (32) ، التبصير بالدين (ص: 33) ، الملل والنحل للشهرستاني (1/159) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 " ولا والله ما رأيت منهم أحدأ ممن صنف في هذا الشأن وادعى علو المقام إلا وقد ساعد بمضمون كلامه في هدم قواعد دين الإسلام، وسبب ذلك إعراضه عن الحق الواضح المبين، وعن ما جاءت به الرسل الكرام عن رب العالمين، واتباعه طرق الفلسفة في الاصطلاحات التي حموها بزعمهم: حكميات، وعقليات، وإنما هي جهالات وضلالات، وكونه التزمها معرضا عن غيرها أصلا، فغلبت عليه حتى غطت على عقله السليم، فتخبط حتى خبط فيهاخبط عشواء، ولم يفرق بين الحق والباطل وإلا فالله أعظم لطفا بعباده أن لا يجعل لهم عقلا يقبل الحق ويثبته، ويبطل الباطل وينفيه، لكن عدم التوفيق وغلبة الهوى أوقع من أوقع في الضلال، وقد جعل الله تعالى العقل السليم من الشوائب ميزانا يزن به العبد الواردات فيفرق به بين ما هو من قبيل الحق وما هو من قبيل الباطل، ولم يبعث الله الرسل إلا إلى ذوي العقل، ولم يقع التكليف إلا مع وجوده، فكيف يقال: إنه مخالف لبعفما جاءت به الرسل الكرام عن الله تعالى؟ هذا باطل قطعا، يشهد له كل عقل سليم لكن {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} [النور:40] . " قال الشيخ الإمام قدس الله روحه: فهذا ونحوه هو الذي أوجب أني صرفت جل همي إلى الأصول، وألزمني أن أوردت مقالاتهم، وأجبت عنها بما أنعم الله تعالى به من الأجوبة النقلية والعقلية " (1) . فابن تيمية يرى أن سبب تركيزه على هذه الجوانب وإطالة النفس فيها ما رأى عند هذه الطوائف من ضلالات ترمى إفى زعزعة العقيدة ثم الشريعة، وأن الذين ردوا عليها من أهل الكلإم- اتبعوا طرق واصطلاحات الفلاسفة- فساعدوا بمضمون كلامهم في هدم قواعد دين الاسلام، فرأى أنه لابد من بيان الحق للناس صافيأ والرد على هذه المقالات بالأدلة النقلية والعقلية. 2- وفي مناسبة يعلل ابن تيمية السبب في ذكر حجج الفلاسفة والرد عليها طويلا، ويبين أن كل من كان بفساد الباطل أعرف كان بصحة الحق أعرف   (1) الأعلام العلية (ص: 33- هـ 3) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 يقول: " ونحن نبين فساد طريق هؤلاء بالطرق الإيمانية والقرآنية تارة، وبالأدلة التى يمكن أن يعقلها من لا يستدل بالقرآن والإيمان؛ وذلك لأنا في مقام المخاطبة لمن يقر بأن ما أخبر به الرسول حق، ولكن قد يعارض ما جاء منه عقليات يجب تقديمها عليه، وإذا كنا في مقام بيان فساد ما يعارضون به من العقليات على وجه التفصيل، فذلك- ولله الحمد- هو علينا من أيسر الأمور ". " ونحن- وللهالحمد- قد تبين لنا بيانا لا يحتمل النقيض فساد الحجج المعروفة للفلاسفة والجهمية والقدرية ونحوهم، التي يعارضون بها كتاب الله، علمنا بالعقل الصريح فساد أعظم ما يعتمدون عليه من ذلك، وهذا- ولله الحمد- مما زادنا الله به هدى وإيمانا، فإن فساد مما يؤيد معرفة الحق ويقويه، وكل من كان أعرف بفساد الباطل، كان أعرف بصحة الحق ... " (1) . والمقصود هنا أن معرفة ما يعارض الكتاب والمرسلين كنبوة مسيلمة ونحوه من الكذابين، وأقاويل أهل الالحاد الذين يعارضون بعقولهم وذوقهم ما جاء به الرسول كلما ازداد العارف معرفة بها بما جاء به الرسول، تبين له صدق ما جاء به الرسول وبيانه وبرهانه، وبطلان هذه وفسادها وكذبها " (2) . 3- ويقول- في موضع آخر- معللا كثرة ردوده على ملاحدة الصوفية والجهمية، بأن هؤلاء ظهروا وانتشروا، وكثير من الناس يثق فيهم بل ويجعلهم أهل التحقيق، ويقول: " ولولا أن أصحاب هذا القول كثروا، وظهروا وانتشروا، وهم عند كثير من الناس سادات الأنام، ومشايخ الاسلام، وأهل التوحيد والتحقيق، وأفضل أهل الطريق، حتى فضلوهم على الأنبياء والمرسلين واكابر مشايخ الدين، لم يكن بنا حاجة إلى بيان فساد هذه الأقوال، وإيضاح هذا الضلال، ولكن يعلم أن الضلال لا حد له، وأن العقول إذا فسدت لم يبق لضلالها حد معقول، فسبحان من فرق بين نوع الإنسان فجعل منه من هو أفضل العالمين،   (1) الدرء (5/258) . (2) نفس المصدر (5/260) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وجعل منه من هو شر من الشياطين، ولكن تشبيه هؤلاء بالأنبياء والأولياء كتشبيه مسيلمة الكذاب بسيد أولي الألباب هو الذي يوجب جهاد هؤلاء الملحدين، الذين يفسدون الدنيا والدين " (1) . 4- ويعلل- في موضع آخر- كثرة نقوله وردوده أن بعض الناس كلما كان طريق الاستدلال أدق وأخفى وأطول كان أنفع له، يقول: " وقد بسطنا الكلام على ما قاله الناس في هذا المقام من " الحدوث والإمكان " وعلة الافتقار إلى المؤثر، وذكرنا عامة طرائق أهل الأرض في " إثبات الصانع " من المتكلمين والفلاسفة وطرق الأنبياء- صلوات الله عليهم- وما سلكه عامة نظار الإسلام من معتزلي، وكرامى، وكلابي، وأشعري، وفيلسوف، وغيرهم، في غير موضع مثل كتاب درء تعارض العقل والنقل، وغير ذلك، وكذلك بينا طرق الناس في إثبات العلم بالنبوات في " شرح الأصبهانية "، وكتاب " الرد على النصارى " وغيرهما (2) . وبينا أن كثيرا من النظار يسلك طريقا في الاستدلال على المطلوب ويقول: لا يوصل إلى المطلوب إلا بهذا الطريق، ولا يكون الأمر كما قاله في النفي، وإن كان مصيبا في صحة ذلك الطريق، فإن المطلوب كلما كان الناس إلى معرفته أحوج يسر الله على عقول الناس معرفة أدلته، فأدلة إثبات الصانع وتوحيده وأعلام النبوة وأدلتها كثيرة جدا، وطرق الناس في معرفتها كثيرة وكثير من الطرق لا يحتاج إليه اكثر الناس، وإنما يحتاج إليه من لم يعرف غيره، أو من أعرض عن غيره ". " وبعض الناس يكون الطريق كلما كان أدق وأخفى واكثر مقدمات وأطول كان أنفع له، لأن نفسه اعتادت النظر الطويل في الأمور الدقيقة، فإذا كان الدليل قليل المقدمات، أو كانت جلية، لم تفرح نفسه به، ومثل هذا قد يستعمل معه الطريق الكلامية المنطقية وغيرها لمناسبتها لعادته، لا لكون العلم المطلوب   (1) الحجج العقلية والنقلية فيما ينافي الاسلام من بدع الجهمية والصوفية، مجموع الفتاوى (2/357-358) . (2) انظر أيضا في ذكره لتدرج ردوده على الخالفين، النبوات (ص: 226-227) ط دار الكتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 متوقفا عليها مطلقا، فإن من الناس من إذا عرف ما يعرفه جمهور الناس وعمومهم أو ما يمكن غير الأذكياء معرفته، لم يكن عند نفسه قد امتاز عنهم بعلم، فيحب معرفة الأمور الخفية الدقيقة الكثيرة المقدمات، وهذا يسلك معه هذه الطريق)) (1) . " وأيضا فإن النظر في العلوم الدقيقة يفتق الذهن ويدربه ويقويه على العلم، فيصير مثل كثرة الرمي بالنشاب وركوب الخيل، تعين على قوة الرمى والركوب وإن لم يكن ذلك وقت قتال، وهذا مقصد حسن، ولهذا كان كثير من علماء السنة يرغب في النظر في العلوم الصادقة الدقيقة، كالجبر والمقابلة، وعويص الفرائض، والوصايا، والدور (2) ، لشحذ الذهن، فإنه علم صحيح في نفسه، ولهذا يسمى " الرياضى " فإن لفظ الرياضة يستعمل في ثلاثة أنواع: في رياضة الأبدان بالحركة والمشي،؟ يذكر ذلك الأطباء وغيرهم، وفي رياضة النفوس بالأخلاق الحسنة المعتدلة، والآداب المحمودة، وفي رياضة الأذهان بمعرفة دقيق العلم والبحث عن الأمور الغامضة، ويروى عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنهـ أنه قال: " إذا لهوتم فالهوا بالرمى، وإذا تحدثتم فتحدثوا بالفرائض " (3) ، أراد: إذا لهوا بعمل أن يلهوا بعمل ينفعهم في دينهم وهو الرمي، وإذا لهوا بكلام، لهوا بكلام ينفعهم أيضا في عقلهم ودينهم وهو الفرائض " (4) .   (1) الرد على المنطقيين (ص: 253-255) ، وانظر (ص: 328) وما بعدها، وانظر درء التعارض (5/97، 105، 197) . (2) لابن تيمية كتاب في الدور، والدور أنواع: الدور الكوني: وهو نوعان: دور قبلي ودور معي، والنوع الثاني: الدور الحكمي الفقهى، والنوع الثالث: الدور الحسابي. انظر الرد على المنطقيين (ص: 257) . (3) روى موقوفا، رواه الحاكم في المستدرك (4/333) ، والبيهقى في السنن الكبرى (6/209) ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبى، لكن قال ابن حجر في تلخيص الحبير (3/85) ، " ورواته ثقات إلا أنه منقطع "، كا ضعفه الألبانيي في إرواء الغليل برقم (1666) الارواء (6/107) . وفيه أبو هلال الراسبى: محمد بن سليم، صدوق فيه لين، التقريب، وقال ابن عدى في الكامل (6/ 2220) عامة أحاديثه عن قتادة غير محفوظة ". قلت: وهذا منها فقد رواه عن قتادة. (4) الرد على المنطقيين (ص: 255-256) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وبعد هذا التمهيد نعرض لمنهج شيخ الاسلام العام، والكلام حول هذا الموضوع كما يلي:: أولا: مقدمات في المنهج . ثانيا: منهجه في المعرفة والاستدلال . ثالثا: منهجه في بيان العقيدة وتوضيحها. رابعا: منهجه في الرد على الخصوم. خامسا: الأمانة العلمية. * * * أولا: مقدمات في المنهج: كثيرا ما يضع ابن تيمية بين يدي ردوده ومناقشاته، أو توضيحه لبعض قضايا العقيدة أصولا ومنطلقات ينطلق منها، وتكون هذه الأمور كالمقدمات الممهدة تفتح للقارى آفاقا تد يكون غافلا عنا، أو غير متصور لها تصورا كاملا، وقد ينير له الطريق في معرفة أقسام الناس أو العلماء أو أنواع من طرق الاستدلال .... ومن أمثلة ذلك: 1- ما يحتاجه الناس في العقيدة: يقول ابن تيمية: " يحتاج المسلمون في العقيدة إفى شيئين: أحدهما: معرفة ما أراد الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بألفاظ الكتاب والسنة، بأن يعرفوا لغة القرآن التي نزل بها، وما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر علماء المسلمين في معاني تلك الألفاظ، فإن الرسول-! آ- لما خاطبهم بالكتاب والسنة عرفهم ما أراد بتلك الألفاظ، وكانت معرفة الصحابة لمعاني القرآن ا! مل من حفظهم لحروفه، وقد بلغوا تلك المعاني إلى التابعين أعظم مما بلغوا حروفه 000، (1) ، " ثم [وهذا هو الثاني] ، معرفة ما قال الناس في هذا الباب   (1) تفسير سورة الاخلاص- مجموع الفتاوى (17/353) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 لينظر المعاني الموافقة للرسول والمعاني المخالفة لها " (1) ، ثم شرح الوجه الثاني وبين أن الألفاظ التي يوردها الناس نوعان " نوع يوجد في كلام الله ورسوله، ونوع لا يوجد في كلام الله ورسوله، فيعرف معنى الأول، ويجعل ذلك المعنى هو الأصل، ويعرف ما يعنيه الناس بالثاني ويرد إلى الأول، هذا طريق أهل الهدى والسنة، وطريق أهل الضلال والبدع بالعكس، يجعلون الألفاظ التي أحدثوها ومعانيها هي الأصل، ويجعلون ما قاله الله ورسوله تبعا لهم، فيردونها بالتأويل والتحريف إلى معانيهم ... " (2) . وفرق بين منهج أهل السنة وأهل البدعة في هذا. 2- لما سئل شيخ الاسلام عن الهم والعزم على فعل المعاصي- وعدم فعلها- هل يعاقب عليه؟ أجاب بقوله " الحمد لله، هذه المسألة- ونحوها - تحتاج قبل الكلام في حكمها إلى حسن التصور لها، فإن اضطراب الناس في هذه المسائل وقع عامته من أمرين: أحدها: عدم تحقيق أحوال القلوب وصفاتها، التي هي مورد الكلام. والثاني: عدم إعطاء الأدلة الشرعية حقها 000 (3) . وابن تيمية يبين الأصل في الفتوى المبني على معرفة الواقعة وحسن التصور لها، ثم معرفة الأدلة الشرعية وحكم الله فيها. 3- بين طرق الناس في طلب العلم والدين فقال: (والناس لهم في طلب العلم والدين طريقان مبتدعان، وطريق شرعي: فالطريق الشرعي: هو النظر فيما جاء به الرسول، والاستدلال بأدلته والعمل بموجبها، فلابد من علم بما جاء به، وعمل به، لا يكفي أحدهما،   (1) المصدر السابق (17/355) . (2) نفسه. وانظر مجموع فتاوى (4/191) فقد قسم الأقوال إلى قسمين: أقوال منقولة عن الأنبياء، وأقوال غير منقولة عنهم، ثم دين حكم كل منها. (3) مجموع الفتاوى (0 1/ 0 72- 1 72) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وهذا الطريق متضمن للأدلة العقلية والبراهين اليقينية، فإن الرسول بين بالبراهين العقلية ما يتوقف السمع عليه، والرسل بينوا للناس العقليات التي يحتاجون إليها، كما ضرب الله في القرآن من كل مثل، وهذا هو الصراط المستقيم الذي أمر الله عباده أن يسألوه هدايته. وأما الطريقان المبتدعان: فأحدها: طريق أهل الكلام البدعي، والرأي البدعي، فإن هذا فيه باطل كثير، وكثير من أهله يفرطون فيما أمر الله به ورسوله من الأعمال، فيبقى هؤلاء في فساد علم وفساد عمل، وهؤلاء منحرفون إلى اليهودية الباطلة. والثاني: طريق أهل الرياضة والتصوف والعبادة البدعية وهؤلاء منحرفون إلى النصرانية الباطلة 00. (1) ، فالأقسام ثلاثة: من يجمع بين العلم والعمل وهم أهل السنة، ومن يميل إلى العلم بلا عمل وهم أهل الكلام ومن يميل إلى العمل بلا علم وهم أهل التصوف. 4- أحسن طريقة لحكاية الخلاف في مسألة من المسائل: جمن ذلك ابن تيمية فيقول: " هذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن ينبه على الصحيح منها، ويبطل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته فيشتغل به عن الأهم، فأما من حكى خلافا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص، إذ قد يكون الصواب في الذي تركه، أو يحكى الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال فهو ناقص أيضا، فإن صحح غير الصحيح عامدا فقد تعمد الكذب، أو جاهلا فقد أخطأ، كذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته أو حكى أقوالا متعددة لفظا ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى، فقد ضيع الزمان وتكثر بما ليس بصحيح فهو كلابس ثوبى زور " (2) .   (1) منهاج السنة (3/107) . (2) مقدمة في أصول التفسير (ص: 01 ا-102) ت زرزور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 فقد ذكر أربع ملاحظات على كتير ممن يحكي الخلاف والأقوال: 1- عدم استيعاب الأقوال، وقد يكون الحق في القول الذي أغفله. 2- حكاية الخلاف بلا بيان للصحيح. 3- حكاية الخلاف فيما لا فائدة تحته. 4- تكثير الأقوال وهي ترجع إلى أقل مما ذكره. وفي موضع آخر بين أنواع النزاع وكيف يفصل النزاع الواقع بين اثنين فيقول: " فصل النزاع قد يكون بوجهين: أحدهما: فهي كل منهما عن منازعة الآخر بهذا، إذ هو نزاع فيما لا فائدة فيه، كما لو تنازع اثنان في لون كلب أصحاب الكهف، ومقدار السفينة، والبعض البقرة الذي أمر الله بالضرب فيه إن قدر أنه كان معينا- مع أن ظاهر القرآن يدل على أنه مطلق لا معين- وفي أمثال ذلك من الأمور التي لا فائدة فيها، وقد لا يكون إلى معرفتها سبيل- فمثل هذا ينهى كل منهم عن منازعة الآخر، بل ينهى عن أن يقول ما لا يعلم. والثاني: أن يفصل النزاع ببيان الخطأ من الصواب " (1) . 5- تقعيده في الرد على الخصوم: احتج بعض النصارى بالقرآن على معتقداتهم الباطلة وذلك بما يزعمون أنه دليل لهم ولا دليل فيه، أما النصوص التى تبين كفرهم وتبين عبودية المسيح عليه السلام فلم يحتجوا بها، بل قالوا: إن القرآن يناقض بعضه بعضا، فرد عليهم ابن تيمية في قولهم: إن القرآن يناقض بعضه بعضا قائلا: " إن هذا أيضا إن كان حقا فإنه يقدح في رسالته أأي رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن الرسول لا يناقض بعض خبره بعضا، ومن كان كذلك لم يصح لكم أن تحتجوا بشيء مما جاء به، وإن كان باطلا لم يرد عليه، فعلم أن استدلالهم بما في هذا الكتاب على صحة دينهم الذي خالفوا به هذا الكتاب في غاية الفساد، وهو جمع بين النقيضين،   (1) درء التعارض (10/313-314) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 واستدلال بما في الكتاب على ما يوجب بطلان الاستدلال بشيء مما في الكتاب " (1) ، وقال في موضع آخر في الرد على النصارى: " والمقصود هنا: أنهم سواء صدقوا محمدا أو كذبوه فإنه يلزم بطلان دينهم على التقديرين فإنه إن كان نبيا صادقا فقد بلغ عن الله في هذا الكتاب كفر النصارى في غير موضع ودعاهم إلى الإيمان به، وأمر بجهادهم، فمن علم أنه نبى ولو إلى طائفة معينة، فيجب تصديقة في كل ما أخبر بهـ وقد أخبر بكفر النصارى وضلالهم- .... وإن كذبوا محمدا تكذيبا عاما وقالوا: ليمر هو نبى أصلا، ولا أرسل إلى أحد، لا إلى العرب ولا إلى غيرهم، بل كان من الكذابين كما امتنع مع هذا أن يصدقوا بنبوة غيره فإن الطريق الذي يعلم به نبوة موسى وعيسى يعلم به نبوة محمد بطريق الأولى " (2) . وبمثل هذه المناقشات والمقدمات يفتح آفاقا في مناهج مناقشة النصارى ومجادلتهم. أقسام العلماء وأنواعهم في مدى معرفتهم بالمعقول والمنقول: كثيرا ما يردد شيخ الإسلام ابن تيمية في ردوده على أهل الكلام والنفاة أن اكثرهم قليل المعرفة بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - والسلف!، وقد أورد اعتراضا على قوله هذا ثم أجاب عنه. فقال: " فإن قيل: قلت: إن اكثر أئمة النفاة من الجهمية والمعتزلة كانوا قليلي المعرفة بما جاء عن الرسول وأقوال السلف في تفسير القرآن وأصول الدين، وما بلغوه عن الرسول، ففي النفاة كثير ممن له معرفة بذلك. قيل: هؤلاء أنواع: نوع ليس لهم خبرة بالعقليات، بل هم يأخذون ما قاله النفاة عن الحكم والدليل ويعتقدونها براهين قطعية، وليس لهم قوة على الاستقلال بها، بل هم في الحقيقة مقلدون فيها، وقد اعتقد أقوال أولئك، فجميع ما يسمعونه من القرآن   (1) الجواب الصحيح (2/263-264) ط المدني. (2) الجواب الصحيح (1/174- هـ 17) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 والحديث وأقوال السلف لا يحملونه على ما يخالف ذلك، بل إما أن يظنوه موافقا لهم وإما أن يعرضوا عنه مفوضين لمعناه، وهذه حال مثل أبي حاتم البستى (1) وأبي سعد السمان المعتزلي (2) ، ومثل أبى ذر الهروي (3) ، وأبي بكر البيهقى (4) ، والقاضى عياض (5) وأبي الفرج بن الجوزي (6) ، وأبي الحسن على بن المفضل المقدسى (7) وأمثا لهم. والثاني: من يسلك في العقليات مسلك الاجتهاد ويغلط فيها كما غلط غيره فيشارك الجهمية في بعض أصولهم الفاسدة، مع أنه لا يكون له من الخبرة   (1) هو: محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ التميمي البستي، صاحب الثقات وصحيح ابن حبان، ولد سنة بضع وسبعين ومئتين، وتوفي سنة 354 هـ، وجهت له تهمة في دينه، لكن دافع عنه الذهبى، وقال فيه " وإن كان في تقاسيمه صحيح ابن حبان " من الأقوال والتأويلات البعيدة والأحاديث المنكرة عجائب، سير أعلام النبلاء (16/97) ، وانظر أيضا تذكرة الحفاظ (3/ 920) ، والوافي (2/317) ،ولسان الميزان (5/ 112) (2) إسماعيل بن علي بن الحسين الرازى، قال عنه الذهبى: الحافظ المتقن، وأنكر عليه بدعة الاعتزال، توفي سنة 445 هـ، تذكرة الحفاظ (3/ 1121) ، والأنساب (7/130) ، وذكر أن بدعته نفى القدر، والجواهر المضية (1/424) ، والبداية والنهاية (12/65) . (3) عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله، الأنصارى الخراساني الهروى المالكي من تلاميذ الباقلاني وأخذ عنه المذهب الأشعري ونشره في الحرم، ولد سنة 355- أو 356 هـ، وتوفي سنة 434- أو 435 هـ، انظر: ترتيب المدارك (7/229) ، والمنتظم (8/115) ، والعقد الثمين (5/539) ، وسير أعلام النبلاء (17/554) . (4) ستأتي ترجمته إن شاء الله في الفصل الخامس. (5) هو: عياض بن موسى بن عياض بن عمرو اليحصبى الأندلسى، السبتى المالكى، ولد سنة 476 هـ، وتوفي سنة 544 هـ، انظر: الصلة (2/453) ، والاحاطة (4/222) ، وبغية الملتمس (ص: 437) ، والتكملة لابن الأبار (ص: 6 30) ، وأزهار الرياض، وسير أعلام النبلاء (20/212) .. (6) عبد الرحمن بن علي بن محمد بن على، القرشي البكرى البغدادى الحنبلى، ولد سنة 509-أو 0 51 هـ، وتوفي سنة 597 هـ، انظر: التكملة للمنذرى (1/394) ، وسير أعلام النبلاء (21/365) ، وذيل طبقات الحنابلة (1/399) . (7) هو: أبو الحسن على بن المفضل بن على بن مفرج بن حاتم، شرف الدين المقدسى، ولد سنة 544 هـ، وتوفي سنة 611 هـ، انظر: التكملة للمنذرى (2/306) ، وسير أعلام النبلاء (22/66) ، والتاج المكلل (ص: 82) - هندية-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 بكلام السلف والأئمة في هذا الباب ما كان لأئمة السنة، وإن كان يعرف متون الصحيحين وغيرهما، وهذه حال أبي محمد بن حزم (1) ، وأيى الوليد الباجي (2) ، والقاضي أبى بكر بن العريى (3) ، وأمثالهم، ومن هذا النوع بشر المريسى (4) ، ومحمد بن شجاع الثلجى (5) وأمثالهما. ونوع ثالث: حمعوا الأحاديث والآثار، وعظموا مذهب السلف، وشاركوا المتكلمين الجهمية في بعض أصولهم الباقية، ولم يكن لهم من الخبرة بالقرآن والحديث والآثار ما لأئمة السنة والحديث، لا من جهة المعرفة (6) والتمييز بين صحيحها وضعيفها، ولا من جهة الفهم لمعانيها، وقد ظنوا صحة بعض الأصول العقلية للنفاة الجهمية، ورأوا ما بينهما من التعارض، وهذه حال أو بكر بن فورك (7) ، والقاضي أبي يعلى (8) ، وابن عقيل وغيرهم، (9)   (1) الامام المشهور علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبى اليزيدي، ولد سنة 384 هـ، وتوفي سنة 456 هـ، انظر: الذخيرة (ق ام اص: 67 1) ، والاحاطة (1/4 1 1) ، وسير أعلام النبلاء (18/184) ، وانظر رأي الذهبى في ابن حزم فهو مهم (ص: 1 0 2-202) ، ولسان الميزان (4/198) . (2) هو: سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب التجيبى الأندلسى القرطبى الباجي، ولد سنة 403 هـ، وتوفي سنة 474 هـ، انظر: ترتيب المدارك (8/117) ، ووفيات الأعيان (2/408) ، والدبياج المذهب (1/377) ، وسير أعلام النبلاء (18/535) . (3) محمد بن عبد الله بن عبد الله ابن العربي الأندلسى الأشبيلى المالكى، ولد سنة 468 هـ، وتتلمذ على الغزالي، وأبو بكر الشاشى، وهو صاحب عارضة الأحوذى وأحكام القرآن، والعواصم من القواصم، توفي سنة 543 هـ، انظر: بغية الملتمس (ص: 92) ، ونفح الطيب (2/25) ، والمغرب في حلى المغرب (1/254) ، وسير أعلام النبلاء (20/197) . (4) بشر بن غياث بن أبي كريمة المريسى، توفي سنة 218 هـ وقيل 219 هـ، انظر تاريخ بغداد (7/56) ، ووفيات الأعيان (1/277) ، وميزان الاعتدال (1/322) ، ولسان الميزان (2/29) . (5) هو: محمد بن شجاع، أبو عبد الله البغدادى الحنفي المعروف بابن الثلجي، قال عنه ابن عدى: كان يضع الأحاديث في التشبيه، ومنها حديث: عرق الخيل، توفي سنة 266 هـ، انظر الكامل لابن عدي (6/2292) ، وتاريخ بغداد (5/350) ، وسير أعلام النبلاء (12/379) ، وميزان الاعتدال (3/577) ، وتهذيب التهذيب (9/220) . (6) كذا ولعل فيها سقط كلمة " بالسنة " أو نحوها. (7) ستأتي ترجمته إن شاء الله في الفصل الخامس. (8) محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد البغدادى، الحنبلى، الفراء ولد سنة 380 هـ وتوفي سنة 458 هـ، انظر تاريخ بغداد (2/256) ، وطبقات الحنابلة (12/93) ، والوافي (3/7) ، وسير أعلام النبلاء (18/89) . (9) على بن عقيل بن محمد بن عقيل الحنبلي، العالم المشهور، ولد سنة 431 هـ،= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 ولهذا كان هؤلاء تارة يختارون طريقة أهل التأويل؟ فعله ابن فورك وأمثاله في الكلام على مشكل الآثار (1) ، وتارة يفوضون معانيها ويقولون تجرى على ظاهرها كما فعله القاضي أبو يعلى وأمثاله في ذلك، وتارة يختلف اجتهادهم فيرجحون هذا تارة وهذا تارة كحال ابن عقيل وأمثاله. وهؤلاء قد يدخلون في الأحاديث المشكلة ما هو كذب موضوع ولا يعرفون أنه موضوع، وما له لفظ يدفع الاشكال مثل أن يكون رؤيا منام فيظنونه كان في اليقظة ليلة المعراج. ومن الناس من له خبرة بالعقليات المأخوذة من الجهمية وغيرهم وقد شاركهم في بعض أصولها، ورأى ما في قولهم من مخالفة الأمور المشهورة عند أهل السنة، كمسألة القرآن والرؤية فإنه قد اشتهر عند العامة والخاصة أن مذهب السلف وأهل السنة والحديث أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله يرى في الآخرة، فأراد هؤلاء أن يجمعوا بين نصر ما اشتهر عند أهل السنة والحديث، وبين موافقة الجهمية في تلك الأصول العقلية التي ظنها صحيحة، ولم يكن لهم من الخبرة المفصلة بالقرآن ومعانيه والحديث وأقوال الصحابة ما لأئمة السنة والحديث، فذهب مذهبا مركبا من هذا وهذا وكلا الطائفتين ينسبه إلى التناقض، وهذه طريقة الأشعري وأئمة أتباعه كالقاضي أبى بكر (2) ، وأبي إسحاق الاسفراييني (3) وأمثالهما، ولهذا تجد أفضل هؤلاء كالأشعري يذكر مذهب   (1) = وتوفي سنة 513 هـ، انظر: ذيل طبقات الحنابلة (1/142) ، والمستفاد من ذيل تاريخ بغداد (ص: 192) ، وسير أعلام النبلاء (19/443) ، وانظر كلام الذهبي عنه مع تعليقات المحققين. (1) له كتاب! مشكل الحديث وبيانها وفيه ردود على ابن خزيمة في كتابه " التوحيد". (2) الباقلاني، وستأتي ترجمته إن شاء الله. (3) هو: إبراهيم بن محمد بن إبراهيم ابن مهران، الأستاذ أبو إسحاق الاسفراييني روى عنه البيهقي والقشيرى كان من معاصري الباقلاني وابن فورك، توفي سنة 418 هـ، انظر: طبقات السبكي (4/256) ، وتبيين كذب المفترى (ص: 243) ، وسير أعلام النبلاء (17/353) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 أهل السنة والحديث على وجه الإجمال ويحكيه بحسب ما يظنه لازما، ويقول: إنه يقول بكل ما قالوه، وإذا ذكر مقالات أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم حكاها حكاية خبير بها عالم بتفاصيلها، وهؤلاء كلامهم نافع في معرفة تناقض المعتزلة وغرهم، ومعرفة فساد أقوالهم، وأما في معرفة ما جاء به الرسول، وما كان عليه الصحابة والتابعون فمعرفتهم بذلك قاصرة. وإلا فمن (1) كان عالما بالآثار، وما جاء عن الرسول وعن الصحابة والتابعين من غير حسن ظن بما يناقض ذلك لم يدخل مع هؤلاء. إما لأنه علم من حيث الجملة أن أهل البدع الخالفين لذلك مخالفون للرسول قطعا، وقد علم أنه من خالف الرسول فهو ضال، كأكثر أهل الحديث. أو علم مع ذلك فساد أقوال أولئك وتناقضها كما علم أئمة السنة من ذلك ما لا يعلمه غيرهم كمالك ... [عدد جمهرة من أئمة أهل السنة ثم قال،: ومن لا يحصى عدده إلا الله من أئمة الإسلام وورثة الأنبياء وخلفاء الرسل، فهؤلاء كلهم متفقون على نقيض قول النفاة، كا تواترت الآثار عنهم وعن غيرهم من أئمة السلف بذلك، من غير خلاف بينهم في ذلك" (2) . إن هذا التقسيم المبني على الاستقراء الجيد لأقوال وكتب هؤلاء يجيب عن كثير من الأسئلة التي ترد في نفس المسلم- المتمسك بمذهب السلف- وفي قوله، ومن أهمها: كيف وقع هؤلاء العلماء في حبائل علم الكلام ومسائله وقالوا بها؟ وكيف يجمع بين اهتمامهم بالسنة وروايتها، وبين اعتقادهم لأقوال أهل البدع وكثير منها حرب على السنة وما جاء فيها؟. ثم لماذا يتردد بعض هؤلاء في هذه المسائل فتارة يرجحون مذهب السلف، وتارة يميلون إلى أقوال أخرى مخالفة له؟. هذه الأسئلة وغيرها يتضح الجواب عنها من خلال حكم ابن تيمية على هؤلاء العلماء والمعرفة بأحوالهم والاعتراف لهم بما عندهم من العلم والنية الصادقة، " ومن المعلوم- بعد كمال النظر واستيفائهـ أن كل من كان   (1) هذا قسم أهل السنة. (2) درء التعارض (2/32-37) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 إلى السنة وإلى طريقة الأنبياء أقرب- كان كلامه في الإلهيات بالطرق العقلية أصح كما أن كلامه بالطرق النقلية أصح، لأن دلائل الحق وبراهينه تتعاون وتتعاضد، لا تتناقض وتتعارض " (1) . وإذا كان هذا تقسيما للعلماء فإن ابن تيمية أحيانا ينظر نظرة فاحصة إلى الكتب بفنونها- من غير نظر إلى مؤلفيها فيقول: " والمقصود هنا أن يعلم أنه لم يزل في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من يأمر بالمعروف وينس عن المنكر، وأن أمته لا تبقى على ضلالة، بل إذا وقع منكر من لبس حق بباطل أو غير ذلك فلابد أن يقيم الله تعالى من يميز ذلك فلابد من بيان ذلك ولابد من إعطاء الناس حقوقهم، كا قالت عائشة- رضي الله عنها- أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننزل الناس منازلهم، رواه أبو داود وغيره (2) . وهذا الموضع لا يحتمل من السعة   (1) درء التعارض (6/248) . (2) هذا الحديث ذكره مسلم في مقدمة صحيحهـ بلا إسناد- فقال: " وذكر عن عائشة ... (ص: 6) ، ورواه غيره مسندا: فرواه أبو داود، كتاب الأدب، باب تنزيل الناس منازلهم ورقمه (4842) ، سنن أبي داود (5/173) ط الدعاس، كمارواه البخاري في كتاب " الآداب (ص: 193-194) ، وأبو نعيم في الحلية (4/379) ، وأبو يعلى الموصلى في مسنده رقم (4826، 8/246) ، كما رواه ابن خزيمة، والبزار والعسكرى في الأمثال وغيرهم كما أشار إلى ذلك السخاوى في المقاصد الحسنة، رقم (179) "أمرنا" والزييدي في إتحاف السادة (1/342) ، كما رواه الخرائطي بلفظ آخر عن معاذ في مكارم الأخلاق (ص: 8) ط السلفية، وقد اختلف العلماء في حكمهم عليه. أ- فضعفه أبو داود حيث قال في هذا الحديث " ميمون لم يدرك عائشة"، كما ضعفه المنذري في مختصر سنن أبي داود (7/190) رقم (4675) ، حيث قال بعد نقل كلام أبي داود " وقيل لأبي حاتم الرازى ميمون بن أبي شبيب عن عائشة متصل قالا: لا،؟ ضعفه الألباني في ضعيف الجامع رقم (1342) ، ورقم (1344) . ومحقق مسند أبي يعلى، والمناوى في فيض القدير (3/57-58) حيث تعقب السيوطي في تصحيحه له. ب- أما الذين صححوه أو حسنوه: فالحاكم في معرفة علوم الحديث (ص: 62) ، قال " فقد صحت الرواية عن عائشة ... !، كما صححه ابن الصلاح في صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط (ص: 83-84) فقال: " وأما قول مسلم في خطبة كتابه " وقد ذكر عن عائشة ... فهذا بالنظر إلى أن لفظه ليس لفظا جازما بذلك عن عائشة غير مقتض كونه مما حكم بصحته،= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وكلام الناس في مثل هذه الأمور التي وقعت ممن وقعت منه، بل المقصود التنبيه على حمل ذلك لأن هذا محتاج إليه في هذه الأوقات: فكتب الزهد والتصوف فيها من جنس ما في كتب الفقه والرأي وفي كليهما منقولات صحيحة وضعيفة بل وموضوعة ومقالات صحيحة وضعيفة بل وباطلة، وأما كتب الكلام ففيها من الباطل أعظم من ذلك بكثير، بل فيها أنواع من الزندقة والنفاق، وأما كتب الفلسفة فالباطل غالب عليها، بل الكفر الصرج كثير فيها " (1) . تلك مقدمات يحرص ابن تيمية على ذكرها في مجال ردوده ورسائله وهي قضايا من منهجهـ رحمه الله. ثانيا: منهجه في المعرفة والاستدلال : هذه المسألة من المسائل المهمة، لأنها المنطلق الذي ينبغى أن ينطلق منه في مثل هذه المباحث المتعلقة بالعقيدة وأصول الدين، وشيخ الاسلام له منهج واضح في هذا الموضوع، ولكن منهجه هذا لم يكتب فيه كتابة مستقلة في رسالة أو كتاب، وإنما أشار إلى شذرات متفرقة من خلال ردوده ىيما الخا! وين، واتحر مظانه في بحوثه المتعلقة بنقض المنطق، والنبوات، وبيان موافقة صحيح المنقول لصرج المعقول. وقد قام منهجه في هذا على أساسين كبيرين: أحدها : نقض أصول ومناهج الاستدلال الفلسفية والكلامية. والثاني: بيان المنهج الشرعي الإسلامي في ذلك.   (1) = وبالنظر إلى أنه احتج به وأورده إيراد الأصول لا إيراد الشواهد يقتضي كونه مما حكم بصحته، ومع ذلك فقد حكم الحاكم .... بصحته "، ثم ذكر قول أبي داود أن ميمون لم يسمع من عائشة ورده بأنه عاصرها وعند مسلم يكفي المعاصرة، وانظر شرح النووى (1/19) ، فقد نقل كلام ابن الصلاح وأيده، كا حسنه السخاوي في المقاصد الحسنة رقم (179) وقال السخاوي بعد كلام " وبالجملة فحديث عائشة حسن كما حسنه وأطال الكلام حوله في الجواهر والدرر (411) . كما أيده العجلوني في كشف الخفا (1/194) رقم (590) ، وفي مختصر المقاصد قال: حسن كما رمز له السيوطي بعلامة الصحة. (1) شرح الأصفهانية (ص: 45 ا-146) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 أما الأول: فقد كانت لشيخ الإسلام جهود عظيمة فيه لفتت انتباه من أتى بعده من الموافقين والخالفين له، حتى أصبحوا يعتبرون موقفه موقفا متميزا يؤرخون فيه مرحلة من مراحل نظرة المسلمين إلى الفلسفة، والمنطق بشكل خاص (1) . ولن ندخل في هذا الموضوع ولكن نشير إشارات مجملة إلى نقده لتلك المناهج: أ- فقد نقض أصول الفلسفة وأهدافها العليا، ورد على المناطقة الذين يزعمون أن فلسفتهم وبراهينهم توصل إلى العلوم الكمالية، وقد بين شيخ الاسلام أن كمال النفس إنما يكون بالايمان بالله والعمل الصالح، أما علومهم هذه فإنها لا تفيد- إن أفادت- إلا أمورا كلية لا حقيقة لها ولا ثمرة (2) ، ولذلك قال شيخ الإسلام عن علومهم هذه: إنها " لحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقي " (3) ، وقال عن المنطق اليوناني: " لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد " (4) ، بل بين حكم تعلم المنطق وبين بطلان من قال بوجوبه وأنه فرض كفاية مثل اللغة العربية، كما بين أن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين لم يعرفوه (5) ، بل بين لماذا اشتهر عند المسلمين أنه يجر إلى الإلحاد والزندقة (6) . 2- لما كان المنطق اليوناني يزعم أصحابه أنه آلة قانونية تعصم الذهن من أن يزل فكره، نقض هذا المنطق وكتب فيه كتابا مستقلا مرتبا ومبوبا، وأتى على جميع مباحثه بالمناقشة والنقد، فنقد الحد، وقول المناطقة: إن التصورات   (1) انظر فهارس: مناهج البحث للنشار، والمدرسة السلفية وموقفها من المنطق وعلم الكلام-نصار- وغيرها. (2) انظر: الرد على المنطقيين (ص: 22 ا-147) ، ونقض المنطق (ص: 164) . (3) درء التعارض (5/71، 8/234، 7/42) وفيه " ولا سمين فينتقل،، والعبارة وصف إحدى النساء لزوجها في حديث أم زرع) البخارى في النكاح ورقمه (5189) ، الفتح (9/254) . (4) الرد على المنطقيين (ص: 3) . (5) انظر: المصدر السابق (ص: 178- 180) ، ومجموع الفتاوى (9/269- 270) . (6) انظر: درء العارض (1/217-218) ، ومجموع الفتاوى (9/261) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 لا تنال إلا بالحد (1) ، كما نقض قولهم لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس (2) ورد قضية الكلية التي يقوم عليها (3) ، كما رد عليهم حصرهم له بأنه لابد أن يقوم على مقدمتين، فبين بأنه قد يقوم على مقدمة واحدة، وقد يحتاج الوصول إلى نتيجة إلى ثلاث مقدمات أو اكثر، فحصرها بهذا العدد محض تحكم (4) . كا بين أن كون القضية بديهية أو نظرية أمر نسبي وليس وصفا لها، إذ قد تكون عند شخص بديهية وعند آخر ليست بديهية (5) ، كا نقض قضايا المنطق الأخرى (6) 3- وإذا كان أهل الفلسفة حصروا منهجهم العلمى بالمنطق والقياس، فإن هناك طائفة قابلتهم في هذا الباب، فرأوا أن مصدر المعرفة ليست في شيء من ذلك، وجعلوا مصدرها ما عندهم من خيالات صوفية، وفيوضات- قد تكون فيوضات شيطانية- وغفل هؤلاء وهؤلاء عن الطريقة الشرعية، ولذلك كان بعض العلماء (7) يتعوذ بالله من قياس فلسفي وخيال صوفي (8) .   (1) انظر: الرد على المنطقيين (ص: 7) وما بعدها، و (ص: 32) وما بعدها، ودرء التعارض (3/319) وما بعدها (8/523) ، ونقض المنطق (ص: 183) وما بعدها. (2) انظر: الرد على المنطقيين (ص: 88) ، ونقض المنطق (ص: 156) ، ومجمرع الفتاوى (9/268) ، وانظر المدرسة السلفية (ص: 0 36) . (3) انظر: الرد على المنطقيين (ص: 368- 1 37، 381) ، ومناهج البحث للنشار (ص: 69 1، 178، 182) . (4) انظر: الرد على المنطقيين (ص: 167) وما بعدها، ومنهاج السنة (2/84) ، مكتبة الرياض الحديثة، وانظر منطق ابن تيمية (ص: 0 0 1) ، ومناهج البحث (ص: 184، 96 1) ، والمدرسة السلفية (ص: 382) . (5) انظر: درء التعارض (3/ 4 0 3) ، والرد على المنطقيين (ص: 88، 363) ، والمدرسة السلفية (ص: 0 37) . (6) مثل أقسام الصفات اللازمة وهل تنقسم الى ذاتي وعرضي، انظر الدرء (2/374،3/ 28، 5/10-13) . ومثل: الفرق يين الماهية ووجدها، انظر الرد على المنطقيين (ص: 64) ، وتفريقهم بين الزاتي واللازم. انظر: الرد على المنطقيين (ص: 70) . (7) منهم أبو القاسم السهيلي، عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد، صاحب الروض الأنف في شرح السيرة، توفي سنة: 581 هـ، ترجمته فى إشارة التعيين (ص: 182) ، وأنباء الرواة (2/162) ، وبغية الوعاة (2/81) . (8) انظر: الرد على المنطقيين (ص: 482) وما بعدها، ونقض المنطق (ص: 35) ، ودرء التعارض (3/303) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 4- وقد وقع الفلاسفة- وأهل الكلام- في غلط كبير، حين بنوا علومهم على أن كل ما لم يدل عليه الدليل يجب نفيه، وهذا تحكم ظاهر إذ أن معناه أن كل ما جهله الناس أو لم يجدوا له دليلا فعليهم أن ينفوه وينكروا وجوده أو حصوله، وقد رد عليهم شيخ الإسلام ببيانه لقاعدة عامة وهي أن عدم العلم ليس علما بالعدم، أي أن الجهل بالشيء ليس دليلا على أن هذا الشيء غير موجود، وهنا يتبين خطأ المنحرفين حين نفوا أشياء كثيرة- ربما تكون من صفات الله أو اليوم الآخر أو المغيبات- لأنهم لم يجدوا عليها دليلا، وليس الخطأ جهلهم بالدليل، وإنما الخطأ حين جعلوا عدم علمهم بالدليل دليلا على انتفاء هذا الشىء (1) ، والنافي عليه الدليل كما على المثبت (2) . 5- كما تطرق ابن تيمية كئيرا إلى شبهة أخرى أضلت كثيرا من الفلاسفة والمتصوفة وأهل الكلام، وهي اشتباه ما في الأذهان بما في الأعيان، أو ما يسمى بالكلى المطلق، فهؤلاء قد يتصورون في أذهانهم أشياء مثل الكليات العقلية التي يزعمون أنها تكون خارج العقل ولا يمكن الإشارة إليها ولا الاحساس بها وليست داخل العالم ولا خارجه، ومثل الكليات المجردة مثل وجود مطلق، أو إنسانية مطلقة، ومثل أصحاب الاتحاد المطلق توهموه في أذهانهم فظنوا أنه في الخارج (3) . أما الثاني: فقد أشار إلى المنهج الصحيح للمعرفة والاستدلال ويمكن أن نعرضه كما يلي: 1- في البداية يوضح شيخ الإسلام مراتب الدلالة فيقول:" ولا ريب أن الدلالة على مراتب: أحدها: أن يدل الدليل بغير شعور منه ولا قصد، فهذا الذى يسمى لسان الحال .... والدرجة الثانية: أن يكون الدال عالما بالمدلول عليه،   (1) انظر: الرد على المنطقيين (ص: 100،437) ، والصفدية (1/ 180) ، ونقض المنطق (ص: 73) ، والجواب الصحيح (4/296) ، ودرء التعارض (4/59، 5/44) . (2) انظر: الصفدية (1/166) ، وانظر المدرسة السلفية (ص: 305) . (3) هذه القضية بحثها ابن تيمية كثيرا- وربما تعرض فيما بعد- وانظر نقض أساس التقديس المطبوع (1/332) ، ودرء التعارض (6/1 1 2، 285،289، 5/111، 127، 173، 313، 6/ 96) ، والسبعينية (ص: 0 9، 0 0 1) ، والصفدية (2/1 1 1-17 1 1، 296-308) ، والجواب الصحيح (3/78) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 لكن لم يقصد إفهام مخاطب، ولكن حاله دل المستدل على ما علمه، كالأصوات التى تدل بالطبع مثل البكاء والضحك ونحوهما، فإنها تدل على ما يعلمه المرء من نفسه مثل الحزن والفرح، وكذلك صفرة الرجل وحمرة الخجل ... والدرجة الثالثة: الدلالة التي يقصدها الدال، فمنها: الاعلام بغير خطاب مسموع، كمن يعلم لغيره علامات تدله على ما يريد وكإشارة الأخرس ونحو ذلك ... " (1) . ويبين في موضع آخر أن الدليل ينقسم إلى ما يدل بنفسه وما يدل بدلالة الدال به، فالخلوقات تدل على الله الخالق، فهذا مثال ما يدل بنفسه، أما ما يدل بغيره فقد يكون دالا بالمواطأة والاتفاق بين اثنين فصاعدا، مثل أن يتفق الرجل مع وكيله على علامة لمن يرسله إليه تدل على أنه أرسله مثل وضع خنصره في خنصره، ومثل وضع يده على ترقوته، ومثل شعار الناس في الحرب فلكل طائفة شعار خاص بهم يعرفون به بعضهم. وتد يدل بغيره قصدا من غير مواطأة مع المستدلين على أنه دليل، لكنهم يعلمون أنه قصد الدلالة لعلمهم بأحوال مثل أن يرسلوا عمامته أو ثوبه مع شخص فيعلمون أنه أرسلها علامة على أنه أرسله (2) . وشيخ الإسلام إنما يهدف إلى عدم حصر الاستدلال بطريقة معينة، فإثبات الصانع وحدوث العالم، ودلالة صدق الأنبياء وغيرها لا ينحصر الاستدلال لها في قالب معين كما فعل أهل الفلسفة والكلام الذين وصل بهم الأمر إلى إنكار ما لم يأت عن غير هذا الطريق الذي زعموه. 2- يقول المتكلمون: إنه لابد للوصول إلى العلم من النظر ولذلك يقولون: إن النظر يضاد العلم، لأنه لو كان عالما لما احتاج إلى النظر، لكن يرجع هؤلاء فيقولون: إن النظر مستلزم للعلم، وهذا تناقف، ويبين ابن تيمية أن الذي يفصل في القضية أن النظر نوعان: أحدهما: النظر الطلبي، وهو النظر في المسألة التي هي القضية المطلوب حكمها ليطلب دليلها، فهذا هو النظر الذ! ط لا يجامع العلم بل يضاده، لأنه ينظر في المطلوب فقد يجده وتد لا يجده، فهذا نظر في الحكم   (1) درء التعارض (10/200-202) . (2) انظر: النبو ات (ص: 266- 279) ، وا نظر (ص: 369) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 كالذي ينظر في المسألة لينال دليلها من القرآن والحديث، والثاني: النظر الاستدلالي: وهو النظر في الدليل الذي يوصله ويستلزم المدلول، وهذا هو الذي يوجب العلم ولا ينافيه فهو كالذي ينظر في القرآن والحديث فيعلم الحكم (1) . لكن هل النظر واجب؟ يجيب شيخ الإسلام: " لكن من حصر العلم بطريق عينه، هو مثل حد معين ودليل معين، أخطأ كثيرا، كا أن من قال: إن حد غيره ودليله لا يفيد بحال أخطأ كثيرا، وهذا كما أن الذين أوجبوا النظر وقالوا: لا يحصل العلم إلا بة مطلقا، أخطأوا، والذين قالوا:- لا حاجة إليه بحال، بل المعرفة دائما ضرورية لكل أحد في كل حال- أخطأوا، بل المعرفة وإن كانت ضرورية في حق أهل الفطر السليمة، فكثير من الناس يحتاج فيها إلى النظر، والإنسان قد يستغنى عنه فى حال ويحتاج إليه في حال، وكذلك الحدود قد يحتاج إليها تارة ويستغنى عنها أخرى كالحدود اللفظية، والترجمة قد يحتاج إليها تارة، وقد يستغنى عنها أخرى، وهذا له نظائر. وكذلك كون العلم ضروريا أو نظريا، والاعتقاد قطعيا وظنيا أمور نسبية، فقد يكون الشىء قطعيا عند شخص في حال، وهو عند آخر وفي حال أخرى مجهول فضلا عن أن يكون مظنونا، وقد يكون الشىء ضروريا لشخص في حال، ونظريا لشخص آخر وفي حال أخرى، وأما ما أخبر به الرسول فإنه حق في نفسه، لا يختلف باختلاف عقائد الناس وأحوالهم، فهو الحق الذي لا يقبل النقيض، ولهذا كل ما عارضه فهو باطل مطلقا " (2) . والعلم علمان: عملي ونظرى، فالأول: " ما كان شرطا في حصول المعلوم كتصور أحدنا لما يريد أن يفعله، فالمعلوم هنا متوقف على العلم به محتاج إليه. والثاني: العلم الخبري النظرى، وهو ما كان المعلوم غير مفتقر في وجوده إلى العلم به كعلمنا بوحدانية الله وأسمائه وصفاته وصدق رسله، وبملائكته وكتبه وغير ذلك، فإن هذه المعلومات ثابتة سواء علمناها أو لم نعلمها، فهي مستغنية عن علمنا بها" (3) .   (1) انظر: الرد على المنطقيين (ص: 352-353) . (2) درء التعارض (3/303-304) . (3) درء التعارض (1/88) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 3- ما حد الدليل؟ هل هو المرشد إلى المطلوب وهو ما يكون العلم به مستلزما للعلم المطلوب، فهو بذاته دليل يوصل إلى المقصود، أم الدليل هو ما يكون النظر الصحيح فيه موصلا إلى المطلوب، اختلف النظار في ذلك، ويرى شيخ الإسلام أن كون بعضهم خص الثاني باسم الإمارة دون الدليل، نزاع اصطلاحي، ولكن يرى أن " الضابط في الدليل أن يكون مستلزما للمدلول، فكل ما كان مستلزما لغيره أمكن أن يستدل به عليه، فإن كان التلازم من الطرفين، أمكن أن يستدل بكل منهما على الآخر، فيستدل المستدل بما علمه منهما على الآخر الذي لم يعلمه (1) ثم بين شيخ الإسلام أن هذا اللزوم إن كان قطعيا كان الدليل قطعيا، وإن كان ظاهرا وقد يتخلف كان الدليل ظنيا، ويمثل للقطعي بدلالة الخلوقات على خالقها وصفاته كالعلم والقدرة والمشيئة والرحمة والحكمة (2) . 4- والآن ننتقل إلى مسألة أخرى مهمة وهي: طرق العلم والمعرفة ومصادرها هل هى مختصة بجانب معين لا يوصل إلى العلم إلا من خلاله؟ لقد تباينت مذاهب الناس في ذلك فبعضهم حصر العلم بالمحسوس فقط فهو الذي يثبت به الاستدلال يقينا وما عداه لا دليل فيه، وبعضهم حصر الاستدلال بالاعتبار والقياس المنطقي فقط، وبعضهم اعتمد على غير ذلك، ويرى شيخ الإسلام أن طرق العلم متعددة وكثيرة ويمكن إجالها بثلاث طرق: أحدها: الحس الباطن والظاهر، وهو الذي تعلم به الأمور الموجودة بأعيانها. والثاني: الاعتبار بالنظر والقياس وإنما يحصل العلم به بعد الىعلم بالحس، مما أفاده الحس معينا يفيده العقل والقياس مطلقا، فهو لا يفيد بنفسه علم شيء معين لكن يجعل الخاص عاما، والمعين مطلقا، فإن الكليات إنما تعلم بالعقل، كما أن المعينات إنما تعلم بالإحساس.   (1) الرد على المنطقيين (ص: 165) ، وانظر: (ص: 151) ، ودرء التعارض (3/303،11/122) ، والنبوات (ص: 282) ، ومناهج البحث (ص: 194، 197، 199، 216) ، ونظرية القياس الأصولي (ص: 322) . (2) انظر: الرد عل المنطقييين (ص: 65 ا-166) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 والثالث: الخبر، والخبر يتناول الكليات والمعينات والشاهد والغائب، فهو أعم وأشمل، لكن الحس والعيان أتم واكمل (1) . ويوسع شيخ الإسلام- في مناسبات مختلفة- الكلام حول هذه الأدلة، ولكنه يركز على مسألة تنوع الأدلة، كما يركز على دليل الخبر الصادق، ولذلك يقول عن أهل الكلام: (إنهم قد سلموا أنه يعلم بالسمع أمور، كما يذكرونه كلهم من أن العلوم ثلاثة أقسام: منها ما لا يعلم إلا بالعقل، ونها ما لا يعلم إلا بالسمع، ومنها ما لا يعلم بالسمع والعقل، وهذا التقسيم حق في الجملة، فإن من الأمور الغائبة عن حس الإنسان ما لا يمكن معرفته بالعقل، بل لا يعرف إلا بالخبر " ثم بين طرق العلم فيقول:" وطرق العلم ثلاثة: الحس، والعقل، والمركب منهما كالخبر" (2) ويوضح النقطة الأخيرة في مكان آخر فيقول: " إن الخبر أيضا لا يفيد إلا مع الحس أو العقل، فإن الخبر عنه إن كان قد شوهد، كان قد علم بالحس، وإن لم يكن شوهد فلابد أن يكون شوهد ما يشبهه من بعض الوجوه، وإلا لم يعلم بالخبر شىء، فلا يفيد الخبر إلا بعد الحس والعقل، فكما أن العقل بعد الحس فالخبر بعد العقل والحس، فالإخبار يتضمن هذا وهذا " (3) . وليس الحس وحده تعلم به الأمور إذ هناك المجريات والمتواترات، ويرى شيخ الإسلام أن هذه الأدلة توصل إلى اليقين، ولكن الخطأ الذي وقع فيه الفلاسفة وأهل المنطق أنهم جعلوا ما علم بالحس يمكن أن يستنبط منه قضية كلية عامة، يبنى عليها القانون المنطقي، يقول شيخ الإسلام عنهم: " إنهم كما حصروا اليقين في الصورة القياسية حصروه في المادة التي ذكروها من القضايا الحسيات، والأوليات والمتواترات والمجربات أو الحدسيات، ومعلوم أنه لا دليل على نفي ما سوى هذه القضايا .... ثم مع ذلك إنما اعتبروا في الحسيات والعقليات وغيرهم   (1) درء التعارض (7/324) ، وانظر: الاستقامة (1/29) ، والرد على المنطقيين (ص: 364، 473) ، ونقض أساس التقديس المطبوع (2/539) . (2) درء التعارض (1/178) . (3) نفسه (7/325) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 ما جرت العادة باشتراك بني آدم فيه، وتناقضوا في ذلك، وذلك أن بني آدم إنما يشتركون كلهم في بعض المرئيات وبعض المسموعات، فإنهم كلهم يرون عين الشمس والقمر والكواكب، ويرون جنس السحاب والبرق، وإن لم يكن ما رآه هؤلاء من ذلك هو ما يراه هؤلاء، وكذلك يشتركون في سماع صوت الرعد، وأما ما يسمعه بعضهم من كلام بعض وصوته فهذا لا يشترك بنو آدم في عينه، بل كل قوم يسمعون ما لا يسمع غيرهم، وكذلك أكر المرئيات، فانه ما من شخص ولا أهل درب ولا مدينة ولا إقليم إلا ويرون من المرئيات ما لا يراه غيرهم، وأما الشم والذوق واللمس فهذا لا يشترك جميع الناس في شيء معين فيه ... وكذلك ما يعلم بالتواتر والتجربة والحدس، فإنه قد يتواتر عند هؤلاء ما لم يتواتر عند غيرهم ولم يجربوه، ولكن قد يتفقان في الجنس، كما يجرب قوم بعض الأدوية ويجرب الآخرون جنس تلك الأدوية، فيتفق في معرفة الجنس لا في معرفة عين المجرب " (1) ، فإذا كانت هذه حال هذه الأدلة فلماذا يفرق أهل المنطق! نها، فيقولون: إن ما علم بالحس يمكن أن يكون دليلا عاما، أما المتواترات والمجربات فليست دليلا عاما وإنما يختص بها من علمها، مع أن اشتراك الناس في المتواترات ا! ثر، وفي المجريات يحصل المعنى الكلي الذى يقوم في النفسى بخلاف الحسيات فليس فيها شيء كلي (2) ، لقد أدى هذا التفريق بأهل المنطق أن أنكروا المتواترات والأخبار التى تعلم أو جاءت عن طريق الأنبياء، وكذلك الأدلة القرآنية من الأمثلة الضرورية التي ذكر الله تعالى فيها ما جرى للأم السابقة وأنه يجرى على من عمل مثل عملهم. إن شيخ الإسلام يرى أن- الحسيات والمتواترات والمجربيات- يمكن أن تكون دليلا ومصدرا من مصادر المعرفة، ولا يفرق بينها، ويمكن أن ننقل نصا يوضح هذه المسألة، يقول: " وقد ذكر من ذكر من هؤلاء المنطقيين أن القضايا المعلومة بالتواتر والتجربة والحدس يختص بها من علمها بهذا الطريق، فلا تكون حجة على غيره بخلاف غيرها فإنها مشتركة يحتج بها على المنازع. وقد بينا ...   (1) الرد على المنطقيين (ص: 384- هـ 38) . (2) الرد على المنطقيين (ص: 385) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 أن هذا تفريق فاسد، فإن الحسيات الظاهرة والباطنة تنقسم أيضا إلى خاصة وعامة وليس ما رآه زيد أو شمه أو ذاقه أو لمسه يجب اشتراك الناس فيه، وكذلك ما وجده في نفسه من جوعه وعطشه وألمه ولذته، لكن بعض الحسيات قد تكون مشتركة بين الناس، كاشتراكهم في رؤية الشمس والقمر والكواكب، وأخص من ذلك اشتراك أهل البلد الواحد في رؤية ما عندهم من جبل وجامع وشهر وغير ذلك من الأمور انحلوقة والمصنوعة ". " وكذلك الأمور المعلومة بالتواتر والتجارب قد يشترك فيها عامة الناس كاشتراك الناس في العلم بوجود مكة ونحوها من البلدان المشهورة، واشتراكهم في وجود البحر وأكثرهم ما رآه، واشتراكهم في العلم بوجود موسى وعيسى ومحمد وادعائهم النبوة ونحو ذلك، فإن هؤلاء قد تواتر خبرهم إلى عامة بني آدم وإن قدر من لم يبلغه أخبارهم فهم في أطراف المعمورة لا في الوسط، وكذلك المجربات، فعامة الناس قد جربوا أن شرب الماء يحصل معه الري، وأن قطح العنق يحصل معه الموت، وأن الضرب الشديد يوجب الألم. والعلم بهذه القضية تجريبي فإن الحس إنما يدرك ريا معينا وموت شخص معين، وألم شخص معين، أما كون كل من فعل به ذلك يحصل له مثل ذلك، فهذه القضية الكلية لا تعلم بالحس، بل بما يتركب من الحس والعقل، وليس الحس هنا هو السمع. وهذا النوع قد يسميه بعض الناس كله تجريبات، وبعضهم يجعله نوعين: تجريبات وحدسيات، فإن كان الحس المقرون بالعقل من فعل الإنسان كأكله وشربه وتناوله الدواء سماه تجريبا، وإن كان خارجا عن قدرته كتغير أشكال القمر عند مقابلة الشمس سماه حدسيا " (1) . فهذه الحسيات والمجربات من طرق العلم عند شيخ الاسلام، ولكنه لا يحصر طرق العلم بها، واعتناؤه بهذه الأمور- خاصة التجربة- أثار انتباه وإعجاب كثير من الباحثين المعاصرين حتى قال أحدهم- ممن يخالف شيخ الاسلام في آرائهـ بعد أن نقل كلامه في ذلك: " وأخيرا لا يسعنا أمام   (1) الرد على المنطقيين (ص: 92-93) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 هذه الروح العلمية التجريبية التي أتسمت بها فلسفة ابن تيمية إلا أن نقرر أنه لو قدر لهذه الفلسفة أن توضع في قالب منهجي لعد ابن تيمية- بحق- على رأس الفلاسفة التجريبيين، وحسبه أنه وضع الأفكار في وقت كانت فيه أوربا ترسف في أغلال الجهل وتعاني من جود الفكر النظري طوال العصور الوسطى " (1) . وإذا كانت مثل هذه القضايا أثارت إعجاب هؤلاء الباحثين بشيخ الإسلام فإن الذى أثار إعجاب تلامذة ابن تيمية- من عصره وإلى اليوم- ما عمل رحمه الله من الدعوة إلى العودة إلى مذهب السلف، ونهجهم، ومن ذلك: المنهج الشرعي للاستدلال، الذى تنكبه الفلاسفة والمتكلمون قديما وتلامذتهم حديثا- وهذا ما نشير إليه في الفقرة التالية. 5- من أصول الاستدلال وطرق المعرفة الكبرى: الطريق والدليل الشرعي، ولكن ما الدليل الشرعي؟ هل هو مقتصر على ما أفاده الخبر بنصه فقط، أو ما يسميه البعض الدليل السمعى، المختص بما لا يمكن العلم به إلا بالسمع وخبر الصادق، لقد فهم كثير من أهل الكلام هذا، ورأوا أن الشرع- من الكتاب والسنة- ليس فيه أدلة عقلية، وإنما أخبار عن مغيبات يجب التصديق بها، وغفل هؤلاء عن الأدلة القرآنية الكثيرة التي فيها مجادلة ومحاجة المنكرين للألوهية والنبوة، والبعث وغيرها، وهؤلاء المنكرون من مشركي العرب وأهل الكتاب وغيرهم لم يكونوا مقرين بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا بما نزل عليه من الكتاب، ولذلك كان من أصول منهج شيخ الاسلام- في كتبهـ التركيز على المنهج الشرعي وينبه إلى غلط أهل الكلام في حصرهم لهم في خبر الصادق فقط يقول: " الدليل الشرعي قد يكون سمعيا وقد يكون عقليا، فإن كون الدليل شرعيا يراد به: أ- كون الشرع أثبته ودل عليه. ب- ويراد به كون الشرع أباحه وأذن فيه.   (1) المدرسة السلفية (ص: 449) ومؤلفه: محمد عبد الستار نصار، وانظر: مناهج البحث للنشار (ص: 166، 173، 178) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 (أ) فإذا أريد بالشرعي ما أثبته الشرع، فإما أن يكون معلوما بالعقل أيضا ولكن الشرع نبه عليه ودل عليه، فيكون شرعيا عقليا، وهذا كالأدلة التي نبه الله تعالى عليها في كتابه العزيز من الأمثال المضروبة وغيرها الدالة على توحيده وصدق رسله، وإثبات صفاته وعلى المعاد، فتلك كلها أدلة عقلية يعلم صحتها بالعقل وهي براهين ومقاييس عقلية، وهى مع ذلك شرعية. وإما أن يكون الدليل الشرعي لا يعلم إلا بمجرد خبر الصادق، فإنه إذا أخر بما لا يعلم إلا بخبره كان ذلك شرعيا سمعيا. وكثير من أهل الكلام يظن أن الأدلة الشرعية منحصرة في خبر الصادق فقط وأن الكتاب والسنة لا يدلان إلا على هذا الوجه، ولهذا يجعلون أصول الدين نوعين: العقليات، والسمعيات، ويجعلون القسم الأول مما لا يعلم بالكتاب والسنة. وهذا غلط فهم، بل القرآن دل على الأدلة العقلية وبينها ونبه عليها وإن كان من الأدلة العقلية ما لا يعلم بالعيان ولوازمه؟ قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53] (ب) وأما إذا أريد بالشرعي ما أباحه الشرع وأذن فيه، فيدخل في ذلك ما أخبر به الصادق، وما دل عليه ونبه عليه القرآن، وما دلت عليه وشهدت به الموجودات، والشارع يحرم الدليل لكونه كذبا في نفسه، مثل أن تكون إحدى مقدماته باطلة، فإنه كذب والله يحرم الكذب لاسيما عليه، كقوله تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [الأعراف:169} ، ويحرمه لكون المتكلم به يتكلم بلا علم، كما قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الاسراء:36] وقوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] ، وقوله: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران:66] . (1)   (1) درء التعارض (1/198-. 20) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 فالأدلة الشرعية قد تكون سمعية، وقد تكون عقلية نبه عليها الشرع، وشيخ الاسلام دائما ما ينبه إلى أنه لا يمكن أن يتعارض العقل والشرع، ولذلك لم يفصل بين جنس الأدلة-؟ فعل أهل الفلسفة والكلام- فالأدلة قد تكون حسية وتد تكون عقلية وقد تكون شرعية، وكلها صادقة، لأن الكل من عند الله، فالكون مخلوق لله والانسان الذي يعقل ويحس نحلوق لله، والنصوص السمعية منزلة من عند الله، فالذين يتوهمون أنهم قد يعلمون بعقولهم ومقاييسهم أمورا قد يعارضها السمع غالطون أشد الغلط بل ومنحرفون في إيمانهم وثقتهم بما جاء من عند الله من الكتاب والسنة، إذ كلها وحي من الله تعالى، ولهذا يقول شيخ الإسلام منبها إلى أن حصول المعرفة بالشرع على وجوه " أحدها: أن الشرع ينبه على الطريق العقلية التي بها يعرف الصانع، فتكون عقلية شرعية، والثاني: أن المعرفة المنفصلة (1) بأسماء الله وصفاته التى بها يحصل الإيمان تحصل بالشرع كقوله تعالى: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} [الشورى:52] ، وقوله: {قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحى إلي ربي} [سبأ:50] ، وقوله: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم} [إبراهيم:1] ، وأمثال ذلك من النصوص التي تبين أن اللة هدى العباد بكتابه المنزل على نبيه" (2) . فالهداية التامة والمعرفة الصادقة التي لا يدخلها شك أعظم ما تغ عن طريق الكتاب والسنة، إن كان ثمة طريق غيرهما تحصل به هذه المعرفة، ويوضح شيخ الإسلام في هذافيقول: " وأما النظر المفيد للعلم فهو ما كان في دليل هاد، والدليل الهادكط- على العموم والاطلاق- هو كماب اللة وسنة نبيه، فإن الذكط جاءت به الشريعة من نوعي النظر: هو ما يفيد وينفع ويحصل الهدى، وهو يذكر اللة وما نزل من الحق، فإذا أراد النظر والاعتبار في الأدلة المطلقة   (1) كذ ا، ولعلها: المفصلة. (2) درء التعارض (9/37-38) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 من غير تعيين مطلوب فذلك النظر في كتاب الله وتدبره كما قال تعالى: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي الله به من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} [المائدة:15 - 16] . " (1) . 6- ونعرض للأدلة الشرعية التي ذكرها شيخ الاسلام: أ- فأولها دلالة السمع من الكتاب والسنة على كل ما تنازع الناس فيه، لأن فيهما الهدى التام، فمن اعتصم بالوحي فقد هدى إلى صراط مستقيم، ولذلك فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، " دعوا الناس إلى عبادة الله أولا بالقلب، واللسان، وعبادته متضمنة لمعرفته، وذكره، فأصل علمهم وعملهم هو العلم بالله والعمل لله" (2) (2) ، ولذلك فالرسل لم يدعوا الناس إلى الإقرار بوجود الله وأنه الخالق، لأن هذا معروف مسلم مركوز في فطر الناس، وإنما دعوا الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ومنه ينطلق إلى الأمور الأخرى، لأن من عبد الله وحده وأخلص له في العبادة فلابد أن يصدق برسله وبما جاءوا به من عند ربهم تعالى، يقول شيخ الإسلام: " إن الله سبحانه لما كان هو الأول الذي خلق الكائنات والآخر الذي إليه تصير الحادثات فهو الأصل الجامع فالعلم به أصل كل عمل وجامعه، وليس للخلق صلاح إلا في معرفة ربهم وعبادته، وإذا حصل لهم ذلك فما سواه إما فضل نافع وإما فضول غير نافعة، وإما أمر مضر "، " ثم من العلم به تتشعب أنواع العلوم، ومن عبادته وقصده تتشعب وجوه المقاصد الصالحة، والقلب بعبادته والاستعانة به معتصم مستمسك قد لجأ إلى ركن وثيق، واعتصم بالدليل الهادي، والبرهان الوثيق، فلا يزال إما في زيادة العلم والايمان، وإما في السلامة من الجهل والكفر، وبهذا جاءت النصوص الالهية في أنه بالإيمان يخرج الناس من الظلمات إلى النور، وضرب مثل المؤمن - وهو المقر بربه علما وعملا- بالحي والبصير والسميع والنور والظل- وضرب   (1) نقض المنطق (ص: 33) . (2) مجموع الفتاوى (2/15) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 مثل الكافر- بالميت والأعمى والأصم، والظلمة والحرور " (1) ، فمنهج الرسل على الضد من منهج المتكلمين الذين يبدأون بالأمور النظرية فيبدأون بإثبات الصانع ثم النبوات ثم السمعيات، وقد تختلط عليهم الأدلة في أول الطريق أو في وسطها أو في آخرها فلا يصلون إلى المقصود، أما الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم جميعا- فيبدأون من حيث ينتهي الفلاسفة، فإذا كان قصارى ما ينتهي إليه هؤلاء إثبات أن هذا العالم لابد له من خالق، فالأنبياء يبينون لأممهم أنه يجب عبادة الله وحده لا شريك له ما دامت قضية الإترار به وبوجوده مسلمة للجميع. وخلاصة هذا الدليل: أن عبادة الله والإخلاص هي الأساس وهي الموصلة إلى تصديق رسلهـ والله أيدهم بما يدل على صدقهم من المعجزات وغيرها- فإذا تمت الشهادتان: الألوهية والرسالة، كان ما جاء به هؤلاء الرسل من أمر أو خبر هو الحق الذكط يعتصم به المؤمنون وإذا كان المتصوفة على عكس المتكلمين والفلاسفة، فإن أهل الحق والايمان لا يعتمدون على ما يخطر بقلوبهم من خواطر مطلقا، وإنما يزنونها بالكتاب والسنة، ولا يقدمون عليهما شيئا من الأدلة أو الخواطر، ولذلك فما لا أوتيه علماء أهل الحديث وخواصهم من اليقين والمعرفة والهدى فأمر يجل عن الوصف، ولكن عند عوامهم من اليقين والعلم النافع ما لم يحصل منه شيء لأئمة المتفلسفة والمتكلمين، وهذا ظاهر شهود لكل أحد " (2) . ب- وهناك دليل آخر وهو دليل الفطرة التي فطر الله الناس جميعا عليها، لأن الإنسان خلقه الله تعالى متميزا عن غيره من الخلوقات، فعنده الشعور والإحساس ولديه الإرادة والحركة، ففي الشعور والإدراك يميز بين الحق والباطل والصدق والكذب، وبالارادة والحركة يحب ويبغض فيحب ما ينفعه ويميل إليه، ويبغض ما يضره وينفر منه، وهذه هي الفطرة (3) ، يقول شيخ الاسلام: " والله سبحانه   (1) مجموع الفتاوى (2/16) . (2) نقض المنطق (ص: 26) . (3) انظر: المصدر السابق (ص: 29) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 خلق عباده على الفطرة التي فيها معرفة الحق والتصديق به ومعرفة الباطل والتكذيب به، ومعرفة النافع المم رالمحبة له، ومعرفة الضار المنافي والبغض له بالفطرة، فما كان حقا موجودا صدقت به الفطرة، وما كان حقا نافعا عرفته الفطرة أحبته وأطمأنت إليه، وذلك هو المعروف، وما كان باطلا معدوما كذبت به الفطرة فأبغضته الفطرة وأنكرته " (1) . ونصوص الفطرة دالة على أن كل مولود يولد على فطرة الاسلام، وهي الحنيفية المقتضية لعبادة الله وحده لا شريك له والحب والخضوع له تعالى. يقول شيخ الإسلام: " فعلم أن في فطرة الانسان قوة تقتضي اعتقاد الحق وإرادة النافع، وحينئذ فالإقرار بوجود الصانع ومعرفته والايمان به هو الحق أو نقيضه؟ والثاني معلوم الفساد قطعا، فتعين الأول، وحينئذ فيجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والايمان به، وأيضا: فإنه مع الإقرار به إما أن تكون محبته أنفع للعبد أو عدم محبته، والثافي معلوم الفساد، وإذا كان الأول أنفع له كان في فطرته محبة ما ينفعه، وأيضا فإنه إما أن تكون عبادته وحده لا شريك له اكمل للناس علما وقصدا أو الإشراك به، والثالث معلوم الفساد فوجب أن يكون في فطرته مقتضى يقتضي توحيده، وأيضا: فإما أن يكون دين الإسلام مع غيره من الأديان متماثلين أو الاسلام مرجوحا أو راجحا، والأول والثاني باطلان باتفاق المسلمين وبأدلة كثيرة، فوجب أن يكون في الفطرة مقتض يقتضي خير الأمرين لها، وامتنع أن تكون نسبة الإسلام وسائر الملل إلى الفطرة واحدة، سواء كانت نسبة قدرة أو نسبة قبول " (2) . وهذه الفطرة بما فيها من الاستعداد والقبول كافية لحصول مقتضاها من معرفة الله وعبادته، لا يشترط لذلك وجود أدلة يتعلمها من خارج، يوضح شيخ الإسلام هذه المسألة فيقول: " وإذا لزم أن يكون في الفطرة مرجح للحنيفية التي أصلها معرفة الصانع ومحبته وإخلاص الدين له، فإما أن يكون مع ذلك   (1) نقض المنطق (ص: 29) . (2) درء التعارض (8/458-459) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 لا يوجد مقتضاها إلا بسبب منفصل، مثل من يعلمه ويدعوه، أو يمكن وجود ذلك بدون هذا السبب المنفصل، فإن كان الأول لزم أن يكون موجبها متوقفا على مخاطب منفصل دائما، فلا يحصل بدونه البتة، ثم القول في حصول موجبها لذلك انحاطب المنفصل، كالقول في الأول، وحينئذ فيلزم التسلسل في الخاطبين، ووجود مخاطبين لا يتناهون، وهم أيضا مخاطبون وهذا تسلسل في الفاعلين وهو ممتنع، وإن كان من الخاطبين من حصل له بموجب الفطرة بلا مخاطب منفصل فى ل على إمكان ذلك بالفطرة، فبطل هذا التقرير وهو كون موجب الفطرة لا يحصل قط إلا نحاطب منفصل، وإذا أمكن حصول موجب الفطرة بدون مخاطب منفصل علم أن في الفطرة قوة تقتض! اذلك، وإن ذلك ليمى موقوفا على مخاطب منفصل، لكن قد يكون لذلك المقتضى معارض مانع وهذا هو الفطرة " (1) . وهذه الفطرة توافق ما أخبرت به الرسل ولا تعارضها أبدا، ولذلك فإن دليل الفطرة على علو الله تعالى لا يمكن أن يكون ما جاءت به النصوص بخلافه كما زعم نفاته (2) ، وهكذا. ج-- ومن الأدلة النظرية التى تفيد العلم، وقد جاء بها القرآن، دليل " الآيات، فالمخلوقات تدل على الخالق وتوجب العلم به، وآيات الأنبياء توجب العلم بنبوتهم، وهكذا يقول شيخ الاسلام إن من الأدلة " الآيات كما يذكر الله ذلك في القرآن، والآية هي دليل عليه بعينه، لا تدل على قدر مشترك بينه وبن غيره، فنفس الكائنات وما فيها وهو عين وجودها في الخارج مستلزم لوجود الرب، وهو آية له ودليل عليه، وشاهد بوجوده بعينه، لا قدر مشترك بينه وبين غيره " (3) ، ودليل الآيات يختلف عن دليل القياس، لأن دليل الآية هو نفسه مستلزم لعين المدلول عليه، يقول شيخ الاسلام: " وأما استدلاله بالآيات   (1) درء التعارض (8/459-. 46) . (2) انظر: درء التعارض (5/ 312) ، وانظر: دلالة الفطرة الدرء (8/ 371) ، ونقض التأسيس المطبوع (2/475) . (3) نقض أساس التقديس- المطبوع- (2/474) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 فكثير في القرآن، والفرق بين الآيات وبين القياس أن الآية هي العلامة، وهي الدليل الذي يستلزم عين المدلول، ولا يكون مدلوله أمرا كليا مشتركا بين المطلوب وغيره، بل نفس العلم به يوجب العلم بعين المدلول، كما أن الشمس آية النهار قال تعالى: {وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة} [الإسراء:12] ، فنفس العلم بطلوع الشمس يوجب العلم بوجود النهار، وكذلك آيات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - نفس العلم بها يوجب العلم بنبوته بعينه، لا يوجب أمرا بهليا مشتركا بينه وبين غيره، وكذلك آيات الرب تعالى، نفس العلم بها يوجب العلم بنفسه المقدسة تعالى لا يوجب علما كليا مشتركا بينه وبين غيره، والعلم بكون هذا مستلزما لهذا هو جهة الدليل " (1) ، ودليل الآيات إنما هو استدلال بجزئي على جزئي، وهذا يخالف القياس المنطقي (2) . د- قياس الأولى: يرى شيخ الإسلام أن هذا من أدلة القرآن، وأنه يستف م في حق الله تعالى لأن الله تعالى ليس مثل خلقه، بحيث يقاس على خلقه لأن الله تعالى ليس كمثله شىء، وهذا الدليل ركز عليه شيخ الاسلام كثيرا، وبين دلالته على إثبات التوحيد لله ونفى الصاحبة والولد عنه، وعلى إثبات صفات الكمال لله، وعلى النبوة والمعاد، يقول شيخ الإسلام: " وأما قياس الأولى الذي كان يسلكه السلف اتباعا للقرآن فيدل على أنه يثبت له من صفات الكمال التي لا نقص فيها أكمل مما علموه ثابتا لغيره، مع التفاوت الذي لا يضبطه العقل، كما لا يضبط التفاوت بين الخالق والخلوق، بل إذا كان العقل يدرك من التفاضل الذي بين مخلوق ونحلوق ما لا يحصر قدره، وهو يعلم أن فضل الله على كل مخلوق أعظم من فضل مخلوق على مخلوق، كان هذا مما يبين له أن ما يثبت للرب أعظم مما يثبت   (1) الرد على المنطقيين (ص: 151) . (2) انظر: نفس المصدر (ص: 163) ، وانظر: (ص: 356) ، ومجموع الفتاوى (2/9، 48/1) ، وانظر: منطق ابن تيمية (ص: 247) ، والمدرسة السلفية (ص: 368،443) ، ومناهج البحث (ص: 216) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 لكل ما سواه بما لا يدرك قدره" (1) ، ويقول أيضا: (ومما يوضح هذا أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيل (2) يستوي فيه الأصل والفرع، رلا بقياس شمولي (3) تستوي فيه أفراده، فإن الله تعالى ليس كمثله شىء فلا يجوز أن يمثل بغيره ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها" (4) ، ثم طبق هذا على مسألة المعاد (5) ، ثم ذكر أن الله استعمله سبحانه في تنزيهه وتقديسه عما أضافوه اليه من الولادة سواء سموها حسية أو عقلية (6) ، ثم ذكر النصوص القرآنية التي فيها الانكار على المشركين في زعمهم أن لله ولدا، أو أن لله البنات، ثم عقب شيخ الإسلام قائلا: " فبين سبحانه أن الرب الخالق أولى بأن ينزه عن الأمور الناقصة منكم، فكيف تجعلون له ما تكرهون أن يكون لكم، وتستحيون من إضافته إليكم مع أن ذلك واقع لا محالة، ولا تنزهونه عن ذلك وتنفونه عنه، وهو أحق بنفي المكروهات المنقصات منكم " (7) ، فذكر قياس الأولى في ذلك (8) .   (1) الرد على المنطقيين (ص: 154) . (2) قياس التمثيل هو القياس المشهور في كتب أصرل الفقه وهو: أثبات الحكم في جزئي لثبوته في جزئي آخر لمعنى مشترك بينهما وهو العلة كقولنا: النبيذ حرام لأنه كالخمر في الإسكار الذي هو علة الحرمة، انظر التهذيب: شرح الخبيصي وحواشيه (ص: 414) ، وإيضاح المبهم (ص: 17) ، وتحرير القواعد المنطقية (ص: 166) ، والمرشد السليم (ص:253) . (3) قياس الشمول: هو قياس المناطقة المشهور وهو: قول مؤلف من قضايا إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر، مثل أن يقال كل إنسان حيوان وكل حيوان حساس، النتيجة: كل انسان حساس. انظر المصادر السابقة: الهذيب: شرح الخبيصى (ص: 363) ، وتحرير القواعد (ص: 38 1) ، والمرشد السليم (ص: 136) . (4) درء التعارض (1/29) . (5) انظر: المصدر نفسه (1/ 30- هـ 3) . (6) الحسية مثل قول النصارى في عيسى، والعقلية مثل قول الفلاسفة بتولد العقول العشرة والأفلاك. (7) درء التعارض (1/36-37) .. (8) انظر: في قياس الأولى وشرح ابن تيمية له: منطق ابن تيمية (ص: 254) ، ونظرية القياس الأصولي (ص: 334) ، ومناهج البحث (18 2) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 هـ- الميزان القرآني: وردت نصوص تدل على " الميزان " وأن الله أنزله، مثل قوله تعالى: {الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان} [الشورى: 17] ، وقوله: {والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان} [الرحمن: 7-9] وغيرها، فما هذا الميزان؟ يقول شيخ الإسلام: " وقد قال الله سبحانه وتعالى: {الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان} [الشورى: 17] ، وقال: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} [الحديد: 25] ، والميزان يفسره السلف بالعدل، ويفسره بعضهم بما يوزن به (1) ، وهما متلازمان، وقد أخبر أنه أنزل ذلك مع رسله كا أنزل معهم الكتاب ليقوم الناس بالقسط، فما يعرف به تماثل المتماثلات من الصفات والمقادير هو من الميزان، وكذلك ما يعرف به اختلاف المختلفات، فمعرفة أن هذه الدراهم أو غيرها من الأجسام الثقيلة بقدر هذه تعرف بموازينها، وكذلك مثل هذا الزمان يعرف بموازينه التى يقدر بها الأوقات ... فكذلك الفروع المقيسة على أصولها في الشرعيات والعقليات تعرف بالموازين المشتركة بينهما، وهي الوصف الجامع المشترك الذي يسمى الحد الأوسط، فإنا إذا علمنا أن الله حرم خمر العنب لما ذكره من أنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء، ثم رأينا نبيذ الحبوب من الحنطة والشعير والرز وغير ذلك يماثلها في المعنى الكلي المشترك الذي هو علة التحريم، كان هذا القدر المشترك الذي هو العلة هو الميزان التي أنزلها الله في قلوبنا لنزن بها هذا نجعله مثل هذا، فلا نفرق بين المتماثلين، والقياس الصحيح هو من العدل الذي أمر الله تعالى به" (2) ، ويوضح النقطة الأخيرة فيقول: " إن القياس الصحيح هو من العدل الذي أنزله، وإنه لا يجوز قط أن يختلف الكتاب والميزان، فلا يختلف نص ثابت عن الرسل وقياس صحيح، لا قياس شرعي   (1) انظر هذين القولين في تفسير الآية: 25 من سورة الحديد: تفسير الطبرى، وزاد المسير. (2) الرد على المنطقيين (ص: 372) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 ولا عقلي، ولا يجوز قط أن الأدلة الصحيحة النقلية تخالف الأدلة الصحيحة العقلية ... " (1) ، ويورد اعتراضا على هذا ثم يرد عليه، فيقول: " فإن قيل: إذا كان هذا مما يعرف بالعقل فكيف جعله الله تعالى مما أرسلت به الرسل؟ قيل: لأن الرسل ضربت للناس الأمثال العقلية التي يعرفون بها التماثل والاختلاف، فإن الرسل دلت الناس وأرشدتهم إلى ما به يعرفون العدل، ويعرفون الأقيسة العقلية الصحيحة التي يستدل بها على المطالب الدينية، فليس العلوم النبوية مقصورة على مجرد الخبر، كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام، ويجعلون ما يعلم قسيما للعلوم النبوية، بل الرسل- صلوات الله عليهم- بينت العلوم العقلية التي بها يتم دين الناس علما وعملا، وضربت الأمثال، فكملت الفطرة بما نبهتا عليه وأرشدتها مما كانت الفطرة معرضة عنه، أو كانت الفطرة قد فسدت بما حصل لها من الآراء والأهواء الفاسدة، فأزالت ذلك الفساد وبينت ما كانت الفطرة معرضة عنه، حتى صار عند الفطرة معرفة الميزان التي أنزلها الله وبينتها رسله " (2) ، ويوضح شيخ الاسلام أن الله كما أنزل مع رسله الايمان، فلا يحصل الإيمان إلا بهم، فكذلك أنزل الميزان في القلوب وذلك لما بينت الرسل العدل وما يوزن به (3) . ولما كان القياس أحد الأصول المعتبرة في الأحكام عند جماهير المسلمين، وقف شيخ الإسلام مع أهل المنطق وقفة طويلة حول زعمهم أن قياسهم الشمولي هو الذي يفيد اليقين، أما القياس التمثيلي- الذي هو قياس الأصوليين- فلا يفيد إلا الظن (4) ، ظنا منهم أن استخدامه في الأحكام الفرعية من جانب الفقهاء   (1) الرد على المنطقيين (ص: 373) . (2) نفسه (ص: 382) . (3) نفسه (ص: 383-384) . (4) سبق التعريف بقياس الشمول والتمثيل والفرق بينهما أن الشمولي إنتقال من خاص إلى عام ثم انتقال من ذلك العام إلى الخاص، أما التمثيلى فهو انتقال من حكم معين (جزئي) إلى حكم معين (جزئي) لاشتراكهما في ذلك المعنى الكلى، ومع ذلك فيمكن إرجاع أحدهما إلى الآخر كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمبة. ويلاحظ أن بعض الباحثين في علوم المنطق ردوا على إخوانهم المناطقة في قولهم: إن القياس التمثيلى ظنى ويينوا أنه قد يكون قطعيا، انظر التهذيب شرح الخبيصى، حاشية العطار (414) كما ذكروا لهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 دليل على أنه ظني (1) ، ويرى شيخ الإسلام أنه لا فرق بينهما، بل يمكن إرجاع القياس الشمولي إلى التمثيلى وبالعكس، يقول: (تفريقهم بين قياس الشمول وقياس التمثيل بأن الأول قد يفيد اليقين، والثاني لا يفيد إلا الظن، فرق باطل، بل حيث أفاد أحدهما اليقين أفاد الآخر اليقين، وحيث لا يفيد أحدهما إلا الظن لا يفيد الآخر إلا الظن فإن إفادة الدليل لليقين أو الظن ليس لكونه على صورة أحدهما دون الآخر، بل باعتبار تضمن أحدهما لما يفيد اليقين، فإن كان أحدهما اشتمل على أمر مستلزم للحكم يقينا حصل به اليقين، وإن لم يشتمل إلا على ما يفيد الحكم ظنا لم يفد إلا الظن " (2) ، سم بين أنه لا فرق بينهما فيقول: " فإن قلت: النبيذ حرام قياسا على الخمر، لأن الخمر إنما حرمت لكونها مسكرة، وهذا الوصف موجود في النبيذ، كان بمنزلة قولك كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام، فالنتيجة قولك: النبيذ حرام، والنبيذ هو موضوعها وهو الحد الأصغر، والحرام محمولها وهو الحد الأكبر، والمسكر هو المتوسط بين الموضوع والمحمول، وهو الحد الأوسط المحمول في الصغرى الموضوع في الكبرى " (3) ، وبين شيخ الإسلام أن الفقهاء صاروا يستعملون في الفقه القياس الشمولي، كما يستعمل في العقليات القياس التمثيلى (4) . بل يرى شيخ الإسلام أن قياس التمثيل أقوى من قياس الشمول، لأن التمثيل إنما هو من قياس الغائب على الشاهد الذي جاء في القرآن الكريم وهو الميزان الذي أنزله الله، يقول شيخ الإسلام ردا على المناطقة:" إذا كان لابد في برهانهم من قضية كلية فالعلم بتلك القضية الكلية لابد له من سبب، فإن عرفوها باعتبار الغائب بالشاهد وأن حكم الشيء حكم مثله، كما إذا عرفنا أن هذه النار محرقة علمنا أن النار الغائبة محرقة لأنها مثلها، وحكم الشيء حكم مثله، فيقال: هذا استدلال بقياس التمثيل 000" (5) .   (1) = فوائد في البحث العلمى وتقدم العلوم، انظر: المرشد السليم (ص: 257) . (1) انظر: الرد على المنطقيين (ص: 234) . (2) نفس المصدر (ص: 211) . (3) انظر: الرد على المنطقيين (ص: 211) . (4) نفس المصدر (ص: 117) . (5) نفسه (ص: 115) .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 والخلاصة أن ما ورد به الشرع من قياس التمثيل واعتبار الغائب بالشاهد هو الموصل إلى اليقين، وهذا هو الاعتبار الذى ورد الأمر به، وهو بتناول قياس الطرد وقياس العكس، ويشرح شيخ الاسلام ذلك ويمثل له من القرآن فيقول: " ومن أعظم صفات العقل معرفة التماثل والاختلاف، فإذا رأى الشيئين المتماثلين علم أن هذا مثل هذا، فجعل حكمهما واحدا، كا إذا رأى الماء والماء، والتراب والتراب، والهواء والهواء، ثم حكم بالحكم الكلي على القدر المشترك، وإذا حكم على بعض الأعيان ومثله بالنظير وذكر المشترك كان أحسن في البيان فهذا قياس الطرد، وإذا رأى المختلفين كالماء والتراب فرق بينهما وهذا قياس العكس، وما أمر الله به من الاعتبار في كتابه يتناول قياس الطرد وقياس العكس، فإنه لما أهلك المكذبين للرسل بتكذيبهم كان من الاعتبار أن يعلم أن من فعل ما فعلوا أصابه ما أصابهم فيتقي تكذيب الرسل حذرا من العقوبة، وهذا قياس الطرد، ويعلم أن من لم يكذب الرسل بل اتبعهم لا يصيبه ما أصاب هؤلاء وهذا قياس العكس، وهو المقصود من الاعتبار بالمعذبين، فإن المقصود ثبت في الفرع عكس حكم الأصل لا نظيره، والاعتبار يكون بهذا وهذا، قال تعالى: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} [يوسف:111] ." (1) 7- هذه هى الأدلة الشرعية- سمعية وعقلية- جاءت بها ودلت عليها النصوص، وهي دالة على التكامل وأن لا تعارض بين العقل والنقل، ورسل الله تعالى جاءوا بالحق المبين، ولا يمكن أن يأتوا بما يعارض العقول الصحيحة، لكن قد يأتون بما تعجز عنه العقول ولا تستطيع إدراكه، ولذا كثيرا ما يردد شيخ الإسلام أن الرسل يخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول (2) . ولكن إذا كان المنهج القرآني والشرعى لا يقتصر على مجرد الخبر، فلماذا يرد عن السلف أنهم كثيرا ما يقولون: أن مثل هذا الأمر مما لا مجال للعقل فيه، أو ينهون عن إدخال العقل في بعض الأمور، ونحو ذلك؟ هذا سؤال مهم   (1) الرد على المنطقيين (ص: 371) ، وانظر: منطق ابن تيمية (ص: 222) . (2) انظر: درء التعارض (5/297، 7/327) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 ولذلك يخصه شيخ الإسلام بجواب مركز فيقول- عن أهل الكتاب والسنة- " وأما ما قد يقولونه من أن العقل لا مجال له في ذلك، أو ينهون عن الكلام، أو عن ما سمي معقولات ونظرا، ونحو ذلك، فهذا له وجوه صحيحة ثابتة بالكتاب والسنة، بل وبالعقل أيضا، وبعضهم قد لا يفرق بين ما يدخل في ذلك من حق وباطل، وبعضهم قد يقصر عن الحق الذي يدل عليه الكتاب والسنة .... ولا ريب أن التقصير ظاهر على اكثر المنتسبين إلى الكتاب والسنة من جهة عدم معرفتهم بما دل عليه الكتاب والسنة ولوازم ذلك، فيقال: من الوجوه الصحيحة أن ما نطق به الكتاب وبينه، أو ثبت بالسنة الصحيحة، أو اتفق عليه السلف الصالح فليس لأحد أن يعارضه، معقولا ونظرا أو كلاما، وبرهانا، وقياسا عقليا أصلا، بل كل ما يعارض ذلك فقد علم أنه باطل علما كليا عاما، وأما تفصيل العلم ببطلان ذلك فلا يجب كل كل أحد، دل يعلمه بعض الناس دون بعض، وأهل السنة الذين هم أهلها يردون ما عارض النص والإجماع من هذه، وإن زخرفت بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، قال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الانس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون} [الأنعام: 112] ، فأعداء النبيين دائما يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا". " وكذلك من الوجوه الصحيحة أن موارد النزاع لا تفصل بين المؤمنين إلا بالكتاب والسنة، وإن كان أحد المتنازعين يعرف ما يقوله بعقله، وذلك أن قوى العقول متفاوتة مختلفة، ومحميرا ما يشتبه المجهول بالمعقول، فلا يمكن أن يفصل بين المتنازعين قول شخص معين ولا معقوله، وإنما يفصل بينهم الكتاب المنزل من السماء، والرسول المبعوث المعصوم فيما بلغه عن الله تعالى، ولهذا يوجد من خرج عن الاعتصام بالكتاب والسنة من الطوائف فإنهم يفترقون ويختلفون {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك} [هود:119} ، وأهل الرحمة هم أهل الايمان والقرآن". ومن الوجوه الصحيحة أن معرفة الله بأسمائه وصفاته على وجه التفصيل لا تعلم إلا من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام: إما بخبره، وإما بخبره وتنبيهه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 ودلاله على الأدلة العقلية، ولهذا يقولون: لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصف به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، قال الله تعالى: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمدلله رب العالمين} [الصافات: 80 ا-182] " (1) . أما أمور المغيبات، مثل أخبار من سبق، أو أخبار الآخرة: أشراطها وأحوال اليوم الآخر وما فيه، والموازين والصراط والجنة والنار وتفاصيل ذلك، فهذا مما اتفق جميع أهل الإيمان على أنه مما يتلقى عن الوحي، فثبوتها والاقرار بها مبني على خبر المعصوم. " وبالجملة فينبغي للعاقل أن يعلم أن قيام دين الله في الأرض إنما هو بواسطة المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلولا الرسل لما عبد الله وحده لا شريك له، ولما علم الناس اكثر ما يستحقه سبحانه من الأسماء الحسنى والصفات العلى، ولا كانت له شريعة في الأرض، ولا تحسبن أن العقول لو تركت وعلومها التي تستفيدها بمجرد النظر عرفت الله معرفة مفصلة بصفاته وأسمائه على وجه اليقين، فإن عامة من تكلم في هذا الباب بالعقل فإنما تكلم بعد أن بلغه ما جاءت به الرسل واستصغى لذلك واستأنس به .... والقدر الذي يمكن العقل إدراكه بنظره فإن المرسلين- صلوات الله وسلامه عليهم- نبهوا الناس عليه وذكروهم به، ودعوهم إلى النظر فيه، حتى فتحوا أعينا عميا، وآذانا صما وقلوبا غلفا، والقدر الذي يعجز العقل عن إدراكه علموهم إياه وأنبأوهم به .... " (2) . ثالثا: منهجه في بيان العقيدة وتوضيحها : هناك فرق بين حالين، الحال الأولى: بيان العقيدة الإسلامية للناس والدعوة إليها، والحال الثانية: الرد على خصومها وبيان العقيدة الصحيحة من خلال ذلك،   (1) نقض أساس التقديس- المطبوع (1/247-248) . (2) الصارم المسلول (ص: 249- 250) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ففي الحال الأولى يجب ذكر العقيدة سليمة، صافية، بعيدة عن إثارة الشبهات أو أدلة الخصوم والرد عليها، وإنما تذكر أدلة القول الصحيح وتشرح وتوضح حتى يستقر الحق في النفوس- بعيدا عما يضاده من شبهات المخالفين-. أما في الحالة الثانية فلابد من دفع المعارض وبيان الحق من خلال المناقشة، وهذا ما فعله ابن تيمية، ففي الرسائل والأجوبة التى يسأل فيها عن العقيدة أو إحدى قضاياها- ولم يطلب السائل جواب شبهة واردة- ولا يعلم ابن تيمية من حاله حاجته إلى ذلك، يأتي الجواب بعرض عقيدة السلف بأدلتها واضحة صافية (1) ، وقد يجمع بين الطريقتين بأسلوب إجمالي يميل إلى تقرير الحق في الأمور المختلف فيها، كما فعل في رسالته العظيمة " الوصية الكبرى " (2) . ولتمييز مسألة إثبات الأسماء والصفات عن غيرها من جوانب العقيدة بأصول خاصة، سنفردها وحدها لبيان منهجه فيها، ولذا يمكن أن يكون منهجه عموما كما يلي: أ- منهجه في العقيدة عموما : 1- عرضها بأسلوب سهل ميسور، يفهمه الجميع، المتعلم وغير المتعلم وهذا ما فعله حين كتب " العقيدة الواسطية "، ففيها الوضوح والبعد عن أي نوع من أنواع التعقيد أو إثارة المشكلات، وقد تميز عرضه للعقيدة بما يلى: أ- عدم الدخول في متاهات أهل الكلام. ب- دعم ما يقول بالنصوص من الكتاب والسنة وأقوال السلف.   (1) من أمثلة ذلك العقيدة الواسطية، وقاعدة في توحيد الألوهية، أما ردوده على المخالفين وبيان عقيدة السلف من خلالها فأغلب كتبه على هذا المنهج، الذى سار عليه ابن تيمية بعد المناقشات والمحن التي مر بها، ورأى أنه لابد منه لايضاح الحق للناس. (2) وهي الوصية التي- كتبهاا إلى جماعة من أتباع عدى بن مسافر، عدى هو: عدى بن مسافر ابن إسماعيل الأموى الشامي الهكارى، من المتصوفة رافق أحمد البدوى وأحمد الرفاعي وعبد القادر الجيلاني وغيرهم، توفي سنة 557 هـ، انظر: البداية والنهاية (12/1432) ، ووفيات الأعيان (3/254) ، والنجوم الزاهرة (5/361) وللشيخ عدى عقيدة مطبوعة سار فيها على مذهب ومنهج الأشاعرة، انظرها (ص: 12) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 ج-- الشمول في بيان العقيدة، وبيان جميع أمورها، سواء منها ما يتعلق بالإيمان بالله وتوحيده وأسمائه وصفاته، أو الايمان بالرسالة وبقية أركان الأيمان من الإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر والقدر خيره وشره، أو ما يتعلق بالإيمان وما يشمله من القول والاعتقاد والعمل، أو ما يتعلق بالموقف من الصحابة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 000 (1) . 2- التركيز على اكبر المسائل وأهمها وهو توحيد الألوهية، والبعد عن الشرك بجميع أنواعه، وربطه ذلك بشهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله، فهاتان الشهادتان هما أصل دين الإسلام، يقول:" فهذا أصل عظيم على المسلم أن يعرفه فإنه أصل الإسلام الذى يتميز به أهل الإيمان من أهل الكفر، وهو الإيمان بالوحدانية والرسالة، شهادة أن لا إله إلا الله رأن محمدا رسول الله، وقد وقع كثير من الناس في الإخلال بحقيقة هذين الأصلين، أو أحدهما، مع ظنه أنه في غاية التحقيق والتوحيد، والعلم والمعرفة، فإقرار المشرك بأن الله رب كل شىء ومليكه وخالقه، لا ينجيه من عذاب الله، إن لم يقترن به إقراره بأنه لا إله إلا الله فلا يستحق العبادة أحد إلا هو، وأن محمدا رسول الله فيجب تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، فلابد من الكلام على هذين الأصلين: الأصل الأول: توحيد الإلهية ... الأصل الثاني: حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - " (2) . ودائما ما يركز على أنواع العبادة التي لا يجوز صرف شيء منها إلا لله تعالى، وخاصة أصول العبادة التي تحرك القلوب إلى الله تعالى وهي: المحبة والخوف والرجاء، يقول شيخ الإسلام: " ولابد من التنبيه على قاعدة تحرك القلوب إلى الله عز وجل، فتعتصم به، فتقل آفاتها وتذهب عنها بالكلية بحول الله وقوته فنقول: اعلم أن محركات القلوب إلى الله عز وجل ثلاثة: المحبة، والخوف، والرجاء، وأقواها المحبة، وهي مقصودة تراد لذاتها لأنها تراد في الدنيا والآخرة،   (1) انظر لما سبق " الواسطية. (2) التدمرية، مجموع الفتاوى (3/ 104-109) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 بخلاف الخوف فإنهة يزول في الآخرة قال الله تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [يونس: 62] ، والخوف المقصود منه الزجر والمنع من الخروج عن الطريق فالمحبة تلقى العبد في السير إلى محبوبه، وعلى قدر ضعفها وقوتها يكون سيره إليه، والخوف يمنعه أن يخرج عن طريق المحبوب، والرجاء يقوده، فهذا أصل عظيم يجب على كل عبد أن يتنبه له، فإنه لا تحصل له العبودية لدونه، وكل أحد يحب أن يكون عبدا لله لا لغيره " (1) . 3- بيان شروط قبول العمل: الإخلاص لله، والمتابعة لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك بأن لا يعبد إلا الله، وأن يعبد بما شرع رسوله وأمر لا بغير ذلك من البدع، وقد ركز على هذه القضية في جميع كتبه ودائما ما يعرج عليها لأنها من منطلقات العقيدة الأساسية (2) . 4- انتسابه إفى مذهب السلف لا إلى مذهب معين، يقول-رحمه الله- عن نفسه " مع أني في عمري إلى ساعتى هذه لم أدع أحدا قط في أصول الدين إفى مذهب حنبلي وغير حنبلي، ولا انتصرت لذلك، ولا أذكره في كلامي، ولا أذكر إلا ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمها " (3) ، ويقول: " فدين المسلمين مبني على اتباع كناب الله وسنة رسوله وما اتفقت عليه الأمة، فهذه الثلاثة هي أصول معصومة، وما تنازعت فيه الأمة ردوه إلى الله والرسول، وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصا يدعو إل طريقته ويوالي عليها ويعادي، غير النبى - صلى الله عليه وسلم -، ولا ينصب لهم كلاما يوالي عليه ويعادي غير كلام الله تعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع   (1) مجموع الفتاوى (1/95) ، وانظر: الوجوه التسعة التى بين بها توحيد الألوهية، فهى عظيمة جدا، وتدل على منهج تأصيلى عظيم، قاعدة في توحيد الألوهية، مجموع الفتاوى (1/20-32) . (2) انظر- على سبيل المثال-: رسالة العبودية، مجموع الفتاوى (10/ 172-174، 234) ، وبحموع الفتاوى (11/ 585، 28/ 177) ، والنبوات (ص: 126) ، وقاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 23 ا-25 1) ، و (ص: 138-58 1) ط المكتب الإسلامي، وجامع الرسائل " قاعدة في المحبة " (2/226) ، وتلخيص الاستغاثة (1/52. 75) ، والتدمرية، مجموع الفتاوى (3/124) . (3) مجموع الفتاوى (3/229) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً يفرقون بين الأمة، يوالون على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون ... " (1) ، ثم بين لماذا تحكى أقوال الأئمة وتنسب إلى أصحابها فقال:" والأقوال إذا حكيت عن قائلها أو نسبت الطوائف إلى متبوعها فإنما ذاك على سبيل التعريف والبيان، وأما المدح والذم والموالاة والمعاداة فعلى الأسماء المذكورة في القرآن العزيز كاسم المسلم والكافر، والمؤمن، والمنافق، والبر والفاجر، والصادق والكاذب، والمصلح والمفسد وأمثال ذلك، وكون القول صواباً أو خطأ يعرف بالأدلة الدالة على ذلك بالمعلومة بالعقل والسمع " (2) . أما نسبة مذهب أهل السنة إلى الإمام أحمد فقد سبق- في التمهيد عند الحديث عن نشأة أهل السنة - أن نقلنا نصاً عن ابن تيمية يبين السبب في نسبته إلى الإمام احمد وأن مذهب السلف قديم قبل الأئمة الأربعة. ولكن لما امتحن فيه الإمام احمد نسب إليه، ويقول في نص آخر:" والاعتقاد إنما أضيف إلى الإمام أحمد لأنه أظهره وبينه عند ظهور البدع، وإلا فهو كتاب الله وسنة رسوله، حط أحمد منه كحظ غيره من السلف: معرفته والإيمان به، وتبليغه والذب عنه، كما قال بعض أكابر الشيوخ: الاعتقاد لمالك والشافعي ونحوهما من الأئمة، والظهور لأحمد بن حنبل ... [ثم قال:] وأئمة السنة ليسوا مثل أئمة البدعة، فإن أئمة السنة تضاف السنة إليهم لأنهم مظاهر بهم ظهرت، وأئمة البدعة تضاف إليهم لأنهم مصادر عنهم صدرت ... " (3) ، ويقول أيضاً:" فإن احمد بن حنبل لم يبتدع من عنده شيئاً ولكن كان أعلم زمانه بما أنزل الله على رسوله، وما كان عليه الصحابة والتابعون، وكان اتبع الناس لذلك، وابتلي بالمخالفين من أهل الأهواء ومناظرتهم بالخطاب والكتاب والرد عليهم، فأظهر من علوم السلف ما هو متبع فيه كسائر الأئمة قبله، وما من قول يقوله إلا وقد قاله بلفظه أو بمعناه ما شاء الله قبله وفي زمانه، وعلى ذلك من الدلائل ما شاء الله،   (1) درء التعارض (1/272) (2) درء التعارض (1/273) (3) نفس المصدر (5/ 5-6) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 فلهذا اتخذته الأمة إماماً، لأن الله تعالى يقول: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] وكان الإمام أحمد-رحمه الله- تعالى - ممن آتاه الله الصبر واليقين بآيات الله ما استحق به الإمامة حتى اشتهر ذلك عند الخاصة والعامة، فصار لفظ الإمامة مقروناً باسمه أكثر وأشهر مما يقترن باسم غيره" (1) ، وابن تيمية وهو يقول هذا الكلام كان يتهم بأنه حنبلي وأنه يسير على اعتقاد الحنابلة الذين كثيراً ما يتهمهم أعداؤهم بأنهم مجسمة مشبهة، وقد أجاب ابن تيمية عن هذا بأن اتباع الإمام أحمد من الحنابلة أقل انحرافاً من غيرهم، وما فيهم من انحراف ففي غيرهم ما هو أشد منه، ثم تبين أن الحنابلة منهم من كان على مذهب الإمام أحمد وأهل السنة، لكن أيضاً من كان يميل إلى التفويض، أو مذهب الأشاعرة، أو مذهب المعتزلة فهم كغيرهم من الطوائف، وانتسابهم إلى الإمام أحمد لا يكفي لأن يكونوا على وفق مذهب السلف ما لم تكن أقوالهم كذلك (2) . 5- التركيز على بيان وسطية مذهب السلف، وكثراً ما يبنيها على وسطية أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بخصائص ميزه الله بها على جميع الأنبياء والمرسلين، وجعل له شرعة ومنهاجاً، أفضل شرعة وأكمل منهاج مبين، كما جعل أمته خير أمة أخرجت للناس فهم يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله من جميع الأجناس، هداهم الله بكتابه ورسوله لما اختلفوا فيه من الحق قبلهم، وجعلهم وسطاً عدلاً خياراً، فهم وسط في توحيد الله وأسمائه وصفاته وفي الإيمان برسله وكتبه وشرائع دينه من الأمر والنهي والحلال والحرام ... [ثم ذكر أمثلة ثم قال:] "وأهل السنة والجماعة في الإسلام كأهل الإسلام في أهل الملل: فهم وسط في باب صفات الله عز وجل، بين أهل الجحد والتعطيل، وبين أهل التشبيه والتمثيل.. وهم وسط في باب أفعال الله عز وجل بين المعتزلة المكذبين بالقدر،   (1) نقض أساس التقديس- المخطوط (3/98) ، وانظر في نفس الموضوع نقض أساس التقديس المطبوع (2/91) ، ومجموع الفتاوى (6/ 214-215) . (2) انظر: درء التعارض (10/257-258) ، ونقض أساس التقديس المطبوع (2/90-92) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 والجبرية النافين لحكمة الله ورحمته وعدله، والمعارضين بالقدر أمر الله ونهيه وثوابه وعقابه، وفي باب الوعد والوعيد: بين الوعيدية الذين يقولون بتخليد عصاة المسلمين في النار، وبين المرجئة الذين يجحدون بعض الوعيد وما فضل الله به الأبرار على الفجار، وهم وسط في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الغالي في بعضهم الذي يقول فيه بألهية أو نبوة أو عصمة، والجافي فيهم، الذي يكفر بعضهم أو يفسقه وهم خيار الأمة" (1) ، وبين أن كل طائفة من الطوائف من غير أهل السنة لا ينفردون بحق، بل كل من كان معه شيء من الحق ففي أهل السنة والجماعة من يقول به (2) . 6- وعند الحاجة إلى ذكر أقوال المخالفين، فلا بد من المذهب الصحيح المستنبط من الكتاب والسنة، أولاً، وذكر أقوال المخالفين في ضمن ذلك، يقول في مقدمة كتاب "الإيمان":" ونحن نذكر ما يستفاد من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع ما يستفاد من كلام الله تعالى، فيصل المؤمن إلى ذلك من نفس كلام الله ورسوله، فإن هذا هو المقصود، فلا نذكر اختلاف الناس ابتداء، بل نذكر من ذلك - في ضمن بيان ما يستفاد من كلام الله ورسوله - ما يبين أن رد موارد النزاع إلى الله وإلى رسوله خير وأحسن تأويلاً، وأحسن عاقبة في الدنيا والآخرة" (3) . وقد طبق هذا المنهج في كتابه هذا. ب- منهجه في الأسماء والصفات : لما كانت هذه المسألة من أعظم المسائل التي خاض فيها الناس واضطربت فيها أقوالهم، خاصة وأنها تتعلق بالله تعالى وما ينبغي له من صفات الكمال   (1) الجواب الصحيح (1/806) ، وانظر: أيضاً (1/230-235) ، وأيضاً (1/292-293) ، وأيضاً (2/52-53) . (2) انظر: منهاج السنة (3/44) ، وانظر في بيان وسطية أهل السنة: الواسطية- مجموع الفتاوى (3/141) ، والوصية الكبرى-مجموع الفتاوى (3/373-375) . (3) الإيمان (ص:1) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وما ينبغي أن ينزه عنه من صفات النقص، فقد حرص شيخ الإسلام ابن تيمية من خلال مناقشاته أن يؤصل أصولاً ينطلق منها المسلم في بحث هذا الموضوع الخطير، لأن الخطأ والزلل فيه ليس كغيره من المسائل، وكان يركز في دروسه على مثل هذه الأصول حتى أن بعض تلاميذه طلبوا منه أن يكتب لهم هذه القواعد لشعورهم بأهميتها وحاجاتهم إليها، فكتب الرسالة التدمرية، التي تعتبر خلاصة متينة وقوية لما قرره ابن تيمية في كتبه المطولة الأخرى: ويمكن أن نلخص منهجه في هذا الباب بما يلي: 1- إن الأصل في باب الأسماء والصفات أن يوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومعناه أن يقتصر على ما جاء به الكتاب والسنة فهما المصدران الأساسان في هذا الأمر المتعلق بذات الله تعالى وما له من صفات الجلال والكمال، يقول شيخ الإسلام:" وأصل دين المسلمين أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه في كتبه وبما وصفه به رسله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكيف ولا تمثيل، بل يثبتون له تعالى ما أثبته لنفسه، وينفون عنه ما نفاه عن نفسه، ويتبعون في ذلك أقوال رسله، ويجتنبون ما خالف أقوال الرسل كما قال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات:180] أي عما يصفه الكفار المخالفون للرسل {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:181] لسلامة ما قالوه من النقص والعيب {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:182] ، فالرسل وصفوا الله بصفات الكمال، ونزهوه عن النقائص المناقضة للكمال، ونزهوه عن أن يكون له مثل في شيء من صفات الكمال، وأثبتوا له صفات الكمال على وجه التفصيل، ونفوا عنه التمثيل" (1) . والسلف - رحمهم الله تعالى - ساروا على هذا الأصل، فجاء مذهبهم في الأسماء والصفات مبنياً على إثبات ما أثبته الله ورسوله، ونفي ما نفاه الله ورسوله، ويركز شيخ الإسلام كثيراً على منهجهم هذا، ولذلك ذكر منهجه   (1) الجواب الصحيح (3/139-140) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 في نقل كلامهم وطبقه في كتبه، يقول:" فإنا لما أردنا أن نبين مذهب السلف ذكرنا طريقين: أحدهما: أنا ذكرنا ما تيسر من ذكر ألفاظهم، ومن روي ذلك من أهل العلم بالأسانيد المعتبرة. والثاني: أنا ذكرنا من نقل مذهب السلف من جميع طوائف المسلمين من طوائف المسلمين من طوائف الفقهاء الأربعة، ومن أهل الحديث، والتصوف وأهل الكلام كالأشعري وغيره. فصار مذهب السلف منقولاً بإجماع الطوائف وبالتواتر، لم نثبته بمجرد دعوى الإصابة لنا والخطأ لمخالفنا كما يفعل أهل البدع (1) ، ويقول عن السلف: " فقولهم في الصفات مبني على أصلين: أحدهما: أن الله تعالى منزه عن صفات النقص مطلقاً كالسنة والنوم والعجز والجهل وغير ذلك. والثاني: أنه متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها على وجه الاختصاص بما له من الصفات، فلا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات" (2) ، بل إن شيخ الإسلام استقصى أقوال السلف فلم يجد ما يخالف ما ذكره عنهم يقول" والله تعالى يعلم أني قد بالغت في البحث عن مذاهب السلف فما علمت أحداً منهم خالف ذلك" (3) ، ومواضع نقله لمذهب السلف إجمالاً أو تفصيلاً منتشر في كتبه ورسائله رحمه الله (4) .   (1) مجموع الفتاوى (4/152) ، والمتتبع لكتب ابن تيمية كالحموية، ودرء تعارض العقل والنقل، وغيرهما يرى تطبيقه امنهجه هذا واضحاً. (2) منهاج السنة: تحقيق - رشاد سالم - (2/427) . (3) التسعيني (ص:126) . (4) انظر: مجموع الفتاوى (6/515، 4/2-8، 3/3-4) ،" التدمرية" أيضاً (11/479-480) ، الحموية مجموع الفتاوى (5/26-27،45) ، الواسطية، مجموع الفتاوى (3/129-130) ، ومجموع الفتاوى (5/195،263، 12/574-575) ، ومنهاج السنة: المحققة (2/80) ، ونقض المنطق (ص:2-7) ، وشرح الأصفهانية (ص:9) وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 2- إن الرسل جاءوا بإثبات مفصل ونفي مجمل، فأثبتوا لله صفات الكمال على وجه التفصيل، ونفوا عنه صفات النقص على وجه الإجمال، على الضد من أهل البدع، وقد أوضح ابن تيمية هذه المسألة - في مناسبات عديدة - يقول -رحمه الله- "والرسل عليهم صلوات الله جاءوا بإثبات مفصل ونفي مجمل، وهؤلاء ناقضوهم جاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل، بأن الرسل أخبرت كما أخبر الله في كتابه الذي بعث به رسوله أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه حكيم عزيز، غفور ودود، وأنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، وأنه كلم موسى تكليماً، وتجلى للجبل فجعله دكا، وأنه أنزل على عبده الكتاب، إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته، وقال في النفي والتنزيه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] ، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] ، وهؤلاء الملاحدة جاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل، فقالوا في النفي: ليس بكذا ولا كذا ولا كذا فلا يقرب من شيء، ولا يقرب منه شيء، ولا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا له كلام يقوم به، ولا له حياة، ولا علم ولا قدرة، ولا غير ذلك، ولا يشار إليه ولا يتعين ولا هو مباين للعالم ولا حال فيه، ولا داخله ولا خارجه، إلى أمثال العبارات السلبية التي لا تنطبق إلا على المعدوم، ثم قالوا في الإثبات: هو وجود مطلق، أو وجود مقيد بالأمور السلبية، وقالوا: لا تقول موجود ولا معدوم ... " (1) . ويقول:" مما يبين أن طريقة أتباع الأنبياء من أهل السنة هي الموصلة إلى الحق دون طريقة من خالفهم من الفلاسفة والمتكلمين: إن المقصود هو العلم، وطريقه هو الدليل، والأنبياء جاءوا بالإثبات المفصل والنفي المجمل، كإثبات الصفات لله مفصلة ونفي الكفؤ عنه، والفلاسفة يجيئون بالنفي المفصل: ليس بكذا ولا كذا، فإذا جاء الإثبات أثبتوا وجوداً مجملاً واضطربوا في أول مقامات ثبوته ... " (2) . وهذه هي القاعدة العامة الغالبة، وإلا فقد يرد في النصوص الإثبات المجمل والنفي المفصل، كنفي الصاحبة والولد - كما سيأتي في الفقرة التالية.   (1) الصفدية (1/116-117) . (2) مجموع الفتاوى (6/66) ، وانظر (ص36-37، 66-67،115) ، وانظر: التدمرية = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 3- إن النفي الذي وصف الله تعالى به، هو ما تضمن إثبات كمال الله تعالى، وهو النفي غير المحض، أما النفي المحض - الذي لا يتضمن إثباتاً - فلم يوصف الله تعالى به، يقول شيخ الإسلام في معرض رده على نفاة الرؤية في احتجاجهم بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام:103] :" ومما يبين ذلك أن الله تعالى ذكر هذه الآية يمدح بها نفسه سبحانه وتعالى، ومعلوم أن كون الشيء لا يرى ليس صفة مدح، لأن النفي المحض لا يكون مدحاً إن لم يتضمن أمراً ثبوتياً، لأن المعدوم أيضاً لا يرى، والمعدوم لا يمدح، فعلم أن مجرد نفي الرؤية لا مدح فيه، وهذا أصل مستمر، وهو أن العدم المحض الذي لا يتضمن ثبوتاً لا مدح فيه ولا كمال، فلا يمدح الرب نفسه به، ولا يصف نفسه به، وإنما يصفها بالنفي المتضمن معنى ثبوت كقوله {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} وقوله {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِه} وقوله {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} وقوله {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] وقوله {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْض} [سبأ:3] وقوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [قّ:38] ونحو ذلك من القضايا السلبية التي يصف الرب تعالى بها نفسه، وأنها تتضمن اتصافه بصفات الكمال الثبوتية، مثل كمال حياته وقيوميته، وملكه وقدرته وعلمه وهدايته، وانفراده بالربوبية والإلهية ونحو ذلك، وكل ما يوصف به العدم المحض فلا يكون إلا عدماً محضاً، ومعلوم أن العدم المحض يقال فيه: إنه لا يرى، فعلم أن نفي الرؤية عدم محض، ولا يقال في العدم المحض: لا يدرك، وإنما يقال هذا فيما لا يدرك لعظمته لا لعدمه" (1) ، ويقول في الرد على النفاة القائلين برفع النقيضين، الذين يقولون لا داخل العالم ولا خارجه ونحو ذلك: " ومما يبين هذا أن الصفات السلبية ليس فيها بنفسها مدح، ولا توجب كمالاً   (1) مجموع الفتاوى (3/35) ، وأيضاً (20/111-112) ، والنبوات (ص225) ، ودرء التعارض (5/163-164، 6/348) ، والتسعينية (ص13) ، واقتضاء الصراط المستقيم (2/853) ، ونقض أساس التقديس المخطوط (1/121-122) . (1) منهاج السنة: المحققة (2/244-245) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 للموصوف، إلا أن تضمن أمراً وجودياً كوصفه سبحانه بإنه لا تأخذه سنة ولا نوم، فإنه يتضمن كمال حياته وقيوميته، وكذلك قوله تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [قّ:38] متضمن كمال قدرته، وقوله: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْض} [سبأ:3] يقتضي كمال علمه، وكذلك قوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام:103] يقتضي عظمته بحيث لا تحيط به الأبصار، وكذلك نفي المثل والكفؤ عنه يقتضي أن كل ما سواه فإنه عبد مملوك لهن وذلك يقتضي من كماله مالا يحصل إذا كان له نظير مستغن عنه مشارك له في الصنع، فإن ذلك نقص في الصانع، فأما العدم المحض، والنفي الصرف، مثل كونه لا يمكن رؤيته بحال، وكونه لا مبايناً للعالم ولا مداخلاً له، فإن هذا أمر يوصف به المعدوم، والمعدوم المحض لا يتصف بصفة كمال ولا مدح ولهذا كان تنزيه الله تعالى بقوله" سبحان الله" يتضمن مع نفي صفات النقص عنه إثبات ما يلزم ذلك من عظمته، فكان التسبيح تعظيم له مع تبرئته من السوء" (1) ويوضح هذا في التدمرية في القاعدة الأولى فيقول:" وينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال، إلا إذا تضمن إثباتاً، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا ككمال، لأن النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء، وما ليس بشيء هو كما قيل ليس بشيء، فضلاً عن أن يكون مدحاً أو كمالاً، ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال ... [ثم ذكر أمثلة، ثم قال:] ... فالذين لا يصفونه إلا بالسلوب لم يثبتوا في الحقيقة إلهاً محمودا، بل ولا موجودا، وكذلك من شاركهم في بعض ذلك كالذين قالوا: إنه لا يتكلم، أو لا يرى، أو ليس فوق العالم، أو لم يستو على العرش، ويقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا مباين للعالم ولا محايث له؛ إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم، وليست مستلزمة صفة الثبوت" (2) .   (1) درء التعارض (6/176-177) . (2) التدمرية: تحقيق السعوي (ص57-60) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 وهكذا يتضح الفرق بين منهج أهل البدع في النفي الذي يصفون الله به، وبين منهج القرآن في النفي، فنفي أهل البدع يتضمن نقصاً لأنهم يسلبون عنه صفات المدح والوجود، والنفي الوارد إنما يتضمن إثبات كمال ضد المنفي وهو صفات الكمال لله تعالى (1) . 4- إن ما لم يرد في النصوص إثباته ولا نفيه فيجب التوقف فيه، والاستفصال عنه، وعن معناه، فإن كان المراد به حقاً موافقاً للنصوص ولا يعارضها قبل، وإلا رد، يقول شيخ الإسلام:" كل لفظ أحدثه الناس فأثبته قوم ونفاه آخرون فليس علينا أن نطلق إثباته ولا نفيه حتى نفهم مراد المتكلم، فإن كان مراده حقاً موافقاً لما جاءت به الرسل والكتاب والسنة من نفي أو إثبات قلنا به، وإن كان باطلاً مخالفاً لما جاء به الكتاب والسنة من نفي أو إثبات منعنا القول به" (2) ، ويقسم الألفاظ - إلى نوعين فيقول:" ومن الأصول الكلية أن يعلم أن الألفاظ نوعان: نوع جاء به الكتاب والسنة، فيجب على كل مؤمن أن يقر بموجب ذلك، فيثبت ما أثبته الله ورسوله، وينفي ما نفاه الله ورسوله، فاللفظ الذي أثبته الله أو نفاه حق، فإن الله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والألفاظ الشرعية لها حرمة، ومن تمام العلم أن يبحث عن مراد رسوله بها ليثبت ما أثبته، وينفي ما نفاه من المعاني، فإنه يجب علينا أن نصدقه في كل ما أخبر، ونطيعه في كل ما أوجب وأمر، ثم إذا عرفنا تفصيل ذلك كان ذلك من زيادة العلم والإيمان وقد قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] وأما الألفاظ التي ليست في الكتاب والسنة، ولا اتفق السلف على نفيها أو إثباتها فهذه ليس على أحد أن يوافق من نفاها أو أثبتها حتى يستفسر عن مراده، فإن أراد بها معنى يوافق خبر الرسول أقر به،   (1) انظر: في هذه المسألة أيضاً: درء التعارض (10/291) ، والجواب الصحيح (2/105) ، ونقض التأسيس المطبوع (2/97) ، ومجموع الفتاوى (16/99) ، وجواب أهل العلم والإيمان، ومجموع الفتاوى (17/144) . (2) مجموع الفتاوى (6/36-37) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وإن أراد بها معنى يخالف خبر الرسول أنكره، ثم التعبير عن تلك المعاني إن كان في ألفاظه اشتباه أو إجمال عبر بغيرها، أو بين مراده بها، بحيث يحصل تعريف الحق بالوجه الشرعي، فإن كثيراً من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة ومعان مشتبهة" (1) ، ويوضح في موضع آخر فيقول:" وبالجملة بمعلوم أن الألفاظ نوعان: نوع ورد في الكتاب والسنة أو الإجماع، فهذا اللفظ يجب القول بموجبه سواء فهمنا معناه أو لم نفهمه؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يقول إلا حقاً والأمة لا تجتمع على ضلالة، والثاني: لفظ لم يرد به دليل شرعي، كهذه الألفاظ التي تنازع فيها أهل الكلام والفلسفة، هذا يقول: هو متحيز، وهذا يقول: ليس بمتحيز، وهذا يقول: هو في جهة، هذا يقول: ليس هو في جهة، وهذا يقول: هو جسم أو جوهر، وهذا يقول: ليس بجسم ولا جوهر، فهذه الألفاظ ليس على أحد أن يقول فيها بنفي ولا إثبات حتى يستفسر المتكلم بذلك، فإن بين أنه أثبت حقاً أثبته، وإن أثبت باطلاً رده، وإن نفى باطلا نفاه، وإن نفى حقا لم ينفع، وكثير من هؤلاء يجمعون في هذه الأسماء بين الحق والباطل في النفي والإثبات" (2) ، والألفاظ المجملة كثيرة جداً، منها لفظ" الحلول" (3) ، والتركيب (4) ، والافتقار (5) ،   (1) مسألة الأحرف، مجموع الفتاوى (12/113-114) . (2) في النصوص السابقة مثل ابن تيمية للألفاظ المجملة ب-" الجهة، والتحيز، والتجسيم"، وانظر: التدمرية (ص65-68) المحققة، ومجموع الفتاوى (6/38-40، 7/663) ، والجواب الصحيح (3/84) .. (3) أي ما يتوهم أن فيه حلولا مثل قول أبي بن كعب في قوله (مثل نوره) "النور35" قال: مثل نوره في قلب المؤمن " تفسير الطبري" (18/136) حلبية، وحديث" اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " رواه الترمذي - في التفسير - سورة الحجر ورقمه (3127) ، وقال غريب، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، كما ضعفه محقق جامع الأصول (1/206) ، فالنصارى غلوا في " الحلول "، وقابلهم آخرون فأنكروا هذا الاسم بجميع ما فيه وكلا الأمرين باطل، انظر: الجواب الصحيح (1/87،117-118) (4) لأن من شبه نفاة الصفات قولهم يلزم من إثباتها لله التركيب، انظر: الرد على المنطقيين (ص222-229) ونصوص ابن تيمية في ذلك كثيرة جداً. (5) مثل قول النفاة: إن المركب مفتقر إلى أجزائه، وينفون الصفات لذلك، انظر: منهاج السنة - المحققة - (2/434-435) ، ونقض أساس التقديس المطبوع (2/132) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 و" المناسبة " (1) ، و" الغير " (2) ، ولفظ" ذات" (3) ، و"الجزء" (4) ، وغيرها. 5- عدم العلم بالكيفية والبعد عن التشبيه، فالصفات تثبت لله تعالى لورود النصوص بها، والله تعالى أراد أن يعرفنا بنفسه وبما له من صفات الجلال والكمال، فنحن نثبت ما ورد ونفهم المعاني، ولكن كيفية هذه الصفات لا يعلمها إلا الله تعالى، فلا يجوز أن نكيفها، كما أنه لا يجوز أن نشبهها بصفات أحد من الخلق، ولذلك يذكر شيخ الإسلام - وغيره من السلف - مع الإثبات ما يقيده أنه إثبات بلا تكييف ولا تمثيل، فكما أنه يجب الإثبات مع عدم التعطيل أو التأويل أو التحريف، فكذلك أيضاً لا يجوز أن يؤدي نفي هذه الأمور إلى الطرف المقابل من التكييف أو التمثيل، وهذا مبني على قاعدة وهي أنه كما أن لله ذاتاً لا تشبه ذوات المخلوقين فكذلك له صفات لا تشبه صفات المخلوقين، يقول شيخ الإسلام:" وحدث مع الجهمية قوم شبهوا الله تعالى بخلقه فجعلوا صفاته من جنس صفات المخلوقين، فأنكر السلف والأئمة على الجهمية المعطلة، وعلى المشبهة الممثلة" (5) ، وقد حرص السلف على البعد عن التشبيه كحرصهم على البعد عن التعطيل، والشيطان يأتي الإنسان من جهة التشبيه والتمثيل فإذا عجز عنه أتاه من جهة التعطيل، نقل شيخ الإسلام عن عمرو بن عثمان المكي (6) أنه قال:   (1) قال نفاة صفة "المحبة" إنها مناسبة بين المحب والمحبوب، ومناسبة الرب للخلق نقص، انظر الرسالة الأكملية، مجموع الفتاوى (6/69،114-115) . (2) مثل مسألة: هل الاسم هو المسمى أو غيره؟، أو هل الكلام هو المتكلم أو غيره؟ أو هل الصفة هي الموصوف أو غيره؟ انظر: الجواب الصحيح (2/154) ، ومجموع الفتاوى (12/560) ، ونقض أساس التقديس المطبوع (2/129-132) . (3) هل يطلق لفظ "ذات" على النفس، أم لم ترد إلا مضافة فيقال ذات علم وقدرة، ثم هل الذات تكون من غير أن تقوم بها صفات؟ انظر: الرسالة الأكملية، مجموع الفتاوى (6/98-99) ، وأيضاً (6/341-342) ، ودرء التعارض (4/140، 10/157) . (4) ومثله البعض، لأن نفاة الصفات يقولون: إن مثبتة الصفات التزموا القول بالأجزاء والأبعاض إذا أثبتوا اليدين والوجه والقدم وغيرها، انظر: نقض أساس التقديس المطبوع (1/47، 49-52) . (5) مجموع الفتاوى (6/35) . (6) هو: عمرو بن عثمان بن كرب بن غصص أبو عبد الله المكي، أحد المشايخ الصوفية توفي سنة 297هـ، وقيل غير ذلك، انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص200) ، وحلية الأولياء (10/291) ، وتاريخ بغداد (12/223) ، والعقد الثمين (6/410-411) ترجم له مرتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 "اعلم رحمك الله أن كل ما توهمه قلبك أو سنح في مجاري فكرك أو خطر في معارضات قلبك من حسن أو بهاء أو ضياء أو إشراق أو جمال، أو شبح ماثل (1) أو شخص متمثل، فالله تعالى بغير ذلك، بل هو تعالى أعظم وأجل وأكبر، ألا تسمع لقوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] أي لا شبيه ولا نظير ولا مساوي ولا مثل، أو لم تعلم أنه لما تجلى للجبل تدكدك لعظم هيبته، وشامخ سلطانه؟ كذلك لا يتوهمه أحد إلا هلك، فرد بما بين الله في كتابه من نفسه عن نفسه التشبيه والمثل والنظير والكفؤ، فإن اعتصمت بها وامتنعت منه [أي الشيطان] أتاك من قبل التعطيل لصفات الرب تعالى وتقدس؛ في كتابه وسنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال لك: إذا كان موصوفاً بكذا أو وصفته أوجب له التشبيه فأكذبه لأنه اللعين غنما يريد أن يستزلك ويغويك ويدخلك في صفات الملحدين الزائفين الجاحدين لصفة الرب تعالى " (2) ، وعندما يذكر شيخ الإسلام جمل أقوال الطوائف في الصفات يذكر المشبهة مع المنحرفين يقول:" أما باب الصفات والتوحيد، فالنفي فيه في الجملة قول الفلاسفة والمعتزلة وغيرهم من الجهمية .... والإثبات في الجملة مذهب الصفاتية من الكلابية والأشعرية والكرامية وأهل الحديث وجمهور الصوفية والحنبلية والمالكية والشافعية إلا الشاذ منهم وكثير من الحنفية أو أكثرهم وهو قول السلفية (3) ، لكن الزيادة في الإثبات إلى حد التشبيه هو قول الغالية من الرافضة، ومن جهال أهل الحديث وبعض المنحرفين، وبين نفي الجهمية وإثبات المشبهة مراتب" (4) .   (1) في الأصل: أو سنح مسائل والتصويب من حلية الأولياء (10/291) . (2) مجموع الفتاوى (5/62-63) وهذا النص نقله ابن تيمية من كتابه " التعرف بأحوال العباد والمتعبدين " وأورد مترجموه كلاما قريبا من هذا أجاب به سائلا، انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص202) وتاريخ بغداد (12/224) وحلية الأولياء (10/291) والعقد الثمين (6/412) . (3) كذا ولعل الصواب " السالمية ".. (4) مجموع الفتاوى (6/51) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 6- قاعدة "الكمال" أو ما يسميه أحيانا "قياس الأولى"، وقد شرح ذلك في مناسبات مختلفة، لكنه أفرد لذلك رسالة عظيمة نافعة، أجاب فيها على سؤال ورد عليه، وصيغة السؤال الطويل - الذي ورد في ثلاث صفحات - تدل على أن صاحبه من العلماء أو من طلبة العلم ممن ليس مبتدئا في هذا الشأن. وقد جاء جواب شيخ الإسلام واضحا ومقعدا، يقول -رحمه الله-: الجواب عن هذا السؤال مبني على مقدمتين: إحداهما: أن يعلم أن الكمال ثابت لله، بل الثابت له هو أقصى ما يمكن من الأكملية، بحيث لا يكون وجود كمال لا نقص فيه إلا وهو ثابت للرب تعالى، يستحقه بنفسه المقدسة، وثبوت ذلك مستلزم نفي نقيضه، فثبوت الحياة يستلزم نفي الموت، وثبوت العلم يستلزم نفي الجهل، وثبوت القدرة يستلزم نفي العجز، وغن هذا الكمال ثابت له بمقتضى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية، مع دلالة السمع على ذلك، ودلالة القرآن على الأمور نوعان: أحدهما: خبر الله الصادق، فما أخبر الله ورسوله به فهو حق كما أخبر الله به، والثاني: دلالة القرآن بضرب الأمثال وبيان الأدلة العقلية الدالة على المطلوب، فهذه دلالة شرعية عقلية، فهي شرعية لأن الشرع دل عليها، وأرشدنا إليها، وعقلية: لأنها تعلم صحتها بالعقل، ولا يقال: إنها لم تعلم إلا بمجرد الخبر، وإذا أخبر الله بالشيء ودل عليه بالدلالات العقلية صار مدلولا عليه بخبره، ومدلولا عليه بدليله العقلي الذي يعلم به، فيصير ثابتا بالسمع والعقل، وكلاهما داخل في دلالة القرآن التي تسمى "الدلالة الشرعية"، وثبوت "معنى الكمال" قد دل عليه القرآن بعبارات متنوعة، دالة على معاني متضمنة لهذا المعنى، فما في القرآن من إثبات الحمد له، وتفصيل محامده، وإن له المثل الأعلى، وإثبات معاني أسمائه ونحو ذلك دال على هذا المعنى" (1) ، ثم شرح ذلك وذكر الأدلة العقلية والشرعية عليه، فذكر لفظ "الكامل" وهل ورد - والخلاف حوله - وأدلة إثبات العقل للكمال لله من وجوه، والمثل الأعلى، وأدلة الشرع على ذلك، ودلالة إثبات أن الحمد لله "الحمد" وأنه "حميد مجيد" على ذلك (2) ، ثم قال:   (1) الرسالة الأكملية، مجموع الفتاوى (6/71-72) . (2) انظر نفس الرسالة (6/72-84) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 "أما المقدمة الثانية " فنقول: لابد من اعتبار أمرين: أحدهما: أن يكون الكمال ممكن الوجود. الثاني: أن يكون سليما من النقص، فإن النقص ممتنع على الله (1) .ثم يجيب عن السؤال الذي يرد حول هذه القاعدة وهو: أن النقص والكمال من الأمور النسبية، فالأكل والشرب والنكاح كمال للمخلوق نقص للخالق والكبر والتعاظم والثناء على النفس نقص للمخلوق كمال للخالق، فيقول:" وأما الشرط الآخر وهو قولنا: الكمال الذي لا يتضمن نقصا - على التعبير بالعبارة السديدة - أو الكمال الذي لا يتضمن نقصا يمكن انتقاؤه - على عبارة من يجعل ما ليس بنقص نقصا -، فاحترز عما هو لبعض المخلوقات كمال دون بعض، وهو نقض بالإضافة إلى الخالق لاستلزامه نقصا، كالأكل والشرب مثلا، فإن الصحيح الذي يشتهي الأكل والشرب من الحيوان أكمل من المريض الذي لا يشتهي الأكل والشرب، لأن قوامه بالأكل والشرب، فإذا قدر غير قابل له كان ناقصا عن القابل لهذا الكمال، لكن هذا يستلزم حاجة الآكل والشارب إلى غيره، وهو ما يدخل فيه الطعام والشراب، وهو مستلزم الخروج شيء منه كالفضلات، وما لا يحتاج إلى دخول شيء فيه أكمل مما يحتاج إلى دخول شيء فيه، وما يتوقف كماله على غيره أنقص مما لا يحتاج في كماله إلى غيره، فإن الغني عن الشيء أعلى من الغني به، والغني بنفسه أكمل من الغني بغيره، ولهذا كان من الكمالات ما هو كمال للمخلوق وهو نقص بالنسبة إلى الخالق، وهو: كل ما كان مستلزما لامكان العدم عليه المنافي لوجوبه وقيوميته، أو مستلزما للحدوث المنافي لقدمه، أو مستلزما لفقره المنافي لغناه" (2) . 7- وهناك قواعد أخرى - في منهجه - نشير إليها هنا سترد إن شاء الله مفصلة في موقفه من الأشاعرة في الصفات. ومنها:   (1) الرسالة الأكملية، مجموع الفتاوى (6/85) . (2) انظر نفس الرسالة (6/87) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 أ - القول في الصفات كالقول في الذات. ب- القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر. ج- الاشتراك في الاسم والصفة بين الله وخلق لا يقتضي التماثل. د- حجية خبر للآحاد. هـ- إثبات السلف للصفات ليس تفويضا للمعنى. وغيرها. رابعا: منهجه في الرد على الخصوم : واجه شيخ الإسلام خصوما كثيرين، ويجمعهم أنهم المخالفون لمذهب السلف ولذلك تنوعوا حسب الفرق والطوائف المشهورة، فإضافة إلى الأشاعرة كان هناك من هو أشد انحرافا منهم، ولذلك رد شيخ الإسلام على جميع الطوائف تقريبا، ابتداء بملاحدة الفلسفة والتصوف والباطنيين والرافضة إلى أصحاب المقالات المنحرفة في جانب أو جوانب العقيدة. وكان منهجه في الرد عليهم يقوم على أساسين بارزين: أحدهما: بيان حال الخصوم من أهل البدع والانحراف، وشرح مناهجهم وخلفياتهم لأن الحكم عليهم ونقض أقوالهم لابد أن يكون مبنيا على المعرفة بأحوالهم. والثاني: رده عليهم، وكان له في ذلك منهج واضح، ولذا سنعرض لمنهجه في الرد على الخصوم من خلال هذين الأمرين: أ - بيان حال الخصوم : 1- ينطلق شيخ الإسلام - في البداية - إلى وجوب بيان حال أهل البدع، وإن ذلك لا يعتبر من الغيبة، يقول في بيان ما يباح منها:" وكذلك بيان أهل العلم لمن غلط في رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتعمد الكذب عليه، أو على من ينقل عنه العلم، وكذلك بيان من غلط في رأي رآه في أمر من أمور الدين من المسائل العلمية والعملية فهذا إذا تكلم فيه الإنسان بعلم وعدل، وقصد النصيحة فالله تعالى يثيبه على ذلك، لا سيما إذا كان المتكلم فيه داعيا إلى بدعة فهذا يجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 بيان أمره للناس فإن دفع شره عنهم أعظم من دفع شر قاطع الطريق" (1) ، وفي موضع آخر يركز على أئمة أهل البدع ووجوب بيان حالهم وإن ذلك ليس بغيبة يقول:" ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة، أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة، فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين، حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف فغنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل، فبين أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله، إذ تطهير سبيل ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعا، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء" (2) . ولقد كان إحساس شيخ الإسلام بهذا الواجب عظيما، فقضى جزءا كبيرا من عمره في مجاهدة أصحاب البدع علما وعملا. 2- كشف أسباب نشأة الفرق والبدع، وهذا ضروري للرد عليها لأن كشف الأسباب التي أدت إلى قيامها يهيئ الأمر ليصبح الرد عليها مبنيا على منهج سليم، والطبيب المعالج لا ينبغي له أن يكتفي بمكافحة المرض فقط وإنما يبحث عن أسبابه لأن معرفتها قد تعين في التشخيص ومن ثم في العلاج، وقد يبين أن علاج المرض بمنع أسبابه، وهكذا أمراض القلوب والعقول. أ- فشيخ الإسلام في البداية يشير إلى أن الاختلاف من لوازم النشأة الإنسانية لأن الشهوات والشبهات لازمة للنوع الإنساني، لذلك فالاختلاف والتفرق لا بد أن يوجد (3) .   (1) منهاج السنة (3/36) مكتبة الرياض الحديثة. (2) مجموع الفتاوى (28/231-232) . (3) انظر: نقض أساس التقديس - المخطوط (2/319) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 ب- وكثيرا ما يشير إلى الأسباب الخارجية لنشوء الفرق، ويركز على أثر الفلسفة التي انتشرت في العالم الإسلامي في عهد المأمون ومن جاء بعده (1) . ويخص الترجمة - التي قد تكون دقيقة أو غير دقيقة - يكون من الأسباب المهمة (2) . ج- أما حين يتحدث عن الأسباب الداخلية - التي نشأت من الداخل مثل الاختلاف في فهم النصوص، أو الاستدلال بأدلة عند الآخرين، فيعرض لها مفصلة، فيتكلم عن أسباب الانحراف عن طريق الأنبياء من اليهود والنصارى والمسلمين، يقول في معرض رده على النصارى:" إن جميع ما يحتجون به من هذه الآيات (3) وغيرها فهو حجة عليهم لا لهم، وهكذا شأن جميع أهل الضلال، إذا احتجوا بشيء من كتب الله وكلام أنبيائه كان في نفس ما احتجوا به ما يدل على فساد قولهم، وذلك لعظمة كتب الله المنزلة وما نطق به أنبياؤه، فإنه جعل ذلك هدى وبيانا للخلق وشفاء لما في الصدور فلا بد أن يكون في كلام الأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - من الهدى والبيان ما يفرق الله به بين الحق والباطل والصدق والكذب، لكن الناس يؤتون من قبل أنفسهم لا من قبل أنبياء الله: إما من كونهم لم يتدبروا القول الذي قالته الأنبياء حق التدبر حتى يفقهوه يفهموه. وإما من جهة أخذهم ببعض الحق دون بعض، مثل أن يؤمنوا ببعض ما أنزله الله دون بعض فيضلون من جهة ما لم يؤمنوا به كما قال تعالى عن النصارى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة:14] . وإما من جهة نسبتهم إلى الأنبياء ما لم يقولوه من أقوال كذبت عليهم.   (1) انظر: نقض أساس التقديس - المطبوع (1/323-324، 374-375) . (2) انظر: درء التعارض (1/299) . (3) مثل احتجاجهم بقوله تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي} [المائدة:110] قالوا: سماه الله خالقا، وقد رد عليهم شيخ الإسلام بعد هذا النص الذي نقلناه من عشرة أوجه، الجواب الصحيح (2/288-293) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 ومن جهة: ترجمة أقوالهم بغير ما تستحقه من الترجمة، وتفسيرها بغير ما تستحقه من التفسير الذي دل عليه كلام الأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - فإنه يجب أن يفسر كلام المتكلم بعضه ببعض، ويؤخذ كلامه هاهنا وهاهنا، وتعرف ما عادته يعنيه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلم به، وتعرف المعاني التي عرف أنه أرادها في موضع آخر، فإذا عرف عرفه وعادته في معانيه وألفاظه كان هذا مما يستعان به على معرفة مراده، وأما إذا استعمل لفظه في معنى لم تجر عادته باستعماله فيه، وترك استعماله في المعنى الذي جرت عادته باستعماله فيه، وحمل كلامه على خلاف المعنى الذي قد عرف أنه يريده بذلك اللفظ يجعل كلامه متناقضا، ويترك كلامه على ما يناسب سائر كلامه، كان ذلك تحريفا لكلامه عن موضعه وتبديلا لمقاصده وكذبا عليه، فهذا أصل من ضل في تأويل كلام الأنبياء على غير مرادهم" (1) . فهذه أسباب أربعة بين فيها كيف يضل الضالون عن طريق أنبيائهم، ويجمعها التفريط في اتباع ما جاء به الرسول، يقول شيخ الإسلام:" لكن ينبغي أن يعرف أن عامة من ضل في هذا الباب أو عجز فيه عن معرفة الحق فإنما هو لتفريطه في اتباع ما جاء به الرسول، وترك النظر والاستدلال الموصل إلى معرفته، فلما أعرضوا عن كتاب الله ضلوا" (2) . وفي موضع آخر يذكر أسباب الانحراف والضلال لطوائف خاصة فيقول:" ومما ينبغي أن يعلم أنى سبب ضلال النصارى وأمثالهم من الغالية كغالية العباد والشيعة وغيرهم ثلاثة أشياء: أحدها: ألفاظ متشابهة، مجملة، منقولة عن الأنبياء، تمسكوا بها وعدلوا الصريحة المحكمة بها، وهم كلما سمعوا لفظا لهم فيه شبهة تمسكوا به وحملوه على مذهبهم وإن لم يكن دليلا على ذلك، والألفاظ الصريحة المخالفة لذلك إما أن يفوضوها وإما أن يتأولوها ... ".   (1) الجواب الصحيح (2/287-288) . (2) مجموع الفتاوى (3/314) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 والثاني: خوارق ظنوها من الآيات وهي من أحوال الشياطين، وهذا مما ضل به كثير من الضلال المشركين وغيرهم، ممثل دخول الشياطين في الأصنام وتكليمهم للناس، ومثل إخبار الشياطين للكهان بأمور غائبة، لابد لهم مع ذلك من كذب، ومثل تصرفات تقع من الشياطين. والثالث: أخبار منقولة إليهم ظنوها صدقا وهي كذب ... (1) وكثيرا ما يركز على منشأ البدع واختلاط الحق بالباطل فيها" فإن البدعة لو كان باطلا محضا لظهرت وبانت، وما قبلت، ولو كانت حقا محضا لا شوب فيه لكانت موافقة للسنة، فإن السنة لا تناقض حقا محضا لا باطل فيه، ولكن البدعة تشتمل على حق وباطل" (2) ، وبعد ما يبين شيخ الإسلام لبس الحق بالباطل وكيف يكون (3) يقول:" والبدع التي يعارض بها الكتاب والسنة التي يسميها أهلها كلاميات وعقليات وفلسفيات، أو ذوقيات ووجديات، وحقائق وغير ذلك، لا بد أن تشتمل (4) على لبس حق بباطل وكتمان، وهذا أمر موجود يعرفه من تأمله، فلا تجد قط مبتدعا إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه، ويبغضها، ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها، ويبغض من يفعل ذلك" (5) ومن أعظم أسباب بدع المتكلمين من الجهمية وغيرهم - كما يرى شيخ الإسلام -" قصورهم في مناظرة الكفار والمشركين، فإنهم يناظرونهم ويحاجونهم بغير الحق والعدل لينصروا الإسلام - زعموا - بذلك، فيسقط عليهم أولئك لما فيهم من الجهل والظلم ويحاجونهم بممانعات ومعارضات، فيحتاجون حينئذ إلى جحد طائفة من الحق الذي جاء به الرسول، والظلم والعدوان لإخوانهم المؤمنين بما استظهر عليهم أولئك المشركون، فصار مشتملا على إيمان وكفر،   (1) الجواب الصحيح (1/316-317) . (2) درء التعارض (1/209) . (3) انظر المصدر السابق (1/209-220) . (4) في الأصل: تشمل، والتصويب من طبعة محيى الدين عبد الحميد، والفقي (1/132) . (5) درء التعارض (1/221) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وهدى وضلال، ورشد وغي، وجمع النقيضين، وصاروا مخالفين للكفار والمؤمنين كالذين يقاتلون الكفار والمؤمنين " (1) ، ويمثل حالهم بحال بعض ملوك النواحي والأطراف في عصره الذين استزلهم الشيطان فأصبحوا" يقاتلون العدو قتالا مشتملا على معصية الله من الغدر والمثلة والغلول والعدوان، حتى احتاجوا في مقاتلة ذلك العدو إلى العدوان على إخوانهم المؤمنين" (2) ، ثم يطبق على مثال من التاريخ الكلامي (3) . ومن أسباب الانحراف عدم فهم كلام العلماء، وتفريع المسائل على مسألة معينة قد يكون العالم تكلم فيها بكلمة زل فيها، أو قصد الرد على طائفة معينة، فحملت على محامل أخرى لم يقصدها، ويذكر لذلك أمثلة عديدة (4) . 3- المعرفة التاريخية بنشوء الفرق، وتاريخها، والتسلسل التاريخي لظهور البدع، والمدن التي انتشرت فيها، وهذه المعرفة تفيد في بيان أول البدع ظهورا، وأثر البدع السابقة في ظهور البدع اللاحقة، كما أنها تعين على فهم الخلفيات التاريخية والعقدية لظهورها. وكثيرا ما يقرن شيخ الإسلام بين الأحداث التاريخية والبدع التي صاحبتها، والشواهد على ذلك من كتابات شيخ الإسلام كثيرة، ففي إحدى رسائله يتحدث بشكل موسع عن ظهور البدع، وتاريخها، فيذكر أنه في آخر خلافة علي - رضي الله عنه - ظهرت بدعة الخوارج والرافضة لأنها متعلقة بالإمامة والخلافة، ثم حدثت فتنة أهل الحرة، وقصة ابن الزبير بمكة، وظهور المختار بن أبي عبيد بالعراق، وذلك في أواخر عهد الصحابة فحدثت بدعة القدرية والمرجئة، وتكلموا في مسائل القدر ومسائل الإيمان والوعد والوعيد، أما نفي الصفات فلم يحدث   (1) التسعينية (ص32) . (2) المصدر السابق (ص32) . (3) وهي قصة الجهم بن صفوان لما ناظر نفرا من "السمنية" الذين لا يؤمنون إلا بالمحسوس، وحين احتجوا على الجهم في إنكار وجود الله لأنه غير محسوس، أجابهم بأن الروح نقر بوجودها وإن كنا لا نراها، فأدى هذا بالجهم إلى نفي صفات الله، وأنه يمكن نفي جميع الصفات عنه مع الإقرار بوجوده. انظر التسعينية (ص32-38) . (4) انظر: مجموع الفتاوى (8/422-428) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 إلا في أواخر عصر صغار التابعين، وذلك في أواخر عهد الدولة الأموية، وبداية الدولة العباسية، وكيف أنه لما تولى الأعاجم، وعربت الكتب العجمية من كتب الفرس والهند والروم، حدث ثلاثة أشياء: الرأي، والكلام، والتصوف. وحدث التجهم ونفي الصفات، وبإزائه التمثيل، وكان جمهور الرأي في الكوفة، وجمهور الكلام والتصوف في البصرة، ويذكر أول دويرة بنيت للصوفية في البصرة. وهكذا - بهذا الأسلوب - يستمر في عرض أحوال البلاد الإسلامية وانتشار البدع فيها (1) . والمعرفة التاريخية أوصلت شيخ الإسلام إلى استنتاجات وتحليلات مهمة، فمثلا: أحاديث السفر لزيارة القبور والمشاهد أول من أحدثها أهل البدع من الروافض (2) ، ونسبة رسائل إخوان الصفا إلى جعفر الصادق ليست صحيحة، ويرى أنها صنفت بعد المئة الثالثة (3) ، وأحيانا ينقد متون بعض الروايات التاريخية من خلال الاستقراء والمعرفة بالتاريخ (4) . 4- معرفته بأحوال الخصوم، مذاهبهم وعقائدهم، وأدلتهم، وكتبهم، وهذا غير ما سبق من معرفته بتاريخ نشوء الفرق، أو أسباب نشوئها، وقد كان شيخ الإسلام في معرفته بأحوال الخصوم واثقا من نفسه حتى قال في إحدى مناقشاته ومناظراته لهم:" كل من خالفني في شيء مما كتبته، فأنا أعلم بمذهبه منه" (5) ، وقال عن نفسه:" وقلت في ضمن كلامي: أنا أعلم كل بدعة حدثت في الإسلام، وأول من ابتدعها ومتا كان سبب ابتداعها" (6) .   (1) انظر لما سبق مجموع الفتاوى (10/356-372) ، وانظر أيضا: منهاج السنة (1/218-227) ، تحقيق: رشاد سالم، والنبوات (ص193-198) . (2) انظر: الرد على الأخنائي (ص32) ط السلفية. (3) انظر: منهاج السنة (2/370) . تحقيق: رشاد سالم، وأيضا (2/154) ، مكتبة الرياض الحديثة، والتسعينية (ص59) . (4) انظر: درء التعارض (7/254-257) . (5) الواسطية - مجموع الفتاوى (3/163) . (6) نفس المصدر (3/184) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وبلغ من معرفته بأحوال الخصوم أن قال عن "الاتحادية" ":" ولهذا لما بينت لطوائف من اتباعهم ورؤسائهم قولهم، وسر مذهبهم، صاروا يعظمون ذلك، ولولا ما أقرنه بذلك من الذم والرد لجعلوني من أئمتهم، وبذلوا لي من طاعة نفوسهم وأموالهم ما يجل عن الوصف، كما تبذله النصارى لرؤسائهم والإسماعيلية لكبرائهم، وكما بذل آل فرعون لفرعون ... " (1) .ولما عرض لمسألة: أفعال العباد، وهل هي قديمة قال:" ولم يقل قط أحد لا من أصحاب أحمد المعروفين، ولا من غيرهم من العلماء المعروفين: إن أفعال العباد قديمة، وإنما رأيت هذا [قولا] لبعض المتأخرين بأرض العجم وأرض مصر من المنتسبين إلى مذهب الشافعي وأحمد فرأيت بعض المصريين يقولون: إن أفعال العباد من خير وشر قديمة، ويقولون: ليس مرادنا بالأفعال نفس الحركات ولكن الثواب الذي يكون عليها" (2) . وكثيرا ما يمحص الأقوال التي تنسب إلى الخوارج (3) ، أو بعض طوائف النصارى (4) ، بل قال عن الزبور:" وقد رأيت أنا من نسخ الزبور ما فيه تصريح بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - باسمه ورأيت نسخة أخرى "من الزبور" (5) ، فلم أر ذلك فيها، وحينئذ فلا يمتنع أن يكون في بعض النسخ من صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ليس في أخرى" (6) . ومن علمه بحال الخصوم معرفته بالبلدان التي يكثر فيها الكفر والشرك والأحوال الشيطانية والتي يقل فيها ذلك (7) .   (1) حقيقة مذهب الاتحاديين، مجموع الفتاوى (2/138) ، وانظر: قصته في الإسكندرية لما جاء أحد فضلائهم وطلب منه أن يشرح له مذهبهم، فشرحه، النبوات (ص120) ، دار الكتب العلمية. (2) مجموع الفتاوى (8/408) . (3) انظر: الصارم المسلول (ص184-185) . (4) انظر: مناقشته للطبري وغيره حول طوائف النصارى وعقائدهم في الجواب الصحيح (1/170-171) . (5) في الأصل: بالزبور، ولعل الصواب ما ذكرته. (6) الجواب الصحيح (2/27) . (7) انظر: تلخيص الاستغاثة (1/49-50) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 5- بيانه لمنهج أهل البدع والكلام، المخالف لمنهج السلف - رحمهم الله تعالى - ولا شك أن بيان منهج الباطل يعين على معرفة منهج أهل الحق، ولذلك أشار في الوصية الكبرى إلى جوامع من أصول أهل الباطل فقال:" وأنا أذكر جوامع من أصول الباطل التي ابتدعها طوائف ممن ينتسب إلى السنة وقد مرق منها وصار من أكابر الظالمين، وهي فصول: الفصل الأول: أحاديث رووها في الصفات زائدة على الأحاديث التي في دواوين الإسلام مما نعلم باليقين القاطع أنها كذب وبهتان، بل كفر شنيع ... فصل: وكذلك الغلو في بعض المشايخ ... فصل: وكذلك التفريق بين الأمة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله ... " (1) ، ويقول عن أهل البدع: إنهم على عكس منهج الرسل، فالرسل" يأمرون بالغايات المطلوبة من الإيمان بالله ورسوله وتقواه، ويذكرون من طرق ذلك وأسبابه ما هو أقوى وأنفع، وأما أهل البدع المخالفون لهم فبالعكس يأمرون بالبدايات والأوائل، ويذكرون من ذلك ما أضعف وأضر، فمتبع الأنبياء لا يضل ولا يشقى، ومتبع هؤلاء ضال شقي ... " (2) . ومن منهج أهل الباطل أنهم اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها، وهؤلاء أصناف (3) . ويذكر شيخ الإسلام أن من منهج أهل الباطل التلبيس على أتباعهم والتدرج بهم، حيث يبدأون بالألفاظ المتشابهة ثم يؤلفون أقوالهم ويعظمونها في النفوس ويهولونها، حتى يستجيب لهم من يدعونه ولو لم يكن مقتنعا بأقوالهم، ويشبه هذا ما تفعله القرامطة من التدرج في دعوتهم، يقول شيخ الإسلام:" ولكن هؤلاء عمدوا إلى ألفاظ مجملة مشتبهة تحتمل في لغات الأمم معاني متعددة، وصاروا يدخلون فيها من المعاني ما ليس هو المفهوم منها في لغات الأمم، ثم ركبوها، وألفوها تأليفا طويلا بنوا بعضه على بعض، وعظموا قولهم وهولوه في نفوس من لم يفهمه،   (1) الوصية الكبرى، مجموع الفتاوى (3/384-385، 395، 415) . (2) درء التعارض (8/21) . (3) انظر مقدمة في أصول التفسير (ص81-93) ، تحقيق: زرزور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 ولا ريب أن فيه دقة وغموضا لما فيه من الألفاظ المشتركة والمعاني المشتبهة فإذا دخل معهم الطالب وخاطبوه بما تنفر عنه فطرته، فأخذ يعترض عليهم قالوا له: أنت لا تفهم هذا، وهذا لا يصلح لك، فيبقى ما في النفوس من الأنفة والحمية يحملها على أن تسلم تلك الأمور قبل تحقيقها عنده، وعلى ترك الاعتراض عليها خشية أن ينسبوه إلى نقص العلم والعقل، ونقلوا الناس في مخاطبتهم درجات كما ينقل إخوانهم القرامطة المستجيبين لهم درجة بعد درجة ... " (1) . ومن منهجهم فرارهم إلى التقليد، فرأس الطائفة إذا قال كلاما بقى ذلك الكلام "دائرا في الاتباع، يدرسونه كما يدرس المؤمنون كلام الله، وأكثر من يتكلم به لا يفهمه، وكلما كانت العبارات أبعد عن الفهم كانوا لها أشد تعظيما، وهذه حال الأمم الضالة، كلما كان الشيء مجهولا كانوا أشد له تعظيما، كما يعظم الرافضة المنتظر، الذي ليس لهم منه حس ولا خبر ولا وقعوا له على عين ولا أثر، وكذلك تعظيم الجهال من المتصوفة الغوث وخاتم الأولياء، ونحو ذلك مما لا يعرفون له حقيقة" (2) ، ثم يقول شيخ الإسلام عن تقليدهم لشيوخهم:" وهذا القدر قد تبينته من الطوائف المخالفين للكتاب والسنة - ولو في أدنى شيء ممن رأيت كتبهم وممن خاطبتهم، وممن بلغني أخبارهم - إذا أقيمت على أحدهم الحجة العقلية التي يجب على طريقته قبولها، ولم يجد له ما يدفعها به فر إلى التقليد ولجأ إلى قول شيوخه، وقد كان في أول الأمر يدعو إلى النظر والمناظرة، والاعتصام بالعقليات والإعراض عن الشرعيات، ثم إنه في آخر الأمر لا حصل له علم من الشرعيات ولا من العقليات، بل هو كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج:3] " (3) . ثم يذكر تناقضهم فيقول:" ولست تجد أحدا من هؤلاء إلا متناقضا وهو نفسه يخالف قول ذلك المتبوع الذي عظمه في موضع آخر" (4) .   (1) درء التعارض (1/295-296) ، وأيضا (5/61-62) . (2) درء التعارض (5/315) . (3) درء التعارض (5/317) . (4) نفس المصدر (5/318) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 وإذا كان كثيرا ما يتكلم عن المنهج العام للمبتدعة مثل اتباع الهوى والإعراض عن الكتاب والسنة، وتقديم معقولهم عليهما، وغير ذلك - فإنه أحيانا يتكلم عن منهج بعض الطوائف، فيتكلم عن منهج الجهمية وما ارتكبوه من العظائم (1) ويتكلم عن منهج المعتزلة واستدلالهم بدليل حدوث الأجسام وتقديمهم للدليل العقلي على دليل السمع (2) . ولسنا بصدد استقصاء ما كتبه في منهج أهل البدع، وغنما الغرض بيان أن من منهجه في رده على الخصوم شرحه لمناهجهم. ب- الرد على الخصوم ومناقشتهم ومنهجه في ذلك: في الفقرة السابقة كان الحديث عن أن من منهج شيخ الإسلام في الرد على الخصوم شرح أحوالهم ونشأة بدعهم وأسباب ذلك، ومناهجهم، ونذكر هنا منهجه في مناقشتهم ونقض أقوالهم والرد على أدلتهم، والكلام في ذلك طويل، ولكن نعرض لبعض الملامح في ذلك: 1- ثقته المطلقة بما عنده من الحق، حتى قال مرات - في مناظرته حول الواسطية -:" قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين، فإن جاء بحرف واحد عن أحد من القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: " خير القرون القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم ثم الذي يلونهم " (3) يخالف ما ذكرته فأنا أرجع عن ذلك ... (4) ، وفي موضع ذكر أنه قال:" أمهلت كل من خالفني ثلاث سنين، إن جاء بحرف واحد عن السلف يخالف شيء مما ذكرته كانت له الحجة وفعلت وفعلت " (5) .   (1) درء التعارض (1/277) . (2) انظر: شرح حديث النزول، مجموع الفتاوى (5/541-542) . (3) متفق عليه - لكن مع اختلاف يسير عن هذا اللفظ - البخاري، كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور ورقمه (2652) الفتح (5/259) ، ومسلم كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ورقمه (2533) وما بعدها. (4) المناظرة حول الواسطية، مجموع الفتاوى (3/169) .. (5) مجموع الفتاوى (6/15) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وهذه الثقة بما عنده من الحق المبني على الكتاب والسنة وأقوال السلف بارزة في جميع ما كتب، وخاصة عن مناقشته لخصوم العقيدة، وكانت من عوامل وحدة المنهج عنده، حيث أصبح يتعامل مع جميع من يناقشه - وهم كثر - من خلالها، ولم يمر عليه في وقت من الأوقات أو في مناظرة من المناظرات أن تردد في دلالة الكتاب والسنة، أو في صحة مذهب السلف. 2- اعتماده في العقيدة على الكتاب والسنة، وتقديمهما على غيرهما، وهذه سمة بارزة في منهجه يجد الإنسان شاهدها في جميع كتبه: أ- "فالقرآن قد دل على جميع المعاني التي تنازع الناس فيها دقيقها وجليلها" (1) . ب- والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ البلاغ المبين لأصول الدين وفروعه (2) . ج- وما صح من السنة - من أخبار الآحاد وغيره - هو حجة في العقائد كما أنه حجة في غيرها (3) . د- لا تعارض بين العقل والنقل (4) . 3- كيف تفهم نصوص الكتاب والسنة؟ ، لأن قائلا قد يقول: كل من ينتسب إلى الإسلام يدعي أنه يعتمد في أقواله على الكتاب والسنة، وقليلون هم الذين يجاهرون بنبذها مباشرة، هذه مسألة لا يغفلها شيخ الإسلام بل يرى أنها سبب مهم للاختلاف الواقع بين الناس، ولذلك وضع لها قواعد وضوابط: أ - فقد كتب رسالة في أصول التفسير، أوضح فيها المنهج الصحيح لتفسير كلام الله تعالى، وهذا المنهج نقله ابن كثير في مقدمة تفسيره، ثم طبقه في تفسيره   (1) درء التعارض (5/56) . (2) انظر: نقض أساس التقديس المخطوط (2/321-323) ، والحموية، مجموع الفتاوى (5/6-7) ، ومجموع الفتاوى (3/294-296) ، والقاعدة المراكشية (ص26-28) وغيرها. (3) انظر مثلا: الجواب الصحيح (2/12) . (4) سيأتي شرح لذلك في موقفه من الأشاعرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 الذي انتشر بين المسلمين انتشارا عظيما (1) . ب- كيف يفهم كتاب الله؟ يقول شيخ الإسلام:" دلالة الكلام على المراد تعرف تارة بالضرورة وتارة بالاستدلال، ويستدل على ذلك بما نقله الأئمة، وبما كان يقوله السلف يفسرون به القرآن، وبدلالة السنة، وسائر الآيات وغير ذلك ... " (2) . ج- ويركز على أنه لابد في معرفة لفظ القرآن والحديث من ذكر نظائره يقول" كل من كان له عناية بألفاظ الرسول ومراده بها، عرف عادته في خطابه، وتبين له من مراده ما لا يتبين لغيره، ولهذا ينبغي أن يقصد إذا ذكر لفظ من القرآن والحديث أن يذكر نظائر ذلك اللفظ، ماذا عنى الله بها ورسوله، فيعرف بذلك لغة القرآن والحديث، وسنة الله ورسوله التي خاطب بها عباده، وهي العادة المعروفة من كلامه ... " (3) ،ويطبق هذا المنهج في بعض الألفاظ (4) . د- ولابد أيضا من معرفة اللغة العربية ودلالة الألفاظ، يقول شيخ الإسلام:" ولابد في تفسير القرآن والحديث من أن يعرف ما يدل على مراد الله ورسوله من الألفاظ وكيف يفهم كلامه، فمعرفة العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مراد الله ورسوله بكلامه، وكذلك معرفة الألفاظ على المعاني، فإن عامة ضلال أهل البدع كان بهذا السبب، فإنهم صاروا يحملون كلام الله ورسوله على ما يدعون أنه دال عليه، ولا يكون الأمر كذلك " (5) . هـ- وليس كل معنى يفسر به لفظ الآية والحديث ويعلل ذلك ب-" أن المعاني تنقسم إلى حق وباطل، فالباطل لا يجوز أن يفسر به كلام الله، والحق   (1) انظر: مقدمة في أصول التفسير (ص93-105) ، تحقيق: زرزور، وهناك أكثر من رسالة علمية في منهج ابن تيمية في التفسير. (2) نقض التأسيس المخطوط (2/328) . (3) الإيمان (ص110) . (4) انظر: مجموع الفتاوى (1/43-44، 67) . (5) الإيمان (ص111-112) ، وانظر: (ص161) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 إن كان هو الذي دل عليه القرآن فسر به، وإلا فليس كل معنى صحيح يفسر به اللفظ لمجرد مناسبة كالمناسبة التي بين الرؤيا والتعبير، وإن كانت خارجة عن وجوه دلالة اللفظ كما تفعله القرامطة والباطنية" (1) . كما أنه ليس " لأحد أن يقول: إن الألفاظ التي جاءت في القرآن موضوعة لمعاني، ثم يريد أن يفسر مراد الله بتلك المعاني هذا من فعل أهل الإلحاد والمفترين" (2) ،ويذكر شيخ الإسلام أمثلة لذلك (3) . 4- أن السلف أعلم وأحكم من غيرهم، ولذلك يجب الرجوع إلى فهمهم في العقيدة وكلامهم حولها، لأنهم أعلم الناس بالكتاب والسنة ومعانيهما (4) . 5- ومن منهجه: جواز استعمال المصطلحات الحادثة، ومخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم إذا احتيج إلى ذلك، ويرى مع ذلك أن معرفة لغة العدو واصطلاحه جائز وقد يكون واجبا (5) ، ومثله استخدام المصطلحات والألفاظ الحادثة قد يحتاج إليه وقد يكون مستحبا وقد يكون واجبا (6) . وهذه المسألة شرحها شيخ الإسلام شرحا مستفيضا، وذكر الأحوال المختلفة لذلك، يقول في معرض كلامه عن استخدام أهل الكلام للكلام المتشابه الذي يخدعون به جهال الناس، وذلك بالألفاظ المجملة التي يعارضون بها نصوص الكتاب والسنة: مثل لفظ: العقل، والمادة، والصورة، والجوهر، والعرض، والجسم، والتحيز، والجهة، والتركيب، والجزء، والعلة والمعلول، والحدوث، والقدم، والواجب والممكن وغيرها، يقول شيخ الإسلام معقبا على ذلك:" وما من أهل فن إلا وهم معترفون بأنهم يصطلحون على ألفاظ يتفاهمون بها مرادهم،   (1) مجموع الفتاوى (2/27) . (2) الرسالة الأكملية، مجموع الفتاوى (6/111) . (3) انظر: المصدر السابق (ص111-112) . (4) هذه القضية من أسس منهجه العام، وسيأتي إيضاحها - إن شاء الله - عند مناقشته للأشاعرة. (5) انظر: السبعينية (ص25) ، وانظر أيضا: نقض أساس التقديس المخطوط (2/5-6) . (6) انظر: نقض أساس التقديس المطبوع (2/389) ، ومجموع الفتاوى (3/306-308) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 كما لأهل الصناعات العملية ألفاظ يعبرون بها عن صناعتهم، وهذه الألفاظ هي عرفية عرفاً خاصاً، ومرادهم بها غير المفهوم منها في أصل اللغة، سواء كان ذلك المعنى حقاً أو باطلاً، وإذا كان كذلك فهذا مقام يحتاج إلى بيان: وذلك أن هؤلاء المعارضين إذا لم يخاطبوا بلغتهم واصطلاحهم فقد يقولون: إنا لا نفهم ما قيل لنا، أو إن المخاطب لنا والراد علينا لم يفهم قولنا، ويلبسون على الناس بأن الذي عنيناه حق معلوم بالعقل أو الذوق، ويقولون أيضاً: إنه موافق للشرع إذا لم يظهروا مخالفة الشرع، كما يفعله الملاحدة من القرامطة والفلاسفة ومن ضاهاهم وإذا خوطبوا بلغتهم واصطلاحهم - مع كونه ليس هو اللغة المعروفة التي نزل بها القرآن - فقد يفضي إلى مخالفة ألفاظ القرآن في الظاهر..وإذا كانت هذه الألفاظ مجملة كما ذكر فالمخاطب لهم: إما أن يفصل ويقول: ما تريدون بهذه الألفاظ؟ فإن فسروها بالمعنى الذي يوافق القرآن قبلت، وإن فسروها بخلاف ذلك ردت، وإما أن يمتنع عن موافقتهم في التكلم بهذه الألفاظ نفياً أو إثباتاً، فإن امتنع عن التكلم بها معهم فقد ينسبونه إلى العجز والانقطاع، وإن تكلم بها معهم نسبوه إلى أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقاً وباطلاً، وأوهموا الجهال باصطلاحهم: أن إطلاق تلك الألفاظ يتناول المعاني الباطلة التي يتنزه الله عنها، فحينئذ تختلف المصلحة: فإن كانوا في مقام دعوة الناس إلى قولهم وإلزامهم به أمكن أن يقال لهم: لا يجب على أحد أن يجيب داعياً إلا إلى ما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما لم يثبت أن الرسول دعا الخلق إليه على الناس إجابة من دعا إليه، ولا له دعوة الناس إلى ذلك، ولو قدر أن ذلك المعنى حق. وهذا الطريق تكون اصلح إذا لبس ملبس منهم على ولاة الأمور، وأدخلوه عفي بدعتهم (1) كما فعلت الجهمية بمن لبسوا عليه من الخلفاء حتى أدخلوه في بدعتهم من القول بخلق القرآن وغير ذلك، فكان من أحسن مناظرتهم أن يقال: ائتونا بكتاب أو سنة حتى نجيبكم إلى ذلك وإلا فلسنا نجيبكم إلى ما لم يدل عليه الكتاب والسنة، وهذا لأن الناس لا يفصل بينهم النزاع إلا كتاب منزل من السماء،   (1) كذا ولعل العبارة: وأدخلهم في بدعته.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وإذا ردوا إلى عقولهم فلكل واحد منهم عقل، وهؤلاء المختلفون يدعي أحدهم أن العقل أداة إلى علم ضروري، ينازعه فيه الآخر، فلهذا لا يجوز أن يجعل الحاكم بين الأمة في موارد النزاع إلا الكتاب والسنة" (1) ، وذكر شيخ الإسلام مناظرة الإمام أحمد للجهمية، ثم يوضح الحالة الثانية فيقول: " فهذه المناظرة هي التي تصلح إذا كان المناظر داعيان وأما إذا كان المناظر معارضا للشرع بما يذكره، أو ممن لا يمكن أن يرد إلى الشريعة، مثل من لا يلتزم الإسلام ويدعو الناس إلى ما يزعمه من العقليات، أو ممن يدعي أن الشرع خاطب الجمهور، وأن المعقول الصريح يدل باطن يخالف الشرع، ونحو ذلك، أو كان الرجل ممن عرضت له شبهة من كلام هؤلاء، فهؤلاء لا بد في مخاطبتهم من كلام على المعاني التي يدعونها: إما بألفاظهم، وإما بألفاظ يوافقون على أنها تقوم مقام ألفاظهم، وحينئذ فيقال لهم: الكلام إما أن يكون في الألفاظ، وإما أن يكون في المعاني، وإما أن يكون فيهما، فإن كان الكلام في المعاني المجردة من غير تقييد بلفظ، كما تسلكه المتفلسفة ونحوهم ممن لا يتقيد في أسماء الله وصفاته بالشرائع، بل يسميه علة وعاشقا ومعشوقا ونحو ذلك، فهؤلاء إن أمكن نقل معانيهم إلى العبادة الشرعية كان حسنا، وإن لم يمكن مخاطبتهم إلا بلغتهم فبيان ضلالهم ودفع صيالهم عن الإسلام بلغتهم أولى من الإمساك عن ذلك لأجل مجرد اللفظ، كما لو جاء جيش كفار ولا يمكن دفع شرهم عن المسلمين إلا بلبس ثيابهم، فدفعهم بلبس ثيابهم خير من ترك الكفار يجولون في خلال الديار خوفا من التشبه بهم في الثياب. وأما إذا كان الكلام مع من يتقيد بالشريعة فإنه يقال له: إطلاق هذه الألفاظ نفيا وإثباتا بدعة، وفي كل منهما تلبيس وإيهام، فلا بد من الاستفسار والاستفصال، أو الامتناع عن إطلاق كل الأمرين في النفي والإثبات (2) ، ويشير هنا شيخ الإسلام إلى ما يظنه بعض الناس من أن السلف ذموا الكلام لأجل الاصطلاحات الحادثة فيه، ويقول:" ليس الأمر كذلك، بل ذمهم للكلام   (1) درء التعارض (1/ 222- 229) .. (2) درء التعارض (1/231- 232) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 لفساد معناه أعظم من ذمهم لحدوث ألفاظه، فذموه لاشتماله على معان باطلة مخالفة للكتاب والسنة، ومخالفته للعقل الصريح، ولكن علامة بطلانها مخالفتها للكتاب والسنة، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل قطعا، ثم من الناس من قد يعلم بطلانه بعقله ومنهم من لا يعلم ذلك" (1) .ويوضح شيخ الإسلام ما سبق فيقول:" وبالجملة، فالخطاب له مقامات: فإن كان الإنسان في مقام دفع من يلزمه ويأمره ببدعة، ويدعوه إليها، أمكنه الاعتصام بالكتاب والسنة، وأن يقول لا أجيبك إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله، بل هذا هو الواجب حقا .... وأما إذا كان الإنسان في مقام الدعوة لغيره والبيان له وفي مقام النظر أيضا فعليه أن يعتصم بالكتاب والسنة، ويدعو إلى ذلك، وله أن يتكلم مع ذلك ويبين الحق الذي جاء به الرسول بالأقيسة العقلية والأمثال المضروبة، فهذه طريقة الكتاب والسنة وسلف الأمة ... " (2) ، وضرب شيخ الإسلام أمثلة من الكتاب والسنة ومواقف السلف (3) . " وإذا كان المتكلم في مقام الإجابة لمن عارضه بالعقل، وادعى أن العقل يعارض النصوص، فإنه قد يحتاج إلى حل شبهته وبيان بطلانها، فإذا أخذ الثاني يذكر ألفاظا مجملة .... فهنا يستفصل السائل ويقول له: ماذا تريد بهذه الألفاظ المجملة؟ " (4) فإن أراد حقا قبل وإن أراد باطلا رد. ومن هذا الكلام وتفصيل ابن تيمية فيه يتبين لماذا رد شيخ الإسلام على الفلاسفة وأتباعهم وذكر عباراتهم ونقلها من كتبهم، ولماذا رد عليها ردودا طويلة،   (1) درء التعارض (1/ 232 - 233) (2) نفس المصدر (1/ 234 - 236) . (3) انظر الأمثلة لذلك في المصدر السابق (1/ 236 - 238) ، فقد ضرب أمثلة من القرآن في بيان التوحيد وصدق الرسل والمعاد، ومن السنة في مسألة الرؤية حينما سأله أبو رزين: كيف وهو واحد ونحن كثير فأجابه بمثال القمر، ومن أقوال السلف يقول ابن عباس في مسألة الرؤية وأن السماء ترى ولا يحاط بها، وقول الإمام أحمد في مسألة المعية مع الاستواء والعلو. (4) درء التعارض (1/ 238) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 تصل إلى حد أن القارئ لا يستطيع متابعته والاستمرار معه، بل ينقطع حين يقف على نصوص من كلام هؤلاء الفلاسفة المبني على المنطق والعبارات والتراكيب الغامضة، والاصطلاحية. 6- تناقض أقوال الخصوم، وكون أدلة كل فريق ترد أدلة الفريق المقابل، ويبقى مذهب السلف هو الحق والعدل، يقول شيخ الإسلام: بعد ذكره للنزاع بين المعتزلة والأشعرية حول كلام الله وأفعال العباد:" وهذا أعظم ما يستفاد من أقوال المختلفين الذين أقوالهم باطلة، فإنه يستفاد من قول كل طائفة بيان فساد قول الطائفة الأخرى، فيعرف الطالب فساد تلك الأقوال، ويكون ذلك داعيا له إلى طلب الحق، ولا تجد الحق إلا موافقا لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا تجد ما جاء به الرسول إلا موافقا لصريح المعقول" (1) ، ويرى شيخ الإسلام أن هناك فوائد من ذكر كلامهم وأدلتهم ومنها:" نقض بعضهم كلام بعض، فلا يعتقد شيء منها، ثم إن عرف الحق الذي جاء به الرسول فهذا الصواب الموافق لصريح المعقول، وإلا استفيد من ذلك السلامة من تلك الاعتقادات الباطلة" (2) . وكل واحد من أصحاب البدع يقدح في أدلة الآخرين، " ولهذا لا يتفق اثنان رئيسان على جميع مقدمات دليل إلا نادرا، فكل رئيس من رؤساء الفلاسفة والمتكلمين له طريقة في الاستدلال تخالف طريقة الرئيس الآخر، بحيث يقدح كل من أتباع أحدهما في طريقة الآخر، ويعتقد كل منهما أن الله لا يعرف إلا بطريقته وإن كان جمهور أهل الملة بل عامة السلف يخالفونه فيها " (3) . ويضرب لذلك أمثلة (4) ، وطريقته في ذلك جزء من بيانه لوسطية مذهب السلف.   (1) مجموع الفتاوى (12/ 314) . (2) منهاج السنة: المحققة (2/ 197) . (3) مجموع الفتاوى (2/ 22) . (4) انظر: المصدر السابق (2/ 22-24) ، ومنهاج السنة (3/72، 76، 104) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 وعندما أطال في ذكر مناقشات ونقول عن ابن سينا وابن رشد والطوسي في مسألة علم الله، يقول:" وبيان بطلان أقوالهم النافية للصفات يطول، وإنما القصد هنا إبطال بعضهم لقول بعض، فإن هذا يؤنس نفوسا كثيرة قد تتوهم أنه ليس الأمر كذلك " (1) .وأحيانا يركز شيخ الإسلام على تناقض الشخص نفسه في أقوال، ومن أمثلة ذلك ما ذكره من تناقض ابن سينا (2) ، وبعض أصحاب وحدة الوجود (3) . 7- ويرى شيخ الإسلام - وهذا جانب من تناقض الخصوم -" أن جميع ما يحتج به المبطل من الأدلة الشرعية والعقلية إنما تدل على الحق، لا تدل على قول المبطل وهذا ظاهر يعرفه كل أحد، فإن الدليل الصحيح لا يدل إلا على حق، لا على باطل .... والمقصود هنا أن نفس الدليل الذي يحتج به المبطل هو بعينه إذا أعطي حقه وتميز ما فيه من حق وباطل، وبين ما يدل عليه، تبين أنه يدل على فساد قول المبطل المحتج به في نفس ما احتج به عليه. وهذا عجيب قد تأملته فيما شاء الله من الأدلة السمعية فوجدته كذلك" (4) . ومن منهجه؛ الذي طبقه أن "المناظرة تارة تكون بين الحق والباطل وتارة بين القولين الباطلين لتبين بطلانهما، أو بطلان أحدهما، أو كون أحدهما أشد بطلانا من الآخر، فإن هذا ينتفع به كثيرا في أقوال أهل الكلام والفلسفة وأمثالهم، ممن يقول أحدهم القول الفاسد، وينكر على منازعه ما هو أقرب منه إلى الصواب، فيبين أن قول منازعه أحق بالصحة إن كان قوله صحيحا، وأن قوله أحق بالفساد إن كان قول منازعه فاسدا، لتنقطع بذلك حجة الباطل فإن هذا أمر مهم، إذ كان المبطلون يعارضون نصوص الكتاب والسنة بأقوالهم   (1) درء التعارض (10/97) (2) انظر: درء التعارض (8/ 32، 133، 186، 10/ 98 - 104، 159 - 160) (3) انظر: نموذج لتناقض التلمساني في الجواب الصحيح (3/ 201 - 202) . (4) مجموع الفتاوى (6/ 288) وانظر: (8/ 29) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 فإن بيان فسادها أحد ركني الحق وأحد المطلوبين، فإن هؤلاء لو تركوا نصوص الأنبياء لهدت وكفت، ولكن صالوا عليها صول المحاربين لله ورسوله، فإذا دفع صيالهم وبين ضلالهم كان ذلك من أعظم الجهاد في سبيل الله" (1) . 8- إنصافه للخصوم والاعتراف بما عندهم من الحق، وسيأتي - إن شاء الله - بيان إنصافه للأشاعرة، ولكن نقرر هنا أن هذه قاعدة عنده حتى مع من هو أشد انحرافا من الأشاعرة من المعتزلة والجهمية، والفلاسفة، والمتصوفة والرافضة وغيرهم. ولكن ينبغي أن نشير هنا إلى ردوده القوية على الخصوم حين يعارضون الكتاب والسنة وكلام السلف وإجماعهم، أو حين يؤولون النصوص الصريحة تأويلات فاسدة، أو حين يقدمون معقولاتهم على نصوص الشرع أو غير ذلك من مناهج المنحرفين وأدلتهم الباطلة، فإذا ما واجه مثل ذلك تحركت غيرته على هذا الدين وواجه هذه الأقوال الفاسدة نقضا وإبطالا وردا، وأطال النفس في ذلك، وواجه خصومه مواجهة صريحة، يخطئهم ويضلل أقوالهم، ويبين تناقضهم وقلة أدبهم في تعاملهم مع نصوص الشرع. ولسنا بصدد ذكر نماذج لذلك فغالب كتبه شاهد على ذلك، ولكن نشير - ونحن بصدد بيان إنصافه للخصوم - إلى مواقفه وعباراته القوية في مخاطبة بعض خصومه فحين ذكر طرقا عديدة من الأدلة تدل على وجوب قتل ساب النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بعد التوبة، ذكر في أثناء الطريقة الخامسة والعشرين قول من يقول: إن سب النبي مثل سب غيره، ثم قال:" واعلم أن منشأ الشبهة في هذه المسألة القياس الفاسد، وهو التسوية في الجنس بين المتباينين تباينا لا يكاد يجمعها جامع، وهو التسوية بين النبي وغيره في الدم أو في عرض - إذا فرض عود المنتهك على الإسلام - وهو مما يعلم بطلانه ضرورة، ويقشعر الجلد من التفوه به، فإن من قتله للردة فقط أو للنقض فقط، ولم يجعل لخصوص كونه أذى له أثرا،   (1) درء التعارض (4/ 206) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وإنما المؤثر عنده عموم وصف الكفر، إما أن يهدر خصوص الأذى، أو يسوي فيه بينه وبين غيره زعما منه أن جعله كفرا أو نقضا هو غاية التعظيم، وهذا كلام من لم ير للرسول حقا يزيد على مجرد تصديقه في الرسالة، وسوى بينه وبين سائر المؤمنين فيما سوى هذا الحق. وهذا كلام خبيث يصدر عن قلة فقه، ثم يجر إلى شعبة نفاق، ثم يخاف أن يخرج إلى النفاق الأكبر، وإنه لخليق به" (1) . ولما تكلم ابن سينا في أتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة ووصفهم بأنهم أهل الوبر، وأنهم لا يستطيعون فهم المعاني الغامضة التي تحتاج من هو أفضل منهم من المبرزين المتفلسفة إلى مزيد إيضاح وشرح لفهمها؛ هجم عليه شيخ الإسلام هجوما شديدا لأن هذا استخفاف بأفضل الخلق بعد الرسل وهم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:" فإذا قدرت بعض الناقصين من ذلك القرن، فقابله بإخوانك القرامطة الباطنية وعوام الفلاسفة الدهرية، وأمثالهم من عوام النصيرية والإسماعلية وأمثالهم فإنك تجد بين أدنى أولئك وخيار هؤلاء في الذهن والعلم من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق، أليس أصحابك هم المستجيبين لدعوة بني عبيد، الذين راج عليهم مكرهم وكيدهم في الدنيا والدين، حتى اعتقدوا فيمن هو أكفر الناي وأكذبهم أنه أمام معصوم، يعلم علم الأولين والآخرين، بل عوام النصارى مع فرط جهلهم وضلالهم أحذق وأذكى من عوام أصحابك المستجيبين لمثل هؤلاء المنقادين لهم، وهل وجد في العالم أمة أجهل وأضل وأبعد عن العقل والعلم من أمة يكون رؤوسها فلاسفة؟ أو لم تكن أئمتكم اليونان - كأرسطو وأمثاله - مشركين يعبدون الأوثان، ويشركون بالرحمن، الذي غايته أن يعبد الإنسان شيطانا من الشياطين ويصوم له ويصلي .... وأما أئمتكم البارعون - كأرسطو وذويه - فغايته أن يكون مشركا سحارا وزيرا لملك مشرك سحار ... " (2) ، ثم يقول شيخ الإسلام:" وهذا الكلام وأمثاله   (1) الصارم المسلول (ص455) (2) درء التعارض (5/ 64 -65) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 إنما قيل للمقابلة لما في كلام هؤلاء من الاستخفاف بأتباع الأنبياء، وأما أئمة العرب وغيرهم من أتباع الأنبياء - عليهم الصلاة -، كفضلاء الصحابة مثل: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وأبي الدرداء، وعبد الله بن عباس، ومن لا يحصى عدده إلا الله تعالى، فهل سمع في الأولين والآخرين بعد الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بقوم كانوا أتم عقولا، وأكمل أذهانا، وأصح معرفة، وأحسن علما من هؤلاء؟ " (1) ، ثم يقول:" ثم يقال لهذا الأحمق ... " (2) . وفي مناسبة أخرى يقول عن مذهبه:" وكل ذلك فضيحة من الفضائح" (3) . ويقول في معرض مناقشته لابن رشد وأقواله:" قلت: ليتأمل اللبيب كلام هؤلاء الذين يدعون من الحذق والتحقيق ما يدفعون به ما جاءت به الرسل، كيف يتكلمون في غاية حكمتهم ونهاية فلسفتهم بما يشبه كلام المجانين ... " (4) . وفي رده على الطوسي الذي رد على ابن سينا وما رضي برجوعه إلى إثبات الصفات:" قلت: فليتدبر العاقل - الذي هداه الله تعالى وفهمه ما جاءت به الرسل، وما قاله غيرهم - كلام هذا الذي هو رئيس طائفته في وقته، وما قرر به كلام سلفه الملحدين في علم الله تعالى، لما كان ابن سينا - وهو أفضل متأخريهم - قد قال في ذلك بعض الحق الذي يقتضيه العقل الصريح مع موافقته للنقل الصحيح، فأراد هذا الطوسي أن يرد ما قاله ابن سينا من الحق انتصارا لطائفته الملاحدة، فقال في الكلام الذي عظم قدره وتبجح به ما يظهر لمن فهمه أنه من أفسد أقوال الآدمين وأشبه الأشياء، بأقوال المجانين، ولا ريب أن هذه عقول كادها باريها، لما ألحدت في صفات الله تعالى، وأرادت نصر التعطيل وقعت في هذا الجهل الطويل ... " (5) .   (1) درء التعارض (5/ 69) . (2) نفس المصدر (5/ 70) . (3) نفسه (10/ 33) . (4) نفسه (3/ 427) . (5) درء التعارض (10/ 44 -45) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 هذه أساليبه مع هؤلاء، ويلاحظ أن هذه العبارات جاءت مع المتفلسفة الملاحدة، ومع ذلك فلم يمنعه ما يجده من مقالاتهم وانحرافاتهم الواضحة، من ا، ينصفهم ويعترف لهم بالحق الذي معهم، سواء على وجه الإجمال أم التفصيل عند عرض المسألة المعينة. وينطلق شيخ الإسلام في ذلك ببيان وجوب الإنصاف والعدل مع الآخرين ومع النفس فيقول:" وكثير من هذه الطوائف يتعصب على غيره، ويرى القذاة في عين أخيه، ولا يرى الجذع المعترض في عينه، ويذكر تناقض أقوال غيره ومخالفتها للمنصوص والمعقول، ما يكون له من الأقوال في ذلك الباب ما هو من جنس تلك الأقوال أو أضعف منها أو أقوى منها، والله تعالى يأمر بالعلم والعدل، ويذم الجهل والظلم كما قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] ... ومعلوم أن الحكم بين الناس في عقائدهم وأقوالهم أعظم من الحكم بينهم في مبايعهم وأموالهم " (1) . ثم هو يقسم الطوائف إلى طبقات فالفلاسفة والصوفية وأتباع الفلاسفة، هم أبعد عن الحق من المعتزلة، والمعتزلة أقرب منهم، ومتكلمة أهل الإثبات من الكلابية والكرامية والأشعرية والسالمية أقرب من المعتزلة، والسلف وأهل الحديث أقرب الطوائف إلى الحق (2) . وهو ينبه إلى أنه قد يكون في كلام المبتدعة وأهل الكلام ما هو حق لأنهم قد يذكرون معاني حسنة وصحيحة، ولكن الضلال جاء من جهة أنهم نفوا ما زاد عليها من الحق مما يثبته أهل السنة، ويذكر أمثلة لذلك ومنها:" ما يثبته المتكلمة من أن العبد يتقرب ببدنه وروحه إلى الأماكن المفضلة التي يظهر منها نور الرب كالسموات والمساجد، وكذلك الملائكة، فهذا صحيح، لكن دعواهم أنهم لا يتقربون إلى ذات الله، وأن الله على العرش، فهذا باطل، وإنما الصواب إثبات ذلك وإثبات ما جاءت به النصوص من قرب العبد إلى ربه،   (1) درء التعارض (7/ 463 - 464) . (2) انظر الصفدية (1/ 160 - 161) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وتجلي الرب لعباده بكشف الحجب المتصلة بهم والمنفصلة عنهم، وإن القرب والتجلي فيه علم العبد الذي هو ظهور الحق له، وعمل العبد الذي هو دنوه إلى ربه ... ثم بعض المتسننة والجهال إذا رأوا ما يثبته أولئك من الحق قد يفرون من التصديق به، وإن كان لا منافاة بينه وبين ما ينازعون أهل السنة في ثبوته، بل الجميع صحيح، وربما كان الإقرار بما اتفق على إثباته أهم من الإقرار بما حصل فيه نزاع؛ إذ ذلك أظهر وأبين وهو أصل للمتنازع فيه، فيحصل بعض الفتنة في نوع تكذيب، ونفي حال أو اعتقاد ككمال المبتدعة، فيبقى الفريقان في بدعة وتكذيب ببعض موجب النصوص، وسبب ذلك أن قلوب المثبتة تبقى معلقة بإثبات ما نفته المبتدعة، وفيهم نفرة عن قول المبتدعة بسبب تكذيبهم بالحق ونفيهم له، فيعرضون عن ما يثبتونه من الحق، أو ينفرون منه أو يكذبون به" (1) . ثم يذكر أمثلة أخرى فيقول:" كما قد يصير بعض جهال المتسننة في إعراضه عن بعض فضائل علي وأهل البيت إذا رأى أهل البدعة يغلون فيها، بل بعض المسلمين يصير في إعراض عن فضائل موسى وعيسى بسبب اليهود والنصارى ...... حتى يحكى عن قوم من الجهال أنهم ربما شتموا المسيح إذا سمعوا النصارى يشتمون نبينا في الحرب، وعن بعض الجهال أنه قال: سبوا عليا كما سبوا عتيقكم، كفر بكفر وإيمان بإيمان ... " (2) . وحين يذكر تناقض الفلاسفة وغيرهم - حتى في قواعدهم المنطقية - وما أوقعتهم فيه من عقائد فاسدة، يقول:" وهم لم يقصدوا هذا التناقض، لكن أوقعتهم فيه قواعدهم الفاسدة المنطقية " (3) . ويركز دائما على أن الانحراف درجات، وأن المنتسبين إلى أصول الدين والكلام أيضا درجات، فيقول:" ومما ينبغي أيضا أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام درجات: منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة.   (1) مجموع الفتاوى (6/ 25 - 26) . (2) نفس المصدر (6/ 26) . (3) شرح حديث النزول، مجموع الفتاوى (5/ 341) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 ومن يكون قد رد على غيره من الطوائف الذين هم أبعد عن السنة منه؛ فيكون محمودا فيما رده من الباطل، وقاله من الحق، لكن يكون قد جاوز العدل في رده بحيث جحد بعض الحق وقال بعض الباطل، فيكون قد رد بدعة كبيرة ببدعة أخف منها، ورد بالباطل باطلا بباطل أخف منه (1) ، وهذه حال أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة، ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولا يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه، ويعادون، كان من نوع الخطأ والله سبحانه يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك " (2) ، والانحراف بعضه أخف من بعض ف- " قد يكون الرجل على طريقة من الشر عظيمة، فينتقل إلى ما هو أقل منها شرا وأقرب إلى الخير، فيكون حمد تلك الطريقة ومدحها لكونها طريقة الخير الممدوحة، مثال ذلك: أن الظلم كله حرام مذموم، فأعلاه الشرك فإن الشرك لظلم عظيم، والله لا يغفر أن يشرك به وأوسطه ظلم العباد بالبغي والعدوان، وأدناه ظلم العبد نفسه فيما بينه وبين الله ... وهكذا النحل التي فيها بدعة، قد يكون الرجل رافضيا فيصير زيديا، فذلك خير له، وقد يكون جهميا قدريا فيصير جهميا غير قدرى، أو قدريا غير جهمي، أو يكون من الجهمية الكبار، فيتجهم في بعض الصفات دون بعض ونحو ذلك" (3) ومن قواعد إنصافه أنه لا يبرىء بعض أهل السنة من المحدثين وغيرهم من الوقوع في الخطأ فيقول: " لكن يوجد في أهل الحديث مطلقا من الحنبلية وغيرهم من الغلط قي الاثبات أكثر مما يوجد في أهل الكلام، ويوجد فى أهل الكلام من الغلط فى النفى أكثر مما يوجد في أهل الحديث .... " (4) . تلك قواعد في منطلقه في الانصاف والعدل، وهي التي مهدت لشيخ الإسلام ليتميز بمنهج سليم في هذا الباب، أما الذين ينطلقون في ردودهم الخصوم على أساس أن الحق معهم أو مع طائفتهم، وأن طائفتهم لا يقع فيها خطأ   (1) كذا، ولعل العبارة: ورد الباطل بباطل أخف منه. (2) مجموع الفتاوى (3/348-349) . (3) الاستقامة (1/ 464- 465) . (4) تفسير سورة الاخلاص، مجموع الفتاوى (17/363) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 ولا انحراف، وأن خصومهم على الباطل، وأقوالهم كلها باطلة -هكذا بإطلاق- فهؤلاء لابد أن يقعوا في الخطأ أو باقتراب شيء من الباطل ونسبته إلى الحق، أوجحد شيىء من الحق لأن الخصوم قالوا به. وننتقل الآن إلى ذكر نماذج من إنصافه لخصومه، والفلاسفة هم أشد خصوم ابن تيمية ومع ذلك يقول فيهم "نعم، لهم في " الطبيعيات" كلام غالبه جيد، وهو كلام كثير واسع، ولهم عقول عرفوا بها ذلك، وهم يقصدون الحق لا يظهر عليهم العناد، لكن جهال بالعلم الالهي إلى الغاية، ليس عندهم منه إلا قليل كثير الخطأ " (1) ،كما يذكر أنهم يتفاوتون في القرب والبعد عن الحق (2) . ويعترف للمعتزلة ويميزهم عن غيرهم من أهل البدع فيقول: " ولا ريب أن المعتزلة خير من الرافضة والخوارج، فإن المعتزلة تقر بخلافة الخلفاء الأربعة ... ويعظمون الذنوب، فهم يتحرون الصدق كالخوارج، لا يختلقون الكذب كالرافضة ولا يرون أيضا اتخاذ دار الاسلام كالخوارج، ولهم كتب في التفسير القرآن ونصر الرسول، ولهم محاسن كثيرة يترجحون على الخوارج والروافض ... ) (3) ، ويرى أنه لم يكن أصل دينهم تكذيب الرسول لكنهم احتجوا بحجج عقلية أدت الى هذا (4) . أما الشيعة فيرى أنه "ليس كل ما أنكره بعض الناس عليهم يكون باطلا بل من أقوالهم أقوال خالفهم فيها بعض أهل السنة ووافقهم بعض، والصواب مع من وافقهم، ولكن ليس لهم مسألة انفردوا بها أصابوا فيها " (5) ، ولما ذكر تفضيل الخوارج والمعتزلة عليهم ذكر " أن الزيدية من الشيعة خير منهم [أي من الرافضة] ، وأقرب إلى الصدق والعدل والعلم) (6) ، ثم قال: " ومع هذا   (1) الرد على المنطقيين (ص: 43) . (2) درء التعارض (9/276) (3) الفرقان بين الحق والباطل، مجموع الفتاوى (13/97-98) . (4) انظر: درء التعارض (7/106-107) (5) منهاج السنة، تحقبق: رشاد سالم (1/27) . (6) المصدر السابق- مكتبة الرياض الحدينة (3/39) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 فأهل السنة يستعملون معهم العدل والإنصاف ولا يظلمونهم، فإن الظلم حرام مطلقا بل وأهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض، وهذا مما يعترفون هم به ويقولون: أنتم تنصفوننا ما لا ينصف بعضنا بعضا" (1) . أما أهل الكلام فكثيرا ما يفضلهم على الفلاسفة، ويرى أنهم أقل انحرافا منهم (2) . فإذا انتقلنا إلى إنصافه للأفراد، فابن سينا الذى رد عليه كثيرا وذكر عبارات قاسية في الرد عليه يقول عنه: إنه أفضل متأخرى الفلاسفة (3) ، ولما نقل من كلامه في الإشارات والتنبيهات حول مقامات العارفين، ذكر أن فيه حقا وباطلا، وأن ما فيه من حق يقبل، ولما نقل كلامه قال: إنه كلام صحيح (4) . ولما خالف ابن سينا بقية الفلاسفة في مسألة علم الله مدحه شيخ الإسلام وقال: " وكون ابن سينا خالفهم في هذا هو من محاسنه وفضائله، التي علم فيها ببعض الحق، والحجة معه عليهم، كما أن أبا البركات كان أكثر إحسانا منه في هذا الباب فكل من أعطى الأدلة حقها، وعرف من الحق ما لم يعرفه غيره كان ذلك مما يفضل ويمدح " (5) ويذكر أن "الصواب في هذا الباب أن يقرر ما ذكره ابن سينا من الطريق الدال على كونه عالما بالمخلوقات فإنها طريق صحيحة ... " (6) . ويمدح أبا البركات البغدادي (7) صاحب المعتبر ونحوه ويرى أنهم " كانوا بسبب عدم تقليدهم لأولئك [أى الفلاسفة] ، وسلوكهم طريقة النظر العقلي   (1) منهاج السنة (3/39) . (2) انظر الرد على المنطقيين (ص: 395) ، والصفدية (1/161-162) ، ودرء التعارض (7/143) . (3) انظر: النبوات (ص: 7) ، ودرء التعارض (10/44) . (4) انظر: درء التعارض (6/59) . (5) انظر: درء التعارض (10/140) . (6) انظر: درء التعارض (10/146) . (7) هو: هبة الله بن علي بن ملكا، كان يهوديا فأسلم، ولد نحو سنة 480 هـ، وتوفي سنة 560 هـ عيون الأنباء (ص: 374) ، ووفيات الأعيان (6/74) ، وأخبار الحكماء للقفطي (ص: 224) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 بلا تقليد، واستنارتهم بأنوار النبوات أصلح قولا في هذا الباب من هؤلاء وهؤلاء، فأثبت علم الرب بالجزئيات ورد على سلفه ردا جيدا، وكذلك أثبت صفات الرب وأفعاله وبين ما بينه من خطأ سلفه، ورأى فساد قولهم في أسباب الحوادث، فعدل عن ذلك إلى أن أثبت للرب تعالى ما يقوم به [من] ، الارادات (1) الموجبة للحوا دث " (2) . وابن عربى- الصوفي- يرى أنه أقرب الاتحادية إلى الاسلام " لما يوجد في كلامه من الكلام الجيد كثيرا، ولأنه لا يثبت على الاتحاد ثبات غيره، بل هو كثير الاضطراب فيه، وإنما هو قائم مع خياله الواسع الذى يتخيل فيه الحق تارة والباطل أخرى، والله أعلم بما مات عليه " (3) ، ويرى أنه أقرب إلى الإسلام لأنه " يفرق بين الظاهر والمظاهر، فيقر الأمر والنهي والشرائع على ما هي عليه" (4) ومع ذلك فقد رد عليه وبين ما في كلامه وأقواله من الكفر. والطوسى لما بين مخازيه، وتآمره مع هولاكو ضد أهل الإسلام قال:"ومع هذا فقد قيل: إنه كان آخر عمره يحافظ على الصلوات ويشتغل بتفسير البغوي والفقه ونحو ذلك، فإن كان قد تاب من الإلحاد فالله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات والله تعالى يقول: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا} [الزمر: 53] " (5) . هذه نماذج لمواقفه من خصومه وإنصافه لهم، وهنا يرد السؤال الذى يطرحه بعض من يترجم لابن تيمية وهو: كيف يوجه شدة ابن تيمية على " خصومه في مواضع، ثم رفقه بهم في مواضع أخرى؟.   (1) في طبعة رشاد سالم- الارادات- بدون "من"، والتصويب من طبعة مكتبة الرياض الحديثة (1/128) (2) منهاج السنة، تحقيق: رشاد سالم (1/247) . (3) حقيقة مذهب الاتحاديين- مجموع الفتاوى (2/143) . (4) رسالته الى نصر المنبجي، مجموع الفناوى (2/470- ا 47) . (5) منهاج السنة النبوية- مكتبة الرياض الحديثة- (2/123) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 والإجابة عن هذا السؤال واضحة لمن يتتبع منهج شيخ الإسلام وطريقته في الرد على خصومه. أ- فشيخ الاسلام يفرق بين الأشخاص والأقوال، فإذا كان في مقام الرد على إحدى المقالات الفاسدة، نقضها بقوة، وردها إلى أصولها الأخرى الفاسدة، وشنع على من يعتقد مثل هذا الكلام، ويستدل بهذا الدليل الفاسد، ومن ثم يكون موقفه قويا وشديدا في سبيل نصرة الحق ورد الباطل، أما حين يتجه إلى صاحبها فقد يكون رجع عن هذه المقالة، أو تاب في آخر عمره، ومن ثم فلابد من إنصافه. ب- ثم هو-رحمه الله- إذا رد إحدى المقالات الباطلة رد على المقالة نفسها فنقضها ونقض ما فيها من استدلال، وشنع على من قال بها فيشتد في موقفه، لكنه حين يحكم على الأشخاص لا يحكم عليهم من خلال هذه المقالة الفاسدة التي ردها، وإنما ينظر إليهم نظرة متكاملة فيرى أن لهذا الشخص جهودا في الرد على النصارى، أو الفلاسفة، أو الرافضة، أو الجهمية، فيمدح أقواله تلك ويمدحه لأجلها. وهكذا 9- وأخيرا نشير إلى لمحات في منهجه: أ- فهو يقرن الأمور العلمية بالعملية، وكانت حياتهكما أسلفنا- قائمة على هذا، ولهذا فهو مع ردوده على أصحاب وحدة الوجود- الذين كانوا كثيرين في عهدهـ يقول: " ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم، أو ذب عنهم أو أثنى عليهم، أو عظم كتبهم، أو عرف بمساعدتهم، ومعاونتهم، أو كره الكلام فيهم، أو أخذ يعتذر لهم بأن هذا الكلام لا يدري ما هو؟ أو من قال إنه صنف هذا الكتاب؟ وأمثال هذه المعاذير التى لا يقولها إلا جاهل أو منافق، بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم ولم يعاون على القيام عليهم، فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات، لأنهم أفسدوا العقول والأديان علي خلق من المشايخ والعلماء والأمراء، وهم يسعون في الأرض فسادا ويصدون عن سبيل الله، فضررهم في الدين أعظم من ضرر من يفسد على المسلمين دنياهم ويترك دينهم كقطاع الطريق، وكالتتار الذين يأخذون منهم الأموال ويبقون لهم دينهم" (1) .   (1) مجموع الفتاوى (2/132) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 ولما سئل عمن يقول: إن رد أحمد بن حنبل على اللفظية كان خوفا من الناس أجاب بجواب طويل، لكنه قال في البداية: " بطلان هذا يعلمه كل عاقل بلغه شيء من أخبار أحمد، وقائل هذا إلى العقوبة البليغة التي يفترى بها على الأئمة أحوج منه إلى جواب ... " (1) . ب- ويرى أن بعض المسائل الفرعية التى وقع فيها الخلاف لا ينبغي مفاتحة عوام المسلمين فيها وامتحانهم حولها، ومن ذلك مسألة رؤية الكفار لله، فهو يقول في رسالته إلى أهل البحرين حول هذه المسألة وغيرها " وهنا آداب تجب مراعاتها ... ومنها،: " وكذلك لا يفاتحوا فيها عوام المسلمين، الذين هم في عافية وسلام من الفتن، ولكن إذا سئل الرجل عنها، أو رأى من هو أهل لتعريفه ذلك ألقى إليه مما عنده من العلم ما يرجو النفع به، بخلاف الايمان بأن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة، فإن الإيمان بذلك فرض واجب، لما قد تواتر فيها عن النبى - صلى الله عليه وسلم - وصحابته وسلف الأمة " (2) . ج- كما يرى التدرج في ذكر المسائل العلمية، يقول بعد كلام طويل حول القدر: " ومن فهم ما كتب انفتح له الكلام في هذا الباب، وأمكنه أن يحصل تمام الكلام في جنس هذه المسائل، فإن الكلام فيها بالتدرج مقاما بعد مقام هو الذي يحصل به المقصود، وإلا فإذا هجم على القلب الجزم بمقالات لم يحكم أدلتها وطرقها والجواب عما يعارضها، كان إلى دفعها والتكذيب بها أقرب منه إلى التصديق بها فلهذا يجب أن يكون الخطاب في المسائل المشكلة بطريق ذكر دليل كل قول، ومعارضة الآخر له حتى يتبين الحق بطريقة لمن يريد الله هدايته، {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} [النور:40] " (3) . د- ويرى أن القول الباطل قد يتبين بطلانه في نفسه من غير بيان وجه ذلك يقول بعد أن بين مذهب ابن عربي وأنه مبني على الزعم بأن المعدوم شيء ثابت   (1) الكيلانية- مجموع الفتاوى (12/438) . (2) مجموع الفتاوى (6/503-504) . (3) أقوم ماقيل في القضاء والقدر: مجموع الفتاوى (8/158) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 في العدم: " واعلم أن المذهب إذا كان باطلا في نفسه لم يمكن الناقد له أن ينقله على وجه يتصور تصورا حقيقيا؛ فإن هذا لا يكون إلا للحق، فأما القول الباطل فإذا بين فبيانه يظهر فساده، حتى يقال: كيف اشتبه هذا على أحد، ويتعجب من اعتقادهم إياه " (1) . ذ- ويرى أيضا أنه لابد من هدم الباطل الذي عند الخصم، ثم بناء الحق مكانه، ولذلك لما ذكر مناظرة الإمام أحمد للجهمية حين سألوا عن كلام الله أهو الله أو غير الله، فقال لهم أحمد: ما تقولون في علم الله، أهو الله أو غيره فعارضه أحمد بالعلم فسكت مناظرة- قال ابن تيمية- معلقا: " وهذا من حسن معرفة أبي عبد الله بالمناظرة-رحمه الله- فإن المبتدع الذي بنى مذهبه على أصل فاسد، فينبغي إذا كان المناظر مدعيا أن الحق معه، أن يبدأ بهدم ما عنده، فإذا انكسر وطلب الحق فأعطه إياه، والا فما دام معتقدا نقيض الحق لم يدخل الحق إلى قلبه، كاللوح الذي كتب فيه كلام باطل، امحه أولا، ثم اكتب فيه الحق، وهؤلاء كان قصدهم الاحتجاج لبدعتهم فذكر لهم الإمام أحمد -رحمه الله- من المعارضة ما يبطلها " (2) . وهذا يدل على براعة علماء السلف - رحمهم الله تعالى-. هـ- كما يرى شيخ الإسلام أن جواب الشبهة يجب أن يكون قويا حتى ينقضها ويعيب على الذين يوردون شبهات أهل الباطل ثم يردون عليها ردودا ضعيفة، ولما عرض لمسألة مجادلة أهل الكتاب ورأى جواز ذلك، ورد على من زعم أن جواز مجادلتهم منسوخ بآيات الجهاد والقتال (3) ، قال في أثناء الوجه السابع: ومما يعجب منه أن بعض المنكرين لمجادلة الكفار بناء على ظهور دلائل النبوة نجده هو ومن يعظمه من شيوخه الذين يعتمد في أصول الدين على نظرهم ومناظرتهم، ويزعمون أنهم قرروا دلائل النبوة قد أوردوا من الشبهات والشكوك   (1) حقيقة مذهب الاتحاديين، مجموع الفتاوى (2/145) . (2) جواب أهل العلم والإيمان، مجموع الفتاوى (7/158-159) . (3) انظر: الجواب الصحيح (1/66-78) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 والمطاعن على دلائل النبوة ما يبلغ نحو ثمانين سؤالا، وأجابوا عنه بأجوبة لا تصلح أن تكون جوابا في المسائل الظنية، بل هى إلى تقرير شبه الطاعنين أقرب منها إلى تقرير أصول الدين، وهم مثلهم الغزالي وغيره بمن يضرب شجرة ضربا يزلزلها به وهو يزعم أنه يريد أن يثبتها" (1) . والمشكلة أنه في بعض الأحيان يورد البعض الشبهة، وإن لم يوردها الخصوم، ويصورها تصويرا جيدا، ثم يجيب عنها فيأتي الجواب أضعف منها، ولو لم يوردها لكان أفضل. و ومن قواعد شيخ الإسلام مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك فيما إذا ولد الأمر بالمعروف ترك معروف اكبر، أو ولد النهي عن المنكر منكرا اكبر، وبني ذلك على مسألة المصالح والمفاسد اذا تعارضت، أو تزاحمت الحسنات والسيئات، "فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد؛ فإن الأمر والنهي- وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة- فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح، أو يحصل من المفاسد: اكثر، لم يكن مأمورا به، بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الانسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيرا بها وبدلالتها على الأحكام. وعلى هذا: إذا كان الشخص والطائفة جامعين بين معروف ومنكر، بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعا، أو يتركوهما جميعا، لم يجز أن يؤمروا بمعروف، ولا ينهوا عن منكر، بل ينظر: فإن كان المعروف أكثر أمر به، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته وطاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وزوال فعل الحسنات.   (1) انظر: الجواب الصحيح (1/66-77) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 وإن كان المنكر أغلب نهى عنه، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه: أمرا بمنكر وسعيا في معصية الله ورسوله. وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان: لم يأمر بهما، ولم ينه عنهما. فتارة يصلح الأمر، وتارة لا يصلح لا أمر ولانهى، حيث كان المعروف والمنكر متلازمين، وذلك في الأمور المعينة الواقعة، وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقا، وينهى عن المنكر مطلقا" (1) ، ويمثل لذلك في مكان آخر فيقول: " ولهذا لا يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه، ولهذا حرم الخروج على ولاة الأمر بالسيف، لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن ما يحصل بذلك من فعل المحرمات وترك واجب، أعظم مما يحصل بفعلهم المنكر والذنوب، وإذا كان قوم على بدعة أو فجور، ولو نهوا عن ذلك وقع بسبب ذلك شر عظيم مما هم عليه من ذلك- ولم يمكن منعهم منه، ولم يحصل بالنهي مصلحة راجحة،-لم ينهوا عنه" (2) . وهذه مسألة مهمة، ينبغي دراستها بعمق، ودراسة أصولها الشرعية لئلا يؤدي الأمر إلى نوع من الافراط أو التفريط في هذه المسألة التي اعتبرها بعض العلماء من أصول الدين. ز- كان شيخ الاسلام لا يطلب رضى الناس، ويعلل ذلك بأن رضى المخلوقين غير ممكن، ولأننا مأمورون بأن نتحرى رضى الله تعالى، كما أن علينا أن لا نخاف إلا الله، ومن لزم هذه الطريقة كانت العاقبة له (3) . ح- أمر بالاجتماع وعدم الفرقة، ويرى أن الاختلاف الذي ذكره الله في القرآن قسمان: قسم يذم فيه الطائفتان جميعا، وقسم يحمد فيه إحدى الطائفتين   (1) رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ص: 34) ت الجليند. (2) مجموع الفتاوى (14/472) . (3) انظر: مجموع الفتاوى (3/232-233) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 - وهم المؤمنون- وتذم فيه الطائفة الأخرى المخالفة لهم، كما يرى أن هناك اختلاف تنوع واختلاف تضاد، وإن الخلاف الذي بين السلف في تفسير الآيات وغيره إنما هو من النوع الأول (1) ، ثم يورد الأحاديث الواردة في النهي عن الاختلاف (2) . ويرى شيخ الاسلام أن " البدعة مقرونة بالفرقة، كما أن السنة مقرونة بالجماعة، فيقال: أهل السنة والجماعة، كما يقال: أهل البدعة والفرقة " (3) ، (ونتيجة الجماعة: رحمة الله ورضوانه وصلواته، وسعادة الدنيا والآخرة وبياض الوجوه، ونتيجة الفرقة: عذاب الله ولعنته، وسواد الوجوه وبراء الرسول منهم " (4) . ط- ضربه للأمثلة بما يوضح المراد، ففي مسألة التوسل، إنكار الوسائط بين الله وخلقه، ووضح المراد بضرب الأمثلة بالوسائل التي بين الملوك وبين الناس (5) -،كما ضرب الأمثلة لعذاب الروح والبدن ونعيمها في القبر (6) ، كما ضرب الأمثلة في مناسبات أخرى (7) . خامسا: الأمانة العلمية : قد يظن البعض أن المنهجية العلمية والأمانة في نقل النصوص ونسبتها إلى أصحابها، ومقارنة النسخ الخطية للوصول إلى نص المؤلف ... وغيرها، من مبتكرات هذا العصر، عصر الطباعة والنشر على نطاق واسع، كما يظن أن المستشرقين هم الذين تنبهوا إلى ذلك وتبنوه، ثم حذا حذوهم المسلمون، وليس المقام مقام مناقشة هذه الأمور لأن مثل هذه القضايا- والحمد لله - أصبحت   (1) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/126-133) . (2) نفس المصدر (1/135-144) . (3) الاستقامة (1/ 42) . (4) مجموع الفتاوى (1/17) . (5) انظر: الواسطة بين الحق والخلق- ط المكتب الاسلامي- (ص: 8-.1) . (6) انظر: مجموع الفتاوى (4/274-276) . (7) انظر: درء التعارض (3/97-98،5/366) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 واضحة لدى الكثير من المهتمين بأمور التراث والبحث العلمي، والمستشرقون وحركتهم المعادية للاسلام، وحقدهم الدفين عليه وعلى تراثه وعلى المتمسكين به لا يكاد يجهله من عنده غيرة على هذا الدين، والايجابيات- التي صاحبت حركتهم- جاءت مشوبة بهذه الأغراض الخبيثة، وهذا حكم عام، والا فالمستشرقون ليسوا على حد سواء. والأمانة العلمية من صميم ما يدعو اليه الإسلام، ولذلك طبقها المسلمون في حياتهم: أ- فالإسلام حث على الصدق والعدل، ونهى عن الكذب والقول بلا علم. ب- ثم تمثل ذلك في علم مصطلح الحديث، بأبوابه وفنونه، التي وصلت إلى أدق ما يمكن من الاتقان والضبط في الجرح والتعديل، والتحمل والأداء، وطبقات الرواة، والإدراج، والتصحيف والتحريف، وغيرها من علوم الحديث التي تميزت بها هذه الأمة عن غيرها من الأمم. وشيخ الإسلام إنما سار على منهج علماء الإسلام في هذا الباب، ولما كان يواجه خصوما عديدين برزت عنده كمنهج له طبقها في كتاباته ورسائله ... وشهد له بهذه المنهجية أعداؤه الذين لا يرضون سلفيته وردوده على من يعظمونه من أهل الأعتزال والأشاعرة وغيرهم، فالنشار- الذي يتهم شيخ الإسلام بتهم عديدة منها الكذب على الأشاعرة (1) - لا يملك إلا أن يناقض نفسه فيقول: " ولكن حسبنا من ابن تيمية أنه كان مؤرخا ممتازا للفكر الاسلامي، وأنه ترك لنا نصوصا رائعة نستطع بواسطتها أن نصوغ المذاهب التى لم تصل إلينا مصادرها الأصلية صياغة منهجية متكاملة " (2) ، ويقول:"وبهذا حفظت لنا كتب   (1) انظر: نماذج من اتهاماته لشيخ الإسلام في نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام (ج1 ص: 378، 333، 356،366،371) وغيرها. (2) نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام للدكتور على سامي النشار (1/278) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 ابن تيمية الكثير من عناصر المذهب الكلابي، وسيقدم لنا عرضه السهل الممتع تفسيرا هاما له، علاوة على أن ابن تيمية كان مؤرخا ممتازا للأفكار الفلسفية" (1) والدكتور أحمد صبحي لما انتقد البغدادي في كتبه لأنه شوه أقوال الفرق علق على ذلك بمدح من ينقل الأقوال بأمانة ومنهم:"ابن تيمية في منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية، ومن لم يطلع على كتاب (منهاج الكرامة في الامامة) لابن المطهر الحلى- والذي يرد عليه ابن تيمية- يستطع أن يستخلص من كناب ابن تيمية معظم عبارات ابن المطهر بنصها، وتلك نزاهة في الحوار لم يعرفها البغدادي" (2) . وكاتب آخر يقول: " ولكن الثابت أن ابن تيمية ينقل آراء الخصوم نقلا أمينا، ويشرع في مناقشتها بعد ذلك" (3) ، وبذلك أصبحت كتبه موضع ثقة الدارسين كما أشار أحد الكتاب (4) . وشيخ الإسلام ينطلق في هذا الباب من بيان أن من صفة أهل السنة العدل والرحمة، فيعدلون على من خرج عن السنة ويرحمون الخلق ويحبون الخير لهم (5) ، ويشير إلى أن الامام أحمد-رحمه الله- كان يعطي كل ذي حق حقه (6) ، وانه في كل فن يجب أن يرجع فيه إلى أهل فنه فالأحاديث يرجع فيها إلى أهل المعرفة بالحديث، والأحكام يرجع فيها إلى أهل المعرفة بها (7) . ثم يطبق هذا فيقول مثلا في رده على الاخنائي؛ حين خلط بين الأحاديث الواردة فيما سنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمته من زيارة القبور، وما نهى عنه مما يقصده   (1) نشأة الفكر الفلسفي (1/270) ، وانظر (2/339- 392) . (2) في علم الكلام: أحمد صبحى (2/95-96) . (3) نشأة الأشعرية وتطورها، للدكتور جلال محمد موسى (ص: 334) . (4) دراسات في فكر ابن تيمية: عبد اللطيف محمد العبد (ص: 14- هـ 1) . (5) انظر: الاستغاثة (2/256-257) . (6) انظر: تلخيص الاستغاثة (1/12-13) . (7) انظر: نفس المصدر (1/12-13) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 أهل البدع من السفر لزيارة القبور ودعائهم والاستشفاع بهم:"وهذا الموضع يغلط فيه هذا المعترض وأمثاله، ليس الغلط فيه من خصائصه، ونحن نعدل فيه ونقصد قول الحق والعدل فيه كما أمر الله تعالى، فإنه أمر بالقسط على أعدائنا الكفار، فقال سبحانه وتعالى {كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8] ، فكيف بإخواننا المسلمين، والمسلمون إخوة، والله يغفر له ويسدده، ويوفقه وسائر اخواننا المسلمين" (1) . ويرى شيخ الإسلام أن عامة ما يؤتي الناس إما في تفريط في الحق وأدلته أو دخول في الباطل (2) ، كا أنه يؤكد أن الحجج القوية لا تقابل بالجحد فيقول: "وليس مما أمر الله به ورسوله ولا مما يرتضيه عاقل أن تقابل الحجج القوية بالمعاندة والجحد، بل قول الصدق والتزام العدل لازم عند جميع العقلاء، وأهل الإسلام والملل أحق بذلك من غيرهم؛ اذ هم- ولله الحمد- أكمل الناس عقلا، وأتمهم إدراكا، وأصحهم دينا، وأشرفهم كتابا، وأفضلهم نبيا، وأحسنهم شريعة" (3) . وبعد هذه المقدمة نذكر نماذج من منهجه: أ- دعوته إلى نقل الأقوال بألفاظها: ا- قال في رده على النصارى: "وأنا أذكر ما ذكروه بألفاظهم بأعيانها، فصلا فصلا، وأتبع كل فصل بما يناسبه من الجواب فرعا وأصلا وعقدا وحلا.." (4) ، ثم لما نقل نصا من كتاب النصارى الذى ردوا به على المسلمين   (1) الرد على الإخنائي (ص: 81-82) ط السلفية. (2) انظر: الصفدية (1/293- 294) (3) انظر: درء التعارض (9/207) . (4) الجواب الصحيح (1/19) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 قال:"وهذه ألفاظهم بأعيانها في الفصل الأول " (1) . 2- وينعي على الإخنائي الذي رد على ابن تيمية فحرف كلامه، يقول:" وكان ينبغى أن يحكي لفظ المجيب بعينه، ويبين ما فيه من الفساد، وإن ذكر معناه فيسلك سبيل الهدى والسنة، فأما أن يذكر عنه ما ليس فيه، ولا يذكر ما فيه فهذا خروج عن الصدق والعدل إلى الكذب والظلم" (2) . 3 ولما نقل الرازى مناظرة ابن الهيصم لابن فورك حول العلو، وذكر الرازي أنه نظم حجة ابن الهيصم أحسن من نظمه، فقال ابن تيمية في معرض المناقضة: "وأما الحجة التي ذكرها عن ابن الهيصم فلم يذكر ألفاظها، لكن ذكر أنه نظمها أحسن من نظمه، ونحن في جميع ما نورده نحكي ألفاظ المحتجين بعينها، فإن التصرف في ذلك قد يدخله خروج عن الصدق والعدل، إما عمدا وإما خطأ، فإن الإنسان إن لم يتعمد أن يلوي لسانه بالكذب أو يكتم بعض ما يقوله غيره، لكن المذهب الذي يقصد الإنسان إفساده لا يكون في قلبه من المحبة له ما يدعوه إلى صوغ أدلته على الوجه الأحسن حتى ينظمها نظما ينتصر به، فكيف إذا كان مبغضا لذلك؟ والله أعلم بحقيقة ما قاله ابن الهيصم ونقله هذا عنه، لكن نحن نتكلم على ما وجدناه، مع العلم بأن الكرامية فيهم نوع بدعة في مسألة الإيمان وغيرها كما في الأشعرية أيضا بدعة، لكن المقصود في هذا المقام ذكر كلامهم وكلام النفاة" (3) . ومن هذا النص المهم يتبين حرص شيخ الإسلام على نقل ألفاظ الخصوم بعينها، وأن هذه خطة اختطها لنفسه، كما أنه يشير إلى ناحية نفسية عند الإنسان حين يريد إبطال مذهب أو قول، وهو تنبيه إلى أمر واقعي، كثيرا ما يكون سببا في كثرة الجدال، وغلبة الشحناء وعدم الوصول إلى الحق بسرعة.   (1) الجواب الصحيح (1/28) (2) الرد على الاخنائي (ص: 13) ط السلفية (3) نقض أساس التقديس المطبوع (2/344) ، وانظر ردا آخر على أحد المعترضين عليه حول اسم "النور" وأنه لم يقل ما قاله المعترض على الوجه الذي حكاه، مجموع الفتاوى (6/375) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 ب- الدقة في نسبة الأقوال إلى أصحابها: أ- فهو يعتمد النقل الصحيح للأقوال، فيقول: " وقد بلغنى بإسناد متصل عن بعض رؤوسهم- وهو الخونجي (1) - صاحب " كشف الأسرار في المنطق " - وهو عند كثير منهم غاية في هذا الفن- أنه قال عند الموت " أموت وما علمت شيئا إلا أن الممكن يفتقر إلى الواجب " ثم قال: " الافتقار وصف عدمي، أموت وما علمت شيئا "، وذكر الثقة عن هذا الآمدي أنه قال: " أمعنت النظر في الكلام وما استفدت شيئا إلا ما عليه العوام، أو كلاما هذا معناه.. ". وكذلك حدثني الثقة من قرأ على ابن واصل الحموي أنه قال: " أبيت بالليل وأستلقى على ظهري وأضع الملحفة على وجهي، أقابل أدلة هؤلاء بأدلة هؤلاء وبالعكس، وأصبح وما ترجح عندي شيء " كأنه يعني أدلة المتكلمين والفلاسفة " (2) . وكثيرا ما ينقل شيخ الإسلام عن الثقات فيما يتعلق بأحوال عصره وأقوال رجالهم. 2- ولما رمى ابن المطهر الحلي المسلمين بأنهم حشوية ومجسمة، قال شيخ الاسلام في معرض الرد عليه: " ومن أراد أن ينقل مقالة عن طائفة فليسم القائل والناقل، وإلا فكل أحد يقدر على الكذب، فقد تبين كذبه فيما نقله عن أهل السنة " (3) . 3- ويرى أن المعرفة بحقيقة أقوال الناس إنما تتم بنقل ألفاظهم فيقول: " وكثير من الناقلين ليس قصده الكذب، لكن المعرفة بحقيقة أقوال الناس من غير نقل ألفاظهم وسائر ما به يعرف مرادهم قد يتعسر على بعض الناس ويتعذر على بعضهم" (4) .   (1) هو: أفضل الدين أبو عبد الله محمد بن ناماور بن عبد الملك، الخونجي الشافعي، تولى قضاء القضاة في مصر، ولد سنة 590 هـ، وتوفي سنة 646 هـ، له الحمل في المنطق ط- وكشف الأسرار - في المنطق وغيرها، انظر: عيون الأنباء (ص: 586) ، وذيل الروضتين (182) ، وسير أعلام النبلاء (23/228) ، ومقدمة رسالتان في المنطق (ص:5- 25) . (2) درء التعارض (3/262-264) . (3) منهاج السنة؛ المحققة (2/413) . (4) منهاج السنة (3/208) - مكتبة الرياض الحديثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 4- وفي رده على الآمدي حين نقل عن طائفة أنهم يقولون عن الله: إنه جسم الأجسام، حقق القول في هذه النسبة فقال:"مع أني إلى ساعتى هذه لم أقف على قول لطائفة، ولا نقل عن طائفة أنهم قالوا: جسم كالأجسام مع أن مقالة المشبهة الذين يقولون: يد كيدى، وقدم كقدمي، وبصر كبصري مقالة معروفة، وقد ذكرها الأئمة كيزيد بن هارون، وأحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه، وغيرهم، وأنكروها وذموها، ونسبوها إلى مثل داود الجواربي البصري وأمثاله، ولكن مع هذا صاحب هذه المقالة لا يمثل بكل شيء من الأجسام، بل ببعضها، ولابد مع ذلك أن يثبتوا التماثل من وجه والاختلاف من وجه، لكن إذا أثبتوا من التماثل ما يختص بالمخلوقين كانوا مبطلين على كل حال " (1) . 5- ولما ذكر أقوال المرجئة في الوعيد قال: " ويذكر عن غلاتهم أنهم نفوا الوعيد بالكلية، لكن لا أعلم معينا معروفا أذكر عنه هذا القول، ولكن حكي هذا عن مقاتل بن سليمان، والأشبه أنه كذب عليه " (2) . وأحيانا يقول: وأظن أن قول فلان هو هذا وما يشبه هذا (3) ، وقد يعبر أحيانا بمثل قوله:" كأن في الحكاية عنهما غلطا " (4) . 6- تصحيحه للأقوال التي تنسب خطأ إلى بعض الناس، فالكرامية الذين يقولون: إن الايمان قول في اللسان- وعليه فالمنافقون عندهم مؤمنون- يقول عنهم: " وبعض الناس يحكى عنهم أن من تكلم بلسانه دون قلبه فهو من أهل الجنة، وهو غلط عليهم، بل يقولون: إنه مؤمن كامل الايمان، وأنه من أهل النار " (5) .   (1) درء التعارض (4/144-145) ، وانظر (4/26-27) . (2) شرح الأصفهانية (ص: 144) ، وانظر منهاج السنة (3/73) . وقال " والظاهر أنه غلط عليه". (3) الرسالة الأكملية، مجموع الفتاوى (6/96) . (4) النبوات (ص:5) ، دار الكتب العلمية. (5) الفرقان بين الحق والباطل- مجموع الفتاوى (3/561) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 ويقول- بعد أن نقل كلاما للحلاج رواه عنه القشيري في الرسالة-:" قلت هذا الكلام- والله أعلم- هل هو صحيح عن الحلاج أم لا؟ فإن في الإسناد من لا أعرف حاله، وقد رأيت أشياء كثيرة منسوبة إلى الحلاج من مصنفات وكلمات ورسائل، وهي كذب عليه لاشك في ذلك، وإن كان في كثير من كلامه الثابت عنه فساد واضطراب، لكن حملوه أكثر مما حمله .... " (1) . ولما ذكر مسألة الاستثناء في الماضي المعلوم المتيقن، مثل قوله: هذه شجرة إن شاء الله، وهذا إنسان إن شاء الله، قال: " هذه بدعة مخالفة للعقل والدين، ولم يبلغنا عن أحد من أهل الإسلام، إلا عن طائفة من المنتسبين إلى الشيخ أبي عمرو بن مرزوق (2) ، ولم يكن الشيخ يقول بذلك، ولا عقلاء أصحابه ولكن حدثني بعض الخبيرين أنه بعد موته تنازع صاحبان له: حازم وعبد الملك فابتدع حازم هذه البدعة في الاستثناء في الأمور الماضية المقطوع بها، وترك القطع بذلك، وخالفه عبد الملك في ذلك موافقة لجماعة المسلمين وأئمة الدين، وأما الشيخ أبو عمرو فكان أعقل من أن يدخل في مثل هذا الهذيان فإنه كان له علم ودين ... " (3) . 7- ولما انتقد بعض العلماء لأنه يحرف المقالات ذكر الدليل على ذلك، بالمقارنة بين نقله والأصل المنقول عنه، ولما نقل عن هذا العالم نفسه نصا آخر شك في وجود تحريف فيه قال بكل أمانة: " وكذلك فيما نقله من كلام الأشعري كيف زاد فيه ونقص مع أن المنقول نحو ورقتين فلعله أيضا قد عمل ذلك فيما نقله من كلام ابن كلاب إذ لم نجد نحن نسخة الأصول الذي (4) نقل منها حتى نعلم كيف فعل فيها، وفيما نقله تحريف بين " (5) .   (1) الاستقامة (1/119) . (2) هو: الشيخ عمان بن مرزوق بن حميد القرشي، توفي سنة 564 هـ، ذيل طبقات الحنايلة (1/306-311) . (3) مجموع الفتاوى (8/ 421-422) . (4) كذا في المخطوط وصحة العبارة أن يقال (التي) . (5) نقض أساس التقديس المخطوط (1/87) ، وانظر في المثال الأول، الذى أثبت فيه التحريف لوجود الأصل الذي نقل عنه (ص:54) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 ج- رجوعه إلى المصادر والكتب، والاعتذار إذا لم يجدها: ا- فيشير إلى أن أقوال الخوارج إنما عرفها بنقل الناس عنهم، ولم يقف لهم على كتاب مثل غيرهم، يقول: " وأقوال الخوارج إنما عرفناها من نقل الناس عنهم، لم نقف لهم على كتاب مصنف، كما وقفنا على كتب المعتزلة، والرافضة، والزيدية، والكرامية، وا لأشعرية، والسالمية، وأهل المذاهب الأربعة، والظاهرية، ومذاهب أهل الحديث، والفلاسفة والصوفية ونحو هؤلاء " (1) . 2- ولما تكلم في إحدى المسائل- مسألة الارادة الجازمة هل يعاقب عليها إذا كانت معصية- فصل القول تفصيلا دقيقا، لكنه اعتذر أثناء الجواب فقال: " وحين كتبت هذا الجواب لم يكن عندي من الكتب ما يستعان به على الجواب فإن له موارد واسعة " (2) . 3- ولما نقل كلام الباقلافي من كتابه " الإبانة " بما يدعم مذهب أهل السنة قال:" وقال في كتاب التمهيد كلاما اكثر من هذا، لكن ليست النسخة حاضرة عندي " (3) . 4- اعتماده الخط- إذ عرف صاحبهـ يقول:"ورأيت بخط القاضى أبي يعلى-رحمه الله- على ظهر كتاب " العدة" بخطه قال:" نقلت من آخره كتاب الرسالة للبخارى في أن القراءة غير المقروء ... " (4) . د - رجوعه إلى اكثر من نسخة للكتاب الواحد: ا- فحينما يرجع إلى سنن الترمذي، يذكر اختلاف النسخ في حكم الترمذي على الأحاديث، فمثلا في حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- قال:   (1) الفرقان بين الحق والباطل، مجموع الفتاوى (13/49) . (2) مجموع الفتاوى (1/765-766) . (3) الفتوى الحموية، مجموع الفتاوى (5/99) . (4) الكيلانية، مجموع الفتاوى (12/362) ، وفي نموذج آخر: لما نقل أبيات ابن عربي المشهورة وتكلم عليها قال:" ولهذا يقول: إن قلت عبد فذاك ميت"، وفي موضع آخر رأيته بخطه " إن قلت ميت فذاك نفي"، مجموع الفتاوى (2/114-115) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 " لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" قال: رواه أهل السنن الأربعة، وقال الترمذي " حديث حسن " وفي بعض نسخه "صحيح " (1) . 2- ولما نقل من كتاب " الرد على الجهمية " للامام أحمد بن حنبل رجع إلى أكثر من نسخة، ففي أحد النصوص: " ولا يكون شيئين مختلفين، وفي نسخة ولا يوصف بوصفين مختلفين ... " وفي نص آخر: تبين للناس أنهم لا يأتون بشيء- وفي نسخة: لا يثبتون شيئا- ... " (2) . 3- وأيضا في كتاب"الحيدة"لعبد العزيز الكناني رجع إلى اكثر من نسخة (3) ، وطرح رأيه في إحداها وناقشه (4) . 4- ولما نقل عن الرازي نصا فيه"فقد التزمه أصحابنا" قال: وفي نسخة "بعض أصحابنا " (5) . هـ- تصويبه لما يرى من أخطاء بعد نقل النص كما هو: 1- ومن أمثلة ذلك أن الاخنائي احتج في رده على ابن تيمية بحديث موضوع صحفه ليحتج به، ولفظه كما ذكره: " من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى على نائيا سمعته" قال شيخ الإسلام:"هكذا في النسخة التي أحضرت إلي مكتوبة عن المعترض، وقد صحح على قوله " سمعته " وهو غلط   (1) اقتضاء الصراط المستقيم (1/294) ، والحديث رواه الترمذى في أبواب الصلاة، باب ما جاء في كراهية أن يتخذ على القبر مسجدا ورقمه (0 32) " (2/136) - تحقيق: شاكر"وقد رجعت إلى طبعة عبد الوهاب عبد اللطيف (1/ 201) ورقمه (319) ، والى تحفة الأحوذي (1/266) ، هندبة، وإلى عارضة الأحوذى (2/117) ، ومعارف السنن (3/309) وفي كلها " أن الترمذى قال " حديث حسن، وابن تيمية إنما رجع إلى نسخة أخرى غير ما اعتمد عليه هؤلاء. (2) درء التعارض (2/176-177) ، وانظر نموذجا آخر في نقله من هذا الكتاب في الجواب الصحيح (1/173) . (3) درء التعارض (2/251، 272، 290) . (4) المصدر نفسه (2/273) . (5) نقض التأسيس المخطوط (2/116) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 فإن لفظ الحديث "من صلى على عند قبري سمعته، ومن صلى علي نائيا بلغته" هكذا ذكره الناس " (1) . ثم ذكر من رواه وكلام العلماء في إسناده ورجاله، وما يغني عنه من الأحاديث الأخرى (2) . 2- ولما نقل عن أبي محمد بن عبد المالكي من كتابه في أصول السنة والتوحيد، نقل كلامه حول المعارف فذكر أنه قال: " فأول الكلام الواقع في الخلاف في المعارف فجمهور قول المعتزلة أن جميعها اضطرار، قلت: كأنه بالعكس " (3) ، وفي نص آخر قال أبو محمد بن عبد: " فعز ربنا أن يقوم بالعلل فيصير دليلا بعدما كان مدلولا"، هكذا رأيته في الكتاب، إنما أراد: فيصير مدلولا بعدما كان دليلا " (4) . هذا منهج شيخ الاسلام، جاء الكلام حوله طويلا، لكثرة كتبه وتنوعها، وطولها، ولعل ما سبق يعين على إعطاء صورة واضحة لذلك. * * *   (1) الرد على الاخنائي (ص: 131-134) ط السلفية، وانظر: مختصره في مجموع الفتاوى (27/241-242) . والحديث ذكر شيخ الاسلام أن القاضى عياض نسبه إلى ابن أبي شيبة، وقد اطلعت عل المصنف في مظانه ومنها أحاديث فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم أجده، انظر: المصنف كتاب الفضائل (11/504) وما بعدها، لكن ذكر حديثا فيه أن ملكا موكلا بمن صلى عليه أن يبلغ عنه؛ انظره في (11/507) برقم (841) ، كما ذكر ابن تيمية أن البيهقى رواه وذلك في شعب الايمان كما في كنز العمال (1/492) برقم (2165) . ثم وجدته في الشعب رقم 1481 (4/213-214) - ط الدار السلفية الهند. وانظر تعليق المحقق عليه. (2) انظر: الرد على الإخنائي (ص: 132) وما بعدها. (3) درء التعارض (8/504) . (4) نفس المصدر (8/507) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 الفصل الثالث: أبو الحسن الأشعري أولا: عصره. ثانيا: نسبه ومولده ووفاته. ثالثا: ثناء العلماء عليه. رابعا: شيوخه. خامسا: تلاميذه. سادسا: مؤلفاته. سابعا: أطوار حياته العقدية: أ- طور الأشعري الأول (الاعتزال) . ب- رجوعه عن الاعتزال وتاريخه وأسبابه. ج- مذهب الأشعري بعد رجوعه: وهل كان طورا أو طورين. ثامنا: عقيدته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 أولا: عصر الأشعري : عاش أبو الحسن الأشعري-رحمه الله- بين سنتي 260 هـ- 324 هـ- على الأرجح، وعاش في البصرة وبغداد في العراق، بلد الخلافة العباسية التي بقيت داخلة تحت حكمهم إلى أن شطت الخلافة سنة 656 هـ. ويتميز عصر الأشعري بما يلي: 1- ضعف الدولة العباسية، بسبب ضعف الخلفاء، الذي بدأ في عهد الخليفة أبى إسحاق محمد المعتصم بالله [خلافته: 218- 227 هـ] ، وذلك حين بدأ نفوذ الأتراك يزداد لما اكثر منهم، حتى ضاقت فيهم بغداد فبنى لهم سامراء (1) التى أصبحت عاصمة الخلافة وكان ذلك سنة 221 هـ، وقد استمرت عاصمة للخلفاء من بعده إلى أن تحول عنها الخليفة أبو العباس أحمد المعتمد على الله [خلافته: 256- 279 هـ] ، حيث استقرت دار الخلافة مرة أخري في بغداد (2) . وهؤلاء الأتراك- الذين أصبحوا جند الخلافة- أصبح نفوذهم كبيرا حتى أنهم صاروا ينصبون من يشاءون ويعزلون أو يقتلون من يشاءون من الخلفاء، وكان الوزير هو الذي يتولى تدبير شؤون البلاد، وليس للخليفة إلا الاسم. وقد عاصر أبو الحسن الأشعري ستة من الخلفاء أولهم المعتمد على الله وآخرهم أبو العباس أحمد الراضي بالله [خلافته: 322- 329 هـ] . 2- كما يتميز عصره ببعض القلاقل والأحداث من أهمها ثورة الزنج التي   (1) سامراء أو سر من رأى، بلدة على نهر دجلة فوق بغداد بثلاثين فرسخا، بين بغداد وتكريت، وقد خربت ولم يبق فيها إلا سرداب الشيعة حيث ينتظر الشيعة خروج مهديهم منه، انظر: الأنساب للسمعاني (7/14) ، ومعجم البلدان (3/173) ، والروض المعطار (ص300) . (2) انظر: العالم الاسلامي في العصر العباسي (ص: 323) ومابعدها، والكامل (7/455) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 استمرت قرابة خمسة عشر عاما من سنة 255 هـ إلي سنة 270 هـ (1) ، وفها ابتداء أمر القرامطة سنة 278 هـ الذين أشاعوا الفتن وحربوا الخلافة العباسية واستمرت تحركاتهم ردحا من الزمن (2) ، وإقامة الدولة العبيدية الفاطمية في المغرب سنة 296 هـ (3) ، ثم في مصر بعد ذلك، واستقلال الطولونيين بحكم مصر وسوريا من سنة 264 هـ إلي سنة 292 هـ بعد أن كانوا ولاة على مصر من قبل العباسيين (4) وبلغ من قوة هذه الدولة وضعف الخلفاء أن الخليفة المعتمد عزم على الذهاب إلى ابن طولون في مصر لاستبداد أخيه الموفق، ثم عمل أخوه على إرجاعه، وكان ذلك سنة 269 هـ قبل وفاة أحمد بن طولون بعام (5) . 3- أما من الناحية العلمية، فتميز هذا العصر بوجود عدد من العلماء في الحديث والفقه والعقيدة ومن أبرز أعلام هذا العصر: - داود بن على الظاهري، الذي توفي سنة 270 هـ (6) . - والربيع بن سليمان، صاحب الشافعي، توفي سنة 270 هـ (7) . - وابن ماجه، صاحب السنن، توفي سنة 273 هـ (8) .   (1) انظر: الكامل (7/5 0 2،235،241،244،5 0 4) ،والعبر (1/387، 388) . (2) انظر: تاريخ الطبرى (10/23) ، وفضائح الباطنية (ص: 12) ، والمنتظم (5/ 110) ، وتثبيت دلائل النبوة: عبد الجبارالهمذاني (2/376) ، وكشف أسرار الباطنية (ص: 1 0 2) مطبوع في آخر التبصير بالدين، والقرامطة: محمود شاكر (ص: هـ) وما بعدها. (3) انظر في نشأة الدولة العبيدية الفاطمية: عيون الأخبار للداعي الإسماعيلى إدريس القرشي، السبع الخامس (ص: 44) وما بعدها، ورسالة افتتاح الدعوة للقاضي النعمان الإسماعيلى (ص: 54) وما بعدها، واتعاظ الحنفاء (1/55) وما بعدها، وانظر: القوى السنية في المغرب (1/98) وما بعدها. (4) انظر حسن المحاضرة (1/594) ، وتاريخ الدولة الإسلامية ومعجم الأسر الحاكمة (1/128) (5) انظر: الكامل (7/ 394) ، والعبر (1/ 386) . (6) العبر (1/389) ، والكامل (2/7 1 4) ، والبداية والنهاية (11/47) . (7) العبر (1/0 39) ، والبداية والنهاية (1/48) . (8) الكامل (7/425) ، والبداية والنهاية (11/52) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 - وأبو بكر المروزى- أحد أجلاء أصحاب الإمام أحمد، توفي سنة 275 هـ (1) . - وأبو داود السجستاني- صاحب السنن- ت 275 هـ وهو من تلاميذ الإمام أحمد، توفي بالبصرة (2) . - ابن قتيبة: عبد الله بن مسلم عالم وخطيب أهل السنة. ت 276 (3) هـ في بغداد. - الترمذى- صاحب السنن- ت 279 هـ (4) . - عثمان بن سعيد الدارمي، الذى كان " جذعا في أعين المبتدعة، قيما بالسنة " (5) . توفي سنة 280 هـ. - إبراهيم بن إسحاق الحربي، أحد تلامذة الامام أحمد، وكان يشبه به في وقته، توفي سنة 285 هـ (6) . - عبد الله بن إلامام أحمد ت 290 هـ (7) - محمد بن نصر المروزي، المحدث الشافعي، ت 294 هـ (8) . - النسالمط- صاحب السنن، ت 303 هـ (9) . - الطبري- صاحب التفسير، ت 310 هـ (10) .   (1) العبر (1/396) . (2) العبر (1/396) ، والبداية والنهاية (11/54) (3) الكامل (7/438) ، والعبر (1/397) ، وجعله ابن كثير في وفيات 270 هـ، البداية (11/48) . (4) الكامل (7/460) ، والعبر (1/402) ، والبداية (11/66) . (5) العبر (1/403) ، والبداية (11/69) . (6) الكا مل (7/492) ، والعبر (1/410) ، والبداية (11/79) . (7) الكامل (7/539) ، والعبر (1/418) ، والبداية (11/96) . (8) العبر (1/426) ، والبداية (11/102) (9) الكامل (8/ 96) ، والعبر (1/444) ، والبداية (11/123) . (10) الكامل (8/134) ، والعبر (1/460) ، والبداية (11/145) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 - ابن خزيمة- إمام الأئمة محمد بن إسحاق- ت 311 هـ (1) . - الطحاوي- أحمد بن محمد بن سلامة- ت 321 هـ (2) . وغيرهم من العلماء، وهم كثير، لكن لم نشر إليهم اختصارا. 4- كما وجد عدد من أهل الكلام والاعتزال والتصوف، وغيرهم، كما وجدت بعض الأحداث، فإضافة إلى القرامطة كان للخوارج بعض التحركات (3) ، كما عزم الخليفة المعتضد سنة 284 هـ على لعن معاوية- رضي الله عنهـ على المنابر (4) ، كما كان عام 321 هـ ابتداء ظهور دولة بني بويه الشيعية (5) . ومن أشهر أهل الكلام والتصوف والرفض: - أحمد بن مخالد، مولى المعتصم، وكان من دعاة المعتزلة، ت 269 هـ (6) . - وابن الراوندي الملحد، كان معتزليا ثم خرج عليهم، ت 300 هـ (7) . - والجبائي، أبو على محمد بن عبد الوهاب، ت 353 هـ (8) . - والكعبى، عبد الله بن أحمد البلخي شيخ المعتزلة، ت 319 هـ (9) . - والجبائي، أبو هاشم، ت 321 هـ (10) .   (1) العبر (1/462) ، وسير أعلام النبلاء (14/365) ، وطبقات السبكي (3/159) . (2) العبر (2/ 11) ، والبداية (11/174) . (3) انظر: الكامل (7/423، 437،453، 462، 470، 476) ، أحداث سنة 273 هـ- 283 هـ. (4) انظر: الكامل (7/485) ، والعبر (1/408) ، والبداية (11/76) . (5) الكامل (8/264) . (6) الكامل (7/398) . (7) العبر (1/439) . (8) الكامل (8/96) . (9) العبر (2/4) . (10) الكامل (8/273- 274) ، والعبر (2/12) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 - سهل بن عبد الله التستري، ت 283 هـ (1) . - والحزاز أحمد بن عيسى، أول من تكلم في الفناء والبقاء، ت 286 هـ (2) . - الجنيد، أبو القاسم الجنيد بن محمد القواريرمم! ا، سيد الطائفة الصوفية، ت 298 هـ (3) . - الحلاج، قتل سنة 309 هـ (4) . - الشلمغاني، قتل سنة 322 هـ (5) . - الكليني الرافضي: محمد بن يعقوب صاحب الكافي، توفي سنة 329 هـ (6) كما كان من العلماء الذين كانت لهم ميول إلى أقوال أهل الكلام: - الصبغي: أحمد بن إسحاق، ولد سنة 258 هـ، وتوفي سنة 342 هـ وكانت له قصة مع ابن خزيمة حول الكلام ومذهب ابن كلاب (7) . - وأبو علي الثقفي: محمد بن عبد الوهاب، من ولد الحجاج، ولد سنة 244 هـ وتوفي سنة 328 هـ، قال عنه الصبغى: " ما عرفنا الجدل والنظر حتى ورد أبو علي الثقفي العراق " (8) ، وكان ممن خالف ابن خزيمة.   (1) العبر (1/407) . (2) العبر (1/412) . (3) المصدر السابق (1/435) . (4) الكا مل (8/126- 129) ، والعبر (1/454) . (5) اسمه محمد بن علي المعروف بابن أبي القراقر، وشلمغان قرية بنواحي واسط، انظر: الكامل (8/290-294) ، والعبر (2/14) . (6) سير أعلام النبلاء (15/280) . (7) ستأتي ترجمة الصبغي وابن كلاب في الفصل الرابع. (8) سير أعلام النبلاء (15/282) وستأتي ترجمته في الفصل الرابع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 - الماتريدي: محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور، إمام الماتريدية، توفي سنة 333 هـ (1) . 5- كما كان للحنابلة أحيانا نفوذ في بغداد، وكانت تقع بينهم وبين غيرهم بعض الفتن (2) ، وفي سنة 323 هـ كان لهم نفوذ عظيم في عهد عالمهم البربهاري- أبو محمد الحسن بن على بن خلف الذي توفي سنة 328 هـ (3) - ثم خرج توقيع الخليفة الراضى ضدهم بتهمة التشبيه حتى اختفى واستتر شيخهم وتوفى وهو مستتر (4) . هذا عصر الأشعري الذي عاش فيه، وهو يدل على قوة أهل السنة بأعلامهم الكبار، الذي كان لهم نفوذ كبير وصل إلى أن يصدر الأمر من المعتضد إلى الوراقين ببغداد- سنة 279 هـ- أن يحلفوا أن لا يبيعوا كتب الكلام والفلسفة، وأن لا يمكن أحد من القصاص والطرقية والمنجمين ومن أشبههم من الجلوس في المساجد ولا في الطرقات (5) .   (1) ستأتي ترجمته في الفصل الرابع. (2) انظر: الكامل (8/213) حوادث عام 317 هـ. (3) ستأتي ترجمته ومصادرها (ص: 384) ،وانظر: حول نفوذ الحنابلة الكامل (8/307) ، والعبر (2/18) . (4) انظر: الكامل (8/308- 309) . (5) انظر: الكامل (7/453) ، والعبر (1/400) ، والبداية والنهاية (11/64) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 ثانيا: نسبه ومولده ووفاته : هو الشيخ أبو الحسن على بن إسماعيل بن أبي بشر- إسحاق- بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري - صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبو الحسن الأشعري ينتهي نسبه الى هذا الصحابي الجليل، واسمه عبد الله بن قيس بن حضار الأشعري اليماني (1) . اختلف في تاريخ ولادته فقيل سنة 260 هـ، وقيل سنة 266 هـ (2) ، وقيل سنة 270 هـ (3) ، والأول هو الأرجح الذي عليه اكثر مترجميه، كما أنه يتناسب مع ماذكر (4) في حياته من تحوله عن الاعتزال وهو في الأربعين، وهو الذي رجحه الخطيب البغدادي وابن عساكر.   (1) انظر في ترجمة الأشعري: تاريخ بغداد (11/346) وتبيين كذب المفتري، والفهرست (ص:231) - ط طهران-، والمنتظم لابن الجوزي (6/332) ، والكامل في التاريخ (8/392) ، والأنساب للسمعاني (1/273) ، واللباب (1/64) ، وتكملة تاريخ الطبري للهمذاني (ص: 334) ت- أبو الفضل إبراهيم- و (ص: 130) من الطبعة الكاثوليكية. وترتيب المدارك (5/ 24) - الطبعة المغربية-، ووفيات الأعيان (3/284) ، والعبر (2/23) ، وسير أعلام النبلاء (15/ 85) ، والبداية والنهاية (11/187، 204، 206) ، وطبقات الشافعية لابن قاضى شهبة (1/81) ، وللسبكي (3/347) ، وللأسنوي (1/72) ، والمختصر لأبي الفداء (2/89) ، وتتمة المختصر لابن الوردي (1/409) ، والدبياج المذهب (2/94) ، والجواهر المضية (2/544، 4/33) ، والخطط للمقريزي (2/358) - ط- بو لاق-، وشذرات الذهب (2/303) ، والنجوم الزاهرة (3/259) ، وطبقات المفسربن للداودي (1/390) ، وشجرة النور الزكية (1/79) ، وجلاء العينين (ص: 247) - ط المدني-، ومفتاح السعادة (2/152) ، ودائرة المعارف الاسلامية (2/218) ، وبروكلمان (4/38) ، وسزكين (م1ج 4 ص: 35) ، ومعجم أعلام الفكر الإنساني (1/587) ، والأشعري حمودة غرابة، ومذاهب الإسلاميين: بدوي (1/487) ، ونشأة الأشعرية وتطورها (ص: 165) ، وفي علم الكلام أحمد صبحى (ج2) عن الأشاعرة (ص: 35) ، ومقدمة تحفيق الإبانة لفوقية حسين محمود (ص: 9) وما بعدها، والأعلام (4/263) ، ومعجم المؤلفين (7/35) وغيرها. (2) انظر: الخطط (2/359) . (3) انظر: السير للذهبى (15/85) ذكر هذا القول والقول الأول، وابن خلكان (3/284) . (4) انظر: تاريخ بغداد (11/347) ، والتبيين (ص: 146) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 فأما أبوه إسماعيل فكان سنيا جماعيا حديثيا، ويدل على ذلك أنه أوصى عند وفاته إلى زكريا بن يحى الساجى (1) ، وفيه دلالة علي أن أباه توفي وابنه أبو الحسن صغير، ولذلك عاش في كنف زوج أمه الجبائي. وكان مولد أبي الحسن في البصرة ولذلك يقال له البصري، وكانت أسرته من ولد الصحابي أبي موسى الأشعري- رضى الله عنهـ قد سكنوا هذه المدينة. أما وفاته، فقد قيل: إنه توفي سنة 320 هـ، وقيل: 330 هـ وهو أرجحها، وقد رجحه ابن عساكر (2) . ثالثا: ثناء العلماء عليه : أثنى عليه العلماء- وخاصة علماء الأشاعرة- وتركز ثناؤهم على ما كان له من نسب، وماقام به من الرد على المعتزلة والملحدة وغيرهم، فيقول الخطيب البغدادي: " أبو الحسن الأشعري المتكلم صاحب الكتب والتصانيف في الرد على الملحدة وغيرهم من المعتزلة والرافضة والجهمية والخوارج، وسائر أصناف المبتدعة " (3) ، ويروى عن أبي بكر بن الصيرفي (4) أنه قال: " كانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى أظهر الله تعالى الأشعري فجحرهم في أقماع السمسم " (5) . ويقول القاضى عياض عند ترجمته: " وصنف لأهل السنة التصانيف،   (1) انظر: التبيين (ص: 35) . (2) انظر: التبيين (ص: 146- 147) ، ووفيات الأعيان (3/285) . (3) تاريخ بغداد (11/346-347) . (4) هو: محمد بن عبد الله، أبو بكبر الصيرفي، الامام الأصولي، توفي سنة 330 هـ، كانت له مناظرة مع أبي الحسن الأشعري حول وجوب شكر النعم، طبقات السبكي (3/186) . (5) تاريخ بغداد (11/347) ، وتبيين كذب المفترى (ص: 94) وقال: إسناد هذه الحكاية مضيء كالشمس، ورواتها لا يخالط عدالتهم شك في النفس، والأنساب (1/274) ، وطبقات السبكي (3/349) ، وعزا الزركشي في المعتبر في تخرج أحادبث المنهاج والمختصر (ص: 268) هذه العبارة إلي أبي بكر بن العربي، ولعله وهم، وقد نبه على ذلك في الحاشية محقق المعتبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 وأقام الحجج على إثبات السنة وما نفاه أهل البدع من صفات الله تعالى ورؤيته وقدم كلامه وقدرته، وأمور السمع الواردة من الصراط، والميزان، والشفاعة، والحوض وفتنة القبر التى نفت المعتزلة، وغير ذلك من مذاهب أهل السنة والحديث، فأقام الحجج الواضحة عليها من الكتاب والسنة والدلائل الواضحة العقلية، ودفع شبه المبتدعة ومن بعدهم من الملحدة والرافضة، وصنف في ذلك التصانيف المبسوطة التي نفع الله بها الأمة " (1) . ويقول الذهبى: " ولأبى الحسن ذكاء مفرط، وتبحر في العلم، وله أشياء حسنة، وتصانيف جمة تقضى له بسعة العلم " (2) ويقول: " رأيت لأبي الحسن أربعة تواليف في الأصول يذكر فيها قواعد مذهب السلف في الصفات وقال فيها: تمر كما جاءت، ثم قال: وبذلك أقول وبه أدين، ولا تؤول " (3) . أما ابن عساكر في الكتاب الذي أفرده في ترجمته والدفاع عنه، فقد مدحه كثيرا، وجعله من المجددين، وذكر الروايات الواردة في مدح قومه وأسرته. وكذلك السبكي في طبقات الشافعية- ذلك الكتاب الذي يصح أن يسمي " طبقات الأشاعرة "- فقد بالغ في مدح شيوخ الأشاعرة ونقل أقوالهم وعقائدهم (4) ، ولذلك فمن المتوقع أن يمدح الأشعري عندما يصل إلي ترجمته، وكان مما قال فيه: " شيخنا وقدوتنا إلى الله تعالى، الشيخ أبو الحسن الأشعري البصري شيخ طريقة أهل السنة والجماعة، وإمام المتكلمين، وناصر سنة سيد المرسلين والذاب عن الدين، والساعي في حفظ عقائد المسلمين، سعيا يبقى أثره إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين، إمام حبر، وتقى بر، حمى جناب الشرع   (1) ترتيب المدارك (5/24) . (2) سير أعلام النبلاء (15/87) . (3) المصدر السابق (15/86) . (4) يتهم السبكى الذهبى أنه يعلى من شأن الحنابلة ويحط من شأن الأشاعرة، وليس هذا موضع مناقشة هذه التهمة، وقد ناقشها بشار عواد في مقدمته لسير أعلام النبلاء (ص: 127-135) ، ولكن نقول. أن السبكي وقع في تراجم الأشاعرة في طبقاته في نفس الشيء الذى اتهم به الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 من الحديث المفترى وقام في نصرة ملة الإسلام فنصرها نصرا مؤزرا .... " (1) وغيرهم من العلماء الذين مدحوه وأثنوا على ماقام به من نصر السنة والرد على المبتدعة من المعتزلة وغيرهم، لكنه لم يسلم من القدح والذم، فقد ذمه أبو على الأهوازي (2) وألف كتابا في مثالبه (3) ، كا شنع عليه ابن حزم (4) ، وابن الجوزي والمقبلى (5) . رابعا: شيوخه : لم يكن الأشعري مشهورا بالرواية عن أهل الحديث، سوى بعض الروايات التى رواها في تفسيره عن بعض شيوخه، أما مذهبه الفقهي فقد تنازع الانتساب إليه كل من الشافعية والمالكية والحنفية، كا هو واضح في قائمة الكتب التي ترجمت له، وكما صرح بذلك بعض العلماء (6) ، والأرجح أنه كان شافعي المذهب، وهو الذى عليه اكثر.   (1) طبقات السبكي (3/347) . (2) هو: الحسن بن على بن إبراهيم، أبو على الأهوازى مقرئ الشام في عصره، ولد سنة: م 362 هـ، صنف كتابا في الصفات أتى فيه بموضوعات، اتهم بوضعها الأهوازى نفسه منها حديث: رأيت ربي بعرفات على جمل أحمر عليه إزار، وغيره، فصل القول فيه الذهبي في ميزان الاعندال (1/512-513) . وقال:"لو حابيت أحدا لحابيت أبا على لمكان علو رواتي في القراءات عنه"، توفي سنة 446 هـ، وانظر: معرفة القراء الكبار (1/402) ، وغاية النهاية في طبقات القراء (1/220) . (3) رد عليه ابن عساكر في تبيين كذب المفترى. (4) انظر: ترتيب المدارك (5/26) . (5) ابن الجوزي في المنتظم (6/332) ،والمقبلى في العلم الشامخ (ص:290-363) وغيرها ط دار البيان. (6) من الذين قالوا إنه مالكي المذهب القاضي عياض ني ترتيب المدارك (5/24) ، وابن فرحون في الديباج (2/64) ، ومن الذين قالوا إنه حنفي المذهب: القرشى في الجواهر المضية (2/545) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 وأهم شيوخه: 1- أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي، شيخه في الاعتزال قبل رجوعه. 2- زكريا بن يحيى الساجي، محدث البصرة وشيخها ومفتيها، المتوفي سنة 307 هـ، يقول الذهبي: " أخذ عنه أبو الحسن الأشعري مقالة السلف في الصفات، واعتمد عليها أبو الحسن في عدة تآليف " (1) وسبقت الإشارة إلى أن والده لما توفي أوصى إلى الساجى، وممن ذكر تتلمذه على الساجى ابن عساكر (2) والسبكى (3) والبغدادي (4) . 3- أبو إسحاق المروزي: إبراهيم بن أحمد المروزي، صاحب أو العباس بن سريج وأكبر تلامذته، انتهت إليه رئاسة المذهب الشافعي، توفي سنة 340 هـ (5) ، وممن ذكر تتلمذ الأشعري عليه الخطيب البغدادى وابن خلكان (6) ، فقد ذكروا أنه كان يجلس إلى حلقته في بغداد. 4- أبو العباس بن سريج: أحمد بن عمر بن سريج القاضي البغدادى ولد سنة 240 هـ، توفي سنة 303 هـ (7) ، قال ابن كثير عن الأشعري: " وتفقه بابن سريج " (8) .   (1) سير أعلام النبلاء (14/98) وانظر ترجمته أيضا في طبقات السبكي (3/299) ، وتذكرة الحفاظ (2/ 709) . (2) انظر: التبين (ص: 400) . (3) طبقات السبكي (3/299،355) . (4) الملل والنحل للبغدادي (ص: 128-129) . (5) ترجمته في تاريخ بغداد (6/11) ، وسير أعلام النبلاء (1/429) ، وشذرات الذهب (2/355) . (6) انظر: تاريخ بغداد (11/ 347) ، ووفيات الأعيان (3/284) . (7) انظر: سير أعلام النبلاء (14/201) ، وطبقات السبكي (3/21) . (8) البداية والنهاية (11/187) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 5- أبو بكر القفال الشاشي: محمد بن على بن إسماعيل القفال الكبير، توفي سنة 365 هـ (1) ، ذكر السبكي: " أن القفال أخذ علم الكلام عن الأشعري، وأن الأشعري كان يقرأ عليه الفقه، كما كان هو يقرأ عليه الكلام " (2) ، وذكر ابن عساكر عن القفال أنه " كان في أول أمره مائلا عن الاعتدال قائلا بمذاهب أهل الاعتزال (3) " وذكر السبكي أنه رجع إلى مذهب الأشعر ى (4) . 6- أبو خليفة الجمحي: الفضل بن الحباب، واسم الحباب: عمرو بن محمد بن شعيب، ولد أبو خليفة سنة 206 هـ، وتوفي 305 هـ، قال عنه الذهبي: " وكان ثقة، صادقا مأمونا أديبا، فصيحا مفوها، رحل إليه من الآفاق وعاش مئة عام سوى أشهر " (5) . وممن ذكر تتلمذ الأشعري عليه ابن عساكر والذهبي والسبكي (6) . 7- سهل بن نوح. 8- عبد الرحمن بن خلف الضبي. 9- محمد بن يعقوب المقبري، أو المقري. ذكر تتلمذ الأشعري على هؤلاء الثلاثة ابن عساكر والسبكي (7) .   (1) انظر: تبيين كذب المفترى (ص: 182) ، وطبقات السبكي (3/ 200) ، وسير أعلام النبلاء (16/283) . (2) طبقات السبكى (3/202) . (3) التبيين (ص: 183) . (4) الطبقات (3/201) ، وقد دافع عنه الذهبي فقال بعد ذكره ماقاله أبو سهل الصعلوكي عن تفسير القفال من أنه دنسه من جهة نصره للاعتزال، قال الذهبى معلقا:" الكمال عزيز وانما يمدح العالم بكثرة ماله من الفضائل، فلا تدفع المحاسن لورطة، ولعله رجع عنها، وقد يغفر له باستفراغه الوسع في طلب الحق، ولا قوة إلا بالله " السير (16/285) . (5) سير أعلام النبلاء (8/14) ، وانظر أيضا في ترجمته البداية والنهاية: (11/128) (6) وذلك في التبيين (ص: 400) ، وسير أعلام النبلاء (15/86) ، وطبقات (5/355) . (7) التبين (ص: 400) ، والطبقات (3/355) ، وذكر شيخ الاسلام ابن تيمية في = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 خامسا: تلاميذه : تتلمذ على الأشعري كثيرون، ولا شك أن قصة رجوعه وماصاحبها كان سببا في انكباب كثير من التلاميذ عليه، والظاهر أن هذه التلمذة انما كانت- في الغالب- في مجال العقيدة وما آمن به الشيخ الأشعري بعد رجوعه عن الاعتزال. وإذا كان تلاميذه كثيرين فإن أخصهم به كما يقول السبكي أربعة: ابن مجاهد، وأبو الحسن الباهلي، وبندار خادمه، وأبو الحسن الطبري (1) . ونذكر هؤلاء، ئم نذكر بعض تلاميذه: 1- ابن مجاهد: محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب الطائي البغدادي، توفي سنة 370 هـ، تتلمذ عليه الباقلاني (2) . 2- أبو الحسن الباهلي: توفي في حدود سنة 375 هـ، تتلمذ عليه أبو إسحاق الإسفراييني، وابن فورك والباقلاني، وكان يلقي عليهم دروسه من وراء حجاب بسبب أنهم يرون السوقة فلا يريد أن يروه بالعين التي رأوا فيها اولئك، وكان زاهدا صوفا (3) . 3- أبو الحسين بندار بن الحسين الشيرازي الصوفي: خادم أبي الحسن الأشعري، وكان من أصحاب الشبلي، توفي سنة 353 هـ (4) 4- أبو الحسن علي بن مهدي الطبري، توفي في حدود سنة 380 هـ (5) .   = كتابه التسعينية (ص: 201) عن ابن الراوندي أنه يقال: إنه أحد شيوخ أبي الحسن الأشعري. (1) طبقات السبكي (3/368-369) . (2) تبيين كذب المفتري (ص: 177) ، وسير أعلام النبلاء (16/305) ، والديباج المذهب (2/210) . (3) التبيين (ص: 178) ، وسير أعلام النبلاء (16/304) ، والوافي بالوفيات (12/312) . (4) التبيين (ص: 179) ، حلية الأولياء (10/385) ، وطبقات الصوفية (ص: 467) ، وسير اعلام النبلاء (16/108) ، وطبقات السبكي (3/224) . (5) التبيين (ص:195) ، وطبقات السبكي (3/466) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 5- أبو بكر القفال الشاشي، وهو من شيوخ الأشعري أيضا وتقدم. 6- ابن خفيف: أبو عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي الصوفي، توفي سنة 371 هـ، كانت له رحلة إلى الأشعري وله معه حكايات (1) . 7- أبو الحسن عبد العزيز بن محمد الطبرى المعروف بالدمل، نشر مذهب الأشعري بالشام (2) . 8- أبو سهل الصعلوكي، محمد بن سليمان بن محمد، ولد سنة 276 هـ، وتوفي سنة 369 هـ (3) . 9- أبو زيد المروزي: محمد بن أحمد بن عبد الله، ت 371 هـ (4) . وغيرهم (5) . سادسا: مؤلفاته : لأبي الحسن الأشعري مؤلفات كثيرة، قال ابن حزم إنها خمسة وخمسون   (1) التبيين (ص:190) ، وحلية الأولياء (10/386) ، وسير أعلام النبلاء (16/342) ، وطبقات السبكى (3/149) . (2) تبيين كذب المفترى (ص: 195) ، ونزهة الألباب في الألقاب لابن حجر ترجمة رقم (1064) ، تحقيق عبد العزيز بن محمد السديري، مطبوع على الآلة الكاتبة. (3) تبيين كذب المفترى (ص: 183) ، وسير أعلام النبلاء (16/235) . (4) التبيين (ص: 88 1) ، وسير أعلام النبلاء (16/313) . (5) الذين ذكروا هم الذين ثبت انهم التقوا بالأشعري وتتلمذوا عليه، أما من يسيهم ابن عساكر بالطبقة الأولى من أصحاب الأشعري فلم يثبت عنهم كلهم تتلمذهم عليه، ولهذا قال::فالطبقة الأولى هم أصحابه الذين أخذوا عنه ومن أدركه ممن قال بقوله أو تعلم منه" (التبيين ص: 177) ، وكذلك احتاط السبكي فقال: لما عدد جماعة من الآخذين عن الشيخ قال:"وربما كان في هؤلاء من لم يثبت عندنا انه جالس الشيخ ولكن كلهم عاصروه وتمذهبوا بمذهبه ... " الطبقات (3/368) ، ويتبين غلط بعض الباحثين الذين سردوا أسماء الطبقة الأولى الذين ذكرهم ابن عساكر على أنهم تلاميذه. (منهم صاحب رسالة بين أبي الحسن الأشعري والمنتسبين إليه في العقيدة (ص: 37) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 مصنفا، وقال غيره: إنها اكثر من ثمانين وثلاثمائة مصنف (1) . ولا حاجة إلى سرد هذه المصنفات، فقد سبق أن سردها غير واحد (2) ،ولكن أشير الى مؤلفاته التي وصلت الينا، ثم إلى كتاب ابن فورك " مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري فمصنفاته التي وصلت إلينا حتى الآن: 1- مقالات الاسلاميين واختلاف المصلين: وهو من أهم كتب المقالات وأوثقها وأدقها في نسبة الأقوال إلى أصحابها، ويلاحظ في هذا الكتاب: أ- التكرار، فكثيرا ما يكرر الأقوال، وخاصة حين يتكلم عن الطوائف وأقوالها، ثم يعيد الكلام عن بعض الموضوعات وأقوال الطوائف فيها. ب- معرفة الأشعري بمذاهب أهل الكلام، وخاصة المعتزلة، ولذلك فصل أقوالهم ومذاهبهم، وفروق أقوالهم الدقيقة. ج- ذكره بالتفصيل لأقوال شيخه في الاعتزال، الجبائي، ويعتبر من أهم المصادر لأقوال الجبائي- الذي لم يصل إلينا من مؤلفاته شيء-، وهو يدل على مدى تأثير الجبائي على الأشعري في المرحلة الأولي من حياته. د- ذكره لأقوال السلف- الذين يسميهم أهل الحديث وأهل السنة بإجمال، لأنه لم يكن خبيرا بتفاصيل أقوالهم، ولهذا نسب إليهم   (1) انظر: التبيين (ص: 92، 136) وفيه (ص: 136) "مئتين وثلاثمائة" وهو خطأ والتصويب من النقض (1/87) . (2) منهم ابن فورك وابن عساكر في التبيين (ص: 128) وما بعدها، وبدوي في مذاهب الأسلاميين (1/55) ، ومقدمة الإبانة تحقيق فوقيه محمود (ص: 38) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 ما لم يقولوه، فمثلا قال عنهم: إنهم يقولون عن الله إنه " ليس بجسم .... (1) وليس مذهب السلف بهذا الإطلاق، كما ذكر عنهم أنهم يقولون: " ان أحدا لا يستطع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله ... " (2) وهذا أيضا ليس مذهب أهل السنة. وأهم طبعات الكتاب طبعة ريتر، وطبعة محمد محي الدين عبد الحميد التي أضاف إليها حواشي جيدة، وإن كان قد اعتمد على طبعة ريتر ولم يشر إلى فروق النسخ. 2- اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع: لم يشك أحد في نسبته إلى الأشعري، وقد بين فيه كثيرا من القضايا الكلامية التي رد فيها على المعتزلة، وشرح فيها مذهبه خاصة في مسائل: وجود الصا نع، والقرآن، والإرادة، والرؤية، والقدر- والكسب- والاستطاعة، ثم مسائل التعديل والتجوير والايمان، والوعد والوعيد والإمامة. وسيأتي- إن شاء اللهـ تفصيل آخر عنه، وقد طبع مرتين: بتحقيق مكارثي، وحمودة غرابة. 3- رسالته إلى أهل الثغر: وسماه ابن عساكر: " جواب مسائل كتب بها إلى أهل الثغر (3) في تبيين ما سألوه عنه من مذهب أهل الحق (4) ، وهذا الثغر العظيم المسمي باب الأبواب   (1) مذاهب الإسلاميين (ص: 211) - ت- ريتر. (2) المصدر السابق (ص: 291) . (3) يسمي باب الأبواب، وهو على ساحل نهر طبرستان المسمي بحر الخزر (قزوين) وباب الأبواب دربند او شروان، ويقع في اقليم الران بين القوقاز وأذربيجان، وكان هذا الثغرعلى حدود الدولة الإسلامية. انظر: تفصيلات أخرى في كتاب الأقاليم للإصطخرى (ص: 79) "مخطوطة مصورة"، ومعجم البلدان (1/303) ، وآثار العباد (ص: 506) ، والروض المعطار (ص:77) . (4) تبيين كذب المفترى (ص: 136) ، وهذه الرسالة ثابتة للأشعري، وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية نصا طويلا في درء النعارض (7/186) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 يسكن فيه أناس كثيرون مختلفوا اللغات، وقد ذكر الإصطخري أنها نيف وسبعون لغة حتي أن الجار لا يعرف لغة جاره، ومع ذلك فهو من ثغور الإسلام العظيمة، فهو يحمي ظهور المسلمين وينذرهم إذا قدم العدو، والذين سألوا الأشعري يظهر أنهم كانوا من العلماء ولهذا قال في مقدمة الرسالة: أما بعد أيها الفقهاء والشيوخ من أهل الثغر ... (1) . أما موضوعها فيشتمل على مقدمة طويلة حول الاستدلال ومنهج الرسل فيه، مع بيان أنهم لم يدعوا إلى دليل الاعراض الذي دعا إليه المعتزلة وأهل الكلام، ويستغرق هذا مايقرب من نصف الرسالة، ثم بعد ذلك عرض لما أجمع عليه السلف في مسائل العقيدة المختلفة، الصفات، والرؤية، والقدر، والنبوة، والإيمان، ومرتكب الكبيرة، وعذاب القبر، والصراط، والشفاعة، والصحابة. وغيرها. والشيء الملفت في هذه الرسالة ما ورد في مقدمتها من قول الأشعري: "ووقفت أيدكم الله على ما ذكرتموه من إحمادكم جوابي على المسائل التى كنتم أنفذتموها إلي في العام الماضي وهو سنة سبع وستين ومئتين " (2) ، هكذا في المخطوطة التي اعتمد عليها من طبع هذه الرسالة، والأشعري ولد علي القول الراجح سنة 260 هـ وهو أيضا أقدم ما أرخت به ولادته؛ إذ الأقوال الأخرى فيها أن ولادته بعد هذا إما في سنة 266 هـ أو سنة 270 هـ، وعلي أقصى التقديرات يكون عمر الأشعري ثماني سنوات، والرسالة إنما ألفها بعد رجوعه عن الاعتزال. والحل الأقرب ما أشار إليه بعض الباحثين (3) من أنه ربما يكون هناك سهومن الناسخ للمخطوطة وأن صوابه 297 هـ، فيكون تاريخ رسالته هذه الى أهل الثغر سنة 298 هـ، وهذا التاريخ يعطى دلالة على زمن تحول الأشعري   (1) رسالة أهل الثغر (ص: 31) تحقيق الجليند. (2) نفس المصدر والصفحة، وهو في النسخة الخطية- مصورة معهد المخطوطات- لوحة رقم (1) . (3) انظر: مذاهب الإسلاميين (1/522-523) ، ومقدمة الجليند للرسالة (ص: 12-13، 31) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 عن الاعتزال وأنه كان قبل الثلاثمائة- ولو بقليل- وبه يظهر خطأ من جعل هذه الرسالة مما ألفه الأشعري بعد سنة 320 هـ بدون دليل يذكره (1) . وهذه الرسالة طبعت في بعض الدوريات في تركيا (2) ، وأخيرا طبعت عام 1407 هـ بتحقيق محمد السيد الجليند، كا أنها حققت فى الجامعة الاسلامية في المدينة وطبعت أيضا، وهى بتحقيق عبد الله شاكر. 4- الإبانة عن أصول الديانة: وهو من أهم كتب الأشعري، وأكثرها إثارة للجدل، لأنه يحوي جوانب من العقيدة تخالف ما عليه متأخرو الأشعرية، خاصة في مسائل الصفات الخبربة والعلو والاستواء. ونسبته إلى الأشعري مشهورة، ففضلا عن النسخ الخطية التي تنسب هذا الكتاب إليه فإن جمهرة من جلة العلماء نسبوه إليه، وفيهم من دافع عن الأشعرية- في المحن التى مروا بها- من خلال بيان صحة اعتقاد الأشعري الذي ينتسبون إليه، وذلك بالنقل من هذا الكتاب مما يوافق مذهب أهل السنة، ومن هؤلاء العلماء: البيهقي، والصابوني، وابن عساكر، ونصر المقدسي، وأبو بكر، السمعاني (3) ، وابن تيمية وابن القيم (4) ، حتى الأهوازي الذى ألف في مثالب،   (1) انظر: مقدمة تحقيق الإبانة (ص:90-91) ، ويلاحظ أن في عبارة ابن فورك بعد أن عدد مؤلفات الأشعري مايدل على أن هذه الرسالة ألفها الأشعري قبل سنة 320 هـ فإنه قال:"هذا هو أسامي كتبه التي ألفها إلي سنة عشرين وثلاثمائة سوى أماليه والجوابات المتفرقة عن المسائل الواردات من الجهات المختلفات، تبيين كذب المفترى (ص: 135) فهذا يعطي ظنا غالبا تقدم هذه الرسالة عن التاريخ المذكور. (2) نشرها قوام الدين في مجلة دار الفنون بإستانبول، ثم نشرها في مجلة كلية الإلهيات سنة 1928م في (ج7،8) ، مذاهب الإسلاميين (1/521) ، ودرء التعارض (7/186) ، حاشية المعلق،وانظر: بروكلمان- تاريخ الأدب العربي (4/ 40) - من الطبعة العربية. (3) انظر: الاعتقاد للبيهقي (ص: 108-109) تحقيق أحمد عصام الكاتب، وتبين كذب المفترى (ص: 152، ص: 389) ، ورسالة في الذب عن الأشعري فإنها كلها تثبت أن الأبانة للأشعرى، وذلك لإثبات العلماء له، وانظر: ما يأتي عند الحديث عن أطوار الأشعري. (4) ابن تيمية في غالب كتبه ومنها الحموية، ودرء التعارض، ونقض التأسيس، وابن القيم اجتماع الجيوش (ص: 182) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 الأشعري ورد عليه ابن عساكر لم ينكر نسبة الإبانة الى الأشعري، بل قال: إن الحنابلة لم يقبلوا من الأشعري ما أظهره فى الابانة (1) ، وهذا دليل على أنه يقر بانه له (2) . ومع ذلك لم يسلم هذا الكتاب من اعراض بعض الأشعرية المتقدمين عنه، وصل إلى حد الانكار، مما أوقع الشك عند بعض المعاصرين حول نسبته الى الأشعري (3) .. ومن أمثلة الانكار ما ذكره ابن درباس المتوفي سنة 605 هـ في معرض حديثه عن إحدى نسخ الإبانة الموجودة عند بعض العلماء فإنه قال: ولقد عرضها بعض أصحابنا على عظيم من عظماء الجهمية المنتمين افتراء إلى أبي الحسن الأشعري ببيت المقدس فأنكرها وجحدها، وقال: ماسمعنا بها قط ولا هى من تصنيفه، واجتهد آخرا في إعمال رويته ليزيل الشبهة بفطنته فقال بعد تحريك لحيته: لعله ألفها لما كان حشويا فما دريت من أي أمريه أعجب؟ أمن جهله بالكتاب مع شهرته وكثرة من ذكره في التصانيف من العلماء، أو من جهله بحال شيخه الذي يفتري عليه بانتمائه إليه واشتهاره قبل توبته بالاعتزال بين الأمة عالمها وجاهلها" (4) .   (1) انظر: التبيين (ص: 389) . (2) يذكر ابن درباس في رسالته في الذب عن أبي الحسن الأشعري (ص: 114) - ت الفقيهي - أن من العلماء الذين أثبتوا الابانة للأشعري إمام القراء أبا علي الحسن بن على بن ابراهيم الفارسى، ثم ترجم المحقق في الحاشية له علي أنه الأهوازي، ولكن في الإسناد مايثير الشك، وذلك أن أبا الحسن بن نجية المولود سنة 508 هـ وزوجته فاطمة بنت سعد الخير المولودة سنة 522 هـ قالا في الإسناد " أنبأنا الإمام أبو علي الحسن بن على بن ابراهيم المقري وذكر الإمام أبا الحسن الأشعري ... "، والأهوازي توفي سنة446 هـ، فكيف يرويان عنه بقولهما " أنبأنا" حتى على القول بأنها قد تستخد م- عند بعض العلماء - في الإجازة؟ وقد بحثت طويلا في كتب التراجم عمن يسمى بهذا الاسم مما يناسب الإسناد فلم أجد سوى ماذكره المحقق مع مافي سند الرواية اليه من الإشكال، والله أعلم. (3) من هؤلاء المستشرقان مكارثي وآلار، انظر: مذاهب الإسلاميين- بدوي- (1/517- 518) ، ومقدمة تحقيق الإبانة: فوقية محمود (ص: 75-79) . (4) رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري (ص 131) تحقيق الفقيهي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 ومن أسباب الشك أن ابن فورك لم يذكر الإبانة عند ذكره لمؤلفات الأشعري، بل ولم ينقل منها حين جمع مقالات الأشعري، أو مقالات ابن كلاب مع مقارنتها بأقوال الأشعري، وهذا مثير للانتباه فعلا، لأن الأشعرية يفتخرون بهذا الكتاب ويؤكدون نسبته إلى الأشعري ليبينوا عدم انحراف أمامهم وأنهم تبع له، فكيف يجهل ابن فورك هذا الكتاب المهم؟. وإذا كان ابن فورك قد توفي سنة 406 هـ فإن تلميذه الذى يروى عن شيخه ابن فورك في أسانيدهـ الإمام الحافظ أبا بكر البيهقي المولود سنة 384 هـ- أثبت نسبة الإبانة للأشعرى ونقل عنه في بعض كتبهـ كما تقدم قربيا- والبيهقي- المحدث الفقيهـ أجل من ابن فورك الذي غلب عليه علم الكلام (1) . ولابن تيمية كلام مهم حول هذا الموضوع- نثبته هنا لعلاقته بكتاب الإبانة ونسبته إلى الأشعري، فإنه قال بعد ذكره للعلماء الذين أثبتوه ونقلوا عنه - " فإن قيل: فابن فورك وأتباعه لم يذكروا هذا؟، قيل له سببان: أحدها: أن هذا الكتاب ونحوه صنفه ببغداد في آخر عمره لما زاد استبصاره في السنة، ولعله لم يفصح في بعض الكتب القديمة بما أفصح به فيه وفي أمثاله وإن كان لم ينف فيها ما ذكره هنا في الكتب المتأخرة، ففرق بين عدم القول وبين القول بالعدم ... ثم نقل ابن تيمية ماذكره ابن عساكر عن ابن فورك وماذكره من مؤلفات الأشعري وتعقب ابن عساكر له، .... السبب الثاني: أن ابن فورك وذويه كانوا يميلون الى النفي في مسألة الاستواء ونحوها، وقد ذكرنا فيما نقله هو من ألفاظ ابن كلاب- وهو من   (1) ومع ذلك فقد يتحرز ابن فورك في بعض الأحيان في الرواية والضبط، حتى أنه عندما تكلم في مشكل الحديث وبيانه (ص: 36-37) ط المكتبة العصرية، حول تأويل الحديث " رأيت ربي في أحسن صورة،- وذكر القول بأنه منام- قال بعد ذلك " وقد تهور بعض المتكلمين في ذلك أيضا فغير اللفظ المسموع الى مالم يضبط ولم ينقل تعسفا في التأويل فقال: إنما هو"ربي" بكسر الراء وهو اسم عبد كان لعثمان- رضي الله عنهـ رآه - صلى الله عليه وسلم - في النوم على تلك الصفات، وهذا غلط، لأن التأويل والتخريج إنما يكون لمسموع مضبوط منقول، ولم يثبت سماع ذلك على هذا الوجه ... ". فهذايدل على احترامه لنصوص السنة، وإن كان قد وقع في كثير من التأويل الباطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 المثبتين لذلك- كيف تصرف في كلامه تصرفا يشبه تصرفه في ألفاظ النصوص الواردة في إثبات ذلك كما فعله في كتابه تأويل شكل النصوص، فكان هواه في النفي يمنعه من تتبع ماجاء في الاثبات من كلام أئمته وغيرهم، وكذلك فيما نقله من كلام الأشعري كيف زاد فيه ونقص مع أن المنقول نحو ورقتين (1) ، فلعله قد عمل ذلك فيما نقله من كلام ابن كلاب، إذ لم نجد نحن نسخة الأصول التي نقل منها، حتى نعلم كيف فعل فيها. وفيما نقله تحريف بين، لكن مأخذه في ذلك مأخذ من ينسب فتاويه وعقائده إلى السنة والشريعة النبوية لظنه أن هذا هو الحق الذي لا تأتي بخلافه، فكذلك هو يظن أن مازاده ونقصه يوجبه بعض أصول ابن كلاب والأشعري، وإن كان فيما ظهر من كلامهما خلافه، وهذا أصل معروف لكثير من أهل الكلام والفقه يسوغون أن ينسب إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - نسبة قولية توافق ما اعتقدوه من شريعته حتي يضعوا أحاديث توافق ذلك المذهب ولينسبونها إلي النبي، لكن ابن فورك لم يكن من هؤلاء (2) ، وإنما هو من الطبقة الثانية الذين ينسبون إلي الأئمة ما يعتقدون هم أنه الحق فهذا واقع في كثير من طائفته، حتي أن في زماننا في بعض المجالس المعقودة قال كبير القضاة: إن مذهب الشافعي المنصوص عنه كيت وكيت، وذكر القول الذى يعلم هو وكل عا لم أن الشافعي لم يقله، ونقل القاضيان الآخران عن أبي حنيفة ومالك مثل ذلك، فلما روجع ذلك القاضي قيل له: هذا الذى نقلته عن الشافعي من أين هو؟، أى أن الشافعي لم يقل هذا، فقال: هذا قول العقلاء، والشافعي عاقل لا يخالف العقلاء، وقد رأيت في مصنفات طوائف من هؤلاء ينقلون عن أئمة الإسلام المذاهب التي لم ينقلها أحد عنهم لاعتقادهم أنها حق، فهذا أصل ينبغى أن يعرف. " ومن أسباب ذلك أيضا أن الأشعري ليس له كلام كثير منتشر في تقرير مسألة العرش والمباينة للمخلوقات، كما كان لابن كلاب إمامه، وذلك لأنه تصدى للمسائل التي كان المعتزلة تظهر الخلاف فيها كمسألة الكلام والرؤية وانكار القدر والشفاعة في أهل الكبائر ونحو ذلك، وأما العلو فلم يكونوا يظهرون   (1) يشير ابن تيمية الى ماسبق من مناقشة (ص: 54-55) من الجزء الأول المخطوط. (2) انظر: الحاشية فى الصفحة السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 الخلاف فيه إلا لخاصتهم لانكار جمهور المسلمين لذلك، وانما كان سلف الأمة وأئمتها يعلمون ما يضمرون من ذلك بالاستدلال، فالأشعري تصدي لرد ما اشتهر من بدعهم فكان اظهر خلافهم في القرآن والرؤية من شعار مذهبه التي لم يتنازع فيها أصحابه وإن كانوا قد يفسرون ذلك بما يقارب قول المعتزلة بخلاف مالم يكونوا يظهرون مخالفته فإنه كان أدخل في السنة وأعظم في الأمة وأثبت في الشرع والعقل مما أظهروا مخالفته .... " (1) . ولعل هذا النص- الطويل- يعين على فهم تجاهل بعض الأشاعرة لهذا الكتاب الذى يعتبر من الكتب التي ترد على نفاة العلو والاستواء من الأشعرية المنتسبين إلى مؤلفه. وهذا الذى ذكره شيخ الإسلام عن ابن فورك ليس ببعيد وسيأتي مثال عملي على ذلك عند الكلام على كتاب " مجرد مقالات الأشعري،. والخلاصة: أن كتاب الإبانة ثابت للأشعري، أما طبعاته فقد طبع عدة طبعات في الهند ومصر ولبنان كما طبعته جامعة الامام محمد بن سعود الإسلامية. وأهم طبعاتهـ التي اشتهرت مؤخرا- تلك الطبعة المحققة على أربع نسخ خطية مع دراسة مطولة عن الأشعري ومؤلفاته ونهجه، وقامت بها الدكتورة فوقية حسين محمود، ونشرته دار الأنصار سنة 1397 هـ، ومع ذلك فهناك ملاحظات على هذه الطبعة لا يجوز السكوت عنها، أهمها ملاحظتان: الأولى: كثرة الأخطاء والتحريفات، إما بسبب الطباعة، أو بسبب الخطأ في قراءة بعض الكلمات أو الجمل، وقد يوضع ماهو خطأ حتما في الأصل، ثم تجد الصواب في الحاشية جاءت به إحدى النسخ الخطية، ولأجل هذه الملاحظات أصبحت قراءة النص متعبة وتحتاج الى أن تكون بين يديك الطبعات الأخرى. أما الملاحظة الأخرى: فتهون الأولى أمامها، ألا وهي اعتماد إحدى النسخ الخطية التي انفردت بزيادات ليست موجودة في النسخ الأخرى، وقد أثبت   (1) نقص أساس التقديس المخطوط (1/85-89) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 هذه الزيادات في النص الأصلى وأشير إليها في الحاشية، وهذه النسخة حفلت بزيادات من نوع خاص- وهو ما يضفي ظلالا من الشك عليها- وقد أثار هذا انتباه المحققة فقالت في حديثها عن هذه النسخة في الدراسة: (وقد اعتبرتها النسخة الأم لأنها تخلو من التقديم والتأخير المخلين بالمعنى، وليس بها خروم ذات قيمة، بخلاف النسخ الأخرى، ولأن ناسخها كان يضبط الألفاظ الى حد كبير، غير أنه يجب أن يلاحظ أن مابها من زيادات في حاجة إلى المراجعة الدقيقة، لاستبعاد ماعلق به من عبارات مدسوسة، فقد ظهر رغم أن هذه الزيادات تؤكد بصفة عامة اتجاه السلف تصريح يخالف هذا الاتجاه، مثال ذلك ما ورد في صفحة (81) لتفسير الاستواء من أنه بالقهر والقدرة، فهذا تصريح لابد وأنه بيد أحد قراء المخطوط الميالين إلى الاعتزال والذين هم في نفس الوقت على جهل بحقيقة الأمور، ويؤكد هذا تعليقة بصفحة (82) نصها [وهي في المطبوعة في الحاشية ص 120] ،: " قف على هذا الباب، فإن المؤلف تسامح في إيراده هذه العبارات فإنها تدل على الجهات تصريحا وعلي الجسمية ضمنا، يدل الكلام هنا على أن صاحبه يتجه إلى التنزيه المطلق الذى يقول به المعتزلة والذي ترتب عليه نفي الصفات، على نحو ما بينا قبل ذلك، خاصة وأن الالتزام باتجاه السلف في هذه الزيادات واضح لكل فاحص مدقق. ويلاحظ أننا لم نقع على تاريخ نسخ هذا الأصل يسبب انتهاء الميكروفيلم مباشرة بعد نهاية النص، كما أنه بدأ ببدايته، وهي بخط معتاد، وقد رمزت إليها بالحرف " س " (1) . هذا ما قالته المحققة عن هذه النسخة. وهنا لابد من التعليق بما يلي: 1- كيف تجعل هذه النسخة هي الأصل- عند التحقيق- مع أنها مجهولة الناريخ والناسخ؟ وهل كون ناسخها يضبط الألفاظ مسوغا لذلك؟ ثم هى مخرومة الآخر فعيبها مثل عيب النسخ الأخرى، ووجود الزيادات المدسوسة   (1) الإبانة. المقدمة (ص: 188) تحقيق فوقية حسين محمود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 تقتضي صرف النظر عنها لا جعلها أصلا ثم إدخال الزيادات في النص المحقق، على الأقل جعلها نسخة ثانوية. 2- القول بأن هذه الزيادات كتبت بيد أحد الميالين إلى الاعتزال لا دليل عليه، بل الراجح أنه أحد متأخري الأشعرية النافين للعلو [الجهة] وللصفات الخبرية كالوجه واليدين بناء على انها مستلزمة للتجسيم. 3- حفلت هذه النسخة بزيادات لا تتمشي مع الإثبات الذي جاء به هذا الكتاب، خاصة في مسألة الاستواء والعلو، وإذا كانت زيادة "بالقهر والقدرة" في تفسير الاستواء واضحة في هذا، ولذلك لم تثبتها المحققة فهناك عبارات أخري قريبة من هذه العبارة وقد انفردت بها هذه النسخة ومن ذلك: أ- في ص 21 في فصل إبانة قول أهل الحق والسنة ورد في النسخ الثلاث مايلي: " وأن اللة مستو علي عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . أما في نسخة (س) صاحبة الزيادات فجاءت العبارة هكذا: " وأن الله تعالى استوى على العرش على الوجه الذى قاله وبالمعني الذي أراده، استواء منزها عن المماسة"في المطبوعة الممارسة"، والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال، لا يحمله العرش، وحملته محمولون بلطف قدرته، ومقهورون في قبضته، وهو فوق العرش، وفوق كل شيء الى تخوم الثرى، فوقية لا تزيده قربا إلي العرش والسماء، بل هو رفيع الدرجات عن العرش، كما أنه رفيع الدرجات عن الثرى وهو مع ذلك قريب من كل موجود، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد، وهو علي كل شيء شهيد". فانظر إلى الفرق بينهما، وهل هذه الزيادة متوافقة مع مذهب السلف كما تدعى المحققة؟ هل قوله "استواء منزها عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال " وقوله "فوقية لا تزيده قربا إلي العرش والسماء" هل هذا موافق لما يثبته السلف من صفة العلو؟ والأشعري في هذه المسألة انما قال بقول السلف خلافا لمتأخري الأشعرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 ثم إن هذا النص المقحم منقول بحروفه من كتاب الأربعين للغزالي (1) . ب- في ص 126- حول اثبات صفة اليدين لله تعالى ورد ما يلي تعقيبا على أحد الأحاديث:" وغرس شجرة طوبى [في المطبوعة طولى] بيده، (أى بيد قدرته سبحانه) ، فهذه العبارة الشارحة انفردت بها نسخة (س) ، دون باقى النسخ، وهو تأويل لصفة اليد بما يوافق قول متأخرى الأشعرية وليس هو قول الأشعري، بل رد عليه وناقشه فيما بعدص 130- 132، ولا شك أن هذه الزيادة مدسوسة. ج- هناك زيادات أخرى أو نقص انفردت به هذه النسخة وهي إن لم تكن ذات بال إلا أنها تدل على ما نحن بصدده، فمثلا في ص 156 سطر 3 ورد عبارة " وجب أن ينفي ذلك عن الله تعالى" بينما الصواب مافي النسخ الأخرى " وجب أن لا ينفى ذلك عن الله تعالى"، وفي ص 193 سطر 10- 11 وردت زيادة "أعاذنا الله من ذلك" وقد انفردت بها نسخة "س" وهي عبارة زائدة مخلة بسياق الكلام إلا إذا وضعت في مكان آخر كأن تكون بعد قوله " وأجلهم". د- وهناك فروق أخرى- ملفتة للانتباهـ لكن شاركتها نسخة أخرى- خاصة نسخة "د"- لكنها مخالفة للنسخ المطبوعة الأخرى (2) . هذا ما يتعلق بكتاب الابانة، نسبته إلى الأشعري، ونسخه، وقد طال الكلام حوله لأن له علاقة بما سيأتي من الكلام عن أطوار الأشعري وعقيدته،   (1) انظر الأربعين في أصول الدين للغزالي (ص: 7-8) ط: دار الآفاق. (2) من الأمئلة على ذلك ماورد (ص: 112) من الإبانة- ت فوقية- بعد إيراد حديث النزول من عبارة "نزولا يليق بذاته من غير حركة وانتقال تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا " فهذه العبارة ليست " موجودة في نسختي ك- ز، كما أنها ليست موجودة في الطبعة الهندية (ص: 48) ، ولا المصرية (السلفية) (ص: 38) ، ومثلها عبارة؛ في (ص: 113) "استواء منزها عن الحلول والاتحاد"ليست موجودة إلا في نسخة س- د. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 ولو اعتمدت الدراسة علي مافي هذه الطبعة بزياداتها لصار للدراسة مسار مختلف. 5- رسالة استحسان الخوض في علم الكلام: وتسمي " رسالة في الرد على من ظن أن الاشتغال بالكلام بدعة" (1) ، ومضمونها الرد على من زعم أن الاشتغال بعلم الكلام والمصطلحات الحادثة بدعة لم تكن في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابهـ رضي الله عنهم-. وقد طبعت هذه الرسالة مرتين (2) ، وقد شكك بعض الباحثين في نسبتها إلى الأشعري (3) ، لكن الرسالة مروية بالإسناد، ولها نسخة خطية، كما أن هناك تشابها في بعض العبارات مع اللمع الثابت نسبته الى الأشعري (4) ، ولعلها هي المقصودة برسالة الحث على البحث التي ذكرها ابن عساكر (5) ، ولا يمنع أن تكون من مؤلفات الأشعري الأولى. 6- رسالة في الايمان- في ورقتين-، حققها شبيتا (6) . 7- العمد في الرؤية: وصلت قطعة صغيرة منه ذكرها ابن عساكر وفيها ذكر الأشعري أسماء مؤلفاته (7) . 8- كتاب تفسير القرآن: رد فيه على شيخه الجبائي، وعلى البلخي،   (1) انظر: تاريخ التراث، سزكين (م1 ب 4 ص 38) . (2) طبعت في الهند- حيدرأباد- سنة 1323 هـ، ومرة ثانية سنة 1344 هـ، ثم طبعها على هذه الطبعة مكارثي مع كتاب اللمع سنة 1952 م، المطبعة الكاثوليكية بيروت. (3) منهم عبد الرحمن بدوى في مذاهب الإسلاميين (1/519- ا 52) ومحققة الابانة (ص: 72-74) من الدراسة، وأحالت على كتاب لها تحت الطبع بعنوان " كتب منسوبة للأشعري" (4) قارن مثلا بين اللمع ورسالة استحسان الخوض- في طبعة مكارثي التي جمعت بين الكتابين - (ص: 90- سطر 10) ومابعده من اللمع، وأيضا (ص: 92 سطر 15) ومابعده من الاستحسان بصفحة (7 سطر 13) من اللمع. (5) التبيين (ص: 136) . (6) انظر: تاريخ التراث، سزكين (م1 ب 4 ص 38) . (7) التبيين (ص: 129-134) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 وقد وصلت قطعة منه أثبتها ابن عساكر (1) ، وقد سماه أبو بكر بن العربي بالمختزن (2) فقال: "وانتدب أبو الحسن الى كتاب الله فشرحه في خمسمائة مجلد وسماه بالمختزن، فمنه أخذ الناس كتبهم ومنه [في المطبوعة ومنهم] أخذ عبد الجبار الهمذاني كتابه في تفسير القرآن الذي سماه بالمحيط في مائة سفر قرأته في خزانة المدرسة النظامية بمدينة السلام [ثم ذكر قصة إحراق نسخة تفسير الأشعري، ثم قال:] ففقدت بين أيدي الناس إلا أني رأيت الأستاذ الزاهد الإمام أبا بكر ابن فورك يحكي عنه، فلا أدري وقع على بعضه أم أخذه من أفواه الرجال" (3) . * * * هذه مؤلفات الأشعري التي وصلت الينا، وهي قليلة جدا بالنسبة لمؤلفاته الكثيرة التى عرفت أسماؤها، وقد وصلت بعض أقوال الأشعري عن طريق مصادر أخرى نسبت بعض الأقوال إليه ومن أهمها كتب الأشاعرة أمثال: الجويني، والبغدادي، والشهرستاني، والرازي، إلا أن هناك كتابا لابن فورك حاول فيه أن يجرد مقالات أبي الحسن الأشعري معتمدا علي مجموعة كبيرة من كتبه أكثرها لم يصل الينا، ولأهمية هذا الكتاب بالنسبة لأقوال الأشعري نذكر نبذه عنه في هذا المكان:   (1) المصدر السابق (ص: 137 -139) . (2) ذكر ابن عساكر في التبيين (ص: 117) أن الأشعري ألف في القرآن كتابه الملقب بالمختزن، وانه بلغ فيه سورة الكهف، لكن نقل في (ص: 133) عن الأشعري أنه قال في الحمد:"وألفنا كتابا في ضروب من الكلام سميناه: المختزن، ذكرنا فيه مسائل للمخالفين لم يسألونا عنها ولا سطروها في كتبهم ولم يتجهوا للسؤال وأجبنا عنها بما وفقنا الله تعالى له"، فهل هما كتابان مختلفان اسمهما واحد، أم أن الأشعري قال في تفسيره: انه في ضروب من الكلام لغلبة هذه المسائل عليه، ولذلك قال أبو بكر بن العربي منه أخذ الناس كتبهم " لعل هذا أرجح "والله أعلم. (3) العواصم من القواصم (ص: 97-98) - ت عمار طالبي- كما ذكره في قانون التأويل (ص:456) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 كتاب ابن فورك هذا اسمه " مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري" (1) ، وكان مخطوطا ثم طبع هذا العام 1987 م بتحقيق دانيال جيماريه، وقد اعتمد ابن فورك في كتابه على كتب الأشعري التالية: الادراك، الأصول الكبير، الإيضاح، التفسير، الرد على البلخي في أدب الجدل، الرؤية الكبير، زيادات النوادر، الصفات الكبير، العمد، في أدب الجدل، في أصول الفقه، في أفعال النبي، في الإمامة، اللمع، المختزن، المختصر في التوحيد والقدر، المسائل المنثورة، مسألة في الاجتهاد، مسألة تعريف عجز المعتزلة عن جواب الجسمية، مسألة العجز، المعرفة، المقالات، الموجز، نقض الاستطاعة على الجبائي، النقض على ابن الراوندى في الصفات، النقض على أصول الجبائي، النقض على أوائل الأدلة للبلخى، النقض على الجبائي والبلخي، نقض اللطيف على الإسكافي، النوادر (2) . فهذه 32 كتابا من مؤلفات الأشعري اعتمد علها ابن فورك ونقل عنها، وكان من المفترض أن يكون هذا المجرد من أهم الكتب التي تدل على أقوال الأشعري خاصة في مؤلفاته المفقودة- وهي كثيرة- الا أن منهج ابن فورك في كتابه هذا وطريقته في النقل لم تسلم من ملاحظة جوهرية تؤثر على قيمة الكتاب الى حد كبير. يقول ابن فورك في المقدمة: " أما بعد، فقد وقفت على ما سألتم أسعدكم الله بطاعته من شدة حاجتكم إلى الوقوف على أصول مذاهب شيخنا أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري- رضي الله عنهـ، وما تبنى عليه أدلته وحججه على المخالفين، وأن أجمع لكم منها متفرقها في كتبه ما يوجد منها منصوصا له،   (1) في المخطوطة التي فيها ذكر اسم مؤلف الكتاب والموجودة في مكتبة عارف حكمة، كتب اسم المملى لهذا الكتاب " الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن المبارك، وقد رجح المحقق بأدلة ذكرها أنه ابن فورك، انظر: المقدمة (ص: 3-4) ، ويؤيد ذلك أن ابن فورك ذكر ذلك فقال:"وكان ذلك على اثر ماجمعت من متفرق مقالات شيخنا الأشعري " (درء التعارض 6/121) . (2) اعتمدت في هذا التعداد فهرس كتب الأشعري المذكورة في المتن للمجرد (ص: 361-362) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 ومالا يوجد منصوصا له أجبنا فيه على حسب مايليق بأصوله وقواعده، وأعرفكم مع ذلك ما اختلف قوله فيه في كتبه، وما قطع به منهما، ومالم يقطع بأحدهما، ورأينا أن أحدهما أولي بمذهبه وأليق بأصوله فنبهنا عليه" (1) ، ويوضح أكثر في الخاتمة فيقول: " وقد كنا شرطنا في أول الكتاب أنا نذكر ماوجدنا عنه فيه نصا منه عليه في كتاب له معروف وننسبه الى ذلك الكتاب إذا لم يكن ذلك من المشهور الذى لا يحتاج الي ذكره الحكاية عنه لشهرته وإن لم نجد عنه فيه نصا عليه ووجدنا أصوله تشهد بذلك وقواعده عليه تبني نسبناه إليه على هذا الوجه، وما وجدنا له معنى ما حكيناه عنه أضفناه إليه على أنه معنى مذهبه، وقلنا في جميع ذلك: انه كان يقول كذا وكذا، وتفصيل ذلك على الوجه الذي بينا، وطريقنا في نسبة ذلك إليه من جهة القول ومن طريق أنه قال جارية على الرسم الذى كشفنا عنه" (2) . ومن هذين النصين يتبين منهجه في كتابه، وكيف أنه أجاز لنفسه أن ينسب اليه مالم يقله، ويقول- لأنه يرى أنه جار على أصول مذهبه:- إنه كان يقول كذا وكذا، فما الذي يميز نصوص الأشعري عن نصوص ابن فورك التي أدخلها، وكيف ينسب الانسان إلى الأشعري قولا من هذا الكتاب ومؤلفه نهج فيه هذا النهج؟ لو أن ابن فورك نقل نصوص الأشعري من كتبه ثم أضاف أو علق، وميز هذا من هذا لكانت للكتاب مكانة وأهمية لا تقدر. وحتى لا يصبح الكلام نظريا، وحتى يتبين مستوي التغيير الذى أحدثه ابن فورك في أقوال الاشعرى، نضرب لذلك بأمثلة مما نقله من كتبه الموجودة ين أيدينا: أ- يقول ابن فورك في المجرد- في مسألة رؤية اللهـ: "وحكى في كتاب المقالات عن رقبة بن مصقلة وسليمان التيمي أنه قال: " رأيت الله تعالى في النوم فقال لي: اكرمت مثوى سليمان التيمي" (3) .   (1) مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري (ص: 9) . (2) مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري (ص: 338-339) . (3) المصدر السابق (ص 870) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 لكن عبارة الأشعري في المقالات هكذا: " وروى عن رقبة بن مصقلة أنه قال: رأيت رب العزة في النوم فقال: لأكرمن مثواه، يعني سليمان التيمي، صلي الفجر بطهر العشاء أربعين سنة" (1) . ومن يدقق يجد فروقا كثيرة. ب- ذكر ابن فورك في كتابه هذا في مسألة القدرة المحدثة وهل تخلو عن العلم في اكتساب الفعل المحكم بها، فذكر أن الأشعري اختلف جوابه، وأنه ذكر في بعض كتبه أن ذلك سائغ، ثم قال: " وهو ماذكره في كتاب اللمع" في قوله: " ولو وجدت قدرة الحياكة مع عدم الإحسان لها لوجدت مع قدرتها لا محالة" (2) . وعند الرجوع إلى اللمع نجد العبارة مختلفة، ولتوضيح المعنى نذكر النص كاملا ونشير الي العبارة التي نقلها ابن فورك، يقول الأشعري في الكلام عن الاستطاعة:" فإن قالوا: إذا كان في عدم الإحسان للحياكة عدم الحياكة، فلم لا يكون في وجود الإحسان لها وجودها؟ قيل: إن الحياكة تعدم لعدم قدرتها لا لعدم إحسانها، ولو عدمت الحياكة لعدم الإحسان لها لوجدت بوجود الإحسان لها. فلما لم يكن ذلك كذلك، وكان الإحسان لها يجامعه العجز علم أنها إنما تعدم لعدم القدرة عليها، [ولو أجرى الله تعالى العادة أن يخلق القدرة عليها مع عدم الإحسان لها لوقعت القدرة عليها لا محالة] " (3) ، والعبارة- الأخيرة هي العبارة التي نقلها ابن فورك، ويلاحظ ما بينهما من فرق، إذ عبارة اللمع تربطها بإجراء الله العادة. ج- ذكر في المجرد عبارة حول العلم (4) ، وحين تبحث عن العبارة في الكتاب المنقول عنه وهو اللمع تجد أول العبارة ولا تجد باقيها (5) .   (1) مقالات الإسلاميين (ص: 214) - ت ريتر، (1/263) - ت محمد محيي الدين عبد الحميد. (2) المجرد (ص: 93) . (3) اللمع (ص: 57) - ت مكارثي، (وص: 98) - ت غرابة. (4) انظر المجرد (ص: 267) سطر 13-14. (5) قارن المصدر السابق- نفس الصفحة باللمع (ص: 12) سطر 17- ت مكارثي (وص: 28) سطر ا- ت غرابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 فهذه المقارنات تدل على أن حكاية ابن فورك لأقوال الأشعري لا تؤخذ قضية مسلمة على أنها عبارته وكلامه، خاصة وأن المسائل التي ذكرها في كتابه هذا- مما لا يوجد في كتب الأشعري المطبوعة- كثيرة جدا، سواء في جليل المسائل أو دقيقها، ولعل المقارنة بين هذا الكتاب، ما يذكره الأشعري في كتبه المطبوعة، أو ما ينسبه اليه من ينقل أقوال الأشعري من بقية علماء الأشعرية كالجويني، والبغدادى والشهرستاني والرازي، تؤدى إلى استخلاص فائدة علمية من هذا الكتاب. وهذا الكتاب يعطي مضمون ما في كتب الأشعري الكلامية التي لم تصل إلينا، وكيف أنه خاض في كثير من المسائل على منهج المتكلمين، وذلك حين خاض في قضايا كثيرة من دقيق المسائل التي نجدها عند بعض علماء الأشعرية كالشهرستاني والجويني والرازي والآمدي وغيرهم. سابعا: أطوار حياته العقدية : مر الشيخ أبو الحسن الأشعري في حياته بأطوار، منها ماهو متفق عليه بين العلماء والمترجمين له، ومنها ماوقع حوله خلاف، وقد شغل الناس قديما وحديثا في هذا الأمر، ولا شك أن التطور الذي حدث لمذهب الأشعرية- بعد الأشعري- كان من أسباب طرق هذا الموضوع الذي يتصل بمؤسسه ومن ينتسبون إليه؛ وذلك من خلال علاقته ودوره في هذا التطور الذي حدث للمذهب الأشعري، وشيء آخر وهو محاولة الدفاع عن هذا المذهب من خلال بيان سلامة عقيدة من ينتسبون إليه ورجوعه إلى مذهب السلف. والملاحظ أن بعضا ممن كتب عن الأشعري وتطرق لهذا الموضوع لم يتجرد من مغالبة الهوي والميل مع أو ضد الأشعري، فجاء كلامه وأسلوبه متضمنا للمدح أو الذم، ومع ذلك فهناك من حاول الإنصاف، ووضع الأمر موضعه الصحيح، والتوفيق بيد الله سبحانه وتعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 وسيكون الكلام حول هذا الموضوع من خلال ما يلي: أ- طور الأشعري الأول، المتفق عليه. ب- رجوعه عن الاعتزال وتاريخه وأسبابه. ب- مذهب الأشعري بعد رجوعه: هل كان طورا واحدا أو طورين؟. أ- طور الأشعري الأول (مرحلة الاعتزال) : لم يشك أحد في أن الأشعري نشأ على مذهب المعتزلة، وأنه أقام علي ذلك فترة طويلة من الزمن، وليس أدل على ذلك من اعترافه هو حين قال فى كتابه " العمد" يعدد مؤلفاته: " وألفنا كتابا كبيرا في الصفات [وهو اكبر كتبه] سميناه كتاب: الجوابات في الصفات عن مسائل أهل الزيغ والشبهات، نقضنا فيه كتابا كنا ألفناه قديما فيها على تصحيح مذهب المعتزلة، لم يؤلف لهم كتاب مثله، ثم أبان الله سبحانه لنا الحق فرجعنا عنه فنقضناه وأوضحنا بطلانه" (1) ، وفي هذا النص نلمح المستوى الذى وصل إليه في مرحلة الاعتزال، وكيف أنه صار يؤلف الكتب على مذهبهم، بل إن هذا الكتاب المنقوض يذكر أنه لم يؤلف للمعتزلة مثله. أما المصادر التي ترجمت له فتذكر ذلك، فابن النديم يقول: " ابن أبي بشر وهو أبو الحسن على بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري من أهل البصرة، وكان أولا معتزليا ثم تاب من القول بالعدل وخلق القرآن في المسجد الجامع بالبصرة في يوم الجمعة" (2) . ويذكر السجزي (3) المتوفي سنة 444 هـ في رسالته إلى أهل زبيد   (1) التبيين (ص:131) . (2) الفهرست (ص: 231) - ط طهران. (3) هو: الإمام الحافظ أبو نصر عبيد الله بن سعيد بن حاتم الوايلي السجزي، انظر الأكمال (7/397) ، والأنساب (13/279) ، والتمييز والفصل لإسماعيل بن باطيش (ص: 758) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 المسماة: " الرد على من أنكر الحرف والصوت "رواية عن خلف المعلم (1) - المتوفي سنة 371 هـ- من فقهاء المالكية أنه قال: "أقام الأشعري أربعين سنة على الاعتزال، ثم أظهر التوبة، فرجع عن الفروع وثبت على الأصول" (2) ، أى أصول المعتزلة التي بنوا عليها نفي الصفات، مثل دليل الاعراض وغيره. ويذكر ابن عساكر أن أبا القاسم حجاج بن محمد الطرابلسي قال: "سألت أبا بكر إسماعيل بن أبي إسحاق الأزدي القيرواني المعروف بابن عزرة (3) -رحمه الله- عن أبي الحسن الأشعري-رحمه الله- فقلت له: قيل لى عنه: أنه كان معتزليا، وأنه لما رجع عن ذلك أبقي للمعتزلة نكتا لم ينقضها، فقال لي: الأشعري شيخنا وإمامنا ومن عليه معولنا، قام على مذاهب المعتزلة أربعين سنة، وكان لهم إماما، ثم غاب عن الناس فى بيته خمسة عشر يوما، فبعد ذلك خرج الى الجامع فصعد المنبر ..... " (4) وذكر قصته. ومما ينبغي ملاحظته أن بداية نبوغه وطلبه للعلم قد لا تكون بدأت على مذهب المعتزلة، لأن أباهـ الذي لا يعرف متى كانت وفاتهـ قد أوصى بولده إلى الساجي الإمام المحدث، ومن المحتمل أن يكون قد تتلمذ عليه وعلى أمثاله من العلماء فترة، إلى أن تحول إلى مذهب الاعتزال على يد الجبائي، ويذكر بعض مترجمي الأشعري سببا وجيها لهذه الصلة القوية بينه وبين الجبائي، وذلك حين يذكرون أن الجبائي تزوج بامه (5) ، وبذلك صار الأشعري ربيبا عنده،   (1) اسمه خلف بن عمر، وقيل عثمان بن عمر، وقيل عثمان بن خلف، ويعرف بابن أخي هشام الربعي، من أهل القيروان، اختلف في وفاته فقيل 371 هـ وقيل 373 هـ، ترتيب المدارك (6/210) ، ومعالم الإيمان (3/99) . (2) الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: 168) ، مطبوع على الآلة الكاتبة. (3) هكذا في التبيين لابن عساكر، والذى ترتيب المدارك بن عذرة، وذكر المحقق في الحاشية إن في احدى النسخ عزرة كما في التبيين، وهو فقيه من أصحاب ابن أبي زيد القيرواني وطبقته، رحل الى المشرق ولقي ابن مجاهد الطائي المتكلم- تلميذ الأشعري- وأخذ عنه وعن غيره، لم يذكر له تاريخ ولادة ولا وفاة، ترتيب المدارك (7/274) . (4) التبيين (ص: 39) . (5) انظر: المختصر لأبي الفداء (2/90) ، وتاريخ ابن الوردي (1/410) ، والوافي للصفدي (4/74) ، وخطط المقريزي (2/359) - ط بولاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 خاصة إذا كان هذا الزواج في حياة الأشعري المبكرة، حيث يكون التأثير أقوى، والتتلمذ على يد علماء السنة- إن حصل- لم يكن قد بلغ مرحلة النضج وا لاستقلال. وعلى أي حال فمما لا خلاف فيه أن الأ شعري تتلمذ على يد الجبائي المعتزلي فمن الجبائي وما أهم آرائه؟. الجبائي هو أبو علي محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان، مولي عثمان بن عفان- رضى الله عنهـ، الجبائي (1) البصري، ولد سنة 234- أو- 235 هـ ودرس الاعتزال على شيخ المعتزلة أبي يعقوب يوسف ابن عبد الله الشحام الذى انتهت عليه رئاسة المعتزلة في البصرة، ولما توفي الشحام سنة 267 هـ تبوأ مكانه في رئاسة المعتزلة تلميذه أبو على الجبائي، الذي عده ابن المرتضي على رأس الطبقة الثامنة من طبقات المعتزلة (2) ، وبقي أبو علي ينافح عن مذهب المعتزلة ويرد على من خالفه من المعتزلة وغيرهم، فكان ممن رد عليه أبو الحسن الخياط، والصالحي والجاحظ والنظام وغيرهم من المعتزلة، كما رد على تلميذه أبي الحسن الأشعري الذى كانت له أيضا كتب كثيرة في الرد كل من شيخه الجبائي، ولم يصل إلينا شيء من كتبه، وآراؤه مبثوثه في كتب المقالات - وأهمها كتاب الأشعري- وفى كتب المعتزلة وأهمها كتب عبد الجبار الهمذاني. ومن أبرز تلاميذ الجبائي أبو الحسن الأشعري- الذى ترك الاعتزال- وابنه أبو هاشم الجبائي الذى صار إماما للمعتزلة بعد والده، وقد توفي أبو على الجبائي سنة 303 هـ (3) .   (1) نسبة الى "جبي"بلد من أعمال خوزستان (الأهواز) قريبة من البصرة وليست من أعمالها،انظر كتاب الأقاليم للإصطخرى- المخطوط- (ص: 54) ، والروض المعطار (ص: 156) ، ومعجم البلدان (2/97) ، وكلهم ذكر أبا علي الجبائي ونسبته اليها. (2) انظر: كتاب المنية والأمل، تحقيق محمد جواد مشكور (ص: 170) . (3) انظر ترجمته فى: الأنساب (3/176) ، والمنتظم (6/137) ، ووفيات الأعيان (4/267) ، وسير أعلام النبلاء (14/183) ، والوافي (4/ 74) ، والبداية والنهاية (11/125) ،وطبقات المفسرين للداودى (2/189) ، ولسان الميزان (5/ 271) ، والمنية والأمل (ص:170) ، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 وأهم ما يلاحظ في حياة الجبائي أنه عاش في فترة انحسار الأعتزال، التي بدات في عهد المتوكل- تولي الخلافة سنة 232 هـ-، حين أبطل ما دعا إليه من قبله من الخلفاء من محاربة أهل السنة والدعوة إلي مذهب المعتزلة من القول بخلق القرآن وغيره، والإمام أحمد الذى نصر الله به أهل السنة توفي في أول حياة الجبائي سنة 241 هـ. ومع ذلك فلم يصل الأمر الى منع دراسة وتدريس الجدل وعلم الكلام، وإنما أبطل المتوكل ما تبنته الدولة من نصرة المعتزلة وفرض مذهبهم على الناس، ولذلك بقيت بعض المساجد في البصرة وبغداد وغيرها يتولى التدريس فيها أو في بعض حلقاتها بعض المعتزلة (1) . وقد سبق في بيان أحوال عصر الأشعري؛ أنه في عام 279 هـ صدر الأمر بمنع الوراقين من بيع كتب الفلسفة والكلام (2) ، وقد استمر هذا الانحسار بالنسبة للمعتزلة إلى مجىء البويهيين الذين دخلوا بغداد سنة 334 هـ، ومالوا إلى التشيع والاعتزال. في هذه الفترة عاش الجبائي، وتزعم حركة الاعتزال بعد شيخه الشحام، واستطاع بتبنيه لمذهب شيوخه، وبآرائه التجديدية في مذهب الاعتزال أن يكون له طائفة أو فرقة سميت بالجبائية. ومن الملفت للنظر حقا أن يكون رجوع الأشعري عن الاعتزال في هذه الفترة التي انحسر فيها مذهب المعتزلة، فكيف يفسر هذا الفرح العظيم لأهل السنة؟ هل كان الجدل بين أهل السنة والمعتزلة في تلك الفترة قويا دون أن يبرز على السطح، أم أن الصراع الذي تلا هذه الفترة حين ظهرت للمعتزلة مكانة وسلطة في عهد البويهيين جعلت علماء السنة يستعيدون الأحداث السابقة التي تدعم مواقفهم ومنها قصة الأشعري؟. فصاروا ينشرونها ويؤلفون حولها.   = والفرق بين الفرق (ص: 183) ، والملل والنحل للبغدادي (ص:128) ، والتبصير بالدين (ص:79) ، والملل والنحل للشهرستاني (1/78) ، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي (ص: 43) ،- ت النشار-، و (ص: 35) مع المرشد الأمين. (1) انظر: الجبائيان (ص:66) (2) انظر: عصر الأشعري في أول هذا الفصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 أما أهم آراء أبي علي الجبائي، فهي مبنية على مذهب المعتزلة القائم على أصولهم الخمسة، ومع أن الجبائي يعتبر إماما للمعتزلة في زمانه الا أنه انفرد بآراء تستوقف الناظر، ولن نتعرض لجميع آرائه فقد كتبت حولها مع آراء ابنه أبي هاشم رسالة علمية (1) ، ولكن نذكر منها ما يلفت النظر ويعين على فهم الأجواء التي عاشها الأشعري في فترة تتلمذه عليه: ا- في مسألة كلام الله، قال بقول المعتزلة: أنه مخلوق، لكنه أتى برأى جديد وهو قوله: " إن الله تعالى يحدث عند قراءة كل قارى كلاما لنفسه في محل القراءة" (2) ، وقوله " كلام الله يوجد مع قراءة كل قارىء، ثم الكلام عنده حروف تقارن الأصوات المتقطعةعلى مخارج الحروف، وليست هي أصواتا" (3) وقوله "إذا اجتمع طائفة من القراء على تلاوة آية، فيوجد بكل واحد منهم كلام الله، والموجود بالكلام كلام واحد" (4) ، فهل كان قوله: إن الله يحدث عند قراءة كل قارى كلاما لنفسه، وقوله إن الكلام بلا أصوات يقرب من الكلام النفسي الذى قال به الأشعرية (5) ؟.، ومما يلاحظ أن الأشعري شنعوا عليه في قوله: إن الصوت كامن في الحروف في المصاحف، وقد علق ابن المرتضي على ذلك بقوله: " فالشيخ أبو على خاف ما خاف أهل الأثر في المرتبة الأولى من الكفر في مخالفة السمع، فتكلف مخالفة المعقول في كون الصوت في الحروف المكتوبة، وفي إحداث صوت من الله مع صوت كل قارى، حتى   (1) بعنوان: الجبائيان أبو على وأبو هاشم، تأليف على فهمي خشيم، حصل عليها من جامعة عين شمس بمصر، كلية الآداب بإشراف محمد عبد الهادى أبو ريدة، وقد طبعت في ليبيا- دار الفكر سنة 1968. م- ويظهر الباحث تعاطفه الشديد معهم وقد قال في المقدمة (ص: هـ) " كان المعتزلة استولوا على عقلي بعقلهم منذ زمن بعيد". (2) الملل والنحل للشهرستاني (1/81) . (3) الإرشاد للجويني (ص: 123) . (4) نفس المصدر والصفحة. (5) انظر: الجبائيان (ص: 117) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 يكون السامع لكل قارئ سامعا لكلام الله على الحقيقة كما سمعه موسى عليه السلام " (1) . 2- وهو ينكر الرؤية لكنه لا يكفر من أثبتها كما يقول المعتزلة (2) . 3- من أصول المعتزلة إنفاذ الوعيد وأن أهل الكبائر لابد أن يخلدوا في النار وقد قال الجبائي بذلك، لكنه قال بأنه يجوز على الله العفو وهذا مخالف لسائر المعتزلة، يقول الأشعري عن المعتزلة: "واختلفوا هل كان في العقل يجوز أن يغفر الله لعبده ذنبا ويعذب غيره على مثله، أم لا على مقالتين: فأجاز ذلك بعضهم وهو الجبائي، وأنكره أكثرهم " (3) . 4- يرى أن العلة لا توجب معلولها، والسبب لا يجوز أن يكون موجبا للمسبب، ومعلوم أن أكثر المعتزلة يقولون: ان الأسباب موجبة لمسبباتها (4) ، والجبائي " يصف ربه بالقدرة على أن يجمع بين النار والقطن ولا يخلق إحراقا وأن يسكن الحجر في الجو فيكون ساكنا لا على عمد من تحته، واذا جمع بين النار والقطن فعل ما ينفي الا حراق وسكن النار فلم تدخل بين أجزاء القطن فلم يوجد إحراق" (5) . فهذا القول يقرب مما أخذ به الأشعرية من إنكار الأسباب (6) . 5- وفي الكسب كان له رأي متميز عن المعتزلة، يقول الأشعري:   (1) إشار الحق عل الخلق (ص: 319) - رسالة محققة في جامعة الإمام، ت أحمد مصطفي حسين صالح. وهو في الطبعة الأولى (ص: 125) . (2) انظر: شرح الأصول الخمسة (ص:275) . (3) مقالات الإسلاميين (ص:276) - ريتر-، ويرى الجبائي: أن الفاسق الملى مؤمن من أسماء اللغة بما فعله من الإيمان، وهذا مخالف لسائر المعتزلة الذين يقولون: إن الفاسق في منزلة بين المنزلتين، بل زعم الجبائي أن في اليهودي إيمانا نسميه به مؤمنا مسلما من أسماء اللغة، انظر: المقالات (ص:269) ، فهل الجبائي يقرب هنا من أقوال المرجئة؟. (4) انظر: المقالات (ص: 412- 413) . (5) مقالات الإسلاميين (ص:570) . (6) انظر: الجبائيان (ص:172) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 " واختلف الناس في معني مكتسب، فقال قوم من المعتزلة: معناه أن الفاعل فعل بآلة وبجارحة وبقوة مخترعة، وقال الجبائي: معني المكتسب هو الذي يكتسب نفعا أو ضررا أو خيرا أو شرا، أو يكون اكتسابه للمكتسب غيره كاكتسابه للأموال وما أشبه ذلك واكتسابه للمال غيره، والمال هو الكسب له في الحقيقة وإن لم يكن له فعلا، قال الأشعري: والحق عندى أن معني الاكتساب هو أن يقع الشيء بقدرة محدثة فيكون كسبا لمن وقع بقدرته" (1) . وقد خالف الجبائي سائر المعتزلة في معنى أن الله خالق (2) ، بل وقال: إن الله " لا يقدر على عين فعل العبد بدليل التمانع ... " (3) . 6- وقوله في إرادة العبد خالف فيه سائر المعتزلة، يقول الأشعري: " وأجمعت المعتزلة إلا الجبائي أن الإنسان يريد أن يفعل ويقصد إلى أن يفعل، وإن إرادته لأن يفعل لا تكون مع مراده ولا تكون إلا متقدمة للمراد، وزعم الجبائي: أن الإنسان إنما يقصد الفعل في حال كونه، وأن القصد لكون الفعل لا يتقدم الفعل، وأن الإنسان لا يوصف بأنه في الحقيقة مريد أن يفعل، وزعم أن إرادة البارئ مع مراده" (4) . 7- قوله بالشريعة العقلية، يقول الشهرستاني عنه وعن ابنه أبي هاشم:" وأثبتا شريعة عقلية وردا الشريعة النبوية الى مقدرات الأحكام ومؤقتات الطاعة التي لا يتطرق اليها عقل ولا يهتدى اليها فكر، وبمقتضي العقل والحكمة يجب على الحكيم ثواب المطيع وعقاب العاصي، إلا أن التأقيت والتخليد فيه يعرف   (1) المقالات (ص: 542) . (2) انظر: المصدر السابق (ص: 539) . (3) المواقف (ص: 284) ، ومع شرحه (8/64) ، وقد شرح الإيجي معنى التمانع هنا على رأي الجبائي بأنه "لو أراد الله تعالى فعلا، وأراد العبد عدمه، لزم اما وقوعهما فيجتمع النقيضان أو لا وقوعهما فيرتفع النقيضان، أو وقوع أحدهما فلا قدرة للآخر، لايقال يقع مقدور الله لأن قدرته أعم، لأنا نقول معنى كون قدرته أعم تعلقها بغير هذا المقدور ولا أثر له في هذا المقدور، فهما في هذا المقدور سواء". (4) مقالات الإسلاميين (ص:418) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 بالسمع " (1) ، وهذا كلام خطير يدل على مقدار النبوة عند هؤلاء، فالصلاة تجب بالعقل، لكن توقيتها فجرا وظهرا وعصرا يعرف عن طريق النبي، فالنبي جاء بالحكم الوضعي دون الحكم التكليفي، وهذا القول- لشناعتهـ يظهر أن الجبائي لم يسطره في كتاب ولم يكن مذهبا مصرحا به عنده كما يقول عبد الجبار الهمذاني (2) ، وهذه عادة الجبائي (3) . 8- ومن الأمور المثيرة والتي قال بها الجبائي قولهـ على مذهبهـ إن بغداد- في عهدهـ دار كفر، يقول الأشعري: "واختلفوا هل الدار دار إيمان أم لا؟ فقال اكثر المعتزلة والمرجئة: الدار دار إيمان، وقالت الخوارج من الأزارقة والصفرية: هي دار كفر وشرك، وقالت الزيدية: هي دار كفر نعمة، وقال جعفر بن مبشر ومن وافقه هي دار فسق. وقال الجبائي: كل دار لا يمكن فيها أحد أن يقيم بها أو يجتاز بها إلا بإظهار ضرب من الكفر، أو باظهار الرضي بشيء من الكفر، وترك الإنكار له فهي دار كفر، وكل دار أمكن القيام بها والاجتياز بها من غير اظهار ضرب من الكفر أو إظهار الرضي بشيء من الكفر وترك الإنكار له فهي دار إيمان"، ويعلق الأشعري على رأى الجبائي قائلا:" وبغداد على قياس الجبائي دار كفر لا يمكن المقام بها عنده الا بإظهار الكفر الذي هو عنده كفر أو الرضي، كنحو القول إن القرآن غير مخلوق، وأن الله سبحانه وتعالى لم يزل متكلما به، وأن الله سبحانه أراد المعاصي وخلقها، لأن هذا كله عنده كفر، وكذلك القول في مصر وغيرها على قياس قوله، وفي سائر أمصار المسلمين، وهذا هو القول بأن دار الإسلام دار كفر ومعاذ الله من ذلك" (4) . 9- ومن أقواله العجيبة أيضا رأيه في النبوة، يقول الأشعري: " واختلفوا   (1) الملل والنحل للشهرستاني (1/81) . (2) انظر: المجموع المحيط بالتكليف (ج:3،ص:195) و مخطوط- عن الجبائيان (ص:276) . (3) انظر: الجبائيان (ص:276) مع الحواشي. (4) مقالات الإسلاميين (ص:463- 464) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 في النبوة هل هي ثواب أو ابتداء، فقال قائلون: هي ابتداء، وقال قائلون: هى جزاء على عمل الأنبياء، هذا قول عباد، وقال الجبائي: يجوز أن تكون ابتداء" (1) ، فهل قوله يجوز أن تكون النبوة ابتداء فيه ميل إلى أولئك الذين يقولون: إن النبوة قد تكون مكتسبة؟. 10- والجبائي كان يتوقف في المفاضلة بين علي وأبي بكر- رضي الله عنهما-، (2) ثم مال أخيرا إلى تفضيل على، وألف كتابا لعباد بن سليمان في تفضيل أبي بكر (3) ، ويروي أن الجبائي هم أن يجمع بين المعتزلة والشيعة (4) . 11- أما موقفه من السنة فهو موقف باقي المعتزلة، وقد أورد بعض مترجميه أن أحدهم سأله عن حديث في الاحكام ورد بإسناد فقبله، ولما أورد نفس هذا الإسناد في حديث حجاج آدم وموسى رده (5) . هذه أهم آراء الجبائي- البارزة- مع ملاحظة أنه يتبني مذهب المعتزلة ويقول بأقوالهم، فهل كان لهذه الأقوال والتناقضات أثر في موقف الأشعري ورجوعه عن مذهب الاعتزال؟ إن أقوال وحياة الجبائي يلاحظ فيها مايلي: أ- خروجه عن بعض آراء أهل الاعتزال، قد يكون أحيانا خروجا على إجماعهم. ب- شناعة بعض أقواله: كقوله بالشريعة العقلية، أو دار الكفر، أو أن النبوة يجوز أن تكون ابتداء. ج- عدم تصريحه ببعض آرائه ومواقفه، ولعل الأشعري الذي كان قريبامنه مطلع عليها كلها، وحين نعلم أن الجبائي قد تعرض لمصادرة أمواله،   (1) مقالات الإسلاميين (ص:448) . (2) انظر: المصدر السابق (ص:458-459) . (3) انظر: المنية والأمل (ص:171-172) ، ت مشكور. (4) انظر: الجبائيان (ص:294) . (5) انظر: المنية والأمل (ص:171) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 وأن شيخه الشحام كان مقدما عند قائد الزنج، الذين أثاروا فتنة عظيمة (1) ، وأن ذلك كان وقت أفول نجم المعتزلة، فلا يستبعد أن تكون له بعض المواقف. والله أعلم. هذه مرحلة الأشعري الأولى، وقد تبوأ فيها مكانة عالية خاصة عند شيخه الجبائي، الذى كان ينيبه في بعض مناظراته، يقول ابن عساكر- عن العسكرى-: " كان الأشعري تلميذ الجبائي يدرس عليه فيتعلم منه ويأخذ عنه، لا يفارقه أربعين سنة، وكان صاحب نظر في المجالس، وذا إقدام على الخصوم، ولم يكن من أهل التصنيف، وكان اذا أخذ القلم يكتب وربما ينقطع وربما يأتي بكلام غير مرضي، وكان أبو على صاحب تصنيف وقلم، إذا صنف يأتي بكل ما أراد مستقصي، وإذا حضر المجالس وناظر لم يكن بمرض، وكان إذا دهمه الحضور في المجالس ييعث الأشعري ويقول له نب عني، ولم يزل على ذلك زمانا" (2) ، وقد دافع ابن عساكر عما في هذه الحكاية من رداءة تصنيفه بأن ذلك كان في أول أمره قبل اهتدائه (3) . ب- رجوعه عن الاعتزال وأسبابه : أعلن الأشعري رجوعه عن الإعتزال، فقد غاب في بيته ثم خرج إلى الناس بعد صلاة الجمعة وأعلن رجوعه عليهم، وإنه يتبرأ من جميع أقواله السابقة، وأظهر بعض مؤلفاته الجديدة، والملاحظ أن مترجمي الأشعري يشيرون الى أن مدة مقامه في الاعتزال أربعين سنة، فإذا كان الأشعري ولد سنة 260 هـ والجبائي توفي سنة 303 هـ ورجوع الأشعري كان قبل وفاة الجبائي لأن الجبائي نفسه رد على الأشعري، فالأولي أن يعتبر هذا الكلام تقريييا وأن المقصود أن رجوع الأشعري كان وهو قريب من الأربعين في عمره، ولذلك عبر البعض بأن إقامة الأشعري في الاعتزال كانت عدة سنين (4) .   (1) سبقت الإشارة اليها في أول هذا الفصل، وانظر: الجبائيان (ص:377-283) . (2) تبيين كذب المفترى (ص:91) . (3) انظر المصدر السابق (ص:91-92) . (4) انظر: الخطط للمقريزي (2/359) ، بولاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 ولما كان رجوع الأشعري عن الاعتزال بعد هذه المدة التي تعتبر طويلة إضافة الى المفاجأة في ذلك، فقد كثرت الأقوال في أسباب رجوعه، ويمكن حصر أهمها فيما يلي: ا- فالنوع الأول من الأسباب المباشرة للتحول: الرؤيا، وتتعدد الروايات في ذلك، فمنها ما ورد " أن الشيخ أبا الحسن-رحمه الله- لما تبحر في علم كلام الاعتزال وبلغ غاية، كان يورد الأسئلة على أستاذيه في الدرس، ولا يجد فيها جوابا شافيا فتحير في ذلك، فحكى عنه أنه قال: وقع في صدري في بعض الليالي شيء مما كنت فيه من العقائد، فقمت وصليت ركعتين، وسألت الله تعالى أن يهديني الطريق المستقيم، وقمت فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام فشكوت إليه بعض مابي من الأمر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليك بسنتي، فانتبهت وعارضت مسائل الكلام بما وجدت في القرآن والأخبار، فأثبته ونبذت ماسواه ورائي ظهريا" (1) ، وهذه الرواية ينتهي اسنادها الى بعض الأصحاب، دون تحديد، وفي رواية أخرى أطول: وأنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام في رمضان عدة مرات، ويطلب منه نصرة المذاهب المروية، وان الأشعري قال له في رؤياه اياه ليلة سبع وعشرين: كيف أدع مذهبا تصورت مسائله وعرفت أدلته منذ ئلاثين سنة لرؤيا، فقال لي لولا أني أعلم أن الله تعالى يمدك بمدد من عنده لما قمت عنك حتى أبين لله وجوهها وكأنك تعد إتياني اليك هذا رؤيا، أو رؤياى جبريل كانت رؤيا، إنك لا تراني في هذا المعنى بعدها، فجد فيه فإن الله سيمدك بمدد من عنده، قال فاستيقظت وقلت مابعد الحق الا الضلال، وأخذت في نصرة الأحاديث في الرؤية والشفاعة والنظر وغير ذلك، فكان يأتيني شيء ما سمعته من خصم قط، ولا رأيته في كتاب فعلمت أن ذلك من مدد الله تعالى الذي بشرني به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (2) ، وهي رواية تنتهي إلى مجاهيل، ويورد القاضي عياض هذه الرواية بلا إسناد ويذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -   (1) التبيين (ص: 38-39) . (2) المصدر السابق (ص:0 4- 41) ، وطبقات السبكي (3/348-349) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 قال لى في المنام: " إنما قلت لك اطلب علم الكلام، واعمل بمسألة الرؤية، ولم أقل لك نح الكلام،، وأنه لما رآه ليلة سبع وعشرين قال له الأشعري لما سأله ما الذى عملت فيما قلت لك؟: " فقلت: يارسول الله، كيف أدع مذهبا نصرته أربعين سنة، وصنفت فيه، ورسخت؟ يقول الناس: هذا رجل موسوس يدع المذاهب بالمنامات"، فغضب غضبا شديدا وقال: كذلك كانوا يقولون لي: موسوس ومجنون، وماضيعت حق الله تعالى لقول الناس، وتعد هذه من جملة المنامات؟ أتردد اليك في الشهر ثلاث مرات، ثم تقول: إنه منام، هذه اعتذارات كلها باطلة فدعها، ولا تعرج عليها .... " (1) . ويلاحظ ما دخل هذه الروايات من زيادات حتى يقول الرسول: انظر علم الكلام، وقد يكون لمسألة الرؤية أصل، لكن ليس بهذه الأساليب والروايات التي لم يتصل سند شيء منها. 2- النوع الثاني من الأسباب: مناظراته لشيخه الجبائي، وأشهر هذه المناظرات: مناظرته حول الصلاح والأصلح فقد أوردها ابن خلكان في ترجمة الجبائي فقال:" وعنه أخذ الشيخ أبو الحسن الأشعري شيخ السنة وعلم الكلام، وله معه مناظرة روتها العلماء، فيقال: إن أبا الحسن المذكور سأل أستاذه أبا على الجبائي عن ثلاثة إخوة: أحدهم كان مؤمنا برا تقيا، والثاني كان كافرا فاسقا شقيا، والثالث كان صغيرا، فماتوا، فكيف حالهم؟ فقال الجبائي: أما الزاهد ففي الدرجات، وأما الكافر ففي الدركات، وأما الصغير فمن أهل السلامة، فقال الأشعري: ان أراد الصغير أن يذهب الى درجات الزاهد هل يؤذن له؟ فقال الجبائي: لا، لأنه يقال له: إن أخاك إنما وصل إلى هذه الدرجات بسبب طاعاته الكثيرة، وليس لك تلك الطاعات، فقال الأشعري: فإن قال ذلك الصغير: التقصير ليس مني، فإنك ما أبقيتني ولا أقدرتني على الطاعة، فقال الجبائي: يقول البارى جل وعلا: كنت أعلم أنك لو بقيت لعصيت وصرت مستحقا للعذاب الأليم، فراعيت مصلحتك، فقال الأشعري: فلو قال الأخ الكافر: يا اله العالمين، كما علمت حاله فقد علمت حالى، فلم راعيت مصلحته   (1) ترتيب المدارك (5/28-29) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 دوني؟ " [وفي بعض نسخ الوفيات الخطية] : فقال الجبائي للأشعرى: إنك مجنون، فقال: لا، بل وقف حمار الشيخ في العقبة" (1) ، وبسبب انقطاع الجبائي رجع الأشعري عن الاعتزال (2) ، وهناك مناظرة أخرى حول هل يسمي الله عاقلا فقد " دخل رجل على الجبائي فقال: هل يجوز أن يسمي الله تعالى عاقلا؟ فقال الجبائي: لا، لأن العقل مشتق من العقال، وهو المانع، والمنع في حق الله محال، فامتنع الإطلاق. قال الشيخ أبو الحسن فقلت له: فعلى قياسك لا يسمي الله سبحانه حكيما؟ لأن هذا الاسم مشتق من حكمة اللجام، وهي الحديدة المانعة للدابة من الخروج ويشهد لذلك قول حسان بن ثابت- رضي الله عنهـ: فنحكم بالقوافي من هجانا ونضرب حين تختلط الدماء (3) وقول الآخر: أبني حنيفة حكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا (4) أى نمنع بالقوافي من هجانا، وامنعوا سفهاكم، فإذا كان اللفظ مشتقا من المنع، والمنع على الله محال لزمك أن تمنع إطلاق حكيم عليه سبحانه وتعالى قال: فلم يحر جوابا، الا أنه قال لي: فلم منعت أنت أن يسمي الله سبحانه عاقلا، وأجزت أن يسمي حكيما؟ قال: فقلت له: لأن طريقي في مأخذ أسماء الله الإذن الشرعي دون القياس اللغوى، فأطلقت حكيما لأن الشرع أطلقه، ومنعت عاقلا لأن الشرع منعه، ولو أطلقه الشرع لأطلقته" (5) .   (1) وفيات الأعيان (4/267-268) ، وانظر طبقات السبكي (3/356) ، وانظر رأي الجبائي في هذه المسألة في مقالات الأشعري (ص: 575) ، وانظر: تعليق المقبل القاسي على هذه القصة في العلم الشامخ (ص: 297) . (2) انظر: الملل والنحل للشهرستاني (1/93) ، ويذكر الرازى في تفسيره "سورة الأنعام، آية 125" انها بعد رجوع الأشعري (13/185) . (3) ديوان حسان (ص: 74) ، ت سيد حنفي وحسن كامل الصيرفي، الهيئة المصريةالعامة 1394هـ، 1974م. (4) البيت لجرير، ديوانه (1/466) وفيه " أحكموا". (5) طبقات السبكي (3/357-358) ، وانظر: ظهر الإسلام (4/68-69) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 والمناظرات بين الأشعري والجبائي كثيرة، وواضح أن بعضها كان بعد رجوع الأشعري (1) ، وقد تكون من عوامل عدم ثقته بمذهب الاعتزال. 3- أن سبب رجوعه حيرته وتكافؤ الأدلة عنده،-روي ابن عساكر عن ابن عذرة أنه قال عن الأشعري: " قام على مذاهب المعتزلة أربعين سنة، وكان لهم لهم إماما ثم غاب عن الناس في بيته خمسة عشر يوما، فبعد ذلك خرج إلى الجامع فصعد المنبر وفال: معاشر الناس: اني تغيبت عنكم في هذه المدة لأني نظرت فتكافأت عندي الأدلة، ولم يترجح عندي حق على باطل، ولا باطل كل حق، فاستهديت الله تبارك وتعالى فهداني إلى اعتقاد ما أودعته في كتبي هذه، وانخلعت من جميع ماكنت أعتقده؟ انخلعت من ثوبي هذا، وانخلع من ثوب كان عليه ورمى به ودفع الكتب الى الناس فمنها: كتاب اللمع، وكتاب أظهر فيه عوار المعتزلة سماه بكتاب كشف الأسرار وهتك الأستار، وغيرهما، فلما قرأ تلك الكتب أهل الحديث والفقه من أهل السنة والجماعة أخذوا بما فيها، وانتحلوه واعتقدوا تقدمه واتخذوه إماما حتى نسب مذهبهم اليه" (2) . 4- وبعضهم يربط أسباب رجوعه بعوامل خارجية، فمحنة الامام أحمد، ثم ماجرى بعد ذلك من انتصاره وأفول نجم أعدائه من المعتزلة في عهد المتوكل، وأن الناس ملوا كثرة المماجكات والمحن التي شهدوها فكرهوا هذه الطائفة، فولد هذا لدى الأشعري كراهية هذا المذهب فرجع عنه (3) . 5- أن أسباب رجوعه نشأة الأشعري الحديثية، والفقهية، فأبوه كان   (1) انظر: ما أشار اليه الأشعري في المقالات (ص:355-356) حول الحركة والسكون، و (ص: 19،) حول هل يريد الإنسان إرادته، وانظر عيون المناظرات للسكوني، فقد أورد للأشعري عدة مناظرات، فإضافة الى مناظراته حول الصلاح والأصلح، وهل يسمي الله عاقلا (ص:226،وص:228) ذكر مناظرات أخرى: (ص:226 حول الرؤية، وص:232) مع أحد النصارى حضرها بعض المعتزلة منهم الجبائي، وأخرى (ص:234) لكن ليس فيها الجبائي. (2) التبببن (ص:39-40) . (3) انظر ظهر الإسلام (4/66) ، منهج علماء الحديث والسنة (ص 160) ، نشأة الأشعرية وتطورها (ص:179) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 محدثا جماعيا، وأوصي به الى الساجي المحدث، ثم بعد ذلك صار الأشعري يتردد على حلقة الفقيه أبو إسحاق المروزى الشافعي، فتأثر بذلك خاصة وأن موقف أهل الحديث من المعتزلة معروف، كذلك الإمام الشافعي كان له موقف من آراء المعتزلة بل وعلم الكلام، فلم يستطع الأشعري أن يجمع بين كونه شافعي المذهب يتعبد به ويدرس على شيوخه وبين آرائه الاعتزالية التي تعظم العقل، وترد أحاديث السنة فرجع عن مذهب المعتزلة (1) . والبعض عرض هذا السبب بأسلوب آخر، وهو أن الأشعري أراد أن يجمع بين الفقهاء والمحدثين وبين أهل الكلام، الذين اشتد بينهم العداء، وأن الأشعري لما رأى ذلك ساءل نفسه وما الذي يمنع من الجمع بين الفقه وعلم الكلام، فأتي بمذهبه الذى توسط فيه بين المعتزلة والمحدثين (2) . والبعض يذكر هذا السبب وأن الذى دعا الأشعري إلي تحوله ما رآه من انقسام المسلمين عقائديا، ما بين معتزلة يفرطون في النزعة العقلية، ومن يقابلهم من أهل النص، فأراد أن يسهل للأمة الإسلامية مخرجا وسطا بينهما (3) . 6- وهناك أسباب أخرى ذكرها أعداؤه ليشنعوا عليه (4) . هذه أهم ما أورد من أسباب لتحول الأشعري، وقد سبق عند الحديث عن الجبائي وآرائه التلميح إلى ما قد يكون من أسباب نبذه لمذهب المعتزلة، ومع ذلك فكل ما ذكر لا يرقى أى منها إلى درجة اليقين، إذ لم يرد عن الأشعري   (1) انظر: في علم الكلام (ج 2) ، الأشاعرة (ص:42-43) . (2) انظر: مقدمة الكوثرى لتبيين كذب المفترى (ص: 15) ونشأة الأشعرية وتطورها: (ص:186) (3) انظر: تاريخ الفلسفة الإسلامية: هنرى كوربان (ص:180-182) ، ويقول سبيتا"عكف على دراسة الحديث وضح له مابين رأى المعتزلة وروح الإسلام من تناقض، دائرة المعارف الإسلامية (2/218) ، وانظر: تاريخ الفلسفة العربية: الفاخورى، الجر (1/177) . (4) مثل قول بعض المعتزلة: إن السبب تغير في عقله، تبيين كذب المفتري (ص:80) ، وقول البعض: انه مات له قريب فخاف أن يمنع من الميراث، ومثل أنه فارق مذهب المعتزلة لأنه لم يظفر عند العامة بسمو المنزلة (التبيين ص: 381) . ومثل القول: إن السبب الضغط من أسرته وإغرائه بالمال، أو أنه أراد أن يبني لنفسه بطولة، أو مجاملته للحنابلة، انظر المدرسة السلفية (ص: 564-565) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 بطريق صحيح أو في أحد كتبه المعتمدة السبب المباشر لتحوله ورجوعه، لذلك لابد من التماس ذلك في أكثر من سبب، علما بأن الرجوع إلى الحق ونبذ الباطل إنما هو عودة إلى الهداية الموافقة للفطرة، وهو أمر يقذفه الله في قلب عبده المؤمن، فليس الأمر غرييا أو مخالفا للمعقول حتي يتلمس له السبب، والله أعلم. * * * ج- مذهب الأشعري بعد رجوعه [هل كان طورا أو طورين؟] : اختلف العلماء والباحثون- بعد اتفاقهم علي العطور الأول الذي هو طور الاعتزال- هل مر الأشعري بعد تحوله بطور أو طورين؟، ويمكن تحديد الأقوال كما يلي: الأول: أن الأشعري- بعد تحولهـ بقي على طور واحد، وأنه في هذه المرحلة تابع ابن كلاب، لكن كانت له آراء مستقلة توسط فيها بين المعتزلة والمثبتة، نشأ عنها ما يسمى بالمذهب الأشعري، وهذا قول الأشعرية، أما كتاب الإبانة فإما أن يتغافلوا عنه، أو يقولوا بإثباته، لكنهم يفسرون مافيه من الإثبات بأن ذلك جاء على طريقة "التفويض" وأن هذا لا يتعارض مع القول بتأويل بعض الصفات (1) . وهذا القول يقول به أيضا بعض العلماء من غير الأشاعرة، وهؤلاء يقولون: إن الأشعري سار علي طريقة ابن كلاب، فبقيت عليه بقايا من مذهب الاعتزال، أما كتاب الإبانة فيرون أنه مع أنه يقرب فيه كثيرا من مذهب السلف ق الاستدلال بالنصوص، إلا أن ما أثبت فيه هو مذهبه قبل ذلك، ولذلك فليس فيه ما يعارض كتبه السابقة، والمباحث التي ركز عليها في كتاب " اللمع"   (1) انظر: الملل والنحل للشهرستاني (1/93) ، ولسان الميزان لابن حجر (3/ 291) الذى يرى أن الأشعري مشى على طريقة ابن كلاب في كتابه الإبانة، وهذا رأي ابن فورك الذي يرى أن أصولهما واحدة، انظر: نص كلامه فيما جمعه من مقالات ابن كلاب، نقض التأسيس المخطوط (1/37-41) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 لم يركز عليها في كتاب الإبانة، فليس بينهما تعارض، وليس في الإبانة ما بدل على رجوعه عن مذهب ابن كلاب (1) . فهذان رأيان يتفقان في أن الأشعري مر بعد الاعتزال بمرحلة واحدة، ويختلفان في التفسير والتحليل. الثاني: أن الأشعري بعد تحوله مر بطورين: أ- طور التوسط والسير علي طريقة ابن كلاب. ب- وطور الإثبات والتخلي عن طريقة ابن كلاب والسير علي منهاج أهل السنة والجماعة كما في " الإبانة". لكن أصحاب هذا القول اختلفوا علي قولين متعارضين: أحدهما: أن الأشعري مر أولا بطور التوسط والسير علي طريقة ابن كلاب وألف في ذلك كتبه المختلفة التي اشتهرت وتناقلها الناس، ثم رجع في الآخر إلى مذهب السلف من خلال تأليفه للإبانة وذلك في آخر عمره في بغداد (2) .   (1) ويرى الدكتور فاروق دسوقي أن الأشعري، رجع مرة واحدة الي مذهب السلف، ولم يتغير موقفه ولا منهجه، ولا فرق بين الإبانة واللمع، انظر: رأيه وحججه بالتفصيل في كتابه القضاء والقدر (2/286-304) ، وهو رأي الدكتورة فوقية محمود، الإبانة- الدراسة- (ص: 91) . (2) من الذين نصوا على أن الأشعري مر بثلانة أطوار آخرها الرجوع الي مذهب السلف ابن كثير كما نقل عنه الزبيدى في إتحاف السادة المتقين (2/4) ، والشيخ محب الدين الخطيب في حواشيه عل الروض الباسم (ص: 174) ، ومعارج القبول (1/346) ، والمنتقي (ص: 41، 43) ، والشيخ أحمد بن حجر أبو طامي في العقائد السلفية (1/143) ، والشيخ محمد الصالح العثيمين في القواعد المثلى (ص: 80-81) ، ومصطفي حلمي في ابن تيمية والتصوف (ص: 16) وفي قواعد المنهج السلفي - ط الثانية (ص: 30) وغيرهم، ومن الباحثين: هادى طالبي في رسالته أبو الحسن الأشعري بين المعتزلة والسلف (ص: 39) ومابعدها، وخليل إبراهيم الموصلى في رسالته بين أبي الحسن الأشعري والمنتسبين اليه في العقيدة (ص: 39) ومابعدها، ومحمد باكريم باعبد الله في مقدمة تحقيقه لكتاب الرد على من أنكر الحرف والصوت للسجزي (ص: 8) من الدراسة ومابعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 الآخر: العكس: وهو أن الأشعري، انتقل أولا إلى مذهب السلف، - الذي يسمونه مذهب الحنابلة- فألف الابانة في حال الحماس والاندفاع، ثم بعد ذلك انتقل إلى الطور الأخير الذي توسط فيه، وألف فيه كتبه ومنها اللمع، فهؤلاء يبنون قولهم علي أن الإبانة قبل اللمع (1) . هذه أهم الأقوال الواردة في مسألة رجوع الأشعري-رحمه الله- ويمكن تلخيصها كما يلي: 1- إن الأشعري تحول عن الاعتزال إلى التوسط، أو ما يسمي بمذهب الأشعري، وان ما رجع إليه هو الحق. 2- أنه رجع الى مذهب السلف والقول الحق- الذي هو مذهب الإمام أحمد -ولم تختلف أقواله ولا كتبه. 3- أنه رجع الى المذهب الحق لكنه تابع ابن كلاب وبقيت عليه بقايا اعتزالية. 4- أنه رجع أولا إلى التوسط ومتابعة ابن كلاب، ثم رجع إلى مذهب السلف رجوعا كاملا.. 5- أنه رجع أولا إلى مذهب السلف، ثم انتقل إلى التوسط واستقر عليه. مناقشة هذه الأقوال: أما بالنسبة للقول الأول والثاني فمبنيان علي أن ما سطره الأشعري في كتبه إنما هو المذهب الحق الذي يقولون به، فالأشاعرة المتأخرون الذين انحرفوا   (1) وهذا رأي الكوثري كما في تعليقه عل تبيين كذب المفترى (ص: 392) ، وتعليقه على كتاب اللمعة (ص: 57) ، وحمودة غرابة في كتايه عن الأشعري (ص: 67-69) ، وفي مقدمة تحقيقه للمع (ص:6-9) ، وهو رأي عرفان عبد الحميد في دراسات في الفرق والعقائد (ص:148) ، وجلال موسى في نشأة الأشعرية (ص: 194-195) ، وأحمد صبحي في كتابه عن الأشاعرة (ص:45-46) ، وفوقية محمود في مقدمة الإبانة (ص 79-. 8، 90، 191) ، والسقا في كتابه: الله وصفاته (ص:100-103) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 كثيرا عن مذهب السلف إذا نوقشوا في أقوالهم وانها مخالفة لأقوال السلف ولأقوال شيخهم الأشعري لا يقرون بذلك، وانما يقولون: ان السلف والأشعري قصدوا من الاثبات التفويض، ولا مانع من تفويض النصوص، أو تأويلها بما يوافق المعقول، وأن الأشعري ومن جاء بعده انما أرادوا دعم العقيدة بالحجج والقواعد الكلامية، لذلك تنتقل القضية مع هؤلاء من مسألة رجوع الأشعري الى مسألة أوسع الا وهي مذهب الأشعرية ومدى قربه أو بعده من مذهب السلف، وفصول الرسالة القادمة متضمنة لمناقشة ذلك. أما رأى الدكتور فاروق دسوقي- ومن وافقهـ فبناه على أن الأشعري من المثبتة، وأنه قال بأقوال أهل السنة والإمام أحمد، وبنى ذلك على أنه ليس هناك تعارض بين اللمع والإبانة، وأن مباحثهما متقاربة، وإنما الاختلاف فقط في الأسلوب والطريقة، لأن الأشعري هدف من اللمع الرد على أهل الزيغ والبدع، وهدف من الابانة بيان الأدلة على أصول الديانة، فخلص من هذه الدراسة والمقارنة الى أن الأشعري رجع إلى مذهب الإمام أحمد، وهذا القول ربما يكون له وجاهة- مع بعض التحفظ أيضا- لو أن الأشعري ليس له الا هذان الكتابان، أما وقد ثبت أن للأشعري كتبا كثيرة نقل منها العلماء، وهي تدل علي أن للأشعري بعض الآراء الكلامية التي لا توافق مذهب السلف، فبصبح هذا الرأى ضعيفا جدا. ثانيا: أما بالنسبة للقول الرابع والخامس، فالخلاف بينهما مبني على الإبانة واللمع أيهما أسبق، وبتحقيق الأمر في ذلك يتبين رجحان أحدهما. وخلاصة أدلة من يرى أن كتاب الابانة ألفه الأشعري أولا ما يلي: أ- قول ابن خلكان بعد ذكره لقصة رجوع الأشعري وانخلاعه من ثوب كان عليه:" ودفع للناس ما كتبه علي طريقة الجماعة من الفقهاء والمحدثين" (1) ، والإبانة هو الذى كتبه الأشعري على هذه الطريقة.   (1) انظر: دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية للدكتور عرفان عبد الحميد (ص: 148) ، وانظر الإمام ابن تيمية وقضية التأويل (ص: 100) ، ونسبها الى طبعة عبد الحميد من الوفيات ولكن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 2- أن العادة أن الإنسان إذا انتقل من عقيدة إلى عقيدة يكون متحمسا لعقيدته الجديدة، وأن الأشعري في أول فترة انتقاله كان متحمسا لعقيدة السلف، يعيش رد فعل لحياته الأولى، فمن الملائم- والحالة هذهـ أن الأشعري قد ألف كتابه الإبانة، التى يعلن فيها صراحة تمسكه بأقوال الإمام أحمد بن حنبل-رحمه الله- (1) . 3- أن المطلع على اللمع، يرى أنه يمثل فترة نضوج فكري، فهو يعرض فيه الأدلة والمناقشات بشكل جيد، فالأشعري في هذا الكتاب أقوي حجة وبيانا فلذلك من المفترض أن يكون ألفه في مرحلته الأخيرة (2) . أما أدلة الذين يقولون إن الإبانة آخر كتب الأشعري فهي كما يلي: 1- ما رواه ابن عساكر عن ابن عذرة في قصة رجوع الأشعري وفيها: " فبعد ذلك خرج إلى الجامع فصعد المنبر وقال: يا معشر الناس: إني إنما تغيبت عنكم في هذه المدة لأني نظرت فتكافأت عندي الأدلة، ولم يترجح عندي حق علي باطل، ولا باطل على حق، فاستهديت الله تبارك وتعالى فهداني الى اعتقاد ما أودعته في كتبي هذه، وانخلعت من جميع ما كنت أعتقده كما انخلعت من ثوبي هذا، وانخلع من ئوب كان عليه ورمى به ودفع الكتب إلى الناس فمنها كتاب "اللمع" وكتاب أظهر فيه عوار المعتزلة سماه بكتاب " كشف الأسرار وهتك الأستار وغيرهما" (3) ، فهذا دليل على تقدم اللمع على الإبانة. 2- أن الأشعري لما ذكر مؤلفاته في كتابه " العمد" لم يذكر منها الإبانة وقد ذكر ابن فورك أن هذه المؤلفات ألفها فى سنة عشرين وثلاثمائة، فلو كانت   = بعد الرجوع الى هذه الطبعة (2/446-447) لم أجده فيها، كما لم أجده في الطبعة الأولى (1/586-587) ، ولا في طبعة دار صادر (3/285) . (1) انظر: الأشعري: حمودة غرابة (ص: 67-68) ، ومقدمة اللمع له (ص: 7-8) ، والقضاء والقدر: للدسوقي (2/298) ، والأشاعرة: أحمد صبحي (ص: 45-46) . (2) انظر: نشأة الأشعربة وتطورها (ص: 194-195،210) ، والقضاء والقدر للدسوقي (2/298) . (3) التبيين (ص: 39) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 من ضمنها لذكرها، ولما أضاف ابن فورك ما ألفه بعد ذلك لم يذكر الابانة- وقد سبق عند الحديث عن الابانة ضمن مؤلفات الأشعري- التفصيل في ذلك، لكن ابن عساكر الناقل عن ابن فورك يذكر الإبانة وينقل منها نصوصا، فهذا يدل علي أن الإبانة من آخر ما ألفه الأشعري، مع أن الأشعري يذكر في قائمة كتبه كناب اللمع وهذا يدل علي تقدم اللمع علي الإبانة (1) . 3- قصة الأشعري مع شيخ الحنابلة في بغداد البربهاري (2) ، فقد روي القاضي أبو يعلى أنه " لما دخل الأشعري الى بغداد جاء الى البربهاري، فجعل يقول: رددت علي الجبائي وعلى أبي هاشم، ونقضت عليهم وعلي اليهود والنصارى والمجوس، وقلت لهم، وقالوا واكثر الكلام في ذلك، فلما سكت قال البربهاري: ما أدرى مما قلت قليلا ولا كثيرا، ولا نعرف إلا ما قاله أبو عبد الله أحمد بن حنبل، قال: فخرج من عنده وصنف كتاب الإبانة فلم يقبله منه، ولم يظهر ببغداد إلى أن خرج منها" (3) ، وقد ضعف ابن عساكر هذه الرواية فى قوله في آخرها "ولم يظهر ببغداد الى أن خرج منها" بأن الأشعري إذ صار إليها لم يفارقها ولا رحل عنها فإن بها منيته (4) ، وابن عساكر إنما ينكر هذه القصة لا تأخر الإبانة. 4- دليل عقلي وهو أن الإنسان يغلب عليه التدرج شيئا فشيئا في تنقلاته، لأن الإنسان يتضح له الأمر شيئا فشيئا، فينتقل إليه خطوة خطوة، وهذا ما حدث للأشعري (5) .   (1) انظر: تبيين كذب المفتري (ص: 128-135) . (2) هو: الحسن بن على بن خلف أبو محمد البربهارى كان من المنكرين على أهل البدع، صحب جماعة من أصحاب الإمام أحمد، توفي سنة 328 هـ وقيل 329 هـ، طبقات الحنابلة (2/18) ، وسير أعلام النبلاء (15/90) . (3) طبقات الحنابلة (2/18) ، والوافي (12/246) ، والسير للذهبي (15/90) (4) انظر: التبيين (ص: 391) . (5) انظر: القضاء والقدر للدسوقي (2/295) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 5- أن مجموعة من العلماء قالوا بأن الإبانة آخر مؤلفات الأشعري، ومنهم: 1- إمام القراء أبو على الحسن بن على بن إبراهيم الفارسى ذكر انه صنف الإبانة في بغداد لما دخلها (1) . 2- أبو القاسم عبد الملك بن عيسى بن درباس المتوفي سنة 605 هـ، فإنه قال في رسالته في الذب عن الأشعري: " أما بعد: فاعلموا معاشر الإخوان وفقنا الله وإياكم للدين القويم وهدانا أجمعين للصراط المستقيم بأن كتاب الإبانة عن أصول الديانة الذي ألفه الإمام أبو الحسن على بن إسماعيل الأشعري هو الذي استقر عليه أمره فيما كان يعتقده " (2) . 3- وشيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع عديدة من كتبه (3) . 4- وابن قيم الجوزية، نقل منه في بعض كتبه وأشار إلى أنه آخر مؤلفاته (4) . 5- وابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب ذكر أنه آخر مؤلفاته فقال: "وهو آخر كتاب صنفه وعليه يعتمد أصحابه في الذب عنه عند من يطعن عليه" (5) . 6- وابن كثير كما نقل عنه الزبيدي (6) .   (1) انظر: رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري لابن درباس (ص: 115) - ت الفقيهي. (2) المصدر السابق (ص:107) . (3) من ذلك الرسالة المدنية- مجموع الفتاوي (6/359) ، والحموية- مجموع الفتاوي (5/93) ، ونقض التأسيس المخطوط (1/83) ، وغيرها. (4) انظر: مختصر الصواعق (2/136) ، ففيه أشار الى أنه آخر مؤلفاته. (5) شذرات الذهب (2/303) . (6) انظر: اتحاف السادة المتقين (2/4) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 7- والشيخ إبراهيم بن مصطفي الحلبي، المتوفي سنة 1190 هـ في كتابه " اللمعة في تحقيق مباحث الوجود والحدوث والقدر وأفعال العباد" (1) . 8- والشيخ إبراهيم بن حسن الكوراني، المتوفي سنة 1101 هـ كما في القول الجلى (2) . 9- والشيخ خالد النقشبندى الشافعى شيخ مشايخ الألوسي كما في جلاء العينين (3) . 10- والشيخ نعمان خير الدين الألوسى في كتابه جلاء العينين (4) . 11- والشيخ محب الدين الخطيب في تعليقه على المنتقي من منهاج الإعتدال (5) . وغيرهم (6) ، وهؤلاء هم الذين نصوا على أن " الابانة" آخر مؤلفات الأشعري أما الذين ذكروا الإبانة ونسبوها إلى الأشعري فكثيرون. هذه خلاصة أدلة الذين يقولون بتأخر الإبانة عن اللمع، وهي كما يلاحظ أدلة علمية تعتمد على نقل العلماء وأقوالهم. أما أدلة القول الأول فليس في واحد منها ما ينص على تأخر اللمع وتقدم الإبانة؛ فعبارة ابن خلكان مجملة، وجميع   (1) (ص:57) . (2) (ص: 36) - ت سالم الدخيل، ضمن مجلة كلية أصول الدين العدد الثاني 1399- 1400 هـ وهو في (ص: 216) في ترقيم صفحات المجلة. (3) (ص: 157) - ط المدني. (4) (ص: 462) . (5) (ص:41،43) . (6) فقد رجحه مجموعة من الباحثين منهم: راجح الكردى في كتابه " علاقة صفات الله تعالى بذاته (ص: 142) ، ومحمد أحمد محمود في كتابه" الحنابلة في بغداد (ص: 186) ، ورضا نعسان في علاقة الإثبات والتفويض (ص: 41-44) ، وقد ذكر (ص: 41) أن فوقية محمود في تحقيقها للإبانة أثبتت انه آخر مؤلفاته وهو وهم بل هي ترى العكس انظر مقدمتها للأبانة (ص: 79-.8،90، 191) ، وممن رجحه من المستشرقين جولد تسهر في العقيدة والشريعة في الإسلام (ص: 122) ، ومكدونالد كما جاء في الحنابلة في بغداد (ص: 186) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 الذين يميلون إلى المذهب الأشعري يقولون ان كتبه كلها تسير على طريقة الفقهاء والمحدثين لا يفرقون بين الإبانة واللمع، أما الدليل النفسي وأن الإنسان عند انتقاله يكون متحمسا فيقابله دليل نفسي آخر وهو التدرج الذى ورد في أدلة القول الثاني، أما مسألة النضج ففى الإبانة مناقشات للمعتزلة لا تقل قوة عن مافي اللمع، فيتبين بذلك أن الإبانة آخر مؤلفات الأشعري، ويتبين أيضا ضعف هذا القول الذى يقول: ان الأشعري رجع أولا إلى مذهب السلف ثم استقر على التوسط. ثالثا: من خلال المناقشة السابقة تبين أن القول الأول مع ظهور ضعفه فهو خارج محل النقاش فهو يقوم على دعوى أن الأشعري يتأول أحيانا الصفات الخبرية، وأنه قال بالتفويض، أو المجاملة للحنابلة حين ألف الإبانة والا فليس هذا معتقده، وكل هذا من أجل تبرير التطور الذى حدث للمذهب الأشعري حين انحرف الأشعرية عن كثير من آراء شيخهم أبو الحسن-رحمه الله- تعالى- كما تبين أن القول الثاني والقول الخامس ضعيفان. وبقي من الأقوال: ا- القول الثالث: أنه رجع الى الحق لكنه تابع ابن كلاب وبقيت عليه بقايا اعتزالية وكلامية. 2- والقول الرابع: أنه رجع أولا إلى قول ابن كلاب ثم رجع أخيرا إلى مذهب السلف وقبل المناقشة وبيان أدلة الفريقين ثم الترجيح نعرض لما يلي: 1- أن نسبة الأقوال إلى شخص إنما تأتي من خلال كتبه وأقواله المروية عنه، وكثيرا ما يشهر عن أحد من العلماء أقوال فتنسب اليه هذه الأقوال ويتناقلها الناس خاصة اذا كانت مسطرة في كتاب أو كتب اشتهرت باسمه فإذا ما رجع هذا العالم عن أقواله هذه فربما لاتشتهر بحيث تستدرك ما عرف أولا عنه، وخاصة إذا تبني الأقوال الأولى أناس وشرحوها ودرسوها للناس على أنها القول الحق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 فالغالب أنها هي التي تنتشر وتشتهر وتبقى أقواله المتأخرة خافتة وضعيفة، ولا يحتج بها إلا عند الرد على الخصوم أو عند الحاجة، وهذا الكلام ينطبق على كثير من أعلام أهل الكلام، فالجويني مثلا اشتهرت كتبه الأشعرية كالشامل والإرشاد ولمع الأدلة، وتناقلها الناس، لكن رجوعه في آخر عمره إلى عقيدة السلف وما سطره في النظامية لا يكاد يعتمد على أنه قوله ومذهبه الذي يجب أن ينسب إليه، ومثله الرازى الذى ألف كتبا فلسفية وكلامية على مذهب الأشاعرة، انتشرت وتناقلها الناس ولكن رجوعه ووصيته في آخر عمره لا تكاد تذكر فيما ينسب إليه من العقائد. وهذا نفسه ينطق على الأشعري فكتبه الكلامية انتشرت وتناقلها الناس، ومن يطالع مجرد مقالات أبو الحسن الأشعري الذى ألفه ابن فورك- على مافيه من ملاحظات- والذى اعتمد فيه على عدد كبير من مؤلفات الأشعري المفقودة يرى العجب من الآراء الكلامية والمنطقية، ومع ذلك فهي التي انتشرت ونسبت إلى الأشعري أما ما ذكره في المقالات من أقوال أهل الحديث وماسطره في الإبانة فلا تجد لهـ في الغالب- ذكرا لدى الأشعرية المتأخرين. لذلك فحينما نناقش قضية رجوع الأشعري قد لا تكون هناك فائدة كبيرة لأولئك الذين أشربوا المذهب الأشعري في أطواره الأخيرة، وإنما هو منهج في بيان مذهب السلف والرد على متأخرى الأشعرية بأقوال شيخهم أبي الحسن وانهم لم يقولوا بما قاله في كتبه المتأخرة كالإبانة وغيره، وان أقواله إنما تدعم ما يقوله من يسير على مذهب السلف أهل السنة والجماعة. 2- أن أهم ما يميز مذهب ابن كلاب- الذي تابعه الأشعري بعد رجوعه عن الاعتزال- قوله في مسألة الكلام والصفات الاختيارية لله تعالى، أما الصفات اللازمة لله تعالى فهو يثبتها مثل السمع والبصر والعلم والقدرة، ومثل اليدين والوجه والعينين والعلو والاستواء وغيرها لكنه قال بامتناع أن تقوم الصفات الاختيارية بذات الله مما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال والكلام وغير ذلك، وعلل ذلك بأنه يستلزم حلول الحوادث بذات الله تعالى وما لم يخل من الحوادث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 فهو حادث واضطر لطرد هذا الأصل أن يقول في مسألة كلام الله: إنه ليس إلا مجرد المعنى وان الحروف ليست من كلام الله. كما أنه بناء على هذا الأصل لم يثبت لله صفة الرضي والغضب. فهذه الطريقة لم تكن موجودة قبل ابن كلاب، بل كان الناس قبله على قولين فقط، قول المعتزلة والجهمية والنفاة، وقول السلف الذين يثبتون لله جميع الصفات سواء كانت لازمة لذاته أو تتعلق بمشيئته وقدرته، فلما جاء ابن كلاب أثبت الصفات لكنه نفي ما يتعلق بمشيئته وقدرته، واتبعه على ذلك جماعة منهم الأشعري (1) . 3- أما الأدلة على كون الأشعري قد تابع ابن كلاب فيتضح من خلال النصوص التالية: أ- يقول الأشعري في اللمع في الدلالة على اثبات الصانع- بعد أن ذكر دليل خلق الإنسان-: "فإن قالوا: فما يؤمنكم أن تكون النطفة لم تزل قديمة؟ قيل لهم: لو كان ذلك كما ادعيتم لم يجز أن يلحقها الإعتمال والتأثير، ولا الانقلاب والتغيير، لأن القديم لا يجوز انتقاله وتغيره، وأن يجري عليه صفات الحدث.." (2) ، والصفات الاختيارية التي تدل على أن الله يتكلم إذا شاء متى شاء، وأنه ينزل ويأتي كما يليق بجلاله وعظمته هى عند الأشعري من الحوادث التي لا يجوز أن تحل بذاته تعالى. ب- ويقول في مسألة كلام الله وأنه قديم أزلي: "دليل آخر على أن الله لم يزل متكلما: ان الكلام لا يخلو أن يكون قديما أو حديثا، فإن كان محدثا لم يخل أن يحدثه في نفسه، أو قائما بنفسه، أو في غيره، فيستحيل أن يحدثه في نفسه لأنه ليس بمحل للحوادث ... ثم يقول: وإذا فسدت الوجوه التي   (1) انظر: رسالة الرد على من أنكر الحرف والصوت للسجزى (ص: 87) ومابعدها ط على الآلة الكاتبة، وانظر: درء التعارض (2/6) ، وانظر: أقوال ابن كلاب في مقالات الأشعري (ص:169،584) - ط ريتر. (2) اللمع (ص: 19) غر ابة، و (ص: 7) - ط- مكارثي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 لا يخلو الكلام منها لو كان محدثا صح أنه قديم وأن الله تعالى لم يزل به متكلما" (1) . فنفى أن يحدثه في نفسه أى أن يتكلم به إذا شاء متى شاء، وعلل ذلك بأنه ليس محلا للحوادث ثم أثبت أن كلامه قديم وأن الله لم يزل به متكلما. ج- وفي مسألة الارادة يقول بعد ذكره لدليل الكلام:"وهذا الدليل على قدم الكلام هو الدليل على قدم الإرادة لله تعالى لأنها لو كانت محدثة لكانت لا تخلو من أن يحدثها في نفسه أو في غيره أو قائمة بنفسها، فيستحيل أن يحدثها في نفسه لأنه ليس بمحل للحوادث، ويستحيل أن يحدثها قائمة بنفسها لأنها صفة والصفة لا تقوم بنفسها كما لا يجوز أن يحدث علما وقدرة قائمين بأنفسهما، ويستحيل أن يحدثها في غيره لأن هذا يوجب أن يكون ذلك الغير مريدا بإرادة الله تعالى، فلما استحالت هذه الوجوه التي لا تخلو الإرادة منها لو كانت محدثة، صح أنها قديمة، وأن الله لم يزل مريدا بها" (2) . د- ويقول الأشعري في رسالته الى أهل الثغر في باب ذكر ما أجمع عليه السلف من الأصول: "وأجمعوا على إثبات حياة الله عز وجل لم يزل بها حيا، وعلما لم يزل به عالما، وقدرة لم يزل بها قادرا، وكلاما لم يزل به متكلما، وإرادة لم يزل بها مريدا، وسمعا وبصرا لم يزل به سميعا بصيرا، وعلى أن شيئا من هذه الصفات لا يصح أن يكون محدثا؛ إذ لو كان شيء منها محدثا لكان تعالى قبل حدثها موصوفا بضدها، ولو كان كذلك يخرج عن الأهلية وصار إلى حكم المحدثين (3) ، الذي يلحقهم النقص ويختلف عليهم صفات الذم والمدح، وهذا يستحيل على الله عز وجل، وإذا استحال ذلك عليه وجب أن يكون لم يزل بصفة الكمال، إذا كان لا يجوز عليه الانتقال من حال من الكمال" (4) . وهذا واضح في نفي الصفات الاختيارية له تعالى.   (1) اللمع (ص: 43- 44) ، و (ص: 22) - ط- مكارثي (2) اللمع (ص: 45- 6،) - ط- غرابة، و (ص: 23) - مكارثي. (3) في الطبعة الأخيرة- ت عبد الله شاكر (ص: 215) -"ولو كان كذلك لخرج عن الإلهية وصار الى حكم المحدثين". (4) رسالة أهل الثغر (ص: 67-68) ت الجليند وفيه وسار بدل (وصار) وهو خطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 هـ- وقال في إثبات صفات الله وأنها صفات له على الحقيقة لا على المجاز، وذكر الحياة والقدرة والعلم والكلام والسمع والبصر والإرادة، ثم قال: " واجب- إذا أثبتنا هذه الصفات له عز وجل على ما ذكرته العقول واللغة والقرآن والإجماع عليها- أن لا تكون محدثة، لأنه تعالى لم يزل موصوفا بها، ولا يجب أن تكون أعراضا لأنه عز وجل ليس بجسم، وإنما توجد الأعراض في الأجساد، وتدل بأعراضها فيها وتعاقبها عليها على حدثها، ويجب أن لا تكون غيره عز وجل، لأن غير الشىء هو مفارقته له على وجه من الوجوه، والباريء عز وجل لا تجب مفارقة صفاته له من قبل أن مفارقتها له ما يوجب حدثه وخروجه عن الإلهية، وهذا يستحيل عليه كما لا يجب أن تكون نفس الباريء عز وجل جسما أو جوهرا أو محدودا، أو في مكان دون مكان، أو غير ذلك، مما لا يجوز عليه من صفاتنا لمفارقته لنا، فلذلك لا يجوز على صفاته ما يجوز على صفاتنا ... " (1) ، وهذا واضح في أنه لا يرى مفارقة صفات الله له لأن هذا يوجب حدثه، كما نفى أن يكون تعالى في مكان دون مكان، ولذلك قال في صفة المجيء: " وأجمعوا على أنه يجيء يوم القيامة والملك صفا صفا، لعرض الأم وحسابها وعقابها وثوابها، فيغفر لمن شاء من المذنبين، ويعذب منهم من يشاء كما قال، وليس مجيئه حركة ولا زوالا، وإنما يكون المجيء حركة وزوالا إذا كان الجائي جسما أو جوهرا، فإذا ثبت أنه عز وجل ليس بجسم ولا جوهر لم يجب أن يكون مجيئه نقلة أو حركة، ألا ترى أنهم لا يرون بقولهم: جاءت زيدا الحمي، أنها تنقلت إليه أو تحركت من مكان كانت فيه، إذ لم تكن جسما ولا جوهرا وإنما مجيئها إليه وجودها به " (2) ثم قال عن صفة النزول: " وأنه عز وجل ينزل إلى سماء الدنيا كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس نزوله تعالى نقلة لأنه ليس بجسم ولا جوهر، وقد نزل الوحي على النبى - صلى الله عليه وسلم - عند من خالفنا" (3) ، وهذا واضح لا يحتاج إلى بيان.   (1) الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 70) ، وفى هذه الطبعة تحريف عدلته من ط عبد الله شاكر (ص:218-219) . (2) نفس المصدر (ص: 73-74) .. (3) الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 74) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 و ويقول الأشعري في صفة الرضا والغضب: " وأجمعوا على أنه عز وجل يرضي عن الطائعين له (1) ، وأن رضاه عنهم إرادته لنعيمهم، وأنه يحب التوابين ويسخط على الكافرين ويغضب عليهم وأن غضبه إرادته لعذابهم وأنه لا يقوم لغضبه شيء" (2) . فهذا نص في تأويل الرضا والغضب. هذه آراء الأشعري الدالة على أنه سلك طريق ابن كلاب في مسألة الصفات، فهل رجع عن هذا القول إلى مذهب السلف؟. الذين يرون أته رجع رجوعا كاملا: أ- تصريح الأشعري في الإبانة برجوعه واتباعه للإمام أحمد، فإنه قال:" قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب الله ربنا عز وجل، وبسنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما روي عن السادة، الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد ابن محمد ابن حنبل- نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبتهـ قائلون، ولما خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائفين، وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفهم" (3) ، فهذا تصرج منه برجوعه إلى مذهب السلف الذين يمثلهم الامام أحمد، وأنه قائل بأقواله، مخالف لما خالفها، والإمام أحمد- نفسهـ كان شديدا على الكلابية، ولذلك هجر الحارث المحاسبي لكونه كلابيا. 2- قول الحافظ ابن عساكر معلقا على النص السابق للأشعري حين نقله ونقل ماذكره من اعتقاده، قال:"فتأملوا رحمكم الله هذا الاعتقاد ما أوضحه   (1) في المطبوعة هنا زيادة "وإن له" ويبدو أنه خطأ مطبعي والتصويب من المخطوطة (ص: 12) (2) المصدر السابق (ص: 74- هـ 7) . (3) الإبانة (ص:20-21) - ت- فوقية، و (ص:6-7) - ط- هندية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 وأبينه، واعترفوا بفضل هذا الامام العالم الذى شرحه وبينه، وانظروا سهولة لفظه فما أفصحه وأحسنه، وكونوا ممن قال الله فهم {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] وتبينوا فضل أبي الحسن واعرفوا إنصافه واسمعوا وصفه لأحمد بالفضل، واعترافه، لتعلموا أنهما كانا في الإعتقاد متفقين، وفي أصول الدين ومذهب السنة غير مفترقين" (1) . 3- تتلمذ الأشعري على الحافظ زكريا الساجي، الذي توفي سنة 307 هـ يقول الذهبي:"وكان الساجي شيخ البصرة وحافظها، وعنه أخذ أبو الحسن الأشعري الحديث ومقالات أهل السنة" (2) وقال أيضا عنه:"وعنه أخذ أبو الحسن الأشعري الأصولى تحرير مقالة أهل الحديث والسلف" (3) . ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " قلت: زكريا بن يحيى الساجي أخذ عنه أبو الحسن الأشعري ما أخذه من أصول أهل السنة والحديث وكثير مما نقل في كتاب: مقالات الإسلاميين من مذهب أهل السنة والحديث" (4) ، فهذا يدل على رجوع الأشعري الي مذهب أهل السنة والحديث. 4- أن الأشعري في مقالات الإسلاميين الذي يعتبر من مؤلفاته المتأخرة فرق بين مقالة أهل السنة والحديث ومقالة ابن كلاب وأصحابه، ثم لما ذكر مقالة أهل الحديث قال:"وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول واليه نذهب" (5) ، ولما ذكر مقالة ابن كلاب- في مواضع متفرقة- لم يقل: إنه يقول بقوله، وهذا دليل على أنهـ في تلك الفترة- لم يكن متابعا له. 5- قول الإمام ابن كثير:"ذكروا للشيخ أبي الحسن الأشعري ثلاثة أحوال: أولها: حال الاعتزال التي رجع عنها لا محالة.   (1) التبيين (ص: 163) . (2) العلو (ص: 150) . (3) تذكرة الحفاظ (2/907) . (4) شرح حديث النزول، مجموع الفتاوي (5/386) . (5) المقالات (ص: 297) ، ريتر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 الحال الثاني: اثبات الصفات العقلية السبعة، وهي الحياة والعلم والقدرة والارادة والسمع والبصر والكلام، وتأويل الجزئية كالوجه واليدين والقدم والساق ونحو ذلك (1) . الحال الثالث: أثبات ذلك كله من غير تكييف ولا تشبيه جريا على منوال السلف وهي طريقته في الإبانة التي صنفها آخرا وشرحها الباقلاني، ونقلها ابن عساكر " (2) . 6- وأهم المسائل في مذهب الأشعرية التي تميزهم مسألة كلام الله، ونصوصه في الإبانة تدل على أنه يقول بقول أهل السنة وأنه لا يقول بالكلام النفسي، يقول:"وقد قال الله تعالى: {وكلم الله موسى تكليما} [النساء:164] ، والتكليم هو المشافهة بالكلام، ولا يجوز أن يكون كلام المتكلم حالا في غيره، مخلوقا في شيء سواه، كما لا يجوز ذلك في العلم" (3) ، ثم يقول عن القرآن " فإن قال قائل: حدثونا أتقولون ان كلام الله في اللوح المحفوظ؟ قيل له: كذلك نقول، لأن الله تعالى قال: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21- 22] ، فالقرآن في اللوح المحفوظ، وهو في صدور الذين أوتوا العلم، قال الله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49] ، وهو متلو بالألسنة، قال الله تعالى: {لا تحرك لسانك لتعجل به} [القيامة: 16] ، والقرآن مكتوب في مصاحفنا في الحقيقة، كما قال تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، (4) ، فهو يصرح أنه محفوظ مسموع متلو مكتوب كل ذلك في الحقيقة.   (1) هذا النقل غير دقيق، إذ ليس للأشعري في الصفات الخبرية كالوجه والبدين قول بتأويلهما، والزبيدى ذكر في إتحاف السادة (2/3) أنه سينقل من كتاب الطبقات لابن كثير. (2) نقلا عن إتحاف السادة المتقين للزبيدي (2/4) . (3) الإبانة (ص: 72) - ت- فوقية، و (ص: 29) - ط- هندية. (4) الإبانة (ص:100-101) - ت - فوقية، و (ص: 29) - ط- هندية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 7- يقول الشيخ حافظ الحكمي الذي رجح رجوعه الى مذهب السلف حتى في مسألة الكلام التى كان يقول فيها بقول ابن كلاب، وذلك حين شرح الأقوال فى مسألة الكلام نقلا عن الصواعق لابن القيم، فذكر المذهب الخامس - مذهب الأشعري- ومن وافقه أنه معنى واحد قائم بذات الرب، لأنه ليس بحرف ولا صوت ولا ينقسم، ثم ذكر أن هذا المذهب مبني على مسألة انكار قيام الأفعال والأمور الاختيارية بالرب تعالى، وهي مسألة حلول الحوادث (1) . لكن الشيخ حافظ-رحمه الله- عقب قائلا: " وأقول: والحق يقال، لا شك أن ابن القيم هذا وشيخه ابن تيمية- رحمهما الله تعالى- من أعلم من صنف في المقالات والملل والنحل وأدراهم بمواردها ومصادرها وأبصرهم برد الباطل منها وإدحاضه، وأوفاهم تقريرا لمذهب السلف أهل السنة والجماعة، وأشدهم تمسكا به ونصرة له، واكملهم تحريرا لبراهينه عقلا ونقلا، واكثرهم اشتغالا بهذا الباب وتنقيبا عن عامل البدع واجتثاثا لأصولها، ولكن هذا الذى ذكرهـ رحمه الله تعالى- عن الأشعري في مسألة القرآن هو الذي وجدناه عمن ينتسب إلى الأشعري، ويسمون أنفسهم أهل الحق، ويقررون ذلك ويكررونه في كتبهم، ويناظرون عليه، وأما أبو الحسن الأشعري نفسهـ رحمه الله تعالى- فالذى قرره في كتاب الإبانة، الذي هو من آخر ما صنف هو قول أهل الحديث ساقه بحروفه، وجاء به برمته، واحتج فيه ببراهينهم العقلية والنقلية، ثم نقل أقوال الأئمة في ذلك كأحمد بن حنبل، ومالك بن أنس، والشافعي، وأصحابه، والحمادين، والسفيانين، وعبد العزيز بن الماجشون، والليث بن سعد، وهشام وعيسى بن يونس، وحفص بن غياث، وسعد بن عامر، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبي بكر بن عياش، ووكيع، وأبي عاصم النبيل، ويعلى بن عبيد، ومحمد بن يوسف، وبشر بن المفضل، وعبد الله ابن داود، وسلام بن أبي مطيع، وابن المبارك، وعلي بن عاصم، وأحمد بن يونس، وأبي نعيم، وقبيصة ابن عقبة، وسليمان بن داود، وأبي عبيد القاسم ابن سلام، وغيرهم، ولولا   (1) انظر: معارج القبول (1/343-344) - ط- السلفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 خوف الإطالة لسقنا فصول كلامه بحروفه، فإنه وإن أخطأ في تأويل بعض الآيات، وأجمل في بعض المواضع، فكلامه يدل على أنه مخالف للمنتسبين إليه من المتكلمين في مسألة القرآن، كما هو مخالف لهم في إثباته الاستواء، والنزول، والرؤية، والوجه، واليدين، والغضب، والرضا، وغير ذلك، وقد صرح في مقالاته (1) ، بأنه قائل بما قال الإمام أحمد ابن حنبل وأئمة الحديث، معتقد ما هم عليه، مثبت لما أثبتوه، محرم ما أحدث المتكلمون من تحريف الكلم عن مواضعه وصرف اللفظ عن ظاهره، وإخراجه عن حقيقته، وبالجملة فبينه وبين المنتسبين اليه بون بعيد، بل هو برىء منهم، وهم منه براء، والموعد الله وكفي بالله حسيبا، وهو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة الا بالله" (2) . هذه أدلة الذين يرون رجوع الأشعري رجوعا كاملا الى مذهب السلف. الذين يرون أنه بقى كلابيا: أما الذين يرون أنه بقى كلابيا ولم يكن رجوعه كاملا فأشهرهم ابن حزم (3) ، وعبد الجبار الهمذاني (4) ، وشارح الطحاوية ابن أبي العز (5) ، وهو قول ابن تيمية وابن القيم، وهذه بعض أقوالهما في ذلك- أما شارح الطحاوية فهو ناقل عنهما-: 1- يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " وأبو الحسن الأشعري لما رجع عن مذهب المعتزلة سلك طريقة ابن كلاب، ومال الى أهل السنة والحديث، وانتسب إلى الامام أحمد، كما قد ذكر ذلك في كتبه كلها، كالإبانة والموجز والمقالات وغيرها، وكان مختلطا بأهل السنة والحديث كاختلاط المتكلم   (1) أى أقواله في الإبانة، لا كتاب المقالات. (2) معارج القبول (1/344-346) ، وقد علق محب الدين الخطيب هنا في الحاشية بما يؤيد قول المؤلف. (3) في الفصل (3/25) - المحققة، ونسب الى الأشعري أنه يقول: إن القرآن أزلي مع الله لم يفارقه، ولا أنزل إلينا ولا سمعناه قط!، لكنه قبل ذلك ذكر قول أتباع الأشعري فيه. (4) في شرح الأصول الخمسة، انظر: (ص: 528) . (5) في شرح الطحاوية (ص: 180) - ط- المكتب الإسلامي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 بهم" (1) ، فهو ينسبه إلى مقالة ابن كلاب، ومع ذلك لا يغفل انتسابه إلى الإمام أحمد ولا كتابه الابانة، بل ينسب كلابيته إليه والى المقالات والموجز، ثم بعد كلامه عن الأشعري واثباته الصفات الخبرية وأنه ليس له فيها قولان، وإنما لأتباعه فيها قولان يقول:"وأما مسألة قيام الأفعال الاختيارية به: فإن ابن كلاب والأشعري وغيرهما ينفونها، وعلى ذلك بنوا قولهم في مسألة القرآن وبسبب ذلك وغيره تكلم الناس فيهم في هذا الباب بما هو معروف في كتب أهل العلم، ونسبوهم الى البدعة، وبقايا بعض الاعتزال فيهم " (2) ، ولم يستثن الإبانة من هذا الحكم العام (3) . 2- ولما ذكر أن متأخرى الأشعرية مالوا إلى نوع من التجهم بل الفلسفة، وفارقوا قول الأشعري وأئمة أصحابه قال:"والذى كان أئمة السنة ينكرونه على ابن كلاب والأشعري بقايا من التجهم والاعتزال، مثل اعتقاد صحة طريق الأعراض وتركيب الأجسام، وانكار اتصاف الله بالأفعال القائمة التي يشاؤها ويختارها، وأمثال ذلك من المسائل التي أشكلت على من كان أعلم من الأشعري بالسنة والحديث وأقوال السلف والأئمة، كالحارث المحاسبي، وأبي علي الثقفي، وأبي بكر بن اسحاق الصبغي ... " (4) . 3- ولما ذكر قول من قال في كلام الله بأن حروف القرآن ليست من كلام الله وأن كلام الله معني قائم بذاته هو الأمر والنهي والخبر عقب بقوله:" وهذا القول أول من أحدثه ابن كلاب، ولكنه هو ومن أتبعه عليه كالأشعري وغيره يقولون مع ذلك: أن القرآن محفوظ بالقلوب حقيقة، متلو بالألسن حقيقة مكتوب في المصاحف حقيقة ... " (5) ، وهذا نص مهم جدا في بيان رأى شيخ   (1) درء التعارض (2/16) ، وقد نقل ابن القيم هذا الكلام في اجتماع الجيوش الاسلامية (ص: 181) مؤيدا له. (2) درء التعارض (2/18) . (3) بل لشيخ الإسلام نص آخر في منهاج السنة (2/227-229) - ط جامعة الامام- يذكر فيه أن الأشعري احتج في الإبانة بمقدمات سلمها للمعتزلة، وأنه لذلك نسب الى التناقض. (4) درء التعارض (7/97) . (5) مجموع الفتاوى (8/424) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 الإسلام في هذا النص الوارد في الإبانة، والذى هو أحد الأدلة للذين يقولون برجوع الأشعري عن مذهب ابن كلاب الى قول أهل السنة. 4- وذكر ابن القيم الأقوال في كلام الله ومنها قول الأشعري فقال:" المذهب الخامس: مذهب الأشعري ومن وافقه: انه معنى واحد، قائم بذات الرب، وهو صفة قديمة أزلية، ليس بحرف ولا صوت، ولا ينقسم، ولا له أبعاض، ولا له أجزاء ..... (1) . 5- وهناك كلام مهم لشيخ الإسلام ابن تيمية حول الابانة، ومن اعتقد مافيه، فإنه قال:"فأما من قال منهم بكتاب الابانة الذى صنفه الأشعري في آخر عمره، ولم يظهر مقالة تناقض ذلك فهذا يعد من أهل السنة، لكن مجرد الانتساب الى الأشعري بدعة، لا سيما وأنه بذلك يوهم حسنا بكل من انتسب هذه النسبة، وينفتح بذلك أبواب شر" (2) ، وقد قال ذلك لبيان أن الأشعرية حين يصفهم بعض علماء السنة بأنهم جهمية إنما يقصدون نفاة الصفات الخبرية، أما من قال بالإبانة ولم يظهر مقالة تناقض مافيها فليس بأشعري، ويلاحظ هنا ما يلي: أ- أن كلام ابن تيمية هنا حول الصفات الخبرية التي أولها متأخرو الأشعرية وليس الكلام عن كلام الله الذي كرر شيخ الإسلام ان الاشعرى متبع فيه لابن كلاب. ب- أنه قال هنا:"ولم يظهر مقالة تناقض ذلك"، ولا شك أن للأشعري أقوالا في مسألة الكلام تخالف مذهب السلف، فهل يرى شيخ الإسلام أن على الأشعري أن يعلن في الابانة- أو غيرهـ براءته من أقواله الأخري التي وافق فيها ابن كلاب؟. ج- وشيخ الإسلام لا يجعل أقوال الأشعري كلها بمنزلة واحدة في قربه   (1) مختصر الصواعق (2/ 291) . (2) الرسالة المدنية، مجموع الفتاوى (9/6 35-360) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 من مذهب السلف، فهو يرى أنه لما قدم بغداد أخذ أمورا أخرى من مذهب أهل السنة غير التي أخذها في البصرة، يقول:"والأشعري وإن كان من تلامذة المعتزلة ثم تاب، فإنه كان تلميذ الجبائي، ومال الى طريقة ابن كلاب، وأخذ عن زكريا الساجي أصول الحديث بالبصرة، ثم لما قدم بغداد أخذ عن حنبلبة بغداد أمورا أخرى، وذلك آخر أمره كما ذكره هو وأصحابه في كتبهم" (1) . فمنزلة الإبانة- عند شيخ الإسلام- ليست كمنزلة كتبه التي ألفها قبل قدومه إلى بغداد. د- والدليل على أن شيخ الإسلام قصد من قوله: من قال بالإبانة فليس بأشعرى- لأثبات الصفات الخبرية- أن في إلإبانة أقوالا في بعض المسائل، لا توافق مذهب السلف ومنها مسألة الإستطاعة فإن الأشعري قال:"وان أحدا لا يستطع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله" (2) ، وكذلك مسألة القدرة فإنه ذكر أن الكافرين غير قادرين على الإيمان وقال:"ووجب أن يكون الله تعالى اختص بالقدرة على الإيمان للمؤمنين" (3) وفي تفسير قوله تعالى: {وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون} [الذاريات:56] قال "إن الله تعالى إنما عنى المؤمنين دون الكافرين " (4) ، وهذا بناء على أصل قوله في القدرة والتعليل. هـ- وأن تيمية كتب كتبه وقد اطلع على ما وصل اليه من كتب الأشعري ومنها المقالات، والإبانة، واللمع، ورسالته الى أهل الثغر، ولم يذكر في موضع أن الأشعري ترك طريقة ابن كلاب، بل كثيرا ما يمتدح ابن كلاب ويذكر أنه اكثر أثباتا واتباعا للسنة من الأشعري، وكتاب الإبانة نقل عنه كثيرا خاصة في كتبه التي رد فيها على أشاعرة عصره الذين خالفوا الأشعري في كثير من أقواله.   (1) مجموع الفتاوى (3/228) . (2) الإبانة (ص: 23) . (3) نفس المصدر (ص: 185) . (4) نفسه (ص: 192) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 ومما سبق يمكن أن نستخلص أدلة من يرى أنه بقى على كلابيته فيما يلي: ا- أن الأشعري لم يذكر في الإبانة رجوعه عن مذهب ابن كلاب، وأن عباراته المتعلقة بمسألة القرآن وكلام الله ركزعلى الرد على المعتزلة القائلين بخلق القرآن، ولو كان يعتقد بطلان مقالة ابن كلاب- التي اتبعها- لرد عليها، وأبطلها، فدل ذلك على أن عباراته الموافقة لمذهب أهل السنة لا تعارض ما يعتقده من مذهب ابن كلاب. 2- أن الأشعري لو كان رجوعه كاملا إلى مذهب السلف لما شنع عليه بعض علماء أهل السنة وأنكروا بعض أقواله. الترجيح: قد يكون من الصعب على الإنسان الترجيح في هذه المسألة، خاصة وأن علماء أفاضل قالوا فيها بقولهم وأدلوا برأيهم، فالفصل بينهم- مع قصر الباع وضعف القدرة- أمر شديد على النفس، ولكن لما كان الأمر لا بد فيه من ترجيح رأيت أن أدلي بدلوي في ذلك، والله الموفق. ومنهج الترجيح قائم على تتبع كلام الأشعري في الإبانة، ومقارنته ببعض كتبه التي صرح فيها بما يوافق قول ابن كلاب ومن خلال المقارنه يتبين هل بقى كلابيا أم أنه رجع عن ذلك الى مذهب السلف؟: ومن المعلوم أن مذهب ابن كلاب القول بأن كلام الله أزلي، ومنع أن الله يتكلم إذا شاء متى شاء، فعندهم لا يجوز أن يقال: إن الله إذا شاء تكلم وإذا شاء لم يتكلم، كما أنه إذا شاء خلق، وإذا شاء لم يخلق لأن هذا يلزم منهـ على زعمهم- حلول الحوادث بذات الله تعالى، والله تعالى ليس محلا للحوادث، وحتى يفروا من هذا قالوا بأزلية الصفات، ولم يفرقوا بين صفات الذات كالعلم والحياة والقدرة، وصفات الفعل كالكلام والرضا والغضب، ومع هذا فهم يقولون إن القرآن كلام الله غر مخلوق، ويثبتون الصفات الواردة، وقد لا ينتبه الى حقيقة مذهبهم الا من استفصل في ذلك. ولذلك جرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 قصة ابن خزيمة- إمام الأئمة- مع جماعة من كبار أصحابه (1) لما نمى إلى علمه أنهم مع إثباتهم للصفات يقولون بقول ابن كلاب، فجرت لهم معه محنة طويلة استتيبوا ورجعوا، ولهذا قال ابن خزيمة عنهم:" من زعم هؤلاء الجهلة أن الله لا يكرر الكلام، فلاهم يفهمون كتاب الله، إن الله قد أخبر في مواضع أنه خلق آدم، وكرر ذكر موسى، وحمد نفسه في مواضع، وكرر {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن] ، ولم أتوهم أن مسلما يتوهم أن الله لا يتكلم بشيء مرتين وهذا قول من زعم أن كلام الله مخلوق، ويتوهم أنه لا يجوز أن يقول: خلق الله شيئا واحدا مرتين" (2) . ولما اجتمعوا لمصالحة ابن خزيمة " فقال له أبو علي الثقفي: ما الذي أنكرت أيها الأستاذ من مذاهبنا حتى نرجع عنه؟ قال: ميلكم الى مذهب الكلابية، فقد كان أحمد بن حنبل من أشد الناس على عبد الله ابن سعيد بن كلاب، وعلى أصحابه مثل الحارث وغيره، حتى طال الخطاب بينه وبين أبي علي في هذا الباب، فقلت: قد جمعت أنا أصول مذاهبنا في طبق، فأخرجت إليه الطبق، فأخذه وما زال يتأمله وينظر فيه، ثم قال: لست أرى هاهنا شيئا لا أقول به، فسألته أن يكتب عليه خطه ان ذلك مذهبه، فكتب آخر تلك الأحرف، فقلت لأبي عمرو الجيري: احتفظ أنت بهذا الخط حتى ينقطع الكلام، ولا يتهم واحدا منا بالزيادة فيه، ثم تفرقنا، فما كان بأسرع من أن فصده أبو فلان وفلان وقالا: ان الأستاذ لم يتأمل ماكتب في ذلك الخط، وقد غدروا بك وغيروا صورة الحال، فقبل منهم، فبعث إلى أبي عمرو الجيري لاسترجاع خطه منه، فامتنع عليه أبو عمرو، ولم يرده حتى مات ابن خزيمة، وقد أوصيت أن يدفن معي، فأحاجه بين يدي الله تعالى فيه" (3) . وقد أورد الذهبي جزءا من هذا الاعتقاد الذى كتبوه وفيه: " القرآن كلام الله تعالى، وصفة من صفات ذاته، ليس شيء من كلامه مخلوقا،   (1) القصة كانت بنيسابور، وكانت قرابة سنة 309 هـ، أى بعد رجوع الأشعري واعتناقه مذهب ابن كلاب. (2) سير أعلام النبلاء (14/380) . (3) سير أعلام النبلاء (14/380-381) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 ولا مفعولا ولا محدثا (1) ، فمن زعم أن شيئا منه مخلوق أو محدث، أو زعم أن الكلام من صفة الفعل فهو جهمي ضال مبتدع، وأقول: لم يزل الله متكلما، والكلام له صفة ذات، ومن زعم أن الله لم يتكلم إلا مرة، ولم يتكلم إلا ما تكلم به، ثم انقضى كلامه، كفر بالله .... " (2) . وهذا الكلام موافق لمذهب الكلابية، فقد جعل الكلام صفة ذات، وليس صفة فعل، وجعله أزليا، ثم ذكر كفر من زعم أن الله لم يتكلم إلا مرة ولم يتكلم إلا ما تكلم به وهذا حق، لكن قوله بعد ذلك ثم انقضى كلامه كفر بالله يدل على أنه يقصد أن كلام الله لازم لذاته كالعلم، وهذا قول الكلابية الذين يقولون لو قلنا إنه يتكلم بكلام بعد كلام لحلت فيه الحوادث والتغير وهذا محال على الله. بعد هذا الاستطراد نذكر عبارات الأشعري وكلامه في الإبانة لننظر هل فيه ما يوافق مذهب ابن كلاب ام لا؟: ا- يقول في باب: أن القرآن كلام الله غير مخلوق: " فلما كان الله عز وجل لم يزل عالما، إذ لم يجز أن يكون لم يزل بخلاف العلم موصوفا، استحال أن يكون لم يزل بخلاف الكلام موصوفا، لأن خلاف الكلام الذي لا يكون معه كلام سكوت أو آفة، كما أن خلاف العلم الذى لا يكون معه علم جهل أو شك أو آفة، ويستحيل أن يوصف ربنا جل وعلا بخلاف العلم، وكذلك يستحيل أن يوصف بخلاف الكلام من السكوت والآفات، فوجب لذلك أن يكون لم يزل متكلما، كما وجب أن يكون لم يزل عالما " (3) . ويلاحظ في هذا النص أن الأشعري جعل كلام الله أزليا (4) كما أن علم الله أزلي، ثم ذكر أنه يستحيل أن يكون لم يزل بخلاف الكلام موصوفا،   (1) في المطبوعة من السير "ليس شىء من كلامه مخلوق ولا محدث" بالرفع، وهو خطأ. (2) سير أعلام النبلاء (14/381) ، ومما يدل على أن هذا الاعتقاد الذى كتبوه موافق لمذهب الكلابية أن بعض علماء الاشاعرة ذكروا أن ابن خزيمة رجع الى مذهب السلف- الذي هو مذهبهم- ومن هؤلاء البغدادي في أصول الدين (ص: 314) والبيهقي في الأسماء والصفات (ص:69) (3) الإبانة (ص: 66-67) - ت فوقية-. (4) السلف يقولون إن الله متكلم في الأزل، لكنهم يقولون إنه يتكلم بمشيته وقدرته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 وخلاف الكلام يفسره بأنه سكوت أو آفة، وهذا واضح الدلالة أنه قصد أن الله لا يتكلم بكلام بعد كلام، بل كلامه كله قديم أزلى، ثم وضح ذلك بقوله:" فوجب لذلك أن يكون لم يزل متكلما كما وجب أن يكون لم يزل عالما"، ويمكن أن يقارن بكلام له مشابه في كتابه اللمع- الذى سبق أن نقلنا منه نصوصا عديدة تدل على سيره على مذهب ابن كلاب- يقول في كتابه هذا: "ومما يدل من القياس على أن الله تعالى لم يزل متكلما انه لو كان لم يزل غير متكلم - وهو ممن لا يستحيل عليه الكلام- لكان موصوفا بضد من أضداد الكلام من السكوت أو الآفة" (1) . 2- ويقول في الإبانة في الأدلة على كلام الله وأنه غير مخلوق: "دليل آخر: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} [الكهف:109] ، فلو كانت البحار مدادا لكتبه لنفذت البحار، وتكسرت الأقلام، ولم يلحق الفناء كلمات ربي، كما لا يلحق الفناء علم الله تعالى، ومن فني كلامه لحقته الآفات، وجرى عليه السكوت، فلما لم يجز ذلك على ربنا سبحانه صح أنه لم يزل متكلما، لأنه لو لم يكن متكلما وجب السكوت والآفات، تعالى ربنا عن قول الجهمية علوا كبيرا" (2) ، فقد ربط الكلام بالعلم في كونه صفة أزلية قائمة بذات الله أزلا وأبدا، وكلمات الله لا نهاية لها كما دلت على ذلك هذه الآية وغيرها، لكنها لا تدل على أن الله لا يتكلم بكلام بعد كلام اذا شاء متى شاء، وأنه كلم موسى بعد أن لم يكن مكلما له، والأشعري جعل ضد الكلام السكوت وهذا يوحي بأنه يمنع من ذلك. 3- والأشعري يقول ان ارادة الله أزلية، ولا يجعلها من صفات الأفعال بأنه يريد في وقت دون وقت، ويقرن الإرادة بالكلام في هذا الباب كما يربطهما جميعا بالعلم، فكما أن علم الله صفة لذاته وأنه أزلي وأنه لا يجوز أن يقال علم   (1) اللمع (ص: 17) - ت- مكا رثي. (2) الإبانة (ص: 67) - ت- فوقية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 بعد أن لم يكن عالما لأنه يدل على وصف الله بالنقص، فكذلك الإرادة والكلام، يقول في الإبانة:"يقال لهم [أي للمعتزلة،: ألستم تزعمون أن الله تعالى لم يزل عالما؟ فمن قولهم: نعم، قيل لهم: فلم لا؟ قلتم: إن ما لم يزل عالما انه يكون في وقت من الأوقات لم يزل مريدا أن يكون في ذلك الوقت، وما لم يزل عالما انه لا يكون فلم يزل مريدا أن لا يكون، وانه لم يزل مريدا أن يكون ما علم كما علم؟ " (1) . ثم قال:"فإن قالوا: لا يجوز أن يكون علم الله محدثا، لأن من لم يكن عالما ثم علم لحقه النقصان، قيل لهم: ولا يجوز أن تكون ارادة الله محدثة مخلوقة، لأن من لم يكن مريدا ثم أراد لحقه النقصان، وكما لا يجوز أن تكون إرادته تعالى محدثة مخلوقة كذلك لا يجوز أن يكون كلامه محدثا مخلوقا" (2) ، وقد يتبادر إلى الذهن أنه قصد الرد على من قال بخلق القرآن - وهذا حق- لكنه قصد أيضا المنع من أن الله يتكلم بكلام بعد كلام بإرادته ومشيئته، وأن الله مريد إذا شاء، متي شاء وعلل ذلك بأنه يلزم منه أن يلحقه النقصان، وحتي يتضح كلامه هنا ننقل كلامه من رسالته إلى أهل الثغر- التي نص فيها في مواضع- بما يوافق ابن كلاب، فإنه بعد ذكره لقدم الصفات: الحياة، والعلم، والإرادة، والكلام، والقدرة، والسمع، والبصر، قال: " [وأجمعوا] على أن شيئا من هذه الصفات لا يصح أن يكون محدثا؟ إذ لو كان شي منها محدثا لكان تعالى قبل حدوثها موصوفا بضدها ولو كان كذلك يخرج عن الأهلية وصار إلى حكم المحدثين الذين يلحقهم النقص، ويختلف عليهم صفات الذم والمدح، وهذا يستحيل على الله، وإذا استحال ذلك عليه وجب أن يكون لم يزل بصفة الكمال، إذ كان لا يجوز عليه الانتقال من حال من الكمال" (3) . والذى ينتقل من حال إلى حال ويفعل بمشيئته وقدرته، فيرضى عن هذا بعد أن لم يكن راضيا عنه، ويسخط على هذا بعد أن لم يكن ساخطا   (1) الإبانة (ص: 161) . (2) نفس المصدر (ص: 62 ا-63 1) . (3) الرسالة الى أهل الثغر (ص: 67-68) ت: الجلنيد، وفي طبعة مكتبة العلوم والحكم ت: عبد الله شاكر (ص: 215) . ومنها:"لخرج عن الإلهة". وفيها أيضا:" الانتفال من حال إلى حال" ولعلهما أصوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 عليه، ويريد أمراً بعد أن لم يكن مريدا له، ويكلم أحدا من البشر بعد أن لم يكن مكلما له، هذهـ عندهم- حوادث وتغيرات لا يجوز أن يتصف بها الله، لأن الحوادث لا تحل في ذاته. 4- والرضا والغضب- عند الكلابية أزليان- ولذلك التزموا بالقول بالموافاة. ومقتضاها: أن الله " لم يزل راضيا عمن يعلم أنه يموت مؤمنا وإن كان أكثر عمره كافرا، ساخطا على من يعلم أنه يموت كافرا وإن كان أكثر عمره مؤمنا" (1) ، ومعناه أن لم يزل راضيا عن الصحابة، حتى وهم قبل إسلامهم يقاتلون المسلمين ويشركون بالله، ورضاه عنهم أزلي، وكذلك العكس، وهذا حتى لا يقول بتجدد الحوادث في ذاته تعالى إذا قيل إنه كان ساخطا على هذا ثم رضي عنه، يقول الأشعري في الإبانة:"ثم يقال لهم: اذا كان غضب الله غير مخلوق وكذلك رضاه وسخطه فلم لا؟ قلتم: إن كلامه غير مخلوق، ومن زعم أن غضب الله مخلوق لزمه أن غضب الله وسخطه على الكافرين يفنى، وأن رضاه عن الملائكة والنبيين يفني حتى لا يكون راضيا عن أوليائه ولا ساخطا على أعدائه، وهذا هو الخروج عن الإسلام" (2) ، فقول الأشعري:" لزمه أن غضب الله وسخطه على الكافرين يفنى، هذا عنده خاص فيمن علم أنه يموت كافرا، أما الإنسان لو عاش سنين طويلة كافرا ثم أسلم ومات على إسلامه، فهذا- عند الأشعري- لا يجوز أن يقال إن الله كان ساخطا عليه في وقت كفره، ثم رضي عنه لما أسلم، وإنما يقال: ان الله لم يزل راضيا عنه حتى في حال كفره لأنه علم أنه يموت مؤمنا، وهذا بناء على أصله الكلابي. 5- ولما كان من أدلة المعتزلة على قولهم أن القرآن مخلوق قوله تعالى: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه هم يلعبون} [الأنبياء:2] أجاب الأشعري عن هذه الآية بقوله: " الذكر الذى عناه الله عز وجل ليس هو القرآن، بل هو كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووعظه إياهم ... " (3) ،   (1) المقالات (ص: 547) - ط- ريتر، ونسبه الأشعري إلى ابن كلاب. (2) الإبانة (ص: 80- 81) . (3) نفس المصدر (ص: 102) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 الذى دعاه إلى هذا التأويل البعيد خوفه من أن يوصف القرآن بأنه محدث، والحدوث: في اصطلاح أهل الكلام بمعنى الخلق، فالمحدث هو الخلوق، وهذا هو الذى فر منه الأشعري، لكن الحدوث في لغة العرب يكون بمعنى التجدد، فيسمون ما تجدد حادثا، وما تقدم على غيره قديما (1) ، فلماذا لم يفسر الأشعري هذه الآية بالمعنى الثاني وأن المقصود به القرآن؟ ولا يقتضي ذلك أن يكون مخلوقا، وقد بوب الإمام البخارى في صحيحه لذلك فقال:"باب قول الله تعالى: {كل يوم هو في شأن} [الرحمن: 29] ، {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} [الأنبياء:2] ، وقوله تعالى: {لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} [الطلاق: ا] ، وأن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع العليم} [الشورى:11] ، وقال ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله عز وجل يحدث من أمره ما يشاء، لان مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة"، ثم ذكر البخارى أثرين عن ابن عباس في هذا، أحدهما قوله:"كيف تسألون أهل الكتاب عن كتبهم وعندكم كتاب الله أقرب الكتب عهدا بالله، تقرأونه محضا لم يشب (2) ... " (3) ، وفي رواية أخرى لهذا الأثر "أحدث الأخبار بالله" (4) ، وهذا بناء على قول أهل السنة: إن الله يتصف بالصفات الاختيارية، وأن كلامه متعلق بالمشيئة، وأن من صفات كمال تعالى أنه لم يزل متكلما اذا شاء، وهذا الذى قال به الامام أحمد والبخارى وغيرهما وردوا على الكلابية الذين ينكرون هذا (5) . والظاهر أن تأويل الأشعري للآية {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث}   (1) انظر: معجم مقاييس اللغة (2/36) ، ودرء التعارض (1/374) ، وقد ذكر شيخ الإسلام أن هذه الآية تدل على نقيض قول المعتزلة " فإنها تدل على أن بعض الذكر محدث، وبعضه ليس بمحدث، وهو ضد قولهم". (2) لم يشب أي لم يخالطه غيره، الفتح (13/499) . (3) صحيح البخاري، كتاب التوحيد، ورقم الأثر (7522) 0 الفتح (13/ 396) . (4) انظر: فتح الباري (13/499) . (5) انظر: درء التعارض (2/291- ا 30) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 اشتهر عند الأشاعرة الذين التزموا هذا الأصل، ولذلك ذكره ابن حجر العسقلاني- في شرحه لباب البخارى هذا - وذكر تأويلات أخرى مشابهة، وكل ذلك فرارا مما يدل عليه ظاهر الآية، بل نقل ردود العلماء وأقوالهم في أن اقول بان المقصود بالآية القرآن"يلزم منه أن يكون الله متكلما بكلام حادث فتحل فيه الحوادث" (1) . هذه أقوال الأشعري من كتابه الإبانة وهي بمجموعها دالة على أنه بقي على اتباعه لابن كلاب، وإن كان لم صرح بذلك كتصريحه في كتبه الأخرى، فهو في الإبانة- بلا شك- أكثر إثباتا واتباعا لأهل السنة، وبعدا عن كلام أهل البدع، خاصة وأنه رد على المعتزلة القائلين بخلق القرآن، كما رد على الكرامية الذين يقولون: إن الله لم يكن متكلما ثم تكلم، لكنه لم يرد على أقوال الكلابية الذين اشتهر في عهده إنكار السلف عليهم. وهذه الملحوظات التى ذكرناها- فيما نقلناه عن الإبانة- هي التي جعلت شيخ الإسلام يذكر أن الأشعري احتج في الإبانة وغيرها بمقدمات سلمها للمعتزلة. يقول شيخ الاسلام:" وهذا من الكلام الذي بقي على الأشعري من بقايا كلام المعتزلة، فإنه خالف المعتزلة لما رجع عن مذهبهم فى أصولهم التي اشهروا فيها بمخالفة أهل السنة كإثبات الصفات والرؤية، وأن القرآن غير مخلوق، وإثبات القدر، وغير ذلك من مقالات أهل السنة والحديث، وذكر في كتاب "المقالات" أنه يقول بما ذكره عن أهل السنة والحديث. وذكر فى الإبانة أنه يأتم بقول الإمام أحمد، قال:"فإنه الإمام الكامل والرئيس الفاضل، الذى أبان الله به الحق، وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائفين، وشك الشاكين"، وقال:"فإن قال قائل قد انكرتم قول الجهمية والمعتزلة والقدرية والمرجئة"، واحتج فى ضمن ذلك بمقدمات سلمها للمعتزلة، مثل هذا الكلام، فصارت المعتزلة وغيرهم من أهل الكلام يقولون: إنه متناقض فى ذلك، وكذلك سائر أهل السنة والحديث يقولون: إن هذا تناقض، وإن هذه بقية بقيت عليه من كلام المعتزلة" (2) .   (1) فتح الباري (13/498) ، وانظر: شرح ابن حجر في (13/971) (2) منهاج السنة (12/227-229) ط جامعة الامام 0 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 بقي في أدلة الذين قالوا بوجوعه رجوعا كاملا إلى مذهب السلف دليلان - لابد من التعليق عليهما- أما بقية الأدلة فهي مجملة ومحتملة: الأول: تصريح الأشعري في الإبانة بأن كلام اللة مكتوب في اللوح المحفوظ في الحقيقة، متلو بالألسن في الحقيقة، محفوظ في الصدور في الحقيقة، وأن موسى- عليه الصلاة والسلام- سمع كلام الله، فهل هذا يدل على أنه لا يقول بقول ابن كلاب؟، لقد سبق في عرض أقوال ابن تيمية أنه يقول عن الكلابية: إنهم مع ذلك يقولون: القرآن محفوظ في القلوب حقيقة، متلو بالألسن حقيقة، مكتوب في المصاحف حقيقة. وشاهد ذلك أن أحد أعلام الأشاعرة- الباقلاني - صرح بأن كلام الله معنى قائم بنفسه، وأنه أزلي أبدي متكلم به في الأزل، كما هو متكلم به فيما لا يزال، لا أول لوجوده ولا آخر له، وأنه ليس بحرف ولا صوت (1) - ومع ذلك صرح بأن " كلام الله تعالى مكتوب في المصاحف على الحقيقة" (2) ، و " مسموع لنا على الحقيقة، لكن بواسطة القارىء" (3) ، وقال: " إن كلام الله مسموع بحاسة الآذان على الحقيقة" (4) ، وهو يقول: إن موسى سمع كلام الله بلا واسطة لكنه يقول أيضا في قوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة:6] ، بأن المسموع كلام الله القديم، صفة لله تعالى قديمة موجودة بوجود قبل سماع السامع لها، وإنما الموجود بعد أن لم يكن هو سمع السامع وفهم الفاهم لكلام الله تعالى، يحدث الله تعالى له سمعا اذا أراد أن يسمعه كلامه، وفهما إذا أراد أن يفهمه كلامه" (5) .فلم يدل قوله: أن موسى سمع كلام الله أنه لا يقول بقول ابن كلاب.   (1) رسالة الحرة، المطبوعة باسم الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به (ص:89،99،109-110) . (2) المصدر السابق (ص: 93) . (3) نفسه (ص: 94) . (4) رسالة الحرة (ص: 136) ، ويلاحظ أن السجزي- الذي شنع على الأشعرية- قال في رسالته الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: 136) إنهم يقولون:"كلام الله مكتوب في المصاحف على الحقيقة، وليس بحروف". (5) رسالة الحرة (ص: 94- هـ 9) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 الثاني: أن الأشعري فرق في كتابه "المقالات" بين أهل الحديث، والكلابية، وهذا دليل مهم، ويلقي ظلالا من الشك في تبعيته لابن كلاب، ومع ذلك فيلاحظ ما يلي: 1- ان هذا الكتاب في مقالات أهل الإسلام، يحكي فيه الأقوال دون أن يذكر معتقده في كل مسألة يعرض لها، ولذلك لم يرد على المعتزلة أو الرافضة أو الخوارج أو المرجئة أو الجهمية أو غيرهم، بل حكى أقوالهم وسكت إلا نادرا. ومن غير المعقول- وهو الخبير بمقالات أهل الكلام- أن لا يفرد مقالات ابن كلاب أو الكلابية، وهم المتميزون عن كل من المعتزلة وأهل الحديث. 2- أن الأشعري لم يكن خبيرا بأقوال أهل الحديث، ولذلك نسب إليهم قولين ليسا من أقوال أهل الحديث- وقد سبق ذكرهما عند الحديث عن مؤلفات الأشعري ومنهجه في كتاب المقالات- ولما ذكر مقالتهم بإجمال ذكر انتسابه إليهم وقوله بقولهم، فلما ذكر مقالة ابن كلاب قال: " فأما أصحاب عبد الله ابن سعيد القطان فإنهم يقولون بأكثر ما ذكرناه عن أهل السنة" (1) ، ثم ذكر بعض أقوالهم، إذا هو لا يجعل الكلابية بعيدين عن أهل السنة والحديث. 3- إن المسألة التي تميز أهل السنة عن الكلابية وهي مسألة كلام الله والقرآن لم يذكرها الأشعري في عرضه لمقالة أهل الحديث، بل قال كلاما مجملا قصيرا، وهذا نصه: "ويقولون: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، والكلام في الوقف واللفظ: من قال باللفظ أو بالوقف فهو مبتدع عندهبم، لا يقال: اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال غير مخلوق" (2) ، لكنه لما ذكر مسألة القرآن ذكر قول ابن كلاب فيها تفصيلا (3) ، ثم ذكر أقوال غيره من المعتزلة وغيرهم، وذكر مسائل كثيرة متفرعة، ولم يذكر لنفسه أو لمن يقول بقولهم- كما يعبر أحيانا بقوله: قال أهل الحق، أو الإثبات، أو أهل الإسلام، أو أهل السنة،   (1) المقا لات (ص: 298) . (2) المقا لات (ص: 292) . (3) نفسه (ص: 584) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 أو الاستقامه ... - قولا في ذلك، فإذا لم يكن شرح قول أهل الحديث عند ذكره لمقالتهم، ولا ذكر مقالتهم عند تفصيل القول في ذلك، فما هو قول الأشعري في هذه المسألة؟، علما بأن الأشعري ذكر قوله صراحة في بعض المسائل مثل مسألة " الكسب" (1) ، وهل الله موصوف بالقدرة على أن يضطر عباده الى إيمان وكفر؟ (2) . 4- ثم إن الأشعري ذكر في ثنايا عرضه للأقوال في كتابه المقالات ما يدل على كلابيته، فمثلا: ذكر في مسألة القول بأن الله قادر اختلاف المتكلمين في: هل يوصف البارىء بأنه قادر على الأعراض، فقال: " قال المسلمون كلهم أجمعون- إلا معمرا-: إن الله قادر على الأعراض والحركات والسكون والألوان والحياة والموت والصحة والمرض والقدرة والعجز وسائر الأعراض، وقال معمر: بالتعجيز لله، وأنه لا يوصف القديم بأنه قادر إلا على الجواهر، وأما الأعراض فلا يجوز أن يوصف بالقدرة عليها ... وأن من قدر على الحركة قدر أن يتحرك ... "، فرد عليه الأشعري بقوله: " فيقال له إذا قلت: إن البارىء قادر على التحريك والتسكين، فقل قادر على أن يتحرك ويسكن، فإن كان من قدر على تحريك غيره وتسكينه لا يوصف بالقدرة أن يتحرك، فكذلك من وصف بالقدرة على حركة غيره لا يوصف بالقدرة على أن يتحرك"- ثم قال الأشعري-: "وخالف أهل الحق أهل القدر ومعمرا في ذلك فقالوا: قد يوصف القديم بالقدرة على إنشاء الحركة ولا يوصف بالقدرة على التحرك" (3) . والحركة من الحوادث التي لا يجوز أن تحل بالله عند الكلابية، ولهذا قال الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر في صفة المجيء لله:"ليس مجيئه حركة ولا زوالا" (4) . فرد الأشعري على معمر المعتزلي ثم نسبته إلى أهل الحق هذا القول يدل ميله إلى هذا الأصل الكلابي، علما بأن لفظ الحركة أطلقه   (1) المقا لات (ص: 539- 542) . (2) نفسه (ص:552) . (3) نفسه (ص: 548-545) . (4) الرسالة الى أهل الثغر (ص: 73) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 بعض السلف ومنعه البعض لأنه لم يرد، ويذكر العلماء هذا الكلام في مبحث الصفات الفعلية الاختيارية لله تعالى مثل المجيء والنزول. مثال آخر: ذكر الأشعري الأقوال في أن البارى متكلم، فذكر أقوال المعتزلة ثم قال: " وقالت شرذمة: إن الله لم يزل متكلما، بمعني أنه لم يزل مقتدرا على الكلام، وأن كلام الله محدث، وافترقوا فرقتين: فقال بعضهم مخلوق، وقال بعضهم غير مخلوق " ثم قال: " وقال ابن كلاب: إن الله لم يزل متكلما، والكلام من صفات النفس كالعلم والقدرة " (1) . ولا أدري من يقصد بهذه الشرذمة، خاصة وأن منهم من يقول: إن كلام الله غير مخلوق، وقد ذكر فيما بعد قول داود الأصبهاني فقال:"وبلغني عن بعض المتفقهة أنه كان يقول: إن الله لم يزل متكلما بمعني أنه لم يزل قادرا على الكلام، ويقول: إن كلام الله محدث غير مخلوق وهذا قول داود الأصبهاني (2) ، وقول داود مبني على أن كلام الله من صفات الفعل، فهو أزلي، ويتكلم إذا شاء متى شاء، وعرض الأشعري للقضية يدل على ميل عنده عن هذا القول. وقال الأشعري في معرض الإنكار على المعتزلة: " وأنكروا أن يكون الباري سبحانه لم يزل مريدا متكلما، راضيا، ساخطا، مواليا معاديا، جوادا، حكيما، عادلا محسنا، صادقا، خالقا، رازقا، وزعموا أن هذا أجمع من صفات الأفعال" (3) ، فما معني الإنكار منه أن تكون أو بعضها صفات أفعال الله؟. فهذه الأدلة تدل على مارجحه شيخ الاسلام ابن تيمية من أن الأشعري وإن كان في الإبانة قد قرب كثيرا من مذهب أهل السنة إلا أنه قد بقيت عليه بقايا من مذهب ابن كلاب، والله أعلم.   (1) المقالات (ص 517) - ريتر- (2) نفس المصدر (ص: 583) . (3) نفس المصدر (ص: 505) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 ثامنا: عقيدته : قبل بيان عقيدته لابد من توضيح بعض الأمور: الأمر الأول: أن المصادر التي يرجع إليها في بيان عقيدته هي كتبه الثابتة عنه، أما ماعدا ذلك من المصادر فالجزم بنسبة القول إليه منها لا يخلو من محاذير، والسبب في ذلك - فوق ما في النقل من مظنة تغير العبارات أو الزيادة والنقص- أن الأشعري بالذات له منزلة خاصة لدى أتباعه الذين ينتسبون إليه، والذين طوروا مذهبه وغيروا فيه واقتربوا كثيرا من المعتزلة، لذلك فأقواله التي تخالف ما هم عليه لن تكون محل ارتياح لهم مما قد يؤدى الى تحريف كلامه وأن ينسب إليه ما لم يقله. وأقرب مثال على ذلك مسألة الصفات الخبرية كالوجه واليدين والعين فقد نسب اليه المتأخرون أن له فيها قولين: الإثبات مع التفويض أو التأويل، وهذا غير صحيح مطلقا. الأمر الثاني: جمع ابن فورك مقالات الأشعري في كتاب كبير، وذكر فيه قضايا عديدة من مسائل العقيدة، ومن دقائق علم الكلام، مما لم يوجد في كتبه التي وصلت إلينا، وقد قال محقق الكتاب عن قيمته بالنسبة لفكر الأشعري: " سوف تدرك - دون كبير جهد- أهمية هذا الكتاب البالغة، صحيح أن فكر الأشعري لم يكن مجهولا لدينا تماما، فالجوهري منه على الأقل قد وصلنا، خصوصا في كتاب " اللمع" إلا أن ذلك يعد نزرا يسيرا إذا ما قيس بفيض المعلومات التي يزودنا بها كتاب المجرد، ولعلنا لا نبالغ كثيرا إذا نحن تحدثنا بهذا الخصوص عن بعث لفكر الأشعري، ذلك أننا هنا إذا كان البعض لا يزال يشك- لفرط ما كان الأشعري ضحية للأفكار الخاطئة- أننا هنا أمام فكر الأشعري الحقيقي كاملا غير منقوص، لا يؤكد ذلك فقط أن مرجعنا هو ابن فورك، ولا يؤكد ذلك فقط الرجوع الكثير إلى مؤلفات الأشعري " إلى ثلاثين منها، وبعضها يذكر أكثر من عشر مرات" وإنما كذلك المطابقة التامة بين الآراء التي يوردها الكتاب وبين الآراء التي ترد في اللمع أو تلك التي ينقلها أبو منصور البغدادي والجويني وأبو القاسم الأنصاري وغيرهم ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 " هكذا يستعيد الأشعري بصورة نهائية هويته الحقيقية: هويته لا بوصفه تلميذا إمعا لابن حنبل، وإنما باعتباره متكلما حقيقيا من متكلمي عصره، وتلميذا خليقا بشيخه أبى علي الجبائي، متكلما كشيخه، يقطع برأي نفسه في المسائل المختلفة، ويخوض ببراعة شيخه في جميع لطائف "دقيق" الكلام، هويته كرجل استحق بجدارة أن يطلق اسمه على كل المدرسة التي انتسبت إليه" (1) . ولا شك أن من اطلع على "المجرد" يرى أن هذا الكلام صحيح في الجملة، ويعلل كثيرا من الأمور- المثيرة للتساؤل- ومنها: لماذا كان موقف علماء السلف من الأشعري بهذه الشدة؟، ولماذا نسبت هذه المدرسة- التي قربت كثيرا في مراحلها الأخيرة من المعتزلة- إلى أبي الحسن الأشعري دون غيره؟. ومع ذلك فالكتاب منطو على مشكلة- عسير حلها- ألا وهي مدى الدقة في نسبة الأقوال إلى الأشعري في هذا الكتاب لأن ابن فورك تصرف في النقل- كما أشار إلى ذلك في مقدمة وخاتمة الكتاب- وقد سبق شرح ذلك في آخر مؤلفات الأشعري (2) . لذلك فكتاب المجرد يعطي رأيا مجملا في منهج الأشعري الكلامي وأنه خاض في هذه القضايا كلها خوض أهل الكلام، لكنه لا يعطي رأيا محددا في مسألة معينة يمكن أن نطمئن على أنها من كلام الأشعري الا بعد مقارنات بما نقله عنه الآخرون. الأمر الثالث: لاشك أن الأشعري جاء بقول توسط فيه بين أقوال المعتزلة وأقوال أهل السنة:   (1) المجرد، مقدمة المحقق (ص: 4- هـ) - ت-- دانيال جيماريه. (2) (ص: 359-363) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 أ- فطبيعة نشأته في أحضان الاعتزال بقي تأثيرها على منهجه بعد رجوعه (1) : وتمثل ذلك في: ا- خبرته بأقوال أهل الكلام ومعرفة دقائق أقوالهم. 2- قلة خبرته بأقوال أهل السنة، ولذلك لا ينقل أقوالهم مفصلة بالطرق التي ينقلونها، ثم قد ينسب إليهم مالم يقولوه. 3- قوله بأقوال ابن كلاب، خاصة فيما يتعلق بالصفات الاختيارية. ب- ورجوعه عن الاعتزال جعله يقول بكثير من أقوال أهل النسة وتمثل ذلك في: 1- إثبات الصفات لله ومنها الصفات الخبرية وإقرارها كما جاءت. 2- إثبات العلو والاستواء والرؤية خلافا للمعتزلة. 3- إثبات السمعيات، ومنها أمور خالف فيها المعتزلة أو بعضهم مثل الشفاعة، وعذاب القبر، وغيرها. 4- الاستدلال بالنصوص من الكتاب والسنة، وموافقة إجماع السلف. والآن نذكر باختصار عقيدته: أ- إثبات وجود الله: يحتج الأشعري على وجود الله بخلق الإنسان، يقول في اللمع " إن سأل سائل فقال ما الدليل على أن للخلق صانعا صنعه ومدبرا دبره؟ قيل: الدليل على ذلك أن الانسان الذي هو في غاية الكمال والتمام كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحما وعظاما ودما، وقد علمنا أنه لم ينقل نفسه من حال الى حال، لأنا نراه في حال كمال قوته وتمام عقله لا يقدر أن يحدث لنفسه سمعا ولا بصرا،   (1) ذكر ابن عساكر عن الأشعري: أنه قال في بعض عباراته مع مخالفيه:" إني أظهرت بدعة أنقض بها كفرهم"، التبيين (ص: 97) ، وانظر تعليق ابن عساكر وجوابه عن هذا، ولما سئل الأشعري وقيل له: كيف تخالط أهل البدع وقد أمرت بهجرهم أجاب عن ذلك بأنه لابد من إظهار الحق ومعرفة أن لأهل السنة ناصرا، انظر: جوابه في التبيين أيضا (ص: 116) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 ولا أن يخلق لنفسه جارحة، يدل ذلك على أنه في حال ضعفه ونقصانه عن فعل ذلك أعجز؛ لأن ما قدر عليه في حال النقصان فهو في حال الكمال عليه أقدر، ومما عجز عنه في حال الكمال فهو في حال النقصان عنه أعجز، ورأيناه طفلا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا، وقد علمنا أنه لم ينقل نفسه من حال الشباب الى حال الكبر والهرم لأن الإنسان لو جهد أن يزيل عن نفسه الكبر والهرم ويردها إلى حال الشباب لم يمكنه ذلك فدل ماوصفنا على أنه ليس هو الذى ينقل نفسه ني هذه الأحوال وأن له ناقلا نقله من حال الى حال ودبره على ما هو عليه، لأنه لا يجوز انتقاله من حال إلى حال بغير ناقل ولا مدبر" (1) ، ثم يشرح ذلك بأن القطن لا يتحول غزلا مفتولا ثم ثوبا منسوجا بغير ناسج ولا صانع (2) . واحتج بنفس الدليل في رسالته إلى أهل الثغر فقال:" ونبههم على حدثهم بما فيهم من اختلاف الصور والهيآت، وغرر ذلك من اختلاف اللغات، وكشف لهم عن طريق معرفة الفاعل لهم بما فيهم وفي غيرهم بما يقتضى وجوده، ويدل على إرادته وتدبيره حيث قال عز وجل {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات:21] ، فنبههم عز وجل بتقلبهم في سائر الهيئات التي كانوا عليها على ذلك وصرح بقوله عز وجل: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين. ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين} [المؤمنون:12-14] (3) . لكن الأشعري لما شرح ذلك أتى باستدلال لا يسلم له حين قال معلقا على الآيات السابقات:"وهذا من أوضح ما يقتضي الدلالة على حدث الإنسان ووجود المحدث له، من قبل أن العلم قد أحاط بأن كل متغير لا يكون قديما، وذلك أن تغيره يقتضي مفارقة حال كان عليها قبل تغيره، وكونه قديما ينفي تلك الحال ... " (4) . فقد ذكر أمرين: إثبات حدث   (1) اللمع (ص: 6) - ط- مكارثي. (2) انظر: نفس المصدر (ص: 6-7) . (3) الرسالة الى أهل الثغر (ص:،3- هـ 3) . (4) نفس المصدر (ص: 35) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 الإنسان، وإثبات وجود المحدث له، فاستدل للأول بالتغير الذى يحدث للإنسان وتقلبه من حال الى حال وأن هذا يقتضي حدوثه، ثم استدل بذلك على وجود المحدث له لأن كل متغير لا يكون قديما، وهذا مبني على ما سبق بيانه من نفى حلول الحوادث الذى يقول به الأشعري، والخلاصة أن الاستدلال بحدوث الانسان وخلقه على خالقه دليل صحيح وهو الذي جاء به القرآن، أما الاستدلال على حدث الانسان بتغيره، ثم ربط التغير بالمحدث (الخالق) - وانه لا يكون متغيرا والا لكان محدثا؛ غير مسلم. أما دليل الأعراض وحدوث الأجسام الذى احتج به المتكلمون، وقالوا: إن إثبات الصانع لا يتم الا بإثبات حدوث الأجسام، ولا يتم إثبات حدوث الأجسام إلا بإثبات حدوث صفاتها (الأعراض) ، ورتبوا على ذلك نفى الصفات عن الله أو بعضها، فقد بين الأشعري أن الرسل لم يدعوا إليه، يقول: " فأما ما دعاهم إليه عليه الصلاة والسلام من معرفة حدثهم ومعرفة محدثهم، ومعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وعدله وحكمته، فقد بين لهم وجوه الأدلة في جميعه حتي ثلجت صدورهم به واستغنوا عن استئناف الأدلة فيه، وبلغوا جميع ما وقفوا عليه من ذلك واتفقوا عليه إلى من جاء بعدهم، فكان عذرهم فيما دعوا إليه من ذلك مقطوعا بما (1) نبههم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأدلة على ذلك وما شاهدوه من آياته الدالة على صدقه ... وجميع ما اتفقوا عليه من الأصول مشهور في أهل النقل الذين عنوا بحفظ ذلك وانقطعوا إلى الاحتياط فيه، والاجتهاد في طلب الطرق الصحيحة إليه من المحدثين والفقهاء، يعلمه أكابرهم أصاغرهم ويدرسونه صبيانهم في كتاتيبهم لتقرر ذلك عندهم وشهرته فيهم، واستغنائهم ني العلم بصحة جميع ذلك بالأدلة التي نبههم صاحب الشريعة عليها في وقت دعوته" (2) ، ثم بعد هذه المقدمة المركزة لبيان استغناء الصحابة ومن بعدهم بأدلة الكتاب والسنة قال عن دليل الأعراض: " واعلموا أرشدكم الله أن ما دل على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - من المعجزات بعد تنبيهه لسائر المكلفين على حدثهم   (1) في المطبوعة، الجليند "بها" والتصويب من المخطوطة (ص: 6) ، ودرء التعارض (7/207) . (2) الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 52-54) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 ووجود المحدث لهم قد أوجب صحة اخباره ودل على أن ما أتي به من الكتاب والسنة من عند الله عز وجل، وإذا ثبت بالآيات صدقه فقد علم صحة كل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه وصارت أخباره عليه الصلاة والسلام أدلة على صحة سائر ما دعا اليه من الأمور الغائبة عن حواسنا، وصفات فعله، وصار خبره عليه الصلاة والسلام عن ذلك سبيلا إلى إدراكه، وطريقا إلى العلم بحقيقته، وكان يستدل به من اخباره عليه الصلاة والسلام على ذلك أوضح دلالة من دلالة الأعراض التي اعتمد على الاستدلال بها الفلاسفة ومن اتبعها من القدرية وأهل البدع المنحرفين عن الرسل عليهم السلام" (1) ، لكن الأشعري يعلل ذلك ليس ببطلانها في ذاتها وإنما لأمور أخرى يقول- بعد الكلام السابق-:"من قبل أن الأعراض لا يصح الاستدلال بها إلا بعد رتب كثيرة يطول الخلاف فيها، ويدق الكلام عليها" (2) - ثم شرح ذلك ثم قال-:"وإذا كان ذلك على ما وصفنا بان لكم أرشدكم الله أن طرق الاستدلال باخبارهم عليهم السلام على سائر ما دعينا إلى معرفته مما لا يدرك بالحواس، أوضح من الاستدلال بالأعراض؛ إذ كانت أقرب إلى البيان على حكم ما شوهد من أدلتهم المحسوسة مما اعتمدت عليه الفلاسفة ومن اتبعهم من أهل الأهواء.." (3) . ب- وحدانية الله: يستدل الأشعري لذلك بدليل التمانع، وقد شرحه بقوله"لأن الاثنين لا يجري تدبيرهما على نظام، ولا يتسق على احكام، ولابد أن يلحقهما العجز أو واحدا منهما، لأن أحدهما اذا أراد أن يحيى انسانا وأراد الآخر أن يميته لم يخل أن يتم مرادهما جميعا، أو لا يتم مرادهما، أويتم مراد أحدهما دون الآخر، ويستحيل أن يتم مرادهما جميعا لأنه يستحيل أن يكون الجسم حيا ميتا في حال واحدة، وإن لم يتم مرادهما جميعا وجب عجزهما، والعاجز لا يكون إلها ولا قديما، وإن تم مراد أحدهما دون الآخر وجب العجز لمن لم يتم مراده منهما،   (1) الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 54-55) . (2) المصدر السايق (ص: 55) . (3) المصدر السابق (ص: 57) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 والعاجز لا يكون إلها ولا قديما، فدل ما قلناه على أن صانع الأشياء واحد، وقد قال تعالى: {لو كان فيهما ألهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء:22] ، فهذا معنى احتجاجنا آنفا" (1) . ودليل التمانع احتج به العلماء، وهو دليل صحيح، أما الاستدلال له بآية {لو كان فيهما ألهة إلا الله لفسدتا} ، فقد بناه الأشعري على رأيه في معنى الإله وأن المقصود به: القادر على الاختراع والخلق، ففسر الألوهية بتوحيد الربوبية، يقول الشهرستاني:"قال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري: إذا كان الخالق على الحقيقة هو الباري تعالى، لا يشركه في الخلق غيره، فأخص وصفه تعالى هو: القدرة على الاختراع، قال: وهذا هو تفسير اسمه تعالى: الله" (2) . والآية إنما هي في توحيد الألوهية، وأما توحيد الربوبية فقد كان المشركون وجميع الأمم مقرين به، ولذلك جاءت الرسل بتقرير توحيد الألوهية والرد على المشركين فيه، واحتجوا على ذلك بتوحيد الربويية، لأنه مستلزم له، أما توحيد الألوهية- الذى دلت عليه الآية- فهو متضمن لتوحيد الربوبية. ج- عقيدته في الأسماء والصفات: أما الأسماء: فيثبت الأشعري جميع ما ورد من أسماء الله تعالى، ويعتمد في ذلك على السمع فقط، فما ورد أثبته، ومالم يرد سكت عن إثباته، ولذلك ناظر أبا علي الجبائي حول هل يسمى الله عاقلا مستخدما هذا المنهج (3) . وأما الصفات: فإنه أثبت أيضا ما ورد في النصوص، وإن كان قد استدل لبعضها بالأدلة   (1) اللمع (ص: 8) - ت مكارثي، وذكره أيضا مع الإحتجاج بالآية في الرسالة إلى أهل الثغر (ص:41) . (2) الملل والنحل (1/ 100) ، وذكره في نهاية الإقدام (ص: 91) ، كما ذكره ابن فورك في المجرد (ص: 47) ، والبغدادي في أصول الدين (ص: 123) . (3) سبق عند الحديث عن أسباب رجوع الأشعري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 العقلية إلا أنه جعل أدلة السمع هي المقدمة، ويمكن تفصيل أقواله في الصفات كما يلي: 1- الصفات العقلية: وهي صفات الذات العقلية التي يسميها المتكلمون صفات المعاني، وهي سبع صفات: العلم والحياة والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة. والأشعري يثبت هذه الصفات ويستدل لها بالنصوص وبالعقل، يقول عن أهل السنة:"وأجمعوا على إثبات حياة لله عز وجل لم يزل بها حيا، وعلما لم يزل به عالما، وقدرة لم يزل بها قادرا، وكلاما لم يزل به متكلما، وإرادة لم يزل بها مريدا، وسمعا وبصرا لم يزل به سميعا بصيرا" (1) ، ثم ذكر قدم هذه الصفات، وأن صفاته لا تشبه صفات المخلوقين كما أن نفسه لا تشبه أنفس المخلوقين، ويحتج على ذلك بدلالة الأسماء على الصفات فيقول:"واستدلوا على ذلك بأنه لو لم يكن له عز وجل هذه الصفات لم يكن موصوفا بشيء منها في الحقيقة، ومن لم يكن له فعل لم يكن فاعلا في الحقيقة، ومن لم يكن له إحسان لم يكن محسنا، ومن لم يكن له كلام لم يكن متكلما في الحقيقة، ومن لم يكن له إرادة لم يكن في الحقيقة مريدا، وإن وصف شيء من ذلك مع عدم الصفات التي توجب هذه الأوصاف له لا يكون مستحقا لذلك في الحقيقة، وإنما يكون وصفه مجازا أو كذبا ... وذلك أن هذه أوصاف مشتقة من أخص أسماء هذه الصفاث ودالة عليها ... " (2) . ويقول في اللمع:"فإن قال قائل: لم قلتم: أن للباري تعالى علما به علم؟ قيل له: لأن الصنائع الحكمية كما لا تقع منا إلا من عالم كذلك لا تحدث منا إلا من ذي علم، فلو لم تدل الصنائع على علم من ظهرت منه منا، لم تدل على أن من ظهرت منه منا فهو عالم" (3) . ثم قال: "والدليل على أن لله تعالى قدرة وحياة كالدليل على أن لله تعالى علما، وقد قال الله جل ذكره   (1) الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 67) . (2) الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 68-69) ، وأشار إلى ذلك في الإبانة (ص: 151) - ت- فوقية. (3) اللمع (ص: 12) - مكارثي-، و (ص: 26- 27) - ت- غرابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 {أنزله بعلمه} [النساء:166] ، وقال: {وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه} [فاطر:11، فصلت:47] ، فثبت العلم لنفسه، وقال تعالى: {أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة} [فصلت:15] ، فثبت القوة لنفسه" (1) . وفي الإبانة يذكر الأدلة السمعية على العلم وغيره (2) ، ثم يذكر في معرض الرد على المعتزلة الدليل العقلي فيقول:" فإن قالوا: قلنا: ان الله عالم لأنه صنع العالم على مافيه من آثار الحكمة وأتساق التدبير، قيل لهم: فلم لا قلتم إن لله علما بما ظهر في العالم من حكمة وآثار تدبيره؟؛ لأن الصنائع الحكمية لا تظهر إلا من ذى علم كا لا يظهر الا من عالم، وكذلك لا تظهر الا من ذى قوة كا لا تظهر إلا من قادر" (3) . 2- الصفات الفعلية: وهي الصفات المتعلقة بإرادة الله ومشيئته مثل الكلام- وهو صفة ذات أيضا- وا لاستواء، وا لنزول، وا لمجيء، وا لضحك، وا لغضب، وا لرضا، وا لمحبة، وا لتعجب، وغيرهما. وقد سبق بيان أن الأشعري لا يقول بالصفات الاختيارية ويبني ذلك على أن الله لا تحله الحوادث (4) . لكن الأشعري يثبت ما ورد في النصوص منها، ويتأولها بأحد أمرين: أ- إما أن يجعل الصفة أزلية، قديمة مع الله، لا يتجدد له فيها حال كما يشاء، وذلك مثل الكلام، والمحبة، والرضا.   (1) اللمع (ص: 13- 14) - مكارثي-. (2) انظر: الإيانة (ص: 22-23،141) - ت- فوقية. (3) الإبانة (ص:148-149) ، وانظر: (ص:156-159) ، وانظر: أيضا اللمع (ص: اا-12) - مكارثي-. (4) عند الحديث عن أطوار الأشعري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 ب- وإما أن يجعل مقتضي الصفة مفعولا منفصلا عن الله لايقوم بذاته كالخلق، فإن الله خلق الخلق فلم تحل بذاته حوادث لأن الخلق هو المخلوق، وكذلك يقول في الاستواء والنزول: إنه لا تقوم بالله صفة وإنما فعل فعلا في العرش سماه استواء، كما فعل في سماء الدنيا فعلا سماه نزولا. ونذكر نماذج من كلامه في هذه الصفات: - الكلام: يثبت أن القرآن كلام اللة غير مخلوق، ويذكر لذلك الأدلة من القرآن، ويرد على المعتزلة، يقول: " إن قال قائل: لم قلتم إن الله تعالى لم يزل متكلما وإن كلام الله تعالى غير مخلوق؟ قيل له: لأن الله تعالى قال: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل:40] ، فلو كان القرآن مخلوقا لكان الله تعالى قائلا له: كن، والقرآن قوله، ويستحيل أن يكون قوله مقولا له، لأن هذا يوجب قولا ثانيا، والقول في القول الثاني وفي تعلقه بقول ثالث كالقول في القول الأول وتعلقه بقول ثان، وهذا يقتضي مالا نهاية له من الأقوال، وذلك فاسد، وإذا فسد ذلك فسد أن يكون القرآن مخلوقا" (1) . وفي الإبانة يذكر أدلة أخرى ومنها، قوله تعالى: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف:54] ، ففرق بين الأمر والخلق (2) ، كما يحتج بقوله تعالى {وكلم الله موسى تكليما} [النساء:164] ، "والتكليم هو المشافهة بالكلام، ولا يجوز أن يكون كلام المتكلم حالا في غيره مخلوقا في شيء سواه، كما لا يجوز ذلك في العلم" (3) ، كما يذكر من الأدلة أن أسماء الله في القرآن، فكيف يكون مخلوقا (4) .   (1) اللمع (ص: 15) - مكارثي-، وانظر: الإبانة (ص: 65) . (2) انظر: الإبانة (ص: 63- 64) . (3) نفس المصدر (ص: 72) . (4) انظر: نفس المصدر (ص: 73) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 ويذكر ما ورد من الروايات عن الامام أحمد وغيره في أن القرآن غير مخلوق (1) . ويرد على من توقف في القرآن، وقال لا أقول: إنه مخلوق ولا إنه غير مخلوق، ويقول لهم- بعد المناقشة-:" يلزمكم أن تتوقفوا في كل ما اختلف الناس فيه ولا تقدموا في ذلك على قول، فإن جاز لكم أن تقولوا ببعض تأويل المسلمين اذا دل على صحتها دليل، فلم لا قلتم: إن القرآن غير مخلوق بالحجج التي ذكرناها في كتابنا هذا " (2) . ثم يذكر أن كلام الله في اللوح المحفوظ، وفي صدور الذين أوتوا العلم وهو متلو بالألسنة، ويقول: "والقرآن مكتوب في مصاحفنا في الحقيقة، محفوظ في صدورنا في الحقيقة، متلو بألسنتنا في الحقيقة، مسموع لنا في الحقيقة؟ قال تعالى: {فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة:6] (3) . وأما مسألة اللفظ بالقرآن فإنه ينكر ذلك ويقول:"القرآن يقرأ في الحقيقة ويتلي، ولا يجوز أن يقال يلفظ به لأن القائل لا يجوز له أن يقول: إن كلام الله ملفوظ به، لأن العرب إذا قال قائلهم لفظت باللقمة من فمي فمعناه رميت بها، وكلام الله لا يقال يلفظ به، وإنما يقال: يقرأ ويتلي ويكتب ويحفظ، وإنما قال قوم: لفظنا بالقرآن ليثبتوا أنه مخلوق ويزينوا بدعتهم وقولهم بخلقه ... " (4) . وفي اللمع يشرح عقيدته في كلام الله وأنه أزلي ويبنيه على مسألة حلول الحوادث (5) .   (1) الإبانة (ص: 87- 96) . (2) المصدر السابق (ص: 99) . (3) نفس المصدر (.. ا- 101) . (4) نفسه (ص:101) . (5) انظر: اللمع (ص: 22-23) - ط مكارثي- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 لكن بقي في مسألة الكلام ما نسب إلى الأشعري من أنه يقول: إن كلام الله واحد، وأنه معنى قائم بذات الله تعالى، وأنه لم يزل متصفا بكونه أمرا ونهيا وخبرا، وأنه ليس بحروف ولا أصوات. فهذه الأقوال بذاتها لم نجدها منصوصا عليها في كتبه الموجودة، لكن نسبها إليه أعلام الأشاعرة وغيرهم، كابن فورك، والجوينى، والشهرستاني، وأبي نصر السجزي (1) ، ونقلها عن هؤلاء من جاء بعدهم. - الاستواء والعلو: أثبت الاستواء واستدل به وبغيره على إثبات علو الله تعالى، يقول: " إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول إن الله عز وجل مستو على عرشه؟ قال: {الرحمن على العش استوى} [طه:5] ، وقد قال الله عز وجل: {إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر:10] ، وقال: {بل رعه الله إليه} [النساء:158] ، وقال عز وجل: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه} [السجدة: 5] وقال حكاية عن فرعون: {يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب. أسباب السموات فاطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا} [غافر: 26- 27] ، كذب موسى عليه السلام في قوله: إن الله عز وجل فوق السموات، وقال عز وجل: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض} [الملك:16] ، فالسموات فوقها العرش فلما كان العرش فوق السموات قال: {أأمنتم من في السماء} لأنه مستو على العرش الذي فوق السموات ... " (2) ، ثم رد على المعتزلة والجهمية وغيرهم في تأويلهم الاستواء   (1) انظر: المجرد (ص: 67) ، وا لإ رشاد (ص:120) ، ونهاية الإقدام (ص:304،313،320) ، والملل والنحل للشهرستاني (1/96) ، والرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: 95، 119) مطبوع على الآلة الكاتبة. (2) الإبانة (45-46) - ط هندية-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 بالاستيلاء والملك والقهر، وقولهم: إن الله في كل مكان، وناقشهم نقاشا قويا مركزا، ثم احتج على الاستواء والعلو بأحاديث النزول، وبأدلة أخرى (1) . هذا مذهب الأشعري وقوله في الاستواء نم ذكره في الإبانة والرسالة إلى أهل الثغر، لكن نجد أن أتباعه ينسبون إليه تفسيرا للاستواء، نذكره لأن مجموعة منهم نسب اليه ذلك، يقول البيهقي:"وذهب أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري إلى أن الله تعالى جل ثناؤه فعل في العرش فعلا سماه استواء كما فعل في غيره فعلا سماه رزقا ونعمة أو غيرهما من أفعال، ثم لم يكيف الاستواء الا أنه جعله من صفات الفعل لقوله: {ثم استوى على العرش} [الأعراف:54، يونس: 3، الرعد:2، الفرقان:59، السجدة:4، الحديد:4] ، وثم للترا خي، والتراخي إنما يكون في الأفعال، وأفعال الله تعالى توجد بلا مباشرة منه إياها ولا حركة" (2) ، وأشار الى ذلك البغدادي، وابن فورك وابن عساكر، والجويني (3) . - النزول والمجيء: يثبت الأشعري النزول للأحاديث الواردة في ذلك، والتي يذكرها، كما يثبت المجيء لله تعالى ويذكر أدلته من القرآن (4) . وقد شرحهما في رسالته إلى أهل الثغر بما يوضح مذهبه في أنه لا تقوم   (1) انظر: الإبانة (ص: 46- 50) - هندية-، وكان الاعتماد في الإبانة على الطبعة الهندية لأن طبعة فوقية المحققة فيها زيادات غير صحيحة- خاصة في هذه الفصول-، وانظر: الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 75-76) . (2) الأسماء والصفات للبيهقي (ص: 410) ، وانظر: مختصره المسمي:" دقيق الإشارات إلى معاني الأسماء والصفات" لعبد الله بن عبد الأنصاري الخليلي، توفي سنة 724 هـ (ص: 312) مطبوع طباعة أولية. (3) انظر: أصول الدين (ص: 113) ، والمجرد (ص:325-326) ، وتبيين كذب المفتري (ص:150) . والشامل (ص: 555-556) . (4) انظر: الإبانة- هندية- (ص:11، 47، 48) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 بذات الله صفات الفعل فيقول:"وليس مجيئه حركة ولا زوالا ... وليس نزوله تعالى نقلة لأنه ليس بجسم ولا جوهر ... " (1) . وقد نسب البيهقي إلى الأشعري في معناهما مثل ما ورد في الاستواء بأن "يحدث الله تعالى يوم القيامة فعلا يسميه إتيانا ومجيئا، لا بأن يتحرك أو ينتقل ... وهكذا قال في أخبار النزول: أن المراد به فعل يحدثه الله عز وجل في سماء الدنيا كل ليلة يسميه نزولا بلا حركة ولا نقلة ... " (2) وهو موافق لتأويلات الأشعري السابقة. - الرضا والغضب: يثبتهما لكن يتأولهما بالإرادة، فرضاه عن الطائعين إرادته لنعيمهم، وغضبه على الكافرين إرادته لعذابهم (3) ، وتأويله لهما مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة، لكن الأشعري يتأولهما ليسلم له الأصل الفاسد الذى قال به. 3- الصفات الخبرية: يثبت الأشعري لله الصفات الخبرية، كالوجه، واليدين، والعينين، ويستدل لذلك بالنصوص، ويرد على من تأولها من الجهمية وغيرهم، وأطال بصفة خاصة في صفة اليدين، وناقش من تأولهما مستدلا بنصوص الكتاب والسنة، وهذا هو مذهب السلف- رحمهم الله (4) -. بقى أن بعض المتأخرين زعم أن للأشعري قولا آخر فيها وهو القول   (1) الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 73-74) . (2) الأسماء والصفات للبقي (ص: 448-449) . (3) انظر: الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 74- هـ 7) . (4) انظر: الإبانة (ص:51-58) - هندية-، و (ص:120- 140) - ت- فوقية، وانظر: الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 72-73) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 بتأويلها (1) ، وهذا غير صحيح، والتأويل إنما هو قول متأخري الأشعرية فقط كالجويني ومن جاء بعده، أما الأشعري فليس له فيها إلا قول واحد. د- قوله في الرؤية: يثبت الأشعري الرؤية، وأن المؤمنين يرون الله عز وجل يوم القيامة بأعين وجوههم على ما أخبر به تعالى (2) ، ويحتج لذلك بعدد كبير من النصوص من الكتاب والسنة، ويناقش المعتزلة طويلا (3) . ويلاحظ أن الأشعري لا يفرق- أحيانا- بين الإدراك والرؤية، ولذلك لما أورد سؤال سائل عن معنى قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} [الأنعام:103] قال: " قيل له: يحتمل أن يكون لا تدركه في الدنيا وتدركه في الآخرة ... " (4) ، "ويحتمل أن يكون الله تعالى أراد بقوله: {لا تدركه الأبصار} يعني لا تدركه أبصار الكافرين المكذبين" (5) ، وهذان جوابان ضعيفان، ولذلك لما أطال في مناقشة المعتزلة وذكر اعتراضاتهم حول هذه الآية ألمح إلى الجواب الصحيح فقال:"فإن قالوا قوله تعالى: {لاتدركه الأبصار} يوجب أن لا يدرك بها في الدنيا والآخرة وليس ينفي ذلك أن نراه بقلوبنا، ونبصره بها ولا ندركه بها؟ قيل لهم: فما أنكرتم أن يكون لا ندركه بأبصار العيون، ولا يوجب إذا لم ندركه بها أن لا نراه بها، فرؤيتنا له بالعيون وأبصارنا له بها ليس بإدراك له بها، كما أن إبصارنا له بالقلوب ورؤيتنا له بها ليس بإدراك له، فإن قالوا: رؤية البصر هي إدراك البصر، قيل لهم: ما الفرق   (1) ممن ذكر ذلك: الإيجي في المواقف (8/110-112) مع شرحه، والبياضي في إشارات المر ام (ص: 188) . (2) انظر: الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 76) . (3) عقد الأشعري لمسألة الرؤية أبوابا مستقلة في الإبانة (ص: 3 ا-24) - هندية-، و (ص: 35-62) - ت- فوقية، وفي اللمع (ص: 32-36) - ط مكارثي-. (4) الإبا نة (ص: 47) - فوقية، انظر: اللمع (ص: 35) مكارثي. (5) الإبانة (ص: 47) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 بينكم وبين من قال: إن رؤية القلب وإبصاره هو إدراكه وإحاطته؟، فإذا كان علم القلب بالله عز وجل وإبصار القلب له رؤيته إياه ليس بإحاطة ولا ادراك فما أنكرتم أن تكون رؤية العيون وإبصارها لله عز وجل ليس بإحاطة ولا ادراك" (1) ، فلو بنى الجواب على التفريق بين الإدراك والرؤية لوضح الأمر ولأصبحت الآية دالة على الرؤية، فيكون الكلام في إثبات دلالتها على المذهب الحق، وليس في بيان عدم دلالتها على نفى الرؤية. أما الأدلة العقلية على إثبات الرؤية فقد ذكر دليلين: أحدهما: دلالة الوجود، و" أنه ليس موجودا إلا وجائز أن يريناه الله عز وجل، وإنما لا يجوز أن يرى المعدوم، فلما كان الله عز وجل موجودا مثبتا كان غير مستحيل أن يرينا نفسه عز وجل" (2) . خر: أن: أن الله يرى الأشياء، فإذا كان لنفسه رائيا فجائز أن يرينا نفسه، ويقول: " ولما كان الله عز وجل رائيا للأشياء كان رائيا لنفسه، وإذا كان رائيا لها فجائز أن يرينا نفسه كما أنه لما كان عالما بنفسه جاز أن يعلمناها" (3) . هذا كلامه في الإبانة، لكنه في اللمع يستدل على جواز الرؤية باستدلال يقوم على أن الرؤية لا يلزم منها إثبات حدث الباري، أو اثبات حدث معني فيه أو تشبيهه أو غيره مما يقول: إنه يستحيل أن يتصف به، وذلك احترازا من اللوازم الباطلة التي يظنها نفاة الرؤية (4) ، ولذلك ذكر الأشعري عن بعض أصحابه انه التزم جواز اللمس والذوق والشم اذا كان ذلك لا يقتضي إحداث معنى في الباري (5) .   (1) الإبانة (ص: 59) - ت- فوقية، و (ص: 22- 23) - هندية- (2) المصدر السابق (ص: 52) - ت- فوقية. (3) المصدر نفسه. (4) اللمع (ص: 32-33) - مكارثي-. (5) انظر: نفس المصدر (ص: 33) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 واذا كان الأشعري يثبت لله صفة العلو والاستواء، والمباينة للمخلوقات فإثبات الرؤية مستقيم على مذهبه خلافا لمتأخرى أصحابه الذين أثبتوا الرؤية ونفوا العلو فتناقضوا. والأشعري يرى أنه لا يلزم من اثبات الرؤية التجسيم لأنه لا يشترط أن يكون المرئي جسما يقول: " فإن قال قائل: فهل شاهدتم مرئيا إلا جوهرا أو غرضا محدودا أو حالا في محدود؟ قيل له: لا، ولم يكن المرئي مرئيا لأنه محدود ولا لأنه حال في محدود ولا لأنه جوهر، ولا لأنه عرض، فلما لم يكن ذلك كذلك لم يجب القضاء بذلك على الغائب، كما لم يجب إذا لم نجد فاعلا إلا جسما، ولا شيئا الا جوهرا أو عرضا، ولا عالما قادرا حيا الا بعلم وحياة وقدرة محدثة، أن نقضي بذلك على الغائب، إذ لم يكن الفاعل فاعلا لأنه جسم، ولا الشيء شيئا لأنه جوهر أو عرض" (1) . هـ- قوله في القدر: كلام الأشعري في القدر وأفعال العباد طويل جدا ومتفرع إلى مسائل كثيرة، وهو يثبت علم الله الشامل المحيط بكل شيء (2) ،؟ يثبت الكتابة في اللوح المحفوظ وأن الله أثبت فيه جميع ماهو كائن إلى يوم القيامة، وقد دل عليه قوله تعالى: {وكل شيء فعلوه في الزبر. وكل صغير وكبير مستطر} [القمر:52- 53] (3) ،كما انه يثبت إرادة الله الشاملة لكل شيء- وهي التي بمعنى المشيئة- ويذكر الأدلة على ذلك، ويناقش المعتزلة طويلا الذين يقولون: إن الله لايريد الكفر ولا المعاصي وانها كائنة بغير ارادة منه (4) ، كما أثبت قدرة الله وأن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها ورد على القدرية المعتزلة الذين   (1) اللمع (ص: 36) . (2) انظر: الرسالة إلى الثغر (ص: 81) . (3) المصدر السابق (ص: 79) . (4) انظر: الإبانة (ص: 161) وما بعدها- ت- فوقية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 يقولون: إن الله غير خالق لأفعال العباد يقول:"ويقال لأهل القدر: أليس قول الله تعالى: {بكل شيء عليم} [البقرة: 29] يدل على أنه لا معلوم إلا والله به عا لم، فإذا قالوا نعم، قيل لهم: فما أنكرتم أن يدل قوله تعالى: {على كل شيء قدير} [البقرة:20] على أنه لا مقدور إلا والله عليه قادر، وأن يدل قوله تعالى: {خالق كل شيء} [الزمر: 62] على أنه لا محدث مفعول إلا والله محدث له فاعل خالق" (1) . ويذكر في الإبانة بابا فيه الروايات الواردة في القدر، مثل حجاج آدم وموسى، وحديث النطفة في الرحم وتقلبها، وكل ميسر لما خلق له، وغيرها (2) ، وهي دالة على قدر الله السابق الشامل. لكن الأشعري مع قوله بهذه المراتب للقدر- مخالفا للمعتزلة وموافقا لأهل السنة- مال الى الجبر، وخالف أهل السنة في بعض المسائل ومنها: القول بالكسب: وهو من المسائل التي اشتهرت عن الأشعري، وأخذ بها الأشعرية من بعده، وقد جاء قوله بالكسب لإثبات قدرة الله الشاملة لكل شيء، يقول الأشعري في المقالات:"واختلف الناس في معنى القول: إن الله خالق، فقال قائلون: معنى أن الخالق خالق أن الفعل وقع منه بقدرة قديمة فإنه لا يفعل بقدرة قديمة الا خالق ومعنى الكسب: أن يكون الفعل بقدرة محدثة، فكل من وقع منه الفعل بقدرة قديمة فهو فاعل خالق، ومن وقع منه بقدرة محدثة فهو مكتسب، وهذا قول أهل الحق" (3) ، وبعد أن يذكر عددا من الأقوال لأهل الإثبات وغيرهم يقول:"والحق عندي أن معنى الاكتساب هو أن يقع الشيء بقدرة محدثة، فيكون كسبا لمن وقع بقدرته" (4) .   (1) اللمع (ص: 50- 51) ، وانظر: الرسالة (ص: 82) . (2) انظر: الإبانة (ص: 225-237) . (3) المقالات (ص: 39) . (4) نفس المصدر (ص: 542) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 والأشعري يفرق بين حركة الإضطرار كحركة المرتعش، وحركة الاختيار مثل ذهاب الانسان ومجيئه، يقول:"فإن قال قائل: فيجب إذا كانت إحدى الحركتين ضرورة أن تكون الأخري كذلك، وإذا كانت إحداهما كسبا أن تكون الأخرى كذلك، قيل له: لا يجب ذلك لافتراقهما في معني الضرورة والاكتساب، لأن الضرورة ما حمل عليه الشيء وأكره وجبر عليه، ولو جهد في التخلص منه وأراد الخروج عنه واستفرغ في ذلك مجهوده لم يجد منه انفكاكا ولا الى الخروج عنه سبيلا، فإذا كانت إحدى الحركتين بهذا الوصف الذي هو وصف الضرورة وهي حركة المرتعش من الفالج والمرتعد من الحمي كانت اضطرارا، وإذا كانت الحركة الأخرى بخلاف هذا الوصف لم تكن اضطرارا، لأن الانسان في ذهابه ومجيئه واقباله وإدباره بخلاف المرتعش من الفالج والمرتعد من الحمي، يعلم الإنسان التفرقة بين الحالين من نفسه وغيره علم اضطرار لا يجوز معه الشك، فقد وجب إذا كان العجز في إحدى الحالتين أن القدرة التي هي ضده حادثة في الحال الأخرى، لأن العجز لو كان في الحالين جميعا لكان سبيل الإنسان فيهما سبيلا واحدة، فلما لم يكن هذا هكذا وكانت القدرة في إحدى الحركتين وجب أن تكون كسبا لأن حقيقة الكسب: أن الشيء وقع من المكتسب له بقوة محدثة لافتراق الحالين في الحركتين، ولأن إحداهما بمعنى الضرورة وجب أن تكون ضرورة، ولأن الأخرى بمعنى الكسب وجب أن تكون كسبا، ودليل الخلق في حركة الاضطرار وحركة الاكتساب واحد، فلذلك وجب إذا كانت إحداهما خلقا أن تكون الأخرى خلقا" (1) ، ويوضح أن كلا منهما خلق لله تعالى سواء كان اضطرارا أو اختيارا، ثم يقول:"ليس العجز بأن يدل على أن الله تعالى خلق المعجوز عنه بأولي من أن تكون القدرة التي جعلها الله تعالى دلالة على أن الله خلق المقدور عليه، لأن ماخلق الله القدرة فينا عليه فهو عليه أقدر، كما أن ماخلق فينا العلم به فهو به أعلم، وما خلق   (1) اللمع (ص: 41- 42) - مكارثي-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 فينا السمع له فهو له أسمع فإذا استوى ذلك في قدرة الله تعالى وجب إذا قدرنا الله على حركة الاكتساب أن يكون هو الخالق لها فينا كسبا لنا ... " (1) . وهذا الكلام قد يكون ظاهره أن الخلاف بين الأشعري والسلف الذين يقولون: إن الله خالق كل شيء ومن ذلك أفعال العباد، وأن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة- خلاف في العبارات والألفاظ (2) -، لكن أقوال الأشعري الأخرى مما له علاقة في الموضوع تدل على أن الخلاف ليس لفظا، ومن ذلك: أ- مسألة الاستطاعة: يري الأشعري أن الاستطاعة- التي هي قدرة العبد- لا تكون إلا مع الفعل، وليس له استطاعة قبله، وهذه الاستطاعة التي يثبتها هي التي بها يتحقق الفعل، ويبني ذلك على أن الإستطاعة والقدرة عرض، والعرض لايبقي زمانين، يقول: "فإن قال قائل: فإذا أثبتم له استطاعة هي غيره فلم زعمتم أنه يستحيل تقدمها للفعل، قيل له: زعمنا ذلك من قبل أن الفعل لا يخلو أن يكون حادثا مع الاستطاعة في حال حدوثها أو بعدها، فإن كان حادثا معها في حال حدوثها فقد صح أنها مع الفعل للفعل، وإن كان حادثا بعدها وقد دلت الدلالة على أنها لا تبقى وجب حدوث الفعل بقدرة معدومة، ولو جاز ذلك لجاز أن يحدث العجز بعدها فيكون الفعل واقعا بقدرة معدومة، ولو جاز أن يفعل في حال هو فيها عاجز بقدرة معدومة لجاز أن يفعل بعد مئة سنة من حال حدوث القدرة وإن كان عاجزا في المئة سنة كلها بقدرة عدمت من مئة سنة وهذا فاسد" (3) ، ثم يذكر لماذا القدرة لا تبقي (4) ، ويذكر بعض الأدلة على قوله (5) . وسيأتي بيان فساد القول بأن العرض لا يبقى زمانين.   (1) اللمع (ص: 43) . (2) ممن رجح ذلك الشيخ هادي طالبي في رسالته للماجستير: أبو الحسن الأشعري بين المعتزلة والسلف (ص: 114) - مطبوعة على الآلة الكاتبة-. (3) اللمع (ص:54) . (4) انظر: المصدر السابق (ص: 55) . (5) انظر: نفس المصدر (ص: 56-58) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 ب- هل القدرة مؤثرة أو لا؟: القدرة المحدثة التي أثبتها للعبد وبها يكسب أعماله، يرى الأشعري أنها غير مؤثرة كما حكى عنه الشهرستاني الذي قال:"ولم يثبت شيخنا أبو الحسن -رحمه الله- للقدرة الحادثة صلاحية أصلا، لا لجهة الوجود، ولا لصفة من صفات الوجود، فلم يلزمه التعميم والتخصيص" (1) ، وشرح ذلك في الملل والنحل فقال:" لا تأثير للقدرة الحادثة في الإحداث، لأن جهة الحدوث قضية واحدة لا تختلف بالنسبة إلى الجوهر والعرض، فلو أثرت في قضية الحدوث لأثرت في حدوث كل محدث، حتي تصلح لإحداث الألوان والطعوم والروائح، وتصلح لإحداث الجواهر والأجسام، فيؤدي إلى تجويز وقوع السماء على الأرض بالقدرة الحادثة، غير أن الله تعالى أجرى سنته بأن يحقق عقيب القدرة الحادثة أو تحتها أو معها الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرد له، ويسمي هذا الفعل كسبا، خلقا من الله تعالى إبداعا وإحداثا، وكسبا من العبد حصولا تحت قدرته" (2) ، وهذا يؤيد مافي المجرد من أنه لم يذكر مع القدرة المحدثة سوى العلم والإرادة للمكتسب، كقول ابن فورك:"وكان يقول: إن ما استحق هذه العين المكتسبة من وصف الاكتساب فلأجل تعلق القدرة المحدثة بها، واختلف جوابه في أن العين المكتسبة صارت مكتسبة بتعلق القدرة المحدثة فقط أم باقتران أوصاف أخر إليها، فدار أكثر كلامه على أن التأثير في ذلك للقدرة المحدثة، وربما قال: إنه لا بد معها من إرادة المكتسب وعلمه" (3) ، وقوله التأثير للقدرة المحدثة أي أن العين وصفت بأنها مكتسبة بتأثير القدرة المحدثة، لا أن القدرة المحدثة مؤثرة (4) ،بدليل أن ابن فورك لما ذكر قوله الثاني لم يذكر إلا أنه يقول بأن   (1) نهاية الإقدام (ص: 72) ، وانظر: أيضا (ص: 78، وص: 87) . (2) الملل والنحل (1/97) . (3) المجرد (ص: 93) .. (4) ليس المقصود بالتأثير الانفراد بالإبداع لأن هذا لله تعالى الخالق لكل شيء، وإنما المقصود أن قدرة العبد سبب وواسطة في خلق الله تعالى الفعل بهذه القدرة، ولذلك لابد من الإرادة الجازمة، ووجود القدرة وزوال المانع، انظر: مجموع الفتاوى (8/487-488) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 مع القدرة علم المكتسب وإرادته، وكما هو واضح لا علاقة لهما بالقدرة هل هي مؤثرة أو لا، يوضح ذلك قول الأشعري في اللمع:"فإن قال: فهل اكتسب الانسان الشيء على حقيقته كفرا باطلا وإيمانا حسنا؟ قيل له: هذا خطأ، وإنما معنى اكتسب الكفر أنه كفر بقوة محدثة وكذلك قولنا اكتسب الإيمان إنما معناه أنه آمن بقوة محدثة من غير أن يكون اكتسب الشي على حقيقته بل الذى فعله علي حقيقته هو رب العالمين" (1) . - تكليف مالا يطاق: صرح الأشعري بجواز تكليف مالا يطاق (2) ، ويستدل لذلك بعدة أدلة منها قصة أبي لهب ونزول السورة فيه، يقول: " ويقال لهم قد قال الله تبارك وتعالى: {تبت يدا أبي لهب وتب. ما أغنى عنه ماله ومما كسب. سيصلى نارا ذات لهب} [المسد:1- 3] وأمره مع ذلك بالإيمان، فأوجب عليه أن يعلم أنه لا يؤمن، وأن الله صادق في إخباره عنه أنه لا يؤمن، وأمره مع ذلك أن يؤمن ولا يجتمع الايمان والعلم بأنه لا يكون ولا يقدر القادر على أن يؤمن وانه يعلم أنه لا يؤمن، وإذا كان هذا هكذا فقد أمر الله سبحانه أبا لهب بما لا يقدر عليه لأنه أمره أن يؤمن وأنه يعلم أنه لا يؤمن" (3) ، والأشعري يفرق بين عدم الاستطاعة للعجز عن الشيء وعدم الاستطاعة للاشتغال بضده، فيقول:"فإن قال قائل: أليس قد كلف الله تعالى الكافر الإيمان؟ قلنا له: نعم، قال: فيستطيع الإيمان، قيل له: لو استطاعه لآمن، فإن قال: فكلفه مالا يستطيع؟ قيل له: هذا كلام على أمرين: إن أردت بقولك: إنه لا يستطيع الإيمان لعجزه عنه فلا، وان أردت أنه لا يستطيعه لتركه والاشتغال بضده فنعم" (4) ، وهذا تفصيل جيد يزيل الإشكالات الواردة حول تكليف مالا يطاق.   (1) اللمع (ص:40) . (2) انظر: المصدر السايق (ص: 68) . (3) الإبانة (ص: 195) - فوقية-. (4) اللمع (ص:58-59) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 - إنكار التعليل: يصرح الأشعري بنفي التعليل في أفعال اللهـ خلافا لأهل السنة الذين يقولون بهـ ويقول:"وأجمعوا على أنه عز وجل غير محتاج إلى شيء مما خلق، وأنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وينعم على من يشاء ويعز من يشاء، ويغفر لمن يشاء، ويغني من يشاء، وانه لا يسأل في شيء من ذلك عما يفعل، ولا لأفعاله علل، لأنه مالك غير مملوك، ولا مأمور ولا منهي، وانه يفعل ما يشاء" (1) ، ولذلك يتأول الآية الواردة في ذلك وهي قوله تعالى: {وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون} [الذاريات:56] بأن المقصود: أنه أراد بعض الجن والإنس وهم العابدون لله منهم" (2) ، أى انه عني المؤمنين دون الكافرين (3) . والآية نص في إثبات حكمة الله في خلق الجن والانس، وانه خلقهم للعبادة فهي نص في إثبات التعليل، وقول الأشعري ضعيف كما سيأتي. - التحسين والتقبيح: قال بالتحسين والتقبيح الشرعي فقط، يقول عن أهل السنة:"وأجمعوا على أن القبيح من أفعال خلقه كلها مانهاهم عنه وزجرهم عن فعله، وأن الحسن ما أمرهم به أو ندبهم إلى فعله وأباحه لهم، وقد دل الله عز وجل على ذلك بقوله: {وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7] " (4) . ولا يقبح من الله شيء،"فلا يقبح منه أن يعذب المؤمنين ويدخل الكافرين الجنان، وانما نقول: انه لا يفعل ذلك لأنه أخبرنا أنه يعاقب الكافرين وهو لا يجوز عليه الكذب في خبره" (5) ،ويعلل ذلك بأن الله هو المالك القاهر وانه لا آمر   (1) الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 77) . (2) اللمع (ص: 68) . (3) انظر: الإبانة (ص: 192) . (4) الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 78) . (5) اللمع (ص:71) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 فوقه، يقول:" والدليل على أن كل مافعله فله فعله أنه المالك القاهر الذي ليس بمملوك ولا فوقه مبيح ولا آمر ولا زاجر ولا حاظر ولا من رسم له الرسوم وحد له الحدود، فإذا كان هذا هكذا لم يقبح منه شيء إذ (1) كان الشيء انما يقبح منا لأنا تجاوزنا ماحد ورسم لنا، وأتينا مالم نملك إتيانه، فلما لم يكن الباري مملكا ولا تحت آمر لم يقبح منه شيء، فإن قال: فإنما يقبح الكذب لأنه قبحه؟ قيل له: أجل، ولو حسنه لكان حسنا ولو أمر به لم يكن عليه اعتراض (2) ، ومذهب الأشعري هذا يأتي في الطرف المقابل لمذهب المعتزلة الذين قالوا بالتحسين والتقبيح العقلي، والحق مذهب السلف وهو التفصيل. و قوله في الإيمان: صرح في الإبانة " أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص" (3) ، وفصل ذلك في الرسالة فقال:"وأجمعوا على أن الايمان يزيد يالطاعة وينقص بالمعصية، وليس نقصانه عندنا شكا فيما أمرنا بالتصديق به ولا جهلا به، لأن ذلك كفر، وإنما هو نقصان في مرتبة العلم وزيادة البيان، كما يختلف وزن طاعتنا وطاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كنا مؤدين للواجب علينا" (4) ، وقوله: إن الإيمان قول وعمل، ويزيد، وينقص هو قول أهل السنة والجماعة. ولكنه في اللمع فسره بالتصديق بالله، واحتج بإجماع أهل اللغة على أن الإيمان هو التصديق، كما احتج بقوله تعالى: {وما أنت بمؤمن لنا} [يوسف:17] أي بمصدق لنا، ويقول الناس:" فلان يؤمن بعذاب القبر والشفاعة"، ويريدون: يصدق (5) . هذا ما هو موجود في كتبه، وقد نسب اليه متأخرو الأشعرية وغيرهم   (1) في طبعة مكارثي إذا، وذكر في الحاشية أن فى إحدى النسخ إذ وهى الصواب. (2) اللمع (ص: 71) . (3) الإبانة (ص: 27) - فوقية-. (4) الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 93) . (5) انظر: اللمع (ص: 75) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 انه يقول: إنه المعرفة (1) ، كما نسبوا إليه قولا آخر؛ انه التصديق وان القول باللسان والعمل بالأركان غير داخلين فيه (2) . أما قوله في مرتكب الكبيرة فهو قول أهل السنة: انه مؤمن بأيمانه فاسق بكبيرته وانه لا يخلد في النار (3) . ز- قوله في: الشفاعة، وعذاب القبر، والحوض، والصراط، والإمامة والصحابة: وقوله فيها جميعا: هو قول السلف- رحمهم الله تعالى- كما ذكر ذلك في أواخر كتبه كلها. هذا هو أبو الحسن الأشعري الذي تنسب اليه طائفة الأشعرية ولعل ما سبق عرضه من حياته، وأطواره وعقيدته يعطي صورة واضحة نوعا ما لهذا العلم الذي تكونت من بعده مدرسة مشهورة انتسبت اليه واشتهرت باسمه. * * *   (1) انظر: المجرد (ص: 151) ، ونهاية الإقدام (ص: 472) ، والفصل لابن حزم (2/266) - ط- المحققة. (2) انظر: أصول الدين للبغدادي (ص: 248) ، والمجرد (ص 150) ، والملل والنحل للشهرستاني (1/ 101) ، ونهاية الإقدام (ص: 472) . (3) انظر: الإبانة (ص: 26) ، واللمع (ص: 75) ، والرسالة (ص: 93- 94) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 الفصل الرابع: نشأة الأشعرية وعقيدتهم المبحث الأول: أسلاف الأشعرية "الكلابيه" وموقف السلف منهم. المبحث الثاني: الماتريدية وعلاقتهم بالأشعرية. المبحث الثالث: نشأة المذهب الأشعري وانتشاره. المبحث الرابع: عقيدة الأشاعرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 المبحث الأول: أسلاف الأشعرية "الكلابية" وموقف السلف منهم ارتبطت نشأة الأشعرية بالشيخ أبي الحسن الأشعري-رحمه الله- الذي أصبح فيما بعد شيخهم عند الإطلاق، يرجعون إلى أقواله، ويحاولون السير على ما سطره في كتبه من آراء. والفصل السابق كان عن هذا الإمام وحياته وعقيدته، وفي هذا الفصل محاولة استكمال موضوع النشأة في الحديث عن الذين تأثر بهم الأشعري ثم تأثر بهم تلامذته من بعده، وأهم الطوائف التي يوجد لها صدي في عقائد الأشعرية هي: 1- المعتزلة والجهمية. 2- أهل السنة. 3- الكلابية. أما المعتزلة فلا شك أن منهجهم الكلامي والعقلي كان ذا أثر مباشر أو غير مباشر على الكلابية ثم الأشعرية، وهؤلاء وإن ردوا على المعتزلة وبينوا فساد أقوالهم الا أنهم لم يخرجوا سالمين من المعركة كما خرج أعلام السلف، بل اضطروا تحت وطأة الردود الكلامية والمناقشات العقلية أن يسلموا لهم بعض أصولهم وان يلتزموا لوازمها، وبذلك بدأت بوادر الاختلاف والانحراف في مذهبهم تبعد بهم عن مذهب السلف الخالص. أما الجهمية فهم في الصفات شيوخ المعتزلة، وفي القدر على النقيض من مذهبيهم، والأشعرية في مسألة القدر مالوا إلى مذهب الجبر. وأما أهل السنة فهم يجمعون ما عند الطوائف من حق، ويردون على الباطل الموجود عند كل طائفة، والأشعري لما رجع عن مذهب المعتزلة- وكذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 الأشعرية الذين أتبعوهـ ساروا على مذهب السلف واتبعوا منهجهم في كثير من المسائل، وقد وقفوا مع أئمة السلف في الرد على سائر الطوائف في هذه المسائل، ولا شك أن تأثرهم بأئمة أهل السنة وانتسابهم اليهم مشهور لا يحتاج إلى أدلة. أما الكلابية فهم أسلاف الأشعرية حقا، وقد اندمجوا فيهم حتي وصل الأمر- بعد انتشار مذهب الأشعرية- الى أن يطلق اسم الطائفتين على الأخرى، وإن كان الغلب في التسمية للأشعرية، ولما كانت نشأة الأشعرية ترتبط كثيرا بنشأة الكلابية كان لابد من الحديث عن أهم أعلام هذه الطائفة وأهم أقوالهم وآرائهم، أما المعتزلة والجهمية وأهل السنة فأقوالهم وآراؤهم معروفة وقد كتب عنها الكثير، ومن أهم أعلام الكلابية: ابن كلاب، والمحاسبي، والقلانسي. أولا: ابن كلاب : هو عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان البصرى، أبو محمد (1) ، ويقال: " عبد الله بن محمد (2) ، والأول أشهر، ويلقب كلابا- مثل خطاف- وزنا ومعنى، لأنه كان لقوته في المناظرة يجتذب من يناظره ويجره إليه كما يجتذب الكلاب الشيء (3) .   (1) هكذا ترجمه الذهبي في السير (11/174) ، وابن حجر في اللسان (3/290) ، وابن قاضي شهبة في الطبقات (1/33) ، وكذلك سماه الأشعري في المقالات: عبد الله بن سعيد، انظر: (ص:298) . (2) هكذا سماه ابن النديم في الفهرست (ص: 230) - ط- طهران، وذكر القولين السبكي في الطبقات (2/299) ، كما ترجمه الصفدى مرتين: مرة باسم عبد الله بن سعيد، الوافي (17/197) ، ومرة باسم عبد الله بن محمد (17/492) . (3) انظر: السير للذهبي (1/174) ، والطبقات للسبكي (2/299) ، واللسان لابن حجر (3/291) . ومما يلاحظ هنا أنه يقال له ابن كلاب وليس كلابا، مما يدل عل أن هذا اللقب ليس له وإنما لأبيه أو أحد أجداده، وهذا يجعل التحليل الذى ذكروه محل نظر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 قال عنه الذهبي:"رأس المتكلمين بالبصرة في زمانه" (1) ، وذكر ابن النديم أنه كانت له مع عباد بن سليمان- المعتزلي- مناظرات (2) ، ونقل السبكي عن والد الفخر الرازي (3) ؛ أنه قال في آخر كتابه " غاية المرام في علم الكلام":"ومن متكلمي أهل السنة في أيام المأمون عبد الله بن سعيد التميمي، الذي دمر المعتزلة في مجلس المأمون، وفضحهم ببيانه، وهو أخو يحيى بن سعيد القطان، وارث علم الحديث وصاحب الجرح والتعديل" (4) ، قال السبكي معلقا:"وكشفت عن يحيى بن سعيد القطان هل له أخ اسمه عبد الله؟ فلم أتحقق إلى الآن شيئا، وإن تحققت شيئا ألحقته إن شاء الله " (5) ، والصواب أنه ليس أخا له كما حققه ابن حجر (6) والزبيدي (7) . ولمناقشات ابن كلاب للمعتزلة ومخالفته لهم فقد اتهم بأنه ابتدع أقواله ليدس دين النصارى في ملة المسلمين، وأنه أرضي أخته النصرانية بذلك لما اعترضت على اسلامه، وقد فند هذا القول وكذبه شيخ الإسلام ابن تيمية (8) ، والذهبي (9) .   (1) السير (11/174) . (2) انظر: الفهرست (ص: 230) . (3) هو: عمر بن حسين بن الحسن الرازى، الشافعي، ضياء الدين، أبو القاسم، خطيب الري من آثاره هذا الكتاب "غاية المرام" الذي مدحه السبكي كثيرا، ذكر في هدية العارفين أنه توفي سنة 559 هـ، انظر: طبقات السبكي (7/242) ، وهدية العارفين (ص:784) ، ومعجم المؤلفين (7/282) . (4) طبقات السبكي (2/300) ، وهذا النص بتمامه في أصول الدين للبغدادى (ص: 309) ، ولعل والد الفخر الرازي نقله عنه، لأن البغدادي توفي سنة 429. (5) طبقات السبكي (2/300) . (6) في لسان الميزان (3/291) . (7) في تاج العروس مادة " كلب"، وفي إتحاف السادة المتقين (2/6) . (8) في منهاج السنة (2/397) ، ت رشاد سالم- ط الأولى-، ودرء التعارض (6/155) ، ومجموع الفتاوى (5/555،8/115) . (9) السير (11/175) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 ولم تشر المصادر إلى شيوخ ابن كلاب، أما تلامذته فأشار الذهبي إلى أن ممن قيل انه أخذ عنه الكلام: داود الظاهرى، والحارث المحاسبي، ثم ذكر الذهبي أن ابن النجار ذكر لابن كلاب ترجمة لم يحررها وأنه ذكر فيها أنه كان في أيام الجنيد (1) - سيد الطائفة الصوفية- وذكر السبكي أنه وجد بخط الذهبي حاشية على تاريخ ابن النجار كتب فيها بإزاء ما ذكره من حكاية طويلة - بين ابن كلاب والجنيد- مانصه:"لا يصح؛ فإن ابن كلاب له ذكر في زمان أحمد بن حنبل، فكيف يتم له هذا مع الجنيد" (2) ، قال السبكي مؤيدا "والأمر كما قال" (3) . ومن المعلوم ان الحنيد قد توفي سنة 298 هـ، أما ولادته فقد كانت سنة نيف وعشرين ومئتين، وأما ابن كلاب فقد توفي بعد الأربعين ومئتين (4) ، وحددها صاحب هدية العارفين بسنة 241 هـ (5) ، ومن ثم فليس مستبعدا- من الناحية التاريخية- أن يلتقي به وهو في شبابه. وقد ذكر عبد القاهر البغدادي أن من تلامذة ابن كلاب عبد العزيز المكي (6) ،   (1) انظر: السير (11/175) ، والجنيد هو: الجنيد بن محمد بن الجنيد النهاوندي البغدادي القواريرى، وملقب بالخزاز، لم أطلع على من ترجم لولادته الا الذهبي في السير فإنه ذكر أنه ولد سنة نيف وعشرين، وتوفي سنة 297 هـ وقيل سنة 298 هـ وغلط الذهبي من أرخه بسنة 297 هـ. انظر: تاريخ بغداد (7/241) ، وطبقات السلمي (ص: 155) ، والحلية (10/255) ، والأنساب (10/254) في نسب القواريري، وصفة الصفوة (2/416) ، ووفيات الأعيان (1/373) ، وسير أعلام النبلاء (14/66-77) وقد أدخل في ترجمته ترجمة الذي بعده. (2) طبقات السبكي (2/299) . (3) نفس المصدر والصفحة. (4) انظر: نفس المصدر. (5) (ص:440) . (6) ذكر ابن تيمية في درء التعارض (2/245-257) : انه لايقول بقول ابن كلاب، اسمه: عبد العزيز ابن يحيى بن عبد العزيز بن مسلم بن ميمون الكناني المكي، يعتبر أحد أصحاب الشافعي، وهو صاحب الحيدة، توفي سنة 240 هـ، انظر: تاريخ بغداد (10/449) ، وميزان الاعتدال (2/639) ، وطبقات الشيرازي (ص:103) ، وطبقات الأسنوي (1/41) ، وطبقات السبكي (2/144) ، ومقدمة تحقيق الحيدة (ص: 9) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 والحسين بن الفضل البجلى (1) ، والجنيد (2) ، وقد قرن الكلاعي-كما نقل عنه ابن عساكر- بين عبد العزيز المكي والحارث المحاسبي وابن كلاب في الزهد ومقاومة أهل البدع فقال بعد إشارته إلى محنة خلق القرآن وتورع أحمد ابن حنبل عن مجادلتهم- وانهم موهوا بذلك على الملوك: "وكان في ذلك الوقت من المتكلمين جماعة كعبد العزيز المكي والحارث المحاسبي وعبد الله بن كلاب وجماعة غيرهم وكانوا أولي زهد وتقشف لم ير واحد منهم أن يطأ لأهل البدع بساطا ولا أن يداخلهم، فكانوا يردون عليهم ويؤلفون الكتب في إدحاض حججهم إلى أن نشأ بعدهم وعاصر بعضهم بالبصرة أيام إسماعيل القاضي ببغداد أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري رضي الله عنه ... " (3) وسياق هذا الكلام جاء لبيان فضائل الأشعري وأنه صار يؤلف ويقصد أهل البدع ليناظرهم (4) ، وإلا فعبد العزيز المكي ناقش المعتزلة في مجلس المأمون وأثبت ذلك في كتابه الحيدة (5) ، وابن كلاب ذكر بعض مترجميه أنه دمر على المعتزلة في مجلس المأمون.   (1) هو: الإمام اللغوي المفسر أبو على البجلي الكوفي ثم النيسابوري توفي سنة 282 هـ، طبقات المفسرين (1/156) ، والوافي (13/27) ، وسير أعلام النبلاء (13/414) . (2) انظر: أصول الدين (ص:309) . (3) تبيين كذب المفتري (ص: 116) . (4) انظر: نفس المصدر والصفحة.. (5) هناك خلاف حول نسبة كتاب الحيدة لعبد العزيز الكناني، فيرى الذهبي في ميزان الاعتدال (2/639) أنها لم تصح نسبتها اليه وتابعه السبكي في الطبقات (2/145) ، أما الذين أثبتوا نسبته إليه فهم جماهير العلماء ومنهم: الخطيب في تاريخ بغداد (10/449) ، وابن النديم في الفهرست (ص: 236) - ط طهران-، وابن العماد في الشذرات (2/95) ، والفاسي في العقد الثمين (5/466-467) ، وابن حجر في التهذيب (6/363) ، وفي التقريب (2/513) ، وابن تيمية في درء التعارض (2/245) ، ومابعدها حيث نقل منه نصوصا، وأيضا (6/115) ، بل والذهبي في دول الإسلام (1/146) حيث قال عنه "صاحب كتاب الحيدة،، وأشار ابن الجوزي في المنتظم (8/81) الى أنه في عهد القادر بالله سنة 420 هـ اجتمع العلماء والقضاة وكان مما قرأوه المناظرة التي جرت بين الكناني والمريسي، وانظر: مقدمة تحقيق الحيدة: جميل صليبا (ص: 7 ا-23) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 أما مؤلفات ابن كلاب فقد ذكر له صاحب الفهرست: كتاب الصفات، وكتاب خلق الأفعال، وكتاب الرد على المعتزلة (1) ، أما صاحب هدية العارفين فقد ذكر له كتاب الرد على الحشوية، ولم يذكر الرد على المعتزلة (2) . وقد تقدم أن وفاة ابن كلاب كانت بعد سنة 240 هـ وحددها البعض بسنة 241 هـ. - أهم أقوال ابن كلاب: لم يصل الينا شيء مما ذكر من مؤلفات ابن كلاب، ولذلك فالاعتماد في بيان آرائه وأقواله إنما يكون بواسطة الناقلين عنه أو عن بعض كتبه، وأهم مصدر لذلك ماكتبه الأشعري في المقالات، والنتف التي نقلها شيخ الإسلام ابن تيمية عن بعض كتبه. وقد سبق- في الفصل الماضي- عند الحديث عن الأشعري ذكر أهم آراء ابن كلاب بإجمال، ويمكن تفصيل ذلك فيما يلي: أ- قوله في الأسماء والصفات: يثبت ابن كلاب الأسماء والصفات لله تعالى، يقول الأشعري: " قال عبد الله ابن كلاب: لم يزل الله تعالى عالما قادرا، حيا، سميعا، بصيرا، عزيزا، عظيما، جليلا، متكبرا، جبار ا، كريما، جوا د ا، وا حدا، صمد ا، فرد ا، باقيا، أولا، ربا، الها، مريدا، كارها، راضيا عمن علم أنه يموت مؤمنا وإن كان أكثر عمره كافرا، ساخطا على من علم أنه يموت كافرا وإن كان أكثر عمره مؤمنا، محبا، مبغضا، مواليا، معاديا، قائلا، متكلما، رحما نا، بعلم وقدرة وحياة وسمع وبصر وعزة وعظمة وجلال، وكبرياء، وجود، وكرم، وبقاء، وإرادة وكراهة، ورضي وسخط، وحب وبغض، وموالاة ومعاداة، وقول   (1) انظر: الفهرست (ص: 230) ، والسير (11/ 176) ، والوافي (17/ 492) . (2) انظر: هدية العارفين (ص:440) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 وكلام، ورحمة، وأنه قديم لم يزل بأسمائه وصفاته، وكان يقول: معنى أن الله عالم أن له علما، ومعني أنه قادر أن له قدرة، ومعنى أنه حي أن له حياة، وكذلك القول في سائر أسمائه وصفاته" (1) . كما يثبت الصفات الخبرية كالوجه واليدين والعين وقال: " أطلق اليد والعين والوجه خبرا، لأن الله أطلق ذلك، ولا أطلق غيره، فأقول: هي صفات لله عز وجل كما قال في العلم والقدرة والحياة أنها صفات" (2) . كما يثبت لله صفة الاستواء والعلو، يقول في كتاب الصفات- في باب القول في الاستواء-: " فرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو صفوة الله من خلقه، وخيرته من بريته، وأعلمهم جميعا به، يجيز السؤال بأين، ويقوله، ويستصوب قول القائل: انه في السماء، ويشهد له بالإيمان عند ذلك، وجهم بن صفوان وأصحابه لا يجيزون الأين زعموا، ويحيلون القول به، ولو كان خطأ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق بالانكار له، وكان ينبغي أن يقول لها (3) : لا تقولى ذلك فتوهمين أن الله عز وجل محدود، وأنه في مكان دون مكان، ولكن قولى إنه في كل مكان لأنه الصواب دون ما قلت، كلا لقد أجازه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع علمه بما فيه وانه أصوب الأقاويل، والأمر الذى يجب الإيمان لقائله، ومن أجله شهد لها بالإيمان حين قالته، فكيف يكون الحق في خلاف ذلك، والكتاب ناطق به وشاهد له؟ " (4) .   (1) المقالات للأشعري (ص: 169) - ط ريتر-. (2) نفس المصدر (ص: 217-218) ، وانظر: (ص: 522) ، أما" الأصابع ففي طبقات الحنابلة (2/133) اشارة الى أنه يؤولها". (3) الإشارة الى حديث الجارية التي سألها الرسول - صلى الله عليه وسلم - أين الله؟ قالت في السماء، فقال: اعتقها فإنها مؤمنة، رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ورقمه (537) ، كما رواه غيره. (4) درء التعارض (6/193-194) ، وقد نقله عن ابن فورك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 وقال ابن كلاب:" ولو لم يشهد لصحة مذهب الجماعة في هذا الفن خاصة الا ماذكرنا من هذه الأمور لكان فيه ما يكفي، كيف وقد غرس في بنيه الفطرة ومعارف الآدميين من ذلك مالا شيء أبين منه ولا أوكد؟ لأنك لا تسأل أحدا من الناس عنه، عربيا ولا عجميا، ولا مؤمنا ولا كافرا فتقول: أين ربك؟ إلا قال: في السماء إن أفصح، أو أومأ بيده أو أشار بطرفه إن كان لا يفصح، لا يشير إلى غير ذلك من أرض ولا سهل ولا جبل، ولا رأينا أحدا داعيا له إلا رافعا يديه إلى السماء، ولا وجدنا أحدا غير الجهمية يسأل عن ربه فيقول: في كل مكان كما يقولون، وهم يدعون أنهم أفضل الناس كلهم فتاهت العقول، وسقطت الأخبار، واهتدى جهم وحده وخمسون رجلا معه، نعوذ بالله من مضلات الفتن" (1) . ورد ابن كلاب على من يقول: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، فقال: " وأخرج من النظر والخبر قول من قال: لا في العالم ولا خارج منه، فنفاه نفيا مستويا، لأنه لو قيل له: صفه بالعدم ما قدر أن يقول فيه أكثر منه، ورد أخبار الله نصا، وقال في ذلك مالا يجوز في خبر ولا معقول، وزعم أن هذا هو التوحيد الخالص. والنفي الخالص عندهم هو الإثبات الخالص، وهم عند أنفسهم قياسون " (2) . وقال مجيبا على شبهتهم: " فإن قالوا: هذا إفصاح منكم بخلو الأماكن منه، وانفراد العرش به، قيل: إن كنتم تعنون خلو الأماكن من تدبيره وأنه عالم بها فلا، وإن كنتم تذهبون الى خلوها من استوائه عليها كما استوى على العرش فنحن لا نحتشم أن نقول: استوى الله على العرش، ونحتشم أن نقول: استوى على الأرض، واستوى على الجدار، وفي صدر البيت" (3) .   (1) درء التعارض (6/194) . (2) المصدر السابق (6/119) . (3) نفس المصدر (6/119-. 12) ، ويرى ابن كلاب ان استواء الله كونه فوق العرش بلا مماسة، انظر: أصول الدين (ص: 113) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 كما يذكر مناقشات أخرى لنفاة العلو (1) . ب- صفات الفعل: مع أن ابن كلاب يثبت الأسماء والصفات كما سبق الا أنه ينفي منها ما يتعلق بمشيئة الله وإرادته، بناء على نفي حلول الحوادث بذات الله تعالى، وهو بهذا قد وافق المعتزلة على هذا الأصل المقرر عندهم المبني على دليل حدوث الأجسام وهو أن من قامت به الحوادث لا يخلو منها، فنفوا جميع الصفات عن الله تعالى بناء على ذلك، أما ابن كلاب فقد خالفهم فأثبت لله الصفات الذاتية والمعنوية وجعلها أزلية (2) ، ونفي الصفات الاختيارية لموافقته لهم على هذا الأصل، ويمكن عرض مذهبه وبيان الأدلة على أنه يقول بهذا الأصل، من خلال ما يلي: 1- قوله بأزلية الصفات كلها دون أن يفرق بين صفات الذات وصفات الفعل، فيجعل صفات الرضي والسخط والمحبة والكرم والجود أزلية كالسمع والبصر والحياة، حتى لا يفهم منها ما يدل على الصفات الاختيارية له تعالى (3) . 2- قوله بالموافاة: وأنه اللة لم يزل راضيا عمن يعلم أنه يموت مؤمنا، وإن كان أكثر عمره كافرا، ساخطا على من يعلم أنه يموت كافرا وإن كان أكثر عمره مؤمنا (4) ، ومعنى ذلك أن الله لا يرضي عن المؤمن- الذى كان كافرا- بعد سخطه عليه لئلا يقال: إن الله حدث له أمر لم يكن موجودا من قبل. 3- انه حين أثبت العلو والاستواء ربطهما بما يدل على أنه يقول بنفي   (1) انظر: أصول الدين (6/120) ومابعدها. (2) المعتزلة جعلوا الصفات كلها أعراضا ونفوها، أما ابن كلاب فلم يسمها أعراضا وأثبتها أزلية لله، انظر: مجموع الفتاوي (6/36) . (3) انظر: المقالات (ص: 169، 546، 584) . (4) نفس المصدر (ص: 298،547) ، وانظر: المجرد لابن فورك (ص: 45) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 صفات الفعل لله تعالى كما يشاء، يقول الأشعري عن ابن كلاب:"وكان ويزعم أن الباري لم يزل ولا مكان ولا زمان قبل الخلق، وأنه على مالم يزل، وأنه مستو على عرشه كما قال، وأنه فوق كل شيء تعالى" (1) ، ولو أخذت العبارات الأولى لتوهم أن ابن كلاب ينفي العلو والاستواء لنفيه الزمان والمكان قبل الخلق وانه بعد الخلق على مالم يزل، لكن إثباته للإستواء والعلو ففي هذا التوهم، ولكن من مجموع الكلام يتضح مذهبه في نفي أن تكون لله صفة اختيارية. 4- نفيه لبعض صفات الفعل أن تكون من هذا النوع، يقول الأشعري: "وقال ابن كلاب: الوصف لله بأنه كريم ليس من صفات الفعل" (2) ، ولا شك أن الله كريم أزلا، لكن أيضا يتكرم على عباده بما يشاء كما يشاء متى شاء فهو أيضا صفة فعل. 5- جعله ولاية الله وعداوته ورضاه وسخطه من صفات الذات لا من صفات الفعل (3) ، وهذا معنى قوله: إنها أزلية. 6- قوله في مسألة الكلام، وجعله مثل صفة العلم والقدرة، يقول الأشعري: " وقال ابن كلاب: ان الله لم يزل متكلما، والكلام من صفات النفس كالعلم والقدرة" (4) ، ويقول:"إن كلامه قائم به كما أن العلم قائم به، والقدرة قائمة به" (5) . ومن خلال الأدلة والنقول السابقة عن ابن كلاب يتبين أن ابن كلاب- مع مخالفته للمعتزلة- قد التزم هذا الأصل وقال به، وهذا ما لم يمار فيه أحد من الباحثين (6) .   (1) المقالات (ص:298- 299) . (2) نفس المصدر (ص: 179) . (3) نفسه (ص: 582) . (4) نفسه (ص:517) . (5) نفسه (ص: 584) . (6) انظر: نشأة الفكر الفلسفي للنشار (1/217) ، ونشأة الأشعرية وتطورها (ص:42) وما بعدها، ورسالة: الكلابية وأثرها في المدرسة الأشعرية (ص: 87) - ط على الآلة الكاتبة-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 هذه أهم مسألة تميز بها مذهب ابن كلاب، وقد تلقاها عنه تلاميذه كما تلقاها بعد ذلك الأشاعرة وصارت جزءا من مذهبهم، وقد كانت من أهم الأسباب في موقف علماء السلف من الكلابية ورميهم بالابتداع والأمر بهجرهم، كما كانت أيضا من أهم الأسباب في عدم قبول مذهب الأشعرية والطعن فيه من جانب علماء السلف. ج- قوله في الكلام والقرآن: بنى ابن كلاب قوله على الكلام والقرآن فى نفي الصفات الاختيارية لئلا يقال: إن الله تعالى تحل فيه الحوادث، لذلك قال بأزلية الكلام وأنه قائم بالله كالعلم والقدرة، وأنه ليس بحروف ولا أصوات ولا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتغاير، وأنه معنى واحد، وأن القرآن الذى يتلى هو حكاية عن كلام الله مع قوله: إن القرآن غير مخلوق، يقول الأشعري مفصلا مذهبه في ذلك: "قال عبد الله بن كلاب: إن الله سبحانه لم يزل متكلما، وأن كلام الله سبحانه صفة له قائمة به، وأنه قديم بكلامه، وأن كلامه قائم به، كما أن العلم قائم به، والقدرة قائمة به، وهو قديم بعلمه وقدرته، وأن الكلام ليس بحروف ولا صوت، ولا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتغاير، وأنه معني واحد بالله عز وجل، وأن الرسم هو الحروف المتغايرة، وهو قراءة القرآن، وأنه خطأ أن يقال: كلام الله هو هو أو بعضه أو غيره، وأن العبارات عن كلام الله سبحانه تختلف وتتغاير، وكلام الله سبحانه ليس بمختلف ولا متغاير، كما أن ذكرنا لله عز وجل يختلف ويتغاير، والمذكور لا يختلف ولا يتغاير، وانما سمى كلام الله سبحانه عربيا لأن الرسم الذى هو العبارة عنه (1) - وهو قراءتهـ عربي، فسمى عربيا لعلة، وكذلك سمى عبرانيا لعلة، وهي أن الرسم الذي هو   (1) المشهور أن ابن كلاب يقول عن القرآن: إنه حكاية عن كلام الله، وأن الأشعري منع من ذلك وقال: هو عبارة عن كلام الله، انظر: المجرد لابن فورك (ص: 60) ، ومجموع الفتاوي (12/272) ، والتسعينية (ص: 87) ، ومختصر الصواعق (2/290) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 عبارة عنه عبراني، وكذلك سمى أمرا لعلة وسمى نهيا لعلة، وخبرا لعلة، ولم يزل الله متكلما قبل أن يسمى كلامه أمرا وقبل وجود العلة التي لها سمى كلامه أمرا، وكذلك القول في تسمية كلامه نهيا وخبرا، وأنكر أن يكون الباري لم يزل مخبرا أو لم يزل ناهيا، وقال: إن الله لا يخلق شيئا إلا قال له كن، ويستحيل أن يكون قوله كن مخلوقا" (1) . وهذا النص الطويل يوضح كيف كان مذهب ابن كلاب في هذه المسألة العظيمة- مسألة كلام الله والقرآن- منحرفا عن مذهب السلف، وكيف تأثر به الأشعرية فيما بعد، مع ملاحظة الفرق بينه وبينهم في هذه المسألة فإنه قال هنا: " ولم يزل الله متكلما قبل أن يسمي كلامه أمرا وقبل وجود العلة التي لها سمي كلامه أمرا ... الخ، فهو يقول: إن كلام الله لا يتصف بالأمر والنهي والخبر في الأزل، وان هذه الأمور حادثة مع قدم الكلام، أما الأشعرية فيقولون بأزلية الكلام النفسي وكذلك وصفه بكونه أمرا أو نهيا أو خبرا كل ذلك أزلى، وقد أشار السبكي الى هذه المسألة في ترجمته لابن كلاب فقال:" ثم زاد هو وأبو العباس القلانسي على سائر أهل السنة فذهبا الى أن كلامه تعالى لا يتصف بالأمر والنهي والخبر في الأزل؛ لحدوث هذه الأمور وقدم الكلام النفسي، وإنما يتصف بذلك فيما لا يزال فألزمهما أئمتنا أن يكون القدر المشترك موجودا بغير واحد من خصوصياته" (2) ، ويقصد السبكي بأهل السنة الأشعرية. وابن كلاب يقول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق (3) ويرد على المعتزلة في ذلك، لكنه ينكر أن يتكلم الله بصوت، كما يقول: إن كلام الله معني واحد قائم بذات الله تعالى، و "ان ما نسمع التالين يتلونه هو عبارة عن كلام الله عز وجل، وان موسى عليه السلام سمع الله متكلما بكلامه، وأن معنى قوله:   (1) المقالات (ص: 584- 585) . (2) طبقات السبكي (2/300) ، وانظر: أصرل الدين للبغدادى (ص: 108) ، والإرشاد للجويني (ص:119-120) ، ونهاية الإقدام (ص: 303-4 30) ، والمجرد (ص: 328) . (3) المقالات (ص: 298) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 {فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6]- معناه: حتى يفهم كلام الله ويحتمل على مذهبه أن يكون معناه حتي يسمع التالين يتلونه " (1) ، ولا شك أن إنكاره أن كلام الله بصوت، قوله إنه معنى واحد، وان القرآن عبارة عن كلام الله، كل ذلك مما أحدثه ابن كلاب وهو مخالف لمذهب السلف. وهذه المسألة- مسألة كلام اللهـ مرتبطة بالمسألة السابقة مسألة الصفات الاختيارية وبسببهما أعلن السلف البراءة من مذهبهم هذا، وهجروهم ونسبوهم إلى الاعتزال والابتداع. د- رأيه في أحكام الصفات: يقصد بأحكام الصفات ما يتعلق بها من أمور كالقدم وهل الصفة هي الذات أو غيرها، وهل هي متغايرة أم لا؟: 1- يرى ابن كلاب أنه لا ينبغي أن يقال عن صفات الله وحدها إنها قديمة، وإنما يقال: الله بصفاته قديم (2) ، وابن كلاب أراد الهرب من القول بتعدد القدماء مع الله حين يطلق على كل صفة لوحدها أنها قديمة، وهذا يبين وجه التهمة التي اتهمه بها خصومه من انه يدعو إلى النصرانية سرا، فنفاة الصفات اتهموه بذلك لإثباته الصفات لله، وهذا كذب عليه كما سبق. 2- كما يرى أن الصفات والأسماء لا يقال هي الله ولا هي غيره وانها قائمة بالله تعالى (3) ، وهذا القول موافق لمذهب السلف لأن إطلاق أحد الأمرين يحتمل معنى باطلا، ومن ثم فلابد من الاستفصال (4) . 3- أما مسألة كل صفة وهل هي الصفة الأخرى أو غيرها فيرى ابن كلاب "أن صفات الباري لا تتغاير، وأن العلم لا هو القدرة ولا غيرها،   (1) المقالات (ص:585) . (2) انظر: منهاج السنة (2/391) - ت رشاد سالم- ط الأولى. (3) المقالات (ص: 169 وص: 546) . (4) انظر: درء التعارض (2/270) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 وكذلك كل صفة من صفات الذات لاهي الصفة الأخرى ولا غيرها" (1) ، وهذا قول موهم، فابن كلاب وان قصد بهذا ماقصده في الفقرة السابقة من أن الصفات لا يقال هي الله ولا غيره حتي لا يتعدد القدماء، الا أنه بقوله: إنه لا يقال الصفة هي الأخرى ولا غيرها يقرب قليلا من أقوال النفاة الذين يرجعون صفات الله كلها إلى صفة واحدة كالعلم أو الإرادة، ولهذا لما نقل الأشعري مقالة أبي الهذيل العلاف المعتزلي في هذه المسألة قال: " وأما أبو الهذيل من المعتزلة فإنه أثبت العزة والعظمة والجلال والكبرياء، وكذلك في سائر الصفات التي يوصف بها لنفسه وقال: هي الباريء، كما قال في العلم والقدرة، فإذا قيل له: العلم هو القدرة؟ قال: خطأ أن يقال هو القدرة، وخطأ أن يقال هو غير القدرة، وهذا نحو ما أنكر من قول عبد الله بن كلاب" (2) . والشاهد من هذا عبارة الأشعري الأخيرة. هـ- الرؤية: يثبت ابن كلاب الرؤية كما أثبتها أهل السنة (3) ، ويبني ذلك على أن كل قائم بنفسه يرى (4) ، وابن كلاب يثبت العلو والاستواء ولذلك لا يرد على إثباته للرؤية ما ورد على متأخري الأشعرية الذين أثبتوا الرؤية ونفوا العلو والاستواء (5) . و القضاء والقدر: ذكر الأشعري أن ابن كلاب يقول فيه بقول أهل السنة وهو اثبات القدر   (1) المقالات (ص: 170 وانظر: ص 546) . (2) انظر: المصدر السابق (ص: 177) . (3) المصدر نفسه (ص:298 مع ص 292) . (4) انظر: المجرد لابن فورك (ص: 333) ، وأصول الدين للبغدادي (ص: 97) ، ومنهاج السنة (3/254) - ت رشاد سالم-. (5) انظر: الكلابية وأثرها في المدرسة الأشعرية (ص: 222) وما بعدها، والعجيب أن الباحث حرص على أن يقول إن ابن كلاب لا يقول بالجهة ليكون موافقا لمتأخري الأشعرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 من الله تعالى، لكن سياق الأشعري لمذهب أهل السنة في القدر ليس دقيقا (1) ، وقد أوضح البغدادي جانبا من مذهب ابن كلاب في القدر فقال:"قال شيخنا أبو محمد عبد الله بن سعيد: أقول في الجملة: إن الله أراد حدوث الحوادث كلها خيرها وشرها، ولا أقول في التفصيل: انه أراد المعاصي وان كانت من جملة الحوادث التي أراد حدوثها، كما أقول في الجملة عند الدعاء: ياخالق الأجسام ولا أقول في الدعاء يا خالق القرود والخنازير والدم والنجاسات، وان كان هو الخالق لهذه الأشياء كلها" (2) ، وهذا موافق لقول أهل السنة. أما مسألة الكسب فلم تذكر المصادر أن له كلاما فيه، والمشهور أن هذه المسألة مما أحدثه وقال به الأشعري من بعد. ز- الإيمان: أول مسائل الإيمان تعريفه، ويذهب ابن كلاب إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان والمعرفة، يقول البغدادي: " وكان عبد الله بن سعيد يقول: ان الإيمان هو الإقرار بالله عز وجل وبكتبه وبرسله إذا كان ذلك عن معرفة وتصديق بالقلب، فإن خلا الإقرار عن المعرفة بصحته لم يكن إيمانا" (3) ، ويقول السبكي مبينا رأي ابن كلاب وأنه لا يخالف قول الأشعرية انه التصديق: " انه إقرار باللسان والمعرفة وهذا المذهب يعزي إلأى عبد الله بن سعيد بن كلاب، وكان من أهل السنة والجماعة على الجملة، وله طول الذيل في علم الكلام وحسن النظر، ولم يتضح لي بعد شدة البحث انفصال مذهبه عن مذهب القائلين بأنه التصديق، فإن الإقرار باللسان والمعرفة يستدعي سبق المعرفة ... " (4) ،   (1) لأنه لما ذكر عموم مشيئة الله تعالى قال:"وقالوا ان أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله، وهذه حكاية عنهم بحسب ما يعتقده هو وليس مذهبا لهم. (2) أصول الدين (ص: 104) . (3) أصول الدين (ص: 149) . (4) طبقات السبكي (1/95) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 والسبكي يريد أن لا يجعل ابن كلاب مخالفا لجمهور الأشعرية، وهناك فرق بين من يجعل الإيمان هو التصديق فقط ومن يضيف إليه الإقرار باللسان، كما أن هناك فرقا بين مذهب هؤلاء ومذهب السلف الذين يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان. ويرى ابن كلاب-كما يرى جمهور أهل السنة- صحة إيمان المقلد وأنه يحكم له بالإسلام (1) ، وكذلك مذهبه في مرتكب الكبيرة (2) . هذه أهم آراء وأقوال ابن كلاب كان المصدر في عرضها الكتب الناقلة لمذهبه سوى بعض النصوص القليلة من كتبه في اثبات العلو والاستواء، وبها يتبين كيف كان ابن كلاب شيخا للأشعري، وأن المسائل الكبرى التي ميزت المذهب الأشعري- كمسألة الصفات الاختيارية والكلام- قد سبقهم إليها ابن كلاب، وهذا يفسر جانبا من جوانب نشأة المذهب الأشعري، تسبق وجود أبي الحسن نفسه. وليس هذا في مذهب ابن كلاب نفسه، بل في مدرسته التى سار على طريقه فيها علماء آخرون، كالمحاسبي والقلانسي وغيرهما. ثانيا: الحارث المحاسبي : أ- ترجمته: هو الحارث بن أسد المحاسبي البغدادي (3) ، أبو عبد الله، ولد بالبصرة ولكنه انتقل إلى بغداد وعاش فيها، وكانت ولادته سنة 165 هـ تقرييا، أما وفاته فقد كانت سنة 243 هـ.   (1) انظر: أصول الدين (ص: 254) . (2) انظر: المقالات (ص: 298 مع ص: 293) . (3) انظر: في ترجمته: طبقات الصوفية (ص: 56) ، والحلية (10/73) ، وتاريخ بغداد (8/211) ، والرسالة القشيرية (1/78) ، والأنساب (12/103) ، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/8) ، والكامل (7/84) ، وميزان الاعتدال (1/430) ، والسير للذهبي (12/110) ، ووفيات الأعيان (2/57) ، والوافي (11/257) ، وطبقات السبكى (2/275) ، وتهذب الكمال للمزى (5/208) - المطبوعة- وتهذيب التهذيب (2/134) ، والبداية والنهاية (10/330- 331،345) ، والطبقات الكبرى للشعراني (1/64) وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 وقد حظى المحاسبي- نظرا لاشتهاره بالتصوف- بترجمات عديدة في كتب الرجال والتراجم والطبقات (1) ،كما أفردت عنه دراسات (2) ، وهذا ما لم يحظ به ابن كلاب والقلانسي وغيرهما من الكلابية. ويمكن الإشارة إلى لمحات في حياته: 1- كان أبوه رجلا موسرا، ولكنه لم يكن على وفاق مع ابنه في المذهب الكلابي، والمشهور أن أباه كان قدريا يقول بقول المعتزلة في القدر (3) ، وقيل بل كان واقفيا (4) ، أي يتوقف في مسألة القرآن فلا يقول: هو مخلوق ولا غير مخلوق، وشذ السبكي فقال: إن أباه كان رافضيا (5) ، وكان من آثار ذلك ما ورد من قصة الحارث معه حين دعاه أمام الناس إلى أن يطلق أمه، وكذلك لما توفى لم يأخذ من تركته شيئا لهذا السبب، وقد كان مبعث هذا أنه يرى كفر المعتزلة. 2- كان المحاسبي ذا صلة بأهل الحديث، وقد روى عن جماعة منهم (6) ، والظاهر أنه انصرف عن ذلك بانشغاله في التصوف والتأليف فيه، ومع ذلك فقد ترجم في كتب الرجال، وقال فيه الذهبي: " صدوق في نفسه   (1) كما سجل هو نفسه عرضا مختصرا لأحواله قبل سلوكه طريق التصرف، انظر الوصايا (ص: 59-64) . (2) منها دراسة لعبد الحليم محمود بعنوان: أستاذ السائرين، ولم تكن ترجمة بقدر ماكانت دعوة الى التصوف على طريقته في مؤلفاته، ومنها دراسة حسين القوتلي في مقدمته لتحقيق كتاب المحاسبي العقل وفهم القرآن، وهي دراسة جيدة وعميقة وان كانت لا تخلو من ملاحظات عليها. (3) انظر: الرسالة للقشيري (1/78) ، والوفيات (2/57) ، والتعرف للكلاباذي (ص: 147) . (4) انظر: تاريخ بغداد (8/241) ، والوافي (11/257) ، والسير (12/1102) . (5) انظر: الطبقات (2/277) . (6) انظر: تهذيب المزى (5/218) ، وتهذيب التهذيب (2/134) ، ومقدمة تحقيق العقل وفهم القرآن (ص: 13-18) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 وقد نقموا عليه بعض تصوفه وتصانيفه" (1) ،وقال فيه ابن حجر"مقبول" (2) وليست له رواية عن أحد من أصحاب الكتب الستة. 3- كان معارضا للفرق المنحرفة في عصره وخاصة المعتزلة والرافضة، والجهمية، والخوارج والمرجئة (3) ، وأشد مواقفه ماكان مع المعتزلة، وقد رد عليها طويلا في كتابه (فهم القرآن) ، كما لم تخل كتبه الصوفية من فضح لأحوالهم وغرورهم، ومن ذلك قوله فيهم:" فرقة ضالة مضلة، لا تفطن لضلالتها، لاتساعها في الحجاج، ومعرفتها بدقائق مذاهب الكلام، وحسن العبارة بالرد على من خالفها، فهم عند أنفسهم من القائلين على الله عز وجل بالحق، والرادين لكل ضلالة، لا أحد أعلم منهم بالله، ولا أولى به منهم، وكل الأمم ضالة سواهم، وان الله عز وجل لا يعذب مثلهم، بل لاينجو أحد في زمانهم غيرهم، وغيرهم من المغترين يدعي ذلك وينتحله، ويشهد عليهم بالاكفار. فهم فرق كثيرة كفر بعضها بعضا، وكل فرقة منها مغترة، لاترى أن أحدا يقول عليه بالحق غيرها" (4) ، والمحاسبي الذى يقول هذا الكلام ممن عاصر محنة القول بخلق القرآن، من أولها الى نهايتها، فهو خبير بأحوالهم، ولذلك لم يوافق على القول بخلق القرآن، إن لم ينله فيها ما نال أئمة أهل السنة من المحنة (5) . 4- ترك المحاسبي مجموعة من المؤلفات، وغالبها ذو صبغة صوفية، ولذلك عني بنشرها من لهم اهتمام بهذا الشأن، ومن كتبه:   (1) ميزان الإعتدال (1/130) . (2) التقريب (1/139) . (3) انظر: الرعاية للمحاسبي (ص: 97) ، والمكاسب (ص:108-109) ، وفهم القرآن (ص: 333) . (4) الرعاية (ص: 358) . (5) وقد تساءل هذا التساؤل عبد القادر عطا. انظر مقدمة تحقيق آداب النفوس (ص: 13) ، والمكاسب (ص: 13) ، وقد أجاب عن ذلك بأن العداء الذي وقع بينه وبين الإمام أحمد جعل السلطة ترى أنه لا خطر من المحاسبى، ويمكن أن يضاف الى هذا أن المحاسبي كان كلابيا يميل الى النفي لبعض الصفات وهذا قربه من المعتزلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 - رسالة المسترشدين، حققها عبد الفتاح أبو غدة. - الرعاية لحقوق الله عز وجل، طبع عدة مرات آخرها بتحقيق عبد القادر عطا - المسائل في الزهد. - المسائل في أعمال القلوب والجوارح. - المكاسب [طبع بتحقيق محمد عثمان الخشت باسم الرزق الحلال] . - العقل، وهذه الأربعة نشرها جميعا عبد القادر عطا، ثم طبع المكاسب مستقلا، كما طبع الزهد بتحقيق مصطفى عبد القادر عطا. - التوبة، تحقيق عبد القادر عطا. - النفوس، طبع بتحقيق عبد القادر عطا. - النصائح الدينية، طبع باسم الوصايا، تحقيق عبد القادر عطا. - القصد والرجوع الى الله، طبع مع الكتاب السابق. - من أناب إلى الله، طبع مع كتاب الوصايا. - الصلاة- طبع مع كتاب الوصايا، كما طبع بتحقيق " محمد عثمان الخشت" - التوهم، طبع عدة مرات، ومنها طبعة مكتبة النهضة الإسلامية طبعة دار الوعي بحلب، وبتحقيق عبد القادر عطا مع مجموع" الوصايا" - فهم القرآن، طبع مع كتاب العقل بتحقيق شكرى القوتلي. - كتاب العلم، طبع تحقيق محمد المعابد مزالي. - البعث والنشور، طبع بتحقيق محمد عيسى رضوان. - معاتبة النفس، طبع مع الكتاب السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 وكتاب فهم القرآن هو الذي يحوي بعض آراء المحاسبي الكلامية، وعليه اعتمد شيخ الإسلام ابن تيمية في نقل أقواله (1) . 5- وأبرز قضية في حياة المحاسبي هجر الإمام أحمد له، وأمره الناس بهجره حتى انه لما مات لم يصل عليه إلا أربعة نفر، وقل من يترجم له إلا ويتعرض لهذه المسألة، ومن أهم أسباب ذلك دخوله في علم الكلام وموافقته لبعض أقوالهم وكلامه في التصوف. مذهب الحارث وأقواله: يعتبر الحارث من متقدمي أهل الكلام الذين عاصروا أئمة أهل السنة، ووقفوا معهم ضد كثير من أقوال المعتزلة وخاصة في مسائل القرآن وأنه غير مخلوق، والقدر والوعد والوعيد، كما وقفوا معهم ضد الطوائف الأخرى المنحرفة، ولذلك فالمحاسبي ومن في طبقته أكثر إثباتا وأحسن اتباعا ممن جاء بعدهم كالأشعري وطبقته. ولكن مع موافقته لأهل السنة في ذلك إلا أن في أقواله ما يخالف منهجهم من جانبين، أحدهما: التصوف، والآخر: آراؤه في العقيدة، وفي كل من الجانبين كان المحاسبي شيخا للأشعرية كما يقول البغدادي (2) . - التصوف عند المحاسبي: أما الجانب الأول فقد كان المحاسبى أحد رواده الكبار، الذين كونوا مدرسة كبرى ربطت بين الكلام والتصوف فيما بعد. وهذا من أبرز ماطرأ على المذهب الأشعري من تطور-كما سيأتي إن شاء اللهـ.   (1) انظر: درء التعارض (2/45) ، فقد نقل منه نصوصا، كما أشار إليه في مجموع الفتاوي (5/557) . (2) يقول البغدادي في أصول الدين (ص: 208-209) " وعلى كتب الحارت ابن أسد في الكلام والفقه والحديث معول متكلمي أصحابنا وفقهائهم وصوفيتهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 وحتى تتضح الصورة بالنسبة لتصوفه لابد من الإشارة إلى ما يلي: 1- أن تصوف المحاسبي لم يكن كتصوف غيره في الغلو والانحراف، بل كان كثيرا ما يشير إلى وجوب الالتزام بالكتاب والسنة، ومتابعة الشرع، وإذا كان المحاسبي يركز على أعمال القلوب وخطرات النفوس، ومسائل تتعلق ببواطن الأعمال ومقاصد الإنسان فيها كالنية، والمراقبة، والتوكل، والتيقظ، والعجب، والرياء، والحسد وغيرها- ويطيل الكلام في كل واحدة منها بما ير اه من وسائل إصلاح النفس- الا أنه يأمر مع ذلك باتباع الشرع بفعل الأوامر واجتناب النواهي، يقول في آداب النفوس:"ثم اعلم يا أخي أن الله جل ذكره قد افترض فرائض ظاهرة وباطنة، وشرع لك شرائع، دلك عليها، وأمرك بها، ووعدك على حسن أدائها جزيل الثواب، وأوعدك على تضييعها أليم العقاب رحمة لك، وحذرك نفسه شفقة منه عليك، فقم يا أخي بفرائضه، والزم شرائعه، ووافق سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، واتبع آثار أصحاب نبيه والزم سيرتهم، وتأدب بآدابهم واسلك طريقهم ... " (1) ويقول عن أول منزلة من الرعاية لحقوق الله عز وجل أنها: "الرعاية عند الخطرات، بعد اعتقاد جمل حقوق الله تعالى، فلا تخطر بقلبه خطرة من أعمال قلبه الا جعل الكتاب والسنة دليلين عليها، فلم يقبلها باعتقاد الضمير، ولا يتركها يسكن قلبه في مجال الفكر من التمني وغيره، الا أن يشهد له العلم أن الله تعالى قد أمر بها وندب إليها أو أذن فيها بأسبابها وعللها ووقتها وإرادته فيها؛ فإنه قد يقبل الخطرة يرى أنها داعية الى سنة وهي بدعة، وقد يرى أنها داعية إلى طاعة وهي معصية، وقد يرى أنها داعية إلى خير وهي شر ... " (2) وكثيرا ما يذكر الأدلة على بعض الأمور التي يذكرها من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة (3) .   (1) آداب النفوس (ص: 38) . (2) الرعاية (ص: 96) . (3) انظر: رسالة المسترشدين (ص: 36) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 ولذلك شنع المحاسبي على بعض متصوفة عصره وانحرافاتهم، فذكر أنواعا من غرورهم بما عندهم وعدم مطابقة أقوالهم وقال بعد كلام طويل عنهم:"وإنما أطلت الوصف في هذه الفرقة لأنها عظيمة غرتها، قد غلب ذلك على كثير ممن يتعبد ويرى أنه من النساك العاملين لله عز وجل" (1) ،كما يرد على الذين يقعد بهم توكلهم الى التواكل وترك الكسب والعمل مثل شقيق البلخي الذي زعم أن الحركة في الكسب معصية (2) ، بل-رد على من زعم أن القعود وترك العمل أفضل من الحركة، ويفصل رده عليهم من وجوه (3) ، ثم يعرض لأقوال العلماء في مسائل عملية كثر الجدال حولها مثل الورع وحده، والعزلة عن الناس ومجانبتهم، والشبهة ومعناها، وجوائز السلطان، وغير ذلك (4) ، وقد عرض لهذه المسائل بشكل جيد، كما رد على بعض الصوفية الذين يبيحون لأنفسهم بعض المحرمات مثل النظر المحرم ويرد حججهم الباطلة (5) ،كمايرد على بعض الصوفية الذين يقولون بإيمان فرعون (6) . 2- يركز المحاسبي على مسألة " العقل"، وله كتاب في ذلك، وهو وإن كان يميل إلى أقوال أهل الكلام إلا أنه يركز في مسألة " العقل" على ربطه بأعمال القلوب وأن الذى عقل عن ربه هو الذى يخافه ويعظمه، ولذلك ذكر معاني العقل الواردة فيه وهي: أ- انه " غريزة جعلها الله عز وجل في الممتحنين من عباده، أقام به على البالغين للحلم الحجة ... " (7) .   (1) انظر: الرعاية (ص: 455) . (2) انظر: الكسب (ص: 61) . (3) انظر: المصدر السابق (ص: 64) . (4) انظر: الكسب (ص: 68) وما بعدها. (5) انظر: المسائل في أعمال القلوب والجوارح (ص: 163) . (6) انظر: فهم القرآن (ص: 336) . (7) العقل مطبوع مع فهم القرآن (ص: 203) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 ب- والمعنى الثاني: أنه "الفهم لإصابة المعنى، وهو البيان لكل ماسمع من الدنيا والدين أو مس أو ذاق أو شم، فسماه الخلق عقلا، وسموا فاعله عاقل" (1) . ج- والمعنى الثالث: هو البصيرة والمعرفة بتعظيم قدر الأشياء النافعة والضارة في الدنيا والآخرة، ومنه العقل عن الله تعالى" (2) ويستمر في شرح ذلك مركزا على جوانب من أحوال النفس وخطراتها من الخوف واليقين، وحسن البصر بدين الله، وما يتعلق بذلك. فالمحاسبي بهذا التركيز على هذه الجوانب دون غيرها مما يتعلق بأمور العقيدة والإيمان، ومعرفة سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأحكام الشريعة، انما يفتح الطريق لمنهج سلوكي صوفي قد لايقف عند حد معين. 3- أدى التصوف بالمحاسبي الى أن تكون له مواقف من علماء عصره من أهل الحديث والفقه ينعي فيها اهتمامهم بهذه الأمور وتركيزهم عليها، يقول عنهم:"فأما المغترون بالعلم فهم فرق شتى على قدر منازلهم فيه، فمنهم: فرقة تغتر بكثرة الرواية وحسن الحفظ مع تضييع واجب حق الله عز وجل، وتخيل نفس أحدهم اليه وعدوه أن مثله لا يعذب لأنه من العلماء دائمة العباد الحافظين على المسلمين علمهم ... والفرقة الثانية: يغتر أحدهم بالفقه في العلم بالحلال والحرام، وبالبصر في الفتيا والقضاء، فهو يغتر كغرة الحافظ للعلم وأعظم منه غرة حتي لا يرى أن أحدا أعلم بالله عز وجل منه لأنه قد علم الحلال والحرام والفتيا والقضاء000" (3) ، وإذا كان في عصر المحاسبي قد يوجد من تكون فيه مثل هذه الصفات التي ذكرها إلا أن ما يعترض عليه أسلوبه في العرض حين يقول بعد كلامه حول طرق نفي الاغترار عند أهل الحديث: "فإذا ألزم قلبه ذلك انتفت عنه الغرة بما حفظ من العلم، واهتم بطلب معانيه والتفكر فيه والقيام   (1) العقل مطبوع مع فهم القرآن (ص: 208) . (2) المصدر نفسه (ص:210) . (3) الرعاية (ص:441-445) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 به، فلم يغتر بما حفظ، وعد نفسه جاهلا بالعلم بعد حفظه له، وأسوأ حالا ممن لم يحفظه ولم يدرسه ولم يروه" (1) . فالمحاسبي بهذا الكلام إنما يرسم منهجا ارتضاه وينتقد من خالفه، ولو كان من أهل الحديث والسنة، ولاشك أن هؤلاء هم الذين حفظوا للأمة الحديث النبوى وميزوا صحيحه من ضعيفه، وفي هذا من الجهاد والطاعة والعمل الصالح والتقرب إلى الله عز وجل والمنزلة عنده مالا يبلغه زهد الزاهدين وعزلتهم. وقد عاب المحاسبي في كتاب العلم من يهتم بالفقه ومعرفة الحلال والحرام فيما يتنازع الناس فيه فقال:"أما ما تولد من ذلك [أى من أحكام الحلال والحرام] لتنازع الناس وتجاذبهم للدنيا فقد يستغنى عنه بعض الناس إذا قام به الغير، وقد يكون الرجل في جميع عمره لا تنوبه مسألة من بعض تلك المسائل" (2) ، ثم بعرضه منهجه ونقده لهم بقوله:"فلو أن رجلا تبحر في نحو هذه المسائل وغاص في فنونها فقيل له: ما النية؟ وما عزيمتها؟ وأى شيء محلها من القلب؟ وماذا يدخل عليها من الفساد من قبل النفس ومن قبل العدو؟ أو قيل له: ما الورع؟ عجز عن جوابه، فللورع منازل يحتاج إلى معرفتها، فهذه أصول من أصول الدين التي يحدث فيها عند منازعة النفس وادخالها فها ماليس ينبغي أن يدخل فيها بتفرع القول فيها أكثر من تفرعه في الحلال والحرام، وهو أولى في التعليم والحفظ على الأمة من ذلك 000" (3) ، ويقول في موضع آخر:"فاتق الله ياعبد الله ولا تدع العلم بمعرفة الفتيا فإن العلم هو العلم بالله عز وجل" (4) ، ويدعو الى أتباع آثار الصوفية الذين هم الخاصة ويأمر بسلوك طريقهم (5) .   (1) الرعاية (ص: 444- 445) . (2) العلم (ص: 86) . (3) المصدر السايق (ص: 86-87) . (4) المصدر نفسه (ص: 92) . (5) انظر: فهم القرآن (ص: 267-. 27) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 وقد فسر محقق كتاب العلم هذا الهجوم بأنه موجه من المحاسبي الى الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه (1) ، وسواء قصد المحاسبى الإمام أحمد أو لم يقصده فواضح من أقواله أنه يقصد طائفة من أهل الحديث الذين عنوا بالروايات ونقلها وتمحيصها وإفتاء الناس على ضوئها. وبذلك يتضح أن تصوف المحاسبي ومنهجه مائل عن منهج أهل السنة الذي يقوم على الوسطية والتوازن والجمع بين العلم والعمل. أقواله في العقيدة: ترد أقوال المحاسبى في الغالب مقرونة برأي ابن كلاب، ولذلك فهما متقاربان في كثير من مسائل العقيدة، ولذا سيقتصر الكلام هنا على بعض أقواله التي ذكرها في كتابه (فهم القرآن) . ا- إثباته للصفات: يصف المحاسبي من يمتدحهم من الخاصة بأنهم "وصفوه بصفاته الكاملة ونزهوه من كل مالا يليق" (2) ، فهو يثبت الصفات بإجمال، وسيتضح أنه ينفي منها مايتعلق بمشيئة الله من الصفات الاختيارية. كما يثبت أن القرآن كلام الله " إذ تكلم الله عز وجل به تكليما من نفسه من فوق عرشه، من فوق سماواته" (3) . ويقرر أن الصفات لا يجوز نسخها فيقول:" لا يحل لأحد أن يعتقد أن مدح الله جل ثناؤه ولا صفاته ولا أسماءه يحوز أن ينسخ جل وعز وصف نفسه بصفاته الكاملة ومدح نفسه بمدحه الطاهرة وبأسمائه الحسنى، فمن أجاز النسخ بها أجاز أن يبدل أسماءه الحسنى فيبدلها قبيحة سوى وصفاته الكاملة   (1) انظر: العلم، المقدمة (ص: 59- 61) . (2) فهم القرآن (ص: 267) . (3) المصدر السايق (ص: 302) ، وانظر: (ص: 309) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 العلية فيكون دنية ناقصة سفلى، ومدحه الطاهرة فيكون مذمومة دنية، جل وتعالى عن ذلك علوا كبيرا" (1) . ويحتج لبعض الصفات بالعقل مع دليل السمع مثل صفة العلم (2) . 2- إثباته للعلو والاستواء: ذكر أدلة ذلك من نصوص القرآن ورد على الذين يقولون:"إن الله في كل مكان (3) ، ثم قال:" وأما قوله {على العرش استوى} [طه: 5] .. {وهو القاهر فوق عباده} [الأنعام: 18] و {أأمنتم من في السماء} [الملك: 16] و {إذا لابتغوا إلى ذي العرش} بالإسراء: 42] فهذه وغيرها مثل قوله: {إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر: 10] وقوله: {ثم يعرج إليه} [السجدة: 5] ، فهذا مقطع يوجب أنه فوق العرش، فوق الأشياء، منزه عن الدخول في خلقه لا يخفي عليه منهم خافية، لأنه أبان في هذه الآيات أن ذاته بنفسه فوق عباده لأنه قال: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض} [الملك: 16] ،يعني فوق العرش، والعرش على السماء لأن من كان فوق شيء على السماء فهو في السماء، وقد قال مثل ذلك {فسيحوا في الأرض} [التوبة: 2] ، يعني على الأرض، لايريد الدخول في جوفها ... " (4) ويستمر في عرض الأدلة، ويناقش أدلة الحلولية في مسألة المعية وان آية {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم} [المجادلة: 7] مبدوءة بالعلم ومختومة به، ويناقش ذلك بشكل موسع وقوي (5) .   (1) فهم القرآن (ص: 332) . (2) نفسه (ص: 338) . (3) انظر: فهم القرآن (ص: 6،3-349) . (4) المصدر السابق (ص: 349- 350) . (5) انظر: نفس المصدر (ص: 352-356) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 3- كما يذكر أن القرآن غير مخلوق ويرد على المعتزلة الذين يسميهم الضلال، ويذكر أدلتهم وينااقشها بالتفصيل (1) . 4- كما يذكر مسألة الوعد والوعيد ويرد على المعتزلة ويذكر مذهب أهل السنة في ذلك ويورد أقوالهم وأقوال الخوارج في مذهبهم في مرتكب الكبيرة (2) ، ويناقش على ضوء ذلك مسألة الشفاعة وكيف أنكرها المعتزلة لقولهم بالوعيد على أهل الكبائر (3) . 5- مذهبه في الصفات الاختيارية: يوافق المحاسبي ابن كلاب في نفي هذه الصفات، بناء على نفي حلول الحوادث بذات الله تعالى، ونصوص المحاسبي في ذلك واضحة جدا: أ- يقول عن القرآن وعظمته:"ومن عقل عن الله جل ذكره ما قال فقد استغني به عن كل شيء، وعز به من كل ذل، لا تتغير حلاوته، ولا تخلق جدته في قلوب المؤمنين به على كثرة الترداد والتكرار لتلاوته، لأن قائله دائم لا يتغير، ولا ينقص، ولا يحدث به الحوادث (4) ، وهذا منطلق الكلابية في نفي ما يتعلق بمشيئته وقدرته. ب- ويقول في مسألة علم الله:"والله جل ذكره لا تحدث فيه الحوادث، لأنا لم نجهل موت من مات أنه سيكون، وكذلك علمنا أن النهار سيكون صبيحة ليلتنا، ثم يكون فنعلم أنه قد كان من غير جهل منا تقدم أنه سيكون، فكيف بالقديم الأزلي الذي لا يكون موت ولا نهار ولا شيء من الأشياء إلا وهو يخلقه ونحن لا نخلق شيئا، وكذلك قوله: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله ءامنين} [الفتح: 27] وقوله: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا   (1) انظر: فهم القرآن (ص: 363) وما بعدها. (2) انظر: نفس المصدر (ص: 370) وما بعدها. (3) انظر: نفس المصدر (ص:390) . (4) انظر: فهم القرآن (ص:307) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 مترفيها} [الإسراء: 16] وقوله: {إنما قولنا (1) لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل: 40] ، ليس ذلك ببدء منه لحدوث إرادة حدثت له ولا أن يستأنف مشيئة لم تكن له، وذلك فعل الجاهل بالعواقب الذى يريد الشيء وهو لايعلم العواقب، فلم يزل تعالى يريد ما يعلم أنه يكون، لم يستحدث إرادة لم تكن، لأن الارادات إنما تحدث على قدر مالم يعلم المريد، فأما من لم يزل ما يكون ومالا يكون من خير وشر فقد أراد على علم لا يحدث له بداء إذا كان لا يحدث فيه علم به" (2) ، والمحاسبي يقرر مسألة أزلية صفات الله تعالى لينفي ما يتعلق بمشيئة الله تعالى من صفات الأفعال، ولذلك يقول معلقا على الآية: {إذا اردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل:40] ، وقوله: {وإذا أدرنا أن نهلك قرية..} [الإسراء:16] : "فإنه لم يزل يريد، قبل أن يحدث الشيء أن يحدثه في وقت إحداثه، فلم يزل يريد احداثه في الوقت المؤخر، فإذا جاء الوقت فهو أيضا يريد أن يحدثه فيه، فبإرادته أحدثه في ذلك الوقت الذى فيه أحدثه، فإرادة الله جل وعز دائمة لأنه مريد قبل الوقت الذى يحدث فيه المخلوقات، وفي الوقت الذى أحدثه فيه ... " (3) ، ولا يحتاج هذا الى تعليق سوى التناقض الذى يفيده قوله " فإذا جاء الوقت فهو أيضا يريد أن يحدثه فيه" لأن هذه الإرادة إن كانت هي الإرادة الأزلية فلا فائدة من قوله هذا، وإن كانت إرادة حادثة نقض قوله. ج- ومما يدل على كلابيته ونفيه الصفات الاختيارية أن تقوم بالله قوله في صفتي السمع والبصر:" وكذلك قوله عز وجل: {إنا معكم مستمعون} [الشعراء:15] ليس معناه احداث سمع، ولا تكلف لسمع مايكون من المتكلم في وقت كلامه، وانما معنى (انا معكم مستمعون) ، {فسيرى الله عملكم} [التوية:94] أي المسموع والمبصر لن يخفي على سمعي ولا على بصرى أن أدركه   (1) في المطبوعة: أمزنا، وهو خطأ. (2) فهم القرآن (ص:340- ا 34) . (3) المصدر نفسه (ص: 342-343) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 سمعا وبصرا لا بالحوادث في الله جل وعز وتعالى عن ذلك، وكذلك قوله: {اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله} [التوبة:105] لا يستحدث بصرا ولحظا محدثا في ذاته تعالى عن ذلك" (1) ، ثم يرد المحاسبي على من خالفه في هذا ممن يثبت لله الصفات الاختيارية فيقول:" وقد ذهب قوم (2) أن لله جل وعز اسماعا حادثا في ذاته، فذهب الى ما يعقل من الخلق أنه يحدث فيهم علة لسمع ما يكون من قول عند سمعه للقول، لأن المخلوق اذا سمع الشيء حدث له عنه فهم عما أدركته أذنه من الصوت، وكذلك ذهب الى أن رؤية تحدث له، قال أبو عبد الله: وهذا خطأ، وانما معنى (سيرى) و (إنا معكم مستمعون) أن المسموع والمبصر لم يخف على عيني ولا على سمعي أن أد ركه سمعا وبصرا لا بالحوادث في الله جل وعز، ومن ذهب الى أنه يحدث له استماع مع حدوث المسموع، وإبصار مع حدوث المبصر فقد أدعى على الله عز وجل مالم يقل ولإنما على العباد التسليم كما قال، وانه عالم سميع بصير ولا يريد مالم يكن، وإنما معني (حتى يعلم) حتى يكون المعلوم، وكذلك حتى يكون المبصر والمسموع، ولا يخفى على الله عز وجل أن يعلمه موجودا ويراه موجودا ويسمعه موجودا بغير حدوث علم في الله جل وعز، ولا سمع ولا بصر، ولا يعني حدوثا في ذات الله، جل الله عن الحوادث في نفسه وتعالى عن البداوات في علمه وإرادته علوا كبيرا" (3) . ثم يذكر نصوص العلو والاستواء وأن ذلك لا يدل على حلول الحوادث (4) . وهذه النصوص- وهي من المصادر القليلة التي بقيت من كتب الكلابية - تبين إلى أي حد كان رسوخ هذه المسألة عندهم، حتى ان المحاسبي يجزم   (1) فهم القرآن (ص: 344- هـ 34) . (2) يقصد الكرامية. (3) فهم القرآن (ص: 345-346) . (4) انظر: المصدر نفسه (ص: 346-349) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 ويقطع بما يراه ويخطئ من خالفه وكأنها من مسائل أصول أهل السنة المسلمة. وهذا يفسر موقف أهل السنة الصلب من الكلابية وخاصة موقف الامام أحمد -رحمه الله- من الحارث المحاسبي. - هل رجع الحارث عن قوله؟: ينسب الكلاباذي الى الحارث المحاسبي قولا في القرآن يخالف قول ابن كلاب، فابن كلاب- كما سبق- يقول: إن كلام الله ليس بحرف ولا صوت، أما الحارث فقد نسب اليه الكلاباذي أنه يقول:"وقالت طائفة منهم: كلام الله حروف وصوت، وزعموا أنه لايعرف كلامه الا كذلك مع إقرارهم أنه صفة الله تعالى، في ذاته غير مخلوق، وهذا قول الحارث المحاسبي" (1) ، فهذا القول قد يدعم ماذكره شيخ الإسلام ابن تيمية عن معمر ابن زياد أن الحارث رجع عن أقواله (2) . ثالثا: أبو العباس القلانسي : يرتبط اسم القلانسي بابن كلاب كثيرا، ومع اشتهاره إلا أن كتب التراجم لم تعن بترجمته كما فعلت مع ابن كلاب والمحاسبي، ولذلك فتاريخ ولادة القلانسي ووفاته غير معروفين سوي أنه كان معاصرا لأبي الحسن الأشعري، والذي ذكر ابن عساكر عنه أنه "أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن خال القلانسي الرازي، من معاصري أبي الحسن-رحمه الله- لا من تلامذته كما قال الأهوازي، وهو من جملة العلماء الكبار الأثبات، واعتقاده موافق لاعتقاده في الإثبات" (3) .   (1) التعرف لمذهب أهل التصوف (ص: 40) . (2) انظر: درء التعارض (7/148-149) ، وقد ذكر شيخ الإسلام أن معمر بن زياد ذكر رجوع المحاسبي في ماكتبه عن أخبار شيوخ أهل المعرفة والتصوف، وذكر الدكتور محمد رشاد سالم -رحمه الله- أن لمعمر هذا نسخة خطية في دار الكتب المصرية بعنوان " شواهد التصوف" ورقمها 66 م مجاميع. (3) تبيين كذب المفتري (ص: 398) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 أما البغدادي فقد وصفه بأنه " امام أهل السنة ... الذي زادت تصانيفه في الكلام على مئة وخمسين كتابا" (1) ، وقد أشار البغدادي كثيرا الى أقواله في ثنايا كتابه " أصول الدين ". وفي كتاب " الأسماء والصفات" للبيهقي نص مهم عن القلانسي ومنزلته وعلاقته بالكلابية، وذلك عند حديثه عن الفتنة التي وقعت بين ابن خزيمة والكلابية من تلامذته كالثقفي والصبغي، يقول البيهقي:" أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا الحسن علي بن أحمد الزاهد البوشنجي يقول: دخلت على عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي بالري فأخبرته بما جرى بنيسابور بين أبي بكر ابن خزيمة وبين أصحابه فقال: ما لأبي بكر والكلام؟ إنما الأولى بنا وبه أن لا نتكلم فيما لم نتعلمه، فخرجت من عنده حتى دخلت على أبي العباس القلانسي فقال: كأن بعض القدرية من المتكلمين وقع الى محمد بن إسحاق فوقع لكلامه عنده قبول، ثم خرجت الى بغداد فلم أدع بها فقهيا ولا متكلما إلا عرضت عليه تلك المسائل فما منهم أحد إلا وهو يتابع أبا العباس القلانسي على مقالته، ويغتم لأبي بكر محمد بن اسحاق فيما أظهره" (2) . والذين ساقوا القصة: كالبيهقي، والبوشنجي كلابية لذلك فهم يرون تخطئة أمام الأئمة ابن خزيمة في موقفه من أصحابه الكلابية، والقصة تدل بالنسبة للقلانسي على: 1- أنه كان مقيما بالري، من المدن الكبرى المشهورة قرب خراسان. 2- أن مقالته كانت منتشرة وأقواله معروفه. 3- أنه كان يقول بقول الكلابية.   (1) أصول الدين (ص: 310) . (2) الأسماء والصفات (ص: 269) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 - ومن أبرز أقواله: 1- أنه يقول بتقديم العلوم النظرية على الحسية خلافا للأشعري (1) . 2- كما أجاز وجود الكلام لما ليس بحي خلافا للاشعرية الذين جعلوا الحياة شرطا في وجود الكلام (2) . 3- وافق ابن كلاب أن الله قديم بقدم بمعنى هو قائم به، خلافا للأشعري الذى يقول: انه قديم لذاته (3) . 4- وفي صفة اليدين قال القلانسي أن التثنية ترجع الى اللفظ لا الى الصفة (4) ويفسر البغدادي ذلك حين يقول:"وزعم بعض أصحابنا أن اليدين صفتان لله سبحانه وتعالى، وقال القلانسي هما صفة واحدة " (5) . 5- وقال في الاستواء على العرش أن معناه:"كونه فوق العرش بلا مماسة" (6) . 6- أنه يقول: " بوجوب المعارف العقلية على العاقل من جهة العقل" (7) . 7- كما توقف في التفضيل بين على وعثمان (8) . هذه أهم أقوال القلانسي، ويجعل شيخ الإسلام القلانسي من العراقيين الذين هم أكثر إثباتا من أهل خراسان وإن كان الجميع كلابية فيقول:"كما أن العراقيين المنتسبين الى أهل الإثبات من أتباع ابن كلاب كأبي العباس القلانسي وأبي الحسن الأشعري، وأبي الحسن على بن مهدي الطبري، والقاضي أبي بكر   (1) انظر: أصول الدين للبغدادي (ص:10) . (2) انظر: المصدر السايق (ص: 29) . (3) انظر: أصول الدين للبغدادي (ص:89) . (4) انظر: نقض التأسيس المطبوع (1/80) . (5) أصول الدين (ص:111) وانظر: المجرد لابن فورك (ص: 326) . (6) المصدر نفسه (ص: 113) . (7) نفسه (ص:256) . (8) انظر: المصدر نفسه (ص: 293-4 30) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 ابن الباقلاني وأمثالهم أقرب الى السنة وأتبع لأحمد بن حنبل وأمثاله، من أهل خراسان المائلين الى طريقة ابن كلاب" (1) . * * * هؤلاء هم أهم أعلام مدرسة ابن كلاب قبل الأشعري الذى وافقهم في أبرز أقوالهم مع زيادة في الشرح والتفصيل ولذلك نسب إليه هذا المذهب. * * * موقف السلف من الكلابية : لما كانت موازين علماء أهل السنة ثابتة، ومنطلقاتهم مرتكزة على أساس متين لم تتغير مواقفهم من أهل الأهواء الذين يستحدثون بدعهم في كل زمن. ولذلك حذر السلف من أهل الكلام عموما وردوا بدعهم بل حذروا من علم الكلام الذى دخل منه الجهمية والمعتزلية والقدرية والرافضة وغيرهم. والكلابية- وان كانوا موافقين لأهل السنة في الرد على الجهمية والمعتزلة والرافضة وغيرهم- إلا أنهم تلبسوا بأشياء من أقوال أهل الكلام وبدعهم، ومن ثم ذمهم السلف وحذروا من أقوالهم التي خالفوا فها أهل السنة، وهذه نماذج لمواقف السلف منهم: أ- موقف الامام أحمد من الكلابية، فقد كان-رحمه الله- معاصرا لزعمائهم ولذلك حذر منهم، ومواقفه من الحارث المحاسبي مشهورة، والإمام أحمد وإن كان لا يعجبه تصوف الحارث الا أن سبب هجره والتحذير منه إنما كان لقوله بأقوال أهل الكلام ويجمع على هذا جميع مترجمي المحاسبي تقريبا (2) ، والعجب من السبكي حين يجعل موقف الامام أحمد من المحاسبي من كلام الأقران   (1) انظر: درء التعارض (1/270) . (2) انظر: تاريخ بغداد (4/214) ، والكامل في التاريخ (7/84) ، وميزان الاعتدال (1/430) ، وتلببس إبليس (ص: 162) - منيرية-، وشرح الكوكب المنير (ص: 47) من التصويب، وطبقات الحنابلة (1/62-63) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 الذين لا يقبل قول بعضهم في بعض (1) ، ولا شك أن القاعدة التي ذكرها السبكي لها قيمة كبرى في الجرح والتعديل ولكن تطبيقه لها هنا لم يصادف محلا، لأن الإمام أحمد انتقد عقيدة المحاسبي والبراهين واضحة جلية في دخوله علم الكلام وقوله ببعض أقوالهم، ولو سلمت هذه القاعدة بإطلاق لما قبل قول السلف في معاصريهم من المعتزلة والرافضة والجهمية والقدرية وغيرهم، وهذا مالا يقول به السبكي ولا غيره. ب- موقف الامام ابن خزيمة: كان في زمن ابن خزيمة علمان من أعلام الكلابية: أحدهما: أبو علي الثقفي، وهو شيخ خراسان أبو على محمد بن عبد الوهاب ابن عبد الرحمن بن عبد الوهاب، الثقفي، النيسابوري، الشافعي، الواعظ الزاهد ولد سنة 244 هـ، قال عنه الصبغي:"ما عرفنا الجدل والنظر حتى ورد أبو علي الثقفي من العراق" (2) ، وقال أبو عبد الرحمن السلمي:"كان إماما في أكثر علوم الشرع، مقدما في كل فن منه، عطل أكثر علومه واشتغل بعلم الصوفية وتكلم فيه أحسن كلام" (3) ، وقال عنه البغدادي:"شيخ العلوم على الخصوص والعموم" وقال:"وتصانيف الثقفي ونقوضه على أهل الأهواء زائدة على مئة كتاب" (4) وقال عنه الذهبي:"ومع علمه وكماله خالف الإمام ابن خزيمة في مسائل التوفيق والخذلان، ومسألة الايمان، ومسألة اللفظ، فألزم البيت، ولم يخرج منه الى أن مات وأصابه في ذلك محن" (5) توفى الثقفي سنة 328 هـ (6) .   (1) انظر: الطبقات للسبكي (2/278) ، وقاعدة في الجرح والتعديل (ص: 47) ، والرفع والتكميل (ص: 263) . (2) سير أعلام النبلاء (15/282) . (3) طبقات الصوفية (ص: 361) . (4) أصول الدين (ص:300) . (5) السير (15/282) . (6) انظر: في ترجمته اضافة الى المصادر السابقة الرسالة القشيرية (1/164) ، وقال: به ظهر التصوف بخراسان، والأنساب (3/135) وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 والثاني: أبو بكر الصبغي، وهو الإمام أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب بن يزيد، النيسابورى الشافعي المعروف بالصبغي، ولد سنة 258 هـ كان يخلف إمام الأئمة ابن خزيمة في الفتوى بضع عشرة سنة، ومن تصانيفه كتاب الأسماء والصفات، وكتاب الايمان، وكتاب القدر، وكتاب الخلفاء الأربعة، وكتاب الرؤية، وكتاب الأحكام، وكتاب الإمامة، توفى سنة 342 هـ (1) ، والعجيب أن ابن فورك الذي رد على كتاب التوحيد لابن خزيمة، رد أيضا على أحد كتب الصبغي وهو كتاب " الأسماء والصفات" (2) . هذان الامامان: الثقفي والصبغي كانا من أخص تلامذة ابن خزيمة، وولكنهما مع إثباتهما للصفات كما يثبتها إلا أنهما يقولان بقول ابن كلاب أن الله لا يتكلم إذا شاء متى شاء وإنما كلامه أزلى، فلما علم بذلك ابن خزيمة ثارت ثائرته وغضب عليهم وعلى من معهم ممن يقول بقولهم، وجرت بينه وبينهم وقائع استتيبوا من قولهم، وهي قصة طويلة ذكرها الحاكم في تاريخ نيسابور، ونقل بعض أحداثها شيخ الإسلام ابن تيمية والذهبي (3) . ج- أما غير الامام أحمد وابن خزيمة، فأبو عبد الرحمن السلمي كان يلعن الكلابية (4) ، وكذلك أبو نصر السجزى (5) ،وغيرهما (6) .   (1) انظر: في ترجمته: الأنساب (8/33) - ط لبنان-، وسير أعلام النبلاء (15/483) ، وطبقات السبكي (3/9) . (2) انظر: مشكل الحديث وبيانه لابن فورك (ص:201) وما بعدها- ط المكتبة المصرية-. (3) انظر: درء التعارض (2/77) وما بعدها، والسير (14/377) وما بعدها. (4) عن درء التعارض لابن تيمية (2/82) . (5) انظر: رسالة الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: 87-88) - ط على الآلة الكاتبة-. (6) انظر: درء التعارض (2/83) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 موقف ابن تيمية من الأشاعرة الجزء الثاني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 المبحث الثاني: الماتريدية وعلاقتهم بالأشعرية أولا: الأشعري والماتريدي بعد الحديث عن الكلابية- شيوخ الأشاعرة - وقبل الحديث عن نشأة المذهب الأشعري لابد من الإشارة إلى نشأة مذهب مشهور نشأ مواكبا لمذهب الأشاعرة، واشتهر كشهرتهم ألا وهو المذهب الماتريدي. وقد عاصر الأشعري المتوفي سنة 324هـ اثنان من العلماء كان لما كتبوه في العقيدة أثر كبير فيمن جاء بعدهم: أحدهما: الطحاوي، في مصر (توفي سنة 321هـ) . والثاني: أبو منصور الماتريدي. في ما وراء النهر (توفي سنة 333هـ) . أما الطحاوي: فهو أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك، الأزدي، الحجري، المصري، الطحاوي، الحنفي، ينسب إلى بلدة طحا من أعمال مصر ولد سنة 239هـ وكان في أول أمره شافعيا - لأن خاله المزني، صاحب الشافعي - ثم تحول إلى مذهب أي حنيفة وصار أحد أعلامه في مصر، كما صار أحد أعلام الحديث (1) ، وتوفي سنة 321 هـ، له كتب كثيرة من أهمها:   (1) لابن تيمية رأي في علمه بالحديث فهو يقول عنه: " والطحاوي ليست عادته نقد الحديث كنقد أهل العلم، ولهذا روي في شرح معاني الآثار والأحاديث المختلفة، وإنما يرجح ما يرجحه منها في الغالب من جهة القياس الذي رأه حجة، ويكون أكثرها مجروحا من جهة الإسناد، لا يثبت، ولا يتعرض لذلك، فإنه لم تكن معرفته بالإسناد كمعرفة أهل العلم به، وإن كان كثير الحديث، فقيها، عالما" (منهاج السنة 4/194) وذكر ابن تيمية هذا بمناسبة مناقشته للرافضي عند ذكره لحديث رد الشمس لعلي- رضي الله عنه - الذي أثبته الطحاوي في مشكل الآثار (2/8-12) ، وقد بين شيخ الإسلام أنه حديث موضوع وتكلم على طرقه بكلام طويل. انظر: منهاج السنة (4/185-195) - ط بولاق -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 شرح معاني الآثار، ومشكل الآثار، والشروط الصغير، والعقيدة، المسماة عقيدة الطحاوي، وتسمي بيان السنة والجماعة (1) ، وهذه كلها مطبوعة كما أن له مؤلفات أخرى ذكرها مترجموه (2) . وعقيدة الطحاوي تلقاها العلماء بالقبول، حتى قال فيها تاج الدين السبكي - وهو شافعي أشعري جلد: " وهذه المذاهب الأربعة - ولله الحمد - في العقائد واحدة، إلا من لحق منها بأهل الإعتزال والتجسيم. وإلا فجمهورها على الحق يقرون عقيدة أبي جعفر الطحاوي، التي تلقاها العلماء سلفا وخلفا بالقبول " (3) . وقد اشتهرت هذه العقيدة التي كتبها الطحاوي وشرحها كثيرون (4) ، ولكن غالبية هؤلاء كانوا على مذهب الماتريدية، ولذلك فقد أولوا عبارات الطحاوي وشروحها على وفق مذهبهم، ونقلوا في هذه الشروح أقوال أثمة الماتريدية، بل ردوا على الأشعرية عند شرحهم للمسائل التي خالفوهم فيها (5) .   (1) ذكر صاحب كتاب أبو جعفر الطحاوي وأثره في الحديث (ص: 126) أن من كتب الطحاوي في العقيدة: كتابا في النحل وأحكامها وصفاتها وأجناسها وما ورد فيها من خبر. والظاهر أن قراءته النحل أوقعته في هذا الوهم حيث يدل باقي العنوان على ان المقصود النحل - بالنون المشددة المفتوحة، والحاء المهملة الساكنة - أو أن تكون بالخاء المعجمة. (2) انظر في ترجمة الطحاوي: طبقات الشيرازي (ص: 142) والأنساب (8/218) ، ط لبنان. وتاريخ ابن عساكر (7/317) ط مجمع اللغة العربية بدمشق، والجواهر المضية (1/271) ، والوافي (8/9) ، وغاية النهاية في طبقات القراءة (1/116) ، وسير أعلام النبلاء (15/27) ،وانظر في مؤلفاته ومخطوطاته بروكلمان (3/161/165) - الطبعة العربية، وسنركين (2/85) ، ط مصر. (3) معيد النعم (ص: 22-23) . (4) انظر ما عثر عليه من هذه الشروح في بروكلمان وسزكين - فقرة تراجم الطحاوي السابقة - ومن الشروح التي لم يذكروها شرح لعبد الغني الغنيمي الميداني، الحنفي، الدمشقي، المتوفي سنة 1298 هـ. وهو شرح مطبوع في دار الفكر بدمشق. (5) مما اطلعت عليه من هذه الشروح التي تنهج هذا المنهج شرح الغنيمي المطبوع. انظر (ص: 57) حول صفة التكوين، و (ص: 7.- 74) حيث رجح في الصفات الخبرية التفويض. و (ص: 99-103) حيث رجح مذهب الماتريدية. ومن هذه الشروح شرح الناصري (بكير التركي الناصري، نجم الدين أبو شجاع، المتوفي سنة 652هـ، ترجمته في الفوائد البهية ص: 56) وشرحه للطحاوية اسمه: النور اللامع والبرهان الساطع، ولا يزال مخطوطا، وهو شرح مطول يعتمد على كتب الماتريدية ومنها كتب الماتريدي نفسه وكتب أبي المعين النسفي، وأبرز ما في هذا= =الشرح فوق تبنيه للمذهب الماتريدي؛ ردوده على الأشاعرة، انظر مثلا: لوحة رقم (5- أ) حول إيمان المقلد - ولوحة (47 - ب) وما بعدها حول صفة التكوين، وانظر لوحة (50) وما بعدها حيث ذكر أسبقية الماتريدية وتميزهم عن الأشعرية، ومن الشروح شرح في جامعة الإمام مخطوطة أصلية مجهولة المؤلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 وقد قيض الله لهذه العقيدة من يشرحها على وفق مذهب السلف- رحمهم الله - وهو الإمام علي بن علي بن أبي المعز الحنفي المتوفي سنة 792 هـ (1) . وقد انتهج فيه مؤلفه نهجا ممتازا حيث ركز على تقرير مذهب السلف، والرد على من سبقه من الشراح، خاصة في فهمهم وتفسيرهم لبعض عبارات الطحاوي الموهمة، مثل قوله: " وتعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات " (2) ، حيث فهم بعض الشراح أن الطحاوي يؤول العلو والصفات الخبرية، فبين ابن أبي العز خطأهم في هذا الفهم " ومع ذلك رجح أن الأولي الابتعاد عن مثل هذه العبارات الموهمة (3) . ومثل قول الطحاوي - حول الإيمان -: " وأهله في أصله سواء" (4) ، وقوله عن أهل الكبائر وأنهم لا يخلدون.. " بعد أن لقوا الله عارفين " (5) ، وقوله في الاستطاعة وتكليف ملا يطاق: " ولا يطيقون إلا ما كلفهم به (6) ، فبين ما في مثل هذه العبارات من إشكال أن إيهام. وقد اعتمد ابن أبي العز في شرحه على كلام ابن تيمية وابن القيم - رحمهم الله - وطبع هذا الشرح عدة طبعات وكتب له القبول والانتشار في أنحاء العالم الإسلامي - والحمد لله -.   (1) ترجمته في: الدرر الكامنة (4/103) - ط هندية - وأنباء الغمر (3/50) ، باسم محمد ابن علي. (2) شرح الطحاوية - ط المكتب الإسلامي - (ص: 238) . (3) انظر: المصدر السابق (ص: 243) . (4) انظر: المصدر نفسه (ص: 375) . (5) انظر: المصدر نفسه (ص: 416-417) . (6) انظر: المصدر نفسه (ص:505) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 أما الماتريدي: فهو محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي، أبو منصور، وماتريد محلة بسمرقند فيما وراء النهر (1) ، تتلمذ على عدة شيوخ من أشهرهم أبو نصر العياضي (2) , وأبو بكر الجوزاني (3) ، ومحمد بن مقاتل الرازي (4) ، ونصير بن يحيى (5) وغيرهم، كما تتلمذ عليه عدة أشهرهم الحكيم السمرقندي (6) وأبو الحسن الرستغفني (7) ، وأبو محمد البزدوي (8) ، وغيرهم. والماتريدي حنفي المذهب هو وشيوخه وشيوخ شيوخه الذين تتلمذوا على أصحاب أبي حنيفة، ولأبي منصور كتب كثيرة في الفقه وأصوله وفي التفسير وعلم الكلام، وغالب كتبه الكلامية في الرد على معتزلة عصره (9) ، والرد على الباطنية والروافض، ولم يصل إلينا من هذه الكتب سوى كتاب التأويلات المسمى تأويلات أهل النسة، وقد وصل كاملا وله عدة نسخ خطية (10) ، وكتاب   (1) انظر: معجم البلدان (5/32) ، وسماها ماثترب، وفي اللباب (3/140) ما تريت، قال يقال ما تريد. (2) هو: أحمد بن العباس بن الحسين، ينتهي نسبه إلى سعد بن عبادة الأنصاري - رضي الله عنه - أسره الكفار فقتل صبرا في ديار الترك، انظر: الجواهر (1/177) ، والفوائد البيهة (ص:23) (3) اسمه محمد بن أحمد بن رجا، توفي سنة 285هـ، الجواهر (3/82، 4/29) . (4) قاضي الري، توفي سنة 248 هـ، قال فيه الذهبي: تكلم فيه ولم يترك، ميزان الاعتدال (4/47) ، وقال ابن حجر في التقريب (2/210) ضعيف، وانظر تهذيب التهذيب (9/469) ، والجواهر (3/372) . (5) توفي سنة 268هـ، وقيل اسمه نصر، انظر: الجواهر (3/546) ، والفوائد البهية (221) . (6) هو: أبو القاسم إسحاق بن محمد بن إسماعيل، توفي سنة 340هـ، الأنساب (4/185) ، والجواهر المضية (1/371) . (7) هو: أبو الحسن علي بن سعيد - لم يحدد تاريخ وفاته - الجواخر المضية (2/458) ، وتاج التراجم (ص: 41) . (8) هو: عبد الكريم بن موسى، المتوفى سنة 390هـ، الجواهر (2/570، 4/212) . (9) منها: كتاب بيان وهم المعتزلة، وكتاب رد الأصول الخمسة لأبي محمد الباهلي، وكتاب رد أوائل الأدلة للكعبي، وكتاب رد وعيد الفساق للكعبي، وكتاب رد تهذيب الجدل للكعبي، وغيرها= =وانظر مصادر ترجمته. وأكثر ردوده على الكعبي لأنه عند المعتزلة إمام أهل الأرض، كما يقول الماتريدي في التوحيد (ص: 49) . (10) انظر في أماكن وجودها: تاريخ التراث، سزكين (2/378-379) - ط القاهرة - وقد طبع الجزء الأول من تفسير الماتريدي بتحقيق إبراهيم عوضين والسيد عوضين، ضمن منشورات المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في القاهرة، سنة 1391هـ، كما طبع الجزء الأول في بغداد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 التوحيد الذي طبع بتحقيق فتح الله خليف، وقد نسبت إليه كتب أخرى منها: العقيدة - التي شرحها السبكي (1) - وشرح الفقه الأكبر (2) ، وقد كانت وفاة الماتريدي سنة 333هـ (3) ، - منهج الماتريدي وعقيدته : - لا يبعد الماتريدي كثيرا عن أبي الحسن الأشعري، فهو خصم لدود للمعتزلة، وقد خالفهم في المسائل التي اشتهروا بمخالفة أهل السنة فيها مثل مسائل الصفات، وخلق القرآن، وإنكار الرؤية، والقدرة، وتخليد أهل الكبائر في النار، والشفاعة، وغيرها، وقد ألف في ذلك كتبا مستقلة، ومع ذلك فالماتريدي لم ينطلق في ردوده عليهم من منطلق منهج السلف - رحمهم الله تعالى - وإنما كان متأثرا بمناهج أهل الكلام، ولذلك وافقهم في بعض الأصول الكلامية، والتزم لوازمها فأدى به ذلك إلى بعض المقالات التي لا تتفق مع مذهب السلف، وإنما كان فيها قريبا من مذهب الأشعرية.   (1) من أسباب القول بأنها منسوبة إليه أنها تتعرض للخلاف بين الأشعرية والماتريدية، والماتريدي معاصر للأشعري، وليس بينهما أي التقاء، لذلك فلا يمكن أن تكون من تأليف الماتريدي، وانظر كتاب: إمام أهل السنة والجماعة أبو منصور الماتريدي وآراؤه الكلامية لعلي عبد الفتاح المغربي (ص: 28-29) ، ومصطلح الأشعرية كطائفة نشأت بعد الأشعري بوقت طويل. (2) طبع الكتاب في الهند ضمن الرسائل السبعة في العقائد، ومما يدل على أنه ليس من كتب الماتريدي ذكره للأشعرية، انظر الكتاب المذكور - شرح الفقه الأكبر - (ص: 10،13، 23، 25) وفي (ص: 24) " وسئل أبو منصور عن صفات الله تعالى ما هي؟ قال: لا هو ولا غيره، قيل له.."..وفي (ص: 17 وص: 31) ما يشير إلى احتمال أن يكون من تأليف الفقيه أبي الليث نصر بن محمد بن أحمد السمرقندي المتوفى سنة 373 هـ وقيل سنة 393هـ، انظر ترجمته في: الجواهر (3/544) ، وتاج التراجم (ص: 79) ، ومقدمة تحقيق تفسيره " بحر العلوم" (1/45-94) . (3) لم يخط الماتريدي بالعناية من جانب أصحاب التواريخ والتراجم، حتى كتب الطبقات الحنفية ترجمت له ترجمات مختصرة، انظر: الجواهر (3/360) ، وتاج التراجم (ص:59) ، والفوائد البهية (ص: 195) ، ومفتاح السعادة - طاش كبرى زاده - (2/251) ، وبروكلمان (4/41) ، وسزكين (2/378) ، وانظر: مقدمة تحقيق التوحيد (ص: 11) وما بعدها، ومقدمة تحقيق تفسيره (1/9) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 ومن المسائل التي تميز بها مذهب الماتريدي: 1- القول بوجوب النظر وإبطال التقليد في مسائل العقيدة ولذلك يقول: "ثبت أن التقليد ليس مما يعذر صاحبه" (1) ، وهذا قريب من مذهب بعض الأشاعرة الذين لا يصححون إيمان المقلد. 2- ومصادر المعرفة عنده: الأعيان (الحس) ، والخير، والنظر (2) . 3- الاستدلال على إثبات الصانع بدليل حدوث الأجسام المبني على عدم خلوها من الأعراض، ومالا يخلو من الحوادث فهو حادث (3) ، والماتردي لا يقتصر على هذا الدليل، وإنما يذكر أدلة أخرى (4) ، والعجيب أن الماتريدي يعتز بإجابته أحد شيوخ الاعتزال عن الاعتراض على دليل حدوث الأجسام (5) . 4- استدلاله في بعض مسائل العقيدة بالسمع والعقل (6) . 5- والماتريدي يثبت الصفات العقلية لله تعالى كالسمع والبصر والقدرة، والإرادة والإحياء والإماتة والرزق، وغيرها من صفات الذات وصفات الفعل ولذلك فهو يقول بأزلية صفات الفعل ومنها صفة التكوين التي قال إنها أزلية، وهي من المسائل الكبار التي تميز بها مذهب الماتريدية عن مذهب الأشعرية، وأصل الخلاف فيها أن الأشاعرة - ومعهم المعتزلة - يقولون: الفعل هو المفعول،   (1) التوحيد (ص: 3) ، وانظر كلامه حول النظر (ص:135-137) . (2) انظر: المصدر السابق (ص: 7-11) . (3) انظر: المصدر نفسه (ص: 12-17) ، وانظر: (ص: 43) . (4) انظر: المصدر نفسه (ص: 17-19) ، ولكنه في (ص: 231) و (ص: 233) يقول كلاما يدل على أن إثبات الصانع ليس له دليل إلا حدوث الأجسام. (5) انظر: المصدر نفسه (ص: 137-138) . (6) انظر: المصدر نفسه (ص:4،1،4،44،56،373،381،382) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 فالتكوين أو الخلق هو عين المكون أو المخلوق، لذلك قالوا بحدوث صفات الفعل لله تعالى مثل الخلق، وأن الله لم يكن خالقا ثم خلق، قالوا: فلو قلنا بقدم صفات الفعل لله تعالى للزم من ذلك قدم المفعول، وهذا يبطل القول بقدم الصانع وحدوث العالم. أما الماتريدية فعندهم أن الفعل غير المفعول، والتكوين غير المكون، ولذلك فهم يقولون بأزلية صفات الفعل لله تعالى من الخلق والإحياء والرزق، وإن كان المفعول منها حادثا، يقول الماتريدي بعد كلام:" والأصل أن الله تعالى إذا أطلق الوصف له، وصف بما يوصف به من الفعل، والعلم، ونحوه، يلزم الوصف به في الأزل، وإذا ذكر معه الذي هو تحت وصفه به من المعلوم، والمقدور عليه، والمراد، والمكون، يذكر فيه أوقات تلك الأشياء لئلا يتوهم قدم تلك الأشياء" (1) ، وأوضح في تفسيره فقال في قوله تعالى: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] : " ثم الآية ترد على من يقول بان خلق الشيء هو ذلك هو ذلك الشيء نفسه، لأنه قال: " إذا قضي أمرا"، ذكر " قضي "، وذكر " أمرا "، وذكر " كن فيكون "، ولو كان التكوين والمكون واحدا لم يحتج إلى ذكر كن في موضع [العبارة (2) ] عن التكوين، فالكن تكوينه، فيكون المكون، فيدل أنه غيره، ثم لا يخلو التكوين: إما أن لم يكن فحدث، أو كان في الأزل ... " (3) ، ثم رجح أنه موصوف به في الأزل، وأن الشيء يكون في الوقت الذي أراد كونه فيه (4) ، والماتريدي بنى قوله على الفرار من حلول الحوادث بذاته تعالى الذي يلزم به الأشاعرة حين يقولون بحدوث صفات الفعل لله تعالى (5) .   (1) التوحيد (ص:47) . (2) في المطبوع: العبادة، وكذا تكررت في الصفحة نفسها - قبل خمسة أسطر - وهو خطأ مطبعي أو وهم من المحقق. (3) تأويلات أهل السنة للماتريدي (1/268) . (4) انظر: المصدر السابق، الصفحة نفسها. (5) انظر: إمام أهل السنة والجماعة "الماتريدي" (ص: 181-182) ، والروضة البهية (ص:39-43) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 6- والماتريدي من نفاة الصفات الاختيارية لله تعالى تبعا لمنعه حلول الحوادث بذات الله تعالى، ويبني ذلك على مسألة دليل حدوث الأجسام (1) ، وفي مسألة كلام الله قال بأنه أزلي وأنه لا يتجرأ ولا يتبعض وبنى في الرد على الكعبي والمعتزلة - في قولهم بخلق القرآن - على منع حدوث كلام الله، والقول بأنه أزلي (2) ، أما ما سمعه موسى - عليه الصلاة والسلام - فالله " أسمعه بلسان موسى، وبحروف خلقها، وصوت أنشأه، فهو أسمعه ما ليس بمخلوق" (3) ، وقد رد شارح الطحاوي - ابن أبي العز - على الماتريدي قوله هذا (4) ، ويؤول الماتريدي الصفات الفعلية مثل صفة الاستواء فيقول - بعد ذكره الأقوال فيه -: " وجملة ذلك أن إضافة كلية الأشياء إليه، وإضافته عزوجل إليها، يخرج مخرج الوصف له بالعلو والرفعة، ومخرج التعظيم له والجلال ... وإضافة الخاص إليه يخرج مخرج الاختصاص له بالكرامة والمنزل ... [و] الأصل فيه أن الله سبحانه كان ولا مكان، وجائز ارتفاع الأمكنة، وبقاؤه على ما كان، فهو على ما كان، وكان على ما عليه الآن، جل عن التغير والزوال والاستحالة والبطلان، إذ ذلك أمارات الحدث التي بها عرف حدث العالم" (5) ، وبعد أن يؤصل الماتريدي هذا الأصل يذكر الأقوال في الاستواء من أنه بمعنى الاستيلاء أو العلو والارتفاع، أو التمام، ثم يرجح التفويض لاحتماله أحد هذه المعاني أو غيرها فيقول: " فيجب القول بالرحمن على العرض استوى، على ما جاء به التنزيل، وثبت ذلك في العقل، ثم لا تقطع تأويله على شيء لاحتماله غيره مما ذكره، واحتماله أيضاً ما لم يبلغنا مما يعلم أنه غير محتمل شبه الخلق" (6) ، والعجيب أنه يقيس ذلك على مسألة الرؤية.   (1) انظر: التوحيد (ص: 53-69) . (2) انظر: المصدر السابق (ص: 53) . (3) التوحيد (ص: 59) . (4) انظر: شرح الطحاوية (ص:190) - ط المكتب الإسلامي-. (5) التوحيد (ص: 68-69) . (6) التوحيد (ص:74) ، وانظر: تفسير الماتريدي (1/84/85) -المطبوع -.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 7- ينكر الماتريدي أن يكون الله في جهة العلو، ويؤول بعض الأدلة مثل رفع الأيدي إلى السماء تأويلات عجيبة (1) ، ولذلك فهو يثبت الرؤية ويرى أن الاستدلال لها بالسمع وحده، والرؤية عنده تكون بلا مقابلة (2) . 8- يقول بأن الله فاعل مختار على الحقيقة، وهو خالق كل شيء، والعبد مختار لما يفعله وهو فاعل كاسب (3) ، وبعد أن يذكر قولي الجبرية والقدرية يقول: " والعدل هو القول بتحقيق الأمرين" (4) ، ثم يذكر الفرق في أحوال العبد بين أفعاله الاضطرارية والاختيارية (5) . 9- يقسم الماتريدي قدرة العبد واستطاعته إلى قسمين: " أحدهما: سلامة الأسباب وصحة الآلات، وهي تتقدم الأفعال ... والثاني: معنى لا يقدر على تبين حدة الشيء يصار إليه سوى أنه ليس إلى للفعل، لا يجوز وجوده بحال إلى ويقع به الفعل عندما يقع معه (6) ، والقدرة الثانية هي التي لا تكون إلى مع الفعل - وهذا قول الأشعري - وقد رد الماتريدي على المعتزلة في قولهم " إنها تكون قبل الفعل" (7) ، ومما سبق يتضح أن كسب الماتريدي يعطي العبد الاختيار، وهذا ما يخالف - قليلا - كسب الأشعري، والماتريدي أيضا يقول بأنه لا يجوز تكليف مالا يطاق (8) . 10- والماتريدي يميل إلى القول بالتحسين والتقبيح العقلي (9) ، كما يثبت   (1) انظر: التوحيد (ص:75-79) . (2) انظر: المصدر السابق (ص: 77-85) . (3) انظر: المصدر نفسه (ص: 225-226-233) . (4) المصدر السابق (ص: 229) . (5) انظر: المصدر السابق - الصفحة نفسها. (6) المصدر السابق (ص: 256) . (7) انظر: تفسير الماتريدي (1/181) ، وانظر: التوحيد (ص:258-262) . (8) انظر: التوحيد (ص: 263-277) . (9) انظر: التوحيد (ص:100، 178) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 التعليل والحكمة في أفعال الله تعالى (1) ، وهذان الأمران يخالف فيهما الأشعري. 11- والإيمان عند الماتريدي هو التصديق، ومحله القلب، ويستدل لذلك بدليل السمع والعقل (2) ، ويرى التفريق بين التصديق والمعرفة، ويعقد لذلك مسألة مستقلة (3) ، وهو بهذا يرد على الجهمية القائلين بأن الإيمان هو المعرفة. والماتريدي يرد على القائلين بأن الإيمان قول باللسان (4) ، كما يرد على الذين يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان (5) ، وعلى ضوء ذلك فالماتريدي يمنع من الاستثناء في الإيمان (6) . 12- ويوافق الماتريدي أهل السنة في حكم مرتكب الكبيرة، ولذلك فهو يرد على المعتزلة والخوارج في ذلك (7) ، ويقرن ذلك بمسألة الشفاعة، وإنها رد عليهم (8) . 13- وفي موضوع "الإرجاء" المنسوب إلى الحنفية عقد الماتريدي له مسألة مستقلة، ذكر فيها ما ورد من الأقوال فيهـ حيث إن كل طائفة تتهم الأخرى بالإرجاء - كما دافع عما نسب إلى القائلين بعدم دخول الأعمال في مسمى الإيمان من أنهم مرجئة، ويقول: إن تهمة الإرجاء واقعة إما على الجبرية حين أرجت أفعال الخلق إلى الله تعالى ولم تجعل للخلق فيها حقيقة البتة، وإما على من يسميهم بالحشوية حين يستثنون في الإيمان (9) ، أما مسألة الفرق بين الإيمان والإسلام فيرجع أنهما بمعنى واحد (10) .   (1) انظر: التوحيد (ص: 177، 216-217) . (2) انظر: المصدر نفسه (ص: 373-378) . (3) (ن) انظر: المصدر نفسه (ص: 380-381) . (4) وهم الكرامية، انظر: تفسير الماتريدي (1/44) ، والتوحيد (ص: 376-378) . (5) انظر: كتاب التوحيد (ص: 378-379) . (6) انظر: المصدر السابق (ص: 388-392) . (7) انظر: تفسير الماتريدي (1/73) ، والتوحيد (ص: 323-365) . (8) انظر: التوحيد (ص:365-373) . (9) انظر: المصدر السابق (ص: 381-385) . (10) انظر: المصدر نفسه (ص: 393-401) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 هذه أهم أقوال وآراء الماتريدي، التي وردت مفصلة في تفسيره وفي كتاب التوحيد، وبالمقارنة بين أقواله وأقوال أبي الحسن الأشعري يتبين أنهما قد اتفقا في بعض المسائل الأصولية مثل إثبات بعض الصفات، ومنع حلول الحوادث، وصحة دليل حدوث الأجسام، والكسب، وغيرها، ومع ذلك فبينهما عدة فروق أهمها: أ - إن الماتريدي قال: بأزلية صفة التكوين لله تعالى ولم يفرق بين صفات الذات والفعل. ب - وانه يقول: بأن موسى سمع الصوت المخلوق حين كلمه ربه تعالى. جـ - وفي مسألة العلو والاستواء، فالماتريدي ينفي العلو ويؤول الاستواء أو يفوضه، بخلاف الأشعري الذي يثبت العلو والاستواء - وإن روي عنه في الإستواء معنى آخر. د - قال الماتريدي بالتحسين والتقبيح العقلي، والأشعري قال بالشرعي فقط. هـ- قول الماتريدي بالتحسين بالحكمة والتعليل، بخلاف الأشعري. و منع الماتريدي تكليف مالا يطاق، بخلاف الأشعري الذي جوزه. ز - وفي الكسب - مع قوله به كما يقول الأشعري - إلا أنه مال إلى إعطاء العبد حرية في الاختيار، ولذلك فقدرة العبد عنده مؤثرة بخلاف الأشعري. ح - وفي الإيمان قال إنه التصديق وهذا ما قال به الأشعري، إلا أنه خالفه في دخوله الأعمال في الإيمان وجواز الاستثناء فيه، وهذان منعهما الماتريدي. ط - أما رؤية الله فقد أثبتها الماتريدي سماعا فقط، أما الأشعري فاستدل مع أدلة السمع بدليلين عقليين، أحدهما الوجود، والآخر أن الله يرى الأشياء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 ثانيا: مقارنة بين الأشعرية والماتريدية : تكون على إثر الأشعري مذهب الأشعرية، وعلى إثر الماتريدي مذهب الماتريدية ولكل من المذهبين أعلامه ورجاله، وكتبه ومتونه العقيدية، ومع غلبة المذهب الأشعري في العالم الإسلامي وانتشاره، إلا أن المذهب الماتريدي بقي متميزا نوعا ما، ولعل ارتباط كل واحد من المذهبين بمذهب فقهي مخالف للآخر كان له أثر في ذلك (1) . وليس المقصود هنا متابعة التطور الذي حدث لأحدهما أو كليهما، ولا تفصيل المقارنة بين المذهبين، ولكن يمكن الإشارة بإجمال إلى الملاحظات التالية: 14- تبين أنه لم يكن هناك لقاء بين الأشعري والماتريدي، إذ لم يجمعهما مكان ولا حتى منطقة معينة، فالأشعري عاش ومات في العراق، والماتريدي عاش ومات في بلاد ما وراء النهر، كما لم يجمعهما شيخ أو شيوخ تتلمذوا على أيديهم، والسؤال الذي يطرح هنا هو: إذا كان الأمر كذلك فم يفسر التوافق بين الرجلين في المنهج والموقف من المعتزلة وممن يسمونهم بالمشبهة؟ أحد الباحثين أجاب بعد إيراد هذا التساؤل بقوله: " ويمكن تفسير وجوه الشبه بينهما في الآراء بأنه يرجع إلى تشابه منهج كل منهما إلى حد ما في التوسط بين العقل والنقل" (2) ، وهذا التفسير تحصيل حاصل، لأن السؤال يرد مرة أخرى: لماذا كان منهج كل منهما أدى إلى التوسط بين العقل والنقل؟، الحقيقة أنه ليست هناك إجابة واضحة لهذا التساؤل، وإن كان انتشار المذهب الكلابي في العراق والري وخراسان - كما في قصة ابن خزيمة مع الكلابية - ما يدفع إلى القول باحتمال أن يكون هذا المذهب الذي ظهر فيه تلامذة - تناءت بهم الديار -   (1) (ن) انظر في الفلسفة الإسلامية: إبراهيم مذكور (2/56) . (2) إمام أهل السنة (الماتريدي) (ص: 424) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 قد انتشر أيضا في بلاد ما وراء النهر، خاصة وأن تلك المنطقة كانت كما يقول المقدسي تغص بمختلف الطوائف والفرق (1) ، ولذلك فمن المحتمل أن يكون الماتريدي أو أحد شيوخه قد تلقى هذا المذهب عن بعض أعلام أو أتباع الكلابية. 15- تطور المذهب الأشعري - كما سيأتي - وكان تطوره بالقرب من مذهب المعتزلة أو بالالتصاق بالفلسفة أو التصوف، أما المذهب الماتريدي فلم يقع في التطور، بل بقيت أقوال الماتريدي - الذي لم يحدث له تطور كما حدث للأشعري - هي المعتمدة لدى متأخري الماتريدية كأبي المعين النسفي (2) ، ونجم الدين أبي حفص النسفي (3) ، ونور الدين الصابوني (4) ، وابن الهمام (5) ، وغيرهم، فهؤلاء وإن كان قد يقع لبعضهم مخالفة لمذهب شيخهم، إلا أن الأمر لا يصل إلى مستوى التطور الذي حدث للمذهب الأشعري. 16- اهتم العلماء ببيان الفروق بين مذهبي الأشاعرة والماتريدية، وقسموا الفروق أحيانا إلى لفظية ومعنوية (6) .   (1) انظر أحسن التقاسيم (ص:323) . (2) هو: ميمون بن محمد بن محمد بن معتمد، أبو المعين النسفي المكحولي، من أشهر كتبه التمهيد وتبصرة الأدلة في العقائد توفي سنة 508هـ، وهو الذي روى عن أبي حنيفة القول بفساد صلاة من يرفع يديه عند الركوع وعند الرفع، مما سبب في قول كثير من الأحناف بعدم صحة صلاة الحنفي خلف الشافعي، انظر تفاصيل هذا الموضوع ومدى صحة نسبته إلى أبي حنيفة في الفوائد البهية في ترجمة أبي المعين النسفي (ص: 216-217) . وانظر في ترجمته: الجواهر المضية (3/527) ، وتاج التراجم (ص: 78) . (3) هو: عمر بن محمد بن أحمد بن إسماعيل النسفي السمرقندي، كان من المهتمين بالحديث ولذلك نعته السمعاني بالحافظ لكنه قال: إن مجموعاته الحديثة فيها أخطاء وأوهام كثيرة، انظر، التحبير (1/527-5287) ، توفي أبو حفص النسفي سنة 537هـ، وانظر في ترجمته أيضا معجم الأدباء (16/70) ، والجواهر (2/657) . (4) هو: أحمد بن محمود بن أبي بكر الصابوني، أبو محمد له البداية في أصول الدين، توفي سنة 580هـ، انظر: الجواهر (1/328) ، وتاج التراجم (ص:10) . (5) هو: محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد، كمال الدين، الشهير بابن الهمام الكندري السيواس، ولد سنة 790هـ، وتوفي سنة 861هـ، من كتبه مسايرة في العقيدة، انظر: الفوائد البهية (ص: 180) . (6) هناك في هذا الموضوع كتب مخطوطة كثيرة، ومن المطبوع، كتاب نظم الفرائد لشيخ زاده، والروضة البهية لأبي عذبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 17- على الرغم من وجود الفروق بين المذهبين إلا أنه قد وقع نوع امتزاج بينهما، ومن أبرز الأمثلة على ذلك: أ - ما فعله ابن الهمام في كتابه المشهور، "المسايرة" حيث اعتمد على كتاب الرسالة القدسية - وهي المسماة قواعد العقائد التي ألفها الغزالي لأهل القدس، ثم أدخلها ضمن إحياء علوم الدين - وكان هدف ابن الهمام أن يختصر كتاب الغزالي إلا أنه بعد أن بدأ بالكتابة رأي أن يزيد عليه زيادات مهمة، ولم يزل يزيد فيها - كما يقول - "حتى خرج عن القصد الأول، فلم يبق إلا كتابا مستقلا، غير أنه يسايره في تراجمه، وزدت عليها خاتمة ومقدمة " (1) ، ولذلك سمى كتابه المسايرة، فابن الهمام اعتمد على أحد كتب الأشاعرة، وهذا وحده كاف للتدليل على ما كان بين المذهبين من تقارب، لذلك فابن الهمام؛ وإن ذكر قول الأشعرب - بناء على ما في كتاب الغزالي - إلا أنه أعقبه بذكر مذهب الماتريدي، انظر كأمثلة على ذلك مسألة سماع موسى لكلام الله وهل سمع الكلام النفسي أم يستحيل أن يسمع ما ليس بصوت (2) ، وفي مسألة صفات الأفعال لله، وصفة التكوين، والعجيب في هذه المسألة أن ابن الهمام ذكر قولي الماتريدية والأشعرية، ثمن رجح قول الأشعرية معتمدا على أن مذهب أبي حنيفة وأصحابه الذين ذكر عقيدتهم الطحاوي يخالف ما ذهب إليه الماتريدي ومن جاء بعده (3) ، وقد تعقب ابن الهمام شارحو كتابه وضعفوا ما رجحه (4) ، ومن المسائل التي ذكر الخلاف فيها مسألة التحسين والتقبيح (5) ، وتكليف ما لا يطاق (6) ،وغيرها.   (1) المسايرة - ضمن شرحها - المسامرة (1/7-8) . (2) انظر: المسامرة شرح المسايرة (1/80) . (3) انظر: المسامرة شرح المسايرة (1/89-93) . (4) ومنهم كمال الدين محمد بن محمد المعروف بابن أبي شريف المقدسي المتوفى سنة 905هـ، وهو صاحب المسامرة - انظر: تعليقه فيها (1/93-96) ، ومنهم زين الدين قاسم بن قطلوبغا الحنفي - صاحب تاج التراجم في طبقات الحنفية - توفي سنة 878هـ، انظر: حاشيته على المسايرة، طبعت مع المسامرة - في الحاشية (1-92-96) .. (5) انظر: المسامرة (2/35-39) ، وقد ذكر ابن الهمام نفسه القولين في ذلك: قول الماتريدية الذين وافقوا المعتزلة، وقول الأشعرية. (6) انظر: المصدر السابق (2/41) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 ب - لما ألف النسفي - عمر بن محمد - متن العقيدة الذي سمي بالنسفية اعتني يشرحها - من منطلق المذهب الأشعري - بعض الحنفية، ومنهم سعد الدين التفتازاني (1) ، في شرحه المشهور الذي اشتهر ووضعت له حواش عديدة، انظر كمثال على منهجه كلامه حول صفة التكوين (2) . جـ - ألف البزدوي (3) ، كتابا في أصول الدين، حاول فيه أن يجمع بين طريقتي الأشعرية والماتريدية. د - ومن الأمثلة على تداخل المذهبين أن نور الدين الصابوني الماتريدي رجح - خلافا لشيخ الماتريدية - أن دليل الرؤية الوجود (4) ، ومن المعلوم أن الماتريدي يحتج للرؤية بالسمع فقط، أما معاصره فخر الدين الرازي - وهو دليل الوجود (5) ، ثم في الأخير رجح مذهب الماتريدي ونص على ذلك، ذاكرا اسم الماتريدي (6) .   (1) هو: مسعود بن عمر التفتازاني، صاحب المقاصد وشرحه، وشرح النسفية وغيرها، ولد سنة 712هـ، وتوفي سنة 791هـ، انظر: الدرر الكامنة (6/112) ، "هندية" وبغية الوعاة (2/285) . (2) انظر: شرح النسفية ضمن مجموعة الحواشي البهية عليها (ط الكردي - القاهرة 1/129) مع حاشية ملا أحمد الجندي، والخيالي، ونظر: أيضا - حاشية السيالكوتي في نفس الكتاب - آخر الجزء الأول (ص: 269) ، وانظر: حاشية العصام على شرح النسفية (ص: 146) وما بعدها - طبعة مستقلة. (3) هو: أبو اليسر محمد بن محمد بن الحسين النسفي، الزدوي، له كتاب أصول الدين - مطبوع - ولد سنة 421هـ وتوفي سنة 493هـ، وأخوه أبو الحسن فخر الدين البزدوي - على ابن محمد - ونسبتهم إلى بزدة، قلعة على بعد ستة فراسخ من نسف، انظر: في ترجمة أبي اليسر الجواهر المضية (4/98) ، وتاج التراجم (ص:65) ، وسير أعلام النبلاء (19/49) . (4) انظر: مناظرات فخر الدين الرازي فيما وراء النهر (ص: 15-16) وقد ناظر الرازي الصابوني في هذه المسألة. (5) انظر: الأربعين للرازي (ص: 191-198) . (6) انظر: المصدر السابق (ص: 198) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 هذه لمحات في مذهب الماتريدي والماتريدية، وبها يتبين كيف دخل في مذهب الأشاعرة وامتزج به، وهذا ما يفسر إغفال كثير من العلماء - ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية - في كتبهم وردودهم لذكرهم إلا في مسائل معينة اشتهروا بالخلاف فيها (1) . * * *   (1) ذكر ابن القيم في أسماء مؤلفات ابن تيمية (ص: 23) ، ورقم (79) ، أن من مؤلفات شيخ الإسلام " رسالة في عقيدة الأشعرية وعقيدة الماتريدية وغيره من الحنفية، نحو خمسين ورقة" وحتى الآن لم يعثر على هذه الرسالة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 المبحث الثالث: نشأة المذهب الأشعري وانتشاره عرضنا فيما سبق لمذهب ابن كلاب ومدرسته، وتبين أن مذهبهم في الصفات وكلام الله هو مذهب أبي الحسن الأشعري، والأشعري كان أحد تلامذة الكلابية، لذلك فلتحديد نشأة الأشعرية لا ينفك الأمر من حالين: الحالة الأول: النظر إلى حقيقة المذهب الذي تميز به الأشاعرة عن غيرهم، فهنا لا ترتبط النشأة بأبي الحسن الأشعري، وإنما ترتبط بابن كلاب ومدرسته الكلابية. الحالة الثانية: النظر إلى التشمية، فلا شك أن التسمية بالأشاعرة أو المذهب الأشعري مرتبطة بأبي الحسن الأشعري وتلامذته من بعده. ويتضح الفرق بالنسبة لمن كان معاصرا للأشعري وتتلمذ على ابن كلاب أو تلامذته دون الأشعري وتلامذته مع أنه يقول بقول ابن كلاب الذي هو قول الأشعري، فمثل هذا أشعري الاعتقاد لكنه لا ينسب إلا إلى ابن كلاب، وفي خراسان وغيرها من بلاد الإسلام النائية قد توجد مثل هذه النماذج، ولذلك لما عرض شيخ الإسلام ابن تيمية لنشأة المذهب الكلابي في كلام الله ربطه بابن كلاب ومدرسه، فقال: " وكان ... قد نبغ في آواخر عصر أبي عبد الله [أحمد ابن حنبل] من الكلابية ونحوهم؛ أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد ابن كلاب البصري، الذي صنف مصنفات رد فيها على الجهمية والمعتزلة وغيرهم، وهو من متكلمة الصفاتية، وطريقته يميل فيها إلى مذهب أهل الحديث والسنة، لكن فيه نوع من البدع، لكونه أثبت قيام الصفات بذات الله ولم يثبت قيام الأمور الاختيارية بذاته، ولكن له في الرد على الجهمية - نفاة الصفات والعلو - من الدلائل والحجج وبسط القول ما بين به فضله في هذا الباب، وإفساده لمذاهب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 نفاة الصفات بأنواع من الأدلة والخطاب، وصار ما ذكره معونة ونصيرا وتخليصا من شبههم لكثير من أولي الألباب، حتى صار قدوة وإماما لمن جاء بعده من هذا الصنف الذين أثبتوا الصفات، وناقضوا نفاتها، وإن كانوا قد شاركوهم في بعض أصولهما الفاسدة، التي أوجبت فساد بعض ما قالوه من جهة المعقول ومخالفته لسنة الرسول ". " وكان ممن اتبعه الحارث المحاسبي وأبو العباس القلانسي، ثم أبو الحسن الأشعري، وأبو الحسن بن مهدي الطبري، وأبو العباس الصبغي، وأبو سليمان الدمشقي، وأبو حاتم البستي، وغير هؤلاء، المثبتين للصفات المنتسبين إلى السنة والحديث، المتلقبين بنظار أهل الحديث ". " وسلك طريقة ابن كلاب - في الفرق بين الصفات اللازمة كالحياة، والصفات الاختيارية، وإن الرب يقوم به الأول دون الثاني - كثير من المتأخرين، من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد، كالتيميين أبي الحسن التيمي، وابنه أبي الفضل التيمي، وابن ابنه رزق الله التيمي، وعلى عقيدة الفضل التي ذكر أنها عقيدة أحمد اعتمد أبو بكر البيهقي فيما ذكره من مناقب أحمد بن الاعتقاد". " وكذلك سلك طريقة ابن كلاب هذه أبو الحسن بن سالم وأتباعه " السالمية" والقاضي أبو يعلي وأتباعه كابن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني، وهي طريقة أبي المعالي الجويني، وأبي الوليد الباجي، والقاضي أبي بكر بن العربي، وغيرهم، لكنهم افترقوا في القرآن، وفي بعض المسائل على قولين - بعد اشتراكهم في الفرق الذي قرره ابن كلاب -" (1) . فالأصل الذي قرره ابن كلاب قال به هؤلاء كلهم، وفيه الأشاعرة وغيرهم ممن لا ينسب إليهم كالسالمية وبعض الحنابلة. ومع مرور الزمن بدأت تنقرض النسبة إلى ابن كلاب لتحل محلها النسبة   (1) الكيلانية: مجموع الفتاوي (12/366-368) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 إلى الأشعري، والسؤال الذي يطرح هنا هو: إذا كان قول ابن كلاب هو الأصل فلماذا لم ينسب إليه مذهب الأشاعرة وإنما نسب إلى أبي الحسن الأشعري؟ ويمكن الجواب عن هذا السؤال من خلال الأمور التالية: 1- إن أبا الحسن الأشعري لم يكن صورة طبق الأصل لابن كلاب ومدرسته، وأتباعه له في أصل معين لا يعني أنه في جميع آرائه وأقواله كان متابعا له، فمثلا مع أن الأشعري قال بنفي حلول الحوادث بذات الله وهو ما يسمى بالصفات الاختيارية القائمة بالله، وهذا هو الأصل الذي قال به ابن كلاب ومدرسته، إلا أن الأشعري خالف ابن كلاب في جوانب من مسألة الكلام التي هي أهم المسائل، فإنه قال بأزلية الأمر والنهي، أما ابن كلاب فقال بحدوث ذلك، وعدم التطابق بين آراء الرجلين له دلالته في تحديد نسبة المذهب إلى أحدهما، خاصة وأن مسألة الكلام من أهم المسائل التي تميز المذهب الأشعري لأن غيرها من المسائل قد شارك غير الأشاعرة القول فيها. 2- إن ابن كلاب جاء في وقت محنة أهل السنة من جانب المعتزلة، ولما زالت المحنة برز في مجتمع الإسلام كعلم من أعلام أهل السنة الإمام أحمد ابن حنبل، أما بان كلاب ومن اتبعه فردودهم على المعتزلة والجهمية وإن كانت قوية إلا أنهم شابوها بشيء من البدع، فإذا أضيف إلى ذلك تحذير أئمة أهل السنة كالإمام أحمد وغيره من هؤلاء، فلا شك أن قدرة ابن كلاب في التأثير على الناس ستكون محصورة في نطاق معين لا تتعداه، وهذا ما حدث (1) . أما أبو الحسن الأشعري فقد جاء بعد هدوء العاصفة، وركون الناس إلى أن مذهب أهل السنة هو الغالب المسيطر، لذلك لما قام الأشعري في الرد على المعتزلة كانت الأوضاع مهيأة لاشتهاره وتبني مجموعة من الأعلام لمذهبه.   (1) انظر: دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية: عرفان عبد الحميد (ص: 147-148) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 3- من الأمور المهمة قصة انتقال الأشعري عن الاعتزال إلى مذهب السلف فمن المعلوم أنه قد بلغ مكانة ومنزلة في مذهب المعتزلة حتى صار صنوا لأحد أعلامها، ينوب عنه في الدروس والمناقشات الاعتزالية، وحتى صار يؤلف الكتب لدعم مذهبهم، وهي كتب صارت معتمدة في مذهبهم حتى قال الأشعري عن أحدها بعد بعد أن نقضه ورد عليه: " إنه لم يؤلف لهم كتاب مثله" (1) ، وفي ظل هذه الأوضاع التي تنبي عن وجود نهضة اعتزالية - تعيد إليها سابق عزها - إذا بالعالم الإسلامي يفاجأ بهذا القرار الخطير يتخذه أشهر أعلام المعتزلة معلنا رجوعه التام عن جميع أقوال المعتزلة، ويتبع ذلك بكشف ضلالاتهم، والرد عليهم بأسلوب كلامي قوي يوازي ما عند المعتزلة من قدرة وأساليب. والمفاجأة إذا وقعت بهذا المستوى ينسي الناس معها تفاصيل الأمور، من مثل أن الأشعري لم يكن رجوعه إلى مذهب السلف كاملا، وأن لديه بعض البقايا من أصول المعتزلة - وتنحصر القضية في رد العدو الأكبر " المعتزلة " ولا شك أن الرد عليهم وكشف ضلالاتهم في ذلك الوقت جهاد وأي جهاد، يقول ابن عساكر - فيما رواه عن ابن عذرة - في قصة رجوع الأشعري وصعوده المنبر وإعلان ذلك على الملأ: " ودفع الكتب إلى الناس فمنها كتاب اللمع وكتاب أظهر فيها عوار المعتزلة سماه بكتاب " كشف الأسرار وهتك الأستار " وغيرها، فلما قرأ تلك الكتب أهل الحديث والفقه من أهل السنة والجماعة أخذوا بما فيها، وانتحلوه، واعتقدوا تقدمه، واتخذوه إماما، حتى نسب مذهبهم إليه، قال لي أبو بكر - أي ابن عذرة - فصار عند المعتزلة ككتابي أسلم وأظهر عوار ما تركه فهو أعدي الخلق إلى أهل الذمة، وكذلك الأشعري أعدي الخلق إلى المعتزلة، فهم يشنعون عليه من الأشانيع ونيسبون إليه الأباطيل" (2) . 4- ومن أسباب نسبة المذهب إلى الأشعري كثرة مؤلفاته، ورسائله، فمؤلفاته قد تزيد على ثلاثمائة كتاب، كما أن الأسئلة كانت تأتيه من الآفاق ويكتب   (1) تبيين كذب المفتري (ص:131) . (2) المصدر السابق (ص: 39-40) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 في ذلك رسائل مختلفة، وسرعان ما تشتهر وتنتشر بين الناس، وهذا بخلاف ابن كلاب الذي كانت مؤلفاته قليلة، ولم تكن تلقى قبولا بسبب موقف أئمة أهل السنة منه، بل وصل الأمر إلى أن يتستر الكلابية بما عندهم كما حدث لتلامذة ابن خزيمة الموافقين لابن كلاب، لم يستطيعوا أن يظهروا ما عندهم فضلا عن أن ينشروه أو يدرسوه. 5- وأخيرا يأتي دور تلاميذ الأشعري، ومن جاء بعدهم من تلامذتهم في ترسيخ نسبة المذهب إليه في دروسهم وكتبهم، إضافة إلى دورهم في نشره والدفاع عنه، يقول القاضي عياض عن الأشعري: " فلما كثرت تواليفه، وانتفع بقوله، وظهر لأهل الحديث والفقه ذبه عن السنن والدين، تعلق بكتبه أهل السنة وأخذوا عنه، وتفقهوا في طريقه (1) ، وكثر طلبته وأتباعه لتعلم تلك الطرق في الذب عن السنة، وبسط الحجج والأدلة في نصر الملة، فسموا باسمه، وتلاهم أتباعهم وطلبتهم فعرفوا بذلك، وإنما كانوا يعرفون قبل ذلك بالمثبتة، سمة عرفتهم بها المعتزلة؛ إذا أثبتوا من السنة والشرع ما نفوه، فبهذه السمة أولا كان يصرف أئمة الذب عن السنة من أهل الحديث كالمحاسبي، وابن كلاب، وعبد العزيز بن عبد الملك المكي، والكراسي، إلا أن جاء أبو الحسن، وأشهر نفسه، فنسب طلبته والمتفقهة عليه في علمه ونسبه، كما نسب أصحاب الشافعي إلى نسبة وأصحاب مالك وأبي حنيفة وغيرهم من الأئمة إلى أسماء أئمتهم الذين فكذلك أبو الحسن، وتفقهوا بطرقهم في الشريعة، - وهم لم يحدثوا فيها ما ليس منها - فكذلك أبو الحسن، فأهل السنة من أهل المشرق والمغرب بحججه يحتجون، وعلى منهاجه يذهبون، وقد أثني عليه غير واحد منهم، وأثنوا على مذهبه وطريقة (2) . - أسباب انتشار المذهب الأشعري : لاشك أن مذهب الأشاعرة انتشر في أنحاء العالم الإسلامي، حتى كاد يستقر في بعض الأزمنة أن مذهبهم هو مذهب أهل السنة والجماعة، ومع   (1) هكذا في ترتيب المدارك. (2) ترتيب المدارك (5/25) -ط مغربية -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 أن هناك مواقف لكثير من العلماء من المذهب الأشعري إلا أن هذه المواقف كثيرا ما تأخذ شكل صراع مذهبي تنتقل بسببه القضية إلى إطار آخر، ومن ثم يكثر الخصام وتتعدد الاتهامات، ويحمل كل فريق على الآخر، ثم قد يصاحب البعض الهوي والتعصب المذهبي، فيزاد في الكلام وينقص، ويحمل على غير محامله، ويسيء كل طرف الظن بالطرف الآخر، ولذلك قلما تنتهي مناقشة من هذه المناقشات إلى اتفاق على رأي واحد يكون مبنيا على أسس سلمية من مذهب ومنهج أهل السنة والجماعة حيث يدعي الطرفان أنهم لا يخالفونه. وهذا تفسير لما حدث، وإلا فالواجب أن يكون رائد كل مسلم الوصول إلى الحق بالأدلة الصحيحة. ومذهب أهل السنة والجماعة إنما هو ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعون لهم بإحسان، ومن ثم فعلى كل عالم أن لا يجعل الانتساب إلى طائفة أو جماعة - غير أهل السنة - شعارا له يفاصل عليه ويوالي ويعادي من أجله. وقد يقول قائل: إذا كان مذهب الأشاعرة فيه ما فيه من هنات وعليه ما عليه من ملاحظات فلماذا انتشر في العالم الإسلامي؟ ولماذا تبناه جمهرة من جلة العلماء من أهل الفقه والحديث؟ يجيب على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية من وجوه: " أحدهما: كثرة الحق الذي يقولونه، وظهور الإثارة النبوية عندهم. الثاني: لبسهم ذلك بمقاييس عقلية، بعضها موروث عن الصابئة، وبعضها مما ابتدع في الإسلام، واستيلاء ما في ذلك من الشبهات عليهم، وظنهم أنه لم يمكن التمسك بالإثارة النبوية من أهل العقل والعلم إلا على هذا الوجه. الثالث: ضعف الإثارة النبوية الدافعة لهذه الشبهات، والموضحة لسبيل الهدي عندهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 الرابع: العجز والتفريط الواقع في المنتسبين إلى السنة والحديث، تارة يروون مالا يعلمون صحته، وتارة يكونون كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، ويعرضون عن بيان دلالة الكتاب والسنة على حقائق الأمور" (1) . أما أهم أسباب انتشار مذهب الأشاعرة في العالم الإسلامي فيمكن تلخيصها في الأمور التالية: 1- أفول نجم المعتزلة، مع ظهور المذهب الأشعري كخصم لمذهبهم (2) . 2- نشأة المذهب في حاضرة الخلافة العباسية " بغداد "، ولا شك أن أنظار الناس في شتى الأقطار تتجه في الغالب إلى دار الخلافة، ففيها الفقهاء والمحدثون والمقرئون، كما أنها من أهم البلدان التي يرحل إليها العلماء ليسمعوا الروايات أو يحدثوا فيها بمروياتهم، فلما نشأ المذهب الأشعري في بغداد وهي على هذه الحالة كثر المتلقون لهذا المذهب، الناقلون له إلى كل مكان، وهذا - مثلا - بخلاف مذهب الماتريدي الذي نشأ في زمن الأشعري لكنه كان في بلاد ما وراء النهر فلم ينتشر كانتشار المذهب الأشعري (3) . 3- تبني بعض الأمراء والوزراء لمذهب الأشاعرة واحتضان رجالهم له، ومن أبرز هؤلاء: - الوزير نظام الملك (4) ، الذي تولى الوزارة لسلاطين السلاجقة، فتولى الوزارة لالب أرسلان وملكشاة مدة ثلاثين سنة، من سنة 455-485هـ،   (1) مجموع الفتاوي (12/33) . (2) انظر علم الكلام: الأشاعرة (ص: 68) . (3) انظر علم الكلام: الأشاعرة (ص: 28) . (4) اسمه الحسن بن علي بن إسحاق بن العباس الطوسي، أبو علي، ولد سنة 408هـ، وقتل سنة 585هـ، انظر: الروضتين (1/25) ، والمنتظم (9/64-68) ، وطبقات السبكي (4/309-328) , الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 والسلاجقة جاءوا على أثر البويهيين الشيعة الذين كانوا يوالون الدولة الفاطمية الباطنية، ولما استولى السلاجقة على بغداد وقضوا عليهم سنة 447هـ لم تمض سنوات قليلة حتى حدثت فتنة البساسيري - أحد القواد الأتراك الموالين لبني بويه - وكان ذلك سنة 450 هـ، وكان من آثارها أن احتل بغداد وأعلن الخطبة للخليفة المستنصر بالله العلوي العبيدي، وأمر بأن يؤذن بحي على خير العمل، وعزل الخليفة العباسي القائم بأمر الله وكتب عليه عهدا أن لا حق له في الخلافة ولا لبني العباس وأرسل العهد إلى الخليفة الفاطمي في القاهرة، وقد استمرت فتنة البسايري سنة كاملة حتى قضي عليها السلاجقة وأعيد الخليفة العباسي. لذلك جاءت دولة السلاجقة لتنصر أهل السنة ضد أهل الرفض والبدعة، والوزير نظام الملك من اعظم وزرائهم أثرا وخطرا وكانت له جهود عظيمة في حرب الحركات الباطنية والإسماعلية وتحدث عنها طويلا في كتابه المشهور سياست تامة أو سير الملوك (1) ، ومن أهم آثاره المدارس النظامية التي أنشئت في مدن عديدة منها: البصرة، أصفهان، وبلخ، وهراة، ومرو، والموصل، وأهمها وأكبرها المدرسة النظامية في نيسابور وفي بغداد، وقد جعلهما مع أوقافهما وقفا على أصحاب الشافعي أصلا وفرعا (2) ، وكان نظام الملك معظما للصوفية وللقشيري والجويني وغيرهما من أعلام الأشعرية، وقد كان هؤلاء يلقون دروسهم في هذه المدارس على المذهب الشافعي، ويدرسون أصول العقيدة الأشعرية، فكان لذلك دور عظيم في نشرها (3) . - المهدي بن تومرت، مهدي الموحدين، توفي سنة 524 هـ، فقد دعا إلى المذهب الأشعري وتبناه وكان له دور عظيم في نشره (4) .   (1) (ص: 234) - وما بعدها - وانظر عن فتنة البساسيري: الكامل (9/640-650) ، والتاريخ الفارقي (ص: 152) ، وتاريخ دولة آل سلجوق (ص: 16-20) ، وزبدة التواريخ للحسيني (ص: 59-63) ، وسياسة الفاطميين الخارجية (ص: 179) .. (2) انظر: المنتظم (9/65-66) ، وتاريخ الفكر الفلسفي -أبو ريان: (ص: 213) ، والتاريخ السياسي والفكري للمذهب السني (ص: 211-234) . (3) انظر: المنتظم (9/65) ، وطبقات السبكي (4/316) . (4) انظر: المعجب (ص: 275) ، والخطط للمقريزي (2/358) ، وظهر الإسلام (4/97-98) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 ج-- نور الدين محمود بن زنكي، الذي جاهد الصلبيين، وقد ولد سنة 511 هـ وتوفي سنة 569هـ (1) ، وكان من آثاره أنه بنى أكبر دار للحديث في دمشق ووكل مشيختها إلى ابن عساكر صاحب " تبيين كذب المفتري" (2) ، كذلك أنشأ في حلب سنة 544هـ المدرسة النفرية النورية، وكانت للشافعية، وتولى التدريس فيها قطب الدين مسعود بن محمد النيسابوري (3) ، وكان أحد أساتذة المدرسة النظامية في نيسابور، وكان أحد أعلام أهل الكلام على المذهب الأشعري، وفي عهد نور الدين بدأت صلة قطب الدين مسعود بصلاح الدين الأيوبي، وتوثقت فيما بعد - كما سيأتي -. ولا شك أن لهذه المدارس، والمدارس النظامية (4) ، متمثلة بأولئك العلماء الذين درسوا فيها أثرا عظيما في مقاومة التيار الباطني الإسماعيلي، ومعلوم أن من أعظم آثار نور الدين وصلاح الدين القضاء على الدولة الفاطمية الباطنية في مصر، حيث حلت محلها دولة سنية حكمها صلاح الدين الأيوبي نائبا لنور الدين ثم مستقلا بعد وفاته - رحمهم الله -. د- صلاح الدين الأيوبي: يقول المقريزي: " وأما العقائد فإن السلطان صلاح الدين حمل الكافة على عقيدة أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري تلميذ أبي علي الجبائي، وشرط ذلك في أوقافه التي بديار مصر كالمدرسة الناصرية بجوار قبر الإمام الشافعي من القرافة، والمدرسة الناصرية التي عرفت بالشريفية" (5) ،ثم يقول عن المذهب الأشعري: " فلما ملك السلطان الملك الناصر صلاح   (1) انظر: في ترجمته: الكواكب الدرية في السيرة النووية لابن قاضي شهبة (ص: 15) ، وما بعدها، والروضتين (1/28) وما بعدها، والتاريخ الباهر (ص: 95) وما بعدها. (2) انظر: التاريخ السياسي والفكري (ص: 261) . (3) انظر: المصدر السابق (ص: 252) ، وقطب الدين مسعود سبقا ترجمته. (4) لكن المدارس النظامية كانت خاصة بالشافعية فولد ذلك أنواعا من التعصب بينهم وبين الحنفية والحنابلة، أما المدارس التي أنشأها نور الدين وصلاح الدين فكانت متنوعة. (5) الخطط للمقريزي (2/343) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 الدين يوسف بن أيوب ديار مصر كان هو وقاضيه صدر الدين عبد الملك بن عيسى بن درباس الماراني (1) ، على هذا المذهب قد نشأ عليه منذ كانا في خدمة السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق، وحفظ صلاح الدين في صباه عقيدة ألفها له قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري، وصار يحفظها صغار أولاده، فلذلك عقدوا الخناصر وشدوا البنان على مذهب الأشعري، وحملوا في أيام دولتهم كافة الناس على التزامه، فتمادى الحال على ذلك جميع أيام الملوك من بني أيوب، ثم في أيام مواليهم الملوك من الأتراك (2) ، وإذا كان قطب الدين مسعود قد ألف لصلاح الدين عقيدة (3) ، فإن الفخر الرازي قد ألف كتابه المشهور " أساس التقديس " - الذي نقضه شيخ الإسلام ابن تيمية- للملك العادل محمد بن أيوب بن شادي أخو صلاح الدين. المتوفى سنة 615 هـ (4) ، أما ابنه الأشرف بن العادل فقد مال إلى الحنابلة وأهل السنة في العقيدة، وجرت بينه وبي العز بن عبد السلام- وهو أشعري - مناقشة ومحنة طويلة (5) . 4- ومن أسباب انتشار المذهب الأشعري أن جمهرة من العلماء اعتمدوه ونصروه، وخاصة فقهاء الشافعية والمالكية المتأخيرن (6) ، والأعلام الذين تبنوه: الباقلاني، وابن فورك، والبيهقي، والإسفراييني، والشيرازي،   (1) وهو: مؤلف رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري - سبقت الإشارة إليها. (2) الخطط (2/358) ، وانظر خبيئة الأكوان (ص: 48) ، ونظريات شيخ الإسلام، لاوست (1/141-142) ، وابن تيمية لأبي زهرة (ص: 25) . (3) انظزر سيرة صلاح الدين لابن شداد (ص:7) ، وطبقات السبكي (7/297) . (4) انظر أساس التقديس (ص: 3) ، وسير أعلام النبلاء (22/120) .. (5) انظر طبقات السبكي (8/218) ، والتاريخ السياسي والديني (ص: 298) . (6) ومن المعلوم أن أبا الحسن الأشعري تجاذبه أصحاب المذاهب الأربعة، ولذلك ترجم له في طبقات الشافعية والمالكية والحنفية، أما الحنابلة فقد صرح هو في مقدمة الإبانة بانتسابه إلى إمام أحمد في الأصول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 والجويني، والقشيري، والبغدادي، والغزالي، والرازي، والآمدي، والعز ابن عبد السلام، وبدر الدين ابن جماعة، والسبكي، وغيرهم كثير، ولم يكن هؤلاء أشاعرة فقط، بل كانوا مؤلفين ودعاة إلى هذا المذهب، ولذلك ألفوا الكتب العديدة، وتخرج على أيديهم عدد كبير من التلاميذ. كما انتشر في أنحاء عديدة بواسطة هؤلاء، ففي الحجاز انتقل إليه المذهب الأشعري بواسطة أبي ذر الهروي (1) ، كما انتقل عن طريقه إلى المغرب عن طريق المغاربة الذين كانوا يأتون إلى الحج، وكان ممن له أثر في نشره في المغرب بين المالكية أبو بكر الأبهري، والباقلاني وتلامذته (2) ، والباجي وابن العربي (3) ، وغيرهم، كما دافع كل من ابن أبي زيد القيرواني، وأبي الحسن القابس عن الأشعري (4) . ويذكر المقريزي أنه قد انتشر في العراق نحو سنة 380هـ وانتقل منه إلى الشام (5) ، وممن انتشر على يديه في الشام أبو الحسن عبد العزيز بن محمد الطبري المعروف بالدمل (6) . وفي العصور المتأخرة كان لتبني كثير من دور العلم والجامعات عقيدة ومذهب الأشاعرة دور في نشره، ومن أهمها الجامع الأزهر في مصر مع ماله من مكانة علمية في العالم الإسلامي.   (1) انظر: صون المنطق (1/122) ، ودرء التعارض (1/271، 2/101) . (2) انظر: تبيين كذب المفتري (ص: 120، 121، 410) ، والتطور المذهبي بالمغرب (ص: 28-30) . (3) انظر: نشأة الفكر الفلسفي- النشار (1/284) . (4) انظر: تبيين كذب المفتري (ص: 123-124) ، ولأبي نصر السجزي في رسالة من أنكر الحرف والصوت تعليق معهم على ذلك (ص: 298-304) . (5) انظر: الخطط (2/358) . (6) انظر: التبيين (ص: 195) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 هذه أهم أسباب انتشار المذهب الأشعري، وهي تدل على مدى تغلغل هذا المذهب بين الناس، وإن كانت الجمهرة الغالبة للمسلمين تؤمن بهذا الدين وعقيدته بإجمال وتعظم السلف ومنهجهم، لأنه لا تعرف المداخل الكلامية والقضايا العقلية التي يعتمدها أهل الكلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 المبحث الرابع: عقيدة الأشعرية بعد عرض نشأة الأشعرية، وأسلاف الأشاعرة، وأسباب انتشار مذهبهم، لابد لاستكمال الموضوع من عرض عقيدة الأشاعرة، ولما كان المذهب الأشعري قد مر بعدة أطوار حتى في حياة مؤسسة فضلا عن التطورات الأخرى الكبيرة التي مر بها هذا المذهب عبر القرون، فإن هناك صعوبة في تحديد العقيدة الأشعرية والصعوبة تأتي من خلال مايلي: 1- هل المعتبر في تحديد المذهب ما يقوله مؤسسة فقط، أم لابد أن يدخل في ذلك ما قاله الأتباع؟ وفي مذهب الأشاعرة كثيرا ما يعرض المتأخرون مذهب الأشاعرة كما طوروه، ثم إذا رد عليهم أو هوجموا ورموا بالابتداع رجعوا يحتجون بأقوال شيخهم الأشعري التي تخالف في كثير منها أقوالهم ومنهجهم. 2- هل المعتبر في المذهب: الأقوال أو الأشخاص؟ أي أن أحد الأعلام إذا عرف عنه أنه أحد أئمة الأشاعرة المنافحين عن مذهبهم، هل تصبح جميع أقواله في إطار التزامه لأصول المذهب مذهبا وعقيدة أشعرية؟ أم أن المعتبر الأقوال الموافقة للمذهب الأشعري فقط؟ وإذا كان فما المقياس في تحديد هذه الأقوال؟ ومن الأمثلة على ذلك أن الفخر الرازي يعتبر من أهم أعلام وأئمة الأشعرية وله في ذلك جهود ومؤلفات كبرى، ومع ذلك فقد دخل في الفلسفة وألف فيها أحيانا كتبا مستقلة، ففي هذه الحالة هل يؤخذ الرازي وكتبه على أنه أشعري أراد موج عقيدة الأشاعرة بالفلسفة، أو تفصل الفلسفة عنده عن العقيدة الأشعرية وتعتمد أقواله الموافقة لها فقط؟ 3- الرجوع عن المذهب، كثيرا ما وقع لأعلام الأشاعرة، ومع انتشار الكتب التي تمثل المرحلتين لعلم ما، تصبح نسبة الأقوال إليه غير مستقرة على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 وضع معين، فالأشعري نفسه هل تعرض أقواله من خلال الإبانة فقط، وما عداها لا قيمة له لأن المفترض أن يكون قد رجع عنه، أو لابد من اعتماد كتبه الأخرى التي شاعت وتلقفها الناس واعتمدوها ... وهكذا بقية أعلامن الأشاعرة. 4- التطور الذي وقع في المذهب الأشعري - كما سبق - هل يعتبر الطور الأول أو الثاني أو الثالث، إذا قيل يعتمد ما استقر عليه مذهب الأشاعرة، فما المصدر في ذلك؟ هذه أهم الصعوبات في تحديد عقيدة الأشعرية، ومن ثم فقد ترجح أن يكون العرض لها كما يلي: أ - بالنسبة للأشعري، فقد سبق عرض عقيدته عند ترجمته، وأبرز سمات عقيدته: 1- إثبات أن الله موجود واحد، أزلي، وأن العالم حادث. 2- إثبات صفات الله تعالى، دون تفريق بين الخبرية والعقلية، ومن ذلك إثبات صفات السمع والبصر، والحياة، والإرادة، والكلام، والقدرة، والعلم، واليدين والوجه، والعين، والاستواء والنزول، والعلو والمجيء، وغيرها مما هو ثابت في الكتاب أو السنة. 3- أما الصفات الإختيارية فلا يثبتها صفات قائمة بالله تتعلق بمشيئته واختياره، بل إما أن يؤولها أو يثبتها أزلية وذلك خوفا من حلول الحوادث بذات الله. 4- الإيمان بكلام الله، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، لكن الكلام -عنده - أزلي، لا يتعلق بمشيئته وإرادته. 5- إثبات الرؤية، وأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة. 6- الإيمان بالقدر، مع القول بالكسب، وأن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 7- الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ومرتكب الكبيرة مؤمن فاسق. 8- وفي الإمامة، والصحابة، وأمور المعاد، وغيرها يقول كما قال أهل السنة. ب - أما بالنسبة لعقيدة الأشاعرة بعد الأشعري فلا يتم هذا إلا بعد عرض التطور الذي حدث لمذهبهم، وهذا ما سيتم توضيحه في الفصل التالي - إن شاء الله -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 الفصل الخامس: تطور مذهب الأشاعرة وأشهر رجالهم إلى عهد ابن تيمية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 الفصل الخامس: تطور مذهب الأشاعرة من الأمور المسملة لدى الأشاعرة وغيرهم أن أقوال الأشاعرة تعددت واختلفت في مسائل عديدة من مسائل العقيدة، وكل علم من أعلامهم حوت مؤلفاته ورسائله آراء توصل إليها إما باجتهاده أو تقليدا لأحد أعلام عصره أو مدرسته ممن تلقى على يديه العلوم والمعارف، فأصبح ذا منهج مستقل، ثم قد يرجع عن بعض أقواله في مؤلف أومؤلفات أخرى فتكثر الأقوال وتتعدد المناهج. ويعتبر الأشاعرة مثل هذا الاختلاف أو التعدد في الأقوال اجتهادا داخل المذهب لا يؤثر عليه، ويجددون التفسير المناسب لمثل لذلك، فيقولون مثلا في بعض الصفات الخبرية، قال قدماء أصحابنا أو شيوخنا بإثباتها مع التفويض ونفي التشبيه، ثمن يذكرون القول الثاني بالتأويل تنزيها لله عن مشابهة المخلوقات، والقولان - عندهم - صحيحان ولا تعارض بينهما، والعجيب أن يتلقى الأشاعرة بعضهم عن بعض مثل هذا، لا يتوقفون عنده، ولا يثيرهم ما فيه من تناقض. والحق أن التطور في المذهب الأشعري لم يكن في مسألة من المسائل بحيث لا يؤبه له، ولا يلفت النظر، بل كان تطورا في الأصول والمناهج، ويتعدى ذلك إلى مسائل عديدة في العقيدة، وقد كان أبرز مظاهر التطور في المذهب الأشعري ما يلي: أ - القرب من أهل الكلام والاعتزال. ب - الدخول في التصوف، والتصاق المذهب الأشعري به. ج-- الدخول في الفلسفة، وجعلها جزءا من المذهب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 هذه أهم الخطوط العامة لما وقع من التطور فيه، وقد تكون هناك تطورات جزئية، لكنها تدخل ضمن أحد هذه الأمور، وهناك بعض الظواهر في المذهب الأشعري قد تلفت نظر المطلع، وذلك مثل ظاهرة ارتباط المذهب الشافعي الفقهي بالمذهب الأشعري، ومثله المالكي، ولكن هذه لا تعدو أن تكون دعوى يدعيها بعض المتحمسين للمذهب الأشعري، وأقرب الأمثلة على ذلك السبكي في طبقات الشافعية، فقد حاول أن يجعل من كتابه هذا ما يمكن أن يسمي بطبقات الأشعرية، ويلاحظ ذلك من يطلع على التراجم في هذا الكتاب وأسلوبه في عرض كل ترجمة، ولا شك أن المدارس النظامية وبعض أعلام الشافعية كان لهم أثر فيما يلمس من تبني جمهرة كبيرة من فقهاء الشافعية للمذهب الأشعري، ولكن ليس بهذه الصورة التي يدعيها هؤلاء، كما أنه ليس كل الحنابلة مثبتة على وفق مذهب السلف، بل فيهم أعداد مالت إلى مذهب الأشاعرة أو إلى ما هو أشد غلوا منه. والجزم في مثل هذه الأمور - التي لا يمكن أن يحصر من لهم علاقة بها من الأعلام، على مختلف الأزمنة والأمكنة- نوع من المجازفة يأباها النظر الفاحص والتتبع الدقيق، ومع ذلك فظاهرة تبني بعض أعلام الشافعية للمذهب الأشعري مما لا ينكر. وقد يرد في الذهن تساؤل عن أسباب حدوث هذا التطور في مذهب الأشاعرة، وهل كان المذهب يحمل في داخله دواعي مثل ذلك؟ ثم لماذا كان التطور في هذه الاتجاهات المنحرفة ولم يكن في الرجوع إلى مذهب السلف، والتخلي عن البقايا الكلامية والاعتزالية؟. لعل في عرض النقاط التالية شيئا من التحليل والتعليل، والأمر قبل كل شيء بيد الله تعالى، فهو الذي يصرف قلوب عباده كما يشاء، ولو شاء لجمعهم على الهدى: 1- إن الانحراف يبدأ في الغالب صغيرا، ثم يكبر، والمتتبع لأغلب المقالات، يجدها تبدأ صغيرة ثم يزداد انحرافها وغلوها مع الزمن، والمذهب الأشعري لما أن حوى منذ البداية انحرافا معينا سواء كان بالدخول في علم الكلام، أو تبني بعض آراء المعتزلة - وهذا كله مما يخالف مذهب السلف ومنهجهم - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 أصبح قابلا للزيادة في هذا الانحراف من خلال التمادي في علم الكلام والتزام لوازم الأقوال الفاسدة، والاستسلام لبعض شبهات أهل الضلال، وعدم القدرة على رد باطلهم إلا بالتزام بعض الأقوال الفاسدة. 2- كثرة مؤلفات مؤسسة أبي الحسن الأشعري، مع ما صاحب ذلك من كونه نشأ وعاش زمنا طويلا في ظل مذهب المعتزلة، وكان من آثار ذلك عدم استطاعته التخلص من المنهج الكلامي في عرض العقيدة، بل زاد على ذلك بأن التزم بعض أصولهم، وهذا كله بعد رجوعه، وقد كان من المفترض أن يكون رجوعه كاملا عن منهجهم وعقيدتهم إلى منهج وعقيدة السلف، لكن الذي وقع أنه ترك الاعتزال وتبني مذهب الكلابية، فإذا أَضيف إلى ذلك كثرة مؤلفاته ورسائله التي ألفتها بعد رجوعه واستخدامه في غالبها الاسلوب العقلي الكلامي، كما هو واضح في مثل كتابه " اللمع " وفي ما حواه كتاب ابن فورك " مجرد مقالات أبي الحسن الأشعري "، مع تأخر كتابه الإبانة، وكونه كتابا واحدا في مقابل عشرات الكتب المنتشرة، فهذا يفسر ما وقع من تطور في مذهب الأشاعرة، مع قناعة أعلامهم بأنهم لم يخالفوا أقوال شيخهم الأشعري مخالفة أصولية (1) . 3- إن المذهب لم يبن منذ البداية على منهج مؤصل؛ حيث لم يحدد له أصول واضحة في الاعتقاد أو كيفية التعامل مع النصوص، والأشعري في الإبانة كان صاحب منهج يختلف عن منهجه في كثير من كتبه، لذلك فالمذهب منذ البداية نشأ على التذبذب بين موافقة مذهب السلف، والرد على المعتزلة، وتأييد العقيدة بعلم الكلام، ولو نشأ المذهب واضح المعالم في الاستدلال للعقيدة أو الرد على المخالفين لكان ذلك مانعا من اجتهاد يأتي فيما بعد يؤدي إلى الانحراف، وهذا ما حدث بالنسبة لما كتبه أعلام السلف في ردودهم على الجهمية   (1) سبقت الإشارة إلى ذلك عند الحديث عن كتاب "المجرد" في آخر الكلام عن مؤلفات الأشعري، ويرى ابن بدران أن أتباع الشعري التقطوا مسائل كتبه التي رد بها على المعتزلة وجعلوها مذهبا له، وتركوا الإبانة التي صرح فيها بعقيدته، انظر: المدخل إلى مذهب الإمام أزحمد (ص: 49-50) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 والمعتزلة، فعلى الرغم من المناقشات العقلية، والالزامات القوية للخصوم، في مؤلفات الأئمة مثل الإمام أحمد، والكناني، والدرامي، وابن قتيبة، وغيرهم، لم تؤد هذه الردود- التي بقيت وحفظت - إلى شيئ من الانحراف، بل على العكس كان لها دور في دعم مذهب السلف وإسكات خصومهم. 4- رفض أهل السنة للمذهب الأشعري منذ البداية مما كان سببا في جعله مذهبا منعزلا عنهم، ولكا كان رفض أئمة الحديث والسنة له الأثر النفسي والواقعي في حياة الناس، حرص المتأخرون على الدفاع عن مذهبهم وعقيدتهم الأشعرية ودعمها بالأدلة، وبيان بعدها عن التشبيه والتجسيم الذي قد يصمون به أهل الإثبات، والمعارضة القوية من جانب علماء السلف لمذهب الأشاعرة ورمي معتنقيه - أحيانا - بأنهم نفاة ومعتزلة، يؤدي إلى ردود فعل نفسية من جانب هؤلاء فيؤدي إلى اتساع دائرة البعد بين الفريقين. 5- ومن الأسباب أيضا فشو التقليد في أصول العقيدة وفروع الأحكام فقد يقلد شيخه في إحدى المسائل؛ ظنا منه أنه - وهو العالم المشهور- ما قال بها إلا هي حق، ثم يضطر في النهاية إلى التزام لوازم هذه المسألة، وقد تكون لوازم باطلة، لكنه التزمها التزاما لأصلها الذي أخذه تقليدا، وقد يكون شيخه قال بهذه المسألة بناء على وجه معين وهو يرفض لوازمها لو ألزمها. 6- وهناك أسباب أخرى مثل الهوى، والتعصب لطائفة أو لمذهب، وحرص أهل الباطل على التفريق بين المسلمين بإثارة الفتن بينهم، وغيرها. * * * بعد هذه المقدمة ننتقل إلى عرض مجمل لترجمة ومنهج أهم أعلام الأشاعرة إلى عصر بان تيمية مع ذكر جوانب التطور التي حدثت في المذهب الأشعري عن طريقهم، وسيتم هذا العرض على المنهج التالي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 1- الاقتصار على ذكر أعلام الأشاعرة الذي كان لهم دور في المذهب، وذلك من خلال مؤلفاتهم وكتبهم التي ساعدت على دعم أو تطوير المذهب الأشعري. 2- لما كان كل علم من هؤلاء بحاجة إلى دراسة مستقلة- وكثير منهم كتبت عنهم مؤلفات ورسائل علمية - فسيقتصر العرض على مايلي: - ترجمة موجزة للعلم، وأهم شيوخه وتلاميذه. - آثاره العلمية المتعلقة بمذهب الأشاعرة. 3- مجمل منهجه وعقيدته، وبيان جوانب التطور عنده إن وجدت، مع التركيز على بعض شخصيات الأشاعرة المشهورة. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 - أبو الحسن الطبري : توفي بحدود سنة 380هـ. تقدم ذكر أبي الحسن (1) الطبري في تلامذة الأشعري، وأنه كان أحد تلاميذه الأربعة الذين اختصوا به، واسمه علي بن محمد بن مهدي، أبو الحسن الطبري (2) ، -وأحيانا يقال: على بن مهدي -، وقد ذكر السبكي أنه تحقق أن أباه اسمه محمد، ومهدي جده. قال عنه السبكي: " كان من المبرزين في علم الكلام، والقوامين بتحقيقه، ... وكان مفتنا في أصناف العلوم"، وذكر الاسنوي عن أبي عبد الله الأسدي أنه قال في كتاب "مناقب الشافعي":" كان شيخنا وأستاذنا أبو الحسن بن مهدي حافظا للفقه والكلام والتفاسير والمعاني وأيام العرب، فصيحا مبارزا في النظر ما شوهد في أيامه مثله، مصنفا للكتب في أنواع العلم، صحب أبا الحسن الأشعري في البصرة مدة"، ولم يؤرخ ولادته ولا وفاته، إلا أن الصفدي ذكر أنه توفي في حدود سنة 380هـ. أما أهم آثاره فهي: 1- كتاب "الأصول". 2- تفسير أسامي الرب عزوجل. وهذان الكتابان ذكرهما العبادي، ولا يعرف عنهما شيء. 3- تأويل الأحاديث المشكلة الموضحة وبيانها بالحجة والبرهان. وقد ذكر هذا الكتاب جميع من ترجم له، وقد وصلت إلينا نسخة منه   (1) هكذا في الكتب التي ترجمت له، وفي مخطوطة كتابه تأويل الأحاديث المشكلات، أنه: أبو الحسين. (2) انظر في ترجمته: تبيين كذب المفتري (ص: 195) ، والوافي للصفدي (22/143) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 لا تزال مخطوطة (1) . عقيدته: بما أن على بن محمد الطبري يعتبر من تلامذة الأشعري فهو يمثل مرحلة متوسطة بين الأشعري والباقلاني، وعرض عقيدته وآرائه يفيد في بيان مستوى النقلة من المؤسس الأول إلى أتباعه من بعده، وكيف تلقى تلاميذ الأشعري أقواله، وهل تابعوه فيها من خلال المرحلة الأولى من رجوعه أم المرحلة الأخيرة؟ 1- كتب أبو الحسن الطبري في بداية كتابه ما يبين سبب تأليفه حين قال: " أما بعد فإنك كتبت إليّ شكوى مافشا بالناحية من معتقد الفرقة المنتسبة إلى الحديث، المنتحلة الأثر، حتى مالوا إلى قوم من ضعفه المسلمين بمعاهدتهم بالتلبيس والتمويه" (2) ، ثم يصف هؤلاء الذين يوردون الأخبار فقط بأنهم: " تقصر معرفتهم عن استخراج تأويلها ... لقلة عنايتهم بمعرفة مصادر الكلام وموارده، وظاهره وباطنه، ومجازه وحقيقته واستعارته، وما يجوز إطلاقه في القديم ومالا يجوز إطلاقه" (3) ، ثم يقول عنهم:" قد قنع الواحد منهم من العلم برسمه، ومن الحديث بجمعه واسمه، فأبعد غاية هذه الطائفة أن يكتبوا أجزاء من الحديث وأجلادا من القصص ثم يقبلوا على تفسيرها بغير ما أذن الله بها" (4) . ثم يذكر تأثير هؤلاء بأنهم: " يتقربون إلى الرعاع والهمج من أهل الحديث بذلك، وإن من عدل عن هذا المنهج والسير فقد خالف المشايخ والقدماء والأسلاف من العلماء" (5) . ثم يذكر نماذج من الأحاديث التي يوردونها، ويبين أنه لابد من تفسيرها ب-: " ما يوافق المعقول من الأصول، والمعمول به من اللغات" (6) .   (1) موجودة في مكتبة طلعت في القاهرة محموع رقم (491) من 108 -أ - 162 - ب، وقد رقمت المخطوطة ترقيما خاصة بها، وعليها الإحالة في بيان أرقام لوحاتها. (2) تأويل الأحاديث المشكلة - مخطوط - (لوحة 1- أ) . (3) المصدر السابق (لوحة 1- ب) . (4) نفس المصدر. (5) نفس المصدر. (6) تأويل الأحاديث المشكلة- مخطوط - (لوحة 2- ب) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 فأبو الحسن الطبري في هذه المقدمات [يعرض بأهل الحديث و] يستخدم المنهج العقلي في تأويل النصوص الدالة على الإثبات دون أن يفرق بين الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة والأحاديث الثابتة، بل واضح من كلامه أن حذره من التشبيه أكثر من حذره من التعطيل. 2- يحتج على إثبات الصانع بخلق الإنسان من نطفة ثم من علقة، ثم يحتج على الوحدانية بدليل التمانع (1) ، وهذه نفسها أدلة الأشعري، ويقول: إن الله ليس بجسم ويحتج لذلك بإن الله لم يسم نفسه به ولا اتفق المسلمون عليه، ويعلل منع إطلاقه بأن حقيقة منع إطلاقه بأن حقيقة الجسم أن يكون طويلا عريضا عميقا وهذا يخالف وصف الله بأنه واحد (2) . 3- أما مذهب أبي الحسن الطبري في الصفات فقد فصله في كتابه، ويمكن تلخيص ذلك فيما يلي: أبالنسبة للصفات الخبرية فهو يثبتها مع نفي أي دلالة فيها على التجسيم أو التبعيض - على حد زعمه - فمثلا حين يتكلم على صفة اليدين وقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] يذكر الوجوه الواردة في معنى اليد، كالقوة، والنعمة، والجارحة، وبمعنى النفس والذات، ومنها يد صفة لا تحتمل معنى من المعاني السابقة، وبعد أن يبطل هذه الأقوال تفسيرا للآية يقول: "فإذا بطلت هذه الوجوه بأسرها لم يرجع تفسيرها إلى غير إطلاق اللفظ فيها كما جاء عن الله سبحانه من غير تفسيرنا ذلك بالفارسية الموهمة للخطأ، فإن قيل: كيف يستقيم لك أن تقسم اليد على أوجه ثم تخرج اليد التي تثبتها للقديم من جملتها من غير أن ترجع في العبارة عنها إلى الفارسية وغيرها من اللغات ولا تزيد على قولك من أنها يد صفية وهي غير معقولة فيما بيننا؟ قيل له: إن ذلك التقسيم الذي قسمنا إنما فعلنا فيما شاهدناه، ونحن فلم نرتب الباب بيننا   (1) تأويل الأحاديث المشكلة (لوحة 3- أ-ب) . (2) المصدر السابق (لوحة 4- أ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 وبين خصومنا، لا لنثبت ما شاهدناه، وعقلناه معاينة حتى يكون قولك هذا قادحا في جملة ما أوردناه في هذا الباب؛ لأنا قد نثبت فاعلا في الغائب قديما ليس بجسم ولا عرض ولا جوهر وإن كنا في الشاهد لا نعقل موجودا إلا جسما أو جوهرا أو عرضا، فإن صح ذلك كله مع خروجه عن حكم الشاهد صح لغيرك إثبات اليد القديم من غير رجوع في تفسيرها إلى أكثر من إطلاق اللفظ بها كما جاء في القرآن " (1) ، والخلاصة أنه يثبت اليدين مع التفويض الكامل لها، ولذلك لم يثبت القبضة الواردة في قوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67] بل أولها بقوله عن معنى الآية: "أي والأرض جميعا ذاهبة فانية يوم القيامة بقدرته على إفنائها" (2) ، وكذلك يقول في قوله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزمر: 67) ، إن الطي أريد به الفناء والذهاب، ويذكر أدلة ذلك من الشعر ثم يقول:" ومن الناس من يقول: مطويات بيمينه أي ذاهبات بقسمه لأنه أقسم ليفنيها " (3) . ويقول: إن الله راء بلا عين، ويرد على أدلة من يسميهم بالمشبه الذين أثبتوا لله عينا ويتأول النصوص الواردة في ذلك من الكتبا والسنة (4) ، كما يتأول" القدم "ويذكر له عدة تأويلات ولا يثبت هذه الصفة كما يليق بالله تعالى (5) . ب - يثبت أبو الحسن الطبري صفة الاستواء والعلو لله تعالى، يقول:" اعلم عصمنا الله وإياك من الزيغ برحمته أن الله سبحانه في السماء فوق كل شيء، مستو على عرشه بمعنى أنه عال عليه، وبمعنى الاستواء الاعتلاء، كما يقول: استويت على ظهر الدابة، واستويت على السطح يعني علوته، واستوت الشمس على رأسي واستوى الطير على قمة رأسي بمعنى علا في الجو فوجد فوق رأسي،   (1) تأويل الأحاديث المشكلة (ل 21 - ب) (2) المصدر السابق (ل 22 - أ) (3) نفسه (ل 22 - ب) ، كما أنه تأويل (عن يمين الرحمن) و (كلتا يديه يمين) ، انظر: (ل51 -أ -ب) . (4) انظر: نفس المصدر (ل5 - أ، ل6 - أ - ب، ل54 - أ) . (5) نفسه (ل38 - ب- 39 -أ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 والقديم جل جلاله عال على عرشه لا قاعد ولا قايم ولا مماس له ولا مباين، والعرش ما تعقله العرب وهو السرير، يريد بذلك أيضا على أنه في السماء عال على عرشه قوله سبحانه: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} (الملك: 16) ، وقوله تعالى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (آل عمران: 55) ، وقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} (النحل: 50) ، وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (فاطر: 10) ، وقوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} (السجدة: 5) (1) ، ثم رد على البلخي وغيره من المعتزلة في تأويلهم الاستواء بالاستيلاء واحتجاجهم بقولهم: استوى بشر على العراق - وغيره - فقال:" فيقال لهم: ما أنكرتم أن يكون عرش الله جسما مجسما، خلقه وأمر ملائكته بحمله، وتعبدهم بتعظيمه كما خلق في الأرض بيتا وامتحن بني آدم بالطواف - حوله وبقصده من الآفاق، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} (الزمر: 75) ، وقال في موضع آخر: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (الحاقة: 17) ، ففي كل هذا دلالة أن العرش ليس بالملك وأنه سرير " (2) ، ثم قال:" ومما يدل على أن الاستواء ها هنا ليس بالاستيلاء أنه لو كان كذلك لم يكن ينبغي أن يخص العرش بالاستيلاء عليه دون ساير خلقه، وليس للعرش مزية على ما [وصفت] (3) ، فبان بذلك فساد قوله، ثم يقال له أيضا: إن الاستواء ليس هو بالاستيلاء في قول العرب: استوى فلان على كذا أي استولى عليه، إذا تمكن منه بعد أن لم يكن متمكنا، فلما كان الباري سبحانه لا يوصف بالتمكن بعد أن لم يكن متمكنا لم يصرف معنى الاستواء إلى الاستيلاء، وحدثنا الشيخ أبو عبد الله الأزدي الملقب بنفطويه قال: حدثنا أبو سليمان، قال كنا عن ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله ما معنى قوله سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) ، قال: إنه مستو على   (1) تأويل الأحاديث المشكلة (ل24= أ- ب) . (2) نفسه (ل 24 - ب) .. (3) في المخطوطة: وضعت، والتصويب من نقض التأسيس المطبوع (2/336) ، حيث نقل هذا النص عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 عرشه كما أخبر، فقال له الرجل: إنما معنى استوى استولى فقال له ابن الأعرابي: ما يدريك ما هذا، العرب لا تقول استوى (1) على العرش حتى يكون فيه مضاد له، فأيهما غلب قيل: قد استولى عليه، والله سبحانه لا مضاد له، وهو مستو على عرشه كما أخبر، والاستيلاء يكون بعد المغالبة" ثم يقول: " فإن قيل فما تقول في قوله سبحانه: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (الملك:16) ، قيل له معنى ذلك أنه فوق السماء على العرش، كما قال: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} (التوبة:2) ، أي على الأرض ... " (2) . وكلامه في ذلك طويل حيث رد على الذين يقولون: إن الله في كل مكان، كما رد على من تأول رفع المسلمين أيديهم إلى السماء عند الدعاء بأن ذلك لأن أرزاقهم في السماء أو لأن الملائكة الحفظة في السماء، فقال: بأن ذلك لو جاز لجاز " أن تخفض أيدينا في الأرض نحو الأرض من أجل أن الله تعالى يحدث فيها النبات والأقوات والمعايش وأنها قرار، ومنها خلقوا وإليها يرجعون، ولأنه يحدث فيها آيات كالزلازل والرجف والخسف، ولأن الملائكة معهم في الأرض، الذين يكتبون أعمالهم، فإذا لم يجب خفض الأيدي نحو الأرض لما وصفنا لم تكن العلة في رفعها نحو السماء ما وصفه البلخي، وإنما أمرنا الله تعالى برفع أيدينا قاصدين إليه برفعهما نحو العرش الذي هو مستو عليه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه:5) (3) . هذا رأي الطبري في مسألة العلو والاستواء، وهذه النصوص تدل على استقرار هذه المسألة وفق مذهب السلف عند تلامذة الأشعري، وهذا ما سنجده أيضام عند الباقلاني - كما سيأتي -. ج-- يتأول أبو الحسن الطبري النصوص الواردة في الضحك والعجب، والفرح، ففي صفة الضحك الواردة في الأحاديث يذكر المعاني المجازية للضحك   (1) في شرح السنة للالكائي رقم 666 "استولى" ولعلها أصوب. (2) تأويل الأحاديث المشكلة (ل25 - أ -ب) . (3) تأويل الأحاديث المشكلة (ل27 - أ- ب) ، وقد نقل ابن تيمية أغلب النصوص الواردة في العلو والاستواء في نقض التأسيس المطبوع (2/335-337) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 مثل قول العرب ضحكت الأرض إذا تبدي نباتها، وضحك طلع النخل إذا بدا كافوره، ويقال هذا طريق ضاحط أي ظاهر واضح، ثم يقول: " فمرجع الضحك في هذا كله إلى البيان، ومعنى الخبر (1) والله أعلم بالمراد: يضحك الله أي يبين الله ثواب هذين الرجلين المقتولين ... فإذا وجدنا للضحك معنى صحيحا تعرفه العرب في لغتها غير الكشر عن الأسنان عند حلول التعجب منه كانت إضافة ذلك إلى ربنا سبحانه أولى مما أضافت إليه المشبهة، نعوذ بالله من الحيرة في الدين وهو ولي المعونة" (2) ، وهذا تأويل واضح لهذه الصفة، وفي صفة العجب يذكر عدة تأويلات منها: أن معنى عجب ربك أي عظم عنده، وقيل معناه رضي وأثاب، وقيل: جازاه على عجبه (3) ، ولا يذكر إثبات هذه الصفة كما يليق بجلال الله وعظمته، كما يؤول الفرح بالرضا (4) . د- أما الصفات الاختيارية التي تقوم بالله تعالى كالنزول والمجيء والإتيان فيتأولها ولا يثبتها كما يليق الله وعظمته، وهذا بناء على نفي حلول الحوادث، يقول عن النزول: " ولا يجوز حمل ذلك على النزول والنقلة ... لما فيه من تفريغ مكان وشغل آخر، والقديم قد جل أن يكون موصوفا بشيء من ذلك، كذلك وقد حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (الأنعام:76) ، واحتجاجه بهذه الآية هنا هو احتجاج جمهور الأشاعرة الذين يزعمون إن إبراهيم عليه السلام استدل بتغير وتحرك النجم على أنه لا يصلح أن يكون إلها، وبنوا على ذلك نفي حلول الحوادث بذات الله تعالى. ويقول أبو الحسن الطبري عن الإتيان والمجيء، " فإن قيل: فما تقول في قوله تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ   (1) يشير إلى ما سبق أن ذكر من حديث " يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، يدخلان الجنة ... " وهو حديث متفق عليه، البخاري كتاب الجهاد، باب الكافر يقتل المسلم ورقمه (2826) فتح الباري (6/39) ، ومسلم كتاب الإمارة، باب بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الحنة ورقمه (1890) . (2) تأويل الأحاديث (1 35 - أ - ب) . (3) انظر: المصدر (ل35 - أ - ب) . (4) نفسه (ل 42- أ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} (النحل:26) ، وفي قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} (الفجر:22) وفي قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} (البقرة:210) ، تقول في قوله تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} (النحل:26) ، وفي قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} (الفجر:22) ، وفي قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} (البقرة:210) ، قيل له: إن الله سبحانه قد صح أنه لا يجوز وصفه بالإتيان والمجيء الذي بمعنى الإنتقال والزوال، إذ كان ذلك من صفات الأجسام تعالى الله أن يكون جسما أعرضا، وكلام العرب واسع له ظهر وبطن لاتباع العرب في المجازات وطرق الكلام. ومعنى البيان في قوله: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ} (النحل:26) ، الاستئصال في الهلاك والدمار بإرساك العذاب ... وأما قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} ،فمعناه جاء حكم ربك وأمر ربك، ألا ترى أن الخاص والعام يقول: ضرب الأمير زيدا، وإن كان الأمير لم يباشر زيدا بالضرب، بل كان ذلك بأمره وحكمه عليه، وقد قال الله تعالى في قصة لوط) {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} (القمر:37) ، وإن كان الطمس للأعين للملائكة بأمر الله، وأما قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} ، فمعناه هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بالحساب في ظلل من الغمام، يراد به بظلل من الغمام، وأن الفاء بمعنى الباء ... " (1) ، هذا هو مذهبه في تأويل هذه الصفات. 4- يثبت أبو الحسن الطبري الرؤية ويرد على المعتزلة المنكرين لها، لكن الملاحظ أنه أورد سؤالا حولها يتعلق بأنه يلزم من إثباتها المقابلة، فأجاب بما يدل على أنه يقول بأنه لا يلزم من الرؤية المقابلة، ومما قاله - وهو يرد على المعتزلة - " وقد زعمتم أن معنى ترون ربكم: تعلمون ربكم، ولم تلزموا أنفسكم أنكم تعلمونه مقابلا لكم" (2) .   (1) تأويل الأحاديث (ل 50 - أ - ب) . (2) المصدر السابق (ل 44 - ب) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 5- هذه أقوال أحد تلامذة الأشعري، ممن جاء قبل الباقلاني المؤسس الثاني للمذهب الأشعري، وهذه النصوص التي نقلت من كلام أبي الحسن الطبري تمثل مرحلة جاءت بين علمين مهمين من أعلام الأشاعرة، ومما سبق يتبين مايلي: 1- إن منهج الأشاعرة الكلامي جعلهم يحرصون على رد تهمة التشبيه عنهم حين يثبتون الصفات كحرصهم على رد تهمة التعطيل وذلك في ردودهم المتوالية على المعتزلة، ولذلك تجد عبارات نفي التجسيم عن الله، أو تأويل أي صفة تدل عليه بزعمهم، وكان من أثر ذلك هجومهم على أهل السنة والحديث الذين يوردون أحاديث الصفات ويروونها مثبتين لها. 2- إثبات الصفات الخبرية لله تعالى، وهذا موجود أيضا عند الباقلاني، لكن نلمح من عبارات أبي الحسن الطبري شرحا واضحا لقولهم وقول الباقلاني: ونثبت أن الله يدين بلا كيف، فما معنى بلا كيف، عبارات الطبري تدل على أنه يقصد التفويض. 3- إن صفة العلو والاستواء لم تكن محل شك أو نقاش عندهم، لأن نفيه أو تأويله هو منهج المعتزلة والجهمية، وهم مخالفون لهم في ذلك، وهذا ما ستجده عند الباقلاني أيضا. 4- تأويل الصفات الأخرى: كالفرح والضحك والمجيء والإتين والنزول، وهذا ما سنجده عند من جاء بعده كالباقلاني الذي يؤول صفات الضحك والفرح أو المجيء والإتيان فيذكر عدة أقوال منه التأويل، كما نجد هذا واضحا عند البيهقي في كتابه الأسماء والصفات، فقد نقل عنه كثيرا خاصة في هذه الصفات (1) .   (1) نظرا لأن البيهقي نقل من كتابه تأويل الأحاديث المشكلة نصوصا، فنشير إلى بعض مواضع النقل في كتابه " الأسماء والصفات"، انظر: (ص/ 310 " النور "، و (ص: 352 " القدم "، و (ص: 397) ، حول اهتزاز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ، و (ص: 410 " إثبات الاستواء") و (ص: 415) حول الاستواء، و (ص: 466، 473، 477، 481، 483، 484، 487، 488، 490، 509) ، في صفات متعددة كالضحك، والفرح، والغيرة، والحياء، وغيرها.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 5- ونلمح في منهج أبي الحسن الطبري في مسألة الرؤية إشارة لبداية المشكلة بين المعتزلة النفاة والأشاعرة المثبتين، وذلك حول لزوم المقابلة من إثبات الرؤية. 6- وعلى العموم فيدل كلام الطبري في كتابه هذا على حرص الأشاعرة على أن يسيروا على منهج متوسط بين المعتزلة وأهل الحديث؛ ولذلك ردوا على المعتزلة وخالفوهم، كما أولوا بعض الصفات وخالفوا أهل السنة المثبتين، وهذا ما يفسر تلك المواقف القوية لعلماء السنة من الأشاعرة في ذلك الوقت، ومن يطلع على عبارات أبي الحسن الطبري في تاويله لبعض الصفات يتضح لديه أن تلامذة الأشعري لم يسيروا على ما في الإبانة وإنما تتلمذوا على كتبه الأخرى ذات الصبغة الكلامية والمناهج التأويلية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 - الباقلاني : ت 403 هـ. أحياته: هو الإمام القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بان جعفر قاسم البصري، ثم البغدادي، ابن الباقلاني (1) ، لم يعرف تاريخ ولادته، كان من أهل البصرة، وسكن بغداد، وقد كانت وفاته سنة 403 هـ. تتلمذ على مجموعة من الشيوخ منهم: 1- أبو بكر أحمد بن جعفر بن مالك القطيعي، رازي مسند الإمام أحمد، توفي سنة 368 هـ، سمع منه الحديث. 2- أبو بكر: محمد بن عبد الله الأبهري، توفي سنة 375هـ، أخذ عنه الفقه. 3- أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب بن مجاهد الطائي البصري - تلميذ أبي الحسن الِأشعري-، درس عليه الأصول والكلام. 4- أبو الحسن الباهلي: تلميذ أبي الحسن الأشعري، توفي سنة 370هـ، تلقى على يديه أصول المذهب الأشعري. 5- أبو عبد الله: محمد بن خفيف الشيرازي الصوفي، المتوفى سنة 371هـ، وهو أيضا ممن تتلمذ على أبي الحسن الأشعري. 6- أبو محمد: عبد الله بن أبي زيد القيرواني المالكي، صاحب الرسالة، المتوفى سنة 386هـ، قال عنه الباقلاني: شيخنا (2) .   (1) انظر: ترجمته في: تاريخ بغداد (5/379) ، الأنساب (2/51) ، واللباب (1/112) ، ترتيب المدارك (7/44) ، تبيين كذب المفتري (ص: 217) ، الوفيات (4/269) ، الوافي (3/177) ، سير أعلام النبلاء (17/190) ، الديباج المذهب (2/228) ، شجير النور الزكية (1/92) ، ومقدمة تحقيق إعجاز القرآن لأحمد صقر (ص: 17) ، وما بعدها، وغيرها. (2) انظر: البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات (ص: 50) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 7- أبو محمد عبد الله بن إبراهيم بن ماسي، المتوفى سنة 369هـ. 8- أبو أحمد الحسين بن علي النيسابوري، المتوفى سنة 375هـ. 9- محمد بن عمر البزار، المتوفى سنة 374هـ. 10- وأبو أحمد الحسن بن عبد الله العسكري، المتوفى سنة 382هـ، وغيرهم، ويلاحظ أن من شيوخه ثلاثة من تلاميذ أبي الحسن الأشعري.. كما تتلمذ عليه مجموعة من العلماء، منهم: 1- القاضي المالكي أبو محمد عبد الوهاب بن نصر البغدادي، المتوفى سنة 422هـ. 2- أبو ذر الهروي، عبد بن أحمد، الأشعري، المتوفى سنة 434هـ، والذي نقل المذهب الأشعري إلى الحرم، ثم أخذ عنه المالكية هذا المذهب، وقد أن شيخه الدارقطني المتوفى سنة 385هـ، يعظم الباقلاني لما التقى به في الطريق، ولما سأله الهروي قال: " هو أبو بكر بن الطيب، الذي نصر السنة وقمع المعتزلة، وأثنى عليه" (1) . 3- أبو جعفر محمد بن أحمد السمناني، الحنفي، المتوفى سنة 444هـ. 4- أبو الحسن علي بن عيسى السكري الفارسي، الشاعر، المتوفى سنة 413هـ. 5- الحسين بن حاتم الأزدي، الذي أرسله الباقلاني إلى جامع دمشق ليلقي درسا في العقيدة، وقد رجع إلى المغرب ونشر علمه هناك، ومات بالقيروان (2) .   (1) ترتيب المدارك (7/46) . (2) انظر: تبيين كذب المفتري (ص: 216-217) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 6- أبو عبد الرحمن السلمي، محمد بن الحسين الصوفي، المتوفى سنة 412هـ، قرأ عليه لما قدم الباقلاني إلى شيراز. 7- ابن اللبان، أبو محمد عبد الله بن محمد الأصبهاني الشافعي، المتوفى سنة 446هـ. 8- أبو علي الحسن بن شاذان، ت 426هـ. 9- أبو بكر بن الحسين الإسكافي. وغيرهم كثير. أقوال العلماء فيه: 1- قال عنه الخطيب البغدادي: " المتكلم على مذهب الأشعري ... وكان ثقة، فأما الكلام فكان أعرف الناس به، وأحسنهم خاطراً، وأجودهم لساناً، وأوضحهم بياناً، وأصحهم عبارة، وله التصانيف الكثيرة المنتشرة في الرد على المخالفين من الرافضة، والمعتزلة، والجهمية، والخوارج وغيرهم" (1) . 2- وقال عنه القاضي عياض: " الملقب بشيخ السنة، ولسان الأمة، المتكلم على مذهب المثبتة وأهل الحديث وطريقة أبي الحسن الأشعري" (2) ، ونقل عن الهمداني قوله: " كان شيخ المالكيين في وقته، وعالم عصره، المرجوع إليه فيما أشكل على غيره، وقال غيره: وإليه انتهت رئاسة المالكين في وقته، وكان حسن الفقه، عظيم الجدل، وكانت له بجامع المنصور ببغداد حلقة عظيمة" (3) . 4- وقال عنه الذهبي: " الإمام العلامة، أوحد المتكلمين، مقدم   (1) تاريخ بغداد (5/379) . (2) ترتيب المدارك (7/44) . (3) نفس المصدر (7/45) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 الأصولين" وقال: " وكان ثقة إماماً بارعاً صنف في الرد على الرافضة والمعتزلة والخوارج والجهمية والكرامية وانتصر لطريقة أبي الحسن الأشعري، وقد يخالفه في مضائق، فإنه من نظراته" (1) . 5- وكان الباقلاني ذا شهرة واسعة، ولذلك استقدمه عضد الدولة البويهي إلى شيراز وناظر المعتزلة في مجلسه، كما أرسله سنة 371هـ، رئيساً للبعثة التي أوفدها إلى ملك الروم، وجرت له أمور كثيرة (2) . ب - آثاره: تتلمذ على يد الباقلاني تلامذة عديدون، كان لهم أكبر الأثر في نشر المذهب الأشعري، خاصة عند المغاربة، كذلك ترك عدداً كبيراً من المؤلفات في معارف مختلفة، وما يختص منها بالكلام - الذي سار فيه على طريقة أبي الحسن الأشعري- كانت ذا أثر عظيم في المذهب الأشعري، بل يعتبر المؤسس الثاني لهذا المذهب. ومؤلفات الباقلاني تبلغ (55) مؤلفاً، وقد ذكر أكثرها القاضي عياض (3) ، ثم ذكرها وفصل القول فيها السيد أحمد صقر (4) ، وأكثرها مفقود، وغالب ما وجد منها كتبه الكلامية أو ما هو قريب منها (5) . وأهم كتبه الكلامية - التي دعم فيها المذهب الأشعري-: 1- التمهيد: ويسمى تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل، وقد ألفه لابن عضد الدولة وولي عهده لما طلب منه أن يعلمه مذهب أهل السنة.   (1) السير (17/190) . (2) انظر: تفصيل ذلك في ترتيب المدارك (7/51) وما بعدها. (3) ترتيب المدارك (7/69-70) . (4) مقدمة تحقيق إعجاز القرآن (ص: 37) وما بعدها. (5) انظر: تاريخ التراث العربي، سزكين المجلد الأول (ج- 4 ص: 49) ، وما بعدها- ط جامعة الإمام -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 والتمهيد من أهم كتب الأشاعرة، وقد ركز فيه الباقلاني على الحجاج العقلي، ولذلك تضمن الردود الطويلة على المنجمين، والثنوية، والديصانية، والمجوس، والبراهمة، واليهود، والنصارى، وغيرهم.. مع أبواب أخرى في تفصيل مسائل الصفات والقدر وغيرها على وفق مذهب الأشاعرة. والكتاب طبع في القاهرة وبيروت، وكل واحدة من الطبعتين ناقصة، وإحداهما تكمل الأخرى، وقد طبع أخيراً في بيروت طبعة تجمع بين الطبعتين، ولكن الذي سمى نفسه محققاً لهذه الطبعة وهو الشيخ عماد الدين حيدر ارتكب خطأ علمياً شنيعاً حين حذف من الكتاب نصاً للباقلاني يتعلق بإثباته للعلو والاستواء والرد على من أوله بالاستيلاء، وهو خطأ مقصود لأن الذي حذفه لا يناسب اعتقاده خاصة وأن له تعليقات يهاجم فيها المثبتة ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية (1) ، وسيأتي إيضاح هذه المسألة بعد قليل. 2- رسالة الحرة، وقد طبع باسم " الإنصاف فيما يحب اعتقاده ولا يجوز الجهل به" وهذا الاسم خطأ، بل الاسم الصحيح "الحرة" وقد ذكره في مقدمة كتابه فقال: " أما بعد فقد وقفت على ما التمسته الحرة الفاضلة الدينية.." (2) ، وبهذا الاسم ذكره القاضي عياض (3) ، ونقل عنه ابن القيم (4) ، ورسالة الحرة رسالة جامعة ذكر فيها الباقلاني مسائل العقيدة أولاً بإجمال ثم فصلها، وتوسع كثيراً في مسألة القرآن وكلام الله وما يتعلق بذلك [ص:71-143] ، كما توسع في مسائل القدر والكسب [ص: 144-168] ، ثم ذكر مسائل الشفاعة والرؤية.   (1) انظر: التمهيد- ط - مؤسسة الكتب الثقافية في بيروت (ص: 41-42، وص: 296، وص: 301-302) ، الحواشي. أما النص الذي حذفه فمكانه في (ص: 298) ، وهو موجود في طبعة مكارثي (ص: 260-262) . (2) الحرة (مطبوعة باسم الانصاف) ، (ص: 193) . (3) انظر: ترتيب المدارك (7/70) . (4) انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية (ص: 193) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 3- كتاب البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات والحيل والكهانة والسحر والنارنجات، وهو في إثبات النبوات، والفرق بين معجزات الأنبياء وخوارق السحرة والكهان وغيرهم، وهو من أوسع ما كتب في هذا الباب. وقد طبع الكتاب بتحقيق مكارثي، وذكر أنه طبعه على المخطوط الوحيد المعروف لهذا الكتاب (1) ، ولما كان المخطوط ناقصاً رجح أن الباقلاني لم يتمه لأنه ربما ألفه في آخر عمره (2) ، أما كونه من آواخر كتبه فهو صحيح لأن الباقلاني في كتابه هذا يشير إلى كتبه الأخرى مثل التمهيد وأصول الديانات وكتبه في أصول الفقه، كما أشار إلى أنه قد ألف منذ سنين حول هذا الموضوع - المعجزات والفرق بينها وبين الكرامات والسحر - وأنه قد انتسخ في الحرم (3) ، وهذا يدل على أنه قد بلغ من الشهرة مبلغاً، أما دعوى مكارثي أن الباقلاني لم يتم كتابه هذا، لأن المخطوط انتهى عند قوله: " يتلوه إن شاء الل باب القول في الإبانة عن وجود الشياطين وذكر الأدلة على ذلك.." (4) ، فهي دعوى غير صحيحة لأن شيخ الإسلام ابن تيمية نقل نصوصاً من هذا الكتاب في كتابه " النبوات "، ومنها نصوص ليست موجودة في المطبوعة من البيان (5) ، مما يدل على أنه قد اعتمد على نسخة كاملة وأن الباقلاني قد أتمه. وكتاب النبوات رد على الباقلاني في كتابه هذا. 4- كتاب هداية المسترشدين والمقنع في معرفة أصول الدين، وهو كتاب كبير بقي منه مجلد واحد من الجزء السادس إلى الجزء السابع عشر بتجزئة   (1) انظر: مقدمة تحقيق البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات (ص: 15) . (2) انظر: مقدمة المصدر السابق (ص: 20) . (3) انظر: البيان (ص: 5-6) . (4) نفس المصدر (ص: 108) . (5) انظر: النبوات (ص: 51-182) - ط دار الكتب العلمية -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 المؤلف (1) ، وقد أشار إليه ابن تيمية في التسعينية (2) ، والفرقان بين الحق والباطل (3) ، وهو كتاب جامع وإن ركز فيه الباقلاني - في الجزء الموجود - على مسألة النبوات وإعجاز القرآن (4) . 5- دقائق الكلام والرد على من خالف الحق من الأوائل ومنتحلي الإسلام وهي في الرد على الفلاسفة والمنجمين، وقد أشار إليه ابن تيمية في درء التعارض (5) . 6- الإبانة عن إبطال مذهب أهل الكفر والضلالة، وقد نقل منه ابن تيمية نصاً حول الصفات في الفتوى الحموية (6) ، وابن القيم في اجتماع الجيوش (7) ، كما أشار إليه ابن تيمية في درء التعارض (8) . 7- شرح اللمع لأبي الحسن الأشعري، ولم يصل إلينا هذا الكتاب، لكن نقل منه شيخ الإسلام نصوصاً كثيرة في درء التعارض، وكتاب (9) ، " اللمع " للأشعري يحمل مكانة عند الأشاعرة، ولذلك لما قدم الباقلاني إلى شيراز لمقابلة عضد الدولة البويهي استقبله فيها عبد الله بن خفيف - أحد تلامذة الأشعري - في جماعة من الصوفية وأهل السنة، يقول الباقلاني: " فلما جلسنا في موضع كان ابن خفيف يدارس فيه أصحابه اللمع للشيخ أبي الحسن الأشعري، فقلت له: تماد على التدريس كما كنت، فقال لي: أصلحك الله، إنما أنا بمنزلة المتيمم عند عدم الماء.." (10) .   (1) انظر: مقدمة السيد أحمد صقر لإعجاز القرآن (ص: 38-39) . (2) (ص: 241) . (3) (ص: 109) ، - ت الأرناؤوط -. (4) مقدمة السيد أحمد صقر (ص: 39) . (5) 1/158. (6) ضمن مجموع الفتاوى (5/98) . (7) (ص: 193) . (8) 3/382، 6/206. (9) 7/304، 30-307، 8/315-317، 330-333، 334-335، 339-342. (10) انظر: الإشارات الحسان لابن غازي، ضمن أزهار الرياض للمقري (3/80) ، ونص الكتاب موجود ما بين صفحتي (65-87) من هذا الجزء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 8- كتاب في الإيمان، ذكره ابن تيمية في الفرقان بين الحق والباطل (1) . 9- كتاب النقض الكبير، نقل منه الجويني في الشامل (ص: 680) . 10- كتاب الكسب، ذكره أبو المظفر الإسفراييني في التبصير بالدين (2) . 11- كتاب الإيجاز، ذكره في الروضة البهية فيما بين الأشاعرة والماتريدية (3) . 12- مناقب الأئمة ونقض المطاعن على سلف الأمة، يوجد جزء منه في الظاهرية (4) . 13- إعجاز القرآن، طبع عدة مرات. 14- الانتصار للقرآن، يوجد المجلد الأول منه في تركيا، مكتبة قرة مصطفى باشا - مكتبة بايزيد في استانبول - وقد صوره فؤاد سزكين ضمن منشورات معهد تاريخ العلوم العربية الإسلامية في ألمانيا، وأشار إلى وجود قسم من كلا المجلدين في الحسينية في الرباط (5) . وقد دافع فيه الباقلاني عن القرآن ونقله، ورد ردوداً طويلة على الرافضة والملاحدة الطاعنين في كتاب الله، ولا يخلو من الردود الكلامية في المناسات المختلفة (6) . وقد اختصر هذا الكتاب أبو عبد الله الصيرفي، وطبع هذا المختصر (7) ،   (1) (ص:38) - ت الأرناؤوط -. (2) (ص: 174) . (3) لأبي عذبة (ص: 18، 35، 58) . (4) مقدمة السيد أحمد صقر (ص: 42) . (5) مقدمة سزكين لمخطوطة الانتصار (ص:6) . (6) انظر مثلاً _ ص: 440) ، من المجلد الأول المخطوط وما بعدها، فقد عقد فصلاً حول الهدى والضلال وخلق الأفعال والقضاء وتقدير الأعمال وتكليف مالا يطاق رد فيه على ابن الراوندي، والقدرية والمعتزلة. (7) باسم " نكت الانتصار لنقل القرآن"، تحقيق د: محمد زغلول سلام - ط منشأة المعارف بالاسكندرية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 ولكن بالمقارنة بينه وين أصله تبين أنه تصرف فيه كثيراً، وقد شمل المختصر كل أبواب الكتاب. هذه أهم كتب الباقلاني التي وصلت إلينا أو وصل إلينا جزء منها إما مخطوطاً أو منقولاً في بعض المصادر، وفي قائمة كتب الباقلاني بعض الكتب التي يدل عنوانها على أنها في العقيدة أو علم الكلام، أو الرد على الباطنية وغيرهم، نكتفي بالإشارة إليها، فمنها كتاب إكفار المتأولين، والإمامة الكبير، وتصرف العباد والفرق بين الخلق والاكتساب، والرد على المعتزلة فيما اشتبه عليهم من تأويل القرآن، والمقدمات في أصول الديانات، وكتاب الكرامات، وكتابه الإمامة الصغير، وكتاب التعديل والتجوير، وكتاب في أن المعدوم شيء، وكتاب كشف الأسرار وهتك الأستار في الرد على الباطنية. ج-- مجمل عقيدته ومنهجه، ودوره في تطوير المذهب الأشعري: 1- يبتدئ الباقلاني كتبه بالحديث عن المقدمات حول حقيقة العلم ومعناه، فيذكر أن حده "معرفة المعلوم على ما هو به" (1) ، ثم يقسم العلوم إلى قسمين: علم الله القديم، وعلم الخلق، ويقسم علم الخلق إلى علم اضطرار وعلم نظر واستدلال (2) ، ثم يشرح ذلك، ثم يذكر استدلال فيعرفه، ثم يعرف الدليل ويقسمه إلى ثلاثة أقسام: عقلي، وسمعي شرعي، ولغوي (3) . ثم يذكر أقسام المعلومات وأنها قسمان: معدوم وموجود ولا ثالث لهما (4) . ثم يقسم الموجودات ويقول: إنها ضربين: قديم لم يزل ومحدث لوجوده على أول (5) ، ثم يقسم المحدثات إلى ثلاثة أقسام: جسم مؤلف، وجوهر منفرد، وعرض موجود بالأجسام والجواهر (6) .   (1) التمهيد (ص: 6) ، ت مكارئي، وهي التي سنعتمدها إلا ما يشار إليه، والحرة (ص: 13) . (2) انظر: المصدرين السابقين: التمهيد (ص: 7) ، والحرة (ص: 14) . (3) انظر: الحرة (ص: 15) . (4) انظر المصدرين: (ص: 15) ، والحرة (ص: 15) . (5) انظر المصدرين: التمهيد (ص: 16) ، والحرة (ص: 16) . (6) انظر: التمهيد (ص: 17) ، والحرة (ص: 16-17) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 فالباقلاني يقول بالجوهر الفرد ويدلل على إثباته ب-" علمنا بأن الفيل أكبر من الذرة، فلو كان لا غاية لمقادير الفيل ولا لمقادير الذرة لم يكن أحدهما أكثر مقادير من الآخر، ولو كان كذلك لم يكن أحدهما أكبر من الآخر" (1) . كما يرى الباقلاني أن الأعراض لا يصح بقاؤها فهي لا تبقى زمانين (2) . 2- ويرى أن أول الواجبات النظر فيقول: " أول ما فرض الله عزوجل على جميع العباد: النظر في آياته والاعتبار بمقدوراته والاستدلال عليه بآثار قدرته، وشواهد ربوبيته؛ لأنه سبحانه غير معلوم باضطرار، ولا مشاهد بالحواس، وإنما يعلم وجوده وكونه على ما تقتضيه أفعاله بالأدلة القاهرة، والبراهين الباهرة" (3) . 3- يذكر دليل حدوث العالم، ويستدل لذلك بدليل حدوث الأجسام ويبنيه على دليل ثبوت الأعراض، فيذكر دليل ثبوت الأعراض، ثم يذكر أنها حادثه، ويستدل على ذلك ببطلان الحركة عند مجيء السكون، ثم يذكر دليل حدوث الأجسام وهو أنها لم تسبق الحوادث، ولم توجد قبلها، وما لم يسبق المحدث، ويفصل القول في ذلك (4) . والباقلاني يرى ضرورة دليل حدوث الأجسام، وقد سبق بيان أن الأشعري لا يرى هذا الدليل ضرورياً وأن الرسل لم تدع إليه، وذلك في رسالته إلى أهل الثغر، لكن الباقلاني في شرحه للمع - للأشعري - يفسر كلامه في إثبات الصانع واستدلاله على ذلك بالنطفة وتغيرها وانتقالها من حال إلى حال فيقول: " اعلم أن هذا الذي ذكره هو المعول عليه في الاستدلال على حدوث الأجسام ... " (5) ، ويرى الباقلاني أن الخليل عليه السلام احتج بهذا الدليل   (1) التمهيد (ص: 17-18) . (2) انظر: التمهيد (ص: 18،239، 287) ، والحرة (ص: 16-17) . (3) الحرة (ص: 22) . (4) انظر: التمهيد (ص:18-21) ، والحرة (ص: 17-18) . (5) شرح اللمع - عن الدرء - لابن تيمية (8/315) ، وانظر: أيضاً التمهيد (ص: 48-49، 301) ، الحرة (ص:30) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 في قوله: {هَذَا رَبِّي} (الأنعام:76) ، والآيات بعدها (1) . 4- ويحتج لإثبات الصانع بأن الكتابة لا بد لها من كاتب، ولا بد للصورة من مصور، وللبناء من بان (2) ، ويستدل أيضاً بوجود المحدثات متقدمة ومتأخرة مع صحة تأخر المتقدم وتقدم المتأخر (3) ، كما يحتج لإثبات وحدانيته بدليل التمانع ويحتج له بقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء:22) (4) . 5- أما رأيه في الصفات فيمكن توضيحه كما يلي: أ - يثبت الباقلاني الصفات عموماً ولا يقتصر على إثبات الصفات السبع، ويقسم الصفات إلى صفات ذات وصفات فعل فيقول: " صفات ذاته هي التي لم يزل ولا يزال موصوفاً بها، وهي الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والبقاء والوجه والعينان واليدان، والغضب والرضى، وهما الإرادة على ما وصفناه - وهي الرحمة والسخط والولاية والعداوة والحب والإيثار والمشيئة - وإدراكه تعالى لكل جنس يدركه الخلق من الطعوم والروائح والحرارة والبرودة وغير ذلك من المدركات، وصفات فعله هي الخلق والرزق، والعدل، والإحسان والتفضل والأنعام، والثواب والعقاب، والحشر والنشر، وكل صفة كان موجوداً قبل فعله لها، غير أن وصفه لنفسه بجميع ذلك قديم، لأنه كلامه الذي هو قوله: إني خالق رازق باسط، وهو تعالى لم يزل متكلماً بكلام غير محدث ولا مخلوق" (5) .   (1) انظر: الحرة (ص:30) . (2) انظر: التمهيد (ص: 23) ، والحرة (ص:18) . (3) انظر المصدر السابق: التمهيد (ص: 23) ، والحرة (ص: 19) . (4) انظر: التمهيد (ص: 25) ، والحرة (ص: 34) . (5) التمهيد (ص: 262-263) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 ويتبين من ذلك أنه يثبت الصفات لله تعالى، ولا يفرق بين الصفات العقلية والصفات الخبرية. ب - يستدل للصفات السبع وهي الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة بأدلة نقلية وعقليه؛ ففي التمهيد يقتصر على الأدلة العقلية لهذه الصفات (1) ، أما في رسالة الحرة فيحتج بالأدلة من القرآن وبأدلة العقول (2) . جـ - يؤول صفات الغضب والرضى بأن المقصود بهما: إرادته لإثابه المرضى عنه وعقوبة المغضوب عليه (3) ، وهو بذلك يقول بقول الأشعري - كما سبق -. د - يرى أن صفة البقاء من صفات الذات لله، وأنه ليس باقياً ببقاء، فهي صفة نفسية وليست صفة زائدة على الذات (4) . هـ - يثبت الصفات الخبرية لله تعالى كالوجه واليدين والعينين، يقول: "وأخبر أنه ذو الوجه الباقي بعد تقضي الماضيات، كما قال عزوجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (القصص:88) ، وقال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} (الرحمن:27) ، واليدين اللتين نطق بإثباتهما له القرآن في قوله عزوجل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (المائدة:64) ، وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (صّ:75) ، وإنهما ليستا بجارحتين، ولا ذوي صورة وهيئة، والعينين اللتين أفصح بإثباتهما من صفاته القرآن، وتواترت بذلك أخبار الرسول عليه السلام، فقال عزوجل: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (طه:39) ، {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (القمر:14) ،وإن عينه ليست بحاسه من الحواس، ولا تشبه الجوارح   (1) انظر: التمهيد (ص: 26-29) . (2) انظر: رسالة الحرة (ص: 35-37) . (3) انظر: التمهيد (ص:27) ، والحرة (ص: 39) ، ومثلها صفات الرحمة والمحبة والسخط والبغض، انظر: الحرة (ص: 24) . (4) انظر: التمهيد (ص: 263) ، وأصول الدين للبغدادي (ص: 90-109) ، وفيصل التفرقة للغزالي (ص: 131) - ت سليمان دنيا - والروضة البهية (ص: 66) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 والأجناس" (1) ، وفي التمهيد يستدل ببعض هذه الأدلة، ثم يرد على من أول اليدين بالقدرة أو النعمة فيقول: " يقال لهم: هذا باطل، لأنه قوله: " بيدي" يقتضي إثبات يدين هما صفة له، فلو كان المراد بهما القدرة، لوجب أن يكون له قدرتان وأنتم فلا تزعمون أن للباري سبحانه قدرة واحدة، فكيف يجوز أن تثبتوا له قدرتين؟ وقد أجمع المسلمون، من مثبتي الصفات والنافين لها على أنه لا يجوز أن يكون له تعالى قدرتان، فبطل ما قلتم، وكذلك لا يجوز أن يكون الله تعالى خلق آدم بنعمتين؛ لأن نعم الله تعالى على آدم وعلى غيره لا تحصى ... " (2) ، وكلام الباقلاني يدل على أنه في زمنه لم يكن أحد يؤول اليدين بالقدرة إلا المعتزلة، ولهذا قال لهم: "وأنتم لا تزعمون أن للباري قدرة واحدة "، وعلى ذلك فالتأويل لهذه الصفات - أعني صفة الوجه واليدين والعين - عند الأشعرية جاء بعد الباقلاني. و كما يثبت الباقلاني صفة العلو والاستواء لله تعالى، ويرد على الذين يؤولون الاستواء بالاستيلاء، وعلى الذين يقولون إن الله في كل مكان، يقول: " فإن قالوا: فهل تقولون إنه في كل مكان؟ قيل: معاذ لله، بل هومستو على العرش، كما خبرّ في كتابه فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه:5) ، وقال تعالى:) إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر:10) ، وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} (الملك:16) ، ولو كان في كل مكان لكان في جوف الإنسان وفمه وفي الحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها تعالى عن ذلك، وأوجب أن يزيد بزيادة الأماكي إذا خلق منها ما لم يكن خلقه، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان، ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى وراء ظهورنا وعن أيماننا وشمائلنا، وهذا ما قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله" (3) ، ثم يرد على من اعترض بالنصوص الدالة على أن الله في السماء إله   (1) رسالة الحرة (ص: 24) . (2) التمهيد (ص: 259) .. (3) التمهيد (ص: 260) - ت مكارثي-. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 وفي الأرض إله، وأنه مع المؤمنين وغيرها من النصوص الدالة على المعية، ويبين أنه لا دلالة فيها (1) . ثم يقول: " ولا يجوز أن يكون معنى استوائه على العرش هو استيلاؤه عليه، كما قال الشاعر: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق (2) لأن الاستيلاء هو القدرة والقهر، والله تعالى لم يزل قادراً قاهراً، عزيزاً مقتدراً، وقوله:) {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (الأعراف:54) ، يقتضي استفتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن فبطل ما قالوه" (3) . وهذا النص موجود في طبعة مكارثي من التمهيد، يبين ما في اتهام كل من الكوثري ومحققي التمهيد - الخضيري وأبي زيدة - من تجن على شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، اللذين نقلا هذا النص ونسباه إلى الباقلاني في التمهيد (4) . ومع أن محققي التمهيد قد ذكرا في ذيول تحقيقهما لهذا الكتاب ما يدل دلالة قاطعة على أن المخطوط الذي اعتمداه ناقص (5) ، إلا أنهما جزما بخطأ ابن تيمية وابن القيم فقالا: " ونحن نثق على كل حال بنسخة التمهيد التي بين أيدينا ثقة أقوى من ثقتنا بنقل ابن تيمية وابن القيم، والله أعلم " (6) ، ولما نشر التمهيد - عن عدة نسخ خطية بتحقيق رجل نصراني - تبين صدق شيخي الإسلام وتثبتهما في النقل، وخطأ هؤلاء الذين اتهموهما بالتحيز والخداع، وكيف يعتمد هؤلاء على أقول الكورثي المشهور بالتجهم والحاقد على أئمة أهل السنة؟ (7) .   (1) انظر: التمهيد (ص: 261-262) . (2) هذا البيت منسوب إلى الأخطل النصراني، انظر: البداية والنهاية (9/7) في ترجمة بشر ابن مروان أخو عبد الملك بن مروان، وتاج العروس مادة سوا من حرف الياء. (3) التمهيد (ص: 262) ، وقد ذكر السجزي في الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: 143) ، أن الباقلاني يقول إن الاستواء فعل فعله الله في العرش. (4) انظر: درء التعارض (6/206 - 207) ، واجتماع الجيوش (ص: 193) . (5) انظر: التمهيد - ط القاهرة - (ص: 260-261) ، ذيول المحققين - حيث ذكرا سببين يدلان على نقص المخطوطة التي اعتمدا عليها، ومع ذلك- ولا أدري ما السبب - جزماً بكمالها. (6) المصدر السابق - نفس الطبعة (ص: 265) . (7) سأل المحققان الكوثري عما نقله ابن القيم من التمهيد حول الاستواء فقال: " لا وجود لشيء مما عزاه ابن القيم إلى كتاب التمهيد في كتاب التمهيد هذا، ولا أدري ما إذا كان ابن القيم عزا إليه ما ليس فيه زوراً ليخادع المسلمين في نحلته أم ظن بكتاب آخر أنه كتاب التمهيد للباقلاني"، التمهيد (ص: 265) ، وممن نبه إلى ما وقع فيه هؤلاء من خطأ في هذا الموضوع جلال موسى في كتابه نشأة الأشعرية (ص: 331) ، مع أنه ممن لا يوافق ابن تيمية في آرائه لكنه قال هنا كلمة الحق والإنصاف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 والباقلاني وإن كان يثبت الاستواء والعلو إلا أنه يرى عدم إطلاق الجهة على الله تعالى، يقول: " ويجب أن يعلم أن كل ما يدل على الحدوث أو على سمة النقص فالرب تعالى يتقدس عنه، فمن ذلك: أنه تعالى متقدس عن الاختصاص بالجهات والانصاف بصفات المحدثات، وكذلك لا يوصف بالتحول والانتقال، ولا القيام ولا القعود، لقوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى:11) ، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} (الاخلاص:4) ، ولأن هذه الصفات تدل على الحدوث، والله تعالى بتقديس عن ذلك، فإن قيل: أليس قد قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه:5) ، قلنا: بلى، قد قال ذلك، ونحن نطلق ذلك وأمثاله على ما جاء في الكتاب والسنة لكن ننفي عنه أمارة الحدوث، ونقول: استواؤه لا يشبه استواء الخلق، ولا نقول: إن العرش له قرار ولا مكان، لأن الله تعالى كان ولا مكان، فلما خلق المكان لم يتغير عما كان" (1) ، ثم ينقل عن أبي عثمان المغربي أنه قال: " كنت اعتقد شيئاً من حديث الجهة، فلما قدمت بغداد وزال ذلك عن قلبي، فكتبت إلى أصحابنا: إني قد أسلمت جديداً" (2) . ولفظ الجهة -كما سيأتي - لفظ مجمل. ز- أما رأيه في كلام الله تعالى فهو يقول: " اعلم أن الله تعالى متكلم، له كلام عند أهل السنة والجماعة، وأن كلامه قديم، ليس بمخلوق ولا مجعول ولا محدث، بل كلامه قديم، صفة من صفات ذاته، كعلمه وقدرته وإرادته ونحو ذلك من صفات الذات، ولا يجوز أن يقال: كلام الله عبارة ولا حكاية ... " (3) ، ويقول: " ويجب أن يعلم أن كلام الله تعالى مكتوب في المصاحف على الحقيقة" (4) و" مسموع لنا على الحقيقة لكن بواسطة وهو القاري" (5) ، وحقيقة الكلام عنده   (1) رسالة الحرة (ص: 41) . (2) المصدر السابق (ص: 42) . (3) نفسه (ص: 71) ، وانظر: (ص: 110) . (4) نفسه (ص: 93) . (5) نفسه (ص: 94) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 - على الإطلاق في حق الخالق والمخلوق - " إنما هو المعنى القائم بالنفس، لكن جعل لنا دلالة عليه تارة بالصوت والحروف نطقاً، وتارة بجمع الحروف بعضها إلى بعض كتابة دون الصوت ووجوده، وتارة إشارة ورمزاً دون الحرف والأصوات ووجودهما " (1) ، وكلام الله عنده ليس بحروف ولا أصوات، ولا يحل في شيء من المخلوقات (2) . هذه خلاصة أقوال الباقلاني في كلام الله، ولكن إذا كان الكلام هو المعنى القائم في النفس، فالكلام النازل علينا كلام من؟ ، سبق قبل قليل أن الباقلاني يقول: إن كلام الله مكتوب في المصاحف على الحقيقة، ومتلو بالألسن على الحقيقة، لكنه بعد ذلك يقول كلاماً خطيراً حيث يزعم ... إن كلام النازل كلام جبريل، يقول الباقلاني: " ويجب أن يعلم أن كلام الله تعالى منزل على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - نزول إعلام وإفهام لا نزول حركة وانتقال "، ثم يقول بعد كلام: " والنازل على الحقيقة المنتقل من قطر إلى قطر قول جبريل عليه السلام، يدل على ذلك قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ* وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ *تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الأيات: (الحاقة38-43) ، وقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ... } الآيات: (التكوير:15-29) ، يقول الباقلاني معلقاً على هذا: " هذا إخبار من الله تعالى بأن النظم العربي الذي هو قراءة كلام الله تعالى قول جبريل لا قول شاعر ولا قول كاهن" (3) ، ثم يقول - بعد كلام- " فحاصل هذا الكلام أن الصفة القديمة كالعلم والكلام ونحو ذلك من صفات الذات، لا يجوز أن تفارق الموصوف، لأن الصفة إذا فارقت الموصوف اتصف بضدها، والله تعالى متنزه عن الصفة وضدها، فافهم ذلك، فجاء من ذلك أن جبريل   (1) رسالة الحرة (ص: 108) . (2) انظر: نفس المصدر (: 99) . (3) رسالة الحرة (ص: 96-97) .. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 عليه السلام علم كلام الله وفهمه، وعلمه الله النظم العربي الذي هو قراته، وعلم هو القراءة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه ... لكن المقروء والمتلو هو كلام الله القديم الذي ليس بمخلوق ولا يشبه كلام الخلق " (1) . وهذا كلام عجيب، ولا شك أن الباقلاني متابع في هذا الأصل لشيوخه الأشاعرة. ح - أما مسألة الصفات الاختيارية القائمة بالله تعالى، وهي المسماة بمسألة حلول الحوداث، فالباقلاني ينفيها بقوة، ويدل على ذلك: 1- قوله في النص السابق لما ذكر الصفات الفعلية قال: غير أن وصفه لنفسه بجميع ذلك قديم، لأنه كلامه الذي هو قوله: إني خالق، رازق، باسط، وهو تعالى لم يزل متكلماً بكلام غير محدث ولا مخلوق" فهو لا يرى أن الصفات الفعلية تقوم بالله، بل يجعل أمر الله وقوله أزلياً، وهو كلامه، أما المخلوق فهو منفصل عن الله لا يقوم به. 2- قوله عن صفات الله: " إنه لا يجوز حدوثها له، لأن ذلك يوجب أن تكون من جنس صفات المخلوقين، وأن تكون ذات أضداد كصفات المخلوقين، وأن يكون الباري سبحانه قبل حدوثها موصوفاً بما يضادها وينافيها من الأوصاف، ولو كان ذلك كذلك، لوجب قد إضدادها، ولاستحال أن يكون القديم سبحانه موصوفاً بها في هذه الحال، وأن يوجد منه من ضروب الأفعال ما يدل على كونه عالماً قادراً حياً، وفي بطلان ذلك دليل على قدم هذه الصفات وأن الله سبحانه لا يجوز أن يتغير بها ويصير له حكم لم يكن قبل وجودها، إذ لا أول لوجودها" (2) ويقول في كلامه عن نفي السنة والنوم عن الله عزوجل: " والمعتمد في هذا أنه سبحانه ذكر السنة والنوم تنبيهاً على أن جميع الأعراض ودلالات الحدوث لا تجوز عليه" (3) .   (1) رسالة الحرة (ص: 98) ، وفيما يتعلق بالمعجز من القرآن يرى أنه يقع على نظم الحروف التي هي دلالات وعبارات عن كلام الله، انظر: إعجاز القرآن (ص: 394-395) . (2) التمهيد (ص: 214) . (3) المصدر السابق (ص: 269) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 3- ويقطع في هذه المسألة عند كلامه عن كلام الله والرد على القول بخلق القرآن فيقول: " ويستحيل من قولنا جميعاً أن يفعله في نفسه تعالى لأنه ليس بمحل للحوادث" (1) . 4- ومن ذلك قوله في صفة المجيء والإتيان فقد ذكر فيهما عدة أقوال، وكلها ذكر فيها ما يدعم قوله في نفي حلول الحوادث بذات الله تعالى، يقول عن المخالفين المعترضين على آيات القرآن: " واعترضوا أيضاً [ب-] قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} (الفجر:22) ، وقوله: {يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} (البقرة:210) ، قالوا: والمجيء والإتيان حركة وزوال وذلك عندهم محال في صفته، فالجواب عن هذا عند بعض الأمة: أنه يجيء ويأتي بغير زوال ولا انتقال ولا تكييف، بل يجب تسليم ذلك على ما ورد وجاء به القرآن، والجواب الآخر أنه يفعل معنى يسميه مجيئاً وإتياناً، فيقال: جاء الله، بمعنى أنه فعل فعلاً كأنه جائياً (2) ، كما يقال: أحسن الله وأنعم وتفضل، على معنى أنه فعل فعلاً استوجب به هذه الأسماء، ويمكن أن يكو أراد بذلك إتيان أمره وحكمه والأهوال الشديدة التي توعدهم بها وحذرهم من نزولها، ويكون ذلك نظيراً لقوله عزوجل: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} (الحشر:2) ، ولا خلاف في أن معنى هذه الآية: أنها أمره وحكمه إياهم (3) ، وعقوبته ونكاله، وكذلك قوله: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} (النحل:26) (4) . فهذه ثلاثة أقوال في معنى المجيء والإتيان: أحدهما: التسليم بهتين الصفتين بشرط نفي ما يدل على قيام الحوادث بالله بحيث تكون بغير زوال ولا انتقال.   (1) التمهيد (ص: 238) . (2) هكذا في المخطوطة، والصواب: جاء. (3) في نكت الانتصار حيث اختصر النص السابق وردت هنا كلمة: وحكمته بدل وحكمه إياهم. (4) الانتصار للقرآن - مخطوط - (1/539-540) ، وانظر: نكت الانتصار المطبوع (ص: 194) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 والثاني: جعلهما من صفات الفعل المنفصلة عن الله لا تقوم به مثل خلقه الخلق وإحسانه إليهم، وهذا يوافق ما نسب إليه من قوله عن الاستواء: إنه فعل فعله الله في العرش سماء استواء، وقد سبقت الإشارة إليه، والثالث: التأوي كما هو مذهب متأخري الأشعرية. 5- والباقلاني ممن يقول بالأحوال (1) ، ولكنه يخالف أبا هاشم الجبائي المعتزلي - أول من قال بالحال - في قوله: إن الحال لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة، بل يرى أنها معلومة، ويرد ردوداً طويلة على الجبائي، ويقول بعد تقريره أن الحال لابد أن تكون معلومة: " وإن كانت هذه الحال معلومة، وجب أن تكون إما موجودة أو معدومة، فإن كانت معدومة استحال أن توجب حكماً وأن تتعلق بزيد دون عمرو، ويالقديم دون المحدث، وإن كانت موجودة وجب أن تكون شيئاً وصفة متعلقة بالعالم، وهذا قولنا الذي نذهب إليه إنما يحصل الخلاف في العبارة وفي تسمية هذا الشيء علماً أو حالاً، وليس هذا بخلاف في المعنى فوجب صحة ما نذهب إليه في إثبات الصفات" (2) ، وقد عرف الشهر ستاني الحال عند القاضي بأنها: " كل صفة لموجود لا تتصف بالوجود فهي حال، سواء كان المعنى الموجب مما يشترط في ثبوته الحياة أو لم يشترط ككون الحي حياً وعالماً وقادراً وكون المتحرك متحركاً والساكن ساكناً والأسود والأبيض إلى غير ذلك " (3) . والباقلاني بذلك يعتبر من أوائل من قال بالحال من الأشاعرة، ومن المعلوم أن أبا الحسن الأشعري ممن ينكر الأحوال، والباقلاني يثبت الصفات ويقول   (1) أول من قال بالأحوال أبو هاشم الجباني - والحال يصعب تعريفها بشكل دقيق- " انظر: نهاية الإقدام (ص: 131-132" ولذلك فهي مع كسب الأشعري وطفرة النظام مما قيل فيه: إنه لا حقيقة له، والحال تطلق على ما هو وسط بين الموجود والمعدوم، وهو صفة لا موجودة ولا معدومة، لكنها قائمة بموجود كالعالمية، وهي النسبة بين العالم والمعلوم، والحال عند أبي هاسم لا هي موجودة ولا معدومة، ولا هي معلومة ولا هي مجهولة، ولا هي قديمة ولا هي حديثة، انظر: المعجم الفلسفي، صليباً (1/438) ، ولمجمع اللغة (ص: 66) . (2) التمهيد (ص: 201) .. (3) نهاية الإقدام (ص: 132) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 بالأحوال إلا أنه يخص الأحوال بالأمور التي تتصف بالوجود كالعرضية واللونية والاجتماع والافتراق والقادرية والعالمية وغيرها مما به تتفق المتماثلات، وتختلف المختلفات (1) ، على أنه قد ذكر رجوعه عن القول بها (2) . 6- أما رأيه في القدر فهو لا يختلف عن رأي الأشاعرة فهو يثبت القدر من الله تعالى وأن الله خالق كل شيء، كما أنه يقول بالموافاة وأن الله رضي في الأزل عمن علم أنه يمون مؤمناً وإن عاش أكثر عمره كافراً، وسخط في الأزل عمن علم أنه يموت كافراً وإن كان أكثر عمره مؤمناً (3) ، وهذا بناء على أنه ينفي حلول الحوادث بذات الله تعالى، أما الاستطاعة والقدرة فلا تكون إلا مع الفعل، لكن الباقلاني خالف شيخه الأشعري بأن قال: إن قدرة العبد مؤثرة، يقول: " فإن قالوا: إن قلتم إن القادر منا على الفعل لا يقدر عليه إلا في حال حدوثه، ولا يقدر على تركه وفعل ضده، لزمكم أن يكون في حكم المطبوع المضطر إلى الفعل، قيل لهم: لا يجب ما قلتم لأنه ليس ها هنا مطبوع على كون شيء أو تولد عنه، أما المضطر إلى الشيء فهو المكره المحمول على الشيء الذي يوجد به، شاء أم أبى، والقدر على الفعل يؤثره ويهواه ولا يستنزل عنه برغبة ولا رهبة فلم يجز أن يكون مضطراً مع كونه مؤثراً مختاراً ... " (4) ، وهذا يوافق ما ذكره عنه الشهرستاني (5) ، كما أنه ينفي تعليل أفعال الله كقول الأشاعرة (6) ، ويقول بالكسب (7) ، كما أنه يقول بإنكار الضرورة بين العلة والمعلول، ويرى إنكار السببية، وربط الأمر كله بالله، فالإحراق لا يكون بالنار   (1) انظر: الشامي للجويني (ص: 630-642) ، ونشأة الأشعرية (ص: 340) . (2) ممن ذكر تردده في إثبات الأحوال ونفيها الجويني في الشامل (ص: 294-629) ، وفي بعض أجوبته انظر: المعيار المعرب (11/246) ، والشهرستاني في الملل والنحل (1/95) . (3) انظر: رسالة الحرة (ص: 24-45) . (4) التمهيد (ص: 293) . (5) انظر: الملل والنحل (1/97) ، ونهاية الإقدام (ص: 73) ، وما فيهما أصرح مما هنا. (6) انظر: تعليقه على قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذريات:56) ، في الانتصار (ص: 480-481) من المجلد الأول المخطوط. (7) انظر: الحرة (ص: 144) ، والانتصار (1/491) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 وإنما يقع عندها لا بها، وهذا مبدأ السببية الذي اشتهر إنكاره عند الأشاعرة (1) . 7- يثبت الرؤية بالنصوص الواردة، والله يرى لأنه موجود (2) ، ولكنه مع أنه يقول بالعلو والاستواء إلا أنه يلمح إلا أنه الله تعالى يرى وليس حالاً في مكان أو مقابلاً أو خلفاً، أو عن يمين أو عن شمال (3) ، وهذه عبارات استخدمها نفاة العلو ممن يقول بالرؤية. 8- أما الإيمان فهو عنده التصديق بالله تعالى، وهو العلم. والتصديق يوجد بالقلب، ويستدل لذلك بإجماع أهل اللغة قاطبة، وبأن الإيمان قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - هو التصديق، كما يستدل بقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} (يوسف:17) وبقولهم: فلان يؤمن بالشفاعة أي يصدق (4) ، ويرى أن " ما يوجد من اللسان وهو الإقرار، وما يوجد من الجوارح وهو العمل، فإنما ذلك عبارة في القلب ودليل عليه" (5) . ولا ينكر الباقلاني أن يطلق القول على الإيمان بأنه عقد بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان، ويفسر ذلك بأن المقصود به الإيمان الذي ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة (6) ، كما أنه لا ينكر أن يطلق على الإيمان أنه يزيد وينقص على أن يرجع ذلك إما إلى القول والعمل دون التصديق، أو إلى الثواب والجزاء والمدح والثناء دون التصديق الذي إذا انخرم منه شيء بطل الإيمان (7) .   (1) انظر: التمهيد (ص: 40) ، وما بعدها، وانظر: الأشاعرة أحمد صبحي (ص: 87) . (2) انظر: التمهيد (ص: 266) . (3) انظر: الحرة (ص: 187) ، والتمهيد (ص: 277) . (4) انظر: التمهيد (ص: 346) ، ورسالة الحرة (ص: 22،55) . (5) الحرة (ص:55) . (6) انظر: المصدر السابق (ص: 56) . (7) الحرة (ص: 57-58) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 9- أما الإمامة فيذهب فيها إلى ما يذهب إليه السلف، وله في التمهيد بحوث طويلة في الدفاع عن الصحابة، وخاصة عثمان وعلياً رضي الله عنهما، كما أنه يثبت إمامة الخلفاء الأربعة على الترتيب، ويرد على الرافضة ودعاواهم الباطلة (1) . 10- ومن الأمور التي ركز عليها الباقلاني مسألة المعجزات، والفرق بينهما وبين الكرامات والسحر، وقد فصل رأيه في ذلك في كتابه المتعلق بهذا الموضوع. ويمكن تلخيص رأيها فيها بمايلي: أ- أن الدلالة على صدق الرسول لا تتم إلا بالمعجزة، "فمتى أهله الله لهذه المنزلة وأحلّه في هذه الرتبة وألزم الأمم العلم بنبوته والتصديق بخبره، لم يكن بد له من آية تظهر على يده ما يفصل بها المكلفون لصدقه بينه وبين الكاذب المتنبئ، وإلا لم يكن لهم إلا فعل العلم بما كلفوه من صدقه وتعظيمه، والقطع على ثبوت نبوته وطهارة سريرته سبيل ... وقد اتفق على أنه لا دليل يفصل بين الصادق والكاذب في إدعاء الرسالة إلا الآيات المعجزة " (2) ، ومعنى هذا إن الدلائل الأخرى العديدة للنبوات - غير المعجز الخارق للعادة - لا يثبت بها صدق الأنبياء. ب- والمعجز لا يكون معجزاً " حتى يكون مما ينفرد الله عزوجل بالقدرة عليه ولا يصح دخوله تحت قدر الخلق من الملائكة والبشر والجن، ولابد أن يكون ذلك من حقه وشرطه " (3) ، ويعرض الباقلاني للرأي الآخر لبعض أصحابه الأشاعرة وجمهور القدرية وهو جواز أن يكون المعجز مما ينفرد الله بالقدرة عليه، كما يجوز أن يكون مما يدخل جنسه تحت قدر العباد، ومثال الأول:   (1) انظر: التمهيد - ط القاهرة - تحقيق الخضيري وأبي زيدة (ص: 164-249) . (2) كتاب البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات والحيل والكهانة والسحر (ص: 37-38) . (3) المصدر السابق (ص:8) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 اختراع الأجسام وإبداع الجوارج والأسماع والأبصار، ورفع العمى، والزمانة وغيرهما من العاهات والضرب الآخر: شيء يقع مثله وما هو من جنسه تحت قدرة العباد، غير أنه يقع من الله على وجه يتعذر على العباد مثله، وذلك نحو تفريق أجزاء الجبال الصم، ورفعها إلى السماء، وتغييض ماء البحار، وحنين الجذع، ونظم القرآن ... (1) ، ويرى الباقلاني أن هذا القول ليس ببعيد (2) ، لكنه يقيد ذلك بأن يمنعوا وأن يرفع عنهم القدرة على فعل مثل ذلك الذي جاء به النبي، ويمثل لذلك بأن النبي لو قال: " آيتي وحجتي أنني أقوم من مكاني وأحرك يدي، وأنكم لا تستطيعون مثل ذلك، فإذا منعوا من فعل مثل ما فعله، كانت الآية له خرق العادة بخلق المنع لهم من القيام وتحريك الجوارح ورفع قدرهم على ذلك مع كونه معتاداً من أفعالهم" (3) . جـ - أما شروط المعجزة عنده فهي: 1- أن تكون مما ينفرد الله بالقدرة عليه. 2- أن يكون ذلك الذي يظهر على أيديهم خارقاً للعادة. 3- أن يكون غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ممنوعاً من إظهار ذلك على يده. 4- أن يقع عند تحدي النبي وادعائه النبوة وأن ذلك آية له (4) . د - ولكن كيف يفرق بين المعجزة وبين حيل المشعوذين وأصحاب الخوارق الشيطانية؟ يجيب الباقلاني بما أجاب به سابقاً، من أن معجزات الرسل لا يصح أن يقدر عليها إلا الله تعالى مثل إحياء الموتى واختراع الأجسام (5) . وكذلك بالنسبة لما يأتي به الساحر (6) ، ولكنه يقول: " إن الساحر إذا احتج   (1) انظر: كتاب البيان (ص: 14-15) . (2) انظر: نفس المصدر (ص:16) . (3) البيان (ص: 16-17) . (4) انظر: البيان (ص: 45-46) . (5) انظر: نفس المصدر (ص: 56-58) ، وانظر: بعض التفاصيل لذلك في نكت الانتصار المطبوع (ص: 299-306) . (6) انظر: نفس المصدر (ص: 94) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 بالسحر وادعى به النبوة أبطله الله تعالى عليه بوجهين: أحدهما: أنه إذا علم ذلك في حال الساحر وأنه سيدعي به النبوة أنساه عمل السحر جملة. والثاني: أن ينجد خلق من السحرة يفعلون مثل فعله ويعارضونه بأدق مما أورده فينتقض بذلك ما ادعاه (1) ، أما الفرق بين المعجزة والكرامة فليس موجوداً في المطبوعة الناقصة من البيان، ولكن الباقلاني، ذكر ذلك في رسالته لأحد العلماء، وذكر فيها أن الفرق هو أن الأمر الخارق للنبي مقرون بالتحدي والاحتجاج، وأن صاحب الكرامة لا يدعي النبوة بكرامته ولو علم الله أنه يدعي بها النبوة لما أجراها على يديه (2) . دور الباقلاني في تطور المذهب الأشعري: يعتبر الباقلاني المؤسس الثاني للمذهب الأشعري (3) ؛ والباقلاني تلميذ لتلامذة الأشعري فهو قريب العهد به، وعلى الرغم من أن تلامذة الأشعري كانوا أقوياء وذوي تأثير واسع إلا أن أحداً منهم لم يبلغ ما وصل إليه الباقلاني، ولعل الفترة التي عاشها الأشعري وتلامذته كان السائد فيها المذهب الكلابي، فكان المذهبان متداخلين، والأشعري وغيره من معاصريه كانوا تلامذة لابن كلاب، وتلامذة هؤلاء لم يتميزوا كأشاعرة وإنما كانوا كلابية لأن تتلمذهم لم يكن مقتصراً على الأشعري، وإنما كان عليه وعلى غيره من الكلابية، وهذا حسب الأغلب فقط. فلما جاء الباقلاني جرد نفسه لنصرة أبي الحسن الأشعري ومذهبه، والعمل على دعمه بأوجه جديدة من الحجاج والمناظرات، وقد تمثل ذلك بعد طرق أهمها:   (1) البيان (ص: 94-95) . (2) انظر: المعيار المعرب (ص: 11/250-251) ، ضمن رسالة كتبها الباقلاني إلى محمد بن أحمد ابن المعتمر المرقى. (3) انظر في الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيقه، إبراهيم مدكور (2/47) ، وفي علم الكلام، الأشاعرة أحمد صبحي (ص:75) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 1- أن الباقلاني ربط اسمه بالأشعري، فصار علماً عليه يذكر في نسبه فيقال: أبو بكر بن الطيب الباقلاني الأشعري، وهذا موجود في الكتب التي ترجمت له، وفي صور عناوين مخطوطات كتبه (1) ، ولحماسة في الانتساب إلا الأشعري ونصرة مذهبه عدة الأشاعرة المجدد على رأس المئة الرابعة بعد الأشعري الذي يعتبرونه مجدد المئة الثالثة (2) . 2- مع انتسابه إلى الأشعري وطد علاقته بالحنابلة، تبعاً لأبي الحسن الأشعري الذي أعلن في الإبانة رجوعه إلى قول الإمام أحمد، وقد وصل الأمر بالباقلاني إلى أنه كان يكتب أحياناً في أجوبته: محمد بن الطيب الحنبلي، كما كان يكتب: الأشعري؛ لأن الأشعري وأصحابه كانوا منتسبين إلى الإمام أحمد وأمثاله من أئمة السنة (3) . وكانت علاقة الباقلاني بالتميميين الحنابلة قوية، ويذكر ابن عساكر وغيره نماذج لهذه العلاقات الوطيدة بينهم (4) ، وقد استفاد الباقلاني من ذلك سمعة طيبة عند الحنابلة مع أنه أشعري جلد، كما أن بعض الحنابلة كالتميميين مالوا إلى بعض أقوال الأشاعرة، ولا شك أن علاقتهم بالباقلاني صاحب البلاغة والفصاحة والحجج المنطقية كان لها تأثير في ذلك. 3- حرص الباقلاني على مناقشة المبتدعة من المعتزلة وغيرهم، ومناظرتهم مناظرة علنية أمام السلاطين، ولذلك لما جاء خطاب عضد الدولة يدعوه إلى مجلسه في سيراز قال شيخ الباقلاني أبو الحسن الباهلي - وفي رواية أبو بكر بن مجاهد -   (1) انظر: صور عناوين المخطوطات لكل من: الأنتصار، والتمهيد، طبعة القاهرة، وإعجاز القرآن، ت السيد أحمد صقر، والبيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات. (2) انظر: تبيين كذب المفتري (ص: 53) ، أما المجدد الأول والثاني فعند جمهور العلماء أن مجدد المئة الأولى عمر بن عبد العزيز والثانية الإمام الشافعي، وهذا قول الإمام أحمد وغيره، انظر: توالي التأسيس لابن حجر (ص: 47-48) . (3) انظر: درء التعارض (1/270) . (4) انظر: تبيين كذب المفتري (ص: 221-390) ، والمعيار المعرب (11/76) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 وبعض أصحابه: هؤلاء قوم كفرة، فسقه، لأن الديلم كانوا روافض، لا يحل لنا أن نطأ بساطهم وليس غرض الملك من هذا إلا أن يقال: إن مجلسه مشتمل على أصحاب المحابر كلهم، ولو كان خالصاً لله لنهضت، قال القاضي [الباقلاني] : فقلت لهم: كذا قال ابن كلاب، والمحاسبي، ومن في عصرهم: إن المأمون فاسق، لا يحضر مجلسه، حتى ساق أحمد بن حنبل إلى طرسوس، وجرى عليه بعده ما عرف، ولو ناظروه لكفوه عن هذا الأمر، وتبين لهم ما هم عليه من الحجة، وأنت أيضاً أيها الشيخ تسلك سبيلهم حتى يجري على الفقهاء ما جرى على أحمد، ويقولون بخلق القرآن، ونفي الرؤية، وها أنا خارج إن لم تخرج، فقال الشيخ: إذا شرح الله صدرك لهذا فاخرج، فخرجت مع الرسول إلى شيراز (1) ، وكان من نتيجة ذلك تلك المناظرات مع المعتزلة في مجلس عضد الدولة، ولما انتصر عليهم قربه الملك وأمره أن يعلم ولده، فألف له التمهيد (2) ، كما أن عضد الدولة أرؤسله إلى ملك الروم وجرت له مناظرات عديدة مع النصارى اشتهرت حكاياتها عند الناس. فالباقلاني حين عزم على مناقشة المعتزلة (3) ، ومناظراتهم كان ذلك بناء على منهج اختطه لنفسه، ورأى أنه وسيلة لازمة لمقاومة مخالفيه من أهل البدع، ولذلك نعى على شيوخه كابن كلاب والمحاسبي حين تركوا المأمون ومن معه من أهل الاعتزال يفرضون على الناس مقالتهم الاعتزالية، وحين يضرب الباقلاني المثل بهذين كان يقصد أن تمكنهما من علم الكلام يعطيهما قدرة على مناقشة المعتزلة أصحاب الكلام والجدل العقلي فهو يرى أن الواجب عليهما أكبر من غيرهما. 4- كان للباقلاني دور واضح في تطوير المذهب الأشعري، ويكاد يجمع جميع الباحثين على أن له دوراً في ذلك، يقول ابن خلدون: " وكثر أتباع الشيخ   (1) ترتيب المدارك (7/52-53) . (2) انظر: تبيين كذب المفتري (ص: 118-120، 215-219) . (3) في الانتصار - المخطوط - (1/495) ، يشن الباقلاني هجوماً على المعتزلة وأسالبيهم في نشر أقوالهم ومنها دعاواهم في وصف خصومهم بأنهم حشو وعامة ونابتة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 أبي الحسن الأشعري، واقتفي طريقته من بعده تلميذه (1) ، كابن مجاهد وغيره، وأخذ عنهم القاضي أبو بكر الباقلاني، فتصدر للإمامة في طريقتهم، وهذبها، ووضع المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار، وذلك مثل إثبات الجوهر الفرد، والخلاء، وإن العرض لا يقوم بالعرض، وأنه لا يبقى زمانين، وأمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم، وجعل هذه القواعد تبعاً للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها لتوقف تلك الأدلة عليها، وأن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول" ثم يعقب ابن خلدون مشيراً إلى الظروف التاريخية للقول بهذه الأمور، فيقول: " وجملت هذه الطريقة وجاءت من أحسن الفنون النظرية والعلوم الدينية، إلا أن صور الأدلة فيها جاءت بعض الأحيان على غيرالوجه القناعي لسذاجة القوم، ولأن صناعة المنطق التي تسير بها الأدلة وتعتبر بها الأقيسة لم تكن حينئذ ظاهرة في الملة، ولو ظهر منها بعض الشيء، لم يأخذ به المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة لعقائد الشرع بالجملة فكانت مهجورة عندهم لذلك" (2) ، ويرى الدكتور إبراهيم مدكور أنه يعتبر: الخليفة للأشعري، وأنه " تأثر بالمعتزلة، فاعتنق نظرية الجوهر الفرد كما اعتنقها الأشعري، ودعمها وعمقها، وقال بفكرة الأحوال، وحاول أن يسوي بين الحال والصفة، ولا شك في أنه بعد أو من ثبت دعائم المذهب الأشعري، وأضاف إليه أسساً عقلية، وإن قال بمبدأ له خطره وهو: إن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول" (3) . ويشير محققاً التمهيد - أبو ريدة ومحمود الخضيري - إلى جوانب من دور الباقلاني في تطوير مذهب الأشاعرة، فيقولان: " أما القيمة الكبرى لعمل الباقلاني فهي.. كانت في التنهيج وفي بناء مذهب الأشاعرة الكلامي والاعتقادي بناء منظماً لا من حيث الطريقة المنطقية الجدل فحسب، بل من حيث وضع المقدمات التي تبني عليها الأدلة، ومن حيث ترتيب هذه المقدمات بعضها بعد بعض على نحو يدل على امتلاك ناصية الجدل وعلى طول اعتبار في أصول الاستدلال" (4) ، ثم يذكران   (1) كذا في طبعات مقدمة ابن خلدون، ومنها - ط بولاق - (ص: 388) ، - وط كاترمير- (3/40) ، - وط دار الكتاب اللبناني - المجلد الأول (ص: 934) ، إضافة إلى طبعة الشعب، ولعل الصواب، تلاميذه. (2) مقدمة ابن خلدون (ص:429) ، - ط الشعب -. (3) في الفلسفة الإسلامية (2/51) .. (4) مقدمة تحقيق التمهيد - ط القاهرة - (ص: 15) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 قول ابن خلدون، وقبل ذلك ذكرا أن الباقلاني لم يكن " مجرد مواصل لحمل تراث الأشاعرة المتقدمية عليه، بل قد تم على يديه توضيح بعض النقط، وتحديد بعض المفهومات، مما أدى إلى تعديل مذهب الأشعري من بعض الوجوه وإلى تقريبه من رأي المعتزلة، وهذا ما لم يغفله بعض العلماء المتقدمين" (1) ، ثم ذكرا نماذج لتعليقات الغزالي والشهرستاني على مخالفة الباقلاني لشيخ الأشاعرة في مسائل: صفة البقاء، والحال، وتأثير القدرة الحادثة، وقد سبق ذكر ذلك عند شرح عقيدة الباقلاني وأقواله. ويذكر أحمد صبحي أن الأشعري كان يعتمد على النقل كثيراً، لكن أتباعه عدلوا " ابتداء من الباقلاني عن الاستشهاد بدليل النقل إلا فيما ندر، مغلبين أدلى العقل.. وجاء الباقلاني ليختط منهجاً مغايراً لمنهج الأشعري دفاعاً عن المذهب، إذ وضع المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة كالحديث عن العلم وأقسامه، وعن الموجود قديمه وحديثه، وعن الجوهر والعرض والجسم" (2) . وهذا ما سار عليه الأشاعرة من بعده، وواضح أن الباقلاني يستشهد بالأدلة النقلية في كتبه ولكن مناقشاته العقلية تطغى عليه كثيراً، حتى وهو يعرض أن يستشهد بالنصوص. ويرى بروكلمان أن الباقلاني أتى بآراء جديدة أخذها عن الفلسفة اليونانية (3) ، أما مكارثي فيرى أنه يتصف ببعض الأصالة في مناقشته للبيان والمعجز، وأنه عمل كثيراً على نشر المذهب الأشعري (4) ، كما يرى فتح الله خليف أنه أدخل بعض العديلات على مذهب الأشعري (5) . والمسألة التي اشتهر بها الباقلاني وهي أن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول   (1) مقدمة تحقيق التمهيد - ط القاهرة - (ص: 14) . (2) في علم الكلام - الأشاعرة - (ص: 222-223) . (3) دائرة المعارف الإسلامية، للمستشرقين (6/105-106) ، ط الشعب. (4) المصدر السابق (6/107) ، وهو من زيادات الطبعة الجديدة لدائرة المعارف الإسلامية. (5) انظر: معجم أعلام الفكر الإنساني (1/850) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 لم نجد لها نصاً صريحاً فيما وصل من كتب الباقلاني، ولكن ابن خلدون ذكرها، ثم تناقلها عنه الباحثون، وقد حاول النشار، وتبعه محمد عبد الستار نصار أن يوجدا ما يدعم هذا القول في بعض المقدمات التمهيد (1) ، والذي يترجح أنها بنيت على قوله بوجوب المعجزات لثبوت نبوة الأنبياء لأن بطلان المعجزة يؤدي إلى بطلان نبوة الأنبياء، أو أنها بنيت على قوله بالجوهر الفرد وأن بطلانه يؤدي إلى بطلان دليل حدوث الأجسام. ويتضح من خلال عرض عقيدة وأقوال الباقلاني، وأقوال الباحثين في ذلك أن الباقلاني قد طور المذهب الأشعري من خلال: 1- الميل في المناقشات إلى العقل، وضعف الاعتماد على النقل، وإن كان الأمر لم يصل إلى إهماله. 2- وضع المقدمات العقلية لمباحث العقيدة وعلم الكلام، مثل مباحث الجوهر والعرض، وأقسام العلوم، والاستدلال، والكلام عن الموجودات وأنواعها. 3- الميل إلى بعض أقوال المعتزلة وخاصة في بعض الصفات، وإذا كان الأشعري أخذ يبعد عن الاعتزال في آخر كتبه، فالباقلاني أعاد المنهج الأشعري ليقرب من أهل الكلام. 4- تقعيد بعض القواعد الكلامية، التي أصبحت فيما بعد أصول الأشاعرة مثل القول بالجوهر الفرد، وأن العرض لا يبقى زمانين، وأنه لا يقول بالعرض. 5 - التركيز على مبدأ إنكار العلية والسببية التي جعلها الله في الأشياء. كذلك القول في مسألة المعجزات والفرق بينها وبين السحر والكرامات والحيل.   (1) انظر: مناهج البحث للنشار (ص: 112- 113) ، والمدرسة السلفية (ص: 281-282) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 ابن فورك : ت 406 هـ: هو محمد بن الحسن بن فورك (1) ، أبو بكر الأنصاري، الأصبهاني (2) ، ولا يعرف تاريخ ولادته، لكن المعروف عنه أنه أقام أولاً بالعراق ودرس بها مذهب الأشعري على أبي الحسن الباهلي - تلميذ أبي الحسن الأشعري (3) -، ثم ذهب إلى الري فسعب به الكرامية، ثم راسله أهل نيسابور فبنيت له فيها دار ومدرسة، وصار يدرس فيها وتخرج عليه جمهرة كبيرة من الفقهاء (4) ، وقد ذكر قصة له في سبب اشتغاله بعلم الكلام (5) . وفي آواخر عمره أنهى إلى السلطان محمود بن سبكتكين أنه يعتقد أن نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليس نبياً اليوم، وأن رسالته انقطعت بموته، وقد امتحن وجرت له مناظرات مع محمود بن سبكتكين، وممن نسب إليه هذا القول ابن حزم حيث قال في الفصل: [حدثت (6) ] فرقة مبتدعة تزعم أن محمد ابن عبد الله ابن عبد المطلب - صلى الله عليه وسلم - ليس هو الآن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكنه كان رسول الله، وهذا قول ذهب إليه الأشعرية، وأخبرني سليمان بن خلف الباجي - وهو من مقدميهم اليوم - أن محمد بن الحسن ابن فورك الأصبهاني على هذه المسألة قتله   (1) فورك: بضم الفاء وفتح الراء، هكذا ضبطها بان خلكان وصاحب الوافي وغيرهما. (2) انظر: ترجمته في: تبيين كذب المفتري (ص: 232) ، وإنباء الرواة (3/110) ، ووفيات الأعيان (4/272) ، وسير أعلام النبلاء (17/214) ، والعبر (2/213) ، والوافي (2/344) ، وطبقات السبكي (4/127) ، وطبقات الشافعية للأسنوي (2/266) ، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهية (1/185) ، وشذرات الذهب (3/181) ، والنجوم الزاهرة (4/240) ، وتاج التراجم (ص: 62) . (3) انظر: سر أعلام النبلاء (17/216) ، وطبقات السبكي (4/128) ، وابن قاضي شهبة (1/185) . (4) انظر: السير (17/215) ، وطبقات السبكي (4/128) ، وتاريخ التراجم لابن قطلوبغا (ص: 62) - ط باكستان -. (5) انظر: طبقات السبكي (4/129) . (6) في طبعة الفصل الأولى - مع ملل الشهرستاني - (1/88) [حديث] وكذا في الطبعة المحققة (1/161) ، ولعل الصواب ما أثبته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 بالسم محمود بن سبكتكين، صاحب ما دون وراء النهر من خراسان -رحمه الله- " (1) ، ثم ذكر ابن حزم السبب الذي أدى إلى هذه المقالة (2) ، وقد نفى السبكي بشدة نسبة هذه المقالة وشنع على ابن حزم والذهبي بسبها، وقال إن ابن فورك لما سأله ابن سبكتكين كذب الناقل، وإن السلطان عندما وضح له الأمر أمر بإعزازه وإكرامه، فلما أيست الكرامية دست له السم (3) ، وقول ابن حزم سبق نقله قريباً وقد نسبه إلى الباجي، أما الذهبي فقال: " ونقل أبو الوليد الباجي أن السلطان محموداً سأله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: كان رسول الله، وأما اليوم فلا، فأمر بقتله بالسم " (4) ، وهذه المسألة من المسائل التي كانت سبباً في محنة الأشعرية زمن القشيري والجويني، وقد رد القشيري نسبتها إلى الأشعرية وبين بطلان نسبتها إليهم (5) . والذي يظهر أنه قد وقعت بين ابن فورك وابن سبكتكين مناظرات في موضوعات متعددة ولذلك ذكر ابن رجب مناظرة بينهما حول العلو، فروى في أثناء ترجمته لأبي الحسن العكبري أنه قال: " سمعت أبا مسعود أحمد بن محمد البجلي الحافظ قال: دخل ابن فورك على السلطان محمود، فتناظرا، قال ابن فورك لمحمود، لا يجوز أن تصف الله بالفوقية، لأنه يلزمك أن تصفه بالتحتية، لأنه من جاز أن يكون له فوق جاز أن يكون له تحت. فقال محمود: ليس أنا وصفته بالفوقية، فتلزمني أن أصفه بالتحتية، وإنما هو وصف نفسه بذلك، قال: فبهت" (6) .   (1) الفصل (1/161) - المحققة -. (2) انظر: المصدر السابق (1/162) . (3) انظر: طبقات السبكي (4/130-133) . (4) سير أعلام النبلاء (17/216) . (5) انظر: رسالة شكاية أهل السنة للقشيري (ص: 10-28) ، ضمن "رسائل القشيرية" وهو في طبقات السبكي (3/40-413) . (6) الذيل على طبقات الحنابلة (1/12) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 ومن أبرز شيوخ ابن فورك إضافة إلى أبي الحسن الباهلي: عبد الله بن جعفر الأصبهاني الذي سمع منه مسند أبي داود الطيالسي، وابن خرزاد الأهوازي. أما أبرز تلاميذه الذين رووا عنه فالبيهقي، والقشيري، وأبو بكر أحمد ابن علي بن خلف (1) . أما مصنفاته فقد ذكر مترجموه أنها قريب من المئة (2) ، وقد ذكر سزكين ما وصل إليه منها، وهي باختصار: 1- مشكل الحديث وبيانه، وقد ذكر أن له أسماء كثيرة، وهو مطبوع. 2- كتاب الحدود في الأصول، وذكر أنه طبع في بيروت سنة 1324هـ. 3- النظامي في أصول الدين. 4- رسالة في علم التوحيد. 5- تفسير القرآن. 6- الإبانة عن طرق القاصدين والكشف عن مناهج السالكين، والتوفر إلى عبادة رب العالمين. 7- مجرد مقالات أبي الحسن الأشعري، وقد طبع أخيراً في بيروت. 8 - شرح كتاب العالم والمتعلم لأبي حنيفة. 9- انتقاء من أحاديث أبي مسلم محمد بن أحمد بن علي الكاتب البغدادي المتوفى سنة 399هـ (3) . توفي ابن فورك سنة 406هـ.   (1) انظر: السير (17/215) ، وطبقات السبكي (4/129) . (2) انظر: التبيين (ص: 233) . (3) انظر: تاريخ التراث لسزكين مجلد 1ج- 4 (ص: 52-54) - ط جامعة الإمام -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 منهج ابن فورك ودوره في تطور المذهب الأشعري: يعتبر ابن فورك من المعاصرين للباقلاني المتوفى سنة 403هـ، وكلاهما تتلمذ على يد أبي الحسن الباهلي، تلميذ أبي الحسن الأشعري، ولكن شيوخ الباقلاني في مسائل الكلام أكثر، كما أن عناية ابن فورك بالحديث أكثر، ويكفي أن أحد تلامذته الإمام البيهقي. وإذا كان قد مضى تفصيل مذهب وأقوال الباقلاني، فسيقتصر البحث هنا في عقيدة ومنهج ابن فورك على عرض مقارنة بينه وبين الباقلاني، إذ هما يمثلان مرحلة واحدة في مسيرة مذهب الأشاعرة. فمن المسائل التي يوافق فيها ابن فورك الباقلاني: 1- الاستدلال بدليل حدوث الأجسام المسمى دليل الأعراض، وهو دليل المتكلمين المشهور، وقد أشار إليه ابن فورك عرضاً في كتابه مشكل الحديث فقال: " إن الخلق عرفوا الله سبحانه وتعالى بدلالاته المنصوبة، وآياته التي ركبها في الصور، وهي الأعراض الدالة على حدوث الأجسام، واقتضائها محدثاً لها من حيث كانا محدثين" (1) . 2- نفي الصفات الاختيارية القائمة بالله تعالى، وهي المسألة المسماة بحلول الحوادث، وقد جاءت الإشارة إلى هذه المسألة عند ابن فورك في عدة مواضع (2) . 3- يثبت ابن فورك من الصفات الخبرية: الوجه (3) ، واليدين (4) ، والعين (5) ، ويمنع من تأويلها، وينفي عنها أن تكون جارحة أو دالة على   (1) مشكل الحديث وبيانه (ص: 43) - ت موسى محمد علي - المكتبة العصرية، بيروت. (2) انظر: المصدر السابق (ص: 68، 100، 133، 143، 193، 194، 230) . (3) انظر: المصدر نفسه (ص: 171، 204) . (4) انظر: المصدر نفسه (ص: 53، 157، 179، 183، 206) . (5) انظر: المصدر نفسه (ص: 206، 123، 203، 205) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 تجسيم أو أجزاء، وهذا ما يقوله الباقلاني - إلا أننا نرى ابن فورك يتأول ما عدا هذه الصفات الخبرية، فيتأول ما ورد من اليد (1) ، ويمين الرحمن (2) ، والكف (3) ، والقبضة (4) ، والقدم (5) ، والأصابع (6) ، والساق (7) ، ولم يجعلها مع اليدين والوجه والعين نسقاً واحداً في الإثبات مع عدم التمثيل، بل أوّل هذه ومنع تأويل تلك، وكأن ابن فورك شعر بالتناقض هنا فأورد سؤالاً وأجاب عليه حيث قال بعد إثباته صفة الوجه لله تعالى، ورده على المعتزلة الذين يتأولونه بأن معناه: أنه هو، وإن وجه الشيء قد يكون نفسه - قال: " فإن قال قائل: فإنه لا يعقل وجه، الجارحة أو بعض (8) ، أو نفس الشيء؟ قيل: في هذا جوابان: أحدهما: أنه إثبات وجه بخلاف معقول الشاهد، كما أن إثبات من أضيف إليه الوجه إثبات موجود بخلاف معقول الشاهد، والثاني: أن الوجه على الحقيقة لا يكون نفس الشيء، لما بينا أن ذلك لا يوجد في اللغة حقيقة أيضاً، وأما إطلاق البعض على الوجه الذي هو جارحة فتوسع عندنا، وإن كان حقيقة أيضاً ... واعلم أن أحد أصولنا في هذا الباب أنه كلما أطلق على الله عزوجل من هذه الأوصاف والأسماء التي قد تجرى على الجوارح فينا، فإنما يجري ذلك في وصفة على طريق الصفة، إذا لم يكن وجه آخر يحمل عليه، مما يسوغ فيه التأويل، وذلك لصحة قيام الصفة بذاته، فإن قيامها مما لا يقتضي انتقاض توحيده وخروجه عما يستحقه من القدم والإلهية، فأما وصفه بذلك على الحد الذي يتوهمه المشبه الممثلة لربها بالخلق في إثبات الجوارح والآلات،   (1) انظر: مشكل الحديث (ص: 207) . (2) انظر: المصدر نفسه (ص: 209) . (3) انظر: المصدر نفسه (ص: 40) . (4) انظر المصدر نفسه (ص: 49) . (5) انظر المصدر نفسه (ص: 62-63) . (6) انظر، المصدر نفسه (ص: 116-118) . (7) انظر: المصدر نفسه (ص: 167-210) . (8) كذا ولعل الصواب: فإنه لا يعقل وجه إلا جارحة أو بعض ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 فخلاف الدين والتوحيد، وحملها على ما ذهبت إليه المعتزلة فيه إبطال فائدتها، وإخراجها عن كونها معقولة مفيدة على وجه الحق ... " (1) ، ثم يورد سؤالاً آخر فيقول: " فإن قيل: فلم لا تقولون على هذا الوصف: " قدم " صفة و " صورة " صفة، لأن الإضافة قد حصلت في الخبر إليه على هذا الوجه؟ فقيل: " على صورته " وقيل: " قدمه "؟ قيل: إنما لم يحمل ذلك على الصفة لامتناع المعنى فيه، وإن الصفة ليست مما يوصف بالوضع في الأماكن، وقد وجدنا لذلك تأويلاً صحيحاً قريباً، يمنع هذه الشبهة، وهو ما ذكرنا قبل أن قدم المتجبر على الله عزوجل، بضعها على النار على استحقاق العقوبة على عتوه على الله.. وإنما حملنا ما أطلق من ذكر الوجه واليدين والعين على الصفة من حيث لم يوجد في واحد منها ما يستحيل ويمتنع، وليس كل ما أضيف إليه فهو عن طريق الصفة، بل ذلك ينقسم على أقسام: منها بمعنى الملك، ومنها بمعنى الفعل، ومنها بمعنى الصفة، وإنما يكشف الدليل، ويميز القرائن مواقعها على حسب ما بينا ورتبنا، فاعلمه إن شاء الله" (2) ، وواضح من منهجه هذا أن الصفة إذا كان لها وجه آخر تحمل عليه وجب حملها، بحيث لا تكون صفة لله تعالى، ومن تأمل تأويلاته لبعض الصفات الخبرية لا يجد بينها وبين تأويلات مخالفي ابن فورك لصفة اليدين والوجه والعين كبير فرق. 4- يؤول ابن فورك صفات النزول (3) ، والإتيان (4) ، والمجيء (5) ، والضحك (6) ،   (1) مشكل الحديث (ص: 172) . (2) انظر: المصدر السابق (ص: 173) . (3) انظر: المصدر نفسه (ص: 99، 101، 191، 222، 224) . (4) انظر: المصدر نفسه (ص: 43، 102) . (5) انظر: المصدر نفسه (ص: 102، 124) . (6) انظر: المصدر نفسه (ص: 67، 200، 222، 225، 226) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 والعجب (1) ، والغضب (2) ، والفرح (3) ، وغيرها، وهذا ما نجده مماثلاً له عند الباقلاني، وهذا كله بناءً على أصلهما الذي هو أصل الأشاعرة وهونفي ما يقوم بالله من الصفات الاختيارية. 5- يثبت صفة الكلام على مذهب الأشاعرة، ويشرح بعض الأمور المتعلقة به، فيقول: " فأما كلام الله الذي هو صفة من صفات ذاته، غير بائن منه: فكلام واحد، شيء واحد، يفهم منه ويسمع ملا يحصى ولا يعد من الفوائد والمعاني، ونظير ذلك ما نقول: إن علمه واحد، ولكنه يحيط بمعلومات لا تتناهى، والذي تقع عليه الكثرة والقلة من المعلومات دون العلم ... " (4) ، وما نسمعه من كلام الله هو عبارة عنه، وكلام الله ليس بحرف ولا صوت، يقول: " اعلم أن كلام الله تعالى ليس بحرف ولا صوت عندنا، وإنما العبارات عنه تارة تكون بالصوت والعبارات هي الدالة عليه، وأمارات له تظهر للخلق، ويسمعون عنها كلام الله فيفهمون المراد، فيكون ما سمع موسى عليه السلام من الأصوات مما سمع يسمى كلام الله عزوجل، ويكون ذلك في نفسه غير الكلام، ويحتمل أن يكون معناه: أن يسمي العبارة كلام الله، كما يسمي الدلالة على الشيء باسمه، وكما يسمي الواقع عن القدرة قدرة، والكائن عن الرحمة رحمة " (5) ، ويقول في موضع آخر" " وقد بينا فيما قبل أن معنى ذلك راجع إلى العبارات والدلالات، التي هي الطريق إلى الكلام وبها يفهم مراده منه، لا أنه تعالى قوله إذا تكلم الله بالوحي، أنه يتجدد له كلام، ولكنه يتجدد إسماع وإفهام بخلق عبارات ونصب دلالات، بها يفهم الكلام، ثم يقال على طريق السعة والمجاز لهذه العبارات كلام من حيث أنها دلالات عليه ... واعلم أنه لا يصح على أصلنا في قولنا:   (1) مشكل الحديث (ص: 95) . (2) انظر: المصدر السابق (ص: 229) ، وفي تأويل الغضب والرحمة (ص: 112، 179) . (3) انظر: المصدر نفسه (ص: 212) . (4) انظر: المصدر نفسه (ص: 212) . (5) انظر: المصدر نفسه (ص: 169) .. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 إن كلام الله غير مخلوق ولا حادث بوجه أن يقول: إن الله يتكلم كلاماً بعد كلام، لأن ذلك يوجب حدوث الكلام، وإنما يتجدد الإسماع والإفهام، ونصب العبارات وإقامة الدلالات على الكلام الذي لم يزل موجوداً وحدوث الدلالة والعبارة لا يقتضي حدوث المدلول المعبر عنه، كما أن حدوث الذكر والدعاء لا يقتضي حدوث المذكور والمدعو" (1) . هذه بعض المسائل التي اتفق فيها الباقلاني وابن فورك، على أن ابن فورك تميز عن الباقلاني بما يلي: 1- الاستدلال بالسنة في دقائق مسائل الأسماء والصفات، مع أن له رأياً في أخبار الآحاد وأنها لا تفيد اليقين والعلم، لكنه يرى جواز ذكرها لإفادتها غلبة الظن، فهي من باب الجائز الممكن، يقول: " وأما ما كان من نوع الآحاد مما صحت الحجة به من طريق وثاقة النقلة، وعدالة الرواة، واتصال نقلهم، فإن ذلك - وإن لم يوجب العلم والقطع - فإنه يقتضي غالب ظن وتجويز حكم، حتى يصح أن يحكم أنه من باب الجائز الممكن، دون المستحيل الممتنع" (2) ، والسبيل الأمثل فيها تخريجها وتأويلها، وليس إنكارها كما فعلت المعتزلة، ولا اعتقاد التشبيه بها كما فعلت المشبهة (3) . والمطلع على كتاب ابن فورك في مشكل الحديث يلحظ أمرين عجيبين: أحدهما: البحث عن أوجه التأويل لكل حديث، والتكلف في ذلك، وهو يعتقد أن هذه مهمة طائفة من أهل الحديث، فقد قسمهم إلى فرقتين: فرقة هم أهل النقلة والرواية، وحصر أسانيدها، وتمييز صحيحها من سقيمها، وفرقة منهم يغلب عليهم تحقيق طرق النظر والمقاييس، والإبانة عن ترتيب الفروع على الأصول ونفي شبه الملبسين عنها، فالفرقة الأولى للدين كالخزنة للملك   (1) مشكل الحديث (ص: 193-194) . (2) المصدر السابق: (ص: 22) . (3) انظر: المصدر نفسه (ص: 235-236) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 والفرقة الأخرى كالحرس الذين يذبون عن خزائن الملك (1) ، وواضح أن ابن فورك في كتابه جعل مهمته هدف الفرقة الثانية، ولذلك ذكر فيه ما يراه من مشكل الحديث. والأمر الآخر: خلطه فيما يورده بين الأحاديث الصحيحة، والضعيفة والموضوعة، حيث جعلها نسقاً واحداً في الدلالة وضرورة التأويل، وإذا أشار إلى ضعف بعض الروايات لا يكتفي بذلك في ردها وبيان عدم الحاجة إلى بحث ما دلت عليه من الصفة لله تعالى، وإنما يشير إلى ضعفها - إن أشار - بكلمات ثم يجلب بخيله ورجله في تأويلها (2) . ومن الأمثلة على ذلك - وهي كثيرة - تأويله لرواية "الحجر الأسود يمين الله في أرضه، يصافح بها من شاء من خلقه" (3) ، فإنه قال - دون أن   (1) انظر: مشكل الحديث (ص: 17-18) . (2) نظر: كأمثلة على ذلك مشكل الحديث (الصفحات: 59، 64، 69، 83، 103، 108، 141، 163، 168، 169) . (3) هذا الحديث روي مرفوعاً وموقوفاً، فرواه - عن عبد الله بن عمرو -: الحاكم في المستدرك (1/457) ، بلفظ، يأتي الركن يوم القيامة.. وهو يمين الله التي يصافح بها خلقه "، والطبراني في الأوسط (1/337) ، ورقمه (567) ، وابن خزيمة في صحيحه (4/221) ورقمه (2737) ، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/85) ، وصحيحه الحاكم وتعقبه الذهبي بأن في إسناده عبد الله ابن المؤمل وهو ضعيف، كما رواه عن جابر مرفوعاً: الخطيب في تاريخ بغداد (6/328) ، وابن عدي في الكامل (1/336) ، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/84) ، وفي إسناده إسحاق بن بشر الكاهلي قال عنه ابن عدي في الكامل: هو في عداد من بضع الحديث، كما رواه عن أنس بن مالك مرفوعاً: الديلمي في الفردوس (2/258) ، بلفظين، وفي إسناده على بني عمر العسكري ضعيف، والعلاء بن سلمة الرواس متهم بالوضع، انظر: فيض القدير (3/310) ، كما رواه موقوفاً على ابن عباس - عبد الرزاق في المصنف (5/39) ، ورقمه (8919-8920) ، وابن قتيبة في غريب الحديث (2/337) ، والأزرقي في أخبار مكة من طرق (1/323، 324، 326) ، ومحمد ابن يحيى العدني المعروف بمحمد بن أبي عمر - كما في المطالب العالية - (1/339) ورقمه (1147) ، وفي الحاشية (1/340) ، " في المسندة هذا موقوف جيد، وقال البوصيري: رواه ابن أبي عمر موقوفاً بإسناد صحيح"، كما روى موقوفاً على عكرمة، رواه الأزرقي في أخبار مكة (1/325) ، ومما سبق يتبين أن المرفوع ضعيف، وأن الصحيح وقفه على ابن عباس، وممن صحح وقفه العجلوني في كشف الخفا (1/349) ، وقال في تمييز الطيب من الخبيث (ص: 68) ، " قال شيخنا هو موقوف صحيح"، كما أشار ابن تيمية في مجموع الفتاوى (6/397) ، وفي التدمرية (ص: 72) ، أن المشهور فيه أنه عن ابن عباس وانظر: حول هذا الحديث أيضاً إحياء علوم الدين (1/103) ، مع تخريج العراقي، وشرحه إتحاف السادة (2/79-80) ، والسراج المنير للعزيزي (2/236-237) ، وسلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني رقم (223) ، وكنز العمال (12/215، 217) . ملحوظة: وقع في الترغيب والترهيب (2/194) - ت مصطفى عمارة - و (2/314) ، ت الهراس رواية عبد الله بن عمرو بلفظ " يأتي الركن اليماني.." والذي في مصادر الحديث - التي أشرنا إليها - وأيضاً في مسند الإمام أحمد (2/211) ، حيث روى أول الحديث دون المصافحة، مجيء الرواية بلفظ " يأتي الركن"، فقط، ولذلك بوبوا له بالحجر الأسود، فلعل ما في الترغيب والترهيب وهم من المنذري أو من النساخ، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 يتعرض لإسناده، وهل هو مرفوع أو موقوف -: " وقد تأول أهل العلم ذلك على وجهين من التأويل: أحدهما: أن المراد بذلك الحجر أنه من نعم الله على عباده، بأن جعله سبباً يثابون على التقرب إلى الله تعالى بمصافحته، فيؤجرون على ذلك، وقد بينا أن العرب تعبر عن النعم باليمين واليد.. وزعم بعضهم: أن هذا تمثيل وأصله أن الملك إذا صافح رجلاً، قبل الرجل يده، فكان الحجر لله تعالى بمنزلة اليمين للملك ليستلم ويلثم، وقد روى في الخبر أن الله عزوجل لما أوجده أخذ الميثاق من بني آدم وأشهدهم على أنفسهم الست بربكم؟ قالوا: بلى، جعل ذلك في الحجر الأسود، فلذلك يقال عنده: إيماناً بك ووفاءً بعهدك (1) . ويحتمل وجهاً آخر: وهو أن يكون قوله " الحجر يمين الله في أرضه، إنما إضافة إليه على طريق التعظيم للحجر، وهو فعل من أفعال الله عزوجل سماه يميناً، ونَسَبهُ إلى نفسه وأمر الناس باستلامه ومصافحته، ليظهر طاعتهم بالإئتمار وتقربهم إلى الله عزوجل، فيحصل لهم بذلك البركة والسعدة" (2) . ولو أن ابن فورك بين درجته وضعفه - أو ضعف المرفوع منه - ثم بين وضوح دلالته وأن نص الحديث يدل على أن الحجر ليس يمين الله حقيقة والتي هي صفته القائمة به لأنه قال: " في الأرض "، لما احتاج إلى هذه التأويلات.   (1) وردت في ذلك رواية ضعيفة عن عمر - رضي الله عنه - رواها الحاكم في المستدرك (1/457) ، والأزرقي في تاريخ مكة (1/323-324) . (2) مشكل الحديث (ص: 57-58) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 وأحياناً يستعين ببعض الروايات الشاذة أو الضعيفة، فمثلاً حين أوّلَ أحاديث النزول بعدة تأويلات قال: " وقد روى لنا بعض أهل النقل هذا الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يؤيد هذا الباب، وهو بضم الياء من " ينزل " وذكر أنه قد ضبطه عمن سمعه عنه من الثقات الضابطين" (1) ، والروايات المتواترة جاءت بما هو مشهور، فكيف تمسك بهذه الرواية الشاذة، والمجهول رواتها؟ وفي تأويله للإتيان في قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} (البقرة:210) ، ذكر رواية عن مجاهد أنه قال: يأتيهم بوعده ووعيده (2) . مع أن المأثور عن مجاهد عكس هذا. 2- وابن فورك يؤول الاستواء والعلو، خلافاً للباقلاني الذي يثبتهما، وقد سبق نقل كلامه في ذلك، ولأهمية قول ابن فورك في هذه المسألة في تتبع تطور المذهب الأشعري نعرض لأقواله فيها، يقول عن الاستواء في معرض رده على ابن خزيمة في كتابه التوحيد: " ثم ذكر صاحب التصنيف بابا ترجمه باستوائه على العرش، وأوهم معنى التمكين والاستقرار، وذلك منه خطأ، لأن استواءه على العرش سبحانه ليس على معنى التمكين والاستقرار، بل هو في معنى العلو بالقهر والتدبير، وارتفاع الدرجة بالصفة على الوجه الذي يقتضي مباينة الخلق" (3) ، وفي موضع آخر حين رد على أحمد بن إسحاق الصبغي - صاحب ابن خزيمة - أحال على تأويله للاستواء فيما سبق - والذي نقلناه قبل قليل -. أما العلو: فله في تأويله أقوال كثيرة: أ - يقول في حديث الجارية حين قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أين الله؟ قالت في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة (4) ، يقول ابن فورك: " إن ظاهر   (1) مشكل الحديث (ص: 100) . (2) المصدر نفسه (ص: 103) ، وقد بحثت عن هذه الرواية فلم أجدها في كتب التفسير ومنها تفسير مجاهد، والطبري، والسيوطي، وابن كثير، والقرطبي، وابن الجوزي، والخازن، والبغوي، والألوسي، والبسيط للواحدي (مخطوط) وتفسير الثعلبي (مخطوط) وغيرها. (3) مشكل الحديث (ص: 186) . (4) رواه مسلم - في آخر قصة - كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة، ورقمه (537) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 اللغة تدل من لفظه أين أنها موضوعة للسؤال عن المكان، ويستخبر بها عن مكان المسؤول عنه بأين.. غير أنهم قد استعملوها عن مكان المسؤول عنه في غير هذا المعنى توسعاً أيضاً تشبيهاً بما وضع له، وذلك أنهم يقولون - عند استعلام منزلة المستعلم عند من يستعمله -: أين منزلة فلان منك، وابن فلان من الأمير، واستعملوه في استعلام الفرق بين الرتبتين بأن يقولوا: أين فلان من فلان، وليس يريدون المكان والمحل من طريق التجاوز في البقاع، بل يريدون الاستفهام عن الرتبة والمنزلة، وكذلك يقولون: لفلان عند فلان مكان ومنزلة، ومكان فلان في قلب فلان حسن، ويريدون بذلك المرتبة والدرجة في التقريب والتبعيد، والإكرام والإهانة، فإذا كان ذلك مشهوراً في اللغة احتمل أن يقال: إن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: أين الله؟ استعلام لمنزلته وقدره عندها وفي قلبها، وأشارت إلى السماء، ودلت بإشارتها على أنه في السماء عندها على قول القائل - إذا أراد أن يخبر عن رفعة وعلو منزلة -: فلان في السماء، أي هو رفيع الشأن، عظيم المقدار، كذلك قولها في السماء على طريقة الإشارة إليها، تنبيهاً عن محله في قلبها ومعرفتها به وإنما أشارت إلى السماء لأنها كانت خرساء، فدلت بإشارتها على مثل دلالة العبارة، على نحو هذا المعنى، وإذا كان كذلك لم يجز أن يحمل على غيره مما يقتضي الحد والتشبيه والتمكين في المكان والتكييف " (1) ، وبعد أن يقرر ابن فورك مذهبه هذا وتأويله - العجيب - لهذا الحديث، يذكر قولاً آخر لبعض الأشاعرة فيقول: " ومن أصحابنا من قال: إن القائل إذا قال: إن الله في السماء، ويريد بذلك أنه فوقها من طريق الصفة، لا من طريق الجهة، على نحو قوله سبحانه {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (الملك:17) ، لم ينكر ذلك " (2) ، وقد يكون قصد ببعض أصحابه: الباقلاني، الذي صرح بنفي الجهة - وقد سبقت الإشارة إلى ذلك.   (1) مشكل الحديث (ص: 76) ، ويلحظ أن رواية أنها أشارت بيدها إلى السماء رواية ضعيفة.. (2) المصدر السابق (ص: 76-77) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 ب - قال في معرض رده على المعتزلة الذين يذهبون إلى أن الله في كل مكان، وبيانه أن المسلمين يطلقون أن الله فوق خلقه، وأن "في" في قوله تعالى: {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} بمعنى "على" غير أنه يعقب قائلاً: "واعلم أنا إذا قلنا: إن الله عزوجل فوق ما خلق، لم يرجع به إلى فوقية المكان، والاتفاع على الأمكنة بالمسافة، والإشراف عليها بالممارسة منها، بل قولنا إنه فوقها يحتمل وجهين: أحدهما: أنه يراد به أنه قاهر لها، مسؤول عليها، إثباتاً لإحاطة قدرته بها، وشمول قهره لها، وكونها تحت تدبيره، جارية على حسب علمه ومشيئته. والوجه الثاني: أن يراد أنه فوقها على معنى أنه مباين لها بالصفة والنعت، وأن ما يجوز على المحدثات من العيب والنقص والعجز والآفة والحاجة، لا يصح شيء من ذلك عليه، ولا يجوز وصفه به، وهذا أيضاً متعارف في اللغة أن يقال: فلان فوق فلان، ويراد بذلك رفعة المرتبة والمنزلة، والله عزوجل فوق خلقه على الوجهين جميعاً ". وإنما يمتنع الوجه الثالث: وهو أن يكون على معنى التحيز في جهة الاختصاص ببقعة دون بقعة، وإذا قلنا: إنه فوق الأشياء على هذا الوجه قلنا أيضاً في تأويل إطلاق القول بأنه فيها على مثل هذا المعنى" (1) . جـ - ويقول في رده على ابن خزيمة: " واعلم أنه ليس ينكر قول من قال: إن الله في السماء، لأجل أن لفظ الكتاب قد ورد به وهو قوله: {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (الملك: 16) ، ومعنى ذلك: أنه فوق السماء لا على معنى فوقية المتمكن في المكان، لأن ذلك صفة الجسم المحدود المحدث، ولكن بمعنى ما وصف به أنه فوق من طريق الرتبة والمنزلة والعظمة والقدرة، ثم ذكر هذا القائل [ابن خزيمة] في ذلك قوله عزوجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر:10) ، وقوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (النساء:158)   (1) مشكل الحديث (ص: 84) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 وهذا منه غلط، من قبل [أن] صعود الكلم الطيب إليه على معنى صعود من سفل إلى علو، لاستحالة ذلك في الكلام لكونه عرضاً لا يبقى، وكذلك العمل الصالح وإنما معنى صعود الكلام إليه قبوله، ووقوعه منه موضع الجزاء والثواب، وقوله: (يرفعه) لا على معنى رفع من مكان إلى مكان، ولكن رفع له على معنى أنه قد تقبل، وأن الكلام إذا اقترن به العمل الصالح قُبلاً دون أن ينفرد الكلام من العمل. وأما قوله تعالى في قصة عيسى {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} ، فمعناه: رفعه إلى الموضع الذي لا يعبد فيه إلا الله، ولا يذكر فيه غيره، لا على معنى أنه ارتفاع إليه كما يرتفع الجسم من سفل إلى جسم في علو، بأن تقرب منه بالمسافة والمساحة" (1) . د - ويشير في مواضع أخرى إلى تأويله للعلو والفوقية (2) . هذا في كتابه الذي وصل إلينا كاملاً، وقد ذكر شيخ الإسلام - نقلاً عن كتابه في أصول الدين - ما يدل على إثبات العلو والاستواء، وأنه قال فيه: "وإن سألت أين هو فجوابنا: أنه في السماء كما أخبر في التنزيل عن نفسه بذلك فقال - عز من قائل - {أأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (الملك:16) ، وإشارة المسلمين بأيديهم عند الدعاء في رفعها إليه، وإنك لو سألت صغيرهم وكبيرهم فقلت: أين الله؟ لقالوا: إنه في السماء ولم ينكروا لفظ السؤال بأين، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل الجارية التي عرضت للعتق فقال: أين الله؟ فقالت: في السماء: مشيرة بها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتقها فإنها مؤمنة، ولو كان ذلك قولاً منكراً لم يحكم بإيمانها ولأنكره عليها، ومعنى ذلك أنه فوق السماء، لأن في معنى فوق، قال الله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} (التوبة:2) أي فوقها (3) ، وقال عن الاستواء" فإن قال: فعلى ما هو اليوم؟ قيل له: مستو على العرش كما قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه:5) (4) .   (1) مشكل الحديث (ص: 188) . (2) انظر: المصدر نفسه (ص: 178-216، 218) . (3) أصول الدين لابن فورك - عن مجموع الفتاوي - (16/90) . (4) المصدر السابق (ص: 16/93) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 قال ابن تيمية معلقاً: " فيشبه - والله أعلم - أن يكون اجتهاده مختلفاً في هذه المسائل كما اختلف اجتهاد غيره، فأبو المعالي كان يقول بالتأويل ثم حرمه، وحكى إجماع السلف على تحريمه ... " (1) . * * * ومما سبق يمكن تلخيص دور ابن فورك في تطور المذهب الأشعري بما يلي: 1- العناية بالحديث والاهتمام به، مع البقاء على منهج وطريقة أهل الكلام وتأويلاتهم، وبذلك خف الحاجز الذي كان يفصل بين أهل السنة من أهل الحديث الذين يثبتون ما دلت عليه النصوص، وأهل الكلام الذين كانوا بعيدين عن الاهتمام بعلم الحديث رواية ودراية، وهذا المنهج الذي سلكه ابن فورك هو ما سنجده بشكل أقوى وأوضح عند البيهقي . 2- الغلو في التأويل، وكأنه صار هو الأصل، والإثبات هو القليل. 3- تأويل صفة الاستواء والعلو، وهذا تطور خطير وكبير في المذهب الأشعري، وإن كان - كغيره من الأشاعرة - قد أثر عنه المنع من تأويلها. عبد القاهر البغدادي : ت 429هـ هو عبد بن طاهر بن عبد الله، أبو منصور البغدادي، التميمي (2) ، لم يحدد تاريخ ولادته، لكن المعروف عنه أنه ولد في بغداد ونشأ   (1) مجموع الفتاوي (16/91) . (2) انظر ترجمته في: تبيين كذب المفتري (ص: 253) ، ووفيات الأعيان (3/203) ، وفوات الوفيات (2/370) ، وأنباء الرواة (2/185) ، وطبقات السبكي (5/136) ، وطبقات الإسنوي (1/194) ، وابن قاضي شبهة (1/213) ، وسير أعلام النبلاء (17/572) ، وبغية الوعاة (2/105) ، ومقدمة تحقيق كتاب الناسخ والمنسوخ له (ص: 15-23) ، ومثلها كتابه التكملة في الحساب (ص: 10) ، ومقدمة تحقيق مختصر الفرق بين الفرق للرسعني (ص: 6) ، وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 بها، ثم رحل مع أبيه إلى نيسابور، حيث تتلمذ على يد أبي إسحاق الإسفراييني، وكان من أبرز شيوخه، ومنهم أيضاً، إسماعيل بن نجيد، وأبو عمرو محمد بن جعفر بن مطر، وأبو بكر الإسماعيلي، وأبو أحمد بن عدي وغيرهم (1) . وقد مدحه العلماء - خاصة علماء الأشاعرة - كابن عساكر (2) والرازي والسبكي (3) ، وقال فيه شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني: " كان من أئمة الأصول، وصدور الإسلام، بإجماع أهل الفضل والتحصيل، بديع الترتيب، غريب التأليف والتهذيب، تراه الجلة صدراً مقدماً، وتدعوه الأئمة إماماً مُفخّماً، ومن خراب نيسابور اضطرار مثله إلى مفارقتها" (4) ، قال السبكي " قلت: فارق نيسابور بسبب فتنة وقعت بها من التركمان" (5) ، وكان استقراره آخر أمره في إسفراين حيث لم يبق فيها إلا يسيرا، فمات بها سنة 429هـ ودفن بجانب شيخه أبي إسحاق الإسفراييني. ومن أبرز تلاميذ البغدادي: القشيري، والبيهقي، وناصر بن الحسين المروزي المتوفى سنة 444هـ، وعبد الغفار بن محمد النيسابوري المتوفى سنة 510هـ وعمره 96سنة (6) ، ومنهم أيضاً صهره، أبو المظفر الإسفراييني المتوفى سنة 471هـ، صاحب التبصير بالدين، الذي قلد فيه شيخه (7) . أما أهم آثاره فهي: 1- الملل والنحل، وهو كتاب مختصر ألفه قبل " الفرق بين الفرق"،   (1) انظر: السير (17/572) ، والسبكي (5/137) . (2) انظر: التبيين (ص: 253) . (3) انظر: طبقات السبكي (5/136، 138) . (4) المصدر السابق (5/137) ، وهذه الفتنة هي فتنة الغز - وهم من التركمان - انظر أحداثها في: الكامل (9/457) أحداث سنة 429هـ، وانظر: طبقات الأسنوي (1/195) -الحاشية -. (5) المصدر السابق (5/137) ، وهذه الفتنة هي فتنة الغز - وهم من التركمان - انظر أحداثها في: الكامل (9/457) أحداث سنة 429هـ، وانظر: طبقات الأسنوي (1/195) -الحاشية -. (6) انظر: السير (17/572) ، والسبكي (5/137) . (7) انظر: التبصير بالدين (ص: 10-11) ، من المقدمة، و (ص: 175) ، من الكتاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 وميزته أنه توسع كثيراً في شرح مقالة المعتزلة (1) ، إضافة إلى كلامه عن بقية الفرق قال عنه السبكي: " مختصر ليس في هذا النوع مثله " (2) ، وقد طبع بتحقيق ألبير نصري نادر - ط دار المشرق - بيروت سنة 1986م. 2- الفرق بين الفرق، وهو مشهور، طبع عدة مرات. 3- أصول الدين، مطبوع أيضاً. 4- الناسخ والمنسوخ، حقق رسالة للماجستير من جامعة أم القرى، تحقيق حلمي كامل أسعد عبد الهادي - وطبعته دار العدوي بعمان - الأردن سنة 1407هـ. 5- التكملة في الحساب، وهو من أشهر كتبه حتى قال فيه الرازي "لو لم يكن له إلا كتاب التكملة في الحساب لكفاه " (3) ، وقد طبع في الكويت سنة 1406هـ، ضمن منشورات معهد المخطوطات العربية، تحقيق: أحمد سليم سعيدان. 6- رسالة في المساحة، طبعت في ذيل الكتاب السابق. 7- تأويل متشابه الأخبار، ذكره السبكي وابن شاكر الكتبي، والزركلي (4) ، وذكر محقق كتاب الناسخ والمنسوخ أن له نسخة خطية في جامعة عليكرة الإسلامية بالهند (5) ، وبما أن هذا الكتاب موجود فهو ذو أهمية كبيرة لمعرفة منهج البغدادي، خاصة في الصفات، ومع ذلك فكتابه "أصول الدين" جمع فيه ما يتعلق بجميع مسائل أصول الدين.   (1) انظر: الملل والنحل للبغدادي (ص: 82) ، وما بعدها. (2) الطبقات (5/140) . (3) طبقات السبكي (5/138) . (4) انظر: طبقات السبكي (5/140) ، وفوات الوفيات (2/372) ، والأعلام (4/48) - ط السادسة -. (5) انظر: مقدمة تحقيق الناسخ والمنسوخ (ص: 21) ، وقد أحال على بروكلمان - الملحق (1/666) -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 وهناك مؤلفات أخرى ذكرها مترجموه، ومنها تفسير أسماء الله الحسنى، أشار الزركلي إلى أنه مخطوط (1) . منهج البغدادي ودوره في تطور المذهب الأشعري: البغدادي أحد أعلام الأشاعرة في نهاية القرن الرابع وبداية القرن الخامس حيث كانت وفاته سنة 429هـ، وهو يمثل تقريباً مرحلة كل من الباقلاني - ت 403هـ- وابن فورك - ت 406هـ- وإن تأخر عنهما قليلاً، لكنه مثلاً يلتقي مع ابن فورك بكونهما شيخين للبيهقي، كما أنه يذكره في كتابه أصول الدين (2) ، ويذكر الباقلاني أيضاً، ويصفه بقوله: " قال قاضينا " (3) ، كما أن البغدادي ذكر أنه أدرك أبا عبد الله بن مجاهد، تلميذ أبي الحسن الأشعري (4) . والبغدادي يميزه كتبه خاصة "أصول الدين" إنه ينقل أقوال أصحابه من الكلابية والأِشعرية، ويذكر الخلاف بينهم إن وجد، لذلك فقد يتبادر إلى الناظر أنه مقلد للأشاعرة، وممن رأى هذا الرأي عبد الرحمن بدوي الذي قال: " لقد كان عبد القاهر البغدادي - بحسب ما لدينا من مؤلفاته - عارضاً لآراء الأشاعرة أكثر من مفكراً أصيلاً، ذا آراء انفرد بها، أو براهين جديدة ساقها" (5) ، وهذا الكلام فيه شيء من الحق لكن البغدادي - كما سيأتي - له ترجيحات خاصة تعتبر بمثابة منعطف في تطور المذهب الأشعري، صحيح أنه في غالب المسائل مقلد لشيوخه، لكن ليس فيها كلها. والبغدادي لا يخالف من سبقه من الأشاعرة في مسائل العقيدة والكلام،   (1) الأعلام (4/48) ، وانظر: المصادر السابقة في الفقرتين السابقتين. (2) (ص: 253، 310) ، كما ذكره في الفرق بين الفرق (ص: 364) . (3) أصول الدين (ص: 230-231) ، و (ص: 253-310) ، والفرق بين الفرق (ص: 364) . (4) المصدر السابق (ص: 253-310) ، والفرق بين الفرق (ص: 364) . (5) مذهب الإسلاميين (1/674) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 فيرى أن أول الواجبات النظر (1) ، وأخبار الآحاد - إذا رواها الثقات - تقبل إذا كانت تحتمل تأويلاً يوافق المعقول (2) ، كما أنه يقول بالجزء الذي لا يتجزأ، وهو الجوهر الفرد، ويستدل له (3) ، كما يقول بأن الأعراض لا تبقى زمانين (4) ، كما أنه يحتج بدليل الأعراض وحدوث الأجسام ويحتج له ويطيل الكلام حوله (5) ، كما أنه ينفي ما يقوم بالله من الصفات الاختيارية، وهي مسألة حلول الحوادث (6) ، ولذلك تأوّل صفات المحبة، والرحمة، والغضب، والفرح، والضحك (7) ، كما أنه قال بكلام الله الأزلي وأنه قائم بالله وأنه أمره ونيه وخبره ووعده ووعيده، ويربط ذلك بمسألة حلول الحوادث (8) ، لكنه لما ذكر ما وقع من الخلاف بين الكلابية والأِشعرية في أزلية الأمر والنهي، ذكر قوليهما دون ترجيح (9) ، أما الإيمان فهو عنده الطاعات فرضها ونقلها كما هو قول أهل الحديث والسنة، ويرجح هذا بعد ذكره لأقوال كل من الأشعري وابن كلاب (10) ، أما الاستثناء في الإيمان، فقد رتب الخلاف فه ترتيباً حسناً على الخلاف في حقيقة الإيمان، وبما أنه رجح مذهب أهل الحديث فقد قال: "وكل من وافى ربه على الإيمان فهو مؤمن، ومن وافاه بغير الإيمان الذي أظهره في   (1) انظر: أصول الدين (ص: 210) . (2) انظر: أصول الدين (ص: 12،23) ، والفرق بين الفرق (325) . - ط عبد الحميد -. (3) انظر: المصدر السابق (ص: 35-36) ، والفرق بين الفرق (ص: 328) . (4) انظر: المصدر نفسه (ص: 51، 229، 230) . (5) انظر: المصدر نفسه (ص: 54-67) ، والفرق بين الفرق (ص: 329) . (6) انظر: المصدر نفسه (ص: 106-337) ، وانظر: الملل والنحل للبغدادي (ص: 150) ، والفرق بين الفرق (ص: 333) ، والناسخ والمنسوخ للبغدادي (ص: 107) . (7) انظر: المصدر نفسه (ص: 46، 80) . (8) انظر: المصدر نفسه (ص: 106-108) ، والفرق بين الفرق (ص: 337) . (9) انظر: المصدر نفسه (ص: 108) . (10) انظر: المصدر نفسه (ص: 248-249) .. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 الدنيا، علم في عاقبته أنه لم يكن قط مؤمناً" (1) ، وهذا الكلام ليس هو قول أهل الحديث الذين يجيزون الاستثناء في الإيمان إذا لم يكن شقاً، أما الموافاة فهي من مسائل مذهب الأشاعرة بناءً على قولهم في منع حلول الحوادث، وأن غضب الله أو رضاه أزلي، فالكافر إذا مات على الكفر فهو مغضوب عليه غير مرضي عنه ولو عاش أغلب عمره مؤمناً، وعكسه المؤمن، أما مسألة القدر، فقد قال بالكسب وسار فيه على خطأ شيوخه في ذلك مع التجديد في العرض والاستدلال (2) ، أما ما يتعلق بالمعجزات وشروطها، فأقواله فيها جاءت على وفق ما ذهب إليه الباقلاني (3) . هذه خلاصةسريعة لبعض رؤوس المسائل التي وافق فيها شيوخه الأشاعرة أما الجوانب البارزة في منهجه، كمعالم على تطور المذهب الِأشعري فأهمها: 1- مخالفته صراحة لبعض أقوال شيخ الأشاعرة أبي الحسن الأشعري، فهو يعرض الأقوال ومنها قول الأشعري، ثم يرجح قولاً آخر قال به غيره كابن كلاب أو القلانسي، أو غيرهما، ومن ذلك مسألة إيمان المقلد (4) ، ومعنى "الإله" (5) ، والوقف على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} (آل عمران:7) ، ومخالفة البغدادي - في هذه المسائل أو غيرها - للأشعري له أهمية في تصور مدى المتابعة والتقليد لشيخهم في ذلك الزمن القريب من اِلأشعري، إذ أن الفرق بين وفاتيهما يتجاوز القرن بقليل، وهذه مدة زمنية قليلة نسبياً. 2- تبني دليل حدوث الأجسام بقوة، وهو من أدلة المعتزلة، وقد قال به بعض الأشاعرة قبل البغدادي، لكن شيخهم أبا الحسن الأِشعري رأى أنه   (1) أصول الدين (ص: 253) . (2) انظر: أصول الدين (ص: 133) ، وما بعدها والفرق (ص:339) . (3) انظر: المصدر السابق (ص: 170-179) ، والفرق (ص: 344) . (4) انظر: المصدر السابق (ص: 254) . (5) انظر: المصدر نفسه (ص: 123) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 دليل لم تدع إليه الرسل - كما سبق شرح ذلك - فالبغدادي لما عرض هذا الدليل عرضه وكأنه دليل مسلم لا يجوز الاعتراض عليه، بل قال: " وكل قول لا يصح معه الاستدلال على حدوث الأجسام وعلى حدوث الجواهر فهو فاسد" (1) ، وهذا الجزم بالقول بصحة هذا الدليل هو ما نجده إحدى مسلمات مذهب الأشاعرة فيما بعد. 3- تأييد القول بتجانس الأجسام كلها، وأن اختلافها في الصورة،- وهذا قد قال به بعض المعتزلة (2) ، وبنوا عليه نفي صفات الله حين قالوا: إثبات الصفات تجسيم والأجسام متماثلة. 4- أما مسألة الاستواء، فقد سبق بيان أن الباقلاني ومن قبله قالوا بإثباته بلا تأويل، وردوا على من أوّله بالاستيلاء، وأن ابن فورك مال فيه إلى التأويل، أما البغدادي فقد قال بالتأويل، مع أنه رد على المعتزلة الذين أولوا الاستواء بالاستيلاء وقال: " زعمت المعتزلة أنه بمعنى استولى كقول الشاعر: قد استوى بشر على العراق، أي استولى، وهذا تأويل باطل؛ لأنه يوجب أنه لم يكن مستولياً عليه قبل استوائه عليه" (3) ، ثم عرض أقوال أصحابه الأشاعرة فقال: " واختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من قال: إن آية الاستواء من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، وهذا قول مالك بن أنس وفقهاء المدينة والأصمعي ... ومنهم من قال: إن استواءه على العرش فعل أحدثه في العرش ثم سماه استواء، كما أحدث في بنيان قوم سماه إتياناً، ولم يكن ذلك نزولاً ولا حركة، وهذا قول أبي الحسن الأشعري ... ومنهم من قال: إن استواءه على العرش كونه فوق العرش بلا مماسة، وهذا قول القلانسي وعبد الله بن سعيد، ذكره في كتاب الصفات" (4) ، وبعد عرضه لهذه الأقوال يرجح فيقول: " والصحيح عندنا   (1) أصول الدين (ص: 58) . (2) انظر: أصول الدين (ص: 54) ، والفرق بين الفرق (ص: 328) . (3) أصول الدين (ص: 112) . (4) أصول الدين (ص: 112-11-) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 تأويل العرش في هذه الآية على معنى الملك، كأنه أراد أن الملك ما استوى لأحد غيره وهذا التأويل مأخوذ من قول العرب: ثّلّ عرشُ فلان إذا ذهب ملكه ... فصح بهذا تأويل العرش على الملك في آية الاستواء على ما بيناه (1) ، ويقول في موضع آخر حول معنى آية الاستواء: " ومعناه عندنا على الملك استوى، أي استوى الملك للإله، والعرش هاهنا بمعنى الملك ... " (2) . أما مسألة العلو فهو من نفاته، ولذلك بوب لإحدى المسائل بقوله: " المسألة السابعة من الأصل الثالث في إحالة كون الإله في مكان دون مكان " (3) ، ثم ذكر أقوال الكرامية والمعتزلة والحلولية، ثم قال: " ودليلنا على أنه ليس في مكان بمعنى المماسة قيام الدلالة على أنه ليس بجوهر ولا جسم ولا ذي حد ونهاية، والمماسة لا تصح إلا من الأجسام والجواهر التي لها حدود" (4) ، ثم ذكر أنه أفراد هذه المسألة في كتاب مفرد (5) ، وفي موضع آخر يذكر أن الله كان ولا مكان وهو الآن على ما كان (6) . فالبغدادي من نفاة العلو ومؤولة الاستواء، وبهذا يتبين أن القول بذلك في المذهب الأشعري جاء قبل الجويني. 5- وأبرز تطور جاء على يد البغدادي هو قوله في الصفات الخبرية، وقد سبق ذكر أن الباقلاني وابن فورك ومن قبلهما أثبتوا لله الوجه واليدين والعين ومنعوا من تأويلها، وابن فورك - مثلاً - وإن قال بتأويل بعض الصفات الخبرية، كالقدم والإصبع واليمين - كما مر - إلا أن هذه الصفات - صفات الوجه واليدين والعين- لم يؤولها ولم يسلك فيها ما سلكه في غيرها بل نص على   (1) أصول الدين (ص: 113-114) . (2) المصدر نفسه (ص: 78) . (3) المصدر نفسه (ص: 76) . (4) المصدر نفسه (ص: 77) . (5) انظر: المصدر نفسه (ص: 78) . (6) انظر: الفرق بين الفرق (ص: 333) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 القول بالإثبات والمنع من التأويل، أما البغدادي فإنه قال: " المسألة الثالثة عشرة من هذا الأصل في تأويل الوجه والعين من صفاته "، ثم ذكر قول المشبه ثم قال: " وزعم بعض الصفاتية أن الوجه والعين المضافين إلى الله تعالى صفات له، والصحيح عندنا أن وجهه ذاته، وعينه رؤيته للأشياء، وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} (الرحمن:27) ، معناه ويبقى ربك، ولذلك قال:) {ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} ، بالرفع لأنه نعت الوجه، ولو أراد الإضافة لقال ذي الجلال والإكرام، بالخفض ... " (1) ، ثم ذكر المسألة الرابعة عشرة في تأويل اليد المضافة إلى الله تعالى، وبعد أن أبطل مذهب المشبهة قال: " وزعم بعض القدرية أن اليد المضافة إليه بمعنى القدرة، وهذا التأويل لا يصح على مذهبه مع قوله: إن الله تعالى قادر بنفسه بلا قدرة، وقد تأول بعض أصحابنا هذا التأويل، وذلك صحيح على المذهب، إذا أثبتنا لله القدرة، وبها خلق كل شيء، ولذلك قال في آدم عليه السلام {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (صّ:75) ، ووجه تخصيصه آدم بذلك أن خلقه بقدرته لا على مثال له سبق، ولا من نطفة، ولا نقل من الأصلاب إلى الأرحام، كما نقل ذريته من الأصلاب إلى الأرحام، وزعم بعض أصحابنا أن يديه صفتان، وزعم القلانسي أنهما صفة واحدة " (2) ، وكلامه هذا يدل على تأويل صريح لهذه الصفات، وقد بنى تأويله هذا على أن الله واحد فقال بعد ذكر بعض الصفات الخبرية ناسياً إثباتها إلى المشبهة: " ودليلينا على أن الله واحد في ذاته، ليس بذي أجزاء وأبعاض أنه قد صح أنه حي، قادر، عالم، مريد فلو كان ذا أجزاء وأبعاض لم يخل أن يكون في كل جزء منه حياة وقدرة وعلم وإرادة، أو تكون هذه الصفات في بعض أجزائه ... " (3) ، ثم قال: " وأما قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] ، فمعناه ويبقى ربك ... [ثم ذكر التعليل   (1) أصول الدين (ص: 109-110) . (2) المصدر السابق (ص: 111) ، ويلاحظ أنم الطابعين للكتاب خلطوا بين نسختين منه، مع تمييز إحداهما عن الأخرى، وقد نقلنا إحداهما ليستقيم الكلام.. (3) المصدر نفسه (ص: 75) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 السابق، ثم قال:] واليد المضافة إلى الله تعالى صفة له خاصة وقدرة له بها فعله" (1) ،كما أنه أوّل القدم والإصبع (2) . وبهذا يتبين أن البغدادي قال بتأويل الصفات الخبرية في وقت مبكر، وأن الجويني - المولود سنة 419 هـ والمتوفى سنة 478هـ - الذي اشتهر عنه أنه أول من أوّل الصفات الخبرية قد سبق إلى ذلك من جانب بعض أعلام الأشاعرة، مع أن البغدادي يشير في مسألة تأويل اليد بالقدرة إلى أن بعض أصحابهم قد قال به، ولم يحدد القائل، وهذا يدل على أنها مسألة مطروحة عند الأشاعرة في ذلك الوقت. 6- ومن المعالم البارزة في منهج البغدادي، مما كان له أثر فيمن أتى بعده: صياغته لمذهب الأشاعرة على أنه مذهب أهل السنة والجماعة، حتى أنه كاد يستقر في أذهان كثير ممن ينتسب إلى الفقه والعلم أن أقوال الأشاعرة تمثل المذهب الصحيح الذي هو مذهب السلف، ومحاولة البغدادي جاءت على النحو التالي: أ- تأليفه لكتاب في الملل والنحل، ثم في الفرق، والأشعري وإن سبقه إلى ذلك في تأليف مقالات الإسلاميين، إلا أن أسلوبه في العرض لم يكن مرتباً بشكل واضح، وحتى ذكره لمذهب أهل الحديث كان مختصراً (3) ، ولما ذكره أشار إلى أنه به يقول وإليه مذهب، أما البغدادي فقد عرض أقوال الفرق بمنهج واضح ومرتب، واعتمد على حديث الافتراق الوارد، وساق بعض رواياته بأسانيده هو، ثم ذكر أنه مروي عن جمع من الصحابة (4) ، ثم حصر أعداد الفرق لتوافق ما في الحديث، فذكر اثنتين وسبعين فرقة، ثم الفرقة الثالثة والسبعين وجعلها فرقة أهل السنة والجماعة على أنهم الفرقة الناجية، الواردة في الحديث. ولما شرح اعتقاد هذه الطائفة ذكر عقائد الأشعرية مختصرة، وفصلها في كتابه   (1) أصول الدين (ص: 76) . (2) انظر: المصدر السابق، نفس الصفحة. (3) ومع ذلك فالأشعري أوثق وأدق في نقل الأقوال لسائر الطوائف من البغدادي وممن جاء بعده. (4) انظر: الفرق بين الفرق (ص: 4-9) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 "أصول الدين"، ولما كان هذا الكتاب أول كتاب في الفرق بعد مرحلة الأشعري، وجاء مرتباً على هذه الطريقة، توهم الكثيرون أن ما عرضه من عقائد الفرقة الناجية في كتابه هذا هو عقيدة أهل السنة والجماعة الذي يجب أتباعه. ب - حين ذكر أصناف أهل السنة والجماعة أدخل فيهم مختلق فئات الناس على أنهم على هذا الاعتقاد الأشعري، فذكر أن منهم سالكي طرق الصفاتية من المتكلمين، الذين تبرءوا من التشبيه والتعطيل، كما ذكر أن منهم أئمة الفقه من فريقي الرأي والحديث وأدخل فيهم أصحاب المذاهب الأربعة وأهل الظاهر وغيرهم (1) ، كما ذكر أن منهم أهل الأدب والنحو والتصريف واللغة، فذكر أعلامم، كما ذكر أن منهم علماء القراءات والتفسير، كما ذكر أن منهم الزهاد والصوفية، والمرابطين في الثغور، وعامة البلدان التي غلب فيها شعار أهل السنة (2) ، وبذكر هذه الأصناف كلها، ونسبتها في الاعتقاد إلى مذهب الأشاعرة يكون البغدادي قد ادعى أن انتشار المذهب الأشعري عند هؤلاء دليل على أنه الحق. جـ - ولما كان مذهب الأشاعرة اعتمد على مناهج أهل الكلام، فإن البغدادي حرص على أن ينسب لأعلام الصحابة والسلف أنهم من المتكلمين، فذكر أن منهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لأنه ناظر الخوارج، وعبد الله ابن عمر لكلامه في القدرية وبراءته منهم، وعمر بن عبد العزيز -رحمه الله- وأن له رسالة في الرد على القدرية، وزيد بن علي بن الحسين، والحسن البصري، والزهري، والشعبي، وجعفر الصادق، وأبا حنيفة، والشافعي، وأبا يوسف صاحب أبي حنيفة ثم ذكر أعلام الكلابية والأِشعرية الذين سبقوه أو عاصروه (3) .   (1) انظر: الملل والنحل (ص: 158) ، حيث ذكر أن مدار الفتوى عليهم دون غيرهم، وانظر: الفرق بين الفرق (ص: 313-317) . (2) انظر: الفرق بين الفرق (ص: 317-318) ، وانظر: أصول الدين (ص: 307-317) ، وفيه تفصيلات كثيرة. (3) انظر: أصول الدين (ص: 307-310) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 بهذا المنهج المتميز الذي لم يكن معهوداً في مؤلفات ذلك العصر - مع حسن العرض والترتيب والتبويب - استطاع البغدادي أن ينشر بين الناس أن المذهب الأشعري هو المذهب الصحيح، وأنه المذهب الذي يتبناه أعلام الإسلام على مختلف تخصصاتهم وميولهم، وعلى ذلك فليس الأشاعرة فرقة من فرق المسلمين، وإنما عقيدتهم هي عقيدة جمهور أهل السنة من المسلمين (1) . البيهقي : ت 458 هـ إذا كان الباقلاني، وابن فورك، والبغدادي، يمثلون مرحلة زمنية معينة بالنسبة للمذهب الأشعري - وقد سبق عرض دور كل واحد منهم في تطوره - فإن البيهقي المتوفى سنة 458هـ، و القشيري المتوفى سنة 465هـ، والجويني المتوفى سنة 478هـ، يمثلون مرحلة تالية، وقد أخذ التطور في هذه المرحلة أبعاداً أخرى: أ - فالبيهقي: مجدد المذهب الشافعي في الفقه، وأحد أعلام المحدثين، كان له دور في ربط المذهب الأشعري بالفقه الشافعي، ثم في دعم الأشاعرة من خلال حرصه على الحديث وروايته، ولبيان أن ذلك لا يخالف منهج الأشاعرة الكلامي. ب - والقشيري أدخل التصوف في منهج وعقائد الأشاعرة. جـ - والجويني خطا خطوات بالمذهب نحو الاعتزال. والبيهقي هو أحمد بن الحسين بن علي بن موسى، الخسروجردي، البيهقي (2)   (1) انظر: الأشاعرة - محمود صبحي - (ص: 93) . (2) الخسروجردي: بضم الخاء وسكون السين وفتح الراء وسكون الواو وكسر الجيم، وهي قربة من ناحية بيهق، وبيهق عدة قرى من أعمال نيسابور، انظر: الأنساب (5/116) ، وياقوت (2/37،1/53) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 أبو بكر، الإمام، الحافظ، العلامة، شيخ الإسلام (1) ، ولد سنة 384هـ، وتتلمذ على يد عدد كبير من الشيوخ، منهم أبو عبد الله الحاكم، وأبو عبد الرحمن السلمي، وابن فورك، وأبو الفتح العمري - شيخه في الفقه - وأبو محمد الجويني، وأبو ذر الهروي، وعبد القاهر البغدادي، وأبو عبد الله الحليمي، وغيرهم، وكان واسع الرحلة كثير الرواية، له التصانيف المتعددة، فكان كما قال الذهبي ممن " بورك له في علمه، وصنف التصانيف النافعة" (2) ، وقال: " تصانيف البيهقي عظيمة القدر، غريزة الفوائد، قل من جوّد تواليفه مثل الإمام أبي بكر" (3) ، وقال فيه إمام الحرمين: " ما من فقيه شافعي إلا وللشافعي عليه منة إلا أبا بكر البيهقي فإن المنة له على الشافعي لتصانيفه في نصرة مذهبه" (4) ، قال الذهبي معلقاً: " قلت: أصاب أبو المعالي، هكذا هو، ولو شاء البيهقي أن يعمل لنفسه مذهباً يجتهد فيه لكان قادراً على ذلك، لسعة علومه، ومعرفته بالاختلاف، ولهذا تراه يلوح بنصر مسائل مما صح فيه الحديث" (5) . أما تلاميذه فمنهم ابنه إسماعيل، وحفيده عبيد الله بن محمد بن أحمد، وأبو عبد الله الفراوي، وأبو زكريا بن منده، وغيرهم (6) . أما مؤلفاته فهي كثيرة جداً، كتب لها القبول والانتشار منذ عهده وإلى اليوم، ومن كتبه المطبوعة في الحديث والفقه والدلائل:   (1) انظر في ترجمته: الأنساب (2/381) ، وتبيين كذب المفتري (265-267) ، والمنتظم (8/242) ، ووفيات الأعيان (1/75) ، وتذكرة الحفاظ (3/1132) ، وسير أعلام النبلاء (18/163) ، والوافي (6/354) ، وطبقات السبكي (4/8) ، والأسنوي (1/198) ، والرسالة المستطرفة (ص: 29) ، وقد أفرد له السخاوي ترجمة باسم: القول المرتقى في ترجمة البيهقي كما في فهرس الفهارس (2/990) ، وانظر: البيهقي وموقفه من الإلهيات (ص: 31) ، وما بعدها، ومقدمة تحقيق دلائل النبوة: قلعجي (1/92-119) ، ومقدمة تحقيق بقية كتبه المطبوعة. (2) السير (18/165) . (3) نفسه (18/168) . (4) المصدر السابق - نفس الصفحة - وتبيين كذب المفتري (ص: 266) ، والوافي (6/354) .. (5) السير (18/169) . (6) طبقات السبكي (4/9) ، والسير (18/169) , الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 1- السنن الكبرى، في عشرة مجلدات، مطبوع ومشهور. 2- معرفة السنن والآثار، طبع المجلد الأول منه بتحقيق: أحمد صقر، ثم طبع كاملاً. 3- المدخل إلى السنن - طبع عن نسخة ناقصة الأول - بتحقيق: محمد ضياء الرحمن الأعظمي. 4- القراءة خلف الإمام. مطبوع. 5- مناقب الشافعي، تحقيق: أحمد صقر. 6- مسألة الاحتجاج بالشافعي - ت خليل ملاخاطر-. 7- بيان خطأ من أخطأ على الشافعي، ت خليل ملاخاطر، وأخرى بتحقيق نايف الدعيس. 8 - اختلاف الحديث، على هامش الأم، ومستقلة بتحقيق عامر حيدر. 9- الأربعون الصغرى - ت محمد نور المراغي- وأخرى بتحقيق محمد السعيد زغلول. 10- الزهد الكبير - ت تقي الدين الندوي -. 11- الآداب - ت: محمد عبد القادر عطا-. 12- دلائل النبوة: طبع جزء في القاهرة، ثم طبع الجزء الأول والثاني في المدينة، ثم طبع كاملاً في 7 أجزاء بتحقيق: قلعجي. ومن كتبه المطبوعة في العقيدة. 13- الأسماء والصفات، طبع عدة مرات، وهو من أهم كتب البيهقي في الاعتقاد. 14- الاعتقاد، طبع عدة مرات، وهو مختصر جداً من الكتاب السابق وأحال عليه مرات. 15- البعث والنشور - ت عامر حيدر - عرض فيه للشفاعة والحوض، والنار والجنة وغير ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 16- إثبات عذاب القبر - ت شرف محمود القضاة -. 17- الجامع لشعب الإيمان، طبع الجزء الأول في الهند (حيدر آباد) - ط1 في 132 صفحة - وأعيد - ط2 في 400 صفحة - ثم شرعت الدار السلفية في الهند (بومباي) نشره محققاً فظهر منه عدة مجلدات بتحقيق: عبد العلي حامد. والكتاب كبير تقع مخطوطته في ثلاثة مجلدات كبار. 18- حياة الأنبياء في قبورهم، هو كتيب صغير، طبع في القاهرة بالمطبعة المحمودية، ولعل البيهقي ألفه إثر الفتنة المعروفة بفتنة القشيري. وهناك كتب أخرى للبيهقي، وبعضها لا يزال مخطوطاً (1) ، ومنها في العقيدة: كتاب الرؤية، وكتاب القضاء والقدر (2) . عقيدة البيهقي ومنهجه: سبق أن قام أحد أساتذة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة بدراسة واسعة ومركزة عن " البيهقي وموقفه من الإلهيات"، وقد تقدم بها لنيل درجة الكتوراه (3) ، واعتمد فيها على منهج السلف - رحمهم الله تعالى - ولذلك جاءت دراسته واضحة وشاملة، مع نقد واضح ومنصف لما عند البيهقي من مخالفات لمذهب السلف، ولذلك أكتفي بالإحالة عليها، مع ذكر الملاحظات التالية حول منهج البيهقي: 1- إذا كان البيهقي من المبرزين في الحديث والفقه فلماذا اهتم بالعقيدة، والتأليف فيها، ثم تأويل النصوص الواردة في الصفات؟، وإذا كان قد ألف   (1) انظر: في ذلك مقدمة تحقيق البعث والنشور (ص: 28) ، وما بعدها، والمدخل (ص: 51) ، وما بعدها، والبيهقي وموقفه من الإلهيات (ص: 64) ، وما بعدها. (2) حقق كتاب القضاء والقدر في قسم العقيدة - جامعة الإمام -. (3) قام بها الدكتور أحمد بن عطية الغامدي - من كلية الشريعة بمكة، وقد طبعته الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة - المجلس العلمي، التراث الإسلامي -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 في إثبات عذاب القبر، والرؤية، وما يتعلق بالبعث من الشفاعة والميزان والحوض، وهذه الأمور مما أنكرته أو أوّلته المعتزلة - والرد عليهم من سمات أهل السنة -، فلماذا حرص على التأليف في الأسماء والصفات واستقصاء جميع ما ورد في ذلك من الألفاظ والروايات وغالبها مما يؤول الأشاعرة؟ لقد ذكر البيهقي في ثنايا كتابه " الأسماء والصفات " إشارة إلى سبب تأليفه إذ قال:- في معرض تأويله الصورة- " ومعنى هذا فيما كتب إليّ الأستاذ أبو منصور محمد بن الحسن ابن ايوب الأصولي -رحمه الله- الذي كان يحثني على تصنيف هذا الكتاب، لما في الأحاديث المخرجة فيه من العون على ما كان فيه من نصرة السنة وقمع البدعة، ولم يقدر في أيام حياته لاشتغالي بتخريج الأحاديث في الفقهيات على مبسوط أبي عبد الله محمد بن ادريس الشافعي -رحمه الله- الذي أخرجه على ترتيب مختصر أبي ابراهيم المزني -رحمه الله- ولكل أجل كتاب " (1) ، وهذا الذي أوصى البيهقي بتأليف كتاب في الأسماء والصفات هو أحد أعلام الأشاعرة، كان من أخص تلاميذ ابن فورك حتى أنه زوجه من ابنته الكبرى ومما قيل في ترجمته أنه: " الأستاذ الإمام، حجة الدين، صاحب البيان، والحجة والبرهان، واللسان الفصيح، والنظر الصحيح، أنظر من كان في عصره، ومن تقدمه، ومن بعده على مذهب الأشعري، واتفق له أعداد من التصانيف المشهورة المقبولة عند أئمة الأصول مثل تخليص الدلائل، تتلمذ للأستاذ أبي بكر بن فورك في صباه، وتخرج به، ولزم طريقته، وجد واجتهد في فقر وقلة من ذات اليد ... وكان أنفذ من الاستاذ وأشجع منه، توفي في ذي الحجة سنة إحدى وعشرين وأربعمائة " (2) ، وعلى هذا فالبيهقي ألف كتابه استجابة لطلب أستاذه خدمة للمذهب الأشعري - الذي كان أحد أعلامه - ولذلك حشاه بالنقول من أقوالهم وتأويلاتهم إضافة إلى تأويلاته هو، وما أدري   (1) الأسماء والصفات (ص: 289) .. (2) تبيين كذب المفتري (ص: 249) ، وانظر في ترجمته أيضاً سير: أعلام النبلاء (17/573) ، واسمه فيهما محمد بن الحسن، وانظر: طبقات السبكي (4/147) ، والوافي (3/10) ، ومعجم المؤلفين (9/235) ، وهو فيها كلها: محمد بن الحسين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 ما قصد البيهقي بقوله السابق: " لما في الأحاديث المخرجة فيه من العون على ما كان فيه من نصرة السنة وقمع البدعة"، هل يقصد بدعة التعطيل، أو بدعة الإثبات ورفض التأويل التي يسمونها تجسيماً أو تشبيهاً؟! الذي يترجح من خلال معرفة حال شيخ الجميع ابن فورك، وتلميذه - أبي منصور الأيوبي - وحال البيهقي في تأويلاته في كتابه هذا أنه قصد قمع بدعة الإثبات التي يزعمون أن فيها تشبيهاً، والله أعلم. والخلاصة أن البيهقي بهذا المنهج الذي سلكه تحولت معرفته في الحديث وإمامته فيه إلى خدمة أهل التأويل لا إلى خدمة مذهب أهل الحديث والسنة، وهذا من باب العقائد دون الأحكام. 2- نقد البيهقي بعض الروايات والأحاديث نقداً لا يتفق مع منهج المحدثين في قبول الروايات أوردها ومن ذلك ما ذكره البيهقي من أن "الصوت" لم يرد في صفة كلام الله عزوجل ففد قال بعد ذكر رواية البخاري: " ثم يناديهم بصوت.." (1) : " هذا حديث تفرد به القاسم بن عبد الواحد عن ابن عقيل.. [ثم ذكر أن القاسم وابن عقيل لم يحتج بهما الشيخان، وأن ابن عقيل أيضاً متهم بسوء الحفظ ثم قال:] ولم يثبت صفة الصوت في كلام الله عزوجل أو في حديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير حديثه، وليس بنا ضرورة إلى إثباته، وقد يجوز أن يكون الصوت فيه إن كان ثابتاً راجعاً إلى غيره.." (2) ، ثم شرع في ذكر الروايات الدالة على الصوت وتضعيفها، وهذا من مثل البيهقي المحدث كبير لا يحتمل، لأن فيه محاولة لتضعيف الأحاديث الثابتة لأجل أن تسلم   (1) رواه البخاري - تعليقاً - كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ} (سبأ:23) ، ووصله ابن حجر في التغليق (5/355) ، ورواه البخاري موصولاً في الأدب المفرد ورقمه (970) ، فضل الله الصمد (2/433) ، وفي خلق أفعال العباد ورقمه (463) - ت البدر - كما رواه الإمام أحمد في مسنده (3/395) ، والطبراني في مسند الشاميين كما في التغليق (5/356) ، والحاكم في المستدرك (2/437-438، 4/574-575) ، وصحيحه ووافقه الذهبي، كما رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/111) ، والخطيب في الرحلة في طلب الحديث (ص: 109) ، ورقم (31، 32، 33) ، وفي الجامع لأخلاق الراوي (2/225) ، ورقم (1686) - ت الطحان-. (2) الأسماء والصفات (ص: 273-274) .. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 الأصول الكلامية والعقلية التي يؤمن بها، وهذا منهج المتكلمين وليس منهج المحدثين، ولهذا كان تعليق الحافظ ابن حجر على كلام البيهقي بعد نقله له أقرب إلى منهج أهل الحديث من منهج البيهقي فقد قال - وهو الذي يميل إلى مذهب الأشاعرة -:" هذا حاصل كلام من ينفي الصوت من الأئمة، ويلزم منه أن الله لم يُسمع أحداً من ملائكته ورسله كلامه، بل ألهمهم إياه، وحاصل الاحتجاج للنفي الرجوع إلى القياس على أصوات المخلوقين لأنها التي عهد أنها ذات مخارج، ولا يخفي ما فيه، إذ الصوت قد يكون من غير مخارج، كما أن الرؤية قد تكون من غير اتصال أشعة ... (1) ، لكن تمنه القياس المذكور، وصفات الخالق لا تقاس على صفة المخلوق، وإذا ثبت ذكر الصوت بهذه الأحاديث الصحيحة (2) وجب الإيمان به، ثم إما التفويض وإما التأويل (3) ، وهذا بناءً على منهج ابن حجر المخالف لمنهج أهل السنة، لأن منهجهم ليس التفويض أو التأويل، بل الإثبات للنصوص على ما دلت عليه مع نفي التشبيه والتكييف لها، والشاهد من كلام ابن حجر قوله: " وإذا ثبت ذكر الصوت بهذه الأحاديث الصحيحة وجب الإيمان به" فأين هو من كلام البيهقي الذي حاول تضعيف الروايات الواردة فيه؟. وقد وقع للبيهقي ما هو شبيه بهذا في مواضع أخرى، مثل حديث " لا شخص أغير من الله " (4) ، فقد نقل عن الخطابي ترجيحه أن هذه اللفظة   (1) بناءً على مذهب الأشاعرة. (2) هذا الكلام لابن حجر يرد على ما ذكره هو سابقاً في كتاب العلم، الفتح (1/174) في معرض تعليله لتفريق البخاري بين الموضعين، حيث جزم في تعليقه هنا، ولم يجزم في تعليقه لحديث جابر في كتاب التوحيد، وذلك حين قال: " ونظر البخاري أدق من أن يعترض عليه بمثل هذا، فإنه حيث ذكر الارتحال فقط جزم به لأن الإسناد حسن، وقد اتعضد، وحيث ذكر طرفاً من المتن لم يجزم به لأن لفظ الصوت مما يتوقف في إطلاق نسبته إلى الرب ويحتاج إلى تأويل، فلا يكفي فيه مجيء الحديث من طريق مختلف فيها ولو أتعضده"، وهو هنا ذكر أن الصوت ثبت بالأحاديث الصحيحة ويجب الإيمان به، ومنهج البخاري في الصفات لا يتوافق مع تعليل ابن حجر لعدم جزمه هنا. (3) فتح الباري (13/458) .. (4) رواه مسلم، كتاب اللعان، ورقمه (1499) ، والبخاري تعليقاً في صحيحه، كتاب التوحيد، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا شخص أغير من الله، الفتح (13/399) ، ووصله ابن حجر في التعليق (5/344) ، بإسناده إلى الدرامى وهو في سنن الدرامى (2/73) ، ورقمه (2233) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 مصحفة، ثم قال البيهقي معلقاً: " ولو ثبتت هذه اللفظة لم يكن فيها ما يوجب أن يكون الله سبحانه شخصاً.." (1) ، ثم فصل القول في تأويلها، وهذه اللفظية رواها مسلم، والبخاري تعليقاً بصيغة الجزم، كما رواها غيرهما، والحري بالبيهقي المحدث أن يرد على الخطابي دعواه أنها مصحفة ويبين ثبوتها، ثم يشرحها، ويبين مذهبه فيها. ومثله ما ذكره في باب في الأصابع، فإنه نقل كلاماً للخطابي حول حجية السنة إذا عارضها المعقول، كما نقل ورود الأصابع لا في كتاب ولا سنة، ولم يرد البيهقي على الخطابي في أقواله تلك، بل أورد تأويلاته وتأويلات أبي الحسن الطبري وغيره للأحاديث الواردة في ذلك (2) ، وعبارة الخطابي: إنها لم ترد في كتاب ولا سنة ولا يجوز السكوت عنها. 3- اعتمد البيهقي في شرح نصوص الصفات أو تأويلها، بعد سياقه لأسانيدها اعتمد على أقوال مجموعة من علماء الأشاعرة ومنهم: أ - الحليمي، وهو أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم، المعروف بالحليمي الجرجاني، المتوفى سنة 403هـ، وهو أحد أعلام الأشاعرة في الحديث والفقه والكلام (3) ، نقل عنه البيهقي كثيراً في الجامع لشعب الإيمان (4) ، وفي الأسماء والصفات (5) .   (1) الأسماء والصفات (ص: 287-288) . (2) انظر: الأسماء والصفات (333-341) ، ومن الأمور الغريبة ما نقله البيهقي هنا عن الخطابي في رواية الأصابع لما جاء الحبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من أن اليهود مشبهة وإن الرسول أنكر عليه ذلك، وقدناقش هذه المسألة بالتفصيل أحمد بن عطية الغامدي في كتابه البيهقي وموقفه من الإلهيات. (ص: 260-269) . (3) قال عنه الذهبي: " القاضي العلامة، رئيس المحدثين والمتكلمين بما وراء النهر" السير (17/231) ، وانظر: أيضاً تاريخ جرجان (ص: 198) ، والأنساب (4/198) ، وطبقات السبكي (4/333) ، ومقدمة تحقيق المنهاج في شعب الإيمان (1/13) وما بعدها. (4) بل إنه اعتمد على كتاب المنهاج في شعب الإيمان، وذكر أنه لم يؤلف كتابه إلا لأن الحليمي لم يسق أسانيده للأحاديث التي يوردها، انظر: المنهاج (1/94-95) ، أما نقوله منه فهي كثيرة جداً. (5) انظر: (ص: 8-97) ، من الأسماء والصفات حيث نقل فيها نصوصاً من المنهاج للحليمي (1/183) ، وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 ب- أبو سليمان الخطابي، حمد بن محمد بن إبراهيم، المتوفى سنة 388هـ (1) ، وقد نقل البيهقي عنه كثيراً جداً في الأسماء والصفات (2) ، واعتمد على أقواله وتأولاته. جـ - أبو الحسن الطبري - وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في ترجمته -. د - وغيرهم من الأشاعرة، كالأشعري (3) ، وأبي إسحاق الإسفراييني (4) ، وأبي بكر الصبغي (5) ، والمحاسبي (6) ، وابن فورك (7) ، وغيرهم. وكان اعتماد البيهقي على هؤلاء يتم غالباً النقل الحرفي من كلامهم، بذلك امتزجت كتبه الحديثة - في العقيدة - بمقولات هؤلاء، فمثلاً في كتابه الجامع لشعب الإيمان لما تحدث عن الشعبة الأولى وهي الإيمان بالله عزوجل، ذكر أن دليل معرفة الله تعالى هو دليل معرفة الله تعالى هو دليل حدوث الأجسام، ثم شرحه وأطال فيه، ونقل عن الحيلمي أقواله فيه (8) ، وفي مناسبة أخرى لما ذكر البيهقي حديث الجارية: أين الله؟ قالت في السماء، تكلم في تأويله بكلام عجيب وأوّله بما يدل على أنه لا يقول بإثبات العلو لله تعالى (9) .   (1) من مؤلفاته المطبوعة: معالم السنن (شرح سنن أبي داود) ، والعزلة، وإصلاح المحدثين، وبيان إعجاز القرآن، وغريب الحديث وشأن الدعاء والغنية عن الكلام وأهله (نقله السيوطي في صون المنطق) (1/137-147) ، ومن كتبه المخطوطة شعار الدين وغيره، انظر: في ترجمته يتيمة الدهر (4/334) ، وفهرست بن خير (ص: 201) ، ومعجم الأدباء (4/246) ، - باسم أحمد وهو خطأ -، (10/268) ، باسم (حمد) ، وسير أعلام النبلاء (17/23) ، ومقدمة تحقيق غريب الحديث (1/8) . (2) انظر: (ص: 12) ، وما بعدها. (3) انظر: الأسماء والصفات (ص: 187) . (4) انظر: الأسماء والصفات (ص: 115-310) ، والجامع (1/281-337) . (5) انظر: الأسماء والصفات (ص: 431) . (6) انظر: الجامع (1/337-338) . (7) انظر: الجامع (1/462) . (8) انظر: الجامع لشعب الإيمان (1/341-344) . (9) انظر: مناقب الشافعي (1/397) ، وانظر أيضاً الاعتقاد (ص: 117) ، والأسماء والصفات (ص: 400، 424، 426) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 4- دافع البيهقي عن علم الكلام، ولما ذكر أقوال الشافعي المشهورة في ذم الكلام وأهله، علق البيهقي على ذلك مبرراً ما فعله العلماء من الأخذ بالعقل أو علم الكلام (1) ، وفي مناقب الإمام أحمد له نقل عن الإمام أحمد أنه قال بتأويل بعض نصوص الصفات (2) ، ولما ذم الشافعي الصوفية دافع البيهقي عنهم، بل ونقل إباحة أنواع من السماع (3) . ومما ينبغي ملاحظته أن البيهقي مع أقواله الموافقة لمذهب الأشاعرة في مسائل حدوث الأجسام، وحلول الحوادث، وتأويل الاستواء والنزول والمجيء، والضحك والعجب، ونفيه العلو (الجهة) ، وتأويله للقدم والأصابع، وغيرها - إلا أن قال بإثبات الوجه واليدين والعين بلا تأويل (4) -،- فهو بذلك قد خالف شيخه البغدادي. 5- قام البيهقي بدور عملي في الفتنة التي وقعت على الأشاعرة، المعروفة بفتنة القشيري، والتي وقعت سنة 445هـ، واستمرت سنوات، وفيها لعنت المبتدعة وفيهم الأشعرية، حتى اضطر كثير من الأشاعرة إلى الهجرة من خراسان، وكان منهم القشيري والجويني وغيرهما، وفي سنة 450هـ، حج هؤلاء ومعهم البيهقي، وفي سنة 456هـ قتل الوزير الكندري - صاحب الفتنة (5) - وكان قد تولى ألب أرسلان واستوزر نظام الملك الذي قام بنصرة الأشاعرة وبنى لهم المدارس المعروفة.   (1) انظر: مناقب البيهقي (11/461-464) . (2) كتاب البيهقي في مناقب الإمام أحمد غير موجود - على حد قول مترجمي البيهقي - لكن نقل منه ابن كثير نصوصاً في ترجمته للإمام أحمد، انظر: فيما نقله عن البيهقي: إن الإمام أحمد قال بالتأويل، البداية والنهاية (10/327) . (3) انظر: مناقب الشافعي (2/207-209) . (4) انظر: الاعتقاد (ص: 88-90) ، والأسماء والصفات (ص: 301-319) . (5) انظر: تفاصيل هذه الفتنة في المنتظم (8/157) ، والكامل (10/33) ، وطبقات السبكي (3/389-395) ، ومقدمة تحقيق الرسائل القشيرية (ص: 12-17) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 وكان البيهقي من القلائل الذين دافعوا عن الأشعري والأشاعرة، وكتب من بلدته بيهق رسالة إلى العميد يشرح له الحال ويمدح الأشعري وأسرته، بل ويجعله أحد المجددين، وبعد ذكر فضل أبي موسى الأشعري وقومه الأشعريين الذين انفردوا من بين الوفود بسؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن علم الأصول وحدوث العالم - كما يقول البيهقي - يقول: " فمن تأمل هذه الأحاديث وعرف مذهب شيخنا أبي الحسن رضي الله عنه في علم الأصول، وعلم تبحره فيه ابصره صنع الله عزت قدرته في تقديم هذا الأصل الشريف لما ذخر لعباده من هذا الفرع المنيف الذي أحيا به السنة وأمات به البدعة وجعله خلف حق لسلف صدق " (1) ، ثم يأمره في آخر الرسالة بالسعي لإطفاء الفتنة، وأن يستدرك ما وقع من هذه المحنة (2) . * ... * ... * فهذه الجهود العظيمة التي قام بها البيهقي في خدمة ودعم المذهب الأشعري - وهو الإمام الفقيه المحدث - توضح دوره في إعادة الثقة بهذا المذهب.   (1) تبيين كذب المفتري (ص: 105) . (2) انظر: المصدر السابق (ص: 107) ، وطبقات السبكي (3/395) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 القشيري : ت 465هـ هو عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة بن محمد، أبو القاسم القشيري النيسابوري، ولد سنة 375هـ، تتلمذ على يد مجموعة من العلماء منهم الحاكم، وابن فورك، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو إسحاق الإسفراييني وغيرهم، وتتلمذ في التصوف على شيخه أبي علي الدقاق وتزوج من ابنته. ولما وقعت الفتنة على الأشاعرى ترك القشيري بلده واتجه إلى بغداد ثم إلى الحج بصحبة الجويني -إمام الحرمين- والبيهقي- ثم عاد بعد نهاية الفتنة إلى نيسابور حيث تولى ألب أرسلان واستوزر نظام الملك الذي كان يقدر القشيري والجويني كثيراً، فعاش القشيري بقية عمره محترماً مقدراً ذا مكانة ومنزلة عالية إلى أن توفي سنة 465هـ، ومن أبرز تلاميذه أولاده ومنهم: عبد الله، وعبد الواحد، وأبو نصر عبد الرحيم، كما تتلمذ عليه زاهر الشحامي، ومحمد بن الفضل الفراوي، وغيرهم (1) . ومن أبرز آثاره: 1- لطائف الإشارات، في التفسير، مطبوع. 2- الرسالة القشيرية، طبعت عدة مرات. 3- شرح أسماء الله الحسنى، طبع بتحقيق: أحمد عبد المنعم الحلواني. 4- نحو القلوب الصغير، طبع بتحقيق: أحمد علم الدين الجندي. 5- شكاية أهل السنة بحكاية ما نالهم من المحنة، طبعت ضمن الرسائل القشيرية كما ذكرها كامل السبكي في الطبقات (3/399-423) .   (1) انظر في ترجمته: تاريخ بغداد (11/83) ، وكشف المحجوب للهجويري (ص: 382) ودمية القصر (2/993) ، - ت التونجي- تبيين كذب المفتري (ص: 271) ، المنتظم (8/280) ، سير أعلام النبلاء (18/227) ، وطبقات السبكي (5/153-3/399) ، والإمام القشيري سيرته وآثاره: إبراهيم بسيوني، وغيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 6- كتاب السماع، طبع ضمن الرسائل القشيرية. 7- ترتيب السلوك، ضمن الرسائل القشيرية. 8 - التحبير في التذكير، مطبوع. وهناك مؤلفات أخرى بعضها لا يزال مخطوطاً (1) . عقيدة القشيري ودوره في تطور المذهب الأشعري: لم يؤلف القشيري كتاباً خاصاً في العقيدة ومسائلها، حتى كتابه " شرح أسماء الله الحسنى، يدور على التصوف و " علم التذكير" و " الأتعاظ" كما أشار إلى ذلك في مقدمة كتابه حين بين سبب تأليفه (2) ، وكذلك رسالته " الشكاية " هي في الدفاع عن الأشعري وما اتهم به من أمور كانت سبباً في المحنة التي جرت على القشيري وأصحابه، أما غالب كتبه - حتى كتابه في التفسير - فهي في التصوف، ولذلك اشتهر القشيري بالتصوف أكثر من شهرته كعلم من أعلم الأشاعرة. ومع ذلك فليس من العسير استخلاص مذهبه وآرائه في العقيدة، - التي وافق فيها المشهور من مذهب الأشاعرة - من خلال ما يشير إليه في ثنايا كتبه المختلفة. فالقشيري ممن ينكر قيام الصفات الاختيارية بالله -وهي مسألة حلول الحوادث - ولذلك فهو يقول بأزلية المحبة، والرضا والغضب (3) ، كما أنه ينكر العلو (4) ، وينقل عن غيره من الصوفية تأويلاتهم للاستواء وأنه لا يدل على   (1) انظر في مؤلفاته: سير أعلام النبلاء (18/229) ، ومقدمة تحقيق نحو القلوب الصغير (ص: 30-33) ، والرسائل القشيرية (ص: 24-26) . (2) انظر: شرح أسماء الله الحسنى للقشيري (ص: 19-20) . (3) انظر: المصدر السابق (ص: 26، 43، 134، 162، 176) . (4) انظر: المصدر السابق (ص: 62-150) ، والرسالة القشيرية (1/19، 38، 46، 50) ، المحققة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 العلو (1) ،ويقول: إن الله يرى بلا مقابلة (2) ، وهو يثبت الصفات السبع مع صفة البقاء (3) ، ويستدل لبعضها بالعقل (4) ، ويتأول صفة المحبة (5) ، والضحك (6) ، وفي القدر مع إثباته له ينكر التعليل (7) ، ويقول: إن القدرة مع الفعل فقط (8) ، كما هو مذهب الأشارعة، وحين يتحدث عن معنى " التوحيد " يرى أنه يشمل الأقسام الثلاثة المشهورة عند أهل الكلام وهو أن الله واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له (9) ، كما أنه يرى أن الواجب الإشتغال بالتأويل الصحيح، ويرد على من يسميهم بالحشوية، ويرى أن كثيراً ممن يناظره في زمنه ليس له تحقيق ولا تحصيل (10) ، وفي مسألة النبوة والمعجزات ينقل عن الباقلاني (11) . أما دور القشيريفي المذهب الأشعري وتطويره فتمثل في جانبين: أحدهما: دفاعه عن الأشاعرة وقت المحنة التي مروا بها، وقد فاق في دفاعه عنهم أقطاب الأشاعرة في زمنه، وكتب رسالته " الشكاية " يبث فيها أشجانه ويدافع عن الأشعري وعن الأشاعرة ويرد على التهم الموجهة إليهم، ويصور   (1) انظر: الرسالة القشيرية (1/44-45) . (2) انظر: المصدر السابق (1/37-51) . (3) انظر: المصدر نفسه (1/49) ، وشرح أسماء الله (ص:259) . (4) انظر: الرسالة (1/209-220) . (5) انظر: شرح أسماء الله (ص: 276-239) ، والرسالة (2/611) . المحققة. (6) انظر: الرسالة (ص:63) ، ط الأولى. (7) انظر: شرح أسماء الله (ص:31) . (8) انظر: المصدر السابق (ص: 98) . (9) انظر: المصدر السابق (ص: 215) ، والرسالة (2/582) - المحققة-. (10) انظر: شرح أسماء الله (ص: 260) . (11) انظر: الرسالة (2/661) ، وانظر: في موقفه من بعض الصفات كاليدين والمجيء وغيرها الإمام القشيري (ص: 143-152) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 الأمر وكأنه ليس في الأمة الإسلامية إلا الأشاعرة، والمعتزلة، وأن قول الأشاعرة إذا بطل لا يبقى إلا قول المعتزلة فهل يكون هو المعتمد؟! يقول القشيري بعد كلام طويل: " وإذا لم يكن في مسألة لأهل القبلة غير قول المعتزلة، وقول الأشعري قول زائد، فإذا بطل قول الأشعري فهل يتعين بالصحة أقوال المعتزلة، وإذا بطل القولان فهل هذا إلا تصريح بأن الحق مع غير أهل القبلة؟! وإذا لعن المعتزلة والأشعري في مسألة لا يخرج ثول الأمة عن قوليهما، فهل هذا إلا لعن جميع أهل القبلة؟! (1) ، ثم يذكر المسائل التي نقمت على الأشعري ولعن من أجلها، ويناقشها واحدة واحدة وأهم هذه المسائل: أ - اتهامه مع أصحابه أنهم يقولون: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس بنبيٍّ في قبره ولا رسول بعد موته، ويرد هذه التهمة ويذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيٌ في قبره ويذكر الأدلة على ذلك (2) ، وهذه أيضاً أوقعت الأشاعرة في مشكلة أخرى وهي كيف يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - حياً في قبره، وما معنى هذه الحياة وما مداها، والإجابة عن هذه الأسئلة مما يثير التساؤل حقاً، خاصة في ظل التصاق التصوف بالمذهب الأشعري، ومن المعلوم أن البيهقي الف رسالة في حياة الأنبياء في قبورهم ولا شك أنه ألفها بسبب ما أثير في هذه المحنة. ب - أن الأشعري يقول: إن الله لا يجازي المطيعين على إيمانهم وطاعتهم، ولا يعذب الكفار والعصارة على كفرهم ومعاصيهم، ويرد على ذلك موضحاً مذهب الأشاعرة في القدر (3) . جـ - في مسألة كلام الله وأن موسى لم يسمع كلام الله، وأنه ليس القرآن في المصحف وقد أجاب القشيري عن ذلك موضحاً مذهب الأشاعرة (4) .   (1) شكاية أهل السنة (ص:9-10) ، ضمن الرسائل القشيرية - وطبقات السبكي (3/405-406) . (2) انظر: الشكاية- ضمن الرسائل القشيرية - (ص: 10-28) ، وطبقات السبكي (3/405-406) . (3) انظر: المصدر السابق (ص: 28-38، و 3/413-416) . (4) انظر: المصدر نفسه (ص: 38-42، و 3/416-418) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 د - أن الأشعري يكفر العوام الذين لا يملكون النظر والاستدلال، وقد رد القشيري على ذلك (1) . هـ - أن الاشتغال بعلم الكلام بدعة، وقد دافع القشيري عن علم الكلام، وأن القول بأنه صفة الحشوية الذين لا تحصيل لهم (2) . وبهذا الدفاع الذي جاء بأسلوب بث الشكوى برز القشيري كعلم من أعلام الأشاعرة، وكان لذلك دوره في تبني ما كان عنده من تصوف. الجانب الآخر: إدخال التصوف في المذهب الأشعري، وربطه به، وذلك حين ألف القشيري رسالته المشهورة في التصوف وأحواله وتراجم رجاله المشهورين، فذكر في أحد فصول الرسالة، وفي ثناياها أن عقيدة أعلام التصوف هي عقيدة الأشاعرة فنسب إليهم أنهم يقولون: " إنه أحدي الذات، ليس يشبه شيئاً من المصنوعات، ولا يشبه شيء من المخلوقات ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض، ولا صفاته أعراض، ولا يتصور في الأوهام، ولا يتقدر في العقول، ولا له جهة ولا مكان، ولا يجري عليه وقت وزمان، ولا يجوز في وصفه زيادة ولا نقصان، ولا يخصه هيئة وقد، ولا يقطعه نهاية وحد، ولا يحله حادث، ولا يحمله على الفعل باعث ... ولا يُقال له: أين، ولا حيث ولا كيف ... يُرى لا عن مقابلة ... خالق أكساب العباد" (3) ، ويركز على نفي أن الله في جهة العلو (4) ، ثم يقول في أواخر الرسالة: " فإذا كان أصول هذه الطائفة أصح الأصول، ومشايخهم أكبر الناس، وعلماؤهم أعلم الناس، فالمريد الذي له إيمان بهم: إن كان من أهل السلوك والتدرج إلى مقاصدهم فهو يساهمهم فيما خصوا به من مكاشفات الغيب، فلا يحتاج إلى التطفل على من هو خارج عن هذه الطائفة، وإن كان مريداً طريقة الأتباع وليس بمستقل بحاله، ويريد   (1) انظر: الشكلية (ص: 42-45، و 3/418-420) . (2) انظر: المصدر نفسه (ص: 43-49، و 3/421-423) . (3) الرسالة (1/50-51) . (4) انظر: المصدر السابق (1/21، 37-38،46) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 أن يعرج في أوطان التقليد إلى أن يصل إلى التحقيق فليقلد سلفه وليجر على طريقة هذه الطبقة فإنهم أولى به من غيرهم" (1) ، فهو يرى أن من أراد دخول طريقة التصوف كوشف مع شيوخه، ومن لم يرد دخول طريقة التصوف فعليه بتقليدهم في القعائد لأنهم أولى من غيرهم. ودعوى القشير أن هذه عقائد شيوخ الصوفية ليست مسلمة، وليس هذا موضع مناقشة ذلك، ولكن الذي حدث هو تبني أعلام الأشاعرة للتصوف وتمثل ذلك بشكل واضح في الغزالي ومن جاء بعده. على أنه يجب أن لا يغيب عن البال هنا أن هناك من الأشاعرة من سبق القشيري إلى نوع ممن الارتباط بالتصوف، فالمحاسبي الكلابي تصوفه مشهور، وكذلك كان من أخص تلاميذ أبي الحسن الأشعري بندار خادمه، وعبد الله ابن خفيف وكانا من المتصوفه المشهورين، وعبد القاهر البغدادي ذكر أنه: " قد اشتمل كتاب تاريخ الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي على زهاء ألف شيخ من الصوفية ما فيهم واحد من أهل الأهواء، بل كلهم من أهل السنة سوى ثلاثة" (2) ، والبغدادي يقصد بأهل السنة الأشاعرة، ولكن الذي تميز به القشيري أنه ذكر قواعد التصوف وأصوله، وأحوال المريدين، وآداب الصوفية، ودعا إلى سلوك طريقتهم، وفي أثناء ذلك نسب إليهم العقائد الأشعرية، وأنهم يخالفون المعتزلة والمشبهة. وقد يظن البعض أن تصوف القشيري كان تصوفاً سنياً، بعيداً عن شطحات وبدع الصوفية، ولكن المتمعن في كتبه يجد غير ذلك، وقد كتبت دراسات عن القشيري وتصوفه (3) ، ويمكن الإشارة باختصار إلى القضايا التالية في تصوفه:   (1) الرسالة (2/734) . (2) أصول الدين (ص: 315) . (3) منها: الإمام القشيري: سيرته، آثاره، مذهبه في التصوف، لإبراهيم بسيوني، ومقدمة تحقيق نحو القلوب لأحمد الجندي - وله ميل إلى التصوف -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 أ - صلته بطائفة الملامتية (1) ، التي انتشرت في بلده نيسابور، وقد ترجم لبعض أعلامها (2) ، ويربط بعض الدراسين بين ما عند هذه الطائفة من كتمان لأحوالهم وما عند الرافضة من التقية، ويشير إلى أمر مستغرب وهو أن القشيري لم يرد على طائفة الذين عظم شأنهم في زمنه (3) . ب - إيمانه بوجود القطب (4) ، والأوتاد (5) ، والأبدال (6) ،والغوث (7) ، وتفسير القرآن بما يوافق ذلك، فمثلاً يقول في قوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} (الكهف:47) ، " كما تقتلع الأرض يوم القيامة بأوتادها، تسير اليوم بموت الأبدال الذين هم والقطب كجبال الأرض، إذ هم في الحقيقة أوتاد   (1) سبق في (ص: 167) ، التعريف بطائفة من الطوائف المنتسبة إليهم وهم اليونسية، وهنا نعرف بهم تعريفاً عاماً بأنهم الذين لم يظهر على ظواهرهم فما في بطونهم أثر، لأنهم يجتهدون في الإخلاص، والملامتي لا يظهر حيراً ولا يضمر شراً، ولذلك فهم يسترون صلاحهم بأمور تتداولها العوام ليست بمخالفات ولا معاص مبالغة في الخفاء، وينسب انتشار هذا المذهب في نيسابور إلى أبي صالح حمدون بن أحمد القصار المتوفى سنة 271هـ، انظر: الرسالة القشيرية (1/114) ، وعوارف العوارف (ص: 71) ، ومعجم مصطلحات الصوفية (ص: 249) ، وانظر: عن نشأتهم: القشيري لإبراهيم بسيوني (ص:17) ، وما بعدها. (2) انظر: الرسالة القشيرية (1/114) . (3) انظر: القشيري لإبراهيم بسيوني (ص: 25) . (4) القطب عند الصوفية: عبارة عن رجل واحد هو موضوع نظر الله تعالى من العالم في كل زمان وهو على قلب إسرافيل عليه السلام، وحين يلتجأ إليه يسمى الغوث، انظر: اصطلاحات الصوفية للكاشاني (ص: 45) ، ومعجم اصطلاحات الصوفية (ص: 217) . (5) الأوتاد عند الصوفية: الرجال الأربعة على منازل الجهات الأربع من العالم، بهم يحفظ الله تلك الجهات لكونهم محال نظره تعالى، اصطلاحات الصوفية (ص: 33) ، ومعجم مصطلحات الصوفية (ص: 264) . (6) ويقال البدلاء: وهم مجموعة - اختلف الصوفية في عددهم - على قلب إبراهيم عليه السلام، إذا سافر أحد منهم عن موضع ترك فيه جسداًعلى صورته بحيث لا يعرف أحد أنه فقد، انظر: اصطلاحات الصوفية (ص: 36) ، والتعريفات للجرجاني (ص: 24) ، والصلة بين التصوف والتشيع (ص: 458) . (7) الغوث - عن الصوفية - هو القطب حين يلتجأ إليه، ولا يسمى في غير ذلك الوقت غوثاً، اصطلاحات الصوفية (ص: 167) ، والتعريفات (ص:87) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 العالم" (1) ، ويقول في قوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} (النحل:15) ، " في الظاهر الجبال، وفي الإشارة الأولياء الذين هم غياث الخلق، وبهم يرحم ربهم عباده، ومنهم إبدال ومنهم أوتاد، ومنهم القطب" (2) . جـ - إقراره لما يقع للمتصوفة في حال فنائهم بربهم إلى حد أن يقول أحدهم: أنا الحق أو سبحاني، يبرر ذلك (3) . د - قوله أن " هو " اسم موضوع للإشارة، وأنه عند الصوفية إخبار عن نهاية التحقيق، وينقل عن ابن فورك أنه قال: " هو: حرفان، هاء وواو، فالهاء تخرج من أقصى الحلق، وهو آخر المخارج، والواو تخرج من الفم، وهو أول المخارج، فكأنه يشير إلى ابتداء كل حادث منه وانتهاء كل حادث إليه" (4) ، ويقول: إن أهل الإشارة يقولون: " إن الله كاشف الأسرار يقول هو وكاشف القلوب بما عداه من الأسماء " (5) . هـ - دعوته إلى أدب المريد مع الشيخ، وأنه يجب عليه أن يكون يره بشيخه أكثر من بره بوالديه، ويروي عن أبي عبد الرحمن السلمي يقول: " سمعت الأستاذ أبا سهل الصعلوكي يقول: " من قال لأستاذ: لم، لا يفلح أبداً " (6) ، ويقول بعد ذكر قصص الصوفية الغريبة: " واعلم أن هذه الألفاظ توهم ظواهرها، وإنما يقف على معانيها ومرمى القول فيها من جمع بين حقائق الأصول وبين شيء من علوم هذه الطائفة، وتحقق ولو بشظية من معانيه، وإلا وقع في الاعتراض على السادة، ونعوذ بالله من تلك العقوبة" (7) ، ويقول بعد ذكر قصة لهم: " وهكذا سنة الله في أوليائه أن يسترهم عمن لا يبلغ مرتبتهم " (8) .   (1) لطائف الإشارات - عن القشيري - (ص: 27) . (2) المصدر السابق، نفس الصفحة. (3) رسالة ترتيب السلوك، ضمن الرسائل القشيرية (ص:72-73) . (4) شرح أسماء الله الحسنى (ص: 71-72) . (5) المصدر السابق (ص: 72) . (6) نفسه (ص:230) ، وانظر: الرسالة (2/735) . (7) نفسه (ص: 136) . (8) نفسه (ص: 46) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 و - يذكر القشيري الخلاف في الولي: هل يجوز أن يعلم أنه ولى أم لا فيقول: " كان الإمام أبو بكر بن فورك رحمه الله يقول: لا يجوز ذلك، لأنه يسلبه الخوف ويوجب له الأمن، وكان الأستاذ أبو علي الدقاق رحمه الله يقول بجوازه"، قال القشيري: " وهو الذي نؤثره ونقول به، وليس ذلك بواجب في جميع الأولياء " (1) .ز - ينصح المريدين بسلوك طريق الصوفية، ويفضلهم على أهل النقل والأثر وأرباب العقل والفكر، ويرى أن الصوفية أهل الوصال، والناس أهل الاستدلال، ويرى ليس هناك عصر من العصور إلا وفيه شيخ من شيوخ هذه الطائفة، وأن علماء الوقت يخضعون له ويتبركون به، ويذكر قصة لأحمد بن حنبل والشافعي مع شيبان أحد الصوفية (2) ، ويرى على المريد إذا لم يجد من يتأدب معه في بلده أن يهاجر إلى من هو منصوب في وقته لإرشاد المريدين، ثم يقيم عليه ولا يبرح عن سدته - أي داره - إلى وقت أن يأذن له الشيخ، ثم يعقب القشيري بكلام خطير حين يقول: " إن تقديم معرفة رب البيت - سبحانه - على زيارة البيت واجب، فلولا معرفة رب البيت ما وجبت زيارة البيت" (3) ، وينعى على الشبان الذين يحجون من غير إشارة الشيوخ (4) . ح - إباحته للسماع، وذكره للأدلة في ذلك، ومناقشته للمخالفين (5) . * ... * ... * هذه مقتطفات من منهج وأصول القشيري أحد أعلام الأشاعرة، وهي تبين مدى صلته بالصوفية وتمكنه فيها حتى صار شيخاً فيها، ومدى ثقته بعقيدة الأشاعرة حتى نسب إلى شيوخ الصوفية أنهم لا يخالفونها، ولا شك أن القشيري يمثل مدرسة كان لها الأثر الكبير في عقائد ومنهج الأشاعرة.   (1) الرسالة (2/662) . (2) انظر: المصدر السابق (2/731-733) . (3) المصدر السابق (2/743) . (4) انظر: المصدر نفسه (2/742-743) . (5) انظر: الرسالة (2/673) ، ورسالة: كتاب السماع ضمن الرسائل القشيرية (ص: 50) وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 الجويني : ت 478هـ. أحد الأعلام المشهورين، وهو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيوية، الجويني، النيسابوري، أبو المعالي، إمام الحرمين، ولد سنة 419هـ، وتتلمذ على يد والده أبي محمد الجويني، وجماعة منهم أبو القاسم الإسفراييني الإسكاف واسمه عبد الجبار بن علي، وأبو عبد الله الخبازي: محمد بن علي بن محمد بن حسن، والحافظ أبو نعيم الأصبهاني وبو القاسم الفوراني، وابن الزكي أبو حسان محمد بن أحمد، وغيرهم، كما تتلمذ عليه مجموعة منهم أبو حامد الغزالي، وأبو طاهر إبراهيم بن المطهر الجرجاني، وإسماعيل بن أحمد أبو سعد بن أبي صالح المؤذن، وأبو القاسم الأنصاري - شارح الإرشاد - وعبد الرحيم بن عبد الكريم أبو نصر القشيري، وعلي بن محمد الطبري المعروف بالكيا الهراسي، وغيرهم. اشتهر الجويني - خاصة بعد فتنة الأشاعرة والتي بسببها جاور في الحرمين وسمي إمام الحرمين - كأحد أعلام الشافعية والأشعرية بعد تدريسه في نظامية نيسابور قرابة ثلاثين عاماً إلى أن توفي سنة 478هـ. وقد عني كثير من العلماء بترجمته (1) ، كما أفردت له عدة تراجم مع دراسات عن حياته ومنهجه (2) ، ولذلك جاءت ترجمته هنا مختصرة. أما أهم مؤلفاته فهي: 1 - البرهان في أصول الفقه، مطبوع بتحقيق عبد العظيم الديب.   (1) انظر في ترجمته: دمية القصر (2/1000) ، والأنساب (3/386) ، - ط لبنان - وتبيين كذب المفتري (278) ، والمنتظم (9/18) ، وذيل تاريخ بغداد لابن النجار (1/85) ، والمستفاد (ص: 312) ، - ط مؤسسة الرسالة - وطبقات السبكي (5/165) ، والعقد الثمين (5/507) ، وسير أعلام النبلاء (18/468) وغيرها كثير. (2) منها: الجويني إمام الحرمين: فوقية حسين محمود، سلسلة أعلام العرب، وإمام الحرمين حياته وعصره: عبد العظيم الديب، الإمام الجويني: محمد الزحيلي. وغيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 2- الورقات في أصول الفقه، مطبوعة ولها شروح عديدة. 3- مغيث الخلق في اتباع الأحق، في ترجيح مذهب الشافعي طبع في مصر سنة 1934م، ورد عليه الكوثري. 4- الغياثي أبو غياث الأمم بالتياث الظلم، في الخلافة والإمامة، وخلو الزمان عن الإمام أو عن المفتين نشره مصطفى حلمي، وفؤاد عبد المنعم أحمد ثم طبع مع تحقيق جيد للدكتور عبد العظيم الديب. 5- الشامل في أصول الدين: من كتب الجويني الكلامية المطولة، لم يعثر عليه كاملاً، طبع جزء منه بتحقيق المستشرق كلوبفر، ثم طبع جزء أكبر بتحقيق النشار وفيصل بدير عون، وسهير مختار. 6- الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد - وهو مختصر للشامل - طبع بتحقيق محمد يوسف موسى، وعلي عبد المنعم عبد الحميد. 7- لمع الأدلة في قواعد وعقائد أهل السنة والجماعة - مختصر جداً - طبع مع مقدمة طويلة عن حياته بتحقيق فوقيه محمود. 8 - الكافية في الجدل، طبع بتحقيق: فوقيه محمود. 9- العقيدة النظامية: طبع بتحقيق: الكوثري، ثم بتحقيق السقا مع إبقائه على حواشي الكوثري. وله مناظرات (1) ،وكتب أخرى بعضها لا يزال مخطوطاً، ومن أهمها: مختصر الإرشاد للباقلاني، في علم الكلام (2) .   (1) ذكر بعضها السبكي في الطبقات (5/209-218) . (2) انظر: مقدمة تحقيق " الجدل " (ص: 16) ، وانظر في مؤلفاته: طبقات السبكي (5/171) ، وسير أعلام النبلاء (18/475) ، وإمام الحرمين: عبد العظيم الديب (ص: 49) ، وما بعدها، ومقدمة تحقيق الجدل (ص: 12) وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 منهج الجويني وأثره في تطور المذهب الأشعري : يعتبر الجويني إمام الحرمين من أعظم أعلام الأشاعرة، ولا يكاد يذكر المذهب الأشعري إلا ويسبق إلى الذهن هذا الإمام المشهور كأحد من يتمثل هذا المذهب في أقواله وكتبه، ولذلك فاستعراض عقيدته وأقواله تدل على أشعريته وموافقته لشيوخه الأشاعرة مما لا داعي لبسطه هنا، وإنما المقصود الإشارة إلى عموم منهجه الذي طور فيه هذا المذهب، ويمكن عرض ذلك من خلال ما يلي: أ - تجديده في داخل المذهب الأشعري، فالجويني وإن تبني أقوال شيوخه السابقين ونقلها إلا أنه رد أو ناقش منها ما يرى أنه يستحق الرد والمناقشة بل إمام الأشاعرة أبو الحسن الأشعري الذي يذكره الجويني غالباً بقوله: قال شيخنا أو ذهب شيخنا (1) ، ودافع عن كتابه " اللمع" فيما وجه إليه من المطاعن من قبل المعتزلة وغيرهم (2) ؛ لم يسلم من تضعيف أقواله، ومن الأشاعرة - بعد الأشعري - الذين نقل أقوالهم الجويني وناقش بعضها: الباقلاني (3) ، وأبو إسحاق الإسفراييني (4) ، وان فورك (5) ، ومن ثم فيلاحظ في منهج الجويني بهذا الخصوص ما يلي: 1 - إن الجويني ضعف التأويل المشهور - والمنسوب للأشعري - لبعض الصفات الفعلية مثل الاستواء والنزول والمجيء من أنه فعل فعله الله في العرش   (1) انظر: - على سبيل المثال - الإرشاد (ص: 14) ، وغيرها، والشامل (ص: 149) ، والبرهان (1/135-274) . (2) ذكر الجويني فصولاً في كتابه الشامل ذكر فيها المطاعن التي وجهت إلى اللمع للأشعري وأجاب عنها، انظر (ص: 245-287-338-342) . (3) انظر: البرهان (1/89،101، 148-149، 218، 280، 287) ، والإرشاد (ص:407) ، والشامل (ص: 198، 211،221، 233،247، 274،294، 570) .وغيرها. (4) انظر: البرهان (1/95، 100، 111، 170) ، والإرشاد (ص: 33، 333) ، والشامل (ص: 212، 267، 350، 433، 533، 624) ، والكافية في الجدل (ص: 307، 409) . (5) انظر: البرهان (1/116) ، والشامل (ص: 212، 346، 543، 562) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 سماه استواء، أو فعل يفعله كل ليلة، أو يوم القيامة سماه نزولاً أو مجيئاً (1) ، وترجيحه التأويل بالملك والغلبة بالنسبة للاستواء، وبنزول أو مجيء أمره أو بعض ملائكته. 2- نقده لمذهب الأشعري في مسألة تكليف مالا يطاق (2) ، يقول: " نقل الرواة عن الشيخ أبي الحسن الأشعري - رضي الله عنه - أنه كان يجوز تكليف ملا يطاق، ثم نقلوا اختلافاً عنه في وقوع ما جوزه من ذلك، وهذا سوء معرفة بمذهب الرجل، فإن مقتضى مذهبه أن التكاليف كلها واقعة على خلاف الاستطاعة، وهذا يتقرر من وجهين: أحدهما: أن الاستطاعة عنده لا تتقدم على الفعل، والأمر بالفعل يتوجه على المكلف قبل وقوعه، وهو إذ ذاك غير مستطيع ... والثاني: أن فعل العبد عنده واقع بقدرة الله تعالى، والعبد مطالب بما هو من فعل ربه ولا ينجى من ذلك تمويه المموه بذكر الكسب، فإنا سنذكر سر ما نعتقده في خلق الأعمال " (3) ، ثم رجح منع تكليف مالا يطاق، ورجح جواز ورود الصيغة به دون الطلب كقوله تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (البقرة:65) ، وخلاصة قوله: " إنه يكلف المتمكن، ويقع التكليف بالممكن، ولا نظر إلى الاستصلاح ونقيضه " (4) ، فالجويني بهذا القول يكون قد بعد عن مذهب الأشاعرة في هذه المسألة، ويزيدها إيضاحاً قوله في مسألة " قدرة العبد " هل تقارن المقدور أو تسبقه. 3- وفي مسألة الاستطاعة، أو القدرة الحادثة للعبد (5) ، ذكر مذهب أبي الحسن الأشعري أن القدرة الحادثة تقارن حدوث المقدور ولا تسبقه   (1) انظر: الشامل (ص: 549، 555، 556) . (2) مع أنه في الإشاد (ص: 226) ، رجح مذهب الأشعري والأشاعرة في جوازه. (3) البرهان في أصول الفقه (1/102-103) . (4) المصدر نفسه (1/105) . (5) رجع الجويني في الإرشاد (ص: 218) ، مذهب الأشاعرة المشهور وهو أن القدرة الحادثة تقارن " في المطبوعة الأرشاد: وهو خطأ" حدوث المقدور بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 ثم قال بعد شرحه: "ومذهب أبي الحسن -رحمه الله- مختبط عندي في هذه المسألة " (1) ، ثم قال: " ومن أنصف من نفسه علم أنه معنى القدرة التمكن من الفعل، وهذا إنما يعقل قبل الفعل وهو غير مستحيل في واقع حادث في حالة الحدوث" (2) . 4- وفي مسألة أزلية كلام الله تعالى والخلاف الواقع بين الكلابية والأشعرية في أزلية الأمر والنهي- وهما من أجزاء الكلام عندهم- قال:" اشتهر من مذهب شيخنا أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري- رضي الله عنهـ مصبره إلى أن المعدوم وقع في العلم وجوده واستجماعه شرائط التكليف فهو مأمور- معدوما- بالأمر الأزلي، وقد تمادي المشغبون عليه، وانتهى الأمر إلى انكفاف طائفة من الأصحاب هم هذا المذهب، وقد سبق القلانسي (3) رحمه الله من قدماء الأصحاب- إلى هذا، وقال: كلام الباري تعالى في الأزل لايتصف بكونه أمرا ونهيا ووعدا ووعيدا وإنما يثبت له هذه الصفات فيما لايزال عند وجود المخاطبين" (4) ، ثم رد ثم رد الجويني على القلانسي- الذي يمثل مذهبه مذهب الكلابية (5) ، ثم ذكر مسلكين لأئمة الأشاعرة في إثبات أن المعدوم مأمور، ثم ذكر طريقة أبي الحسن الأشعري في ذلك (6) ، ثم قال معلقا: " هذا منتهى مذهب الشيخ [الأشعري]- رضي الله عنهـ فأقول: إن ظن ظان أن المعدوم   (1) البرهان (1/277) . (2) المصدر نفسه (1/279) . (3) رجح محقق البرهتن هنا (1/270) ، وقبل ذلك (ص: 135) أن المقصود بالقلانسي أحمد بن إبراهيم المعاصر لابن فورك المتوفى سنة 406هـ، وليس هو القلانسي الآخر السابق للأشعري المعاصر للمحاسبي وغيره من الكلابية، وترجيحه هذا مرجوح، والراجح أنه قصد القلانسي الكلابي، ولذلك قال عنه هنا: أنه من قدماء الأصحاب، ثم ذكر قوله في هذه المسألة والذي هو قول ابن كلاب وأصحابه. (4) البرهان (1/270-271) . (5) انظر: المصدرنفسه (1/271) . (6) البرهان (1/272-274) .. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 مأمور فقد خرج عن حد المعقول، وقول القائل: إنه مأمور على تقدير الوجود تلبيس، فإنه إذا وجد، ليس معدوما، ولاشك أن الوجود شرط في كون المأمور مأمورا"- ثم قال بعد هذا الكلام مباشرة- معلنا حيرته في هذه المسألة العظيمة المتعلقة بكلام الله تعالى: " وإذا لاح ذلك بقي النظر في أمر بلا مأمور، وهذا معضل الأرب، فإن الأمر من الصفات المتعلقة بالنفس، وفرض متعلق لا متعلق له محال، والذي ذكره (1) في قيام الأمر بنا في غيبة المأمور تمويه، ولا أرى ذلك أمرا حاقا، وإنما هو فرض تقدير- وما أرى الأمر لو كان كيف يكون- إذا حضر المٌخَاطَب قام بنفس الأمر إالحاق المتعلق به، والكلام الأزلي ليس تقديرا، فهذا مما نستخير الله تعالى فيه، وإن ساعف الزمان أملينا مجموعا من الكلام ما فيه شفاء الغليل إن شاء الله تعالى" (2) ، هذا منتهاه في مسألة من أهم المسائل التي تميز بها المذهب الأشعري0 4- ويري الجويني أن الأشاعرة وضعوا بعض الأصول مثل: نفي التجسيم عن الله ومثل نفي العلو (الجهة) ، ثم ذكر أن المعتزلة عجزوا عن نصب الأدلة على استحالة كون القديم جسماً (3) ، كما أن نفى الجهة لا يستقيم على أصولهم أيضاً (4) ، والجويني بهذا الأسلوب يبرز مذهب الأشاعرة على أنه أكثر أصالة وأقوي أدلة في نفي بعض الصفات، ونفى العلو عن الله تعالى- من المعتزلة - الذين هم أهل التجهم والتعطيل، وهذا منهج للجويني في إعلاء المذهب الأشعري يعتمد على أسلوب غريب؛ إذ لو أنه ذكر أن أصول المعتزلة لا تستقيم على نفي الصفات السبع، أو الرؤية أو أن القرآن كلام الله غير مخلوق لكان هذا معتادا غير مستغرب، أما أن يذكر أن أصولهم لا تستقيم على نفى العلو وإنما تستقيم الأدلة على أصولنا نحن الأشاعرة فهذا هو الذي يلفت الانتباه0   (1) أي الأشعري فيما سبق انظر: البرهان (1/273) . (2) البرهان (1/274-275) . (3) انظر: الشامل (ص: 414) . (4) انظر: المصدر نفسه (ص:528) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 5- وفي مسألة أخبار الآحاد- وإفادتها للعلم ثم حجيتها في العقيدة- يسير الجويني في ركب غالب شيوخه في أنها لا تفيد العلم (1) ، وفي أحد المواضع في الشامل ذكر قولين أحدهما قول الباقلاني: إنه لا يقطع بها في القطعيات، الآخر قول الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني الذي ذكره قائلا: " وذهب الأستاذ أبو إسحاق إلى أن الحديث المدون في الصحاح الذي لم يعترض عليه أحد من أهل الجرح والتعديل، هو (2) مما يقضي به في القطعيات، وليس من أصله أنه يبلغ مبلغ التواتر، إذ لو بلغه لأوجب العلم الضروري، ولكنه مما يتوجب العلم استدلالا ونظراً " (3) ،ثم قال الجويني: "والصحيح في ذلك طريقه القاضي" (4) ،وفي البرهان كانت عبارة قاسية جدا فيمن يقول إن خبر الواحد العدل يفيد العلم، يقول: " ذهبت الحشوية من الحنابلة، وكتبة الحديث إلى أن خبر الواحد العدل يوجب العلم، وهذا خزي (5) لا يخفي مدركه على ذي لب " (6) . ب- تأويله للاستواء وللصفات الخبرية: في العرض السابق لأقوال شيوخ الأشاعرة- قبل الجويني- تبين أن تأويل هذه الصفات كان موجودا قبل الجويني، وليس كما اشتهر من أنه أول من تأولها، ومع ذلك فللجويني مذهب متميز فيها، قرب فيه من مذهب المعتزلة0 ويوضح ذلك أن السابقين كابن فورك ومن بعده قالوا بنفي الجهة، ثم قالوا في الاستواء: إنه بمع نى العلو بالقهر والتدبير - كما يقول ابن فورك- أو على معنى الملك - كما يقول البغدادي - لكنهم أبطلوا تأويل المعتزلة استوى باستولى،   (1) انظر: الإرشاد (ص: 161) ، والشامل (ص: 100) . (2) في الشامل (وهو) والواو زائدة. (3) الشامل (ص: 557) . (4) نفس المصدر والصفحة. (5) ذكر المحقق في الحاشية أن في نسخة ت:خرق. (6) البرهان (1/606) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 فلما جاء الجويني ذكر أن الاستواء بمعنى الاستيلاء فقال: " لم يمتنع منا حمل الاستواء على القهر والغلبة، وذلك شائع في اللغة، إذ العرب تقول: استوى فلان على الممالك إذا احتوى على مقاليد الملك، واستعلى على الرقاب، وفائدة تخصيص العرش بالذكر أنه أعظم المخلوقات في ظن البرية، فنص تعالى عليه تنبيهاً بذكره على ما دونه، فإنه قيل: الاستواء بمعنى الغلبة ينبئ عن سبق مطامحة ومحاولة؟ قلنا: هذا باطل، إذ لو أنبأ الاستواء عن ذلك لأنبأ عنه القهر، ثم الاستواء بمعنى الاستقرار بالذات ينبئ عن اضطراب واعوجاج سابق، والتزام ذلك كفر " (1) ، ثم ذكر أنه لا يبعد تفسير الاستواء بالقصد، ثم ذكر التفويض ورده (2) . أما في الشامل فذكر عدة أقوال فيه: منها التفويض مع القطع بنفي الجهات والمحاذيات، بحيث يكون الاستواء من الأسرار التي لا يطلع علها الخلائق، والله تعالى مستأثر بعلمها (3) ، ثم قال: "ذهب بعضهم إلى أن المراد بالاستواء: الاقتدار والقهر والغلبة، وذلك سائغ في اللغة، شائع فيها، إذ القائل يقول: استوى المالك على الإقليم، إذا احتوى على مقاليد الملك فيه، ومنه قول القائل: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف أو دم مهراق (4) وقول آخر: ولما علونا واستوينا عليهم ... تركناهم صرعى لنسر وكاسر (5) " (6)   (1) الإرشاد (ص: 40-41) . (2) انظر: المصدر السابق (ص: 41) . (3) انظر: الشامل (ص: 550) . (4) هذا البيت منسوب إلى الأخطل النصراني، وقد سبق تخريجه، وفي الشامل " ولا دم ". (5) لم أقف على قائله. (6) الشامل (ص:553) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 ثم ذكر الاعتراض الذي أورده في الإرشاد وأجاب عنه بمثل ما أجاب به هناك (1) ، ثم ذكر القول الآخر أنه بمعنى القصد والإرادة، وقول الأشعري أنه فعل في العرش واستبعده (2) ، أما في لمع الأدلة - المختصر في العقائد - فلم يذكر سوى التأويل: حيث قال: " المراد بالاستواء القهر والغلبة والعلو، ومنه قول العرب: استوى فلان على المملكة - أي استعلى عليها واطردت له " ومنه قول الشاعر: "قد استوى بشر ... ." (3) ، وفي النظامية - وهي من آخر مؤلفاته - قطع بتنزيه الله عن الاختصاص ببعض الجهات (4) ، ثم ذكر أن مذهب السلف إجرؤها على ظاهر دون تأويل، وهو ما رجحه (5) . هذه خلاصة أقوال الجويني في الاستواء، ومنه يتبين أن ما اختاره في لمع الأدلة وقال بجواز القول به في الإرشاد والشامل هو قول المعتزلة (6) ، الذي رده شيوخ الجويني، كابن كلاب والأشعري والباقلاني والبيهقي وغيرهم، وبذلك يصبح الجويني أول من ارتضى هذا التأويل الاعتزالي المشهور. أما الصفات الخبرية فقسمان: ما عدا صفة الوجه والعين واليدين، فقد تأوّله غالب الأشاعرة ومنهم أبو الحسن الطبري، والبغدادي والبيهقي وغيرهم ومشى على طريقتهم الجويني (7) ، وذلك مثل صفة القدم، والساق، والأصابع   (1) انظر: الشامل (ص: 553) . (2) انظر: المصدر السابق (ص: 554-556) . (3) لمع الأدلة (ص: 95) . (4) انظر: النظامية (ص: 21) . (5) انظر: المصدر نفسه (ص: 32-34) . (6) انظر: مثلاً كلامهم حول الاستواء وتأويله، وشواهدهم في ذلك: شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار الهمذاني (ص: 226-227) . (7) انظر: مثلاً تأويل الجويني للقدم الشامل (ص: 562) ، والإرشاد (ص: 162) ، والأصابع الشامل (ص: 564) ، والساق الإرشاد (ص: 159) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 وغيرها، فالجويني ليس في مذهبه جديد في هذا، أما صفة الوجه والعين واليدين فجمهور شيوخ الجويني من الأشاعرة على إثباتها بلا تأويل، والذي أثر عنه تأويلها عبد القاهر البغدادي - كما سبق تفصيل ذلك - ولم يقل يقول البغدادي في تأويلها أحد من تلامذته، ومنهم البيهقي الذي أثبتها بلا تأويل، فلما جاء الجويني قطع بتأويلها، وإن كان قد رجع عن ذلك عن النظامية، يقول الجويني في الإرشاد: " ذهب بعض أئمتنا إلى أن اليدين والعينين والوجه صفات ثابتة للرب تعالى، والسبيل إلى إيباتها السمع دون قضية العقل، والذي يصح عندنا حمل اليدين على القدرة، وحمل العينين على البصر، وحمل الوجه على الوجود" (1) ، ثم شرح ذلك ورد على الذين يعتقدون أنها صفات لله تعالى لورود النصوص الصريحة بذلك (2) ، ثم يسوق الجويني كلاماً في الرد على شيوخه الأشاعرة المثبتين لهذه الصفات نهج فيه منهج المعتزلة الذين يصفون الأشاعرة حين يثبتون بعض الصفات دون بعض بأنهم متناقضون لأن مساق الصفات واحد فإما أن تثبت جميعاً أو تؤول جميعاً، يقول الجويني هنا: " ومن سلك من أصحابنا سبيل إثبات هذه الصفات [أي صفات اليدين والعين والوجه] بظواهر هذه الآيات ألزمه سوق كلامه أن يجعل الاستواء والمجيء والنزول والجنب من الصفات، تمسكاً بالظاهر، فإن ساق تأويلها فيما يتفق عليه، لم يبعد أيضاً طريق التأويل فيما ذكرناه " (3) ، ولاشك أن الجويني معه الحق فيما يقول، لأن تأويل شيوخه لصفات الاستواء والنزول والمجيء ليس بأولى من تأويل الصفات الخبرية، ودلالات النصوص واحدة. وفي الشامل تأوّل الجويني النصوص الواردة في العين (4) ، أما في النظامية فقد رجع عن التأويل فيها كلها إلى التفويض.   (1) الإرشاد (ص: 155) . (2) انظر: المصدر السابق (ص: 155-157) . (3) المصدر السابق (ص: 157-158) .. (4) انظر: الشامل (ص:556-557) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 ومما سبق يتبين أن الجويني وإن كان قد سبق إلى تأويل الاستواء والوجه واليدين والعين - إلا أن مذهبه فيها تميز بأمرين: الأول: اختيار تأويل الاستواء بالاستيلاء والملك - كقول المعتزلة - وهذا التأويل بالذات رده شيوخ الأشاعرة ومنهم عبد القاهر البغدادي الذي قال بعد أن رد تأويل المعتزلة بأن الصحيح تأويل العرش على معنى الملك أي أن الملك ما استوى لأحد غيره (1) ، وهذا القول للبغدادي ليس ببعيد من قول المعتزلة، ومع ذلك فلم يجسر على مخالفة شيوخه الذين ردوا تأويل المعتزلة للاستواء، فلما جاء الجويني أزال هذا الحاجز، ورأى أنه لا فرق بين التأويلين، ولذلك نص على تأويل المعتزلة واختاره. الثاني: التأويل الصريح لصفة الوجه واليدين والعين، مع إلزام الأشاعرة أن تأويلها لازمهم كتأويل الاستواء والنزول. جـ - قربه من المعتزلة ومذهبهم: يجمع الباحثون على تأثر الجويني بالمعتزلة أكثر ممن سبقه من الأشاعرة (2) ، وما تقدم - في الفقرة السابقة - دليل واضح على قربه منهم وتأثره بهم، ومن الأدلة والشواهد على ذلك ما يلي: 1- إن الجويني في مسألة كلام الله والقرآن، لما شرح مذهب الأشاعرة، ورد على المعتزلة قال: " واعلموا بعدها أن الكلام مع المعتزلة وسائر المخالفين في هذه المسألة يتعلق بالنفي والإثبات، فإن ما أثبتوه وقدّروه كلاماً فهو في   (1) انظر: أصول الدين للبغدادي (ص: 112-113) . (2) انظر: مقدمة تحقيق الشامل (ص: 77) ، حيث ذكر المحققون: أن الجويني لم يخالف المعتزلة في الأصول؛ لكنه خالفهم في فهمهم لهذه الأصول نفسها، وانظر: في علم الكلام: الأشاعرة، أحمد صبحي (ص:123-132) ، حيث ذكر أن خصومه الأشاعرة للمعتزلة فترت لدى الجويني، وانظر: نشأة الأشعرية (ص: 409) ، وإمام الحرمين: عبد العظيم الديب (ص: 84) ، وغيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 نفسه ثابت، إنه كلام الله تعالى إذ [لعل صوابها إذا] رد إلى التحصيل آل الكلام إلى اللغات والتسميات فإن معنى قولهم: هذه العبارات كلام الله، أنها خلقه، ونحن لا ننكر أنها خلق الله (1) ، ولكن نمتنع من تسمية خالق الكلام متكلماً به، فقد أطبقنا على المعنى، وتنازعنا بعد الاتفاق في تسميته، والكلام الذي يقضي أهل الحق بقدمه هو الكلام القائم بالنفس، والمخالفون ينكرون أصله ولا يثبتونه " (2) ،والجويني لم يخالف في هذا بقية الأشاعرة لأنهم يفرقون بين كلام الهل القائم بالنفس، وبين القرآن المتلو، فالأول قائم بالله لا يجوز انفصاله عن الله بحال، كما لا يجوز حدوثه، بل هو أزلي كأزلية الحياة والعلم كما أنه واحد ليس بحروف ولا أصوات أما الكلام المتلو فهم وإن صرحوا أنه كلام الله إلا أنهم عند التحقيق يقولون: إن هذا الكلام - بعباراته - فهمه جبريل أو غيره من الله، ولذلك فهو حكاية لكلام الله أو عبارة عنه، فالقرآن المتلو على هذا القائل به هو جبريل أو غيره - وقد ذكر ما يدل على ذلك من قوله الباقلاني - لكن الجديد في قول الجويني تصريحه بأنه لا ينكر أن تكون العبارات - أي القرآن المتلو - خلق الله، وهذا مذهب المعتزلة، وإن خالفهم في أن الكلام هو الكلام القائم بالنفس، ولتوضيح قول الجويني هذا ننقل ما ذكره الإيجي في الموقف - الذي يعتبر من أهم كتب الأشاعرة التي استقر عليها مذهبهم في القرون المتأخرة، يقول - حول صفة الكلام -: " وقالت المعتزلة: أصوات وحروف يخلقها الله في غيره، كاللوح المحفوظ، وجبريل أو النبي، وهو حاديث. وهذا لا ننكره، لكننا نثبت أمراً وراء ذلك، وهو المعنى القائم بالنفس ... ثم نزعم أنه قديم، لامتناع قيام الحوادث بذاته تعالى، ولو قالت المعتزلة: إنه هو إرادة فعل يصير سبباً لاعتقاد المخاطب علم المتكلم بما أخبره به، أو إرداته لما أمر به لم يكن بعيداً - لكني لم أجده في كلامهم - إذا عرفت هذا فاعلم أن ما يقوله المعتزلة: وهو   (1) ذكر المحققان أن في نسخة م: لا ننكر كونها خلقاً له. (2) الإرشاد (ص: 116-117) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 خلق الأصوات والحروف، وكونها حادثة قائمة (1) ، فنحن نقول به، ولا نزاع بيننا وبينهم في ذلك، وما نقوله من كلام النفس فهم ينكرون ثبوته " (2) . فالجويني في نصه السابق يخفف من حدة المعركة بين الأشعرية والمعتزلة في مسألة خلق القرآن، ويصرح بأن المذهب الأشعري لا يعارض قول المعتزلة، ومن ثم فالخلاف معهم في أنهم لا يثبتون الكلام النفسي. 2- دفاعه عن المعتزلة فيما نقل من مذاهبهم، فمثلاً في مسألة التحسين والتقبيح العقلي الذي قال به المعتزلة يقول الجويني: " واضطرب النقلة عنهم في قولهم يقبح الشيء لعينه أو يحسن، فنقل عنهم أن القبح والحسن في المعقولات من صفات أنفسها ونقل عنهم أن القبح صفة النفس، وأن الحسن ليس كذلك، ونقل ضد هذا عن الجبائي، وكل ذلك جهل بمذهبهم، فمعنى قولهم يقبح ويحسن الشيء لعينه أنه يدرك ذلك عقلاً من غير إخبار مخبر " (3) ، ثم رد على المعتزلة في قولهم هذا وهذا يدل على إطلاعه على كتبهم، ومعرفته بأقوالهم. 3- وفي مسألة المخاطب إذا خص بالخطاب ووجه الأمر إليه وهو في حالة اتصال الخطاب به هل يعلم أنه مأمور، رجح الأشاعرة أنه يعلم، وقالت المعتزلة: إنه لا يعلم إلا بعد مضي زمان الإمكان الذي يسعه فعل المأمور به، وقد رجح الجويني مذهب المعتزلة وقال: " المختار ما عزى إلى المعتزلة في ذلك " (4) . 4- وللجويني صلة خاصة بكتب أبي هاشم الجبائي (5) ، الذي يرد في   (1) قال في شرح الموافق (8/95) ، قائمة، بغير ذاته تعالى. (2) المواقف (ص: 293-294) ، ومع شرحه وحواشيه (8/92-95) . (3) البرهان (1/88-89) . (4) البرهان (1/282) ، وانظر ما قبلها (ص: 280-281) . (5) هو عبد السلام بن أبي علي بن عبد الوهاب - تقدمت ترجمة أبيه عند الحديث عن الأشعري - ولد أبو هاشم سنة 277هـ، وتوفي سنة 321 هـ، وإليه تنسب فرقة البهشمية - إحدى فرق المعتزلة - انظر في ترجمته وآرائه: تاريخ بغداد (11/55) ، والمنتظم (6/261) ، والأنساب (3/176) ، ووفيات الأعيان (3/183) ، " وفي هذين المصدرين أنه ولد سنة 247هـ وهو خطأ"، وسير أعلام النبلاء (15/63) ، والملل والنحل (1/78) والفرق بين الفرق (ص: 184) ، والتبصير بالدين (ص: 80) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 كتبه كثيراً، وأقرب مثال على ذلك قول الجويني بالأحوال، وتأكيده على ذلك بعد أن ذكر تردد الباقلاني في القول بها، ومما يلاحظ أن الباقلاني لما قال بالأحوال لم يوافق أبا هاشم الجبائي في أن الحال لا معدومة ولا موجودة، ولا معلومة ولا مجهولة -كما سبق بيان قوله - لكن الجويني وافق الجبائي في عدم اتصاف الحال بالوجود والعدم (1) ، ولإن قطع بأنها معلومة مقدورة مرادة (2) ، مع تفسير معين لهذه المعاني (3) . ومن الأدلة على صلة الجويني بأبي هاشم دفاعه عنه فيما نسب إليه في مسألة تعريف العلم، وأن علم المقلد هل يعتبر علماً أم لا، يقول: " نقول: عقد المقلد إذا لم يكن له مستند عقلي فهو على القطع من جنس الجهل، وبيان ذلك بالمثال: إن من سبق إلى عقده أن زيداً في الدار، ولم يكن فيها، ثم استمر العقد، فدخلها زيد، فحال المعتقد لا يختلف وإن اختلف المعتقد، وعن ذلك نقل النقلة عن عبد السلام بن الجبائي - وهو أبو هاشم - أنه كان يقول: العلم بالشيء والجهل به مثلان، وأطال المحققون ألسنتهم فيه، وهذا عندي غلط عظيم في النقل، فالذي نصن عليه الرجل في كتاب الأبواب: إن العقد الصحيح مماثل للجهل، وعني بالعقد اعتقاد المقلد " (4) . وفي مسألة الصلاة في الدار المعصوبة ذكر قول أبي هاشم الجبائي: أنها لا تصح، وبعد كلام ذكر معارضة المعترضين لكلامه ثم قال: " وأبو هاشم لا يسلم ذلك ولا أمثاله، وليس هو (5) ، ممن تزعه التهاويل " (6) ، ويذكر في إحدى المسائل أنه طلع على مصنفاته (7) .   (1) انظر: الشامل (ص: 639-341) . (2) انظر: المصدر السابق (ص: 642) . (3) انظر: تفصيل أقواله في الأحوال في الشامل (ص: 629-645) ، والإرشاد (ص: 80) . (4) البرهان (1/121) . (5) في المطبوعة من البرهان لو، ولعله خطأ مطبعي. (6) البرهان (1/286) ، وفي الحاشية في نسخة ش، ع، ت ترمعه، وتزعه بمعنى: تكفه. (7) المصدر السابق (1/304) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 د - صلته بالفلسفة وعلوم الأوائل: لم يكن الجويني فيلسوفاً، أو متبنياً لأفكار الفلاسفة، وإنما اطلع على كتبهم واستفاد منها في تأصيل المذهب الأشعري في بحوثه الكلامية ولذلك جاء تفكيره - كما عبر البعض - متسماً بنزعة فلسفية عميقة (1) ، وتأثر الجويني بِكتب الأوائل من الفلاسفة تمثل فيما يلي: 1- نقوله عنهم، يقول في مسألة إحاطة الإنسان بأحكام الإلهيات وحقائقها: " أقصى إفضاء العقل إلى أمور جميلة منها، والدليل القاطع في ذلك على رأي الإسلاميين: إن ما يتصف به حادث، وموسوم بحكم النهاية، يستحيل أن يدرك حقيقة ملا يتناهى، وعبر الأوائل عن ذلك بأن قالوا: تصرف الإنسان في المعقولات بفيض ما يحتمله من العقل عليه، ويستحيل أن يدرك الجزء الكل، ويحيط جزء طبيعي له حكم عقلي بما وراء عالم الطبائع، وهذه العبارات وإن كانت مستنكرة في الإسلام، فهي محومة على الحقائق" (2) . 2- مسألة علم الله بالجزئيات، التي أثارت جدلاً بالنسبة للجويني، وهل وافق الفلاسفة في قولهم: إن الله يعلم الكليات دون الجزئيات، والحق أن عبارة الجويني موهمة وذلك حين يقول: " وبالجملة علم الله تعالى إذا تعلق بجواهر لا تتناهى فمعنى تعلقه بها استرساله عليها من غير فرض تفصيل الآحاد" (3) ، وقد شنع عليه من العلماء الإمام المازري (4) ، وقال: " إنما سهل عليه ركوب هذا المذهب إدمانه النظر في مذهب أولئك " (5) ، والجويني الذي قال العبارة الموهمة السابقة هو الذي يقول في نفس الكتاب " إن الرب تعالى كان   (1) انظر: مقدمة تحقيق الشامل (ص: 76) . (2) البرهان (1/142) . (3) البرهان (1/145-146) . (4) كما هجره صديقه القشيري لأجلها بقول الذهبي: " هذه هفوة اعتزال، هجر أبو المعالي عليها، وحلف أبو القاسم القشيري لا يكلمه، ونفي بسببها، فجاور وتعبد، وتاب ولله الحمد منها" (السير 18/472) . (5) طبقات السبكي (5/201) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 عالماً في أزله تفاصيل ما يقع فيما لا يزال " (1) ، وهذا نص في إثبات علم الله بالجزئيات، ولذلك دافع السبكي - بحق - في طبقاته عن الجويني وأطال الكلام حول هذه المسألة وأتى بالنقول من كتب الجويني الأخرى كالشامل والإرشاد، كما نبه إلى النص الذي نقلناه آنفاً من البرهان وهي نقول تدل على إثباته لعلم الله بالجزئيات " (2) . 3- ومن معالم تأثره بالكتب الفلسفية ما هو واضح في منهجه من التحديد الدقيق للمصطلحات في كتبه، فهو قبل أن يبدأ في الكلام في أي باب يبدأ بتعريف المصطلحات والتعريفات (3) ، وتأخذ هذه المقدمات - أحياناً - قسطاً كبيراً من كتبه، وهذا المنهج الذي سلكه الجويني ظهر جلياً في كتب متأخري الأشعرية، حيث يصل الأمر أن تبلغ المقدمات أكثر من ثلثي الكتاب قبل أن يدخل المؤلف في المقصود من الكتاب وهو البحث في الإلهيات، ومن الأمثلة على ذلك كتاب شرح المقاصد، والمواقف وشروحه. هـ - الفقه وأصوله عند الجويني وعلاقة ذلك بمذهبه الكلامي: يعتبر الجويني من أئمة الشافعية، وقد سبقت الإشارة إلى أنه كتب كتاباً يفضل فيه مذهب الشافعي ويرى أنه الأحق بالاتباع، وهو ما صرح به أيضاً في البرهان (4) . ومن الأمور الملفتة والبارزة في منهجه إدخاله مسائل المنطق والكلام في أصول الفقه، ولما كان كتابه من الكتب الأصولية المتقدمة فقد تأثر بمنهجه هذا من جاء بعده من الأشاعرة وغيرهم مثل الغزالي والرازي والآمدي وغيرهم. يقول النشار في عرضه لمسألة إدخال المنطق الأرسطي في أصول الفقه: " أما الأشاعرة فقد احترزوا بأصولهم عن منطق أرسطوا، ونجد هذا واضحاً لدى عدو   (1) البرهان (2/130) . (2) انظر: طبقات السبكي (5/192-207) . (3) انظر: مثلاً لمع الأدلة (ص: 76) من أول الكتاب، وما بعدها، والإرشاد (ص: 5) وما بعدها. (4) (2/1148-1155) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 ممتاز للتراث اليوناني - أبي بكر الباقلاني - وهو شخصية ضخمة لم تبحث بع، ولم يصل إلينا إنتاجها الأصولي إلا خلال كتب المتأخرين أيضاً". " ولكن ما لبث علم الأصول أن اتجه وجهة أخرى على يد إمام الحرمين (478هـ) ، وقد كان المظنون أن إمام الحرمين سار على منهج المدرسة الكلامية الأصولية الأولى، إلا أنه تسنى لي بحث مخطوطة نادرة لكتاب البرهان فتبين لي أنه وإن كان إمام الحرمين خالف المنطق الأرسططاليسي في نقاط كثيرة إلا أنه تأثر به إلى حد ما، بل قد تجد عنده أول محاولة لمزج منطق أرسطو بأصول الفقه، فكما أنه خالف متكلمي أهل السنة في القول بالواسطة أولاً، ثم وافق أبا هاشم الجبائي في أقوال له كثيرة ... تراه يخالفهم أيضاً في محاولته مزج المنطق الأرسططاليس في الأصول، ويمهد الطريق بذلك لتلميذه أبي حامد الغزالي (1) ، (2) وقد أدخل الجويني مسائل كلامية كثيرة في أصول الفقه ومنه صيغ الأمر (3) ، والكلام النفسي (4) ، وعلم الله (5) ، وتكليف ما لا يطاق (6) ، والاستطاعة (7) ، والمعجزة (8) ، والتحسين والتقبيح (9) وغيرها. و حيرة الجويني ورجوعه: لما كان الجويني ممن خاض في مسائل علم الكلام أكثر ممن سبقه، وما تميزت به شخصيته من استقلال واعتداد، بحيث لا يرى غضاضة في مخالفة   (1) للغزالي كتابه المشهور: المستصفي، وله المنخول من تعليقات الأصول نص في آخر على أنه اقتصر " على ما ذكره إمام الحرمين رحمه الله في تعاليقه من غير تبديل وتزييد في المعنى وتعليل " المنخول (ص: 504) . (2) مناهج البحث (ص: 73) - ط الرابعة -. (3) البرهان (1/212) . (4) نفسه (1/199) . (5) نفسه (1/145) . (6) نفسه (1/102) . (7) نفسه (1/276) . (8) نفسه (1/148) . (9) نفسه (1/87) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 شيوخه وتزييف أقوالهم أحياناً ولو كانوا أعلاماً كالأشعري، والباقلاني، وابن فورك، وأبي إسحاق الإسفراييني وغيرهم، لهذا ولما يحسب من قصده الحق وتجرده فقد برز في كتبه ما يدل على تراجعه عن بعض أقواله، وانتهاء الأمر عنده إلى الحيرة ويمكن عرض الشواهد التالية من كتبه. 1- في أثناء جواب الجويني عن المطاعن التي وجهت إلى اللمع للأشعري، ومنها استدلاله في إثبات حدث العالم بالنطفة وأنه لم يوضح الدلالة على حدثها القائم على إثبات الأعراض، وبعد مناقشات يقول الجويني: " ثم نقول: لا يتوقف ثبوت حدث العالم على إثبات الأعراض، ولكن من علم تعاقب الأحوال المتناقضةعلى بعض الذوات، علم استحالة عروة منها، فهذا يفضي به إلى العلم بحدث الذات، وإن لم يتعرض لكون الأحوال موجودات، وكونها أغياراً للذات، فلم يتوقف إذاً إثبات حدث الجواهر على إثبات الأعراض، هكذا قال ابن مجاهد والقاضي - رضي الله عنهما - فاستبان بما قلناه أنه لا يتوقف العلم بحدث العالم على العلم بثبوت الأعراض، فإن المقصد يثبت دون ذلك " (1) ، فالجويني يصرح هنا بأن دليل حدوث العالم   (1) الشامل (ص: 247) ، ومن العجيب أن الجويني وهو يدافع عن الأشعري في عدم ذكره لدليل حدوث الأجسام قال: " إنه " أي الأشعري، رأى كثيراً من الناي ينفرون عن طرق الكلام ويأبونها، ولو صدر الكلام بإثبات الأعراض والتعرض للجواهر لن يأمن أن ينفر صدر كتابه مطالعه، فبدأ بإثبات الصانع في معرض لا يأباه أحد ثم ذكر حدث العالم في درج الكلام، الشامل (ص: 279) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 لا يتوقف على دليل حدوث الأعراض، ولكنه لما أخذ يرد على الكرامية في مسألة القول بأن الله جسم قال: " وسبيل الكلام أن يسألوا عن دلالة حدث العالم، فإن ترددوا فيها، ولم يستقلوا بإيرادها بأن عجزهم عن قاعدة الدين، وأصل المعارف، فإن السبيل الذي به تتوصل إلى معرفة المحدث ثبوت الحدث، وإن راموا ذكر الدلالة على حدث الأجسام، لم يطردوا دلالة إلا تقرر عليهم مثلها في الجسم الذي حكموا بقدمه" (1) ، ومن أصول أدلة حدوث العالم عند الجويني أن الجواهر لا تخلو من الأعراض (2) . فالجويني في رده على الكرامية سد طرق إثبات حدث العالم إلا بطريق حدوث العالم إلا بطريق حدوث الأجسام والأعراض، وهو هناك في رده على خصوم الأشعري يصرح بأنه لا يتوقف إثبات حدوث الجواهر على حدوث الأعراض؟. وقد رجح الجويني في إثبات الصانع إدعاء الضرورة في أن هذا العالم لابد له من خالق دون الدخول في طرائق الاستدلال، يقول الجويني بعد كلام ومناقشات حول ما ذكره الأشعري من أدلة إثبات الصانع وأن هذا الكون لابد له من خالق كما أن البناء لا بد له من بانٍ والكتابة لا بد لها من كاتب: " قال عبد الملك بن عبد الله: أسد الطرق اعندي في المسألة ادعاء الضرورة، ومن لم يسلك هذا المسلك أولاً اضطرته الحاجة إلى سلوكه أخرا " (3) ، وهذا الذي يدعي فيه الجويني الضرورة كتب حول الاستدلال له كلاماً طويلاً (4) . 2- حيرته في مسألة هل المعدوم مأمور؟ وقد تقدم كلامه في ذلك حين قال: وهذا مما نستخبر الله تعالى فيه. 3- في مسألة قدرة العبد ذكر في الشامل والإرشاد ولمع الأدلة (5) ، أنه لا تأثير لها كما هو مذهب جمهور الأشاعرة ثم رجع في النظامية إلى أن لها تأثير (6) . 4- ومن الأمور المهمة رجوعه في نظرته إلى السلف، فإنه قال في كتابه - الكافية في الجدل - في الجواب عن الاعتراض الذي يقول: إن السلف لم يستخدموا بعض أنواع القياس في الرد على الخصم - فقال بعد ذكر عدة أجوبة: " وأيضاً فإنهم [أي السلف] لما علموا أنه قد يكون بعدهم من لعل الله سبحانه يخصه بجودة قريحة، وزيادة فهم، وفطنة وذكاء ... لم يطولوا واقتصروا على النبذة والإشارة" (7) ،فهذه عبارات توحي بتجهيل وسلبية للسلف، لكنه يقول عنهم في الغياثي - الذي ألفه بعد النظامية - فهو في آخر كتبه (8) ، موصياً مغيث الدولة الذي هو نظام الملك - قائلاً: " والذي أذكره لائقاً بمقصود   (1) انظر: الشامل (ص: 411) . (2) انظر: المصدر السابق (ص: 204، 209، 220) . (3) المصدر السابق (ص: 282-283) . (4) انظر: الشامل (ص: 123-342) . (5) انظر: الشامل (ص: 182) ، والإرشاد (ص: 208) ، ولمع الأدلة (ص: 107) . (6) انظر: النظامية (ص: 43-51) . (7) الكافية في الجدل (ص: 346-347) . (8) أحال الجويني في الغياثي (ص: 190) على النظامي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618 هذا الكتاب أن الذي يحرص الإمام عليه جمع عامة الخلق على مذاهب السلف السابقين، قبل أن نبغت الأهواء، وزاغت الآراء وكانوا - رضي الله عنهم- ينهون عن التعرض للغوامض والتعمق في المشكلات، والإمعان في ملابسة المعضلات، والاعتناء بجمع الشبهات، وتكلف الأجوبة عما لم يقع من السؤالات، ويرون صرف العناية إلى الاستحثاث على البر والتقوى، وكف الأذى، والقيام بالطاعة حسب الاستطاعة، وما كانوا ينكفون - رضي الله عنهم - عما تعرض له المتأخرون عن عي وحصر، وتبلد في القرائح، هيهات، قد كانوا أذكى الخلائق أذهاناً، وأرجحهم بياناً ... " (1) . 5- حيرته في مسألة العلو - وقصته مع الهمذاني مشهورة (2) - وقد صرح بالحيرة في هذه المسألة في النظامية بعد كلام طويل (3) . 6- رجوعه عن علم الكلام، وهو من الأمور المشهورة التي لا ينازع فيها إلا من يحمل في قلبه تعصباً أعمى للأشاعرة وعلومهم الكلامية، ومن أقواله في رجوعه: أ - ما رواه الفقيه غانم الموشيلي: سمعت الإمام أبا المعالى يقول: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما اشتغلت بالكلام " (4) . ب - ما حكاه أبو الفتح الطبري الفقيه قال: دخلت على أبي المعالي في مرضه، فقال: اشهدوا عليَّ أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السنة، وأني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور " (5) .   (1) الغياثي: غياث الأمم في التياث الظلم (ص: 190-191) ، وفي هذا الكتاب (ص: 193-194) ، هاجم المأمون بسبب تساهله مع المعطلة، وترجمته لكتب الأوائل، وحملة المسؤولية أمام الله. (2) انظرها: في العلو الذهبي (ص: 188) ، وقال الألباني في مختصر العلو (ص: 277) " إسناد هذه القصة صحيح مسلسل بالحفاظ " وانظر: سير أعلام النبلاء (18/474، 175، 477) وطبقات السبكي (5/190) ، وحاول ردها بما لا طائل من ورائه. (3) انظر: النظامية (ص: 23) . (4) سير أعلام النبلاء (18/463) . (5) المصدر السابق (18/474) ، وطبقات السبكي (5/191) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 جـ - وروى عنه أنه قال: " قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً، ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة، وركت البحر الخضم، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام، كل ذلك في طلب الحق، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن فقد رجعت إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطيف بره، فأموت على دين العجائز، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل على كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، فالويل لابن الجويني " (1) . د - وقال أبو الحسن الشقيرواني الأديب -وهو من تلاميذ الجويني -: سمعت أبا المعالى يقول: " يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به " (2) . وقد حاول السبكي رد هذه الأقوال المروية عن الجويني بأساليب معهودة عند السبكي حين يتعلق الأمر بالطعن على الأشاعرة. 7 - رجوع الجويني في النظامية. اشتهر عن الجويني أنه رجع في النظامية وأبرز ما رجع فيه مسألتان: أ - مسألة القدرة الحادثة وقوله: إنه مؤثرة بعد أن كان يرى أنها غير مؤثرة - وقد سبقت الإشارة إلى ذلك -. ب - مسألة الصفات الخبرية، فإنه قال: " اختلفت مسالك العلماء في الظواهرالتي وردت في الكتاب والسنة، وامتنع على أهل الحق اعتقاد فحواها، وإجراؤها على موجب ما تبتدره أفهام أرباب اللسان منها، فرأى بعضهم تأويلها والتزام هذا المنهج في أي الكتاب وما يصح من سنن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وآله وسلم، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب تعالى، والذي نرتضيه رأياً، وندين الله به عقلاً أتباع سلف الأمة، فالأولى الأتباع وترك الابتداع، والدليل السمعي   (1) السير (18/474) ، والمنتظم (9/19) ، والسبكي (5/185) . (2) السير (18/474) ، والمنتظم (9/19) ، والسبكي (5/186) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 القاطع في ذلك: أن إجماع الأمة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة. وقد درج أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها، وهم صفوة الإسلام، والمستقلون بأعباء الشريعة.." (1) ، ورجوع الجويني في النظامية لم يكن رجوعاً كاملاً إلى مذهب السلف في جميع المسائل العقيدة وعلم الكلام، والدليل على ذلك: 1 - أن رجوعه بالنسبة للصفات كان إلى التفويض، وليس هذا مذهب السلف. 2- أن الجويني أبقى على بعض المسائل وعرضها كما هي في مذهب الأول ومنها مسألة حدوث الأجسام (2) ، وكلام الله (3) ، ومنع حلول الحوادث التي هي مسألة الصفات الاختيارية (4) ، والرؤية بلا مقابلة (5) ، كما أنه أوّل بعض الصفات مثل المحبة أوّلها بالإرادة (6) ، وفي الإيمان ذكر أولاً أنه التصديق (7) ، ثم ذكر عند الكلام على زيادة الإيمان ونقصانه قول السلف: إنه معرفة بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان، وقال: " هذا غير بعيد في التسمية " (8) ، لكنه ذكر بعده القول الآخر؛ إنه التصديق، ولم يرجح بينهما. * ... * ... * هذا هو الجويني في أحواله وأقواله، ومما سبق يتبين كيف خطا بالمذهب الأشعري نحو الاعتزال، والتأصيل الكلامي.   (1) النظامية (ص: 32-33) . (2) النظامية (ص: 16) ، وما بعدها. (3) المصدر السابق (ص: 27-30) . (4) المصدر نفسه (ص: 27) . (5) نفسه (ص: 39) . (6) نفسه (ص: 61) . (7) نفسه (ص: 85) . (8) نفسه (ص: 90) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 أبو حامد الغزالي : ت 505هـ هو الشيخ أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الطوسي، الشافعي، الغزالي، ولد بمدينة طوس سنة 450هـ، توفي والده وهو صغير، وكان قد أوصى إلى صديق له صوفي بكفالة ولده محمد وأخيه أحمد، وأن يعنى بتعليمهما، وبقيا تحت رعاية هذا الرجل - وكان فقيراً- حتى نفد المال الذي تركه والدهما، فطلب منهما أن يذهبا إلى إحدى دور العلم، فبدأ الغزالي بالدراسة على الفقيه علي بن أحمد الراذكاني بطوس، وكان ذلك سنة 465هـ ثم رحل إلى جرجان حيث طلب العلم على الشيخ الإسماعيلي - إسماعيل بن مسعدة - (1) ، فلما كان عام 473هـ، اتجه أبو حامد إلى نيسابور يطلب العلم على أبي المعالي الجويني - رئيس المدرسة النظامية فيها - وأصبح أشهر تلاميذه وأكثرهم نبوغاً، ولما توفي الجويني سنة 478هـ، رحل إلى عسكر نيسابور واتصل بنظام الملك هناك وناظر العلماء وبهرهم واعترفوا بمكانته، فولاه نظام الملك التدريس في نظامية بغداد، فقدم الغزالي بغداد سنة 484هـ وصار يدرس فيها الفقه والأصول وعلم الكلام، فتكونت له بذلك شهرة عالية وجاه عريض ومنزلة رفيعة، وفي أثناء ذلك أخذ يعيش صراعاً باطنياً بينه وبين نفسه مما أدى إلى عزوفه عما هو في وميله إلى العزلة والتصوف، فرحل سنة 488هـ عن بغداد - وترك أخاه أحمد يتولى التدريس مكانه - وتوجه إلى الشام فنزل دمشق، ثم ذهب إلى بيت المقدس، واستمرت عزلته هناك قرابة عشر سنين، حيث رجع إلى بغداد وأقام زمناً يسيراً ثم ارتحل سنة 499هـ إلى نيسابور - بأمر من بعض سلاطينها - ليتولى الإمامة والتدريس في نظاميتها، ثم لم يلبث زمناً قصيراً حتى رجع إلى بلده طوس حيث بنى بجوار بيته مدرسة وخانقاه (2) للصوفية، وأقبل على علوم الآخرة والحديث حتى توفي سنة 505هـ (3) .   (1) توفي سنة 477هـ، انظر: العبر (2/336) ، والشذرات (3/354) . (2) سبق التعريف بها (ص: 143) .. (3) ذكر الغزالي جوانب مهمة من حياته في كتابه " المنقذ من الضلال " وهو من أهم المصادر ترجمته، انظره: (ص:77) وما بعدها - ت تحقيق صليبا عياد- وانظر: تبيين كذب المفتري (ص:291) ، المنتظم (9/168) ، وفيات الأعيان (4/216) ، المستفاد (ص:127) ، وسير أعلام النبلاء (19/322) ، وطبقات السبكي (6/191) ، والوافي (1/274) ، واتحاف السادة المتقين (1/6) ، والتاج المكلل (ص: 388) ، والطبقات العلية في مناقب الشافعية للواسطي [ترجمة الغزالي] طبعت ضمن كتاب الأعسم الفيلسوف الغزالي ص: 153-194) وغيرها، أما الكتب المعاصرة فكثيرة جداً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 مؤلفات الغزالي: تعددت كتب الغزالي ومؤلفاته، وبلغت من الكثرة والشهرة حداً كبيراً، وكل من ترجم له ذكر أسماء مؤلفاته، ومؤلفاته لكثرتها فهي أقسام: - منها ما هو ثابت أنه من مؤلفاته. - ومنها ما هو منحول منسوب إليه. - ومنها ما هو مشكوك في نسبته إليه. وقد قام محققاً المنقذ من الضلال بتعدادها، مع الإشارة إلى بعض ما هو منحول منها (1) ، كما قام عبد الرحمن بجوي بتأليف كتاب ضخم أفرده لدراسة مؤلفات الثابت منها والمشكوك فيه والمنحول (2) .. أما أشهر مؤلفات الغزالي الأشعرية فهي: 1- الأربعين في أصول الدين، وهذا الكتاب هو الجزء الثاني من كتابه الآخر " جواهر القرآن ". 2- قواعد العقائد - وكتابه العقيدة القدسية جزء منه - وقد ضم الغزالي قواعد العقائد إلى كتابه الآخر " إحياء علوم الدين " وهو ضمن المجلد الأول منه. 3- الاقتصاد في الاعتقاد. 4- تهافت الفلاسفة، نقض فيه أقوال الفلاسفة من منطلق أشعري.   (1) انظر: مقدمة تحقيق المنقذ -صليبا عياد - (ص: 52-65) . (2) كما أنه ذكر في آخر ملاحق تحوي نصوص بعض القدماء في تعداد مؤلفاته: انظر: مؤلفات الغزالي (ص: 469) ، وما بعدها، إضافة إلى نصوص في ترجمته من مصادر مختلفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 5- فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة. وللغزالي كتب أخرى كثيرة في أصول الفقه، والفقه، والفلسفة، والمنطق، والتصوف، وتفصيل الكلام حولها يضيق به هذا المقام، ولكن نشير إلى أهمها بالنسبة لمن يريد الإطلاع على فكر وأقوال الغزالي، فإضافة إلى كتبه الأشعرية السابقة هناك له. 6- المستصفى من علم الأصول، وأشهر ما فيه مقدمته المنطقية، ومباحثه الكلامية في أثنائه، وقد برر الغزالي فعل المتكلمين في كتبهم الأصولية حين خلطوا مع الأصول المباحث الكلامية بقوله: " وإنما أكثر فيه المتكلمون من الأصوليين لغلبة الكلام على طبائعهم، فحملهم حب صناعتهم على خلطه بهذه الصنعة" (1) ، لكنه قال: " وبعد أن عرفناك إسرافهم في هذا الخلط فإنا لا نرى أن نخلي هذا المجموع عن شيء منه لأن الفطام عن المألوف شديد ... " (2) ، أما المقدمة المنطقية فالعجيب قوله فيها: " وليست هذه المقدمة من جملة علم الأصول، ولا من مقدماته الخاصة به، بل هي مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلاً " (3) ، وقد ألف كتابين آخرين مشهورين في المنطق هما: محك النظر، ومعيار العلم، وهما مطبوعان. 7 - المعارف العقلية، طبع بتحقيق عبد الكريم العثمان. 8 - مشكاة الأنوار، طبع عدة مرات منها طبعة بتحقيق أبي العلا عفيفي. 9- المقصد الأسني في شرح معاني أسماء الله الحسنى، طبع عدة مرات منها طبعة بعناية بسام الجابي.   (1) المستصفى (ص: 17) - ط الجندي-. (2) المصدر السابق (ص: 18) . (3) المصدر نفسه (ص:19) ، وفي جواهر القرآن (ص:21) ، حين تحدث عن محك النظر ومعيار العلم - عبارة مشابهة - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 10- ميزان العمل، طبع عدة مرات، منها طبعة بتحقيق سليمان دنيا، وأخرى بتحقيق سليمان البواب. 11- المضنون به على غير أهله، وهذا الكتاب مثار جدل قديم وحديث حول نسبته إلى الغزالي، والمطلع على كتب الغزالي الأخرى - خاصة التي تجمع بين الفلسفة والتصوف - يترجح لديه صحة نسبته إليه - والله أعلم، وقد طبع الكتاب عدة مرات، آخرها بعناية وضبط رياض العبد الله. 12- المضنون الصغير، المسمى: الأجوبة الغزالية في المسائل الأخروية، طبع ضمن القصور العوالي الجزء الثاني. 13- معارج القدس في مدارج معرفة النفس - ط مكتبة الجندي -. 14- قانون التأويل، طبع مع الكتاب السابق. 15- وهناك كتب في الرد على الباطنية ومنها الكتابان المشهوران: فضائح الباطنية، والقسطاس المستقيم، وهما مطبوعان. 16- إلجام العوام عن علم الكلام: طبع عدة مرات منها طبعة بتعليق وتصحيح محمد المعتصم بالله البغدادي. 17 - روضة الطالبين وعمدة السالكين - طبع بتصحيح محمد بخيت -. 18- الرسالة اللدنية - طبعت ضمن القصور العوالي الجزء الأول-. 19- إحياء علوم الدين، وهو أشهر كتبه وأهمها. 20- المنقذ من الضلال، ورسائل الغزالي (1) ، ولها أهمية كبر في معرفة حياته وأحواله.   (1) ترجمت رسائل الغزالي من الفارسية إلى العربية بعنوان: فضائل الأنام من رسائل حجة الإسلام الغزالي، ترجمها الدكتور نور الدين آل علي، ط الدار التونسية 1972م، وهي رسائل متنوعة كتبها للملوك والوزراء والأمراء والفقهاء، وغالبها مما كتبه آخر عمره، ولها أهمية كبرى في معرفة آراء وأحوال الغزالي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 وهناك كتب أخرى للغزال، قد يقع التردد كثيراً في نسبة بعضها إليه ومع ذلك فما سبق ذكره منها يمثل فكر وعقيدة الغزالي، وهي كتب تجمع بين المذهب الأشعري، والتصوف، والفلسفة. منهج الغزالي ودوره في تطور المذهب الأشعري: هذا الموضوع بحاجة إلى دراسات مستقلة، وقد كتبت حوله بحوث ودراسات عديدة تشعبت بأصحابها المناهج والنتائج (1) ، ولضيق المقام هنا نشير إلى الملاحظات التالية: أولاً: يعتبر الغزالي أحد أعلام الأشاعرة والذين دافعوا عن المذهب الأشعري ضد مناوئيه من مختلق الطوائف، ولذلك سمي أحد أشهر كتبه الأشعرية بالاقتصاد في الاعتقاد ليكون مقتصداً ووسطاً كما يقول بين الحشوية من جهة والمعتزلة والفلاسفة من جهة أخرى (2) ، والغزالي لم يأتِ بجديد فيما يتعلق بمذهب الأشاعرة، بل جاءت كتبه واستدلالاته ملخصة عمن سبقه من أعلام الأشاعرة مع صياغة جديدة وأسلوب سهل، والملاحظ في مذهبه تركيزه على: 1- قوله بصحة إيمان المقلد - خلافاً للمشهور من مذهب جمهور الأشاعرة - بل يرى أن فئات من الناس آمنوا بالله وصدقوا برسله واعتقدوا الحق واشتغلوا بالعبادة أو الصناعة " فهؤلاء ينبغي أن يتركوا وما هم عليه، ولا تحرك عقائدهم بالاستحثاث على تعلم هذا العلم [أي علم الكلام بأدلته] ، فإن صاحب الشرع صلوات الله عليه لم يطالب العرب في مخاطبته إياهم بأكثر   (1) منها على سبيل المثال: الأخلاق عند الغزالي، زكي مبارك، والحقيقة في نظر الغزالي، سليمان دنيا، والفيلسوف الغزال، إعادة تقويم لمنحني تطويره الروحي، عبد الأمير الأعسم، والغزالي: البارون كارادوفو، ترجمة عادل زعيتر= =ومنهج البحث عن المعرفة عند الغزال، فكتور سعيد باسيل، ومنهاج البحث عند الغزالي، عادل زعبوب، ومفهوم السببية عند الغزالي، أبو يعرب المرزوقي، وهناك دراسة مهمة عن الغزالي لحسام الألوسي، نشر فصلاً منها في كتابه دراسات في الفكر الفلسفي الإسلامي وعنوانه: الغزالي مشكل وحل، والمنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارات محمود زقزوق، وغيرها كثير جداً. (2) انظر: الاقتصاد في الاعتقاد (ص: 3) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 من التصديق، ولم يفرق بين أن يكون ذلك بإيمان وعقد تقليدي أو بيقين برهاني " (1) ، وفي الأربعين يقول بعد ذكره عشرة أصول على وفق مذهب الأشاعرة: " ووراء هذه العقيدة الظاهرة رتبتان: إحدهما: معرفة أدلة هذه العقيدة الظاهرة من غير خوض على أسرارها، والثانية: معرفة أسرارها، ولباب معانيها، وحقيقة ظواهرها والرتبتان جميعاً ليستا واجبتين على جميع العوام، أعني أن نجاتهم في الآخرى غير موقوفة عليهما، ولا فوزهم موقوف عليهما " (2) ، وكتاب الأربعين من كتب الغزالي المتأخرة التي جمعت بين إيضاح المذهب الأشعري مع آرائه الأخيرة في مسائل التصوف والكشف والذوق. 2- تأكيده لإنكار السببية، وهي مسألة مشهورة في المذهب الأشعري، وقد قال بها الأشاعرة وأكدوها لأمرين: الأول: إثبات المعجزات، التي هي في الحقيقة خوارق للعادات المعهودة، فحتى تربط هذه المعجزات بالله وقدرته بحيث يقلب العصا حيّة، ويشق القمر وغيرها من الأمور الخارقة لابد من ربط هذا بإنكار التلازم الذي يدعيه الفلاسفة وغيرهم بين السبب والمسبب (3) . والثاني: إثبات قدرة الله الشاملة، وإبطال التولد الذي قال به المعتزلة، فالفاعل والخالق لكل شيء هو الله تعالى وهذا بناء على مذهبهم في القدر الذي يميل إلى الجبر (4) . وقد شرح الغزالي هذه النظرية في معرض رده على الفلاسفة، وأطال   (1) الاقتصاد في الاعتقاد (ص: 8) . (2) الأربعين في أصول الدين (ص: 20) . (3) انظر: تجديد في المذاهب الفلسفية والكلامية (ص: 104) ، وكلامه مبني على كلام الغزالي في التهافت (ص: 236) . (4) انظر: تهافت الفلاسفة (ص: 238-251) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 فيها (1) ، فلما ألف معيار العلم - وهو متأخر عن مقاصد الفلاسفة والتهافت - ذكر دليل المجريات - كجزء من الأدلة اليقينية الصادقة (2) - قال: " فإن قال قائل: كيف تعتقدون هذا يقيناً، والمتكلمون شكوا فيه وقالوا: ليس الجز سبباً للموت، ولا الأكل سبباً للشبع، ولا النار علة للإحراق، ولكن الله تعالى يخلق الاحتارق والموت والشبع عند جريان هذه الأمور؟ قلنا: قد نبهنا على غور هذا الفصل وحقيقته في كتاب " تهافت الفلاسفة " والقدر المحتاج إليه الآن، إن المتكلم إذا أخبره بأن ولده جزت رقبته لم يشك في موته وليس في العقلاء من يشك فيه، وهو معترف بحصول الموت، وباحث عن وجه الاقتران، وأما النظر في أنه هل لزوم ضروري، ليس في الإمكان تغييره؟ أو هو يحكم جريان سنة الله تعالى لنفوذ مشيئته الأزلية التي لا تحتمل التبديل والتغيير، فهو نظر في وجه الاقتران، لا في نفس الاقتران، فليفهم هذا، وليعلم أن التشكك في موت من جزت رقبته وسواس مجرد، وأن اعتقاد موته يقين لا يستراب فيه " (3) ،وفي التهافت قال في جواب اعتراض " ولم ندع أن هذه الأمور واجبة، بل هي ممكنة، يجوز أن تقع، ويجوز أن لا تقع، واستمرار العادة بها، مرة بعد أخرى، يرسخ في أذهاننا جريانها على وفق العادة الماضية ترسيخاً لا تنفك منه " (4) ، وهذا النصوص تدل على أن فهم الغزالي للسببية ليس كما يتصوره بعض من ينتصر للفلسفة اليونانية (5) ، وليس أيضاً كما فهمه بعض أتباع الأشاعرة الذين أخذوا يشككون في حقائق الأشياء حتى إن بعضهم يقول: هذا ثوب إن شاء الله، ومع ذلك فالغزالي وإن استدرك على نفسه ما يبعد عنها تهمة إنكار السببية (6) ، إلا أن تأصيل هذه النظرية وشرحها كان له -   (1) انظر: تهافت الفلاسفة (ص: 235) ، وما بعدها. (2) انظر: معيار العلم (ص: 186) ، - ت سليمان دنيا -. (3) معيار العلم (ص: 190-191) . (4) تهافت الفلاسفة (ص: 245) .. (5) كابن رشد انظر: تهافت التهافت (ص: 777-788) ، وانظر: مفهوم السببية عند الغزالي للمرزوقي (ص: 51-67) ، وانظر: ابن رشد والغزالي، التهافتان ليو حنا قنبر (ص: 31) . (6) انظر: المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت (ص: 181-188) ، وتاريخ الفلسفة في الإسلام دي بور (ص: 338-339) ، تعليقات المترجم - ط الخامسة-. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 على ما أظن - تأثير كبير في الفكر الصوفي - بعد الغزالي - حين أصبحت الكرامات والخوارق المزعومة للأولياء مقبولة مهما كان فيها من مخالفة للشرع والعقل. 3- مجيئه بقانون التأويل الكلامي حين يتعارض - وبالأصح حين يتوهم التعارض - بين العقل والنقل، والغزالي وإن كان مسبوقاً إلى هذا القانون (1) ، إلا أنه ألف فيه رسالة مستقلة كانت على إثر أسئلة سألها أحد تلاميذه (2) ، وفي هذه الرسالة ذكر فرق الناس في هذه المسألة، ورجح قول الفرقة الخامسة التي قال عنها " هي الفرقة المتوسطة الجامعة بين البحث عن المعقول والمنقول الجاعلة كل واحد منهما أصلاً مهماً، المنكرة لتعارض العقل والشرع، وكونه حقاً، ومن كذب العقل فقد كذب الشرع إذ بالعقل عرف صدق الشرع، ولولا صدق دليل العقل لما عرفنا الفرق بين النبي والمتنبي، والصادق والكاذب، وكيف يكذب العقل بالشرع، وما ثبت الشرع إلا بالعقل، وهؤلاء هم الفرقة المحقة، وقد نهجوا منهجاً قويماً.." (3) ، وبعد أن يذكر صعوبة هذا المسلك أوصى بعدة وصايا منها: " الوصية الثانية أن لا يكذب برهان العقل أصلاً، فإن العقل لا يكذب، ولو كذب العقل فلعله كذب في إثبات الشرع، فكيف يعرف صدق الشاهد بتزكية المزكي الكاذب، والشرع شاهد بالتفاصيل، والعقل مزكي الشرع" (4) ، وقد تأثر بهذا القانون جمهرة الأشاعرة بعد الغزالي، ومن   (1) من الفلاسفة ابن سينا، حيث يقول في الأضحوية في المعاد: " أما أمر الشرع فينبغي أن يعلم فيه قانون واحد وهو أن الشرع والملل الآتية على لسان نبي من الأنبياء يرام بها خطاب الجمهور كافة" (الأضحوية ص: 97 ت حسن عاصي) ، ومن المتكلمين الجويني في الإرشاد، انظر: (ص: 358-360) . (2) وهو أبو بكر بن العربي، وفي المعيار المعرب (11/23-24) ، نقل نص جواب للغزالي على أحد أسئلة ابن العربي وهذا النص أخّر قانون التأويل للغزالي (ص: 345-346) ، وممن نبه إلى أن السائل ابن العربي ابن تيمية في الدرء (1/5) وانظر: الدراسة الواردة في مقدمة تحقيق قانون التأويل لابن العربي (ص: 244) . (3) قانون التأويل للغزالي (ص: 238-239) ، - ط في ذيل معارج القدس - مكتبة الجندي. (4) قانون التأويل للغزالي (ص: 240) .. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 أبرزهم تلميذه، أبو بكر بن العربي (1) ، والرازي (2) ، وغيرهم، وهذا القانون أصبح فيما بعد أحد ركائز العقيدة الأشعرية وأخطرها وأعظمها أثراً، ولذلك أفرده شيخ الإسلام ابن تيمية بمؤلفه الكبير " درء تعارض العقل والنقل ". 4- ومن أهم سمات منهج الغزالي أنه حول المعركة - التي كانت تدور فيما سبق بين الأشاعرة والمعتزلة - إلى معركة بين الأشاعرة والفلاسفة، وكتاب تهافت الفلاسفة يعتبره الأشاعرة بدءاً من الغزالي نفسه أحد الكتب المؤيدة لمذهبهم، وقد ألفه الغزالي في المرحلة التي كان فيها أستاذ المدرسة النظامية -الأشعرية- دون منازع (3) ، والذي ينبغي أن يلاحظ أمران: أحدهما: أن الغزالي ناقش الفلاسفة بمختلف المناهج، ولذلك قال في المقدمة الثالثة في كتابه: " ليعلم أن المقصود تنبيه من حسن اعتقاده في الفلاسفة، وظن أن مسالكهم نقية من التناقض، ببيان وجوه تهافتهم، فلذلك أنا لا أدخل في الاعتراض عليهم إلا دخول مطالب منكر، لا دخول مدع مثبت، فأبطل عليهم ما اعتقدوه مقطوعاً بإلزامات مختلفة، فإلزامهم تارة مذهب المعتزلة، وأخرى مذهب الكرامية، وطوراً مذهب الواقفية، ولا أتنهض ذاباً عن مذهب مخصوص، بل أجعل الجميع ألباً واحداً عليهم، فإن سائر الفرق ربما خالفونا في التفصيل، وهؤلاء يتعرضون لأصول الدين، فلنتظاهر عليهم فعند الشدائد تذهب الأحقاد " (4) ، ومع ذلك فالغزالي غلب منهج الأشاعرة، واستفاد من منهجه السابق في الهروب من تحديد مذهبه الذي يؤمن به في القضايا المطروحة ولذلك قال في جواب أحد الاعتراضات عليه: " نقول: نحن لم نخض في هذا   (1) انظر: كتابه قانون التأويل (ص: 452-576-646) ، وانظر: كتاب مع القاضي أبي بكر ابن العربي سعيد اعراب (ص: 43) . (2) انظر: أساس التقديس للرازي (ص: 220-221) ، - ت السقا - و (ص:172-173) ، - ط الحلبي -. (3) ولذلك قرر في كتابه التهافت مذهب الأشاعرة مثل قضية السببية، ومثل مسألة تأويل الصفات. انظر: (ص: 293) . (4) تهافت الفلاسفة (ص: 82-83) ، - ت سليمان دنيا -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 الكتاب خوض الممهدين، بل خوض الهادمين المعترضين، ولذلك سمينا الكتاب " تهافت الفلاسفة " لا تمهيداً لحق، فليس يلزمنا الجواب عن هذا" (1) . والثاني: أن الغزالي ألف هذا الكتاب بعد دراسته للفلسفة ليستفيد منها ولا شك أنه تأثر بها أيما تأثر، أما رده عليها فبناء على العقيدة التي يظهرها للعوام -كما هو مذهبه في أن للإنسيان ثلاث عقائد - ولذلك قال في مقدمة التهافت بعد ذكره لانتشار أقوال الفلاسفة وإعجابهم بأنفسهم: " فلما رأيت هذا العرق من الحماقة نابضاً على هؤلاء الأغبياء انتدبت لتحرير هذا الكتاب، رداً على الفلاسفة القدماء " (2) ، وهذا يشبه موقفه من الباطنية -الذين انتشرت دعوتهم في زمنه انتشاراً عظيماً - يقول عنهم: " وكان قد نبغت نابغة التعليمية، وشاع بين الخلق تحدثهم بمعرفة معنى الأمور من جهة الإمام المعصوم القائم بالحق، فعن لي أن أبحث في مقالاتهم، لأطلع على ما في كنانتهم، ثم اتفق أن ورد على أمر جازم من حضرة الخلافة بتصنيف كتاب يكشف حقيقة مذهبهم، فلم يسعني مدافعته " (3) ، ثم بين أن هذا الأمر جاء موافقاً لما في نفسه من معرفة مذهبهم - ليستفيد منه - فقال: " وصار ذلك مستحثاً من خارج ضميمة للباعث الأصلي من الباطن " (4) ، وهذا يوافق قوله في فضائح الباطنية: " فكانت المفاتحة بالاستخدام في هذا المهم في الظاهر نعمة أجابت قبل الدعاء، ولبت قبل النداء، وإن كانت في الحقيقة ضالة كنت أنشدها، وبغية كنت أقصدها" (5) . فدراسة الغزالي لمذهب الباطنية جاء عن رغبة باطنة في الاستفادة مما قد يكون عندهم من معارف، وهذا يشبه ما فعله مع الفلاسفة، ومما يلاحظ أنه في رده على الباطنية انطلق من منطلق أشعري، وهذا واضح في كتابيه فضائح   (1) تهافت الفلاسفة (ص:180) . (2) المصدر نفسه (ص:75) . (3) المنقذ من الضلال (ص: 118) ، - ت صليبا وعياد - والكتاب الذي ألفه: فضائح الباطنية انظره: (ص: 2-3) . (4) المنقذ من الضلال (ص: 118) . (5) فضائح الباطنية (ص: 3) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 الباطنية (1) ، والقسطاس المستقيم (2) - الذي هو عبارة عن مناقشة ومحاورة بينه وبين أحد دعاة التعليم من الباطنية -، وهو بهذا الكتاب يحيل على كتابيه المنطقيين " محك النظر" و " معيار العلم" (3) . فالغزالي ينطلق في ذلك من منطلق عقيدة العوام التي هي عقيدة الأشاعرة، ولذلك يقول في جواهر القرآن عن علم محاجة الكفار ومجادلتهم: " ومنه يتشعب علم الكلام المقصود لرد الضلالات والبدع وإزالة الشبهات، ويتكفل به المتكلمون، وهذا العلم شرحناه على طبقتين: سمينا الطبقة القريبة منهما الرسالة القدسية، والطبقة التي فوقها الاقتصاد في الاعتقاد، ومقصود هذا العلم حراسة عقيدة العوام من تشويش المبتدعة، ولا يكون هذا العلم ملياً (4) بكشف الحقائق، وبجنسه يتعلق الكتاب الذي صنفناه في تهافت الفلاسفة، والذي أوردناه في الرد على الباطنية في الكتاب الملقب بالمستظهري وفي كتاب حجة الحق، وقواصم الباطنية، وكتاب مفصل الخلاف في أصول الدين، ولهذا العلم آلة يعرف بها طريق المجادلة، بل طرق المحاجة بالبرهان الحقيقي، وقد أودعناه كتاب " محك النظر "، وكتاب معيار العلم على وجه لا يلفي مثله للفقهاء والمتكلمين ولا يثق بحقيقة الحجة والشبهة من لم يحظ بهما علماً" (5) . ثانياً: هناك مشكلة تتعلق بحقيقة مذهب الغزالي، هل هو المذهب الأشعري الذي تبناه ظاهراً ودافع عنه كثيراً (6) ، أم له مذهب آخر يذكره   (1) انظر: - من هذا الكتاب - (ص: 154) حول تأويل الصفات. (2) بنى الغزالي كتابه هذا على المنطق، وغير في الألفاظ فقط حيث أتى بألفاظ من القرآن، وقد اعترف بذلك (ص: 67) ، بل وصرح أنه قد قال بهذه الموازين من سبقه من الأمم الخالية، أما منطلقه الأشعري فواضح انظر: (ص: 55-56) حيث أشار إلى دليل حدوث الأجسام وفسر به الأفوال في قصة إبراهيم عليه السلام، (ص: 94-95) ، مسألة الصلاح والأصلح. (3) انظر: القسطاس المستقيم (ص: 71-75) . (4) كذا، ومثله في -ط الجندي - (ص: 24) ، ولعل صوابها: مليئاً، أو ملماً. (5) جواهر القرآن (ص: 21) . (6) انظر في أسباب تبنيه للمذهب الأشعري، منهج البحث عن المعرفة عند الغزالي، فكتور سعيد باسل (ص: 237-239) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 632 لخاصته وأومأ إليه في كثير من كتبه؟ يقول الغزالي في كتابه ميزان العمل الذي ألفه بعد معيار العلم، لأن السعادة عنده إنما تكون بالعلم والعمل (1) - ميزان العمل من كتب الغزالي الصوفية - يقول في آخره: " لعلك تقول: كلامك في هذا الكتاب انقسم إلى ما يطابق مذهب الصوفية، وإلى ما يطابق مذهب الأشعرية وبعض المتكلمين، ولا يفهم الكلام إلا على مذهب واحد، فما الحق من هذه المذاهب؟ فإن كان الكل حقاً فكيف يتصور هذا؟ وإن كان بعضه حقاً فما ذلك الحق؟ فيقال لك: إذا عرفت حقيقة المذهب لا تنفعك قط، إذ الناس فيه فريقان: فريق يقول: المذهب اسم مشترك لثلاث مراتب: أحدهما: ما يتعصب له في المباهاة والمناظرات. والأخرى: ما يسار به في التعليمات والإرشادات. والثالثة: ما يعتقده الإنسان في نفسه مما انكشف له من النظريات". ثم شرح هذه المراتب بقوله: " ولكل كامل ثلاثة مذاهب بهذا الاعتبار: فأما المذهب بالاعتبار الأول: هو نمط الآباء والأجداد، ومذهب المعلم، ومذهب البلد الذي فيه النشوء، وذلك يختلف بالبلاد والأقطار، ويختلف بالمعلمين، فمن ولد في بلد المعتزلة أو الأشعرية أو الشفعوية أو الحنفية، انغرس في نفسه منذ صباه التعصب له، والذب دونه، والذم لما سواه ... المذهب الثاني: ما ينطبق في الإرشاد والتعليم على من جاء مستفيداً مسترشداً، وهذا لا يتعين على وجه واحد بل يختلف بحسب المسترشد، فيناظر كل مسترشد بما يحتمله فهمه.. المذهب الثالث: ما يعتقد الرجل سراً بينه وبين الله عزوجل لا يطلع عليه غير الله تعالى ولا يذكره إلا مع من هو شريكه في الإطلاع على ما اطلع، أو بلغ رتبة يقبل الاطلاع عليه ويفهمه " (2) ، ثم ذكر قول الفريق الثاني الذين   (1) انظر: معيار العلم (ص: 348) ، آخر الكتاب. (2) ميزان العمل (ص: 405-408) ، - ت سليمان دنيا -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 يقولون المذهب واحد، ثم ذكر أن الأولين يوافقون هؤلاء على أنهم لو سئلوا عن المذهب لم يجز أن يذكروا إلا مذهباً واحداً (1) . إن هذا الكلام يفيد في معرفة وتحليل ذلك التناقض العجيب في كتبه. ثالثاً: الشك عند الغزالي. وقد احتلت هذه المسألة مكاناً بارزاً لدارسي الغزالي، بل وكثرت المقارانات بينه وبين ديكارت (2) ، صاحب الفلسفة المعروفة التي قال فيها: " أنا أفكر، إذن فأنا موجود " (3) ، بل أثبت أحد الباحثين أن ديكارت قد اطلع على كتاب الغزالي "المنقذ من الضلال" وأنه اقتبس منه فكرة الشك (4) ، والكلام حول شك الغزالي وكنهه وإلى أي مدى كان يطول، ولكن الثابت أن منهج الشك عند الغزالي تمثل في أمرين: أحدهما: عملي، وهو ما عايشه وسطره بوضوح في كتابه المنقذ من الضلال (5) ، ويلاحظ هنا أن الغزالي يشرح ما جرى له، ولذلك سماه داءً ومرضاً.   (1) انظر: ميزان العمل (ص: 408-409) . (2) اسمه رينه ديكارت، فيلسوف فرنسي ولد سنة 1596م، وتوفي سنة 1650، يعرف بأنه أبو الفلسفة الحديثة، من أهم كتبه: مقال عن المنهج، وتأملات في الفلسفة الأولى، وهما مترجمان ومطبوعان، انظر: في فلسفته وترجمته: أعلام الفلسفة الحديثة، رفقي زاهر (ص: 43) ، وقصة الفلسفة الحديثة (1/65) ، وتاريخ الفلسفة الحديثة: يوسف كرم (ص:58) . (3) مقال عن المنهج لديكارت (ص: 51) ، ترجمة محمود الخضيري، وانظر أيضاً: كتابه الآخر: التأملات في الفلسفة الأولى (ص: 93) ، وما بعدها ترجمة عثمان أمين، وانظر: ديكارت والعقلانية: جنفياف لويس (ص: 37) ، ترجمة عبده الحلو، ودراسات في الفلسفة الحديثة والمعاصرة يحيى هويدي (ص: 5) ، وما بعدها. (4) انظر: المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت (ص: 17-20) - ط الثالثة -. (5) انظر: المنقذ (ص: 81-87) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 634 والثاني: شك منهجي، وهو الذي أشار إليه في بعض كتبه، ومن ذلك قوله: " ولو لم يكن في مجاري هذه الكلمات إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث، لتنتدب للطلب، فناهيك به نفعاً، إذ الشكوك هي الموصلة إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال، نعوذ بالله من ذلك " (1) ، وهذا الشك هو الذي يذكر في أول واجب على المكلف، هل هو النظر أو القصد إلى النظر أو الشك، وإذا كان الأول والثاني قد أخذ به بعض الأشاعرة فإن الثالث - وهو الشك- إنما يؤثر القول به عن أبي هاشم الجبائي المعتزلي (2) . رابعاً: تصوف الغزالي وفلسفته. بقدر اشتهار الغزالي بأشعريته، اشتهر بتصوفه، ولذلك فهو يمثل مرحلة خطيرة من مراحل امتزاج التصوف بالمذهب الأشعري حتى كاد أن يكون جزءاً منه، ولكن ما نوعية التصوف الذي اعتنقه الغزالي بقوة حتى قال فيه في المنقذ - بعد شرح مطول لمحنته ورحلته وعزلته -: " ودمت على ذلك مقدار عشر سنين، وانكشفت لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، والقدر الذي أذكره لينتفع به: إني علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطريق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء، وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئاً من سيرهم وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلاً، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم، في ظاهرهم وباطنهم، مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به " ثم يشرح ويوضح فيقول:   (1) ميزان العمل للغزالي (ص:153) ، - ت البواب -، وانظر: الإمام الغزالي وعلاقة اليقين بالعقل للفيومي (ص: 107) . (2) انظر: الشامل (ص: 121) ، وأبكار الأفكار (ج- 1 - ل31 أ) ، وشرح المواقف (1/278) ، ودرء التعارض (7/419) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 635 " وبالجملة فماذا يقول القائلون في طريقة طهارتها - وهي أول شروطها - تطهير القلب بالكلية عما سوى الله تعالى، ومفتاحها الجاري منها مجرى التحريم من الصلاة، استغراق القلب بالكلية بذكر الله، وآخرها الفناء بالكلية في الله؟ وهذا آخرها، بالإضافة إلى ما يكاد يدخل تحت الاختيار والكسب من أوائلها، وهي على التحقيق أول الطريقة، وما قبل ذلك إلا كالدهليز للسالك إليه " - ثم يوضح أكثر فيقول: " ومن أول الطريقة تبتدي المكاشفات والمشاهدات حتى أنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة، وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتاً، ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق، فلا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز منه.." (1) ، ما نوع تصوف الغزالي الذي يقول فيه هذا الكلام - خاصة المقطع الأخير منه -؟. لقد كان التصوف قبله متمثلاً بتصوف المحاسبي، ثم القشيري، وقد سبق حقيقة تصوفهما، وما يحمله من بدع مخالفة للسنة، فهل كان تصوف الغزالي من هذا النوع، أم كان تصوفاً من نوع آخر. إن هناك من يدافع عن الغزالي، ويرى أن تصوفه تصوف سني، وأنه هاجم الفلاسفة والمتكلمين لنصرة طريق الصوفية (2) ، ولكن المطلع على كتبه - وما ألفه منها للخاصة - كمشكاة الأنوار، والمعارف العقلية، وميزان العمل، ومعارج القدس، وروضة الطالبين، والمقصد الأسني، وجواهر القرآن، والمضنون به على غير أهله، يرى شيئاً آخر غير التصوف المعروف.   (1) المنقذ من الضلال (ص: 139-140) . (2) مثل عبد الحليم محمود وتلامذته، انظر: مقدمات تحقيق المنقذ من الضلال، عبد الحليم محمود (ص: 17) ، وما بعدها، (ص: 58) ، وما بعدها، وانظر: التوحيد الخالص أو الإسلام والعقل، عبد الحليلم محمود (ص: 174-179) ، وانظر: الفلسفة الإسلامية بين التقليد والابتكار: عبد الرحمن عميرة (ص: 48) ، وما بعدها، والإمام الغزالي وعلاقة اليقين بالشك (ص: 177) ، وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 إن مفتاح معرفة شخصية الغزالي أمران: أولهما: ما سبق نقله عنه من أن لكل رجل كامل ثلاث عقائد، إحداها ما يتظاهر به أمام العوام ويتعصب، والثانية: ما يسار به في التعليم والإرشاد - وهو يختلف بحسب حال المسترشد الطالب -،والثالثة: ما يعتقده الإنسان في نفسه ولا يطلع عليه إلا من هو شريكه في المعرفة، إذن الغزالي -حتماً - يخفي جوانب خاصة وسرية من عقيدته. والثاني: جمع أقواله ولمحاته - التي يشير دائماً إلى سريتها والضن بها - ثم مقارنتها بأقوال من سبقه من الفلاسفة - المائلين إلى الإشراق والتصوف - كابن سينا وغيره، وقد تنبه إلى هذا المنهج بعض الباحثين (1) ، ونحن هنا نذكر نماذج فقط من أقواله التي تدل على أن تصوفه كان تصوفاً فلسفياً إشراقياً، وإن هجومه على الفلاسفة في التهافت لم يكن إلا بمنهج النوع الأول من العقيدة -لكل إنسان - وهي العقيدة التي يتعصب لها ويذب عنها: 1- يقول الغزالي في كتابه: إحياء علوم الدين عن علم المكاشفة: " هو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة، وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة كان يسمع من قبل أسماءها، فيتوهم لها معاني مجملة غير متضحة، فتتضح إذ ذلك، حتى تحصل المعرفة الحقيقة بذات الله سبحانه، وبصفاته الباقيات التامات، وبأفعاله وبحكمه في خلق الدنيا والآخرة، ووجه ترتيبه للآخرة على الدنيا، والمعرفة بمعنى النبوة والنبي، ومعنى الوحي، ومعنى الشيطان، ومعنى لفظ الملائكة والشياطين، وكيفية معاداة الشياطين للإنسان، وكيفية ظهور الملك للأنبياء، وكيفية وصول الوحي إليهم، والمعرفة بملكوت السموات والأرض..الخ" ثم يقول عن هذه الكشوفات التي تحصل: " وهذه هي العلوم التي لا تسطر في الكتب، ولا يتحدث بها   (1) من هؤلاء سليمان دنيا في كتابه: الحقيقة في نظر الغزالي (ص:149) ، وما بعدها، وحسام الألوسي في كتابه عن الغزالي، انظر: دراسات (ص: 237) ، وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 من أنعم الله عليه بشيء منها إلا مع أهله، وهو المشارك فيه، علي سبيل المذاكرة، وبطريق الإسرار وهذا هو العلم الخفي ... " (1) ، إن هذا الكلام الخطير يقوله الغزالي في أهم وأشهر كتاب من كتبه، وقد ألفه في أواخر عمره بعد عزلته ورجوعه إلى بغداد، ومما يلاحظ أن لفتات كثيرة تشبه هذا الكلام جاءت متفرقة في هذا الكتاب الكبير (2) . 2- ويقول في كتابه مشكاة الأنوار وهو من كتبه التي ألفها للمخاصة ولذلك يقول في مقدمته: " أما بعد فقد سألتني أيها الأخ الكريم.. أن أثبت إليك أسرار الأنوار الإلهية، مقرونة بتأويل ما يشير إليه ظواهر الآيات المتلوة والأخبار المروية "، ثم يقول: " ولقد ارتقيت بسؤالك مرتقى صعباً تنخفض دون أعاليه أعين الناظرين، وقرعت باباً مغلقاً لا يفتح إلا للعلماء الراسخين، ثم ليس كل سر يكشف ويفشى، ولا كل حقيقة تعرض وتجلى، بل صدور الأحرار قبور الأسرار، ولقد قال بعض العارفين: إفشاء سر الربوبية كفر ... " (3) ، وبعد أن يذكر تأويلات باطنية وفلسفية عجيبة يقسم الناس - في آخر الكتاب - إلى أصناف، ومنهم المحجوبون بمحض الأنوار، وهؤلاء أيضاً أصناف وبعد أن يذكر الصنف الأول والثاني يقول: " والصنف الثالث ترقوا عن هؤلاء وقالوا: إن تحريك الأجسام بطريق المباشرة ينبغي أن يكون خدمة لرب العالمين، وعبادة له وطاعة من عبد من عباده يسمى: ملكاً، نسبته إلى الأنوار الإلهية المحضة نسبة القمر في الأنوار المحسوسة، فزعموا أن الرب هو المطاع من جهة هذا المحرك، ويكون الرب تعالى محركاً للكل بطريق الأمر، لا بطريق المباشرة، ثم في تقسيم ذلك الأمر وماهيته غموض يقصر عنه أكثر الأفهام ولا يحتمله هذا الكتاب"، ثم يقول: " فهؤلاء الأصناف كلهم محجوبون بالأنوار المحضة، وإنما الواصلون صنف رابع تجلى لهم أن هذا " المطاع " موصوف بصفة   (1) إحياء علوم الدين (1/20-21) . (2) انظر على سبيل المثال: (1/100،104، 4/241) . (3) مشكاة الأنوار (ص:39) ، - ت أبو العلا عفيفي-. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 638 تنافي الوحدانية المحضة والكمال البالغ لسر لا يحتمل هذا الكتاب كشفه، وإن نسبة هذا المطاع نسبة الشمس في الأنوار ... " (1) ، وهذا المطاع هو العقل الأول عند الفلاسفة (2) . 3- وفي معارج القدس - وهو من كتبه الفلسفية الخاصة - ينهج فيه نهج الفلاسفة في بحوثهم عن النفس الإنسانية، ويذكر خصائص النبوة، وأنها ثلاث: قوة التخيل وقوة العقل، وقوة النفس (3) - وهذا نفسه هو كلام الفلاسفة الذين يقولون: إن النبوة مكتسبة -، ويفسر الغزالي آية النور {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ} (النور:35) ، بقوله: " فالمشكاة مثل العقل الهيولاني، فكما أن المشكاة مستعدة لأن يوضع فيها النور فكذلك النفس بالفطرة مستعدة لأن يفيض عليها نور العقل ... ثم إذا حصلت له المعقولات فهو نور على نور، نور العقل المستفاد على نور العقل الفطري، ثم هذه الأنوار مستفادة من سبب هذه الأنوار بالنسبة إليه كالسرج بالنسبة إلى نار عظيمة طبقت الأرض، فتلك النار هي العقل الفعال المفيض لأنوار المعقولات على الأنفس البشرية " (4) ، وهذا لا يحتاج إلى تعليق، ومنها يتضح ما يقصده الغزالي بالأسرار، والتي يقول فيها في كتابه المعارف العقلية: " وهذا القدر الذي كتبنا وذكرنا في هذه الأوراق نخبة أسرار غير مكتوبة، وإشارات مكنونة ورموز مستورة.. ولا يحل أن يوضع الورد بين الحمير، ويطرح الدر في فم الخنزير" (5) ، وقد صرح في كتابه هذا بأمور غريبة وعجيبة حقاً (6) . 4- ويقول الغزالي في كتابه - جواهر القرآن - " وهذه العلوم الأربعة أعني علم الذات والصفات والأفعال وعلم المعاد أودعنا من أوائله ومجامعه القدر   (1) مشكاة الأنوار (ص: 91) ، وانظر: رسائل الغزالي (ص:54-55) . (2) انظر: دراسات في الفكر الفلسفي، الألوسي (ص: 248) . (3) انظر: معارج القدس في مدارج معرفة النفس (ص: 151) ، -ط مكتبة الجندي -. (4) معارج القدس في مدارج معرفة النفس (ص: 164-165) . (5) المعارف العقلية (ص: 108-109) ،- ت عبد الكريم العثمان -. (6) انظر: المصدر السابق (ص: 27-34، 66، 70) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 639 الذي رزقنا منه مع قصر العمر وكثرة الشواغل والآفات وقلة الأعوان والرفقاء بعض التصانيف، لكنا لم نظهره، فإنه يكل عنه أكثر الأفهام، ويستضر به الضعفاء، وهم أكثر المترسمين بالعلم، بل لا يصلح إظهاره إلا على من اتقن علم الظاهر، وسلك في قمع الصفات المذمومة من النفس وطرق المجاهدة حتى ارتضت نفسه واستقامت على سواء السبيل "، ثم يقول محذراً: " وحرام على من يقع ذلك الكتاب بيده أن يظهره إلا على من استجمع هذه الصفات " (1) . وفي إلجام العوام عن علم الكلام، مع أنه كتاب في المنع من علم الكلام أن يدرس للعامة إشارات عديدة إلى مثل هذه العلوم المستورة (2) . 5- وفي روضة الطالبين: يشرح بشكل واضح كيف تتم الكشوف، والعقبات التي تحول دونها، وهي ست عقبات، وماذا يحصل لكل من تجاوز عقبة من عقبات وكيف يصل إلى السكر والفناء (3) ، وفي كلامه عن الروح ولماذا منع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إفشاء سر الروح، قسم الناس إلى أعوام وخواص، ثم ذكر من ترقى عن العامية قليلاً من المعتزلة والأشعرية ثم قال: " فإن قيل لمَ لا يجوز كشف السر مع هؤلاء؟ فيقال: لأنهم أحالوا أن تكون هذه الصفة لغير الله تعالى، فإذا ذكرت هذا معهم كفروك، وقالوا هذا تشبيه لأنك تصف نفسك بما هو صفة الإله تعالى على الخصوص " (4) ، والغزالي في " المقصد الأسني " وإن رد على الاتحادية أو أصحاب وحدة الوجود (5) ، إلا أنه ذكر أموراً فلسفية وأشار إلى سريتها، فصرح بأن الله معشوق - كما يقوله الفلاسفة (6) - ولما أشار إلى أبدية الإنسان وأنه لا سبيل عليه للعدم قال: " وكشف ذلك بالحقيقة مما لا يحتمله هذا الكتاب " (7) .   (1) جواهر القرآن (ص: 25) - ط دار الآفاق الجديدة -. (2) انظر: إلجام العوام عن علم الكلام (ص: 60، 70) - ط دار الكتاب العربي -. (3) انظر: روضة الطالبين (ص: 8-13) . (4) روضة: الطالبين (ص: 69) . (5) انظر: المقصد الأسني (ص: 128-152-156) - عناية بسام الجابي -. (6) انظر: المصدر السابق (ص: 116) . (7) انظر: المصدر نفسه (ص: 124) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 640 6- وهذا الذي ذكره الغزالي في كتبه هو ما يؤكده تلاميذه ومنهم ابن العربي الذي يقول عنه -بعد أن لقيه وتتلمذ عليه - " ولا ينكر أحد من الإسلاميين، لا من الفقهاء، ولا من المتكلمين، أن صفاء القلب وطهارته مقصود شرعي، إنما المستنكر أن صفاءه يوجب تجلي العلوم فيه بذته " (1) ، ثم يقول - بعد ذكر الطائفة الثانية من المتصوفة كالمحاسبي والقشيري -: " ونجمت في آثارهما أمم انتسبت إلى الصوفية، وكان منها من غلا وطفف، وكاد الشريعة وحرف، وقالوا - كما تقدم - لا ينال العلم إلا بطهارة النفس، وتزكية القلب، وقطع العلائق بينه وبين البدن، وحسم مواد أسباب الدنيا من الجاه والمال، والخلطة بالجنس، والإقبال على الله بالكلية، علماً دائماً مستمراً حتى تنكشف له الغيوب، فيرى الملائكة ويسمع أقوالها، ويطلع على أرواح الأنبياء ويسمع كلامهم، ووراء هذا علو ينتهي بمشاهدة الله، يدخلونه في باب الكرامات إذ كان من المجوزات "، ثم قال: " ولقد فاوضت فيها أبا حامد الغزالي حين لقائي له بمدينة السلام في جمادى الآخر سنة تسعين وأربعمائة، وقد كان راضَ نفسه بالطريقة الصوفية من سنة ست وثمانين ... فسألته سؤال المسترشد عن عقيدته المستكشف عن طريقته، لأقف من سر تلك الرموز التي أومأ إليها في كتبه، مرتبته، وسمو منزلته، وما ثبت له في النفوس من تكرمته؛ فقال لي من لفظه، وكتبه لي بخطه: إن القلب إذا تطهر عن علاقة البدن المحسوس، وتجرد للمعقول انكشفت الحقائق، وهذه أمور لا تدرك إلا بالتجربة لها عند أربابها، بالكون معهم والصحبة لهم، ويرشد إليه طريق من النظر وهو: أن القلب جوهر صقيل، مستعد لتجلي المعلومات فيه، عند مقابلتها عرياً عن الحجب، كالمرآة في ترائي المحسوسات عند زوال الحجب "، ثم يقول ابن العربي: " قال لي: وقد تقوى النفس، ويصفو القلب حتى يؤثر في العوالم، فإن للنفس قوة تأثيرية   (1) العواصم من القواصم (ص: 22-23) - ت عمار الطالبي -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 641 موجدة.. " (1) ، وهذه الأقوال موجودة في كتبه (2) ، وقد نقلنا ما يشبهها سابقاً. 7- ومن الأمور الخطيرة في مذهب الغزالي ميله إلى تأويل عذاب القبر، وعذاب النار ونعيم الجنة، بتأويلات قرمطية باطنية، حتى ذكر في المضنون به على غير أهله: أن نصوص النعيم " مما خوطب به جماعة يعظم ذلك في أعينهم، ويشتهونه غاية الشهوة " (3) ، ويقول: " والرحمة الإليهة ألقت بواسطة النبوة إلى كافة الخلق القدر الذي احتملته أفهامهم " (4) ، ولا يقول قائل: إن هذا في كتاب المضنون - وهو مشكوك في صحة نسبته إلى الغزالي - لأن الغزالي صرح بشيء من ذلك في كتابه الأربعين - الذي لا يشك أحد في نسبته إليه - فقال: " أما قولك: إن المشهور من عذاب القبر التألم بالنيران والعقارب والحيات، فهذا صحيح، وهوكذلك، ولكني أراك عاجزاً عن فهمه ودرك سره وحقيقته، إلا أني أنبهك على أنموذج منه تشويقاً لك إلى معرفة الحقائق، والتشمر للاستعداد لأمر الآخرة، فإنه نبأ عظيم أنتم عنه معرضون " (5) ، ثم يضرب مثالاً، ويؤوله ثم يقول: " لعلك تقول: قد أبدعت قولاً مخالفاً للمشهور، منكراً عند الجمهور، إن زعمت أن أنواع عذاب الآخرة يدرك بنور البصيرة والمشاهدة إدراكاً مجاوزاً حد تقليد الشرائع، فهل يمكنك -إن كان كذلك - حصر أصناف العذاب وتفاصيله؟ فاعلم أن مخالفتي للجمهور لا أنكره، وكيف تنكر مخالفة المسافر للجمهور، فإن الجمهور يستقرون في البلد الذي هو مسقط رؤوسهم، ومحل   (1) العواصم من القواصم (ص: 30-32) . (2) انظر مثلاً: مقاصد الفلاسفة (ص: 377) ، والعجيب أن ابن العربي - المالكي - تأثر بالغزالي في كتابه قانون التأويل، (ص: 470-479) ، وإن كان قد رد على الغزالي في ما يشبه هذه المسائل، انظر: قانون التأويل (ص: 498) ، وما بعدها (ص: 552) ، وانظر: الدراسة التي في أول الكتاب - للمحقق - (ص: 340-349) . (3) المضنون به على غير أهله (ص: 117) . (4) المصدر السابق (ص: 121) . (5) الأربعين (ص: 112) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 642 ولادتهم، وهو المنزل الأول من منازل وجودهم وإنما يسافر منهم الآحاد "، ثم يذكر كيف يترقى الإنسان حتى " يفتح له باب الملكوت فيشاهد الأرواح المجردة عن كسوة التلبيس، وغشاوة الأشكال، وهذا العالم لا نهاية له " (1) ، ولا شك أن مذهب الغزالي الفلسفي الصوفي قادة إلى مثل هذه التأويلات الخطيرة (2) - نعوذ بالله من الخذلان -. * ... ... * ... * هذا هو أبو حامد الغزالي - من خلال لمحات سريعة عن منهجه وعقيدته - الذي تأثر به من جاء بعده، ويمكن تلخيص هذا التأثير بما يلي: 1- التأكيد على إنكار السببية، فقد تأثر به من جاء بعده، دون الانتباه إلى تحفظاته التي أوردها. 2- تكريس قانون التأويل الكلامي في المذهب الأشعري، وقد جاءت صياغة هذا القانون بشكل مركز على يد الرازي. 3- تحويل المعركة من معركة مع المعتزلة - والفلاسفة من باب أولى - إلى معركة مع الفلاسفة، وهذا ما نشاهده لدى كثير من الأشاعرة لكنه هجوم من منطلق صوفي. 4- إنه لا مانع أن يحمل الإنسان أكثر من عقيدة - حسب الأحوال - وهذا ما نشاهد نموذجاً له عند الرازي، الذي ظهر في بعض كتبه فيلسوفاً وبعضها أشعرياً.   (1) الأربعين (ص: 215-216) .. (2) وأخطر منها ما ذكره في المضنون من الشركيات في " التقرب لمشاهدة الأنبياء والأئمة عليهم الصلاة والسلام، فإن المقصود منه: الزيارة والاستمداد من سؤال المغفرة وقضاء الحوائج من أرواح الأنبياء والأئمة " (ص: 121) ، وانظر ما بعدها: وفي رسائل الغزالي (ص:85) ، ذكر أنه نذر عند تربة الخليل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 643 5- نقله التصوف من التصوف المعروف قبله - على ما فيه من بدع تصغر أو تكبر -إلى تصوف فلسفي إشراقي، وإذا كان هذا المذهب جاء عند الغزالي على شكل عقيدة مخفية لا يصرح بها للعوام، فإن الأشاعرة من بعده صرحوا بتبنيهم للفلسفة- أحياناً - أو لبعض آراء الفلاسفة. 6- كما أن المنطق الأرسطي - بقي بعد الغزالي - على ما صرح به الغزالي من أنه آلة، وأنه لا علاقة له بالعقيدة. 7- وأخيراً بقي الغزالي - في كتابه الإحياء خاصة - مرجعاً يرجع إليه فئات كثيرة من الناس على مختلف مشاربهم وعقائدهم، لأن كلاً منهم يجد في هذا الكتاب ما يوافق هواه (1) .   (1) ومع ذلك فهناك جمهرة من العلماء المائلين إلى المذهب الأشعري ردوا على الغزالي في كتبه، خاصة الإحياء، كما ردوا عليه بسبب ميله إلى الفلاسفة، ومن هؤلاء: محمد بن علي بن حمدين المتوفى سنة 508 هـ، الذي اطلع على كتاب الإحياء فسعي إلى الأمير علي بن يوسف تاشفين فأمر بإحراقه، فتم ذلك في سنة 503هـ، بل وأصدر أمراً إلى سائر البلاد بالأمر وإحراقه، وقد ألف ابن حمدين كتاباً في الرد على الغزالي، انظر في ترجمته: (الصلة لابن بشكوال 2/570، وسير أعلام النبلاء 19/422) ، وفي مسألة الإحراق الحال الموشية ص: 104، (وسيأتي مصادر أخرى لقصة= =الإحراق في ترجمة ابن تومرت) ، ومن العلماء الذين ردوا على الغزالي: أبو بكر الطرطوشي المتوفى سنة 520هـ، حيث كتب رسالة حط فيها من الغزالي وبرر قصة إحراق كتابه، (انظر: هذه الرسالة في المعيار المعرب 12/186-187، وانظر سير أعلام النبلاء 19/490) ، ترجمة الطرطوشي، وفي (ص: 495) ، ذكر الذهبي عنه أنه قال عن إحياء علوم الدين: " وهو لعمرو الله أشبه شيء بإماتة علوم الدين"، ومن العلماء أيضاً: الإمام المازري المتوفى سنة 536هـ، الذي رد على الغزالي وألف كتاباً سماه: الكشف والإنباء عن كتاب الإحياء، وقال عن الغزالي: إنه: " قرأ علم الفلسفة قبل استبحاره في فن أصول الدين، فكسبته قراءة الفلسفة جراءة على المعاني، وتسهيلاً للهجوم على الحقائق "، ثم إن له عكوفاً على رسائل إخوان الصفا، وإنه يعول على كتب ابن سينا (انظر: طبقات السبكي 6/241، وانظر: كتاب: المازري، الفقيه والمتكلم وكتابه المعلم، لمحمد الشاذلي النيفر ص: 67 وما بعدها) ، ومنهم ابن صلاح كما في سير أعلام النبلاء 19/329، ومنهم القاضي عياض كما في السير أيضاً (19/327) ، ومنهم أبو بكر بن العربي كما سبقت الإشارة إلى ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 644 أعلام الأشاعرة في الفترة بين الغزالي والرازي : - ابن تومرت ت 524هـ. - أبو بكر بن العربي ت 534هـ. - الشهرستاني ت 548هـ. - ابن عساكر ت 571هـ. ليس المقصود استيفاء أعلام الأشاعرة في كل زمن، وإنما الغرض من هذا الفصل الإشارة إلى أشهر رجالهم الذي كان لهم أثر في المذهب الأشعري وتطوره، لذلك سنختصر الحديث عن هؤلاء، وإن كان كل واحد منهم قد يفرد ببحث مستقل. أما ابن تومرت (1) فشهرته جاءت كمؤسس لدولة الموحدين، التي قامت على أنقاض دولة المرابطين - التي كانت دولة سنية -، وحادثة إحراق كتب الغزالي، وعلى رأسها الإحياء - مشهورة (2) ، وسبب إحراقها ما حوته من تأويل وأقوال مخالفة لمذهب السلف، فلما جاء ابن تومرت- الذي ذكر أنه لقي بعض الأشاعرة في رحلته إلى المشرق ومنهم الغزالي (3) - وبدأ ثورته   (1) سبقت ترجمته (ص: 171) . (2) انظر في سنية دولة المرابطين: المعجب للمراكشي (ص: 255) ، وشذرات الذهب (4/71-72) ، وتاريخ فلسفة الإسلام في القارة الأفريقية (1/201-208) ، وعقيدة المرشدة: عبد الله كنون ضمن نصوص فلسفية (ص: 103-104) ، أما في مسألة حرق كتب الغزالي فانظر: المعجب (ص: 255) ، والبيان المغرب لابن عذاري (4/59-60) ، والحضارة الإسلامية في المغرب والأندلس: عصر المرابطين والموحدين: حسن علي حسن (ص: 450-451) . (3) ممن ذكر لقاءه بالغزالي: ابن الأثير في الكامل (10/569) ، والمراكشي في المعجب (ص: 263) ، وابن خلدون في تاريخه (11/466) ، دار الكتاب اللبناني، والصفدي في الوافي (3/323) ، وصاحب الحلل الموشية (ص: 104-105) ، وممن أنكر لقاءه به عنان في تراجم إسلامية (ص: 242) ، والفرد بل في الفرق الإسلامية في الشمال الأفريقي (ص: 251) ، ويحيى هويدي في تاريخ فلسفة الإسلام (ص: 226) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 645 ضد المرابطين أخذ يستخدم في حربهم أساليب متعددة منها رميهم بالتجسيم، وألف عقيدته المسماة المرشدة، ونجح في تأسيس دولة الموحدين فاشتهر على أنه أحد أعلام الأشاعرة، والظاهر أن تصنيفه كأحد الأعلام الذين نشروا المذهب الأشعري جاء لسببين: أحدهما: حربه للمرابطين السنة، وكان من الأشياء التي حاربهم بها اتهامه لهم بالتجسيم والتشبيه، فهو بهذا فتح الباب لدخول التأويل الكلامي لبلاد المغرب، ولم يقتصر الأمر على هذا بل تبنى - بصفته إماماً مطاعاً - هذا الجانب، فكان لسلطته الدور الأكبر في انحسار مذهب السلف، وفشو مذاهب المتكلمين. الثاني: تأليفه للمرشدة (1) ، وهي عقيدة - مختصرة - مستقاة من مذهب الأشاعرة، ولم يقتصر الأمر على هذا بل كان يفرض هذه العقيدة على الناس، بحيث تدرس للعوام، مما جعلها تشتهر بسرعة. وفيما عدا ذلك فابن تومرت يبدو أقرب ما يكون إلى مذهب المعتزلة، ومذهب الشيعة (2) ، وقد كان أحد أتباعه لما كتب تاريخ ابن تومرت لا يسميه إلا الإمام المعصوم (3) وليس قربه من هؤلاء بأقل من قربه من الأشاعرة.   (1) هذه العقيدة مختصرة - صفحة واحدة - قيل سميت بذلك لقوله في أولها: اعلم أرشدنا الله وإياك" انظر نصها في الحلل الموشية (ص: 117-118) ، وطبقات السبكي (8/185-186) ، وقد حققها مع دراسة واسعة عبد الله كنون - نشرت ضمن: نصوص فلسفية - الدراسة تبدأ (ص: 99) ، ونص المرشدة (ص: 114-115) ، وقد عدها السبكي في معيد النعم (ص: 75) ، من أصول العقائد الموافقة لعقيدة أهل السنة والجماعة، وسلكها مع عقيدة الطحاوي والقشيري، وذكر في الطبقات (8/185) ، أن فخر الدين ابن عساكر كان يدرس المرشدة في القدس في المدرسة الصلاحية. (2) انظر: وفيات الأعيان (3/238) ، علاقة المهدي بكتاب الجفر الباطني - وانظر: عقيدة المرشدة - كنون - (ص: 106-107) ، وانظر الأمير الشاعر أبو ربيع الموحدي: عباس الجراري (ص: 46-47) ، وانظر كتاب: المهدي ابن تومرت، عبد المجيد النجار (ص: 356) ، وما بعدها. (3) انظر: أخبار المهدي بن تومرت لأبي بكر الصنهاجي، المكنى بالبيدق (ص:11) وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 646 أما أبو بكر بن العربي المعافري الأشبيلي (1) ، فقد تتلمذ على الغزالي بلا شك وتأثر به وإن كان قد نقده في بعض المواضع، بل ونقد بعض شيوخ الأشاعرة كالأشعري والباقلاني والجويني (2) ، لكنه مع ذلك بقي ملتزماً بمذهب الأشاعرة في الصفات وغيرها (3) ، بل ودافع عن منهجهم فقال: " فإن قيل فما عذر علمائكم في الإفراط بالتعلق بأدلة العقول دون الشرع المنقول في معرفة الرب، واستوغلوا في ذلك؟ قلنا: لم يكن هذا لأنه خفي عليهم أن كتاب الله مفتاح المعارف ومعدن الأدلة، لقد علموا أنه ليس إلى غيره سبيل ولا بعده دليل، ولا وراءه للمعرفة معرس ولا مقيل، وإنما أرادوا وجهين: أحدهما: أن الأدلة العقلية وقعت في كتاب الله مختصرة بالفصاحة، مشاراً إليها بالبلاغة مذكوراً في مساقها الأصول، دون التوابع والمتعلقات من الفروع، فكمل العلماء ذلك الاختصار، وعبروا عن تلك الإشارة بتتمة البيان، واستوفوا الفروع والمتعلقات بالإيراد ... الثاني: أنهم أرادوا أيبصروا الملاحدة ويعرفوا المبتدعة أن مجرد العقول التي يدعونها لأنفسهم، ويعتقدون أنها معيارهم لاحظ لهم فيها.." (4) ، وهذا الكلام - بما فيه من لمز خفي بكتاب الله وكمال بيانه - استقاه ابن العربي من شيوخه الذين أمر بالاقتداء بهم في التأويل حين قال حول صفات اليد، والقدم، والأصابع، والنزول: " اسرد الأقوال في ذلك بقدر حفظك، وأبطل المستحيل عقلاً بأدلة العقل، والممتنع لغة بأدلة اللغة، والممتنع شرعاً بأدلة الشرع، وأبقَ الجائز من ذلك كله بأدلته المذكورة، ورجح بين   (1) سبقت ترجمته (ص:252) . (2) انظر: عارضة الأحوذي (10/68) ، وقانون التأويل (ص: 462،507، 559) والعواصم (ص:106، 127،134) . (3) لابن العربي كتاب اسمه " المتوسط في الاعتقاد " اعتمد فيه على أقوال الأشاعرة، كما أن له كتاباً اسمه: الأمد الأقصى شرح أسماء الله الحسنى، تابع فيه الغزالي في كتابه: المقصد الأسني وتأثر به: وإن كان قد رد عليه بعض ما حوم عليه في هذا الكتاب من التصوف المغرق، انظر: قانون التأويل - الدراسة - (ص:112-113، 117) . (4) قانون التأويل لابن العربي (ص:501-502) .. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 647 الجائزات من ذلك كله إن لم يمكن اجتماعها في التأويل، ولا تخرج في ذلك عن منهاج العلماء، فقد اهتدى من اقتدى، ولن يأت أحد بأحسن مما أتى به من سبق أبداً " (1) ، وما منهجه في كتابه " قانون التأويل " وغيره (2) إلا أكبر دليل على أشعريته. وابن العربي - مع أشعريته - تميز بأمور: 1- منها حياته الخاصة وجهوده الكبيرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى جرى له لما تولى القضاء أمور كثيرة سببت عداء كثير من الناس له (3) . 2- تحقيقات أصولية وحديثية وفقهية أودعها كتبه المختلفة في الحديث والتفسير والأصول. 3- دوره العظيم في الدفاع عن الصحابة وما جرى بينهم، والرد على مختلف الطوائف المنحرفة عن مذهب السلف في هذا الباب، وقد جاء ذلك في قسم من كتابه العواصم من القواصم (4) . أما الشهرستاني (5) فقد اشتهر بكتابيه الملل والنحل ونهاية الإقدام، كما كانت له ردود على الفلاسفة في كتابه " مصارعة الفلاسفة " وأكثر ما يميز مذهبه ومنهجه:   (1) قانون التأويل (ص: 576) ، ويقول أيضاً في عارضة الأحوذي (11/49) - عن المحكم والمتشابه في القرآن -: " خذوا معنى اللفظ عربية واعرضوه على أدلة العقول إن كان توحيداً فما جاز ظاهره عليه نفذ وما امتنع عدل به عنه إلى أقرب وجوهه إليه ". (2) انظر حول قانون التأويل الذي اعتمده العواصم (ص: 152-311) ، وانظر: حول أشعريته وموقفه من الصفات (العواصم ص: 281) وما بعدها. (3) انظر: العواصم (ص: 400) ، والبيان المغرب لابن عذاري (4/92-94) ، والصلة (2/591) ، وأزهار الرياض (3/63) وقانون التأويل - الدراسة - (ص: 91-95) ، ومع القاضي أبو بكر بن العربي، سعيد إعراب (ص: 81-88) . (4) العواصم - ط عمار طالبي - (ص: 373) ، وما بعدها، وقد حقق هذا القسم وعلق عليه وطبعه مستقلاً محب الدين الخطيب. (5) هو: محمد بن عبد الكريم بن أحمد، أبو الفتح الشهرستاني، تتلمذ على أبي نصر القشيري وأبي القاسم الأنصاري، ولد الشهرستاني سنة 469هـ، وتوفي سنة 548هـ، وقد اتهم بالإلحاد والتشيع، ذكر ذلك السمعاني في التحبير (2/161) ، وصاحب معجم البلدان - نقلاً عن ابن أرسلان الخوارزمي (3/377) ، ودافع عنه السبكي. وشهرستان التي ينسب إليها هي في خراسان بين نيسابور وخوارزم، انظر: وفيات الأعيان (4/274) ومعجم البلدان، وانظر في ترجمته أيضاً: لسان الميزان (5/263) ، وطبقات السبكي (6/128) ، وسير أعلام النبلاء (20/286) ، ومقدمة مصارعة الفلاسفة (ص: 9) ، وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 648 1- العناية بنقل أقوال الناس، وقد تمثل هذا بوضوح في كتابه " الملل والنحل " حيث اشتهر كأحد مؤرخي الفرق في ملية وغيرها، كما تمثل هذا أيضاً في بقية كتبه، فهو في مصارعة الفلاسفة ينقل أقوال الفلاسفة - وعلى رأسهم ابن سينا - بحروفها ثم يعقبها بالنقض والمناقشة، وكذلك فعل في كتابه نهاية الإقدام فإنه نقل أقوال أئمة الأشاعرة والمعتزلة. 2- عرض المذهب الأشعري - بأقوال أئمته - وقد كان عنوان كتابه نهاية الإقدام في علم الكلام، يحمل دلالة معينة، فيها الانتصار للأشاعرة ومذهبهم الكلامي، ولم يكن الشهرستاني صاحب منهج محدد، بل كان ناقلاً لأقوال من سبقه، حاكماً بينها في بعض الأحيان (1) ، وفي الكتاب ردود على من يسميهم أهل التشبيه من الكرامية وغيرهم مع قسوته عليهم (2) ، كما أن فيه ردوداً على المعتزلة وسماهم مرة بالخناثي لأنهم ليسوا مع الفلاسفة ولا الأشاعرة (3) . 3- الإقرار بالحيرة حتى وهو يؤلف كتابه في علم الكلام، ولذلك قال في أول صفحة من نهاية الإقدام، مستشهداً. لقد طفت في تلك المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أرَ واضعاً كف حائر ... على ذقن أو قارعاً سن نادم (4)   (1) انظر: نهاية الإقدام (ص: 143-237) . (2) انظر: المصدر السابق (ص: 103-122) . (3) انظر: المصدر نفسه (ص: 159) . (4) استشهد بهما الشهرستاني في نهاية الإقدام (ص:3) ، دون أن ينسبهما لا له ولا لغيره، وفي وفيات الأعيان (4/274) ، وذكر أنه قيل: إنهما لأبي بكر بن باجه، المعروف بابن الصائغ، وفي الوافي للصفدي (12/408) ، ذكر أنهما نسباً إلى ابن سينا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 649 ولم يخل الكتاب من عبارات الحيرة (1) . 4- رد على الفلاسفة ردوداً قوية، لكنه مع ذلك تأثر بأقوالهم، ومن أبشع الأمور التي تأثر فيها بهم قوله بجواز وجود الجواهر العقلية والنفوس الفلكية المجردة (2) . * * * وابن عساكر (3) اشتهر كمدافع عن المذهب الأشعري في كتابه المشهور شهرة واسعة: " تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام الأشعري " (4) ، وقد كان لخليفته الحديثية والتاريخية أثر في منهج الكتاب وقدرته على الدفاع عن أبي الحسن الأشعري، كما أن هذا الكتاب يصح أن يسمى: طبقات الأشاعرة، لأنه ترجم لأعلامهم منذ الأشعري وإلى عصره.   (1) انظر: نهاية الإقدام (ص: 109، 237، 340) . (2) انظر: مصارعة الفلاسفة (ص: 36،63،100) ، وانظر: درء التعارض لابن تيمية (1/377،4/163) . (3) هو: الإمام الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله، بن عساكر، ولد سنة 499هـ وتوفي سنة 571هـ، له مؤلفات كثيرة جداً أشهرها كتابه العظيم تاريخ دمشق، ومما يلاحظ أنه لما مات صلى عليه القطب النيسابوري، وحضره السلطان صلاح الدين الأيوبي - وكان ممن نشر المذهب الأشعري كما سبق - انظر في ترجمة ابن عساكر: سير أعلام النبلاء (20/554) ، ووفيات الأعيان (3/309) ، وغيرهما كثير. (4) وقد طبع الكتاب مع مقدمة وتعليقات لزاهد الكوثري ملأها - كعادته - بالسباب لأعلام السلف، والرفع من شأن انحرافات المتكلمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 650 - فخر الدين الرازي : ت 606هـ. هو محمد بن عمر بن الحسن بن علي، فخر الدين أبو عبد الله، القرشي البكري، الطبرستاني، الرازي (1) ، ولد سنة 544هـ، تتلمذ على والده ضياء الدين (2) المعروف بخطيب الري، ولذلك اشتهر ولده الفخر بابن خطيب الري، ولما توفي والده تتلمذ علي الكمال السمناني (3) ، ومجد الدين الجيلي (4) الذي لازمه الفخر حتى في أسفاره وقد أخذ عنه الفلسفة كما أخذ عن أبيه ضياء الدين الفقه وعلم الكلام. وحياة الرازي (5) برز فيها جانبان: الأول: رحلاته المتكررة، إلى كل من خوارزم، وطوس، وبلاد ما وراء النهر، وهراة التي استقر ومات بها، وقد جرت له في رحلاته مناظرات عديدة   (1) الرازي نسبة إلى الري على غير قياس، انظر: الروض المعطار (ص: 279) ، وانظر: قولاً آخر في النسبة في حاشية المحصول (1/32) ، والري مدينة مشهورة تقع بين جرجان وطبرستان في منطقة الجبل -شمال إيران وجنوب بحر قزوين - انظر: معجم البلدان (3/116) ، والروض المعطار (ص: 278) . (2) سبقت ترجمته (ص: 439) . (3) اسمه أحمد بن زر بن كم بن عقيل - كذا في طبقات السبكي (6/16-17) ، وفي طبقات الأسنوي (2/57) ، أحمد بن زيد، تفقه السمناني علي محمد بن يحيى وكان رئيس أصحابه، وتوفي سنة 575هـ، انظر في ترجمته المصدرين السابقين، والطبقات الوسطي للسبكي كما في حاشية الكبرى (6/17) . (4) لم أجد من ترجمة سوى ابن أبي أصيبعه في عيون الأبناء (ص: 462) ، - ت نزار رضا - حيث أشار إليه بقوله: " كان مجد الدين هذا من الأفاضل العظماء في زمانه، وله تصانيف جليلة". (5) انظر: في ترجمة الرازي: الكامل لابن الأثير (12/288) ، وإخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطي (ص: 190) ، والتكملة للمنذري (2/186) ، وآثار العباد للقزويني (ص:377) ، ونزهة الأرواح للشهرزوري (2/144) ، ومختصر تاريخ الدول (ص: 240) ، ووفيات الأعيان (4/248) ، والوافي (4/248) ، وسير أعلام النبلاء (20/500) ، وتاريخ الإسلام للذهبي (18/232) ، مطبوع، وميزان الاعتدال (3/340) ، ولسان الميزان (4/426) ، وطبقات السبكي (8/18) ، والأسنوي (2/260) ، وابن قاضي شهبة (2/81) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 651 مع المعتزلة والكرامية وغيرهم، وكثيراً ما تشتد الخصومة بينه وبين معارضيه فيضطر إلى مغادرة المكان الذي هو فيه. الثاني: اتصاله بالملوك والسلاطين، وتأليفه أغلب كتبه لهم، وقد استفاد من صلته بهم - خاصة خوارزم شاه وولده محمداً - مالاً وجاهاً عريضاً، وقد توفي الرازي سنة 606 هـ. أما تلاميذ الرازي فهم كثيرون - بخلاف شيوخهـ ومن أبرزهم: أفضل الدين الخونجي (1) - صاحب المنطق - وأثير الدين الأبهري (2) ، وتاج الدين الأرموي (3) وغيرهم (4) . أما مؤلفاته فكثيرة جداً شملت فنون التفسير، والفقه، وأصوله، وعلم الكلام والفلسفة، والبلاغة، وغيرها، وقد استقصى الحديث عنها - مع بيان مخطوطاتها وما طبع منها - محمد صالح الزركان في كتابه " فخر الدين الرازي وآراؤه الكلامية والفلسفية " (5) ، وأهم كتبه المطبوعة: 1- التفسير. 2- المحصول في أصول الفقه. 3- المباحث المشرقية.   (1) تقدمت ترجمته (ص: 322) . (2) هو: المفضل بن الأبهري السمرقندي، له مؤلفات في الفلسفة والفلك والمنطق، ومنها: هداية الحكمة: مطبوع، توفي سنة 663هـ، انظر: تاريخ آداب اللغة، جرجي زيدان (3/114) ، ومعجم المؤلفين (12/315) ، والأعلام (7/279) . (3) هو: محمد بن الحسين بن عبد الله الأرموي، فقيه أصولي له كتاب حاصل المحصول في أصول الفقه، توفي سنة 556هـ، انظر: الوافي (2/353) ، وطبقات الأسنوي (1/451) ، ومعجم المؤلفين (9/244) . (4) انظر: تاريخ الإسلام للذهبي (18/1/337) ، ومختصر تاريخ الدول لابن العبري (ص: 254) ، وفخر الدين الرازي للزركان (ص: 32-36) ، ومقدمة تحقيق نهاية الإيجاز (ص: 12-13) . (5) (ص: 56-164) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 652 4- محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين. 5- أساس التقديس. 6- معالم أصول الدين. 7- لوامع البينات شرح أسماء الله تعالى والصفات. 8 - شرح الإشارات والتنبيهات لابن سينا. 9- الأربعين في أصول الدين. 10- عصمة الأنبياء. 11- مناظرات فخر الدين الرازي في بلاد ما وراء النهر. 12- نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز. 13- اعتقادات فرق المسلمين والمشركين. 14- مناقب الإمام الشافعي. 15- الخمسين في أصول الدين. 16- لباب الإشارات. أما المخطوطة فمنها. 17- المطالب العالية، طبع منه جزء يتعلق بالنبوات، ولم يتمه وهو من أواخر كتبه. 18- أقسام اللذات، آخر كتبه. 19- الملخص في الحكة والمنطق. 20- شرح عيون الحكمة لابن سينا. 21- نهاية العقول. وغيرها كثير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 653 - منهج الرازي وأثره في تطور المذهب الأشعري . أولاً: يمثل الرازي مرحلة خطيرة في مسيرة المذهب الأشعري، فهذا الإمام الشافعي الأشعري (1) ترك مؤلفات عديدة دافع فيها عن المذهب الأشعري بكل ما يملكه من حجج عقلية، كما أنه أفاض في بعضها في دراسة الفلسفة فوافق أصحابها حيناً وخالفهم حيناً آخر، بل وصل الأمر به إلى أن يؤلف في السحر والشرك ومخاطبة النجوم. وقد اختلفت آراء الناس فيه بين مادح وقادح، ومدافع عنه منافح، وناقد له جارح، وقد انتهى في آخر عمره إلى أن الحق في الرجوع إلى مذهب أهل الحديث وهو الاستدلال بالكتاب والسنة، ولكن بقيت المشكلة في مؤلفاته الكلامية والفلسفية التي انتشرت وتلقفها المهتمون بهذه الأمور، لذلك اختلفت أقوال الناس فيه وفي مؤلفاته: فالسبكي - على عادته في أمثاله - كال له المدح كيلاً بلا حساب، حتى وصل الأمر إلى أن يقول فيه " وله شعار أوى الأشعري من سننه إلى ركن شديد، وعتزال المعتزلي علماً أنه ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " (2) ، وفي معيد النعم لما هاجم الفلسفة وأعلامها كابن سينا والفاراي ونصير الدين الطوسي وهاجم الذين حاولوا مزج الفلسفة بكلام علماء الإسلام أورد على نفسه هذا الاعتراض قائلاً: " فإن قلت: فقد خاض حجة الإسلام الغزالي والإمام فخر الدين الرازي في علوم الفلسفة ودونوها، وخلطوها بكلام المتكلمين فهلا تنكر عليهما؟ " - ثم أجاب قائلاً -:" قلت: إن هذين إمامان جليلان، ولم يخض واحد منهما في هذه العلوم حتى صار قدوة في الدين، وضربت الأمثال باسمهما في معرفة على الكلام على طريقة أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، فإياك أن تسمع شيئاً غير ذلك، فتضل ضلالاً مبيناً، فهذان إمامان عظيمان وكان حقاً عليهما نصر المؤمنين وإعزاز هذا الدين بدفع ترهات أولئك المبطلين، فمن وصل إلى مقامهما لا ملام عليه بالنظر في الكتب الفلسفية، بل هو مثاب مأجور " (3) ، وليس هذا موضع مناقشة هذه الفكرة التي يطرحها   (1) انظر: سلسلة شيوخه في الفقه إلى الشافعي وفي العقيدة إلى الأشعري في وفيات الأعيان (4/252) . (2) طبقات السبكي (8/82) . (3) معيد النعم (ص: 78-79) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 654 السبكي مدافعاً فيها عن شيوخه من الأشاعرة، وإنما القصد الاستشهاد بأقوال الذين دافعوا عن الرازي وفلسفته، وكان منهم ابن خلكان الذي قال عنه بعد تعداده لمؤلفاته: " وكل كتبه ممتعة، وانتشرت تصانيفه في البلاد، ورزق فيها سعادة عظيمة، فإن الناس اشتغلوا بها ورفضوا كتب المتقدمين، وهو أول من اخترع هذا الترتيب في كتبه: وأتى فيه بما لم يسبق إليه " (1) ، كما دافع عنه أبو حيان والصفدي وأبو شامة (2) . أما الذين انتقدوه فكثيرون جداً، منهم ابن جبير الذي قال عنه في رحلته - كما نقل الصفدي -: " دخلت الري فوجدت ابن خطيبها قد التفت عن السنة وشغلهم بكتب ابن سينا وأرسطو " (3) ، ونقل أبو شامة أن الشناعات عليه قائمة بأشياء منها " أنه كان يقول: قال محمد التازي (4) يعني العربي: يريد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال محمد الرازي، يعني نفسه، ومنها أنه كان يقرر في مسائل كثيرة مذاهب الخصوم وشبههم بأتم عبارة فإذا جاء إلى الأجوبة اقتنع بالإشارة " (5) ، ثم مدحه ودافع عنه، وقال في بعض المغاربة: " يورد الشبه نقداً، ويحلها نسيئة " (6) ، وقال الطوفي الصرصري المتوفى سنة 716هـ: " وأجمع ما رأيته من التفاسير لغالب علم التفسير كتاب القرطبي، وكتاب مفاتيح الغيب، ولعمري كم فيه من زلة وعيب، وحكى لي الشيخ شرف الدين   (1) وفيات الأعيان (4/249) ، ونقله عنه الذهبي تاريخ الإسلام (1/1/235) ، مطبوع.. (2) انظر: كلام أبي حيان والصفدي في الوافي (4/248-252) ، أما كلام أبي شامة فهو في ذيل الروضتين - قاله بعد ذكر ما وجه إلى الرازي من نقد - وذكر أنه التقى ببعض تلاميذه انظر: الذبل (ص: 68) . (3) الوافي (4/251) ، ولم أجد هذا الكلام في رحلة ابن جبير المطبوعة - دار صادر - ولابن جبير ثلاث رحلات، انظر: تاريخ الأدب الجغرافي العربي تأليف يوكرا تشكوفسكي (ص: 299) . (4) التازي: كان العجم يطلقونها على العرب، أي العربي، انظر: حاشية ذيل الروضتين (ص:68) . (5) ذيل الروضتين (ص:68) . (6) لسان الميزان (4/427) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 655 النصيبي (1) المالكي أن شيخه الإمام الفاضل سراج الدين المغربي السرمساحي (2) ، المالكي صنف كتاب المآخذ على مفاتيح الغيب، وبين ما فيه من البهرج والزيف في نحو مجلدين، وكان ينقم عليه كثيراً، خصوصاً إيراده شبه المخالفين في المذهب والدين على غاية ما يكون من القوة وإيراد جواب أهل الحق منها على غاية ما يكون من الوحي (3) ، ولعمري إن هذا لدأبه في غالب كتبه الكلامية والحكمية، كالأربعين، والمحصل، والنهاية، والمعالم، والمباحث المشرقية، ونحوها، وبعض الناس يتهمه في هذا وينسبه إلى أنه ينصر بهذا الطريق ما يعتقده ولا يجسر على التصريح به، ولعمري إن هذا ممكن، لكنه خلاف ظاهر حاله، فإنه ما كان يخاف من قول يذهب إليه، أو اختيار ينصره، ولهذا تناقضت آراؤه في سائر كتبه، وإنما سببه عندي، أنه كان شديد الاشتياق إلى الوقوف على الحق كما صرح به في وصيته التي أملاها عند موته، فلهذا كان يستفرغ وسعه ويكد قريحته في تقرير شبه الخصوم، حتى لا يبقى لهم بعد ذلك مقال، فتضعف قريحته عن جوابها على الوجه، لاستفراغه قوتها في تقرير الشبه ... " (4) ، وقال الذهبي عنه - وقد ترجم له في الميزان في حرف الفاء باسم الفخر -: " رأس في الذكاء والعقليات لكنه عرى عن الآثار، وله تشكيكات على مسائل من دعائم الدين تورث الحيرة نسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا، وله كتاب السر المكتوم في مخاطبة النجوم، سحر صريح، فلعله تاب من تأليفه إن شاء الله تعالى " (5) . أما الشهرزوري المتوفى سنة 387هـ، تقريباً - فقد نقده نقداً لاذعاً - من منطلق فلسفي إشراقي (6) وقال عنه " له مصنفات في أكثر العلوم   (1) في الإكسير اليصني، وما أثبته من لسان الميزان (4/428) . (2) في لسان الميزان: السرمياحي.. (3) في الإكسير: الدهاء، وهو خطأ والتصويب من لسان الميزان. (4) الإكسير في علم التفسير (ص:26) ، ونقله ملخصاً ابن حجر في لسان الميزان (4/427-428) . (5) ميزان الاعتدال (3/340) . (6) الفلسفة الإشراقية تجمع بين الفلسفة والتصوف، وكان على رأسها السهروردي المقتول سنة 587هـ، وأشهر كتبه كتابه حكمة الأشراف الذي شرحه الشهرزوري - محمد بن محمود- انظر في نشأة فلسفة الإشراق وترجمة الشهرزوري، مقدمة تحقيق نزهة الأرواح (ج- 1ص: د- كز) وأصول الفلسفة الإشراقية، محمد على أبو ريان، والأعلام للزركلي (7/87) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 656 إلا أنه لا يذكر في زمرة الجكماء المحققين، ولا يعد في الرعيل الأول من المدققين، أورد على الحكماء شكوكاً وشبهاً كثيرة وما قدر أن يتخلص منها، وأكثر من جاء بعده ضل بسببها، وما قدر على التخلص منها" (1) ، ويقول عنه أيضاً: " هو شيخ مسكين، متحير في مذاهبه التي يخبط فيها خبط عشواء" (2) . هذه أقوال الناس فيه مدحاً وذماً، ومنها يتبين كيف كان الرازي - بمؤلفاته العديدة ذا أثر واضح فيمن جاء بعده من الأشاعرة الذين رأوا فيه علماً من أعلامهم المنافحين عن مذهبهم ضد مخالفيهم من مختلف الطوائف. ثانياً: هناك مسألة تحتاج إلى بيان، وهي أن الرازي بلا شك خاض في علم الكلام والفلسفة، فعلى أي وجه كان خوضه فيهما؟ وما خلاصة منهجه وعقيدته؟ هل كان فيلسوفاً مثل ابن سينا والفارابي وغيرهما؟ أم كان متكلماً مناهضاً للفلسفة؟ أم أنه متكلم متفلسف يؤيد الفلاسفة حيناً ويؤيد المتكلمين حيناً آخر؟ أم أنه مر بمراحل في حياته، يميل إلى الفلسفة في مرحلة ثم يتخلى عنها إلى علم الكلام في مرحلة لاحقة؟ (3) . هذه أهم الأقوال في حقيقة منهج الرازي وعقيدته التي سطرها في كتبه، والأقوال الثلاثة الأولى منها لا تعارض بينها، لأن من وصفه بأنه فيلسوف فقد بنى قوله على كتبه الفلسفية الواضحة كالمباحث المشرقية وشرح الإشارات، وشرح عيون الحكمة، وهذه كتب نهج فيها الرازي نهج الفلاسفة وهو وإن ناقشهم فيها أحياناً أو جعل فيها قسماً للإلهيات فذلك لأن كتب الفلاسفة الإسلام نفسها فيها أشياء من هذا ولم تخرج كتبهم عن أن تكون كتباً فلسفية، ومن قال إنه متكلم - أشعر - فقد بنى ذلك على كتب الرازي التي تبنى فيها   (1) نزهة الأرواح (2/144) . (2) المصدر السابق (2/146) . (3) ذكر خلاصة هذه الأقوال والقائلين بها الزركان في كتابه عن الرازي (ص:616-618) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 657 -بقوة- مذهب الأشاعرة كالأربعين وأساس التقديس ونهاية العقول والمعالم وغيرها وهؤلاء جعلوا خوضه في الفلسفة مثل خوض الغزالي فيها وإنما هو للرد على الفلاسفة ونقض أقوالهمن ومن قال إنه متكلم متفلسف فقد عبر فعلاً عن ما تحويه كتبه من موافقة لأهل الفلسفة وأهل الكلام. أما القول الرابع وهو أن الرازي مر بمراحل فقد تبناه الدكتور محمود قاسم، وتابعه في ذلك تلميذه محمد صالح الزركان، وعلى هذا الرأي بنى رسالته العلمية عن الرازي (1) ، فذكر - في كل مسألة من مسائل الفلسفة أو العقيدة - أن الرازي مر فيها بمرحلتين أو أكثر حسب ما هو موجود في كتبه المختلفة، ونظراً لأن هذه الدراسة انتشرت وتناقل أفكارها كثير من الباحثين، فأود أن أسجل عليها الملاحظات التالية وهي ملاحظات تفيد في التعرف على منهج الرازي وعقيدته: أ - يقول الزركان " نظراً إلى اختلاف آراء الرازي في معظم المسائل فقد تبادر إليّ بادئ الأمر أنني حيال تناقض واضطراب، وبالفعل كتبت الرسالة مفسراً ما أجده من تعارض آرائه بالتناقض، إلا أن أستاذنا الدكتور محمود قاسم رأى - بعد أن قرأ ما كتبت - أن الأمر ليس تناقضاً، بل هو تطور، وعندئذ عدت إلى أوراقي أقرؤها واضعاً واضعاً نصب عيني الترتيب الزماني لمؤلفات الرازي، فاتضح لي صدق نظرة أستاذنا ومن ثم اضطررت إلى تغيير أكثر ما دونته أولاً" (2) ، والذي يتبادر إلى الذهن من هذا الكلام أنه قصد من تغيير منهجه في الدراسة إلى أن يتخلص من الحكم بتناقض الرازي، وليس هناك مبرر واضح لهذا التغيير، وكل إنسان ألف كتباً عديدة لابد أن يكون قد ألفها في أزمان متتالية، والتطور إنما يكون للآراء والأفكار، ولو أن الرازي كان أشعرياً في أول أمره ثم تحول إلى الفلسفة ورد على الأشاعرة، أو بالعكس، لكان هذا تطوراً واضحاً، ولكن من خلال تتبع مؤلفاته تبين أنه ألف ف وقت مبكر كتباً فلسفية وأشعرية،   (1) التي بذلك فيها جهداً كبيراً، فتتبع بشكل جيد أقوال الرازي في كتبه المخطوطة والمطبوعة ودرسها وقارن بينها. (2) فخر الدين الرازي للزركان (ص: 618) ، - حاشية -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 658 وكذا في وسط حياته، ومثله في آخر حياته، ثم إن الرازي في واحد من كتبه المتقدمة التي وافق فيها بعض آراء الفلاسفة وصف بعض أقوالهم بأنها خرافات، وقال: إنه لا يقبل مقالات الأولين (1) ، فكيف يقال: إنه في أول أطواره كان أرسطياً مشائياً؟ وإن كتابه " المباحث المشرقية" يمثل هذه المرحلة؟ والرازي يتناقض في الكتاب الواحد من كتبه، وقد ذكر الزركان مثالاً على ذلك (2) ، فهل يقال في مثل هذا: إن مذهبه قد تطور؟ ب - سار الزركان في دراسته على تتبع جزئيات المسائل، وعرض تطور مذهبه في كل واحدة منها على حده، ومن المعلوم أن المسائل يترتب بعضها على بعض، فمن وافق الفلاسفة أو المعتزلة أو الأشاعرة فلا بد أن تكون موافقته لعموم المسائل التي يقوم عليها هذا المذهب - خاصة الأصولية منها -، والمتتبع لما عرضه الباحث لتطور مذهب الرازي في كل مسألة لا يرى أنه تسير نسقاً متقارباً - ولا أقول واحداً - والسبب في ذلك أن الرازي - وهو المكثر في تآليفه - كان يرجح في كل مسألة ما يتوصل إليه عند كتابتها، ثم قد يعود إلى المسألة نفسها في كتاب آخر ويرجح ترجيحاً مخالفاً لترجيحه الأول، والناظر فيما كتبه الباحث حيال ثلاث من أهم المسائل الفلسفية والكلامية، وهي مسألة: هل الوجود زائد على الماهية، والمثل الأفلاطونية، وتماثل الأجسام (3) وتطور مذهب الرازي في كل واحد منها، يستنتج منها أنه كان مضطرباً بشكل واضح وأن من الصعوبة بمكان القول بأن مذهبه تطور فيها. جـ - يقول الرازي في كتابه في الفرق عن الفلاسفة - وقد صنفهم ضمن الفرق الخارجين عن الإسلام بالحقيقة والاسم -: " مذهبهم أن العالم قديم وعلته مؤثرة بالإيجاب، وليست فاعلة بالاختيار، وأكثرهم ينكرون علم الله تعالى،   (1) انظر: المباحث المشرقية (2/507) . (2) انظر: فخر الدين الرازي (ص:320) . (3) انظر: هذه المسائل الثلاث في المصدر السابق - على التوالي - (ص: 170) ، وما بعدها و (ص: 410-415) و (ص: 501-509) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 659 وينكرون حشر الأجسام، وكان أعظمهم قدراً أرستطاليس، وله كتب كثيرة، ولم ينقل تلك الكتب أحد أحسن مما نقله الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا الذي كان في زمن محمود بن سبكتكين، وجميع الفلاسفة يعتقدون في تلك الكتب اعتقادات عظيمة" ثم يقول بعد هذا مباشر مبيناً أسباب دراسته لكتبهم: " وكنا نحن في ابتداء اشتغالنا بتحصيل علم الكلام تشوقنا إلى معرفة كتبهم لنرد عليهم، فصرفنا شطراً صالحاً من العمر في ذلك حتى وفقنا الله تعالى في تصنيف كتب تتضمن الرد عليهم ككتاب نهاية العقول، وكتاب المباحث المشرقية، وكتاب الملخص، وكتاب شرح الإشارات ... [وذكر كتباً أخرى] .. وهذه الكتب بأسرها تتضمن شرح أصول الدين وإبطال شبهات الفلاسفة وسائر المخالفين، وقد اعترف الموافقون والمخالفون أنه لم يصنف أحد المتقدمين والمتأخرين مثل هذه المصنفات، وأما المصنفات الأخرى التي صنفناها في علم آخر فلم نذكرها هنا" ثم يقول عن الاتهامات التي وجهت إليه بسبب كتبه: " ومع هذا فإن الأعداء والحساد لا يزالون يطعنون فينا وفي ديننا، مع ما بذلنا من الجد والاجتهاد في نصرة اعتقاد أهل السنة والجماعة، ويعتقدون أني لست على مذهب أهل السنة والجماعة، وقد علم العالمون أنه ليس مذهبي ولا مذهب أسلافي إلا مذهب أهل السنة والجماعة، ولم تزل تلامذتي ولا تلامذة والدي في سائر أطراف العالم يدعون الخلق إلى الدين الحق والمذهب الحق، وقد أبطلوا جميع البدع، وليس العجب من طعن هؤلاء الأضداد الحساد بل العجيب من الأصحاب والأحباب كيف قعدوا عن نصري والرد على أعدائي " (1) ، وهذا الكلام يدل على أن الرازي وهو يؤلف في الفلسفة كان قاصد للرد على أصحابها من منطلق مذهبه الأشعري، ولكنه لما خاض في هذه الأمور اجتهد في عرض مذاهبهم وأقوالهم وحجبهم بأسلوبه، كما فعل الغزالي في مقاصد الفلاسفة، وكانت للرازي في أثناء عرضه لهذه الأمور ترجيحات وافق في بعضها مذهب الفلاسفة، ولم يكن في وقت من الأوقات فلسفياً خالصاً حتى يقال: إن مذهبه قد تطور.   (1) اعتقادات فرق المسلمين والمشركين (ص: 91-93) - ت النشار-.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 660 د - هناك جانب لابد من الانتباه إليه بالنسبة للذين خاضوا في الفلسفة من علماء الأشاعرة، وهو أنهم يحرصون كثيراً على إخفاء ما عندهم من عقائد توافق مذاهب الفلاسفة، ولذلك فهم يكتمون بعض أمورهم ويلمحون لذلك في مواضع من كتبهم، وأبرز الأمثلة على ذلك الغزالي - كما سبق - أما الرازي فكان خوضه في علوم الفلاسفة صريحاً حتى هاجمه وانتقده - بسبب ذلك - بعض علماء الأشاعرة ومع ذلك فوصل الأمر به إلى إخفاء بعض الأمور، ومن الأمثلة على ذلك: 1- قوله في المباحث المشرقية حين عرض لمسألة العقول والجواهر المجردة التي قال بها الفلاسفة: " هذا ما نقوله في هذا الموضع وهذا الفصل من كلامنا، وهو مشتمل على رموز ونكت من استحضر الأصول الماضية وقف عليها، وظفر منها بالحق الذي لا محيص عنه، ولكنا تركناها مستورة لئلا يصل إليها إلا من هو أهلها " (1) . 2- وفي شرحه لكتاب الإشارات والتنبيهات قال بعد ذكر قول ابن سينا في آخرها: " خاتمة ووصية: إني قد مخضت لك في هذه الإشارات عن زبدة الحق، وألقمتك قفيّ الحكم في لطائف الكلم، فصنه عن الجاهلين والمبتذلين، ومن لم يرزق الفطنة الوقادة، والدربة والعادة، وكان صغاه مع الغاغة، أو كان من ملاحدة هؤلاء الفلاسفة ومن همجهم، فإن وجدت من تثق بنقاء سريرته واستقامة سيرته وبتوقفه عما يتسرع إليه الوسواس، وبنظره إلى الحق بعين الرضا والصدق، فآته ما يسألك منه، مدرجاً، مجزأ، مفرقاً، تستغرس مما تسلفه لما تستقبله، وعاهده بالله وبأيمان لا مخارج لها، ليجرى فيما تأتيه مجراك متأسياً بك، فإن أذعت هذا العلم، أو أضعته فالله بيني وبينك وكفى بالله وكيلاً " (2) ، قال الرازي معلقاً على هذا الكلام: " وأنا أيضاً أوصيك يا أخي في الدين وصاحبي في طلب اليقين أن تعمل بهذا الشرح ما أمرك الشيخ به،   (1) المباحث المشرقية (2/445) . (2) الإشارات والتنبيهات، مع شرح الطوسي (4/903-906) ، - ط دار المعارف -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 661 وأن لا تعدل عن قانون قوله، فإنك بعد إطلاعك على ما فيه، ووقوفك على حقائقه ومعانيه تعلم أن الضنة إن حسنت في المشروح فهي واجبة في الشرح لكثرة ما فيها من الحقائق الدقيقة والمباحث العميقة " (1) . 3- والرازي - مثل الغزالي- يقسم الناس إلى خواص وعوام، فيقول في معرض تعداده لما ذكره العلماء من فوائد للمتشابهات في القرآن: " الوجه الخامس - وهو السبب الأقوى في هذا الباب - أن القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواص والعوام بالكلية، وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق، فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا بمتحيز ولا مشار إليه، ظن أن هذا عدم ونفي فوقع في التعطيل، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما يتوهمونه ويتخيلونه، ويكون ذلك مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح" (2) ، وليس المقصود رد ما في كلامه من الباطل، وإنما بيان منهجه وأنه يقسم الناس إلى عوام وخواص. فهذه الشواهد - من كلامه - تدل على أن الرازي يوافق الفلاسفة ويحسن الظن بعلومهم ويعتقد أنها لا تخالف علم الكلام (3) ، وهذا يدل على خطورة مذهبه ومنهجه، وأنه متكلم متفلسف خلط هذا بهذا، وقد اقتدى به كثير ممن أتى بعده. ثالثاً: من القضايا المتعلقة بمنهج الرازي أنه يعتبر من الذين خلطوا الكلام بالفلسفة، وقد انتقده في ذلك بعض متأخري الأشعرية حتى قال السنوسي في شرح السنوسية الكبرى عنه "وقد يحتمل أن يكون سبب دعائه بهذا ما علم من حاله من الولوع بحفظ آراء الفلاسفة وأصحاب الأهواء وتكثير الشبه لهم، وتقوية إيرادها، ومع ضعفه عن تحقيق الجواب عن كثير منها على ما يظهر من تآليفه،   (1) شرح الإشارات للرازي، مع شرح للطوسي (2/144) . (2) تفسير الرازي (7/172) . (3) انظر في مصادر فلسفة الرازي: مذهب الدرة عند المسلمين (ص: 80-81) ، وفخر الدين الرازي، لفتح الله خليف (ص: 105) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 662 ولقد استرقوه في بعض العقائد فخرج إلى قريب من شنيع أهوائهم، ولهذا يحذر الشيوخ من النظر في كثير من تآليفه " (1) ، وقال أيضاً في شرحه لعقيدته الأخرى "أم البراهين": " وليحذر المبتدي جهده أن يأخذ أصول دينه من الكتب التي حشيت بكلام الفلاسفة وأولع مؤلفوها بنقل هوسهم وما هو كفر صراح من عقائدهم التي ستروا نجاستها بما ينبههم على كثير من اصطلاحاتهم وعباراتهم التي أكثرها أسماء بلا مسميات، وذك ككتب الإمام الفخر في علم الكلام، وطوالع البيضاوي ومن حذا حذوهما في ذلك، وقل أن يفلح من أولع بصحبة الفلاسفة " (2) ، وأشعرية الرازي لا يتطرق إليها أي شك، وهو وإن خالفهم أحياناً أو ردّ على بعض أعلام الأشاعرة إلا أنه وضع بعض التآليف التي أصبحت فيما بعد عمدة يعتمد عليها الأشاعرة، وذلك مثل كتابه المحصل، والمعالم، والأربعين، والخمسين، وأساس التقديس، وهذا الأخير يعتبر من أقوى كتبه الأشعرية وأهمها ولذلك أفرد له شيخ الإسلام ابن تيمية كتاباً من أهم كتبه وأكبرها - وهو وإن كان لم يصل إلينا كاملاً - إلا أن الذين ذكروه تحدثوا عنه بما يفيد أنه أكبر من درء تعارض العقل والنقل، وما وجد من هذا الكتاب - مطبوعاً ومخطوطاً - يدل على أن شيخ الإسلام تتبع أقوال الرازي كلمة كلمة وعبارة عبارة ونقضها وبين ما فيها من مخالفة لمذهب السلف، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمة رده على الرازي مكانته ومنزلته بين أتباعه فقال: " فلهذا ذكرت ما ذكره أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي، المعروف بابن خطيب الري، الإمام المطلق في اصطلاح المقتدين به من أهل الفلسفة والكلام، المقدم عندهم يجعلونه في زمنه ثاني الصديق في هذا المقام لما رده في ظنهم من أقاويل الفلاسفة بالحجج العظام، والمعتزلة ونحوهم، ويقولون: إن أبا حامد ونحوه لم يصل إلى تحقيق ما بلغه هذا الإمام، فضلاً عن أبي المعالى ونحوه ممن عندهم فيما يعظمونه من   (1) شرح السنوسية الكبرى (ص:41) . (2) شرح أم البراهين، مع حاشية الدسوقي عليها (ص: 70-71) .. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 663 العلم والجدل بالوقوف على نهاية الإقدام، وأن الرازي أتى في ذلك منتهى نهاية العقول والمطالب العالية بما يعجز عنه غيره من ذوي الإقدام، حتى كان فهم ما يقوله عندهم هو غاية المرام، وإن كان فضلاؤهم مع ذلك معترفين بما في كلامه من كثر التشكيك في الحقائق، وكثرة التناقض في الآراء والطرائق، وأنه موقع لأصحابه في الحيرة والاضطراب، غير موصل إلى تحقيق الحق الذي تسكن إليه النفوس وتطمئن إليه الألباب، لكنهم لم يروا أكمل منه في هذا الباب، فكان معهم كالملك مع الحجاب، وكان له من العظمة والمهابة في قلوب الموافقين له والمخالفين ما قد سارت به الركبان، لما له من القدرة على تركيب الاحتجاج والاعتراض في الخطاب " (1) . أما ما يدل على دخوله في الفلسفة فأمور: أ - اهتمامه بكتب ابن سينا وغيره، ففي المباحث المشرقية اعتمد كثيراً على أقوال ابن سينا ونقلها، كما أنه شرح الإشارات، واختصرها، وشرح عيون الحكمة - وكلها لابن سينا - وقد سبق نقل كلام الرازي في مدحه وأنه قال عنه أنه أحسن من نقل كتب الأقدمين من الفلاسفة، واهتمام الرازي بهذه الكتب بحد ذاته يدل على إعجابه بها، وهو وإن نقد بعض فصولها إلا أنه في نفس الوقت وافقهم على ما في الفصول الأخرى. ب - لم يقتصر الأمر على شرح كتب الفلاسفة، بل دافع عنها، حتى أنه لما ورد بخاري وسمع أن أحداً من أهلها أورد إشكالات على إشارات ابن سينا، رد عليه وناقشه في قصة ذكرها القزويني (2) ، كما أنه دافع عن عموم الفلاسفة فقال في إحدى المناسبات: " وإذا أمكن تأويل كلام القوم على الوجه الذي فصلناه فأي حاجة بنا إلى التشنيع عليهم وتقبيح صورة كلامهم " (3) .   (1) نقض التأسيس المخطوط (1/6-7) . (2) انظر: آثار البلاد وأخبار العباد (ص: 378) . (3) المباحث المشرقية (1/382-383) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 664 جـ - لما ذكر الأقوال في المعاد وهل يكون للروح أو للجسد والروح ذكر قول القائلين بالمعاد الروحاني والجسماني معاً - وقال بعد ذكر عنوان هذا الفصل -: " أعلم أن كثيراً من المحققين قالوا بهذا القول، وذلك لأنهم أرادوا الجمع بين الحكمة والشريعة"، ثم قال بعد شرح قولهم: " فهذا المعنى لم يقم على امتناعه برهان عقلي، وهو جمع بين الحكمة النبوية والقوانين الفلسفية فوجب المصير إليه " (1) ، ونصوص المعاد من أوضح ما ورد بيانه في القرآن، ومع ذلك فالرازي يرى وجوب المصير إلى هذا القول لموافقته للقوانين الفلسفية. د - موافقته لأقوال الفلاسفة في بعض المسائل التي اختصوا بها، وهو وإن رجع عن بعضها إلا أن أقواله وترجيحاته بقيت مدونة في كتبه، ومن أهم الأمثلة على ذلك: 1- قوله بالعقول المجردة، وأن لكل ملك نفساً (2) ، ويرى أن دليل المتكلمين على إبطال ما قاله الفلاسفة من وجود العقول المجردة دليل ضعيف (3) . 2- قوله بالمثل الأفلاطونية في بعض كتبه، فقد أثبتها في الملخص في الحكمة والمنطق (4) ، وقال في شرح الإشارات: " ما قامت الدلالة القاطعة على فسادها " (5) ، ولكنه في المباحث المشرقية أبطلها (6) . 3- وأخطر قضية قال بها ووافق فيها فلاسفة قوله بالتنجيم وأن الكواكب أرواحاً تؤثر في الحوادث الأرضية، وكذلك قوله في السحر، وتأليفه في ذلك كتاباُ مستقلاً سماه " السر المكتوم في مخاطبة النجوم" وقد أثار هذا الكتاب جدلاً   (1) الأربعين في أصول الدين (ص: 300-301) . (2) شرح الإشارات (2/129) ، والمباحث المشرقية (2/377،379،437) . (3) الأربعين (ص:6) . (4) انظر: فخر الدين الرازي للزركان (ص: 506) -نقل عن مخطوطة الملخص -. (5) شرح الإشارات (1/133) . (6) انظر: المباحث المشرقية (1/110) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 665 حول صحة نسبته إليه، واختلف حوله، بين نافٍ، وشاكٍ، ومثبتٍ، وقد عرض الزركان الخلاف حوله، واستقصى أقوال العلماء في ذلك، ثم رجح صحة نسبته إليه (1) ، وممن رجح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع متفرقة من كتبه (2) ، وكتاب السر المكتوم أشار إليه الرازي وأحال عليه في بعض كتبه (3) ، وقد وصل إلينا وطبع في الهند، إلا أن الذي يدل دلالة قاطعة على صحة نسبة هذا الكتاب إليه أنه ذكر هذه المسألة في كتاب من أواخر كتبه وأشهرها - ولم يتمه - وهو كتاب المطالب العالية، وقد قال فيه - عند حديثه عن السحر وأقسامه وهو القسم الثالث في كتاب النبوات - "اعلم أنا ما رأينا إنساناً عنده في هذا العلم شيء معتبر، وما رأينا كتاباً مشتملاًِ على أصول معتبرة في هذا الباب إلا أنا لما تأملنا حصلنا فيه أصولاً وجملاً، فمن جاء بعدنا وفاز بالفوائد والزوائد في هذا الباب فليكن شاكراً لنا حيث رتبنا له هذه الأصول المضبوطة والقواعد المعلومة " (4) ، ثم يقول: " ثبت بالدلائل الفلسفية أن مبادئ حدوث الحوادث في هذا العالم هو الأشكال الفلكية والاتصالات الكوكبية، ثم إن التجارب المعتبرة في علم الأحكام [أي أحكام النجوم] انضافت إلى تلك الدلائل، فقويت تلك المقدمة جداً " (5) ، ثم ذكر الأدلة على صحة هذا العلم وأن منها إطباق من قديم الدهر على التمسك بعلم النجوم (6) ، ثم قال بعد ذكره لوجوه صعوبة هذا العلم: " فهذا ضبط الوجوه المذكورة في بيان أن الوقوف على أحوال هذا العلم بالتمام والكمال صعب، إلا أن العقلاء اتفقوا على أن ما لا يدرك كله لا يترك كله، فهذا العلم وإن كان صعب المرام   (1) انظر: فخر الدين الرازي للزركان (ص: 52-54، 109-111، 382) . (2) انظر: نقض التأسيس المخطوط _3/184،194) ، والمطبوع (1/447،2/63) ، والصفدية (1/66،173) ، والاستغاثة (2/302) ، ودرء التعارض (1/311) ، ومجموع الفتاوي (18/55) ، والرد على المنطقيين (ص: 286) . (3) انظر: شرح الإشارات (2/143) ، وكتاب الزركان عن الرازي (ص: 110) . (4) المطالب العالية - جزء النبوات - (ص: 199) مطبوع.. (5) المصدر السابق (ص: 200) . (6) انظر: المصدر نفسه (ص: 210) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 666 من هذه الوجوه إلا أن الاستقراء يدل على حصول النفع العظيم فيه، وإذا كان كذلك وجب الاشتغال بتحصيله والاعتناء بشأنه، فإن القليل منه كثير بالنسبة لمصالح البشر " (1) ، وله بعد ذلك كلام غريب وخطير في هذا الباب (2) . وقد كان من آثار هذا الشرك الصريح، أنه ذكر أن من الأنواع المعتبرة في هذا الباب اتخاذ القرابين وإراقة الدماء، فقال: " إنه لما دلت التجارب عليها وجب المصير إليها" (3) ، بل قال بتعظيم المزارات والقبور وأن الدعاء عندها فيه فائدة فقال في معرض ذكره لحجج القائلين بأن النفس جوهر روحي مفارق - وهو ما رجحه في كتابه هذا-: " الحجة الثالثة: جرت عادة العقلاء بأنهم يذهبون إلى المزارات المشرفة، ويصلون وتصدقون عندها، ويدعون في بعض المهمات فيجدون آثار النفع ظاهرة، ونتائج القول لائحة، حكى أن أصحاب أرسطو كانوا كلما صعبت عليهم مسألة ذهبوا إلى قبره وبحثوا فيها كانت تنكشف لهم تلك المسألة، وقد يتفق أمثال هذا كثيراً عند قبور الأكابر من العلماء والزهاد في زماننا، ولولا أن النفوس باقية بعد البدن، وإلا لكانت تلك الاستعانة بالميت الخالي من الحس والشعور عبثاً، وذلك باطل " (4) . هذه أقوال هذا الإمام الذي يقتدي به الكثيرون، ولعل الرازي قد تاب من ذلك قبل وفاته ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونعوذ به من زيغ القلوب، ونسأله الثبات على دينه الحق إلى أن نلقاه. 4- ومن المسائل التي كان قوله فيها مضرباً، وكثيراً ما يميل فيها إلى أقوال الفلاسفة، مسألة النبوة، وخصائص النبي (5) .   (1) المطالب العالمية (ص: 216) . (2) انظر المصدر نفسه (ص: 219-222) . (3) المصدر نفسه (ص: 243) . (4) المطالبة العالية (2/301-306) ، مخطوط - نقلاً عن الزركان (ص: 477-478) . (5) انظر: المباحث المشرقية (2/521-522) ، آخر الكتاب - وانظر: كتاب الزركان (ص: 547-575) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 667 رابعاً: تصوف الرازي. تصوف الرازيقريب مما انتهى إليه تصوف الغزالي، فهو تصوف فلسفي، يقوم على أن التجرد بالرياضة مع العلم والفلسفة يقودان إلى إلى الكشوفات المباشرة (1) ، ولذلك حين يدلل على مذهبه في بقاء النفس الذي وافق فيه الفلاسفة يذكر منها: " أن عند الرياضيات الشديدة يحصل للنفس كمالات عظيمة وتلوح لها الأنوار وتنكشف لها المغيبات " (2) ، ولما وصل إلى النمط التاسع في الإشارات والتنبيهات وهو في "مقامات العارفين"، قال الرازي في شرحه: " هذا الباب أجل ما في هذا الكتاب، فإنه رتب علوم الصوفية ترتيباً ما سبقه إليه من قبله ولا لحقة من بعده" (3) ، وقال معلقاً على كلامه في التفريق والجمع - وهما من اصطلاحات الصوفية-: " لقد وفق المصنف في هذا الفصل حتى جمع في هذه الألفاظ القليلة جميع مقامات السالكين إلى الله، واعلم أن السالكين إلى الله تعالى لا بد وأن يتكلفوا الإعراض عن لذات الدنيا وشهواتها، ولا يزالون في كلفة وتكلف من ذلك إلى أن يزول عن قلبهم حبها والميل إليها، وهو الدرجة الثانية إلا أن منتهى سعيهم وثمرة اجتهادهم ليس إلا محو ما سوى الله عن القلب،.. [ثم يذكر الدرجة الثالثة والرابعة، ثم يقول] فهذه درجات التخلية وهي في لسان الحكمة درجات الرياضيات السلبية، وفي لسان محققي الصوفية درجات التخلق بنعوت، وأما درجات الرياضيات الإيجابية المسامة عند المحققين بالترقي في مدارج الكمال فهي التخلق بأخلاق الله بقدر الطاقة البشرية.. وقد اتفقت كلمة العارفين على أن مقامات السالكين إلى الله لا تخلو عن الفرق والجمع، وأما الفرق ففيما سوى الله، وأما الجمع ففي الله.." (4) ، ويرى الرازي   (1) انظر: من أسرار التنزيل (ص: 113-114) ، وقد طبع باسم عجائب القرآن انظره: (ص: 118-119) . (2) انظر: معالم أصول الدين للرازي (ص:120-121) ، - ط دار الكتاب العربي - والفراسة (ص: 96-97) ، ت يوسف مراد. (3) شرح الإشارات (2/100) . (4) انظر: المصدر السابق (2/120) .. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 668 أن المريد إذا لم يكن عالماً فلا بد له من شيخ محقق (1) ، كما يرى أن السماع له آثار في تحريك القلب ورياضته (2) . وأبرز الكتب التي ذكر فيها أموراً كثيرة تتعلق بالتصوف كتابه في شرح أسماء الله الحسنى الذي سار فيه على طريقة القشيري والغزالي في كتابيهما عن أسماء الله، وذلك في ذلك الاسم ومعناه ثم ذكر حال الصوفية والشيوخ مع هذا الاسم ودلالته عندهم، ولما ذكر الدعاء وأنه أعظم مقامات العبودية دلل على ذلك بأدلة منها " أن الداعي ما دام يبقى خاطره مشغولاً بغير الله فإنه لا يكون دعاؤه خالصاً لوجه الله، فإذا فنى عن الكل وصار مستغرقاً في معرفة الأحد امتنع أن يبقى بينه وبين الحق وساطة " (3) ، وأطال القول في تفسير " هو" وذكر أن له هيبة عظيمة عند أرباب المكاشفات (4) ، ويقول: " إن لفظ هو.. نصيب المقربين السابقين الذين هم أرباب النفوس المطمئنة وذلك لأن لفظ هو إشارة، والإشارة تفيد تعين المشار إليه بشرط أن لا يحضر هناك شيء سوى ذلك الواحد " (5) ، ويقول عن موسى والخضر، ومعلوم اعتقاد الصوفية في الخضر -: " ثم إن موسى عليه السلام لما كملت مرتبته في علم الشريعة بعثه الله إلى هذا العالم ليعلم موسى عليه السلام أن كمال الدرجة في أن ينتقل الإنسان من علوم الشريعة المبنية على الظواهر إلى علوم الباطن المبنية على الإشراف على البواطن والتقطع على حقائق الأمور" (6) . وإذا أضيف إلى كلامه هنا ما سبق أن ذكره حول النفوس المجردة يتبين أن تصوفه بناه على جوانب فلسفية قريبة مما ذكره ابن سينا وقد سبقت الإشارة إلى مدى إعجاب الرازي بأقواله في ذلك.   (1) انظر: شرح الإشارات (2/112) . (2) انظر: المصدر نفسه (2/113) . (3) لوامع البينات (ص: 85) . (4) انظر: المصدر السابق (ص: 101) . (5) المصدر نفسه (ص:105) ، وانظر: كلامه حول لفظ " هو " في (ص: 101-107) . (6) تفسير الرازي (21/160) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 669 على أن مما يلفت الانتباه في تصوف الرازي - والصوفية تقول بالجبر في القدر لاستغراقهم في توحيد الربوبية - أنه صرح بالقول بالجبر فقال: " فثبت بهذا أن أفعال العباد بقضاء الله وقدره، وأن الإنسان مضطر باختيار، وأنه ليس في الوجود إلا الجبر " (1) ، وقال: " إن صدور الفعل عن العبد يتوقف على داعية يخلقها الله تعالى، ومتى وجدت تلك الداعية كان الفعل واجب الوقوع، وإذا كان كذلك كان الجبر لازماً (2) ، بل قال في شرح الإشارات: "إن العارف لا يكون له همة في البحث عن أحوال الخلق، ولا يغضب عند مشاهدة المنكر لعلمه بسر الله في القدر" (3) ، وبذلك يلتقي مع غلاة الصوفية في مقالاتهم الخطيرة، وأحوالهم المبطلة للشرائع. خامساً: حيرته وتناقضه، ورجوعه. يعتبر الرازي من أكثر الأشاعرة اضطراباً في أقواله، وهذا بالنظر إلى مجمل أقواله في جميع كتبه، ومن يتتبع الدراسة التي قام بها الزركان يرى ذلك واضحاً في كل مسألة من المسائل التي ذكرها، وهي كثيرة جداً، كما أنه في بعض المسائل أعلن حيرته أو شكه، وفي آخر أمره رجع إلى طريقة القرآن وفضلها، ولعل من أسباب هذه الأمور في منهجه خوضه في المسائل الفلسفية والكلامية، وتقريره لكل مسألة بالأدلة التي أوردها أصحابها وزيادته على ذلك بأدلة من عنده يرى أنها تصلح أن تكون دليلاً لهم، ولذلك قال في مقدمة المباحث المشرقية بعد أن بين أنه لخص أقوال الفلاسفة واجتهد في تحريرها: " ثم نضم إليه أصولاً وفقنا الله إلى تحريرها وتحصيلها وتفصيلها مما لم يقف عليه أحد من المتقدمين ولم يقدر على الوصول إليه أحد من السالكين" (4) ، ويقول في نهاية العقول   (1) المباحث المشرقية (2/517) . (2) المحصول في أصول الفقه (ج- 1 ف 2 ص 380) ، وكلام الرازي هنا مع قوله في النص السابق: أن الإنسان مضطر باختيار كأن فيه إشارة إلى أن كسب الأشعري نوع من القول بالجبر، ومن ثم فإن الرازي لا يمانع مع ذلك من التصريح بلفظ الجبر، بل يراه لازماً. (3) شرح الإشارات (2/123) . (4) المباحث المشرقية (1/ 4-5) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 670 عن سبب تأليفه: " وكثر إلحاحهم عليّ بتصنيف كتاب في أصول الدين مشتمل على نهاية الأفكار العقلية، وغاية المباحث العلمية، صنفت هذا الكتاب بتوفيق الله تعالى لي بحق ملتمسهم، وأوردت فيه من الحقائق والدقائق ما لا يكاد يوجد في شيء من كتب الأولين والآخرين، والسابقين واللاحقين، من المخالفين والمخالفين، والمرافقين والمفارقين" (1) ، ثم ذكر كيف أنه يستقصي أدلة كل مذهب ويورد الأسئلة والجوابات ويتعمق في بحار المشكلات " على وجه يكون انتفاع صاحب كل مذهب بكتابي هذا ربما كان أكثر من انتفاعه بالكتب التي صنفها أصحاب ذلك المذهب " (2) ،بل إنه ذكر أنه إذا لم يجد دليلاً لأصحب ذلك المذهب استنبط أقصى ما يمكن أن يقال في تقريره (3) . وهذه الأمور - في منهجه - لا شك في تأثيرها على أسلوبه في الوصول إلى الحقائق في كل مسألة، وهي مفسرة لهذا التناقض والشك والحيرة في كتبه، وقد تكون هناك أسباب أخرى. وبروز هذه الجوانب في كتبه ومنهجه واضح، ومع ذلك فيمكن الإشارة إلى ما يلي: أ - كثيراً ما يأتي الرازي بعبارات الشك والإشكال والحيرة، فمثلاً يقول في مسألة حدوث العالم وأنه ليس من شرطه أن يكون مسبوقاً بالعدم قال بعد ذكر الأدلة " وعلى هذه الطريقة إشكال" ثم ذكره وقال: " فقد بطلت هذه الحجة، فهذا شك لابد وأن يتفكر في حله" (4) ، ويقول في مسألة أخرى: " ولكن لابد من فرق بين البابين، وهو مشكل جداً " (5) ، وفي الأربعين قال   (1) نهاية العقول - مخطوط - (1- أ) . (2) المصدر السابق (1-ب) . (3) نهاية العقول (1-ب) . (4) المباحث المشرقية (1/487) . (5) المصدر السابق (1/511) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 671 حول دليل حدوث العالم: " هذا مما نستخير الله فيه " (1) ، وقال: " هذا سؤال صعب وهو ما نستخير الله فيه " (2) ، وقال: " الحيلة ترك الحيلة " (3) ، وفي نهاية العقول ذكر إشكالات حول منع حلول الحوادث (4) ، وتوقف في مسألة الجوهر الفرد (5) ، بل توقف في كتابه المباحث المشرقية حول مسألة فلسفية (6) . ب - أما تناقضه فكثير، فمثلاً في أساس التقديس قال بتماثل الأجسام (7) ، محتجاً به على نفي العلو والصفات الخبرية، ولكنه في المباحث المشرقية، وشرح الإشارات رد ذلك وقال بعدم تماثلها (8) ، وفي صفة المحبة قال بتأويلها بالإرادة كما فعل الأشاعرة، ولكنه في أحد مواضع من التفسير قال: " ثبت أن جزم المتكلمين بأنه لا معنى لمحبة الله إلا إرادة إيصال الثواب ليس لهم على هذا الحصر دليل قاطع، بل أقصى ما في الباب أن يقال لا دليل على إثبات صفة أخرى سوى الإرادة فوجب نفيها، لكنا بينا في كتاب نهاية العقول أن هذه الطريقة ضعيفة ساقطة" (9) وهذه المسألة التي ذكرها في نهاية العقول أشار فيها أولاً إلى أن القول بأن كل مالا دليل عليه يجب نفيه، مردود (10) ، ثم ذكر في موضع آخر - في مسألة أدلة الأشاعرة على وجوب حصر الصفات بالسبع - أن هذه القاعدة من أدلتهم فقال: " أقوى ما قيل فيه أن الله تعالى كلفنا بمعرفته فلا بد من طريق   (1) الأربعين (ص: 40) . (2) المصدر السابق (ص: 41) . (3) المصدر نفسه (ص: 237) . (4) نهاية العقول (265- أ) . (5) المصدر السابق (249-أ) . (6) المباحث المشرقية (1/509) . (7) انظر: أساس التقديس (ص: 18) ، وانظر: أيضاً عصمة الأنبياء (ص: 55) . (8) انظر: المباحث المشرقية (2/47) ، وشرح الإشارات (1/21-22) ، وانظر: كتاب الزركان (ص: 250-251) . (9) تفسير الرازي (14/132) . (10) انظر: نهاية العقول (10-ب - 12 - ب) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 672 إلى ذلك، وإلا وقع التكليف بالمحال، والطريق لنا إلى ذلك ليس إلا أفعال الله تعالى، وأفعال الله تعالى لا تدل على هذا العدد من الصفات، بدليل أنا لو قدرنا ذاتاً موصوفة بهذا القدر من الصفات، فإنه يصح منه الإليهة، فثبت أن ما وراء هذه الصفات لم يوجد عليه دلالة أصلاً فوجب نفيها " - ثم قال معقباً-: " وقد عرفت ما يمكن أن يقال على هذه الطريقة وما فيها" (1) . ومن أبرز الأمثلة على تناقض الرازي أنه في جميع كتبه قرر أن الأدلة النقلية لا تفيد القطع واليقين فلا يحتج بها في العقائد (2) ، ومن هذه الكتب نهاية العقول حيث فصل الكلام وأطال فيه (3) ، فلما وصل في هذا الكتاب إلى مسألة صفة السمع والبصر ضعف دليل الأشاعرة العقللي في إثباتهما، ثم رجح أن الأولى الاستدلال لها بنصوص السمع، لكنه أورد هذا الاعتراض: " لئن سلمنا إمكان جملها على حقائقها، لكنكم قلتم في أول الكتاب: إن التمسك في المسائل القطعية لظواهر الآيات غير جائز" ثم أجاب بقوله: " نحن ما ذكرنا ذلك السؤال هناك لاعتقادنا أنه لا يمكن الجواب عنه، بل الجواب عنه إجماع الأمة على جواز التمسك بنصوص الكتاب والسنة في المسائل القطعية، وفي هذا الموضوع كلام طويل " (4) ، يقول الزركان معقباً على كلام الرازي هذا: " على أن قوله الأخير لن يغني فتيلاً، بل هو مجرد مخلص لا أقل ولا أكثر، وذلك بدليل أني لم أرَ له في كافة كتبه إلا القول بأن النصوص ظنية الدلالة، وأنها لا تتقدم على العقليات، والدليل على أنه مخلص أيضاً أنه قال: " وفي هذا الموضع كلام طويل" مع انه لم يبين شيئاً من هذا الكلام الطويل ولو مختصراً، رغم أن الموقف يحتاج إلى البت في هذه المسألة" (5) ، وأقول ماذا سيكون تعليق الرازي   (1) نهاية العقول (166- ب) . (2) انظر: أساس التقديس (ص: 172-182) ، والمحصل (ص: 51) ، ونهاية الإيجاز في دراية الإعجاز (ص: 381) ، ومعالم أصول الدين (ص: 25-48) ، والمحصول في أصول الفقه (ج- 1ف1 ص 572-574) . (3) انظر: نهاية العقول (14- أ-15-أ) . (4) المصدر السابق (160-أ-ب) وانظر: المحصل _ص: 171-172) . (5) فخر الدين الرازي للزركان (ص: 321) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 673 لو أنه وجد مثل هذه الطريقة المتناقضة في الاحتجاج استخدمها أحد مخالفيه - خاصة المثبتة-؟. ج- رجوعه: لم يكن الرازي بعيداً عن مذهب السلف، فهو يشير إليه أحياناً لكن ضمن مناقشاته الكلامية والفلسفية، والملاحظ أن عرضه له كثيراً ما يأتي مشوهاً (1) ، فلما كان آخر حياته صرح بترجيحه لمذهب السلف وذلك في كتابيه المتأخرين المطالب العالية وأقسام اللذات، ثم في وصيته قبل وفاته: 1- ففي المطالب العالية لما ذكر أدلة وجود الله رجح طريقة القرآن ثم قال: " ونختم هذه الفصول بخاتمة عظيمة النفع، وهي أن الدلائل التي ذكرها الحكماء والمتكلمون وإن كانت كاملة قوية، إلا أن هذه الطريقة المذكورة في القرآن عندي أنها أقرب إلى الحق والصواب، وذلك أن تلك الدلائل دقيقة ولسبب ما فيها من الدقة انفتحت أبواب الشبهات، وكثرت السؤالات، وأما الطريق الوارد في القرآن فحاصله راجع إلى طريق واحد، وهو المنع من التعمق، والاحتراز عن فتح باب القيل والقال، وحمل الفهم والعقل على الاستكثار من دلائل العالم الأعلى والأسفل، ومن ترك التعصب وجرب مثل تجربتي علم أن الحق ما ذكرته" (2) . 2- وفي أقسام اللذات - آخر كتبه - قال: " وأما اللذة العقلية فلا سبيل إلى الوصول إليها والتعلق بها، فلهذا السبب نقول ياليتنا بقينا على العدم الأول وليتنا ما شهدنا هذا العالم، وليت النفس لم تتعلق بهذا البدن، وفي هذا المعنى قلت: نهاية إقدام العقول عقال ... وغاية سعي العالمين ضلال.. (3)   (1) تفسير الرازي (1/183) . (2) المطالب العالية - عن الزركان - (ص: 198) . (3) هذا البيت - مع أبيات بعده 0 مشهورة ذكرها أغلب مترجمي الرازي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 674 - قم قال- " واعلم أن بعد التوغل في هذه المضايق، والتعمق في الاستكشاف عن أسرار هذه الحقائق رأيت الأصوب والأصلح في هذا الباب طريقة القرآن العظيم والفرقان الكريم، وهو ترك التعمق والاستدلال بأقسام أجسام السموات والأرضين على وجود رب العالمين، ثم المبالغة في التعظيم من غير خوض في التفاصيل.." (1) . 3- وفي وصيته المشهورة قال فيها: " لقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن " ثم قال: " ديني متابعة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكتابي القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما " (2) . سادساً: أثره فيمن جاء بعده ويمكن أن يلاحظ ذلك فيما يلي: أ - أن من جاء بعده من الأشاعرة اعتمد - في تقرير أصول المذهب الأشعري- على ما كتبه الرازي، لأنه استقصى ما يمكن أن يقال مما جاء له المتقدمون من الأشاعرة وزاد على ذلك، ومن ثم أصبحت كتبه مصادر ميسرة ومستوعبة لأدلة الأشاعرة في تقرير مذهبهم والرد على خصومهم. ب - كانت للرازي اجتهادات في المذهب الأشعري، وصلت إلى حد القرب من المعتزلة أحياناً، والرد على أدلة الأشاعرة وتضعيفها أحياناً أخرى، مع النقد لأعلام الأشاعرة في مناسبات مختلفة، ومن الأمثلة على ذلك. 1 - نقده للغزالي، وللبغدادي، وللشهرستاني، وقد جاء نقده لهؤلاء في مناظراته في بلاد ما وراء النهر (3) .   (1) اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم (ص: 194-195) . (2) تاريخ الإسلام للذهبي (18/242-243) ، وانظر نص الوصية في عيون الأنباء (ص: 466) ، وطبقات السبكي (8/90) ، والزركان (ص: 638) . (3) انظر: مناظرات فخر الدين الرازي (ص: 35، 39، 45) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 675 2- وفي مسألة الرؤية ضعف دليل الأشاعرة العقلي، واقتصر في إثباتها على السمع (1) - وقد سبقت الإشارة إلى هذا عند الحديث عن الماتريدية -. 3- كما نقد ليل الأشاعرة على إثبات صفة السمع والبصر - وقد مرَّ قريباً-. 4- وكذا في صفة المحبة بين - كما تقدم - أنه لا دليل لهم على تأويلها بالإرادة. 5- وفي حصرهم الصفات الثابتة بسبع نقدهم نقداً قوياُ كما سلف. 6- أما في صفة الكلام، فيعتبر الرازي من الذين ناقشوا حقيقة الخلاف بين الأشعرية والمعتزلة، وقد ضعف أدلة الأشاعرة العقلية لإثبات هذه الصفة (2) ، بل بين أن منازعة الأشاعرة للمعتزلة في هذه المسألة ضعيفة (3) ، وصرح بأن الحروف والأصوات محدثة (4) . 7- اعتذاره لنفاة الصفات بأنهم أرادوا بنفيها إثبات كمال الوحدانية لله تعالى (5) ، بل مال إلى مذهب المعتزلة في الصفات حين رد صفتي الإرادة والقدرة إلى صفة العلم (6) . 8 - كما نقد الاستدلال بالإحكام والإتقان على العلم، وهو من أدلة الأشاعرة المشهورة (7) .   (1) انظر: الأربعين (ص: 191-198) ، ونهاية العقول (174-أ) والمعالم (ص: 74) ، والمحصل (ص: 189) . (2) انظر: المحصل (ص: 173-174) . (3) انظر: الأربعين (ص: 177-179) . (4) انظر: المصدر السابق (ص: 184) . (5) انظر: لوامع البينات (ص: 33) . (6) انظر: المباحث المشرقية (2/490) . (7) انظر: فخر الدين الرازي للزركان (ص: 303-305) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 676 9- دافع عن تكفير المعتزلة والخوارج والروافض، وناقش الأوجه التي كفر بها بعضهم بعضاً، ومن ذلك تكفير الأشاعرة لغيرهم (1) ، وفي مسألة الجهل بصفات الله رجح أنه لا يكفر الجاهل بها، وعلل ذلك بأنه يلزم منه تكفير كثير من أئمة الأشعرية بسبب خلافهم في إثبات الصفات (2) ، كما رجح أن أهل التقليد ناجون خلافاً لكثير من الأشعرية (3) ، وليس المقصود هنا تصويب الرازي أو تخطئته في هذه الأمور التي قرب فيها من منهج أهل السنة، وإنما المقصود أنه خالف فيها كثيراً من شيوخه الأشاعرة. 10- تصريحه بالجبر في مسألة القدر - كما تقدم - وذلك خلافاً لشيوخه الذين ينكرون أن يكون قولهم بالكسب يؤدي إلى الجبر. إلى غيرها من المسائل، التي كان للرازي فيها تأثير فيمن جاء بعده، وذلك بالبعد عن منهج السلف والقرب من بعض فرق الضلال كالمعتزلة وغيرهم كما كان له أيضاً تأثير في وجود الترجيحات المخالفة لمذهب الأشاعرة. جـ - ومن الآثار البارزة في المنهج متابعة من جاء بعده له في خلط علوم الفلسفة بعلم الكلام، يقول ابن خلدون: " ولما وضع المتأخرون في علوم القوم [أي الفلاسفة] ودونوا فيها، ورد عليهم الغزالي ما رد منها، ثم خلط المتأخرون من المتكلمين مسائل علم الكلام بمسائل الفلسفة، لعروضها في مباحثهم وتشابه موضوع علم الكلام بموضوع الإلهيات، ومسائله بمسائلها، فصارت كأنها فن واحد، ثم غيروا ترتيب الحكماء في مسائل الطبيعيات والإلهيات، وخلطوهما فناً واحداً، قدموا الكلام في الأمور العامة، ثم أتبعوه بالجسمانيات وتوابعها، ثم بالروحانيات وتوابعها إلى آخر العلم، كما فعله ابن الخطيب في المباحث المشرقية، وجميع من بعده ممن علماء الكلام " (4) ، والمتتبع لكتب البيضاوي   (1) انظر: نهاية العقول (290-أ - 293-ب) . (2) انظر: المصدر السابق (287-ب) . (3) انظر: نهاية العقول (293-ب-294-أ) . (4) مقدمة ابن خلدون (ص: 466) ، وانظر: أيضاً قبل ذلك (ص: 430) - ط الشعب -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 677 والتفتازاني والإيجي وغيرهم يلاحظ هذا المنهج واضحاً، حتى إن مباحث الإلهيات - وهي المقصودة - لا تأخذ من الكتاب الواحد منها إلا جزءاً صغيراً في آخر الكتاب، والباقي كله مقدمات منطقية وطبيعية وفلسفية، وقد علل هؤلاء المتأخرون هذا الخلط بمثل قول التفتازاني المتوفى سنة 791هـ،: " لما كان من الباحث الحكمية مالا يقدح في العقائد الدينية ولم يناسب غير الكلام من العلوم الإسلامية خلطها بمسائل الكلام إفاضة للحقائق، وإفادة لما عسى أن يستعان به التقصي عن المضائق وإلا فلا نزاع في أن أصل الكلام لا يتجاوز مباحث الذات والصفات والنبوة والإمامة والمعاد وما يتعلق بذلك من أحوال الممكنات" (1) . * * * وقبل الانتقال إلى الأشاعرة الذين عاصروا شيخ الإسلام ابن تيمية أود الإشارة إلى اثنين من أعلام الأشاعرة المشهورين جاءا بعد الرازي وهما: - أبو الحسن الآمدي : المتوفى (2) سنة 631هـ. وقد اشتهر بكتابه الكبير الذي لا يزال مخطوطاً وهو أبكار الأفكار، وقد اختصره في كتابه الآخر غاية المرام في علم الكلام، وهو مطبوع، ومنهج الآمدي يقرب من منهج الرازي في بعض الأمور ومنها:   (1) شرح المقاصد (1/14) . (2) هو: أبو الحسن علي بن أبي محمد بن سالم، سيف الدين الآمدي، ولد سنة 551هـ في آمد من ديار بكر، انتقل وهو شاب إلى بغداد فدرس بها، ثم تعرض لاتهام الفقهاء له بسبب ميله إلى العلوم العقلية فانتقل سنة 592هـ إلى مصر وبقي فيها مدرساً في بعض مدارسها وقد تعرض فيها أيضاً إلى محنة أخرى حيث نسب إليه فساد العقيدة لغلوه في الفلسفة، ثم انتقل إلى حماة ودمشق حيث تولى مرتبة الأستاذية في المدرسة العزيزية ثم عزل عنها، ومات سنة 631هـ، من مؤلفاته الأحكام في أصول الأحكام، ومنتهى السول، مطبوعان، وله أيضاً الإبكار، والغاية، ودقائق الحقائق وغيرها، انظر: أخبار العلماء للقفطي (ص: 161) ، وعيون الأبناء (ص: 650) ، ووفيات الأعيان (3/293) وسير أعلام النبلاء (22/364) ، وطبقات السبكي (8/306) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 678 1- خلطه علم الكلام بالفلسفة، وهو يُعنى كثيراً بالمصطلحات وبيانها. 2- نقده لأدلة الأشاعرة في المسائل المختلفة وتضعيفها، فهو مثلاً يقول عن دليل الشهرستاني على حدوث العالم بعد أن نقله بطوله: " وهو عند التحقيق سراب غير حقيقي " (1) ، كما أنه في مسألة حلول الحوادث يستعرض جميع أدلة الأشاعرة على نفيها ثم يضعفها واحداً واحداً (2) ، وإن كان رجح نفيها بدليل اختاره (3) ، وكذلك أيضاً اعترض على جواب الأشاعرة عن الاعتراض الموجه لهم حين نفوا الجهة بأن الرؤية لا تكون إلا في جهة فأجابوا عن ذلك بمثال المرآة وأن الإنسان يرى نفسه فيها لا في وجهه، فالآمدي قال عن هذا الجواب " لكن فيه نظر، وهو مما لا يكاد يقوى " (4) . 3- ميله إلى التصوف الفلسفي، حتى أنه قال في الأبكار في معرض بيانه أن المعرفة قد تحصل بعدة أمور فذكر منها " طريق السلوك والرياضة، وتصفية النفس وتكميل جوهرها حتى تصير متصلة بالعوالم العلوية، عالمة بها مطلعة على ما ظهر وبطن من غير احتياج إلى دليل ولا تعلم ولا تعليم " (5) . 4- الحيرة وإيراد الإشكالات، ومن الأمثلة ذلك قوله في دليل إثبات الصانع الذي أتى به المتكلمون: " وإن أمكن بيان ذلك فهو مما يطول ويصعب تحقيقه جداً على أرباب العقول " (6) ، وقال عن مسألة خلق الأعمال وقول المعتزلة فيها: " وهو موضع غمرة ومحز إشكال " (7) ، وفي مسألة من أهم المسائل   (1) غاية المرام في علم الكلام (ص: 260) . (2) غاية المرام في علم الكلام (ص: 187-191) . (3) انظر: المصدر السابق (ص: 191) . (4) المصدر نفسه (ص: 168) ، والرازي يميل إلى هذا التضعيف كما تدل عليه عبارته في إيراد أدلة المعترضين على ثبوت الرؤية (انظر: الأربعين ص: 213، والمحصل ص: 192) . (5) أبكار الأفكار -مخطوط - (1/27- أ) . (6) غاية المرام (ص: 249) . (7) المصدر السابق (ص: 214) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 679 في مذهب الأشاعرة وهي القول بأن كلام الله واحد، أورد الاعتراض الذي يقول: لم لا يقال: إن الصفات كالسمع والبصر والكلام والحياة لا ترجع إلى الذات، مثل القول بأن الكلام واحد مع أنه متنوع، فأجاب الآمدي بقوله: " وما أوردوه من الإشكال على القول باتحاد الكلام وعود الاختلاف إلى التعلقات والمتعلقات فَمُشْكِل، وعسى أن يكون عند غيري حله، ولعسر جوابه فر بعض أصحابنا إلى القول بأن كلام الله تعالى القائم بذاته خمس وصفات مختلفة وهي الأمر والنهي والخبر والاستخبار والنداء " (1) . 5- ومما يلاحظ على الآمدي - مثل الرازي - التقرب إلى سلاطين زمانه - ومن حولهم - بإهداء كتبه إليهم (2) ، ولعل مرد ذلك إلى نوع من طلب الحماية من اعتراض عموم علماء المسلمين وفقهائهم عليه. - أما ما خالف فيه الآمدي الرازي فأمور: 1 - منها: أنه مع غلبة الحيرة عليه حتى في الأصول الكبار إلا أن تناقضه أقل من تناقض الرازي، والآمدي يورد أدلة من سبقه بخلاف الرازي الذي يوردها ويستنبط من عنده أدلة أخرى جديدة، مما يوقعه في التناقض. 2- والآمدي كثيراً ما يرد على الرازي، بل له كتاب لا يزال مخطوطاً اسمه المآخذ على الإمام الرازي أو تلخيص المطالب العالية ونقده (3) ، كما رد عليه في مسألة حلول الحوادث وقول الرازي: إنها لازمة لجميع الطوائف (4) . 3- والآمدي لا يتزعزع يقينه في أن أدلة السمع ظنية لا تفيد اليقين، بخلاف الرازي الذي يشكك أحياناً في أدلة العقل فيحيل على أدلة السمع، وقد   (1) أبكار الأفكار (1/95-ب-96-أ) . (2) انظر مثلاً: مقدمة الأحكام (1/4) ، والمبين في شرح معاني ألفاظ الحكماء والمتعلمين (ص:61-62) ، ت حسن محمود، أو (ص: 37-38) ، ت عبد الأمير الأعسم. (3) غاية المرام (ص: 456) ، في قائمة المراجع، وذكر المحقق أن لكتابه المآخذ نسخة مصورة بمعهد المخطوطات العربية بالقاهرة - رقم 3 توحيد -. (4) انظر: غاية المرام (ص: 187) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 680 رد الآمدي عليه في هذه المسائل، فرد عليه في تعويله على إثبات صفة الكلام على أدلة السمع (1) ، وكذلك في إثبات صفة السمع والبصر (2) ، وفي إثبات الرؤية (3) ، وبين صحة الدليل العقلي لها. والآخر : عز الدين بن عبد السلام (4) : ت 660هـ. الإمام العلم المشهور، وهو أحد تلامذة الآمدي، ويلاحظ أن وفاته كانت قبل ولادة شيخ الإسلام ابن تيمية بسنة واحدة تقريباً، وقد تميز العز بن عبد السلام بكونه من أعلام العلماء العاملين المجاهدين، الذين يقتدى بهم فئات عظيمة من الناس من العلماء وغيرهم، ولذلك فدفاعه عن مذهب الأشاعرة وتقريره له في كتبه له أثره في الناس، وقد كانت إحدى محنة الكبار بسبب مسألة الحرف والصوت، وقد ألف في ذلك عقيدته المسماة "الملحة في اعتقاد أهل الحق" قرر فيها مذهب الأشاعرة في كلام الله وإنكارالحرف والصوت وشنع على مخالفيه من الحنابلة، ووصفهم بالحشو وأغلظ عليهم، وقد أفرد ولده عبد اللطيف ما جرى له في رسالة (5) ، ونقلها السبكي، الذي نقل أيضاً   (1) انظر: غاية المرام (ص: 90-91) . (2) انظر: المصدر نفسه (ص: 123) . (3) انظر: المصدر نفسه (ص: 161-174) . (4) هو الشيخ عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن بن محمد بن مهذب السلمي الشافعي، ولد سنة 577- أو - 578 هـ، تتلمذ على يد فخر الدين بن عساكر الآمدي وغيرهما، وكان من أبرز تلاميذه ابن دقيق العيد، وهو الذي لقبه بسلطان العلماء، كانت للعز بن عبد السلام مواقف عظيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أبرز مؤلفاته المطبوعة قواعد الأحكام، وكتاب الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز، وبداية السول في تفضيل الرسول، والفتاوي، وغيرها، توفي سنة 660هـ، انظر: ذيل الروضتين (ص: 216) ، وفوات الوفيات (2/350) ، وطبقات السبكي (8/209) ، وانظر: العز بن عبد السلام للدكتور عبد الله الوهيبي (ص: 47) ، وما بعدها. (5) اسمها: إيضاح الكلام فيما جرى للعز بن عبد السلام في مسألة الكلام، انظر: الرسالة (ص: 1) ، وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 681 " الملحة " بكاملها (1) ، ومما تجدر ملاحظته أن شيخ الإسلام رد على العز في رسالته هذه -وأغلظ عليه أحياناً - مع أنه مدحه في أول الجواب عن الفتوى (2) . والأدلة على أشعرية العز واضحة، وقد سجل خلاصة لعقيدته في كتابه المشهور قواعد الأحكام (3) ، أما تأويله لبعض الصفات، فواضح في كتابه الإشارة إلى الإيجاز فقد أول صفات المجيئ، والقبضة، واليدين، والنزول، والضحك، والفرح، والعجب، والاستواء، والمحبة، والغضب، والسخط وغيرها (4) ، وهو ممن ينفي العلو والفوقية ويتأولهما (5) ، كما أن الشيخ له ميل إلى التصوف، فقد ذكر في كتابه القواعد أنواع العلوم التي يمنحها الأنبياء والأولياء فذكر منها: " الضرب الثاني: علوم إلهامية، يكشف بها عما في القلوب، فيرى أحدهم من الغائبات ما لم تجر العادة بسماع مثله.. ومنهم   (1) انظر: ما ذكر السبكي في طبقاته حول المحنة (8/218-245) ، أما عقيدة العز المسماة " الملحة" فنصها في (8/219-229) . (2) قال ابن تيمية في نقض المنطق (ص: 14) ، [وهو في مجموع الفتاوي 4/15) ، " وكذلك رأيت في فتاوي الفقيه أبي محمد فتوى طويله فيها أشياء حسن ... " ثم رد عليه في (ص: 74) ، وكونه مع الجويني يعيبون بتسميتهم حشوية، وفي (ص: 118) ، نقل نصاً من " الملحمة " ورد عليه إلى (ص: 135) ، - من نقض المنطق - والمقصود بأبي محمد العزّ بن عبد السلام وليس أبا محمد الجويني، والد إمام الحرمين - كما ظن البعض، لأن ابن تيمية أشار (ص: 15) ، إلى الفتنة القشيرية والتي وقعت سنة 469هـ، وأن اللعن للأشعرية انتشر بعدها، وأبو محمد الجويني توفي سنة 438هـ، إضافة إلى أن شيخ الإسلام أعاد ذكره في (ص: 54) ، بقوله " الفقيه أبو محمد بن عبد السلام "، وفي (ص: 74) ، ذكر أن أبا محمد كان يتبع أبا المعالي في فقهه وكلامه، وهذا دليل قاطع، مع أنه ذكره بقوله " أبو محمد" فقط بدون الفقيه، إضافة إلى أن مترجمي الجويني لم يذكروا له فتاوي جمعت له، أما العز فله عدة فتاوي لها نسخ خطية موجودة، وقد طبع بعضها، والله أعلم. (3) انظر: قواعد الأحكام (1/199-201) ، وانظر أيضاً: الإمام في بيان أدلة الأحكام (ص: 220-226) ، حيث أثبت الصفات السبع. (4) انظر: الإشارة إلى الإيجاز الصفحات: (8،106،107،136،145) ، والإمام في بيان أدلة الأحكام (ص: 219، 226،231، 233، 238، 243) . (5) انظر: الإشارة (ص: 129) والإمام (ص: 257) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 682 من يرى الملائكة والشياطين والبلاد النائية، بل ينظر إلى ما تحت الثرى، ومنهم من يرى السموات وأفلاكها وكواكبها وشمسها وقمرها على ما هي عليه، ومنهم من يرى اللوح المحفوظ ويقرأ ما فيه، وكذلك يسمع أحدهم صرير الأقلام وأصوات الملائكة والجان، ويفهم أحدهم منطق الطير، فسبحان من أعزهم وأدناهم" (1) ، وهذا تصوف غالٍ، وقد أباح في فتاويه السمع وذكر أنواعه، ومنع من الرقص المصاحب له (2) . والملاحظ في منهج العز -رحمه الله- أنه مع قسوته على مخالفيه في مسألة كلام الله إلا أنه ذكر في بعض كتبه وفتاويه وجوهاً من الأعذار لهم، فذكر في الفتاوي مثلاً أن معتقد الجهة لا يكفر (3) ، كما ذكر أن من قال بالحرف والصوت مسلم ويجب رد السلام عليه (4) ، أما في القواعد فقد ذكر أن مسائل قدم كلام الله، والصفات الخبرية كالوجه واليدين، والجهة، وغيرها" مما لا يمكن تصويب للمجتهدين فيه، بل الحق مع واحد منهم، والباقون مخطئون خطأ معفواً عنه لمشقة الخروج منه والانفكاك عنه ولا سيما قول معتقد الجهة ... " (5) . الأشاعرة المعاصرون لشيخ الإسلام ابن تيمية عاصر شيخ الإسلام عدد كبير من علماء الأشاعرة، وجرت بينه وبينهم جولات ومناظرات أدت إلى سجنه مرات عديدة، كما أنها كانت سبباً في تأليفه لعدد كبير من رسائله وكتبه، والملاحظ أنه -رحمه الله- ركز في مواقفه العلمية - أما العملية فسبق شرحها في ترجمته - على الرد على شيوخ أشاعرة عصره، والسبب أن هؤلاء المعاصرين له إنما كانوا يرددون أقوال وحجج من سبقهم، ولم يكن أحد منهم ذا تميز مؤثر بحيث يصبح في منزلة الغزالي أو الرازي أو الآمدي أو غيرهم من الذين كانت لهم شخصيات مستقلة.   (1) قواعد الأحكام (1/140) . (2) انظر: الفتاوي (ص: 163-166) . (3) انظر: المصدر السابق (ص: 153) . (4) انظر: الفتاوي (ص: 54) . (5) قواعد الأحكام (1/201) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 683 ولهذا السبب سيقتصر العرض هنا على ذكر من وصل إلينا شيء من كتبهم العقدية، وسيكون العرض مختصراً جداً، مع محاولة التركيز على من كانت بينه وبين شيخ الإسلام مناظرة كصفي الدين الهندي، أو جاء له ذكر في بعض أحداث محنته ك بدر الدين بن جماعة (1) ، مع عدم إغفال من كان لهم تأثير فيمن جاء بعدهم كالبيضاوي والإيجي. - صفي الدين الهندي (2) : ت 715هـ وقد سمى كتابه " الرسالة التسعينية في الأصول الدينية" لأنها مشتملة على تسعين مسألة، وقد أشار في أولها إلى ما جرى بين ابن تيمية والأشاعرة (3) ، وقد حذا في رسالته هذه حذو الرازي (4) ، وذكر القانون الكلي الذي يقدم فيه العقل على النقل عند التعارض (5) ، كما أوّل حديث الجارية " أين الله " بتأويل عجيب (6) ، وفي مسألة حلول الحوادث رد على الرازي حين قال إن أكثر العقلاء قالوا به (7) ، وفي مسألة حوادث لا أول لها ناقشها وكأنه يعرض بشيخ الإسلام ابن تيمية (8) ، كما أنه رد على الرازي في قوله في الرؤية: وإنها حالة انكشاف بنوع من العلم (9) ، وفي الجملة فليس في هذه الرسالة جديد لا في الأدلة ولا في العرض، ويغلب عليه فيها المنهج العقلي.   (1) ورد ذكره في محنته في مصر ومدحه ابن تيمية ودافع عنه كثيراً، انظر: مجموع الفتاوي (3/234-247) . (2) سبقت ترجمته (ص: 180) . (3) تقدم نقل كلامه حول ذلك في (ص: 180) ، وقد أشار إلى ذلك مرة أخرى، فقال بعد كلامه حول مسألة الجهة: " أطلنا الكلام فيه لابتلاء الناس به بسبب الفتنة المذكورة في أول الكتاب "، الرسالة التسعينية (16-أ) مخطوط. (4) انظر: الرسالة التسعينية (12-ب-24 - أ -25 -أ -ب - 28 -ب، 101-ب) . (5) انظر: المصدر السابق (25- أ- ب) . (6) انظر: المصدر نفسه (25-ب) . (7) انظر: المصدر نفسه (28- ب) . (8) انظر: المصدر نفسه (34-ب) . (9) انظر: المصدر نفسه (53-أ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 684 - بدر الدين بن جماعة (1) : ت 733هـ وله مؤلفات كثيرة في الحديث وعلوم القرآن وغيرها، أما كتبه في العقيدة فلم يصل إلينا إلا كتابه الذي سماه: " كتاب إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل، ولا يزال مخطوطاً، وقد نحا فيه منحى الأشاعرة، وذكر في أوله انتشار مذهب المعطلة (المعتزلة) والمشبهة، ثم ذكر أن مذهب المعتزلة " قد محى في بلادنا رسمه، ولم يبقَ فيها إلا ذكره واسمه، وأما مذهب التشبيه فإن جماعات من الأغوام (2) المجانيين للعلماء الأعلام أحسنوا الظن في بعض من ينسب ذلك إليهم، واعتمدوا في تقليد دينهم عليهم، إذ كان هذا المذهب أقرب إلى ذهن العامي وفهمه" (3) ، ثم ذكر أنه أورد ما تمسكوا به من الآيات والأخبار، وما يتعين عليه حملها مما يوافق مذهب الأشاعرة، وقد سار على طريقتهم فأوّل العلو والاستواء (4) ، وبقية الصفات الفعلية والخبرية كالمجيء والوجه، واليدين، والعين، والساق، والقدم، والنزول، والضحك، والفرح، والعجب، وغيرها (5) ،ومما يلاحظ في منهجه أنه ذكر أن العلماء قسمان: أهل تأويل وأهل تفويض (6) ، ثم رجح التأويل لعدة وجوه، وذكر منها أنه لو قيل بالتفويض لتعطل معنى النصوص، وصار الخطاب بلفظ مهمل، وهذا الكلام مما يركز عليه شيخ الإسلام ابن تيمية كثيراً في الرد على المفوضة، لكن ابن جماعة ذكره لترجيح القول بالتأويل على القول بالتفويض، وفي معرض إنكاره للعلو ذكر القانون العقلي المشهور عند الأشاعرة (7) ، كما أنه قال بأن العقلاء اتفقوا على وجود ما ليس في حيز ولا جهة كالعقول والنفوس (8) ، وهو في هذا متأثر بالرازي والآمدي.   (1) سبقت ترجمته (ص: 184) . (2) كذا في المخطوطة. (3) إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل - مخطوط - (2-أ) . (4) انظر: إيضاح الدليل (6-أ-23-أ) ، وأيضاً ما بعدها. (5) انظر: المصدر السابق (3-أ) . (6) انظر: المصدر نفسه (4-أ-ب) . (7) انظر: المصدر نفسه (8 - ب) . (8) انظر: المصدر نفسه (6-أ-ب) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 685 كما يلاحظ في منهجه أنه ذكر أولاً الآيات الدالة على الصفات وأوّلها، ثم ذكر الأخبار الصحيحة وأوّلها (1) ، ثم ذكر في القسم الثالث الأحاديث الضعيفة (2) ، ولم يكتفِ ببيان ضعفها بل أكثر القول في تأويلها، وكأنه في هذا سار على منهج أبي الحسن الطبري، تلميذ الأشعري، وقد سبق الكلام عنه وعن كتابه المشابه لكتاب ابن جماعة، ومن أعجب ما أورده ابن جماعة في كتابه هذا أنه قال عن حديث النار وأن الله يضع عليها قدمه - أو رجله (3) ، بعد أن رد على ابن خزيمة بشدة: " واعلم أن من العلماء من جزم بضعف هذا الحديث وإن خرجه الإمامان لأنهما ومن روياه عنه غير معصومين" (4) ، وموطن العدب في هذا الكلام - وكله عجب- أن المعهود عند هؤلاء المؤولة أن يقول الواحد منهم: إن هذه الأحاديث آحاد لا تفيد اليقين فلا يحتج بها في العقائد، أما أن يقول قائل: إن ما اتفق عليه الشيخان وروياه من عدة طرق، حديث ضعيف لأن البخاري ومسلماً من رويا عنهم غير معصومين، فهذا غريب حقاً، خاصة إذا جاء من عالم مهتم بالحديث له مثل كتاب تذكرة السامع والمتكلم، والمنهل الروي (5) ، وغيرهما، ويشبه هذا ما ذكره - نقلاً عن غيره - من احتمال التصحيف في حديث " ولا شخص أغير من الله " (6) ، وغيره (7) .   (1) إيضاح الدليل (16- ب) وما بعدها. (2) نفسه (28 -ب) وما بعدها. (3) متفق عليه - بلفظ " رجله " و " قدمه " البخاري في مواضع منها التفسير - سورة ق، باب هل من مزيد، ورقمه (4848-4850) ، (الفتح 8/594-595) ، وفي التوحيد، ورقمه (7384) (الفتح 13/369) ، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها باب النار يدخلها الجبارون ورقمه (2846-2848) . (4) إيضاح الدليل (20-أ) . (5) كلاهم لبدر الدين ابن جماعة، وقد بين في المنهل الروي (ص: 37) ، أن الأحاديث الضعيفة قد توجد فيما سوى الصحيحين، وانظر أيضاً: (ص: 34) ، عن معلقات البخاري، وهو في كلا الموضعين يرد على كلامه هنا.. (6) انظر: إيضاح الدليل (28-أ) ، وهو هنا ناقل عن الخطابي أو البيهقي الذي نقل أيضاً عن الخطابي، انظر: الأسماء والصفات للبيهقي (ص:287) ، والحديث سبق تخريجه (ص: 617) . (7) انظر مثلاً: إيضاح الدليل (23-ب) حول حديث " ينادي بصوت " حيث ذكر احتمال أنه يفتح الدال، ثم تصحفت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 686 وليس في منهج ابن جماعة جديد -إذ هو مقلد لمن سبقه، وكأنه اعتمد على من سلك هذا المنهج في إيراد نصوص الصفات من الآيات والأحاديث والكلام في تأويلها، وذلك مثل أبي الحسن الطبري، وابن فورك، والبيهقي، وقد نص في بعض المواضع على نقله من الأخير (1) . - ناصر الدين البيضاوي (2) : ت 685هـ على الراجح. وهناك أقوال أخرى في وفاته منها أنه توفي سنة 691هـ (3) ، وقيل أنها كانت سنة 719هـ (4) ، ولكن الراجح أنه سنة 685هـ، وهو الذي ذكره أغلب مترجميه (5) ، أما ولادته فلم يذكر لها تاريخ لكن من المحتمل أنها كانت في أوائل القرن السابع أو قبله بقليل (6) ،والبيضاوي عاش أغلب عمره بين شيراز وتبريز في بلاد فارس، والغرض من ذكر ما سبق بيان مدى معاصرته لابن تيمية، وأنه لم يقدم إلى الشام ولا إلى مصر، ومع ذلك اشتهرت مؤلفاته خاصة التنزيل، وكتابه طوالع في الأصول، في أصول الفقه، وتفسيره المسمى أنوار التنزيل، وكتابه طوالع الأنوار في علم الكلام، وكل هذه الكتب عنيَّ بها العلماء فشرحوها ووضعوا عليها حواشي عديدة، غالبها مطبوع، والذي يعنينا هنا كتابه الأخير الذي قال فيه السبكي: " أما الطوالع فهو عندي أجل مختصر ألف في علم   (1) انظر مثلاً: إيضاح الدليل (31-أ) . (2) هو عبد الله بن عمر بن محمد البيضاوي الشيرازي، ولي قضاء شيراز مدة، من مؤلفاته أيضاً الغاية القصوى - في الفقه - مطبوع، وغيره كثير، انظر في ترجمته: الطبقات الكبرى للسبكي (8/157) ، والكشكول للحر العاملي (1/52) ، ومفتاح السعادة (1/103) ، إضافة إلى المصادر التالية. (3) ممن قال بهذا القول السبكي في الطبقات الوسطى، انظر: حاشية الكبرى (8/157) ، والأسنوي (1/284) ، وابن قاضي شهبة (2/221) . (4) انظر: القاضي ناصر الدين البيضاوي وأثره في أصول الفقه د. جلال الدين عبد الرحمن (ص: 169) . (5) ممن ذكره ابن كثير في البداية والنهاية (13/309) ، والصفدي في الوافي (17/379) وابن العماد في الشذرات (5/392) . (6) انظر: القاضي ناصر الدين البيضاوي وأثره في أصول الفقه (ص:137) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 687 الكلام" (1) ، وأبرز من شرحه شمس الدين أبو الثناء محمود بن عبد الرحمن الأصبهاني المتوفى سنة 749هـ، والذي قدم دمشق سنة 725هـ، وصار يتردد على شيخ الإسلام ابن تيمية ولازمه (2) . الطوالع يعتبر من كتب الأشاعرة التي نهجها متأخرو الأشعرية في الاعتماد على المقدمات الطويلة ثم ذكر ما يتعلق بالإلهيات، وقد استغرقت الإلهيات عند البيضاوي ما يقارب ثلث الكتاب فقط، والباقي في المقدمات العقلية والطبيعية وما شابهها (3) ، وليس هناك جديد فيما عرضه في مسائل الإلهيات (4) ، سوى أنه قال في مسألة كلام الله " والأطناب في ذلك قليل الجدوى " (5) ، وكأنه ضاق بتناقضات من سبقه في ذلك، ولما عرض لصفات الاستواء واليدين والوجه والعين، ذكر خلاف الأشاعرة فيها ثم قال: " والأولى اتباع السلف في الإيمان بها والرد إلى الله تعالى" (6) ، وفي مسألة القدر والكسب عند الأشاعرة قال: " وهو أيضاً مشكل، ولصعوبة هذا المقام أنكر السلف على المناظرين فيه " (7) ، وقد تابعه الأصفهاني في شرحه وأحال على مذهب السلف في القدر، وأن يترك المناظرة فيه ويفوض علمه إلى الله تعالى (8) . والملاحظ عموماً على شرح   (1) الطبقات الوسطي عن حاشية الكبرى (8/157) ، ونقله عنه ابن قاضي شهبة (2/221) . (2) تقدمت ترجمته (ص: 212) ، وشرحه مطبوع، وقد سماه مطالع الأنظار في شرح طوالع الأنوار، وقد أهداه إلى السلطان محمد بن قلاوون، انظر: المقدمة (ص: 3) . (3) يقع متن الطوالع في (109) ، ولا تبد الإلهيات إلا من (ص: 66) . (4) هذا في كتابه طوالع الأنوار، أما تفسيره فالمشهور أنه اعتمد على تفسير الزمخشري والرازي، لكنه لمن يساير صاحب الكشاف في اعتزالياته، بل رد على المعتزلة (انظر مثلاً: تفسيره أنوار التنزيل 1/109، مع حاشية شيخ زاده) ، حيث انتصر للأشاعرة، وما ذكره رونسون، ومحمد حسين الذهبي من مسايرته لصاحب الكشاف في بعض اعتزالياته يحتاج إلى استقصاء وتتبع، والأمثلة التي ذكروها لا تقوى على مثل هذا الجزم، انظر: دائرة المعارف الإسلامية (9/33) ، - ط الشعب - والتفسير والمفسرون (1/297) ، والقاضي ناصر الدين البيضاوي وأثره في أصول الفقه (ص: 220-235) . (5) طوالع الأنوار (ص: 79) . (6) المصدر السابق: والصفحة نفسها، ولعل هذا تفويض أو سوء فهم لمذهب السلف. (7) المصدر السابق (ص:84) . (8) انظر: مطالع الأنظار - للأصفهاني - (ص: 193) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 688 الأصفهاني لمتن الطوالع متابعة صاحبه، وتكرار عبارته، والإضافات التي يوردها قليلة. - عضد الدين الإيجي (1) : ت 756هـ. أما ولادته فقيل: إنها بعد سنة 680هـ (2) ، وقيل بعد 700هـ (3) ، ومن كتبه: العقائد العضدية، متن مختصر وضعت عليه شروح وحواش عديدة، والكتاب الثاني المواقف في علم الكلام وهو كتاب متوسط يقع في 430 صفحة، فقد قسمه إلى ستة مواقف، الأربعة الأولى منها في المقدمات المنطقية والمباحث الفلسفية، والموقف الخامس والسادس في الإلهيات التي بدأت في ص: 266، والكتاب له شروح، عليها حواشٍ بلغت في طبعته الثانية ثمانية مجلدات كبار، وقد جاءت الإلهيات في الجزء الثامن فقط، وأكبر ما يميز كتاب المواقف ذلك التقسيم الجيد للمسائل حيث أنه يقسم الموقف إلى مراصد، وكل مرصد إلى مقاصد - وكل مقصد - إن احتاج - إلى مسالك، كما أن أسلوبه وعبارت قوية سلسة مع البعد عن التطويل في المناقشات، كما أنه اعتمد على أقوال كبار رجال الأشاعرة والترجيح بينها إن كان بينهم خلاف، وهو كثيراً ما يورد أقوال المعتزلة أو الفلاسفة ويناقشها. ومنزلة هذا الكتاب عند الأشاعرة - ممن جاء بعده كبيرة - فهو يمثل الصياغة النهائية لمذهبهم، وهو أيضاً " يضارع ما بلغه المغني للقاضي عبد الجبار بالنسبة للمعتزلة، وما بلغه كتاب الشفاء لابن سينا بالنسبة للفلاسفة، وذلك أنه بشرح الجرجاني يعد حصيلة تراث الأشاعرة كما يعد المغني حصيلة تراث   (1) هو عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار، عضد الدين الإيجي الشيرازي، وإيج من نواحي شيراز، تتلمذ على يد زين الدين السهنكي أحد تلامذة البيضاوي، مات مسجوناً قرب إيج سنة 756هـ، ومن أبرز تلامذته شمس الدين الكرماني وسعد الدين التفتازاني، انظر: طبقات السبكي (10/46) ، والدرر الكامنة (3/110) ، - هندية - والبدر الطالع (1/326) ، والإعلام (3/295) . (2) انظر: طبقات السبكي (10/46) . (3) انظر: الدرر الكامنة (3/110) ، - هندية - والبدر الطالع (1/326) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 689 المعتزلة، على أن النسق الذي اتبعه الإيجي في كتابه لم يجعل الكتاب مقصوراً في موضوعاته على علم الكلام، إذ اختلطت هذه الموضوعات بالفلسفة والمنطق حتى أصبحت هذه سمة علم الكلام لدى متأخري الأشاعرة، وإذا كانت هذه السمة معروفة لدى الرازي قبله فالواقع أن الإيجي كان تابعاً له في نسقه الكلامي، وإن كان قد تخلص من كثرة التفريعات المعروفة عن الرازي، هذا ولقد كان الإيجي أكثر اتساقاً من الرازي في موقفه الأشعري، فلم يُغلّب الفلسفة على علم الكلام تغليب الرازي، ولم يتناقض في آرائه بين مؤلفاته مما جعله أكثر تمثيلاً لعلم الكلام الأشعري من الرازي" (1) . وقد كان دعم هذا الكتاب للمذهب الأشعري مع سهولته ودقة تبويبه أن أصبح مقرراً دراسياً في العصور المتأخرة لدى كثير من المعاهد والجامعات في بعض أنحاء العالم الإسلامي. - أبو علي السكوني (2) : ت 717هـ. وقد عاش في بلاد المغرب، وترك عدة مؤلفات أهمها: التمييز لما أودعه الزمخشري من الاعتزال في تفسيره للكتاب العزيز - ولا يزال مخطوطاً - وعيون المناظرات، ولحن العوام فيما يتعلق بعلم الكلام - وهما مطبوعان -. والذي دعا إلى اختيار هذا العلم ليمثل جهة المغرب في هذه المرحلة المعاصرة لحياة شيخ الإسلام ابن تيمية - إضافة إلى وصول كتبه إلينا- أمران: أحدهما: أن بلاد المغرب لها تميز عن غيرها، فهي وإن قبلت المذهب الأشعري وانتشر فيها على يد الهروي والباقلاني وتلامذتهما إلا أنها رفضت تلك   (1) الأشاعرة: أحمد صبحي (ص: 287-288) ، - ط الرابعة -. (2) هو أبو علي عمر بن محمد بن محمد بن أحمد بن خليل السكوني، التونسي المغربي الإشبيلي، له عدة مؤلفات، توفي سنة 717هـ، وقيل غير ذلك، انظر في ترجمته: نيل الابتهاج - بهامش الديباج المذهب - (ص: 195) ، ومقدمة تحقيق لحن العوام (ص: 111-114) ، ضمن العدد 12 من حوليات الجامعة التونسية -كلية الآداب والعلوم الإنسانية 1975م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 690 الانحرافات التي أتى بها الغزالي والرازي وغيرهما، وأبو علي السكوني في كتبه يمثل هذا الاتجاه بوضوح، فهو أشعري الاعتقاد، منافح عند ضد مناوئيه، لكنه اعتمد في ذكره للمناظرات ونقل الأقوال على ما أثر عن الأشعري، وأبي إسحاق الإسفراييني، والباقلاني، والجويني، والشهرستاني، وابن فورك، وهؤلاء تكرر ذكرهم كثيراً (1) ، أما الغزالي فلم يرد له ذكر في المناظرات، موفي لحن العوام حذر من مواضع من كتابه الإحياء، وكتابه الآخر النفخ والتسوية (2) ، وأما الرازي فقد انتقده في المناظرات في مواضع (3) ، ولم ينقل عنه إلا مناظرة أحد النصارى (4) ، أما في لحن العوام فقد انتقد التسمية بمفاتيح الغيب دون أن يذكر اسمه (5) . ومما يلاحظ أنه رد طويلاً على المنجمين (6) ، والصوفية (7) ، والفلاسفة (8) ، وغيرهم. والثاني: أن السكوني سلك في كتابيه أسلوباً - لم يسبق إليه فيما أعلم - في تأليف مستقل: أ- أما في عيون المناظرات فقد عرض فيه المذهب الأشعري عن طريق جمعه للمناظرات التي وقعت من العلماء قبل الأشاعرة، أو من علماء الأشاعرة، وذلك في المسائل التي ردوا فيها على خصومهم وبينوا فيها مذهبهم، وقد جمع   (1) انظر: فهرس عيون المناظرات، وفي لحن العوام ذكر (ص: 216) ، عدداً من علماء الأشاعرة الذين يثق بهم ويوصي بكتبهم، ومنهم هؤلاء. (2) انظر: لحن العوام (ص: 209) . (3) انظر: عيون المناظرات (ص: 41-44-50) ، وقد دافع السبكي عن الرازي وهاجم السكوني في ترجمة أحد تلاميذ الرازي، انظر: الطبقات (8/121) . (4) انظر: المصدر السابق (ص: 283-287) . (5) انظر: لحن العوام (ص: 209) . (6) انظر: عيون المناظرات (ص: 221) ، ولحن العوام (ص: 174) وما بعدها. (7) انظر: لحن العوام (ص: 202-206، 213-214) . (8) انظر: المصدر السابق (ص: 212) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 691 السكوني في كتابه هذا مائة وستين مناظرة، وقال في أول الكتاب بعد أن ذكر علم التوحيد وأهميته: " قصدت إلى تعريفه بطريق ترغب في سمعه الآذان ويسهل مدركه على الأذهان، ويحمل على تحصيله من به أراد معرفة حقائق قواعد الإيمان، فألهمني الله سبحانه في ذلك إلى منهج تقرب فائدته، وتُرتجى بفضل الله عائدته وذلك أني رأيت القلوب كالمجبولة على حب سماع ما كان وما جرى في التاريخ في سالف الأزمان، ووجدت معظم قواعد هذا العلم الشريف قد تضمنتها عيون مناظرات وأشكال مناظرات جرت لأوّلي العلم في العالمين والأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين، إلى الخلفاء الراشدين، وصدور العلماء من المتقدمين والمتأخرين فرتبتها في هذا المجموع" (1) ، وقد ضمن كتابه هذا كثيراً من آراء الأشاعرة كدليل حدوث الأجسام (2) ، وكلام الله (3) ، ونفى العلو (4) ، والرؤية بلا مقابلة (5) ، وتكليف مالا يطاق (6) ، والكسب (7) ، وغيرها. ب - أما كتابه لحن العوام فقد قصد منه أن يبين كثيراً من الألفاظ والعبارات التي تدور على ألسنة العوام مما له علاقة بالله وأسمائه وصفاته، وقد ذكر في المقدمة أنه لا يجوز إطلاق الأسماء لله إلا بما ورد به الشرع، ونقل عن الأشعري والباقلاني ما يؤيد ذلك، ثم سرد مجموعة كبيرة من العبارات والألفاظ التي ترد على ألسنة العامة وغيرهم، وبين ما فيها من مخالفة لما يجب لله تعالى، والكتاب بديع في أسلوبه وطريقته لولا أنه حشى تعليلاته بما يوافق مذهب الأشاعرة، مثل نفي العلو، وتأويل الاستواء والنزول (8) ، وغيرها.   (1) عيون المناظرات (ص: 14) . (2) انظر: المصدر السابق (ص: 26-232-233) . (3) انظر: المصدر نفسه (ص:41) . (4) انظر: المصدر نفسه (ص: 48، 230-231) . (5) انظر: المصدر نفسه (ص: 58، 266-267) . (6) انظر: المصدر نفسه (60) . (7) انظر: المصدر نفسه (ص: 61) . (8) انظر: لحن العوام (ص: 142-164-169) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 692 وفيما يتعلق بعصره فإنه بعد أن ذكر نفي العلو وتأويل الاستواء والنزول، ردّاً على من يسميهم بالكرامية والمجسمة والحشوية المشبهة، قال: " حتى ذكر بعض أغبيائهم أنه ينزل درجاً من المنبر.. ويقول للناس: ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا كنزولي من منبري هذا، وهذا جهل عظيم بما يجب للرب سبحانه ويستحيل عليه " (1) ، وهذه الحكاية ذكرها ابن بطوطة في رحلته وأن ذلك كان سنة 726هـ، والغريب أن ابن بطوطة ذكر أنه رأى ابن تيمية بنفسه يقول هذا على المنبر، وهذه فرية واضحة لأن ابن تيمية كان وقت دخول ابن بطوطة دمشق في السجن (2) ، أما ما ذكره السكوني فهو ناقل عن غيره، ولا يمكن أن يكون ناقلاً عن ابن بطوطة على القول الراجح في وفاته - أي السكوني - وهو سنة 717هـ. وهذا يدل على انتشار هذه الفرية على شيخ الإسلام - أو غيره من علماء السلف - والظاهر أن ابن بطوطة تلقاها عن غيره ثم صاغها لتناسب حكاية الرحلات. * * *   (1) لحن العوام (ص: 143) ، ضمن حوليات الجامعة التونسية - العدد 12 سنة 1975م. (2) انظر: رحلة ابن بطوطة (1/110) ، وقد رد عليه المحقق الدكتور علي المنتصر الكتاني في الحاشية، كما دحض هذه الفرية محمد بهجت البيطار في كتابه حياة شيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 46-53) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 693 - خلاصة وتعقيب : مما سبق يتبين كيف تطور المذهب الأشعري بدءاً من الأشعري وإلى عصر شيخ الإسلام ابن تيمية، ومنه يتبين كيف دخل هذا المذهب على يد أعلامه في متاهات كلامية وفلسفية، وصوفية، فقرب من الاعتزال، وخلط علومه بمقدمات الفلاسفة المنطقية وغيرها، وقرن ذلك بتصوف منحرف. أما ما استقر عليه مذهب الأشاعرة، فلا يمكن تحديد ذلك بدقة، لاختلاف الأقوال وتعارضها، وقد يثبت بعضهم ما نفاه الآخرون، ومع ذلك فيمكن أن يقال: إن الأرضية التي استقر عليها هذا المذهب هو ما سطره الإيجي في كتابه المواقف، مع ملاحظة أنه يعرض أحياناً في بعض المسائل لعدة أقوال داخل المذهب الأشعري، ومع ملاحظة أن الأشاعرة حتى في العصور المتأخرة يعولون على كتب السابقين مثل كتب الأشعري والباقلاني والجويني والغزالي والرازي وغيرهم. لذلك فيمكن أن يقال: إن المذهب الأشعري أخذ السمات التالية: 1- ضرورة المقدمات المنطقية والعقلية لتحديد المصطلحات، والإحالة عليها عند عرض ما يتعلق بها من موضوعات العقيدة. 2- التمسك بدليل حدوث الأجسام، والتركيز على ضرورته لأجل الرد على القائلين بقدم العالم. 3- استقرار القانون العقلي - عند تعارض العقل والنقل - الذي جاءوا به على أنه قانون مسلم، يلجأون إليه دائماً عندما يواجهون بالنصوص. 4- خبر الآحاد لا يفيد اليقين، فلا يحتج به في العقائد ابتداءً، ولا مانع من الاحتجاج به في مسائل السمعيات، أو فيما لا يعارضه قانون عقلي. 5- مسألة نفي العلو والجهة، أصبحت من المسائل المسلمة التي لا تقبل المناقشة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 694 6- التوحيد هو توحيد الربوبية فقط، ويدخلون فيه نفي الصفات الخبرية التي تقتضي عندهم تجسيماً، لأن هذا يخالف - عندهم - حقيقة التوحيد، أما توحيد الألوهية فلا يشيرون إليه في كتبهم إلا من خلال موضوعات التصوف التي تدخلها الشركيات والانحرافات الكثيرة. 7- في الصفات استقر الأمر على إثبات الصفات السبع العقلية- وخلاف باقٍ في صفة البقاء - أما ما عداها من الصفات فيجب تأويلها. 8 - الصفات الخبرية: فيها قولان التأويل أو التقويض، وكلاهما متقاربان في النتيجة وهي القطع بنفي ما يدل عليه ظاهرها من الصفة اللائقة بالله تعالى. 9- نفي الصفات الفعلية الاختيارية، وهي ما تسمى بمسألة حلول الحوادث. 10- كلام الله، أبقوا علا ما كان موجوداً عند شيوخهم من الأشاعرة، وهو القول بالكلام النفسي، وإنه أزلي، وإنه معنى واحد، أما ما يتعلق بالقرآن المتلو فقد يميلون إلى رأي المعتزلة. 11- الرؤية الثابتة، لكن مع نفي العلو، ولم يتخلوا عن هذا التناقض الواضح إلا ما ظهر من ميل الرازي إلى تفسير الرؤية بأنها مزيد من الانكشاف العلمي، وهو قريب جداً من مذهب المعتزلة. 12- في القدر: بقيت كثير من قضاياه، كالكسب، وإنكار التعليل، والقول بالتحسين والتقبيح الشرعي فقط، وتكليف ما لا يطاق، والاستطاعة - على المذهب المشهور عنهم- أما القدرة التي للعبد وهل هي مؤثرة فقد تعددت أقوالهم فيها، وإن كان الغالب عليهم الميل إلى أنها غير مؤثرة. 13- الإيمان: مالوا فيه إلى مذاهب المرجئة، فقالوا إنه التصديق - وبعضهم يقول: إنه المعرفة - مع قولهم بوجوب الطاعات، وتأثيم العصاة وكذلك مالوا في مسائل زيادة الإيمان ونقصانه، ودخول الأعمال فيه، والاستثناء فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 695 - إلى أقوال المرجئة - ومع قول بعضهم: أن الإيمان هو المعرفة إلا أنهم لا يلتزمون لوازم مذهب جهم الفاسدة. 14- النبوات يثبتونها بدلائلها التي هي المعجزات، ويميلون إلى ما قرره الباقلاني فيها. 15- وفيما يتعلق بحكمهم على من خالفهم، فقد بقي المذهب متأرجحاً بين التكفير لغالب الطوائف، والأعذار لهم. 16- أما مسائل: - الإمامة والتفضيل بين الخلفاء الأربعة. - والسمعيات من المعاد وأحوال القيامة والجنة والنار. - والشفاعة، وعدم خلود أهل الكبائر في النار. فم يتغير مذهبهم فيها، بل بقي موافقاً لمذهب أهل السنة والجماعة كتبهم تختلف وتتباين في كثير من تفاصيل هذه المسائل، وخاصة ما يتعلق بطرق الاستدلال لها، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 696 الباب الثاني: موقف ابن تيمية من الأشاعرة تمهيد: الفصل الأول: عرضه لجوانبهم الإيجابية، واعترافه بما عندهم من حق. الفصل الثاني: منهجه العام في الرد على الأشاعرة. الفصل الثالث: موقفه في الرد عليهم تفصيلاً. وفيه مباحث: المبحث الأول: في توحيد الألوهية والربوبية. المبحث الثاني: في الأسماء والصفات. المبحث الثالث: في القضاء والقدر. المبحث الرابع: في الإيمان. المبحث الخامس: في بقية أمور العقيدة التي خالفوا فيها أهل السنة والجماعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 697 الفصل الأول: عرضه لجوانبهم الإيجابية واعترافه بما عندهم من حق مقدمة: أولاً: وصفهم بأنهم من أهل السنة في مقابل المعتزلة والرافضة. ثانياً: تفضيله أقوالهم على أقوال غيرهم من المعتزلة والجهمية والفلاسفة. ثالثاً: ذكره لإيجابيتهم وردودهم على الباطنية والملاحدة وغيرهم. رابعاً: الأشاعرة يحمدون لما لهم من مساع وجهود مشكورة. خامساً: إنصافه لأعلام الأشاعرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 699 تمهيد سبق في الباب الأول عرض موسع وشامل عن ابن تيمية وحياته ومنهجه وعن الأشاعرة ونشأتهم وتطور مذهبهم، وهذا الباب لبيان موقف ابن تيمية منهم سلباً وإيجاباً. وإذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية قد أنصف خصومه - من غير الأشاعرة - وهم أشد بعداً وانحرافاً منهم عن مذهب السلف، وقد سبق ذكر أمثلة لذلك في منهجه في الرد على الخصوم (1) - فلا شك أنه سيكون من أصول منهجه وموقفه من الأشاعرة إنصافهم وبيان مواقفهم الإيجابية، مع رده عليهم ومناقشته لهم في الأمور التي خالفوا فيها مذهب ومنهج السلف. لذلك كان من مقتضيات تكامل المنهج - في هذا الباب - أن يأتي على فصلين: أحدهما: بيان مواقفهم الإيجابية والاعتراف بما معهم من الحق. والثاني: بيان مواقفهم السلبية، وذلك بالرد على الانحرافات التي وقعوا فيها ومناقشتها بالتفصيل. وشيخ الإسلام من خلال هذا المنهج المتكامل سار على طريقة متوازنة، فالأشاعرة الذين رد عليهم طويلاً لم تمنعه هذه الملاحظات من أن يقول عنهم: إنهم من أهل السنة، وإنهم ليسوا كفاراً باتفاق المسلمين، كما لم تمنعه من التنويه بجهودهم العظيمة في الدفاع عن الإسلام، والرد على خصومه الحاقدين عليه من الفلاسفة والباطنية والرافضة والمعتزلة وغيرهم، وبالمقابل فاعتراقه بهذه الجهود لم ينسه أن هؤلاء بشر يصيبون ويخطئون، وأن ما وقعوا فيه من مخالفة لعقيدة السلف لا يجوز السكوت عنها، بل يجب بيان الحق للناس والرد على من خالفه ولو كان من أهل الفضل والعمل الصالح.   (1) انظر: ما سبق (ص: 303) وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 700 مقدمة يعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية من علماء السلف الذين انتقدوا مذهب الأشاعرة وقد ألف في ذلك كتباً مطولة، وكان معنياً ببيان تناقضاتهم ومخالفتهم لمذهب السلف، كما كان معنياً ببيان الأصول الفاسدة - وهي أصول فلسفية واعتزالية - التي أدت بهم إلى هذا الانحراف، ولذلك صار في عرف كثير من الباحثين تصنيفه على أنه خصم لدود للأِشاعرة، وفات هؤلاء أنه مع خصومته لهم وردوده القاسية عليهم لم ينسَ إنصافهم، كما لم ينسَ ما قاموا به من جهود عظيمة في كبح جماح كثير من الملاحدة والرافضة والمعتزلة وغيرهم. والعجيب أن شيخ الإسلام لما أنصف خصومه لم ينصفوه بل رموه بعظائم الأمور، ولفقوا عليه كثيراً من التهم الباطلة، فكم من محنة جرت له في حياته بسببهم حتى لقي ربه وهو في السجن، أما بعد وفاته فليست حاله وحال كتبه أحسن منها في حياته، والكل سيقفون بين يدي حكم عدل لا يظلم مثقال ذرة. وقبل أن نذكر نماذج من مواقفه الإيجابية من الأشاعرة لابد من بيان الملاحظات التالية: 1- أن شيخ الإسلام بنى ذلك على أصل ثابت عنده، وهو تفاوت الطوائف في القرب والبعد من الحق، فيسلك مع الأشاعرة هذا المسلك، يقول شيخ الإسلام معلقاً على مسألة تأثر الأشاعرة بالمعتزلة: " مع أنه يمكن بيان أن قول الأشعري أقرب إلى صريح المعقول من قول المعتزلة، كما يمكن أن يبين أن قول المعتزلة أقرب إلى صريح المعقول من قول الفلاسفة، لكن هذا يفيد أن هذا القول أقرب إلى المعقول وإلى الحق، ولا يفيد أنه هو الحق في نفس الأمر، فهذا ينتفع به من ناظر الطاعن على الأشعرية من المعتزلة، والطاعن على المعتزلة من الفلاسفة، فتبين له أن قول هؤلاء خير من قول أصحابك، فإنه كما أن كل من كان أقرب إلى السنة فقوله أقرب إلى الأدلة الشرعية، فكذلك قوله أقرب إلى الأدلة العقلية، ولا ريب أن هذا مما ينبغي سلوكه، فكل قول - أو قائل - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 701 كان إلى الحق أقرب فإنه يبين رجحانه على ما كان عن الحق أبعد، ألا ترى أن الله تعالى لما نصر الروم على الفرس - وكان هؤلاء أهل الكتاب، وهؤلاء أهل أوثان - فرح المؤمنون بنصر الله لمن كان إلى الحق أقرب على من كان عنه أبعد. وأيضاً فيمكن القريب إلى الحق أن ينازع البعيد عنه في الأصل الذي احتج به عليه البعيد، وأن يوافق القريب إلى الحق للسلف الأول الذين كانوا على الحق مطلقاً" (1) . ولذلك أنصف خصومه كلهم من الأشاعرة وغيرهم بناءً على هذه القاعدة. 2- أن ذكره لجوانبهم الإيجابية لم يأتِ مستقلاً، وإنما جاء على أثر، أو في أثناء مناقشاته لهم، ولذلك تجده عندما يرد عليهم يقرن ذلك بذكر ما عندهم من حق، وكذلك إذا ذكر إيجابيتهم أو مدحهم يقرن ذلك بذكر ما عليهم من ملاحظات عامة. 3- لم يكن شيخ الإسلام ابن تيمية يكيل المدح أو الذم جزافاً، بل يقرن ذلك بكثير من التحفظ، والسبب في ذلك أنه بنى منهجه على مقياس الاتباع لمنهج أهل السنة وليس على الأشخاص، إذ كل إنسان - مهماً كان - يؤخذ من قوله ويترك سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 4- قال كلمة الحق في معاصريه، ومدح بعضهم، ولم تأخذه سورة الغضب والمحن التي مر بها بسببهم إلى أن يقول فيهم غير الحق، أو أن يغمط ما هم عليه من أتباع للسنة. وعلى ضوء ما سبق يمكن توضيح هذا الجانب - أي ما ذكره ابن تيمية من إيجابية عند الأشاعرة واعترافه بما عندهم من حق - كما يلي: أولاً: وصفهم بأنهم من أهل السنة في مقابل المعتزلة والرافضة: 1- يقول شيخ الإسلام في معرض ذكره لذم السلف لأهل الكلام من الأشاعرة وغيرهم: " وإن كان في كلامهم من الأدلة الصحيحة وموافقة السنة   (1) انظر: درء التعارض (7/238-239) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 702 ما لا يوجد في كلام عامة الطوائف، فإنهم أقرب طوائف أهل الكلام إلى السنة والجماعة والحديث، وهو يعدون من أهل السنة والجماعة عند النظر إلى مثل المعتزلة والرافضة وغيرهم، بل هم أهل السنة والجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها هم المعتزلة والرافضة ونحوهم " (1) ، ويلاحظ وصفه لهم بأنهم هم أهل السنة في البلاد التي يغلب فيها أهل البدعة من الرافضة والمعتزلة، وهذا منتهى الإنصاف والاعتراف. 2- يقول عنهم شيخ الإسلام: إنه أقرب الطوائف إلى أهل السنة، بل دافع عنهم لما ذكر عن أبي إسماعيل الأنصاري صاحب ذم الكلام أنه من المبالغين في ذم الجهمية قال: " ويبالغ في ذم الأشعرية مع أنهم من أقرب هذه الطوائف إلى السنة" (2) ، وقال في مناسبة أخرى: " وهم في الجملة أقرب المتكلمين إلى مذهب أهل السنة والحديث " (3) . ويذكر عنهم أنهم من المتكلمين " المنتسبين إلى السنة " (4) . ويصنفهم مع بقية أهل السنة ويقول عنهم أنهم " ليسوا كفاراً باتفاق المسلمين " (5) ، وكثيراً ما ينعى على المعتزلة تشنيعهم عليهم ويقول: إن مذهب الأشاعرة ليس بهذه الشناعة (6) . ثانياً: تفضيله أقوالهم على أقوال غيرهم من المعتزلة والجهمية والفلاسفة: 1- فهو يذكر أنهم أقرب إلى السنة من غيرهم، يقول: إن الكلابية والكرامية والأشعرية أقرب إلى السنة والحق من جهمية الفلاسفة والمعتزلة ونحوهم باتفاق جماهير المسلمين " (7) ، ويقول عن الأشعرية بعد ذكر مجمل عقائدهم: " فكان هؤلاء بينهم وبين أهل الوراثة النبوية قدر مشترك بما سلكوه من الطرق   (1) نقض تأسيس المطبوع (2/87) . (2) مجموع الفتاوي (8/230) . (3) المصدر السابق (6/55) . (4) الجواب الصحيح (1/252) . (5) مجموع الفتاوي (35/101) . (6) انظر: درء التعارض (5/36،40) ، ويقول عن أبي الحسن البصري (5/42) ، وأيضاً فجمعك بين هؤلاء الصفاتية وبين المجوس والنصارى فيه من التحامل مالا يخفى على منصف. (7) انظر: درء التعارض (6/292) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 703 الصابئة في أمر الخالق وأسمائه وصفاته، فصار في مذهبهم في الرسالة تركيب من الوارثتين، لبسوا حق ورقة الأنبياء بباطل ورثة أتباع الصائبة، كما كان في مذهب أهل الكلام المحض المبتدع - كالمعتزلة - تركيب ولبس (1) بين الإثارة النبوية وبين الإثارة الصابئة، لكن أولئك أشد أتباعاً للإثارة النبوية وأقرب إلى مذهب أهل السنة من المعتزلة ونحوهم من وجوه كثيرة " (2) ، ويذكر أن الأشاعرة أصلح من المعتزلة وأقرب إلى السنة (3) . 2- يثني عليهم ويمدحهم بالمقارنة مع المعتزلة، ويرى " أن أهل الإثبات من المتكلمين - مثل الكلابية والكرامية والأشعرية - أكثر اتفاقاً وائتلافاً من المعتزلة " وأنهم خير منهم (4) . 3- وعند ذكره للجهمية والنجارية والضرارية في مسائل الصفات والقدر يقول: " الكلابية والأشعرية خير من هؤلاء في باب الصفات، فإنهم يثبتون لله الصفات العقلية، وأئمتهم يثبتون الصفات الخبرية في الجملة " (5) . 4- ويرى أنهم أقرب إلى السنة من المعتزلة في مسائل إثبات الرؤية، وكلام الله (6) . وهذا كله بناء على قاعدة أن كل من كان إلى السنة أقرب كان إلى الحق أقرب، ولاشك أن الأشاعرة أقرب إلى الحق والسنة من هؤلاء، فكيف بغيرهم ممن هو أشد انحرافاً كالفلاسفة وغيرهم (7) .   (1) في مطبوعة الفتاوي: وليس، ولعله خطأ مطبعي. (2) مجموع الفتاوي (12/32-33) . (3) انظر: التسعينية (ص: 256-257) . (4) انظر: درء التعارض (4/101-102) ، وانظر أيضاً: (2/16) . (5) التدمرية (ص: 190-191) المحققة. (6) انظر: منهاج السنة (2/252-268) ، المحققة، وأيضاً (2/94-96-97-98) ، مكتبة الرياض الحديثة. (7) انظر: الصفدية (1/58-59) ، ودرء التعارض (10-242) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 704 ثالثاً: ذكره لإيجابيتهم وردودهم على الباطنية والملاحدة وغيرهم، ولاشك أن علماء الأشاعرة لهم دور عظيم في ذلك. 1- فالباطنية لما استفحل أمرهم كان لهم علماء أهل السنة بالمرصاد ومن أبرز علماء السنة الذين فضحوهم علماء الأشاعرة، ولذلك يقول شيخ الإسلام: " وكانت الرافضة والقرامطة- علماؤها وأمراؤها - قد استظهرت في أوائل الدولة السلجوقية، حتى غلبت على الشام والعراق، وأخرجت الخليفة القائم ببغداد إلى تكريت وحبسوه بها في فتنة البساسيري المشهورة، فجاءت بعد ذلك السلجوقية حتى هزموهم وفتحوا الشام والعراق، وقهروهم بخراسان وحجروهم بمصر، وكان في وقتهم من الوزراء مثل " نظام الملك"، ومن العلماء مثل أبي المعالي الجويني، فصاروا بما يقيمونه من السنة ويردونه من بدعة هؤلاء ونحوهم لهم من المكانة عند الأمة بحسب ذلك، وكذلك المتأخرون من أصحاب مالك الذين وافقهوه كأبي الوليد الباجي، والقاضي أبي بكر بن العربي ونحوهما، لا يعظمون إلا بموافقة السنة والحديث.." (1) ، والوزير نظام الملك الذي ذكره شيخ الإسلام يعتبر من أبرز من نصر المذهب الأشعري من خلال المدارس النظامية التي أنشأها في أنحاء متفرقة من العراق وخراسان، وهو يذكر فضله فيما قام به من دعم للسلاجقة السنة في مقابل البويهيين الشيعة، ولذلك مدح صلاح الدين الأيوبي - وقد كان يتبنى عقيدة الأشاعرة - فقال عن مصر: " ثم.. فتحها ملوك السنة مثل صلاح الدين، وظهرت فيها كلمة السنة المخالفة للرافضة " (2) . 2- كذلك أيضاً يشيد شيخ الإسلام بجهود العلماء - ومنهم علماء الأشاعرة - في فضحهم للباطنية وكشف أسرارهم، يقول عن ابن سينا وكونه من الإسماعيلية الباطنية: " وقد صنف المسلمون في كشف أسرارهم، وهتك أستارهم كتباً كباراً وصغاراً، وجاهدوهم باللسان واليد، إذ كانوا أحق بذلك من اليهود والنصارى، ولو لم يكن إلا كتاب " كيف الأسرار وهتك الأستار"   (1) مجموع الفتاوي (4/18) . (2) المصدر السابق (3/281) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 705 للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب، وكتاب عبد الجبار بن أحمد، وكتاب أبي حامد الغزالي، وكلام أبي إسحاق، وكلام ابن فورك، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل، والشهرستاني، وغير هؤلاء مما يطول وصفه " (1) ، وقد أشاد بدورهم وفضحهم لشتى أصناف الباطنية من القرامطة، والإسماعيلية والنصيرية (2) . 3- وفي رده على ابن المطهر الحلي الرافضي، يرد عليه تشنيعه على الأشاعرة، ويعتذر لهم فيقول: " إن غالب شناعته على الأشعرية ومن وافقهم، والأشعرية خير من المعتزلة والرافضة عند كل من يدري ما يقول، ويتقي الله فيما يقول.. وإذا قيل: إن في كلامهم وكلام من قد يوافقهم أحياناً من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم ما هو ضعيف، فكثير من ذلك الضعيف إنما تلقوه عن المعتزلة فهم أصل الخطأ في هذا الباب، وبعض ذلك أخطأوا فيه لإفراط المعتزلة في الخطأ، فقابلوهم مقابلة انحرفوا فيها، كالجيش الذي يقاتل الكفار فربما حصل منه إفراط وعدوان " (3) . 4- ويمتدح جهود العلماء - من الأشاعرة وغيرهم - في ردودهم على الفلاسفة (4) ، ويرى أن أقوال الأشاعرة وأدلتهم في حدوث العالم مبطلة لحجة الفلاسفة على قدم العالم (5) ، ويمتدح ردود الأشاعرة وغيرهم على ملاحدة الصوفية فيقول: " ومعلوم باتفاق المسلمين أن من هو دون الأشعرية كالمعتزلة والشيعة الذين يوجبون الإسلام ويحرمون ما وراءه، فهم خير من الفلاسفة الذين يسوغون التدين بدين المسلمين واليهود والنصارى، فكيف بالطوائف المنتسبين إلى مذهب أهل السنة والجماعة كالأشعرية والكرامية والسالمية وغيرهم؟   (1) الرد على المنطقيين (ص: 142-143) . (2) انظر: درء التعارض (5/8) ، والسبعينية (ص: 11) . (3) منهاج السنة (1/313) -المحققة -. (4) انظر: درء التعارض (4/279-281) . (5) انظر: منهاج السنة (1/125-126) ، - المحققة-. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 706 فإن هؤلاء مع إيجابهم دين الإسلام وتحريمهم ما خالفه يردون على أهل البدع المشهورين بمخالفة السنة والجماعة كالخوارج والشيعة والقدرية والجهمية، ولهم في تكفير هؤلاء نزاع وتفصيل " (1) ، ويذكر شيخ الإسلام أن ملاحدة الصوفية يتظاهرون عند أهل السنة بأنهم أشعرية (2) . رابعاً: الأشاعرة يحمدون لما لهم من مساع وجهود مشكورة: وقد مر في الفقرة السابقة جزء من هذه الجهود في ردودهم وفضحهم للباطنية وغيرهم، أما هنا فنزيد الأمر إيضاحاً ببيان جهودهم المختلفة في الرد على أهل البدعة والدفاع عن أهل السنة، وهذه نماذج من أقوال شيخ الإسلام فيهم: 1- يقول بعد كلام طويل عن الأشاعرة، وتحذير العلماء منهم: " ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء من المعتزلة، وهم فضلاء عقلاء احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذك: منهم من يعظمهم لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخير الأمور أوسطها، وهذا ليس مخصوصاً بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين. والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات ويتجاوز لهم عن السيئات. {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (3) (الحشر:10) ".   (1) الصفدية (1/270-271) . (2) انظر: المصدر السابق (1/285-286) . (3) انظر: درء التعارض (2/102-103) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 707 2- ويقول عن مجموعة من الأشاعرة وغيرهم: " الواحد من هؤلاء لم يعظمه من يعظمه من المسلمين إلا لما قام به من دين الإسلام، الذي كان فيه موافقا لما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-، فإن الواحد من هؤلاء له مساع مشكورة في نصر ما نصره من الإسلام والرد على طوائف من المخالفين لما جاء به الرسول. فحمدهم والثناء عليهم بما لهم من السعي الداخل في طاعة الله ورسوله، وإظهار العلم الصحيح الموافق لما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والمظهر لباطل من خالف الرسول، وما من أحد من هؤلاء ومن هو أفضل منه إلا وله غلط في مواضع" (1) . 3- وفي موضع آخر يذكر ما لهؤلاء من حسنات فإنها إما موافقة لأهل السنة، أو رد على أهل البدعة، فيقول في نص طويل: " وكذلك متكلمة أهل الإثبات مثل الكلابية، والكرامية، والأشعرية، إنما قبلوا واتبعوا واستحمدوا إلى عموم الأمة بما أثبتوه من أصول الإيمان الصانع وصفاته، وإثبات النبوة، والرد على الكفار من المشركين وأهل الكتاب، وبيان تناقض حججهم وكذلك استحمدوا بما ردوه على الجهمية، والمعتزلة، والرافضة، والقدرية من أنواع المقالات التي يخالفون فيها أهل السنة والجماعة". "فحسناتهم نوعان: إما موافقة أهل السنة والحديث، وإما الرد على من خالف السنة والحديث ببيان تناقض حججهم". "ولم يتبع أحد مذهب الأشعري ونحوه إلا لأحد هذين الوصفين أو كليهما (2) ، وكل من أحبه وانتصر له من المسلمين وعلمائهم فإنه يحبه وينتصر له بذلك، فالمصنف في مناقبه، الدافع للطعن واللعن عنه - كالبيهقي والقشيري أبي القاسم، وابن عساكر الدمشقي - إنما يحتجون لذلك بما يقوله من أقوال أهل السنة والحديث، أو بما رد من أقوال مخالفيهم. لا يحتجون له عند الأمة وعلمائها وأمرائها إلا بهذين الوصفين، ولولا أنه كان من أقرب بني جنسه إلى   (1) درء التعارض: (8/275) (2) في مجموع الفتاوى: كلاهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 708 ذلك لألحقوه بطبقته الذين لم يكونوا كذلك كشيخه الأول أبي علي، وولده أبي الهاشم، لكن كان له من موافقة مذهب السنة والحديث في الصفات، والقدر، والإمامة، والفضائل، والشفاعة، والحوض، والصراط، والميزان، وله من الردود على المعتزلة، والقدرية، والرافضة، والجهمية، وبيان تناقضهم ما أوجب أن يمتاز بذلك عن أولئك، ويعرف له حقه وقدره {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] ، وبما وافق فيه السنة والحديث صار من القبول والاتباع ما صار، لكن الموافقة التي فيها قهر المخالف وإظهار فساد قوله هي من جنس المجاهد المنتصر، فالراد على أهل البدع مجاهد ... " (1) . 4- وللأشاعرة جهود في كسر سورة المعتزلة والجهمية، يقول ابن تيمية عن أعلامهم كابن مجاهد والباقلاني والأسفراييني وابن فورك: "وصار هؤلاء يردون على المعتزلة ما رده عليهم ابن كلاب والقلانسي والأشعري وغيرهم من مثبتة الصفات، فيبينون فساد قولهم بأن القرآن مخلوق وغير ذلك، وكان في هذا من كسر سورة المعتزلة والجهمية ما فيه ظهور شعار السنة، وهو القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله يرى في الآخرة، وإثبات الصفات والقدر وغير ذلك من أصول السنة " (2) . وفي موضع آخر يذكر ما رده الأشعرية " من بدع المعتزلة والرافضة والجهمية وغيرهم، وبينوا من تناقضهم، وعظموا الحديث والسنة ومذهب الجماعة، فحصل بما قالوه من بيان تناقض أصحاب البدع الكبار وردهم ما انتفع به خلق كثير " (3) . 5- ويرى أن لهم حسنات وفضائل وسعيا مشكورا "وخطؤهم بع الاجتهاد مغفور " (4) .   (1) مجموع الفتاوى (4/12-13) . (2) شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى (5/557-558) . (3) الفرقان بين الحق والباطل - مجموع الفتاوى (13/99) . (4) النبوات (ص 220) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 709 وهذه النقول لا تحتاج إلى تعليق، فهي تبين كيف أنه -رحمه الله- وهو يرد عليهم ويناقشهم لم ينسَ فضائلهم وجهودهم، بل نوه بها في مواطن كثيرة تكون لنفس البشرية فيها محبة للتقليل من شأن الخصم وتنقيصه. خامساً: إنصافه لأعلام الأشاعرة. أنصف شيخ الإسلام أعلام الأشاعرة، وعلى الرغم من مناقشاته الشديدة لهم إلا أنه ذكر ما عندهم من إيجابية وما لهم من جهود عظيمة في خدمة الإسلام والدفاع عنه، وما سبق في الفقرات الماضية يدل على هذا ونزيد الأمر أيضاً بذكر أقواله في بعض أعلامهم. ويعتمد منهج ابن تيمية في ذلك على أمرين: أحدهما: أن القاعدة عنده التي يطبقها على الأشاعرة وغيرهم هي التفريق بين العقيدة المسطرة في الكتب وبين أصحابها، فهو يحكم على ما هو مدون أو منقول من عقائد هؤلاء وأدلتهم ومناقشاتهم، ويبين ما في ذلك من خطأ أو صواب، فإذا ما وصل في الحديث إلى الشخص نفسه، صاحب العقيدة فإنه ينظر إليه نظرة أخرى مبنية على: أ - أنه قد يكون صادقاً في خدمته للإسلام، ولا يحمل غشاً لأهله، ولذلك فهو لا يتعمد الكذب والافتراء. ب - أنه مجتهد، وأن هذا الذي قاله هو مبلغ علمه، أو أنه كان مقلداً لغيره في هذه المسائل. جـ - ما مات عليه هذا العم، فقد يكون ممن رجع وتاب، وصرح بذلك أو أنه في آخر عمره رضي مسلك أهل الحديث. والثاني: أن لهؤلاء الأعلام - على أخطائهم - جهوداً لا تنكر في الجهاد في سبيل الله، والدفاع عن العقيدة، والرد على أعدائها من الملاحدة والمتفلسفة والرافضة وغيرهم، وهي جهود تكون في موازينهم يوم القيامة ولا يحرمون أجرها عند الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 710 هذه خلاصة منهجه في ذلك، يوضح فساد الأقوال، وأحياناً بعض مواقف أصحابها، ويبين تناقضهم، وحين يصل الأمر إلى الحكم على أشخاصهم يلتفت إلى أمور أخرى ينبغي أخذها بعين الاعتبار، وهذه نماذج لمواقفه من بعض أعلام الأشاعرة. أ - أبو الحسن الأشعري : دافع ابن تيمية عن شيوخ الأشاعرة - وعلى رأسهم ابن كلاب (1) - وكثيراً ما يقرن الأشعري بابن كلاب والكلابية، فيقول مثلاً: " لهذا كان المتكلمة الصفاتية كابن كلاب والأشعري وابن كرام خيراً وأصح طريقاً في العقليات والسمعيات من المعتزلة، والمعتزلة خيراً وأصح طريقاً في العقليات والسمعيات من المتفلسفة، وإن كان في قول كل من هؤلاء ما ينكر عليه وما خالف فيه العقل والسمع، ولكن من كان أكثر صواباً وأقوم قيلا كان أحق بأن يقدم على من هو دونه تنزيلاً وتفصيلاً " (2) ، ويقول عنهما: " لا ريب أن قول ابن كلاب والأشعري ونحوهما من المثبتة للصفات ليس هو قول الجهمية، بل ولا المعتزلة، بل هؤلاء لهم مصنفات في الرد على الجهمية والمعتزلة وبيان تضليل من نفاها، بل هم تارة يكفرون الجهمية والمعتزلة، وتارة يضللونهم " (3) . أما الأشعري نفسه فكلامه حوله كثير: 1- ففي معرض دفاعه عنه ذكر أنه: " ابتلى بطائفتين، طائفة تبغضه وطائفة تحبه، كل منهما يكذب عليه، ويقول: إنما صنف هذه الكتب تقية وإظهاراً لموافقة أهل الحديث والسنة من الحنبلية وغيرهم، وهذا كذب على الرجل، فإنه لم يوجد له قول باطن يخالف الأقوال التي أظهرها، ولا نقل أحد من خواص أصحابه ولا غيرهم عنه ما يناقض هذه الأقوال الموجودة في مصنفاته، فدعوى المدعي   (1) سبقت الإشارة - عند الحديث عن ابن كلاب في نشأة الأشاعرة - كيف دافع ابن تيمية عن ابن كلاب فيما اتهم به من تأييد دين النصارى، وممن ذكر هذه الفرية مؤيداً لها: السكسكي الحنبلي المتوفى سنة 682هـ، في كتابه " البرهان في معرفة عائد أهل الأديان " (ص: 19) . (2) شرح الأصفهانية (ص: 55) . (3) المسألة المصرية في القرآن، مجموع الفتاوي (12/202) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 711 أنه كان يبطن خلاف ما يظهر دعوى مردوده شرعاً وعقلاً، بل من تدبر كلامه في هذا الباب - في مواضع - تبين له قطعاً أنه كان ينصر ما أظهره. ولكن الذين يحبونه ويخالفونه في إثبات الصفات الخبرية يقصدون نفي ذلك عنه لئلا يقال: إنهم خالفوه، مع كون ما ذهبوا إليه من السنة قد اقتدوا فيه بحجته التي على ذكرها يعولون، وعليها يعتمدون ". " والفريق الآخر: دافعوا عنه لكونهم رأوا المنتسبين إليه لا يظهرون إلا خلاف هذا القول، ولكونهم اتهموه بالتقية، وليس كذلك، بل هو انتصر للمسائل المشهورة عند أهل السنة التي خالفهم فيها المعتزلة كمسألة الرؤية، والكلام، وإثبات الصفات، ونحو ذلك، لكن كانت خبرته بالكلام مفصلة، وخبرته بالسنة مجملة، فلذلك وافق المعتزلة في بعض أصولهم التي التزموا لأجلها خلاف السنة ... " (1) . 2- كما يمتدح شيخ الإسلام ما عمله من بيان تناقض المعتزلة، خاصة وأنه الخبير بأقوالهم، يقول: -في بيان تناقض أهل الكلام -: " وهذا مما مدح به الأشعري فإنه بين من فضائح المعتزلة وتناقض أقوالهم وفسادهم ما لم يبينه غيره، لأنه كان منهم، وكان قد درس الكلام على أبي علي الجبائي أربعين سنة، وكان ذكياً، ثم إنه رجع عنهم وصنف في الرد عليهم، ونصر في الصفات طريقة ابن كلاب لأنها أقرب إلى الحق والسنة من قولهم، ولم يعرف غيرها، فإنه لم يكن خبيراً بالسنة والحديث وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم " (2) . ويقول أيضاً عن المعتزلة: " والأشعري وغيره من متكلمة الإثبات انتدبوا لبيان تناقضهم في أصلهم، وأوعبوا في بيان تناقض الأقوال، وحكاية الأشعري مع الجبائي في الإخوة الثلاثة (3) مشهورة (4) .   (1) المسألة المصرية في القرآن، مجموع الفتاوي (12/204) . (2) منهاج السنة (3/71) ، وفي شرح حديث النزول - مجموع الفتاوي (5/556) ذكر أنه بين من تناقض المعتزلة ما لم يبينه غيره حتى جعلهم في قمع السمسة. (3) سبق ذكرها (ص: 373) . (4) المصدر السابق (2/47-48) ، مكتبة الرياض الحديثة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 712 3- كما ذكر أن الأشعري كان ينتسب إلى الإمام أحمد، وأنه أقرب إليه من بعض الحنابلة، يقول: " وكان الأشعري أقرب إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل وأهل السنة من كثير من المتأخرين المنتسبين إلى أحمد الذين مالوا إلى بعض كلام المعتزلة كابن عقيل، وصدقة بن الحسين، وابن الجوزي، وغيرهم (1) ، ويقول: " والأشعري كان من أجل المتكلمين المنتسبين إلى الإمام أحمد -رحمه الله- ونحوه، المنتصرين لطريقه، كما يذكر الأشعري ذلك في كتبه.. [ثم يقول] وأما الأشعري فهو أقرب إلى أصول أحمد من ابن عقيل وأتبع لها، فإنه كلما كان عهد الإنسان بالسلف أقرب كان أعلم بالمعقول والمنقول.. [ويقول] ولما أظهرت كلام الأشعري - ورآه الحنابلة - قالوا: هذا خير من كلام الشيخ الموفق.. " (2) . ويذكر أيضاً أن الأشعري أخذ مذهب أهل الحديث والسنة من شيخه المشهور زكريا بن يحيى الساجي (3) . 4- كما يذكر ما تميز به الأشعري من حرص على نصرة مذهب أهل الحديث، يقول عنه: " وهو دائماً ينصر في المسائل التي فيها النزاع بين أهل الحديث وغيرهم قول أهل الحديث، لكنه لم يكن خبيراً بمأخذهم، فينصره على ما يراه من الأصول التي تلقاها عن غيرها، فيقع في ذلك من التناقض ما ينكره هؤلاء هؤلاء، كما فعل في مسألة الإيمان ونصر فيها قول جهم مع نصره للاستثناء " (4) ، وذكر أنه بين طريقة السلف في أصول الدين فقال: " حتى إن الأشعري نفسه وأمثاله قد بينوا طريقة السلف في أصول الدين، واستغنائها عن الطريقة الكلامية، كطريقة الإعراض ونحوها وإن القرآن نبه على الأدلة، من أهل الكلام الذين يقولون: إن الكتاب والسنة لا يدلان على أصول الدين بحال، وإن أصول الدين تستفاد بقياس العقل المعلوم من غيرهما " (5) .   (1) درء التعارض (1/270) ، وانظر: كلاماً مشابهاً في شرح الأصفهانية (ص: 78) . (2) مجموع الفتاوي (3/227-229) . (3) شرح حديث النزول، مجموع الفتاوي (5/386) . (4) الإيمان (ص: 115) ط المكتب الإسلامي. (5) الاستقامة (1/6) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 713 5 - يذكر شيخ الإسلام أن الأشعري من مثبتة الصفات الخبرية، ويرد على الذين يزعمون أن له فيها قولين، يقول: " وأما الأشعري نفسه وأئمة أصحابه فلم يختلف قولهم في إثبات الصفات الخبرية، وفي الرد على من يتأولها، كمن يقول: استوى بمعنى استولى، وهذا مذكور في كتبه كلها كالموجز الكبير، والمقالات الصغيرة، والكبيرة، والإبانة، وغير ذلك، وهكذا نقل سائر الناس عنه، حتى المتأخرون كالرازي والآمدي، ينقلون عنه إثبات الصفات الخبرية، ولا يحكون عنه في ذلك قولين، فمن قال: إن الأشعري كان ينفيها، وإن له في تأويلها قولين فقد افترى عليه، ولكن هذا فعل طائفة من متأخري أصحابه كأبي المعالي ونحوه فإن هؤلاء أدخلوا في مذهبه أشياء من أصول المعتزلة" (1) ، كما دافع عن الأشعري فيما نسب إليه من أنه يقول: إن الله لم يكن قادراً على العل في الأزل " وبين شيخ الإسلام أن " من يبغض الأشعري ينسب إليه هذا، لتنفر عنه قلوب الناس " (2) ، وكثيراً ما يشير شيخ الإسلام إلى أنه أقرب إلى السلف من كثير ممن أتى بعده (3) ، وكثيراً ما ينقل من كتب الأشعري، ويستشهد بأقواله (4) . ب - الباقلاني والجويني : يرى شيخ الإسلام أن الباقلاني فحل الطائفة الأشعرية (5) ، ويقول عنه: إنه " أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري، ليس فيهم مثله، لا قبله ولا بعده ... " (6) ، ويذكر عنه أنه " أكثر إثباتاً بعد الأشعري في الإبانة " (7) .   (1) المسألة المصرية في القرآن - مجموع الفتاوي (12/203) . (2) درء التعارض (2/264) . (3) انظر: شرح الأصفهانية (ص: 77-78) ، ودرء التعارض (2/308) . (4) انظر مثلاً: القاعدة المراكشية (ص: 67-71) ، - ط دار طيبة - ونقض التأسيس المطبوع (2/533-534) ، ومجموع الفتاوي (4/257) ، ودرء التعارض (1/256-261) ، والتسعينية (ص: 41) . (5) انظر: التسعينية (ص:189) . (6) الحموية، مجموع الفتاوي (5/98) . (7) مجموع الفتاوي (5/52) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 714 وقد امتدحه كثيراً في ردوده على الباطنية (1) ، ومواقفه العظيمة من النصارى (2) . أما الجويني فيدافع عنه على الرغم من كونه ممن مال إلى المعتزلة أكثر ممن سبقه من الأشاعرة، وبعد أن نقل عنه الأقوال في الكلام ونسبته إلى أهل السنة ما ليس من مذهبهم، رد عليه ابن تيمية وقال: " وأبو المعالي وأمثاله أجل من أن يتعمد الكذب، لكن القول المحكي قد يسمع من قائل لم يضبطه، وقد يكون القائل نفسه لم يحرر قولهم" (3) ، ويذكر هذا في مناسبة أخرى ويرى أنه لم يتعمد الكذب لكنه كان قليل المعرفة بحال أهل السنة (4) ، ويحتج بأقواله ويصححها في معرض ردوده على الجهمية (5) ، وابن رشد (6) . جـ - الغزالي : يعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية من القلائل الذين عرفوا حقيقة ما انتهى إليه الغزالي في كتبه المختلفة، وأنه كان مائلاً إلى الفلسفة التي صاغها بعبارات ومصطلحات الصوفية، فأصبح متفلسفاً صوفياً إشراقياً (7) ، ومع أن شيخ الإسلام نقده كثيراً وفي مناسبات مختلفة، ونقل ردود العلماء عليه (8) ، إلا أنه أنصفه ومدحه وذلك من خلال: 1- بيانه أن الغزالي لا يتعمد الكذب، ولذلك لما نسب إلى الإمام أحمد أنه يقول بالتأويل رد عليه ابن تيمية بأنه: " نقله عن مجهول لا يعرف، وذلك المجهول أرسله إرسالاً عن أحمد، ولا يتنازع من يعرف أحمد وكلامه أن هذا كذب   (1) انظر: ما سبق من ذكر إجابيات الأشاعرة في الرد على الباطنية، وانظر أيضاً، منهاج السنة (4/269-271) ، وشرح حديث النزول - مجموع الفتاوي (5/558) . (2) انظر: منهاج السنة (2/39) المحققة. (3) انظر: درء التعارض (2/310) . (4) انظر، التسعينية (ص: 249) . (5) انظر: درء التعارض (5/186-190) . (6) انظر: المصدر السابق (9/110-112) . (7) سبقت الإشارة إلى ذلك في ترجمة الغزالي عند الحديث عن تطور المذهب الأشعري. (8) ذكر ذلك مرات عديدة، انظر مثلاً: النبوات (ص: 118-119) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 715 مفترى عليه، ونصوصه المنقولة عنه بنقل الثقات الأثبات، المتواتر عنه برد هذا الهذيان الذي نقله عنه، بل إذا كان أبو حامد ينقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة والتابعين من الأكاذيب لا يحصيه إلا الله، فكيف ما ينقله عن مثل أحمد"، ثم يعقب شيخ الإسلام مدافعاً عن الغزالي: " ولم يكن ممن يتعمد (1) الكذب، كان أجلّ قدراً من ذلك، وكان من أعظم الناس ذكاء وطلباً للعلم وبحثاً عن الأمور، ولما قاله كان من أعظم الناس قصداً للحق، وله من الكلام الحسن المقبول أشياء عظيمة، بليغة، ومن حسن التقسيم والترتيب ما هو به من أحسن المصنفين، لكن كونه لم يصل إلى ما جاء به الرسول من الطرق الصحيحة كان ينقل ذلك بحسب ما بلغه لاسيما مع هذا الأصل، إذ جعل النبوات فرعاً على غيرها (2) . 2- كما أن شيخ الإسلام يعترف للغزالي بجهوده في ردوده على الفلاسفة، ويمتدحه كثيراً في ذلك، ولما احتج الفلاسفة على نفي الصفات بالتركيب وما يلزم رد عليهم الغزالي ووافقه ابن تيمية فقال: " ما ذكره أبو حامد مستقيم، مبطل لقول الفلاسفة، وما ذكره ابن رشد إنما نشأ من جهة ما في اللفظ من الإجمال والاشتراك " (3) ، ثم قال مناقشاً ابن رشد: " وهذه الطريق التي سلكها أبو حامد في مناظرته إخوانك وهي طريق صحيحة، وقد تبين أن ما ذكره أبو حامد عن احتجاجهم بلفظ المركب جواب صحيح " (4) ، ويقول ابن تيمية عن ابن رشد " وقد رد على أبي حامد في تهافت التهافت رداً أخطأ في كثير منه، والصواب مع أبي حامد.. وقد تكلمت على ذلك وبينت تحقيق ما قاله أبو حامد في ذلك من الصواب الموافق لأصول الإسلام، وخطأ ما خالفه من كلام ابن رشد وغيره من الفلاسفة، وإن ما قالوه من الحق الموافق للكتاب والسنة لا يرد،   (1) في الأصل المخطوط يعتمد، ولعل الصواب ما أثبته. (2) نقض التأسيس المخطوط (3/100) . (3) انظر: درء التعارض (3/402) . (4) انظر: درء التعارض (3/438) ، وانظر أيضاً (3/389) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 716 بل يقبل، وما قصر فيه أبو حامد من إفساد أقوالهم الفاسدة فيمكن رده بطريق أخرى يعان بها أبو حامد على قصده الصحيح ". كما يمتدح شيخ الإسلام ردود الغزالي على الفلاسفة في مسألة إثبات الصانع وينقل ما ذكره من الطعن في طريقة ابن سينا وأمثاله، ثم يقول شيخ الإسلام معقباً: " وهذا الوجه الذي ذكره أبو حامد أحسن فيه، وكنت قد كتبت على توحيد الفلاسفة ونفيهم الصفات كلاماً بينت فيه فساد كلامهم في طريقة التركيب قبل أن أقف على كلام أبي حامد، ثم رأيت أبا حامد قد تكلم بما يوافق ذلك الذي كتبته" (1) ، كما يعترف له في مناسبات أخرى (2) . 3- ذكره لرجوعه في آخر عمره إلى الحديث، وأنه مات وهو يشتغل بالبخاري ومسلم (3) ، ويذكر أنه رجع " واستقر أمره على التلقي من طريقة أهل الحديث، بعد أن يأس من نيل مطلوبه من طريقة المتكلمين والمتفلسفة والمتصوفة أيضاً " (4) . د - الرازي وغيره : نظراً لأن الرازي ومن جاء بعده التصقوا بالفلسفة كثيراً، وانحرفوا عن أسلافهم الأشاعرة فقد كانت ردود ابن تيمية عليهم كثيرة وقوية، وكثيراً ما يوردها بنبرة قاسية تشبه ما يستخدمه من عبارات في ردوده على الفلاسفة والباطنية ومن شابههم من أهل الكفر والإلحاد، ومع ذلك فلم تخل مناقشاته له من الإنصاف حين يجد فيكلامه ما هو حق، فهو يقول عنه بعد نقله لأحد آرائه ومناقشاته: " قلت هذا هو الصواب، فإن بطلان الدور معلوم   (1) المصدر السابق (8/156) . (2) انظر مثلاً مجموع الفتاوى (1/49-50) ، ودرء التعارض (8/16، 10/135-152) ، وشرح الأصفهانية (ص: 132) . (3) انظر: الصفدية (1/212) ، ودرء التعارض (1/162) ، ومنهاج السنة (2/279) ، المحققة، وجامع الرسائل (1/169) ، ت رشاد سالم، ومجموع الفتاوي 72) ، وشرح الأصفهانية (ص: 123) . (4) انظر: درء التعارض (6/210) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 717 بالضرورة " (1) ، ويقول عن إحدى مناقشاته للفلاسفة: " فتبين أن الذي ألزمهم إياه أبو عبد الله الرازي إلزام لا محيد عنه " (2) ، كما يمتدح ما ذكره من إبطال الحلول وإلزام النصارى (3) ، وكثيراً ما يذكر أن ما ذكره الرازي صحيح أو حق (4) . كما يفعل ذلك مع الآمدي (5) ، ويقول عنه: " مع أنه من أفضل من تكلم من أبناء جنسه في هذه الأمور وأعرفهم بالكلام والفلسفة " (6) ، كما يعترف لأثير الدين الأبهري (7) ، ويقول عن - الرازي، والآمدي، والأرموي (8) - إنهم من أفضل بني جنسهم من المتأخرين (9) ، بل قال عن الآمدي: " كان من أحسنهم إسلاماً وأمثلهم اعتقاداً " (10) . هـ - الأشاعرة المعاصرون لابن تيمية : من يطلع على حياة شيخ الإسلام ابن تيمية وما جرى له من محن على يد الأشاعرة المعاصرين له وكيف أنه انتقل بسببهم من محنة إلى محنة ومن سجن إلى سجن، وما صاحب ذلك من مؤامرات وافتراءات عليه، من يطلع على تفاصيل ذلك قد يتصور أن موقف شيخ الإسلام منهم سيكون على غرار موقفهم   (1) انظر: درء التعارض (3/293) . (2) المصدر السابق (1/345) ، وانظر أيضاً: (1/343) . (3) انظر، المصدر السابق (6/151) . (4) انظر: نقض التأسيس المخطوط (1/26) ، ودرء التعارض (10/106) . (5) انظر: درء التعارض (4/62-65) . (6) انظر: المصدر السابق (4/234) . (7) انظر: المصدر نفسه (1/377-379) ، وأثير الدين الأبهري هو: المفضل بن عمر بن المفضل الأبهري السمرقندي، له عدة كتب منها هداية الحكمة، والإيساغوجي، والزيج الاختياري وغيرها، توفي سنة 663هـ، انظر: تاريخ آداب اللغة العربية (3/114) ، الأعلام (7/279) . (8) الرازي والآمدي تقدمت ترجمتهما، أما الأرموي فهو سراج الدين، أبو الثناء محمود بن أبي بكر أحمد الأرموي، ولد سنة 594هـ، من كتبه لباب الأربعين، توفي سنة 682هـ، انظر: طبقات السبكي (8/371) ، وابن قاضي شهبة (2/261) . (9) انظر: درء التعارض (3/31) . (10) انظر: مجموع الفتاوي (18/52) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 718 منه من السعي فيهم والانتقام منهم، ولكن الأمر لم يكن كذلك، بل صار له معهم موقفان، دالان على أدب وخلق رفيع: أحدهما: عملي، حيث كان يدعو لهم، ويأتي الانتصار لنفسه - في حالة تمكنه من ذلك - وقد سبق تفصيل ذلك عند الحديث عن محن ابن تيمية في ترجمته، وهي مواقف تدل على نفس كريمة وتسامح عجيب. والثاني: موقف نظري، عند مناقشته لهم، حيث كان يعتذر لهم، ويبين أنهم كانوا يقصدون الحق وأنهم مجتهدون، انظر إلى مثل قوله فيهم: " وأكثر الطالبين للعم والدين ليس لهم قصد من غير الحق المبين، لكن كثر في هذا الباب الشبه والمقالات، واستولت على القلوب أنواع الضلالات، حتى صار القول الذي لا يشك من أولي العلم والإيمان أنه مخالف للقرآن والبرهان، بل لا يشك في أنه كفر بما جاء به الرسول من رب العالمين، قد جعله كثير من أعيان الفضلاء أنه من محض العلم والإيمان، بل لا يشك في أنه مقتضى صريح العقل والعيان، ويظنون أنه مخالف لقواطع البرهان ". " ولهذا كنت أقول لأكابرهم لو وافقتكم على ما تقولونه لكنت كافراً مريداً (1) ، لعلمي بأن هذا كفر بيّن، وأنتم لا تكفرون لأنكم من أهل الجهل بحقائق الدين، ولهذا كان السلف والأئمة يكفرون الجهمية في الإطلاق والتعميم وأما المعين منهم فقد يدعون له ويستغفرون له، لكونه غير عالم بالصراط المستقيم، وقد يكون العلم والإيمان ظاهراً لقوم دون آخرين، وفي بعض الأمكنة ولأزمنة دون بعض، بحسب ظهور دين المرسلين " (2) . وقد مدح شيخ الإسلام القاضي بدر الدين ابن جماعة وأيده (3) ، ونقل السبكي في طبقاته أن تقي الدين ابن تيمية كان كثيراً ما يثني على والده تقي الدين السبكي، وأنه: " كان لا يعظم أحداً من أهل العصر كتعظيمه له" (4) ،   (1) كذا ولعله: مرتداً. (2) نقض التأسيس المخطوط (1/5-6) . (3) انظر: مجموع الفتاوى (3/243) ، وما بعدها. (4) طبقات الشافعية للسبكي (10/194) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 719 كما ذكر في ترجمة علاء الدين الباجي -واسمه علي بن محمد بن عبد الرحمن - أنه: " لما رآه ابن تيمية عظمه، ولم يجر بين يديه بلفظة، فأخذ الشيخ علاء الدين يقول: " تكلم نبحث معك، وابن تيمية يقول: مثلي لا يتكلم بين يديك أنا وظيفتي الاستفادة منك " (1) . هذه موقف شيخ الإسلام الإيجابية من الأشاعرة وفيها من بيان الحق والإنصاف ما يشهد له بالأمانة، ومع ذلك فهذه الجوانب لا ينبغي أن تؤخذ مجردة - وحدها - بل لابد أن يضاف إليها الجانب الثاني من منهجه في موقفه منهم، ألا وهو ردوده عليهم، وبيان ما في أقوالهم من مخالفة لعقيدة ومنهج أهل السنة، وهذا ما سنفصله في الفصلين التاليين بمباحثهما المختلفة - إن شاء الله -. * * *   (1) طبقات الشافعية للسبكي (10/342) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 720 الفصل الثاني: منهجه العام في الرد على الأشاعرة ويشمل المباحث التالية: مقدمة : أولاً: بيان جوانبهم الإيجابية. ثانياً: الكتاب والسنة فيهما ما يغني عما ابتدعه هؤلاء، وحجية خبر الآحاد في العقيدة. ثالثاً: مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم. رابعاً: أن علم الكلام مذموم. خامساً: جهلهم بالسنة وبمذهب السلف. سادساً: إرجاع أقوالهم المخالفة لمذهب أهل السنة إلى أصول الفلاسفة والجهمية والمعتزلة. سابعاً: لا تعارض بين العقل والنقل. ثامناً: الرد على متأخري الأشاعرة بأقوال شيوخهم، وردود بعضهم على بعض. تاسعاً: تناقض الأشاعرة. عاشراً: حيرة الأشاعرة وشكهم ورجوعهم. حادي عشر: تسلط الفلاسفة والباطنية على المتكلمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 721 مقدمة لقد كانت لشيخ الإسلام ابن تيمية مواقف إيجابية من الأشاعرة، أنصفهم فيها، وحمد ما قاموا به من الجهود الكبيرة في الدفاع عن الإسلام، ولكن هذه المواقف لم تمنعه من الرد على انحرافاتهم وأخطائهم ومناقشتها بالتفصيل، وقد بذل - رحمة الله - في ذلك جهوداً عظيمة، وألف فيه كتباً كثيرة، أرجع فيها الفروع إلى الأصول، والمسائل الصغيرة إلى أصولها الكبار، وبين الخلفيات والأسباب التي دعت هؤلاء إلى أن يقولوا بأقوال ويعتقدوا عقائدهم المخالفة للكتاب والسنة، وقد كان لخبرته بأصول أهل الضلال من الفلاسفة والجهمية والمعتزلة ومعرفته بمداخل مذاهبهم، وكيف يرتبون المسائل بعضها على بعض أثر كبير في قوة منهجه، وغوصه في حجبه، وإحراج خصومه عند الرد والمناقشة، وكان من آثار ذلك أن نال منه خصومه، واعتبروه خصمهم اللدود، ولما لم يقووا على مناقشته ورد ما أتى به مما يبهر العقول وينير السبيل لطالب الهدى، لجأوا إلى أساليب أخرى تبتعد عن مناقشة الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، من استعداء للسلطة، أو رميه بما هو بريء منه كذباً وزوراً، أو تشويه لأقواله وتصويرها بصورة تنفر منها نفوس عامة الناس كما فعل أشياخهم من قبل مع أشياخ أهل السنة حين رموهم بالحشو والتشبيه وغير ذلك مما هو مسطر مشهور في كتبهم، ولكن ذلك لم يثن عزم شيخ الإسلام - كما لم يثن شيوخ أهل السنة قبلهـ عن أن يبين للناس الحق، ويرد الباطل الذي جاء به أهل الكلام والفلسفة من الأشاعرة وغيرهم. وقد كان اهتمام شيخ الإسلام بالرد على الأشاعرة كبيراً، ويكفي كمثال على ذلك أن كتابين من أكبر كتبه أفردهما في الرد عليهم، وهما كتاب نقض أساس التقديس، ودرء تعارض العقل والنقل، إضافة إلى الكتب العديدة التي أفردها في ذلك - وقد سبقت الإشارة إلى ذلك عند الحديث عن مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمة -. وردود شيخ الإسلام عليهم ركزت على الأصول التي بنوا عليها مذهبهم، كما أنها لم تغفل الجزئيات والمسائل الفرعية العقدية، وذلك في مسائل توحيد الربوبية والألوهية، والصفات، والقدر، والإيمان، والنبوة، وغيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 723 ومن المفيد جداً قبل الدخول في مناقشاته وردوده التفصيلية على الأشاعرة استقراء منهجه العام في الرد عليهم، لأن هذه الخطوط العريضة توضح جوانب من منهجه قد لا تتضح من خلال الردود التفصيلية المطولة، كما أها تبرز الجوانب الجوهرية والملاحظات الأساسية على مذهب الأشاعرة، والتي بسببها وقعوا في الأخطاء والانحرافات التفصيلية. وقد كانت لشيخ الإسلام لمحات وإشارات مهمة، نظراً لطول مراسه في هذا الباب، واهتمامه الشديد به: 1- فهو الخبير بالمذهب الأشعري - بل وكل مذهب رد عليه كما سبق في منهجه - والمتتبع لما كتبه عن الأشاعرة يرى هذا بارزاً، فاطلاعه على تاريخ المذهب الأشعري نشأة وتطوراً، وتاريخ رجاله، وما جرى لهم مع خصومهم من أحداث، وكذا كتبهم التي ألفوها خدمة لمذهبهم أو رداً على خصومهم، على مختلف البلدان والأزمان التي عاشوا فيها - اطلاعه على ذلك واسع جداً، إلى حد أن أحداً من أصحاب هذا المذهب نفسه لا يجاريه في ذلك. وشيخ الإسلام حينما يرد على مقالة أحد الأشاعرة لا يكتفي بالرد عليها ونقضها مباشرة، وإنما يأتي بالردود من وجوه عديدة، فقائل هذه المقالة إن كانت له كتب أخرى، أو لشيوخه الذين تتلمذ عليهم، أو لشيوخ المذهب عموماً اطلع عليها واستخلص منها ما يرد على صاحب المقالة ويبين عدم ثقته هو أو ثقة شيوخه بهذا الكلام الذي يقوله في المقالة أو الكتاب المردود عليه، وقد أتى شيخ الإسلام في ذلك بأعاجيب. 2- وقد اختار في ردوده ومناقشاته أن تكون مشتملة على نقل كلام رؤوس الطوائف، ويعلل ذلك بقوله - في معرض بيان أن المتكلمين ضعفت ردودهم على الفلاسفة لأنهم قابلوا الفاسد بالفاسد - " وإنما يحصل النور والهدى بأن يقابل الفاسد بالصالح، والباطل بالحق، والبدعة بالسنة، والضلال بالهدى، والكذب بالصدق، وبذلك يتبين أن الأدلة الصحيحة لا تعارض بحال، وأن المعقول الصريح مطابق للمنقول الصحيح " ثم يقول: " وقد رأيت من هذا عجائب فقل أن رأيت حجة عقلية هائلة لمن عارض الشريعة قد انقدح لي وجه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 724 فسادها وطريق حلها، إلا أن رأيت بعد ذلك من أئمة تلك الطائفة من قد تفطن لفسادها وبيّنه، وذلك لأن الله خلق عباده على الفطرة، والعقول السليمة مفطورة على معرفة الحق لولا المعارضات، ولهذا أذكر من كلام رؤوس الطوائف في العقليات ما يبيّن ذلك، لا لأننا محتاجون في معرفتنا إلى ذلك، لكن ليعلم أن أئمة الطوائف معترفون بفساد هذه القضايا، التي يدعي إخوانهم أنها قطعية، مع مخالفتها للشريعة، لأن النفوس إذا علمت أن ذلك القول قاله من هو من أئمة المخالفين استأنست بذلك واطمأنت به، ولأن ذلك يبيّن أن تلك المسألة فيها نزاع بين تلك الطائفة فتنحل عقد الإصرار والتصميم على التقليد، فإن عامة الطوائف- وإن ادعوا العقليات - فجمهورهم مقلدون لرؤوسهم فإذا رأوا الرؤوس قد تنازعوا واعترفوا بالحق انحلت عقدة الإصرار على التقليد" (1) . فشيخ الإسلام يذكر ثلاثة أسباب دعته إلى النقل عن رؤساء الطوائف هي: أ - بيان أن أئمة الطوائف معترفون بفساد هذه القضايا التي يدعي هؤلاء المردود عليهم أنها قطعية. ب - ناحية نفسية تتمثل في أن هؤلاء إذا علموا أن ذلك القول قد قال به أئمتهم من قبل أنسوا واستأنسوا. جـ - إزالة عقدة الإصرار والتصميم على هذه المقالة الباطلة حين يتبيّن لهم أن فيها نزاعاً بين رؤسائهم. 3- وكثيراً ما يرد الأقوال الفاسدة بعضها ببعض، لبيان أن صاحب هذا القول الفاسد- الذي يدور حوله الرد - ينكر على منازعه ما هو أقرب إلى الصحة من قوله، فإذا كان قول منازعه فاسداً فقوله هو أحق بالفساد منه، يقول شيخ الإسلام في رده على الآمدي حين ذكر دليله الثالث على نفي التجسيم عن الله تعالى، وخلاصته: أنه لو كان جسماً لكان له بعد وامتداد، ووجوب تناهي الأبعاد (2) فرد عليه شيخ الإسلام، وكان مما قاله في معرض رده:   (1) درء التعارض (1/376-377) . (2) أبكار الأفكار للآمدي (1/142-أ-ب) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 725 " مع أن ما ذكره من وجوب تناهي الأبعاد قد أبطل فيه مسالك الناس كلها، وأنشأ مسلكاً آخر ذكر أنه لم يسبقه إليه أحد، وإذا حرر الأمر عليه وعليهم في تلك المسالك كان القدح فيها أقوى من مسالكهم في النفي، فلو قدر أن اثنين أثبت أحدهما موجوداُ قائماً بنفسه لا يتناهى، وأثبت الآخر موجوداً لا يكون متناهياً ولا غير متناهٍ، كان قول الثاني أفسد، والأول أقرب إلى الصواب، وما من مقدمة يدعون بها إفساد قول الأول إلا وفي أقوالهم ما هو أفسد منها " (1) ، ثم يعقب شيخ الإسلام بقاعدة معينة يضرب لها المثال فيقول: " والمناظرة تارة تكون بين الحق والباطل، وتارة بين القولين الباطلين لتبيين بطلانهما، أو بطلان أحدهما، أو كون أحدهما أشد بطلاناً من الآخر، فإن هذا ينتفع به كثيراً في أقوال أهل الكلام والفلسفة وأمثالهم ممن يقول أحدهم القول الفاسد وينكر على منازعه ما هو أقرب منه إلى الصواب، فيبين أن قول منازعه أحق بالصحة إن كان قوله صحيحاً، وإن قوله أحق بالفساد إن كان قول منازعه فاسداً، لتنقطع بذلك حجة الباطل " (2) ، ويضرب المثال بالمسألة المطروحة وهي وجود الله وبينونته عن خلقه التي قال عنها الآمدي: إنه لو كان جسماً لكان له بعد وامتداد، والأبعاد لا بد أن تتناهى، ولم قيل: إن الله تعالى لا يتناهى للزم منه أن لا يوجد جسم غيره من المخلوقات، أو أن يخالط القاذورات وهو محال، والآمدي يحل المشكلة بأن يقول إن الله موجود وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، فشيخ الإسلام يأتي بالقول الآخر وهو قول الحلولية أو ما يلزم منه الحلول فيقول: " حكى الأشعري وغيره عن طوائف أنهم يقولون: إنه لا يتناهى، وهؤلاء نوعان، نوع يقول: هو جسم، ونوع يقول: ليس بجسم، فإذا أراد النفاة أن يبطلوا قول هؤلاء لم يمكنهم ذلك، فإنهم إذا قالوا، يلزم منه أن يخالط القاذورات والأجسام، قالوا: كما أثبتم موجوداً لا يشار إليه، ولا هو داخل ولا خارج، فنحن نثبت موجوداً هو داخل، ولا يخالط غيره. فإذا قالوا: هذا لا يعقل، قالوا: وذلك لا يعقل " -ثم يقول شيخ الإسلام- " ومذهب   (1) درء التعارض (4/205-206) . (2) درء التعارض (4/206) وقد سبق نقل هذا النص (ص: 302) .. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 726 النفاة في العقل من مذهب الحلولية، ولهذا إذا ذكر القولان لأهل الفطر السليمة نفروا عن قول النفاة أعظم من نفورهم عن قول الحلولية " (1) ، مع أن كلاً منها قول باطل، لكن رد باطل أولئك بباطل هؤلاء. هذه إشارات سريعة يحسن بعدها الانتقال إلى المنهج التفصيلي: أولاً: بيان جوانبهم الإيجابية وما عندهم من حق: وقد سبق شرحها في الفصل السابق، والإشارة إليها هنا للتذكير ولتصور منهج الرد بمجمله. ثانياً: الكتاب والسنة فيهما ما يغني عما ابتدعه هؤلاء: وهذه المسألة يركز عليها شيخ الإسلام دائماً، ولا تكاد تخلو مسألة من المسائل التي يناقشها مما خالف فيه الأشاعرة وغيرهم إلا ويعول على بيان أن الكتاب والسنة جاءا بالدين الكامل والهدى النافع لجميع الناس، وأن المسلمين سابقاً ولاحقاً لم يكونوا بحاجة إلى شيء مما ابتدعه المبتدعون، ويقرر أن الناس " متى تركوا الاعتصام بالكتاب والسنة فلابد أن يختلفوا، فإن الناس لا يفصل بينهم إلا كتاب منزل من السماء، كما قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (البقرة:213) ، وكما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء:59) (2) ، ويقرر شيخ الإسلام أن نفاة الصفات لا يمكن أن يعتمدوا   (1) درء التعارض (4/206-207) . (2) المصدر السابق (5/284) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 727 في أقوالهم الفاسدة على الشرع، وأن يقولوا: إنها مستمدة من الكتاب والسنة، فيقول: " ولا تجد أحداً من نفاة الصفات يعتمد في ذلك على الشرع، ولا يدعي أن أصل اعتقاده لذلك من جهة الكتاب والسنة، ولا ينقل قوله عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ... " (1) ، ويأمر بعرض أقوال الناس على الكتاب والميزان الذي أنزله الله تعالى، ليميز صحيحها من فاسدها، فيقول في مسألة حوادث لا أول لها على اعتراض القائل بأن المانعين لها كثيرون: " وإذا كان كذلك فانظر في هذا الأصل الذي اتبع فيه متأخرهم لمتقدميهم من إثباتهم حدوث العالم والأجسام بهذه الطريق: هل هي طريقة صحيحة في العقل أم لا؟ وهل هي موافقة للشرع أم لا؟ فاعرضها على الكتاب والميزان فإن الله تعالى يقول: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد:25) ، فاعرض [ما (2) ] يذكرونه بما ثبت من كتاب الله والسنة رسوله وما ثبت عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين، وزنه أيضاً بالميزان الصحيحة (3) العادلة العقلية واستعن على ذلك بما يذكره كل من النظار في هذه الطريقة وأمثالهم، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، ولا تتبع الظن فإنه لا يغني من الحق شيئاً، وسل الله أن يلهمك ويهديك، فإنه قد ثبت في الحديث الصحيح الإلهي أن الله تعالى قال: " يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم (4) ... " (5) ، ويقرر أيضاً أن من أصول الإسلام " إن تميز ما بعث الله به محمداً - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والسنة والحكمة ولا تخلطه بغيره، ولا تلبس الحق بالباطل، كفعل أهل الكتاب فإن الله سبحانه أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام ديناً، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:   (1) درء التعارض (5/51) .. (2) في الأصل [عما] والتصويب من إحدى النسخ في الحاشية. (3) الميزان مذكر، ولعل الصواب [الموازين الصحيحة] . (4) قطعة من حديث قدسي مشهور، رواه مسلم في كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم ورقمه (2577) ورواه أيضاً الإمام أحمد في المسند (5/154) . (5) درء التعارض (8/275-276) .. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 728 " تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي لا هالك (1) .." (2) . وقد جاء تقرير شيخ الإسلام لهذه المسألة العظيمة التي تقوم على أن الكتاب والسنة فيهما ما يغني عن كل ما ابتدعه المبتدعون بالطرق التالية: أ - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلغ البلاغ المبين، وأوضح أصول الدين كلها حتى ترك أمته على البيضاء، ليلها كنهارها، م يقول شيخ الإسلام في أول الحموية - وهي في العلو والصفات الخبرية، وجرت له بسببها مع الأشاعرة محنة عظيمة - " من المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من أمر دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة، وهو يدعو إلى الله وإلى سبيله بإذنه على بصيرة، وقد أخبر الله بأنه أكمل له ولأمته دينهم، وأتم عليهم نعمته، محال مع هذا وغيره أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله، والعلم به ملتبساً مشتبهاً، ولم يميز بين ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العليا، وما يجوز عليه، وما يمتنع عليه، فإن معرفة هذا أصل الدين وأساس الهداية، وأفضل وأوجب ما اكتسبه القلوب، وحصلته النفوس، وأدركته العقول، فكيف يكون ذلك الكتاب وذلك الرسول وأفضل خلق الله بعد النبيين لم يحكموا هذا الباب اعتقاداً وقولاً؟ " (3) ، ويقول في   (1) رواه الإمام أحمد عن العرباض بن ساربة رضي الله عنه (5/26) ، وابن ماجه في المقدمة رقم (43) ، والحاكم (1/96) ، وابن أبي عاصم في السنة رقم (49، 50) ، كما رواه عن أبي الدراء ابن ماجه في المقدمة رقم (5) ، وابن أبي عاصم في السنة رقم (48) ، وحديث العرباض قال فيه المنذري في الترغيب (1/86) ، ت الهراس: " رواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة بإسناد حسن " وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1/27) ، ورقمه (58) ، وفي تخريج السنة لابن أبي عاصم - بروايته - الأرقام السابقة، وفي صحيح ابن ماجه رقم (5، 41) ، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (688-937) . (2) مجموع الفتاوى (15/155) . (3) الحموية، مجموع الفتاوي (5/6) ، وانظر أيضاً: نقض التأسيس المخطوط _3/198) ، ودرء التعارض (1/73-74،8/406-407) ، والنبوات (ص: 58، 227، 237) .. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 729 درء التعارض: " وبذلك يتبين أن الرسول عليه الصلاة والسلام نص على كل ما يعصم من المهالك نصاً قاطعاً للعذر، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} (التوبة:115) ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكَمْ نِعْمَتي وَرضَيْتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيْنَاً] ، وقال تعالى {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء:165) ، وقال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} (النور:54) ، وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الاسراء:9) ، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً*وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً*وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} (النساء:66-68) ، وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} (المائدة:15-16) ، وقال أبو ذر: " لقد توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً " (1) ، وفي صحيح مسلم: إن بعض المشركين قالوا لسلمان: " لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى القراءة " (2) ، وقال صلى الله عليه وسلم: [تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ... (3) ] (4) . فهذه النصوص - وغيرها كثير - تدل دلالة قاطعة على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ هذا الدين كاملاً، وأن تبليغه كان بأوضح بيان وأقوم حجة. ب - أن القرآن جاء بالدلائل الواضحة لمسائل العقيدة، ومن ذلك أنه جاء بالأدلة العقلية الواضحة، لا كما يزعم المعتزلة والأشاعرة أن دلالة السمع مجرد الخبر، فقط، وأن قبوله موقوف على تصديق المخبر، وتصديق المخبر - عندهم - موقوف على الأصول العقلية التي تنتهي بهم إلى نفي الصفات عن الله   (1) رواه الإمام أحمد في مسنده (5/153-162) ، والطبراني في الكبير، رقم (1647) ، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (1803) ، وهو مروي عن أبي الدرداء -رضي الله عنه - رواه أيو يعلى الموصلي في مسنده رقم (5109-9/46) ، ت حسين سليم أسد، وقال المحقق اسناده صحيح. (2) رواه مسلم، كتاب الطهارة، باب الاستطابة، ورقمه (262) .. (3) سبق تخريجه قريباً. (4) درء التعارض (1/73-74) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 730 تعالى، يقول شيخ الإسلام راداً على هؤلاء: " إن القرآن ضرب الله فيه الأمثال، وهي المقاييس العقلية التي يثبت بها ما يخبر به من أصول الدين، كالتوحيد، وتصديق الرسل، وإمكان المعاد، وإن ذلك مذكور في القرآن على أكمل الوجوه، و.. عامة ما يثبته النظار من المتكلمين والمتفلسفة في هذا الباب يأتي القرآن بخلاصته، وبما هو أحسن منه على أتم الوجوه، بل لا نسبة بينها لعظم التفاوت " (1) ، وشيخ الإسلام يوضح مسألة خطيرة طالما وقع في الانحراف فيها أناس كثيرون ممن تشبعوا بعلم الكلام والفلسفة حيث يظنون أن القرآن كتاب عظيم، لاشك في ثبوته، ولكنه كتاب إيمان وتسليم، وقد وصل الأمر بأحد أعلام الأشاعرة - وهو أبو الحسن الطبري المعروف بالكيا الهراسي (2) - أو بعض نظرائه من تلاميذ الجويني أن يقول: " وفي القرآن حجاج، وإن لم يكن فيه الغلبة والفلج، غير أن العامي يكتفي به، كقوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} (قّ:15) ،وليس من أنكر الحشر ينكره لأجل العياء، وكذلك قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} (النحل:62) ، {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} (لنجم:21) ، وليس هذا يدل على نفي الولد قطعاً، فمبادئ النظر كافية لهم" (3) ، ويتعجب الإنسان أشد العجب من هذا الكلام، ولذلك يرد عليه شيخ الإسلام بقوله: " وأما [ما (4) ] ذكره من أن الحجاج الذي في القرآن يكتفي به العامي، وإن لم يكن فيه الغلبة والفلج فهذا الكلام يقوله مثل هذا الرجل وأمثاله من أهل الكلام الجاهلين بحقائق ما جاء به التنزيل، وما بعث به   (1) التسعينية (ص: 273) . (2) هو أبو الحسن علي بن محمد بن علي الطبري الهراسي، المعروف بالكيا -ومعناه في اللغة العجمية الكبير القدر - والهراسي بمعنى الذعر، الأعلام (4/329) ، ولد سنة 450هـ، وتوفي سنة 504هـ= =وكان من أبرز تلاميذ الجويني بعد الغزالي، درس بالنظامية، وله أحكام القرآن، مطبوع -وشفاء المسترشدين، نقد مفردات الإمام أحمد، وغيرها، انظر: تبين كذب المفتري (ص:288-289) ، المنتظم (9/167) ، سير أعلام النبلاء (19/350) ، والوافي في الوفيات (22/82) - مطبوع - وطبقات السبكي (7/231) ، وغيرها.. (3) هذا النص نقله ابن تيمية عن الكيا الهراسي أو أحد تلاميذ الجويني، درء التعارض (7/360) ، وانظر: درء التعارض أيضاً (8/94) . (4) زيادة يقتضيها السياق، ولعلها ساقطة طباعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 731 الرسول، حتى يقول بعضهم: إن الطريقة البرهانية ليست في القرآن، وهؤلاء جهلهم بمعاني الأدلة البرهانية التي دل عليها القرآن كجهلهم بحقائق ما أخبر به القرآن، بل جهلهم بحقائق ما دل عليه الشرع من الدلائل العقلية والمطالب الخبرية أعظم من جهلهم بما سلكوه من الطرق البدعية التي سموها عقلية، وقد رأيت في كلام هذا الرجل وأمثاله من ذلك عجائب يخالفون بها صريح المعقول، مع مخالفتهمن لصحيح المنقول، ونقص علمهم وإيمانهم بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - (1) ، ثم بين شيخ الإسلام في معرض الرد " أن الطرق التي جاء به القرآن هي الطرق البرهانية التي تحصل العلم في المطالب الإليهة "، ثم ذكر عدة أمثلة تدل على هذا: 1- منها دلالة قياس الأولى على نفي الولد عن الله تعالى، يقول: " مثال ذلك أنه يستدل بقياس الأولى البرهاني، لا يستدل بقياس التمثيل والتعديل، وذلك أن الله تعالى ليس مماثلاً لشيء من الموجودات، فلا يمكن أن يستعمل في حقه قياس شمولي منطقي تستوي أفراده في الحكم، كما لا يستعمل في حقه قياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع، فإنه سبحانه لا مثل له، وإنما يستعمل في حقه من هذا وهذا قياس الأولى، مثل أن يُقال: كل نقص ينزه عنه مخلوق من المخلوقات فالخالق تعالى أولى بتنزيهه عنه، وكل كمال مطلق ثبت لموجود من الموجودات فالخالق تعالى أولى بثبوت الكمال المطلق الذي لانقص فيه بوجه من الوجوه، لأنه سبحانه واجب الوجود، فوجوده أكمل من الوجود الممكن من كل وجه، ولأنه مبدع الممكنات وخالقها، فكل كمال لها فهو منه، وهو معطيه، والذي خلق الكمال وأبدعه وأعطاه أحق بأن يكون له الكمال، كما يقولون: كل كمال في المعلول فهو من العلة" ثم يطبق هذا على المسألة التي ذكرها الكيا الهراسي وهي أن الآيات الواردة لا تدل على نفي الولد عن الله تعالى فيقول: " وكان المشركون يقولون: إن الملائكة بنات الله، كما حكى الله ذلك عنهم بقوله: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} (الزخرف:19) ،   (1) انظر: درء التعارض (7/361) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 732 وهم مع هذا يجعلون البنات نقصاً وعيباً، ويرون الذكر كمالاً، فقال لهم: كيف تصفون ربكم بأنقص الوصفين، وأنتم مع هذا لا ترضون هذا لأنفسكم؟ فهذا احتجاج عليهم بطريق الأولى في بطلان قولهم: إن له البنات، ولهم البنين، لم يحتج بذلك على نفي الولد مطلقاً كما يقول من يفتري على القرآن " (1) ، ثم يشرح الآيات الواردة في الرد على ادعاء المشركين إن لله البنات، ثم يقول " وإذا أراد أن يحتج سبحانه على نفي الولد مطلقاً لم يذكر هذه الحجة التي لم يفهم وجهها من لم يعرف ما في القرآن من الحجاج، وظن هو وأمثاله من أهل الضلال إن حجاجهم أكمل من حجاج القرآن، وأنهم حققوا أصول الدين أعظم من تحقيق الصحابة والتابعين، بل يذكر سبحانه الحجة المناسبة للمطلوب، كقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ* بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (2) (البقرة: 116-117) ، ويستشهد بآيات أخرى يذكر ما فيها من دلالات (3) . 2- ثم يذكر مثالاً آخر على مجيء القرآن بالأدلة البرهانية، وهو دليل إثبات المعاد، يقول في معرض رده على الكلام السابق - للكيا الهراسي أو أحد تلاميذ الجويني: " وأما ما ذكره من قوله تعالى {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} (قّ:15) وقول ذلك القائل: من أنكر الخلق فلم ينكره لأجل كونه عيي بالخلق الول، فيقال له: مثل هذا الكلام إذا قاله ملحد طاعن في القرآن، كان فيه من الدلالة على جهله وضلاله، مالا يقدر على وصفه الإنسان، وذلك أن الله تعالى في كتابه ذكره من دلائل المعاد وبراهينه مالا يقدر أحد على أن يأتي بقريب منه، وذكر فيه من أصناف الحجج ما ينتفع به عامة الخلق " (4) ، ثم شرح أدلة القرآن التي   (1) انظر: درء التعارض (7/362-363) .. (2) انظر: المصدر السابق (7/367-368) . (3) انظر: المصدر السابق (7/368-374) . (4) انظر: المصدر السابق (7/374) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 733 جاءت بطريق الوجود والعيان، وبطريق الاعتبار والبرهان، وشرح هذين الطريقين شرحاً وافياً (1) . 3- ثم ذكر مثالاً ثالثاً وهو ما ذكره تعالى من نفي الشركاء معه (2) . ثم يقول شيخ الإسلام معقباً على ما سبق: " ولما كان الطريق إلى الحق هو السمع والعقل، وهما متلازمان، كان من سلك الطريق العلي دله على الطريق السمعي، وهو صدق الرسول، ومن سلك الطريق السمعي بين له الأدلة العقلية، كما بين ذلك القرآن، وكان الشقي المعذب من لم يسلك لا هذا ولا هذا، كما قال أهل النار في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (الملك:10) (3) . جـ - كثيراً ما يناقش شيخ الإسلام استدلال الأشاعرة الفاسد ببعض النصوص القرآنية، ومن أمثلة ذلك: 1 - ما وقع فيه أهل الكلام - من الأشاعرة وغيرهم - في تقريرهم للعقائد الإيمانية حين يبدأون في إثبات الصانع أولاً بدليل حدوث الأجسام، ثم إثبات الصفات لله بالأدلة العقلية، ثم يتكلمون في السمعيات من المعاد والجنة والنار والإمامة وغيرها، وهذا منهجهم في جميع كتبهم تقريباً، يقول شيخ الإسلام في " قاعدة أولية " مبيناً منهج القرآن في تقرير العقيدة، مستشهداً بصدر سورة البقرة، فبعد أن صنف الخلق إلى ثلاثة أصناف قال بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (البقرة:21) ، ثم اتبع ذلك بتقرير النبوة في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} (البقرة:23) . قال ابن تيمية بعد ذلك: " والمتكلم يستحسن مثل هذا التأليف ويستعظمه، حيث قررت الربوبية ثم الرسالة، ويظن أن هذا موافق لطريقته الكلامية، في نظره في القضايا العقليات أولاً، من تقرير الربوبية، ثم تقرير النبوة، ثم تلقي السمعيات من النبوة كما   (1) درء التعارض (7/375-389) . (2) انظر: المصدر السابق (7/389-394) . (3) انظر: المصدر السابق (7/394) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 734 هي الطريقة المشهورة الكلامية للمعتزلة، والكرامية، والكلابية، والأشعرية ومن سلك هذا الطريق في إثبات الصانع أولاً، بناء على حدوث العالم، ثم إثبات صفاته نفياً وإثباتاً بالقياس العقلي - على ما بينهم منم اتفماق واختلاف إما في المسائل وإما في الدلائل- ثم بعد ذلك يتكلمون في السمعيات من المعاد والثواب والعقاب والخلافة والتفضيل والإيمان بطريق مجملة، وإنما عمدة الكلام عندهم ومعظمه مقاييس تستلزم رج كثير مما جاءت به السنة فلحقهم الذم من جهة الضعف المقاييس التي بنوا عليها، ومن جهة ردهم لما جاءت به السنة " (1) ، ثم بين بعد كلامه عن الفرق بين المعتزلة الأشاعرة في هذا الموضوع أن المتكلم أخطأ في ظنه أن طريقة القرآن توافق طريقته ممن وجوه ذكر منمها وجهين عظيمتين: أحدهما: أن إثبات الصانع في القرآن بنفس آياته، التي يستلزم العلم بها العلم به، وهذه هي الطريقة الفطرية بخلاف الطرق التي أتى بها أهل الكلام من دليل الحدوث أو الإمكان أو غيرها (2) . والوجه الثاني: " أن الله أمر بعبادته التي هي كمال النفوس، وصلاحها، وغايتها، ونهايتها، لم يقتصر على مجرد الإقرار به، كما هو غاية الطريقة الكلامية " (3) ، ثم قال عنهم: " فلا وافقوا، لا في الوسائل ولا في المقاصد، فإن الوسيلة القرآنية قد أشرنا إلى أنها فطرية قريبة، موصلة إلى عين المقصود، وتلك [أي طرق أهل الكلام في إثبات الصانع] قياسية بعيدة، ولا توصل إلا إلى نوع المقصود لا إلى عينه، وأما المقاصد: فالقرآن أخبر بالعلم به والعمل له، فجمع بين قوتي الإنسان العلمية والعملية، الحسية والحركية، الإرادية الإدراكية والاعتمادية القولية والعملية، حيث قال: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (البقرة:21) ، فالعبادة لابد فيها من معرفته، والإنابة إليه والتذلل له، والافتقار إليه وهذا هو المقصود، والطريقة الكلامية إنما تفيد مجرد الإقرار والاعتراف بوجوده " (4) .   (1) مجموع الفتاوى (2/7) . (2) انظر المصدر السابق (2/9-12) . (3) المصدر نفسه (2/12) . (4) مجموع الفتاوى (2/12) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 735 وكلام الله لا يقاس بكلام الخلق، ولولا أن المسلمين ابتلوا بمثل هذا الكلام الذي يقوله هؤلاء، ويقدمونه على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لما كان هناك حاجة إلى تقرير مثل هذه الأصول التي هي من أول مسلمات كل مؤمن ينتسب إلى هذا الدين. 2- ومن الأمثلة أيضاً احتجاجهم غير الدقيق ببعض الآيات القرآنية، مثل احتجاجهم بقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} (الواقعة: 58-59) ، على دليل حدوث الأعراض الذي يقولون به، يقول شيخ الإسلام: " وكثير من أهل الكلام يجعل دلالة القرآن والأحاديث من جهة الخبر المجرد، ومعلوم أن ذلك لا يوجب العلم إلا بعد العلم بصدق المخبر، فلهذا يضطرون إلى أن يجعلوا العلوم العقلية أصلاً، كما يفعل أبو المعالي، وأبو حامد، والرازي، وغيرهم، وأئمة المتكلمين يعترفون بأن القرآن بين الأدلة العقلية كما يذكر ذلك الأشعري وغيره، وعبد الجبار بن أحمد وغيره من المعتزلة ". " ثم هؤلاء يذكرون أدلة يجعلونها أدلة القرآن، ولا تكون هي إياها كما فعل الأشعري في " اللمع " وغيره حيث احتج بخلق الإنسان، وذكر قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} (الواقعة: 58-59) ، لكنم هو يظن أن النطفة فيها جواهر باقية، وأن نقلها في الأعراض يدل على حدوثها، فاستدل على حدوث جواهر النطفة (1) . وليست هذه طريقة القرآن ولا جمهور العقلاء، بل يعرفون أن النطفة حادثة بعد أن أن لم تكن، مستحيلة عن دم الإنسان، بالاستحالة، وبعدم المادة الأولى لا تبقى جواهرها بأعيانها دائماً " (2) ، ثم يقسم ابن تيمية النظار في نظرتهم إلى دلائل القرآن إلى ثلاث درجات: - منهم من يعرض عن دلائله العقلية.   (1) انظر: اللمع للأشعري (ص: 7) ، ت مكارثي، والرسالة إلى أهل الثغر (ص: 35) . (2) مجموع الفتاوي (16/470-471) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 736 - ومنهم من يقر بها، لكن يغلط في فهمها. - ومنهم من يعرفها على وجهها. كما أنهم ثلاث طبقات في دلالته الخبرية: - منهم من يقول: لم يدل على الصفات الخبرية. - ومنهم من يستدل به على غير ما دل عليه. - ومنهم من يستدل به على ما دل عليه (1) . 3- ومن الأمثلة أيضاً احتجاجهم بقصة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وما ذكر عنه تعالى أنه قال: {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (الأنعام:76) ، احتجاجهم بهذه الآية على أن دليل حدوث الأجسام جاء في القرآن، وقد رد عليهم ابن تيمية في ذلك طويلاً (2) . د - وشيخ الإسلام وهو يرد على الأشاعرة يفضل مصطلحات القرآن على غيره فيقول - في المناظرة حول الواسطية لما ذكر أن مذهب السلف إثبات الصفات من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل - " إني عدلت عن لفظ التأويل إلى لفظ التحريف لأن التحريف اسم جاء القرآن بذمه، وأنا تحريت في هذه العقيدة [أي الواسطية اتباع الكتاب والسنة، فنفيت ما ذمه الله من التحريف، ولم أذكر فيها لفظ التأويل بنفي ولا إثبات لأنه لفظ له عدة معان.. وقلت أيضاً: ذكرت في النفي التمثيل ولم أذكر التشبيه لأن التمثيل نفاه الله بنص كتابه حيث قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى:11) ، وقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} (مريم:65) ، وكان أحب إلى من لفظ ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان قد يعني بنفيه معنى صحيح، كما قد يعني به معنى فاسد " (3) ، وهذا الكلام الذي يقوله هنا إنما هو في مناظرته مع خصومه   (1) مجموع الفتاوي (16/471) . (2) انظر مثلاً: درء التعارض (1/310، 2/73، 4/76) ، وغيرها، وسيأتي لهذه المسألة مزيد إيضاح إن شاء الله تعالى. (3) مناظرة حول الواسطية، مجموع الفتاوي (3/165/166) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 737 الأشاعرة وغيرهم، حول العقيدة الواسطية التي كتبها لعموم المسلمين، ولذلك راعى فيها السهولة والشمول، مع الحرص الشديد على استعمال الألفاظ والمصطلحات الواردة في الكتاب والسنة، فلما ناظروه حولها بين منهجه وأسلوبه فيها، ولما ذكر شيخ الإسلام مسألة المعجزات ذكر أن تسميتها بآيات الأنبياء أولى وأدل على المقصود (1) . هـ - خبر الآحاد وإفادته للعلم إذا تلقته الأمة بالقبول، وحجيته في مسائل العقيدة، ومذهب جمهور الأشاعرة في هذه المسألة مشهور، ويتلخص في أن أخبار الآحاد - وهي ما عدا المتواتر - إنما تفيد الظن دون العلم، ومن ثم فلا يحتج بها في العقائد إذا عارضها الدليل العقلي (2) ، والأشاعرة كثيراً ما ينسبون إلى جمهور العلماء القول بأن أخبار الآحاد لا تفيد إلا الظن، ويذكرون هذا عندما يتطرقون إلى هذا الموضوع في مباحث أصول الفقه (3) ، ويلاحظ هنا أمور: الأول: أن الأشاعرة مع قولهم بأن أخبار الآحاد لا تفيد العلم إلا أنهم يحتجون بها في المسائل العملية التي هي مسائل الأحكام والفروع واهتمامهم بالحديث والفقه وأصوله مشهور ومعروف. الثاني: أنهم يحتجون بأخبار الآحاد ويقررون بها بعض مسائل العقيدة، مثل المعجزات الثابتة للنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - غير القرآن، والرؤية، والشفاعة وعذاب القبر، والحساب والميزان والصراط، والإمامة، والتفضيل وغيرها، وهو وإن قالوا إن هذه من قبيل المستفيض المشهور، إلا أنهم يعترفون بأنها دون المتواتر.   (1) انظر: الجواب الصحيح (4/67) . (2) انظر مثلاً: مشكل الحديث وبيانه لابن فورك (ص: 22) ، والتمهيد للباقلاني (ص: 381-386) ، ت مكارثي، وأصول الدين للبغدادي (ص: 12، 18) ، والإرشاد للجويني (ص: 161، 359، 416) ، والشامل (ص: 100، 557) ، وأساس التقديس للرازي (ص:168) ، وغيرها. (3) انظر مثلاً: البرهان للجويني (1/606) ، والمستصفى للغزالي (ص: 170) ، ط الجندي، والتبصرة للشيرازي (ص: 298) ، والعدة للقاضي أبي يعلى (3/898) ، والمحصول للرازي (ج- 2 ق 1 ص:632) ، والأحكام للآمدي (2/32) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 738 لذلك فهم يتناقضون حين يقولون: إن أخبار الآحاد لا تفيد العلم، أو إنها لا يحتج بها في العقيدة، وهو إنما يلجأؤن إلى هذا حين تورد عليهم الأحاديث الواردة في إثبات الصفات لله تعالى مما يظنون أنها تقضي تشبيهاً أو تجسيماً. الثالث: أن علماء مصطلح الحديث بحثوا هذه المسألة عند تقسيمهم الحديث إلى متواتر وآحاد، وعند كلامهم عن صحيحي البخاري ومسلم وتلقى الأمة لها بالقبول: 1- فابن الصلاح -رحمه الله- يقول عن المتفق عليه بين البخاري ومسلم: " وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته، والعلم اليقيني النظري واقع به، خلافاً لقول من نفي ذلك محتجاً بأنه لا يفيد في أصله إلا الظن وإنما تلقته الأمة بالقبول لأنه يجب عليهم العمل بالظن، والظن قد يخطئ، وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قوياً، ثم بان لي أن المذهب الذي اخترناه أولاً هو الصحيح.." (1) ، ثم بين أن حكمة هذا يشمل أيضاً ما انفرد به أحدهما (2) . 2- تعقب النووي ابن الصلاح فقال في التقريب: " وذكر الشيخ تقي الدين [أي ابن الصلاح] أن ما روياه أو أحدهما فهو مقطوع بصحته، والعلم القطعي حاصل فيه، وخالفه المحققون الأكثرون، فقالوا يفيد الظن ما لم يتواتر" (3) ، كما وافق النووي وخالف ابن الصلاح عزُّ الدين بن عبد السلام (4) . وكثير من العلماء الذين جاءوا بعد النووي أيدوا ابن الصلاح، ومنهم الحافظ ابن كثير (5) ، وسراج الدين البلقيني (6) ، وابن حجر (7) ، وغيرهم.   (1) علوم الحديث لابن الصلاح (ص: 24) ، وانظر: صيانة صحيح مسلم (ص:85-86-115) . (2) انظر: علوم الحديث (ص: 25) . (3) التقريب للنووي (ص: 40) ، وانظر: شرحه لصحيح مسلم (1/20) . (4) انظر: التقييد والإيضاح للعراقي (ص:41) . (5) انظر: الباعث الحثيث (ص: 33) ، وانظر: تعليق أحمد شاكر في الحاشية. (6) انظر: محاسن الاصطلاح (ص: 101) . (7) انظر: النكت على ابن الصلاح (1/371) ، وما بعدها، ونزهة النظر (ص: 39) ، مع لقط الدرر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 739 فهذا الخلاف إنما ورد على ما في الصحيحين من الأحاديث، وهذا منسحب على ما ورد في غيرهما من الأحاديث الثابتة التي تلقتها الأمة بالقبول. وقد جاءت مناقشة شيخ الإسلام ابن تيمية لهذه المسألة كما يلي: 1 - التحقيق في المقصود من خبر الواحد حيث يقال: إنه يفيد العلم، لأن البعض يظن أن من قال بهذا القول فإنه يقول بإفادته العلم في كل خبر، وهذا غير صحيح يقول شيخ الإسلام، " إن أحداً من العقلاء لم يقل إن خبر كل واحد يفيد العلم، وبحث كثير من الناس إنما هو في رد هذا القول " (1) ، ويقول أيضاً: " ولا يقول عاقل من العقلاء: إن مجرد خبر الواحد أو خبر كل أحد يفيد العلم " (2) ، وهذا بيان وتحقيق لموطن الخلاف، لأن الذين يقولون إنه يفيد الظن بنوا قولهم على أن خبر الواحد قد يصدق وقد يكذب فكيف يقال: إنه بمجرده يفيد العلم؟ وهذا صحيح بعمومه، ولكن الذين قالوا إنه قد يفيد العلم قيدوه بقيود معلومة كأن تحفة القرائن المؤيدة، أم تتلقاه الأمة بالقبول، أو يرويه الحفاظ الذي عرف عنهم الضبط والإتقان، وغيرها، وهذا الغلظ على العلماء الذي بينه شيخ الإسلام ابن تيمية أغضب شيخ الإسلام ابن القيم -رحمه الله- فقال وهو يعرض لهذا الموضوع بعد تفصيل وافٍ مشبعٍ بلغ قرابة المائة صفحة: " المقام التاسع والعاشر: وهو أن قولهم خبر الواحد لا يفيد العلم قضية كاذبة باتفاق العقلاء إن أخذت كلية عامة، وقضية لا تفيد إن أخذت جزئية أو مهملة، فإن عاقلاً لا يقول: كل خبر لا يفيد العلم حتى تنتصبوا للرد عليه كأنكم في شيء وكأنكم قد كسرتم عدو الإسلام فسودتم الأوراق بغير فائدة، حتى كذب بعض الأصوليين كذباً صريحاً لم يقله أحد قط فقال: مذهب أحمد ابن حنبل في إحدى الروايتين عنه: أن خبر الواحد يفيد العلم من غير قرينة، وهو مطرد عنده في خبر كل واحد، فيالله العجب، كيف لا يستحي العاقل من المجاهرة بالكذب على أئمة الإسلام، لكن عذر هذا وأمثاله أنهم يستجيزون نقل   (1) المسودة (ص:244) . (2) شرح الأصفهانية (ص:92) .. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 740 المذاهب عن الناس بلازم أقوالهم، ويجعلون لازم المذهب في ظنهم مذهباً " (1) . 2- يعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية من أبرز العلماء الذين نبهوا إلى خطأ وقع فيه كثير من المتأخرين - قبل ابن تيمية - وذلك حين نسبوا إلى جمهور العلماء القول بأن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول لا تفيد إلا الظن، وأن القول بإفادته العلم لم يقل به إلا فئة قليلة من الحنابلة وغيرهم، يقول -رحمه الله -: " الصحيح أن خبر الواحد قد يفيد العلم إذا احتفت به قرائن تفيد العلم، وعلى هذا فكثير من متون الصحيحين متواتر اللفظ عند أهل العلم بالحديث، وإن لم يعرف غيرهم أنه متواتر، ولهذا كان أكثر متون الصحيحين مما يعلم علماء الحديث علماً قطعياً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله: تارة لتواتره، وتارة لتلقي الأمة له بالقبول. وخبر الواحد المتلقى بالقبول يوجب العلم عند جمهور العلماء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وهو قول أكثر أصحاب الأشعري كالاسفراييني وابن فورك " (2) ، ويقول أيضاً: " الخبر الذي تلقاه الأئمة بالقبول تصديقاً له أو عملاً بموجبه يفيد العلم عند جماهير الخلف والسلف، وهذا في معنى التواتر (3) ، لكن من الناس من يسميه المشهور والمستفيض، ويقسمون الخبر إلى متواتر ومشهور وخبر واحد، وإذا كان كذلك فأكثر متون الصحيحين معلومة متقنة تلقاها أهل العلم بالحديث بالقبول والتصديق وأجمعوا على صحتها، وإجماعهم معصوم من الخطأ " (4) ، وقد أعاد هذا الكلام مرة أخرى، وذكر أن أكثر متون الصحيحين مما يعلم صحته عند علماء الطوائف وعد منه الأشعرية (5) .   (1) مختصر الصواعق (2/445) ، وكأن ابن القيم يقصد بكلامه الآمدي، لأن ما نقله هو كلامه بحروفه في الأحكام (2/32) ، مع تقديم وتأخير. (2) مجموع الفتاوي (18/40-41) . (3) يرد شيخ الإسلام على الذين يقولون، إن التواتر يحصل بالعدد فقط فيقول: " من الناس من لا يسمى متواتراً إلا ما رواه عدد كثير يكون العلم حاصلاً بكثرة عددهم فقط، ويقولون: إن كل عدد أفاد العلم في قضية أفاد مثل ذلك العدد العلم في كل قضية، وهذا ضعيف.." ثم رد عليهم، انظر: مجموع الفتاوي (18/48) ، وانظر مناقشة أو في المسودة (ص: 236-237) . (4) مجموع الفتاوي (18/48-49) .. (5) انظر المصدر السابق (18/70) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 741 بل إن شيخ الإسلام يذكر أن هذا لقول جمهور علماء أصول الفقه، فيقول: " ولهذا كان جمهور أهل العلم من جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول، تصديقاً له، أو عملاً به، أنه يوجب العلم، وهذا هو الذي ذكره المصنفون في أصول الفقه من أصحاب أبي حنيفة، ومالك والشافعي وأحمد، إلا فرقة قليلة من المتأخرين اتبعوا في ذلك طائفة من أهل الكلام أنكروا ذلك، ولكن كثيراً من أهل الكلام أو أكثرهم يوافقون الفقهاء وأهل الحديث والسلف في ذلك، وهو قول أكثر الأشعرية كأبي إسحاق وابن فورك. وأما ابن الباقلاني فهو الذي أنكر ذلك، واتبعه مثل أبي المعالي، وأبي حامد، وابن عقيل، وابن الجوزي، وابن الخطيب، والآمدي، ونحو هؤلاء، والأول هو الذي ذكره الشيخ أبو حامد، وأبو الطيب، وأبو إسحاق، وأمثاله من أئمة الشافعية، وهو الذي ذكره القاضي عبد الوهاب وأمثاله، وهو الذي ذكره أبو يعلى وأبو الخطاب وأبو الحسن بن الزاغوني، وأمثالهم من الحنابلة، وإذا كان الإجماع على تصديق الخبر موجباً للقطع به، فالاعتبار في ذلك بإجماع أهل العلم بالحديث، كما أن الاعتبار في الاجتماع على الأحكام بإجماع أهل العلم بالأمر والنهي والإباحة " (1) . ويذكر شيخ الإسلام رأي ابن الصلاح واعتراض المعترضين فيقول بعد ذكره لنماذج عديدة من أحاديث الآحاد مما تلقته الأمة بالقبول عملا به أو تصديقا له، يقول:" فهذا يفيد العلم اليقيني عند جماهير أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من الأولين والآخرين، أما السلف فلم يكن بينهم في ذلك نزاع، وأما الخلف فهذا مذهب الفقهاء الكبار من أصحاب الأئمة الأربعة، والمسألة منقولة في كتب الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، مثل السرخسي وأبي بكر الرازي من الحنفية، وابن خواز منداد وغيره من المالكية، ومثل القاضي أبي يعلي وابن أبي موسى وأبي الخطاب وغيرهم من الحنبلية، ومثل أبي إسحاق الأسفراييني وابن فورك   (1) مقدمة في أصول التفسير (ص: 67-68) ، ت زرزور، وممن صرح بأنه قد يفيد خبر الآحاد العلم ممن ذكرهم ابن تيمية أبو إسحاق الأسفراييني كما في النكت لابن حجر (1/377) ، والشيرازي في اللمع الذي ألفه بعد التبصرة (ص: 40) ، والسرخسي في أصوله (1/291-293) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 742 وأبي إسحاق النظام من المتكلمين، وإنما نازع في ذلك طائفة كابن الباقلاني ومن تبعه مثل أبي المعالي والغزالي وابن عقيل، وقد ذكر أبو عمرو بن الصلاح القول الأول وصححه واختاره، ولكنه لم يعلم كثرة القائلين به ليتقوى بهم، وإنما قاله بموجب الحجة الصحيحة، وظن من اعتراض عليه من المشايخ (1) الذي لهم علم ودين، وليس لهم بهذا الباب خبرة تامة أن هذا الذي قاله الشيخ أبو عمرو انفرد به عن الجمهور، وعذرهم أنهم يرجعون في هذه المسائل إلى ما يجدونه من كلام ابن الحاجب، وإن ارتفعوا درجة صعدوا إلى السيف الآمدى، وإلى ابن الخطيب، فإن علا سندهم صعدوا إلى الغزالي والجويني والباقلاني" (2) ، ثم ذكر ابن تيمية دليل الجمهور وهو الإجماع (3) . والدليل على أن شيخ الإسلام من أبرز العلماء الذين حققوا هذه المسألة وبينوا خطأ المتكلمين من الأشاعرة الذين حكوا الخلاف زاعمين أن قول الجمهور: أنها تفيد الظن، أن علماء أصول الحديث المحققين لما حققوا في الأمر استشهدوا ونقلوا كلام شيخ الإسلام في تحقيق ذلك، فابن كثير يقول بعد سياق الخلاف بين ابن الصلاح والنووي: " قلت: وأنا مع ابن الصلاح فيما عول عليه وأرشد إليه، والله أعلم" (4) ، ثم يقول: " -حاشية - ثم وقفت بعد هذا على كلام لشيخنا العلامة ابن تيمية مضمونه أنه نقل القطع بالحديث الذي تلقته الأمة بالقبول عن جماعات من الأئمة [وذكرهم ثم قال بعد نهاية كلام شيخ الإسلام] : " وهو معنى ما ذكره ابن الصلاح استنباطا، فوافق فيه هؤلاء الأئمة" (5) ، ومثله البلقيني في شرحه لمقدمة ابن الصلاح، فإنه قال بعد ذكر الخلاف: " وما قاله ابن عبد السلام والنووي ومن تبعهما ممنوع، فقد نقل بعض الحفاظ المتأخرين- رحمهم اللهـ[وساق أسماءهم بما يقارب ما في الباعث   (1) كالنووي والعز بن عبد السلام - كما تقدم تقريباً -. (2) نقله ابن القيم مختصر الصواعق (2/373-374) . (3) انظر: المصدر السابق (2/374-377) ، وهو بحث مهم جداً. (4) الباعث الحثيث (ص: 33) . (5) المصدر السابق (ص: 34) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 743 الحثيث] أنهم يقطعون بالحديث الذي تلقته الأمة بالقبول" (1) ، والبلقيني يقصد ابن تيمية، والكلام الذي نقله هو كلام شيخ الإسلام، وممن نبه إلى هذا ابن حجر حيث قال بعد تلخيص كلام البلقيني: " قلت وكأنه عنى بهذا الشيخ تقي الدين ابن تيمية" (2) ، ثم ساق الحافظ ابن حجر كلاما أطول عن شيخ الإسلام ابن تيمية- نقله عن بعض ثقات أصحابه (3) - ثم رد ابن حجر على النووي من عدة وجوه (4) ، وكذا الفتوحي في شرح الكوكب المنير نقل عن ابن تيمية (5) ، فهؤلاء العلماء اعتمدوا في بيان حقيقة الخلاف في هذه المسألة على ما حققه وبينه ابن تيمية رحمه الله تعالى. 3- بقيت مسألة حجية خبر الآحاد في العقيدة، وأصرح من يمثل اعتقاد جمهور الأشاعرة في ذلك الرازي الذي يقول: " أما التمسك بخبر الواحد في معرفة الله تعالى فغير جائز يدل عليه وجوه: الأول: أن أخبار الآحاد مظنونة، فلم يجز التمسك بها في معرفة الله تعالى وصفاته، وإنما قلنا إنها مظنونة لأنا أجمعنا على أن الرواة ليسوا معصومين ... " ثم ساق أدلة منكري حجية خبر الآحاد التي ذكرها علماء أصول الفقه، ثم قال عن الصحابة في الوجه الثاني " إلا أنا قلنا إن الله تعالى أثنى على الصحابة رضي الله عنهم في القرآن على سبيل العموم، وذلك يفيد ظن الصدق، فلهذا الترجيح قبلنا روايتهم في فروع الشريعة، أما الكلام في ذات الله تعالى وصفاته فكيف يمكن بناؤه على هذه الرواية الضعيفة؟ (6) " ثم ذكر الرازي من الأسباب الوصع في الحديث وطعن في رواة الحديث بأن الملاحدة قد يروجون عليهم بعض الأحاديث الموضوعة، كما طعن في ضبط الرواة مستشهدا بنقلهم الحديث بالمعنى (7) .   (1) محاسن الاصطلاح للبلقيني (ص:101) . (2) النكت على كتاب ابن صلاح (1/374) . (3) لعله يقصد ابن القيم، لأنه ذكر في مختصر الصواعق (2/372-374) ، ما هو قريب مما ذكره ابن حجر. (4) انظر: النكت (1/377-379) . (5) انظر: شرح الكوكب المنير (2/249) ، المحققة.. (6) أساس التقديس للرازي (ص: 167-170) ، وانظر حول مذهب الأشاعرة في هذا: التسعينة لابن تيمية (ص: 242) . (7) انظر: المصدر السابق (ص: 170-171) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 744 والأدلة التي ذكرها الرازي هي نفسها أدلة الذين لا يوجبون العمل بخبر الآحاد في الأحكام، وما يجيبهم به الرازي في كتبه الأصولية يجاب به هنا، وكلامه عن أهل الحديث وروايتهم كلام من ليس خبيرا بأحوالهم ومناهجهم. ولاشك أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد ناقش الرازي في أقواله هذه في نقض التأسيس كما يدل عليه منهجه فيما وصل إلينا من هذا الكتاب الذي تتبع في كلام الرازي كلمة كلمة وجملة جملة، وللأسف لم يصل إلينا على حد علمي- الجزء الخاص بهذه المسألة-، علما بأنه قد وصل جزء من رده على كلام الرازي بعد كلامه في خبر الآحاد، وهو القسم الثالث من أساس التقديس، ورد عليه شيخ الإسلام في الجزء الثاني من نقضه المخطوط (1) . وليس في كتب شيخ الإسلام كلام مطول حول هذا الموضوع، وإنما فيها إشارات سبق نقل بعضها، ولعل ابن القيم- كعادتهـ لخص كلام شيخ الإسلام مع إضافات وتحقيقات فيما كتبه مطولا حول أخبار الآحاد (2) . والأدلة التي أوردها شيخ الإسلام ردا على الرازي وغيره هي كما يلي: أ- نقل ابن تيمية عن ابن عبد البر الخلاف في خبر الآحاد هل يوجب العمل دون العلم أو العلم والعمل جميعا، وبعد ذكر أقوال العلماء في ذلك قال: " وكلهم يروى خبر الواحد العدل في الاعتقادات، ويعادى ويوالي عليها، ويجعلها شرعا وحكما ودينا في معتقده، على ذلك جماعة أهل السنة، ولهم في الأحكام ما ذكرنا". قال ابن تيمية معلقا على هذا: " قلت: هذا الإجماع الذي ذكره في خبر الواحد العدل في الاعتقادات يؤيد قول من يقول: إنه يوجب العلم، وإلا فما لا يفيد علما ولا عملا كيف يجعل شرعا ودينا يوالي عليه ويعادي؟ " (3) ، والعجيب أن ابن عبد البر نفسه رجح أنه يوجب العمل دون   (1) سبقت الإشارة إلى الجزء الثاني من مخطوط نقض التأسيس حقه أن يكون هو الثالث وأن يقدم عليه الثالث ليصبح الثاني، قارن بين أساس الرازي (ص: 173) ، ونقضه المخطوط (2/199) . (2) انظر: مختصر الصواعق (2/332-446) . (3) المسودة (ص: 245) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 745 العلم، فكيف يحتج به في العقائد ولا يوجب علما؟. ويقول شيخ الإسلام أيضا: " مذهب أصحابنا أن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول تصلح لإثبات أصول الديانات" (1) ، ونقل شيخ الإسلام عن ابن عقيل الحنبلي حكاية الخلاف في أحاديث الآحاد الدالة على الصفات هل يقال بظاهرها، أو ترد، أو تقبل وتؤول، ثم رجح القول الثالث وقال: " هذا هو اعتقادنا"، قال ابن تيمية معلقا: " قلت هذا خلاف ما قرره في انتصاره لأصحاب الحديث، وإن كان كلامه في هذا الباب كثير الاختلاف، وخلاف ما عليه عامة أهل السنة المتقدمين من السلف" (2) . ب- أن الاعتبار في إفادة أخبار الآحاد العلم إجماع أهل الحديث دون من عداهم، وقد سبقت نقول من كلام شيخ الإسلام في ذلك، وقد أشار شيخ الإسلام إلى إعتراض أوردة ابن الباقلاني ونصه: " فإن قيل: أما الجزم بصدقة فلا يمكن منهم، وأما العمل به [فهو (3) ] الواجب عليهم وإن لم يكن صحيحا في الباطن، وهذا سؤال ابن الباقلاني ". أجاب شيخ الإسلام بقوله: " وأما الجزم بصدقه فإنه يحتف به من القرائن ما يوجب العلم إذ القرائن المجردة قد تفيد العلم بمضمونها، فكيف إذا احتفت بالخبر، والمنازع بنى على هذا أصله الواهي: أن العلم بمجرد الأخبار لا يحصل إلا من جهة العدد، فلزمه أن يقول: ما دون العدد لا يفيد أصلا. وهذا غلط خالفه فيه حذاق أتباعه. وأما العمل به فلو جاز أن يكون في الباطن كذبا وقد وجب علينا العمل به لا نعقد (4) الإجماع على ما هو كذب وخطأ في نفس الأمر، وهذا باطل، فإذا كان تلقي الأمة له بالقبول يدل على صدقه لأنه إجماع منهم على أنه صدق مقبول فإجماع (5) السلف والصحابة أولى أن يدل على صدقه، فإنه لا يمكن   (1) المسودة (ص: 248) . (2) المصدر السابق (ص: 249) . (3) في مختصر الصواعق - مصورة الطبعة الأولى [وهو] وكذا في طبعتي زكريا يوسف - الأولى عام 1380هـ (2/483) ، والثانية عام 1400هـ (2/583) ، ولعل الصواب ما أثبته. (4) في مصورة الطبعة الأولى (ولا نعقد) والتصويب من طبعتي زكريا يوسف. (5) في المصورة بإجماع والتصويب من طبعتي زكريا يوسف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 746 أحدا أن يدعي إجماع الأمة إلا فيما أجمع عليه سلفها من الصحابة والتابعين، وأما بعد ذلك فقد انتشرت انتشارا لا تضبط جميعها" (1) ، ثم ذكر تلقي العلماء لجمهور أحاديث الصحيحين بالقبول ثم قال: " فإن ما تلقاه أهل الحديث وعلماؤه بالقبول والتصديق فهو محصل للعلم، مفيد لليقين، ولا عبرة بمن عداهم من المتكلمين والأصوليين، فإن الاعتبار في الإجماع على كل أمر من الأمور الدينية بأهل العلم به دون غيرهم، كما لم يعتبر في الإجماع على الأحكام الشرعية إلا العلماء بها دون المتكلمين والنجاة والأطباء، كذلك لا يعتبر في الإجماع على صدق الحديث وعدم صدقه إلا أهل العلم بالحديث وطرقه وعلله، وهم علماء أهل الحديث العالمون بأحوال نبيهم الضابطون لأقواله وأفعاله، المعتنون بها أشد من عناية المقلدين بأقوال متبوعيهم، فكما أن العلم بالتواتر يتقسم إلى عام وخاص، فيتواتر عند الخاصة ما لايكون معلوما لغيرهم، فضلا أن يتواتر عندهم، فأهل الحديث لشدة عنايتهم بسنة نبيهم، وضبطهم لأقواله وأفعالع وأحواله، يعلمون نت ذلك علما لا يشكون فيه، مما لا شعور لغيرهم به البتة، فخبر أبي بكر وعمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وابن مسعود ونحوهم يفيد العلم الجازم الذي يلتحق عندهم بقسم الضروريات. وعند الجهمية والمعتزلة وغيرهم من أهل الكلام لا يفيد علما، وكذلك يعلمون بالضرورة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، وعند الجهمية: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن خروج قوم من النار بالشفاعة وعند المعتزلة والخوارج لم يقل ذلك، وبالجملة فهم جازمون بأكثر الأحاديث الصحيحة، قاطعون بصحتها عنه، وغيرهم لا علم عنده بذلك" (2) . فشيخ الإسلام من خلال هذا النص يناقش أهل الكلام ببيان المنهج الصحيح في طريقة طرح الموضوع، لأن هؤلاء المتكلمين يعاملون أنفسهم وكأنهم مثل- بل أفضل- من علماء الحديث الذين هيأهم الله تعالى لحفظ دينه وتبليغ شريعة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، فأفنوا أعمارهم في دراسة السنة وتمحيص أسانيدهم ومتونها،   (1) عن مختصر الصواعق (2/374-375) ، مصورة الطبعة الأولى 1348هـ.. (2) المصدر السابق (2/375-376) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 747 والغوص في عللها ودقائق رواياتها، فيأتي الواحد من هؤلاء المتكلمين ومبلغ علمه ما في كتب ابن سينا والفارابي وابن رشد، أو كتب أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة، وغيرهم، فيقول: خبر الآحاد لا يفيد العلم، ويحتج بأن هذا قول أمثالهـ من أهل الكلام - بل ويقلب الموضوع ليدعي أن قوله هو قول الجمهور، وأن القول بأنه يفيد العلم هو قول فئة قليلة ممن يسميهم حشوية أهل الحديث وبعض الحنابلة، فشيخ الإسلام يقرر أن المنهج الحق أن يرجع في كل فن إلى أهله، فكما أن الطب يرجع فيه إلى أهل الطب، فكذلك في المسألة المطروحة يرجع فيها إلى أهل الحديث فينظر في أقوالهم ورأيهم هل يفيد عندهم خبر الآحاد العلم أم لا؟ فإذا أجمعوا على أنه يفيد العلم إذا تلقته الأمة بالقبول فلا يلتفت إلى خلاف من سواهم ممن هم كالعوام في علم الحديث. وهذا منهج تأصيلي مهم لمن أراد أن يدرس هذا الموضوع، لأن هناك جوانب ينبغي الانطلاق منها، وهو ما فعله ابن القيم -رحمه الله- مما وصل إلينا من مختصر الصواعق. جـ - ومن المنهج التأصيلي الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ما نقله عنه ابن القيم، في تحقيق مذهب السلف في هذا الباب وبيان المداخل المهمة فيه، يقول شيخ الإسلام:" وأهل الحديث لا يجعلون حصول العلم بمخبر هذه الأخبار الثابتة من جهة العادة المطردة في حق سائر المخبرين " (1) ، وهذا رد لدعوى أهل الكلام الذين يقولون عن السلف إنهم يرون حصول العلم في خبر كل مخبر، وهذا غلط شنيع عليهم، وقد شرح شيخ الإسلام قولهم بقوله:" بل يقولون ذلك: - لأمر يرجع إلى المخبر. - وأمر يرجع إلى المخبر عنه. - وأمر يرجع إلى المخبر به. - وأمر يرجع إلى المخبر المبلغ.   (1) مختصر الصواعق (2/377) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 748 - فأما ما يرجع إلى المخبر فإن الصحابة الذين بلغوا الأمة سنة نبيهم كانوا أصدق لهجة، وأعظمهم أمانة، وأحفظهم لما يسمعونه، وخصهم الله من ذلك بما لم يخص به غيرهم، فكانت طبيعتهم قبل الإسلام الصدق والأمانة، ثم ازدادوا بالإسلام قوة في الصدق والأمانة، وكان صدقهم عند الأمة وعدالتهم وضبطهم وحفظهم عن نبيهم، أمراً معلوماً لهم بالاضطرار، كما يعلمون إسلامهم وإيمانهم وجهادهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكل من له أدنى علم بحال القوم يعلم أن خبر الصديق وأصحابه لا يقاس بخبر من عداهم، وحصول الثقة واليقين بخبرهم فوق الثقة واليقين بخبر من سواهم من سائر الخلق بعد الأنبياء، فقياس خبر الصديق على خبر آحاد المخبرين من أفسد قياس في العالم، وكذلك الثقات العدول الذين رووا عنهم هم أصدق الناس لهجة وأشدهم تحرياً للصدق والضبط، حتى لا تعرف في جميع طوائف بني آدم أصدق لهجة ولا أعظم تحرياً للصدق منهم، وإنما المتكلمون أهل ظلم وجهل يقيسون خبر الصديق والفاروق وأبي بن كعب بأخبار آحاد الناس، مع ظهور الفرق المبين بين المخبرين، فمن أظلم ممن سوى بين خبر الواحد من الصحابة وخبر الواحد من الناس في عدم إفادة العلم، وهذا بمنزلة من سوى بينهم في العلم والدين والفضل ". - " وأما ما يرجع إلى المخبر عنه: فإن الله سبحانه تكفل لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، بأن يظهر دينه على الدين كله، وأن يحفظه حتى يبلغه الأول لمن بعده، فلابد أن يحفظ الله سبحانه حججه وبيناته على خلقه لئلا تبطل حججه وبيناته، ولهذا فضح الله من كذب على رسوله في حياته وبعد مماته وبين حاله للناس..". - " وأما ما يرجع إلى المخبر به: فإنه الحق المحض، وهو كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كلامه وحي، فهو أصدق الصدق، وأحق الحق بعد كلام الله فلا يشتبه بالكذب والباطل على ذي عقل صحيح، بل عليه من النور والجلالة والبرهان ما يشهد بصدقه، والحق عليه نور ساطع يبصره ذو البصيرة السليمة، فبين المخبر الصادق عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين المخبر الكاذب عنه من الفرق كما بين الليل والنهاء والضوء والظلام، وكلام النبوة متميز بنفسه عن غيره من الكلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 749 الصدق، فكيف نسبته (1) ، ولكن هذا إنما يعرفه من له عناية بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخباره وسنته، ومن سواهم في عمى عن ذلك، فإذا قالوا أخباره وأحاديثه الصحيحة لا تفيد العلم فهم مخبرون عن أنفسهم إنهم لم يستفيدوا بها العلم، فهم صادقون فيما يخبرون به عن أنفسهم، كاذبون في أخبارهم أنها لا تفيد العلم لأهل الحديث والسنة".. - " وأما ما يرجع إلى المُخبر [المُبلغ] فالمخبر نوعان: نوع له علم ومعرفة بأحوال الصحابة وعدالتهم، وتحريهم للصدق والضبط، وكونهم أبعد خلق الله عن الكذب وعن الغلط والخطأ فيما نقلوه إلى الأمة، وتلقاه بعضهم عن بعض بالقبول وتلقته الأمة عنهم كذلك، وقامت شواهد صدقهم فيه، فهذا المخبر يقطع بصدق المخبر ويفيده خبر العلم واليقين لمعرفته بحاله وسيرته، ونوع لا علم لهم بذلك وليس عندهم من المعرفة بحال المخبرين ما عند أولئك، فهؤلاء قد لا يفيدهم خبرهم اليقين". ثم يعقب شيخ الإسلام بقوله: " فإذا انضم عمل المخبر وعلمه بحال المخبر وإنصاف إلى ذلك معرفة المخبر عنه ونسبة ذلك الخبر إليه أفاد ذلك علماً ضرورياً بصحة تلك النسبة، وهذا في إفادة العلم أقوى من خبر رجل معدم فقير ما يغنيه فأعطاه ذلك، وظهرت شواهد تلك العطية على الفقير، فكيف إذا تعدد المخبرون عنه وكثرت رواياتهم وأحادثيهم بطرق مختلفة، وعطايا متنوعة في أوقات متعددة؟ " (2) . وحينما تفيد أخبار الآحاد العلم فإنه يحتج بها في العقائد، ومع ذلك فالتفريق بين الأحكام والعقائد أمر استجد في وقت متأخر، أما السلف من الصحابة   (1) كذا في المختصر (2/379) ، وطبعة زكريا يوسف الأولى (2/486) ، والثانية (2/586) ، ولعل الصواب (يشتبه) . (2) مختصر الصواعق (2/377-380) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 750 والتابعين فكانوا يتلقون الأحاديث كلها دون تفريق، ويؤمنون بما جاءت به ويصدقون، ويعملون بما فيها من أحكام، والإسناد الصحيح الذين يروون به حكماً من أحكام الصلاة أو الزكاة أو الحدود أو النكاح فيعملون بمقتضاه هو نفسه الإسناد الذي يروون بطريقه حديثاً في الصفات أو الرؤية أو القدر أو غيره. دون أن يفرقوا بين هذه الأحاديث المروية التي جاءت بهذا الإسناد. وحجية خبر الآحاد في العقيدة وإفادته العلم إذا تلقى بالقبول من المسائل التي اهتم بها العلماء، ولابن تيمية إشارات سريعة في بعض كتبه (1) ، وقد أفردت فيه بعض الرسائل والكتب (2) . و ولابن تيمية لمحات ووقفات حول السنة والاستدلال بالأحاديث الواردة، وما وقع فيه بعض الناس من أخطاء سواء في الرواية أو الدراية، ويمكن أن نشير إلى الأمثلة التالية: 1- حرص شيخ الإسلام مع احتجاجه بالسنة في العقائد (3) على تمييز الضعيف والموضوع منها، والتنبيه إلى غلط من احتج بها، ومن ذلك قوله: " وآخرون من الزنادقة والملاحدة كذبوا أحاديث مخالفة لصريح العقل لينهجوا بها الإسلام ويجعلوها قادحة فيه، مثل حديث عرق الخيل الذي فيه أنه خلق خيلاً فأجراها فعرقت، فخلق نفسه من ذلك العرق (4) ، فإن هذا وأمثاله لا يكذبه   (1) انظر مثلاً: نقض التأسيس المخطوط (2/311-312) ، والرد على المنطقيين (ص:37-38) ، ومجموع الفتاوي (18/16) ، ورفع الملام - مجموع الفتاوي (20/257) . (2) من أجمعها كتاب أخبار الآحاد في الحديث النبوي للشيخ عبد الله بن جبرين، ورسالة: الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام للشيخ ناصر الدين الألباني، وأصل الاعتقاد للدكتور عمر الأشقر، والأدلة والشواهد على وجوب الأخذ بخبر الواحد في الأحكام والعقائد تأليف سليم الهلالي وغيرها. (3) انظر مثلاً: الواسطية، مجموع الفتاوي (3/138-140) ، وانظر: المناظرة حولها (3/168) . (4) حديث موضوع كما نبه إليه شيخ الإسلام، وانظر: الموضوعات لابن الجوزي (1/105) ، واللآلئ المصنوعة للسيوطي (1/3) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 751 من يعتقد صدقه لظهور كذبه، وإنما كذبه من مقصوده إظهار الكذب بين الناس، كما يقولون: إنه وضعه بعض أهل الأهواء ليقول: إن أهل الحديث يروون مثل هذا، ومع هذا فكل أهل الحديث، متفقون على لعنة من وضعه، ومما يشبه هذا حديث الجمل الأورق وأنه ينزل عشية عرفة على جمل أورق، فيصافح المشاة ويعانق الركبان. (1) ." (2) ، فشيخ الإسلام يثبت حديث النزول الصحيح، وله كتاب مشهور في شرحه، أما مثل هذه الأحاديث الموضوعة فإنه يبين حالهم ويحذر الناس منها (3) . 2- يعتبر شيخ الإسلام من أوائل العلماء الذين ألفوا في الرسائل المتعلقة بأحاديث القصاص الموضوعة والضعيفة (4) ، وقد وصلت إلينا رسالة في ذلك ذكر فيها مجموعة من الأحاديث الموضوعة المشتهرة بين الناس في العقائد والعبادات والفضائل وغيرها. كما أنه في كتبه ورسائله كثيراً ما يبين حال بعض الأحاديث التي يتناقلها أهل الكلام والتصوف، ومن أمثلة ذلك: أ - حديث العقل: " إن الله عزوجل لما خلق العقل قال له أقبل، فأقبل ثم قال له: أدبر، فأدبر، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أشرف منك، فبك آخذ وبك أعطي (5) "،قال شيخ الإسلام" " هذا الحديث كذب   (1) هو حديث موضوع، وانظر: الموضوعات لابن الجوزي (1/124) ،وأحاديث مختارة من موضوعات الجوزقاني وابن الجوزي للذهبي (ص:40) ، واللآلئ المصنوعة (1/27/28) ، والفوائد المجموعة (ص:447) ، وتنزيه الشريعة المرفوعة (1/138-139) . (2) درء التعارض (7/92-93) ، وانظر أيضاً (1/148-149) ، ومناهج السنة (2/422) ، المحققة. (3) انظر: منهاج السنة (2/508-510) ، المحققة، ودرء التعارض (1/106-108) ،وانظر: ابن تيمية وموقفه من التأويل للجلنيد (ص: 330-333) . (4) انظر: مقدمة تحقيق أحاديث القصاص (ص:15) . (5) موضوع كما حكم عليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد أورده الغزالي في مواضع من كتبه منها: المعارف العقلية (ص: 28) ، وفيصل التفرقة (ص: 182) ، وميزان العمل (ص: 331) ، وإحياء علوم الدين (1/83) ، وحديث العقل رواه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة بلفظ لما خلق الله العقل، المعجم الأوسط (2/503) ، ورقمه (1866) ، وأبو نعيم في الحلية (7/318) ، عن عائشة بلفظ أول ما خلق الله العقل، والديلمي في الفردوس رقم (4) (1/46) ، وأسانيده ضعيفة جداً، وانظر: المقاصد الحسنة (ص: 198) ، ت الخشت رقم (233) ، وكشف الخفاء (1/236) ، والمنار المنيف (ص: 66) ، وتسديد القوص لابن حجر، حاشية الفردوس (1/46) ، وانظر: الفوائد الموضوعة لمرعي الكرمي الحنبلي (ص: 88) ، وتخريج أحاديث إحياء علوم الدين (1/231) ، جمع محمود بن الحداد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 752 موضوع باتفاق أهل العلم، والذين يروونه ذكروه في فضل عقل الإنسان، وأما ما يظن بعض الناس المراد به العقل الفعال فهذا قول من يقول من المعتزلة والملاحدة الذين يقولون بأن العقل الفعال هو المبدع لهذا العالم، وهذا مما هو مخالف لما اتفقت [عليه الرسل] (1) ، وقد بسط شيخ الإسلام الكلام حول هذا الحديث وتكلم في معناه، ورد على الذين يحتجو به من وجوه عديدة (2) . ب - وحديث: " إن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفه إلا أهل العلم بالله، فإذا ذكريوه لم ينكره إلا أهل الغرة بالله تعالى " (3) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وهذا الحديث وإن لم يكن له إسناد صحيح، فقد ذكره شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي، وأبو حامد الغزالي (4) وغيرهما، لكن ذكر شيخ الإسلام عن شيخ الهروي يحيى بن عمار أن من هذا أحاديث الصفات الموافقة لقول أهل الإثبات، وأبو حامد قد يحمل هذا - إذا تفلسف - على ما يوافق أقوال الفلاسفة النفاة " (5) . فحكم عليه شيخ الإسلام بأن ليس له إسناد صحيح.   (1) أحاديث القصاص (ص: 57-58) ، ط الثانية، وانظر أيضاً: جامع الرسائل (1/168) ، والرد على المنطقيين (ص: 196-275) ، والجواب الصحيح (3/118) ، ودرء التعارض (5/224-386) ، ومجموع الفتاوي (18/336-338) . (2) السبعينية (ص: 5-44) ، والصفدية (1/237-241) . (3) رواه الديلمي في مسند الفردوس (1/258) ، ورقمه (799) ، قال ابن حجر في تسديد القوس - حاشية الفردوس - " أسنده عن أبي هريرة وهو من أربعين السملى في التصوف، وسنده ضعيف"، وانظر: الترغيب والترهيب (1/111) ، وتخريج أحاديث إحياء علوم الدين (1/102) رقم (83) ، وكنز العمال (10/181) . (4) انظر: الأحياء (1/21) . (5) انظر: درء التعارض (5/85-86) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 753 جـ - ومن ذلك ما يرويه الصوفية عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تكلم مع أبي بكر كنت بينهما كالزنجي الذي لا يفهم " (1) ، قال شيخ الإسلام، " هذا كذب ظاهر لم ينقله أحد من أهل العلم بالحديث ولا يرويه إلا جاهل أو ملحد " (2) . وغيرها من الأحاديث (3) . 3- رد شيخ الإسلام على أهل الكلام من الأشاعرة وغيرهم في فهمهم لبعض الأحاديث وما فيها من توجيه وبيان حول الإيمان بالله تعالى، ومن ذلك أحاديث الوسوسة كحديث أبي هريرة رض الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل آمنت بالله "، وفي لفظ " يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك، فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته " (4) ، وكحديث أنس بن مالك يقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله خالق كل شيء، فمن خلق الله؟ " (5) ، فإن الرازي ونحوه ظنوا أن هذه الأحاديث ليس فيها برهان وإنما فيها طلب الاستعاذة بالله تعالى، ومثل لذلك بمثال، وهذا جواب من الرازي لسؤال ورد عليه فقيل له: لمَ لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عند هذا الوسواس بالبرهان   (1) ذكره في تنزيه الشريعة (1/407) ، والأسرار المرفوعة (476) ، والفوائد المجموعة (ص:335) ، ونقلوا عن ابن تيمية أنه موضوع. (2) أحاديث القصاص (ص:61) ، وانظر أيضاً: درء التعارض (5/27) ، والسبعينية (ص: 56) ، ومجموع الفتاوي (11/77،109، 168، 13/253) . (3) انظر مثلاً: السبعينية (ص: 62-63) ، حيث رد على رواية لحديث الافتراق وأن فيها " كلهم في الجنة إلا الزنادقة وقد ذكر هذا الحديث الغزالي في فيصل التفرقة (ص: 193) ، وقال فيه شيخ الإسلام إنه كذب موضوع. (4) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان، ورقمه (134) وما بعده. (5) رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال ورقمه (1296) ، (فتح الباري 13/265) ، ورواه مسلم في الإيمان باب بيان الوسوسة ورقمه (136) ، لكن بلفظ " قال الله عزوجل إن أمتك لا يزالون يقولون ما كذا وما كذا حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ ".. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 754 المبين لفساد التسلسل والدور، بل أمر بالاستعاذة؟ وقد رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: " وهذا خطأ من وجوه، بل النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بطريقة البرهان حيث يؤمر بها، ودل على مجاميع البراهين التي يرجع إليها غاية نظر النظار، ودل من البراهين على ماهو فوق استنباط النظار، والذي أمر به في دفع هذا الوسواس ليس هو الاستعاذة فقط، بل أمر بالإيمان، وأمر بالاستعاذة، وأمر بالانتهاء، ولا طريق إلى نيل المطلوب من النجاة والسعادة إلا بما أمر به لا طريق غير ذلك، وبيان ذلك من وجوه.. " (1) ، وقدبين في هذه الوجوه كيف أن السنة جاءت بأكمل الحجج وأوضحها. ومما سبق يتبين كيف كان شيخ الإسلام واثقاً من منهج القرآن والسنة وأن فيهما ما يغني ويكفي، وأن الهداية التامة والسير على الصراط المستقيم والأمن من الانحراف لا يحصل ببراهين الفلاسفة والمتكلمين القاصرة والناقصة وإنما يحصل باتباع الوحي والسير على المنهاج النبوي.   (1) درء التعارض (3/308-309) ، وانظر ما بعدها إلى (ص: 318) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 755 ثالثاً: مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم. وهذا من الأصول العامة في منهج شيخ الإسلام في رده على الأشاعرة، الذين ابتدعوا أموراً لم تكن عند السلف، بل خالفت مذهبهم وعقيدتهم، فانحرفوا عن المنهج الحق، ووقعوا في كثير من الباطل، والتزموا لوازم كثير من بدع المعتزلة والمتفلسفة، فبين شيخ الإسلام أن مذهب السلف هو الحق والموافق للكتاب والسنة، وأنهم أعرف الناس وأحسنهم فهما للنصوص، وأن كل ما خالف عقيدتهم، أو عارض ما كانوا عليه أو ما فهموه من الكتاب والسنة فهو باطل يجب رده وتحذير أمة الإسلام منه. كما بين أنه إذا كان في الكتاب والسنة ما يغني ويكفي، فالمرجع في تمييز هذه القاعدة المسلمة وتحقيقها هو ما أجمع عليه السلف أو قالوه بياناً وتفسيراً وشرحاً. ولما كان أهل الكلام - وفيهم الأشاعرة - قد ابتدعوا بعض الأصول والقواعد العقلية المخالفة لمذهب السلف - اضطروا وهم يواجهون معارضة علماء أهل السنة والجماعة إلى أن يبرروا مخالفتهم لمذهب السلف، فجاءت لهم بعض المقالات الغريبة، مثل ما حكاه ابن تيمية عن بعض النفاة أنه قال: " إن طريقة الخلف أعلمن وأحكم، وطريقة السلف أسلم (1) ، لأن طريقة الخلف فيها معرفة النفي، الذي هو عنده الحق، وفيها طلب التأويل لمعاني نصوص الإثبات، فكان في هذه عندهم علم بمعقول، وتأويل لمنقول، ليس في الطريقة التي ظنها السلف، وكان فيه أيضاً رد على من يتمسك بمدلول النصوص، وهذا عنده من إحكام تلك الطريق، ومذهب السلف عنده عدم النظر في فهم النصوص، لتعارض الاحتمالات، وهذا عنده أسلم، لأنه إذا كان اللفظ يحتمل عدة معانٍ، فتفسيره ببعضها دون بعض فيه مخاطرة، وفي الإعراض عن ذلك سلامة من هذه المخاطرة" (2) . فهذا ظن أن مذهب السلف هو الإيمان المجرد بألفاظ النصوص، دون فهم لمعانيها ومدلولاتها، ولذلك علّق شيخ الإسلام على هذا بقوله: " فلو كان قد   (1) انظر: حول هذه المقولة إتحاف السادة المتقين (2/112) . (2) درء التعارض (5/378) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 756 بين وتبين لهذا وأمثاله أن طريقة السلف إنما هي إثبات ما دلت عليه النصوص من الصفات، وفهم ما دلت عليه، وتدبره وعقله، وإبطال طريقة النفاة، وبيان مخالفتها لصريح المعقول وصحيح المنقول، علم أن طريقة السلف أعلم وأحكم وأسلم، وأهدى إلى الطريق الأقوم، وأنها تتضمن تصديق الرسول فيما أخبر به، وفهم ذلك ومعرفته، وأن ذلك هو الذي هو الذي يدل عليه صريح المعقول، ولا يناقض ذلك إلا ما هو باطل وكذب، وأن طريقة النفاة المنافية لما أخبر به الرسول طريقة باطلة شرعاً وعقلاً، وأن من جعل طريقة السلف عدم العلم بمعاني الآيات، وعدم إثبات ما تضمنته من الصفات فقد قال غير الحق، إما عمداً، وإما خطأ، كما أن من قال على الرسول أنه لم يبعث بإثبات الصفات، بل بعث بقول النفاة كان مفترياً عليه " (1) ، فشيخ الإسلام يبين أول سبب أدى إلى مثل هذه المقالة وهو جهل هؤلاء بحقيقة مذهب السلف، وأنهم لو عرفوه حق معرفته على الوجه الحق لعلموا أن مذهب السلف أعلم وأحكم وأسلم وأهدى، ولكن لما جهلوا حقيقة مذهبهم ظنوا أن الخلف جاءوا بالحقائق العقلية المقنعة، وأن السلف كان مذهبهم مجرد التسليم. ثم هناك مسألة أخرى هي أن الصحابة رضي الله عنهم ما عرف عنهم تلك المقدمات العقلية التي يوردها أهل الكلام في كتبهم، وقد حكى شيخ الإسلام عن الجويني أنه علل ذلك بأمور فيها نوع تجهيل للصحابة وإنقاص من منزلتهم في الإيمان والعلم، يقول شيخ الإسلام: " وقد رأيت أبا المعالي في ضمن كلامه يذكر ما ظاهره الاعتذار عن الصحابو، وباطنه جهل بحالهم مستلزم - إذا طرد - الزندقة والنفاق، فإنه أخذ يعتذر عن كون الصحابة لم يمهدوا أصول الدين، ولم يقرروا قواعده، فقال لأنهم كانوا مشغولين بالجهاد والقتال عن ذلك، هذا مما في كلامه " (2) ، وقد بين شيخ الإسلام الدافع لهؤلاء أن يقولوا مثل هذا الكلام، فيقول: " وهذا إنما قالوه لأن هذه الأصول والقواعد التي يزعمون   (1) درء التعارض (5/378-379) . (2) لم أجد هذا الكلام فيما هو مطبوع من كتب الجويني، ولعله في كتاب الشامل الذي لم يطبع إلا جزء منه، أو في أحد كتبه الأخرى المخطوطة أو المفقودة، وقد سبق عند الحديث عن الجويني وعقيدته ومنهجه نقل نص قريب من هذا. انظر (ص:619) .. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 757 أنها أصول الدين قد علموا أن الصحابة لم يقولوها، وهم يظنون أنها أصول صحيحة، وأن الدين لا يتم إلا بها، وللصحابة رضي الله عنهم أيضاً من العظمة في القلوب ما لم يمكنهم دفعه حتى يصيروا بمنزلة الرافضة القادحين في الصحابة، ولكن أخذوا من الرفض شعبة، كما أخذوا من التجهم شعبة، وذلك دون ما أخذته المعتزلة من الرفض والتجهم حين غلب على الرافضة التجهم وانتقلت عن التجسيم إلى التعطيل والتجهم، إذ كان هؤلاء نسجوا على منوال المعتزلة لكن كانوا أصلح منهم وأقرب إلى السنة وأهل الإثبات في أصول الكلام، ولهذا كان المغاربة الذين اتبعوا محمد بن التومرت المتبع لأبي المعالي أمثل وأقرب إلى الإسلام من المغاربة الذين اتبعوا القرامطة وغلوا في الرفض والتجهم، حتى انسلخوا من الإسلام، فظنوا أن هذه الأصول التي وضعوها هي أصول الدين، الذي لا يتم الدين إلا بها، وجعلوا الصحابة حين تركوا أصول الدين كانوا مشغولين عنه بالجهاد، وهم في ذلك بمنزلة كثير من جندهم ومقاتلتهم الذين قد وضعوا قواعد وسياسية للملك والقتال فيها الحق والباطل، ولم نجد تلك السيرة تشبه سيرة الصحابة، ولم يمكنهم القدح فيهم، فأخذوا يقولون: كانوا مشغولين بالعلم والعبادة عن هذه السيرة وأبهة الملك الذي وضعناه، وكل هذا قول من هو جاهل بسيرة الصحابة، وعلمهم، ودينهم، وقتالهم، [ومن (1) ] كان لا يعرف حقيقة أحوالهم، فلينظر إلى آثارهم، فإن الأثر يدل على المؤثر، هل انتشر عن أحد المنتسبين إلى القبلة أو عن أحد من الأمم المتقدمين والمتأخرين من العلم والدين ما انتشر وظهر عنهم، أم هل فتحت أمة البلاد وقهرت العباد كما فعلته الصحابة رضوان الله عليهم، ولكن كانت علومهم وأعمالهم وأقوالهم وأفعالهم حقاً، باطناً وظاهراً، وكانوا أحق الناس بموافقة قولهم لقول الله، وفعلهم لأمر الله ... والأدلة الدالة على تفضيل القرن الأول ثم الثاني أكثر من أن تذكر، ومعلوم أن أم الفضائل العلم والدين والجهاد، فمن ادعى أنه حقق من العلم بأصول الدين أو من الجهاد ما لم يحققوه كان من أجهل الناس وأضلهم، وهو بمنزلة من يدعي من أهل الزهد   (1) في المطبوعة من التسعينية " ومن ".. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 758 والعبادة والنسك أنهم حققوا من العبادات والمعارف والمقامات والأحوال ما لم يحققه الصحابة " (1) . فشيخ الإسلام يذكر ثلاث طوائف ادعت كل طائفة أنها حققت ما لم يحققه الصحابة: - المتكلمون: في مقدماتهم العقلية وأصولهم الفلسفية. - وأهل السياسات في سياساتهم في الملك والجهاد المشتملة على الحق والباطل. - وأهل التصوف في أحوالهم ومقاماتهم. والعجيب أن المتكلمين يقولون: إن الصحابة كانوا مشغولين بالجهاد والقتال في سبيل الله، وأهل السياسات البدعية يقولون: إن الصحابة كانوا مشغولين بالعلم والعبادة عن أبهة الملك وسياستهم فيه. أما أهل التصوف والأحوال فقد بلغ بهم ما هو أشد حين فضل غلاتهم نفوسهم وطرقهم على الأنبياء وطرقهم (2) . ولما كانت مسألة مزية السلف من الصحابة وغيرهم من أهل القرون المفضلة، وكونهم أحق الناس بوصف الاتباع والإيمان، وأكثر الناس فهماً عن الله وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ركز شيخ الإسلام ابن تيمية على تقرير ذلك بالطرق التالية: 1- بيان عظم منزلة الصحابة - رضي الله عنهم - ولقد صار هذا شعاراً واضحاً لأهل السنة، يذكرونه في عقائدهم، ويبينون فيها منزلتهم، وأن كل من تنقص أحداً منهم فقيه شعبة من شعب الرفض، كما صار علماء أهل السنة يرجعون إلى أقوالهم ويتمسكون بها في العقائد، وينقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإمام أحمد أنه قال في رسالة عبدوس بن مالك العطر - أحد رفقاء الإمام أحمد الذين يأنس بهم ويقدمهم - " أصول السنة عندنا التمسك   (1) التسعينية (ص: 256-257) . (2) أشار إلى ذلك شيخ الإسلام في المصدر السابق (ص:257) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 759 بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) ويقول شيخ الإسلام في معرض الرد على الغزالي، مبيناً منزلة الصحابة: " وكل من له لسان صدق من مشهور بعلم أو دين معترف بأن خير هذه الأمة هم الصحابة، وأن المتبع لهم أفضل من غير المتبع لهم، ولم يكن في زمنهم أحد من هذه الصنوف الأربعة (2) ، ولا تجد إماماً في العلم والدين كمالك، والأوزاعي، والثوري، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية، ومثل الفضيل، وأبي سليمان، ومعروف الكرخي، وأمثالهم، إلا وهم مصرحون بأن أفضل علمهم ما كانوا فيه مقتدي بعلم الصحابة، وأفضل عملهم ما كانوا فيه مقتدين بعمل الصحابة، وهم يرون أن الصحابة فوقهم في جميع أبواب الفضائل والمناقب، والذين اتبعوهم من أهل الآثار النبوية، وهم أهل الحديث والسنة العالمون بطريقتهم، المتبعون لها، وهم أهل العلم بالكتاب والسنة في كل عصر، فهؤلاء الذين هم أفضل الخلق من الأولين والآخرين لم يذكرهم أبو حامد " (3) . ونقل شيخ الإسلام عن الشيخ أبي الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي الشافعي في كتابه الذي سماه " الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول إلزاماً لذوي البدع والفضول " لما تحدث عن التأويل الذي قد يرد عن السلف، مثل استوى: استقر: (وهو معكم) أي علمه، قال: " إن كان السلف صحابياً فتأويله مقبول، متبع، لأنه شاهد الوحي والتنزيل، وعرف التفسير والتأويل، وابن عباس من علماء الصحابة، وكانوا يرجعون إليه في علم التأويل.. فأما إذا لم يكن السلف صحابياً نظرنا في تأويله فإن تابعه عليه الأئمة المشهورن (4) من نقله الحديث والسنة ووافقه الثقات الإثبات تابعناه، وقبلناه ووافقناه، فإنه لم يكن إجماعاً حقيقة إلا أن فيه مشابهة الإجماع، إذ هو سبيل   (1) مجموع الفتاوي (4/155) ، وانظر النص في رسالة عبدوس بن مالك - مع ترجمته في طبقات الحنابلة (1/241) . (2) الذين ذكر الغزالي أن فرق الطالبين للحق انحصرت فيهم، وهم: المتكلمون والباطنية، والفلاسفة والصوفية، انظر المنقذ من الضلال (ص:89) . (3) شرح الأصفهانية (ص: 89) . (4) في المخطوطة: المشهورين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 760 المؤمنين، وتوافق المتقين، الذين لا يجتمعون على الضلالة" (1) . وفي مكان آخر يبين شيخ الإسلام أن الصحابة كانوا أعلم الناس بالقرآن ومعانيه (2) ، وأنهم كانوا يجادلون أهل الأهواء ويفحمونهم بالحجة والبرهان (3) ، وأنهم كانوا يسألون عما يشكل عليهم، ويذكر نماذج عديدة لذلك (4) ، كما بين الصحابة إذا تنازعوا فإنهم يردون ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة، ويذكر لذلك بعض الأمثلة المشهورة (5) ، والصحابة كان منهجهم التسليم ولم تكن تلك النصوص والأخبار التي يتلقونها عن الله ورسوله تعارض معقولاتهم، ولو وقع شيء من ذلك لأوجب الحيرة والألم والفساد (6) . 2- أن السلف عموماً - وفيهم الصحابة - أكمل الناس علماً، وأدقهم نظراً، وأبرهم قلوباً، وأقلهم تكلفاً، وإذا كانوا كذلك فإليهم وإلى أقوالهم يجب الرجوع: أ - يقول شيخ الإسلام: " ومن تدبر كلام أئمة السنة والمشاهير في هذا الباب علم أنهم كانوا أدق الناس نظراً، وأعلم الناس في هذا الباب بصحيح المنقول وصريح المعقول، وأن أقوالهم هي الموافقة للمنصوص والمعقول، ولهذا تأتلف ولا تختلف، وتتوافق ولا تتناقض، والذين خالفوهم لم يفهموا حقيقة أقوال السلف والأئمة، فلم يعرفوا حقيقة المنصوص والمعقول، فتشعبت بهم الطرق، وصاروا مختلفين في الكتاب مخالفين للكتاب، وقد قال تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} (البقرة:176) ، ولهذا قال الإمام أحمد   (1) نقض التأسيس المخطوط (3/216-217) . (2) انظر: نقض التأسيس المخطوط (2/71-71) . (3) انظر: تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل، لابن تيمية، قطعة منه نقلها ابن عبد الهادي في العقود الدرية (ص: 31) . (4) انظر: درء التعارض (7/45-55) . (5) انظر: المصدر السابق (1/272-273) . (6) انظر: الفرقان بين الحق والباطل، مجموع الفتاوي (13/29) ، وانظر درء التعارض (7/44-45) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 761 في أول خطبته فيما خرجه في الرد على الزنادقة والجهمية: " الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه؟ وكم من ضال تائه قد هدوه؟ فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب.. " (1) ، وقد قام هؤلاء - وفيهم الإمام أحمد - بواجبهم في الدفاع عن مذهب السلف، ومقاومة أهل البدع فرحمهم الله جميعاً. ب - ويقول شيخ الإسلام في معرض رده الطويل على الرازي حول المحكم والمتشابه: " أهل السنة وأهل المعرفة بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والطائفة المتبعون لذلك هم أكمل علماً وعملاً من غيرهم، فهم أعلم الناس يقيناً ومعرفة لاتباعهم، متابعة الرسول لهم بكلامه، وعلمهم بذلك ونطقهم به " (2) . جـ - ويقول أيضاً: " وكل من أمعن نظره وفهم حقيقة الأمر علم أن السلف كانوا أعمق من هؤلاء علماً، وأبر قلوباً، وأقل تكلفاً، وأنهم فهموا من حقائق الأمور ما لم يفهمه هؤلاء الذين خالفوهم، وقبلوا الحق وردوا الباطل " (3) .د - ويشرح شيخ الإسلام سبب كونهم أعلم وأحكم فيقول: " وأما كونهم أعلم ممن بعدهم وأحكم، وأن مخالفهم أحق بالجهل والحشو، فنبين ذلك بالقياس المعقول من غير احتجاج بنفس الإيمان بالرسول، كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فصلت:53) ، فأخبر أنه   (1) انظر: درء التعارض (2/301-302) ، وكلام الإمام أحمد في أول الرد على الزنادقة والجهمية (ص: 52) ، ضمن عقائد السلف، (ص:85) ت عميرة. (2) نقض التأسيس المخطوط (2/319) . (3) انظر: درء التعارض (3/454) ، وانظر أيضاً (7/387) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 762 سيريهم الآيات المرئية المشهودة حتى يتبين لهم أن القرآن حق، ثم قال: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت:53) ، أي بإخبار الله ربك في القرآن وشهادته بذلك فنقول: من المعلوم أن أهل الحديث يشاركون كل طائفة فيما يتحلون به من صفات الكمال، ويمتازون عنهم بما ليس عندهم، فإن المنازع لهم لابد أن يذكر فيما يخالفهم فيه طريقاً أخرى، مثل المعقول والقياس والرأي والكلام والنظر والاستدلال والمحاجة والمجادلة، والمكاشفة والمخاطبة والوجد والذوق، ونحو ذلك، ونحو ذلك، وكل هذه الطرق لأهل الحديث صفوتها وخلاصتها، فهم أكمل الناس عقلاً، وأعدلهم قياساً، وأصوبهم رأياً، وأسدهم كلاماً، وأصحهم نظراً، وأهداهم استدلالاً، وأقومهم جدلاً، وأتمهمن فراسةً، وأصدقهم إلهاماً، وأحدّهم بصراً ومكاشفةً، وأصوبهم سمعاً ومخاطبةً، وأعظمهم وأحسنهم وجداً وذوقاً، وهذا هو للمسلمين بالنسبة إلى سائر الأمم، ولأهل السنة والحديث بالنسبة إلى سائر الملل، فكل من استقرأ أحوال العالم وجد المسلمين أحد وأسد عقلاً، وأنهم ينالون في المدة اليسيرة من حقائق العلوم والأعمال أضعاف ما يناله غيرهم في قرون وأجيال، وكذلك أهل السنة والحديث تجدهم كذلك ممتعين؛ وذلك لأن اعتقاد الحق الثابت يقوي الإدراك ويصححه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} (محمد:17) ، وقال: {فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً* وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً* وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} (النساء: 66-68) (1) ، ثم بين شيخ الإسلام أن ذلك يعلم بعدة أمور: - تارة بموارد النزاع بينهم وبين غيرهم حيث يتبين أن الحق معهم. - وتارة بإقرار واعتراف مخالفيهم: إما برجوعهم إلى مذهب السلف أو بشهادتهم على مخالفي مذهب السلف بالضلال. - وتارة بشهادة المؤمنين الذين هم شهداء الله في الأرض. - وتارة باعتصام كل طائفة بهم فيما خالفت فيه الطائفة الأخرى (2) .   (1) نقض المنطق (ص:7-8) . (2) انظر: المصدر السابق (ص:8) وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 763 3- أن أهل الحديث من السلف قاموا بمهمة كبرى، وتحملوا مسؤولية عظمى كان من آثارها أن تميزت هذه الأمة بميزة لم تكن لغيرها من الأمم، وذلك بما صار للمسلمين من خاصية الإسناد والرواية، التي حفظت بها معاني القرآن من أن يدخل فيها بالتحريف والتبديل، وحفظت بها السنة من أن يدخل فيها بالزيادة أو النقص، فنشأ علم الجرح والتعديل، وصدقهم أو كذبهم، ومعرفة الرواة ونقد الرجال أو فسقهم، بل فوق ذلك فيما يتعلق بقوة ضبطهم وحفظهم أو خفة ضبطهم ونسيانهم التي يتفاوت فيها حتى أهل الصلاح والتقوى، والعمل الصالح، فأهل الحديث بهذه الميزة صاروا - بتوفيق الله لهم - هم الأمناء على تبليغ وحي الله تعالى وحفظه، وإذا كانوا كذلك فهل من المعقول أن يعاملوا كغيرهم من الناس أو أن ينظر إلى علمهم وفقههم في دين الله كما ينظر إلى من عداهم ممن ليس له في تلك الجهود العظيمة نصيب، يقول شيخ الإسلام: " أقام الله تعالى الجهابذة النقاد، أهل الهدى والسداد، فدحروا حزب الشيطان، وفرقوا بين الحق والبهتان، وانتدبوا لحفظ السنة ومعاني القرآن من الزيادة في ذلك والنقصان.. وقام علماء النقل والنقاد بعلم الرواية والإسناد، فسافروا في ذلك إلى البلاد، وهجروا فيها لذيذ الرقاد، وفارقوا الأموال والأولاد، وأنفقوا فيه الطارف والتلاد، وصبروا فيه على النوائب، وقنعوا من الدنيا بزاد الراكب، ولهم في ذلك من الحكايات المشهورة والقصص المأثورة، ما هو عن أهله معلوم، ولمن طلب معرفته معروف مرسوم، بتوسد أحدهم التراب، وتركهم لذيذ الطعام والشراب، وترك معاشرة الأهل والأصحاب، والتصبر على مرارة الاغتراب، ومقاساة الأهوال الصعاب، أمر حببه الله إليهم وحلاه ليحفظ بذلك دين الله كما جعل البيت مثابة للناس وأمناً، يقصدونه من كل فج عميق، ويتحملون فيه أموراً مؤلمة تحصل في الطريق، وكما حبب إلى أهل القتال الجهاد بالنفس والمال، حكمة من الله يحفظ بها الدين، ليهدي المهتدين، ويظهر به الهدى ودين الحق الذي بعث به رسوله ولو كره المشركون" (1) ، ثم يقول: " وأهل العلم   (1) مجموع الفتاوي (1/7-8) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 764 المأثور عن الرسول أعظم الناس قياماً بهذه الأصول لا تأخذ أحدهم في الله لومة لائم، ولا يصدهم عن سبيل الله العظائم، بل يتكلم أحدهم بالحق الذي عليه، ويتكلم في أحب الناس إليه.. ولهم من التعديل والتجريح، والتضعيف والتصحيح من السعي المشكور والعمل المبرور، ما كان من أسباب حفظ الدين، وصيانته عن أحداث المفترين، وهم في ذلك على درجات: منهم المقتصر على مجرد النقل والرواية، ومنهم أهل المعرفة بالحديث والدراية، ومنهم أهل الفقه فيه والمعرفة بمعانيه.. ولم يزل أهل العلم في القديم والحديث يعظمون نقلة الحديث حتى قال الشافعي رضي الله عنه: إذا رأيت رجلاً من أهل الحديث فكأني رأيت رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) ، وإنما قال الشافعي هذا لأنهم في مقام الصحابة من تبليغ حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) ". فهذا الإمام العظيم - الشافعي -الذي تنتسب إليه طوائف عظيمة من الأشعرية هو الذي يحمل لأهل الحديث هذه المنزلة، بل إنه يقول فيهم: " لولا أصحاب الحديث لكنا بياع القول " (3) ، وهو الذي يقول لإمام أهل السنة أحمد بن حنبل وأصحابه: " أنتم أعلم بالحديث والرجال مني، فإذا كان الحديث الصحيح فأعلموني إن شاء يكون كوفياً أو بصرياً أو شامياً، حتى أذهب إليه إذا كان صحيحاً " (4) ، وهؤلاء الذين يقول فيهم الشافعي هذا الكلام ويعترف لهم هذا الاعتراف هم الذي يصمهم بعض الأشعرية بأنهم حشوية. وأهل الحديث لاشتغالهم بخدمة السنة وروايتها فهم: " أخص بمعرفة ما جاء   (1) رواه البيهقي في المدخل (ص: 391) ، ورقمه (689) ، وفي مناقب الشافعي (1/477) ، كما رواه أبو نعيم في الحلية (9/109) ، ورواه أيضاً الخطيب في شرف أصحاب الحديث (ص: 46) ، لكن بلفظ: " إذا رأيت رجلاً من أصحاب الحديث فكأني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - حياً ". (2) مجموع الفتاوي (1/10-11) . (3) مناقب الشافعي (1/477) . (4) المدخل للبيهقي (ص: 172-173) ، ورقمه (173-174) ، ومناقب الشافعي (47641) ، وآداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم الرازي (94-95) ، وأبو نعيم في الحلية (9/170) ، وابن عبد البر في الانتقاء (ص: 75) ، وتذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة (ص: 29) ، وانظر أعلام الموقعين (2/288) ، ت الوكيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 765 به الرسول، ومعرفة أقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فإليهم المرجع في هذا الباب، لا إلى من هو أجنبي عن معرفته، ليس له معرفة بذلك، ولولا أنه قلد في الفقه لبعض الأمثلة لكان في الشرع مثل آحاد الجهّال من العامة" (1) . والسلف المتقدمون أعظم تحقيقاً ممن جاء بعدهم، " ومن أتاه الله علماً وإيماناً علم أنه لا يكون عند المتأخرين من التحقيق إلا ما هو دون تحقيق السلف، لا في العلم، ولا في العلم، ومن كان له خبرة بالنظريات والعقليات والعمليات علم أن مذهب الصحابة دائماً أرجح من قول من بعدهم، وأنه لا يبتدع أحد قولاً في الإسلام إلا كان خطأ وكان الصواب قد سبق إليه من قبله " (2) . فهؤلاء هم أهل الحديث وهم أعلام السلف، نقلوا السنة وفهموها، وكان علمهم بها بلغ منزلة لا يمكن أن يصل إليها من جاء بعدهم، وهذا في كل ما نقلوه من أحاديث الأحكام والعقائد والآداب وغيرها. 4- وجوب الرجوع إلى كلام الصحابة والسلف في فهمهم للعقيدة وشرحهم لها، وهذه من القضايا الأساسية في باب العقائد، لأن القرآن الكريم وصل إلينا دون تحريف، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصلت إلينا، وميز الصحيح منها عن الضعيف، ولكن من الذي يشرح نصوص الكتاب والسنة ويفسرها، ويوضحها للناس، ويستخلص منها ما يجب اعتقاده، هل يترك هذا لكل متكلم برأيه وهواه وفهمه القاصر أن يقول فيها ما يراه حقاً وصواباً؟ ثم حين يقع الاختلاف بين الناس في فهم بعض النصوص فمن الذي يرجع إليه في بيان الحق من الباطل؟. لقد أولى شيخ الإسلام وهو يرد على أهل الكلام - من الأشاعرة وغيرهم - هذه المسألة اهتماماً كبيراً، فبين أن تفسير النصوص - خاصة ما وقع فيه خلاف بين المتأخرين، - يجب الرجوع فيه إلى فهم الصحابة والسلف، وإلا انفتح لكل متأوّل وفيلسوف وقرمطي وصوفي غال أن يفسر كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بما يشاء، وقد جاء تقرير شيخ الإسلام لذلك كما يلي:   (1) انظر: درء التعارض (7/32) . (2) الإيمان (ص: 417) ، ط المكتب الإسلامي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 766 أ- بيانه أن الصحابة والسلف كانوا عالمين بتفسير النصوص، عارفين بدلالاتها، وأنهم بلغوها وعلموها من جاء بعدهم، يقول شيخ الإسلام في الحموية: " ثم من المحال أيضاً أن تكون القرون الفاضلة - القرن الذي بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم- كانوا غير عالمين وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين، لأن ضد ذلك: إما عدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق، وكلاهما ممتنع: " أما الأول: فلأن من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم، أو نهمة في العبادة يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه، ومعرفة الحق فيه، أكبر مقاصده، وأعظم مطالبه، أعني بيان ما يجب اعتقاده، لا معرفة كيفية الرب وصفاته، وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر، وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجدية، فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضى - الذي هو من أقوى المقتضيات - أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة، في مجموع عصورهم؟ هذا لا يكاد يقع في أبلد الخلق، وأشدهم إعراضاً عن الله، وأعظمهم إكباباً على طلب الدني والغفلة عن ذكر الله تعالى، فكيف يقع في أولئك؟ ". " وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق أو قائليه، فهذا لا يعتقده مسلم ولا عاقل عرف حال القوم " (1) . وقد واجه شيخ الإسلام بهذا الكلام أشاعرة عصره الذين كانوا في وقتهم يعولون على تأويلات الجويني والغزالي والرازي والآمدي في كتبهم الكلامية، التي خالفوا فيها مذهب الصحابة والسلف، وأتوا بتأويلات لنصوص الصفات وغيرها لم يعرفها السلف وخير القرون. ب - أنه يجب الرجوع إلى ما قاله الصحابة والسلف حول النصوص، لأن أقوالهم هي التي تفصل الخلاف في هذا الباب، يقول شيخ الإسلام - في معرض الرد على الرازي -: " والطريق إلى معرفة ما جاء به الرسول أن تعرف   (1) الحموية، مجموع الفتاوي (5/7-8) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 767 ألفاظه الصحيحة، وما فسرها به الذي تلقوا عنه اللفظ والمعنى، ولغتهم التي كانوا يتخاطبون بها، وما حدث من العبارات وتغير من الاصطلاحات " (1) . ومعنى ذلك أنه لابد من ثلاثة أمور: - معرفة الألفاظ الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتمييزها عن الأحاديث والألفاظ الضعيفة والباطلة. - ثم بمعرفة ما فسرها به الصحابة الذين تلقوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ النصوص ومعانيها، فهم أعرف الخلق بها. - ثم ونحن نتلقى ما قالوه في تفسيرهم وشرحهم للنصوص لابد من معرفة اللغة والمصطلحات التي كانوا يتخاطبون، حتى لا تختلط بالمصطلحات الحادثة التي جاءت عند المتأخرين وهي تحمل معاني ودلالات خاصة. وبهذا الفهم والتدرج في تلقي عقيدة السلف، وتفسيرهم لنصوص الكتاب والسنة، نأمن من الخطأ والزلل في تفسير النصوص، أو تحميل أقوالهم وعباراتهم ملا تتحمله من المعاني الفاسدة. جـ - ولما كان شيخ الإسلام في مصر - إبان محنته المشهورة - سنة 712هـ، حصل نزاع بين بعض المغاربة المالكين حول صفات الله والعلو على العرش: هل يجب معرفة هذا والبحث عنه، أو أنه يكره، والقائل به مجسم حشوي، وما الدليل على أنه يجب على الناس أن يعتقدوا إثبات الصفات والعلو على العرش؟ (2) . وقد أجاب شيخ الإسلام بجواب عظيم سمي بالقاعدة المراكشية، وهي من القواعد المهمة والنادرة لشيخ الإسلام، وقد بين فيها أن الصحابة والتابعين تلقوا العلم والعمل جميعاً، وأنهم كانوا أشد الناس حرصاً على تفهم كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والعمل بهما، وكيف لا يكونون كذلك وأبو عبد الرحمن السلمي   (1) نقض التأسيس المطبوع (1/159) . (2) انظر: القاعدة المراكشية (ص: 23-24) ، محققة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 768 يقول: " لقد حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان، وعبد الله ابن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قال: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً " (1) ،وأقام عبد الله بن عمر في تعلم البقرة ثماني سنين (2) .؟ ثم قال شيخ الإسلام: " وهذا معلوم من وجوه: " أحدهما: أن العادة المطردة التي جبل الله عليها بني آدم توجب اعتناءهم بالقرآن المنزل عليهم، لفظاً ومعنى، بل أن يكون اعتناؤهم بالمعنى أوكد، فإنه قدعلم أنه من قرأ كتاباً في الطب أو الحساب أو النحر أو الفقه، أو غير ذلك فإنه لابد أن يكون راغباً في فهمه وتصور معانيه، فكيف بمن قرأوا كتاب الله المنزل إليهم الذي به هداهم الله، وبه عرفهم الحق والباطل، والخير والشر، والهدى والضلال، والرشد والغي، فمن المعلوم أن رغبتهم في فهمه وتصور معانيه أعظم الرغبات، بل إذا سمع المتعلم من العالم حديثاً فإنه يرغب في فهمه، فكيف بمن يسمعون كلام الله من المبلغ عنه؟ بل ومن المعلوم أن رغبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تعريفهم معاني القرآن العظيم أعظم من رغبته في تعريفهم حروفه، فإن معرفة الحروف بدون المعاني لا تحصل المقصود إذ اللفظ إنما يراد للمعنى ". " الوجه الثاني: أن الله قد حضهم على تدبره وتعقله واتباعه في غير موضع كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} (صّ:29) ،   (1) رواه الإمام أحمد في مسنده (5/410) ، والحاكم في المستدرك (1/557) ، والطبري في تفسيره (1/80) ، ط شاكر، كلهم من طريق عطاء عن أبي عبد الرحمن السلمي، وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي، كما صححه أحمد شاكر في حاشية الطبري، ولكن الهيثمي قال في مجمع الزوائد (1/165) ،: " في إسناده عطاء بن السائب اختلط في آخر عمره (انظر في ترجمة عطاء الكامل 5/1999، وميزان الاعتدال 3/70، والكاشف 2/265، وتهذيب التهذيب 7/203) ، ومما يلاحظ أن الذين رووا عن عطاء عند أحمد والحاكم والطبري هم شريك، وجرير، وابن فضيل، وهؤلاء ذكر ابن حجر وغيره أنخم رووا عن عطاء بعد اختلاطه - انظر التهذيب - حيث نص على ذكر جرير وابن فضيل، وأدخل معهما من كان في طبقتهما، وشريك من طبقتهما، والحديث يتقوى بالطريق الآخر الذي رواه ابن جرير، قبل الحديث السابق - عن الأعمش عن شقيق عن ابن سعود - وقد صححه أحمد شاكر. (2) رواه مالك في الموطأ كتاب القرآن، باب ما جاء في القرآن (1/205) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 769 وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد:24) ، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} (المؤمنون:68) ، وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء:82) ، فإذا كان قد حض الكفار والمنافقين على تدبره على أن معانيه مما يمكن الكفار والمنافقين فهمها ومعرفتها، فكيف لا يكو ذلك ممكناً للمؤمنين، وهذا يبين أن معانيه كانت معروفة بينة لهم". " الوجه الثالث: أنه قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف:2) ، وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الزخرف:3) ، فبين أنه أنزله عربياً لأن يعقلوا، والعقل لا يكون إلا مع العلم بمعانيه". " الوجه الرابع: أن ذم من لا يفهمه: فقال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} (الاسراء:45-46) ، وقال تعالى: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} (النساء:78) ، فلو كان المؤمنون لا يفقهوه أيضاً لكانوا مشاركين للكفار والمنافقين فيما ذمهم الله به ". " الوجه الخامس: أنه ذم من لم يكن حظه من السماع إلا سماع الصوت دون فهم المعنى واتباعه، قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} (البقرة:171) ، وقال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان:44) ، وقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} (محمد:16) ، وأمثال ذلك، وهؤلاء المنافقون سمعوا صوت الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يفهموا، وقالوا: ماذا قال آنفاً؟ أي الساعة، وهذا كلام من لم يفقه قوله، فقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} (محمد: 16) ، فمن جعل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان غير عالمين بمعاني القرآن جعلهم بمنزلة الكفار والمنافقين فيما ذمهم الله عليه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 770 " والوجه السادس: أن الصحابة رضي الله عنهم فسروا للتابعين القرآن، كما قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره أوقفه عند كل آية وأسأله عنها (1) ، ولهذا قال سفيان الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به (2) ، وكان ابن مسعود يقول: " لو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته " (3) ، وكل واحد من أصحاب ابن مسعود وابن عباس نقلوا عنه من التفسير ما لم يحصه إلا الله، والنقول في ذلك عن الصحابة والتابعين معروفة عند أهل العلم بها " (4) . فهذه الوجوه دالة على أن الصحابة كانوا أعلم الناس بما دلت عليه النصوص ولذلك فإليهم المرجع في تفسير النصوص وفهمها. د - أن ما وجد من خلاف بين الصحابة في تفسر القرآن لم يكن من اختلاف التباين الذي تتعارض فيه الأقوال، وإنما هو من اختلاف التنوع حيث يصدق الأقوال بعضها بعضاً، يقول شيخ الإسلام: " عامة تفاسير السلف ليست متباينة، بل تارة يصفون الشيء والواحد بصفات متنوعة، وتارة يذكر كل منهم من المفسِّر نوعاً، أو شخصاً على سبيل المثال لتعريف السائل، بمنزلة الترجمان الذي يقال له ما الخبر فيشير إلى شيء معين على سبيل التمثيل " (5) ، ويقول أيضاً جواباً لاعتراض يقول: أن الصحابة اختلفوا في تفسير القرآن اختلافاً كثيراً ولو كان ذلك معلوماص عندهمن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يختلفوا فيه - يقول شيخ الإسلام: " يقال: الاختلاف الثابت عن الصحابة، بل وعن أئمة التابعين في القرآن أكثره لا يخرج عن وجوه: " أحدهما: أن يعبر كل منهم عن معنى الإسلام بعبارة غير عبارة صاحبه..   (1) رواه الطبري في تفسيره (1/90) رقم 108. (2) رواه الطبري في تفسيره (1/91) رقم 109. (3) رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ورقمه 5002، فتح الباري (9/47) . (4) القاعدة المراكشية (ص: 29-32) . (5) نقض التأسيس المخطوط (2/67) ، وانظر أيضاً (2/347-352) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 771 ومثال هذا في التفسير كلام العلماء في تفسير الصراط المستقيم، فهذا قول: هو الإسلام، وهذا يقول: هو القرآن أي اتباع القرآن، وهذا يقول: هو السنة والجماعة، وهذا يقول طريقة العبودية، وهذا يقول: طاعة الله ورسوله (1) ، ومعلوم أن الصراط يوصف بهذه الصفات كلها، ويسمى بهذه الأسماء كلها، ولكن كل منهم دل المخاطب على النعت الذي يعرف به الصراط وينتفع بمعرفة ذلك النعت ". " والوجه الثاني: أن يذكر كل منهم من تفسير الاسم بعض أنواعه أو أعيانه على سبيل التمثيل للمخاطب، لا على سبيل الحصر والإحاطة..". " الوجه الثالث: أن يذكر أحدهم لنزول الآية سبباً، ويذكر الآخر سبباً آخر لا ينافي الأول.. " (2) ، وبعد أن فصل شيخ الإسلام الكلام حول هذا الموضوع في مكان آخر (3) ، يقول معقباً: " وجمع عبارات السلف في مثل هذا نافع جداً، فإن مجموع عباراتهم أدل على المقصود من عبارة أو عبارتين، ومع هذا فلابد من اختلاف مخفف بينهم، كما يوجد مثل ذلك في الإحكام " (4) . هؤلاء هم السلف من الصحابة والتابعين والتابعين لهم بإحسان، وهذه حالهم علماً وفهماً، وحرصاً على تبليغ هذا الدين لمن بعدهم، فكيف لا يكونون هم الأعلم والأحكم، وكيف لا يكون طريقهم هو الطريق الأسلم، بل كيف يجرؤ أن يقول قائل: إنه قد يأتي أحد ممن جاء بعدهم يكون أعلم في دين الله وبما يجب لله منهم؟.   (1) انظر: تفسير " الصراط المستقيم " من سورة الفاتحة في تفسير الطبري، وابن أبي حاتم، مطبوع على الآلة الكاتبة، وابن الجوزي، وابن كثير، والدر المنثور للسيوطي. (2) القاعدة المراكشية (ص: 32-34) . (3) انظر: مقدمة في أصول التفسير (ص: 38-54) . (4) مقدمة في أصول التفسير (ص:54) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 772 رابعاً: أن علم الكلام (1) مذموم. من أصول منهج ابن تيمية الكبرى في الرد على الأشاعرة أنه وصمهم بنهم قد اتبعوا أهل الكلام المذموم في أقوالهم التي خالفوا فيه الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح، وكان من أهم المسائل الكلامية التي خاض فيها الأشاعرة مخالفين لمذهب أهل السنة والجماعة. - مسألة إيجاب النظر، وأنه أول واجب على المكلف. - ومسألة دليل حدوث الأجسام على إثبات الصانع. - نفي ما عدا الصفات السبع عن الله تعالى من الصفات الفعلية والخبرية. وقولهم بنفي التجسيم الذي رتبوا عليه نفي الصفات. - تقديم العقل على الشرع عند توهم تعارضهما. - الميل في باب القدر إلى مذهب الجهمية، وفي باب الإيمان إلى مذهب المرجئة. - دعوى أن أخبار الآحاد لا تفيد العلم فلا يحتج بها في العقائد. - وضع المقدمات العقلية والفلسفية في كتبهم ومباحثهم العقدية. وقد تفرعت عن هذه الأصول الكبار مسائل متعددة متفرقة كانوا في كل واحدة منها سالكين ومتابعين لأقوال طائفة أو فرقة من الفرق المنحرفة عن منهج أهل السنة.   (1) ذكر المتأخرون عدة أقوال في سبب تسميته بعلم الكلام، منها: أن مبناه على الكلام في المناظرات، أو لشبهه بالمنطق، أو أن العلماء بوبوا لهم بقولهم: الكلام في كذا، أو لأن أهم قضية في مباحثه مسألة كلام الله، انظر في ذلك: مقدمة ابن خلدون (ص: 429) ، - ط الشعب، وشرح المواقف (1/60) ، وشرح المقاصد (1/6) ، ورسالة التوحيد لمحمد عبده (ص/ 21) ، - ت أبو ريه، وتمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، مصطفى عبد الرزاق (ص: 265) ، والفرق الكلامية الإسلامية: مدخل ودراسة لعلي المغربي (ص: 15) ، ودراسات في الفرق والعقائد الإسلامية، عرفان عبد الحميد، (ص: 136-137) ، وتاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام، محمد علي أبو ريان (ص: 130) ، وغيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 773 وقد ركز شيخ الإسلام في مناقشاته الكثيرة المتعددة على هذه المسألة وبين أن ما جاءوا به مما هو مخالف لدين الإسلام فإنما هو من الكلام المذموم والبدع المحرمة التي نهى عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحذر منها، كما حذر منها الصحابة وأئمة أهل السنة، ويمكن عرض موقف شيخ الإسلام من هذه المسألة كما يلي: أ - تحقيقه في نشأة مصطلح " المتكلمون " أو " أهل الكلام " فقد ذكر الشهرستاني في الملل والنحل أن المعتزلة طالعوا كتب الفلاسفة " حين نشرت أيام المأمون، فخلطت مناهجها بمناهج الكلام، وأفردتها فناً من فنون العلم، وسمتها باسم الكلام؛ إما لأن أظهر مسألة تكلموا فيها وتقاتلوا عليها هي مسألة الكلام، فسمي هذا النوع باسمها، وإما لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فناً من فنون علمهم بالمنطق، والمنطق والكلام مترادفان" (1) ،وقد استشهد صفي الدين الهندي في مناظرته - مع أصحابه الأشاعرة - لابن تيمية بكلام الشهرستاني، فحين قال: " أول مسألة اختلف فيها المسلمون: مسألة الكلام، وسمي المتكلمون متكلمين لأجل تكلمهم في ذلك، وكان أول من قالها عمرو بن عبيد" (2) . عقب شيخ الإسلام بقوله في المناظرة: " قلت: الناس مختلفون في مسألة الكلام في خلافة المأمون وبعدها في أواخر المائة الثانية، وأما المعتزلة فقد كانوا قبل ذلك بكثير، في زمن عمرو بن عبيد بعد موت الحسن البصري في أوائل المائة الثانيةن ولم يكن أولئك قد تكلموا في مسألة الكلام ولا تنازعوا فيها، وإنما أول بدعتهم تكلمهم في مسائل الأسماء والإحكام والوعيد " - فاعترض صفي الدين الهندي قائلاً: - " هذا ذكره الشهرستاني في كتاب الملل والنحل " فرد شيخ الإسلام بقوله: " الشهرستاني ذكر ذلك في اسم المتكلمين لم سموا متكلمين لم يذكره في اسم المعتزلة.. وأيضاً فما ذكره الشهرستاني ليس بصحيح في اسم المتكلمين، فإن المتكلمين كانوا يسمون بهذا الاسم قبل تنازعهم في مسألة الكلام، وكانوا يقولون عن واصل بن عطاء: إنه متكلم ويصفونه بالكلام ولم يكن الناس اختلفوا   (1) الملل والنحل (1/30) . (2) مناظرة حول الواسطية: مجموع الفتاوي (3/183) ، العقود الدرية (ص: 235) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 774 في مسألة الكلام" (1) . وإذا فعلم الكلام الذي ذمه السلف شامل لكل الانحرافات التي وجدت منذ عهد التابعين، وأبرز فرسانه أهل التهجم والاعتزال. ب - بيانه أن السلف رحمهم الله تعالى مجمعون على ذم الكلام وأهله (2) ، ويقول شيخ الإسلام عنهم في ذلك طويلة جداً - وهي مشهورة - وقد نقل عن الإمام الشافعي -وذمه الكلام مشهور - أنه قال: " البدعة بدعتان: بدعة خالفت كتاباً أو سنة أو إجماعاً أو أثراً عن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذه بدعة ضلالة، وبدعة لم تخالف شيئاً من ذلك فهذه قد تكون حسنة لقول عمر: " نعمت البدعة هذه " (3) ، هذا الكلام أو نحوه رواه البيهقي بإسناده الصحيح في المدخل (4) .. " (5) ، ولا شك أن من أعظم البدع المخالفة للكتاب والسنة ما جاء به أهل الكلام في مسألة الصفات والقدر والإيمان، ولذلك اشتد نكير السلف عليهم، بل وجعلوه من أبواب الإلحاد والزندقة. وقد حرص شيخ الإسلام وهو يرد على الأشاعرة أن يقرر أن ما ابتدعوه هو من علم الكلام الذي ذمه السلف، وتعددت نقوله عن أئمتهم كالشافعي، وأحمد وأبي حنيفة ومالك وأبي يوسف (6) ، بل ذكر أن بعض العلماء أفردوا   (1) مناظرة حول الواسطية: ومجموع الفتاوي (3/183-184) ، العقود الدرية (ص:235-236) . (2) انظر عن مواقف بعض السلف من علم الكلام ما سبق (ص:47-49) . (3) رواه البخاري: كتاب صلاة التراويح، باب فضل فضل قيام رمضان، ورقمه 2010، فتح الباري (4/250) . (4) المدخل للبيهقي (ص: 206) ، ورواه أيضاً في مناقب الشافعي (1/468-469) ، ورواه مختصراً أبو نعيم في الحلية (9/113) . (5) انظر: درء التعارض (1/249) . (6) انظر مثلاً: نقض التأسيس المخطوط (2/347) ، ومجموع الفتاوي (5/261-6/243، 16/472-476) ، والنبوات (ص:298) ، ودرء التعارض (5/218-8/277) ، والتسعينية (ص: 204-207) وغيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 775 كتاباً في ذم الكلام، منهم أبو عبد الرحمن - محمد ابن الحسين - السلمي والشيخ أبو إسماعيل الأنصاري، ونقل من كتابيهما نصوصاً عديدة (1) ، كما نقل أقوال غيرهما كابن عبد البر (2) ، وأبي العباس بن سريح (3) ، والخطابي (4) ، وأبي المظفر السمعاني (5) ، بل وعرض أحياناً لحكم الرواية عن أهل البدع (6) ، وحكم شهادتهم (7) ، ومنهج أهل السنة في هجرهم (8) . وهذا كله يدل على أجماع السلف على ذم الكلام المبتدع، وأن أحداً منهم لم يقل: إن شيئاً مما ابتدعه هؤلاء في باب العقائد موافق للسنة أو ليس كلاماً مذموماً، والمطلع على أحوال المتكلمين بعلم: " أن جميع ما ابتدعه المتكلمون وغيرهم مما يخالف الكتاب والسنة فإنه باطل، ولا ريب أن المؤمن يعلم من حيث الجملة أن ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل " (9) . جـ - أن الأشاعرة قد خالفوا أئمتهم -وأئمة أهل السنة - الذين ثبت عنهم أنهم نهوا عن الكلام، ولابن تيمية في ذلك نص منهم، أظهر فيه غاية الإنصاف حين ضرب المثل بالشافعية والمالكية الحنابلة الذين خالفوا هؤلاء الأئمة الذين ينتسبون إليهم: يقول شيخ الإسلام - بعد كلامه عن الآراء المحدثة والفرق بين البدعة والسنة، وأن الخوارج المارقين هم أول من ضل في هذا الباب، يقول: " وليس المقصود هنا ذكر البدع الظاهرة التي تظهر للعامة أنها بدعة، كبدعة الخوارج والروافض ونحو ذلك، لكن المقصود التنبيه على ما وقع من ذلك في   (1) ذكرهما في منهاج السنة (2/490) ، المحققة، وفي درء التعارض (7/145) ، ونقل عن كتاب الهروي في نقض التأسيس المطبوع (1/269-280) ، والسبعينية (ص: 11) ، كما نقل عن كتاب السلمي في التسعينيى (ص: 204-206) . (2) انظر: التسعينية (ص: 206) . (3) انظر: المصدر السابق الصفحة نفسها. (4) انظر: درء التعارض (7/316-317) . (5) انظر: نقض التأسيس المطبوع (1/132) . (6) انظر: منهاج السنة (1/40-41) ، المحققة. (7) انظر: التسعينية (ص: 67) . (8) انظر: مجموع الفتاوى (10/376-377) . (9) انظر: النبوات (ص:191) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 776 أخص الطوائف بالسنة، وأعظمهم انتحالاً لها، كالمنتسبين [إلى الحديث مثل مالك والشافعي وأحمد، فإنه لا ريب أن هؤلاء أعظم..] اتباعاً للسنة، وذماً للبدعة من غيرهم، والأئمة كمالك وأحمد وابن المبارك وحماد بن زيد والأوزاعي، وغيرهم، يذكرون من ذم المبتدعة وهجرانهم وعقوبتهم ما شاء الله تعالى، وهذه الأقوال سمعها طوائف ممن اتبعهم وقلدهم، ثم إنهم [يخلطون] في مواضع كثيرة السنة بالبدعة، حتى قد يبدلون الأمر، فيجعلون البدعة التي ذمها أولئك في السنة، والسنة التي حمده أولئك هي البدعة، ويحكمون بموجب ذلك، حتى يقعوا في البدع والمعاداة لطريق أئمتهم السنية، وفي الحب والموالاة لطريق المبتدعة، التي أمر أئمتهم بعقوبتهم، ويلزمهم تكفير أئمتهم ولعنهم والبراءة منهم.." (1) ، ثم قال شيخ الإسلام ممثلاً لذلك: " واعتبر ذلك بأمور: أحدهما: أن كلام مالك في ذم المبتدعة وهجرهم كثير، ومن أعظمهم عندهم الجهمية، الذين يقولون: إن الله ليس فوق العرش، وأن الله لم يتكلم بالقرآن كله، وإنه لا يرى، كما وردت به السنة، وينفون نحو ذلك من الصفات. ثم إنه كثير في المتأخرين من أصحابه من ينكر هذه الأمور، كما ينكرها فروع الجهمية، ويجعل ذلك هو السنة، ويجعل القول الذي يخالفها - وهو قول مالك وسائر أئمة السنة - هو البدعة، ثم إنه مع ذلك يعتقد في أهل البدعة ما قاله مالك، فبدل هؤلاء الدين، فصاروا يطعنون في أهل السنة". " الثاني: أن الشافعي من أعظم الناس ذماً لأهل الكلام ولأهل التغيير، ونهياً عن ذلك، وجعلاً له من البدعة الخارجة عن السنة، ثمن إن كثيراً من أصحابه عكسوا الأمر حتى جعلوا الكلام الذي ذمه الشافعي هو السنة وأصول الدين الذي يجب اعتقاده وموالاة أهله، وجعلوا موجب الكتاب والسنة الذي مدحه الشافعي هو البدعة التي يعاقب أهلها". " الثالث: أن الإمام أحمد في أمره باتباع السنة ومعرفته بها ولزومه لها، ونهيه عن البدع، وذمه لها ولأهلها، وعقوبته لأهلها بالحال التي لا تخفى.   (1) انظر: الاستقامة (1/13-14) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 777 ثم إن كثيراً مما نص على أنه من البدع التي يذم أهلها صار بعض اتباعه يعتقد أن ذلك من السنة، وأن الذي يذم من خالف ذلك، مثل كلامه في مسألة القرآن من مواضع: منها تبديعه من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، وتجهيمه لمن قال: مخلوق. ثم إن أصحابه من جعل ما بدعه الإمام أحمد هو السنة، فتراهم يحكمون على ماهو من صفات العبد - كألفاظهم وأصواتهم وغير ذلك بأنه غير مخلوق، بل يقولون: هو قديم، ثم إنهم يبدعون من لا يقول بذلك، ويحكمون في هؤلاء بما قاله أحمد في المبتدعة، وهو فيهم، وكذلك ما أثبته من الصفات التي جاءت بها الآثار واتفق عليها السلف، كالصفات الفعلية من الاستواء والنزول والمجيء والتكلم إذا شاء، وغير ذلك، فينكرون ذلك بزعم أن الحوادث لا تحل به، ويجعلون ذلك بدعة، ويحكمون على أصحابه بما حكم به أحمد في أهل البدع، وهمن من أهل البدعة الذين ذمهم أحمد، لا أولئك. ونظائر هذا كثيرة، بل قد يحكي عن واحد (1) ، من أئمتهم إجماع المسلمين على أن الحوادث لا تحل بذاته، لينفي بذلك ما نص أحمد وسائر الأئمة عليه من أنه يتكلم إذا شاء، ومن هذه الأفعال المتعلقة بمشيئته، ومعلوم أن نقل الإجماع على خلاف نصوصه ونصوص الأئمة من أبلغ ما يكون، وهذا كنقل غير واحد من المصنفين في العلم إجماع المسلمين على خلاف نصوص الرسول، وهذه المواضع من ذلك أيضاً، فإن نصوص أحمد والأئمة مطابقة لنصوص الرسول - صلى الله عليه وسلم - (2) . ومعلوم أن بعض الحنابلة انحرفوا عن الإمام أحمد وأقواله، إما بميل إلى التشبيه بالاحتجاج بالأحاديث الضعيفة، أو ميل إلى الاعتزال والمذهب الأشعري، ومع ذلك فاتباع الإمام أحمد على العموم أكثر إثباتاً وإتباعاً للإمام أحمد من غيرهم من أتباع المذاهب الأربعة. د - ولكن الأشاعرة يجيبون عما هو ثابت من ذم الشافعي وغيره لأهل الكلام بأن ذمهم إنما هو منصب على بدع القدرية ونحوهم أو أن فائدة علم الكلام   (1) كذا ولعل صحة العبارة: عن غير واحد. (2) الاستقامة (1/14-16) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 778 حراسة عقيدة العوام فقط. وغرضهم من ذلك أن لا يدخل في الذم الذين يقولون بدليل حدوث الأجسام، أو نفي حلول الحوادث وغير ذلك. وقد عرض شيخ الإسلام ابن تيمية لأقوالهم وتعليلاتهم وناقشها، ومن هؤلاء: 1 - البيهقي الذي قال بعد ذكره لبعض الروايات عن الشافعي في ذك الكلام: " إنما أراد الشافعي بهذا الكلام حفصا الفرد وأمثاله من أهل البدع، وهكذا مراده بكل ما حكي عنه من ذم الكلام وذم أهله، غير أن بعض الرواة أطلقه وبعضهم قيده " [ثم روى البيهقي بإسناده إلى ابن الجارود قال] : " دخل حفص الفرد على الشافعي، فكلمه، ثم خرج إلينا الشافعي فقال لنا: لأن يلقي الله العبد بذنوب مثل جبال تهامة خير له من أن يلقاه باعتقاد حرف مما عليه هذا الرجل وأصحابه، وكان يقول بخلق القرآن " (1) . وقال البيهقي أيضاً: " وإنما ذم الشافعي مذهب القدرية، ألا تراه قال: بشيء من هذه الأهواء، واستحب ترك الجدال فيه، وكأنه سمع ما رويناه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم - الحديث (2) ، أو غير ذلك من الأخبار الواردة في معناه، وعلى مثل ذلك جرى أئمتنا في قديم الدهر عند الاستغناء عن الكلام فيه، فإذا احتاجوا إليه أجابوا بما في كتاب الله ثم في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدلالة على إثبات القدر لله تعالى، وإنه لا يجري في ملكوت السموات والأرض شيء إلا بحكم الله وبقدرته وإرادته، وكذلك في سائر مسائل الكلام اكتفوا بما فيها من الدلالة   (1) مناقب الشافعي للبيهقي (1/454) ، وقد نقله عنه ابن عساكر في تبيين كذب المفتري (ص: 341) ، ونقله شيخ الإسلام في درء التعارض (7/249-250) . (2) رواه أحمد (1/30) ، ورقمه عند أحمد شاكر (206) ، ورواه أبو داود عن الإمام أحمد، كتاب السنة، باب في القدر ورقمه (4710-4720) ، ط الدعاس، والبيهقي في السنن الكبرى (10/204) ، والحاكم في المستدرك - شاهداً - (1/85) ، وابن أبي عاصم في السنة رقم (230) ، وابن حبان في صحيحه رقم (79) ، انظر صحيح ابن حبان (1/148) ، تحقيق الحوت، وأيضاً (1/246) ، تحقيق شعيب الأرناؤوط وحسين أسد، وضعفاه، كما ضعفه الألباني في تخريج السنة، وضعيف الجامع رقم (6306) ، لأن في سنده شريك بن حزام مجهول، أما أحمد شاكر فقد صحح الحديث في تحقيق للمسند، كما أنه وثق الحكيم ابن شريك في تحقيقه لصحيح ابن حبان (1/237) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 779 على إثبات القدر لله تعالى، وإنه لا يجري في ملكوت السموات والأرض شيء إلا بحكم الله وبقدرته وإرادته، وكذلك في سائر مسائل الكلام اكتفوا بما فيها من الدلالة على صحة قولهم.." (1) ، ثم يقول البيهقي: " وفي كل هذا دلالة على أن الكلام المذموم إنما هو كلام أهل البدع الذي يخالف الكتاب والسنة، فأما الكلام الذي يوافق الكتاب والسنة، ويبين بالعقل والعبرة فإنه محمود مرغوب فيه عند الحاجة، تكلم فيه الشافعي وغيره من أئمتنا رضي الله عنهم " (2) ، وغير الشافعي كأبي الحسن الأشعري، وللبيهقي رسالة مشهورة في الدفاع عنه وعن خوضه في المعقولات وأنه قصد الدفاع عن عقيدة أهل السنة (3) . 2 - ابن عساكر الذي قال في تبيين كذب المفتري: " فإن قيل: غاية ما تمدحون به أبا الحسن أن تثبتوا أنه متكلم، وتدلونا على أنه بالمعرفة برسوم الجدل متوسم، ولا فخر في ذلك عند العلماء من ذوي التسنن والاتباع، لأنهم يرون أن من تشاغل بذلك من أهل الابتداع، فقد حفظ عن غير واحد من علماء الإسلام عيب المتكلمين وذم الكلام، ولو لم يذمهم غير الشافعي رحمه الله لكفى، فإنه قد بالغ في ذمهم وأوضح حالهم، وأنتم تنتسبون إلى مذهبه، فهلا اقتديتم في ذلك به " (4) ، ثم ساق ابن عساكر روايات ذم الكلام عن أبي يوسف وعن الشافعي نقلها عن ابن أبي حاتم في كتابه مناقب الشافعي، ثم روى ابن عساكر عن ابن أبي حاتم " ثنا الربيع، قال رأيت الشافعي وهو نازل من الدرجة وقوم في المجلس يتكلمون بشيء من الكلام فصاح فقال: إما أن تجاورونا بخير، وإما أن تقوموا عنا " (5) . قال ابن عساكر معلقاً على هذه الرواية: "   (1) مناقب الشافعي للبيهقي (1/260-261) ، ونقله عن ابن عساكر في التبيين (ص: 344) ونقله ابن تيمية في درء التعارض (7/250-252) .. (2) مناقب الشافعي للبيهقي (1/467) ، والتبيين (ص: 351) ، ودرء التعارض (7/253) . (3) سبقت الإشارة إلى هذه الرسالة مع ذكر مصادرها (ص: 621) ، وانظر: درء التعارض (7/78-101) . (4) تبيين كذب المفتري (ص: 333) ، ودرء التعارض (7/242-243) . (5) آداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم الرازي (ص: 182) ، والتبيين (ص: 336) ، درء التعارض (7/245) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 780 وقد بين زكريا بن يحيى الساجي في روايته هذه الحكاية عن الربيع: أنه أراد بالنهي عن الكلام قوماً تكلموا في القدر (1) ، ولذلك حكم بالتبديع، ويدل عليه ما أخبرنا [وساق بإسناده إلى يونس بن عبد الأعلى قال:] جئت الشافعي بعد ما كلم حفصا الفرد فقال: غبت عنا أبا موسى، لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء والله ما توهمته قط، ولأن يبتلى المرء بكل ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله خير له من أن يبتلى بالكلام " (2) ، قال ابن عساكر: " فالشافعي إنما عني بمقالته كلام حفص القدري وأمثاله " (3) ، ثم أيّد هذا بنقول عن البيهقي في مناقب الشافعي - سبق نقل بعضها -. فالبيهقي وابن عساكر يريان أن ذم الشافعي لأهل الكلام إنما عنيّ به القدرية، وسيأتي بعد قليل مناقشة ابن تيمية لهم. 3 - الغزالي: وقد نقل في إحياء علوم الدين كلاماً طويلاً عن ذم السلف لأهل الكلام، وقد ذكر أولاً الخلاف فيه وأن الناس من قال: إنه بدعة محرم، ومنهم من قال: إنه واجب على الكفاية، والأعيان، وقال: " وإلا التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان وجميع أهل الحديث من السلف.. " (4) ، ثم ذكر نماذج عديدة من أقوالهم في ذمه، وبعد أن ذكر رأي الطائفة الأخرى المجوزة وحججها (5) قال: فإن قلت فما المختار فيه فاعلم أن الحق فيه أن إطلاق القول بذمه في كل حال أو بحمده في كل حال خطأ.. فالأولى والأبعد عن الالتباس أن يفصل، فنعود إلى علم الكلام ونقول: إن فيه منفعة وفيه مضرة، فهو باعتبار مضرته في وقت الاستضرار ومحله حرام.   (1) ذكر هذه الرواية عن الساجي البيهقي في مناقب الشافعي (1/460) . (2) تبيين كذب المفتري (ص: 336) ، ودرء التعارض (7/245-246) ، وانظر: آداب الشافعي ومناقبه (ص: 182) .. (3) التبين (ص: 237) ، ودرء التعارض (7/246) . (4) إحياء علوم الدين (1/94-95) ، وانظر: درء التعارض (7/146) . (5) انظر الإحياء (1/94-95) ، وانظر: درء التعارض (7/146-162) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 781 أما مضرته: فإثارة الشبهات وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم، فذلك مما يحصل في الابتداء، ورجوعها بالدليل مشكوك فيه، ويختلف فيه الأشخاص، فهذا ضرره في الاعتقاد الحق، وله ضرر آخر في تأكيد اعتقاد المبتدعة للبدعة، وتثبيته في صدورهم، بحيث تنبعث دواعيهم، ويشتد حرصهم على الإصرار عليه. وأما منفعته: فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه (1) ، وهيهات، فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، ولعل التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف، وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوي ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة، وبعد الغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخرى تناسب نوع الكلام، وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود، ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور ولكن على الندور في أمور جلية تكاد تفهم قبل التعمق في صنعة الكلام، بل منفعته شيء واحد وهو: حراسة العقيدة التي ترجمناها على العوام، وحفظها عن تشويهات المبتدعة بأنواع الجدل " (2) . هذه خلاصة أقوال بعض أئمة الأشعرية في علم الكلام المذموم، وقد ناقشهم شيخ الإسلام بما يلي: 1 - أما البيهقي وابن عساكر فقد علق على أقوالهم ببيان أمرين: " أحدهما: أن الذين يعظمون الأشعري وأمثاله من أهل الكلام - كالبيهقي وابن عساكر، وغيرهما - وقد عرفوا ذم الشافعي وغيره من الأئمة للكلام- ذكروا أن الكلام المذموم هو كلام أهل البدع، وقالوا: إنما كان يعرف   (1) يلاحظ أن الغزالي يقول هذا الكلام بعد عزلته التي ارتضى فيها وبعدها طريق أهل الكشف والتصوف. (2) الإحياء (1/96-97) ، وانظر: درء التعارض (7/162-164) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 782 في عصرهم بكلام أهل البدع، وأنه أراد بذلك كلام مثل حفص الفرد وأمثاله، وإنه لما حدثت طائفة سمت ما في كتاب الله من الحجة عليهم متشابهاً، وقالوا بترك القول بالأخبار التي رواها أهل الحديث، وزعموا أن الأخبار التي حملت إليهم لا تصح في عقولهم، قام جماعة من أئمتنا، وبينوا أن جميع ما ورد في الأخبار صحيح في المعقول، وما ادعوه في الكتاب من التشابه باطل في العقول، وكانوا في القديم إنما يعرفون بالكلام أهل الأهواء، فأما أهل السنة والجماعة فمعولهم فيما يعتقدون الكتاب والسنة.. " (1) ، ثم قال شيخ الإسلام: " وهذا اتفاق من علماء الأشعرية - مع غيرهم من الطوائف المعظمين للسلف - على أن الكلام المذموم عند السلف، كلام من يترك الكتاب والسنة، ويعول في الأصول على عقله، فكيف بمن يعارض الكتاب والسنة بعقله؟ وهذا هو الذي قصدنا إبطاله، وهو حال أتباع صاحب الإرشاد الذي وافقوا المعتزلة في ذلك، وأما الرازي وأمثاله، فقد زادوا في ذلك على المعتزلة، فإن المعتزلة لا تقول: إن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين، بل يقولون: إنها تفيد اليقين، ويستدلون بها أعظم مما يستدل بها هؤلاء " (2) . ولاشك أن متأخري الأشاعرة كان خوضهم في علم الكلام ومخالفتهم للكتاب والسنة أعظم وأشد من متقدميهم، وشيخ الإسلام بين أن هؤلاء قرروا أمرين: أحدهما: اتفاق السلف على أن علم الكلام مذموم، والثاني: أن من الكلام المذموم الاعتماد على أدلة العقول والقول بأن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين. والأمر الثاني: أن البيهقي وابن عساكر زعما أن الشافعي قصد في ذم أهل الكلام حفصا الفرد لأنه قدري، وقد رد عليهم شيخ الإسلام بقوله: " قلت: حفص الفرد لم يكن من القدرية، وإنما كان على مذهب ضرار بن عمرو   (1) درء التعارض (7/273-274) ، وقد سبق نقل هذه العبارات عنهم (ص: 252) ، وهي في مناقب الشافعي للبيهقي (1/461-462) ، والتبيين (ص: 344-345) . (2) درء التعارض (7/274-275) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 783 الكوفي، وهو من المقبتين للقدر، لكنه من نفاة الصفات، وكان أقرب إلى الإثبات من المعتزلة والجهمية " (1) - ثم نقل عن مقالات شيخ الأشاعرة أبي الحسن الأشعري مذهب الضرارية، قال: " والذي فارق ضرار بن عمرو به المعتزلة قوله: إن أعمال العباد مخلوقة، وأن فعلاً واحداً لفاعلين: أحدهما خلقه وهو الله، والآخر اكتسبه وهو العبد، وإن الله فاعل لأفعال العباد في الحقيقة، وهو فاعلون لها.. وكان يزعم أن معنى أن الله عالم قادر: أنه ليس بجاهل ولا عاجز، وكذلك كان يقول في سائر صفات الباري لنفسه" قال الأشعري:" وقد تابعه على ذلك حفص الفرد وغيره " (2) ، وقال شيخ الإسلام معلقاً: " قلت: فهذا الذي ذكره الأشعري من قول ضرار وحفص الفرد في القدر هو مخالف لقول المعتزلة، بل هو من أعدل الأقوال وأشبهها، وقوله إلى قول الأشعري وأصحابه في القدر والرؤية أقرب من قوله إلى قول المعتزلة، بل هو في القدر أقرب إلى قول أهل الحديث والفقهاء وسائل أهل السنة، وأعدل من قول الأشعري، حيث جعل العبد فاعلاً حقيقي، وأثبت استطاعتين، ونحو ذلك مما أثبته أئمة الفقهاء وأهل الحديث " (3) ، ثم شرح شيخ الإسلام حقيقة عقيدة حفص الفرد الذي ذمه الشافعي فقال: " حفص الفرد كما هو معروف عند أهل العلم بمقالات الناس بإثبات القدر، فهو من نفاة الصفات القائلين بأن الله تعالى لا تقوم به صفة ولا كلام ولا فعل، وأصل حجتهم في ذلك هو دليل الأعراض.. فإن القرآن كلام، والكلام عندهم كسائر الصفات والأفعال لا يقوم إلا بجسم، والجسم محدث، فكان إنكار الشافعي عليه لأجل الكلام الذي دعاهم إلى هذا، لم تكن مناظرته له في القدر، ومن ظن أن الشافعي ناظره في القدر فقد أخطأ مبيناً، فإن الناس كلهم نقلوا مناظرته له   (1) درء التعارض (7/246) . (2) مقالات الإسلاميين (ص: 281-282) ، - ت ريتر (10/313-314) ، عبد الحميد، ودرء التعارض (7/246-247) . (3) درء التعارض (7/247-248) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 784 في القرآن: هل هو مخلوق أم لا؟ (1) ، ثم أعاد شيخ الإسلام توضيح ذلك فيما بعد (2) . فشيخ الإسلام بين أن ذم الشافعي لأهل الكلام ومناظرته ليس لأجل القدر - كما زعمه هؤلاء - وإنما لأجل بدعهم وتجهمهم في نفي الصفات، كما فعل ذلك الإمام أحمد وغيره، والجهمية والمعتزلة نفوا الصفات، وتبعهم الأشعرية في نفي ما يتعلق بمشيئة الله من صفات الأفعال، والخلاصة أن الشافعي ذم علم الكلام وأهله الذي تلبس به شيوخ الاشاعرة كابن كلاب والأشعري ومن سايرهم. 2 - أما كلام الغزالي في الإحياء حول ذم الكلام، ورأي الغزالي في علم الكلام وهل فيه منفعة أو مضرة - فجاء تعليق شيخ الإسلام عليه من جانبين: الجانب الأول: ما في شهادة الغزالي - على إجماع السلف على ذم الكلام - من الحق. يقول شيخ الإسلام: " فهذا كلام أبي حامد - مع معرفته بالكلام والفلسفة، وتعمقه في ذلك - بذكر اتفاق سلف أهل السنة على ذم الكلامن ويذكر خلاف من نازعهم، ويبين أنه ليس فيه فائدة إلا الذب عن العقائد الشرعية التي أخبر بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمته، وإذا لم يكن فيه فائدة إلا الذب عن هذه العقائد، امتنع أن يكون معارضاً لها، فضلاً عن أن يكون مقدماً عليها، فامتنع أن يكون الكلام العقلي المقبول مناقضاً للكتاب والسنة وما كان من ذلك مناقضاً للكتاب والسنة وجب أن يكون من الكلام الباطل المردود الذي لا ينازع في ذمه أحد من المسلمين، لا من السلف والأئمة، ولا من الخلف المؤمنين أهل المعرفة بعلم الكلام والفلسفة، وما يقبل من ذلك وما يرد،   (1) انظر: درء التعارض (7/250) . (2) انظر: المصدر نفسه (7/275-278) ، وفي النبوات (ص: 216) ، يقول شيخ الإسلام: " من الناس من يظن أنهم (أي السلف) إنما أنكروا كلام القدرية فقط كما ذكره البيهقي وابن عساكر في تفسير كلام الشافعي ونحوه - ليخرجوا أصحابهم من الذم - وليس كذلك، بل الشافعي أنكر كلام الجهمية كلام حفص الفرد، وأمثال هؤلاء كانت منازعتهم في الصفات والقرآن والرؤية لا في القدر". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 785 وما يحمد وما يذم، وأن من قبل ذلك وحمده كان من أهل الكلام الباطل المذموم باتفاق هؤلاء" (1) ، وكلام الغزالي - الذي سبق نقل بعضه قريباً - فيه شهادة كما يقول ممن خبر الكلام وغاص فيه وبلغ منتهى درجة المتكلمينن وشهادته لها وزنها وأهميتها. أما الجانب الثاني: فشيخ الإسلام يعلق على قول الغزالي: " بل منفعته شيء واحد وهو حراسة العقيدة التي ترجمناها على العوام " (2) ؛ بقوله: " وأما حراسة عقيدة العوام فيقال: أولاً: لابد أن يكون المحروس هو نفس ما ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر به لأمته، فأما إذا كان المحروس فيها ما يوافق خبر الرسول وفيه ما يخالفه كان تمييزه قبل حراسته أولى من الذب عما يناقض خبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن حاجة المؤمنين إلى معرفة ما قاله الرسول وأخبرهم به ليصدقوا به، ويكذبوا بنقيضه، ويعتقدوا موجبه، قبل حاجتهم إلى الذب عن ذلك، والرد على من يخالفه، فإذا كان المتكلم الذي يقول: أنه يذب عن السنة، قد كذب هو بكثير مما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - واعتقد نقيضه؛ كان مبتدعاً مبطلاً، متكلماً بالباطل فيما يخالف خبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما أن ما وافق فيه خبر الرسول فهو فيه متبع للسنة، محق متكلم بالحق، وأهل الكلام الذين ذمهم السلف لا يخلو كلام أحد منهم عن مخالفة السنة، ورد لبعض ما أخبر به الرسول، كالجهمية، والشمبهة، والخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة ". " ويقال بأنها لابد أن تُحرس السنة بالحق والصدق والعدل، ولا تُحرس بكذب ولا ظلم، فإذا رد الإنسان باطلاً بباطل، وقابل بدعة ببدعة كان هذا مما ذمه السلف والأئمة، وهؤلاء - كما ذكره أبو حامد - يدخلون في هذا وكلام السلف في ذم الكلام متناول لما ذمه الله في كتابه، والله سبحانه قد ذم في كتابه الكلام بالباطل، والكلام بغير علم، والأول كثير، وأما الثاني فقد   (1) انظر: درء التعارض (7/165) . (2) سبق نقل كلامه قريباً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 786 قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (لأعراف:33) ، وقال تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} (آل عمران:66) ، وقال: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الإسراء:36) (1) . والعقيدة التي أشار أبو حامد الغزالي إلى أنها عقيدة العوام وأنه ترجمها لهم هي التي ذكرها في الإحياء باسم " الرسالة القدسية " أو "قواعد العقائد"، وفيها كثير مما يخالف مذهب أهل السنة والجماعة، مما هو موافق لمذهب جمهور الأشاعرة، ولذلك قال شيخ الإسلام: يجب تمييز ما يوافق خبر الرسول مما يخالفه قبل حراسته التي ادعى الغزالي أنها مهمة علم الكلام. هـ - أن السلف ذموا من الكلام الكلام المخالف للكتاب والسنة ولم يذموا جنس الكلام، كما لم يذموه لما فيه من الاصطلاحات الحادثة، وكثيراً ما يشير شيخ الإسلام إلى أن القرآن الكريم جاء بالدلائل العقلية والأمثلة المضروبة، وأن الصحابة والسلف ناظروا أهل الباطل، وبينوا ما في كلامهم من الفساد، كما أنهم قاموا بدعهم بمختلف الوسائل من منع وهجر، وتحذير للناس، ومناظرة. يقول شيخ الإسلام: " وقد ظن بعض الناس أن ذم السلف والأئمة للكلام وأهل الكلام كقول أبي يوسف.. [ونقل أقوال السلف المشهورة] .. وأمثال هذه الأقوال المعروفة عن الأئمة؛ ظن بعض الناس أنهم إنما ذموا الكلام لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المحدثة، كلفظ الجوهر والجسم والعرض، وقالوا: إن مثل هذا لا يقتضي الذم، كما لو أحدث الناس آنية يحتاجون إليها، أو سلاحاً يحتاجون إليه لمقاتلة العدو، وقد ذكر هذا صاحب الإحياء (2) ، وغيره - وليس الأمر كذلك، بل ذمهم للكلام لفساد معناه أعظم من ذمهم لحدوث ألفاظه،   (1) انظر: درء التعارض (7/182-183) . (2) انظر إحياء علوم الدين (1/95) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 787 فذموه لاشتماله على معانٍ باطلة مخالفة للكتاب والسنة، ومخالفته للعقل الصريح، ولكن علامة بطلانها مخالفتها للكتاب والسنة، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل قطعاً، ثم من الناس من قد يعلم بطلانه بعقله، ومنهم من لا يعلم ذلك " (1) ، ويقول أيضاً: والكلام الذي ذموه نوعان: أحدهما: أن يكون في نفسه باطلاً وكذباً، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل وكذب، فإن أصدق الكلام كلام الله. والثاني: أن يكون فيه مفسدة، مثل ما يوجد في كلام كثير منهم من النهي عن مجالسة أهل البدع، ومناظرتهم ومخاطبتهم، والأمر بهجرانهم، وهذا لأن ذلك قد يكون أنفع للمسلمين من مخاطبتهم، فإن الحق إذا كان ظاهراً قد عرفه المسلمون وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى بدعته، فإنه يجب منعه من ذلك، فإذا هجر وعزر كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بصبيغ بن عسل التميمي (2) ، وكما كان المسلمون يفعلونه.. " (3) ، وبعد أن ضرب أمثلة أخرى يقول\ شيخ الإسلام: " والمقصود أنهم نهوا عن المناظرة من لا يقوم بواجبها، أو مع من لا يكون في مناظرته مصلحة راجحة، أو فيها مفسدة راجحة، فهذه أمور عارضة تختلف باختلاف الأحوال، وأما جنس المناظرة بالحق فقد تكون واجبة تارة ومستحبة أخرى، وفي الجملة: جنس المناظرة والمجادلة: فيها محمود ومذموم، ومفسدة ومصلحة، وحق وباطل " (4) ، ومناظرات السلف لأهل البدع مشهورة وإمام أهل السنة " أحمد - رضي الله عنه - قد رد على الجهمية وغيرهم بالأدلة السمعية والعقلية، وذكر من كلامهم وحججهم ما لم يذكره غيره، بل استوفى حكاية مذهبهم وحججهم أتم استيفاء، ثم أبطل ذلك بالشرع والعقل " (5) .   (1) درء التعارض (1/232) . (2) سبق التعريف به وبقصته (ص: 56) . (3) درء التعارض (1/172) . (4) المصدر السابق (1/174) . (5) درء التعارض (7/149) ، ذكر أن عبد العزيز الكناني من مشاهير متكلمي أهل السنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 788 وكثيراً ما يردد شيخ الإسلام في كتبه أن السلف ذموا الكلام لما فيه من الباطل المخالف للكتاب والسنة، أو لأن فيه رد بدعة ببدعة (1) . ومسألة المصطلحات الحادثة سبق بيان منهج شيخ الإسلام فيها (2) ، والذي تعلق بالموضوع هنا ما يذكره بعض أهل الكلام من الأشاعرة ونحوهم من أن السلف من الصحابة وغيرهم وما واجهوا البدع الحادثة والمصطلحات التي جاء بها أهل الفلسفة ومن سلك سبيلهم، وأنهم لو أدركوا هذه المصطلحات لتكلموا فيها كما تكلم فيها المتأخرون، وهذا فيه مغالطة واضحة، ولذلك ناقشه شيخ الإسلام مفصلاً فقال: " قول القائل: " إن الصحابة - رضي الله عنهم - ماتوا وما عرفوا ذلك " (3) ، فيه تفصيل: وذلك أن هذا الكلام فيه حق وباطل، فأما الباطل فهو مثل إثبات الجوهر الفرد، وطفرة النظام، وامتناع بقاء العرض زمانين، ونحو ذلك، فهذا لا يخطر ببال الأنبياء والأولياء من الصحابة وغيرهم، وإن خطر ببال أحدهم تبين له أنه كذب، فإن القول الباطل الكذب هو من باب مالا ينقض الوضوء، ليس له ضابط، وإنما المطلوب معرفة الحق والعمل به، وإذا وقع الباطل أنه باطل ودفع، وصار هذا كالنهي عن المنكر، وجهاد العدو، فليس كل شيء من المنكر رآه كل من الصحابة وأنكروه، ومع هذا فلا يقطع على كل صحابة بأنهم لم يعرفوا أمثال هذه الأقاويل، ويعرفوا بطلانها، فإنهم فتحوا أرض الشام ومصر والمغرب والعراق وخراسان، وكان بهذه البلاد من الكفار والمشركين والصابئين وأهل الكتاب من كان عنده من كتب   (1) انظر مثلاً: الصفدية (1/163) ، ودرء التعارض (1/178، 2/205-207،7/170/ 176، 181، 183، 184،8/408) ، ومجموع الفتاوي (3/306) ، والكيلانية، مجموع الفتاوي (12/460-461) ، والفرقان بين الحق والباطل، مجموع الفتاوي (13/147) ، وغيرها. (2) انظر: (ص: 297) ، وما بعدها من هذه الرسالة. (3) القائل هو ابن عقيل الحنبلي في جواب سؤال حول قراءة علم الكلام، حيث ذكر الجواهر الفرد، والطفرة، والأحوال، والخلاء والملاء والجوهر والعرض.. ثم قال: " فإني أقطع أن الصحابة ماتوا وما عرفوا ذلك ولا تذاكروه.." انظر درء التعارض (8/48) ، وانظر: كلامه في تلبيس إبليس لابن الجوزي (ص: 82) ، ط منيرية، وقد ذكر ابن تيمية في مجموع الفتاوي (4/105) ، عن الرازي أنه يزعم في مواضع أن الصحابة لم يعلموا شبهات الفلاسفة وما خاضوا فيها.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 789 أهل الضلال من الفلاسفة وغيرهم ما فيه هذه المعاني الباطلة، فربما خوطبوا بهذه المعاني بعبارة من العبارات، وبينوا بطلانها لمن سألهم، والواحد منا قد يجتمع بأنواع من أهل الضلال، ويسألونه عن أنواع من المسائل، ويوردون عليه أنواعاً من الأسئلة والشبهات الباطلة فيجيبهم عنها، وأكثر الناس لا يعلمون ذلك ولا ينقلونه ". " والشافعي وأحمد وغيرهم من الأئمة قد ناظروا أنواعاً من الجهمية أهل الكلام، وجرى بينهم من المعاني ما لم ينقل، ولكن من عرف طرق المناظرين لهم والمسائل التي ناظروهم فيها، علم ما كانوا يقولونه "، ثم يقول شيخ الإسلام - بعد مناقشة - " ففي الجملة: المعاني الصحيحة الثابتة كان الصحابة أعرف الناس بها، وإن كان التعبير عن تلك المعاني يختلف بحسب اختلاف الاصطلاحات. والمعاني الباطلة قد لا تخطر ببال أحدهم، وقد تخطر بباله فيدفعها أو يسمعها من غيره فيردها فإن ما يلقيه الشيطان من الوساوس والخطرات الباطلة ليس له حد محدود، وهو يختلف بحسب أحوال الناس " (1) . وشيخ الإسلام - مما سبق - بين أنه يجب التفريق بين: - الكلام المذموم، والكلام الحق الموافق للكتاب والسنة. - المصطلح الحادث المخالف للكتاب والسنة، والمصطلح الحادث الذي لا يخالفهما. - الجدال والمناظرة المذمومة التي ذمها السلف، والجدال والمناظرة التي أثرت عن السلف. كما أنه يجب أن يعلم أن الحق واحد، واضح، ولذلك فهو معلوم، وأن الباطل متعدد، متنوع، يلتبس بالحق أحياناً، ولذلك فلا يمكن حصر أنواعه ومصطلحاته ووسائله في زمن أو مكان محدد. و نعى شيخ الإسلام على المتكلمين من الأشاعرة حين ظنوا أن الفقه من باب الظنون، وأن علم الكلام من باب القطعيات، يقول: " إن طوائف كبيرة من أهل الكلام من المعتزلة.. كأبي علي، وأبي هاشم، وعبد الجبار،   (1) انظر: درء التعارض (8/51-54) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 790 وأبي الحسين وغيرهم، ومن اتبعهم من الأشاعرة، كالقاضي أبي بكر، وأبي المعالي، وأبي حامد، والرازي، ومن اتبعهم من الفقهاء يعظمون أمر الكلام الذي يسمونه أصول الدين، حتى يجعلون مسائله قطعية، ويوهنون من أمر الفقه الذي هو معرفة أحكام الأفعال، حتى يجعلوه من باب الظنون لا العلوم، وقد رتبوا على ذلك أصولاً انتشرت في الناس، حتى دخل فيها طوائف من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث، لا يعلمون أصلها ولا ما تؤول إليه من الفساد، مع أن هذه الأصول التي أدعوها في ذلك باطلة واهية.. ذلك أنهم لم يجعلوا الله في الأحكام حكماً معيناً، حتى ينقسم المجتهد إلى مصيب ومخطئ، بل الحكم في حق كل شخص ما أدى إليه اجتهاده، وقد بينا.. ما في هذا من السفسطة والزندقة، فلم يجعلوا لله حكماً في موارد الاجتهاد أصلاً، ولا جعلوا له على ذلك دليلاً أصلاً، بل إن ابن الباقلاني، وغيره يقول " (1) ، ثم ناقش بعض المسائل التي يوردونها في أصول الفقه ثم يقول: " والمقصود هنا ذكر أصلين هما: بيان فساد قولهم: الفقه من باب الظنون، وبيان أنه أحق باسم العلم من الكلام الذي يدعون أنه علم، وأن طرق الفقه أحق بأن تسمى أدلة من طريق الكلام. والأصل الثاني في بيان أن غالب ما يتكلمون فيه من الأصول ليس بعلم ولا ظن صحيح، بل ظن فاسد، وجهل مركب " (2) . فأهل الكلام جعلوا أصولهم الكلامية - الخاطئة والتي يعارض فيها بعضهم بعضاً - أصولاً قطعية، وجعلوا أحكام الشرع من باب الظنون، وهذا قلب للحقائق. كما أن إدخالهم للمسائل الكلامية في أصول الفقه هو من الانحراف الذي ابتدعه أهل الكلام (3) . ز - وأخيراً فإن من أهم ردود شيخ الإسلام على أهل الكلام وبيان ما فيه هذا العلم من الباطل أن شيوخه وأعلامه رجعوا عنه وحذروا منه، وهذه مسألة مهمة سيأتي تفصيلها في فقرة مستقلة ضمن منهجه العام في الرد على الأشاعرة.   (1) الاستقامة (1/47-49) . (2) انظر: المصدر السابق (1/54) . (3) انظر: المصدر السابق (1/50-69) ، وانظر: " تنبيه الرجل العاقل " عن العقود الدرية لابن عبد الهادي (ص:33-35) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 791 خامساً: جهلهم بالسنة وبمذهب السلف. كثيراً ما يحكم شيخ الإسلام ابن تيمية على أهل الكلام من الأشاعرة وغيرهم بأن معرفتهم بالسنة وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - قليلة، وأن خبرتهم بمذهب السلف وأهل السنة والجماعة ضعيفة، ولم يكن شيخ الإسلام يطلق أحكامه تلك بناءً على ظن، أو إلزام، وإنما كان منطلقاً من معرفة تامة بكتب الأشاعرة وغيرهم، واستيعاب عجيب لأقوالهم ومقالاتهم، وتتبع دقيق لكتبهم في المقالات والملل والفرق، وكان شيخ الإسلام قبل هذا كله على دراية بأحكام الكتاب والسنة، واطلاع واسع على حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع تمييز صحيحه من ضعيفه، كما أن معرفته بأقوال أهل السنة وأحوالهم ورواياتهم ورسائلهم وردودهم وكتبهم، كانت قوية ومتمكنة. ولذلك جاء نقد شيخ الإسلام للأشاعرة مبيناً على وثائق من كتبهم مع مقارنتها بما في كتب السلف، كما أن مناظرته لخصومه في حياته لا تخلو من بيان مثل هذه الحقائق (1) . وقد جاءت تعليقات شيخ الإسلام كما يلي: - تعليق مجمل يبين حال أهل الكلام في ذلك، وأحياناً يضرب الأمثلة بأكثر من واحد منهم. - نقد مفصل لكل واحد من أعلام الأشاعرة.   (1) ذكر ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة (2/23) ، في معرض ترجمته لعبد الغني المقدسي وإشارت إلى مناظرته لخصومه، قال - أي ابن رجب - " لقد عقد مرة مجلس لشيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية، فتكلم فيه بعض أكابر المخالفين، وكان خطيب الجامع، فقال شيخ شرف الدين عبد الله -أخو الشيخ- كلامنا مع أهل السنة، وأما أنت، فأنا أكتب لك أحاديث من الصحيحين وأحاديث من الموضوعات - وأظنه قال: وكلاماً من سيرة عنتر- فلا تميز بينهما - أو كما قال -فسكت الرجل " وذكر شيخ الإسلام في درء التعارض (8/89) ، في معرض بيانه لجهل الأشاعرة بأقوال ومذهب السف فقال: " حتى أن من قضاتهم وأكابرهم من يحكي أقوال الأئمة الأربعة في مسألة من المسائل الكبار، فإذا قيل له: أهذا نقله أحد عن الشافعي، أو فلان، أو فلان؟ قال: لا، ولكن هذا قاله العقلاء، والشافعي لا يخالف العقلاء، أو نحو هذا الكلام..". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 792 أ - أما النقد المجمل، فإن شيخ الإسلام أشار إلى جهل كثير منهم بالسنة وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، يقول عن المتكلمين: " فإن فرض أن أحداً نقل مذهب السلف كما يذكره، فإما أن يكون قليل المعرفة بآثار السلف كأبي المعالي، وأبي حامد الغزالي، وابن الخطيب، وأمثالهم، ممن لم يكن لهم من المعرفة بالحديث ما يعدون به من عوام أهل الصناعة، فضلاً عن خواصها، ولم يكن الواحد من هؤلاء يعرف البخاري ومسلماً وأحادثيهما إلا بالسماع، كما يذكر ذلك العامة، ولا يميزون بين الحديث المفتري المكذوب، وكتبهم أصدق شاهد بذلك ففيها عجائب " (1) . وفي كتبهم المصنفة في أصول الدين - يحكون الإجماع أو النزاع - ويجهلون مذهب السلف، يقول شيخ الإسام وقد بين بالأدلة وجوب معرفة أقوال السلف في العلم والدين وأن معرفتها أنفع من معرفة أقوال المتأخرين، وإن الاقتداء بهم خير من الاقتداء بمن بعدهم - يقول: " وأما المتأخرون الذين لم يتحروا متابعتهم وسلوك سبيلهم، ولا لهم خبرة بأقوالهم وأفعالهم، بل هم في كثير مما يتكلمون به في العلم ويعملون به لا يعرفون طريق الصحابة والتابعين في ذلك - من أهل الكلام والرأي والزهد والتصوف - فهؤلاء تجد عمدتهم في كثير من الأمور المهمة في الدين إنما هو عما يظنونه من الإجماع، وهم لا يعرفون في ذلك قوال السلف البتة، أو عرفوا بعضها ولم يعرفوا سائرهان فتارةً يحكون الإجماع ولا يعلمون إلا قولهم وقول من ينازعهم من الطوائف المتأخرين، طائفة، أو طائفتين، أو ثلاث، وتارة عرفوا أقوال بعض السلف، والأول كثير في مسائل أصول الدين وفروعه، كما تجد كتب أهل الكلام مشحونة بذلك، يحكون إجماعاً ونزاعاً ولا يعرفون ما قال السلف في ذلك البتة، بل قد يكون قول السلف خارجاً عن أقوالهم، كما تجد ذلك في مسائل أقوال الله وأفعاله وصفاته، مثل مسألة القرآن والرؤية والقدر وغير ذلك " (2) ، ويقول - بعد نقده لكتب المقالات -: مثل كتب الأشعري والشهرستاني والنوبختي وأبي عيسى الوراق، وأنهم ينقلون   (1) مجموع الفتاوي (4/71-72) . (2) الفرقان بين الحق والباطل، مجموع الفتاوي (13/25) .. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 793 أقوال مختلف الطوائف؛ " والقول الذي جاء به الرسول، وكان عليه الصحابة والتابعون أئمة المسلمون لا يعرفونه ولا يذكرونه، بل وكذلك في كتب الأدلة والحجج التي يحتج بها المصنف للقول الذي يقول: إنه الحق، تجدهم يذكرون في الأصل العظيم قولين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك، وينصرون أحدها، ويكون كل ما ذكروه أقوالاً فاسدة، مخالفة للشرع والعقل، والقول الذي جاء به الرسول - وهو الموافق لصحيح المنقول وصريح المعقول - لا يعرفونه، ولا يذكرونه، فيبقى الناظر في كتبهم محائراً ليس فيما ذكروه ما يهديه ويشفيه، ولكن قد يستفيد من رد بعضهم على بعض علمه ببطلان تلك المقالمات كلها، وهذا موجود في عامة كتب أهل الكلام والفلسفة، متقدميهم ومتأخريهم إلى كتب الرازي والآمدي ونحوهما " (1) . والعبارة الأخيرة تدل على أن شيخ الإسلام يعمم حكمه على جميع كتبهم، الفلسفية والكلامية، وليس في هذا مبالغة، فإن كتبهم - ومناهجهم فيها - لا تحمل روح مذهب السلف الصافي، ويكفي المطلع على كتب أهل السنة، وما ألفوه من العقائد الواضحة المبنية على الكتاب والسنة - أن يطلع على واحد من كتب هؤلاء - كالتمهيد، أو الشامل، أو الإرشاد، أو نهاية الإقدام، أو الاقتصاد في الاعتقاد، أو غاية المرام، أو الأربعين للرازي، أو المواقف - ليجد هذا الحكم عادلاً غير جائز. ويقول شيخ الإسلام- في موضع آخر - جامعاً في الحكم بين كتبهم في المقالات والملل وكتبهم الكلامية: " وقد تدبرت كتب الاختلاف التي يذكر فيها مقالات الناس، إما نقلاً مجرداً، مثل كتاب المقالات لأبي الحسن الأشعري وكتاب الملل والنحل للشهرستاني، ولأبي عيسى الوراق، أو مع انتصار لبعض الأقوال - كسائر ما صنفه أهل الكلام على اختلاف طبقاتهم - فرأيت عامة الاختلاف الذي فيها من الاختلاف المذموم، وأما الحق الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه، وكان عليه سلف الأمة، فلا يوجد فيها في جميع مسائل   (1) درء التعارض (9/67-68) ، وانظر أيضاً (7/35-36) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 794 الاختلاف، بل يذكر أحدهم في المسألة عدة أقوال، والقول الذي جاء به الكتاب والسنة لا يذكرونه، وليس ذلك لأنهم يعرفونه ولا يذكرونه، بل لا يعرفونه، ولهذا كان السلف والأئمة يذمون هذا الكلام، ولهذا يوجد الحاذق المصنف الذي غرضه الحق في آخر عمره يصرح بالحيرة والشك، إذ لم يجد في الاختلافات التي نظر فيها وناظر ما هو حق محض، وكثير منهم يترك الجميع ويرجع إلى دين العامة الذي عليه العجائز والأعراب، كما قال أبو المعالي وقت السياق: لقد خضت البحر الخضم..وكذلك أبو حامد.. والشهرستاني " (1) ، وشيخ الإسلام - مع نقده الشديد لهم - يعتذر لهم بأنهم لم يكن قصدهم مخالفة الحق وعدم ذكره، وإنما عدم معرفتهم به هي السبب ولذلك يقول: في موضع آخر من هذا الكتاب: " إن غالب كتب أهل الكلام والناقلين للمقالات ينقلون في أصول الملل والنحل من المقالات ما يطول وصفه، ونفس ما بعث الله به رسوله وما يقوله أصحابه والتابعون لهم في ذلك الأصل الذي حكوا فيه أقوال الناس؛ لا ينقلونه، لا تعمداً منهم لتركه، بل لأنهم لم يعرفوه، بل ولا سمعوه، لقلة خبرتهم بنصوص الرسول وأصحابه والتابعين " (2) . وأهل الكلام إذا نصروا ما هو شائع من أصول أهل السنة والجماعة، - مثل القرآن كلام الله غير مخلوق، وإن الله يرى في الآخرة، وأن أهل القبلة لا يكفرون بالذنب ولا يخلدون في النار، والشفاعة، وعذاب القبر، والحوض، والخلفاء الأربعة، وغير ذلك - إذا نصروا مثل هذه العقائد لا يكونون منطلقين من منطلق أصول ومنهج السلف، يقول شيخ الإسلام عنهم: " وكثير من أهل الكلام في كثير مما ينصره لا يكون عارفاً بحقيقة دين الإسلام في ذلك، ولا ما جاءت به السنة، ولا ما كان عليه السلف، فينصر ما ظهر من قولهم بغير المآخذ التي كانت مآخذهم في الحقيقة، بل بمآخذ آخر قد تلقوها عن غيرهم من أهل البدع، فيقع في كلام هؤلاء من التناقض والاضطراب والخطأ ما ذم   (1) منهاج السنة (3/68) . (2) المصدر السابق (3/208) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 795 به السلف مثل هذا الكلام وأهله.." (1) . ومن الأمثلة الواضحة التي ذكرها شيخ الإسلام - دليلاً على جهل هؤلاء بمذهب السلف مسألة " القرآن " والخلاف فيها، وقد قدم لذلك بقوله: بعد ذكره للخلاف بين المعتزلة والأشاعرة، " فأخذ هذا بعض صفة الكلام وهذا بعضها، والمتكلم المعروف من قام به الكلام، ومن يتكلم بمشيئته وقدرته، ولهذا يوجد كثير من المتأخرين المصنفين في المقالات والكلام يذكرون في أصل عظيم من أصول الإسلام الأقوال التي يعرفونها، وأما القول المأثور عن السلف والأئمة الذي يجمع الصحيح من كل فلا يعرفونه، ولا يعرفون قائله، فالشهرستاني صنف الملل والنحل وذكر فيها من مقالات الأمم ما شاء الله، والقول المعروف عن السلف والأئمة لم يعرفه ولم يذكره، والقاضي أبو بكر، وأبو المعالي، والقاضي أبو يعلى، وابن الزاغوني، وأبو الحسين البصري، ومحمد ابن الهيصم، ونحو هؤلاء من أعيان الفضلاء المصنفين، تجد الواحد منهم يذكر في مسألة القرآن أو نحوها عدة أقوال للأمة، ويختار واحداً منها، والقول الثابت عن السلف والأئمة كالإمام أحمد ونحوه من الأئمة لا يذكره الواحد منهم " (2) . ثم ذكر شيخ الإسلام أن الجويني في الإرشاد لم يذكر في مسألة كلام الله إلا أربعة أقوال: قول المعتزلة، والكرامية، والكلابية - الذي يرجحه - وقولاً رابعاً نسبه إلى الحشوية وأهل الظاهر، زعم فيه أنهم يقولون إن المسموع من أصوات القراء ونغماتهم عين كلام الله تعالى، وأن القرآن إذا كتب بجسم صار المداد عين كلام الله القديم (3) ، قال شيخ الإسلام معلقاً على ما ذكره في هذا القول: " ومعلوم أن هذا القول لا يقوله عاقل يتصور ما يقول " (4) ، فلم يذكر الجويني القول عن أئمة السلف، فلما جاء الشهرستاني - وهو أعلم   (1) الإيمان (ص: 416) ، ط المكتب الإسلامي. (2) درء التعارض (2/307) . (3) انظر: كلام الجويني في الإرشاد (ص:128-130) ، ونقله شيخ الإسلام في درء التعارض (2/310-311) . (4) انظر: درء التعارض (2/311) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 796 بالمقالات من أخوانه (1) - ذكر قولاً سادساً نسبه إلى السلف والحنابلة وفصل القول فيه، وذكر فيه قولهم: إن القرآن حروف وأصوات أزلية كما ذكر تفريقهم بين صوت القارئ وكلام الباري (2) ، قال ابن تيمية: " قلت فهذا القول الذي ذكره الشهرستاني وحكاه عن السلف والحنابلة ليس هو من الأقوال التي ذكرها صاحب الإرشاد وأتباعه، فإن أولئك لم يحكوا إلا قول من يجعل القديم عين صوت العبد والمداد، وهذا القول لا يعرف به قائل له قول أو مصنف في الإسلام، وأما القول الذي ذكره الشهرستاني فقال به طائفة كبيرة، وهو أحد القولين لمتأخري أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم من الطوائف، وهو المذكور عن أبي الحسن بن سالم وأصحابه السالمية" (3) ، ثم قال شيخ الإسلام: " فبعض هذا القول الذي ذكره الشهرستاني عن السلف منقول بعينه عن السلف، مثل إنكارهم على من زعم إن الله خلق الحروف، وعلى من زعم أن الله لا يتكلم بصوت ومثل تفريقهم بين صوت القارئ وبين الصوت الذي يسمع من الله، ونحو ذلك فهذا كله موجود عن السلف والأئمة، وبعض ما ذكره من هذا القول ليس هو معروفاً عن السلف والأئمة، مثل إثبات القدم والأزلية لعين اللفظ المؤلف، ولكن القول الذي أطبقوا عليه: هو أن كلام الله غير مخلوق، ولكن تنازعوا في مرادهم بذلك، والنزاع في ذلك موجود في عامة الطوائف من أصحاب أحمد وغيرهم.. والنزاع في ذلك مبني على هذا الأصل، أنه لم يزل متكلماً - هل يتعلق بقدرته ومشيئته أم لا؟ فهذا القول السابع لم يذكره الشهرستاني ونحوه، إذا الأقوال المعروفة للناس في مسألة الكلام سبعة أقوال " (4) ، أي من غير قول أهل الحق.   (1) انظر: المصدر السابق (2/315) . (2) انظر: كلام الشهرستاني في نهاية الإقدام (ص: 309-310، 313، 317) ، ونقل أغلبه ابن تيمية في درء التعارض (2/315-321) . (3) انظر: درء التعارض (2/321) .. (4) انظر: درء التعارض (2/323) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 797 فالجويني والشهرستاني لم يعرفا حقيقة مذهب السلف ليحكموا على الوجه الصحيح. ب - أما نقد شيخ الإسلام المفصل لبعض أعلام الأشاعرة لجهلهم باسنة ومذهب السلف فكثير، ويمكن الإشارة إلى النماذج التالية: 1- قال عن أبي الحسن الأشعري: " لا ريب أن الأشعرية إنما تعلموا الكتاب والسنة من أتباع الإمام أحمد ونحوه بالبصرة وبغداد، فإن الأشعري أخذ السنة بالبصرة عن زكريا بن يحيى الساجي، وهو من علماء أهل الحديث المتبعين لأحمد ونحوه، ثم لما قدم بغداد أخذ عمن كان بها، ولهذا يوجد أكثر ألفاظه التي ذكرها عن أهل السنة والحديث إما ألفاظ زكريا بن يحيى الساجي التي وصف بها مذهب أهل السنة، وإما ألفاظ أصحاب الإمام أحمد وما ينقل عن أحمد ورسائله الجامعة في السنة، وإلا فالأشعري، لم يكن له خبرة بمذهب أهل السنة وأصحاب الحديث، وإنما يعرف أقوالهم من حيث الجملة، لا يعرف تفاصيل أقوالهم وأقوالهم أئمتهم، وقد تصرف فيما نقله عنهم باجتهاده في مواضع يعرفها البصير، وأما خبرته بمقالات أهل الكلام فكانت خبرة تامة على سبيل التفصيل، ولهذا لما صنف كتابه في مقالات الإسلاميين ذكر مقالات أهل الكلام واختلافهم على التفصيل، وأما أهل السنة والحديث فلم يذكر عنهم إلا جملة مقالات مع أن لهم في تفاصيل تلك من الأقوال أكثر مما لأهل الكلام، وذكر الخلاف بين أهل الكلام في الدقيق فلم يذكر النزاع بين أهل الحديث في الدقيق " (1) ، ويقول شيخ الإسلام - في موضع آخر - " ومن أجمع الكتب التي رأيتها في مقالات الناس المختلفين في أصول الدين كتاب أبي الحسن الأشعري، وقد ذكر فيه من المقالات وتفصيلها ما لم يذكره غيره، وذكر فيه مذهب أهل الحديث والسنة بحسب ما فهمه عنهم، وليس في جنسه أقرب إليهم منه، ومع هذا نفس القول الذي جاء به الكتاب والسنة وقال به الصحابة والتابعون له بإحسان في القرآن والرؤية والصفات والقدر وغير ذلك من مسائل أصول الدين ليس في كتابه.   (1) التسعينية (ص: 286-287) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 798 وقد استقصى ما عرفه من كلام المتكلمين، وأما معرفة ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وآثار الصحابة فعلم آخر لا يعرفه أحد من هؤلاء المتكلمين المختلفين في أصول الدين، ولهذا كان سلف الأمة وأئمتها متفقين على ذم أهل الكلام ... " (1) . والأشعري - كما هو معلوم - أقرب بني طائفته إلى مذهب أهل السنة. 2- ابن فورك، والقاضي أبو يعلى، والقشيري، وقد انتقد هؤلاء لخلطهم في كتبهم بين الأحاديث الصحيحة والضعيفة والموضوعة، يقول عن ابن فورك وغيره: " ولكن هؤلاء يقرنون بالأحاديث الصحيحة أحاديث كثيرة موضوعة، ويقولون بتأويل الجميع، كما فعل بشر المريسي، ومحمد بن شجاع الثلجي وأبو بكر ابن فورك في كتابه " مشكل الحديث" حتى أنهم يتأولون حديث عرق الخيل (2) ، وأمثاله من الموضوعات " (3) ، ويقول عن القاضي أبي يعلى الحنبلي - الذي يميل إلى الأشاعرة - " وقد صنف القاضي أبو يعلى كتابه في أبطال التأويلات رداً لكتاب ابن فورك، وهو وإن كان أسند الأحاديث التي ذكرها وذكر من رواها، ففيها عدة أحاديث موضوعة " (4) ، ويقول عن القشيري " إن ما يوجد في " الرسالة " وأمثالها من كتب الفقهاء والصوفية وأهل الحديث من المنقولات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره من السلف فيه الصحيح والضعيف والموضوع.. وغالب أبواب الرسالة فيها الأقسام الثلاثة " (5) . وهؤلاء مع جهلهم بالسنة فهم أيضاً يشاركون عموم أهل الكلام من الأشاعرة وغيرهم في جهلهم بمذهب أهل السنة. 3- أبو المعالي الجويني، وقد سبق نقل كلام شيخ الإسلام عنه وعن الشهرستاني وغيرهما من أهل الكلام في جهلهم بمذهب أهل السنة، وقد بين   (1) منهاج السنة (3/70) ، وانظر أيضاً (3/71-208) ، ومجموع الفتاوي (16/308) ، ودرء التعارض (7/36) . (2) سبق بيان حاله (ص:751) . (3) درء التعارض (5/236) . (4) المصدر السابق (5/237) . (5) مجموع الفتاوي (10/680) ، والكلام نفسه في الاستقامة (2/69) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 799 في التسعينية جهل الجويني بالسنة وأقوال سلف الأمة فيقول في معرض مناقشته له حول الصفات الخبرية وغيرها: " وأبو المعالي يتكلم بمبلغ علمه في هذا الباب وغيره، وكان بارعاُ في فن الكلام الذي يشترك فيه أصحابه والمعتزلة - وإن كانت المعتزلة هم الأصل فيه - لكثرة مطالعته لكتب أبي هاشم ابن الجبائي، فأما الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وقول أئمتها فكان قليل المعرفة بها جداً، وكلامه في غير موضع يدل على ذلك، ولهذا تجده في عامة مصنفاته في أصوله وفروعه إذا اعتمد على قاطع فإنما هو ما يدعيه من قياس عقلي أو إجماع سمعي، وفي كثير من ذلك ما فيه، فأما الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة وأئمتها فهو قليل الاعتماد عليها والخبرة بها " (1) ، ثم ذكر مثالاً في رده على الآجري، وبيان أبي عبد الله القرطبي ما في رد الجويني على الآجري من التحامل، ثم ناقش شيخ الإسلام كلام الجويني من وجوه عديدة (2) ، ثم قال: " ومن العجب أن الآجري يروي في كتاب الشريعة له من طريق مالك والثوري والليث وغيرهم، فلو تأمل أبو المعالي وذووه الكتاب الذي أنكروه لوجدوا فيه مايخصهم، ولكن أبو المعالي مع فرط ذكائه وحرصه على العلم وعلو قدره في فنه، كان قليل المعرفة بالآثار النبوية، ولعله لم يطالع الموطأ بحال حتى يعلم ما فيه، فإنه لم يكن له بالصحيحين -البخاري ومسلم - وسنن أبي داود والنسائي والترمذي، وأمثال هذه السنن علم أصلاً، فكيف بالموطأ ونحوهن وكان مع حرصه على الاحتجاج في مسائل الخلاف في الفقه إنما عمدته سنن أبي الحسن الدارقطني، وأبو الحسن مع تمام إمامته في الحديث فإنه إنما صنف هذه السنن كي يذكر فيها الأحاديث المستغربة في الفقه، ويجمع طرقها، فإنها هي التي يحتاج فيها إلى مثله، فإما الأحاديث المشهورة في الصحيحين وغيرهما فكان يستغني عنها في ذلك، فلهذا كان مجرد الاكتفاء بكتابه في هذا الباب يورث جهلاً عظيماً بأصول الإسلام، واعتبر ذلك بأن كتاب أبي المعالي الذي هو نخبة عمره: " نهاية المطلب في دراية المذهب " ليس فيه حديث واحد معزو إلى صحيح البخاري إلا حديث واحد   (1) التسعينية (ص: 243-244) . (2) انظر: المصدر السابق (ص: 244-251) .. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 800 في البسملة، وليس ذلك الحديث في البخاري كما ذكره، ولقلة علمه وعلم أمثاله بأصول الإسلام اتفق أصحاب الشافعي على أنه ليس لهم وجه (1) في مذهب الشافعي، فإذا لم يسوغ أصحابه أن يعتد بخلافهم في مسألة منم فروع الفقه، كيف يكون حالهم في غير هذا؟ وإذا اتفق أصحابه على أنه لا يجوز أن يتخذ إماماً في مسألة واحدة من مسائل الفروع، فكيف يتخذ إماماً في أصول الدين، مع العلم بأنه إنما نيل قدره عند الخاصة والعامة بتبحره في مذهب الشافعي - رضي الله عنه - لأن مذهب الشافعي مؤسس على الكتاب والسنة، وهذا الذي ارتفع به عند المسلمين، غايته فيه أنه يوجد منه نقل جمعه، أو بحث تفطن له، فلا يجعل إماماً فيه كالأئمة الذين لهم وجوه (2) ، فكيف بالكلام الذي نص الشافعي وسائر الأئمة على أنه ليس بعد الشرك بالله ذنب أعظم منه، وقد بينا أن ما جعله أصل دينه في الإرشاد والشامل وغيرهما هو بعينه من الكلم الذي نصت عليه الأئمة " (3) . والجويني - كما سبق بيانه في ترجمته وبيان منهجه - من أعظم الأشاعرة أثراً في نقل المذهب الأشعري إلى التأويل في الصفات والقرب من مذاهب المعتزلة. 4- الغزالي: قال الغزالي عن نفسه: " بضاعتي في علم الحديث مزجاة " (4) ، وكثيراً ما يشير شيخ الإسلام إلى هذه الشهادة التي شهد بها على نفسه، ويقول عنه: " وأبو حامد ليس له من الخبرة بالآثار النبوية والسلفية ما لأهل المعرفة بذلك، الذين يميزون بين صحيحه وسقيمه، ولهذا يذكر في كتبه من الأحاديث والآثار الموضوعة والمكذوبة ما لو علم أنها موضوعة لم يذكرها" (5) ، ويقول عنه أيضاً: - بعد ذكره لطريقة الصحابة وأن التابعين   (1) الوجه والأوجه عند فقهاء الشافعية: ما نسب إلى أصحاب الشافعي من كل مجتهد متقيد بمذهب الإمام، يخرجونها على أصوله، ويستنبطونها من قواعده، ويجتهدون في بعضها وأن لم يأخذوه من أصله، واختلفت الشافعية هل ينسب الوجه إلى الشافعي، قال النووي وغيره: الأصح أنه لا ينسب. انظر: المجموع للنووي (1/78،111) ، - ت المطيعي، ونهاية المحتاج (1/48) .. (2) التسعينية (ص: 250-251) . (3) قانون التأويل (ص: 246) ، في ذيل معارج القدس. (4) انظر مثلاً: نقض التأسيس المخطوط (3/99-100) ، ودرء التعارض (1/5) ، ومجموع الفتاوي (35-176) . (5) درء التعارض (7/149) ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 801 لهم بإحسان من أهل الحديث والسنة وكانوا معظمين لهم - " فهؤلاء الذين هم أفضل الخلق من الأولين والآخرين لم يذكرهمن أبو حامد، وذلك لأن هؤلاء لا يعرف طريقهم إلا من كان خبيراً بمعاني القرآن خبيراُ بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبيراً بآثار الصحابة، فقيهاً في ذلك عاملاً بذلك، وهؤلاء هم أفضل أهل الخلق منم المنتسبين إلى العلم والعبادة، وأبو حامد لم ينشأ بين من كان يعرف طريقة هؤلاء، ولاتلقى عن هذه الطبقة، ولا كان خبيراً بطريقة الصحابة والتابعين، بل كان يقول عن نفسه: أنا مزجى البضاعة في الحديث، ولهذا يوجد في كتبه من الأحاديث الموضوعة والحكايات الموضوعة ما لا يعتمد عليه من له علم بالآثار " (1) ، ولجهل الغزالي والرازي بمذهب السلف اعتمد عليه الأخير في نقل مذهب السلف في الصفات وأنه إما التأويل وإما التفويض (2) . 5- الشهرستاني: وقد سبقت الإشارة إلى نقد ابن تيمية له، وقد قال فيه: " والشهرستاني لا خبرة له بالحديث وآثار الصحابة والتابعي، ولهذا نقل في كتابه هذا ما ينقل من اختلاف غير المسلمين واختلاف المسلمين، ولم ينقل مع هذا مذهب الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين في الأصول الكبار، لأنه لم يكن يعرف هذا وهو وأمثاله من أهل الكلام" (3) . 6- الفخر الرازي: يقول عنه شيخ الإسلام: " ليس في كتبه - وكتب أمثاله - في مسائل أصول الدين الكبار القول الصحيح الذي يوافق المنقول والمعقول، الذي بعث الله به الرسول، وكان عليه سلف الأمة وأئمتها، بل يذكر بحوث المتفلسفة الملاحدة " (4) ، ويقول عنه أيضاً: " والرازي لم يكن له خبرة بأقوال طوائف المسلمين " (5) ، بل إنه يذكر في تفسيره أحياناً أقوالاً كلها باطلة ولا يذكر القول الحق (6) .   (1) شرح الأصفهانية (ص: 128) . (2) انظر: نقض التأسيس المخطوط (2/358) . (3) منهاج السنة (3/214) ، وانظر أيضاً (3/208-209) . (4) تفسير سورة الإخلاص، مجموع الفتاوي (17/247) . (5) انظر: منهاج السنة (2/306) ، المحققة. (6) انظر: منهاج السنة (3/110) ، وانظر أيضاً: درء التعارض (9/254، 260-262) ، نقض التأسيس المخطوط (2/357-358) ، مجموع الفتاوي (4/62-63) ، منهاج السنة (3/68-69،109) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 802 سادساً: إرجاع أقوالهم المخالفة لمذهب أهل السنة إلى أصول الفلاسفة والجهمية والمعتزلة. مما سبق تبينت بعض الأصول في نقد ابن تيمية للأشاعرة وهي: - عدم اعتمادهم أساساً على الكتاب والسنة. - خوضهم في علم الكلام المذموم. - اعتقادهم أن مذهب الخلف أعلم وأحكم من مذهب السلف. - جهلهم بالسنة وبمذهب السلف وبعدهم عنه. ولا شك أن تحقق هذه الأمور فيهم يدل على أنهم في أقوالهم وكتبهم قد اعتمدوا على أصول ومناهج وطرق بعيدة عن الكتاب والسنة ومذهب أهل السنة والجماعة، ولذلك ركز شيخ الإسلام -في نقده لهم - على إرجاع أقوالهم إلى أصولها الفلسفية والاعتزالية والجهمية. وقد كان منهج شيخ الإسلام في ذلك كما يلي: أ - بيان الأصول المختلفة التي ترجع إليها أقوال هؤلاء، وقد بنى هذا على التطور الذي حدث للمذهب الأشعري، حين بدأ متأثراً ببعض أصول المعتزلة، ثم زاد ليشمل أصولاً أخرى لهم، ثم زاد ليكون التأثر بالفلاسفة أيضاً، يقول شيخ الإسلام - مرتباً هذا التأثر من الأعلى إلى الأدنى - وهو يتكلم عن الفخر الرازي: " ولهذا يوجد في كلام هذا وأبي حامد ونحوهما من الفلسفة ما لا يوجد في كلام أبي المعالي وذويه، ويوجد في كلام هذا وأبي المعالي وأبي حامد من مذهب النفاة المعتزلة ما لا يوجد في كلام أبي الحسن الأشعري وقدماء أصحابه، ويوجد في كلام أبي الحسن من النفي الذي أخذه من المعتزلة ما لا يوجد في كلام أبي محمد بن كلاب الذي أخذ أبو الحسن طريقه، ويوجد في ابن كلاب من النفي الذي قارب فيه المعتزلة مالا يوجد في كلام أهل الحديث والسنة والسلف والأئمة، وإذا كان الغلط شبراً صار في الاتباع ذراعاً ثم باعاً، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 803 حتى آل هذا المآل، فالسعيد من لزم السنة " (1) ، ويقول عن ابن كلاب وإثباته العلو وقوله عن النفاة: " إذا قالوا ليس هو فوق وليس هو تحت فقد أعدموه، لأن ما كان لا تحت ولا فوق فعدم "، قال شيخ الإسلام معلقاً: " وهذا كله يناقض قول هؤلاء الموافقين للمعتزلة والفلاسفة من متأخري الأشعرية ومن وافقهم من الحنبلية والمالكية والحنفية والشافعية وغيرهم من طوائف الفقهاء الذين يقولون: ليس هو تحت وليس هو فوق " (2) ، وأحياناً يعرض للمصادر المختلفة للعلم الواحد من أعلامهم، يقول عن الرازي: " أبو عبد الله الرازي غالب مادته في كلام المعتزلة ما يجده في كتب أبي الحسن البصري وصاحبه محمود الخوارزمي، وشيخه عبد الجبار الهمذاني ونحوهم، وفي كلام الفلاسفة: ما يجده في كتب ابن سينا وأبي البركات ونحوهما، وفي مذهب الأشعري: يعتمد على كتب أبي المعالي كالشامل ونحوه، وبعض كتب القاضي أبي بكر وأمثاله، وهو ينقل أيضاً من كلام الشهرستاني وأمثاله " (3) ، وفي موضع آخر يذكر أن مادته الكلامية من كلام أبي المعالي والشهرستاني، وفي الفلسفة مادته من كلام ابن سينا والشهرستاني أيضاً (4) ، ويذكر أيضاً أن فيه تجهماً قوياً وميلاً للدهرية والفلاسفة (5) . ب - إرجاع أقوالهم تفصيلاً إلى طائفة من الطوائف المنحرفة ومنها: 1- الجهمية: يقوم مذهب الجهمية على عدة أصول منحرفة أبرزها: نفي الأسماء والصفات، والجبر، والإرجاء (6) ، وتأثر الأشاعرة بهم جاء في هذه الأمور،   (1) السبعينية (ص: 108) . (2) درء التعارض (6/122) ، وانظر: شرح الأصفهانية (ص: 78) .. (3) درء التعارض (2/159) . (4) انظر: السبعينية (ص: 107) . (5) انظر: نقض التأسيس المطبوع (1/122) . (6) انظر في أقوال ومذهب الجهمية: مقالات الإسلاميين (ص: 279) - ريتر، والتنبيه للملطي (ص:96) ، والفرق بين الفرق (ص: 211) ، والملل والنحل للبغدادي (ص: 145) ، وللشهرستاني (1/86) ، والتبصير بالدين للأسفراييني (ص: 96) ، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي (ص: 68) ، النشار، والبرهان للسكسكي (ص: 17) ، والمنية والأمل (ص: 107) ، ت جواد مشكور، والفرق الإسلامية، ذيل شرح المواقف للكرماني (ص: 89) ، وغيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 804 أما بالنسبة لمسألة القدر والإيمان فواضح، وأما الصفات فمن المعلوم أن المعتزلة تأثروا فيها بالجهمية، ولذلك يسمون - في هذا الباب - بالجهمية، والأشاعرة تأثروا بالمعتزلة في نفيهم لكثير من الصفات. يقول شيخ الإسلام عن الأشاعرة: " والأشعري وأمثاله، برزخ بين السلف والجهمية، أخذوا من هؤلاء كلاماً صحيحاً، ومن هؤلاً أصولاً عقلية ظنوها صحيحة وهي فاسدة، فمن الناس من مال إليه من الجهة السلفية، ومن الناس من مال إليه من الجهة البدعية الجهمية كأبي المعالي وأتباعه " (1) ، وفي موضع آخر يحدد شيخ الإسلام هذه الأصول، فيقول عن الجويني: " والأصول التي يقررها هي أصول جهمن بن صفوان في الصفات والقدر والإرجاء، وقد ظهر ذلك في اتباعه كالمدعي المغربي في مرشدته وغيره، فإن هؤلاء في القدر يقولون بقول جهم يميلون إلى الجبر، وفي الإرجاء بقول جهم أيضاً، لأن الإيمان هو المعرفة، وأما الصفات فيهم يخالفون جهماً والمعتزلة، فهم يثبتون الصفات في الجملة، لكن جهم والمعتزلة حقيقة قولهم نفي الذات والصفات وإن لم يقصدوا ذلك ولم يعتقدوه، وهؤلاء حقيقة قولهم إثبات صفات بلا ذات، وإن يعتقدوا ذلك ويقصدوه، ولهذا هم متناقضون لكن هم خير من المعتزلة، ولهذا إذا حقق قولهم لأهل الفطر السليمة يقول أحدهم، فيكون الله شبحاً، وشبحه خيال الجسم، مثل ما يكون من ظله على الأرض، وذلك هو عرض، فيعلمون أن من وصف الرب بهذه الأسلوب، مثل قولهم: لا داخل العالم ولا خارجه ونحوه، فلا يكون الله على قوله شيئاً، قائماً بنفسه، موجوداً، بل يكون كالخيال الذي يشبحه الذهن من غير   (1) مجموع الفتاوي (16/471) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 805 أن يكون ذلك الخيال قائماً بنفسه، ولا ريب أن هذا حقيقة قول هؤلاء الذين يزعمون أنهم ينزهون الرب بنفي الجسم وما يتبع ذلك، ثم إنهم مع هذا النفي، إذا نفوا الجسم وملازيمه وقالوا: لا داخل العالم ولا خارجه، فيعلم أهل العقول أنهم لم يثبتوا شيئاً قائماً بنفسه موجوداً" (1) ، ويلاحظ في هذا النص لشيخ الإسلام كيف بين أن متأخري الأشعرية نفاة العلو، والصفات الخبرية، يؤول قولهم إلى قول الجهمية نفاة الأسماء والصفات، لأنهم إذا قالوا: إن الله ليس بجسم، ثم قالوا: إنه لا داخل العالم ولا خارجه، فكأنهم أعدموه وهذا وجه شبههم بالجهمية. أما في المسألة القدر: فيقول شيخ الإسلام عن الصوفية وموافقتهم للجهمية في القدر والميل إلى الجبر - " وهو قول الأشعري وأتباعه، وكثير من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة، ومن أهل الحديث والصوفية، فإن هؤلاء أقروا بالقدر موافقة للسلف وجمهور الأئمة، وهم مصيبون في ذلك، وخالفوا القدرية من المعتزلة وغيرهم في نفي القدر، ولكن سلكوا في ذلك مسلك الجهم بن صفوان وأتباعه " (2) ، ولكنهم مع موافقتهم له" نازعوه في بعض ذلك نزاعاً لفظياً أتوا بما لا يعقل" (3) ، كما أن الأشاعرة وافقوا الجهمية في الحسن والقبح وكونه مأموراً أو محظوراً (4) ، كما وافقوهم في نفي التعليل (5) ، وفي مسألة المشيئة والإرادة وهل هي بمعنى المحبة فإن الجهمية قالت: " هو يشاء ذلك فهو يحبه ويرضاه، وأبو الحسن وأكثر أصحابه وافقوا هؤلاء، فذكر أبو المعالي الجويني أن أبا الحسن أول من خالف السلف في هذه المسألة، ولم يفرق بين المشيئة   (1) التسعينية (ص: 255-256) .. (2) مجموع الفتاوي (8/339-340) . (3) منهاج السنة (1/326) ، المحققة، وانظر: مجموع الفتاوي (8/230) . (4) انظر: مجموع الفتاوي (8/231) . (5) انظر: منهاج السنة (1/94-95) ، المحققة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 806 والمحبة والرضا " (1) . وأما الإيمان فيقول شيخ الإسلام: " الإيمان مجرد تصديق القلب، وإن لم يتكلم به هذا قول جهم ونصره الأشعري وأصحابه، ولكن قالوا مع ذلك: إن كل من حكم الشارع بكفره حكمنا بكفره، واستدللنا بتكفير الشارع له على خلو قلبه من المعرفة " (2) ، وفي موضع آخر يوضح مدى تأثر الأشاعرة بالجهمية في الإيمان فيقول: " وأما الأشعري فالمعروف عنه وعن أصحابه أنهم يوافقون جهماً في قوله في الإيمان، وأنه مجرد التصديق القلب أو معرفة القلب، لكن قد يظهرون مع ذلك قول أهل الحديث ويتأولونه ويقولون بالاستثناء على الموافاة، فليسوا موافقين لجهم من كل وجه" (3) ، ويذكر أن الباقلاني نصر قول جهم في مسألة الإيمان متابعة للأشعري، وكذلك أكثر أصحابه (4) ، ويذكر في شرح الأصفهانية أن المتأخرين من أصحاب الأشعري وافقوا الجهم في مسألة الإيمان (5) . والسؤال الذي يرد هنا هو أنه قد يلحظ أن الأشعرية يوافقون الجهمية في بعض الأصول كالإيمان والقدر وكثير من فروع مسائله فلماذا؟ ويمكن أن يقال في الجواب بأن الأشعري - وقد فرّ من مذهب المعتزلة بعد أن اعتنقه زمناً طويلاً - كان هارباً من المعتزلة ومن كل ما جاؤوا به من عقائد، فصار يعارضهم في جميع عقائدهم، فلما كانوا في الإيمان وعيدية يخلدون في النار مرتكب الكبيرة، فرّ إلى المرجئة ظناً منه أنه قول السلف، وكذلك لما كانوا قدرية ينكرون القدر قال بضد قولهم فمال إلى الجبر. والله أعلم.   (1) مجموع الفتاوي (8/474-475) ، وانظر أيضاً (8/230) . (2) الفرقان بين الحق والباطل، مجموع الفتاوي (13/47) . (3) النبوات (ص: 199) . (4) انظر: الإيمان (ص:114) ، -ط المكتب الإسلامي، وانظر أيضاً (ص: 385) . (5) انظر: شرح الأصفهانية (ص: 143) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 807 2- المعتزلة: يقوم مذهب المعتزلة على الأصول الخمسة المعروفة، وقد تفرعت عنها الأقوال التي اشتهروا بها كنفي القدر، ونفي الصفات، والقول بخلق القرآن، وإنكار الرؤية، وغيرها (1) ، والأشعري وأصحابه خالفوا المعتزلة في كثير من أصولهم، وردوا عليهم ردوداً طويلة، وصات مخالفة المعتزلة عندهم من الأمور التي يوردونها ويركزون عليها في جميع كتبهم تقريباً.   (1) لابد من الانتباه إلى أن هناك تداخلاً بين مذهبي المعتزلة والجهمية نظراً لاتفاقهما في مسألة خلق القرآن وإنكار الصفات والرؤية، وكثير من السمعيات، واختلافهما في مسألة: القدر، والإيمان، ولتوضيح هذه المسألة يمكن الإشارة إلى ما يلي: 1- كانت بدعة القدرية من أوائل البدع ظهوراً، حيث ظهرت في عهد الصحابة وأول من قال بها معبد الجهني الذي قتله الحجاج سنة 80هـ تقريباً، وكان قد نشأ في المدينة المنورة ثم انتقل إلى البصرة، وقد رد الصحابة كابن عمر وابن عباس على هؤلاء ثم جاء بعد الجعد غيلان الدمشقي الذي توفي بعد سنة 105هـ، وكان من قوله بالقدر على مذهب المرجئة (انظر: مقالات الأشعري ص: 136-137، سنة 105هـ، وهؤلاء القدرية هم شيوخ المعتزلة في باب القدر، وذلك أنه لما حدثت بدعتهم أوائل المئة الثانية وكانت تقوم على مسألة الإيمان والمنزلة بين المنزلتين وإنفاذ الوعيد، ضموا إلى ذلك القول بالقدر لتناسبه مع التكليف وانفاذ الوعيد، ويلاحظ أن غيلان الدمشقي من شيوخ المعتزلة في القدر فقط أما الإيمان فهم على الضد منه. 2- أول من قال بخلق القرآن وإنكار الصفات الجعد بن درهم، قتل نحو سنة 118هـ، وتبعه على ذلك الجهم بن صفوان الذي قتل أيضاً سنة 128هـ، وعاش بسمرقند وترمذ، وقد ضم الجهم إلى قوله بذلك القول الجبر، والإرجاء الغالي، وقوله في هذين الأمرين على الضد من قول المعتزلة.= =3- نشأت المعتزلة على يد واصل بن عطاء - ت 131هـ، وعمرو بن عبيد ت 144هـ، وكان ذلك زمن الحسن البصري الذي توفي سنة 110هـ، ومعنى ذلك أن نشأتهم كان أوائل المئة الثانيةن وقد أورد البعض أن هناك نوع مراسلات بين واصل والجهم، ولم يلتقيا، وقد ذكر الإمام أحمد في الرد على الزنادقة (ص:66-67 ضمن عقائد السلف) أن ممن تبع الجهم في أقواله في نفي الصفات أصحاب عمرو بين عبيد بالبصرة، وقد كان واصل يقول أيضاً بالقدر، إضافة إلى مسألة المنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، ولكن مصطلح الأصول الخمسة لم يوجد إلا في عهد بشر بن المعتمر المعتزلي ت 210 تقريباً، (كما أشار إلى ذلك الملطي في التنبيه ص38) . 4- مما سبق يلاحظ كيف أن غيلان الدمشقي شيخ المعتزلة في القدر. أما في الإيمان فهو مرجئ موافق للجهم، وأن الجهم بن صفوان تأثر به المعتزلة في الصفات، حتى غلب عليهم اسم الجهمية، بينما هم مخالفون له في القدر والإيمان، ومما يوضح هذا أن بشراً المريس ت 218هـ، الذي رد عليه أئمة السنة، والذي تأثر بتأويلاته وتجهمه المعتزلة وبعض الأشاعرة كان في مسألة الإيمان على مذهب المرجئة (انظر: مقالات الأشعري ص: 140-149) ، ومثله أحمد بن أبي داؤد فإنه جمع في المحنة أنصاره الجهمية من المعتزلة وغيرهم. 5- كانت محنة الإمام أحمد وأهل السنة مع جنس الجهمية -ومنهم المعتزلة، وليست مع المعتزلة فقط - ولذلك رد عليهم الإمام أحمد والدارمي وغيرهما وسموهم بالجهمية، لأن كل معتزلي فهو جهمي في الصفات، وليس كل جهمي معتزلياً (انظر: رسالة القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة - رسالة ماجستير (ص؟: 160-166) ط على الآلة الكاتبة. (وانظر: فيما سبق أيضاً: المنية والأمل ص 122 وما بعدها، ت مشكور، ونشأة الفكر الفلسفي للنشار 1/314، وما بعدها، وعمرو بن عبيد وآراؤه الكلامية ص 88 وما بعدها، وانظر أيضاً: الحسنة والسيئة لشيخ الإسلام ابن تيمية -مجموع الفتاوي 14/347 وما بعدها) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 808 وشيخ الإسلام مع تسليمه بهذا يقر في كتبه أن الأشاعرة تتلمذوا وتأثروا بالمعتزلةن وسلموا لهم بعض الأصول المخالفة لمذهب أهل السنة، وليس في هذا تناقض لأن الأصول التي سلموها غير الأصول التي ردوها، وقد أوضح شيخ الإسلام هذا الأمر فقال تعليقاً على قول خلف المعلم المالكي: " أقام الأشعري أربعين سنة على الاعتزال، ثم أظهر التوبة، فرجع عن الفروع، وثبت على الأصول"، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " قلت: ليس مراده بالأصول ما أظهروه من مخالفة السنة، فإن الأشعري مخالف لهم فيما أظهروه من مخالفة السنة، كمسألة الرؤية، والقرآن، والصفات. ولكن أصولهم الكلامية العقلية التي بنوا عليها الفروع المخالفة للسنة، مثل هذا الأصل الذي بنوا عليه حدوث العالم وإثبات الصانع، فإن هذا أصل من أصولهم، كما قد بينا كلام أبي الحسن البصري وغيره في ذلك، وأن الأصل الذي بنت عليه المعتزلة كلامها في أصول الدين، هو هذا الأصل الذي ذكره الأشعري، لكنه مخالف لهم في كثير من لوازم ذلك وفروعه، وجاء كثير من أتباعه المتأخرين كأتباع صاحب الإرشاد، فأعطوا الأصول - التي سلمها للمعتزلة- حقها في اللوازم، فوافقوا المعتزلة على موجبها، وخالفوا شيخهم أبا الحسن وأئمة أصحابه، فنفوا الصفات الخبرية، ونفوا العلو، وفسروا الرؤية بمزيد علم لا ينازعهم فيه المعتزلة، وقالوا: ليس بيننا وبين المعتزلة خلاف في المعنى، وإنما خلافهم مع المجسمة، وكذلك قالوا في القرآن: إن القرآن الذي قالت المعتزلة: إنه مخلوق نحن نوافقهم على خلقه، ولكن ندعي ثبوت معنى آخر وأنه واحد قديم، والمعتزلة تنكر تصور هذا بالكلية، وصارت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 809 المعتزلة والفلاسفة مع جمهور العقلاء يشننعون عليهم بمخالفتهم لصريح العقل، ومكابرتهم للضرورياتن وسبب ذلك تسليمهم لهم صحة تلك الأصول، التي ذكر الأشعري أنها مبتدعة في الإسلام" (1) ، فقد أوضح شيخ الإسلام عدة حقائق في هذه المسألة: - أن الأشعري خالف المعتزلة في مسائلهم الكبار التي خالفوا فيها أهل السنة وأهمها: أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وإثبات الصفات، والرؤية، وغيرها من السمعيات كالشفاعة في أهل الكبائر وعذاب القبر ونعيمه وغيرها. - أن الأِشعري مع ذلك مسلم لهم بعض الأصول العقلية مثل دليل حدوث الأجسام الذي جاءوا بهن ولكن الأشعري مع قوله بصحة هذا الدليل إلا أنه خالف المعتزلة في أمرين: أحدهما: بيانه أنه يمكن الاستغناء عن هذا الدليل لإثبات الصانع وحدوث العالم، وأن الرسل لم يدعوا إلى هذا الدليل لغموضه ووعورة مسلكه. والثاني: أنه لم يلتزم لوازمه وفروعه، مثل إنكار العلو، ونفي كل صفة دلت على التجسيم حسب مصطلحهم، بل خالفهم الأشعري في ذلك فأثبت لله صفة العلو، والاستواء، كما أثبت الصفات الخبرية كالوجه واليد والعين. - أن متأخري الأشعرية خالفوا إمامهم الأشعري وأصحابه، ووافقوا المعتزلة وذلك من خلال أمرين: أحدهما: حصرهم دليل إثبات الصانع وحدوث العالم بدليل حدوث الأجسام الذي جاءت به المعتزلة، وقولهم بأن بطلانه يؤدي إلى بطلان دليل حدوث العالم، فيؤدي هذا إلى القول بقدم العالم وهو قول الفلاسفة والدهرية وهو كفر صراح. الثاني: وهو مرتب على الأول، أن هؤلاء المتأخرين أعطوا أصول المعتزلة التي سلموها لهم حقها من اللوازم، فنفوا العلو والصفات الخبرية، وفسروا الرؤية بما يتوافق مع نفي العلو، وكذلك القرآن قالوا فيه قولاً لا يناقض قول المعتزلة   (1) انظر: درء التعارض (7/236-238) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 810 القائلين بخلق القرآن. وهؤلاء بذلك يكونون قد قربوا من المعتزلة كثيراً. وقد أورد شيخ الإسلام في نقض التأسيس سؤالاً مهماً حول هذا الموضوع ومضمونه: إنه إذا كانت مسألة العلو- ودلائلها من الكتاب والسنة والإجماع، والفطرة والعقل - أظهر من أدلة " الرؤية " فلماذا أقر متأخرو الأشعرية بهذه وأنكروا تلك، مع أن المسألتين من مقالات المعتزلة التي خالفوا فيها أهل السنة؟ وقد أجاب شيخ الإسلام- بعد إن أورد السؤال مختصراً - بقوله: " قيل: سببه أن الجهمية كانت متظاهرة بدعوى خلق القرآن، وإنكار الرؤية، ولم تكن متظاهرة بإنكار العلو.. فكان الذين يناظرونهم من متكلمة إثبات الصفة كأبي سعيد ابن كلاب، وأبي الحسن الأشعري وأصحابهما، فظهر من مخالفتهم لهم في هاتين المسألتين (1) ، بسبب ظهور الخلاف فيهما ما لا يظهر فيما يخفونه من المسائل، ومع هذا فقد كان أولئك يخالفونهم أيضاً في إنكار أن الله فوق العرش.. لكن لم يأتوا في مناظرتهم بما يقطع مادة التجهم ويقلع عروقه، بل سلموا لهم بعض الأصول التي بنوا عليها التجهم، ومباحثهم في مسألة حدوث العالم، والكلام في الأجسام والأعراض، وهو من الكلام الذي ذمه السلف والأئمة، حتى قال محمد بن حويز منداد: أهل البدع والأهواء عند مالك وأصحابه هم أهل الكلام، فكل متكلم في الإسلام فهو من أهل البدع والأهواء؛ أشعرياً كان أم غير أشعري (2) ، وذكر ابن خزيمة وغيره أن الإمام أحمد كان يحذر مما ابتدعه عبد الله بن سعيد بن كلاب وعن أصحابه كالحارث، وذلك لما علموه في كلامهم من المسائل والدلائل الفاسدة، وإن كان في كلامهم من الأدلة الصحيحة ما لا يوجد في كلام عامة الطوائف، فإنهم أقرب طوائف أهل الكلام إلى السنة والجماعة والحديث..".   (1) أي مسألة: خلق القرآن، وإنكار الرؤية. (2) نقض التأسيس - مطبوع - (2/86-88) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 811 " فلما كان الأمر كذلك جاء بعض المتأخرين من أتباعهمن فنظروا في الأصول التي وافقوا فيها الجهمية، وأخذوا لوازمها.. وكان أبو المعالي كثير المطالعة لكتب أبي هاشم، فصار هو وغيره يقودون الأصول التي وافق قدماؤهم فيها المعتزلة فرأوا أن من لوازمها نفي أن يكون الله على العرش، فتظاهروا بإنكار ذلك موافقة للمعتزلة، ولم يكن الخلاف في ذلك مع المعتزلة من المسائل المشهورة لما قدمناه، وأما مسألة الرؤية والقرآن فهي من شعائر المذهبين، فجعلوا ينصبون الخلاف مع المعتزلة في مسألة الرؤية، ويسلمون لهم نفي علو الله على العرش، وهذا عكس الواجب " (1) . فمن هذا التحليل الدقيق الذي بناه شيخ الإسلام على التفريق بين متقدمي الأشاعرة ومتأخريهم، وأن المتقدمين لما ردوا على المعتزلة في المسائل المشهورة لم ينطلقوا من منهج السلف الخالص، وإنما ردوا عليهم ببعض الأصول الكلامية التي سلموها لهم، فلما جاء المتأخرون - وكان تأثرهم ومطالعتهم لكتب المعتزلة أقوى- التزموا لوازم تلك الأصول الفاسدة فنفوا العلو والصفات الخبرية ووافقوا المعتزلةفي كثير من المسائل، أو على الأقل لم يصبح الخلاف كبيراً وقوياً كما كان في السابق. وقد شرح شيخ الإسلام بعض هذه الأصول التي تبعوا فيها المعتزلة فقال مخاطباً الأشاعرة: " وبالجملة فعامة ما ذمه السلف والأئمة وعابوه على المعتزلة من الكلام المخالف للكتاب والسنة والإجماع القديم، لكم منه أوفر نصيب، بل تارة تكونون أشد مخالفة لذلك من المعتزلة، وقد شراكتموهم في أصول ضلالهم التي فارقوا بها سلف الأمة وأئمتها ونبذوا بها كتاب اله وراء ظهورهم، فإنهم لا يثبتون شيئاً من صفات الله تعالى، ولا ينزهونه عن شيء بالكتاب والسنة. والإجماع موقوف على العلم وبذلك، والعلم بذلك لا يحصل به لئلا يلزم الدور، فيرجعون إلى مجرد رأيهم في ذلك، وإذا استدلوا بالقرآن كان ذلك على وجه الاعتضاد والاستشهاد لا على وجه الاعتماد والاعتقاد، وما خالق قولهم تأولوه على مقتضى آرائهم، واستخفوا بالكتاب والسنة، وسموها ظواهر،   (1) نقض التأسيس -مطبوع - (2/86-88) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 812 وإذا استدلوا على قولهم بمثل قوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} (الأنعام:103) ، وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى:11) ، أو قوله {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (الحديد:4) ، ونحو ذلك، لم تكن هذه النصوص هي عمدتهم، ولكن يدفعون بها عن أنفسهم عند المسلمين، وأما الأحاديث فلا حرمة لها عندهم، بل تارة يردونها بكل طريق ممكن، وتارة يتأولونها، ثم يزعمون أن ما وضعوه برأيهم قواطع عقلية، وأن هذه القواطع العقلية ترد لأجلها نصوص الكتاب والسنة إما بالتأويل وإما بالتفويض وإما بالتكذيب " - قال شيخ الإسلام بعد ذكره لهذه الأصول الاعتزالية، مخاطباً الأشاعرة: " وأنتم شركاؤهم في هذه الأصول كلها، ومنهم أخذتموها، وأنت فروخهم فيها، كما يقال: الأشعرية مخانيث المعتزلة، والمتعزلة مخانيث الفلاسفة (1) ، لكن لما شاع بين الأمة فساد مذهب المعتزلة ونفرت القلوب عنه صرتم تظهرون الرد عليهم في بعض المواضع مع مقاربتكم أو موافقتكم لهم في الحقيقة " (2) ، ثم يذكر شيخ الإسلام بعض الأمور التي شابه فيها الأشاعرة المعتزلة فيقول: " وهم سموا أنفسهم أهل التوحيد لاعتقادهم أن التوحيد هو نفي الصفات، وأنتم وافقتموهم على تسمية أنفسكم أهل التوحيد، وجعلتم نفي بعض الصفات من التوحيد، وسموا ما ابتدعوه من الكلام الفاسد إما في الحكم وإما في الدليل أصول الدين، وأنتم شاركتموهم في ذلك، وقد علمتم ذم السلف والأئمة لهذا الكلام، بل علم من يعرف دين الإسلامن وما بعث الله به نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام ما فيه من المخالفة لكتب الله وأنبيائه ورسله،   (1) هذه العبارات ترد كثير..شيخ الإسلام ليس هو أول من استخدمهان بل استخدمها قبله شيخ الإسلام الأنصاري المتوفى سنة 481هـ، الذي قال: " الأشعرية الأناث هم مخانيث المعتزلة" -مجموع الفتاوي (8/227) ، كما أن الشهرستاني المتوفى سنة 548هـ، قال عن المعتزلة: " الخناثي من المعتزلة لا رجال ولا نساء " نهاية الإقدام (ص: 159) ، وعبارة المعتزلة مخنثة الفلاسفة وردت في نفخ الطيب (5/307) ، وشيخ الإسلام ابن تيمية يصدر عبارته غالباً بقوله - قيل أو يقال، انظر مجموع الفتاوي (12/13) ، والنبوات (ص: 79) ، وأحياناً يورد العبارة فيقول: " فالمعتزلة في الصفات مخانيث الجهمية" مجموع الفتاوي (8/227-14/348) ، وقال مرة عن السهروردي -عمر بن محمد - ت 632هـ، لما ذكر نفيه للعلو: " وهؤلاء مخانيث الفلاسفة ليست دقيقة لأنه جهماً سبقهم إلى هذه الأصول، إلا أن يقال أن يقال: إنهم مخانيثهم من بعض الوجوه. انظر: مجموع الفتاوي (8/227-14/349) . (2) التسعينية (ص: 272) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 813 وقد.. بينا أن دلالة الكتاب والسنة التي يسمونها السمع ليست مجرد الخبر، كما تظنونه أنتم وهم، حتى جعلتم ما دل عليه السمع إنما هو بطريق الخبر الموقوف على تصديق المخبر، ثم جعلتم تصديق المخبر - وهو الرسول - موقوفاً على هذه الأصول التي سميتموها أنتم وهم عقليات وجعلوا منها نفي (1) الصفات والتكذيب بالقدر، ووافقتموهم على أن منها نفي كثير من الصفات " (2) . ولاشك أن متأخري الأشاعرة هم على هذه الصفة التي ذكرها، ولذلك فكثيراً ما يقررها شيخ الإسلام في مناسبات مختلفة (3) ، ويربط التأثر أحياناً بأعلام الأشاعرة كالجويني (4) ، وابن تومرت (5) ، والرازي (6) ، وغيرهم. وتأثر الأشاعرة بالمعتزلة شهد به أساطين الأشاعرة، حتى قال تاج الدين السبكي في كتابه الذي جرده للدفاع عن الأشاعرة: في ترجمة أبي بكر الصيرفي المتوفى سنة 330هـ، بعد ذكره لمناظرة بينه وبين الأشعري: قال السبكي: " قلت: وفي المناظرة دلالة على ما قاله القاضي أبو بكر في كتاب التقريب، والأستاذ أبو إسحاق في التعليقة، من أن الطوائف من الفقهاء ذهبت إلى مذهب المعتزلة في بعض المسائل، غافلين عن تشعبها عن أصولهم الفاسدة" (7) ، وقال في ترجمة محمد بن علي بن إسماعيل الشاش - القفال الكبير - ت 365-:" وقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر: " بلغني أنه كان مائلاً عن الاعتدال، قائلاً بالاعتزال في أول مرة ثم رجع إلى مذهب الأشعري" (8) ، قلت:   (1) في المطبوعة: نفس، وهو تحريف أو خطأ مطبعي. (2) التسعينية (ص: 272-273) . (3) انظر: التسعينية (ص: 207) ، ودرء التعارض (9/135) ، والحموية - مجموع الفتاوي (5/23) . (4) انظر: نقض التأسيس مطبوع (1/86) حيث قال عنه: " وإنما هو كثير الاستغراق في كلام المعتزلة" وانظر أيضاً: السبعينية (ص: 107) . (5) انظر: شرح الأصفهانية (ص: 23) . (6) انظر: نقض التأسيس المخطوط (3/409) . (7) طبقات السبكي (3/187) . (8) نص كلام ابن عساكر في التبيين (ص: 183) ، وبلغني أنه كان في أول مرة مائلاً عن الاعتدال، قائلاً بمذاهب أهل الاعتزال، والله أعلم ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 814 وهذه فائدة جليلة انفرجت بها كربة، وحسيكة (1) في الصدر جسيمة، وذلك في مذاهب تحكي عن هذا الإمام في الأصول لا تصح إلا على قواعد المعتزلة، وطالما وقع البحث في ذلك حتى توهم أنه معتزلي " (2) ، والسبكي يقول في تردد:" ولا يخفي أن الأشاعرة إنما هم نفس أهل السنة أو هم أقرب الناس إلى أهل السنة" (3) . 3- الفلاسفة: وقد تأثر بهم كثيراً متأخرو الأشاعرة، لكثرة مطالعتهم لكتبهم، وأبرزهم الغزالي والرازي والآمدي، فإنهم وإن ردوا عليهم وأبطلوا كثيراً من الباطل الموجود عندهم إلا أنهم تأثروا بأقوالهم كثيراً، ولذلك يقول شيخ الإسلام عن الغزالي - بعد أن ذكر أقوال الفلاسفة في النبوات كالفارابي وابن سينا ونحوهما- قال: " وقد ذكر الغزالي ذلك عنهم، تعريفاً بمذهبهم، وربما حذر عنه، ووقع في كلامه طائفة من هذا في الكتب المضنون بها على غير أهلها، وفي غير ذلك، حتى في كتاب الإحياء يقول: الملك، والملكوت، والجبروت، ومقصوده،' الجسم، والنفس، والعقل الذي أثبته الفلاسفة، ويذكر اللوح المحفوظ ومراده به النفس الفلكية، إلى غير ذلك، وهو في التهافت يكفرهم، وفي المضمون به يذكر ما هو حقيقة مذهبهم، حتى يذكر في النبوات عين ما قالوه، وكذلك في الإلهيات" (4) ، ويذكر شيخ الإسلام في معرض رده على الرازي وابن سينا اللذين استدلا على حدوث الأجسام بالأفوال في قول إبراهيم عليه السلام: {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (الأنعام:76) ، قال: " وقد ابتدعت القرامطة الباطنية تفسيراً آخر كما ذكره أبو حامد في بعض مصنفاته كمشكاة الأنوار   (1) الحسك: نبات له ثمرة خشنة تعلق بصوف الغنم، وكل ثمرة تشبها كالسعدان فهو حسك، واحدته حسكة، انظر: لسان العرب مادة " حسك ". (2) طبقات السبكي (3/201) . (3) المصدر السابق (6/144) . (4) النبوات (ص: 249) ، وانظر: درء التعارض (10/189-205) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 815 وغيرها: أن الكواكب، والشمس، والقمر، هي النفس، والعقل الفعال، والعقل الأول، ونحو ذلك " (1) ، ثم قال شيخ الإسلام: " والكلام على فساد هذا طويل، ليس هذا موضعه، لولا أن هذا وأمثاله هو من أسباب ضلال كثير من الداخلين في العلم والعبادة، إذ صاحب كتاب " مشكاة الأنوار " إنما بنى كلامه على أصول هؤلاء الملاحدة، وجعل ما يفيض على النفوس من المعارف من جنس خطاب الله عزوجل لموسى بن عمران النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما تقوله القرامطة الباطنية ونحوهم من المتفلسفة، وجعل خلع النعلين الذي خوطب به موسى صلوات الله عليه وسلامه، إشارة إلى ترك الدنيا والآخرة، وإن كان يقرر خلع النعلين حقيقة، لكن جعل هذا إشارة إلى أن خلع الدنيا والآخرة فقد حصل له ذلك الخطاب الإلهي، وهو من جنس من يقول: إن النبوة مكتسبة " (2) ، والغزالي في كلامه مادة فلسفية بسبب اطلاعه على كتب ابن سينا ورسائل إخوان الصفا وغيرها (3) . ومن أخطر القضايا التي تأثر بها بعض الأشاعرة، وهي من مقالات الفلاسفة الإلحادية المشهورة، القول بأن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - أظهروا للناس في الإيمان بالله واليوم الآخر، خلاف ما الأمر عليه في نفسه، لينتفع الجمهو، يقول شيخ الإسلام - هنا - عن الغزالي: " وأبو حامد - في مواضع - يرى هذا الرأي، ونهيه عن التأويل في إلجام العوام، والتفرقة بين الإيمان والزندقة مبني على هذا الأصل، وهؤلاء يرون: إقرار النصوص على ظواهرها هو المصلحة التي يجب حمل الناس عليها مع اعتقادهم أن الأنبياء لم يبينوا الحق، ولم يورثوا علماً ينبغي للعلماء معرفته.. " (4) ، ويذكر شيخ الإسلام في موضع آخر أن هذا قوله وقول الرازي أيضاً، فيقول: " فالفارابي يقول   (1) درء التعارض (1/315) .. (2) المصدر السابق (1/317-318) . (3) انظر: محموع الفتاوي (6/54) ، وانظر: الرد على المنطقيين (509-511) ،حيث قيل أمرضه الشفاء. (4) درء التعارض (10/270) ، وانظر (10/282-283) ، والصفدية (1/237-237) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 816 إن خاصة النبوة جودة تخييل الأمور المعقولة في الصور المحسوسة (1) ، أو نحو هذه العبارة. وابن سينا يذكر هذا المعنى في مواضع (2) ، ويقول: ما كان يمكن موسى ابن عمران مع أولئك العبرانيين، ولا يمكن محمداً مع أولئك العرب الجفاة أن يبينا لهم الحقائق على ما هي عليه، فإنهم كانوا يعجزون عن فهم ذلك، وإن فهموه على ما هو عليه انحلت عزماتهم عن أتباعه، لأنه لا يرون فيه من العلم ما يقتضي العمل (3) ... " (4) ، قال ابن تيمية معلقاً: " وهذا المعنى يوجد في كلام أبي حامد الغزالي وأمثاله ومن بعده، طائفة منه في الإحياء وغير الإحياء، وكذلك في كلام الرازي " (5) ، وفي مناسبة أخرى يدخل الشهرستاني مع الرازي في التأثر بالمعتزلة والفلاسفة (6) ، وأحياناً يجمع بين الرازي والآمدي في تأثرهم بالفلاسفة وكتب ابن سينا خاصة (7) ، وذكر أنهما تأثرا بالفلاسفة في الاستدلال على حدوث العالم، وفي أن سعادة النفس إنما يكون بتخلصها من الهيولي والمادة (8) .   (1) للفارابي - واسمه محمد بن أوزلغ بن طرخان- ولد سنة 257هـ، وتوفي سنة 339هـ، رأى في النبوة، فهو لم ينكرها كما أنكرها معاصره أبو بكر الرازي، ولكنه فسرها بما في النفس من قوى تجعلها تتصل بالعقل الفعال، فتقوم المخيلة بحفظ الصور الذهنية وتحويلها إلى واقع محسوس، وللاتصال بالعقل الفعال عنده طريقان: طريق النظر العقلي، وهو للفلاسفة، وطريق المخيلة وكمال النفس وهو للأنبياء: انظر تحصيل السعادة (ص: 90-94) ، والسياسة المدنية (ص: 79-80) كلاهما للفارابي، وانظر أيضاً: الفارابي: جوزيف الهاشم (ص: 37-142) ، ومع الفارابي المدن الفاضلة، فاروق سعد (ص: 53-56) ، وفيلسوفان رائدان: جعفر آل ياسين (ص: 133-141) ، والفارابي فيلسوف المدينة الفاضلة، فوزي عطوى (ص: 119) . (2) سار ابن سينا - الحسين بن عبد الله - ولد سنة 370هـ، وتوفي سنة 428هـ، على طريقة الفارابي في النبوات، انظر: الشفاء (6) في النفس (ص:177-178-212-220) ، والتعليقات (ص:82) ، وانظر: نظرية المعرفة عند ابن سينة (ص: 210) ، وما بعدها، والفلسفة الإسلامية في المشرق، فيصل عون (ص: 273) ،وفي الفلسفة الإسلامية (1/105) . (3) قارن هذا الكلام لابن سينا بما في الأضحوية له (ص: 101-102) ،ت حسن عامر. (4) مجموع الفتاوي (4/99) . (5) المصدر السابق، الصفحة نفسها. (6) انظر: شرح حديث النزول، مجموع الفتاوي (5/560) . (7) انظر: شرح الأصفهانية - ت العودة (ص:272) - ط على الآلة الكاتبة، وهذا النص ضمن الزيادات الكثيرة التي حفلت بها هذه النسخة المحققة. (8) انظر: المصدر السابق (ص: 240-245) ، - ط على الآلة الكاتبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 817 سابعاً: لا تعارض بين العقل والنقل. سبقت الإشارة إلى أن هذا من أصول منهجه العام (1) ، وهذا الأصل المنهجي الذي أصله شيخ الإسلام دفاعاً عن عقيدة السلف، يعبر عنه أحياناً بعبارة أدق وأعمق وهي: موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول، وميزتها أنها قيدت العقل بكونه صريحاً، والنقل بكونه صحيحاً، فهذان لا يمكن تعارضهما في أي حال. وهذا الأصل جاء رداً على القانون الذي ابتدعه أهل الكلام، وعلى رأسهم الأشاعرة، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك عند الكلام على تطور المذهب الأشعري (2) ، وقد جاء واضحاً جداً عند الفخر الرازي الذي يقول: " الفصل الثاني والثلاثون في أن البراهين العقلية إذا صارت معارضة بالظواهر النقلية، فكيف يكون الحال فيها؟ أعلم أن الدلائل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء، ثم وجدنا أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك، فهناك لا يخلو الحال من أحد أمور أربعة. - إما أن يصدق مقتضى العقل والنقل فيلزم تصديق النقضين، وهو محال. - وإما أن يبطل فيلزم تكذيب النقضين، وهو محال. - وإما أن يصدق الظواهر النقلية، ويكذب الظواهر العقلية، وذلك باطل لأنه لا يمكننا أن نعرف صحة الظواهر النقلية إلا إذا عرفنا بالدلائل العقلية إثبات الصانع وصفاته، وكيفية دلالة المعجزة على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وظهور المعجزات على يد محمد - صلى الله عليه وسلم - ولو جاورنا القدح في الدلائل العقلية القطعية صار العقل متهماً غير مقبول القول، ولو كان كذلك لخرج أن يكون مقبول القول في هذه الأصول، وإذا لم تثبت هذه الأصول خرجت الدلائل النقلية عن كونها مفيدة، فثبت أن القدح في العقل لتصحيح النقل يفضي إلى القدح في العقل والنقل معاً وأنه باطل.   (1) انظر: (ص: 319) . (2) انظر: (ص: 629-630) ، وانظر: الإرشاد (ص: 358-360) ، وقانون التأويل للغزالي وقانون التأويل لابن العربي (ص: 452-576-646) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 818 - ولما بطلت الأقسام الأربعة (1) ، لم يبقَ إلا أن يقطع بمقتضى الدلائل العقلية القاطعة بأن هذه الدلائل النقلية: إما أن يقال أنها غير صحيحة، أو يقال أنها صحيحة إلا أن المراد منها غير ظواهرها. ثم إن جوازنا التأويل: اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل، وإن لم نجوز التأويل فوضنا العلم بها إلى الله تعالى، فهذا هو القانون الكلي المرجوع إليه في جميع المتشابهات " (2) . هذا هو القانون الذي اشتهر عند الأشاعرة، وأصبح عندهم من القضايا المسلمة، وقد نقضه شيخ الإسلام وزيفه في مواضع عديدة من كتبه، ولأهميته وخطورته إفرد له كتابه الكبير المشهور، وتتبع ما قاله في ذلك مما يحتاج إلى رسالة مستقلة والمقام لا يحتمل سوى الإشارة إلى خطوط عامة في منهجه في هذا. ومما ينبغي التذكير به هنا أن ابن القيم رحمه الله في الصواعق المرسلة قد أفرد له قسماً كبيرا من كتابه هذا، والحمد لله أن هذا القسم المتعلق بهذا الموضوع قد وصل إلينا كاملاً، وقد قال في أوله - حيث جعله " الطاغوت الثاني ": " قد أشفى شيخ الإسلام في هذا الباب بما لا مزيد عليه، وبين بطلان هذه الشبهة، وكسر هذا الطاغوث في كتابه الكبير، ونحن نشير إلى كلمات يسيرة هي قطرة من بحره، يتضمن كسره ودحضه " (3) ، ثم ذكر ما يقارب الأربعين ومائتي وجه في ذلك، وقد استقى معظم هذه الأوجه من كتاب شيخ الإسلام " درء تعارض العقل والنقل "، وكثيراً ما يسوق عباراته بحروفها كما يلاحظ ذلك من قرأ الكتابين وقان وبينهما في هذا الموضوع.   (1) كذا في طبعتي أساس التقديس ولعل الصواب الثلاثة. (2) أساس التقديس للرازي (ص: 172-173) ، ط الحلبي، و (ص: 220-221) ، ت السقا. (3) الصواعق المرسلة - الأصل - (3/796-797) ، حقق القسم الأول - الموجود - من هذا الكتاب العظظيم الأخ الدكتور علي بن محمد الدخيل الله، وقد بذل في تحقيقه جهداً مشكوراً، ثم طبعه في أربع مجلدات، طباعة ممتازة تليق بمكانة الكاتب وأهميته، فجزاه الله خير الجزاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 819 وهذا القانون غالباً ما يأتي به الأشاعرة في موضعين: أحدهما: نفي العلو عن الله تعالى، والثاني: نفي الصفات الفعلية المتعلقة بمشيئة الله تعالى كالاستواء والنزول والمجيء، وكلام الله إذا شاء متى شاء، وغيرها، وأيضاً نفي الصفات الخبرية كالوجه واليدين وغيرها، وقد بنوا هذا المانع العقلي - المعارض للنصوص - على دليل حدوث الأجسام، فإنهم قالوا إنه لا يمكن إثبات الصانع وحدوث العالم إلا بطريق حدوث الأجسام، وحدوث الأجسيام دليله أنها مستلزمة للأعراض، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث - قالوا: والقابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده، والأعراض لا تبقى زمانين، فيلزم أن تكون الأجسام حادثة بناءً على امتناع حوادث لا أول لها. والنتيجة أن كل ما دل على التجسيم كإثبات العلو، أو الصفات الفعلية، أو الخبرية (1) - فيجب نفيه أو تأويله حتى يسلم دليل حدوث العالم، لأن إثبات هذه الصفات لله يقتضي أن يكون الله حادثاً، وهو باطل. ثم قال هؤلاء: " إن القول بما دل عليه السمع من إثبات الصفات والأفعال يقدح في أصل الدليل الذي به علمنا صدق الرسول، وقالوا: إنه لا يمكن تصديق الرسول - لو قدر أنه يخبر بذلك - لأن صدقه لا يعلم إلا بعد أن يثبت العلم بالصانع، ولا طريق إلى إثبات العلم بالصانع إلا القول بحدوث الأجسام " (2) . فـ " هذه هي أعظم القواطع العقلية التي يعارضون بها الكتب الإلهية، والنصوص النبوية، وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها " (3) .   (1) يلاحظ أهذا الدليل - دليل حدوث الأجسام - جاء به المعتزلة قبل الأشاعرة، ولذلك نفوا لأجله جميع الصفات عن الله تعالى، الصفات السبع وغيرها، وقالوا هي أعراض والأعراض لا تبقى زمانين وهي لا تقوم إلا بجسم.= =أما الأشاعرة فنفوا صفات الأفعال ونفوا أن تقوم بالله، أما سائر الصفات فأثبتوها وقالوا لا نسميها أعراضاً لأنها باقية، والأعراض لا تبقى، فجاء متأخرو الأشعرية فنفوا كل ما اقتضى تجسيماً أو تركيباً أو تحيزاً، مما هو من صفات الأجسام، فنفوا العلو والصفات الخبرية أيضاً. (2) درء التعارض (1/306) . (3) المصدر السابق (1/308) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 820 ويقوم منهج شيخ الإسلام - في نقض هذا القانون - على مقدمات ثم الردود التفصيلية. أما المقدمات : 1 - فقد بين الإسلام ثقته المطلقة بما في كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن فيهما الهدى والبيان الكامل، ولذلك فهو يقول: " ففي الجملة: النصوص الثابتة في الكتاب والسنة لا يعارضها معقول بين قط، ولا يعارضها إلا ما فيه اشتباه واضطراب، وما علم أنه حق لا يعارضه ما فيه اضطراب واشتباه لم يعلم أنه حق. بل تقول قولاً عاماً كلياً: إن النصوص الثابتة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعارضها قط صريح معقول، فضلاً عن أن يكون مقدماً عليها، وإنما الذي يعارضها شبه وخيالات، مبناها على معانٍ متشابهة وألفاظ مجملة " (1) . فهو يقرر أنه حين يناقش هؤلاء وما عندهم من عقليات لم يشك لحظة واحدة في أن هذه العقليات شبه وخيالات، ولا يمكن أن تعارض نصوص الوحي. 2- كما بين أيضاً أنه حينما يخوض في مناقشة هؤلاء وبيان فساد ما عندهم من العقليات التي يعارضون بها نصوص الوحي، إنما يفعل ذلك بطريق التنزيل لهم، يقول: " إنا في هذا المقام نتكلم معهم بطريق التنزيل إليهم، كما نتنزل إلى اليهودي والنصراني في مناظرته، وإن كنا عالمين ببطلان ما يقوله، اتباعاً لقوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:125) ، وقوله {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت:46) ، وإلا فعلمنا ببطلان ما يعارضون به القرآن والرسول ويصدون به أهل الإيمان عن سواء سبيل - وإن جعلوه من المعقول بالبرهان- أعظم من أن يبسط في هذا المكان " (2) ، ثم يبين حقيقة الإيمان بالرسول وتصديقه وأنه يقوم على التسليم المطلق له ولما جاء به فيقول: " وقد تبين بذلك أنه لا يمكن أن يكون تصديق الرسول فيما أخبر به معلقاً بشرط، ولا موقوفاً على انتفاء مانع، بل لابد من تصديقه في كل ما أخبر به تصديقاً جازماً، كما في أصل الإيمان به، فلو قال الرجل: أنا أؤمن به   (1) درء التعارض (1/155-156) . (2) المصدر السابق (1/188) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 821 إن أذن لي أبي أو شيخي، أو: إلا أن ينهاني أبي أو شيخي لم يكن مؤمناً به بالاتفاق، وكذلك من قال: أؤمن به إن ظهر لي صدقه، لم يكن بعد قد آمن به، ولو قال: أؤمن به إلا أن يظهر لي كذبة لم يكن مؤمناً، وحينئذٍ فلابد من الجزم بأنه يمتنع أن يعارض خبره دليل قطعي، لا سمعي ولا عقلي، وإن ما يظنه الناس مخالفاً له إما أن يكون باطلاً، وإما أن لا يكون مخالفاً، وأما تقدير قول مخالف لقوله وتقديمه عليه: فهذا فاسد في العقل، كما هو كفر في الشرع، ولهذا كان من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أنه يجب على الخلق الإيمان بالرسول إيماناً مطلقاً، جازماً، عاماً: بتصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أوجب أمر، وأن كل ما عارض ذلك فهو باطل" (1) . فمن كانت لديه هذه الثقة المطلقة، وهذا الإيمان الصادق بما جاء به الرسول - وهو من أوليات وبديهيات الإيمان - فلا يمكن أن يظن بأخبار الوحي الظنون، ولا أن يخطر له خاطر أنه يمكن أن يعارضه عقل أو غيره. 3- بين شيخ الإسلام الخطوط العامة اللازمة لنقض هذه القوانين التي ابتدعها هؤلاء، يعارضون بها الكتاب والسنة، وكان من آثارها: قولهم بأن الاستدلال بالأدلة السمعية مبني على مقدمات ظنية، وأن أخبار الآحاد لا يحتج بها في العقيدة، ومن ثم فالعقل مقدم على النقل، وهذه الخطوط العامة هي: - بيان أن الأدلة السمعية حجة بنفسها، وأنها تفيد اليقين والقطع، وقد ذكر شيخ الإسلام أنه أفرد في ذلك مصنفاً قديماً، وأنه ذكر طرفاً من بيان ذلك في شرح أول المحصل للرازي (2) . - أن الرسول بلغ البلاغ المبين، وبين مراده، " وأن كل ما في القرآن والحديث من لفظ يقال فيه: إنه يحتاج إلى التأويل الاصطلاحي الخاص الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره، فلابد أن يكون الرسول قد بين مراده بذلك اللفظ   (1) درء التعارض (1/188-189) . (2) لم يصل إلينا - فيما أعلم - هذان الكتابان - وقد وصل - والحمد لله - كلام طويل لشيخ الإسلام حول هذا الموضوع، وهو في مخطوطة نقض التأسيس (2/303-357) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 822 بخطاب آخر، لا يجوز أن يتكلم بالكلام الذي مفهومه ومدلوله باطل، ويسكت عن بيان المراد الحق، ولا يجوز أن يريد من الخلق أن يفهموا من كلامه ما لم يبينه لهم ويدلهم عليهم، لإمكان معرفة ذلك بعقولهم، وأن هذا قدح في الرسول الذي بلغ البلاغ المبين.." (1) . - بيان انتفاء المعارض العقلي، وإبطال قول من زعم تقديم الأدلة العقلية مطلقاً، وقد ألف ذلك كتابه الكبير درء التعارض العقل والنقل (2) ، وقال فيه: " ولما كان بيان مراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأبواب لا يتم إلا بدفع المعارض العقلي، وامتناع تقديم ذلك على نصوص الأنبياء، بينا في هذا الكتاب فساد القانون الفاسد الذي صدوا به الناس عن سبيل الله وعن فهم مراد الرسول، وتصديقه فيما أخبر، إذ كان أي دليل أقيم على بيان مراد الرسول لا ينفع إذا قدر أن المعارض العقلي القاطع ناقضه، بل يصير ذلك قدحاً في الرسول، وقدحاً فيمن استدل بكلامه، وصار هذا بمنزلة المريض الذي به أخلاط فاسدة تمنع انتفاعه بالغذاء، فإن الغذاء لا ينفعه مع وجود الاخلاط الفاسدة التي تفسد الغذاء، فكذلك القلب الذي اعتقد قيام الدليل العقلي القاطع على نفي الصفات أو بعضها، أو نفي عموم خلقه لكل شيء، أو نفي أمره ونهيه، أو امتناع المعاد، أو غير ذلك لا ينفعه الاستدلال عليه بذلك الكتاب والسنة إلا مع بيان فساد ذلك المعارض ". وكثيراً ما يشير شيخ الإسلام إلى منهجه، يقول في درء التعارض في الوجه الثالث والأربعين: " وأما طريق الرد عليهم فلنا فيه مسالك:   (1) درء التعارض _1/22-23) ، وقد شرح ذلك في جواب سؤال وجه إليه، وقد ذكر نصه كاملاً في مقدمة درء التعارض (1/25-78) ، وهو في مجموع الفتاوي (3/293-326) ، لكنه ناقص الآخر، كما أنه شرح ذلك في رسالته معارج الوصول في بيان أصول الدين وفروعه قد بينها الرسول. وهي ضمن مجموع الفتاوي (19/155-202) . (2) انظر: درء التعارض (1/22) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 823 الأول: أن نبين فساد ما ادعوه معارضاً للرسول - صلى الله عليه وسلم - من عقلياتهم. الثاني: أن نبين أن ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - معلوم بالضرورة من دينه، أو معلوم بالأدلة اليقينية، وحينئذٍ فلا يمكن مع تصديق الرسول أن نخالف ذلك، وهذا ينتفع به كل من آمن بالرسول. الثالث: أن نبين أن المعقول الصريح يوافق ما جاءت به الرسل لا يناقضه، إما بأن ذلك معلوم بالضرورة العقل، وإما بأنه معلوم بنظرة، وهذا أقطع لحجة المنازع مطلقاً، سواء كان في ريب من الإيمان بالرسول، وبأنه أخبر بذلك، أو لم يكن كذلك، فإن هؤلاء المعارضين منهم خلق كثير في قلوبهم ريب في نفس الإيمان بالرسالة، وفيهم من في قلبه ريب في كون الرسول أخبر بهذا. وهؤلاء الذين تكلمنا على قانونهم، الذي قدموا فيه عقلياتهم على كلام الله ورسوله، عادتهم يذكرون ذلك في مسائل العلو لله ونحوها" (1) . ويلاحظ أنه هنا زاد وجهاً وهو بيانه أن المعقول الصريح يوافق ما جاءت به الرسل، وهذا مثل إثبات العلو لله حيث دل عليه أيضاً العقل والفطرة. ولما تحدث شيخ الإسلام - عن هذه المسألة - مسألة ما يدعي من تعارض العقل والنقل، في غير كتابه درء تعارض العقل والنقل، أشار إلى المنهج الصحيح في ذلك (2) ، ومن ذلك قوله تعليقاً على انحراف المنحرفين: أهل التخييل والتجهيل، والتأويل، قال: " إن الذي دعاهم إلى ذلك ظنهم أن المعقول يناقض ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو ظاهر ما أخبر به الرسول، وقد بسط الكلام على رد هذا في مواضع، وبين أن العقل لا يناقض السمع، وأن ما ناقضه فهو فاسد، وبين بعد هذا أن العقل موافق لما جاء به الرسول، شاهد له، ومصدق له، لا يقال: إنه غير معارض فقط، بل هو موافق مصدق، فأولئك كانوا يقولون: هو مكذب مناقض:   (1) انظر: درء التعارض (6/4-5) . (2) انظر مثلاً: نقض التأسيس - المطبوع - (1/247-248) ، والمخطوط (2/330-331) ، ومجموع الفتاوي (6/245-246) ، وأيضاً (16/643) وغيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 824 - بين أولاً أنه لا يكذب ولا يناقض. - ثم بين ثانياً أنه مصدق موافق. وأما هؤلاء: - فبين أن كلامهم الذي يعارضون به الرسول باطل [لا يعارض به (1) ] ولا يكفي كونه باطلاً لا يعارض. - بل هو أيضاً مخالف لصريح العقل، فهم كانوا يدعون أن العقل يناقض النقل. فبين أربع مقامات: 1- أن العقل لا يناقضه. 2- ثم بين أن العقل يوافقه. 3- وبين أن عقلياتهم التي عارضوا بها النقل باطلة. 4- وبين أيضاً أن العقل الصريح يخالفهم. ثم لا يكفي أن العقل يبطل ما عارضوا به الرسول، بل يبين أن ما جعلوه دليلاً على إثبات الصانع إنما يدل على نفيه، فهم أقاموا حجة تستلزم نفي الصانع، وإن كانوا يظنون أنه يثبتون بها الصانع.. ولهذا كان يقال في أصولهم: " ترتيب الأصول في تكذيب الرسول"، ويقال أيضاً: " ترتيب الأصول في مخالفة الرسول والمعقول"، جعلوها أصولاً للعلم بالخالق، وهي أصول تناقض العلم به، فلا يتم العلم بالخالق إلا مع اعتقاد نقيضها" (2) ، وقد ضرب شيخ الإسلام لذلك بمثالين - عن الأشاعرة -لا يدلان على إثبات الصانع، بل هي تؤدي إلى التكذيب به: أحدهما: قول الرازي بالإمكان تبعاً لابن سينا، وزعمه أنه لا يمكن إثبات واجب الوجود إلا بإثبات ممكن قديم، وهذا باطل، والثاني: دليل حدوث الأعراض ولزومها للأجسام، حيث أدى بهم هذا إلى أنهم ادعوا امتناع كون الرب يفعل بمشيئته وقدرته وعطلوه عن الصفات، فلم يثبتوا الصانع القديم (3) .   (1) في المطبوع [لا تعارض فيه] ولعل الصواب ما أثبت كما يدل عليه الكلام الذي بعده. (2) مجموع الفتاوي (16/442-443) . (3) المصدر السابق (16/452-455) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 825 4- وشيخ الإسلام لا يلغي العقل - كما قد يفهمه عنه بعض خصومه أو الجاهلين بمنهجه - بل يقرر دائماً أن القرآن جاء بالأدلة العقلية والأمثلة المضروبة، وقد سبق شرح ذلك عند الحديث عن منهجه العام (1) ، ولذلك يقول في كتابه درء التعارض: " والمقصود في هذا المقام أنه يمتنع تقديم العقل على الشرع، وهو المطلوب.. ونحن لم ندع أن أدلة العقل باطلة، ولا أن ما به العلم صحة السمع باطل، ولكن ذكرنا أنه يمتنع معارضة الشرع بالعقل وتقديمه عليه.. [ثم يقول] : " إن مسمى الدليل العقلي - عندما يطلق هذا اللفظ - جنس تحته أنواع، فمنها ما هو حق، ومنها ما هو باطل، باتفاق العقلاء " (2) ، وشيخ الإسلام يحدد موطن النزاع في المقصود بالعقل أو الدليل العقلي، إذ ليس كل دليل عقلي، مرفوضاً، بل إن القرآن الكريم والسنة النبوية جاءا بالأدلة العقلية في إثبات الربوبية، والألوهية، والنبوة، والمعاد. وغيرها.. أما الردود التفصيلية على هذا القانون فقد ذكر شيخ الإسلام في كتابه درء التعارض أربعة وأربعين وجهاً رئيسياً، وتخلل أكثر هذه الأوجه أوجه فرعية ومناقشات تفصيلية تبلغ أحياناً أكثرر من مجلد، كما هو الحال في الوجه التاسع عشر (3) ، والثالث والأربعين (4) ، ولتداخل بعض هذه الأوجه مع البعض الآخر، فيمكن عرض منهج ابن تيمية فيها كمايلي: أولا ً: مناقشة صياغة الدليل أو القانون الذي وضعوه ومناقشة ما حوى من عبارات أو مصطلحات وما ترتب على ذلك من النتائج الباطلة، وقد بين ذلك من خلال الأوجه: الأول، والثاني، والثالث، والخامس عشر. أ - فصياغة القانون تقول: إذا تعارض العقل والنقل، فما المراد بالعقل والنقل. هل المراد القطعيان أو الظنيان، أو ما كان أحدهما قطعياً والآخر ظنياً،   (1) انظر: (ص: 252) ، وما بعدها من الباب الأول. (2) انظر: درء التعارض (1/191) . (3) الذي بدأ من (1/320) ، إلى نهاية المجلد الرابع. (4) بدأ في بداية المجلد السادس إلى (7/140) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 826 فكل هذه الأمور محتملة ولابد من البيان، أما الإطلاق الأمر وإجماله فليس بسديد، وهنا يوضح شيخ الإسلام هذه الاحتمالات بقوله: " إما أن يريد به القطعيين، فلا نسلم بإمكان التعارض حينئذٍ " لأن القطعي لا يمكن أن يعارضه قطعي آخر. " وإما أن يريد به الظنيين، فالمقدم هو الراجح مطلقاً " سواء كان العقل أو النقل، وحينئذٍ فتقديمه لرجحانه فقط لا لكونه عقلاً أو نقلاً، " وإما أن يريد به ما أحدهما قطعي، فالقطعي هو المقدم مطلقاً، وإذا قدر أن العقلي هو القطعي كان تقديمه لكونه قطعياً لا لكونه عقلياً "، ثم ينتهي شيخ الإسلام بهذه النتيجة بقوله: " فعلم أن تقديم العقلي مطلقاً خطأ، كما أن جعل جهة الترجيح كونه عقلياً خطأ " (1) . وقد يعجب المرء في هذا الكلام الذي يقوله شيخ الإسلام وما يحمل في ظاهره من إعلاء لشأن العقل وكأنه قد يصل إلى منزلة النقل، وشيخ الإسلام يقول هذا قاصداً تفتيت هذا القانون الذي وضعوه، وأن المنطق السليم يقتضي أن يفصل الأمر فيه وأن يقسم كل من العقلي والنقلي إلى مقطوع ومظنون سواء من ناحية الثبوت أو الدلالة، ومع ذلك كله فلا يمكن أن يتعارض العقل الصريح والنقل الصحيح أبداً. وينتج من هذا أن حصر الاحتمالات بأربعة - وهي تقديم السمعي مطلقاً أو تقديم العقلي مطلقاً، والجمع بين النقضين، أو رفع النقيضين - غير سديد إذ هناك قسم آخر وهو أنه " يقدم العقلي تارة، والسمعي أخرى، فأيهما كان قطعياً قدم -وإن كانا جميعاً قطعين فيمتنع التعارض - وإن كانا ظنيين فالراجح هو المقدم " (2) وهذا هو التقسيم الصحيح، أن يفصل الأمر والله تبارك وتعالى أنزل الميزان بالحق. ب - يقول قانونهم: " وإما أن يقدم السمع، وهو محال؛ لأن العقل أصل النقل، فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحاً في العقل الذي هو أصل النقل " (3) فيقال: ماذا تقصدون بقولكم: إن العقل أصل النقل؟   (1) درء التعارض (1/86-87) . (2) المصدر السابق (1/87) . (3) المصدر نفسه (1/4) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 827 فإن أريد به أنه أصل في ثبوته في نفس الأمر، فهذا لا يقوله عاقل لأن الشيء الثابت في نفس الأمر هو ثابت، سواء علم دليل ثبوته أو لم يعلم فهو في نفسه ثابت، فلو فرض أنا جهلنا الدليل، فعدم العلم بالدليل لا يعني عدم المدلول يقول شيخ الإسلام: " فما أخبر به الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - هو ثابت في نفس الأمر، سواء علمنا صدقه أو لم نعلمه، ومن أرسله الله إلى الناس فهو رسوله، سواء علم الناس أنه رسول أو لم يعلموا، وما أخبر به فهو حق وإن لم يصدقه الناس ... " (1) . أما إن أُريد به أن العقل أصل في معرفتنا بالسمع ودليل لنا على صحته - وهذا هو الذي أرادوه - فيرد شيخ الإسلام متسائلاً عن المقصود بالعقل: هل هو الغريزة التي تميز الإنسان من الحيوان، أم المقصود العلوم التي تستفاد من تلك الغريزة، أما العقل بمعنى الغريزة فلا يمكن أن يراد " لأن تلك الغريزة ليست علماً يتصور أن يعارض النقل، وهي شرط في كل علم عقلي أو سمعي كالحياة وما كان شرطاً في الشيء امتنع أن يكون منافياً له " (2) ، أما إن أراد بالعقل العلوم الحاصلة بالعقل فالجواب من وجوه: - أن المعارف العقلية كثيرة جداً، وهذه ليست كلها أصلاً للسمع بل الدليل على صحتها منها ما يعلم به صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -. - ثم إن الأدلة العقلية ليست كلها يعلم بها صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل الذي يعلم به صدقه منها قليل. - أن أعلام الأشاعرة يقولون: إن العلم بصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند ظهور المعجزات منها قليل. - بل إن دلائل صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - لها طرق كثيرة متنوعة، وهي لا تتوقف على المعجزات وحدها.   (1) درء التعارض (1/88) . (2) المصدر نفسه (1/89) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 828 والنتيجة أن " ما يتوقف عليه العلم بصدق الرسول من العلم العقلي سهل يسير ... وحينئذٍ فإذا كان المعارض للسمع من المعقولات مالا يتوقف العلم بصحة السمع عليه لم يكن القدح فيه قدحاً في جميعها، كما أنه ليس القدح في بعض السمعيات قدحاً في جميعها، ولا يلزم من صحة بعض العقليات صحة جميعها كما لا يلزم من صحة بعض السمعيات صحة جميعها، وحينئذٍ فلا يلزم من صحة المعقولات التي تبني عليها معرفتنا بالسمع صحة غيرها من المعقولات، ولا من فساد هذه فساد تلك، فضلاً عن صحة العقليات المناقضة للسمع" (1) . والخطأ الذي وقع فيه هؤلاء أنهم جعلوا المعقولات نوعاً واحداً، وأنهم جعلوا المعقول الذي قد يحتاج إليه في إثبات صدق الرسول، دليلاً على تقديم جميع المعقولات وهذا باطل. ثم يورد شيخ الإسلام اعتراضاً لهم، ويجيب عليه من عدة أوجه، سنذكر تفصيل كثير منها فيما بعد. إن شاء الله (2) . جـ - ومن الوجوه التي يناقش فيها شيخ الإسلام قانونهم الفاسد الوجه الخامس عشر، وخلاصته أن الدليل الشرعي لا يقابل بكونه عقلياً، وإنما يقابل بكونه بدعياً، لأن البدعة تقابل الشرعة، ويوضح هنا شيخ الإسلام أن الدليل الشرعي ليس هو خبر الصادق فقط، بل - مع هذا - هناك أدلة شرعية قد تكون سمعية وقد تكون عقلية، كأدلة توحيد الله والمعاد التي ذكرها الله في كتابه فهي أدلة شرعية، وهي أيضاً عقلية يعلم صحتها بالعقل، وخطأ هؤلاء في قانونهم ظنهم أن أدلة أصول الدين نوعان: سمعيات: وعقليات، ومن ثم توهموا التعارض بينها ظناً منهم أن السمعيات فقط هي الخبر المجرد (3) .   (1) انظر: درء التعارض (1/90) . (2) انظر: المصدر السابق (1/91-100) . (3) انظر: المصدر نفسه (1/198-200) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 829 ثانيا ً: مناقشة مضمون القانون وبيان خطئه وتناقضه: وهذا تابع للوجه السابق ومكمل له، إلا أنه لما لم يتعلق بنفس صياغة القانون وترتيب قضاياه بعضها على بعض كما هو واضح في الوجه السابق - أفرد هنا لأنه يناقش دلالات هذا القانون ويبين ما فيه من خطأ وتناقض وقد فصل شيخ الإسلام ذلك من خلال ما يلي: أ - يقال لهم: " العقل إما أن يكون عالماً بصدق الرسول، وثبوت ما أخبر به في نفس الأمر، وإما أن لا يكون كذلك. فإن لم يكن عالماً امتنع التعارض عنده إذا كان المعقول معلوماً له، لأن المعلوم لا يعارضه المجهول، وإن لم يكن المعقول معلوماُ له لم يتعارض مجهولان. وإن كان عالماً بصدق الرسول امتنع مع هذا أن لا يعلم ثبوت ما أخبر به في نفس الأمر، غايته أن يقول: هذا لم يخبر به، والكلام ليس هو فيما لم يخبر به، بل إذا علم أن الرسول أخبر بكذا فهل يمكنه - مع علمه بصدقه فيما أخبر وعلمه أنه أخبر بكذا - أن يدفع عن نفسه علمه بثبوت المخبر، أم يكون علمه بثبوت مخبره لازماً له لزوماً ضرورياً، كما تلزم سائر العلوم لزوماً ضرورياً لمقدماتها " (1) ، وهذا القانون يؤدي إلى التناقض لأنه يقول: لا تعتقد بثبوت ما علمت أنه أخبر به لأن هذا الاعتقاد ينافي ما علمت به أنه صادق، فكأن يقول له: لا تصدقه في هذا الخبر لأن تصديقه يستلزم عدم تصديقه. " فهكذا حال من أمر الناس أن لا يصدقوا الرسول فيما علموا أنه أخبر به، بعد علمه أنه رسول الله؛ لئلا يفضي تصديقهم له إلى عدم تصديقهم لهم، بل إذا قيل له: لا تصدقه في هذا، كان هذا أمراً له بما يناقض ما علم به صدقه، فكان أمراً له بما يوجب أن لا يثق بشيء من خبره، فإنه متى جوز كذبه أو غلطه في خبر جوز في غيره " (2) ، وفعلاً فقد آل ببعضهم إلى أن لا يستفيدوا من جهة الرسول شيئاً من الأمور الخبرية المتعلقة بصفات الله وأفعاله.   (1) درء التعارض (1/134) . (2) المصدر السابق (1/135) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 830 ب - وهناك وجه آخر، مترتب على الوجه السابق، وهو أن يقال: إذا علم صدق الرسول وصحة السمع، فهل يعلم أنه أخبر بمحل النزاع، أو يظن، أو لا يعلم ولا يظن. أما الأول: فإنه إذا علم وتيقن يمتنع أن يعارضه المعقول الصريح. أما الثاني: وهو ما إذا كان مظنوناً، وحينئذٍ فإذا عارضه العقل الصريح وجب تقديم العلم على الظن، لا لكونه معقولاً. وأما الثالث: فلا تقع فيه المعارضة. وبهذا يتبين أن ما جزموا به من تقديم العقل مطلقاً باطل (1) . جـ - أن يقال لهم " العقل ملزوم لعلمنا بالشرع ولازم له، ومعلوم أنه إذا كان اللزوم من أحد الطرفين، لزم من وجود الملزوم وجود اللازم، ومن نفي اللازم نفي الملزوم، فكيف إذا كان التلازم من الجابين.. وبيان ذلك هاهنا: أنه إذا كان العقل هو الأصل الذي به عرف صحة الشرع، كما قد ذكروا هم ذلك، وقد تقدم أنه ليس المراد بكونه أصلاً له أنه أصل في ثبوته في نفسه وصدقه في ذاته، بل هو أصل في علمنا به، أي دليل لنا على صحته، فإذا كان كذلك فالدليل يجب طرده، وهو ملزوم للمدلول عليه، فيلزم من ثبوت الدليل ثبوت المدلول عليه، ولا يجب عكسه، فلا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول عليه، وهذا كالمخلوقات، فإنها آية للخالق، فيلزم من ثبوتها ثبوت الخالق، ولا يلزم من وجود الخالق وجودها، وكذلك الآيات الدالات على نبوة النبي. (2) .. ". وهذه أهم المناقشات التي أفحم فيها شيخ الإسلام أصحاب هذا القانون الفاسد، وينبغي أن يلاحظ أن أصحاب هذا القانون قد ثبت عندهم صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في نبوته، ومعنى ذلك أن صدق الرسول عندهم وعند غيرهم   (1) درء التعارض (1/137) . (2) المصدر السابق (5/268-269) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 831 من أهل الإسلام ثابت في نفس الأمر، لكن هؤلاء يقولون: إن دليل ثبوته جاء بالدليل العقلي، ثم ركبوا قانونهم وقالوا: العقل أصل السمع، ويستنتج من ذلك أنهم يقولون: - إن العقل أصل في علمنا بصحة الشرع ودليل عليه، وليس أصلاً في ثبوته في نفس الأمر. - وكذلك هم يقولون صدق الرسول ثابت في نفس الأمر، أي أنهم وهم يقولون بهذا القانون لا ينكرون صحة نبوة الرسول، فهي ثابتة عندهم بدليلها العقلي. فشيخ الإسلام يقول لهم: على فرض أن صحة الشرع لا تعلم إلا بالدليل العقلي - والواقع أنها تعلم بطرق كثيرة وأئمتهم معترفون بذلك - فإن النتيجة ضدهم، لأنه يلزم من علمنا بصحة الشرع علمنا بصحة الدليل العقلي الدال عليه، كما يلزم من علمنا بذلك الدليل العقلي علمنا بصحة الشرع، أما مسألة ثبوته في نفس الأمر فإنه يلزم من ثبوت ذلك الدليل، وهذا كما أن المخلوقات دالة على وجود الله، فيلزم من وجودها في نفس الأمر وجود الله، لكن لا يلزم من وجود الخالق سبحانه وتعالى وجود المخلوقات، ومثله ثبوت النبوة فإنه يلزم من وجود دلالة النبوة - كالمعجزة - صدق النبي، لكن لا يلزم من عدم وجود هذه الدلالة عدم صدق النبي، لأن نبوته قد تثبت بطرق أخرى. وحينئذٍ فإذا كان الشرع ثابتاً في نفس الأمر، فلا يلزم من ثبوته ثبوت الدليل العقلي الدال عليه، لأنه قد يكون ثبت بأدلة أخرى، وإذا افترض ثبوت الدليل العقلي في نفس الأمر، وثبوت المدلول الشرعي في نفس الأمر لم يكونا بمنزلة واحدة - كما فعلوا في قانونهم الفاسد - لأن الشرع أقوى حيث يلزم من ثبوته ثبوت الدليل العقلي؛ لا العكس، وهذا على فرض أن الدليل الشرعي قد يعلم بأدلة أخرى. أما إذا حصروا صحة الدليل الشرعي بهذا الدليل العقلي لا غير، كان غاية الأمر أن يكونا متلازمين، وحينئذٍ فالقدح في الشرع قدح في دليله العقلي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 832 ولا يستلزم القدح في الدليل العقلي القدح في الشرع، فثبت تميز الشرع على كل حال (1) . د - يقول شيخ الإسلام في الوجه الرابع والثلاثين: " إن الذين يعارضون الشرع بالعقل، ويقدمون رأيهم على ما أخبر به الرسول، ويقولون: إن العقل أصل للشرع، فلو قدمناه عليه للزم القدح في أصل الشرع؛ إنما يصح منهم هذا الكلام إذا أقروا بصحة الشرع بدون المعارض، وذلك بأن يقروا: - بنبوة الرسول. - وبأنه قال هذا الكلام. - وبأنه أراد به كذا. وإلا فمع الشك في واحد من هذه المقدمات لا يكون معهم عن الرسول من الخبر ما يعلمون به تلك القضية المتنازع فيها بدون معارضة العقل، فكيف مع معارضة العقل " (2) . فهذا رجوع إلى أصل القضية التي بنوا عليها قانونهم الفاسد، فإنهم حينما يقولون بتعارض العقل والنقل، يقال لهم: ما النقل الذي تقولون إن العقل عارضه: هل هو النقل المبنيس على أن محمداً رسول الله الصادق، وأن هذا النقل ثبت عنه بلا ريب، وأنه قصد وأراد به أمراً محدداً واضحاً، لأنه بلغ البلاغ المبين، وهو معصوم من أن يقره الله على خطأ فيما بلغه وأخبر به؟ إن كان الأمر كذلك فإن من ثبت هذا الإيمان في قلبه امتنع أن يعارضه بدليل عقلي فضلاً عن أن يقدم الدليل العقلي عليه. أما حين يكون هذا النقل جاء إلى رجل يطعن في نبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن يزعم مثلاً أن الرسول لم يعلم بهذه المسألة التي أخبر بها، أو أنه غير معصوم في تبليغه البلاغ المبين، أو بطعن في صحة الأخبار وفي ثبوتها، أو يقول: إن الأدلة السمعية لا يستفاد منها العلم بمراد المتكلم - كما يقوله الرازي ومتبعوه -   (1) انظر: درء التعارض (5/269-271، 275) ، وانظر: (5/277-280) ففيه مناقشات مهمة. وانظر: الوجه الثلاثين (5/286-288) . (2) انظر: درء التعارض (5/340-341) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 833 فهذا لم يثبت عنده الدليل النقلي الذي عارضه العقل عندهمن ليس نقلاً ثابتاً في نفس الأمر - لأنه إما أخبار آحاد، أو غير معروف مراد المتكلم به، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يقال: إن العقل عارضه، والمعارضة إنما تكون لنقل صادر عن رسول الله الصادق، ثابت عنه بطرق صحيحة، معروف مراده به لأنه بينه أتم البيان وأوضحه، ومن ثبت لديه هذا النقل بهذه الصفة لم يقدم عليه غيره لا دليلاً عقلياً ولا غيره. ثالثاً: مقابلة هذا القانون الفاسد بقانون شرعي مستقيم وكثيراً ما يستخدم شيخ الإسلام هذا المنهج، يقابل الأقوال الفاسدة التي يدعي الخصوم صحتها، بأقوال أخرى صحيحة تكون أكثر إحكاماً وأقوى دلالة، وأكثر إقناعاً، فمثلاً يقول في مقابلة هذا القانون الفاسد: " إذا تعارض الشرع والعقل وجب تقديم الشرع؛ لأن العقل مصدق للشرع في كل ما أخبر به، والشرع لم يصدق العقل في كل ما أخبر بهن ولا العلم بصدقه موقوف على كل ما يخبر به العقل، ومعلوم أن هذا إذا قيل أوجه من قولهم" (1) ، ويضرب شيخ الإسلام لذلك مثلاُ بالعامي إذا علم عين المفتي، ثم دل غيره وبين أنه علم أنه مفتٍ، فإذا اختلف العامي الدال، والمفتي، فيجب على المستفتي أن يقدم قول المفتي، فإذا قال العامي أنا الأصل في علمك بأنه مفتٍ، فيقول له أنت لما شهدت بأنه مفت ودللت عليه شهدت بوجوب تقليده، دون تقليك (2) . ويقول شيخ الإسلام في وجه آخر: " تقديم المعقول على الأدلة الشرعية ممتنع متناقض، وأما تقديم الأدلة الشرعية فهو يمكن مؤتلف، فوجب الثاني دون الأول " (3) ، وذلك لأن الشرع واحد، مستقيم وهو قول الصادق فلا يختلف باختلاف أحوال الناس، أما العقول فمختلفة متفاوته، فقد يعلم زيد بعقله ما لا يعلمه عمرو، بل إن زيداً نفسه يعلم بعقله في وقت ما يجهله في وقت آخر. وقد ضرب شيخ الإسلام لذلك بعدة أمثلة واقعية بين العقلاء في أمور عقدية،   (1) انظر: درء التعارض (1/138) . (2) انظر: درء التعارض (1/138) . (3) انظر: درء التعارض (1/138) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 834 هذا يدعي بعقله شيئاً وذلك يدعي بعقله شيئاً مخالفاً لهذا الذي ادعاه الأول، ومن ذلك أن أكثر العقلاء يقولون: نحن نعلم بضرورة العقل وامتناع رؤية مرئى بلا مقابلة ولا جهة، وبعض العقلاء يقولون: إن هذا ممكن.. وهكذا (1) . وقد صاغ شيخ الإسلام معارضة قانونهم في موضع آخر بقوله: " يعارض دليلهم بنظير ما قالوه، فيقال: إذا تعارض العقل والنقل، وجب تقديم النقل، لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع للنقيضين، وتقديم العقل ممتنع؛ لأن العقل قد دل على صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل، وإذا أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضاً للنقل؛ لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء، فكان تقديم العقل موجباً عدم تقديمه، فلا يجوز تقديمه، وهذا بين واضح؛ فإن العقل هو الذي دل على صدق السمع وصحته، وأن حبره مطابق لمخبره، فإن جاز أن تكون هذه الأدلة باطلة لبطلان النقل لزم أن لا يكون العق دليلاً صحيحاً، وإذا لم يكن دليلاً صحيحاً لم يجز أن يتبع بحال، فضلاً عن أن يقدم، فصار تقديم العقل على النقل قدحاً في العقل بانتفاء لوازمه ومدلوله.. " (2) . والعقل إنما دل على صدق النقل، وثبوت ما جاء به في نفس الأمر، فإذا قيل: إن العقل عارض هذا النقل كان ذلك قدحاً في العقل الدال على النقل من باب أولى، وقد أورد شيخ الإسلام اعتراضات كثيرة وأجاب عنها (3) . رابعاً: أن أمور السمع - التي يقال: إن العقل عارضها - معلومة بالاضطرار وذلك كإثبات الصفات والمعاد ونحو ذلك، فإن هذه " مما علم الاضطرار أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء بها، وما كان معلوماً بالاضطرار من دين الإسلام   (1) درء التعارض (1/145-146) . (2) المصدر السابق (1/170-171) . (3) المصدر نفسه (1/173-192) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 835 امتنع أن يكون باطلاً، مع كون رسول الله حقاً، فمن قدح في ذلك وادعى أن الرسول لم يجيء به كان قوله معلوم الفساد بالضرورة من دين المسلمين " (1) ، يوضح ذلك أن أهل العلم الذين عنوا بعلم الرسول، العالمين بالقرآن وتفسيره وبسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والعالمين بأخباره وأخبار الصحابة " عندهم من العلوم الضرورية بمقاصد الرسول ومراده مالا يمكن دفعه عن قلوبهم، ولهذا كانوا متفقين على ذلك من غير تواطؤ ولا تشاعر، كما اتفق أهل الإسلام على نقل حروف القرآن، ونقل الصلوات الخمس، والقبلة، وصيام شهر رمضان، وإذا كانوا قد نقلوا مقاصده ومراده عنه بالتواتر، كان ذلك كنقلهم حروفه وألفاظه بالتواتر، ومعلوم أن النقل المتواتر يفيد العلم اليقيني، سواء كان التواتر لفظياً أو معنوياً، كتواتر شجاعة خالد وشعر حسان ... " (2) . ولا يقول عاقل: إن الصحابة والتابعين لم يكونوا عالمين بالكتاب والسنة ولا عارفين بمراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومقاصده، إلا أن يكون من أهل الإلحاد والزندقة، لأن من سير أحوال الصحابة والتابعين علم أنهم كانوا أفقه الناس وأعلم الناس، وهو الذين نقلوا إلينا الشرع فهم أعلم الناس بما ينقلونه معرفة وفهماً، وإذا كان الأمر كذلك فيمتنع أن يعارض هذا المعلوم المشهور المتواتر عنهم عقلي أو غيره. ولاشك أهل الحديث والسنة، الذين يعنون بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواية ودراية، لديهم من الموازين والمعايير الدقيقة التي توصلهم إلى العلم اليقيني، مالا يوجد عند أصحاب هذا القانون من أهل الكلام، ولذلك ففي الوقت الذي يصرّ هؤلاء على الطعن بكتاب الله وسنة رسوله لقانون عقلي طرأ عليهم - وفي الغالب أنهم قلدوا فيه غيرهم - نجد أهل السنة لا يخطر ببالهم خاطر من ذلك لمعرفتهم وثقتهم المطلقة بما في الكتاب والسنة، بل يرون أن معارضتهما من صفات المنافقين وأهل البدع والكلام المذموم.   (1) انظر: درء التعارض (1/195) . (2) المصدر نفسه: الصفحة نفسها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 836 خامساً: أن هذا القانون مخالف لما هو معلوم من أن مهمة الرسل والبيان والهدى، ولذلك فهو من فعل المكذبين لهم، وقد شرح شيخ الإسلام ذلك من خلال الأوجه التالية: أ - أن معارضة أقوال الرسول بأقوال غيرهم هو من فعل الكفار، قال الله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} (غافر:4) ، وقال: {لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} (الكهف:56) ، وغيرها، " ومن المعلوم أن كل من عارض القرآن وجادل في ذلك بعقله ورأيه فهو داخل في ذلك، وإن لم يزعم تقديم كلامه على كلام الله ورسوله، بل إذا قال ما يوجب المرية والشك في كلام الله فقد دخل في ذلك، فكيف بمن يزعم أن ما يقوله بعقله ورأيه مقدم على نصوص الكتاب والسنة؟ " (1) ، ومعارضة الكتب الآلهية بأقوال الرجال من أصول الكفر، والمعارضة قد تكون أحياناً صريحة، وأحياناً مبطنة كما يفعل كثير من أهل الإلحاد والكلام المذموم. ب - " إن الله سبحانه ذم من ذمه من أهل الكفر على أنهم يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (آل عمران:98-99) ، ومعلوم أن سبيل الله هو ما بعث به رسله مما أمر به وأخبر عنه، فمن نهى الناس نهياً مجرداً عن تصديق رسل الله وطاعتهم، فقد صدهم عن سبيل الله، فكيف إذا نهاهم عن التصديق بما أخبرت به الرسل، وبين أن العقل يناقض ذلك، وأنه يجب تقديمه على ما أخبرت به الرسل " (2) ، ومن فعل ذلك فقد بغى سبيل الله عوجاً، وقدم عليها ما يرى أنه مستقيم من دليله العقلي المبتدع.   (1) درء التعارض (5/206) . (2) المصدر السابق (5/210) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 837 جـ - أن الله أرسل رسوله بالهدى والبينات ليخرج الناس من الظلمات إلى النور - ودلائل هذا من القرآن كثيرة لا تحصى - وقول هؤلاء مناقض لهذه الحقيقة مناقضة تامة لأنهم يزعمون أن ما جاء به الرسول من إثبات الصفات لله معارض بالعقول فيجب تأويله، وأن النصوص بعد تأويلها تأويلات من عندهم لم يذكرها رسول الله تكون واضحة مفهومة صحيحة المعنى، ونتيجة هذا أن النصوص التي بلغتنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس فيها الهدى والبيان، وهذا محادة لله ولرسوله ومناقضة لدعوة الرسول (1) . د- " إنّا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرجل لو قال للرسول: هذا القرآن أو الحكمة الذي بلغته إلينا قد تضمن أشياء كثيرة تناقض ما علمنا بعقولنا، ونحن إنما علمنا صدقك بعقولنا، فلو قبلنا جميع ما تقوله - مع أن عقولنا تناقض ذلك لكان ذلك قدحاً فيما علمنا به صدقك، فنحن نعتقد موجب الأقوال المناقضة لما ظهر من كلامك، وكلامك نعرض عنهن لا نتلقى منه هدى ولا علم (2) - لم يكن مثل هذا الرجل مؤمناً بما جاء به الرسول لم يرضَ الرسول منه بهذا " (3) ، ولاشك أن هذا القانون الفاسد متضمن لمثل مقالة هذا الرجل فحكمهما واحد. هـ - أن معارضة الأنبياء بمثل هذه الأمور هو من فعل الشياطين المعادين للأنبياء، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} (الأنعام:112) ، وهذا منطبق على هؤلاء الذين ابتدعوا كلاماً محدثاً صدوا به عن كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولهذا قال أحد زعماء الجهمية: " ليس شيء أنقض لقولنا من القرآن، فأقروا به في الظاهر، ثم صرفوه بالتأويل، ويقال: إنه قال: إذا احتجوا عليكم بالحديث فغالطوهم بالتكذيب، وإذا احتجوا بالآيات فغالطوهم بالتأويل" (4) ، فهذا مما يوحي به هؤلاء لغيرهم زخرف القول غروراً.   (1) انظر: درء التعارض (5/211-214) ، وانظر أيضاً (5/357-358) . (2) كذا ولعل الصواب ولا علما. (3) درء التعارض (5/214-215) . (4) المصدر السابق (5/218) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 838 و - أن الله تعالى ذم أهل الكتاب على ما فعلوه من عدة وجوه: - كتمانهم ما أنزل الله. - والكذب فيه. - وتحريفه. - وعدم فهمه. وأهل الكلام مشابهون لهم في هذه الوجوه: - فهم تارة يعرضون عن كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعارضونهما بآرائهم وأهوائهم فيكتمون الأحاديث المخالفة لأقوالهم. - وأحياناً يضعون بعض الأحاديث التي توافق بدعهم. - وهم أيضاً يحرفون النصوص بأنواع التأويلات الفاسدة. - وهم أيضاً لا يفهمون النصوص لأنهم إما أن يؤولوها إلى معانٍ أخرى، أو يفوضونها فيصيرون مثل أهل الكتاب الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني (1) . وهذا واضح من التطبيق العملي لأحوال أهل الكلام فهم معرضون عن الكتاب، أما السنة فهم أجهل الناس بها - كما سبق بيانه -. ز- أن من المقطوع به أن الرسول أوجب على الخلق تصديقه فيما أخبر به ومن لم يكن كذلك لم يكن مؤمناً به، وإذا كان كذلك كانت أقوال هؤلاء التي يعارضون بها أقواله معلومة الفساد بالضرورة (2) . ح - أن الله ذكر في كتابه أنه ضمن الهدى والفلاح لمن اتبعه، قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة:2) ، وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى* وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى   (1) انظر: درء التعارض (5/223-227) . (2) انظر: المصدر السابق (5/338-339) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 839 وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (طه:123-127) ، والآيات في ذلك كثيرة جداً دالة على أن ما جاء به القرآن فيه الهداية التامة وأن من اتبعه وصدقه فقد اهتدى إلى الصراط المستقيم، ومن أعرض عنه فقد ضل وغوى فكيف بمن قال بنقيض ما جاء به؟ ومعلوم أن " للضلال تشابهاً في شيئين: أحدهما: الإعراض عما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -. والثاني: معارضته بما يناقضه " (1) . وأهل الكلام لهن نصيب وافر من هذين (2) . سادسا ً: النتائج الفاسدة التي تنتج عن هذا القانون الذي أتى به هؤلاء، وقد بين شيخ الإسلام أن هذا القانون فتح أبواباً عديدة من الشر، وكانت له آثاره السيئة في الأمة الإسلامية، وهذه الآثار أدت إما إلى ضعف ثقة المسلمين بكتاب ربهم وسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث أصبحت عند كثير من أتباع هؤلاء لا يستفاد منها علم يقيني بل هي ظواهر يجب تأويلها أو تفويضها، وإما إلى تسلط أهل الباطل من أهل الفلسفة والباطنية على المسلمين حين سوغوا لأنفسهم تأويل النصوص التي لم يخالف فيها أحد حتى من أهل الكلام؛ احتجاجاً بتأويل أهل الكلام لنصوص أخرى مشابهة لتلك في الدلالة. أ - فقد بين شيخ الإسلام أن غاية ما ينتهي إليه هؤلاء إما إلى التأويل وإما إلى التفويض، وهذا من أعظم الضلال والقدح في الكتاب والسنة، وقد شرح ذلك شيخ الإسلام (3) . ب - أن منهج هؤلاء في رد نصوص الصفات وغيرها، هو نفسه الذي سلكه ملاحدة الفلاسفة والباطنية الذين أنكروا ما أخبر الله به من أمور الآخرة   (1) انظر: درء التعارض (5/376) . (2) انظر: المصدر السابق (5/378-379) . (3) انظر: المصدر نفسه (1/201-208) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 840 فأولوها تأويلات أخرى، وكذلك فعلوا فيما يتعلق بأركان العبادات كالصلاة والزكاة والحج والصيام حيث جعلوها للعامة دون الخاصة، أوأولوها تأويلات أخرى كما فعلت الباطنية. وهذه الاستطالة من هؤلاء الملاحدة على المتكلمين من أخطر الأمور التي كانت من آثار سلوك المتكلمين هذا القانون الفاسد. وقد اهتم شيخ الإسلام بهذه القضية وأطال فيها الكلام (1) ، ولأهمية ذلك في منهج شيخ الإسلام العام في الرد على الأشاعرة فسنفرده إن شاء الله في فقرة مستقلة ضمن هذه الخطوط العامة في منهجه في الرد على الأشاعرة. ج - ومن الآثار السيئة أن مآل هؤلاء الذين يعارضون كلام الله وكلام رسوله بعقولهم إلى أحد حالين: 1- إن كانوا من ملاحدة الفلاسفة والقرامطة، فمآل كلامهم إلى إبطال الشرائع وذلك بإسقاط الواجبات واستحلال المحرمات. 2- وإما إن كانوا من أهل الكلام فلابد لهم من التأويل الفاسد، وهؤلاء قد أدى بهم هذا إلى التناقض، إما بفهم فاسد حيث ظنوا أنه لابد من تأويل مثل قوله: الحجر الأسود يمين الله في الأرض (2) ، وعبدي جعت فلم تطعمني (3) ، حيث يظنون أن المعنى الفاسد هو الظاهر لهذه النصوص، وهذا فهم فاسد، وإما بتأويلهم لنصوص صريحة واضحة في الصفات أو غيرها فيتأولونها على وجوه أخرى فاسدة، ومعلوم أن نصوص الكتاب والسنة واضحة الدلالة مفهومة المعنى، ولكن هؤلاء بسبب قانونهم الفاسد لم يكن لهم قانون واضح مستقيم يفرقون به بين النصوص التي تحتاج إلى تأويل والنصوص التي لا تحتاج إلى تأويل (4) .   (1) انظر: درء التعارض (5/3-203) . (2) سبق تخريجه (ص: 563-564) . (3) رواه مسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل عبادة المريض، ورقمه (2569) . (4) انظر: درء التعارض (5/234-241) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 841 د - ومن الآثار الفاسدة أن هؤلاء المتكلمين لم يبقَ معهم من الطرق التي يسلكونها إلا طريقان: - إما طريق النظار وهي الطريق القياسية العقلية. - وإما طريق الكشف والتصوف. ومعلوم أن في هذين الطريقين من التناقض والمخالفة للكتاب والسنة ما هو معروف مشهور، ومن المعلوم أن النتيجة التي ينتهي إليها من سلك الطريق الأول: الحيرة والشك كما حدث لكثير من أهل الكلام، ومن سلك الطريق الثاني: انتهى به الأمر إلى الشطح المؤدي إلى الإلحاد (1) . سابعاً: وهناك أيضاً لوازم فاسدة تلزم من قال بهذا القانون ومن ذلك: أ - أن قول هؤلاء يؤدي إلى الاعتقاد بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يبين للناس أصول دينهم، ولا عرفهم علماً يهتدون به، وإنما بين لهم الأمور العملية فقط كالعبادات والمعاملات وغيرها، فيلزم من هذا أن تكون عقولهم ومشايخهم الذين بينوا لهم أشرف العلوم وهي علوم أصول الدين، أفضل من الأنبياء الذين لم يبينوا إلا الأضعف وهو الأمور العملية، وفعلاً أدى هذا ببعض الملاحدة إلى أن يفضلوا الفيلسوف أو الولي على النبي، " ومن لم يصل إلى هذا الحد من ملاحدة المتكلمين والمتعبدين ونحوهم، فقد شاركهم في الأصل، وهو تفضيل أئمته وشيوخه على الأنبياء، ومن لم يقر منهم بتفضيل أئمته وشيوخه على الأنبياء لزمه ذلك لزوماً لا محيد عنه.. إذا جعل العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله والمعاد لا يستفاد من خطاب الأنبياء وكلامهم وبيانهم وطريقهم التي بينوه، وإنما يستفاد من كلام شيوخه وأئمته" (2) . ب - أنه يلزم -إذا كانوا يعتقدون أنه لا يستفاد من كلام الله ورسوله شيء في بيان أصول الدين - يلزم من هذا أن الأنبياء قد لبسوا على الناس ودلسوا،   (1) انظر: درء التعارض (5/245-246) ، وانظر مثلاً على ذلك من كلام الغزالي (5/346-357) . (2) انظر: درء التعارض (5/363) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 842 بل أصلوهم وجهلوهم، أو حيروهم وشككوهم وجعلوهم مذبذبين لا يعرفون الحق من الباطل، " فعند هؤلاء: كلام الأنبياء وخطابهم في أشرف المعارف وأعظم العلوم، يمرض ولا يشفى، ويضل ولا يهدي، ويضر ولا ينفع، ويفسد ولا يصلح، ولا يزكي النفوس ويعلمها الكتاب والحكمة، بل يدسي (1) النفوس ويوقعها في الضلال والشبهة، بل يكون كلام من يسفسط تارة ويبين أخرى، كما يوج في كلام كثير من أهل الكلام والفلسفة كابن الخطيب وابن سينا، وابن عربي، وأمثالهم، خيراً من كلام الله وكلام رسله، فلا يكون خير الكلام كلام الله، ولا أصدق الحديث حديثه.. " (2) ، يقول شيخ الإسلام: " وإنما ذكرنا هذا لأن كثيراً من الجهمية النفاة يقولون: فائدة إنزال هذه النصوص المثبته للصفات، وأمثالها من الأمور الخبرية التي يسمونها هم المشكل والمتشابه، فائدتها عندهم: اجتهاد أهل العلم في صرفها عن مقتضاها بالأدلة المعارضة لها، حتى تنال النفوس كد الاجتهاد، وحتى تنهض إلى التفكير والاستدلال بالأدلة العقلية المعارضة لها، الموصلة إلى الحق، فحقيقة الأمر عندهم أن الرسل خاطبوا الخلق بما لا يبين الحق، ولا يدل على العلم، ولا يفهمن منه الهدى، بل يدل على الباطل، ويفهم منه الضلال " (3) . ثم ضرب لذلك بمثال (4) . ج - أنه يلزم أيضاً على قولهم أن يكون الرسل تكلموا في غاية الجهل والضلال أو في غاية الإفك والبهتان والإضلال، وذلك لأن هؤلاء يزعمون أن الرسل لما تكلموا في الأمور الإلهية كان كلامهم غير دال على الحق في الأمور الإلهية ولا أفاد علماً فيها: " بل دلالته الظاهرة نقيض الحق والعلم والعرفان مفهمّة لضد التوحيد والتحقيق الذي يرجع إليه ذووا الإيقان " (5) ، وهذا لازم قول هؤلاء. ومن المعلوم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان من أعلم الخلق بربه وبأسمائه وصفاته وملائكته ومعاده.   (1) لعل التعبير جاء من قوله تعالى {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [سورة الشمس] ، وانظر تهذيب اللغة للأزهري 12/280، وتفسير هذه الآية في الطبري وابن كثير وفتح البيان في مقاصد القرآن لصديق حسن خان وغيرها، وانظر حاشية محقق درء التعارض في هذا الموضع، وخلاصة معنى الآية، قد خسر من أخفاها وأخملها ولم يشهرها بالطاعة والعمل الصالح. (2) درء التعارض (5/364) . (3) درء التعارض (5/365) . (4) المصدر نفسه (5/366-368) . (5) المصدر السابق (5/370) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 843 وأنه أحرص الناس على تعليم الخلق وبيان الحق لهم وأدلة ذلك كثيرة جداً (1) . فهذه لوازم فاسدة وخطيرة تلزم على قول هؤلاء الذين جاءوا بهذا القانون الفاسد يقدمون فيه عقولهم على الكتاب والسنة. ثامناً: أن حقيقة قول هؤلاء - الذين يعارضون النقل والعقل - " أن لا يحتج بالقرآن والحديث على شيء من المسائل العلمية، بل ولايستفاد التصديق بشيء من أخبار الله ورسوله، فإنه إذا جاز أن يكون فيما أخبر الله به ورسوله في الكتاب والسنة أخبار يعارضها صريح العقل، ويجب تقديمه عليها من غير بيان من الله ورسوله للحق الذي يطابق مدلول العقل، ولا لمعاني تلك الأخبار المناقضة لصريح العقل (2) ، لزم أن لا يستفاد من نصوص الوحي شيء. ومعلوم أن العقول مختلفة ومتفاوتة، وأهل الطوائف كلٌ يدعي أن معقوله يعارض النصوص أو طائفة منها، فإذا كانت الطوائف متباينة في أقوالها ومذاهبها، فقد عورضت النصوص بمعقولات متباينة مختلفة، والنتيجة أن نصوص الوحي أصبحت لا حرمة لهان بل ولا حجة فيهان بل من جوز على خبر الله وخبر رسوله أن يناقضه المعقول لم يمكنه أن يصدق بشيء من أخبار الوحي عن الأمور الغائبة، وهذا إبطال للوحي وللرسالات. وأهل الإيمان يعلمون أن خبر الله ورسوله حق وصدق " موافق لما الأمر عليه في نفسه، لا يجوز أن يكون شيء من أخباره باطلاً ولا مخالفاً لما هو الأمر عليه في نفسه، ويعلمن من حيث الجملة أن كل ما عارض شيئاً من أخباره وناقضه فإنه باطل من جنس حجج السوفسطائية، وإن كان العالمن بذلك قد لا يعلم وجه بطلان تلك الحجج المعارضة لأخباره، وهذه حال المؤمنين للرسول، الذين علموا أنه رسول الله الصادق فيما يخبر به، يعلمون من حيث الجملة أن ما ناقض خبره فهو باطل، وأنه لا يجوز أن يعارض خبره دليل صحيح، لا عقلي ولا سمعي " (3) . وقد شرح شيخ الإسلام هذا في موضع آخر (4) ، وذكر أن حذاق المتكلمين التزموا القول بهذه النتيجة الباطلة، ومنهم الرازي الذي قال بعد   (1) درء التعارض (5/371-374) . (2) درء التعارض (5/242) . (3) انظر: المصدر السابق (5/255) . (4) انظر: المصدر نفسه (5/320) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 844 أن ذكر في التمسك بالسمعيات أن المطالب ثلاثة أقسام: منها ما يستحيل حصول العلم بها بواسطة السمع، ومنها ما يستحيل العلم بها إلا بالسمع، ومنها ما يصح العلم بها من السمع تارة ومن العقل أخرى "،وبعد أن شرح الرازي ذلك قال: " إذا عرفت ذلك فنقول: أما أن الأدلة السمعية لا يجوز استعمالها في الأصول في القسم الأول فهو ظاهر.. وأما القسم الثالث ففي جواز استعمال الأدلة السمعية فيه إشكال: وذلك لأننا لو قدرنا قيام الدليل القاطع العقلي على خلاف ما أشعر به ظاهر الدليل السمعي، فلا خلاف بين أهل التحقيق بأنه يجب تأويل الدليل السمعي، لأنه إذا لم يمكن الجمع بين ظاهر النقل وبين مقتضى الدليل العقلي، فإما نكذب العقل، وإما نؤول النقل، فإن كذبنا العقل، مع أن النقل لا يمكن إثباته إلا بالعقل، فإن الطريق إلى إثبات الصانع ومعرفة النبوة ليس إلا العقل، فحينئذٍ تكون صحة النقل متفرعة على ما يجوز فساده وبطلانه، فإذن لا يكون النقل مقطوع الصحة، وما أدى ثبوته إلى انتفائه كان باطلاً، فتعين تأويل النقل " (1) . - وهذا هو مضمون القانون الذي سبق نقله عن الرازي في أساس التقديس، والكلام الخطير قول الرازي بعد هذا مباشرة: " فإذن الدليل السمعي لا يفيد اليقين بوحود مدلوله إلا بشرط أن لا يوجد دليل عقلي على خلاف ظاهره، فحينئذٍ لا يكون الدليل النقلي مفيداً للمطلوب إلا إذا بينا أنه ليس في العقل ما يقتضي خلاف ظاهره، ولا طريق لنا إلى إثبات ذلك الأمر إلا من وجهين: إما أن نقيم دلالة عقلية على صحة ما أشعر به ظاهر الدليل النقلي - وحينئذٍ يصير الاستدلال بالنقل فضلاً غير محتاج إليه - وإما أن نزيف أدلة المنكرين لما دل عليه ظاهر النقل، وذلك ضعيف لما بينا من أنه لا يلزم من فساد ما ذكروه أن لا يكون هناك معارض أصلاً، اللهم إلا أن نقول: إنه لا دليل على هذه المعارضات فوجب نفيه، ولكنا زيفنا هذه الطريقة، أو نقيم دلالة قاطعة على أن المقدمة الفلانية غير معارضة لهذا النص، ولا المقدمة الفلانية الأخرى، وحينئذٍ يحتاج إلى إقامة الدلالة على أن كل واحدة من هذه المقدمات التي لا نهاية   (1) نهاية العقول - مخطوط - (14 -أ-ب) ، ونقله شيخ الإسلام في درء التعارض (5/330-331) .. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 845 لها غير معارضة لهذا الظاهر " - يقول الرازي -: " فثبت أنه لا يمكن حصول اليقين بعدم ما يقتضي خلاف الدليل النقلي، وثبت أن الدليل النقلي يتوقف إفادته اليقين على ذلك، فإذا الدليل النقلي تتوقف إفادته على مقدمة غير يقينية وهي عدم دليل عقلي، فوجب تأويل ذلك النقل.."، ثم قال: " فخرج مما ذكرناه أن الدلالة النقلية لا يجوز التمسك بها في المسائل العلمية.." (1) . قال شيخ الإسلام معلقاً على كلام الرازي هذا " قلت فليتدبر المؤمن العاقل هذا الكلام، مع أنه قد ينزل فيه درجة، ولم يجعل عدم إفادته اليقين إلا لتجويز المعارض العقلي، وإلا فهو وغيره في موضع آخر -ينفون أن يكون الدليل السمعي مفيداً لليقين لكون موقوفاً على مقدمات ظنية كنقل اللغة والنحو التصريف، وعدم المجاز، والاشتراك، والنقل والإضمار، والتخصيص وعدم المعارض السمعي أيضاً مع العقلي (2) ، وبهذا دفع الآمدي (3) ، وغيره الاستدلال بالأدللة السمعية في هذا الباب.. والمقصود هنا أن نبين اعترافهم بما ألزمناهم به، وإذا كان كذلك فيقال: نحن نعلم بالاضطرار من دين الرسول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أخبر أمته بما أخبرهم به من الغيب من أسماء الله وصفاته وغير ذلك، فإنه لم يرد منهم ألا يقروا بثبوت شيء مما أخبر به إلا بدليل منفصل غير خبره، فإذا كان القول مستلزماً لكون الرسول أراد أن لا يثبت شيء بمجرد خبره، وهذا مما يعلم بالاضطرار أنه كذب على الرسول، علم أن هذا القول معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام " (4) . بقي إن يقال أن الرازي لما قسم المطالب إلى ثلاثة أقسام، جعل منها قسماً لا يعلم إلا بالسمع وهو ما ترجع فيه أحد طرفي الممكن على الآخر (5) ، فهل يتمشى هذا مع ما قاله سابقاً عن الظواهر النقلية أنها مظنونة وأنها لا تفيد اليقين؟   (1) نهاية العقول (14 - ب) ونقله في درء التعارض (331-333) . (2) انظر: أساس التقديس للرازي (ص: 182) . (3) انظر: أبكار الأفكار (41-ب) . (4) انظر: درء التعارض (5/335-336) . (5) انظر: نهاية العقول (14- أ) ، ودرء التعارض (5/329) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 846 الحق أن هذا تناقض، يقول شيخ الإسلام: " ومعلوم أن ما ذكروه ينفي أن يكون الدليل السمعي حجة في هذا القسم أيضاً، وذلك لأن الشيء الذي يمكن وجوده وعدمه، إذا دل الدليل السمعي على أحد طرفيه، وجوزنا أن لا يكون مدلول الدليل السمعي ثابتاً، أمكن هنا أيضاً أن لا يكون ذلك المخبر به ثابتاً في نفس الأمر، وأن يكون الشارح لم يرد ما دل عليه قوله، ولا يحتاج ذلك إلى تجويز قيام دليل عقلي يعارض ذلك.. وحينئذٍ فلا يستدل بالسمع على مالا مجال للعقل فيه من الأمور الأخروية، وهذا نهاية الإلحاد " (1) . ومن خلال ما سبق يتبين كيف أن هذا القانون مؤداه إبطال السمع والاقتصار على أدلة العقول، وهذا منتهى قانونهم الفاسد. تاسعاً: أن المسائل التي يقولون -إنه تعارض فيها العقل والسمع - هي من المسائل المشتبهة، ولذلك فإن أهل الكلام حيالها مختلفون لأن كل طائفة منهم بنت أقوالهم في هذه الأمور المجملة المشتبهة على ما عندها من المعقولات التي تدعي أنها قطعية تفصل في الأمر المراد. وبيان ذلك كما يلي: أ - أن عامة موارد التعارض " هي من الأمور الخفية المشتبهة التي يحار فيها كثير من العقلاء، كمسائل أسماء الله وصفاته وأفعاله، وما بعد الموت من الثواب والعقاب والجنة والنار والعرش والكرسي، وعامة ذلك من أنباء الغيب التي تقصر عقول أكثر العقلاء عن تحقيق معرفتها بمجرد رأيهم، ولهذا كان عامة الخائضين فيها بمجرد رأيهم: - إما متنازعين مختلفين. - وإما حيارى متهوكين.   (1) انظر: درء التعارض (5/388) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 847 وغالبهم يرى أن إمامة أحذق في ذلك منه، ولهذا تجدهم عند التحقيق مقلدين لأئمتهم فيما يقولون إنه من العقليات المعلومة بصريح العقل" (1) ، ويستشهد شيخ الإسلام لذلك بنماذج تبين أن هؤلاء يعتقدون أن أئمتهم أعلم وأحذق، ولذا فهم يحيلون عليهم في الأمور التي لا يفهمونها، وربما يرون أن عقولهم تعارضها لكنه يهاب مخالفة إمامه، يقول شيخ الإسلام: " تجد أتباع أرسطو ليس يتبعونه فيما ذكره من المنطقيات والطبيعيات والإليهات، مع أن كثيراً منهم قد يرى بعقله نقيض ما قاله أرسطو، وتجده لحسن ظنه به يتوقف في مخالفته، أو ينسب النقص في الفهم إلى نفسه. ز"، ثم يقول شيخ الإسلام: " بل هذا موجود في أتباع أئمة الفقهاء وأئمة شيوخ العبادة، كأصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وغيرهم، تجد أحدهم دائماً يجد في كلامهم ما يراه هو باطلاً، وهو يتوقف في رد ذلك، لاعتقاده أن إمامه أكمل منه عقلاً وعلماً وديناً، هذا مع علم كل من هؤلاء أن متبوعه ليس بمعصوم، وأن الخطأ جائز عليه؟ " (2) . والعجيب أن هؤلاء المقلدين لأئمتهم لا يقول أحدهم أبداً: إذا تعارض قولي مع قول إمامي قدمت قولي على قوله، فكيف يقول: إذا تعارض عقلي أو عقل فلان مع الكتاب والسنة وجب تقديم العقل عليه؟ ب - أن كل طائفة تدعي أن ما عندها معلوم بالأدلة العقلية القطعية ومن نظر في أقوال وأدلة الفلاسفة، والجهمية، والمعتزلة، والرافضة، وغيرهم فسيجد أن كل طائفة من هؤلاء تدعي أن قولها ومذهبها قائم على الأدلة العقلية أو السمعية الصحيحة، وأن من خالفها من سائر الطوائف متناقضون مخالفون لصريح العقل أو السمع، بل الأمر أشد من ذلك فإن الطائفة الواحدة يقع بين أئمتها وأصحابها من الاختلاف والتباين ما هو معلوم مشهور وكل واحد من هؤلاء يدعي أن ما عنده قائم على الأدلة الصحيحة، وكل ما كانت الطائفة أبعد عن السلف كان اختلاف أقوالها أكثر.   (1) انظر: درء التعارض (1/151) . (2) انظر: المصدر السابق (1/151-155) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 848 فمثلاً إذا نظرت إلى مسألة الصفات أو الرؤية، أو خلق أفعال العباد فستجد طائفة تقول: إن إثبات هذه الأمور معلوم بالأدلة العقلية القطعية، وتقابلها طائفة أخرى تقول: إن نفي هذه الأمور معلوم العقلية والقطعية، وهكذا بقية المسائل، وكل من الطائفتين فيهم من الذكاء والمعرفة ما هم متميزون به عن بقية الناس (1) ، فما هو المعقول الذي يرجع إليه ويحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه؟ ولقد كان من نتائج هذا القانون - مع تباين عقول الناس - أن انتهى الأمر بكثير من أهل الكلام إلى الشك والحيرة، كما حصل للجويني، والشهرستاني والرازي وغيرهم (2) - وسيرد تفصيل ذلك إن شاء الله - يقول شيخ الإسلام معقباً: " فإذا كان فحول النظر وأساطين الفلسفة الذين بلغوا في الذكاء والنظر إلى الغاية، وهم ليلهم ونهارهم يكدحون في معرفة هذه العقليات، ثم لم يصلوا فيها إلى معقول صريح يناقض الكتاب، بل إما إلى حيرة وارتياب، وإما إلى اختلاف بين الأحزاب، فكيف غير هؤلاء ممن لم يبلغ مبلغهم في الذهن والذكاء ومعرفة ما سلكوه من العقليات. فهذا وأمثاله مما يبين أن من أعرض عن الكتاب وعارضه بما يناقضه لم يعارضه إلا بما هو جهل بسيط أو جهل مركب.." (3) ، ويفسر أهل الجهل البسيط بأنهم أهل الشك والحيرة، وأهل الجهل المركب بأنهم أرباب الاعتقادات الفاسدة (4) . ج - أن دلالة السمع متفق عليها: - أما عند أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فهو أمر واضح متواتر.   (1) انظر: درء التعارض (1/156) . (2) انظر: المصدر السابق (1/166) . (3) انظر: المصدر نفسه (1/169) . (4) انظر: المصدر نفسه (1/170) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 849 - وأما عند أهل الكلام فإن هؤلاء لم يتنازعوا في أن السمع من الأدلة، وإنما اختلفوا هل عارضه العقل أم لا؟ وإلا فكلهم متفقون على أن الكتاب والسنة مثبتان للأسماء والصفات، والمعاد. وغيرها. أما أدلة العقول - التي جاء بها هؤلاء يعارضون بها السمع - فهي أدلة مختلف فيها، غير متفق عليها، والدليل على ذلك ما سبق من أن كل طائفة تقول، إن أدلة خصومها باطلة. وإذا كانت دلالة السمع متفقاً عليها، ودلالة العقول مختلفاً فيها فإنه يمتنع أن يقدم ما هو مختلف فيه على ما هو متفق عليه (1) . د - أن ما جاء به هؤلاء مبني على الألفاظ المجملة، ولذلك فهو من البدع المحرمة في الدين " والبدعة لو كانت باطلة محضاً لظهرت وبانت، وما قبلت، ولو كانت حقاً محضاً، لاشوب فيه، لكانت موافقة للسنة، فإن السنة لا تناقض حقاً محضاً لا باطل فيه، ولكن البدعة تشتمل على حق وباطل " (2) ، ثم استشهد شيخ الإسلام بقوله تعالى لبني إسرائيل: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ* وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ* وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 40-42) ، وبين شبه المتكلمين بهؤلاء (3) ، وقد ضرب شيخ الإسلام للألفاظ المجملة التي لبسوا بها بين الحق والباطل، بعدة أمثلة منها: 1- لفظ " التوحيد " وكيف قصدوا به نفي الصفات عن الله (4) . 2- لفظ الجسم والتركيب، حيث نفوا لأجلهما الصفات (5) .   (1) انظر: درء التعارض (1/192-194) . (2) انظر: المصدر السابق (1/209) . (3) انظر: المصدر نفسه (1/209-211،219-220) . (4) انظر: المصدر نفسه (1/224) . (5) انظر: المصدر نفسه (1/238) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 850 3- الرؤية (1) . 4- الجهة (2) . 5- الجبر (3) . 6- ومسألة اللفظ بالقرآن (4) . وقد بين كيف وقع اللبس بهذه الألفاظ، وموقف أهل السنة من الأقوال المبتدعة التي لبس أصحابها بها بين الحق والباطل (5) . عاشرا ً: بيان فساد العقليات التي يدعون أنها معارضة للأدلة الشرعية: في الوجوه السابقة ناقش شيخ الإسلام هذا القانون الفاسد بطرق متعددة تبين تناقضهم، ومخالفتهم للكتاب والسنة، وتكشف ما في قانونهم من المحادة لله ولرسوله، وما لزم عليه من اللوازم الباطلة، وما انتهى إليه من النهايات الفاسدة.. الخ أما في هذا الوجه فقد انتقل فيه شيخ الإسلامن إلى مجال آخر وطريقة أخرى في نقض قولهم وبيان ما فيه من الباطل. وقد سبق في المقدمات - قبل ذكر هذه الردود التي فيها التفصيل في مسألة تعارض العقل والنقل - نقل بعض النصوص لشيخ الإسلام تبين منهجه في ذلك، ونزيد هنا نصاً آخر يوضح المراد. يقول: -رحمه الله-: " إن الكلام هنا أربعة أنواع: أحدهما: أن نبين أن ما جاء به الكتابم والسنة فيه الهدى والبيان. والثاني: أن نبين أن ما يقدر من الاحتمالات فهي باطلة، قد دل الدليل الذي به يعرف مراد المتكلم على أنه لم يردها.   (1) انظر: درء التعارض (1/250) . (2) انظر: المصدر السابق (1/253) . (3) المصدر نفسه (1/254) . (4) انظر: المصدر نفسه (256-269) . (5) انظر: المصدر نفسه (1/271) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 851 والثالث: أن نبين أن ما يدعي أنه معارض لها من العقل فهو باطل. والرابع: أن نبين أن العقل موافق لها معاضد، لا مناقض لها معارض" (1) . أما الأول: فقد سبق في المقدمات بيان أن شيخ الإسلام أحال على كتابين من كتبه، كما أنه بين ذلك في ثنايا ردوده ومناقشاته في هذا الكتاب. وأما الثاني: فتدخل فيه الوجوه السابقة، ومن ذلك بحوثه المتعددة حول الألفاظ المجملة. وأما الثالث: فتفصيل القول فيه في هذا الوجه - وسيأتي بيانه بعد قليل -. وأما الرابع: فسيأتي في الوجه الذي يلي هذا الوجه. فإذا كان من الخطوط العامة لمنهج شيخ الإسلام هنا أن يبين بطلان هذه المعقولات التي صدوا بها عن الكتاب والسنة. وهنا لا بد من وقفة قصيرة لأن شيخ الإسلام خاض في المناقشات العقلية والفلسفية والكلامية، ونقل أقوال الفلاسفة والمتكلمين، وأطال في النقول، وعلّق عليها وناقشها، حتى أن القارئ لكتابه هذا يمل من كثرة نقوله ومناقشاته، واستطراداته، وقد يتوقف عن الاستمرار في القراءة لهذا السبب، ويعتب على شيخ الإسلام بعض محبيه، ظناً منهم أنه خاض في علم الكلام والفلاسفة كما خاض أولئك لكن الفارق بينه وبينهم أنه لم يتلبس بشيء من أقوالهم الفاسدة، وأن نيته في ذلك كانت حسنة، وهذا - مع ما فيه من الاعتذار لشيخ الإسلام - إلا أنه مجانب لكامل الحقيقة لأمور: الأول: أن شيخ الإسلام أجاب عن ذلك من خلال مناقشاته، ومن خلال أسئلة بعض محبيه كالحافظ البزار، وقد سبق ذكر عدة وجوه في ذلك عند الكلام على منهجه (2) .   (1) انظر: درء التعارض (1/279) . (2) انظر: ما سبق في الباب الأول (ص: 226-231) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 852 والثاني: أن شيخ الإسلام لم يخص فيها خوض الذين يظنون أن فيها فائدة، فضلاً عن أن يكون من المعجبين بها، فهو -رحمه الله- - لم تتغير قناعته لحظة واحدة في أن الكتاب والسنة فيهما ما يغني كل الغنى عن أقوال وترهات الفلاسفة والمتكلمين (1) ، ولذلك فإنه وهو يخوض غمار هذه المناقشات لبيان ما فيها من الباطل لا ينفك عن الإشارة إلى ما في القرآن والحديث من البيان والهدى التام. الثالث: أن هذه الأقوال التي ينقلها ويناقشها لم تبقِ في دائرة ضيقة ككتب الفلاسفة وما شابهها حتى يقال: إن جماهير المسلمين ينكرون هذه الكتب وتأثرهم بها ضعيف، وإنما انتشرت وتناقلها وتبناها عدد كبير من أعيان الفقهاء الذين هم قدوة لكثير من الناس في الفقه وأصوله، والعقيدة والتفسير وغير ذلك من أنواع العلوم التي برزوا فيها، لذلك فكتبهم وأقوالهم وتحقيقاتهم معتمدة عند هؤلاء الأتباع الذين لا يفرقون في الاقتداء بشيوخهم بين أصول الدين وفروعه، ولذلك صار الضلال الناتج عن هذا كبيراً جداً، فرأى شيخ الإسلام أنه لا يمكن رد هذا الباطل وإقناع هؤلاء الأتباع إلا ببيان فساد أقوال شيوخهم وتهافتها، فنقل أقوال هؤلاء، كما نقل أقوال شيوخهم من أهل الاعتزال والفلسفة، وبين ما فيها من الضلال والانحراف. وقد كان بيان شيخ الإسلام لفساد العقليات التي يزعمون أنها معارضة للشرع من خلال ثلاثة أوجه في كتابه هي: الوجه الثاني عشر (2) - وهو مختصر جداً - والثامن عشر (3) والتاسع عشر الذي أطال فيه بحيث شمل بقية المجلد الأول (4) ، والمجلد الثاني والثالث والرابع بكاملها. وقد كانت مناقشته لذلك كما يلي: أ - ذكر شيخ الإسلام أن الشبه التي يعارضون بها نصوص الشرع في الأسماء والصفات أهمها شبهتان:   (1) سبق شرح هذا ضمن هذا الفصل. (2) درء التعارض (1/194) . (3) المصدر السابق (1/280-320) . (4) المصدر نفسه (1/320) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 853 إحداهما: شبهة التركيب والتجسيم، وأنه يلزم من إثبات الصفات لله أو العلو التركيب أو أن يكون الله جسماً، وإذا كان كذلك كان مشاركاً لغيره في الوجود، وهذا ينافي ما يجب لله من التوحيد، قالوا والمركب مفتقر إلى جزئه، وهذه الشبهة في الأصل هي حجة الفلاسفة والجهمية الذين نفوا جميع الصفات والأفعال عن الله تعالى. والشبهة الثانية: حجة الأعراض، حيث استدلوا بحدوث الأجسام على حدوث العالم، وعلى حدوث الأجسام بملازمتها للأعراض، وهذه في الأصل حجة المعتزلة، ولأجلها نفوا جميع الصفات عن الله، مع ملاحظة أن هؤلاء قد يحتجون بالحجة الأولى التي هي شبهة التركيب والتجسيم (1) . وقد تلفق الأشاعرة هاتين الحجتين الداحضتين وبنوا عليهما ما نفوا من العلو والصفات. ب - ثم بين شيخ الإسلام بطلان هاتين الشبهتين: أما شبهة التركيب والتجسيم: فقد بين فيها تناقض الفلاسفة والمتكلمين، كما بين ما في مثل هذه الألفاظ من الاشتباه (2) ، وقال: " إن إثبات المعاني القائمة التي توصف بها الذات لا بد منه لكل عاقل، وإنه لا خروج عن ذلك إلا بجحد وجود الموجودات مطلقاً، وأما من يجعل وجود العلم هو وجود القدرة، ووجود القدرة هو وجود الإرادة، فقود هذه المقالة يستلزم أن يكون وجود كل شيء هو عين وجود الخالق تعالى، وهذا منتهى الإلحاد، وهو مما يعلم بالحس والعقل والشرع أنه في غاية الفساد، ولا مخلص من هذا إلا بإثبات الصفات، مع نفي مماثلة المخلوقات، وهو دين الذين آمنوا وعملوا الصالحات" (3) . ثم رد على زعمهم أن نفي الصفات توحيد، وناقشهم في ذلك، وبين   (1) انظر: درء التعارض (1/301-302) . (2) انظر: المصدر السابق (1/280-283) . (3) انظر: المصدر نفسه (1/283) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 854 أن مآل أقوالهم إلى أقوال المتصوفة أصحاب وحدة الوجود (1) . وأما شبهة دليل الأعراض وحدوث الأجسام: فقد ناقشها طويلاً- وسيأتي إن شاء الله تعالى توضيح ردوده على هذه الشبهة - ولكن الذي يناسب المقام هنا الإشارة إلى الأمور التالية: 1- رد على هذه الشبهة بصورة مجملة، وبين أن السلف والصحابة لم يتوقف إيمانهم على هذا الطريق (2) . 2- لما كان الهدف الأساسي من هذا الدليل عندهم أن يثبتوا به حدوث العالم ليردوا على الفلاسفة القائلين بقدم العالم، ذكر شيخ الإسلام أن هؤلاء الملاحدة أوردوا على المتكلمين سؤالهم المشهور حول حدوث العالم، وأنهم ألزموهم بأحد أمرين: - إما القول بالترجيح بلا مرجح تام. - أو القول بالتسلسل والدور (3) . وهما ممتنعان عند المتكلمين، وقد استقصى شيخ الإسلام أجوبة المتكلمين كما ذكرها الرازي، الذي ذكر أجوبة الناس عليها، ثم بين فسادها وعدل إلى الإلزام للفلاسفة وهو أن لا يحدث - على قولهم - في العالم حادث، والحس يكذبه، وقد أجابه الفلاسفة بأن هذا لا يصح إذا كان التسلسل باطلاً، أما إذا كان صحيحاً فنحن نقول به (4) . 3- تخبط المتكلمون في الجواب عن شبهة الفلاسفة، وناقشوها مناقشات   (1) انظر: درء التعارض (1/283-291) ، وحول شبهة التجسيم، انظر أيضاً: (4/134-290) ، وقد بين أن فحول النظار والفلاسفة بينوا فساد طرق من نفى الصفات أو العلو بناء على نفي التجسيم، انظر: (4/282) . (2) انظر: درء التعارض (1/308-320) . (3) انظر: شرح ذلك في درء التعارض (1/320-322) . (4) انظر: المصدر السابق (1/322-323) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 855 ضعيفة (1) ، يقول شيخ الإسلام - بعد أن عرضها - " قلت: المقصود هنا أن يعرف نهاية ما ذكره هؤلاء في جواب الدهرية عن المعضلة الزباء، والداهية الدهياء، ولا يخفى على العاقل الفاضل ما في هذه الأجوبة " (2) ، ثم ذكر أنه يمكن الرد على هؤلاء الفلاسفة من وجوه كثيرة، وأن كل طائفة من طوائف المسلمين تتمكن من قطعهم بجواب مركب من قولهم وقول طائفة أخرى من المسلمين، وذكر مثالاً للأجوبة التي يجاب بها هؤلاء الفلاسفة وينقض بها باطلهم (3) ، وبين في أثناء ذلك أن " كل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه، ولا وفي بموجب العلم والإيمان، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس، ولا أفاد كلامه اليقين " (4) ، ويقصد شيخ الإسلام أجوبة المتكلمين الضعيفة. 4- بين شيخ الإسلام بشكل قاطع أن الرد على الفلاسفة إنما يتم على قول أهل السنة والجواعة الذين يثبتون لله الصفات ويثبتون له الأفعال، وأنه تبارك وتعالى متصف بالصفات الاختيارية التي نفاها الأشاعرة ومن قبلهم من المعتزلة وغيرهم، يقول شيخ الإسلام بعد ردوده ومناقشاته على الفلاسفة وإبطال حججهم: " وإذا تدبر العاقل الفاضل تبين له أن إثبات الصانع وإحداثه للمحدثات لا يمكن إلا بإثبات صفاته وأفعاله، ولا تنقطع الدهرية من الفلاسفة وغيرهم قطعاً تاماً عقلاً لا حيلة لهم فيه، إلا على طريقة السلف أهل الإثبات للأسماء والأفعال والصفات، وأما من نفى الأفعال أونفى الصفات فإن الفلاسفة الدهرية تأخذ بخناقه، ويبقى حائراً شاكاً، مرتاباً مذبذباً بين أهل الملل المؤمنين بالله ورسوله وبين هؤلاء الملاحدة كما قال تعالى في المنافقين: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} (النساء:143) (5) .   (1) انظرها في درء التعارض (1/320-350) . (2) انظر: درء التعارض (1/350) . (3) انظر: المصدر السابق (1/351) وما بعدها. (4) انظر: المصدر نفسه (1/357) . (5) انظر: المصدر نفسه (1/375) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 856 5- ولما كان نقض أقوال الفلاسفة إنما يستقيم على مذهب أهل السنة والجماعة الذين يثبتون لله الصفات الاختيارية، أو ما يسمى بحلول الحوادث (1) ، لا على مذهب نفاتها، ذكر شيخ الإسلام أدلة السمع على أفعال الله وصفاته الاختيارية، ونقل الخلاف في هذه المسألة (2) ، ثم نقل أقوال علماء الإسلام في إثباتها (3) . ثم ذكر ذلك مفصلة من الكتاب والسنة (4) . والعقل (5) . وقد أعقب الأدلة السمعية بذكر أدلة النفاة للصفات الاختيارية، وناقشها (6) . كما ربطها بمسألة كلام الله (7) . وبهذا يتبين الرد على الفلاسفة في قولهم: إن الترجيح بلا مرجح ممتنع، وإن هذه إنما ترد على نفاة صفات الأفعال الاختيارية لله تعالى، أما على مذهب أهل السنة المثبتين لها فلا ترد. 6- أما شبهة التسلسل، فقد بين بطلان قول الفلاسفة فيها على كل تقدير (8) ، لكنه فرق بين نوعين من التسلسل: أحدهما: التسلسل في الفاعلين، فهذا ممتنع بلا ريب لأن المخلوقات لو فرض التسلسل فيها لابد أن تنتهي إلى الخالق الواحد. والثاني: التسلسل في الآثار، فهذا يفرق فيه بين النوع والعين، فالعين التسلسل فيه ممتنع، أما النوع فلا مانع منه وهو قول أهل السنة والحديث الذين يقولون: إن الله لم يزل فاعلاً وإنه يتكلم إذا شاء.   (1) ذكر شيخ الإسلام في درء التعارض (2/239) ، أن أهل السنة لا يطلقون عبارة: حلول الحوادث، ومعلوم أن المتكلمين يقصدون بها الصفات الاختيارية. (2) انظر: درء التعارض (2/18-20) . (3) انظر: درء التعارض (2/20-115) . (4) انظر: المصدر السابق (2/115-147) . (5) انظر: المصدر نفسه (2/220) ، وما بعدها. (6) انظر: المصدر نفسه (2/156) ، وما بعدها (2/342) ، وما بعدها (4/3) ، وما بعدها. (7) انظر: المصدر نفسه (2/244) . (8) انظر: المصدر نفسه (1/339) ، وما بعدها (2/282-288) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 857 وقد ناقش شيخ الإسلام حجة الفلاسفة في مسألة التسلسل وبين ضعف المتكلمين في جوابها، وذكر حججهم - ممثلة في أقوال الرازي - وناقشها بالتفصيل (1) ، ثم عاد شيخ الإسلام يناقش مسألة حلول الحوادث كما سبق (2) . وفي النهاية ذكر شيخ الإسلام الخلاصة، وكيف اضطرب المتكلمون في هذه المسائل مع أنهم جعلوها من الأصول التي تقدم على الشرع قال شيخ الإسلام: " وسبب ذلك أنهم يقولون أقوالاً تستلزم الجمع بين النقيضين تارة، ورفع النقيضين تارة، بل تستلزم كليهما، والأصل العظيم الذي هو من أعظم أصول العلم والدين لا يذكرون فيه إلا أقوالاً ضعيفة، والقوال الصواب الموافق للميزان والكتاب لا يعرفونه" (3) ، وذكر من الأمثلة على ذلك مما سبق: أ - مسألة حدوث العالم، فإنهم لا يذكرون إلا قولين: - قول من يقول بقدم الأفلاك، وهم الفلاسفة الدهرية. - وقول من يقول: بل تراخي المفعول عن المؤثر التام، وأنه يمتنع أن يكون الله لم يزل متكلماً إذا شاء ويفعل إذا شاء. - والقول الصواب الذي هو قول السلف والأئمة لا يعرفونه، وهو القول بأن الأثر يتعقب التأثير التام، فهو سبحانه إذا كوّن شيئاً كان، وهذا هو المعقول كما يكون الطلاق والانكسار عقب التطليق والكسر. ب - وفي كونه موجباً بذاته فاعلاً بمشيئته وقدرته يذكرون قولين: - قول الفلاسفة: هو موجب بذاته في الأزل، وأن علّته تامة في الأزل فيجب أن يستلزم معلوله، فتكون مخلوقاته أزلية معه. وهذا باطل. - وقول من يقول: إنه فاعل مختار، لكنه يفعل بوصف الجواز فيرجح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح، إما بمجرد كونه قادراً، أو لمجرد كونه قادراً   (1) انظر: درء التعارض (2/344-399، 3/3-389) . (2) انظر: المصدر السابق (4/3) ، وما بعدها. (3) انظر: المصدر نفسه (4/290) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 858 عالماً، أو لمجرد إرادته القديمة، فيقولون بتراخي الأثر عن المؤثر، وهذا قول أهل الكلام وهو قول فاسد، وإن كان أقل فساداً من الذي قبله. - أما القول الثالث وهو الصواب وإن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فما شاء الله وجب بمشيئته وقدرته، وما لم يشأه امتنع لعدم مشيئته له فهو موجب بمشيئته وقدرته، لا بذات خالية عن الصفات. فهذا لا يذكرونه (1) . فتبين أن هذه الأصول العقلية التي قدموها على السمع هي أصول فاسدة وأن كونهم أرادوا بها إثبات حدوث العالم والرد على الدهرية الفلاسفة، جاء على نقيض مقصدوهمن حيث لم يستطيعوا الرد عليهم، وطعن بعضهم في أدلة بعض، ولو سلكوا الطريق الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وقال به أئمة أهل السنة والحديث، لوافقوا مدلول السمع أولاً، ولنقضوا أقوال الفلاسفة الدهرية ثانياً ولما وقعوا في الارتباك والتناقض، وتسلط أعداء الإسلام عليهم. حادي عشر : أن العقل موافق للنقل: في الوجه السابق بين شيخ الإسلام فساد الأصول التي اعتمدوا عليها في تقديم العقل على الشرع، وهنا يبين أن هؤلاء يزعمون أن الأدلة الشرعية لا تفيد اليقين، وأن ما ناقضها من الأدلة العقلية تفيد اليقين، فيجب تقديم هذه على تلك. فيرد عليهم ببيان أن الأدلة العقلية موافقة للأدلة النقلية لا معارضة لها، وطبق ذلك على مثال مشهور يذكرون عنده قانونهم الفاسد وهو إثبات العلو والفوقية لله تعالى. والفرق بينهما أنه في الوجه السابق رد على من يزعم أن صدق الرسول موقوف على إثبات دليل حدوث الأجسام، وهنا يرد على من يقول: إن العقل يعارض ظواهر النصوص فيجب تقديمه من غير أن يقول: إن صدق الرسول مبني على هذا.   (1) انظر: درء التعارض (4/290) ، إلى نهاية الجزء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 859 ولأهمية هذه المسألة يحسن إيراد ما ذكره شيخ الإسلام في هذا الموضوع، حيث قسم هؤلاء إلى طائفتين: الأولى: " من يقول: إن تصديق الرسول لا يمكن إلا بقضايا عقلية تناقض مفهوم ما أخبر به، وهذا يلزم من قال ذلك من الجهمية والمعتزلة أو أتباعهم من الأشعرية، ومن دخل معهم من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة والصوفية: [الذين يقولون (1) ] : إن تصديق الرسول لا يمكن إلا بأن يستدل على حدوث العالم بحدوث الأجسام وأنه يستدل على ذلك بحدوث ما قام بها من الأعراض مطلقاً أو الحركات، وأن ذلك مبني على امتناع حوادث لا أول لها، وذلك يستلزم نفي الأفعال القائمة بذات الله تعالى، المتعلقة بمشيئته واختياره، بل نفي صفاته، وأن يكون القرآن مخلوقاً، وأن الله لا يرى في الآخرة ولا يكون فوق العالم " (2) ، ثم ناقش شيخ الإسلام هذه الطائفة باختصار مبيناً أن قول هؤلاء معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام (3) . الطائفة الثانية: " من قال: إن هذه المعقولات تعارض المفهوم الظاهر من الآيات والأحاديث، من غير أن يقول: إن العلم بصدق الرسول موقوف عليها، كما يقوله من يعتقد صحة هذا الطريق، طريقة الاستدلال على الصانع بحدوث الأعراض وتركيب الأجسام، وإن قال: إنه يمكن تصديق الرسول بدونها، كما يقوله الأشعري نفسه، وكثير من أصحابه، والرازي وأمثاله، وكثير من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية.. فإن هؤلاء وجمهور المسلمين يقولون: إنه يمكن تصديق الرسول بدون طريقة حدوث الأعراض وتركيب الأجسام " (4) ، ثم بين شيخ الإسلام حال هاتين الطائفتين حيال دليل الأعراض فقال: " لكن هؤلاء وغيرهم يعتقدون صحة تلك الطريق، وإن قالوا: إن تصديق الرسول لا يتوقف عليها:   (1) زيادة مني ليستقيم الكلام. (2) انظر: درء التعارض (7/73-74) . (3) انظر: المصدر السابق (7/71-73) . (4) انظر: المصدر السابق (7/73-74) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 860 ثم منهم من يقول: إنها لا تعارض النصوص، بل يمكن الجمع بينهما، وهذه طريقة الأشعري وأئمة أصحابه: يثبتون الصفات الخبرية التي جاء بها القرآن، مع اعتقادهم صحة طريق الاستدلال بحدوث الأعراض وتركيب الأجسام، وهذه طريقة أبي حاتم البستي، وأبي سليمان الخطابي، والتميميين، كأبي حسن التميمي وغيره من أهل بيته، وأبي علي بن أبي موسى، والقاضي أبي يعلى، وأبي بكر البيهقي وابن فورك وابن الزاغوني، وخلق كثير من طوائف المسلمين من الحنيفة والمالكية والشافعية والحنبلية. ومن هؤلاء: من يدعي التعارض بينهما كالرازي وأمثاله، كما يقول ذلك من يوجب الاستدلال بطريقة حدوث الأعراض كالمعتزلة وأبي المعالي وأتباعه. فهؤلاء مشتركون في أن هذه الطريقة المعقولة لهم مناقضة لما يفهم من الآيات والأحاديث، سواء قالوا: إن تصديق الرسول موقوف عليها كما يقوله من يقوله من المعتزلة وأتباع صاحب الإرشاد، أو لم يقولوا ذلك كما يقوله من يوافق الأشعري والرازي، وجمهور المسلمين على أن تصديق الرسول ليس موقوفاً عليها " (1) . والخلاصة أن الأشاعرة طائفتان: طائفة: ترى صحة دليل الأعراض، لكنها لا تعارض به النصوص، ولذلك أثبتوا الصفات الخبرية، والعلو. وطائفة: ترى وجوب دليل الأعراض، أو صحته فقط، وسواء قال هؤلاء إن تصديق الرسول متوقف عليه أو غير متوقف فإنهم جميعاً يرون أنه يعارض النصوص ولذلك نفوا لأجله الصفات الخبرية والعلو. أما الصفات الاختيارية لكل من قال بصحة دليل الأعراض -ولو لم يوجبه -التزم نفيها.   (1) انظر: درء التعارض (7/74-75) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 861 بعد هذه المقدمة نعود إلى المثال الذي ذكره شيخ الإسلام هنا وهو إثبات العلو، الذي نفاه متأخرو الأشاعرة لأدلة عقلية يذكرونها، وحين يرد عليهم بالنصوص الكثيرة الدالة على إثباته يذكرون هذا القانون كما فعل الرازي في الأربعين (1) . وقد رد عليهم شيخ الإسلامن وناقش الموضوع طويلاً بحيث استغرق الجزء السادس بكامله، وثلث الجزء السابع تقريباً (2) ، وقد بين أن نفاة العلو ليس معهم من الأدلة النقلية إلا حديث واحد مكذوب، وما ورد في القرآن أن الله " أحد " واحتجاجهم بذلك فاسد (3) . ثم ذكر ما أجاب به النفاة - وعلى رأسهم الرازي - على أدلة مثبتي العلو من العقل والفطرة، وناقشها بالتفصيل مبيناً أن العقل والفطرة يوافقان ما دلت عليه النصوص، وقد بين شيخ الإسلام أن هؤلاء اعتمدوا على ما ذكره ابن سينا في الإشارات، ثم نقل كلامه وناقشه التفصيل (4) . ثم ناقش شيخ الإسلام ادعاء الرازي في الوجه الأول من ردوده على من يثبت العلو بأنه لو كان بديهياً لامتنع اتفاق الجمع العظيم على إنكاره وهم ما سوى الحنابلة والكرامية (5) . كما ناقش بقية الأوجه التي ذكرها الرازي رداً على دليل المثبتة من العقل والفطرة (6) .   (1) انظر: الأربعين (ص: 115) ، وانظر: لباب الأربعين كما نقله عنه شيخ الإسلام في درء التعارض (7/26) . (2) إلى (ص: 140) منه. (3) انظر: درء التعارض (6/6) . (4) انظر: المصدر السابق (6/18-112) . (5) رد عليه من وجوه، الوجه الأول (6/113) ، والثاني: وما بعده (6/267) ، وقد نقل أقوال الطوائف قبل الحنابلة والكرامية وقولهم في إثبات العلو، انظر: (6/114) ، وما بعدها. كما بين عجز النفاة العلو عن الرد على الحلولية، انظر: (6/115) ، وما بعدها. (6) انظر: درء التعارض (6/272-287) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 862 ثم ساق أدلة الرازي العقلية على نفي العلو وناقشها (1) . وأخيراً ساق شيخ الإسلام قانون الرازي الفاسد الذي أتى به هنا في العلو ليرد به النصوص الشرعية المثبتة للعلو، وناقشه بالتفصيل (2) . والخلاصة أن هؤلاء الذين ظنوا أن الدليل العقلي يعارض السمع مخطئون لأنه قد ثبت أن ما ذكروه معارضاً للسمع إنما هي أوهام توهموها، وأن العقل والفطرة يؤيدان ما دلت عليه النصوص فبطل قانونهم الذي ذكروه. ثاني عشر: أن العقليات التي يقال: إنها أصل السمع، وأنها معارضة له، ليست مما يتوقف العلم بصحة السمع عليها. وهذا هو الوجه الثالث والأربعون الذي بدأ في أثناء الجزء السابع (3) واستغرق أغلبه مع الأجزاء الثامن والتاسع والعاشر الذي هو آخر الكتاب. يقول شيخ الإسلام في أول هذا الوجه: " يقال: العقليات التي يقال: إنها أصل للسمع وإنها معارضة له ليست مما يتوقف العلم بصحة السمع عليها، فامتنع أن تكون أصلاً له، بل هي أيضاً باطلة، وقد اعترف بذلك أئمة أهل النظر من أهل الكلام والفلسفة، فإن إجماع هذه الطرق هي طريقان أو ثلاثة: - طريقة الأعراض، والاستدلال بها على حدوث الموصوف بها أو ببعضها كالحركة والسكون. - وطريقة التركيب، والاستدلال بها على أن التصوف بها ممكن أو محدث، فهاتان الطريقتان هي جماع ما يذكر في هذا الباب. - والثالثة: الاستدلال بالاختصاص على إمكان المختص أو حدوثه.   (1) انظر: درء التعارض (6/287-إلى-7/24) . (2) انظر: المصدر السابق (7/25-140) . (3) (ص: 141) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 863 قد يقال إنها طريقة أخرى، وقد تدخل في الأولى.. " ثم الطريقة الأولى مبنية على امتناع وجود مالا يتناهى من الحوادث، والثانية: مبنية على أن ما اجتمعت فيه معانٍ لزم أن يكون ممكناً أو حادثاً، والثالثة: مبنية على أن المختص لابد له من مخصص منفصل عنه. وهذه المقدمات الثلاث قد نازع فيها جمهور العقلاء، وكل من هذه الطرق تسلكه الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات والأفعال، ويسلكه أيضاً نفاة الأفعال القائمة به دون الصفات " (1) وهم الأشعرية. وكما في الوجهين السابقين أطال شيخ الإسلام في تقرير هذا الوجه، ودعم أقواله بالاستشهاد بأقوال أهل الكلام والفلسفة التي تبين أن ما زعمه هؤلاء من أن العلم بالصانع وإثبات حدوث العالم لا يمكن إلا بهذه الطرق العقلية التي ذكروها غير صحيح، ويعتبر هذا الوجه -على طوله - من أهم الأوجه التي أوردها في هذا الكتاب وأكثرها إفادة لمن خاض في علم الكلام أو حسن الظن به، أو قلد شيوخه فيه. وإذا ثبت أن هذه العقليات ليست مما يتوقف صحة السمع عليها، وأن العلم بوجود الله ووحدانيته وحدوث ما سواه يمكن أن يعلم بطرق أخرى كثيرة - تبين فساد القانون العقلي الذي ردوا به نصوص الشرع. ويمكن تلخيص ما ذكره شيخ الإسلام في تقرير هذا الوجه كما يلي: أ - أن السلف أجمعوا على ذم علم الكلام، وعلم الكلام الذي ذموه ليس المصطلحات الحادثة - كما ظن بعض أهل الكلام - بل ذموا علم الكلام القائم على هذه الطرق المبتدعة كطريقة حدوث الأجسام وغيرها -وقد سبق شرح ذلك ضمن هذا الفصل - والذين نقلوا ذم السلف لعلم الكلام هم أئمة الأشاعرة، كالغزالي (2) وأبي الحسن الأشعري الذي ذكر في رسائله إلى أهل الثغر   (1) انظر: درء التعارض (7/141-142) . (2) انظر: المصدر السابق (7/144) ، وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 864 أن الرسل لم يدعوا إلى هذا الدليل المبتدع، دليل الأعراض وحدوث الأجسام (1) . وكذلك نقل ذلك الشهرستاني (2) والرازي (3) والخطابي (4) . ولما كانت طريقة الأعراض من الطرق التي جعلها الأشاعرة أصلاً في الدلالة على صدق الرسول، وأن السلف ذموها قال شيخ الإسلام معلقاً: " وإذا كان كذلك تبين أن العلم بصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس موقوفاً على شيء من المقدمات المتناقضة لإثبات الصفات الخبريةن والرؤية، والعلو على العرش، ونحو ذلك مما دل عليه السمع وهو المطلوب (5) "، ويقول بعد نقل كلام ابن عساكر والبيهقي ومناقشته: " قلت: وهذا اتفاق علماء الأشعرية مع غيرهم من الطوائف المعظمين للسلف على أن الكلام المذموم عند السلف: كلام من يترك الكتاب والسنة، ويعول في الأصول على عقله، فكيف بمن يعارض الكتاب والسنة بعقله؟ وهذا هو الذي قصدنا إبطاله " (6) ، وبهذا تتضح حقيقتان: إحدهما: اتفاق السلف وإجماعهم على ذم هذا الكلام المبتدع المبني على الأصول العقلية المخالفة للشرع. والثانية: أن علماء الكلام أنفسهم - وفيهم الأشاعرة - قد شهدوا على اتفاق السلف على ذم الكلام، وإذا كانت هذه الطرق المبتدعة من علم الكلام المذموم فكيف يقال: إنها أصل الشرع؟ ب - أن الفلاسفة بينوا فساد طرق هؤلاء المتكلمين، يقول شيخ الإسلام، " ومما يوضح ذلك أن هذه الطرق المبتدعة في الإسلام في إثبات الصانع التي أحدثتها المعتزلة والجهمية، وتبعهم عليها من وافقهم من الأشعرية وغيرهم من أصحاب   (1) انظر: درء التعارض (7/186) وما بعدها. (2) انظر: المصدر السابق (7/227) . (3) انظر: المصدر نفسه (7/228) . (4) انظر: المصدر نفسه (7/279) ،وما بعدها، وقد نقل عنه نصوصاً طويلة. (5) انظر: درء التعارض (7/242) . (6) المصدر السابق (7/274-275) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 865 الأئمة الأربعة وغيرهم، قد طعن فيها جمهور العقلاء، فكما طعن فيها السلف والأئمة وأتباعهم، وذموا أهل الكلام بها، كذلك طعن فيها حذاق الفلاسفة وبينوا أن الطرق التي دل عليها القرآن العزيز أصح منها، وإن كان أولئك المعتزلة والأشعرية أقرب إلى الإسلام من هؤلاء الفلاسفة من وجه آخر " (1) ، وقد نقل ش شيخ الإسلام كلام أبي الوليد بن رشد وعلق عليه (2) ، وقال بعد إتمام النقول الطويلة عنه ونقده لطرق الأشاعرة العقلية: " قلت: فهذا الرجل مع أنه من أعيان الفلاسفة المعظمين المعتنين بطريقة الفلاسفة المشائين كأرسطو وأتباعه، يبين أن الأدلة العقلية الدالة على إثبات الصانع مستغنية عما أحدثه المعتزلة، ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم، من طريقة الأعراض ونحوها، وأن الطرق الشرعية التي جاء بها القرآن هي طرق برهانية تفيد العلمن للعامة والخاصة، والخاصة عنده يدخل فيهم الفلاسفة، والطرق التي لأولئك هي مع طولها وصعوبتها لا تفيد العلم لا للعامة ولا للخاصة، هذا مع أنه لم يقدر القرآن قدره، ولم يستوعب الطرق التي في القرآن، فإن القرآن قد اشتمل على بيان المطالب الإلهية بأنواع من الطرق وأكمل الطرق.." ثم قال شيخ الإسلام: " ولنا مقصودان: أحدهما: أن ما به يعلم ثبوت الصانع وصدق رسوله، لا يتوقف على هذه الطرق المعتزلية الجهمية، وهذه الطرق هي التي يقال: إنها عارضت الأدلة الشرعية، ويقال: إن القدح فيها قدح في أصل الشرع، فإذا تبين أنها ليست أصلاً للعلم بالشرع كما أنها ليست أصلاً لثبوته في نفسه بالاتفاق، بطل قول من يزعم أن القدح في هذه العقليات قدح في أصل الشرع، وهو المطلوب. والمقصود الثاني: أن هذه العقليات المعارضات للشرع باطلة في نفسها، وإن لم نقل: إنها أصل للعلم به " (3) . والخلاصة: أن هذه الطرق العقلية ذمها السلف، وعلماء الأشاعرة والفلاسفة فكيف يعارض بها السمع؟   (1) انظر: درء التعارض (7/242) . (2) انظر: المصدر السابق (7/345-352، 9/68-333) . (3) انظر: المصدر نفسه (9/333-334) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 866 جـ - أن قول هؤلاء: إن معرفة الصانع ليس لها دليل إلا دليل حدوث الأجسام قول مردود لأن العلماء اختلفوا في معرفة الله، هل تحصل ضرورة أم لا، وقد ساق شيخ الإسلام الخلاف في ذلك (1) ، ونقل أقوال الأشاعرة، وإقرارهم أنها قد تقع ضرورة (2) - ثم قال معلقاً: " فقد تبين أن جمهور النظار من جميع الطوائف يجوزون أن تحصل المعرفة بالصانع بطريق الضرورة، كما هو قول الكلابية والأشعرية، وهو مقتضى قول الكرامية والضرارية، والنجارية والجهمية وغيرهم، وهو قول طوائف أهل السنة من أهل الحديث والفقهاء وغيرهم" (3) . وقال بعد نقل إقرار الشهرستاني بأن معرفة الله تقع ضرورة: " قلت: فهذا كله كلام الشهرستاني، وهو من أئمة المتأخرين من النظار وأخبرهم بالمقالات، وأن الفطرة تشهد بضرورتها وبديهة فكرتها بالصانع الحكيم، إلى آخر ما ذكره، وأن ما تنتهي إليه مقدمات الاستدلال بإمكان الممكنات أو حدوثها من القضايا الضرورية، دون ما شهدت به الفطرة الإنسانية من احتياج الإنسان في ذاته إلى مدبر " (4) . ولتكملة هذا الموضوع وأهميته في نقض هذا القانون الفاسد الذي زعموه ذكر شيخ الإسلام أن الخلاف وقع في وجوب النظر المؤدي إلى المعرفة، والذي زعم هؤلاء أنه النظر في دليل الأعراض (5) ، وأيضاً اختلف قوم في النظر هل هو فرض على الأعيان أو على الكفاية (6) ، ثم هل المعرفة تحصل بالسمع أو بالعقل (7) .   (1) منهم من يقول: إنها لا تحصل إلا بالنظر، وهذا قول أهل الكلام من المعتزلة، والأشاعرة، ومنهم من قال: إن المعرفة يخترعها الله في القلوب من غير نظر ولا بحث وهذا قول الصوفية والشيعة، والجمهور من طوائف المسلمين قالوا: يمكن أن تقع ضرورة ويمكن أن تقع بالنظر، انظر: درء التعارض (7/352-354) . (2) انظر: درء التعارض (7/352-395) . (3) انظر: المصدر السابق (7/395) . (4) انظر: المصدر نفسه (7/403) . (5) انظر: المصدر نفسه (7/405) . (6) انظر: المصدر نفسه (7/440) وما بعدها. (7) انظر: المصدر نفسه (8/24) وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 867 وهذا كله يدل على أن كلام العلماء قائم على بيان تنوع الطرق المؤدية إلى المعارف، يقول شيخ الإسلام، معلقاً: " فطرق المعارف متنوعة في نفسها، والمعرفة بالله أعظم المعارف، وطرقها أوسع وأعظم من غيرها، فمن حصرها في طريق معين بغير دليل يوجب نفياً عاماً لما سوى تلك الطريق لم يقبل منه، فإن النافي عليه الدليل، كما أن المثبت عليه الدليل " (1) . د - أن كثيراً ممن يوجب هذه الطريقة ويصححها - أي طريقة حدوث الأجسام - قد رجع عن ذلك، وتبين لهم ذم هذا الكلام، وذلك مثل الجويني والغزالي والرازي وغيرهم (2) ، وقد استشهد شيخ الإسلام بكلام الجويني (3) ، وبكلام الأشعري في اللمع حيث عول على دليل حدوث صفات الأجسام (4) ، وبين شيخ الإسلام أن دليله - وإن لم يكن هو دليل القرآن القائم على إثبات حدوث الأجسام نفسها وإيجادها من عدم - إلا أنها أحسن وأكمل من دليل الأعراض الذي يوجبه كثير من هؤلاء، ثم نقل كلام الباقلاني في شرح اللمع ورد عليه تحوير كلام الأشعري بأنه يقصد دليل الأعراض، وقد أطال شيخ الإسلام النقول عن الباقلاني وعلق عليها كثيراً (5) ، وأشار إلى ذلك مبيناً أن طريقة الأشعري خير من طريقة الباقلاني، وطريقة الباقلاني خير من طريقة المعتزلة (6) . هـ - ركز على بيان دليل الفطرة، والأحاديث الواردة فيها، ثم نقل أقوال   (1) انظر: درء التعارض (8/46) . (2) انظر: درء التعارض (8/47-348) . (3) انظر: المصدر نفسه (8/47-51) (4) انظر: المصدر نفسه (8/70-73) ، وانظر تعليقات شيخ الإسلام في (8/100،335-336) . (5) انظر كلام الباقلاني في درء التعارض (8/81،103-106) ، وقد رد عليه شيخ الإسلام من وجهين: أحدهما: (8/106) ، والثاني (8/310) ، وذكر بينهما كلاماً طويلاً تضمن مناقشات بين الفلاسفة والمتكلمين حول ترجيح الممكن بلا مرجح، وبين تناقضهم جميعاً. (6) انظر: درء التعارض (8/303-304) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 868 العلماء في المراد بها (1) ، ورجح أن المقصود بها فطرة الإسلام (2) ، وذكر أن الأدلة العقلية تدل على صدق ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن كل مولود يولد على الفطرة (3) ، ثم استشهد بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذريات:56) ، وذكر الخلاف في الآية حول المقصود بالعبادة، وهل وقعت منهم جميعاً أو من بعضهم (4) ، ثم بين أنه على جميع الأقوال فالآية دالة على " أن جميع الإنس والجن مقرون بالخالق معترفون به، مقرون بعبوديته طوعاً وكرها، وذلك يقتضي أن هذه المعرفة من لوازم نشأتهم، وأنه لم ينفك عنها أحد منهم، مع العلم أن النظر المعين الذي يوجبه الجهمية والمعتزلة لا يعرفه أكثرهم، فعلم بذلك ثبوت المعرفة والإقرار بدون هذا النظر" (5) . وبعد أن ربط بين موضوع الفطرة وما يقوله كثير من أهل الكلام وغيرهم من أن المعرفة قد تحصل بغير العقل (6) ، قال شيخ الإسلام: " قد ذكرنا ماتيسر من طرق الناس في المعرفة، ليعرف أن الأمر في ذلك واسع وأن ما يحتاج الناس إلى معرفته، مثل الإيمان بالله ورسوله، فإن الله يوسع طرقها وييسرها، وإن كان الناس متفاضلين في ذلك تفاضلاً عظيماً، وليس الأمر كما يظنه كثير من أهل الكلام من أن الإيمان بالله ورسوله لا يحصل إلا بطريق يعينونها " (7) . والطرق التي سلكها هؤلاء في إثبات حدوث العالم جمعت وصفين: " أن الجمهور ليس في طباعهم قبولها، ولا هي مع هذا برهانية، فليست تصلح لا للعلماء ولا للجمهور " (8) ، وقد سبقت الإشارة إلى نقد ابن رشد   (1) انظر: درء التعارض (8/359) ، إلى نهاية الجزء، وقد اعتمد في نقل الأقوال فيها على ما ذكره ابن عبد البر في التمهيد، انظر: درء التعارض (8/366-444) ، وقارن النصوص بما في التمهيد في الجزء المطبوع أخيراً (18/57-93) ، مع ملاحظة أن النقول فيها تقديم وتأخير. (2) انظر: درء التعارض (8/371-410) . (3) انظر: المصدر السابق (8/456) وما بعدها. (4) انظر: المصدر نفسه (8/468-479) . (5) درء التعارض (8/479-480) ، وانظر أيضاً (8/482) . (6) انظر: المصدر السابق (9/3-66) . (7) المصدر نفسه (9/66) . (8) المصدر نفسه (9/75) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 869 الفيلسوف لطرق المتكلمين (1) ، وطرق الفلاسفة والمتكلمين كلها باطلة، ومنشأ ضلالهم أنهم نفوا صفات الله وأفعاله القائمة بنفسه (2) . و ذكر مسألة صفات الله ضمن ما نقله عن ابن رشد، فذكر صفة العلم، وأطال حولها الكلام راداً على الفلاسفة نفاة علم الله بالجزئيات (3) ، كما ذكر صفة الإرادة (4) ، والكلام (5) ، والسمع والبصر (6) ، ثم ذكر مسألة التنزيه، وما يتعلق به من مسألة التجسيم (7) . ثم قال معلقاً: " وهذه الطرق التي يسلكها نفاة الجسم وأمثالهم أحسن أحوالها أن تكون عوجاً طويلة قد تهلك، وقد توصل؛ إذ لو كانت مستقيمة موصلة لم يعدل عنها السلف، فكيف إذا تيقن أنها مهلكة؟ ولا ريب أن الذين يعارضون الكتاب والسنة إنما يعارضونها بطرق هؤلاء، فهم يعرضون عن كتاب الله في أول سلوكهم ويعارضونه في منتهى سلوكهم وقد قال تعالى:) {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى* وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه:123-124) ، فقد بين أن حذاق الفلاسفة أيضاً يثبتون أن التصديق بما جاء به الشارح لا يتوقف على شيء من الطرق الكلامية المحدثة، ولا شيء من طرقهم الفلسفية" (8) . فالصفات ثابتة لله تعالى، والأدلة العقلية توافق الأدلة النقلية في إثباتها، والفلاسفة أقروا بهذه الصفات على وجه الإجمال، فدل ذلك على أن من زعم أن شبهة التركيب أو التجسيم قاطعة في وجوب نفي صفات الله أو بعضها؛ فقوله من أعظم البهتان والباطل.   (1) انظر: درء التعارض (9/68-379) . (2) انظر: المصدر السابق (9/252) . (3) انظر: المصدر نفسه (9/379-434، 10/3-196) . (4) انظر: المصدر نفسه (10/197-199) . (5) انظر: المصدر نفسه (10/199-224) . (6) انظر: المصدر نفسه (224-225) . (7) انظر: المصدر نفسه (10/225) إلى نهاية الكتاب. (8) درء التعارض (10/316-317) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 870 وبهذه الأدلة والمناقشات يتبين أن هذه العقليات التي ذكرها أصحاب هذا القانون ليست مما يتوقف صحة السمع عليها، بل هي باطلة، ومعرفة الله ومعرفة حدوث العالم تعلم بطرق عديدة منها الضرورة والفطرة التي تحصل عند العبد، وإذا كان كذلك فما ادعاه هؤلاء من أن معرفة الله ومعرفة حدوث العالم لا يعلم إلا بهذا الطريق الذي ذكروه غير صحيح، فبطل قانونهم، والحمد لله رب العالمين. * ... * ... * هذا ملخص منهج شيخ الإسلام في بيان عدم تعارض العقل والنقل، والرد على الأشاعرة - وغيرهم- في قانونهم الفاسد الذي ردوا به كثيراً من النصوص وتأولوها تأويلات باطلة، ولاشك أن المسألة خطيرة وذات جذور عميقة - ضل بسببها كثير من الناس - ومن ثم أفرد لها شيخ الإسلام هذا الكتاب الفريد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 871 ثامناً: الرد على متأخري الأشاعرة بأقوال شيوخهم، وردود بعضه على بعض. وأساس الرد التطور الذي حدث للمذهب الأشعري الذي سبق تفصيل القول فيه، وشيخ الإسلام كثيراً ما يشير إليه ويبين أنهم طبقات - حسب القرب والبعد عن أهل السنة ومذهبهم الصحيح - فابن كلام أقرب من الجويني وطبقته، والجويني أقرب من الرازي وطبقته (1) ، بل إن شيخ الإسلام يقرر من خلال تتبع دقيق أن أئمة الأشعرية الذين كانوا في العراق كأبي الحسن الأشعري والباهلي، وابن مجاهد، والباقلاني، وغيرهم، أقرب إلى السلف من أشعرية خراسان كأبي بكر بن فورك ونحوه (2) . وانحراف متأخري الأشاعرة عن متقدميهم أمر مشتهر حتى إن أبا العباس أحمد بن ثابت الطرقي (3) الحافظ صاحب كتاب اللوامع في الجمع بين الصحاح والجوامع، والمتوفى سنة 521هـ، قال في مسألة الاستواء من تأليفه: " ورأيت هؤلاء الجهمية ينتمون في نفي العرش وتعطيل الاستواء إلى أبي الحسن الأشعري، وما هذا بأول باطل ادعو، وكذب تعاطوه، فقد قرأت في كتابه الموسوم بالإبانة عن أصول الديانة أدلة من جملة ما ذكر على إثبات الاستواء، وقال في جملة ذلك: ومن دعاء أهل الإسلام جميعاً إذا رغبوا إلى الله في الأمر النازل بهم، يقولون جميعاً: يا ساكن العرش، ثم قال: ومن سلفهم جميعاً قولهم: لا والذي احتجب   (1) سبقت الإشارة إلى ذلك عند الحديث عن جوانبهم الإيجابية، وانظر أيضاً منهاج السنة (2/77) ، ط مكتبة الرياض الحديثة، وأيضاً (3/69) ، والمسألة المصرية في القرآن، مجموع الفتاوي (12/202-203) ، ونقض التأسيس المطبوع (2/348) ، ودرء التعارض (8/91) . (2) انظر: التأسيس المطبوع (2/344-345) . (3) "الطرقي" بفتح الطاء وسكون الراء، وطرق: قرية من أصبهان، وأبو العباس الطرقي كان عارفاً بالفقه والأصول، يحكى عنه أنه كان يقول إن الروح قديمة، وهذه من زلاته -رحمه الله- توفي سنة 521هـ، انظر: الأنساب (8/235) ، - ط لبنان، وميزان الاعتدال (1/86) ، لسان الميزان (1/143) ، والوافي (6/282) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 872 بسبع سموات " (1) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - بعد نقله النص السابق: " وكذلك الشيخ نصر المقدسي له تأليف في الأصول نقل فيه فصولاً من كتاب الإمانة " (2) . وهذا يدل على أن هذا المنهج - وهو الرد على متأخري الأشاعرة بأقوال متقدميهم وأئمتهم الذين ينتسبون إليهم - قد استخدمه العلماء قبل شيخ الإسلام ابن تيمية. وقد استخدم شيخ الإسلام هذا المنهج في كتبه المختلفة وركز عليه كثيراً، لأنه رأى فيه فوائد عملية، ومن ذلك ما جرى في المناظرة حول الواسطية، وهي المناظرة الثانية التي حضرها صفي الدين الهندي، حيث إن شيخ الإسلام ذكر أنه قبل هذا المجلس اجتمع به بعض أكابر الشافعية من الأشعرية وعبروا له عن خوفهم من أن تظهر حجته على خصومه دون أن يكون من أئمة أصحابهم الأشعرية من يوافقها، يقول شيخ الإسلام: " وكان مقصودي تقرير ما ذكرته على قول جميع الطوائف، وأن ابين اتفاق السلف ومن تبعهم على ما ذكرت، وأن أعيان المذاهب الأربعة، والأشعري، وأكابر أصحابه، على ما ذكرته؛ فإنه قبل المجلس الثاني اجتمع بي من أكابر علماء الشافعية والمنتسبين إلى الأشعرية، والحنفية، وغيرهم ممن عظم خوفهم من هذا المجلس، وخافوا انتصار الخصوم فيه، وخافوا على نفوسهم أيضاً من تفرق الكلمة، فلو أظهرت الحجة التي ينتصر بها ما ذكرته و (3) لم يكن من أئمة أصحابهم من يوافقها لصارت فرقة، ولصعب عليهم، أن يظهروا في المجالس العامة الخروج عن أقوال طوائفهم، بما في ذلك من تمكن أعدائهم من أغراضهم، فإذا كان من أئمة مذاهبهم من يقول ذلك، وقامت عليه الحجة، وبان أن مذهب السلف: أمكنهم إظهار القول به، مع ما يعتقدونه في الباطن من أنه الحق.. وقلت لمن خاطبني من أكابر   (1) نقض التأسيس المخطوط (1/85) . (2) المصدر السابق، نفس الصفحة. (3) في المطبوعة من مجموع الفتاوي [أو] وكذا في العقود الدرية (ص: 241) ، وسياق الكلام يقتضي أنها بالواو فقط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 873 الشافعية: لأبين أن ما ذكرته من قول السلف وقول أئمة أصحاب الشافعي، وأذكر قول الأشعري، وأئمة أصحابه التي ترد على هؤلاء الخصوم، ولينتصر كل شافعي، وكل من قال بقول الأشعري الموافق لمذهب السلف، وأبين أن القول المحكى عنه في تأويل الصفات الخبرية قول لا أصل له في كلامه، وإنما هو قول طائفة من أصحابه، فللأشعرية قولان ليس للأشعري قولان " (1) . والأشاعرة المتأخرون في أوقات محنهم يلجأو إلى أقوال أئمتهم، ينقلونها ويستشهدون بها ليبينوا سلامة معتقدهم وصحة مذهبهم، وهذا ما فعله القشيري في الشكاية المشهورة، وابن عساكر في تبيين كذب المفتري. ولاشك أن المنهج الذي سلكه شيخ الإسلام في الرد على أقوال المتأخرين: بأقوال شيوخهمن الذي يعتزون بالانتساب إليهم له قيمته الكبرى وأثره البالغ لأمرين: أحدهما: أن هذه النقول أتى بها شيخ الإسلام موثقة، ومنقولة بحروفها من كتبهم المشهورة التي تناقلها المتأخرون واعتزوا بها، ونقلوا عنها ما يوافق أقوالهم من المسائل التي لم يختلف فيه قول متقدمي الأشاعرة عن قول متأخريهم، ولذلك لم يستطع أحد منهم الطعن فيما نقله شيخ الإسلام، ولم يقل: إن هذا منسوب إلى أئمتهم، أو إنه حكاية لمذهبهم - كما تحكي بعض كتب الفرق أقوال الطوائف، وقد يكون في الحكاية زيادة أو نقص، وتقديم أو تأخير يخل المعنى - ولاشك أن الأمانة والمنهج العلمي الذي وفق إليه شيخ الإسلام، جعل أعداءه ومعارضيه يرضحون له في ذلك مع حرصهم الشديد على النيل منه ومن أقواله وكتبه، ولتوضيح ذلك يمكن ذكر هذين المثالين: المثال الأول: قال بعض متأخري الأشعرية: إن للأشعري في الصفات الخبرية قولين: قول بالتأويل، وقول بالإثبات، فلما جاء شيخ الإسلام - وهو المطلع على كتب الفرق - أوضح مراراً أنه ليس للأشعري فيها إلا قول واحد هو الإثبات، وأتى بالدلالة على ذلك من كتبه، أما الذين يزعمون أن له قولاً آخر فحتى الآن لم ينقل أحد منهم نصاً من كتب الأشعري يدل على ذلك.   (1) مناظرة حول الواسطية، مجموع الفتاوي (3/188-190) ، والعقود الدرية (ص: 241-242) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 874 والمثال الثاني: لما نقل شيخ الإسلام عن الباقلاني في كتابه التمهيد نصاً يثبت فيه الاستواء والعلو ويمنع من تأويله، قال الكوثري وبعض الباحثين - المائلين إلى المذهب الأشعري - وهم بصدد تحقيق التمهيد عن نسخة خطية ناقصة - قالوا: إن ابن تيمية وابن القيم - الذي نقل النص أيضاً في اجتماع الجيوش - قد كذبا أو وهما على الباقلاني، ولما حقق التمهيد مرة أخرى - على يد نصراني - تبين صدق شيخي الإسلام، وخطأ الكوثري وأصحابه (1) . والثاني: أن هذه النقول نص صريح في مخالفتها لأقوال متأخري الأشعرية، وليست مما يقبل التأويل أو اختلاف المفاهيم حولها، فمثلاً جين يؤول المتأخرون الاستواء بالاستيلاء ويمنعون من إثباته وإثبات الاستواء، ودلالته على العلو، تورد عليهم أقوال الأشعري وغيره التي نصول فيها على إثبات الاستواء، ودلالته على العلو، وقولهم: إن تأويله بالاستيلاء هو قول خصومهم المعتزلة، وليس للمتأخرين -المنتسبين إلى الأشعري - هنا إلا الاعتراف والفرار إلى التفويض وأن هذا هو حقيقة مذهب الأشعري، ولكن ماذا يصنعون بقوله: إن تأويل الاستواء بالاستيلاء هو قول المعتزلة؟ وبنصوصه الأخرى في إثبات علو الله على خلقه؟ ولأهمية هذا في إقناع الخصوم - وأتباعهم -ركز عليه شيخ الإسلام وأضاف إليه جانباً آخر وهو ردود بعض الأشاعرة على بعض سواء كانوا متقدمين أو متأخرين، لأن هذا أيضاً يفيد في بيان ضعف المذهب وضعف الأدلة التي اعتمدوا عليها، فهذان جانبان رئيسيان ركز عليهما شيخ الإسلام. أ - فمن الأمثلة على الجانب الأول: 1 - في مسألة العلو والاستواء التي أنكرها متأخرو الأشعرية، رد شيخ الإسلام على زعيمهم الرازي بأن نقل نصوصاً من كلام شيوخه من الأشاعرة يثبتون فيها العلو لله تعالى (2) ، وفي موضع آخر من نفس الكتاب رد على الرازي   (1) سبق بيان ذلك بالتفصيل في ترجمة الباقلاني عند الكلام على تطور المذهب الأشعري. (2) انظر: نقض التأسيس المخطوط (1/32-33) - نص كلام الرازي، (ص: 33-63) الرد عليه من كلام شيوخه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 875 في هذا الموضوع وفي موضوع الصفات الخبرية التي أوّلها الرازي وأصحابه، فنقل شيخ الإسلام كلام الأشعري في الإبانة والمقالات، وكلام الباقلاني (1) ، ثم قال: " فإذا كان قول ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابه، وهو الذي ذكروا أنه اتفق عليه سلف الأمة وأهل السنة أن الله فوق العرش وأن له وجهاً ويدين، وتقرير ما ورد في النصوص الدالة على أنه فوق العرش، وأن تأويل استوى بمعنى استولى هو تأويل المبطلين، ونحو ذلك، علم أن هذا الرازي ونحوه هم مخالفون لأئمتهم في ذلك، وأن الذي نصره ليس هو قول ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابه، وإنما هو صريح قول الجهمية والمعتزلة ونحوهم، وإن كان قد قاله بعض متأخري الأشعرية كأبي المعالي ونحوه " (2) ، ثم اتبع ذلك بنقل مذهب جمهرة كبيرة من أئمة السلف (3) ، تؤيد ما ذهب إليه الأشعري وأئمة أصحابه في هذا الباب. 2 - وفي معرض رده على دليل حدوث الأجسام الذي أوجبه كثير من متأخري الأشعرية كالجويني يقول شيخ الإسلام عنه: " وبالجملة فإنه وإن كان أبو المعالي ونحوه يوجبون هذه الطريقة، فكثير من أئمة الأشعرية - أو أكثرهم - يخالفونه في ذلك ولا يوجبونها، بل إما أن يحرموها، أو يكرهوها، أو يبيحوها، وغيرها، ويصرحون بأن معرفة الله تعالى لا تتوقف على هذه الطريقة ولا يجب سلوكها، ثم هم قسمان: قسم يسوقها، ويسوق غيرها، ويعدها طريقاً من الطرق، فعلى هذا إذا فسدت لم يضرهم، والقسم الثاني: يذمونها، ويعيبونها، ويعيبون سلكوها وينهون عنها، إما نهي تنزيه وإما نهي تحريم " (4) ،ثم نقل عن الخطابي في شعار الدين والغنية ما يدعم قوله (5) ، وأشار إلى رسائل الأشعري إلى أهل الثغر (6) ، وأنها توافق ما قاله الخطابي، وقد نقل كلام   (1) انظر: نقض التأسيس المطبوع (2/15-35) . (2) انظر: المصدر السابق (2/35) . (3) انظر: المصدر نفسه (2/35-44) . (4) انظر: المصدر نفسه (2/249) . (5) انظر: المصدر نفسه (2/249-255) . (6) انظر: المصدر نفسه (2/255) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 876 الأشعري فيها كاملاً في كتاب آخر (1) . 3 - وعند ذكر الصفات الخبرية وغيرها مما يتأوله الجويني وأصحابه، قال شيخ الإسلام راداً عليه: " فدعواه أن دلالة القرآن والأخبار على ذلك ليست قطعية يخالفه في هذه الدعوى أئمة السلف وأهل الحديث والفقه والتصوف، وطوائف من أهل الكلام من أصحابه وغيرهم، فإن عندهم دلالة النصوص على ذلك قطعية، وأما الأخبار فأكثر أصحابه أنها إذا تلقيت بالقبول أفادت العلم، كما تقدم ذكرهم لذلك عن الأستاذ أبي إسحاق، وهذا الذي ذكره أبو بكر ابن فورك هو معنى ما ذكره الأشعري في كتبه عن أهل السنة والحديث، وذكر أن قوله، وإن الإيمان بموجب هذه الأخبار واجب " (2) ، والذي أشار إليه شيخ الإسلام بأنه تقدم ما نقله عن أبي القاسم النيسابوري الأنصاري (3) - شارح الإرشاد للجويني - فإنه قال في كتابه هذا حين نقل منع الجويني إثبات الصفات بظواهر الآيات: " هذا ما قاله الإمام، وقد رأيت في كتب الأستاذ أبي إسحاق (4) قال: ومما ثبت من الصفات بالشرع الاستواء على العرش، والمجيء يوم القيامة بقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه:5) ، وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} (الفجر:22) ، ومما ثبت بالأخبار الصحيحة النزول إلى السماء الدنيا كل ليلة (5) ، وقوله: " أنا عند ظن عبدي بي، فليظن   (1) انظر: درء التعارض (7/186-219) ، وانظر: النبوات (ص:62) . (2) نقض التأسيس المطبوع (2/86-87) . (3) هو أبو القاسم سلمان بن ناصر بن عمران النيسابوري، الصوفي، الشافعي، تتلمذ على الجويني وخدم القشيري، وتتلمذ عليه الشهرستاني، اشتهر بالتصوف والتبحر في علم الكلام من أشهر كتبه شرح الإرشاد للجويني، توفي سنة 511هـ، وقيل 512هـ، انظر: تهذيب ابن عساكر (6/213) ، وطبقات السبكي (7/96) ، وطبقات الأسنوي (1/64) ، والوافي (15/314) ، وسير أعلام النبلاء (19-412) . (4) الأسفراييني. تقدمت ترجمته (ص: 239) .. (5) أحاديث النزول مشهورة، مروية في كافة كتب السنة، رويت عن جمهرة من الصحابة - رض الله عنهم - البخاري - كتاب التجهد، باب الدعاء في الصلاة آخر الليل، رقمه (1145) ، (فتح الباري 3/29) ، الدعوات برقم (632) ، وفي التوحيد برقم (7494) ، ومسلم كتاب صلاة المسافرين -باب الترغيب في الدعاء والذكر برقم (758) ، وللدارقطني كتاب النزول، مطبوع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 877 بي ما شاء "، " ومن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ". الحديث (1) . قال: وأجمع أهل النقل على قبول هذين الخبرين، وما هذا وصفه كان موجبا للعمل ومقبولا في مسائل القطع، هذا ما ذكره الأستاذ في هذا الكتاب" (2) ، وهكذا فالاسفراييني وابن فورك يردان على الجويني في زعمه أن أخبار الآحاد -الثابتة- لا يحتج بها في العقائد لأنها لا تفيد العلم. وقد تقدم بيان هذه المسألة. هذه بعض النماذج وهناك نماذج أخرى كثيرة (3) . ب - ومن الأمثلة على الجانب الثاني، وهو ردود بعض الأشاعرة على بعض: 1- ذكر شيخ الإسلام أن كل طائفة تقول عن الأخرى إن مذهبها متناقض ومن هؤلاء الأشاعرة، فمثلا " نفاة الجهة منهم يقولون: إن أدلتهم (4) وأئمتهم الذين يقولون: إن الله تعالى فوق العرش وإنه ليس بجسم متناقضون، وكذلك نفاة الصفات الخبرية منهم يقولون: إن مثبتيها مع نفي الجسم متناقضون، حيث أثبتوا ما هو عرض في المخلوقات كالعلم والقدرة والحياة، وليس هو بعرض في حق الخالق، ولم يثبتوا ما هو جسم في حق المخلوق كاليد والوجه، ويقولون ليس بجسم في حق الخالق " (5) . وليس المقصود الإشارة إلى التناقض في مذهب الأشاعرة - لأن هذا سيأتي في الفقرة القادمة - وإنما المقصود أن كل طائفة ترد على الأخرى وتقول: إن قولها متناقض، وكلهم ينسبون أقوالهم إلى المذهب الأشعري.   (1) متفق عليه: البخاري كتاب التوحيد، باب ويحذركم الله نفسه، ورقمه 7405، الفتح (13/384) ، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب الحث على ذكر الله، ورقمه 2675. (2) عن نقض التأسيس المطبوع (1/82-83) . (3) انظر مثلا: درء التعارض (4/111-115، 215-216، 7/245-247) . (4) كذا في المطبوع. (5) نقض التأسيس المطبوع (1/93-94) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 878 2- وفي مسألة دليل حدوث الأجسام، ذكر شيخ الإسلام براهين الرازي على حدوث الأجسام وحدوث العالم، ثم ذكر اعتراضات الآمدي على كل واحدة منها وقال: " وكان المقصود ما ذكروه في تناهي الحوادث، ولهذا لم يعتمد الآمدي في مسألة حدوث العالم على شيء من هذه الطرق، بل بين ضعفها، واحتج بما هو مثلها أو دونها في الضعف ... والوجوه التي ضعف بها الآمدي ما احتج به من قبله على حدوث الأجسام يوافق كثير منها ما ذكره الأرموي، وهو [أي الآمدي] متقدم على الأرموي، فإما أن يكون الأرموي رأى كلامه وأنه صحيح فوافقه، وإما أن يكون وافق الخاطر الخاطر كما يوافق الحافر الحافر، أو يكون الأرموي والآمدي أخذا ذلك أو بعضه من كلام الرازي أو غيره، وهذا الإحتمال أرجح ... وبكل حال فهما - مع الرازي ونحوه - من أفضل بني جنسهم من المتأخرين، فاتفاقهما دليل على قوة هذه المعارضات، لا سيما إذا كان الناظر فيها ممن له بصيرة من نفسه، يعرف بها الحق من الباطل في ذلك، بل يكون تعظيمه لهذه البراهين لأن كثيرا من المتكلمين من هؤلاء وغيرهم اعتمد عليها في حدوث الأجسام، فإذا رأى هؤلاء وغيرهم من النظار قدح فيها وبين فسادها علم أن نفس النظار مختلفون في هذه المسألة، وأن هؤلاء الذين يحتجون بها هم بعينهم يقدحون فيها وعلى القدح فيها استقر أمرهم، وكذلك غيرهم قدح فيها كأبي حامد الغزالي وغيره " (1) . وقد نقل شيخ الإسلام أقوال كل من الرازي والآمدي والأرموي، وقدح هذين في أدلة حدوث الأجسام التي ذكرها الرازي، نقل كل ذلك من كتبهم، وهو يدل على الاستقصاء الممتاز الذي يتميز به منهج شيخ الإسلام، وهذا الاستقصاء والمتابعة تفيد كثيرا في بيان كيف يرد بعض هؤلاء على بعض، مما يبين فساد الحجج التي يقوم عليها مذهبهم. 3- ومن المسائل المشهورة عند الأشاعرة قولهم: إن الأعراض لا تبقى زمانين ليقولوا: إنها حادثة وإن الجسم لا يخلو منها فيكون الجسم حادثا، وبنوا على ذلك دليل حدوث العالم، كما أن من المسائل المشهورة قولهم: إن الأفعال   (1) انظر درء التعارض (3/30-31) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 879 يجب تناهيها على امتناع حوادث لا أول لها. يقول شيخ الإسلام معلقا على هذه المقدمات العقلية مبينا كيف طعن فيها علماؤهم: "وغاية هؤلاء أن الأعراض لا تبقى زمانين، وجمهور العقلاء يخالفون في ذلك. وأن الأفعال يجب تناهيها، وقد علم نزاع العقلاء فيها، وجمهورهم يمنعون امتناع تناهيها من الطرفين (1) . وقد ذكرنا اعتراض الأرموي وغيره على شيوخه في هذه المقدمات، وقد سبقه إلى ذلك الرازي وغيره، وقدحوا فيها قدحا بينوا به فسادها على وجه لم يتعرضوا عليه وإن كان الرازي يعتمدها في مواضع أخر، فنظره استقر على القدح فيها. وكذلك الأثير الأبهري في كتابه المعروف "بتحرير الدلائل في تقرير المسائل " هو وغيره قدحوا في تلك الطرق وبينوا فساد عمدة الدليل، وهو بطلان حوادث لا أول لها " (2) . وإذا كان الأمر كذلك فإن الأدلة العقلية التي هي عماد المذهب الأشعري طعن فيها بعض أعلامهم. وبذلك لم يأت رد المذهب ونقضه من خارج رجاله حتى يقال: إن هذه حال جميع الطوائف يرد بعضها على بعض، بل جاء الرد والنقض من داخل المذهب ومن رجال يعتبرون من العمد التي يرتكز عليها أتباع المذهب كل في زمنه وعصره. وهناك أمثلة أخرى (3) . وهي تدل مع ما سبق على أن شيخ الإسلام كان صاحب منهج متميز، تأتي ردوده مركزة ومقصودة وموثقة، ولم تكن ردودا عفوية يأتي بها من خلال المناقشة، خاصة في مثل هذه الطريقة التي تقتضي جمع الأقوال من المصادر المختلفة، وبيان كيف ينقض بعضها بعضا، ويرد بعضهم على بعض.   (1) أي الماضي والمستقبل، فيقولون: إنها تتناهى في الماضي، ولا تتناهى في المستقبل لأن نعيم الجنة لا ينفد. (2) درء التعارض (6/185) ، وانظر (8/157) . (3) انظر مثلا: درء التعارض (5/290) حيث إن كلام الرازي يرد على الجويني في مسألة أول واجب على المكلف، وانظر أيضا: شرح الأصفهانية (ص: 35-36) ، وكيف كان أبو حامد الأسفراييني يرد على الباقلاني في مسألة كلام الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 880 تاسعا: تناقض الأشاعرة : وهذا من أبرز السمات العامة لمنهج شيخ الإسلام في ردوده على الأشاعرة، وقد استخدمه كثيرا وهو يناقش المسائل الكثيرة التي خالفوا فيها مذهب السلف. والسؤال الذي يرد هنا هو: هل كان هذا المذهب يحمل في طياته منذ نشأته مبدأ التناقض؟ وبعبارة أخرى هل المنهج التلفيقي الذي أراده مؤسسوه، أن يبنوا عليه هذا المذهب أدى إلى الوقوع في التناقض؟ إن كلام شيخ الإسلام يدل على أنه يجيب بالإيجاب، فهو يقول عن أبي الحسن الأشعري بعد دفاعه عنه: " لكن كانت خبرته بالكلام خبرة مفصلة، وخبرته بالسنة خبرة مجملة، فلذلك وافق المعتزلة في بعض أصولهم التي التزموا لأجلها خلاف السنة، وأعتقد أنه يمكنه الجمع بين تلك الأصول وبين الانتصار للسنة، كما فعل في مسألة الرؤية والكلام والصفات الخبرية وغير ذلك. والمخالفون له من أهل السنة والحديث، ومن المعتزلة والفلاسفة، يقولون: إنه متناقض، وإن ما وافق فيه المعتزلة يناقض ما وافق فيه أهل السنة " (1) ، ويقول أيضا عن ابن كلاب والقلانسي والأشعري: " لكن في أقوالهم شيء من أصول الجهمية، وما يقول الناس: إنه يلزمهم بسببه التناقض، وأنهم جمعوا بين الضدين، وأنهم قالوا ما لا يعقل، ويجعلونهم مذبذبين، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء فهذا وجه من يجعل في قولهم شيئا من أقوال الجهمية " (2) . وهنا جمع شيخ الإسلام بين الأشعري وشيوخه من الكلابية في وقوعهم في التناقض. ولا شك أن الأشعري أراد أن يجمع بين الإيمان ببعض أصول المعتزلة والجهمية مع اتباع مذهب السلف، ولما كانت خبرته بمذهب السلف قليلة أراد أن يجمع بين تلك الأصول ومذهب السلف الذي حكاه بإجمال، حكى بعضه كما يعتقده، لا كما هو في واقع الأمر. يقول شيخ الإسلام عن الأشعري: " وأقرب   (1) المسألة المصرية في القرآن، مجموع الفتاوى (12/204-205) . (2) المصدر السابق (12/206) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 881 الأقوال إليه قول ابن كلاب، فأما ابن كلاب فقوله مشوب بقول الجهمية، وهو مركب من قول أهل السنة وقول الجهمية. وكذلك الأشعري في الصفات. وأما في القدر والإيمان فقوله قول الجهم. وأما ما حكاه عن أهل السنة والحديث وقال: " وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول إليه نذهب " (1) ، فهو أقرب ما ذكره، وبعضه ذكره عنهم على وجهه، وبعضه تصرف فيه وخلطه بما هو من أقوال جهم في الصفات والقدر؛ إذ كان هو نفسه يعتقد صحة تلك الأصول. وهو يحب الانتصار لأهل السنة والحديث، وموافقتهم، فأراد أن يجمع بين ما رآه من رأى أولئك، وبين ما نقله عن هؤلاء، ولهذا يقول فيه طائفة: إنه خرج من التصريح إلى التمويه، كما يقوله طائفة: إنهم الجهمية الأناث، وأولئك الجهمية الذكور " (2) . والتناقض الذي وقع فيه متقدمو الأشعرية، موجود في مذهبهم في الصفات، وكلام الله، والقدر، وغير ذلك من المسائل التي خالفوا فيها أهل السنة. والشيء الملفت هنا - أن المتأخرين من الأشاعرة، وهم أكثر تناقضا - اتهموا المتقدمين من أئمتهم بالتناقض، يقول شيخ الإسلام عن ابن كلاب والأشعري وبعض الصفاتية: إنهم يقولون: إن الله تعالى فوق العرش، وإنه مع ذلك ليس بجسم ولا متحيز قال شيخ الإسلام: " والمنازعون لهم في كونه فوق العرش كالرازي ومتأخري الأشعرية وكالمعتزلة يدعون أن هذا تناقض مخالف للضرورة العقلية "، ثم يقول في المفاضلة بين الأولين - أي متأخري الأشعرية كالرازي والجويني - وهؤلاء - أي متقدمي الأشعرية -: " تبين أن الأولين أعظم مخالفة للضرورة العقلية، وأعظم تناقضا من هؤلاء، وأن هؤلاء [أي الجويني وابن كلاب] لا يسع أحدهم في نظره ولا مناظراته أن يوافق أولئك على ما سلكوه من النفي فرارا مما ألزموه إياه من التناقض؛ لأنه يكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، فيكون الذي وقع فيه من التناقض ومخالفة الفطرة الضرورية العقلية أعظم مما فر منه، مع ما في ذلك من مخالفة القرآن والسنة وما اتفق عليه سلف الأمة،   (1) المقالات للأشعري (ص: 297) - ت ريتر (1/325) ط عبد الحميد. (2) مجموع الفتاوى (16/308-309) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 882 وإن كان قد يضطر إلى نوع باطل في الأول، فإنه بمنزلة قول الواقف في الرمضاء: إنا أجد حرارتها وألمها، فيقال له: النار التي فررت إليها أعظم حرارة وألما، وإن كنت لا تجدها حين وقوفك على الرمضاء، بل تجدها حين تباشرها - فيكون قد فر من نوع تناقض وخلاف بعض الضرورة، فوقع في أنواع من التناقضات ومخالفة الضرورات، وبقي ما امتاز به الأول في كلامه من الزندقة والإلحاد، ومشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى، واتباع سبيل المؤمنين: زيادة على ذلك " (1) . وهؤلاء المتأخرون إنما رموا أئمتهم المتقدمين بالتناقض لأنهم كانوا عارفين بالأصول العقلية التي اعتمدها هؤلاء، وأنها تقتضي أن يلتزموا لوازمها وأن لا يهابوا أهل الحديث بل يصرحوا بما تقتضيه هذه الأصول ولوازمها. وهذا هو ما فعله المتأخرون وطبقوه (2) . واتهام المتأخرين للمتقدمين بالتناقض يدل عليه ما حوته كتبهم التي صرحوا فيها بمخالفة السلف ومخالفة أئمتهم، وما يذكرونه من الأدلة والمناقشات لعقائدهم - وخاصة في مسائل العلو والاستواء، والصفات الخبرية، والرؤية - تحمل في ثناياها الاتهام لشيوخهم وأئمتهم بالتناقض، وهم قد لا يصرحون بذلك لأن هؤلاء هم أئمة المذهب، وبهم يقتدون في المسائل الأخرى التي وافقوهم فيها. ومع ذلك فأحيانا يصرحون: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره أبو المعالي الجويني في مسألة الصفات الخبرية كالوجه واليدين، التي أثبتها متقدمو الأشعرية الذين ينفون الصفات الاختيارية عن الله تعالى، ولذلك يؤولون الاستواء والنزول والمجيء، إما بتأويلات صريحة كما فعل المتأخرون، وإما بجعلها من صفات الذات لا من صفات الفعل، وأن الاستواء - مثلا - فعل فعله الله في العرش سماه استواء، كما هو قول الأشعري - فالجويني يقول لهؤلاء إذا كنتم   (1) نقض التأسيس المطبوع (2/110-111) ، وقد بين فيما بعد تناقض المتقدمين والمتأخرين من الأشعرية وأن كلا منهم اتهم الآخر بالتناقض [ومعلوم أن اتهام المتقدمين للمتأخرين إنما هو بواقع الحال لا بالمقال] ، انظر: نقض التأسيس المخطوط (3/200-202) . (2) انظر: مجموع الفتاوى (16/309) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 883 أثبتم الصفات الخبرية بظواهر الآيات فيلزمكم أن تثبتوا بقية الصفات كالاستواء والنزول والجنب بظواهر النصوص أيضا، أما إذا سوغتم تأويل هذه فلا يبعد تأويل الصفات الخبرية: يقول الجويني عن الصفات الخبرية، " ومن سلك من أصحابنا سبيل إثبات هذه الصفات بظواهر هذه الآيات ألزمه سوق كلامه أن يجعل الاستواء والمجيء والنزول والجنب من الصفات تمكسا بالظاهر، فإن ساغ تأويلها فيما يتفق عليه، لم يبعد أيضا طريق التأويل فيما ذكرناه " (1) . فهو يقول: إن تأويل هذه والمنع من تأويل تلك تناقض. فإما إثبات الجميع، أو تأويل الجميع. ويلاحظ أن هذا يقال للجويني أيضا. والنماذج التي ذكرها شيخ الإسلام لتناقض الأشاعرة كثيرة، ومن أمثلتها: 1- ذكر شيخ الإسلام - في أثناء رده على الجويني - الذي سمى أصحابه أهل الحق وذكر ما يتميزون به عن المعتزلة، وتكلم بكلام عجيب حول أخبار الصفات حتى إن الإمام القرطبي انتقد كلامه في ذلك (2) - أنواعا كثيرة من التناقضات في المذهب الأشعري، فقال - بعد رده على الجويني من وجوه عديدة -: " الوجه الرابع عشر أن يقال له: هؤلاء الذي سميتم أهل الحق، وجعلتهم قاموا من تحقيق أصول الدين بما لم يقم به الصحابة، هم متناقضون في الشرعيات والعقليات: أما الشرعيات: فإنهم تارة يتأولون نصوص الكتاب والسنة، وتارة يبطلون التأويل، فإذا ناظروا الفلاسفة والمعتزلة - الذين يتأولون نصوص الصفات مطلقا، ردوا عليهم، وأثبتوا لله الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر ونحو ذلك من الصفات - وإذا ناظروا من يثبت صفات أخرى دل عليها الكتاب والسنة كالمحبة والرضا والغضب والمقت والفرح والضحك ونحو ذلك تأولوها، وليس لهم فرق مضبوط بين ما يتأول وما لا يتأول، بل منهم من يحيل على العقل،   (1) الإرشاد للجويني (ص: 157-158) . (2) انظر: كلام الجويني وتعليق القرطبي في التسعينية (ص: 244-245) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 884 ومنهم من يحيل على الكشف، فأكثر متكلميهم يقولون: ما علم الله ثبوته بالعقل لا يتأول، وما لم يعلم ثبوته بالعقل يتأول، ومنهم من يقول: ما علم ثبوته بالكشف والنور الإلهي لا يتأول، وما لم يعلم ثبوته بالعقل يتأول، وكلا الطريقين ضلال وخطأ من وجوه ... (1) "، ثم قال: " وأما تناقضهم في العقليات فلا يحصى: " مثل قولهم: إن الباري لا يقوم به الأعراض، ولكن تقوم به الصفات والأعراض في المخلوق هو عندهم صفة وهو عندهم عرض، ثم قالوا في الحياة ونحوها هي في حق الخالق صفات وليست بأعراض، إذ العرض هو ما لا يبقى زمانين، والصفة القديمة باقية ... ". " وكذلك قولهم: إن الله يرى كما ترى الشمس والقمر من غير مواجهة ولا معاينة وأن كل موجود يرى حتى الطعم واللون ". " وأن المعنى الواحد القائم بذات المتكلم يكون أمرا بكل ما أمر به ونهيا عن كل ما نهى عنه، وخبرا بكل ما أخبر به، وذلك المعنى إن عبر عنه بالعربية فهو القرآن، وإن عبر عنه بالعبرانية فهو التوراة، وإن عبر عنه بالسريانية فهو الإنجيل، وأن الأمر والنهي والخبر صفات للكلام لا أنواع له وأن هذا المعنى يسمع بالأذن - على قول بعضهم إن السمع عنده متعلق بكل موجود - وعلى قول بعضهم إنه لا يسمع بالأذن، لكن بلطيفة جعلت في قلبه، فجعلوا السمع من جنس الإلهام ... ". " ومثل قولهم: إن القديم لا يجوز عليه الحركة والسكون ونحو ذلك لأن هذه لا تقوم إلا بمتحيز، وقالوا: إن القدرة والحياة ونحوهما يقوم بقديم غير متحيز. وجمهور العقلاء يقولون: إن هذا فرق بين المتماثلين. " وكذلك زعمهم أن قيام الأعراض التي هي صفات قائمة بالرب ولا تدل على حدوثه " (2) .   (1) التسعينية (257-258) . (2) التسعينية (ص: 259-260) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 885 ثم ذكر شيخ الإسلام نماذج أخرى (1) ، ويلاحظ هنا أن شيخ الإسلام اقتصر على ذكر وجه التناقض، ولم يكن هدفه أن يبين وجه الحق في في كل مسألة ذكرها، فمثلا في المسألة الأخيرة التي فرقوا فيها بين الصفات والأعراض فقالوا إن الأعراض إذا قامت بالمحل دلت على حدوثه، وأما الصفات فهي قائمة بالله ولا تدل على حدوثه، بين شيخ الإسلام أن هذا تناقض لأن قيام الأعراض إن دلت على الحدوث فالصفات كذلك، وقيام الصفات إن لم تدل على الحدوث فالأعراض كذلك، والمقصود أن لا يفهم من ظاهر عبارة الشيخ أنه ينكر قولهم: إن الصفات قائمة بالرب ولا تدل على حدوثه، بل هو ينكر ويبين تناقضهم، وإلا فالله تعالى تقوم به الصفات، كما أنه تعالى يتكلم إذا شاء متى شاء، وينزل ويجيء إذا شاء - وهذه وإن سموها أعراضا - فهي لا تدل على حدوث البارئ تعالى. 2- ومن الأمثلة على تناقض الأشاعرة أنهم في مسألة الترجيح بلا مرجح مرة يقولون: إن القادر المختار يرجح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، ومرة يقولون بعكس ذلك وأن القادر لا يرجح أحد طرفي الممكن إلا بمرجح، وسبب التناقض اختلاف الحالة التي يستدلون لها: فإنهم إن كانوا في موقع مناظرة الفلاسفة الدهرية حول حدوث العالم، ردوا عليهم بقولهم " إن القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، وقالوا: إن ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بغير مرجح يصح من القادر المختار ولا يصح من العلة الواجبة " (2) ، ويلاحظ أن هذا جواب للمعتزلة أيضا يجيبون به الفلاسفة. وإن كانوا في موقع الرد على القدرية المعتزلة في مسألة خلق أفعال العباد وأن الله هو الخالق لها ردوا عليهم بقولهم: " إنه لا يتصور ترجيح الممكن، لا من قادر ولا من غيره إلا بمرجح يجب عنده وجود الأثر " (3) ، يقول شيخ الإسلام معلقا على الأشاعرة: " فهؤلاء إذا ناظروا الفلاسفة في مسألة حدوث العالم لم يجيبوهم إلا بجواب المعتزلة، وهم دائما إذا ناظروا المعتزلة في مسائل القدر يحتجون عليهم بهذه الحجة التي احتجت بها   (1) انظر المصدر السابق (ص: 260 - 261) . (2) انظر: درء التعارض (9/166) . (3) المصدر السابق (1/326) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 886 الفلاسفة، فإن كانت هذه الحجة صحيحة بطل احتجاجهم على المعتزلة، وإن كانت باطلة بطل جوابهم للفلاسفة. وهذا غالب على المتفلسفة والمتكلمين المخالفين للكتاب والسنة تجدهم دائماً يتناقضون، فيحتجون بالحجة التي يزعمون أنها برهان باهر، ثم في موضع آخر يقولون: إن بديهة العقل يعلم بها فساد هذه الحجة" (1) . وهذا يشبه تناقض الأشاعرة في مسألة أصوات العباد، حيث إنهم حينما يردون على المعتزلة يقولون: إنها ليست فعلاً للعباد، فإذا جاءوا إلى مسألة القرآن قالوا: أصوات العباد فعل لهم وهذا تناقض (2) . 3- وفي موضوع النبوات وما يتعلق بها من المعجزات الدالة على صدق الأنبياء ذكر شيخ الإسلام جوانب كثيرة دالة على تناقضهم: من ذلك أن بعضهم يقول: إن دلالة المعجزة على التصديق معلومة بالاضطرار، ثم يقولون: إن الله لا يفعل لحكمة، وليست أفعاله تعالى معللة. وهذا تناقض إذ كيف تدل المعجزة - التي هي من أفعال الله ومفعولاته - على صدق النبي، والله لا يفعل لحكمة أبداً؟ يقول شيخ الإسلام: "وأما الطريقة الثانية وهي أجود وهي التي اختارها أبو المعالي وأمثاله، فهو أن دلالة المعجز على التصديق معلوم بالاضطرار، وهذه طريقة صحيحة لمن اعتقد أن الله يفعل لحكمة، وأما إذا قيل: إنه لا يفعل لحكمة انتفى العلم الاضطراري. والأمثلة التي يذكرونها كالملك الذي جعل آية لرسوله خارجاً عن عادته، إنما دلت للعلم بأن الملك يفعل شيئاً لشيء، فإذا نفوا هذا بطلت الدلالة" (3) . ومثل ذلك من علق صدق النبوة على القدرة، وأن الله قادر على أن يميز بين الصادق والكاذب، إنما صح ذلك مع إثبات الحكمة والتعليل، أما مع نفيها فهو متناقض (4) .   (1) انظر: درء التعارض (1/326) . (2) انظر: الصفدية (1/154) . (3) النبوات (ص: 361) ، وانظر (ص: 56) . (4) انظر: المصدر السابق (ص: 361-362) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 887 ومن تناقضهم في هذا الباب قولهم عن المعجزات: إن الله لا يمكن أن يخلقها على يد كاذب، ثم يقولون: إن الله لا ينزه عن فعل أي ممكن، وأنه لا يقبح منه فعل، وحينئذ فيقال لهم قولكم متناقض لأنه إذا جاز أن يفعل الله القبيح جاز أن يخلق المعجزة على يد كذاب، يقول شيخ الإسلام معلقاً على قولهم إن الله لا يمكن أن يخلق المعجزة على يد كاذب: "لكن المطالب يقول: كيف يستقيم على أصلكم أن يكون ذلك دليل الصدق، وهو أمر حادث مقدور، وكل مقدور يصح عندكم أن يفعله الله، ولو كان فيه من الفساد ما كان، فإنه عندكم لا ينزه عن فعل ممكن، ولا يقبح منه فعل، فحينئذ إذا خلق على يد الكاذب مثل هذه الخوارق لم يكن ممتنعاً على أصلكم، وهي لا تدل على الصدق البتة على أصلكم ... فأنتم بين أمرين: إن قلتم لا يمكنه خلقها على يد الكاذب وكان ظهورها ممتنعاً فقد قلتم: إنه لا يقدر على إحداث حادث قد فعله مثله، وهذا تصريح بعجزه ... وإن قلتم: يقدر، لكنه لا يفعل، فهذا حق وهو ينقض أصلكم" (1) . ومعلوم أن من أكثر ما تخبط فيه الأشاعرة مسألة المعجزات. 4- ومن الأمثلة على تناقضهم قولهم: إن أول الواجبات هو المعرفة أو النظر ثم يقولون لا واجب إلا بالشرع خلافاً للمعتزلة، وهذا تناقض بين (2) . والأمثلة على تناقض الأشاعرة كثيرة، وماسبق كاف لإثبات ذلك، وهناك جوانب أخرى من تناقضهم ذكرها شيخ الإسلام (3) . 5- ويذكر شيخ الإسلام - إضافة إلى ما سبق - تناقض بعض أعلامهم: آ- ومن ذلك تناقض الشهرستاني والرازي والآمدي الذين أثبتوا جواهر معقولة غير متحيزة موافقة للفلاسفة الدهرية: وقالوا: إنه لا دليل على نفيها: يقول شيخ الإسلام مخاطباً هؤلاء حول العلو ونفيهم له لالتزامه على زعمهم التحيز:   (1) انظر: المصدر السابق (ص: 154-155) . (2) انظر: درء التعارض (8/12-16) . (3) انظر مثلاً: نقض التأسيس المخطوط (3/167) ، ودرء التعارض) 1/357، 2/390، 3/206-207، 254-256، 5/238، 343-345) ومجموع الفتاوى (5/209-289) ، والتسعينية (ص: 168-169، 221) وشرح الأصفهانية (ص: 153،355) -ت العودة، وغيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 888 "أنتم إذا ناظرتم الملاحدة المكذبين للرسل فادعوا إثبات جواهر غير متحيزة عجزتم عن دفعهم أو فرطتم فقلتم: لا نعلم دليلاً على نفيها أو قلتم بإثباتها. وإذا ناظرتم إخوانكم المسلمين الذين قالوا بمقتضى النصوص الإلهية والطريقة السلفية وفطرة الله التي فطر عباده عليها، والدلائل العقلية السليمة عن المعارض وقالوا: إن الخالق تعالى فوق خلقه، سعيتم في نفي لوازم هذا القول وموجباته وقلتم: لا معنى للجوهر إلا المتحيز بذاته، فإن كان هذا القول حقاً فادفعوا به الفلاسفة الملاحدة، وإن كان باطلاً فلا تعارضوا به المسلمين، أما كونه يكون حقاً إذا دفعتم ما يقوله إخوانكم المسلمين، ويكون باطلاً إذا عجزتم عن دفع الملاحدة في الدين فهذا طريق من بخس حظه من العقل والدين وحسن النظر والمناظرة عقلاً وشرعاً" (1) . فهذا التناقض إنما هو لمن قال بالجواهر العقلية، أو قال إنه لا دليل على نفيها، وهؤلاء مع الغزالي لهم تناقضات أخرى في المنطق وما يتعلق به من مسألة تماثل الأجسام أشار شيخ الإسلام إلى جوانب منها (2) . ب- تناقض الرازي، وقد أشار شيخ الإسلام إلى أمثلة عديدة من تناقضه ومن ذلك: 1- تناقضه في مسألة حدوث الأجسام، فمرة يثبته، ومرة يذكر فساد حجج من يثبته (3) . 2- وفي إثبات العلو قال في نفيه بالدليل العقلي: إنه يلزم منه النقص على الله تعالى، وفي نهاية العقول ذكر أن امتناع النقص على الله لم يعلم بالعقل (4) . 3- وسورة الإخلاص {قُلْ هو الله أحد * الله الصمد} [الإخلاص: 1-2] قال فيها مرة إنها من المحكمات. وفي موضع آخر جعلها من المتشابهات (5) .   (1) درء التعارض (4/163) . (2) انظر: درء التعارض (4/173-182) . وهو من المباحث المهمة في بيان تناقض هؤلاء. (3) انظر: درء التعارض (4/290) . (4) انظر: نقض التأسيس المطبوع (2/292-297) . (5) انظر: نقض التأسيس المخطوط (2/54-55) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 889 4- والجوهر الفرد وما يتعلق به من كون الحركة لها وجود أو ليس لها وجود، مرة أثبت ذلك ومرة نفاه (1) . 5- وهل القدرة تستلزم وجود المراد، مرة أثبت ذلك ومرة نفاه (2) . وغير ذلك (3) . ج-- تناقض الآمدي، ومن ذلك: 1- قوله إن العلة قد تتقدم المعلول، وفي موضع آخر نفي ذلك (4) . 2- قوله بأن الله ليس بجوهر لأنه يلزم منه أن يكون مثل الجواهر الأخرى فلا تبقى له مزية على غيرها، لأنهما يتساويان فيما يجب ويجوز ويمتنع، ولكنه في مسألة دليل حدوث الأجسام قال: "ولا يلزم من كون القديم مماثلاً للحوادث من وجه أن يكون مماثلاً للحادث من جهة كونه حادثاً، بل لا مانع من الاختلاف بينهما في صفة القدم والحدوث وإن تماثلا بأمر آخر" (5) ، وهذا يناقض ما ذكر في مسألة الجواهر (6) . 3- وفي موضوع "التركيب" تناقض قوله تناقضاً عظيماً، وذكر شيخ الإسلام نماذج له (7) . 4- وفي مسألة وجود الكلي المطلق هل يوجد مطلقاً أو لا يوجد إلا معيناً؟ مرة قال بهذا ومرة بهذا (8) . هذه نماذج لتناقض الأشاعرة في مذهبهم، وفي أقوال أئمتهم، ولا شك أن وجود التناقض وكثرته يدل على ضعف المذهب، وضعف الأدلة التي بني عليها.   (1) انظر شرح الأصفهانية (ص: 306) ت العودة. (2) انظر: المصدر السابق (ص: 351-352) ت العودة. (3) انظر مثلاً: نقض التأسيس المطبوع (2/111) . (4) انظر: درء التعارض (3/61-62) . (5) انظر: المصدر السابق (4/167-168) . (6) انظر: المصدر نفسه (4/165-168) . (7) انظر: المصدر نفسه (232-246) . (8) انظر: المصدر نفسه (5/109-110، 118-119، 120-124) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 890 عاشراً: حيرة الأشاعرة وشكهم ورجوعهم: لاشك أن هذا متولد عن الوجه السابق الذي هو التناقض، لأن وجود التناقض في المذهب وفي طرق الاستدلال له يؤدي إلى عدم الثقة فيه فإذا انضاف إلى ذلك تعظيم شيوخ المذهب وأنهم لا يمكن أن يقولوا إلا ما هو حق موافق للعقل؛ فإن الأمر يتطور إلى الشك والحيرة، والرجوع لمن هدى الله منهم. وكل ذلك لأجل أنهم خاضوا في علم الكلام والفلسفة، وتركوا الاعتماد على الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح ولذلك صار لهم سمات خاصة بهم منها: "إنك تجدهم أعظم الناس شكاً واضطراباً، وأضعف الناس علماً ويقيناً ... " (1) . ومنها: "إنك تجد أهل الكلام أكثر الناس انتقالاً من قول إلى قول وجزماً بالقول في موضع، وجزماً بنقيضه وتكفير قائله في موضع آخر وهذا دليل عدم اليقين" (2) . ومنها: أن منتهى هؤلاء المعرضين عن الكتاب المعارضين له: "السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات، يتأولون كلام الله وكلام رسوله بتأويلات يعلم بالاضطرار أن الله ورسوله لم يردها بكلامه، وينتهون في أدلتهم العقلية إلى ما يعلم فساده بالحس والضرورة العقلية، ثم إن فضلاءهم يتفطنون لما بهم من ذلك فيصيرون في الشك والحيرة والارتياب وهذا منتهى كل من عارض نصوص الكتاب" (3) . فالشك والحيرة - خاصة في المسائل الكبار - من سمات أهل الكلام، وفي مقدمتهم أعلام الأشاعرة، وقد استخدم شيخ الإسلام في منهجه وردوده عليهم هذه الطريقة التي تبين أن كل من أعرض عن كتاب الله وسنة رسوله فهذا مآله ومنتهاه، كما أنها تدل على حقيقة هؤلاء الأعلام المشهورين الذين يقتدى بهم فئام وفئام من الناس.   (1) مجموع الفتاوى (4/27) - وقد شرح شيخ الإسلام ذلك وضرب له عدة أمثلة. (2) المصدر السابق (4/50) . (3) درء التعارض (5/256) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 891 أما رجوع كثير منهم عما كان عليه وتعويله على الكتاب والسنة ففيه دلالة قوية على بطلان ما كانوا عليه، وهو حجة قاطعة على أن تعويل السلف على النصوص الواردة عن الله وعن رسوله - - صلى الله عليه وسلم - لم يكن عن جهل بما عداها مما هو موجود في عهدهم من مذاهب اليونان وغيرها، وإنما كان نابعاً من اعتقاد جازم وإيمان عميق أن الهدى والرشاد والطمأنينة القلبية لن تكون إلا باتباع الوحي المنزل. وشيخ الإسلام وهو يذكر ما في رجوع أهل الكلام من الخير لهم ولغيرهم إلا أنه يثير مشكلة كتبهم التي انتشرت وتناقلها الناس فيقول: "وأما اعتراف المتكلمة من الإسلاميين فكثير، وقد جمع العلماء فيه شيئاً، وذكروا رجوع أكبارهم عما كانوا يقولونه، وتوبتهم، إما عند الموت، وإما قبل الموت، وهذا من أسباب الرحمة إن شاء الله في هذه الأمة، فإن الله يقبل التوبة من عباده، ويعفو عن السيئات، وهذا أصح القولين في قبول توبة الداعي، لكن بقاء كتبهم وآثارهم محنة عظيمة في الأمة، وفتنة عظيمة لمن نظر فيها، ولا حول ولا قوة إلا بالله" (1) . إن شيخ الإسلام وهو يقول هذا الكلام الرقيق، بحيث يجعل رجوع هؤلاء من أسباب الرحمة في هذه الأمة لأن الله تعالى يقبل التوبة عن عباده، لا ينسى الجانب الآخر وهو أن هؤلاء تابوا ورجعوا ولكن كتبهم بقيت، يتناقلها الناس ويفتنون بها، وهذا يفسر ما قام به شيخ الإسلام من ردود طويلة على هؤلاء وعلى كتبهم، وإن كان قد أثر عنهم التوبة والرجوع. وعلماء وفضلاء الأشعرية معترفون بما في مذهب الأشعري من إشكالات حتى إن العالم الفاضل المجاهد العز بن عبد السلام لما قيل له في مسألة القرآن: كيف يعقل شيء واحد هو أمر ونهي وخبر واستخبار؟ قال رحمه الله: "ما هذا بأول إشكال ورد على مذهب الأشعري" (2) .   (1) الاستقامة (1/79-80) . (2) التسعينية (ص: 261) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 892 وقد سبق في تراجم أعلام الأشاعرة ذكر نماذج لرجوع بعضهم، وللحيرة والشك عند كثير منهم، ولا يخلو كتاب من كتب شيخ الإسلام العقدية من التعرض لهذه المسألة حتى إنه قال: "ولو جمعت ما بلغني في هذا الباب عن أعيان هؤلاء كفلان وفلان لكان شيئاً كثيراً، وما لم يبلغني من حيرتهم وشكهم أكثر وأكثر" (1) . وهذه المسألة واضحة ومعروفة، ولذلك نكتفي بذكر نماذج من أقواله ونقوله عنهم: 1- يقول شيخ الإسلام مبيناً اضطراب الأشاعرة وعلى رأسهم الأشعري: "وقد قيل: إن الأشعري - مع أنه من أقربهم إلى السنة والحديث وأعلمهم بذلك - صنف في آخر عمره كتاباً في تكافؤ الأدلة، يعني أدلة علم الكلام فإن ذلك هو صناعته التي يحسن الكلام فيها، وما زال أئمتهم يخبرون بعدم الأدلة والهدى في طريهم، كما ذكرناه عن أبي حامد وغيره حتى قال أبو حامد الغزالي: أكثر الناس شكاً عند الموت أهل الكلام"، وهذا أبو عبد الله الرازي من أعظم الناس في هذا الباب - باب الحيرة والشك والاضطراب - لكن هو مسرف في هذا الباب له تهمة في التشكيك دون التحقيق، بخلاف غيره فإنه يحقق شيئاً ويثبت على نوع من الحق.. " (2) . والقول بتكافؤ الأدلة سمة عامة لغالب أئمة الأشاعرة خاصة في مثل المسائل الكبار كمسألة دليل حدوث الأجسام (3) . 2- وكثيراً ما يؤدي خوض هؤلاء في علم الكلام إلى الشك والوقف والحيرة، وهذه من الحالات الخطيرة، والأمراض المزمنة، لأن تؤدي بهؤلاء إلى أنواع من الشكوك التي قد يكون من أثارها زيغ القلوب - ولا حول ولا قوة إلا بالله - وشيخ الإسلام يبين أنه لما كثرت عند هؤلاء الأدلة العقلية وتناقضت وتناقض أصحابها أدى بمن اعتمد عليها إلى الحيرة والوقف، يقول - بعد إلى تناقض الأدلة العقلية عند هؤلاء: "ثم من جمع منهم بين هذه الحجج أداه الأمر   (1) درء التارض (1/166) . (2) نقض المنطق (ص: 25-26) ، وهو في مجموع الفتاوى (4/28) ، وانظر منهاج السنة (3/68) . (3) انظر: التسعينية (ص: 201) ، والدرء (1/164) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 893 إلى تكافؤ الأدلة، فيبقى في الحيرة والوقف أو إلى التناقض وهو أن يقول هنا قولاً، ويقول هنا قولاً يناقضه كما تجده من حال كثير من هؤلاء المتكلمين والمتفلسفة، بل تجد أحدهم يجمع بين النقيضين أو بين رفع النقيضين، والنقيضان اللذان هما الإثبات والنفي لا يجتمعان ولا يرتفعان، بل هذا يفيد صاحبه الشك والوقف فيتردد بين الاعتقادين المتناقضين الإثبات والنفي، كما يتردد بين الإرادتين المتناقضين وهذا هو حال حذاق هؤلاء كأبي المعالي وأبي حامد والشهرستاني والرازي والآمدي" (1) . 3- والأشاعرة توقفوا حتى في أهم المسائل كمسألة الصفات، يقول شيخ الإسلام: "ومثل هذا النظر - وهو تعارض الأدلة التي يظن صاحبها أنها أدلة عقلية - يوجب الحيرة والشك والتوقف، ولهذا صرح طائفة من هؤلاء بالتوقف والحيرة في مسائل الصفات، وهذا شأن الرازي والآمدي وغيرهما في مسائل لهم، وهو منتهى نظر أهل النظر والكلام المذموم في الشرع، فإنه ينتهي بهم الأمر إلى الحيرة والشك كما قال ابن عقيل وغيره من العلماء: آخر المتكلمين الخارجين عن الشرع هو الشك، وآخر الصوفية الخارجين عن الشرع هو الشطح. وهو كما قالوا: فإن من تدبر كلام كثير منهم الثابت عنهم وجد منتهى أمرهم إلى الشك والتوقف، كما يوجد في كلام الرازي وغيره؛ فإنه واقف في مسألة الجوهر الفرد، ومسألة الصفات والأفعال وغير ذلك، كما هو أخبر به عن نفسه وكما يوجد في كتبه، وكذلك أبو حامد الغزالي واقف في كثير من المسائل، وكذلك أبو المعالي حصل له التوقف قبل أن يموت في الصفات الخبرية كالاستواء وفي قيام الأمور الاختيارية به" (2) . 4- ومن أعظم الأشاعرة حيرة واضطراباً الرازي والآمدي، فالرازي كثيراً ما "يعترف بالحيرة في المواضع العظيمة: مسائل الصفات وحدوث العالم، ونحو ذلك" (3) ، وقد صرح في آخر كتبه وهو المطالب العالية بتكافؤ الأدلة (4) ،   (1) الصفدية (1/294) . (2) شرح الأصفهانية (ص: 71-82) - ت العودة، وكل نص من هذا الكتاب أحلت فيه على هذا التحقيق - الذي لا يزال مطبوعاً على الآلة الكاتبة - فهو من الزيادات التي ليست في المطبوعة. (3) درء التعارض (4/290) . (4) انظر: التسعينية (ص: 201) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 894 وهو كثيراً ما يصرح بالحيرة (1) ، وقد انتقل هذا إلى كبار تلاميذه حتى إن أبرزهم - وهو الخسروشاهي - دخل عليه ابن بادة فقال له: يا فلان ما تعتقد؟ - قال ابن بادة - قلت: أعتقد ما يعتقده المسلمون. قال: وأنت جازم بذلك وصدرك منشرح له، قلت: نعم. قال فبكى بكاء عظيماً، أظنه قال: لكني والله ما أدري ما أعتقد، لكني والله ما أدري ما أعتقد، لكني والله ما أدري ما أعتقد" (2) . وهكذا تكون حيرة الأستاذ والتلاميذ. أما الآمدي فكثيراً ما يصرح في المسائل العظام عند عرض الأدلة والمناقشات بمثل قوله: هذا إشكال مشكل، ولعل عند غيري حله (3) ، وذكر شيخ الإسلام عن الثقة أنه حدثه عنه أنه قال: "أمعنت النظر في الكلام وما استفدت منه شيئاً إلا ما عليه العوام، أو كلاماً هذا معناه" (4) . 5- ورجوع الأشاعرة وكلامه في ذلك كثير ومشهور، وعلى رأسهم الجويني (5) ، والشهرستاني (6) ، والرازي (7) ، وغيرهم. وقد وفق شيخ الإسلام في التركيز على هذه المسألة، لأنه وإن كانت كتب هؤلاء موجودة، ويعتمد عليها كثير من أتباعهم، إلا أن بيان هذه القضية وإيضاحها للناس يفيد الموافق والمخالف، أما الموافق فتزيده ثقة فيما عنده من الحق المعتمد على الكتاب والسنة، وأما المخالف فلابد أن تزرع في نفسه شيئاً من عدم الثقة فيما يقول هؤلاء في كتبهم الكثيرة التي أعلنوا رجوعهم عنها ورضاهم بطريقة القرآن.   (1) انظر مثلاً: درء التعارض (3/12،88، 9/188-190) ، التسعينية (224-225) وشرح الأصفهانية (ص: 162-164) - ت العودة وغيرها. (2) التسعينية (ص: 201-202) . (3) انظر مثلاً: درء التعارض (1/162، 164، 3/93، 95، 282، 4/119، 232 - 233) وغيرها. (4) انظر: درء التعارض (3/262) . (5) انظر: درء التعارض (1/158، 4/173، 8/47) ، والتسعينية (ص: 251-252) ، والفتوى الحموية - مجموع الفتاوى (5/11) . (6) انظر: مجموع الفتاوى (4/73) . (7) انظر: درء التعارض (1/159-160) ، والحموية - مجموع الفتاوى (5/10-11) ، ومجموع الفتاوى (4/72) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 895 حادي عشر: تسلط الفلاسفة والباطنية على المتكلمين : النقد الذي وجهه شيخ الإسلام للمتكلمين - وفيهم الأشاعرة - من خلال هذا الموضوع - نقد فريد من نوعه، وهو يعتبر من أشد وأقسى ما وجه لهم من نقد. وتفرد شيخ الإسلام - فيما أعلم - بالتركيز على هذه المسألة إنما جاء نتيجة خبرته الواسعة بأقوال أهل الكلام وبأقوال أهل الفلسفة والباطنية، الذين كانوا يمثلون خطراً سياسياً وعقدياً على المجتمعات الإسلامية، خاصة قبيل وأثناء حياة شيخ الإسلام. والناظر في تاريخ الفلاسفة، وتاريخ الحركات الباطنية، كالإسماعيلية ودولة الفاطميين، والقرامطة، وغيرها، يرد عليه سؤال محير، خلاصته: أن هذه الحركات الفلسفية والباطنية إذا كانت تقوم على صريح الكفر والإلحاد وتعطيل الشرائع، فكيف وجدت لها موطأ قدم، بل وأتباعاً بين المسلمين؟ وكيف لا تمضي فترة على شهرة الفيلسوف إلا وقد صار له أتباع وتلاميذ؟ وكيف أرسلت الدولة الفاطمية الباطنية دعاتها في مختلف أقطار العالم الإسلامي ليدعوا إلى نحلتهم، ثم يجد كثير من هؤلاء من يستجيب لهم؟. صحيح أن هؤلاء كانوا يستخدمون أساليب ملتوية، ويتظاهرون بالتشيع والرفض، ويقصدون أنواعاً من المناطق لا تخلو من وجود من يتستر بالزندقة، ولكن لماذا لم يبعث اليهود أو النصارى - وأولئك أشد كفراً منهم - بمن يدعو إلى نحلهم ومللهم، ولا شك أنهم سيحاولون لو كانوا يجدون من يستجيب لهم؟. إن جانباً كبيراً من مدلول هذه الأسئلة يفسره هذا التسلط من جانب هؤلاء الملاحدة على المتكلمين المنتسبين إلى الأسلام، حين تلاعبوا بنصوص الوحي من الكتاب والسنة وأعملوا فيها آراءهم وعقولهم تأويلاً وتحريفاً. إن الفيلسوف أو القرمطي لن يجد المشقة في إقناع أتباعه بما عنده من سفسطة أو قرمطة، إذا أطلعهم على أقوال وتأويلات هؤلاء المتكلمين - وقد يكون فيهم من هو من فقهاء الأمة وأعلامها - لأنه سيجد عند هؤلاء مقالات عجيبة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 896 مثل قول كثير منهم: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا حال فيه ولا بائن منه، أو قول بعضهم: إن الله في كل مكان، من غير حلول، وسيجد أيضاً من يؤول أكثر من ألف دليل من الكتاب والسنة دالة على إثبات علو الله تعالى وفوقيته على خلقه، وسيجد من يقول بإثبات رؤية الله في الدار الآخرة، ولكن من غير مقابلة ولا مواجهة، وسيجد من يقول: إن كلام الله معنى واحد، لا فرق فيه بين ما هو أمر أو نهي أو خبر. وسيجد غيرها من الأقوال التي تصادم العقول والنصوص. فهل بعد ذلك سيجد الفيلسوف أو القرمطي أو الصوفي الغالي مشقة في إقناع أتباعه بتأويل نصوص المعاد، أو أنها خطاب للجمهور لإصلاح أحوالهم في الدنيا، أو تأويل نصوص العبادات والأوامر والنواهي؟. حقاً إن ما عمله هؤلاء المتكلمون - حين خالفوا منهج ومذهب السلف في تلقي النصوص - أن فتحوا الباب لكل ملحد وزنديق أن يتأول كلام الله كيف يشاء. والكلام هنا إنما هو لتفسير ما حدث، وليس للمفاضلة بين هؤلاء؛ إذ لا شك ولا ريب أن هؤلاء المتكلمين أفضل من أولئك، وأقوالهم أقرب إلى العقل والنقل من أقوال الملاحدة الخارجين عن الإسلام. ولما كان من منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على خصومه، بيان كيف وقع التسلط من هؤلاء الملاحدة، حرص على ذكر أسباب ذلك، مع ذكر أنواع من هذا التسلط. فقد ذكر شيخ الإسلام عدة أسباب لتسلط هؤلاء على المتكلمين: 1- منها: "عدم علمهم بما بعث الله به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعدم تحقيقهم لقواعد المعقول، فإن الأقوال المبتدعة لابد أن تكون مناقضة للعقل والشرع" (1) .   (1) شرح الأصفهانية (ص: 331) - ت العودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 897 2- ومنها: "ابتداعهم لدلائل ومسائل في أصول الدين تخالف الكتاب والسنة، ويخالفون بها المعقولات الصحيحة، التي ينسر فيها خصومهم أو غيرهم" (1) . 3- ومنها: "مشاركتهم لهم في العقليات الفاسدة من المذاهب والأقيسة، ومشاركتهم لهم في تحريف الكلم عن مواضعه" (2) . وقد أشار شيخ الإسلام بإجمال في الرد على المنطقيين إلى عدد من هذه العقليات الفاسدة التي تسلط بسببها الفلاسفة على المتكلمين، فقال في مسألة رؤية الله: وإمكان رؤيته يعلم بالدلائل العقلية القاطعة، لكن ليس هو الدليل الذي سلكه طائفة من أهل الكلام كأبي الحسن وأمثاله؛ حيث ادعوا أن كل موجود يمكن رؤيته، بل قالوا: ويمكن أن تتعلق به الحواس الخمس: السمع والبصر والشم والذوق واللمس، فإن هذا مما يعلم فساده بالضرورة عند جماهير العقلاء. وهذا من أغاليظ بعض المتكلمين، كغلطهم في قولهم: إن الأعراض يمتنع بقاؤها، وأن الأجسام متماثلة، وأنها مركبة من الجواهر المنفردة التي لا تقبل قسمة ... وكذلك غلط من غلط من المتكلمين وادعى أن الله لم يخلق شيئاً بسبب ولا لحكمة، ولا خص شيئاً من الأجسام بقوى وطبائع، وادعى أن كل ما يحدث فإن الفاعل المختار الذي يخص أحد المتماثلين بلا تخصيص أصلاً يحدثه، وأنكر ما في مخلوقات الله وما في شرعه من الحكم التي خلق وأمر لأجلها" - يقول شيخ الإسلام معلقاً -: "فإن غلط هؤلاء مما سلط أولئك الفلاسفة، وظنوا أن ما يقوله هؤلاء وأمثالهم هو دين المسلمين أو قول الرسول وأصحابه، ولهذا كانت مناظرة ابن سينا هي للمعتزلة، وابن رشد للكلابية. وكانوا إذا بينوا فساد بعض ما يقول مبتدعة أهل الكلام يظنون أنه لم يبق حق إلا ما يقولونه هم، وذلك بالعكس، وليس الأمر كذلك، بل ما يقوله مبتدعة أهل الكلام   (1) نقض التأسيس المطبوع (1/223) . (2) المصدر السابق - نفس الجزء والصفحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 898 فيه خطأ مخالف للشرع والعقل، والخطأ فيما تقوله المتفلسفة في الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع أعظم من خطأ المتكلمين" (1) . هذه أهم الأسباب التي يرى شيخ الإسلام أنها أدت إلى تسلط الفلاسفة على هؤلاء المتكلمين، وخلاصتها البعد عن دلائل الكتاب والسنة، والخوض في الدلائل العقلية الفاسدة. وقد ألمح شيخ الإسلام لشيء من قصة تسلط الحركات الباطنية في العالم الإسلامي على أثر مقالات أهل الكلام، فقال عن دليل حدوث الأجسام الذي جاء به هؤلاء من المعتزلة والأشعرية: "فطريقتهم التي أثبتوا بها أنه خالق للخلق مرسل للرسل إذا حققت عليهم وجد لازمها أنه ليس بخالق ولا مرسل، فيبقى المسلم العاقل إذا تبين له حقيقة الأمر وكيف انقلب العقل والسمع على هؤلاء متعجباً، ولهذا تسلط عليهم بها أعداء الإسلام من الفلاسفة والملاحدة وغيرهم، لما بينوا أنه لا يثبت به خلق ولا إرسال، فادعى أولئك قدم العالم، وأثبتوا موجباً بذاته وقالوا: إن الرسالة فيض على النبي من جهة العقل الفعال لا أن هناك كلاماً تكلم الله تعالى به، قائماً به أو مخلوقاً في غيره. وكان في الوقت الذي أظهرت الجهمية في مقالتهم الأولى - وامتحنوا أئمة الإسلام كأحمد بن حنبل وغيره - قد ظهر أصل كلمة هؤلاء الملاحدة الباطنية، وذلك في إمارة المأمون ثم المعتصم، وتجدد بعد ذلك من الحوادث العظمية التي كانت في الإسلام في أثناء المائة الرابعة ما يطول شرحه مما تزلزل به أقطار البلاد الإسلامية" (2) ، ويقصد شيخ الإسلام ما قام به القرامطة، والباطنية من أحداث في العالم الإسلامي. وقد ظهرت تلك البدع المخالفة للشرع والعقل، وخفيت السنن الموافقة للعقل والسمع - دخلت الملاحدة من هذا الباب فأخذوا من أولئك   (1) الرد على المنطقين (ص: 310-311) . (2) شرح الأصفهانية (ص: 329-330) - ت العودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 899 المبتدعة ما وافقتهم عليه، وجعلوه أصلاً لما يريدونه من إلحادهم زندقتهم " ثم ذكر أمثله فقال: " فصاروا يقولون للمعتزلي: أنت وافقتنا على إن ما قام به العلم والقدرة يكون جسماً، مشبهاً بخلقه، وذلك ممتنع، فكذلك ما سمى عالماً قادراً لا يكون إلا جسماً مشبهاً للخلق، فيجب عليك أن تنفي الأسماء كما نفيت الصفات. ويقولون للكلابي: أنت وافقتنا على أن ما قامت به الحوادث فهو حادث فإن ما قامت به الحوادث لم يخل منها، فيكون حادثاً لامتناع حوادث لا أول لها، وما قامت به العراض فهو جسم محدث، فيجب عليك أن تنفي الصفات وتنفي العلم والقدرة؛ لأن هذه الصفات أعراض فلا تقوم إلا بجسم ولأن ما قامت به الأعراض قامت به الحوادث، ولا يفرق بين هذا عقل ولا نقل، فقولك: إنه تقوم الأعراض دون الحوادث تناقض، فإذا قال: أنا لا أسمي ما يقوم به عرضاً لأن العرض لا يبقى زمانين، وصفاته باقية عندي، قالوا: قولك: إن العرض لا يبقى زمانين، مخالف لصريح العقل، بل هو مما يعلم فساده بضرورة العقل، وحينئذ فلا فرق بين بقاء صفاته وصفات غيره، فإما أن تسمى الجميع عرضاً، أو لا تسمى الجميع عرضاً، وإذا قال: إنما قلت: إنه لا يقبل الحوادث لأن ما قامت به الحوادث لا يخلو منها، قالوا له: وإذا كان عندك قد صار فاعلاً بعد أن لم يكن، ولم يلزم من ذلك أنه لا يخلو من الفعل فقل: إنه قام به الفعل بعد أن لم يكن، كما قال إخوانك من مثبتة الصفات: الكرامية وغيرهم، ولا يلزم من ذلك أن يكون الفعل لم يقم به ". يقول شيخ الإسلام معلقاً على هذا " إلى غير ذلك من الحجج التي صار يحتج بها الملاحجة على أصناف أهل الكلام المحدث، حتى حدث في الإسلام من شر القرامطة الباطنية والفلاسفة الملاحدة ما يعرفه من عرف أيام الإسلام " (1) . وأهم الجوانب التي تسلط بها هؤلاء الملاحدة على الأشاعرة والمتكلمين: 1- دليل المتكلمين على حدوث العالم الذي هو دليل حدوث الأجسام،   (1) شرح الأصفهانية (ص: 330-331) - ت العودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 900 فإن الفلاسفة لما رأوا تناقضهم في ذلك قالوا: لما كان دليلكم متناقضاً صح قولنا بقدم العالم لأنكم لم تستطيعوا الاستدلال على إفساده. 2- خوض المتكلمين في التأويل لنصوص العلو والصفات، فقالت الملاحدة من الفلاسفة والباطنية ونحن أيضاً نتأول نصوص المعاد، أو نصوص الأحكام الشرعية. وقبل الانتقال إلى بيان تعليق شيخ الإسلام على ذلك، نعرض رأي الأشاعرة في هذه المسألة، والملفت للنظر - حسب ما اطلعت عليه من كتب الأشاعرة - أن غالب الأشاعرة لم يذكروها أو لم يعروها اهتماماً، والذي عرض لها - على حد علمي - هو من خاض في الفلسفة منهم، وبالتحديد الغزالي والرازي. أما الغزالي فقد ذكر ذلك في ثلاثة من كتبه، هي تهافت الفلاسفة، وفضائح الباطنية، وإحياء علوم الدين، وأما الرازي فقد ذكرها في اثنين من كتبه هما: نهاية العقول، والأربعين في أصول الدين، فماذا أجاب هؤلاء وكيف ناقشوا هذا الموضوع الخطير؟ يقول الغزالي عن نصوص المعاد وحشر الأجساد والجنة والنار- في أثناء رده على الفلاسفة الذين حصروا السعادة بسعادة النفوس والأرواح دون الأجساد (1) - " فإن قيل: ما ورد في الشرع [أي من نصوص المعاد] أمثال ضربت على حد أفهام الخلق، كما أن الوارد من آيات التشبيه وأخباره أمثال على حد فهم الخلق، والصفات الإلهية مقدسة عما يتخيله عوام الناس؟ يقول الغزالي: " والجواب أن التسوية بينهما تحكم، بل هما يفترقان من وجهين:   (1) ذكر ابن سينا في النجاة (ص: 291) - ط الكردي أن المعاد قسمان: بدني، جاءت به الشريعة، ولا يمكن إثباته إلا بها. والحكماء لا يكادون يلتفتون إلى هذا، والثاني: عقلي وهو الذي يكون للنفوس، ثم شرح ذلك بما ينقض ويرد النوع الأول، وانظر: تعليق سليمان دنيا في حاشية تهافشت الفلاسفة (ص: 294-295) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 901 أحدهما: أن الألفاظ الواردة في التشبيه تحتمل التأويل على عادة العرب في الاستعارة، وما ورد في وصف الجنة والنار، وتفصيل تلك الأحوال بلغ مبلغاً لا يحتمل التأويل، فلا يبقى إلا حمل الكلام على التلبيس بتخييل نقيض الحق لمصلحة الخلق، وذلك ما يتقدس عنه منصب النبوة، الثاني: أن أدلة العقول دلت على استحالة المكان والجهة والصورة ويد الجارحة وعين الجارحة، وإمكان الانتقال والاستقرار على الله سبحانه وتعالى. فوجب التأويل بأدلة العقول، وما وعد به من أمور الأخرة ليس محالاً في قدرة الله تعالى فيجب إجراؤه على ظاهر الكلام، بل على فحواه الذي هو صريح فيه " (1) . وقال في فضائح الباطنية - ويلاحظ أنه في هذين الكتابين يتبنيى مذهب الأشاعرة - " فإن قيل فهلا سلكتم هذا المسلك في التمثيلات الواردة في صفات الله تعالى من آية الاستواء وحديث النزول ولفظ القدم.. إلى غير ذلك من أخبار لعلها تزيد على ألف، وأنتم تعلمون أن السلف الصالحين ما كانوا يؤولون هذه الظواهر، بل كانوا يجرونها على الظاهر، ثم إنكم لم تكفروا منكر هذه الظواهر، بل اعتقدتم التأويل وصرحتم به - قلنا: كيف تستتب هذه الموازنة والقرآن مصرح بأنه {ليسيَ كَمثْلِهِ شًيْء} (الشورى: 11) ، والأخبار الدالة عليه أكثر من أن تحصى، ونحن نعلم أنه لو صرح مصرح فيما بين الصحابة بأن الله تعالى لا يحويه مكان ولا يحده زمان ولا يماس جسماً ولا ينفصل عنه بمسافة مقدرة وغير مقدرة ولا يعرض له انتقال وجيئة وذهاب وحضور وأفول، وأنه يستحيل أن يكون من الآفلين والمنتقليين والمتمكنين إلى غير ذلك من نفي صفات التشبيه لرأوا ذلك عين التوحيد [والتنزيه (2) ] ولو أنكر الحور والقصور والأنهار والأشجار والزبانية والنار لعد ذلك من أنواع الكذب والإنكار، ولا مساواة بين الدرجتين " (3) . ثم أحال مع زيادة وشرح على ماسبق أن ذكره في نفس الكتاب (4) - وهو مقارب جداً لما أورده   (1) تهافت الفلاسفة (ص: 291-293) ، - ت سليمان دنيا. (2) في المطبوعة - ت بدوي [والتنزيل] وهو تحريف أو خطأ مطبعي.. (3) فضائح الباطنية (ص: 154-155) . (4) انظر: المصدر السابق (ص: 53-155) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 902 في التهافت من ذكر الوجهين لكنه زاد على ما في التهافت بأن عقب بقوله: " ومساق هذا الكلام يتقاضى بث جملة من أسرار الدين إن شرعنا في استقصائها ورغبنا في كشف غطائها " (1) . وخلاصة رد الغزالي أن نصوص الصفات محتملة، أما نصوص المعاد فهي كثيرة بحيث بلغت مبلغاً لا يحتمل التأويل، ثم إن أدلة العقول أوجبت تأويل نصوص الصفات أما نصوص المعاد فلا تؤول لأنها لا تخالف أدلة العقول، وهؤلاء الملاحدة قد يقولون: إن نصوص الصفات أكثر من نصوص المعاد، كما أنهم قد يعترضون باعتراضات عقلية علىنصوص المعاد، فكيف يكون جوابهم؟ والي يظهر أن الغزالي شعر بضعف المناقشة فأحال في الإحياء - لما تطرق إلى هذا الموضوع - إلى الكشف، فقال بعد كلام طويل حول تباين الطوائف في التأويل بحيث وصل الأمر بالفلاسفة أن يؤولوا كل ما ورد في الآخرة: " وجد الاقتصاد بين هذا الانحلال كله، وبين جمود الحنابلة دقيق غامض لا يطلع عليه إلا الموفقون الذين يدركون الأمور بنور إلهي، لا بالسماع، ثم إذا انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هي عليه نظروا إلى السمع والألفاظ الواردة، فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قروره، وما خالف أولوه، فأما من يأخذ معرفة هذه الأمور من السمع المجرد فلا يستقر له فيها قدم ولا يتعين له موقف " (2) . وهكذا انتقل الغزالي من ضعف المناقشة إلى الإحالة على الكشف. أما الرازي: فإنه قال في مسألة إثبات المعاد بعد أن استدل عليه بنصوص السمع، وإجماع الأنبياء: " فإن قيل: لا نسلم إجماع الأنبياء - صلوات الله عليهم - على ذلك، وأما الظواهر في القرآن والأخبار الدالة على إثبات المعاد البدني فإنه لا يجوز التعويل عليها في هذه المسألة من وجهين: أحدهما: أنكم قد دللتم في أول هذا الكتاب على أن التمسك بظواهر الآيات والأحاديث لا يفيد القطع.   (1) فضائح الباطنية (ص: 155) . (2) إحياء علوم الدين (1/104) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 903 وثانيهما: هو أن المتشابهات الواردة في القرآن الدالة على التشبيه ليست أولى ولا أضعف دلالة من الآيات الدالة على إثبات المعاد الجسماني، ثم إنكم تجوزون تاويل تلك الآيات، فلم لا تجوزون أيضاً تأويل الآيات الواردة هاهنا.." (1) ، ثم قال الرازي في الجواب: " قولكم قد دللتم على أن التمسك بظواهر الآيات والأخبار لا يفيد القطع قلنا: لم نتمسك في هذا الموضع بآية معينة ولا بحديث معين، وإنما تمسكنا بما علم ضرورة من دين الأنبياء عليهم السلام في إثبات المعاد البدني، وبهذا خرج الجواب عن قوله: إن في كتاب الله آيات كثيرة دالة على التشبيه والقدر لأنا لم نتمسك بالآيات حتى يلزمنا الجواب عن هذه المعارضة، بل الأمر المعلوم بالضرورة من دينهم، ولم يقل أحد: إنهم علم من دينهم - عليهم السلام - بالضرورة قولهم بالتشبيه والقدر، فظهر الفرق " (2) . فالرازي أحال على الضرورة فقط دون النصوص في المعاد. ويذكر الرازي في باب التكفير - بعد أن رجح ماحده الغزالي للكفر وهو أنه " تكذي الرسول في شيء مما جاء به ونعني بالتكذيب نفس التكذيب بما علم من الدين ضرورة " (3) ، يذكر عدة اعتراضات منها: " أن صاحب التأويل إما أن يجعل من المكذبين، بل يجعل من المكذبين من يرد قوله عليه السلام من غير تأويل - وإما أن يجعل من المكذبين، فإن كان الأول لزمنا أن لا نكفر الفلاسفة في قولهم بقدم العالم، وإنكارهم علمه تعالى بالجزئيات (4) ،وإنكارهم الحشر والنشر، لأنهم يذكرون للنصوص الواردة في هذه المسألة تأويلات ليست بأبعد من تأويلاتكم النصوص الواردة في التشبيه، لأنهم يحملون النصوص الواردة في خلق الله تعالى العالم على تأثيره في العالم واحتياج العالم في وجوده إليه، ويحملون النصوص الواردة في علمه بالجزئيات، على أنه قد يعلم كل الجزئيات، على وجه كلي،- ويحملون النصوص الواردة في الحشر والنشر على أحوال النفس الناطقة في شقاوتها وسعادتها بعد المفارقة " (5) ، ثم قال   (1) نهاية العقول - مخطوط - (265 - أ) . (2) المصدر السابق (266- ب) . (3) المصدر نفسه (288-أ) . (4) في المخطوطة: الجهات، والتصويب، من نقض التأسيس، المطبوع، (1/225) . (5) نهاية العقول (288-أ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 904 في الجواب: " إنا نعلم بالضرورة إجماع الأمة على أن دينه عليه السلام هو القول بحدوث العالم، وإثبات العلم بالجزئيات وإثبات الحشر والنشر، وأن إنكار هذه الأشياء مخالف لدينه، ثم علمنا بالضرورة أنه عليه السلام كان يحكم أن كل ما خالف دينه فهو يكفر.. فالحاصل أنا لا نكفرهم لأجل مخالفتهم للظواهر، بل للإجماع على الوجه المذكور، ومثله غير حاص على الاختلاف الحاصل بين الأمة " (1) ، أي في موضوع الصفات، فالرازي أحال على الضرورة والإجماع، وهذا صحيح، لكنه عجز عن جوابهم بنصوص الوحي مع اعتراضهم عليه بتأويله لنصوص الصفات. وفي الأربعين ذكر اعتراض هؤلاء الملاحدة بقوله: " ثم إن المتكلمين سلطوا التأويلات على تلك الظواهر وزعموا أن المبدأ منزه عن الأحوال الجسمانية فكذا المعاد المذكور في الكتب الإلهية فلم لا يسلطون التأويلات عليها، ولم ينكرون أن يكون ذلك المعاد مبرأ عن الأحوال الجسمانية.."، ثم قال في الجواب: " إن التأويلات إنما يصار إليها لو كان الاحتمال قائماً، ولما علمنا بالنقل المتواتر المستفيض من دين محمد عليه السلام أنه إنما كان مثبتاً للمعاد الجسماني ومكفراً لكل من كان منكراً له لم يبقَ في هذا الباب مجال " (2) . فأحال على النقل المتواتر ومعلوم أن نصوص الصفات والعلو أيضاً معلومة بالنقل المتواتر، فما الفرق؟ وقد سبق ذكر أن الغزالي أحال على أدلة العقول وأنها تقتضي تأويل بعض آيات الصفات دون نصوص المعاد، وهذا هو جواب المعتزلة والمائلين إلى مذهبهم من الزيدية في درودهم على الباطنية، فقد قال يحيى بن حمزة العلوي (3)   (1) هذا النص ساقط من نسخة نهاية العقول التي بين يدي، مع أن الكلام في الصفحة المقابلة مستمر، لكن الموضوع مختلف - وقد أكملته من نقض التأسيس - المطبوع - (1/225-226) .. (2) الأربعين للرازي (ص: 293) . (3) هو المؤيد بالله يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم، العلوي، ولد في مدينة صنعاء سنة 669هـ، ودعا إلى نفسه بعد موت الإمام محمد بن المطهر سنة 729هـ، وله مؤلفات عديدة وهو من علماء الزيدية الكبار، توفي في ذمار باليمن سنة 745هـ، انظر: البدر الطالع (2/331) ، والأعلام (8/143) ، ومعجم المؤلفين (13/195) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 905 - المعاصر لابن تيمية -: " فإن قالوا: هذا ينقلب عليكم، فإنكم تجوزون تأويلات الظواهر كما أولتم اليد والوجه ولفظ الاستواء وغيرها، قلنا: هيهات ما أبعد هذا القلب وأعمى قلب صاحبه عن الحق، فإن لنا معياراً صادقاً وفيصلاً فارقاً في التأويل، وهو نظر العقل، فإن دل العقل على بطلان ظاهر اللفظ وكان له معنى سائغ في اللغة بطريق التجوز حملناه عليه، فلما دل العقل على بطلان اليد والوجه وغيرها لأنها من سمات الحوادث حملنا ذلك على معانٍ سائغة في اللغة بطريق المجاز " (1) ، وهذا هو جواب الغزالي، أما كتب الباطنية نفسها فقد نصت على التأويل وأن تأويلاًَ ليس ألأولى من تأويل (2) . هذه أجوبة المتكلمين - أشاعرة ومعتزلة - على هذا المأزق الذي أوقعهم فيه ملاحدة الفلاسفة والباطنية، والملاحظ أن الفلاسفة جعلوا النصوص الواردة في الصفات والمعاد نسقاً واحداً، وقالوا إن المقصود بها خطاب الجمهور، أما الخاصة - من أهل الحكمة - فيتأولونها كلها. فابن سينا جعل الشرع والملل الآتية على لسان الأنبياء برام بها خطاب الجمهور كافة - وقد سبقت الإشارة إلى قانونه هذا (3) ، وقد بنى تطاوله على المتكلمين على مايلي: 1- أن قول المتكلمين بأن هناك نصوصاً تقبل التأويل وأنها من قبيل المجاز ويمثلون لذلك بنصوص الصفات مثل: اليد والوجه والإتيان والاستواء والضحك والغضب وغيرها. فكذلك يقال في نصوص المعاد، يقول ابن سينا: " والمواضع التي يوردونها حجة في أن العرب تستعمل هذه المعاني بالاستعارة والمجاز على غير معانيها الظاهرة مواضع في مثلها تصلح أن تستعمل على هذا الوجه   (1) مشكاة الأنوار الهادمة لقواعد الباطنية الأشرار (ص: 90) ، وانظر (ص: 171-176) - ط الثالثة. (2) انظر مثلاً: تاج العقائد للداعي الإسماعيلي اليمني علي بن محمد بن الوليد (ص: 113-117) حيث نص على أن تأويلهم ليس بأولى من تأويل المتكلمين. (3) انظر: ما سبق (ص: 629) ، عند الكلام على الغزالي ومنهجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 906 ولا يقع فيها تلبيس ولا تدليس " (1) . وهو يشير بقوله: " مواضع في مثلها " إلى نصوص المعاد والجنة والنار وما فيهما من النعيم والعذاب الحسي. 2- أن نصوص الصفات منها ما يقبل التأويل - على حد زعم ابن سينا - ولكن فيها ما لا يقبل التأويل بحال، ويضرب لذلك بمثل قوله تعالى: {هَلْ ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك} (الأنعام: 158) ، ويقول عنها وما يجري مجراها: " ليس مماتذهب الأوهام فيه البتة إلى أن العبارة مستعارة أو مجازة، فإن كان أريد فيها ذلك إضماراً فقد رضي بوقوع الغلظ والشبهة، والاعتقاد المعوج بالإيمان بظاهرها تصريحاً " (2) ، وبعد أن يذكر بعض النصوص التي هي في موضع المجاز والاستعارة على حد زعمه مثل نصوص اليد والجنب يقول عنها: " كما أن في هذه الأمثلة لا تقع شبهة في أنها استعارة مجازية كذلك في تلك لا تقع شبهة في أنها ليست استعارة ولا مراداً فيها شيء غير الظاهر" (3) ، والنتيجة التي يريد ابن سينا أن يخلص إليها هي أنه إذا كانت هناك نصوص صريحة ظاهرة ولا تقبل التأويل، ثم إنكم أيها المتكلمون تأولتموها، فهذا يدل على أن نصوص الشرع كافة غير مقصود بها ما يدل عليه ظاهرها، لذلك تصبح من باب خطاب الجمهور وهي غير محتج بها في هذه الأبواب ومن ثم فيجب ألا يعتمد في إثبات المعاد عليها، بل المرجع في ذلك إلى العقل وأدلته (4) . أما ابن رشد (5) - أخطر الفلاسفة - فقد حاول أن يقارب الهوة التي تفصل بين دين الأنبياء ومذاهب الفلاسفة، وذلك بقوله إن للنصوص ظاهراً   (1) الأضحوية لابن سنيا (ص: 99) . (2) المصدر السابق (ص: 99-100) . (3) المصدر نفسه (ص:100) . (4) المصدر نفسه (ص:103) . (5) هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، المسمى بابن رشد الحفيد، تمييزاً له عن جده شيخ المالكية، ولد الحفيد سنة 520هـ، واتصل - عن طريق الفيلسوف ابن طفيل - بالأمير الموحدي أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، الذي كان مائلاً إلى أقوال الفلاسفة - فكلفه بشرج وتقريب كتب أرسطو، ففعل ابن رشد وألف في ذلك كتباً عديدة من أشهرها شرح ما بعد الطبيعة لأرسطو - مطبوع - فلما تولى المنصور يعقوب قربه أولاً، ثم نكبه ثانياً فنفى وأحرقت كتبه، ثم رضى عنه لكنه توفي بعد ذلك =بقليل سنة 594هـ، وقيل سنة 595هـ، من مؤلفاته: تهافت التهافت، ومناهج الأدلة، وفصل المقال، وغيرها كثير، ويعتبر ابن رشد من أخطر الفلاسفة لأمور: أولهما: أنه كان قاضياً وفقيهاً، وهو صاحب بداية المجتهد وهذا يعطيه مكانة بين الناس، وثانيها: أنه حاول أن يقرب بين الفلسفة والدين، وأن يجعل من هؤلاء الملاحدة أناساً أخياراً وفضلاء، وثالثهما: التصاقه بالدولة الموحدية التي قامت على أنقاض الدولة المرابطية المسنية، وهذا أعطاه جرأة في أقواله وآرائه ولذلك لم يستطع علماء الإسلام أن يبينوا حقيقة حاله إلا بعد جهد، انظر في ترجمته ومحنته، عيون الأنباء (ص: 530) ، والديباج المذهب (2/257) ، وتاريخ قضاة الأندلس (ص: 111) ، وسير أعلام النبلاء (21/307) ، والوافي (3/114) ، وانظر ابن رشد للعقاد (ص: 18-26) ، وابن رشد فيلسوف قرطبة (ص: 9) ، وما بعدها، وفي فلسفة ابن رشد الوجود والخلود - بيصار (ص: 39) ، وما بعدها، وابن رشد الحفيد: حمادي العبيدي (ص: 13) ، وما بعدها، وقصة الصراع بين الدين والفلسفة، توفيق الطويل (ص: 126-133) ، ودراسات في الفلسفة الإسلامية، محمود قاسم (ص: 87-135) وغيرها.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 907 وباطناً، وأن الشريعة قسمان: ظاهر مؤول، فالظاهر فرض الجمهور والمؤول فرض العلماء، وقد نص على ذلك في بعض كتبه (1) ، ولم يجل التأول خاصاً في بعض صفات الله كما فعل الأشاعرة، بل جعله عاماً في الصفات والمعاد والجنة والنار وغيرها، واشترط أن يقوم بهذا التأويل العلماء أو من يسميهم أهل البرهان وهم الحكماء الفلاسفة عنده، أما الجمهور والعامة فالتأويل عليهم حرام، والإفصاح لهم بحقائق التأويل الفلسفية لا يجوز (2) ، يقول: "وهاهنا أيضاً ظاهر يجب على أهل البرهان تأويله، وحملهم إياه على ظاهره كفر، وتأويل غير أهل البرهان له وإخراجه عن ظاهره كفر في حقهم أو بدعة، ومن هذا الصنف آية الاستواء وحديث النزول ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في السوداء إذا أخبرته أن الله في السماء: أعتقها فإنها مؤمنة" (3) ، إذ كانت ليست من أهل البرهان" (4) . ولذلك فخطأ الأشاعرة الذي وقعوا فيه - عند ابن رشد - هو أنهم صرحوا بهذا التأويل للجمهور، فلو أنهم حجبوه عنهم وصرحوا به لأنفسهم ولمن كان من أهل الحكمة والبرهان لكان موقفهم سليماً كما يرى الحفيد.   (1) انظر: فصل المقال (ص: 44-46) ، - ت عمارة، وتهافت التهافت (2/550-551) ، - ت سليمان دنيا، والكشف عن مناهج الأدلة (ص: 40) ، ضمن فلسفة ابن رشد. (2) انظر: تهافت التهافت (2/557-558) . (3) سبق تخريجه (ص: 565) . والحديث رواه مسلم. (4) فصل المقال (ص: 48) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 908 والملاحظ أن ابن رشد - وهو يتكلم عن الظاهر والباطن - قسم النصوص إلى ثلاثة أقسام: 1- قسم تأويله كفر، وهو ما كان في الأصول، ويمثل لذلك بمن يعتقد أن لا سعادة أخروية ولا شقاء، وأنه قصد بما ورد فيها إصلاح أحوال الناس في الدنيا، وأن ذلك حيلة، وأنه لا موجود إلا المحسوس (1) ، وابن رشد يريد بهذا القول أن يدافع عمن يقلده من الفلاسفة، وأنهم لم يقصدوا إنكار وجود سعادة أخروية، ,وإن فسروا هذه السعادة بأنها للنفوس والأرواح فقط. 2- ما يجب تأويله من الظواهر لأهل البرهان فقط دون العامة، مثل الصفات والعلو - كما سبق بيانه -. 3- وهناك نوع ثالث - وهذا هو الموطن الذي تسلط فيه على المتكلمين - متردد بين هذين الصنفين عند أهل النظر والبرهان فقط، فبعضهم يلحقه بالأول وبعضهم يلحقه بالثاني، والمخطئ فيه منهم معذور، أما الجمهور فليس لهم تأويله، ويجعل ابن رشد أمر المعاد من هذا النوع فيقول: "فإن قيل: فإذا تبين أن الشرع على ثلاث مراتب، فمن أي هذه المراتب الثلاث هو عندكم ما جاء في صفات المعاد وأحواله، فنقول: إن هذه المسألة، الأمر فيما بين، إنها من الصنف المختلف فيه، وذلك أنا نرى قوماً ينسبون أنفسهم إلى البرهان يقولون: إن الواجب حملها على ظواهرها؛ إذ كان ليس هاهنا برهان يؤدي إلى استحالة الظاهر فيها، وهذه طريقة الأشعرية، وقوم آخرون أيضاً ممن يتعاطى البرهان يتأولونها، وهؤلاء يختلفون في تأويلها اختلافاً كثيراً، وفي هذا الصنف أبو حامد معدود، هو وكثير من المتصوفة، ومنهم من يجمع فيه التأويلين كما فعل ذلك أبو حامد في بعض كتبه" (2) ، ثم يقول ابن رشد: "ويشبه   (1) فصل المقال (ص: 47) . (2) فصل المقال (ص: 49-50) ، أما ما أشار إليه ابن رشد من مذهب الغزالي، فقد سبق في ترجمة الغزالي بيان ميوله الفلسفية والصوفية، فمثل ما يشير إليه ابن رشد ليس غريباً عليه، وانظر الاقتصاد (ص: 134-135) والأربعين (ص: 215-216) ، والغزالي لا ينكر المعاد، بل ثبته - وقد سبق نقل رده على الباطنية فيه - ولكنه في بعض كتبه يفسر بعض أحواله تفسيرات فلسفية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 909 أن يكون المخطئ في هذه المسألة من العلماء معذوراً، والمصيب مشكوراً أو مأجوراً، وذلك إذا اعترف بالوجود، وتأول فيها نحواً من أنحاء التأويل أعني في صفة المعاد، لا في وجوده ... " (1) . وهكذا فابن رشد يجعل إثبات المعاد الجسماني وتفاصيل ما ورد عن الجنة وما فيها من أنواع النعيم، والنار وما فيها من ألوان العذاب، كل ذلك قابل للتأويل، لكن لأهل البرهان فقط دون الجمهور، مثل الصفات تماماً. وتفريق الأشعرية - على حد زعمه - مما لا دليل عليه (2) . وبعد هذا النقل المطول لأقوال الأشاعرة والفلسفة في هذا الموضوع المهم، نأتي إلى أقوال ومواقف شيخ الإسلام من ذلك، وقد سبق في بداية هذه الفقرة ذكل تعليله لأسباب هذا التطاول: 1- وأول ما يلاحظ أن شيخ الإسلام ركز على ذكر تطاول المعتزلة على الأشاعرة وكشفهم لتناقضهم. ومعلوم أن الأشاعرة يعتبرون مذهبهم مخالفاً لمذهب وأصول المعتزلة، ولذلك يردون عليهم كثيراً، ويبرزون - في كتبهم - القضايا التي هي موطن خلاف بينهم، ولما كانت مخالفة المعتزلة لمذهب أهل السنة مما لا يشك فيه أحد من الأشاعرة ذكر شيخ الإسلام أن هؤلاء تطاولوا عليهم وأظهروا تناقضهم. ففي معرض الرد على الأشاعرة بعد ذكره لوجه مطول في تناقضهم في الشرعيات والعقليات، يقول: "أن يقال هذه القواعد التي جعلتموها أصول دينكم وظننتم أنكم بها صرتم مؤمنين بالله وبرسوله وباليوم الآخر، وزعمتم أنكم تقدمتم بها على سلف الأمة وأئمتها وبها دمغتهم أهل الإلحاء من المتفلسفة والمعتزلة ونحوهم هي عند التحقيق تهدم أصول دينكم وتسلط عليكم عدوكم وتوجب تكذيب نبيكم والطعن في خير قرون هذه الأمة، وهذا أيضاً فيما فعلتموه في الشرعيات والعقليات" (3) ، ثم ذكر نماذج لذلك ومنها:   (1) فصل المقال (ص: 49-51) . (2) انظر: فصل المقال (ص: 51-53) ، حيث ينعني ابن رشد على أبي حامد ذكره للتأويلات في الكتب التي ألفت للجمهور، وانظر: المادية والمثالية في فلسفة ابن رشد. محمد عمارة (ص 18-28) . (3) التسعينية (ص: 261) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 910 أ- أن الأشاعرة مع مخالفتهم للمعتزلة في مسألة الرؤية والقرآن - وهي من البدع القديمة التي أظهرها المعتزلة والجمهية - إلا أنهم وافقوهم على نفي العلو والقول بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه والعجيب "أن هذه البدعة الشنعاء والمقالة التي هي شر من كثير من (1) اليهود والنصارى، لم يكن يظهرها أحد من المعتزلة للعامة ولا يدعو عموم الناس إليها، وإنما كان السلف يستدلون على أنهم يبطنون ذلك بما يظهرونه من مقالاتهم" - يقول شيخ الإسلام مخاطباً الأشاعرة -: "فموافقتكم للمعتزلة على ما أسروه من التعطيل والإلحاد الذي هو أعظم مخالفة للشرع والعقل مما خالفتموه (2) فيه في مسألة الرؤية والقرآن، فإن كل عاقل يعلم أن دلالة القرآن على علو الله على عرشه أعظم من دلالته على أن الله يرى ... فوافقتم الجهمية المعتملة وغيرهم على ما هو أبعد عن العقل والدين مما خالفتموهم فيه" (3) ، ثم يقول شيخ الإسلام - مخاطباً الأشاعرة - إن هذا أوجب فسادين عظيمين: "أحدهما: تسلط المعتزلة ونحوهم عليكم، فإنكم لما وافقتموهم على هذا التعطيل، بقي بعد ذلك إثباتكم للرؤية ولكون القرآن غير مخلوق قولاً باطلاً في العقل عند جمهور العقلاء، وانفردتم عن جميع طوائف الأمة بما ابتدعتموه في مسألة الكلام والرؤية، وقويت المعتزلة بذلك عليكم وعلى أهل السنة، وإن كنتم قد رددتم على المعتزلة" (4) ، وذلك بما فعله الأشعري وغيره من إبراز تناقض المعتزلة. والثاني: "أن الفضلاء إذا تدبروا حقيقة قولكم الذي أظهر فيه خلاف المعتزلة، وجدوكم قريبين منهم أو موافقين لهم في المعنى، كما في مسألة الرؤية فإنكم تتظاهرون بإثبات الرؤية والرد على المعتزلة ثم تفسرونها بما لا ينازع المعتزلة في إثباته ... " (5) ، وكذا في مسألة القرآن وكلام الله (6) .   (1) كذا في المطبوعة من التسعينية، ولعل العبارة: من [أقوال] اليهود.. (2) لعل الصواب خالفتموهم. (3) التسعينية (ص: 262-263) . (4) المصدر السابق (ص: 263) . (5) المصدر السابق (ص: 364) . (6) المصدر السابق (ص: 264-269) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 911 ب- وكذلك ما خالفوا فيه المعتزلة كمسألة الأسماء والأحكام حيث مالوا إلى مذهب المرجئة وقالوا مقابلة لمذهب المعتزلة: لا نعلم الفساق هل يدخل أحد منهم النار أو لا يدخلها، فوقفوا وشككوا في نفوذ الوعيد في أهل القبلة جملة، وهذا أشد ابتداعاً من مذهب المعتزلة، والسلف رحمهم الله لا يتنازعون في أنه لابد أن يدخل النار من يدخلها من أهل الكبائر ولكن لا يخلدون فيها، وهذا خلاف مذهبي المعتزلة والمرجئة (1) . جـ - وكذا ردودهم على المعتزلة في مسائل القدر (2) . ويقول شيخ الإسلام معقباً على ما سبق: "وأنتم قد خالفتم من نصوص الكتاب والسنة وسلف الأمة في مسائل الصفات والقرآن والرؤية ومسائل الأحكام والقدر وما تأولتموه، فالمعتزلة ونحوهم إذا خالفوا من ذلك ما تأولوه لم يكن لكم عليهم حجة، وإذا قدحتم في المعتزلة بما ابتدعوه من المقالات وخالفوه من السنن والآثار قدحوا فيكم بمثل ذلك، وإذا نسبتموهم إلى القدح في السلف والأئمة نسبوكم إلى مثل ذلك، فما تذمونهم به من مخالفة الكتاب والسنة والإجماع يذمونكم بنظيره، ولا محيص لكم عن ذلك إلا بترك ما ابتدعتموه وما وافقتموهم عليه من البدعة، وما ابتدعتموه أنتم، وحينئذ فيكون الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها سليماً من التناقض والتعارض" (3) . وهناك نماذج أخرى عديدة يرمي فيها المعتزلة الأشاعرة بالتناقض في الأقوال (4) ، وحينما يتسلط هؤلاء على الأشاعرة، ويتبين أن أقوال هؤلاء الذين ينسبون أنفسهم إلى مذهب السلف قريبة من أقوال هؤلاء المعتزلة - بل قد تكون أكثر تناقضاً منهم وأعظم بعداً عن مذهب السلف - حينما تبرز مثل هذه الحقائق،   (1) التسعينية (ص: 269-270) . (2) انظر: المصدر السابق (ص: 270-271) . (3) انظر: المصدر نفسه (271-272) . (4) انظر مثلاً: منهاج السنة (2/305) - المحققة -، والكيلانية، - مجموع الفتاوى (12/436) ، وشرح الأصفهانية (ص: 69-72) - المطبوعة - والتسعينية (ص: 93-94) ، ودرء التعارض (5/250-251) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 912 فإنها تكون من أعظم البيان والحجة على فساد ما خالف فيه الأشاعرة مذهب أهل السنة والجماعة، خاصة وأن المعتزلة اشتهروا بمخالفة مذهب السلف، بل إن بعض أئمة أهل السنة كفروهم. 2- وإذا كان ما سبق فيه بيان تطاول المعتزلة على الأشاعرة، فإن غلاة الصوفية والفلاسفة والقرامطة تسلطوا على الفريقين جميعاً، يقول شيخ الإسلام في معرض فضحه لعقائد غلاة الصوفية كابن عربي وابن سبعين، وبيانه لما كان بينهم وبين القرامطة الباطنية من اتصال (1) ، يقول عن ابن سبعين: "وهو وابن عربي وأمثالهما في ترتيب دعوتهم من جنس ملاحدة الشيعة الباطنية" (2) ، ثم يقول عن ملاحدة الصوفية والباطنية: "وقوى ضلالهم أمور: منها اعتقادهم أن ما جاءت به الرسل باطناً يناقض ظاهره، ومن أسباب ذلك ما حصل لهم من الحيرة والاضطراب في فهم ما جاءت به الرسل. ومنها: أنهم رأوا الطريق التي سلكها المتكلمون لا تفيد علماً، بل هي إما سفسطة وجدل بالباطل عند من عرفه، وإما جدل يفيد المغالبة عند من لم يعرف حقيقته، وذلك أن هؤلاء سلكوا في الكلام طريقة صاحب الإرشاد" (3) ونحوه، وهي مأخوذة في الأصل عن المعتزلة نفاة الصفات، وعليها بنى هؤلاء وهؤلاء أصل دينهم، وجعلوا صحة دين الإسلام موقوفاً عليها" (4) ، وهذا هو دليل حدوث الأجسام المشهور، يقول شيخ الإسلام بعد ذلك مبيناً كيف استطال هؤلاء على المتكلمين: " فجاء هؤلاء المتفلسفة لما رأوا هذه عمدة هؤلاء المتكلمين في إثبات حدوث العالم وإثبات الصانع، وتفطنوا لموضع المنع فيها وهو قولهم: يمتنع دوام الحوادث قالوا: هذه الطريقة تستلزم كون الصانع كان معطلاً عن الكلام والفعل دائماً إلى أن أحدث كلاماً وفعلاً بلا سبب أصلاً، قالوا: وهذا مما يعلم بطلانه بصريح العقل قالوا: وليس معكم من نصوص الأنبياء ما يوافق هذا، وأما إخبار الله أنه خلق السموات   (1) انظر: الصفدية (1/265-272) . (2) انظر: المصدر السابق (1/272) . (3) وهو أبو المعالي الجويني. (4) الصفدية (1/273/274) .. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 913 والأرض في ستة أيام، فهذا يدل على أنه خلقها من مادة قبل ذلك كما أخبر أنه {استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} [فصلت:11] ، وكذلك في أول التوراة ما يوافق هذا. قالوا: وهذا النص وإن كان يناقض قولنا بقدم العالم فليس فيه ما يدل على قولكم بتعطيل الصانع عن الصنع، وحينئذ فنحن نقول في هذا النص وأمثاله من نصوص المبدأ والمعاد ما نقوله نحن وأنتم في نصوص الصفات" (1) ، والملاحظ أنه مع أن الموضوع هو دليل حدوث العالم الذي لا يرجع فيه هؤلاء ولا هؤلاء إلى أدلة النصوص، وإنما يرجعون إلى أدلة العقول، الملاحظ أنهم استطالوا عليهم في اتفاقهم معهم على تأويل نصوص الصفات، لذلك فمن حقهم أن يؤولوا أيضاً نصوص حدوث العالم وما في الآخرة وهو ما يعبر عنه بالمبدأ والمعاد. وهؤلاء الذين استطالوا على المتكلمين قسام، يقول شيخ الإسلام: "ثم من هؤلاء من سلك طريق التأويل كما فعل ذلك من فعله من القرامطة كالنعمان قاضيهم، صاحب أساس التأويل، وكأبي يعقوب السجستاني صاحب الأقاليد الملكوتية، وكتاب الافتخار، وأمثالهما، وألقى هؤلاء جلباب الحياء (2) وكابروا الناس وباهتوهم، حتى ادعوا أن الصلاة معرفة أسرارهم أو موالاة أئمتهم، والصوم كتمان أسرارهم، والحج زيارة شيوخهم، وهذا يبوحون به إذا انفردوا بإخوانهم".   (1) انظر: الصفدية (1/275-276) . (2) من المؤسف حقاً أن هذه الكتب الإلحادية الباطنية التي ألقي فيها جلباب الحياء، وجاهر فيها أصحابها بكل إلحاد وزندقة قد بدأ تنتشر وتطبع على يد مؤسسات وأفراد تفرغو لخدمة هذه الطوائف. وانظر أمثلة لتأويلات هؤلاء في بعض الكتب التي أشار إليها شيخ الإسلام، منها: أساس التأويل للقاضي النعمان، قاضي قضاة الدولة الفاطمية المتوفي سنة 363هـ، انظر: (ص: 38) وما بعدها، (وص: 50) وما بعدها، وانظر: كتاب الافتخار للداعي الإسماعيلي أبي يعقوب السجستاني المتوفي سنة 353هـ (ص: 24) وما بعدها، (وص: 74) وما بعدها، أما كتاب الهفت المروي عن جعفر الصادق والمنسوب إلى المفضل الجعفي - فقد غطى على هذه الكتب وبلغ الغاية في الكفر والزندقة والإلحاد مع التأويلات المضحكة التي لا يقبلها أي عقل، انظر: (ص: 32) وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 914 " وأما الذين سكنوا بين المسلمين كالفارابي وابن سينا وأمثالهما فما أمكنهم أن يقولوا مثل هذا، وعلموا أنه مما يظهر بطلانه فقالوا: إن الرسل إنما خاطبت بما يخيل إليهم أموراً ينتفعون باعتقادها في الإيمان بالله واليوم الآخر، وإن كان ما يعتقدون من تلك الأمور باطلاً لا يطابق الحقيقة في نفسه، والخطاب الدال على ذلك كذب في الحقيقة عندهم، لكنه يسوغ الكذب الذي يصلح به الناس، ومن تحاشى منهم على إطلاق الكذب على ذلك فعنده أنه من باب تورية العقلاء الذين يورون لمصلحة أتباعهم" (1) ، ومن هؤلاء من يجوز التأويل لأهل البرهان من الفلاسفة، أما الجمهور والعامة فلا يجوز عليهم التأويل، يقول شيخ الإسلام معقباً على ما سبق: "فكان ما سلكه أولئك المتكلمون في العقليات الفاسدة، والتأويلات الحائدة هي التي أخرجت هؤلاء إلى غاية الإلحاد ونهاية التكذيب للمرسلين وفساد العقل والدين" (2) . والملاحظ أن ابن سينا مع أنه تأثر بكلام المتكلمين وخاصة المعتزلة - وذلك في مسائل منها نفي الصفات والعلو - إلا أنه لما خلط هذه الأقوال بأقوال الفلاسفة صار يستطيل على هؤلاء المتكلمين "ويجعل القول الذي قاله هؤلاء هو قول المسلمين، وليس الأمر كذلك، وإنما هو قول مبتدعتهم، وهكذا عمل إخوانه القرامطة الباطنية صاروا يلزمون كل طائفة من طوائف المسلمين بالقدر الذي وافقوهم عليه مما هو مخالف للنصوص، ويلزمونهم بطرد ذلك القول حتى يخرجوهم عن الإسلام بالكلية" (3) ، ونصوص شيخ الإسلام في هذا كثيرة (4) - لأن خطأ هؤلاء المتكلمين في هذه المسألة التي هي من أهم المسائل، بل وكثيراً ما يجعلونها عماد التوحيد، وهي مسألة حدوث العالم - كان سبباً في تسلط هؤلاء الملاحدة عليهم.   (1) الصفدية (1/276) . (2) المصدر السابق (1/277) . (3) درء التعارض (8/239) . (4) انظر: شرح الأصفهانية (ص: 138، 256-267) - ت العودة، (وص: 71) من المطبوعة، ومنهاج السنة (1/104-109، 213-215، 249-251) - المحققة - ودرء التعارض (1/372-373، 2/281-288، 8/98، 282-283) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 915 3- وأخطر الموضوعات التي أشار فيها شيخ الإسلام إلى تطاول الفلاسفة والباطنية على المتكلمين موضوع الصفات والقدر وأنه إذا جاز لهم تأويلها أو بعضها، فلم لا يجوز تأويل نصوص المعاد، والعبادات، وقد ناقش شيخ الإسلام هذه المسألة في اثنين من أهم كتبه التي أفردها في الرد على الأشاعرة وهما نقض التأسيس ودرء تعارض العقل والنقل؛ إضافة إلى الإشارات المتعددة في مختلف كتبه. أما نقض التأسيس: فقد ذكر فيه أسباب تسلط هؤلاء الفلاسفة على المتكلمين ثم نقل كلام الرازي في نهاية العقول - الذي سبق نقله - ثم قال معلقاً على جواب بأنا نعلم المعاد ضرورة: "فلينظر العاقل في هذا الجواب حيث قال لهم هؤلاء المتكلمون: نحن نعلم الأخبار بمعاد الأبدان أن الرسل أخبرت به بالضرورة، فلم يجعلوا مستند العلم بذلك دلالة القرآن والحديث والإجماع عليه؛ لأنهم [أي الفلاسفة] عارضوهم بمثل ذلك وبأبلغ منه في أمر الصفات والقدر، فعدلوا إلى ما ذكروه من أنا نعلم بالاضطرار إخبارهم بالمعاد الجسماني. فإن هذا الذي قالوه صحيح وحجة صحيحة على إثبات المعاد البدني، لكن قصروا في عدم الاحتجاج على ذلك في القرآن وبالأخبار وإجماع السلف" (1) ، ثم بين شيخ الإسلام أن السلف رحمهم الله تعالى لم يفرقوا بين الصفات والقدر بالضرورة، وقول بعضهم: إنه لم يقل أحد إن هذا معلوم بالضرورة في دينهم، ليس كذلك؛ بل أهل الحديث وغيرهم يعلمون ذلك من دينهم ضرورة، وكلا الطائفتين مخالف للفطرة العقلية ومخالف لما نعلم نحن بالضرورة من دين الرسول، ومخالف للأقيسة العقلية البرهانية، والنصوص الإلهية القرآنية والإيمانية" (2) . وقد نقل شيخ الإسلام كلام ابن رشد في فصل المقال (3) ، وجعله معاد   (1) نقض التأسيس - المطبوع - (1/223-224) . (2) المصدر السابق - المطبوع - (1/224) . (3) انظر: المصدر السابق - المطبوع - (1/226-237) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 916 الأبدان مما يجوز تأويله، ثم رد على ابن رشد وبين ما في كلامه من ميل إلى مذاهب الفلاسفة (1) ، وشيخ الإسلام - كما هي عادته - يوثق أقواله بالنقل من كتب هؤلاء، بحيث لا تبقى شبهة لأحد أو مجال لدعوى التحريف أو تحميل الكلام ما لم يحتمله. وقد أعاد شيخ الإسلام الموضوع مرة أخرى، وأشار إلى تناقض الرازي في أقواله وردوده على الفلاسفة في أمر المعاد، وبين شيخ الإسلام أنه يقال له في مسائل الصفات والقدر ما يقوله هو لأولئك في مسائل المعاد (2) ، وفي موضوع المحكم والمتشابه والرد على الرازي الذي جعل المتشابه ما خلف الدليل العقلي، يقول شيخ الإسلام: "فجعل الإحكام هو عدم المعارض العقلي، لا صفة في الخطاب وكونه في نفسه قد أحكم وبين وفصل، مع أن المعارض العقلي لا يمكن الجزم بنفيه إذا جوز وقوعه في الجملة، ولهذا استقر أمره على أن جميع الأدلة السمعية القولية متشابهة لا يحتج بشيء منها في العمليات، فلم يبق على قوله لنا آيات محكمات وهن أم الكتاب، بحيث يرد المتشابه إليها، ولكن المردوم إليه هو العقلي فما وافقه أو لم يخالفه فهو المحكم، وما خالفه فهو المتشابه، وهذا من أعظم الإلحاد في أسماء الله تعالى وأياته، ولهذا استقر قوله في هذا الكتاب (3) على رأي الملاحدة الذين يقولون: إنه أخبر العوام بما يعلم أنه باطل لكون عقولهم لا تقبل الحق فخاطبهم بالتجسيم مع علمه أنه باطل "، قال شيخ الإسلام: "وهذا مما احتج به الملاحدة على هؤلاء في المعاد، وقالوا خاطبهم أيضاً بالمعاد كما خاطبهم بالتجسيم، وهؤلاء جعلوا الفرق أن المعاد علم بالاضطرار من دين الرسول" (4) . ومنهج الأشاعرة - خاصة المتأخرين منهم - في تعاملهم مع النصوص الواردة من الكتاب والسنة في أبواب الصفات هو منهج من لا يرى لها حرمة، بل هي إما مردودة إن كانت أخبار آحاد، أو مؤولة إن كانت ثابتة بالتواتر،   (1) انظر: نقض التأسيس (1/260) . (2) انظر نقض التأسيس - المخطوط - (3/196-199) . (3) أي كتاب الرازي: أساس التقديس، ويسمى تأسيس التقديس. (4) نقض التأسيس: المخطوط - (2/274-275) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 917 ولاشك أن هذا مدخل سهل ويسير لمن أراد أن يطعن في بقية النصوص، ويلزم هؤلاء فيها بما التزموه في نصوص الصفات والعلو التي جاءت نصاً صريحاً في مدلولاتها. ولذلك لما رد شيخ الإسلام على هؤلاء في قانونهم الفاسد الذي قالوا فيه بتقديم العقل على النقل عند التعارض، جعل أحد الأوجه في الرد عليهم بيان استطالة الملاحدة على هؤلاء المتكلمين - وقد سبقت الإشارة إلى ذلك، مع الإحالة في تفصيله إلى هنا (1) -، يقول شيخ الإسلام: "الوجه العشرون أن تقول: ما سلكه هؤلاء نفاة الصفات من معارضة النصوص الإلهية بآرائهم هو بعينه الذي احتج به الملاحدة الدهرية عليهم في إنكار ما أخبر الله به عباده من أمور اليوم الآخر، حتى جعلوا ما أخبرت به الرسل عن الله وعن اليوم الآخر لا يستفاد منه علم، ثم نقلوا ذلك إلى ما أمروا به من الأعمال: كالصلوات الخمس، والزكاة، والصيام، والحج. فجعلوها للعامة دون الخاصة، فآل الأمر بهم إلى الإلحاد في الأصول الثلاثة التي اتفقت عليها الملل كما قال تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصائبين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 62] ، فأفضى الأمر بمن سلك سبيل هؤلاء إلى الإلحاد في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح وسرى ذلك في كثير من الخائضين في الحقائق من أهل النظر والتأله من أهل الكلام والتصوف، حتى آل الأمر بملاحدة المتصوفة كابن عربي صاحب فصوص الحكم وأمثاله إلى أن جعلوا الوجود واحداً وجعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق وهذا تعطيل للخالق، وحقيقة قولهم فيه مضاهاة لقول الدهرية الطبيعية الذين لا يقرون بواجب أبدع الممكن، وهو قول فرعون، ولهذا كانوا معظمين لفرعون ... وآخر تحقيقهم استحلال المحرمات وترك الواجبات، كما كان يفعل أبرع محققيهم التلمساني وأمثاله (2) - ثم ذكر أحوال الصوفية، والقرامطة الباطنية والإسماعيلية ومن كان ينتسب إليهم كابن سينا وغيره (3) -، ثم قال:   (1) انظر: ما سبق في هذا الفصل في مبحث لا تعارض بين العقل والنقل، الفقرة السادسة. (2) انظر: درء التعارض (5/3-4) .. (3) انظر: المصدر السابق (5/4-10) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 918 "والمقصود هنا أن هؤلاء الملاحدة يحتجون على النفاة بما وافقوهم عليه من نفي الصفات، والإعراض عن دلالة الآيات، كما ذكر ذلك ابن سينا في "الرسالة الأضحوية" التي صنفها في المعاد لبعض الرؤساء الذين طلب تقربه إليه ليعطوه مطلوبه منهم من الجاه والمال" (1) . ثم نقل شيخ الإسلام نصاً مطولاً من هذه الرسالة الأضحوية (2) . وهؤلاء المتكلمون بمنهجهم الباطل كانوا سبباً في استطالة عدد كبير من طوائف الملاحدة، ومن أبرزها: - طائفة الفلاسفة. - طائفة الباطنية من القرامطة والإسماعيلية وغيرهم. - وغلاة الصوفية الذين وصل بهم الأمر إلى وحدة الوجود وتعطيل الشرائع، وشيخ الإسلام وهو في موضع الرد على أولئك المتكلمين لا يجعل ذلك مبرراً للسكوت عن أقوال هؤلاء الملاحدة، بل يفضحهم ويرد عليهم، ويبين أن هؤلاء المتكلمين أفضل منهم بدرجات، ولذلك يقول بعدما نقل أقوال ابن سينا في الأضحوية التي استطال بها على المتكلمين. "والكلام على هذا من فنين: أحدهما: بيان لزوم ما ألزم لنفاة الصفات، الذين سموا نفيها توحيداً من الجهمية والمعتزلة ونحوهم. والثاني: بيان بطلان كلامه، وكلامهم الذي وافقوهم عليه" (3) . ثم شرح شيخ الإسلام هذين الأمرين شرحاً وافياً، بين فيه كيف استطال ابن سينا على المتكلمين، كما رد على ابن سينا وأغلظ عليه بما يستحقه (4) .   (1) انظر: درء التعارض (5/10) . (2) انظر: المصدر السابق (5/10-18) . (3) انظر: المصدر نفسه (5/18-19) . (4) انظر: المصدر السابق (5/19) إلى نهاية هذا الوجه (ص: 203) ، وانظر: تعليقات شيخ الإسلام على أقوال ابن سينا في (5/63-73) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 919 وفي موضوع يذكر نماذج من هذا التسلط فيقول: " المتفلسفة الدهرية كالفارابي وابن سينا يزعمون أن العقل يحيل معاد الأبدان، فيجب تقديم العقليات على دلالة السمع، ويخاطبون من أقر بالمعاد من المعتزلة وموافقيهم في نفي ذلك بما تخاطب به المعتزلة المثبتة للصفات ويقولون لهم: قولنا في نصوص المعاد كقولكم في نصوص الصفات، وهكذا خاطبت القدرية من المعتزلة والشيعة وغيرهما متكملة الإثبات في مسألة القدر، وقالت: القول في النصوص المثبتة للقدر وأن الله خالق أفعال العباد، كالقول في نصوص الصفات " (1) . ويشرح المأزق الذي وقع فيه هؤلاء المتكلمون فيقول: "إن هؤلاء النفاة للصفات المثبتين للمعاد هم بين المؤمنين بالجميع كالسلف والأئمة، وبين الملاحدة المنكرين للصفات والمعاد، فالملاحدة تقول لهم: قولنا في نفي كقولكم في نفي الصفات، فلا يستدل بالشرع على هذا ولا على هذا لمعارضة العقل له. والمؤمنون بالله ورسوله يقولون لهم: قولنا لكم في الصفات كقولكم للملاحدة في المعاد، فإذا قلتم للملاحدة: إثبات المعاد معلوم بالاضطرار من دين الرسول قلنا لكم: وإثبات الصفات والعلو والأفعال معلوم بالاضطرار من دين الرسول" (2) . ولما ناقش شيخ الإسلام نفاة العلو ورد عليهم طويلاً، كان من ضمن منهجه في الرد عليهم بيان هذه الاستطالة من جانب الملاحدة، وأنه لا يستطيع نقض أقوالهم ما دام موقفهم من نصوص العلو المتواترة بهذه الطريقة، وقد ساق شيخ الإسلام حواراً بين هؤلاء بين فيه كيف ينتهي الأمر إلى عجز المتكلمين عن مناقشة الملاحدة إلا بنوع من التناقض، يقول شيخ الإسلام في مقدمة هذا الحوار: "أن يقال لمن أجاب بهذا عن النصوص [وذلك حين قال: إنها معارضة بأدلة العقول] :   (1) درء التعارض (5/250-251) . (2) المصدر السابق (5/301-302) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 920 إذا احتججت على من ينفي ما تثبته بالنصوص، كإثبات القدر - إن كنت من المثبتين له - أو إثبات الجنة والنار وما فيهما من الأكل والشرب ونحو ذلك - إن كنت من المثبتين لهـ إذا قال لك منازعك: هذه الظواهر التي احتججت بها قد عارضشها دلائل عقلية وجب تقديمها عليها. فما كان جوابك لهؤلاء كان جواب أهل الإثبات لك. فإن قلت: ما أثبته معلوم بالاضطرار من الدين. قال لك: أهل الإثبات للعلو: وهذا معلوم لنا بالاضطرار من الدين. فإن قلت: أنا لا أسلم هذا لكم. قالوا لك: ومن نازعك من القرامطة أو الفلاسفة أو المعتزلة لا يسلم لك ما ادعيته من الضرورة " (1) . ويستمر في هذا الحوار العديب الذي قال فيه شيخ الإسلام: " واعلم أنهل يلس من أهل الأرض إلا من يمكن مخاطبته بهذه الطريق " (2) . وهذا الباب الذي أبدع شيخ الإسلام في أسلوب عرضه، واستخدامه في الرد على الأشاعرة وغيرهم يفسر - مع غيره من الأوجه - ذلك العداء الشديد والحقد المتراكم عليه في حياته وبعد مماته من جانب أعداد كبيرة من أهل الأهواء أو من أتباعهم المقلدين لهم. لقك كان شيخ الإسلام -رحمه الله- علماً شامخاً وما استطاع معارضوه أن يجادلوا حجته بالحجة، وإنما لجأؤا إلى الأساليب الملتوية من التشهير وتحريف الكلام مما قد ينع العامة، ولكنه لا يثبت أمام الحجاج بالشرع والعقل.   (1) درء التعارض (7/ 134-135) . (2) المصدر السابق (7/136) ، وانظر: بقية الحوار مع ردود ومناقشات أخرى إلى (ص: 140) ، من هذا الجزء، وانظر أيضاً: حول موضوع الاسطالة: الدرء (8/241-242) ، ومنهاج السنة (2/112) - المحققة - والتسعينية (ص: 261) وغيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 921 والخلاصة أنه ليس لهؤلاء المتكلمين نفاة الصفات أو بعضها مخلص لا مخرج من هذه المضايق التي وقعوا فيها إلا بالعودة إلى منهج السلف وإثبات ما أثبته الله ورسوله ونفي ما نفاه الله ورسوله. * * * وبعد: فهذه خطوط عامة في منهج شيخ الإسلام في الرد على الأشاعرة فيما خالفوا فيه أهل السنة، ومنها يتبين: 1- أن شيخ الإسلام وهو يرد على هؤلاء لم ينسً في أي موقف من المواقف الرد انيبين ما عندهم من أمور إيجابية وأقوال صائبة، وكيف يغفل هذا وهو يقول في معرض الرد على أحد ملاحدة الفلاسفة الإسماعيلية - وهو ابن سينا -: " وما ذكره من امتناع التحريف على كلية الكتاب العبري حق ما قال" (1) ، ثم يذكر أدلة على ذلك. 2- أن شيخ الإسلام يرجع المسائل الفرعية إلى أصولها، ويقرر الرد ببيان هذه الأصول: - فبين أن الكتاب والسنة فيهما الكفاية والهداية التامة. - كما يقرر أن ما وقع فيه هؤلاء من علم الكلام المذموم الذي اتفق السلف على ذمة. - ويقرر أيضاً أن السلف أعلم وأحكم، ولا يجوز معارضة ما أجمعوا عليه. وبين أثناء ذلك جهل هؤلاء المتكلمين بحقيقة مذهب السلف. - كما يقرر أنه لا يمكن أن يقع تعارض بين العقل الصريح والنقل الصريح. 3- ثم إن شيخ الإسلام يستخدم في الرد عليهم أساليب غير مباشرة لكنها عميقة الأثر:   (1) انظر: درء التعارض (5/78) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 922 - فهو يرجع أقوال هؤلاء إلى أصولها الاعتزالية والفلسفية، وهم يصرحون في مخالفة هؤلاء والرد عليهم. - ثم يرد على متأخيرهم بأقوال شيوخهم، ولقد كان هذا من أشد وأوجع ما لقي الأشاعرة، ولذلك امتحنوا شيخ الإسلام محنة عظيمة بسبب الفتوى الحموية لأنها مبنية على هذا الوجه. - ولم يكتف ببيان مناقضتهم لشيوخهم بل أبرز تناقض أقوالهم أنفسهم، سواء في كتبهم المتعددة أو في الكتاب الموحد. 4- وأخيراً فإن شيخ الإسلام قد اهتم ببيان أمرين عظيمين بالنسبة لهؤلاء: أحدهما: ما وقعوا فيه من الحيرة والشك والاضطراب، وهي حيرة أشبهت كثيراً حيرة ملاحدة الفلاسفة، ثم رجوع كثير منهم إلى المذهب الحشق وتبرمه مما كان عليه من علم الكلام، والسؤال الحاسم هنا: إذا كان الأمر بهذه المثابة، فهل الأولى بهؤلاء الأتباع الذين يناقشهم شيخ الإسلام ويبين الأمر لهم، هل الأولى بهم أن يبدأوا من حيث بدأ شيوخهم فيدخلوا في علم الكلام ويتعلموه ويستخدموه، حتى إذا غاصوا فيه وبلغوا الغاية أو ما يقاربها، قالوا مثل شيوخهم ياليتنا لم نتعلم علم الكلام، وياليتنا نموت على عقيدة العجائز. أم الأولى بهم أن يأخذوا من ذلك درساً ويبدأوا منحيث انتهى بالاعتماد على الكتاب والسنة اعتماداً كاملاً ونبذ ما عدا هما مما هو مخالف ومناقض لهما؟ والثاني: أن هؤلاء المتكلمين بمنهجهم فتحوا الباب لتسلط الملاحدة من الفلاسفة، والباطنية، وغلاة الصوفية، عليهم وعلى المسلمين، وكم في هذا من الخطر على عقيدة المسلمين وشريعتهم؟. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 923 الفصل الثالث: موقفه في الرد عليهم تفصيلا وفيه مباحث: المبحث الأول: في توحيد الألوهية والربوبية. المبحث الثاني: في الأسماء والصفات. المبحث الثالث: في القضاء والقدر. المبحث الرابع: في الإيمان. المبحث الخامس: في بقية أمور العقيدة التي خالفوا فيها أهل السنة والجماعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 929 مقدمة : في الفصلين السابقين كان تفصيل القول في منهجه العام في الرد على الأشاعرة سواء في بيان الأمور الإيجابية التي اعترف لهم بها، أو بيان الخطور العامة في الرد عليهم. وفي هذا الفصل سيتم -إن شاء اللهـ عرض ردوده المفصلة على الأشاعرة في مسائل العقيدة المتعددة، وقبل الدخول في ذلك ينبغي أن يلاحظ ما يلي: 1- أن هذه المناقشات تشمل متقدمي الأشاعرة ومتأخريهم فيما اتفقوا عليه، أما ما خالف فيه متأخرو الأشعرية متقدميهم، فالمناقشة تختص بهؤلاء المتأخرين فقط، وشيخ الإسلام لم يغفل هذا، ولكن التنبيه هنا إنما هو من باب الأمانة في نسبة الأقوال إلى أصحابها، حتى لا يحمل أولئك الشيوخ المتقدمون الأقوال الفاسدة التي أتى بها أتباعهم المنتسبون إليهم. وعلى المؤمن أن لا يأخذه الحماس في مثل هذه المواقف فيحيد عن العدل والقسط والله تبارك وتعالى يقول في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8] ، والآية واضحة الدلالة في هذا الباب وغيره، خاصة وأنه ورد أنها نزلت في اليهود أو المشركين (1) . 2- أن شيخ الإسلام حينما يرد على المخالفين، ينقل أقوالهم بحروفها -وهذا من أسس منهجه وأمانته التي سبق توضيحها- ثم يرد عليها.   (1) انظر: تفسير هذه الآية وما ورد في أسباب نزولها في تفسير الطبري، وزاد المسير لابن الجوزي: سورة المائدة آية 8. (2) انظر ما سبق (ص: 320) وما بعدها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 931 وهذا المنهج يفيد كثيرا فيما سيرد من مناقشات تفصيلية للأشاعرة، وخاصة في مسألة توثيق أقوال الأشاعرة من كتبهم؛ لأن الردود لابد أن تكون على أقوال ثبتت نسبتها إلى قائليها، وأن تكون هذه الأقوال قد فهمت فهما سليما كما قصدها أصحابها، ولا تكون أقوالا دخلها التحريف، أو أقوالا معترضة نقلها صاحب الكتاب مثلا عن غيره فهو ناقل لها، وقد يأتي بما ينقضها بعد قليل. وشيخ الإسلام بأمانته في النقل يجعل ردوده كافية في تصور الأقوال المردود عليها، فكيف إذا أضاف إلى ذلك النقل الحرفي من كتب الذين يرد عليهم؟. 3- أن ردود شيخ الإسلام التفصيلية على الأشاعرة في كل مسألة من مسائل العقيدة جاءت طويلة جدا، كثيرة التفريعات، وقد تبين بعد جمع المادة العلمية مما كتبه شيخ الإسلام أن كل واحدة من هذه المسائل بحاجة إلى بحث أو رسائل مستقلة وخاصة مثل موضوع: - توحيد الربوبية والألوهية - والصفات عموما - وكلام الله - والعلو والاستواء -والقدر ولذلك فإن ضرورة البحث تقتضي الاكتفاء بالخطوط العامة في كل مسألة من هذه المسائل، ومحاولة بيان منهج شيخ الإسلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 932 المبحث الأول: في توحيد الربوبية والألوهية غالب كتب الأشاعرة الكلامية تبتدئ بتفصيل المقدمات العقلية والمنطقية والطبيعية، ثم تعرض بعد ذلك لما يسمى بالإلهيات، وأول ما تبتدئ به من ذلك إثبات وجود الله، وبيان أن ما سواه محدث مخلوق، وترد في أثناء ذلك على الدهرية والفلاسفة وغيرهم، ثم تعرض بعد ذلك لوحدانية الله الخالق وصفاته. وفي أثناء ذلك تعرض لعدة مسائل كأول واجب على المكلف، ودليل حدوث الأجسام وغيره من الأدلة، ومعنى التوحيد، وغيرها من المسائل التفصيلية. هذه سمة عامة لكتب الأشاعرة (1) ، وقد تتبع شيخ الإسلام هذه القضايا وناقشها، ورد على الأشاعرة في المسائل التي قصروا أو أخطأوا فيها، ويمكن عرض منهج شيخ الإسلام في مناقشة هذه القضايا حسب النقاط التالية: 1- أول واجب على المكلف. 2- التوحيد عند الأشاعرة، وحقيقة التوحيد الذي دعت إليه الرسل. 3- توحيد الربوبية ويشمل: أ - أدلة إثبات الصانع، وحدوث العالم. ب - إثبات وحدانية الله.   (1) انظر على سبيل المثال: التمهيد للباقلاني (ص: 22-25) - ت مكارثي، أصول الدين للبغدادي (ص: 68) وما بعدها، الاعتقاد للبيهقي (ص 38-48) ، الارشاد للجويني (ص: 3-29) و (ص: 52-59) ، والاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص: 18-26، 48) ، ونهاية الإقدام للشهرستاني (ص: 5) وما بعدها، و (ص: 90) ، والأربعين للرازي (ص: 3) وما بعدها و (ص: 221) ، وغاية المرام للآمدي (ص: 9-23) ، وشرح المواقف (8/2) وما بعدها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 933 أولا: أول واجب على المكلف : هذه المسألة مبنية على مسألة أخرى، وهي كيفية حصول المعرفة بالله عند الإنسان، حيث وقع الخلاف فيها على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن معرفة الله لا تحصل إلا بالنظر، وهذا قول كثير من المعتزلة والأشاعرة وأتباعهم من أصحاب المذاهب الأربعة وغيرهم. القول الثاني: أن المعرفة يبتديها الله اختراعا في قلوب العباد من غير سبب يتقدم، ومن غير نظر ولا بحث، وهذا قول كثير من الصوفية والشيعة، ومعنى هذا القول أن المعرفة بالله تقع ضرورة فقط. القول الثالث: أن المعرفة بالله يمكن أن تقع ضرورة، ويمكن أن تقع بالنظر، وهذا قول جماهير المسلمين (1) . إذا تبين هذا فالذين قالوا بأن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر اختلفوا في أول واجب على المكلف: 1- فقال بعضهم: أول واجب النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدوث العالم. 2- وقالت طائفة: أول واجب القصد إلى النظر الصحيح. 3- وقالت طائفة أخرى: أول واجب الشك. 4- وقالت طائفة رابعة: أول واجب المعرفة بالله (2) . ويقابل هذه الأقوال من يرى أن أول واجب على المكلف الشهاداتان: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا رسول الله، وإفراد الله بالعبودية.   (1) انظر: درء التعارض (7/352-354، 8/24، 9/3،18-24) . (2) انظر: الإرشاد (ص: 3) ، والمعتمد في أصول الدين للقاضي أبي يعلى (ص: 21) . وانظر أيضا: النبوات (ص: 59، 62، 95) ، ومجموع الفتاوى (20/202) ، ودرء التعارض (7/353) ، والاستقامة (1/142) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 934 وهذه المعرفة التي يوجبها الأشاعرة مباشرة أو بوسائلها من النظر أو القصد إلى النظر هي معرفة الله تعالى، أي الإقرار بوجوده تعالى وأنه خالق العالم وأن ما سواه مخلوق محدث. وشيخ الإسلام يوضح في هذا الباب أمرين مهمين: أحدهما: أن الخلاف الذي وقع بين الأشاعرة حول أول واجب: هل هو المعرفة أو النظر أو القصد إلى النظر أو الشك - خلاف لفظي -، "فإن النظر واجب وجوب الوسيلة، من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. والمعرفة واجبة وجوب المقاصد، فأول واجب وجوب الوسائل هو النظر، وأول واجب وجوب المقاصد هو المعرفة، ومن هؤلاء من يقول: أول واجب هو القصد إلى النظر، وهو أيضا نزاع لفظي، فإن العمل الاختياري مطلقا مشروط بالإرادة" (1) . فهذا تحليل لحقيقة الخلاف، وأن من قال: إن أول واجب النظر أو القصد، لم يقصد حقيقة ذلك، وإنما قصد أنهما مؤديان إلى المعرفة بالله فوجوبهما لذلك. أما القول بأن أول واجب هو الشك - وهو قول منسوب إلى أبي هاشم الجبائي المعتزلي، وقد أخذ به الغزالي - كما مر (2) - ونسبه ابن حزم إلى الأشعرية (3) - فيرى شيخ الإسلام أنه مبني على أصلين: "أحدهما: أن أول الواجبات النظر، فلا يكون في حال النظر عالما" (4) ، أي أنه لو كان غير شاك لما احتاج إلى النظر. الثاني: أن حكاية الأقوال - في كثير من مسائل العقيدة - إنما يحكيها هؤلاء وينسبوها إلى أئمة أهل السنة بحسب ما يعتقدون هم، لا بحسب المروي   (1) انظر: درء التعارض (7/353) . (2) انظر: (ص: 667) ، وانظر: الجبائيان (ص: 333) . (3) الفصل (4/74) - المحققة -. (4) انظر: درء التعارض (7/419) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 935 حقيقة عن هؤلاء الأئمة، يقول شيخ الإسلام: "ولما كان الكلام في هذه الأبواب المبتدعة مأخوذا في الأصل عن المعتزلة والجهمية ونحوهم، وقد تكلم هؤلاء في أول الواجبات: هل هو النظر، أو القصد، أو الشك، أو المعرفة؟. صار كثير من المنتسبين إلى السنة والمخالفين للمعتزلة في جمل أصولهم يوافقونهم على ذلك، ثم الواحد من هؤلاء إذا انتسب إلى إمام من أئمة العلم كمالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد، وصنف كتابا في هذا الباب يقول فيه: قال أصحابنا، واختلف أصحابنا، فإنما يعني بذلك أصحابه الخائضين في هذا الكلام، وليسوا من هذا الوجه من أصحاب ذلك الإمام؛ فإن أصحابه الذين شاركوه في مذهب ذلك الإمام إنما بينهم وبين أصحابه المشاركين له في ذلك الكلام عموم وخصوص، فقد يكون الرجل من هؤلاء، وبالعكس، وقد يجتمع فيه الوصفان (1) ". ويضرب لذلك مثلا يقول أبي الفرج المقدسي الحنبلي في كتابه "التبصرة في أصول الدين": "فصل في أول ما أوجب الله على العبد معرفته، والثاني: أن أول ما أوجب الله على العبد النظر والاستدلال المؤديان إلأى معرفة الله تعالى" (2) . يقول شيخ الإسلام معلقا: "قلت فهذا الكلام وأمثاله يقوله كثير من أصحاب الأئمة الأربعة، ومعلوم أن الأئمة الأربعة ما قالوا لا هذا القول، ولا هذا القول، وإنما قال ذلك من أتباعهم من سلك السبيل المتقدمة" (3) أي المبتدعة والتي سبق أن ذكرها شيخ الإسلام من دليل الأعراض وغيره. والغرض من ذكر هذه الحقيقة هنا - مع أنها لا تختص في هذا الموضع - الإشارة إلى أمرين: أحدهما: أن هذا جزء من منهج شيخ الإسلام ابن تيمية،   (1) درء التعارض (8/3-4) . (2) المصدر السابق (8/4-5) ، وانظر: النص في "التبصرة في أصول الدين" (ص: 6-7) - مطبوع على الآلة الكاتبة - تحقيق إبراهيم بن محمد الدوسري، وأبو الفرج المقدسي اسمه: عبد الواحد ابن محمد علي الشيرازي المقدسي الأنصاري الحنبلي. توفي سنة 486 هـ، كانت له وقعات مع الأشاعرة. انظر في ترجمته طبقات الحنابلة (2/248) ، وذيلها (1/68) ، وسير أعلام النبلاء (19/51) . (3) درء التعارض (8/6) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 936 فهو دائما يركز على وجوب الاهتمام بصحة نسبة الأقوال إلى أصحابها، ولما كان البحث هنا في أول مسألة من المسائل التى خالف فيها الأشاعرة مذهب أهل السنة، ناسب ذكر هذه المسألة التى تدل على خطأ منهجي وعلمي يمارسه كثير من أهل الكلام، والأمر الثاني: أن شيخ الِإسلام ضرب مثالا برجل حنبلي، وخطأه فيما نسب إلى أئمة الحنابلة من أقوال حين شمل بتعميمه جميع الحنابلة من كان منهم سائرا على مذهب السلف ومن كان خائضا فيما خاض فيه أهل الكلام، وكأن شيخ الاسلام قصد أن هذا الأسلوب إذا كان قد وقع لبعض الحنابلة حين نسبوا إلى بعض أئمتهم ما لم يقولوه فلأن يقع في غيرهم من باب أولى، ومع ذلك فهو يدل على العدل والِإنصاف الذي تحلى به شيخ الإسلام في أحكامه وأقواله؛ إذ لم يمنعه ميله إلى الحنابلة ودفاعه عنهم بأنهم أقل الطوائف انحرافا- وإن كان قد يوجد فيهم من وافق أهل الأهواء- لم يمنعه ذلك من ضرب المثال بخطأ أحد أعلامهم. وشيخ الاسلام يرى أن القول بأن أول واجب على المكلف هو النظر أو القصد إلى النظر أو معرفة الله أو الشك، قول باطل، وأن الصحيح أن أول واجب هو الشهادتان المتضمنتان لتوحيد الله وإفراده بالعبودية ويذكر لذلك عدة أدلة من الكتاب والسنة، ومنها: 1- حديث معاذ المشهور، يقول ابن تيمية: " والنبي- صلى الله عليه وسلم- لم يدع أحدا من الخلق إلى النظر ابتداء، ولا إلى مجرد إثبات الصانع، بل أول ما دعاهم إليه الشهادتان، وبذلك أمر أصحابه، كما قال في الحديث المتفق على صحته لمعاذ ابن جبل- رضي الله عنهـ لما بعثه إلى اليمن: إنك تأتي قوما أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا اله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم " (1) ، وكذلك سائر الأحاديث عن النبي- صلى الله عليه وسلم-   (1) متفق عليه، البخارى: كتاب الزكاة، باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة ورقمه 1458 (الفتح 3 / 322) ، وباب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء، ورقمه 1496 (الفتح 3 / 357) . ومسلم: كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، ورقمه 19. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 937 موافقة لهذا" (1) ، ويلاحظ التصريح بلفظ " أول " في الحديث حيث قال: " فليكن أول ما تدعوهم إليه " فهو نص في الموضوع، مع أن المتواتر من أحواله - صلى الله عليه وسلم- وسيرته أنه كان يدعو الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله، وهذا منهج رسل الله جميعا حيث إنهم " يأمرون بالغايات المطلوبة من الِإيمان بالله ورسوله وتقواه، ويذكرون من طرق ذلك وأسبابه ما هو أقوى وأنفع، وأما أهل البدع المخالفون لهم فبالعكس يأمرون بالبدايات والأوائل (2) "، وإذا كانت معرفة الله فطرية، والعباد مفطورون على الِإقرار بربهم وخالقهم فالأجدى والأنفع لهم أن يدعوا إلى إفراد هذا الرب بالعبادة والطاعة، لا أن يشغلوا بما هو بدهي وفطري، ومع ذلك فإن شيخ الإسلام يذكر أن بعض الناس قد يعرض له ما يفسد فطرته فيكون بحاجة إلى نظر حتى تحصل له المعرفة، والخطأ الذي وقع فيه أهل الكلام زعمهم أن معرفة الله لا تتم إلا بهذا الطريق، يقول شيخ الإسلام: "إن الإقرار والاعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته حتى يحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة وهذا قول جمهور الناس، وعليه حذاق النظار، أن المعرفة تارة تحصل بالضرورة وتارة بالنظر" (3) . وقد سبق في بداية هذه الفقرة ذكر الخلاف في ذلك. 2- ومن الأدلة على أن النظر ليس أول واجب قوله تعالى: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" [العلق: 1] ، يقول شيخ الاسلام: " وهذه الآية أيضا تدل على أنه ليس النظر أول واجب، بل أول واجب ما أوجب الله على نبيهـ صلى الله عليه وسلم- "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ"، لم يقل انظر واستدل حتى تعرف الخالق، وكذلك هو أول ما بلغ هذه السورة، فكان المبلغون مخاطبين بهذه الآية قبل كل شىء، ولم يؤمروا فيها بالنظر والاستدلال " (4) ، ويجيب هنا عن   (1) درء التعارض (8/6-7) . (2) المصدر السابق (8/21) . (3) مجموع الفتاوى (16/328) . (4) مجموع الفتاوى (16/328) ، وانظر أيضا (16/232) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 938 الاعتراض الذى يورده الباقلاني ومضمونه: أن المعرفة لو حصلت بغير النظر لسقط التكليف بها، فيبين أن المعرفة نفسها لم يدل دليل على وجوبها، بل هي موجودة عند جميع الناس لأنهم مفطورون عليها، ولذلك فإن الرسل افتتحوا دعوتهم بالأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، كما في قصة نوح، وهود، وصالح، وشعيب، وغيرهم من الأنبياء، لأن أممهم كانوا مقرين بالخالق، لكنهم كانوا يعبدون معه غيره، كما هو حال مشركي العرب (1) ، ولذلك قالت الرسل "أَفِي اللَّهِ شَكٌّ" [إبراهيم: 10] وهذا نفي، " أي ليس في الله شك، وهو استفهام تقرير يتضمن تقرير الأمم على ما هم مقرون به من أنه ليس في الله شك، فهذا استفهام تقرير " (2) . 3- وبعد أن يفصل شيخ الإسلام القول في أحاديث الفطرة، وقوله تعالى: " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات: 56] يقول: " والمقصود هنا أنه معروف عند السلف والخلف أن جميع الجن والإنس معترفون بالخالق مقرون به، مع أن جمهور الخلق لا يعرفون النظر الذي يذكره هؤلاء، فعلم أن أصل الإقرار بالصانع والاعتراف به مستقر في قلوب جميع الإنس والجن وأنه من لوازم خلقهم، ضروري لهم، وإن قدر أنه حصل بسبب، كما أن اغتذاءهم بالطعام والشراب هو من لوازم خلقهم وذلك ضروري منهم وهذا هو الإقرار بالشهادة المذكورة في قوله: " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ . قَالُوا بَلَى ... " [الأعراف: 172] .. " (3) . 4- ومن الأدلة أيضا الإجماع؛ فإن أئمة الدين وعلماء المسلمين " مجمعون على ما علم بالاضطرار من دين الرسول: أن كل كافر فإنه يدعى إلى الشهادتين سواء كان معطلا أو مشركا أو كتابيا، وبذلك يصير الكافر مسلما، ولا يصير   (1) مجموع الفتاوى (16/332) . (2) المصدر السابق (16/339) . (3) درء التعارض (8/482) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 939 مسلما بدون ذلك" (1) ، ويستشهد بكلام ابن المنذر: "أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن الكافر إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأن كل ما جاء به محمد حق، وأبرأ إلى الله من كل دين يخالف دين الإسلام- وهو بالغ صحيح يعقل- أنه مسلم. فإن رجع بعد ذلك فأظهر الكفر كان مرتدا، يجب عليه ما يجب على المرتد" (2) ، وهذا موافق لما دلت عليه النصوص، وما ابتدعه هؤلاء من وجوب النظر والمعرفة فليس عليه دليل، وإنما أخذوه من أهل الاعتزال والكلام. ولا يكتفي شيخ الإسلام بهذه الردود المباشرة على قول هؤلاء، وإنما يرد عليهم من وجوه أخر، يبين فيها تناقض الأشاعرة وردود بعضهم على بعض، كما يربط المسألة بمسائل أخر توضح خطأهم فيها: 1- فإبراز التناقض عند الأشاعرة من منهج شيخ الإسلام العام في الرد على الأشاعرة- وقد سبق تفصيل القول فيهـ، ووجه تناقضهم هنا أنهم مع قولهم بأن أول الواجبات النظر أو المعرفة إلا أنهم يقولون لا واجب إلا بالشرع - خلافا للمعتزلة- وهذا يناقض ما أوجبوه من النظر، يقول شيخ الإسلام: "ثم القول بأن أول الواجبات هو المعرفة أو النظر لا يمشي على قول من يقول: لا واجب إلا بالشرع، كما هو قول الأشعرية وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، فإنه على هذا التقدير لا وجوب إلا بعد البلوغ على المشهور وعلى قول من يوجب الصلاة على ابن عشر سنين أو سبع، لا وجوب على من لم يبلغ ذلك، وإذا بلغ هذا السن فإنما يخاطبه الشرع بالشهادتين إن (3) كان لم يتكلم بهما، وإن كان تكلم بهما خاطبه بالصلاة، وهذا هو المعنى الذي قصده من قال: أول الواجبات الطهارة والصلاة، فإن هذا أول ما يؤمر به المسلمون إذا بلغوا أو إذا ميزوا" (4) ، وفي موضع آخر يبين شيخ الإسلام جانبا   (1) درء التعارض (8/7) . (2) المصدر السابق (8/7) وكلام ابن المنذر في الإجماع (ص: 154) - ط دار طيبة. (3) في المطبوعة [وإن] ولعل الواو زأندة. (4) درء التعارض (8/12-13) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 940 آخر من غلطهم وتناقضهم في هذا، وهو أنه لو قدر أن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر، فهل من شرط ذلك أن يتأخر إلى البلوغ، ولو فرض أنه نظر قبل البلوغ لحصل له ذلك وهو غير واجب عليه (1) . 2- ويطبق شيخ الاسلام جانبا آخر من منهجه العام في الرد على الأشاعرة، وهو ردود بعضهم على بعض- وقد سبق توضيح ذلك في الفصل السابق- وهو هنا ينقل كلام بعض الأشاعرة أو المائلين إلى طريقتهم: أ- فالشهرستاني يصرح في نهاية الاقدام أن معرفة الله فطرية، ويقول: " إن الفطرة السليمة الإنسانية شهدت بضرورة فطرتها، وبديهة فكرتها على صانع حكيم، قادر عليم، "أَفِي اللَّهِ شَكٌّ" [إبراهيم: 10] (2) ، فأين وجوب النظر أو القصد أو الشك؟. ب- والرازي صرح في نهاية العقول بقوله بعد كلام: " وبهذا يتبين خطأ قول من زعم أن أول الواجبات القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدوث العالم " (3) ، قال شيخ الإسلام معلقا: " قلت: هذا القول الذي خطأه الرازي هو الذي ذكره أبو المعالي في أول الإرشاد (4) ، كما ذكره طوائف من أهل الكلام المعتزلة وغيرهم " (5) ، والرازي يرى إن إثبات الصانع لا يتوقف على هذا الطريق بل هناك طرق أخرى، وقد صرح الرازي بأن هناك معارف يمكن أن تحصل بغير النظر وتكون ضرورية (6) ، وقصته مع نجم الدين الكبرى - أحمد الحيوقي- أحد شيوخ المعرفة، وكان من أجل شيوخ وقته في بلاده   (1) انظر: درء التعارض (7/421) ، ومن تناقضهم أيضا أن كثيرا منهم يقول مع ذلك: إن المعرفة لا تحصل الا بالشرع، انظر نصوصا من كلامهم في درء التعارض (9/16-38) . (2) درء التعارض (7/97) ، والنص في نهاية الإقدام (ص: 124) . (3) درء التعارض (5/290) ، والنص في نهاية الهقول (14-أ) . (4) ص 3. (5) درء التعارض (5/290) . (6) انظر: المصدر السابق (7/355) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 941 جرجان وخوارزم (1) - قال: " دخل على فخر الدين الرازي ورجل آخر من المعتزلة كبير فيهم، فقالا: يا شيخ، بلغنا أنك تعلم علم اليقين، فقلت: نعم أنا أعلم علم اليقين، فقالا لي: كيف تعلم علم اليقين، ونحن نتناظر من وقت كذا إلى وقت كذا، وكلما أقام حجة أبطلتها، وكلما أقمت حجة أبطلها؟ فقلت: ما أدري ما تقولان، ولكن أنا أعلم علم اليقين، فقالا: بين لنا ما هذا اليقين فقلت: واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها فجعلا يرددان هذا الكلام، ويقولان: واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها، وتعجبا من هذا الكلام؛ لأنه رحمه الله بين أن ذلك من العلوم الضرورية التي تلزم القلب لزوما لا يمكنه مع ذلك دفعها، ثم قالا له: كيف الطريق إلى هذه الواردات؟ فقال لهما: بأن تسلكا طريقتنا التي نأمركم بها، فاعتذر الرازي بما له من الموانع، وأما المعتزلي فقال: أنا محتاج إلى هذه الواردات فإن الشبهات قد أحرقت قلبي، فأمره الشيخ بما يفعله من العبادة والذكر، وما يتبع ذلك، ففتح الله عليه بهذه الواردات- والمعتزلة ينفون العلو والصفات، ويسمون من أثبت ذلك مجسما حشويا- فلما فتح الله تعالى عليه بذلك قال: والله ما الحق إلا فيما عليه هؤلاء الحشوية والمجسمة، أو كما قال " (2) . والرازي لم يسلك هذا الطريق لوجود الموانع لا لقناعته بأن هذا ليس طريقا للمعرفة. ج-- وكذلد الآمدي صرح بأن المعرفة قد تحصل بطريق التصفية وأخبار الأنبياء أو بغير ذلك (3) ، وقال جوابا لاعتراض على وجوب النظر: " قولهم: لا نسلم توقف المعرفة على النظر، قلنا: إنما نقول بوجوب النظر في حق من لم يحصل له، فالنظر في حقه غير واجب " (4) . وهذا تصريح منه بأن طرق المعرفة كثيرة فحصر أول واجب بالنظر المفضي إلى المعرفة غير صحيح.   (1) انظر: درء التعارض (7/432) . (2) درء التعارض (7/431-432) ، وانظر القصة أيضا في مجموع الفتاوى (4/43-44) ، ونقض التأسيس- المطبوع- (1/264-266) . (3) انظر درء التعارض (7/356) . وانظر ما سبق في هذه الرسالة (ص: 713) عند الحديث عن الآمدي. (4) درء التعارض (7/356-357) ، وكلام الآمدي في أبكار الأفكار (29-أ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 942 د- والقاضي أبو يعلى صرح في المعتمد بوجوب النظر، ثم تراجع عن ذلك في كتابه عيون المسائل، وقد نقل شيخ الأسلام أقواله في ذلك (1) . فهذه أقوال الأشاعرة تدل على فساد ما يقوله كثير منهم من أن أول واجب على المكلف النظر وأنه لا طريق إلى معرفة الله إلا بذلك، وشيخ الإسلام وهو يرد على من قال بوجوب النظر يورد هذا الاعتراض الذى يذكره البعض، فيقول: " فإن قيل: إذا كانت معرفته والإقرار به ثابتا في كل فطرة، فكيف ينكر ذلك كثير من النظار- نظار المسلمين وغيرهم- وهم يدعون أنهم الذين يقيمون الأدلة العقلية على المطالب الالهية؟ "- ويجيب شيخ الإسلام بقولهـ: " فيقال: أولا: أول من عرف في الإسلام بإنكار هذه المعرفة هم أهل الكلام - الذي اتفق سلف الأمة على ذمهـ من الجهمية والقدرية، وهم عند سلف الأمة من أضل الطوائف وأجهلهم، ولكن انتشر كثير من أصولهم في المتأخرين من الذين يوافقون السلف على كثير مما خالفهم فيه سلفهم الجهمية، فصار بعض الناس يظن أن هذا قول صدر في الأصل عن علماء المسلمين، وليس كذلك، إنما صدر أولا عمن ذمه أئمة الدين وعلماء المسلمين، الثاني: أن الأنسان قد يقوم بنفسه من العلوم والإرادات وغيرها من الصفات ما لا يعلم أنه قائم بنفسه، فإن قيام الصفة بالنفس غير شعور صاحبها أنها قامت به، فوجود الشيء في الإنسان وغيره غير علم الإنسان به ... " (2) . 3- وإضافة إلى ما سبق من الردود على الأشاعرة في هذه المسألة، فإن شيخ الإسلام يناقش القضية من زوايا أخرى لها علاقة بها: أ- فمن ذلك أن لفظ "النظر" فيه إجمال، ولذلك كثر اضطراب الناس وتناقضهم فيه، وهؤلاء المتكلمون يوجبون النظر لأنه يتضمن العلم ثم يقولون: إن النظر يضاد العلم، فكيف يكون ما يتضمن العلم مضادا له، لا يجتمعان؟، وهنا قال من قال بوجوب الشك، ويناقش شيخ الإسلام هذا الإجمال فيقول:   (1) انظر: درء التعارض (7/442-443، 8/348، 9/36) . (2) مجموع الفتاوى (6 / 340- 341) ، وانظر بقية كلام شيخ الاسلام إلى (ص: 346) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 943 "فمن فرق بين النظر في الدليل، وبين النظر الذي هو طلب الدليل، تبين له الفرق، والنظر في الدليل لا يستلزم الشك في المدلول، بل قد يكون القلب ذاهلا عن الشيء، ثم يعلم دليله، فيعلم المدلول وإن لم يتقدم ذلك شك وطلب، وقد يكون عالما به، ومع هذا ينظر في دليل آخر لتعلقه بذلك الدليل، فتوارد الأدلة على المدلول الواحد كثير، لكن هؤلاء لزمهم المحذور؛ لأنهم أوجبوا النظر لكون المعرفة لا تحصل إلا به، فلو كان الناظر عالما بالمدلول لم يوجبوا عليه النظر، فإذا أوجبوه لزم انتفاء العلم بالمدلول، فيكون الناظر طالبا للعلم، فيلزم أن يكون شاكا فصاروا يوجبون على كل مسلم أنه لا يتم إيمانه حتى يحصل له الشك في الله ورسوله بعد بلوغه سواء أوجبوه أو قالوا هو من لوازم الواجب" (1) ، ولا شك أن هذا الذي التزموه قول باطل مخالف لما يجب أن يكون عليه المؤمن من اليقين والإيمان. ب- ويربط شيخ الإسلام مسألة وجوب النظر بمسألة أخرى كثر فيها الخلاف وهي مسألة النظر هل هو من فروض الأعيان أو الكفايات، يقول شيخ الاسلام عن أبي الحسن الأشعري: " وقد تنازع أصحابه وغيرهم في النظر في قواعد الدين: هل هو من فروض الأعيان، أو من فروض الكفايات؟. والذين لا يجعلونه فرضا على الأعيان: منهم من يقول: الواجب هو الاعتقاد الجازم. ومنهم من يقول: بل الواجب العلم، وهو يحصل بدونه [أي بدون النظر] كما ذكر ذلك غير واحد من النظار من أصحاب الأشعري وغيرهم كالرازي والآمدي وغيرهما. والذين يجعلونه فرضا على الأعيان متنازعون: هل يصح الايمان بدونه، وتاركه آثم، أم لا يصح؟ على قولين. والذين جعلوه شرطا في الايمان أو أوجبوه ولم يجعلوه شرطا اكتفوا بالنظر الجملي دون القدرة على العبارة والبيان، ولم يوجب العبارة والبيان إلا شذوذ من أهل الكلام، ولا ريب أن المؤمنين على عهد رسول اللة- صلى الله عليه وسلم- والصحابة والتابعين لم يكونوا يؤمرون بالنظر الذي   (1) درء التعارض (7/420-421) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 944 ذكره أهل الكلام المحدث" (1) ، وقد صرح أبو المعالي الجويني بأن تكليف عامة الناس النظر الصحيح التام تكليف بما لا يطاق، ونص على أنه تراجع عن قوله السابق في ذلك (2) . وقد وقع الخلاف في مسألة وجوب النظر هل يجب على كل أحد أو لا يجب على أحد أو يجب على بعض الناس دون بعض، فمن حصلت له المعرفة لم يجب عليه، ومن لم تحصل له المعرفة والِإيمان إلا به وجب عليه والأخير قول الجمهور (3) . ومن المسائل المتعلقة بهذا الباب أن العلم والايمان واجب بحسب الإمكان وبحسب أحوال الناس و" ترتيب الواجبات في الشرع واحدا بعد واحد ليس هو أمرا يستوي فيه جميع الناس، بل هم متنوعون في ذلك، فكما أنه قد يجب على هذا ما لا يجب على هذا، فكذلك قد يؤمر هذا ابتداء بما لا يؤمر به هذا، فكما أن الزكاة يؤمر بها بعض الناس دون بعض، وكلهم يؤمر بالصلاة فهم مختلفون فيما يؤمر به ابتداء من واجبات الصلاة، فمن كان يحسن الوضوء وقراءة الفاتحة ونحو ذلك من واجباتها أمر بفعل ذلك، ومن لم يحسن ذلك أمر بتعلمه ابتداء، ولا يكون أول ما يؤمر به هذا من أمور الصلاة هو أول ما يؤمر به هذا ... " (4) . وقد سبقت الإشارة- في بداية هذه الفقرة- إلى ذكر الخلاف في حصول المعرفة، هل تحصل ضرورة أو بالنظر، وهل تحصل بالعقل أو بالسمع. وجمهور المسلمين أنها تحصل بهذا تارة وبهذا تارة، وأدلة السمع ليست مجرد الخبر بل هي متضمنة للأدلة العقلية. وبهذا العرض المتنوع لهذه القضايا يتبين أن زعم هؤلاء بأن أول واجب هو النظر وأنه لا طريق إلى المعرفة إلا به قول يخالفهم فيه جماهير المسلمين،   (1) درء التعارض (7/408) . (2) انظر: المصدر السابق (7/440) . (3) انظر: المصدر نفسه (7/405) . (4) انظر: المصدر نفسه (6/18-17) ، وانظر أيضا: (7/426-427) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 945 وجماهير النظار، كان يخالفهم فيه كثر من أصحابهم الأشاعرة وغاية قولهم- إن كان صحيحا- أن يكون وصف سلوك لطائفة معينة، أما أن يكون ذلك وصفا لجميع بني آم وأنه لا يحصل لهم العلم إلا بهذه الطرق التى يذكرونها- كما فعله كثير من المتصوفة والفلاسفة وغيرهم- فهو قول باطل لا دليل عليه (1) . ثانيا: التوحيد عند الأشاعرة وحقيقة التوحيد الدي دعت إليه الرسل : وهذا من أهم الأبواب التي غلط فيها أهل الكلام- وفيهم الأشاعرة- وصار كلامهم فيه مشتملا على قليل من الحق وكثير من الباطل، ولاشك أن أسس الإسلام وقاعدته توحيد الله وحده لا شريك له. والتوحيد والواحد والأحد عند الأشاعرة يشمل ثلاثة أمور: 1- أن الله واحد في ذاته لا قسيم له. 2- وأنه واحد في صفاته لا شبيه له. 3- وأنه واحد في أفعاله لا شريك له (2) . وأشهرها عندهم وأقواها دلالة على التوحيد النوع الثالث، وبه يفسرون معنى "لا إله إلا الله". والألوهية- عندهم- هي القدرة على الاختراع والخلق، فمعنى لا إله إلا الله لا خالق الا الله (3) . ولما في هذا الكلام من القصور والتحريف والباطل فقد رد علهم شيخ الإسلام طويلا، وذلك من خلال بيان ما يلي:   (1) انظر: درء التعارض (8/17-21) . (2) انظر في ذلك من كتب الأشاعرة: مجرد مقالات الأشعري لابن فورك (ص: 55) ، ورسالة الحرة للباقلافي- المطبوعة كاسم الإنصاف- (ص: 33-34) ، والاعتقاد للبيهقي (ص: 63) ، وشرح أسماء الله الحسنى للقشيري (ص: 215) ، والشامل (ص: 345-348) " والإرشاد (ص: 52) ، ولمع الأدلة (ص: 86) ، وإحياء علوم الدين (1/33) ، والاقتصاد في الاعتقاد (ص: 49) ، ونهاية الأقدام (ص: 90) وغيرها. (3) انظر: أصول الدين للبغدادى (ص: 123) ، والملل والنحل للشهرستاني (1/100) ، ومجرد مقالات الأشعري (ص: 47) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 946 1- ما في هذا الكلام من الحق والباطل، وشرح مقصودهم بعباراتهم تلك التى عرفوا بها التوحيد. 2- أن هذا القول أخذوه عمن سبقهم من الجهمية والمعتزلة وغيرهم. 3- الرد عليهم ومناقشتهم. 4- بيان حقيقة التوحيد الذي دعت إليه الرسل. أ- ما في كلامهم من الحق والباطل، وبيان مقصودهم بذلك: فسر الأشاعرة معنى التوحيد والواحد بهذه الأصول الثلاثة، وقد بين شيخ الإسلام ما في قولهم من الحق والباطل؟ كما يلي: 1- قولهم: إن الله واحد في ذاته لا قسيم له: ويفسرونه بأن معناه أنه لا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتعدد ولا يتركب، وهذا الكلام مجمل، فإن قصد به أن الله تعالى أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد، وأنه يمتنع أن يتفرق أو يتجزأ أو يكون قد ركب من أجزاء فهذا حق، لكن إن قصد به نفي علوه ومباينته لخلقه، وأنه لا يشار إليه ولا ينزل كما يشاء فهذا باطل (1) ، فأي الأمرين يقصد هؤلاء، يقول شيخ الإسلام عنهم: "ليس مرادهم بأنه لا ينقسم ولا يتبعض أنه لا ينفصل بعضه عن بعض، وأنه لا يكون إلهين اثنين، ونحو ذلك مما يقول نحوا منه النصارى والمشركون، فإن هذا مما لا ينازعهم فيه المسملمون، وهو حق لا ريب فيه، وكذلك كان علماء السلف ينفون التبعيض عن الله بهذا المعنى، وإنما مرادهم بذلك أنه لا يشهد ولا يرى منه شيء دون شيء، ولا يدرك منه شيء دون شيء، بحيث إنه ليس له في نفس حقيقة عندهم قائمة بنفسها يمكنه هو أن يشير منها إلى شيء دون شيء، أو يرى عباده منها شيئا دون شيء، بحيث إذا تجلى لعباده يريهم من نفسه   (1) انظر: التدمرية (ص: 184-185) ، ت السعوي. وانظر: تفسير سورة الإخلاص - مجموع الفتاوى (17/449-450) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 947 المقدسة ما شاء، فإن ذلك غير ممكن عندهم، ولا يتصور عندهم أن يكون العباد محجوبين عنه بحجاب منفصل عنهم يمنع أبصارهم عن رؤيته، فإن الحجاب لا يحجب إلا ما هو جسم منقسم، ولا يتصور عندهم أن الله يكشف عن وجهه الحجاب ليراه المؤمنون، ولا أن يكون على وجهه حجاب أصلا، ولا أن يكون بحيث يلقاه العبد أو يصل إليه أو يدنو منه أو يقرب إليه في الحقيقة، فهذا ونحوه هو المراد عندهم بكونه لا ينقسم، ويسمون ذلك نفي التجسيم، إذ كل ما ثبت له ذلك كان جسما منقسما مركبا، والبارئ منزه عندهم عن هذه المعاني " (1) ، وجماع المعاني التى قصدوها بقولهم هذا أنه تعالى عن قولهم ليس قائما بنفسه، ولا بائنا من خلقه ولا على العرش استوى، وأنه لا يشار إليه في جهة العلو. وهذا ما يعبرون عنه بنفي الجسمية، والتحيز، والجهة، والرازي صرح بأن كل متحيز فهو منقسم، وكل منقسم فهو ليس بأحد (2) ، وهكذا صار حقيقة التوحيد والواحد والأحد عند هؤلاء نفى صفات الله الخبرية، ونفى علوه على عرشه. 2- أما قولهم في تفسير التوحيد بأن معناهـ أيضا- أنه واحد في صفاته لا شبيه له، فيرى شيخ الإسلام أن هذه الكلمة أقرب إلى الإسلام، لكنهم أجملوها، حيث جعلوا نفى الصفات-كما فعلت المعتزلة- أو بعضها-كما فعلت الأشعرية داخلا في مسمى التشبيه، وهذا من بدع أهل الكلام، إذ لم يرد في كتاب الله ولا سنة رسولهـ صلى الله عليه وسلم- ولا أقوال السلف أن يجعل نفي الصفات أو بعضها من التوحيد (3) ، مع أن أهل الكلام مضطربون في هذا، لأن كل طائفة تجعل ما تنفيه من الأسماء أو الصفات من التشبيه الذي يجب تنزيه الله عنه، فالأشاعرة أدخلوا في مسمى التوحيد هذا نفي كثير من الصفات- أي ما عدا الصفات السبع التى لم يثبت غيرها متأخروهم- والمعتزلة أدرجوا في ذلك نفي جميع   (1) التسعينية (ص: 203-204) ، وانظر نقض التأسيس- المطبوع- (1/474-475) . (2) انظر: أساس التقديس للرازس (ص: 17) - ط الحلبي. (3) انظر: التسعينية (ص: 204) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 948 الصفات، والجهمية نفوا الأسماء والصفات جميعا، وزاد الغلاة من القرامطة والباطنية فقالوا لا يوصف بالنفي والإثبات، لأن القول بأحدهما يقتضي تشبيها، وهكذا (1) . 3- أما الثالث فقولهم: إن من معاني التوحيد أنه تعالى: واحد في أفعاله لا شريك له، وأن الله رب كل شيء وخالقه، ويقول شيخ الإسلام عن هذا المعنى: "وهذا معنى صحيح، وهو حق، وهو أجود ما اعتصموا به من الإسلام في أصولهم، حيث اعترفوا فيها بأن الله خالق كل شيء ومربيه ومدبره" (2) ، والخطأ الذي وقع فيه الأشاعرة هنا هو أنهم فهموا أن هذا هو التوحيد الذى دعت إليه الرسل، وأنه المقصود بشهادة أن لا إله إلا الله، ومن المعلوم أن هذا التوحيد قد أقر به المشركون، ولم ينكره أحد من بني آدم " ولكن غاية ما يقال: إن المعتزلة وغيرهم جعلوا بعض الموجودات خلقا لغير الله، كأفعال العباد، ولكنهم يقرون بأن اللَة خالق العباد وخالق قدرتهم وإن قالوا: إنهم خالقو أفعالهم" (3) . هذه معاني التوحيد عند الأشاعرة، ومما سبق يتبين ما في ظاهر العبارات من الحق، وما قصدوه من الباطل، مع ما وقعوا فيه من التقصير. ب- اتباعهم لمن سبقهم من الجهمية والمعتزلة في تعريف التوحيد: وهذا من منهج شيخ الإسلام العام في ردوده على الأشاعرة، حيث إنه كثيرا ما يرجع أقوال هؤلاء إلى أصولها الفلسفية والاعتزالية، ولذلك فهو هنا حين رد على الرازى الذي نفى الصفات بناء على أن الله أحد، واحد، أرجع أقواله إلى أقوال المعتزلة فقال: "هذا الاستدلال هو معروف قديما من استدلال الجهمية النافية، فإنهم يزعمون أن إثبات الصفات ينافي التوحيد ويزعمون أنهم هم الموحدون، فإن من أثبت الصفات فهو مشبه ليس بموحد، وأنه يثبت تعدد   (1) انظر: التدمرية (ص: 182-183) - ت العسوى. (2) التسعينية (ص:207) . (3) انظر: التدمرية (ص: 180-181) ، والتسعينية (ص: 207) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 949 القدماء، ولا يجعل القديم واحدا، فالجهمية من المتفلسفة والمعتزلة وغيرهم يبنون على هذا، وقد يسمون أنفسهم الموحدين، ويجعلون نفي الصفات داخلا في مسمى التوحيد (1) ، ثم ذكر شيخ الاسلام أن أئمة السلف كالإمام أحمد وغيره ردوا على هؤلاء، وبينوا ما في أقوالهم من التلبيس والباطل، يقول الإمام أحمد-رحمه الله-: "فقالت الجهمية لنا لما وصفنا هذه الصفات: إن زعمتم أن الله ونوره، والله وقدرته، والله وعظمته، فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته؟ قلنا: لا نقول: إن الله لم يزل وقدرته، ولا نقول ولم يزل ونوره، ولكن نقول: لم يزل بقدرته، ونوره، لا متى قدر، ولا كيف قدر. فقالوا: لا تكونون موحدين أبدا حتى تقولوا: قد كان الله ولا شيء، قلنا نحن نقول: قد كان الله ولا شيء ولكن إذا قلنا: ان الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلها واحدا بجميع صفاته، وضربنا لهم مثلا في ذلك قولنا: أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذع وكرب وليف وسعف وخوص وجمار، واسمها اسم شيء واحد، وسميت نخلة بجميع صفاتها؟ فكذلك اللهـ وله المثل الأعلى- بجميع صفاته إله واحد، لا نقول: إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا قدرة حتى خلق قدرته، والذى ليس له قدرة هو عاجز، ولا نقول قد كان في وقت من الأوقات ولا يعلم، والذى لا يعلم هو جاهل، ولكن نقول: لم يزل الله عالما قادرا مالكا، لا متى ولا كيف. قال: وسمى الله رجلا كافرا اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال:" ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا " [المدثر: 11] ، وقد كان الذى سماه وحيدا له عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة، وقد سماه وحيدا بجميع صفاته وكذلك اللهـ وله المثل الأعلى- بجميع صفاته واحدا (2) . فهؤلاء الذين واجههم الإمام أحمد-رحمه الله- هم شيوخ لمن جاء بعدهم، من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة الذين-يزعمون أن الواحد هو الذي   (1) انظر: نقض التأسيس- المطبوع- (1/463) . (2) نقض التأسيس- المطبوع- (1/463-464) ، وكلام الإمام أحمد في الرد على الزنادقة والجهمية (ص: 91-92) - ضمن عقائد السلف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 950 لا صفة له ولا قدرة، وابن سينا الفيلسوف يعبر عن ذلك بقوله " إن واجب الوجود واحد من كل وجه، ليس فيه أجزاء حد ولا أجزاء كم، أو يقال: ليس فيه كثرة حد ولا كثرة كم، ويقال ليس فيه تركيب المحدود من الجنس والفصل، ولا تركيب الأجسام، ومقصود هذه العبارات أنه ليس لله صفة ولا له قدرة" (1) ، والمعتزلة يسمون أنفسهم أهل العدل والتوحيد، وجعلوا التوحيد أحد أصولهم الخمسة، ويبنون ذلك على أن القديم ليس معه في القدم غيره، فلو كان له صفات، للزم تعدد القدماء مع الله تعالى. فجعلوا حقيقة التوحيد نفي الصفات (2) . فلما جاءت الأشعرية تلقفوا هذا الأصل عن هؤلاء، وجعلوا من مقتضيات التوحيد نفي ما ينفونه من الصفات كالعلو والاستواء، والوجه واليدين وغيرها. وكل طائفة تجعل ما تنفيه من الصفات من مقتضيات التوحيد، وهذا اضطراب وتناقض ظاهر. ب- الرد على الأشاعرة في قولهم في مسمى التوحيد: وقد جاءت ردود شيخ الإسلام عليهم في ذلك كما يلي: 1- بيان ما في أقوالهم من الحق والباطل- وقد تقدم بيان ذلك قريبا-. 2- أن هؤلاء الأشاعرة اتبعوا المعتزلة والجهمية في ذلك، مع أن شيخهم ابن كلاب ينكر قول من يقول: إن الواحد لا صفة له، فإنه قال بعد بيانه: أن الله بائن من خلقه، ليس داخلا في خلقه، ولا خلقه داخلون فيه: "فإن قالوا: فيعتقبه الطول والعرض؟ قيل لهم: هذا محال، لأنه واحد لا كالآحاد، عظيم لا تقاس عظمته بالخلوقات، كما أنه كبير عليم، لا كالعلماء، كذلك هو واحد عظيم لا كآحاد العظماء، فإن قلت: العظيم لا يكون إلا متحيزا؟ قيل لك:   (1) نقض التأسيس- المطبوع- (1/465) . (2) انظر: المصدر السابق، نفس الجزء والصفحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 951 والعليم لا يكون إلا متحيزا، وكذلك السميع والبصير، لأنك تقيس على المخلوقات " (1) ، يقول شيخ الإسلام معقبا: " وكان كثير من متكلمة الصفاتية من أصحاب الأشعري ونحوهم فسروا الواحد، والتوحيد، بنحو تفسير المعتزلة وغيرهم من الجهمية، ولم يفسروه بما ذكره ابن كلاب ولا بغير ذلك " (2) . ولاشك أن أئمة الأشاعرة المتقدمين كالأشعري وغيره يثبتون لله صفات العلو والاستواء والصفات الخبرية، ولا تقتضي عندهم تشبيها، كما أن إثباتها لا يعارض ما يقولون به من التوحيد لله تعالى. 3- أن قولهم: إن الواحد هو الذي لا ينقسم ولا يتجزأ وليس بجسم، ليس معروفا في لغة العرب، بل المعروف في لغة العرب أنهم يطلقون على كثير من المخلوقات أنه واحد وهو جسم، بل "لا يوجد في لغة العرب، بل ولا غيرهم من الأمم استعمال الواحد، الأحد، الوحيد إلا فيما يسمونه هم جسما ومنقسما كقوله تعالى: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) [المدثر: 11] ، وقوله تعالى: (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) [النساء: 11] ، وقوله: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ) - إلى قولهـ (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ) [الكهف: 32-37] ، وقوله: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ) [البقرة: 266] ، وقوله تعالى: (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49] ... والعرب وغيرهم من الأمم يقولون: رجل ورجلان اثنان، وثلالة رجال، وفرس واحد وجمل واحد، ودرهم واحد، وثوب واحد ... فلفظ الواحد وما يتصرف منه في لغة العرب وغيرهم من الأمم لا يطلق إلا على ما يسمونه هم جسما منقسما لأن ما لا يسمونه هم جسما منقسما ليس هو شيئا يعقله الناس، ولايعلمون وجوده حتى يعبروا عنه" (3) ، وفي موضع آخر يذكر شيخ الإسلام نصوصا عديدة من الكتاب والسنة، ويعلق عليها. فيقول   (1) نقلا عن نقض التأسيس- المطبوع- (1/468) . (2) المصدر السابق (1/467-469) . (3) درء التعارض (7/114-116) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 952 في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) [النساء: 1] : " ومعلوم أن النفس الواحدة التي خلق منها زوجها هو آدم، وحواء خلقت من ضلع آدم القصيراء، من جسده خلقت، لم تخلق من روحه، حتى يقول القائل الوحدة هي باعتبار النفس الناطقة التي لا تركيب فيها. وإذا كانت حواء خلقت من جسد آدم، وجسد آدم جسم من الأجسام، وقد سماها الله نفسا واحدة، علم أن الجسم قد يوصف بالوحدة " (1) . ويقول معلقا على استدلال الإمام أحمد- وقد سبق نقله قريبا-: " وأبلغ من ذلك ما ذكره الامام أحمد وغيره من قوله: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا" [المدثر: 11] ، فإن الوحيد مبالغة في الواحد، فإذا وصف البشر الواحد بأنه وحيد في صفة فإنه واحد أولى، ومع هذا فهو جسم من الأجسام " (2) ، ثم يذكر بعد ذكر نصوص القرآن نصوصا عديدة من السنة، منها أحاديث الصلاة في الثوب الواحد، مثل ما ورد في الصحيح أن النبي- صلى الله عليه وسلم- سئل: أيصلي الرجل في الثوب الواحد؟ فقال: أو لكلكم ثوبان؟ " (3) ، وحديث نهي أن يصلي الرجل فِى الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء (4) ، وحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي في ثوب واحد (5) ، وحديث مرور النبي- صلى الله عليه وسلم- بقبرين فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة " (6) وغيرها من الأحاديث كثير (7) ،   (1) نقض التأسيس- المطبوع- (1/488) . (2) المصدر السابق، نفس الجزء والصفحة. (3) المصدر السابق (1/489) ، والحديث رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة في الثوب الواحد، ورقمه 358 (الفتح 1/470) . (4) رواه البخارى، كتاب الصلاة، باب إذا صلى في الثوب الواحد فليجعل على عاتقيه ورقمه 359 (الفتح 1/471) . (5) رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة في الثوب الواحد وأرقامه 354-357 (الفتح (1/468-469) . (6) رواه البخاري، كتاب الأدب، باب النميمة من الكبائر، ورقمه 6055 (الفتح 10/472) . (7) انظر: نقض التأسيس- المطبوع- (1/489-492) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 953 وهي تدل على استخدام لفظ الواحد فيما هو جسم خلافا لما يزعمه هؤلاء. وإذا كان الأمر كذلك من أن الغالب في اللغة أن اسم الواحد يتناول ما ليس هو الواحد في اصطلاحهم " لم يجز أن يحتج بقوله تعالى: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) [البقرة: 163] وقوله: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص: 1] ، ونحو ذلك مما أنزله الله بلغة العرب، وأخبرنا فيه أنه واحد، وأنه إله واحد- على أن المراد ما سموه هم في اصطلاحهم واحدا مما ليس معروفا في لغة العرب، بل إذا قال القائل: دلالة القرآن على نقيض مطلوبهم أظهر، كان قد قال الحق، فإن القرآن نزل بلغة العرب، وهم لا يعرفون الواحد في الأعيان إلا ما كان قديما بنفسه، متصفا بالصفات، مباينا لغيره، مشارا إليه. وما لم يكن مشارا إليه أصلا، ولا مباينا لغيره، ولا مداخلا له، فالعرب لا تسميه واحدا ولا أحدا، بل ولا تعرفه، فيكون الاسم الواحد والأحد دل على نقيض مطلوبهم منه، لا على مطلوبهم " (1) . وشيخ الاسلام بهذه الأدلة الكثيرة إنما يقرر قاعدة من القواعد المهمة في باب الصفات وغيرها، وهي أن تفسير النصوص- في الصفات وغيرها- إنما يرجع فيه إلى لغة الذين خوطبوا به أول مرة، وماذا فهموا من النصوص، أما أن تنشأ مصطلحات جديدة وتحمل النصوص عليها فهذا مخالف لما هو متواتر من أن القرآن هدى للناس وفيه البيان التام. وهذه من المسائل الكبرى في الخلاف بين مذهب السلف وغيرهم من أهل البدع، لأنه إذا وقع خلاف حول نص من النصوص، فقال قائل: هذا يدل على إثبات الصفات لله، وقال الآخر: لا يدل، فمن الذي يفصل في المسألة، ويبين الحق فيها، وكل يدعى أن الحق معه؟ أهل البدع من النفاة يرجعون في ذلك إلى عقولهم، أو إلى أقوال شيوخهم، أو إلى شواذ اللغة، أو إلى مصطلحات أهل الفلسفة التى تلقوها عن غير المسلمين. أما السلف فيرجعون إلى النصوص الأخرى من الكتاب والسنة التى تبين هذا النص وتوضحه، ويرجعوق إلى لغة العرب وفهم الصحابة والسلف من خير القرون،   (1) درء التعارض (7/117) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 954 وما قالوه في بيان معنى هذا النص، ولذلك يقول شيخ الاسلام- في معرض رده على الرازي حول استدلاله بالواحد والأحد على نفي الصفات-: "إن الاستدلال بالقرآن إنما يكون على لغة العرب التي أنزل بها، وقد نزل بلغة قريش كما قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ" [ابراهيم: 4] وقال: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء: 195] فليس لأحد أن يحمل ألفاظ القرآن على غير ذلك من عرف عام واصطلاح خاص- بل ولا يحمله إلا على معاني عنوها بها، إما [أخص] من المعنى اللغوي أو أعم، أو مغايرا له، لم يكن له أن يضع القرآن على ما وضعه هو، بل يضع القرآن على مواضعه التي بينها الله لمن خاطبه بالقرآن بلغته، ومتى فعل غير ذلك كان ذلك تحريفا للكلام عن مواضعه، ومن المعلوم أنه ما من طائفة إلا وقد تصطلح على ألفاظ يتخاطبون بها، كما أن من المتكلمين من يقول: الأحد هو الذي لا ينقسم، وكل جسم منقسم، ويقول: الجسم هو مطلق المتحيز القابل للقسمة، حتى يدخل في ذلك الهواء وغيره، لكن ليس له أن يحمل كلام الله وكلام رسوله إلا على اللغة التي كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يخاطب بها أمته، وهى لغة العرب عموما ولغة قريش خصوصا "، ثم يطق هذا على المثال المطروح فيقول: " ومن المعلوم المتواتر في اللغة، الشائع بين الخاص والعام أنهم يقولون: درهم واحد، ودينار واحد، ورجل واحد، وامرأة واحدة، وشجرة واحدة، وقرية واحدة، وثوب واحد، وشهرة هذا عند أهل اللغة شهرة سائر ألفاظ العدد، فيقولون: رجل واحد، ورجلان اثنان، وثلاثة رجال، وأربعة رجال. وهذا من أظهر اللغة وأشهرها وأعرفها، فكيف يجوز أن يقال: إن الوحدة لا يوصف بها شيء من الأجسام، وعامة ما يوصف بالوحدة في لغة العرب إنما هو جسم من الأجسام؟! (1) . فهذه الاصطلاحات الحادثة، التي يحدثها الناس أو أرباب العلوم المختلفة في كل عصر، هى اصطلاحات لهم- ولا مشاحة في أن يتفق أهل فن أو علم على اصطلاح معين يتعارفون عليهـ ولكن الخطأ أن يجعل هذا المصطلح الحادث   (1) نقض التأسيس - المطبوع- (1/492-493) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 955 هو المرجع في تفسير النصوص التي نزلت وتلاها الناس وفسروها وفهموها في زمن سابق قبل أن تنشأ تلك المصطلحات الحادثة، فكيف إذا كانت هذه المصطلحات تصادم المعنى الحق الذي دلت عليه النصوص، وقد أورد شيخ الإسلام اعتراضا حول موضوع الواحد مضمونه: أنه قد يقال: إنه يجوز أن يستعمل لفظ الواحد فيما قصده المتكلمون عن طريق المجاز أو المشترك اللفظي أو غيره وقد أجاب بقوله: " هب أنه يجوز لمن بعدهم أن يستعمل ذلك، لكن نحن نعلم أنهم [أي العرب الذين نزل بلغتهم القرآن] لم يستعملوه في ذلك، لأنهم لم يكونوا يثبتون هذا المعنى " (1) ، ثم يحسم شيخ الإسلام بيان انتفاء دلالة النص على ما ادعاه هؤلاء في مسمى التوحيد من وجوه عشرة مهمة (2) قال في آخرها: " فتبين أن لفظ التوحيد والواحد والأحد في وضعهم واصطلاحهم غير التوحيد والواحد والأحد في القرآن والسنة والإجماع وفي اللغة التي جاء بها القرآن، وحينئذ فلا يمكنهم الاستدلال بما جاء في كلام الله ورسله وفي لفظ التوحيد على ما يدعونه هم، لأن دلالة الخطاب إنما تكون بلغة المتكلم وعادته المعروفة في خطابه، لا بلغة وعادة واصطلاح أحدثه قوم آخرون، بعد انقراض عصره وعصر الذين خاطبهم بلغته وعادته ... " (3) . وهذا ينطبق على مسألة الواحد والتوحيد وعلى غيرها مما جاء به القرآن الكريم مما يتعلق بأسماء الله وصفاته. 4- أن لفظ "الأحد لم يجىء اسما في الإثبات إلا لله تعالى، أما في حق غيره فلم يستعمل إلا مع الاضافة، أو في غير الموجب، كالنفي والشرط والاستفهام، فاستعماله في الإثبات لله كقوله تعالى: "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" [الإخلاص: 1] ، أما استخدامه في حق غير الله مضافا فكقوله تعالى: "قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا" [يوسف: 36] ، وفي النفي كقوله: "وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا" [الكهف: 49] ، والشرط كقوله: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ" التوبة: 6] ، والاستفهام كما تقدم قريبا في حديث: أيصلي الرجل   (1) درء التعارض (7/119) . (2) انظرها في درء التعارض (7/120-122) . (3) انظر: المصدر السابق (7/122-223) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 956 في الثوب الواحد؟، ويقال: هل عندك أحد؟. ونكتة الرد هنا أن لفظ الأحد لم يستعمل فيما ادعاه هؤلاء لا في النفي ولا في الإثبات، ولو فرض أن معناهـ ما ليس بجسم كما يزعم هؤلاء- لوقع تناقض عظيم؛ فإنه يقال: إذا كان في الاثبات معناه إن الله أحد أي ليس بجسم، فهل يكون في النفى كذلك؟ هل يقال: إن معنى قوله تعالى: "وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ" [الإخلاص: 4] لم يكن ما ليس بجسم كفوا له، ومعنى قوله تعالى: "وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا" [الكهف: 26] : لا يشرك في حكمه ما ليس بجسم، ومعنى قوله: "لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ" [الجن: 22] أى لن يجيرني من الله ما ليس بجسم؟ هل يكوَن مفهوم هذه النصوص أنه قد يكون ما هو جسما كفوا له، وقد يشرك في حكمه ما هو جسم وهكذا؟. هل يقول هذا عاقل، وهل يمكن أن تكون النصوص قد جاءت بمثل هذا التناقض والباطل (1) . 5- أن قولهم باطل من جهة العقل أيضا، يقول شيخ الإسلام: " أما العقل فهذا الواحد الذي وصفوه يقول لهم فيه أكثر العقلاء وأهل الفطر السليمة: إنه أمر لا يعقل، ولا له وجود في الخارج، وإنما هو أمر مقدر في الذهن، ليس في الخارج شيء موجود لا يكون له صفات ولا قدر، ولا يتميز منه شيء عن شيء، بحيث يمكن أن لا يرى ولا يدرك ولا يحاط به وإن عاه المسمي جسما، وأيضا فإن التوحيد إثبات لشيء واحد، فلابد أن يكون له في نفسه حقيقة ثبوتية يختص بها، ويتميز بها عما سواه، حتى يصح أنه ليس كمثله شيء في تلك الأمور الثبوتية، ومجرد عدم المثل إذا لم يفد ثبوت أمر وجودي كان صفة للعدم، فنفي المثل والشريك يقتضي ما هو على حقيقة يستحق بها واحدا" (2) ، فهؤلاء ظنوا أن ما يتصورونه في أذهانهم موجود في الخارج، وهذا من الأخطاء الكبرى التي وقع فيها أهل الكلام والتصوف والفلسفة ونبه   (1) انظر: تفسر سورة الإخلاص، مجموع الفتاوى (17/235) ، ودرء التعارض (7/121) ، ونقض التأسيس- المطبوع- (1/493-494) . (2) نقض التأسيس- المطبوع- (1/483) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 957 شيخ الإسلام عليها كثيرا، مثل قول غلاة الصوفية إن الوجود واحد، وإن وجود الله هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، ومثل قول الفلاسفة بالجواهر والمجردات العقلية، حيث يزعمون أن الحقائق الموجودة في الخارج كالإنسان والفرس مكونة من المادة الكلية والصورة الجوهرية، ويزعمون أنهما جوهران عقليان، وهذا كله في الذهن، لأن الموجود لا يوجد الا معينا، فيقال وجود الواجب وهو الله ووجود الممكن كفلان وفلان، وكذلك هذه العقليات المجردة إنما تتصور في الأذهان، أما في الحقيقة والواقع فليس الا الموجودات بأعيانها (1) . 6- كما أن قول هؤلاء معارض للشرع، يقود شيخ الإسلام في بيان بطلان قولهم لغة وعقلا وشرعا: "وأما الشرع فنقول: مقصود المسلمين أن الأسماء المذكورة في القرآن والسنة وكلام المؤمنين المتفق عليه بمدح أو ذم تعرف مسميات تلك الأسماء، حتى يعطوها حقها، ومن المعلوم بالاضطرار أن اسم الواحد في كلام الله لم يقصد به سلب الصفات وسلب إدراكه بالحواس ولا نفي الحد والقدر ونحو ذلك من المعاني التي ابتدع نفيها الجهمية وأتباعهم ولا يوجد نفيها في كتاب ولا سنة ولا عن صاحب ولا أئمة المسلمين" (2) . وبعد أن ينقل شيخ الإسلام نصا للدارمي في نقضه على المريسي يقول: "هذا النفي الذي يذكره النفاة ويفسرون به اسم الله (الواحد) وغير ذلك هو عند أهل السنة والجماعة مستلزم العدم، مناف لما وصف به نفسه في كتابه من أنه الأحد، الصمد، وأنه العلي، العظيم، وأنه الكبير المتعال، وأنه استوى على العرش، وأنه يصعد اليه، ويوقف عليه، وأنه يرى في الآخرة كما ترى الشمس والقمر، وأنه يكلم عباده، وأنه السميع البصير، (3) ، فمصادمة قولهم لهذه النصوص الشرعية الكثيرة- مع أنه أيضا لا يقوم على دليل صحيح- دليل على فساد قولهم. 7- تأصيل القول في مسألة الفرق بين التشبيه والتمثيل ومدلولهما عند الإطلاق، يقول شيخ الإسلام: "وقف تنازع الناس هل لفظ" "الشبه" و"المثل"   (1) انظر: درء التعارض (7/124-127) . (2) نقض التأسيس- المطبوع- (1/484) . (3) المصدر السابق (1/487) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 958 بمعنى واحد أو معنيين، على قولين: أحدهما: أنهما بمعنى واحد، وأن ما دل عليه لفظ المثل مطلقا ومقيدا يدل عليه لفظ الشبه، وهذا قول طائفة من النظار. والئافي: أن معناهما مختلف عند الاطلاق لغة وشرعا وعقلا، وإن كان مع التقييد والقرينة يراد بأحدهما ما يراد بالآخر وهذا قول أكثر الناس. وهذا الاختلاف مبني على مسألة عقلية [وهي (1) ] : أنه هل يجوز أن يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه؟ وللناس في ذلك قولان، فمن منع أن يشبه من وجه دون وجه قال: المثل والشبه واحد، ومن قال: إنه قد يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه، فرق بينهما عند الإطلاق " (2) ، وقد رجح شيخ الإسلام الثاني بقوله: " وهذا قول جمهور الناس؛ فإن العقل يعلم أن الأعراض مثل الألوان، تشتبه في كونها ألوانا مع أن السواد ليس مثل البياض، وكذلك الأجسام والجواهر عند جمهور العقلاء تشتبه في مسمى الجسم والجوهر، وإن كانت حقائقها ليست متماثلة، فليست حقيقة الماء مماثلة لحقيقة التراب، ولا حقيقة النبات مماثلة لحقيقة الحيوان، ولا حقيقة النار ممائلة لحقيقة الماء، وإن اشتركا في أن كلا منهما جوهر وجسم وقائم بنفسه، وأيضا فمعلوم في اللغة أنه يقال: هذا يشبه هذا، وفيه شبه من هذا، إذا أشبهه من بعض الوجوه وإن كان مخالفا له في الحقيقة. قال الله تعالى: "وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا" [البفرة: 25] ، وقوله: "مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ" [آل عمران: 7] ، "وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ " [البقرة: 118] فوصف القولين بالتماثل، والقلوب بالتشابه لا بالتماثل؛ فإن القلوب   (1) في مطبوعة الجواب الصحيح وهو، ولعل الصواب ما أثبته. (2) الجواب الصحيح (2/233) - ط المدني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 959 وإن اشتركت في هذا القول فهي مختلفة لا متماثلة، وقال النبي- صلى الله عليه وسلم- " الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك أمور متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس " (1) ، فدل على أنه يعلمها بعض الناس، وهي في نفس الأمر ليست متماثلة، بل بعضها حرام، وبعضها حلال " (2) . وهذا الذي رجحه شيخ الإسلام من أن هناك فرقا بين التشبيه والتمثيل، وأنه يجوز أن يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه كثيرا ما يقرره في كتبه، ويذكر له بعض الأدلة (3) ، ويذكر أن لفظ التماثل أخص من لفظ التشابه وذلك في معرض رده على الرازي حول تعريف المتشابه (4) ، ويرى أن سبب اضطراب أهل الكلام في مسألة الصفات ما يثبت منها وما ينفي، مرجعه إلى أنهم جعلوا مسمى التشبيه والتمثيل واحدا (5) . 8- أن التشبيه على قول بعض المتكلمين: إن التشبيه هو التمثيل، ثم تعريفهم للمتماثلين بأنهما: " ماسد أحدهما مسد صاحبه، وقام مقامه، وناب منابه" (6) ، وقد يفسرونه بأنه " يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، ويجب له ما يجب له" (7) ، التشبيه بهذا المعنى لا يقول به عاقل، لأنه يعلم بضرورة العقل امتناعه (8) ، ولأن " كل موجودين فلابد أن يكون بينهما نوع مشابهة، ولو من بعض الوجوه البعيدة، ورفع ذلك من كل وجه رفع للوجود " (9) . وفي موضع آخر يعلل شيخ الإسلام الفرق بقوله:   (1) متفق عليه، البخارى: كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، ورقمه 52 (الفتح 1/126) ، وفي البيوع، باب الحلال بين والحرام بين ورقمه 2051 (الفتح 4/290) . ومسلم كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات ورقمه 1599. (2) الجواب الصحيح (2/233-234) . (3) انظر: الرسالة الاكملية- مجمرع الفتاوى- (6/113) . (4) انظر: نقض التأسيس- مخطوط- (1/261) . (5) انظر: درء التعارض (5/188) . (6) نقض التأسيس- مطبوع- (1/476) . (7) التدمرية (ص: 116) - ت السعوي. (8) انظر: المصدر السابق (ص: 117) . (9) نقض التأسيس- مخطوط- 2/82) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 960 "التشابه الذى هو التماثل لا يكون بالموافقة في بعض الصفات، بل الموافقة في جميع الصفات الذاتية التي يقوم بها أحدهما مقام الآخر، وأما التشابه في اللغة فإنه قد يقال بدون التماثل في شيء من الحقيقة، كما يقال للصورة المرسومة في الحائط: إنها تشبه الحيوان، ويقال: هذا يشبه هذا في كذا وكذا، وإن كانت الحقيقتان مختلفتين، ولهذا كان أئمة أهل السنة ومحققو أهل الكلام يمنعون من أن يقال: لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه؛ فإن مقتضى هذا كونه معدوما" (1) ، "وهذا معلوم بالفطرة البديهية التي لا يتنازع فها العقلاء الذين يفهمونها" (2) . ومع تقرير شيخ الاسلام لهذه المسألة، إلا أنه ييين أن المتكلمين الذين يصرحون بنفي التشبيه مطلقا طائفتان: طائفة: يطلقون القول بنفي التشبيه، ويقصدون أن الله لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوهـ وهذا الذى صرح به النفاة من الجهمية- فهؤلاء يقتضي قولهم أن يكون معدوما لأنه ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك وقدر مميز. وطائفة أخرى: يطلقون القول بنفي التشبيه، ويقصدون به التمثيل، فهؤلاء متفقون على نفي التماثل بوجه من الوجوه، وهو قول صحيح قد دل عليه القرآن، والعقل أيضا، فالخلاف مع هؤلاء لفظي حيث سموا التمثيل تشبيها (3) . وعلى قول هاتين الطائفتين يكون لفظ "التشبيه" من الألفاظ المجملة، التي قد تحتمل أكثر من معنى، ومن ثم فقبل الإثبات والنفي لابد من الاستفصال عن المعنى الذى يقصده القائل. ولكن "لفظ "الشبه" فيه إجمال وإبهام، فما من شيئين إلا وهما متفقان في أمر من الأمور، ولو في كونهما موجودين، وذلك الذي اتفقا فيه لا يمكن نفيه إلا بنفي كل منهما، فإذا قيل: هذا لا يوافق هذا بوجه من الوجوه،   (1) نقض التأسيس- مطبوع- (1/477) . (2) نقض التأسيس- مخطوط (3/255) وقد أحال في تفصيل القول في ذلك على بعض كتبه كالأجوبة المصرية، وجواب المسألة الصرخدية. (3) انظر: نقض التأسيس- مطبوع- (1/477) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 961 ولا يواطئه بوجه من الوجوه، كان هذا ممتنعا، وكذلك إذا أريد بقول القائل: "لا يشبهه بوجه من الوجوه، هذا المعنى، بخلاف ما إذا أراد المماثلة والمساواة والمكافأة، أو أراد ذلك بلفظ المشاركة والموافقة والمواطأة، فإنه سبحانه لا يماثله شيء بوجه من الوجوه، ولا شريك له بوجه من الوجوه" (1) . ويقول أيضا: "إن ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك، ونفي (2) ذلك القدر المشترك ليس هو نفس (2) التمثيل والتشبيه الذى قام الدليل العقلي والسمعي على نفيه، وإنما التشبيه الذى قام الدليل على نفيه ما يستلزم ثبوت شيء من خصائص المخلوقين لله سبحانه وتعالى، إذ هو سبحانه " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" [الشورى: 11] ، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله" (3) ، وهذه المسألة مرتبطة بمسألة ما بين أسماء الله وصفاته وأسماء المخلوقين وصفاتهم من الاتفاق: هل هو من قبيل المشترك اللفظي أو المتواطئ؟ وهي مسألة اهتم بها شيخ الإسلام كثيرا. وسيأتي إن شاء الله مزيد بيان لها في المبحث التالي عند الكلام على الأسماء والصفات. 9- أن القرآن الكريم ورد بنفي التمثيل وما في معناه كالند والشريك والكفو، أما التشبيه فلم يرد نفيه ولا ذمه في الكتاب والسنة، ويرى شيخ الإسلام أن السبب ما في لفظ التشبيه من الاجمال والاشتراك والابهام بخلاف لفظ التمثيل (4) ، ويشرح ذلك بشكل مفصل فيقول: "إن نفي التشبيه من كل وجه هو التعطيل والجحود لرب العالمين، كما عليه المسلمون متفقون، كما أن إثباته مطلقا هو جعل الأنداد لرب العالمين، لكن من الناس من لا يفهم هذا ولا يعتقد أن لفظ التشبيه يدل على التمثيل المنفي عن الله، إذ لفظ التشبيه فيه عموم وخصوص ... ومن هنا ضل فيه أكثر الناس؛ إذ ليس له حد محدود. وما هو (5) منتف بالاتفاق بين المسلمين، بل بين أهل الملل كلهم، بل بين جميع العقلاء المقرين بالله، معلوم بضرورة العقل، ومنه ما هو ثابت بالاتفاق بين   (1) درء التعارض (7/183) . (2) كذا في درء التعارض، ولحل الصواب (نفس) أو (نفي) في كليما. (3) درء التعارض (7/327) . (4) انظر نقض التأسيس- طبوع- (1/109) . (5) كذا في المخطوطة، ولعل صحة العبارة [منه ما هو] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 962 المسلمين، بل بين أهل الملل كلهم، بل بين جميع العقلاء [المقرين] (1) بالصانع، فلما كان لفظ التشبيه يقال على ما يجب انتفاؤه وعلى ما يجب إثباته لم يرد الكتاب والسنة به مطلقا، لا في نفي ولا إثبات، ولكن جاءت النصوص في النفي بلفظ المثل والكفو والند والسمى، ... و ... الله ليس كمثله شيء بوجه من الوجوه، فيجب أن ينفي عنه المثل مطلقا ومقيدا، وكذلك الند والكفو والشريك، ونحو ذلك من الأسماء التي جاء القرآن ينفيها، و ... من أدلة ذلك أن الله تعالى لما نفي المثل عن نفسه بقوله " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" [الشورى: 11] ، والسمى بقوله "هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا" [مريم: 65] ، والند بقوله "فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا" [البقرة: 22] ، والكفو بقوله "وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ" [الإخلاص: 4] ، والشريك والعديل والمساوى بقوله " سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ" [يونس: 18] ، "ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ" [الأنعام: 1] ، "إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ" [الشعراء: 97-98] ، فلا يخلو إما أن يكون النفي من ذلك مختصا بالمماثل من كل وجه، وهو المكافىء له من كل وجه فقط والمساوى والمعادل والمكافىء له من كل وجه، أو يكون النفي عاما في المماثل ولو من بعض الوجوه، والمكافىء ولو من بعض الوجوه، ولا يجوز أن يكون النفي مختصا بالقسم الأول لأن هذا لم يعتقده أحد من البشر، وهو سبحانه ذم ونهى عما هو موجود في البشر، ولأن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال له رجل ما شاء الله وشئت. فقال: أجعلتني لله ندا، بل ما شاء الله وحده (2) ، فثبت أن هذه الأسماء المنفية تعم المثل والكفو والند والشريك والعديل،   (1) في المخطوطة [للتقرير] ، ولعل الصواب ما أثبته. (2) رواه أحمد (1/214، 283، 247) ، والبخاري في الأدب المفرد، ورقمه (783) ، وابن أبي شيبة في المصنف (9/117-118) ورقمه (6742) ، والنسائي في عمل اليوم والليلة، ورقمه (987) [عن جابر وقد تفرد به عنه] ورقم (988) - عن ابن عباس- وابن أبي الدنيا في كتاب الصمت (ص 414) ، ورقمه (345) - ت خلف- وابن عدي في الكامل (1/419) ، في ترجمة الأجلح ابن عبد الله، وابن السني في عمل اليوم والليلة ورقمه (672) ، والطحاوى في مشكل الآثار (1/90) ، والطبراني في الكبير (12/244) ورقمه (13006،13005) ، وأبو نعيم في الحلية (4/99) ، = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 963 ولو من بعض الوجوه، وهذا هو الحق؛ وذلك لأن المخلوقات وإن كان فيها شبه من بعض الوجوه في مثل معنى الوجود والحي والعليم والقدير، فليس (1) مماثلة بوجه من الوجوه ولا مكافئة، بل هو سبحانه له المثل الأعلى في كل ما يثبت له ولغيره، ولما ينفى عنه وعن غيره، لا يماثله غيره في إثبات شيء ولا في نفيه، بل المثبت له من الصفات الوجودية المختصة بالله، التي تعجز عقول البشر عن معرفتها، وألسنتهم عن صفتها ما لا يعلمه إلا الله مما لا نسبة إلى ما علموه من الأمر المشتبه المشترك، إليه. والمنفي عنه لابد أن يستلزم وصفا ثبوتيا كما قررنا هذا في غير هذا الموضع (2) ، ومنافاته لذلك المنفي وبعده عنه، ومنافاة صفاته الوجودية، له فيه من الاختصاص الذي لا يشركه فيه أحد ما لا يعلمه أيضا إلا هو، بخلاف لفظ التشبيه، فإنه يقال على ما يشبه غيره ولو من بعض الوجوه   = والخطيب في تاريخ بغداد (8/105) ، والبيهقي في السنن الكبرى (3/217) ، ورواه ابن ماجه بلفظ: إذا حلف أحدكم فلا يقل ... ورقمه (2117) كلهم رووه عن ابن عباس- رضي الله عنهما-، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/150) : "هذا اسناد فيه الأجلح بن عبد الله، مختلف فيه: ضعفه أحمد وأبو حاتم، والنسائي، وأبو داود، وابن سعد، ووثقه ابن معين والعجلي ويعقوب بن سفيان، وباقي رجال الاسناد ثقات، انظر الكلام حول الأجلح في كتب الرجال، خاصة تهذيب المزي (2/275) - ت بشار، وتهذيب التهذيب (1/189) ، والضعفاء الكبير للعقيلي (122/1) ، والكامل لابن عدي (1/417) الذي قال (ص: 419) : [وأجلح بن عبد الله له أحاديث صالحة غير ما ذكرته، يروى عنه الكوفيون وغيرهم، ولم أجد له شيئا منكرا مجاوزا الحد، لا إسنادا ولا متنا، وهو أرجو أن لا بأس به إلا أنه يعد في شيعة الكوفة، وهو عندى مستقيم الحديث صدوق، وقد نقل المزي كلام ابن عدي. والذي استقر عليه رأي المحققين من المتأخرين إنه صدوق، شيعي. انظر: ديوان الضعفاء والمتروكين للذهبي رقم الترجمة (287) ، ومن تكلم فيه وهو موثق للذهبي رقم الترجمة (13) ، والتقريب (1/49) ، وقد حسن الحديث الشيخ ناصر الدين الألباني، انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (139) ، وانظر أيضا الأرقام (136 -138، 1093) ، وصحيح سنن ابن ماجه رقم (1720) ، حيث قال عنه: حسن صحيح. كما صححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند، انظر الأرقام: (1839، 2561،1964) . كما حسنه محقق كتاب الصمت، وقال فيه صاحب النهج السديد في تخرج أحاديث تيسير العزيز الحميد- رقم (82) : "إسناده محتمل للتحسين ". والمطلع على الأقوال في ترجمة الأجلح ابن عبد الله، وشواهد الحديث المتعددة يجزم بأن الحديث لا يقل عن درجة الحسن. والله أعلم. (1) كذا، ولعل الصواب: فليست. (2) انظر مثلا: التدمرية- القاعدة الأولى- (ص: 57) وما بعدها. ت السعوى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 964 البعيدة، ومما يجب القول به شرعا وعقلا بالاتفاق، ولهذا [لما] عرف الأئمة ذلك، وعرفوا حقيقة قول الجهمية، وأن نفيهم لذلك من كل وجه مستلزم لتعطيل الصانع وجحوده، كانوا يبينون ما في كلامهم من النفاق والتعطيل، ويمتنعون عن إطلاق لفظهم العليل لما فهموه من مقصودهم، وإن لم يفهمه أهل الجهل والتضليل (1) . ومع أن التشبيه لم يرد نفيه في الكتاب والسنة إلا أن السلف رحمهم الله كانوا ينظرون إلى المعاني لا إلى الألفاظ، ولذلك لما وجدت بعض الفئات التي بالغت في الإثبات فشبهت الله بخلقه،- وسموا مشبهة- بادر السلف إلى ذم المشبهة وقرنوا الذم لهم بذم المعطلة، ولم يمنع السلف من هذا ما وصفهم به أعداؤهم النفاة من أن إثباتهم للصفات يجعلهم مشبهة، لأن مذهبهم في الصفات وسط بين تعطيل هؤلاء وتشبيه أولئك. وشيخ الإسلام لما قرر أن لفظ التشبيه لم يرد نفيه في القرآن والسنة إنما قصد بيان أن ما ادعاه هؤلاء- في تعريفهم للتوحيد من أن من معانيه أن الله واحد في صفاته لا شبيه له، وأدخلوا في ذلك نفي علوه واستوائه وصفاته الخبرية- غير صحيح، لأن القرآن والسنة وردا بإثبات ذلك، والقول بأن إثبات هذه الصفات يقتضي تشبيها ينسحب إلى غيرها من الصفات التي يثبتها هؤلاء، كالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر، بل ينسحب إلى الأسماء الثابتة لله سبحانه وتعالى، فالأخذ بظاهر هذه العبارة- أنه واحد في صفاته لا شبيه لهـ يؤدي إلى نفي جميع الصفات والأسماء عن الله تعالى، لأن ما من موجودين إلا وبينهما قدر مشترك وقدر مميز، وأقرب مثال على ذلك الوجود، فالله موجود والمخلوق موجود، والوجود له معنى مشترك يصدق على وجود الله ووجود المخلوق، وإن كان وجود المخلوق ليس كوجود الله لأن المخلوق ممكن، حادث، قابل للعدم. فهل يمكن القول بأن الله موجود بدون فهم معنى الوجود؟ إلا أن يقال بأننا خوطبنا بألغاز لها معاني أخر لا نفهمها، ولم يدل عليها الخطاب، وهو ما آل إليه أمر غلاة الصوفية والباطنية والقرامطة وغرهم من الملاحدة.   (1) نقض التأسيس- مخطوط- (3/285- 261) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 965 فما يقرره شيخ الاسلام في هذا الباب من أن لفظ الشبه والتشبيه لفظ مجمل، ولذلك لم يرد نفيه في الكتاب والسنة، إنما هو دفاع عن الصفاتية- من هؤلاء الأشاعرة وغيرهم- في مقابل المعتزلة والجهمية والقرامطة وغيرهم. 10- ومذهب السلف- رحمهم الله تعالى- مشهور في الرد على نفاة الصفات أو بعضها، يقول شيخ الاسلام عن الأشاعرة بعد كلامه عن المعتزلة الذين جعلوا نفي الصفات كالعلم والقدرة من التوحيد والتنزيه عن التشبيه والتجسيم-: " ثم هؤلاء مضطربون فيما ينفونه من ذلك، لكن وافقوا أولئك على أن ما نفوه من التشبيه وما نفوه من المعنى الذي سموه تجسيما هو التوحيد الذى لا يتم الدين إلا به، وهو أصل الدين عندهم، وكل من سمع ما جاءت به الرسل يعلم بالاضطرار أن هذه الأمور ليست مما بعث الله به رسوله، ولم يكن الرسول يعلم أمته هذه الأمور ولا كان أصحاب رسول اللهـ صلى الله عليه وسلم- عليها، فكيف يكون هذا التوحيد الذي هو أصل الدين لم يدع إليه رسول اللهـ صلى الله عليه وسلم- والصحابة والتابعون، بل يعلم بالاضطرار أن الذى جاء به الرسول من الكتاب والسنة يخالف هذا المعنى الذي سماه هؤلاء الجهمية توحيدا، ولهذا ما زال سلف الأمة وأئمتها ينكرون ذلك " (1) ، ثم ساق شيخ الاسلام عددا من الروايات المشهورة عن أئمة السلف في ذمهم لأهل الكلام وأهل البدع الذين يخوضون في أسماء الله وصفاته ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون (2) . أما مسألة نفي التشبيه بإطلاق، فإمام أهل السنة أحمد بن حنبل-رحمه الله- بين ذلك في الرد على الزنادقة- كا نقل شيخ الإسلام ابن تيمية عنه معلقا على بعض أقواله، قال شيخ الاسلام: " ولهذا قال الامام أحمد: " فقلنا إن الشيء لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء، فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئا " (3) ، فبين الامام أحمد أنه يعلم بالمعقول الصريح الذي   (1) التسعينية (ص:304) . (2) انظر: المصدر السابق (ص: 204-207) . (3) كلام الإمام أحمد في الرد على الزنادقة والجهمية (ص: 68) - ضمن عقائد السلف وفيه: " فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يؤمنون بشيء". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 966 يشترك فيه العقلاء أن ما لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه لا شيء، كما نقل الناس أن جهما يقوله، ولهذا قال: فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئا، أي لجميع العقلاء، فإن هذا لا يختص أهل السمع والكتاب، بل يشترك فيه العقلاء كلهم. فهذا سؤال عن كونه موجودا، ثم سألهم عن كونه معبودا فإن هذا يختص به من يوجب عبادة الله، وهم المسلمون قديما وحديثا، قال: " فإذا قيل لهم: فمن تعبدون؟ قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق، فقلنا: هذا الذي يدبر أمر الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة؟ قالوا: نعم، قلنا: قد عرف المسلمون أنكم لا تثبتون شيئا، إنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون" (1) ، فهنا جعل الكلام من المسلمين الذين يعبدون الله تعالى، والعبادة متضمنة لقصد المعبود وارادته، والقصد والإرادة مستلزم لمعرفته والعلم به. فلما قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق ثم قالوا: هو مجهول لا يعرف بصفة، كان قولهم هو مجهول لا يعرف بصفة تبين (2) للمسلمين الذين يعبدون، أنهم لا يثبتون شيئا يعبدونه، وإنما هم منافقون في ذلك، لأن ما لا يعرف بصفة يمتنع أن يقصد فيعبد، فعرف المسلمون بطلان قولهم: يعبدون الله ويثبتونه، كما عرف أهل العقل بطلان كونهم يقرون بوجوده ويثبتونه، وهم الذين أنكروا أن يعرف بصفة، فأنكروا صفاته مطلقا وأنكروا أن يشبه بالأشياء بوجه من الوجوه، فأنكروا بذلك وجوده " (3) . وكلام الإمام أحمد يدل على مبلغ علم ووعي أئمة السلف رحمهم الله، ومعرفتهم بمداخل أئمة البدع الذين يزخرفون أقوالهم بعبارات التنزيه، وهم يقصدون من وراء ذلك أن يصلوا إلى ما يهدفون إليه من نشر البدع والتعطل. والإمام أحمد لما قرئ عليه كتاب المحنة- زمن المأمون- وبلغ قوله "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" [الشورى: 11] ، وهو خالق كل شيء، قال الإمام أحمد عند قوله ليس كمثله شيء: وهو السميع البصير. فقال إسحاق ابن إبراهيم   (1) كلام الإمام أحمد في المصدر السابق، بعد الكلام السابق مباشرة وفيه "قد عرف المسلمون أنكم لا تؤمنون بشيء ". (2) كذا، ولعل صواباه بالياء. (3) نقض التأسيس- مخطوط- (3/263-264) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 967 - عامل الخليفة- ما أردت بهذا؟ فقلت: كتاب الله عز وجل ولم أزد في كتابه شيئا كما قال ووصف تبارك وتعالى (1) . قال أحد مترجمي الإمام أحمد معلقا: " قلت: انظر كيف فتح الله على الإمام أحمد بإقامة حجته في إثبات الصفات من الآية التى احتجوا عليه بها، فكان الذى استدلوا به دليلا له لا عليه رضى الله عنه " (2) . فالإمام أحمد كان يحذر من التعطيل ومن التشبيه معا، وقد نقل شيخ الإسلام عن الطبري أنه ذكر في تاريخهـ قال شيخ الإسلام: لكن أرسل ذلك والله أعلم بحقيقته (3) - (أنه لما قرأ على علماء بغداد من المحنة كتاب المأمون الذي دعا الناس فيه إلى التجهم، فيه:"لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه ". أقر بذلك من أقر به، وأما أحمد فقال: لا أقول: لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه (4) ، وهذا يبين كمال علمه ومعرفته بالأقوال المنافية لدين الإسلام، واحترازه فيها، مع أن كثيرا من الناس يطلق هذه العبارة، ويريد بذلك نفي المماثلة، ومقصوده صحيح، وقد يريد ما يجمع الحق والباطل، أو يريد تنزيها مطلقا لا يحصل معناه " (5) . وقد أعاد شيخ الإسلام في درء التعارض ذكر رواية الطبرى حول المحنة- ولم يذكر أنها مرسلة- وقال معلقا: (والمقصود أنه ذكر في كتابه:"لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه "، فوافقه من لم يعرف حقيقة هذه الكلمة، وذكر عن أحمد أنه قال: لا يشبه الأشياء، وليس كمثله شيء، ونحو ذلك، أو كما قال.   (1) انظر: سيرة الإمام أحمد بن حنبل، لولده صالح (ص: 49) ، وذكر محنة الإمام أحمد، لحنبل بن إسحاق بن حنبل (ص: 38) - وفي المطبوعة سقط-، ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص: 387) ، ومحنة الإمام أحمد بن محمد بن حنبل لعبد الغني المقدسي (ص: 42-44) . (2) الجوهر المحصل في مناقب الإمام أحمد، تأليف محمد بن محمد بن أبي بكر السعدي الحنبلي المتوفي سنة 900 هـ (ص: 69) . (3) كأن شيخ الإسلام ابن تيمية استنكر انفراد الطبرى بها، إذ لم يذكرها مترجموه، حتى الذين أفردوا كتبا لترجمته أو لمحنته. (4) انظر: تاريخ الطبري 8/639. (5) نقض التأسيس- مخطوط- (3/264) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 968 وأما قوله: " بوجه من الوجوه " فامتنع منها، وذلك لأنه عرف أن مضمون ذلك التعطيل المحض، فإنه يقتضي أنه ليس بموجود ولا شيء ولا حي ولا عليم، ولا قدير، ويقتضي إبطال جميع أسمائه الحسنى، وهذا النفي حقيقة قول القرامطة، والله تعالى ليس كمثله شيء بوجه من الوجوه، بل هو سبحانه في كل ما هو موصوف به مختص بما لا يماثله فيه غيره وله المثل الأعلى " (1) . فهذه الملاحظات الدقيقة التي يبديها أئمة السلف معلقين على مثل هذه العبارات لأجل ما فيها من الإيهام- تدل على حرصهم الشديد على تصفية العقيدة من أكدار التعطيل والتشبيه، وهذا يدل على ما في مثل عبارة الأشاعرة- حين يقولون: إن الله واحد في صفاته لا شبيه له، وخاصة إذا أبانوا عن مقصودهم بها وأنه إنكار علو الله واستوائه وتأويل بقية صفاته عدا الصفات السبع التي أثبتوها- من الإجال والإيهام والضلال. 11- وأئمة الأشاعرة أقروا بأن إطلاق مثل هذه العبارات غير دقيق، وأن القول بنفي التشبيه مطلقا يؤدى الى إنكار صفات الله تعالى، يقول الجويني في نفي أن الله يشبه الحوادث أو يشبهه شيء منها: "والكلام في هذا الباب من أعظم أركان الدين، فقد غلطت طائفة في النفي فعطلت، وغلت طائفة في الإثبات فشبهت، فأما الغلاة في النفى فقالوا: الاشتراك في صفة من صفات الإثبات يوجب الاشتباه، وقالوا على هذا: القديم سبحانه لا يوصف بالوجود، بل يقال: ليس بمعدوم، وكذلك لا يوصف بأنه قادر، عالم، حي، بل يقال: ليس بعاجز، ولا جاهل، ولا ميت، قال: وهذا مذهب الفلاسفة والباطنية، فأما الغلاة في الإثبات فاعتقدوا ما يلزمهم القول بمماثلة القديم الحوادث" (2) ، ثم قال الجويني: " فأما الرد على الفلاسفة فمن أوجه: أحدها: الاتفاق على أن السواد يشارك البياض في بعض صفات الإثبات من الوجود، والعرضية،   (1) درء التعارض (5/183) . (2) المصدر السابق (5/186-187) ، والنص لم أجده في الإرشاد كما قد توحي به عبارة شيخ الإملام في أول الكلام، وللجويني كلام طويل في هذه الموضوعات- في الشامل، انظر: (ص: 287-342) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 969 واللونية، ثم هما مختلفان، وكذلك الجوهر والعرض، والقديم والحادث، لا يمتنع اشتراكهما في صفة واحدة مع اختلافهما في سائر الصفات، ويقال لهم: أتثبتون الصانع المدبر أم لا تثبتونه؟، فإن أثبتوه لزمهم من الحكم بإثباته ما حاذروه فإن الحادث ثابت، فاستويا في الثبوت" (1) . فالجويني مع أنه يقول بتماثل الأجسام، وأن الاختلاف إنما هو في الأعراض، ومع ما في القول بتماثل الأجسام وأن الثلج مماثل للنار من كل وجه، والخبز مماثل للحديد من كل وجه، من مخالفة الحس والعقل (2) ، إلا أن قوله بأن القديم والحادث يستويان في الثبوت، ورده على الغلاة الذين قالوا: الاشتراك في صفة من صفات الإثبات يوجب الاشتباه: " تصرج بأن المختلفين يستويان ويشتركان في بعض الصفات، فكيف يمكن أن يقال مع هذا: إن المختلفين لا يشتبهان من بعض الوجوه، وقد صرح بتساويهما في بعض الأشياء؟ ... " (3) . فالجويني هنا يرد على نفسه وعلى إخوانه الأشاعرة الذين قالوا: إن القول بإثبات علو الله واستوائه على العرش يقتضي أن يكون جسما والأجسام متماثلة. ومن ثم فسروا التوحيد بنفي التشبيه عن الله وفسروه بتلك التفسيرات الباطلة، فهم بين أمرين، إما أن يقولوا بأن إثبات السمع والبصر والحياة والقدرة لله تعالى يقتضي تشبيها مثل العلو واليدين، أو يقولوا بأن إثبات العلو والاستواء واليدين والوجه لله لا يقتضي تشبيها مثل السمع والبصر والحياة. ويقول الرازي عن هذا الموضوع: " فإن قيل المشاركة في صفات الكمال يقتضي المشاركة في الإلهية. قلنا: المشاركة في بعض اللوازم البعيدة مع حصول المخالفة في الأمور الكثيرة لا تقتضي المشاركة في الالهية. قال: ولهذا المعنى قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) [النحل: 60] ، وقال -صلى الله عليه وسلم- "تخلقوا   (1) درء التعارض (5/188-189) . (2) انظر: المصدر السابق (5/192) (3) انظر: المصدر نفسه (5/193) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 970 بأخلاق الله (1) " (2) ، قال شيخ الإسلام معلقا على هذا الكلام: (ومن المعلوم أن المشابهة هي المشاركة في صفات الكمال- التي هي العلم والقدرة- أعظم من المشابهة والمشاركة في مجرد مسمى الوجه" (2) . ثم ينقل شيخ الإسلام عن الرازي أنه قال في نهاية العقول، في مسألة تكفير المخالفين من أهل القبلة في حجة من كفر المشبهة، قال: " ورابعها: أن الأمة مجمعة على أن المشبه كافر ثم [إن (4) ] ، المشبه لا يخلو إما أن يكون هو الذي يذهب إلى كون الله مشبها بخلقه من كل الوجوه، أو ليس [كذلك (4) ] . والأول باطل؟ لأن أحدا من العقلاء لم يذهب إلى ذلك (5) ، ولا يجوز أن يجمعوا على تكفر من لا وجود له، بل المشبه الذى يثبت الإله على صفة بشر بها معها بخلقه (6) ، والمجسم كذلك لأنه إذا أثبت جسما [بحيز (7) ] معين فإنه يشبهه بالأجسام المحدثة، فثبت أن المجسم مشبه، وكل مشبه كافر بالإجماع، فالمجسم كافر" (8) ، ثم قال الرازى في الجواب عن ذلك لأنهـ أى الرازي- نصر عدم تكفير أهل القبلة: " قوله: المجسم مشبه، والمشبه كافر، قلنا: إن عنيتم بالمشبه من يكون قائلا بكون الله شبيها بخلقه من كل الوجوه، فلا شك في كفره، لكن المجسمة لا يقولون بذلك، فلا يلزم قولهم   (1) موضوع، قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: (هذا اللفظ لا يعرف عن النبى -صلى الله عليه وسلم- في شيء من كتب الحديث، ولا هو معروف عن أحد من أهل العلم، بل هو من باب الموضوعات عندهم. وإن كان قد يفسر بمعنى صحيح يوافق الكتاب والسنة، فإن الشارع قد ذكر أنه يحب اتصاف العبد بمعاني أسماء الله تعالى كقول النبى-صلى الله عليه وسلم-: إن الله جميل يحب الجمال. إنه وتر يحب الوتر. إنه طيب لا يقبل إلا طيبا ... ". نقض التأسيس- مخطوط- (3 / 272) . (2) نقض التأسيس- مخطوط- (3 / 253-254) ، وكلام الرازي في أساس التقديس (ص: 86-87) . (3) نقض التأسيس- مخطوط- (3 لم 254) . (4) ما بين القوسين زيادة من نهاية العقول ليستقيم الكلام. (5) في نهاية العقول: لم يذهب الى كون الله تعالى مشبها لخلقه من كل الوجوه. (6) كذا في نقض التأسيس. وفي نهاية العقول: على صفة تشبه فعلها لخلقه. (7) في نقض التأسيس [غير] وهو تحريف، والتصويب من نهاية العقول. (8) نقض التأسيس- مخطوط- (3 / 254) . والنص في نهاية العقول (291- أ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 971 بالتجسيم قولهم بذلك، ألا ترى أن الشمس والقمر والنمل والبق أجسام، ولا يلزمنا اعترافنا باشتراكها في الجسمية كوننا مشبهين للشمس والقمر والنمل والبق، وإن عنيتم بالمشبه من يقول بكون الله شبيها بخلقه من بعض الوجوه فهذا لا يقتضي الكفر لأن المسلمين اتفقوا على أنه موجود وشيء وعالم وقادر، والحيوانات أيضا كذلك، وذلك لا يوجب الكفر، وإن عنيتم بالمشبه من يقول الإله جسم مختص بالمكان، فلا نسلم انعقاد الإجماع على تكفير من يقول بذلك، بل هو دعوى للإجماع في محل النزاع فلا يلتفت إليه " (1) . قال شيخ الإسلام معلقا على كلام الرازى السابق بعد نقله: " وهذا تصريح منه بأن القول بكون الله شبيها بخلقه من بعض الوجوه داخل في قول كل المسلمين، ولا ريب أن كل موجودين فلابد أن يتفقا في شيء يشتركان فيه، وأن أحدهما أكمل فيه وأولى به من الآخر، وإلا فإذا قدر أنهما لا يتفقان في شيء أصلا ولا يشتركان فيه لم يكونا موجودين، وهذا معلوم بالفطرة البديهية التي لا يتنازع فيها العقلاء الذين يفهمونها" (2) . فهؤلاء أئمة الأشاعرة يعترفون بهذه الحقيقة البدهية، والعجب أنهم ينسون ذلك حين يتعرضون لبعض مسلماتهم الأخرى- كنفي العلو، أو بعض الصفات- فيصمون من يقول بها ويثبتها بالتشبيه والتجسيم، ويجعلون مذهبهم النافي لها هو التوحيد!. د- بيان حقيقة التوحيد الذى دعت إليه الرسل: سبق بيان أنواع التوحيد الثلالة عند الأشاعرة وغيرهم من أهل الكلام، مع بيان ما فيها من الحق والباطل، وردود شيخ الإسلام على الأشاعرة حين أدخلوا في مسمى التوحيد نفى العلو والصفات، وتقصيرهم حين ركزوا على توحيد الربوبية دون توحيد الألوهية، والآن نبين حقيقة التوحيد الذي دعت إليه الرسل:   (1) نقض التأسيس - مخطوط- (3/254-255) ، والنص في نهاية العقول (293- أ) . (2) نقض التأسيس - مخطوط- (3/255) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 972 يقول شيخ الاسلام بعد ردود طريلة عليهم في ذلك: " والمقصود هنا أن "التوحيد" الذى أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله، وهو المذكور في الكتاب والسنة، وهو المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، ليس هو هذه الأمور الثلاثة التى ذكرها هؤلاء المتكلمون، وإن كان فيها ما هو داخل في التوحيد الذي جاء به الرسول، فهم مع زعمهم أنهم الموحدون، ليس توحيدهم التوحيد الذي ذكر الله ورسوله، بل التوحيد الذى يدعون الاختصاص به باطل في الشرع والعقل واللغة ((1) . ثم يبين حقيقة التوحيد الذي جاءت به رسل الله فيقول: " وذلك أن توحيد الرسل والمؤمنين هو عبادة الله وحده، فمن عبد الله وحده لم يشرك به شيئا فقد وحده، ومن عبد من دونه شيئا من الأشياء فهو مشرك به، ليس بموحد مخلص له الدين، وإن كان مع ذلك قائلا بهذه المقالات التي زعموا أنها التوحيد، حتى لو أقر أن الله وحده خالق كل شيء وهو التوحيد في الأفعال" (2) . ومنشأ الغلط عند هؤلاء أنهم فهموا أن معنى الإله في قول المسلمين: لا إله الا الله، هو القادر على الاختراع، وأن إله بمعنى آله، لا بمعنى مألوه، وهذا فهم خاطىء قال به الأشعري، وجعله أخص وصف الإله (3) ، وقد تبعه على ذلك جميع الأشاعرة. وشيخ الإسلام يقرر أن الإله بمعنى المألوه المعبود لا بمعنى القادر على الخلق يقول: "والإله هو بمعنى المألوه المعبود، الذى يستحق العبادة، ليس هو الإله بمعنى القادر على الخلق. فإذا فسر المفسر الإله بمعنى القادر على الاختراع، واعتقد أن هذا أخص وصف الإله، وجعل إثبات هذا التوحيد هو الغاية في التوحيد،   (1) نقض التأسيس- مطبوع- (11/478) . (2) المصدر السابق نفس الجزء والصفحة، وانظر أيضا (1/133-134) . (3) انظر: منهاج السنة (2/65) - مكتبة الرياض الحديثة، والجواب الصحيح (2/152) ، والاستغاثة (2/157) ، والصفدية (1/148) ، واقتضاء الصراط المستقيم (2/845) ، وأقوم ما قيل في القضاء والقدر- مجموع الفتاوى (8/101) ، ودرء التعارض (9/377) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 973 كما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية- وهو الذي ينقلونه عن أبي الحسن وأتباعهـ لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذى بعث الله به رسوله، فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء، وكانوا مع هذا مشركين. قال تعالى: " وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ " [يوسف: 106] . قال طائفة من السلف: تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون: الله، وهم مع هذا يعبدون غيره (1) . وقال تعالى:" قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ " [المؤمنون: 84-89] ، وقال تعالى:" وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ " [العنكبوت: 61] . فليس كل من أقر أن الله رب كل شيء وخالقه يكون عابدا له دون ما سواه، داعيا له دون ما سواه، راجيا له خائفا منه دون ما سواه يوالي فيه، ويعادي فيه، ويطيع رسله، ويأمر بما أمر، وينهى عما نهى عنه ... " (2) . فتوحيد الربوبية كان المشركون مقرين به، وهو نهاية ما يثبته هؤلاء المتكلمون إذا سلموا من البدع فيهـ كما يقول شيخ الإسلام (2) - أما التوحيد الذى جاءت به الرسل فلم يعرفوه ولم يبينوه. يقول شيخ الإسلام: (أما التوحيد الذى ذكره الله في كتابه، وأنزل به كتبه، وبعث به رسله، واتفق عليه المسلمون من كل ملة فهو كما قال الأئمة: شهادة أن لا اله الا الله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما بين ذلك بقوله:" وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ " [البقرة: 163] فأخبر أن الإله إله واحد، لا يجوز أن يتخذ إله غيره فلا يعبد الا إياه، كما قال في السورة الأخرى:"وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ   (1) انظر: عبارات السلف في تفسير الطبري- سورة يوسف-، آية: 106 (16/286) ت شاكر. وفي تفسير ابن كثير لهذه الآية. (2) درء التعارض (1/226-227) . (2) انظر: التسعينية (ص: 209) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 974 " اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ " [النحل: 51] ، وقال: " لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا - إلى قولهـ " فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا " [الإسراء: 22-39] وكما قال: " تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى " [الزمر: 1-3] وكما قال: " وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ " [الفرقان: 68] والشرك الذي ذكره الله في كتابه إنما هو عبادة غيره من المخلوقات، كعبادة الملائكة أو الكواكب أو الشمس أو القمر أو الأنبياء أو تماثيلهم، أو قبورهم، أو غيرهم من الآدميين ونحو ذلك مما هو كثير في هؤلاء الجهمية ونحوهم ممن يزعم أنه محق في التوحيد وهو من أعظم الناس اشراكا " (1) . وكلام شيخ الإسلام في هذا الباب لا يحتاج إلى بيان، فكتبه كلها لا تكاد تخلو من بيان هذا الأمر العظيم الذى هو لب التوحيد وأسّه وهو توحيد الألوهية، والرد على من فسر التوحيد بأن المقصود به توحيد الربوبية فقط (2) ، ولا يعنى هذا أن شيخ الإسلام يهمل توحيد الربوبية، بل هو يرى- كما سيأتي إن شاء اللهـ أن أدلته فطرية بدهية، وأن جميع بني آدم مفطورون على الإقرار به ولم ينقل أهل المقالات عن أحد إثبات شريك مشارك لله في خلق جميع المخلوقات (3) ، والرسل بنوا دعوة الناس إلى توحيد الألوهية على إقرارهم واعترافهم بتوحيد الربوبية، فالمقر بتوحيد الألوهية مقر ضمنا بتوحيد الربوبية لأنه متضمن له، كا أن توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية. وبعض الأشاعرة- كالشهرستاني- يقر بهذه الحقيقة إجمالاً ويذكر في معرض بيان أن العباد مفطورون على إثبات الصانع؛ أنه " لم يرد التكليف بمعرفة وجود الصانع، وإنما ورد بمعرفة التوحيد ونفى الشريك" (4) .   (1) التسعينية (ص: 208) ، وانظر: مجموع الفتاوى (10/264-265) . (2) انظر: فهارس مجموع الفتاوى- ط الرياض- (36/2-18) . (3) انظر: التدمرية (ص: 177) - ت السعوي، والإيمان (ص: 72-73) . ط المكتب الإسلامي. (4) نهاية الإقدام (ص: 124) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 975 ويقرر شيخ الاسلام أن التوحيد الذي دعت اليه الرسل متضمن لأصلين: أحدهما: التوحيد القولي، الذي هو الخبر عن الله تعالى، وهو التوحيد في العلم والخبر. وهو الذي دلت عليه آيات كثيرة منها سورة الاخلاص، "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ". والثاني: التوحيد العملي، الذي هو توحيد العبادة لله تعالى، وهو توحيد القصد والطلب. وقد دلت عليه آيات كئيرة، منها سورة الكافرون (1) . ويربط بين هذين النوعين من التوحيد بقوله: " الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع، والعبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل" (2) ، والله تعالى كما أنه هو المبدع الخالق وحده فهو المستحق لأن يعبد وحده لا شريك له (2) . وشيخ الإسلام في تقريره لتوحيد الألوهية، وأنه التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وهو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، يركز على ما يضاده، وهو الشرك وأنواعه ووسائله وقد ألف في ذلك كتبا مستقلة منها: 1- الجواب الباهر في زوار المقابر، كتبه بطلب من السلطان الناصر (4) . 2- الرد على الأخنائي (5) . 3- وقاعدة جليلة في التوسل والوسيلة.   (1) انظر: نقض التأسيس- مطبوع- (1/479 - 480) ، والتسعينية (ص: 210) ، والتدمرية (ص: 3- 5) . (2) مجموع الفتاوى (10/249) . (2) انظر: درء التعارض (9/374) . (4) انظر: الجواب الباهر (ص: 3- 5) . (5) هو محمد بن أبي بكر بن عيسى الأخنائي، كان قاضي القضاة في مصر، مالكي المذهب، ولد سنة 658 هـ وتوفي سنة 750 هـ. انظر: الديباج المذهب (2/321) ، والدرر الكامنة (4/27-28) - ط مصر-، وشجرة النور الزكية (1/187) ، والأعلام (6/56) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 976 4- الرد على البكري (1) ، المعروف بالاستغاثة. وغيرها من الرسائل وأجوبة المسائل التي كان يسأل عنها، وشيخ الإسلام رد في هذه الكتاب والرسائل على من ضل في هذه الباب من الأشاعرة وغيرهم، خاصة أهل التصوف حيث يكثر فيهم الغلو ومن ذلك غلوهم في رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وفي مشايخهم: سواء كانوا أحياء أو أمواتا. والأشاعرة لما كان جل اهتمامهم العناية بتقرير توحيد الربوبية غفلوا عن تقرير توحيد الألوهية، وبيان ما يضاده من الشرك، وكان من آئار ذلك أن وقع بعضهم في ضلال مبين من جانبين: أحدها: وقوع هذا البعض في أنواع من الشرك، ظنا منه أن ذلك لا يناقض التوحيد، يقول شيخ الإسلام- بعد رده على الأشاعرة بسبب اهمالهم لتوحيد الألوهية وعنايتهم بتوحيد الربوبية-: " ولهذا كان من أتباع هؤلاء من يسجد للشمس والقمر والكواكب، ويدعوها كا يدعو الله تعالى، ويصوم لها، وينسك لها، ويتقرب إليها، ثم يقول: إن هذا ليس بشرك، وإنما الشرك إذا اعتقدت أنها هي المدبرة لي، فإذا جعلتها سببا وواسطة لم أكن مشركا، ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك، فهذا ونحوه من التوحيد الذي بعث الله به رسله، وهم لا يدخلونه في مسمى التوحيد الذي اصطلحوا عليه " (2) . وهذا المنهج الخطير الذي سلكه الأشاعرة أثر في كتاباتهم العقدية، فقلما تجد لعالم من علمائهم كتابا أو رسالة في بيان توحيد العبادة، وأنواع العبادة التي لا يجوز صرفها إلا لله، أو في بيان الشرك وأنواعه، أو حكم السفر لزيارة القبور والدعاء والنذر لها، بل على العكس من ذلك تجد الكثير فهم يميل إلى مثل هذه الشركيات أو ما هو من وسائله.   (1) تقدمت ترجمته (ص: 238) . (2) انظر: درء التعارض (1/227-228) ، وانظر: التسعينية (ص: 209) ، ونقض التأسيس - مطبوع- (1/481) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 977 وفي عصرنا الحاضر تأثر بهذا المنهج من تربى على كتب الأشاعرة والماتريدية، وما شابهها من كتب أهل الكلام، فتجد هؤلاء يؤلفون كتبا كثيرة في العقيدة، ولكن جل اهتمامهم منصب على تقرير توحيد الربوبية، فإذا كتبوا عن الطب وأسرار الإنسان، أو عن الكون وآفاقه، أو عن الجبال أو البحار، أو النبات، أو الحيوانات، أو غيرها، وما في دقة صنعها من دلائل قدرة الله تعالى يبرزون هذه الجوانب ليصلوا في النهاية إلى دلالتها على وجود الله ووجوب الإيمان به، والرد على الملاحدة الذين ينكرون وجود الله أو يقولون بالدهر أو الطبع أو يؤلهون العلم، ولا شك أن هذه جهود طيبة، ومفيدة لفئات محيرة تأثرت بالحاد الغرب أو الشرق، ولكن الخطأ فيها يكمن في ناحيتين: 1- الغلو في إخضاع نصوص الوحي- من الكتاب والسنة- لتوافق النظريات العلمية الحديثة، وهذا الغلو فضلا عن أنه ينم- في الغالب- عن روح انهزامية، إلا أنه أيضا قد يجر إلى تحريف أو تأويل لبعض الآيات أو الأحاديث، وإغفال لما قاله الصحابة وجمهور السلف في تفسير هذه النصوص. 2- اغفالها للجانب الأهم في التوحيد وهو توحيد الألوهية، لأنها تنتهي عند حد إثبات وجود الله وعلمه وقدرته فقط، ولا تشرح بشكل مفصل ومركز أن على العبد اذا أقر بربوبية الله ووحدانيته أن يفرده بالعبادة والطاعة، وأن يخلص في توحيده لله بأن يشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن لا يصرف أي نوع من أنواع العبادة من الصلاة والدعاء والخوف والخشية، والرغبة والرهبة، والنذر والاستغاثة والاستعانة والرجاء والمحبة إلا لله تعالى، وأن يحذر من الوقوع في أي نوع من أنواع الشرك الذي ييطل عمل الإنسان وتوحيده ولو كان مقرا بأن الله هو الخالق الرازق. والعجيب أن بعض هؤلاء الذين وقعوا في هذا الخطأ- خطأ التركيز على توحيد الربوبية وإغفال توحيد الألوهية- وصل بهم الأمر إلى اعتبار البحث في موضوع إخلاص العبادات لله، وشرح ما يضادها من أنواع الشرك من الأمور المستنكرة لأنها تؤدي الى التفرقة بين المسلمين، وتكفير بعضهم، والغلو في جزئيات لا ينبغي الوقوف عندها، وهكذا أصبح البحث والدعوة إلى تحقيق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 978 التوحيد، وسد طرق الشرك والتحذير من وسائله حماية لجانب التوحيد الذي دعا اليه رسول اللهصلى الله عليه وسلم- من الأمور التي لا تعجب كثيرا من هؤلاء إن لم تثر سخطهم. والله المستعان. الثاني: الغلو في توحيد الربوبية الى حد ما يسميه الصوفية بالفناء (1) ، يقول شيخ الإسلام: "واذا تبين أن غاية ما يقرره هؤلاء النظار، أهل الإثبات للقدر، المنتسبون إلى السنة إنما هو توحيد الربوبية، وأن الله رب كل شيء، ومع هذا فالمشركون كانوا مقرين بذلك مع أنهم مشركون، فكذلك طوائف من أهل التصوف المنتسبين الى المعرفة والتحقيق والتوحيد، غاية ما عندهم من التوحيد هو شهود هذا التوحيد، وهو أن يشهد أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، لا سيما اذا غاب العارف بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمعروفه عن معرفته، ودخل في فناء توحيد الربوبية، بحيث يفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل، فهذا عندهم هو الغاية التي لا غاية وراءها، ومعلوم أن هذا هو تحقيق ما أقر به المشركون من التوحيد. ولا يصير الرجل بمجرد هذا التوحيد مسلما، فضلا عن أن يكون وليا لله أو من سادات الأولياء، (2) . فالفناء في توحيد الربوبية عنذ هؤلاء الصوفية هو غاية ما يصبو اليه سالكو طرقهم الضالة، وقد يصل الأمر عند من شهد هذا التوحيد، وشهد القدر، أن يسير مع القدر حيث سار محبة ورضا، فهو مع المشركين إن انتصروا على المسلمين وهو أيضا مع من يفعل الفواحش ويسفك الدماء، بل مع عباد الأصنام   (1) الفناء عند الصوفية له عدة معان، منها أنه سقوط الأوصاف المذمومة، كما أن البقاء وجود الأوصاف الحمودة، ومنها أنه: تبديل الصفات البشرية كالصفات الالهية، أو هو عدم شعور الشخص بنفسه أو بلوازم نفسه، وهو درجتان: فناء عن شهود ما سوى الله فيفنى بمعبوده عن عبادته وبمعروفه عن معرفته بحيث يغيب عن شعوره بنفسه وبما سوى الله. والدرجة الثانية: فناء عن وجود السوى، بحيث يرى أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق، بحيث يرى أن ليس في الوجود إلا الله، وهناك فناء شرعي وهو الفناء عن عادة غير الله بعبادته وحده. انظر: التعريفات (ص: 90) ، ورسالة في اصطلاحات الصوفية، لابن عربي (ص: 139) ط ملحقة بآخر التعريفات، ومعجم مصطلحات الصوفية (ص: 207-208) ، والمعجم الفلسفي (2/167) - صليبا، والتدمرية (ص: 187، 221-222) - ت السعوي. (2) التدمرية (ص: 186-187) - ت السعوي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 979 لأن هؤلاء جميعا خاضعون للقدر، وغاية العبودية- عندهم- أن تستسلم للقدر، ولذلك فليس غريبا على هؤلاء أن يبلغ عندهم بعض الأولياء مرتبة سقوط التكاليف، فلا يجب عليه واجب ولا يحرم عليه محرم، كما أن الشرك بشتى أنواعه وصوره منتشر بينهم. فأين تحقيق تحقيق توحيد الألوهية عند هؤلاء؟. وقد أشار شيخ الاسلام في معرض ردوده المطولة ومناقشاته حول توحيد الألوهية، وما يتعلق به من تعظيم القبور، والسفر لزيارتها، والسؤال بالجاه، أشار إلى بعض أقوال الأشاعرة في هذه المسائل فاستشهد بأقوال بعض أئمتهم التي وافقوا فيها الحق، كما رد على بعضهم فيما خالفوا فيه وجه الحق، ومن ذلك: 1- ما ذكره في الرد على المنطقيين في ردوده على الفلاسفة، حيث ذكر فشو الشرك فيهم، وذكر أن الشرك نشأ في بني آدم عن أصلين: أحدهما: تعظيم قبور الصالحين. والثاني: عبادة الكواكب، وأن لها تأثيرا (1) . وقد سبقت الاشارة إلى أن شيخ الاسلام اتهم الرازي في أنه ألف كتابا في الشرك والسحر ومخاطبة النجوم (2) ، وهو في ذلك متأثر بالفلاسفة. كما ذكر أن قول الفلاسفة في الشفاعة أعظم شركا من قول غيرهم من مشركي العرب (2) ، وأن الرازي والغزالي- لدخولهم في الفلسفة- قد تأثروا بالفلاسفة في هذا الباب (4) .   (1) انظر: الرد على المنطقيين (ص: 285-286) . (2) انظر ما سبق- في الحديث عن الرازى ونجهـ: (ص: 699-701) . (2) انظر: الرد على المنطقيين (ص: 534-544) . (4) انظر: المصدر السابق (ص: 544- 545) ، وانظر: مناقشات أخرى مطولة للغزالي وللرازي فيما قالوهـ موافقة للفلاسفة- من تأليه الملائكة وجواز مخاطبة النجوم ودعائها- في بنية المرتاد (ص: 184-217- 360-377) ت موسى الدويش، ط مكتبة العلوم والحكم، وانظر: قاعدة جليلة في التوصل والوسيلة (ص: 24-78،25) ، ط المكتب الإسلامي، ودرء التعارض (5 / 147-150) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 980 2- وفي مسألة التوسل بجاه النبي-صلى الله عليه وسلم-، ذكر شيخ الإسلام أنه لم ير من جوزه إلا أبا محمد العز بن عبد السلام في الرسول خاصة، فنقل عنه أنه قال: لا يجوز أن يتوسل إلى الله بأحد من خلقه إلا برسول اللهـ صلى الله عليه وسلم - إن صح حديث الأعمى (1) ، " قال شيخ الإسلام: فلم يعرف صحته " (2) ، ثم رد عليه (3) . 3- وفي مسألة شد الرحال لزيارة القبور احتج شيخ الاسلام بالحديث المشهور في ذلك- وهو حديث لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ... (4) - ثم ذكر أن الجمهور على أنه لا يجوز شد الرحال إلى غير هذه الثلاثة،   (1) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص: 147) - ط المكتب الإسلامي-، وفتوى العز موجودة في المطبوع من فتاويه (ص: 126-127) ونصها: "أما مسألة الدعاء فقد جاء في بعض الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم بعض الناس الدعاء فقال في أقواله: قل: اللهم أني أقسم عليك [كذا والوارد في الأحاديث: أسألك وأتوجه اليك، بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة " وهذا الحديث إن صح فينبغي أن يكون مقصورا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه سيد ولد آدم، وأن لا يقسم على الله بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء لأنهم ليسوا في درجته، وأن يكون هذا مما خص به تنبيها على درجته ومرتبته". والحديث الذي أشار إليه هو حديث الأعمى الذي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، فأمره أن يدعو بهذا الدعاء. رواه الإمام أحمد (4/138) ، والترمذي في الدعوات، باب رقم (119) ، ورقمه (3578) - ت عطوة. وهو في طبعة عثمان برقم 3649 (ومع تحفة الأحوذى 4/481- هندية) ، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، ورواه النسائي في عمل اليوم والليلة وأرقامه (658-660) - ت حماده، وابن ماجه في سننه، كتاب اقامة الصلاة باب ما جاء في صلاة الحاجه ورقمه (1385) . والحاكم (3/313) وصححه ووافقه الذهبي، والطبراني في الكبير (9/19) ورقمه (8311) ، والبيقي في دلائل النبوة (6/166-167) والحديث صححه اضافة إلى من سبق الألباني في التوسل (ص: 69-70) ، وصحيح ابن ماجه ورقمه (1137) . ولحديث الأعمى روايات أخرى بزيادات ضعيفة- ذكرها الطبراني في الكبير- (9/17-18) برقم (8311) ، وفي المعجم الصغير (1/183) - ط السلفية في المدينة المنورة- (1/306) وبرقم (508) من الروض الداني إلى المعجم الصغير للطبراني، والبيهقي في دلائل النبوة (6/167-168) . وقد تكلم عنها وضعفها ابن تيمية في قاعدة جليلة (ص: 94) وما بعدها، والألباني في التوسل (ص: 83-93) . (2) قاعدة جليلة (ص: 147) . (3) انظر: المصدر السابق، ومجموع الفتاوى (27/83) وما بعدها. (4) متفق عليه: البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، ورقمه 1189 (فتح البارى 3/63) . ومسلم، كتاب الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، ورقمه (1397) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 981 ثم نقل عن بعض العلماء- كالغزالي، والجويني، وأبي حامد الأسفراييني، وابن عبد البر، وأبي محمد المقدسي وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد- أنهم قالوا: المراد بالحديث نفي الفضيلة والاستحباب، ونفي الوجوب بالنذر، لا نفي الجواز (1) ، ثم بين شيخ الإسلام من خلال ردوده المطولة أن أحدا من العلماء لم يقل: إن السفر إلى غير هذه الأماكن الثلاثة- بقصد التعظيم أو التقرب- مستحب (2) . 4- كما ذكر شيخ الإسلام أن السفر إلى زيارة القبور رخص فيه بعض المتأخرين كالغزالي (3) ، كما رد على القاضي عياض في قوله: إن التربة التي دفن فيها النبى-صلى الله عليه وسلم- أفضل من المسجد الحرام (4) ، كما ذكر عن بعض نفاة الغلو أنهم يعظمون المتصوفة، وأن أحدهم يأخذ ورقة فيها سر مذهبه، يرقى بها المرضى كما يرقى المسلمون بفاتحة الكتاب، قال شيخ الإسلام- كما أخبرنا بذلك الثقاة- وهم يقدمون تلك الرقية على فاتحة الكتاب (5) . ثالثا: توحيد الربوبية : سبقت الإشارة إلى أن النوع الثالث من أنواع التوحيد عند الأشاعرة قولهم: إن الله واحد في أفعاله لا شريك له، وأن الألوهية هي القدرة على الاختراع، وأن معنى لا إله إلا الله لا خالق إلا الله، كا تقدم بيان ما في هذا القول من الحق والباطل، وأن إثباتهم لتوحيد الربوبية صحيح، ولكن الخطأ الذي وقعوا فيه ظنهم أن هذا هو غاية التوحيد الذي دعت إليه الرسل وإغفالهم لتوحيد الألوهية.   (1) الرد على الأخنائي (ص: 33، 166-184،167) - ط السلفية، القاهرة، وانظر مختصره في مجموع الفتاوى (27/226) . (2) انظر: المصدر السابق، الصفحات نفسها. (3) انظر: مجموع الفتاوى (27/27-28) . (4) انظر: المصدر السابق (27/37-38) . (5) انظر: درء التعارض (6/170) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 982 وهنا نشير إلى طرائقهم في إثبات هذا التوحيد- توحيد الربوبية- لأنهم عنوا به كثيرا، وأطالوا بحثه في كتبهم، وقد ناقشهم شيخ الإسلام ابن تيمية وبين ما في أقوالهم وأدلتهم من الحق والباطل. وشيخ الإسلام يبين دائما أن مسألة إثبات الربوبية من المسائل التي فطر عليها بنو آدم، ولذلك فهو حينما يذكر طرق هؤلاء الأشاعرة وغيرهم في إثبات الصانع، إنما يذكرها لأنهم يعارضون بها كلام الله وكلام رسوله، ويزعمون أن هذه الأدلة العقلية تعارض ما جاءت به الرسل. ويهدف من وراء مناقشتهم إلى بيان أمرين: أحدهما: أن ما عارض النصوص من أقوالهم وأدلتهم لا يكون إلا باطلا. والثاني: أن ما لم يعارض نصوص الوحي، قد يكون حقا وقد يكون باطلا وما كان منها حقا فقد يكون طويلا لا يحتاج إليه (1) . كما أن شيخ الاسلام ينتقد هؤلاء المتكلمين حين يزعمون أن لا طريق إلى إثبات الصانع مثلا إلا هذا الطريق الذي ذكروه، ومن ثم يرمون من خالفه بالإلحاد والمروق. يقول: " ثم مما ينبغي أن يعرف أن الذين سلكوا الطرق المبتدعة في إثبات الصانع وتصديق رسله، إذا اعتقدوا أنه لا طريق إلا ذلك الطريق جعلوا من خالفهم في صحة تلك الطريق ملحدا، أو دهريا، أو نحو ذلك، وهذا يذكرونه في مواضع: منها: أنهم لما اعتقدوا أن إثبات الصانع تعالى موقوف على إثبات الجوهر الفرد (2) جعلوا إثبات ذلك من أقوال المسلمين، ونفي ذلك من أقوال الملحدين.   (1) انظر: درء التعارض (8/90-91) . (2) الجوهر الفرد، ويسمى: الجزء الذي لا يتجزأ، أو الذرة، ويعرف بأنه: متحيز لا ينقسم لا بالفك والقطع، ولا بالوهم والغرض [الصحائف الإلهة: السمرقندي ص: 255] ، أو هو: جوهر لا يقبل الانقسام أصلا، ولا بحسب الحارج، لا بحسب الوهم أو الغرض العقلي [التعريفات ص: 41] ، وانظر: المعجم الفلسفي- مجمع اللغة- (ص: 88) ، والمعجم الفلسفي- صليبا (1/588،427،400) ، وانظر: مسألة في إثبات الجوهر الفرد للشهرستاني (ص: 505-511) - طبعت في ذيل نهاية الإقدام، وانظر أيضا مذهب الذرة عند المسلمين بينيس (ص: 1-16) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 983 وكذلك قد يقولون: إن تماثل الجواهر والأجسام من أقوال المسلمين، ونفي ذلك من أقوال الملحدين. وكذلك قد يقولون: إن تناهي الحوادث من أقوال المسلمين، والقول بعدم تناهيها من أقوال الدهرية الملحدين. ولهذا نظائر (1) . وأهم المسائل المتعلقة بتوحيد الربوبية هي: أ- دليل حدوث الأجسام على لإثبات وجود الله. ب- مسألة التسلسل والرد الصحيح على الفلاسفة الدهرية. ب- الأدلة الأخرى على إثبات الصانع التي ذكرها الأشاعرة. د- لألبات وحدانية الله. أ- دليل حدوث الأجسام: سبقت الاشارة إلى هذا الدليل في انمهج العام في الرد على الأشاعرة، عند بيان عدم تعارض العقل والنقل، حيث جعل الأشاعرة دليل حدوث الأجسام من الأصول العقلية التي عارضت مدلول السمع، فوجب تقديمها عليه. وهذا الدليل هو المسلك المشهور للمعتزلة، وأخذه عنهم جمهور الأشاعرة (2) ، والماتريدية، وخاصة الباقلاني، والجويني، والباجي، وأبا بكر ابن العربي، والآمدي، والماتريدي والصابوني. وهي الغالبة على كتب الأشاعرة قديما وحديثا، وإن كان بعض أعلامهم- كالرازي- يذكرها ويذكر غيرها، وربما ضعف هذا الدليل ونقده. وخلاصة الدليل أن هؤلاء قالوا: لا يعرف صدق الرسول حتى يعرف إثبات الصانع، ولا يعرف إثبات الصانع حتى يعرف حدوث العالم، ولا يعلم حدوث العالم إلا بما به يعلم حدوث الأجسام، ثم استدلوا على حدوث الأجسام   (1) انظر: درء التعارض (8/93-94) . (2) انظر: نقض التأسيس- مطبوع- (1/257-258) ، ودرء التعارض (9/132) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 984 بأنها لا تخلو من الحوادث- أو بعبارة أخرى مستلزمة للأعراض أو بعضها- ثم قالوا وما لم يخل من الحوادث فهو حادث، ثم ان هؤلاء احتاجوا الى أن يقولوا: ما لم يسبق الحوادث فهو حادث، ثم منهم من تفطن الى أن هذا لا يكفي لإثبات الصانع فاضطر أن يقول بإبطال حوادث لا أول لها (1) . فلما استقر الدليل عند هؤلاء قالت المعتزلة يجب نفي جميع الصفات عن الله تعالى لأن ما قامت به الصفات قامت به الأعراض، وما قامت به الأعراض فهو حادث، فجاءت الكلابية والأشعرية فقالوا بإثبات الصفات، وقالوا لا نسميها أعراضا. لكن الصفات الاختيارية حوادث فيجب نفيها طردا لهذا الدليل. هذه خلاصة هذا الدليل، ولخطورته وأهميته، وتركيز شيخ الإسلام عليه في جميع كتبه تقريبا، وكونه يشير إليه أحيانا إشارات مجملة بناء على أنه فصل القول فيه في أماكن أخرى، ولأن هذا الدليل هو لب الكلام المذموم الذي ذمه السلف، وقد بين ذلك شيخ الإسلام مرارا ومن ذلك قوله: "إن هذه الطريقة هي أصل الكلام الذي ذمه السلف والأئمة وتوسعوا في الكلام في ذلك من وجهين: أحدما: أنهم [أي أهل الكلام] جعلوا ذلك أصل الدين، حتى قالوا: إنه لا يمكن معرفة الله وتصديق رسوله إلا بهذه الطريق. فصارت هذه الطريق أصل الدين، وقاعدة المعرفة، وأساس الإيمان عندهم، لا يحصل إيمان ولا دين ولا علم بالصانع إلا بها، وصار المحافظة على لوازمها والذي فيها أهم الأمور عندهم ... الوجه الثاني: وهو الكلام بذلك في حق الله سبحانه وتعالى [فإنه (2) ] كان من لوازم هذه الطريقة نفي ما جعلوه من سمات الحدوث عن الرب تعالى،   (1) انظر: شرح الأصفهانية (ص: 264) - ت السعوي-، ودرء التعارض (1/302-303) . (2) في المخطوطة فإن، ولعل الصواب ما أثبته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 985 فإن تنزيهه عن الحدوث (1) ودلائله أمر معلوم بالضرورة، متفق عليه بين جميع الخلق لامتناع أن يكون صانع العالم محدثا، لكن الشأن فيما هو من سمات الحدوث، فإن في كثير من ذلك نزاعا بين الناس ... (2) . لهذا كله لابد من شرح هذا الدليل وتوضيح بعض جزئياته، وبيان كيف أدى بهؤلاء الى هذه النتائج الباطلة التي خالفوا بها نصوص الكتاب والسنة وصار ذمهم يتردد على لسان كل علم من أعلام أهل السنة والجماعة، وهذا سيفيد أيضا في بيان بطلانه، لأن الباطل أحيانا لا يحتاج إلى ردود، بل تصوره يكفي في بيان أنه باطل. وشرحه سيكون- في الفقرة الأولى- ضمن ردود شيخ الإسلام على أصحاب هذا الدليل، وهي كما يلي: 1- أن الأشاعرة وأهل الكلام القائلين بهذا الدليل، مختلفون في كثير من تفاصيله، وإذا كان الدليل مبنيا على مقدمات يترتب بعضها على بعض، ثم جاء من يعارض في بعض المقدمات، فهو في هذه الحال يرد على من سلم بها، وخصمه أيضا يرد عليه ما أتى به من مقدمات بديلة عنها، وهكذا. وبيان ذلك أن هؤلاء بعد أن سلموا بأن إثبات الصانع لا يعلم إلا بحدوث العالم، وحدوث العالم لا يعلم إلا بما به يعلم حدوث الأجسام- اختلفوا في كيفية تقرير دليل حدوث الأجسام: فطائفة: قالت: إن الجسم لا يخلو عن الحوادث، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث. وطائفة: قالت: إن الجسم لا يخلو من كل جنس من أجناس الأعراض وقالوا: إن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده، ثم قالوا والعرض لا يبقى زمانين، فتكون الأعراض كلها حادثة شيئا بعد شيء، والأجسام لا تخلو منها.   (1) في المخطوطة عن سمات الحدوث، وسياق الكلام يقتضى حذف كلمة [سمات] هنا. والله أعلم. (2) نقض التأسيس- مخطوط- (1/122-123) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 986 وهذا المسلك هو المسلك المشهور للأشاعرة وهو ما ارتضاه الآمدي ورد ما سواه. ومنهم: من قال: إن أجزاء العالم مفتقرة إلى ما يخصها بما لها من الصفات الجائزة لها، وكل ما كان كذلك فهو محدث، فالعالم محدث. ومنهم: من قال: كل جسم متناهي القدر، وكل متناهي القدر محدث. ومنهم: من قال: لو كان الجسم أزليا لكان في الأزل مختصا بحيز معين، لأن كل موجود مشار إليه حسا بأنه هنا أو هناك يجب كونه كذلك، والأزلي يمتنع زواله، فامتنعت الحركة عليه، وقد ثبت جوازها. ومنهم: من قال: كل ما سوى الواحد ممكن بذاته، وكل ممكن بذاته فهو مفتقر إلى الموثر، والموثر لا يوثر إلا في الحادث لا في الباقي. ومنهم: من قال: لو كان الجسم قديما لكان قدمه، إما أن يكون عين كونه جسما، وإما مغايرا لكونه جسما، والقسمان باطلان، فبطل القول بكون الجسم قديما. وقول الطائفة الأولى والثانية هو المشهور عند الأشاعرة، أما الأقوال الأخرى فقد حكاها بعض المتأخرين كالرازي والآمدي (1) . والقائلون بقول الطائفة الأولى والثانية، تنازعوا في بعض مقدمات دليلهم: * ففي المقدمة الأولى وهي: أن الجسم لا يخلو عن الحوادث، اختلفوا فيها: ففريق: منهم قال: الجسم لا يخلو من الحركة والسكون، وهما حادثان. وهذه طريقة المعتزلة، وذكرها الرازي (2) .   (1) انظر: درء التعارض (2/344،3/3، 4، 8، 18، 351، 448، 451) ، وأبكار الأفكار ج- 2 ل 95- ب- 104- ب وما بعدها، الأربعين للرازي (ص: 13- 41) . (2) انظر: الأربعين (ص: 13) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 987 وفريق: قال: إن الأجسام لا تخلو من الاجتماع والافتراق، وهما حادثان، وهذه طريقة الأشعري وغيره، وهذا القول مبني على القول بالجوهر الفرد الذي يقوم على أن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة- من جوهرين فأكثر- فالجواهر إما مجتمعة أو متفرقة. ومن لم يقل بالجوهر الفرد لا يلزمه هذا الدليل، والأشاعرة مختلفون في إثبات الجوهر الفرد، فأكثرهم يثبته، وفيهم من ينفيه. والطائفة الثانية: قالت- موافقة على المقدمة الأولى-: إن الجسم لا يخلو من كل جنس من أجناس الأعراض، فخالفوا أقوال الطائفة الأولى لأن كل فريق ألزم الجسم أنواعا محددة من الأعراض، وكذا قولهم- وهي المقدمة الثانية للطائفة الثانية- إن العرض لا يبقى زمانين كثير من العقلاء قالوا: إن هذا باطل ضرورة. * وفي المقدمة الثانية وهي قولهم: ما لم يخل من الحوادث فهو حادث. فقد تنوعت عباراتهم فيها: فتارة: يقولون: ما لم يخل من الحوادث لم يسبقها، وما لم يسبق الحوادث فهو حادث. وتارة: يقولون: ما لم يسبق الحوادث- أو ما لم يخل منها- لا يكون الا معها أو بعدها، وما لا يكون الا مع الحوادث أو بعدها فهو حادث. ثم بعض هؤلاء: لا يقرر هذه المقدمة بناء على ظهورها لأنهم يفهمون من "الحوادث" أن جملتها حادثة بعد أن لم تكن. وفريق منهم: انتبه الى أن الدليل لم يستكمل بعد، لأن ما ذكروه من الدليل لم يدل إلا على أن الأجسام مقارنة لجنس الحوادث، لا تكون إلا ومعها حادث، فإذا قدر أن الحوادث دائمة، توجد شيئا بعد شيء دائما لم يلزم أن يكون ما لم يسبقها حادثا. فلهذا صار كثير منهم يحتاجون الى بيان امتناع حوادث لا أول لها (1) .   (1) انظر: فيما سبق شرح الأصفهانية (ص: 264-267) - ت السعوي- مطبوع على الآلة الكاتبة. ودرء التعارض (1/302-303) ، ونقض التأسيس- مطبوع- (1/141-144) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 988 ومن هذا العرض المفصل لأقوال هؤلاء حول دليلهم الذي رأوا أنه لا يمكن إثبات الصانع إلا به، والتزموا لأجله لوازم باطلة خالفوا بها الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة- من هذا العرض يتبين أنهم لم يتفقوا على مقدمة واحدة من مقدمات دليلهم: - فاختلفوا في الأعراض والحوادث هل تكون شاملة أو مخصوصة بأنواع منها. - واختلفوا في الجوهر الفرد. - واختلفوا هل الصفات أعراض فيجب نفيها، أو ليست بأعراض. - واختلفرا هل العرض يبقى زمانين أم لا؟ 2- كما أن بعض الأشاعرة صرحوا ببطلان مسالك أئمتهم وإخوانهم في تقرير دليل حدوث الأجسام، يقول شيخ الإسلام عن الآمدي والرازي: " والمقصود هنا ذكر ما قاله الآمدي، وذلك أنه لما ذكر مسالك الناس في إثبات حدوث الأجسام أبطل عامتها، واختار الطريقة المبنية على أن الجسم لا يخلو من الأعراض، وأن العرض لا يبقى زمانين، فتكون الأعراض حادثة، ويمتنع حدوث ما لا نهاية له، وما لا يخلو من الحوادث التي لها أول فله أول. وذكر أن هذه الطريقة هي المسلك المشهور للأشعرية وعليه اعتماده. والرازي وأمثاله لم يعتمدوا هذا المسلك، لأنه مبني على أن الأعراض ممتنعة البقاء، وهذه مقدمة خالف فيها جمهور العقلاء، وقالوا: إن قائليها مخالفون للحس ولضرورة العقل، فرأى أن الاعتماد عليها في حدوث الأجسام في غاية الضعف (1) . والآمدي قدح في الطرق التى اعتمد عليها الرازي كلها" (2) .   (1) انظر: درء التعارض (2/389- 390، 3/30، 451-453) ، ومجموع الفتاوى (5/215-216، 6/40-41، 16/275) . (2) انظر: درء التعارض (4/267-275) ، وانظر: شرح الأصفهانية (ص: 88) - ت السعوي.- ومجموع الفتاوى (12/ 140-141) ، والنبوات (ص: 62) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 989 والرازي والآمدي من المتأخرين الذين خبروا المذهب وعرفوه، ولذلك جمعوا في كتبهم أقوال سابقيهم في هذه المسألة (1) وفحصوها، وعرفوا ما فيها من فجوات، وإن كان هذا لم يؤد بهم إلى الرجوع إلى الحق في المسائل التفصيلية، وإنما زادوا المذهب غلوا وتطرفا حين أدخلوا فيه أدلة ومذاهب الفلاسفة والمعتزلة وغيرهم. 3- كما أن أئمة الأشعرية- غير الرازي والآمدي- قد ذموا هذه الطريقة لطولها وغموضها وكثرة مقدماتها، ولأن الأنبياء لم يدعوا اليها، ومن هؤلاء أبو الحسن الأشعري، والغزالي، والخطابي، والبيهقي، والحليمي، والقاضي أبو يعلى، وابن عقيل، وغيرهم. ومما ينبغي ملاحظته أن الذين ذموا دليل الأعراض وحدوث الأجسام نوعان: "منهم من يذمها لأنها بدعة في الإسلام، فإنا نعلم أن النبي-صلى الله عليه وسلم- لم يدع الناس اليها، ولا الصحابة؛ لأنها طويلة، مخطرة، كثيرة الممانعات والمعارضات. فصار السالك فيها كراكب البحر عند هيجانه، وهذه طريقة الأشعري في ذمه لها، والخطالى، والغزالي، وغيرهم ممن لا يصرح ببطلانها. ومنهم: من ذمها لأنها مشتملة على مقدمات باطلة، لا تحصل المقصود بل تناقضه، وهذا قول أئمة الحديث وجهور السلف" (2) .   (1) ذكر الرازي خمسة يراهين عل حدوث العالم، قدح الأرموي في كل واحد منها، انظرها مع قدح الأرموي فها في درء التعارض، البرهان الأول (2/344) وما بعدها، والثاني (3/3-4) ، والثالث (3/4-8) ، والرابع (8/3-18) ، والخامس (3/18/23) ، وقال شيخ الإسلام معقبا (3/23) : "والمقصود هنا أن هذه البراهين الخمسة التي احتج بها على حدوث الأجسام قد بين أصحابه المعظمون له ضعفها، بل هو نفسه أيضا بين ضعفها في كتب أخرى مثل: المطالب العالية، وهي آخر ما صنفه، وجمع فها غاية علومه، والمباحث الشرقية، وجعل منتهى نظره وبحثه تضعيفها". أما الآمدي فقد ذكر سبعة مسالك، زيف ستة منها، واختار المسلك السابع الذي هو المسلك المشهور للأشاعرة، وهو دليل الأعراض وحدوث الأجسام. انظر: درء التعارض (1/302، 3/448-449، 4/267) . (2) الصفدية (1/275) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 990 وشيخ الإسلام كثيرا ما يؤكد على الفرق بين هؤلاء وهؤلاء (1) ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك (2) . كما سبق- في ترجمة الأشعري- نقل كلامه حول دليل الأعراض وقوله: إنه بدعة لم تدع إليه الرسل (3) . أما الخطابي فكلامه الذي نقله شيخ الإسلام في هذا الموضوع طويل، خاصة من كتابيه الغنية وشعار الدين (4) . فهذه نماذج من أقوال متقدمي الأشاعرة ومتأخريهم- ومنهم الرازي- تبين كيف أن هؤلاء الأعلام انتقدوا هذا الدليل الذي جعله كثير منهم الأساس الذي يقوم عليه دين الإسلام. 4- وهذا الدليل يجب أن يكون باطلا لوجوه: أ- أنه دليل طويل، كثير المقدمات التي لا يفهمها كثير من الناس. ب- أنه دليل مبتدع في دين الله لم يدع إليه رسول اللهصلى الله عليه وسلم- ولا أصحابه من بعده، ولا أئمة السلف، وإنما هو قول مبتدع، حدث بعد المائة الأولى وانقراض عهد التابعين. ب- أنه يلزم عليه لوازم فاسدة، من نفي صفات الله، ونفي قدرته على الفعل، والقول بأنه فعل بعد أن كان الفعل ممتنعا عليه، وأنهرجح أحد المقدورين على الآخر بلا مرجح، وكل هذا خلاف المعقول الصحيح، وخلاف الكتاب والسنة.   (1) انظر: شرح حديث النزول- مجموع الفتاوى- (5/543-544) ، ودرء التعارض (1/309) ، ونقض التأسيس- مطبوع- (1/248-249) . (2) انظر: (ص: 859-860) . (3) انظر: (ص: 416-417) . وانظر تعليقات ابن تيمية حول موقف الأشعري من هذا الدليل في: التسعينية (ص: 254-255) ، ونقض التأسيس- مطبوع- (1/117) ، والنبوات (ص: 62) ، ومجموع الفتاوى (3/303-304، 6/520) ودرء التعارض (4/289، 7/ 71، 223-224) . (4) انظر: درء التعارض (7/278-312، 8/351 -355) حبث نقل نصوصا من كتاب الغنية للخطابي، حول ذمه لدليل حدوث الأجسام، وانظر أيضا: نقض التأسيس- مطبوع- (1/176-182) ، حيث نفل نصوصا من كتابه الآخر شعار الدين حول الموضوع نفسه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 991 د- أن هذا أوجب تسلط الفلاسفة على المتكلمين في مسألة حدوث العالم إلى غير ذلك من الوجوه (1) . 5- أما احتجاجهم على صحة دليل حدوث الأجسام بقصة الخليل، وأنه قال: "لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ" [الأنعام: 76] ، وقولهم: إن إبراهيم الخليل "استدل على حدوث الكواكب والشمس، والقمر بالأفول، والأفول هو الحركة، والحركة هي التغير، فلزم من ذلك أن كل متغير محدث، لأنه لا يسبق الحوادث، لامتناع حوادث لا أول لها، وكل ما قامت به الحوادث فهو متغير فيجب أن يكون محدثا، فهذه الطريق التي سلكناها هي طريقة إبراهيم الخليل" (2) . فقد رد عليهم شيخ الإسلام من وجوه: أ- "أن قول الخليل (هذا ربي) - سواء قاله على سبيل التقدير لتقريع قومه، أو على سبيل الاستدلال والترقي، أو غير ذلك- ليس المراد به: هذا رب العالمين القديم الأزلي، الواجب الوجود بنفسه، ولا كان قومه يقولون: إن الكواكب أو القمر أو الشمس رب العالمين الأزلي الواجب الوجود بنفسه، ولا قال هذا أحد من أهل المقالات المعروفة التي ذكرها الناس: لا من مقالات أهل التعطيل والشرك الذين يعبدون الشمس والقمر والكواكب، ولا من مقالات غيرهم، بل قوم إبراهيم - صلى الله عليه وسلم- كانوا يتخذونها أربابا يدعونها ويتقربون اليها بالبناء عليها والدعوة لها والسجود والقرابين، وغير ذلك، وهو دين المشركين" (3) ، فليس هناك أحد من العقلاء يقول: إن شيئا من الكواكب أو الشمس أو غيرها هو خالق هذا العالم (4) .   (1) انظر: فيما سبق شرح حديث النزول- مجموع الفتاوى (5/541-545) ، وشرح الأصفهانية (ص: 134-135) - ت السعوى-. ودرء التعارض (1/97-99، 105، 308 - 810، 7/ 71؛ 245،242، 9/170- 171، 10/135) ، ومنهاج السنة (2/199-212) - المحققة. (2) درء التعارض (1/ 100- 101) ، وانظر في احتجاج الأشاعرة بهذا الدليل: ما سبق (ص: 534، 574-575) ، والاعتقاد للبيهقي (ص: 40) ، والشامل للجويني (ص: 246) ، وأساس التقديس للرازي (ص: 21-22) - ط الحلبي-، وتفسير الرازي (سورة الأنعام آية 76 وما بعدها) (13/46) وما بعدها. (3) انظر: بغية المرتاد (المسمى بالسبعينية) (ص: 260) - ت الدويش-، ومنهاج السنة (2/142) - المحققة. (4) درء التعارض (1/313) ، وانظر: منهاج السنة (144/2) - المحققة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 992 ب- ولو قالوا: إن إبراهيم عليه السلام أراد بقوله (هذا ربي) رب العالمين "لكانت قصة الخليل حجة على نقيض مطلوبهم؛ لأن الكوكب والقمر والشمس مازال متحركا من حين بزوغه إلى عند أفوله وغروبه، وهو جسم متحرك متحيز صغير، فلو كان مراده هذا للزم أن يقال: ان إبراهيم لم يجعل الحركة والانتقال مانعة من كون المتحرك المنتقل رب العالمين، بل ولا كونه صغيرا بقدر الكواكب والشمس والقمر. وهذا- مع كونه لا يظنه عاقل ممن هو دون إبراهيم صلوات الله وسلامه عليهـ فإن جوزوه عليه كان حجة عليهم لا لهم" (1) . "فتبين أن قصة الخليل إلى أن تكون حجة عليهم أقرب من أن تكون حجة لهم. ولا حجة لهم فيها بوجه من الوجوه، (2) . ج-- أن مقصود إبراهيم عليه الصلاة لا إثبات التوحيد لله، لا إثبات الصانع. بخلاف ما ظنه هؤلاء (3) . د- أن إبراهيم- عليه السلام- "قال "لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ" فنفي محبته فقط ولم يتعرض لما ذكروه" (4) . هـ- "أن الأفول هو المغيب والاحتجاب، ليس هو مجرد الحركة والانتقال، ولا يقول أحد- لا من أهل اللغة ولا من أهل التفسير- إن الشمس والقمر في حال مسيرهما لي السماء: إنهما آفلان، ولا يقول للكواكب المرئية في السماء، في حال ظهورها وجريانها: إنها آفلة، ولا يقول عاقل لكل من مشى وسافر وسار وطار: إنه آفل (5) "، "والأفول ليس هو الحركة، سواء كانت حركة مكانية وهي الانتقال، أو حركة في الكم كالنمو، أو في الكيف كالتسود والتبيض، ولا هو التغيير، فلا يسمى في اللغة كل متحرك أو متغير آفلا، ولا أنه أفل، ولا يقال للمصلي أو الماشي إنه آفل، ولا يقال للمتغير الذي هو استحالة كالمرض   (1) انظر: درء التعارض (1/313) ، وانظر: منهاج النة (2 / 144) - المحققة. (2) انظر: درء التعارض (1/ 111) . (3) انظر: شرح الأصفهانية (ص: 137) - ت السعوي-. (4) بنية المرتاد (المسمى بالسبعينية) (ص: 360) . (5) انظر: درء التعارض (1/313-314) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 993 واصفرار الشمس: إنه أفول، لا يقال للشمس إذا اصفرت: إنها أفلت، وإنما يقال: أفلت إذا غابت واحتجبت وهذا من المتواتر المعلوم بالاضطرار من لغة العرب، أن آفلا بمعنى غائب وقد أفلت الشمس تأفل وتأفل أفولا: أي غابت ... ومعلوم أنه لما بزغ القمر والشمس كان في بزوغه متحركا، وهو الذي يسمونه تغيرا، فلو كان قد استدل بالحركة المسماة تغييرا لكان قد قال ذلك من حين رآه بازغا (1) ". وبالرجوع إلى كتب أهل اللغة وغريب القرآن نجد أنهم لا يفسرون الأفول إلا بالمغيب فقط (2) ، وكذلك كتب التفسير، إلا أن الزمخشري شرح الأفول وساق الدليل ليوافق دليل حدوث الأجسام، أما البيضاوي فقد فسر الأفول بالمغيب لكنه ألمح إلى دليل حدوث الأجسام (3) . وقد اعترف العز بن عبد السلام بأن استدلال المتكلمين بهذه الآية مشكل غاية الإشكال، وبين ذلك بما ينقض استدلالهم (4) . و "أن هذا القول الذي قالوه لم يقله أحد من علماء السلف، أهل التفسير، ولا من أهل اللغة، بل هو من التفسيرات المبتدعة في الإسلام كما ذكر ذلك عثمان بن سعيد الدارمي وغيره من علماء السنة، وبينوا أن هذا من التفسير المبتدع (5) ". وقد قال الدارمي في رده على المريسى: "واحتججت أيها المريسى في نفي التحرك عن الله والزوال بحجج الصبيان، فزعمت أن إبراهيم حين رأى كوكبا وشمسا وقمرا قال: "قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ   (1) انظر: درء التعارض (1/09-11) . (2) انظر في مادة أفل: الصحاح للجوهرى، وممجم مقاييس اللغة (1/119) ، ومجمل اللغة، ولسان العرب، وتاج العروس. والمعجم الكبير (مجمع اللغة العربية) . وانظر أيضا: تفسير المشكل عن غريب القرآن لمكي (ص: 77) ، وتحفة الأريب لأبي حبان (ص: 47) - أما كتب غريب الحديث فلم ترد فيها مادة "أفل" فيما اطلعت عليه منها. وفي مجمع البحرين (5/307) للطريحي- شيعي إمامي- فسر أفل بمعنى غاب فقط. (3) انظر: تفسير الطبري (الأنعام آية: 76) . وانظر أيضا: الكشاف وأنوار التنزيل نفس الآية. (4) انظر: فوائد في مشكل القرآن للعز بن عبد السلام (ص: 119) . (5) انظر: درء التعارض (1/314) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 994 الْآفِلِينَ" [الأنعام: 76] ثم قلت: فنفى إبراهيم المحبة عن إله زائل، يعني أن الله إذا نزل من سماء إلى سماء أو نزل يوم القيامة لمحاسبة العباد، فقد أفل وزال كما أفلت الشمس والقمر، فتنصل من ربوبيتهما إبراهيم، فلو قاس هذا القياس تركي طمطماني أو ذي أعجمية ما زاد على ما قست عليه قبحا وسماجة، ويلك، ومن قال من خلق الله: إن الله إذا نزل أو تحرك أو نزل ليوم الحساب أفل في شيء، كما تأفل الشمس في عين حمئة ... " (1) أما أقوال أهل اللغة والتفسير فقد سبقت الإشارة إليها قريبا. وبهذا يتبين بطلان استدلالهم بقصة إبراهيم على ما يدعونه من دليل حدوث الأجسام (2) .كما يتبين أيضا بطلان من فسر الأفول بالإمكان كالرازي وابن سينا (3) ، ومن فسره بالعقول والنفوس كالغزالي (4) . 6- وشيخ الإسلام وهو يبطل دليلهم على حدوث العالم الذي هو دليل حدوث الأجسام، يذكر البديل عن ذلك، ويسوق أمثلة على الدليل الصحيح مبينا أن هؤلاء الدهرية الفلاسفة ليس معهم دليل صحيح على إثبات قدم شيء من العالم أصلا " بل غاية ما يستدلون عليه دوام نوع الفعل، وذلك لا يدل على قدم شيء معين للفرق بين العين والنوع الذي يعترفون بصحته، وإن لم يعترفوا بصحته لزم فساد مذهبهم من أصله (5) ". وهذا ما سيرد في الفقرة التالية:   (1) رد الإمام الدارمي عثمان بن سعيد على المريسي العنيد (ص: 412-413) - ضمن عقائد السلف. (2) انظر أيضا: في مناقشة استدلالهم هذا الرد عل المنطقيين (ص: 304-307) ، ودرء التعارض (8/355-356، 9/82-84) . (3) انظر في: مناقشتهما درء التعارض (1/314-315) ، ومنهاج السنة (1/144- 145) - المحققة، وأيضا (2/141-143) - المحققة. وكلام ابن سينا في الإشارات والتنبيهات (3/531-532) . ت سليمان دنيا وكلام الرازي في تفسيره (13/53-55) . (4) انظر: الرد عليه في بغية المرتاد (ص: 360-374) ، ودرء التعارض (6/316 -318) . (5) شرح الأصفهانية (ص: 141) - ت السعوي-. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 995 ب- مسألة التسلسل والرد الصحيح على الفلاسفة الدهرية (ومسألة حوادث لا أول لها) : وهذه المسألة من المسائل الطويلة التي ذكرها شيخ الاسلام مبينا فيها بطلان مذهب الفلاسفة وضعف أدلة المتكلمين حول إثبات الصانع وحدوث العالم، وهي مباحث عويصة قال عنها شيخ الإسلام: إنها من محارات العقول (1) ، بل قال عن بعض مسائلها وفروعها: إنها من الكلام المذموم (2) ، ولا شك أن شيخ الاسلام خاض فيها مضطرا ليبين خطأ وضلال أولئك الذين خاضوا فيها مخالفين لمنهج الرسل- صلوات الله وصلامه عليهم- وإلا فمسألة إثبات الصانع وحدوث ما سواه من المسائل البدهية التي يعرفها عوام المسلمين. وقد اشتهر عن ابن تيمية أنه يقول بجواز حوادث لا أول لها، وتلقفها مناوئوه وحساده من أعداء السلف فرموه صراحة بأنه يقول بقدم العالم كالفلاسفة، وهؤلاء- إذا أحسنا الظن بهم- غاية ما عندهم أنهم لم يعرفوا إلا مذهبين في هذا الباب، مذهب الفلاسفة القائلين بقدم العالم، ومذهب شيوخهم المتكلمين القائلين بحدوث العالم لأدلة خاصة جاءوا بها، فظنوا أنه إذا بطل مذهب الفلاسفة صح مذهب المتكلمين، ولم يعلموا أن هناك في بعض المسائل المتعلقة بهذا الباب قولا ثالثا قال به أئمة السلف وجمهور المسلمين. وتلخيص المسألة (3) يمكن عرضه كما يلي:   (1) انظر: منهاج السنة (1/299) - ت رشاد سالم-، ط جامعة الامام. (2) المصدر السابق (1/212) ، نفس الطبعة. (3) الكلام حول هذه المسألة ومقدماتها طويل جدا، وتوضيح رأى شيخ الإسلام في ذلك لا يتم إلا من خلال مناقشات عديدة لابد من إيرادها، حتى يفهم حقيقة مذهبه في ذلك. والموضوع له شقان: أ- شق يتعلق بأصل المسألة، وشيخ الإسلام مع جماهير المسلمين القائلين بحدوث العالم. وضد الفلاسفة الذين يقولون بقدم شيء من العالم، وهذه مسألة واضحة لا تحتاج إلى بيان. وإن كان شيخ الإسلام رد على المتكلمين ما أدى اليه استدلالهم هذا من نفي الصفات أو بعضها. ب- وشق يتعلق بالدفاع عن ابن تيمية فيما وجه اليه من تهمة القول بحوادث لا أول لها وهذه ضمن مسائل أخرى تحتاج إلى تأليف مستقل، وقد حاول أحد الباحثين [انظر: ابن تيمية المفترى عليه، تأليف سليم الهلالي، (ص: 68-98) ] الدفاع عن ابن تيمية في هذه المسألة فأصاب في بعض الأوجه، ولم يصب في الأوجه الأخرى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 996 أ- استدل المتكلمون- كما سبق- بدليل حدوث الأجسام، على حدوث العالم، وكان مساق دليلهم يقتضي: أ- نفي حلول الحوادث بذات الله تعالى، ولذلك نفوا عن الله تعالى أن تقوم به صفات الأفعال، ولما قيل لهم إن تولكم إن الله خالق العالم بعد أن لم يكن العالم موجودا هو قول بحلول الحوادث به تعالى، فأجابوا بمذهبهم المشهور: إن الخلق هو المخلوق، ومعنى ذلك أن صفة الخلق لم تقم بهـ عند الخلق- وإنما وجد المخلوق منفصلا عنه. بينما جاهر المسلمين يقولون: إن الخلق غير المخلوق. فيفرقون بين ثلاثة أشياء: الخالق تعالى، وصفة الخلق التي قامت به تعالى كغيرها من الصفات، والمخلوق الموجد المنفصل عنه تعالى (1) . فيقال في الخلق مثل ما يقال في الكلام والاستواء والنزول من صفات الأفعال التي تقوم به تعالى، وهو سبحانه إذا شاء خلق وإذا شاء لم يخلق، وإذا شاء تكلم وإذا شاء لم يتكلم وهكذا فصفة الخلق قامت به، وعلى قول أولئك هو معطل عن هذه الصفة- وسيأتي إن شاء الله تعالى مزيد بيان في مبحث الصفات-. فالأشاعرة قالوا: الخلق هو المخلوق هربا من القول بحلول الحوادث بذاته تعالى. ب- لما قالوا: ما قامت به الحوادث فهو حادث، قالوا أيضا: ما لم يسبق الحوادث فهو حادث أو ما لم يخل من الحوادث فهو حادث، ثم قالوا بامتناع حوادث لا أول لها بناء على أن التسلسل ممتنع، وقد احتجوا على ذلك بدليل لهم سموه: برهان التطبيق (2) وبناء على ذلك قالوا: إن الله تعالى لم يكن قادرا   (1) انظر: كلام البخاري في ذلك في خلق أفعال العباد (ص: 186-188) - ت البدر-. (2) دليل التطبيق، والموازاة والمسامتة، خلاصته: "أن مالا يتناهى إذا فرض فيه حد كزمن الطوفان، وفرض حد آخر كزمن الهجرة، وقدر امتداد هذين إلى مالا نهاية له، فإن تساويا لزم كون الزائد مثل الناقص وإن تفاضلا لزم وقوع التفاضل فيما لا يتناهى" درء التعارض (ص: 304) ، وانظر: الأربعين للرازي (ص: 15) . وقد رد على هذا الدليل بأن مثل هذا التفاضل جائز، مثل المستقبل، لأن من الطوفان إلى مالا نهاية له في المستقبل أعظم من الهجرة إلى مالا نهاية له في المستقبل، وهو جائز، ووجود التفاضل من الجانب المتناهي لا من الجانب الذي لايتناهى لامحذور فيه. ورد عليهم أيضا أن التطبيق إنما يمكن في الموجود لا في المعدوم فإن تضعيف الواحد أقل من عدد تضعيف العشرة، وعدد تضعيف العشرة أقل من عدد تضعيف المئة والجميع لايتناهى. انظر: درء التعارض (1/304-305، 2/365-369، 3/40-47، 9/177-197-202) -منهاج السنة (1/432) - ط جامعة الإمام-. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 997 على الفعل في الأزل ثم صار قادرا (1) ، أو بمعنى آخر قالوا: إن الفعل كان ممتنعا عليه تعالى ثم صار ممكنا، والذى ألجأهم إلى هذا أن يسلم لهم القول بحدوث العالم لأنه لو قيل بجواز أن يكون قادرا على الخلق قبل ذلك لأدى ذلك إلى صحة القول بقدم العالم، لأنه ما من زمن يفترض فيه خلق العالم إلا وجائز أن يقع قبله، لأن الله أزلي. وهذا ممتنع. 2- بناء على قول المتكلمين في منع التسلسل في الماضي، صارت الأقوال في التسلسل في الآثار ثلاثة: أ- منعه في الماضي والمستقبل، وهذا قول جهم والعلاف، وحجة هؤلاء أنه اذا كان ممتنعا في الماضي فيجب أن يكون ممتنعا في المستقبل، فقال الجهم بفناء الجنة والنار، وقال العلاف بفناء حركات أهلهما. ب- منعه في الماضي وتجويزه في المستقبل، وهذا قول أكثر أهل الكلام الذين يقولون بدوام نعيم الجنة. ب- جوازه فيهما، وهو قول أهل السنة والحديث (2) . ويلاحظ أن المقصود التسلسل في الآثار لا في الفاعلين لأن هذا مقطوع بامتناعه وأنه لابد أن ينتهي إلى الخالق تعالى. وقد اعترض على المتكلمين في قولهم بجواز دوام الحوادث في المستقبل دون الماضي، بأنه لا دليل لهم على التفريق بينهما، وقد ذكر الجويني فرقا ضرب   (1) وقول بعضهم إن الله كان قادرا في الأزل على ما لم يزل، متناقض، لأنه يقال لهم: حين كان قادرا هل كان الفعل ممكنا، فلابد أن يقولوا: لا، فيقال لهم: كيف وصف بالقدرة مع امتناع المقدور؟. انظر: درء التعارض (9/185) ، ومجموع الفتاوى (16/238) . (2) انظر: منهاج السنة (1/99، 122، 221-222، 2/307) - المحققة. ط دار العروبة. وأيضا (2/23-25) - مكتبة الرياض الحديثة- والصفدية (1/10-11، 22-27) ، ودرء التعارض (1/363، 4/ 292-293، 9/ 180-185، 238- 241) ، ومسألة الأحرف- مجموع الفتاوى. (12/45) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 998 له مثالا، لكن مثاله لم يكن مطابقا، ولذلك نوقش فيه (1) . 3- لما رأى الفلاسفة أن هذا مذهب المتكلمين اعترضوا على دليلهم في إثبات حدوث العالم باعتراضين: أحدهما: أن في قولكم- لم يكن قادرا ثم صار قادرا- ترجيحا لأحد طرفي الممكن بلا مرجح، والترجيح لابد له من مرجح تام يجب به، ثم قالوا والقول بوجود سبب بقتضي الترجيح يحتاج إلى سبب آخر وهكذا إلى غير نهاية فيلزم التسلسل وهو ممتنع عندكم. الثالي: أن الموثر التام يستلزم أثره، والعلة التامة تستلزم معلولها، ومن ثم قال هؤلاء الفلاسفة بقدم العالم لأن العلة التامة الأزلية يجب أن يقارنها معلولها. 4- أجاب المتكلمون عن اعتراض الفلاسفة الأول بأن المرجح عندهم: الإرادة القديمة أو القدرة، أو العلم القديم، أو إمكان الحدوث، أو غير ذلك. لكن الفلاسفة قالوا: إن هذه الأجوبة غير مفيدة، لأن هذه الأمور إن لم يحدث بسببها حادث لزم الترجيح بلا مرجح، وإن حدث سبب حادث فالكلام في حدوثه كالكلام في حدوث ما حدث به (2) . وبعضهم أجاب بتجويز ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، وانتفاء هذا وبطلانه متفق عليه بين العقلاء، حتى إن الرازي جعل ذلك- أي أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه الا بمرجح- مقدمة ضرورية (2) . وبعض الأشاعرة- كالرازي- عدل إلى الإلزام في هذه المسألة وهو أن هذا يقتضي أن لا يحدث في العالم حادث، والحس يكذبه، وقد أجاب الفلاسفة بأن هذا يلزم إذا كان التسلسل باطلا- وأنتم تقولون بإبطالهـ وأما نحن فلا نقول   (1) انظر: الإرشاد (ص: 26-27) ، ودرء التعارض (2/358-359، 9/186) . (2) انظر: درء التعارض (1/322) . (2) انظر: المصدر السابق (8/291) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 999 بإبطاله، ولذلك فإذا كان الحدوث موقوفا على حوادث متجددة زال هذا المحذور (1) . وبهذا يتبين أن المتكلمين- أشاعرة ومعتزلة- لم يستطيعوا التخلص من هذا المأزق الذي وقعوا فيه، يقول شيخ الإسلام: "وهذا قول أكثر المعتزلة والأشعرية وغيرهم: يقرون بالصانع المحدث من غير تجدد سبب حادث، ولهذا قامت عليهم الشناعات في هذا الموضع وقال لهم الناس: هذا ينقض الأصل الذي أثبتم به الصانع، وهو أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح؛ فإذا كانت الأوقات متماثلة، والفاعل على حال واحدة لم يتجدد فيه شيء أزلا وأبدا، ثم اختص أحد الأوقات بالحدوث فيه، كان ذلك ترجيحا بلا مرجح " (2) ، ثم بين شيخ الإسلام أن قول ملاحدة الدهرية والفلاسفة ينزع إلى هذا الأصل وهو إثبات حدوث حادث بلا سبب حادث (2) . 5- كما أجاب المتكلمون عن اعتراض الفلاسفة الثاني وهو دليل العلة التامة بأن قالوا "المؤثر التام يجوز بل قد يجب أن يتراخى عنه أثره، فقالوا: البارى كان في الأزل مؤثرا تاما وتراخى عنه أثره" (4) ، ولكن رد عليهم بأن هذا باطل لأنه يلزم منه " أن يصير المؤثر مؤثرا تاما بعد أن لم يكن موثرا تاما بدون سبب حادث، أو أن الحوادث تحدث بدون مؤثر تام، وأن الممكن يرجح وجوده على عدمه بدون المرجح التام" (5) ، وهذا كله باطل. 6- أما موقف ورأي ابن تيمية فيما جرى بين الفلاسفة والمتكلمين حول حدوث العالم فيتلخص بما يلي:   (1) انظر: درء التعارض (1/322) . (2) المصدر السابق (8/107) . (3) المصدر نفسهـ نفس الجزء والصفحة- وانظر أيضا: حول الترجيح بلا مرجح: الصفدية (1/144) ، وشرح حديث النزول- مجموع الفتاوى (5/559- 560) ، والمسألة المصرية في القرآن - الفتاوى (12/214) ، ومنهاج السنة (1/145-146) - المحققة- ط مكتبة دار العروبة، ودرء التعارض (3/63، 8/291-295، 9/161- 166) . (4) درء التعارض (8/270) . (5) المصدر السابق (3/63) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1000 أ- أن دليل المتكلمين- معتزلة وأشاعرة- على حدوث العالم أدى بهم إلى نفي صفات الله تعالى، وأن الله ليس له علم ولا قدرة ولا كلام يقوم به، بلا كلامه مخلوق منفصل عنه، وأن الله لا يرى في الآخرة، هذا عند المعتزلة. أما الأشاعرة فقد التزموا نفي الصفات الفعلية عن الله تعالى بناء على أنها حوادث، وما حلت به الحوادث فهو حادث. كما التزم متأخروهم- مع المعتزلة- نفي علو الله تعالى على خلقه واستوائه على عرشه، وهذا كله من أعظم الباطل المخالف لدين الرسل عليهم الصلاة والسلام. ب- أن إجابات المتكلمين عن اعتراضات الفلاسفة كانت ضعيفة ولذلك تسلط هؤلاء عليهم، حيث ظنوا أن هذا الذي يقوله المتكلمون هو دين الرسل، يقول شيخ الإسلام: " وكان ذلك مما سلط الدهرية القائلين بقدم العالم، لما علموا حقيقة قولهم وأدلتهم ونسوا فساده، ثم لما ظنوا أن هذا قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- واعتقدوا أنه باطل قالوا: إن الرسول لم يبين الحقائق، سواء علمها أو لم يعلمها، وإنما خاطب الجمهور بما يخيل لهم ما ينتفعون به. فصار أولئك المتكلمون النفاة مخطين في السمعيات والعقليات، وصار خطؤهم من أكبر أسباب تسلط الفلاسفة، لما ظن أولئك الفلاسفة الدهرية أنه ليس في هذا المطلوب إلا قولان: قول أولئك المتكلمين، وقولهم. وقد رأوا أن قول أولئك باطل. فجعلوا ذلك حجة في تصحيح قولهم، مع أنه ليس للفلاسفة الدهرية على قولهم بقدم الأفلاك حجة عقلية أصلا، وكان من أعظم أسباب هذا أنهم لم يحققوا معرفة ما بعث الله به رسولهصلى الله عليه وسلم- " (1) . وذلك أن جواب المتكلمين حول الترجيح بلا مرجح، والعلة التامة كان جوابا ضعيفا. فمثلا قول جمهور الأشاعرة: إن المرجح هو الإرادة القديمة (2) ، قول ضعيف لأنهم " ذكروا لها ثلاثة لوازم، والثلاثة تناقض الإرادة:   (1) شرح حديث عمران بن حصين- مجموع الفتاوى (18/224-225) . (2) وهو الجواب الذي ذكره الغزالي في رده على الفلاسفة، انظر: التهافت (ص: 96) وما بعدها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1001 الأول: قالوا: إنها تكون ولا مراد لها، بل لم يزل كذلك، ثم حدث مرادها من غير تحول حالها. وهذا معلوم الفساد ببديهة العقل، فإن الفاعل إذا أراد أن يفعل فالمتقدم كان عزما على الفعل وقصدا له في الزمن المستقبل لم يكن إرادة للفعل في الحال، بل إذا فعل فلابد من إرادة الفعل في الحال ... . الثاني: قولهم: إن الإرادة ترجح مثلا على مثل. فهذا مكابرة، بل لا تكون الإرادة إلا لما ترجح وجوده على عدمه عند الفعل، إما لعلمه بأنه أفضل، أو لكون محبته له أقوى ... . الثالث: قولهم: إن الإرادة الجازمة يتخلف عنها مرادها مع القدرة. فهذا أيضا باطل، بل متى حصلت القدرة التامة والإرادة الجازمة وجب وجود المقدور وحيث لا يجب فإنما هو لنقص القدرة أو لعدم الإرادة التامة، والرب تعالى ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ... " (1) . وكذا جوابهم عن شبهة العلة التامة وقولهم: إنه يجب أن يتراخى عنها معلولها، فإنه جواب غير صحيح، كما أن قول الفلاسفة إنه يجب أن يقارنها معلولها بالزمان قول باطل. والصحيح قول ثالث: "وهو أن التأثير التام من المؤثر يستلزم الأثر، فيكون عقبه، لامقارنا له، ولامتراخيا عنه، كما يقال: كسرت الإناء فانكسر، وقطعت الحبل فانقطع، وطلقت المرأة فطلقت، وأعتقت العبد فعتق، قال تعالى:"إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" [يس: 82] ، فإذا كون شيئا كان عقب تكوين الرب له، لا يكون مع تكوينه ولامتراخيا عنه. وقد يقال: يكون مع تكوينه، بمعنى: إنه يتعقبه لا يتراخى عنه. وهو سبحانه ما شاء كان ووجب بمشيئته وقدرته، وما لم يشأ لم يكن لعدم مشيئته له، وعلى هذا فكل ما سوى الله تعالى لا يكون إلا حادثا مسبوقا بالعدم، فإنه يجب أن يكون عقب تكوينه له فهو مسبوق بغيره سبقا زمانيا، وما كان كذلك لا يكون إلا محدثا، والمؤثر التام يستلزم وجود أثره عقب كمال   (1) مجموع الفتاوى (16/458-459) ، وانظر أيضا (16/305) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1002 التأثير التام" (1) . أما قول الفلاسفة فيلزم منه أمور باطلة منها أنه لا يحدث في العالم شيء، وهذا خلاف المحسوس (2) . ب- أن القول الحق في مسألة التسلسل في الآثار قول أئمة السلف وهو جوازه في الماضي والمستقبل، لكن هذا القول وإن قال به الفلاسفة إلا أن مذهب الفلاسفة في حقيقته باطل. ومذهب السلف يتميز عنه بأمور: منها: أن السلف يقولون بأن الله متصف بصفات الكمال، كالعلم والإرادة والقدرة وغيرها، كما أنه تعالى يتكلم إذا شاء متى شاء، وهو الفعال لما يريد. وهو الخلاق العليم، أما الفلاسفة فينكرون هذه الصفات جميعها، وهذا غاية التعطيل والنقص. ولذلك آلت أقوالهم في التسلسل إلى القول بقدم العالم، وإذا أقروا بوجود الله سموه علة فاضت منها نفوس وعقول وأفلاك بلا إرادة منه، إلى غير ذلك من أقوالهم الفاسدة. ومنها: أن الفلاسفة لم يفرقوا بين الآحاد والنوع من المفعولات، فقالوا بقدم الآحاد، وهذا هو التسلسل الباطل الممتنع، أما السلف فيقولون بقدم النوع، لأن الله لم يزل مريدا، خلاقا، فاعلا، متكلما إذا شاء متى شاء. يقول شيخ الإسلام في رده على الفلاسفة:"ومن أسباب ذلك [أي ضلالهم في قولهم بقدم العالم] أنهم لم يعرفوا حقيقة السمع والعقل، فلم يعرفوا ما دل عليه لكتاب والسنة، ولم يميزوا في المعقولات بين المتشابهات، وذلك أن العقل يفرق بين كون المتكلم متكلما بشيء بعد شيء دائما، وكون الفاعل يفعل شيئا بعد شيء دائما، وبين آحاد الفعل والكلام فيقول: كل واحد من الأفعال لابد أن يكون مسبوقا بالفاعل وأن يكون مسبوقا بالعدم، ويمتنع كون الفعل المعين مع الفاعل أزلا وأبدا [كما هو قول الفلاسفة] وأما كون الفاعل لم يزل يفعل فعلا بعد فعل فهذا من كمال الفاعل، فإذا كان الفاعل حيا وقيل: إن الحياة   (1) درء التعارض (8/270 - 271) ، وانظر أيضا (358/1-372، 62/3) . (2) انظر: المصدر السابق (8/271) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1003 مستلزمة الفعل والحركة- كما قال ذلك أئمة أهل الحديث كالبخاري والدارمي وغيرهما- وأنه لم يزل متكلما إذا شاء وبما شاء ونحو ذلك- كما قاله ابن المبارك وأحمد وغيرهما من أئمة أهل الحديث والسنة- كان كونه متكلما أو فاعلا من لوازم حياته، وحياته لازمة له، فلم يزل متكلما فعالا مع العلم بأن الحي يتكلم ويفعل بمشيئته وقدرته، وأن ذلك يوجب وجود كلام بعد كلام وفعل بعد فعل. فالفاعل يتقدم على كل فعل من أفعاله، وذلك يوجب أن كل ما سواه محدث مخلوق. ولا نقول: إنه كان في وقت من الأوقات ولا قدرة حتى خلق له قدرة، والذى ليس له قدرة هو عاجز، ولكن نقول: لم يزل الله عالما قادرا مالكا، لا شبه له ولا كيف. فليس مع الله شيء من فعولاته قديم معه، لا، بل هو خالق كل شيء، وكل ما سواه مخلوق له، وكل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن، وإن قدر أنه لم يزل خالقا فعالا" (1) ، ثم يقول شيخ الإسلام رادا على المتكلمين والفلاسفة: "وإذا قيل: إن الخلق صفة كمال لقوله تعالى:"أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ" [النحل: 17] أمكن أن تكون خالقيته دائمة، وكل مخلوق له محدث مسبوق بالعدم، وليس مع الله شيء قديم. وهذا أبلغ في الكمال من أن يكون معطلا غير قادر على الفعل ثم يصير قادرا، والفعل ممكنا له بلا سبب، وأما جعل المفعول المعين مقارنا له أزلا وأبدا فهذا في الحقيقة تعطيل لخلقه وفعله، فإن كون الفاعل مقارنا لمفعوله أزلا وأبدا مخالف لصريح المعقول" (2) . ومنها: أنه يلزم على قول الفلاسفة أن لا يحدث في العالم شيء، وهذا باطل مخالف للمحسوس، لأن العالم حادث مخلوق مشاهد، وقولهم: إنه أزلي مقارن لفاعله بالزمان يستلزم عدم وجوده وهذا باطل، فقول الفلاسفة لم يزل الفلك مقارنا لله أزلا وأبدا يمنع أن يكون مفعولا له لأن الفاعل لابد أن يتقدم على فعله (3) . د- الرد على الفلاسفة في قولهم بقدم العالم أو بعضه كالأفلاك، أو النفوس   (1) شرح حديث عمران بن حصين- مجموع الفتاوى (18/227-228) ، ودرء التعارض (8/337- 346، 9/147-158، 178-190) . (2) شرح حديث عمران بن حصين- مجموع الفتاوى (18/228) . (3) شرح حديث عمران بن حصين- مجموع الفتاوى (18/229) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1004 والعقول-كما يقوله بعضهم- وشيخ الإسلام لما بين ضعف ردود المتكلمين على الفلاسفة، بين أيضا أن الفلاسفة أنفسهم ليس معهم أى دليل يدل على قولهم، بل أقوالهم ظاهرة البطلان من وجوه عديدة (1) . وشيخ الإسلام لما يقرر في مناسبات عديدة أن ما سوى الله محدث مخلوق كائن بعد أن لم يكن، وأن كل قول يخالف ذلك فهو قول باطل إنما يقرر ذلك ليبين أن مذهب السلف في ذلك مخالف لما قد يتوهمه بعض المتكلمين من أن القول بحدوث العالم لا يتم ولا يصح إلا بأن يقال: إن الله كان معطلا عن الفعل ثم فعل وإلا لزم القول بقدم العالم، يقول شيخ الإسلام "والمقصود هنا أن هؤلاء المتكلمين الذين جمعوا في كلامهم بين حق وباطل، وقابلوا الباطل بباطل، وردوا البدعة ببدعة، لما ناظروا الفلاسفة وناظروهم في مسألة حدوث العالم ونحوها استطال عليهم الفلاسفة لما رأوهم قد سلكوا تلك الطريق التي هي فاسدة عند أئمة الشرع والعقل، وقد اعترف حذاق النظار بفسادها، فظن هؤلاء الفلاسفة الملاحدة أنهم إذا أبطلوا قول هؤلاء بامتناع حوادث لا أول لها، وأقاموا الدليل على دوام الفعل، لزم من ذلك قدم هذا العالم ومخالفة نصوص الأنبياء وهذا جهل عظيم، فإنه ليس للفلاسفة ولا لغيرهم دليل واحد عقلي صحيح يخالف شيئا من نصوص الأنبياء، وهذه مسألة حدوث العالم وقدمه، لا يقدر أحد من بني آدم أن يقيم دليلا على قدم الأفلاك أصلا، وجميع ما ذكروه ليس فيه ما يدل على قدم شيء بعينه من العالم أصلا، وإنما غايتهم أن يدلوا على قدم نوع الفعل، وأن الفاعل لم يزل فاعلا، وأن الحوادث لا أول لها، ونحو ذلك مما لا يدل على قدم شيء بعينه من العالم، وهذا لا يخالف شيئا من نصوص الأنبياء، بل يوافقها، وأما النصوص المتواترة عن الأنبياء بأن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وأن الله خالق كل شيء، فكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن، فلا يمكن أحدا أن يذكر دليلا عقليا يناقض هذا ... " (2) .   (1) انظر: على سبيل المثال درء التعارض (1/351، 358، 398) وما بعدها (3/299، 8/139، 9/211- 221) ، ومنهاج السنة (1/176-177، 180- 181، 187-298) - ط جامعة الإمام-. (2) درء التعارض (8/279-280) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1005 وقد ذكر شيخ الإسلام وجوها أخرى تبين فساد مذهب الفلاسفة، وتوضح الفرق بين مذهبهم ومذهب أهل السنة في ذلك (1) . فمذهب ومنهج شيخ الإسلام في هذا واضح جدا، والذين يتهمونه بالميل إلى مذهب الفلاسفة حينما قال بجواز حوادث لا أول لها: - إما أنهم جاهلون بحقيقة مذهبه في هذه المسألة. - وإما أنهم ممن سار على طريقة المتكلمين، فظن أنه لا يصح القول بحدوث العالم إلا على هذه الطريقة التى سلكها هؤلاء ومن خالفها فهو قائل بقدم العالم. - وإما أنهم حاقدون على شيخ الاسلام- لأمور كثيرة- فرأوا أن هذه المسألة تصلح للتشنيع عليه ورميه بما هو برىء منه. وليس مع أي من هؤلاء حجة على صحة قوله، ولا على بطلان ما قاله شيخ الإسلام، والدليل على ذلك أن أحدا منهم لم يناقش ما في كتب شيخ الإسلام مناقشة علمية، بل غاية ما يذكرونه كليمات يقذفونها في ثنايا كتبهم أو حواشيها يتهمون فيها شيخ الاسلام بالقول بقدم العالم (2) ، كما يتهمونه بغيره من التجسيم والتشبيه والحشو. هـ- أما أدلة السمع فيرى شيخ الإسلام أنها موافقة لما ذهب إليه السلف، مبطلة لمذهب الفلاسفة والمتكلمين، يقول شيخ الإسلام عن الفلاسفة: " وهؤلاء   (1) انظر: بعض هذه الأوجه في درء التعارض (8/161-163، 271-276) . (2) من هؤلاء أبو بكر الحصني المتوفي سنة 829 هـ في كتابه دفع شبه من شبه وتمرد، الذي خصصه للطعن في شيخ الإسلام ابن تيمية. وقد اتهم شيخ الإسلام بأنه يقول بقدم العالم انظره: (ص: 60) . ومن هؤلاء الكوثري- الحاقد- كشيخه الحصني على أهل السنة، والذى ملأ الكتب التي صححها بحواش كلها سباب وشتائم لأعلام أهل السنة ولشيخ الإسلام ابن تيمية بالذات، انظر مثلا: تعليقه على الأسماء والصفات للبيهقي (ص: 375) ، وتعليقه على السيف الصقيل- للسبكي- الذي رد فيه على نونية ابن القيم (ص: 72-74) وغيرها، ومن هؤلاء أيضا من سمى نفسه ب- " أبي حامد بن مرزوق" في كتابه براءة الأشعريين- الذي ملأه سبابا وشتائم في ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب (2/31، 88) . ومن هؤلاء من ألف كتابا سماه: ابن تيمية ليس سلفيا. انظره (ص: 124) ومابعدها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1006 أبعدوا (1) أن يمكنهم إقامة الدليل على قدم شيء من العالم، فإن الفاعل الذي يفعل بإرادات قائمة به بذاته شيئا بعد شيء، لا يقوم لهم دليل على أن شيئا من مفعولاته لم يزل مقارنا له، إذ يمكن أنه فعل مفعولا بعد مفعول، وأن هذا العالم خلقه من مادة كانت قبله، كما أخبرت بذلك الرسل، فأخبر الله تعالى في القرآن أنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش وأخبر أنه سبحانه: " اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ، فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ" [فصلت: 11-12] وقال في الآية الأخرى: "ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" [البقرة: 29] ، فأخبر أنه سواهن سبع عوات في يومين، وأن السماء كانت دخانا، وهو بخار الماء كما جاء تفسيره في عدة آثار: أنه خلق السموات من بخار الماء (2) ، والبخار دخان الماء، كما أن دخان الأرض دخان، وإن أريد بالدخان دخان التراب قط، أو دخان التراب والماء، فكل ذلك فيه إخبار الله أنه خلق السموات السبع من مادة أخرى، كما أخبر أنه خلق الإنسان من مادة وأنه خلق الجان من مادة ... " - ثم قال بعد ذكر بعض النصوص: " ففي هذه الآثار المنقولة عن الأنبياء أنه كان موجودا قبل خلق هذا العالم أرض وماء وهواء، وتلك الأجسام خلقها الله من أجسام أخرى، فإن العرش أيضا مخلوق، كما أخبرت بذلك النصوص، واتفق على ذلك المسلمون" (3) .   (1) كذا ولعل الصواب [أبعد من] . (2) انظر تفسير آية: 29 من سورة البقرة في الطبري (1/433-436) - ت شاكر-، وابن كثير، والدر المنثور للسيوطي. وانظر الرد على الجهمية للدارمي (ص: 31-32) - ت بدر البدر-، والأسماء والصفات للبيهقي (ص: 379) ، وتاريخ الطبري (1/32- 1 4) ، والتوحيد لابن خزيمة (2/886-888) - ت الشهوان-، والعرش لابن أبي شيبة (ص: 49-55) . (2) درء التعارض (8/287- 290) ، وانظر أيضا: درء التعارض (1/347-348) ، ومنهاج السنة (1/360-364) - ط جامعة الإمام-. وشرح حديث عمران بن حصين- مجموع الفتاوى (18/234-236) ، وبغية المرتاد (ص: 287-288) - ت الدويش-. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1007 فالنصوص دلت على حدوث العالم، كما دلت على أن هذه السموات والأرض قد خلق قبلها مخلوقات، وأن هذه الخلوقات قد خلقت من مادة. وكلام السلف ورواياتهم في ذلك واضحة جدا (1) ، ومذهب المتكلمين القائلين بأن الله لم يكن فاعلا في الأزل ثم فعل وخلق، يلزم منه أن البارى تعالى كان معطلاً منذ الأزل إلى بدء الخلق، أي أنه تعالى قبل خلق الخلق، إلى ما لا نهاية له كان معطلا غير فاعل، وهم يقولون يجب أن يكون كذلك. والمتدبر للمسألة يجد هذا القول خطيرا جدا لأنه يلزم منه وصف الله في هذه المدد التي لا نهاية لها بالتعطيل عن صفة الخلق التي أجمع عليها الناس والتي هي من أوضح الدلائل على ربوبيته ووحدانيته. وإذا كان الله متصفا بصفة الحياة والعلم والقدرة والإرادة أزلا فكيف يقول قائل: إن الله يجب أن يكون معطلا وغير فاعل؟. ولكن بقي في الأدلة السمعية حديثان، كثيرا ما يحتج بهما المتكلمون وغيرهم على مذهبم في خلق العالم: أحدهما: حديث "أول- أو إن أول- ما خلق الله القلم، فقال له اكتب، قال: رب وماذا اكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة " (2) .   (1) انظر الفقرة- قبل السابقة، وما سبق إيراده قبل قليل. (2) هو حديث مشهور مروي عن عبادة بن الصامت وابن عباس وأبي هريرة وغيرهم، رواه أبو داود: كتاب السنة، باب في القدر، ورقمه (4700) ، والترمذي في كتاب القدر باب رقم (17) ورقمه (2155) ، وكتاب التفسير- باب ومن سورة ن- ورقمه (3319) ، وأحمد في مسنده (5/317) ، وابنه عبد الله في السنة، ورقمه (871- 872) - ت القحطاني-، وأبو داود الطيالسي في مسنده، رقم (577) ، والبخاري في التاريخ الكبير (6/92) ، وابن وهب في كتاب القدر، رقم (27،26) (ص: 121-122) ، وابن الجعد في مسنده رقم (3569) ، وأبو يعلى الموصلي في مسنده رقم (2329) ، (4/217) - ت أسد-، وفي المعجم- معجم شيوخهـ رقم (69) ، والطبراني في الكبير رقم (12500) ، (12/68-69) ، وفي الأوائل رقم (1) ، وابن أبي شيبة في المصنف رقم (17771) ، (14/114) ، والدولابي في الكنى (1/103) ، والحاكم في المستدرك (2/498) ، والآجري في الشريعة (ص: 177-179) ، والدارمي في الرد على الجهمية (ص: 121) - ت البدر-، وفي رده على المريسي (ص: 553-554) ضمن عقائد السلف، = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1008 والثاني: حديث عمران بن حصين- في قصة وفد بنى تميم والأشعريين - وفيه أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض " (1) ، وفي لفظ ولم يكن شيء غيره، وفي لفظ: معه (2) .   = وابن جرير في تاريخه (1/32-34) ، وفي تفسيرهـ سورة ن- آية رقم: 1، وابن أبي عاصم في السنة رقم (102-108) ، وفي الأوائل رقم (1-3) ، والدارقطني في الصفات رقم (14) ، (ص: 35-36) - ت الفقيهي-، و (18-19) - ت الغنيمان-، والبيهقي في السنن الكبرى (9/3) ، وفي الأسماء والصفات (ص: 378) ، وأبو نعيم في الحلية (8/181) ، والحديث بمجموع طرقه صحيح. وقد صححه الألباني في صحيح الترمذي رقم (1749) ، وسلسلة الصحيحة رقم (133) ، وتخريج الطحاوية (ص: 294-295) - ط الرابعة-. وفي ظلال الجنة رقم (102-108) . (1) رواه البخارى، كتاب بدء الخلق- باب ما جاء في قول الله تعالى: (وهو الذي ييدأ الخلق ثم يعيده) [الروم: 27] ، ورقمه (3191) ، (الفتح 6/286) ، وفي كتاب التوحيد، باب (وكان عرشه على الماء) [هود: 7] ورقمه (7418) ، (الفتح: 13/403) ، كما رواه في مواضع أخرى مختصرا، ورواه الإمام أحمد (4/431) - مطولا- (4/426، 433، 436) - مختصرا- والترمذي مختصرا في كتاب المناقب، باب مناقب في ثقيف وأبي حنيفة، ورقمه (3951) - ت عطوة-. كما رواه أبو الشيخ في العظمة رقم (207) ، والنسائي في الكبرى، كما في تحفة الأشراف، رقم (1029) . وغيرها من كتب السنة. (2) ذكر شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (18/216) ، وفي الصفدية (1/15) أن الألفاظ الثلاثة في البخاري، أي لفظة: غيره، وقبله،- ومعهـ وقال في مجموع الفتاوى (2/275) : ولفظ الحديث المعروف عند علماء الحديث الذي أخرجه أصحاب الصحيح " كان الله ولا شيء معه". أما رواية "غيره" فهي في بدء الخلق، وأما رواية " قبله" فهى في التوحيد. وأما رواية " معه" فقد ذكر الألباني في تخريج الطحاوية (ص: 139) - ط الرابعة- أنه لم يجدها في البخاري. وقد بحثت في طبعات البخاري- بولاق، واسطنبول، والمنيرية- وفي شروحه: لابن حجر، والعيني، والقسطلاني، فلم أجدها، كما رجعت إلى تحفة الأشراف، ونكت ابن حجر عليه رقم (10829) ، والى مسند الصحيحين لعبد الحق الهاشمي (4/262-264) - مخطوطة- حيث ذكر الروايات بأسانيدها ومتونها، فلم أجد هذه اللفظة منسوبة إلى البخاري. فلعلها في إحدى نسخه أو المستخرجات عليه. والله أعلم. وبعد كتابة هذا الكلام وجدت شيخ الإسلام ذكر في الرسالة العرشية- مجموع الفتاوى (6/551) - روايتي البخاري- قبله، وغيره، ثم قال: وفي رواية لغيره صحيحة: "كان الله ولم يكن شيء معه وكان عرشه على الماء ثم كتب في الذكر كل شيء، فترجح أنها ليست في البخاري، لكن كونها صحيحة لا يغير من واقع الأمر شيئا. ولذلك ناقشها شيخ الإسلام كغيرها من الروايات لثبوثها عنده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1009 فاحتجوا بذلك على أن للحوادث مبتدأ، وأن الله تعالى كان معطلا عن الخلق، ثم خلق، وأن القلم هو أول المخلوقات. وقد بين شيخ الإسلام وجه الحق في ذلك ببيان مايلي: 1- أن العلماء مختلفون في العرش والقلم أيهما خلق قبل: فقيل: إن القلم خلق أولا، وأنه أول الخلوقات لحديث " أول ما خلق الله القلم ". وقيل: إن العرش خلق قبل، وأن المقصود بقوله: " أول ما خلق الله القلم " أى من هذا العالم، واحتج هؤلاء بعدة أدلة: أ- منها: حديث " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة. قال: وعرشه على الماء" (1) ، ففي هذا الحديث بين أن كتابة المقادير كانت قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وأن عرشه كان على الماء. فهو سابق للتقدير والكتابة. ب- ومنها: ما روى موقوفا عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه قال: إن الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا، فكان أول ما خلق الله القلم، فأمره، وكتب ما هو كائن، وإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه (2) . فقول ابن عباس يفسر المقصود بأولية القلم وأنها ليست أولية مطلقة وإنما خلق قبله العرش.   (1) رواه مسلم، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى. ورقمه (2653) ، والإمام أحمد (2/169) ، ورقمه عند أحمد شاكر (6579) . والترمذي في كتاب القدر، باب رقم (18) ، ورقمه (2156) - ت عطوة-. والبيهقي في الأسماء والصفات (ص: 374) ، وفي الاعتقاد (ص: 136) ، والبغوي في شرح السنة (1/123) ، والدارمي في الرد على الجهمية (ص: 122، 126) ، والآجري في الشريعة (ص: 176) ، والحديث يكفى تخريجه عن مسلم، وإنما ذكرت تخريجه من بعض كتب العقائد ليرجع من شاء إلى أقوال علماء السلف في معناه. (2) رواه الدارمي في الرد على الجهمية (ص: 31) - ت البدر-، واللالكائي في شرح السنة (4/669-670) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1010 ج-- أن في بعض روايات حديث عمران بن حصين: كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء (1) . فعطف الخلق والكتابة على العرش بثم، وفي لفظ آخر: " كان الله عز وجل ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، ثم كتب جل ثناؤه في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض " (2) ، قال البيهقي عن حديث أول ما خلق الله القلم: " وإنما أراد- واللة أعلم- أول شيء خلقه بعد خلق الماء والريح والعرش والقلم، وذلك بين في حديث عمران بن الحصين - رضى الله عنهـ ثم خلق السموات والأرض " (3) . د- أنه قال في حديث القلم: "قال وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة"، "وهذا يبين أنه أمره حينئذ أن يكتب مقادير هذا الخلق إلى قيام الساعة، ولم يكتب حينئذ ما يكون بعد ذلك، وهذا يؤيد حجة من جعله أول الخلوقات من هذا الخلق الذي أمره بكتابته، فإنه سبحانه كتبه وقدره قبل أن يخلقه بخمسين ألف سنة " (4) . هـ- ولما ورد في بعض ألفاظه: " لما خلق الله القلم قال له اكتب " (5) . فهذه الأدلة وغيرها تبين أن حديث القلم ليس فيه دلالة لهؤلاء وأن القلم ليس أول المخلوقات، بل هناك مخلوقات قبله كالعرش والماء (6) . ولهذه الأدلة تكلم العلماء في معنى حديث " أول ما خلق الله القلم: فقال له اكتب ... هل هو جملة أو جملتين، وهل " أول" بالرفع أو النصب (7) .   (1) هذه رواية البخاري في صحيحهـ كتاب التوحيد- وقد سبق تخريجه قريبا. (2) البيهقي في الأسماء والصفات (ص: 375) . (3) الأسماء والصفات (ص: 378) ، وانظر: بغية المرتاد (ص: 288) . (4) بغية المرتاد (ص: 294) . (5) رواه الطبراني في الكبير- رقم (12500) . (6) انطر حول ما سبق: بغية المرتاد (ص: 275-294) ، ومنهاج السنة (1/361) - طبعة جامعة الإمام، وبهذا يتبين أن من أخذ بحديث القلم دون غيره من الأحاديث، وقال إن القلم أول المخلوقات كلها قد جانبه الصواب. والله أعلم. (7) انظر نونية ابن القيم مع شرحها لابن عيسى (1/374-377) ، وللهراس (1/186 -187) . - ط مكتبة ابن تيمية، القاهرة، وانظر شرح الطحاوية (ص: 294- 296) - ط المكتب الإسلامى-، الرابعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1011 2- أما حديث " كان الله ولم يكن شيء قبله، أو غيره، أو معه، فقد أفرد له شيخ الإسلام بمصنف، ذكر فيه اختلاف الناس فيه، وأنهم على قولين: أحدما: " أن مقصود الحديث إخباره بأن الله كان موجودا وحده، ثم إنه ابتدأ إحداث جميع الحوادث، وإخباره بأن الحوادث لها ابتداء بجنسها. وأعيانها مسبوقة بالعدم، وأن جنس الزمان حادث لا في زمان، جنس الحركات والمتحركات حادث، وأن الله صار فاعلا بعد أن لم يكن يفعل شيئا من الأزل إلى حين ابتداء الفعل، ولا كان الفعل ممكنا ... ". "والقول الثاني في معنى الحديث: أنه ليس مراد الرسول هذا، بل إن الحديث يناقض هذا، ولكن مراده إخباره عن خلق هذا العالم المشهود الذي خلقه الله في ستة أيام ثم استوى على العرش كما أخبر القرآن العظيم بذلك في غير موضع، فقال تعالى: " وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود: 7] ، وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبد الله بن عمرو عن النبى-صلى الله عليه وسلم- أنه قال: قدر الله مقادير الخلائق، قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء " (1) ، فأخبر- صلى الله عليه وسلم- أن تقدير خلق هذا العالم المخلوق في ستة أيام، وكان حينئذ عرشه على الماء،؟ أخبر بذلك القرآن والحديث المتقدم الذي رواه البخاري في صحيحه عن عمران- رضي الله عنهـ (2) ، ومن هذا الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن عبادة بن الصامت عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: وما أكتب؟، قال: ما هو كائن إلى يوم القيامة " (3) ، فهذا القلم خلقه لما أمره بالتقدير المكتوب قبل خلق السموات والأرض، وهو أول ما خلق من هذا العالم، وخلقه بعد العرش   (1) سبق تخريجه قريبا، والذى في طبعات مسلم "وعرشه على الماء". (2) تقدم تخريحهما قريبا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1012 كما دلت عليه النصوص وهو قول جمهور السلف" (1) . ثم رجح شيخ الاسلام القول الثاني، وذكر أدلة ترجيحه من وجوه عديدة بلغت خمسة عشر وجها (2) . بين فيها- من خلال الأدلة الشرعية والعقلية- موافقة هذا الحديث لمذهب السلف. وقد ذكر بعض هذه الأوجه ملخصة شارح الطحاوية (3) . هذه بعض اللمحات في بيان شيخ الاسلام لهذه المسألة- مسألة حوادث لا أول لها- ومن أراد استيعاب أقواله ومذهبه في ذلك، فلابد له من الرجوع إلى ما أورده في كتبه ورسائله المتعددة من تحقيقات ومناقشات (4) . ج-- الأدلة الأخرى على إثبات الصانع التي ذكرها الأشاعرة: سبق الحديث عن الدليل المشهور للأشاعرة على إثبات حدوث العالم وهو دليل حدوث الأجسام، الذي قصدوا من تقريره إثبات الصانع والرد على الفلاسفة القائلين بقدم العالم أو قدم شيء منه، وقد تبين من خلال مناقشات شيخ الإسلام لهذا الدليل أن كثيرا من الأشاعرة نقدوا هذا الدليل وضعفوه، ورأوا أن إثبات الصانع لا يتوقف على هذا الدليل الذي زعم بعضهم أنه لا دليل غيره. ولذلك لما ذكر المتأخرون- كالرازي- أدلة إثبات الصانع، ذكروا للناس   (1) شرح حديث عمران بن الحصين- مجموع الفتاوى (18/211-213) . (2) انظرها في المصدر السابق (18/213-243) ، وشرح حديث عمران مطبوع مجموعة الرسائل والمسائل، تعليق محمد رشيد رضا (5/171-195) . وانظر أيضا الصفدية (1/14) ومابعدها، ومنهاج السنة (1/ 360) ومابعدها،- ط جامعة الإمام-. وحقيقة مذهب الاتحاديين- مجموع الفتاوى (6/275) ، ودرء التعارض (8/287-290) . (2) (ص:140-141) . (4) انظر مثلا: شرح الأصفهانية (ص: 348) - ت السعوي، وشرح حديث النزول- مجموع الفتاوى (5/540 - 541) ، ومجموع الفتاوى (12/593) ، والدرء (ج- 1 ص: 120- 303،125-304، 320-324،347-348، 406) ، (وج- 2 ص: 260 -270، 276-281، 344- 399) (وج- 3 ص: 40-56) (وج- 4 ص: 66- 70) ، (وب 9 ص:،72، 103، 138، 158) ، والصفدية (1/ 50-54، 61 -65، 277،81) وغيرها كثير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1013 في ذلك عدة مسالك (1) ، وهي: المسلك الأول: دليل حدوث الأجسام لقيام الأعراض بها. وهذه هي الطريقة المشهورة للأشاعرة، وقد تقدم الحديث عنها، وهي الطريقة التي ذمها السلف وصرح الأشعري بأنها مذمومة محرمة في الشرع، وإن كان مع ذلك يرى أنها صحيحة، وإنما ذمها لطولها وغموضها (2) . المسلك الثاني: الاستدلال بإمكان الأجسام، وهذا عمدة الفلاسفة كابن سينا وأمثاله، وهو الذي اعتمده الرازي وغيره كالآمدي، قالوا: الأجسام ممكنة، وكل ممكن فلابد من مؤثر- أي واجب- وبنوا ذلك على أن الموجود ينقسم إلى واجب وممكن وأن الممكن لابد له من واجب. وقد بين شيخ الإسلام أن هذه الطريقة باطلة وضعيفة من عدة وجوه: أ- أن الممكن عندهم- والذي هو قسيم الواجب- يتناول القديم والحادث، أي أن الممكن قد يكون أزليا، فاحتجوا على وجود الممكن الذي تقبل ذاته الوجود والعدم بالحوادث التي تكون موجودة تارة ومعدومة أخرى، فلم يمكنهم ذلك لأن هذه الممكنات قد تكون- عندهم- أزلية قديمة، فكيف يمكن إثبات الواجب والقول بأن الممكن لابد له من واجب؟ يقول شيخ الإسلام: "فهؤلاء إذا قيل لهم: اثبتوا واجب الوجود- الذي هو قسيم الممكن عندهم، والممكن عندهم يتناول القديم والحادث- لم يمكنهم إثبات هذا الواجب الا بإثبات ممكن يقبل الوجود والعدم. وهذا لا يمكنهم إثباته الا بإثبات الحادث، الذي يكون موجودا تارة ومعدوما أخرى، والحادث يستلزم ثبوت القديم، والقديم عندهم لا يجب أن يكون واجب الوجود، بل قد يكون ممكن الوجود. فهم لم يثبتوا:   (1) انظر: هذه المسالك في نهاية العقول للرازي (58 -أ-63-أ) ، والأربعين له (ص: 70) ومابعدها، وانظر أيضا: النبوات (ص: 76-77) ، وتفسير سورة الإخلاص- مجموع الفتاوى (17 / 246) ، وشرح الأصفهانية (ص: 260- 261) - ت السعوي، ودرء التعارض (1/ 307،96-308، 3 / 72-87/292-294، 7/229-232) . (2) انظر: درء التعارض (1/309) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1014 لا واجب الوجود، ولا ممكن الوجود، الذي به يثبت واجب الوجود الذي ادعوه " (1) . ولذلك فطريقتهم هذه لو أدت إلى إثبات واجب الوجود لم تثبت أنه مغاير للأفلاك إلا ببيان إمكان الأجسام (2) . ب- أن هذه الطريقة مبنية على توحيد ابن سينا ومن اتبعه من الفلاسفة الذين نفوا صفات الله تعالى لشبهة التركيب، قالوا: إن المتصف بالصفات مركب، والمركب مفتقر إلى أجزائه، وهذا هو الممكن. وهذا من أبطل الباطل ومن أفسد الأقوال، ولذلك دخل الملاحدة من أصحاب وحدة الوجود من هذا الطريق (2) . ج-- أن هذا المسلك كما أنه باطل عند أهل الملل، فهو باطل أيضا عند جمهور الفلاسفة المتقدمين كأرسطو وأتباعه، والمتأخرين كابن رشد وغيره (4) . المسلك الثالث: الاستدلال بإمكان الصفات، وهو مبني على أن الأجسام متماثلة، ومن ثم فتخصيص بعضها بالصفات دون بعض يفتقر إلى مخصص. ولم يفرقوا بين الأجسام، بل شملوها كلها بهذا الحكم، سواء كانت واجبة أو ممكنة، قديمة أو محدثة (5) ، وقد بنوا على ذلك أن الفاعل لا يجوز أن يكون جسما، ونفوا لأجل ذلك صفات العلو والاستواء وغيرها. وعمدة هذا الدليل القول بتماثل الأجسام، وهي من عمد نفاة الصفات من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم، وقد ناقشها شيخ الإسلام طويلا، وبين فسادها   (1) انظر: درء التعارض (8/125) ، وانظر: مناقشات أخرى لصياغة هذا الدليل عندهم في شرح الأصفهانية (ص: 141-145) - ت السعوي-. (2) انظر: المصدر السابق (8/123،3/75) . (2) انظر: درء التعارض (3/75، 138، 5/293، 7/230) ، ومجموع الفتاوى (1/49) . (4) انظر: درء التعارض (5/293، 8/127) ومابعدها، حيث نقل كلام ابن سينا، وابن رشد الذي وافق أرسطو الذي استدل بدليل الحركة دون دليل الإمكان، وقد بين شيخ الإسلام بطلان المذهبين. وانظر: (8/139) . (5) انظر: درء التعارض (3/75، 5/293) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1015 بالعقل والشرع (1) . وقد ناقمق شيخ الإسلام هذا المسلك- مسلك إمكان الصفات- ورد على الرازي الذي اعترف بأن القول بتماثل الأجسام قول باطل (2) . المسلك الرابع: الاستدلال بحدوث الصفات والأعراض، مثل صيرورة النطفة علقة، ثم مضغة، ثم إنسانا، ومثل تحول القطن إلى غزل مفتول، ثم إلى ثوب، ومثل تحول الطين إلى آجر ولبن، ثم تحوله إلى دار، فهذا التحول والتغير في هذه الأجسام يدل على أن لها فاعلا فعلها، وأن النطفة لابد لها من صانع صنعها وهو الله تعالى. وهذا الدليل ذكره الأشعري في اللمع (2) ، وفي رسائله إلى أهل الثغر (4) ، وعده الرازي من ضمن مسالك إثبات الصانع، وقد بين شيخ الاسلام أن هذا مسلك صحيح، وأنهـ إذا جرد من الأمور الباطلة التي أدخلت فيهـ جزء من طريقة القرآن "التي جاءت بها الرسل، وكان عليها سلف الأمة وأئمتها، وجماهير العقلاء من الآدميين؟ فإن الله سبحانه يذكر في آياته ما يحدثه من السحاب والمطر والنبات والحيوان، وغير ذلك من الحوادث، ويذكر في آياته خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، ونحو ذلك، لكن القائلون بإثبات الجوهر الفرد من المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم، يسمون هذا استدلالا بحدوث الصفات بناء على أن هذه الحوادث المشهود حدوثها لم تحدث ذواتها، بل الجواهر والأجسام التي كانت موجودة قبل ذلك لم تزل من حين حدوثها، بتقدير حدوثها، ولا تزال موجودة، وإنما تغيرت صفاتها،   (1) انظر: درء التعارض (5/192-203) ، حيث بين بوضوح وتفصيل فساد القول بتماثل الأجسام، وانظر أيضا: درء التعارض (1/115، 4/200-202، 7/112-114، 10/312-316، 262) ، وغيرها. (2) انظر: درء التعارض (3/75-82) . (2) (ص: 6-7) . مكارثي و (ص: 17-19) ، غرابة، وفد سبق نقل كلامه (ص: 414- 415) . (4) (ص: 34-40) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1016 بتقدير حدوثها كما تتغير صفات الجسم إذا تحرك بعد السكون، وكما تتغير ألوانه، وكما تتغير أشكاله، وهذا مما ينكره عليهم جماهير العقلاء من المسلمين وغيرهم" (1) . ولكن شيخ الإسلام ينتقد طريقة الأشعري والرازي في إيراد هذا الدليل - دليل حدوث الصفات- لأمرين: أحدهما: أن الطريقة التى جاء بها القرآن: الاستدلال بحدوث الأعيان والمخلوقات ذاتها من الإنسان وغيره، يقول شيخ الإسلام: "الطريقة المذكورة في القرآن هي الاستدلال بحدوث الإنسان وغيره من المحدثات المعلوم حدوثها بالمشاهدة ونحوها، على وجود الخالق سبحانه وتعالى، فحدوث الإنسان يستدل به على المحدث، لا يحتاج أن يستدل على حدوثه بمقارنة التغير أو الحوادث له، ووجوب تناهي الحوادث. والفرق بين الاستدلال بحدوثه، والاستدلال على حدوثه بين. والذي في القرآن هو الأول لا الثاني، كا قال تعالى: "أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ " [الطور: 35] ، فنفس حدوث الحيوان والنبات والمعدن والمطر والسحاب، ونحو ذلك، معلوم بالضرورة، بل مشهود لا يحتاج إلى دليل، وإنما يعلم بالدليل ما لم يعلم بالحس وبالضرورة (2) ". فالأشعري والرازي وغيرهم قصروا في هذا الدليل من جهة أنهم لم يستدلوا بنفس الحدوث وإيجاد الإنسان وغيره من عدم على وجود المحدث الخالق، وانما استدلوا بتغير صفاتها وتحولها من حال إلى حال. والثاني: أنهم بنوا ذلك على الجوهر الفرد، وأن الأجسام لم تزل ولا تزال من حين حدوثها باقية، وإنما التغير يقع على صفاتها، وأن الحادث إنما هو إجماع الجواهر وافتراقها، وحركتها وسكونها، أو غيرها من الأعراض (2) ، والقول بالجوهر الفرد- الذي-يزعم أصحابه أن الأجزاء تنتهي إلى جزء لا يتجزأ- قول باطل وقد اعترف كثير من الأشاعرة وغيرهم ببطلانه. والذين قالوا به حاروا فيه،   (1) درء التعارض (3/83) . (2) درء التعارض (7 / 219) ، وانظر شرح الأصفهانية (ص: 261) - ت السعوي. (3) انظر: درء التعارض (7 / 224-232) ، وشرح الأصبهانية (ص: 261-262) - ت السعوي- والنبوات (ص: 73-79) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1017 وربما قالوا مرة أخرى ببطلانه (1) . وأبو الحسن الأشعري ممن يقول به (2) . والرازي متوقف فيه (3) ، بل توتف فيه الجويني وغيره (4) . كما ينتقد شيخ الإسلام الرازي أيضا بإدخاله دليل الإمكان في هذا الدليل، ودليل الإمكان تقدم القول فيه في المسلك الثاني، وأنه اتبع فيه طريقة ابن سينا وأصحابه، يقول شيخ الإسلام- معلقا على المسلك الرابع الذي ذكره الرازي وهو الإستدلال بحدوث الصفات: "قلت: قد ذكرنا في غير موضع أن هذا المسلك صحيح، لكن الرازي قصر فيه من وجهين: أحدهما: أنه لا يستدل بنفس الحدوث، بل يجعل الحدوث دليلا على إمكان الحادث، ثم يقول: والممكن لابد له من مرجح، وهذا الإمكان الذي يثبته هو الإمكان الذي يثبته ابن سينا، وهو الإمكان الذي يشترك فيه القديم والحادث، فجعل القديم الأزلي ممكنا، يقبل الوجود والعدم، وهذا مما خالفوا فيه سلفهم وسائر العقلاء، فإنهم متفقون على أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثا، وابن سينا وأتباعه يوافقون الناس على ذلك، لكن يتناقضون" (5) ، ثم ذكر الوجه الثاني الذي سبق ذكره، وهو أنهم بنوه على مسألة الجوهر الفرد (6) . وقد ظن بعض المعتزلة أن الأشعري لما ذكر دليل النطفة وتحولها وتغيرها، انما قصد إثبات دليل حدوث الأجسام المشهور، وقد بين شيخ الإسلام خطأ هذا الظن فقال: "الأشعري قصد العدول عن هذه الطريقة التي سلكها المعتزلة عمدا، مع علمه بها، كما قد بين ذلك في رسالته إلى الثغر، وبين أنها بدعة محرمة في الشرائع، لم يسلكها السلف والأئمة، وعدل عنها إلى الاستدلال بحدوث صفات الإنسان، لأن ذلك أمر مشهود معلوم، والقرآن العزيز قد دل عليها   (1) انظر: درء التعارض (1/158-159، 4/201، 6/292، 8/321) . (2) انظر: المصدر السابق (8/312) . (3) انظر: المصدر نفسه (2/390) . (4) انظر: نقض التأسيس- مطبوع- (1/495-496) . (5) درء التعارض (7/231- 232) . (6) انظر: المصدر السابق (7/232) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1018 وأرشد إليها، (1) ، لكن شيخ الإسلام حدد موطن الخطأ عند الأشعري: أنه "لما أراد تقرير حدوث النطفة سلك في الاستدلال على حدوثها الطريقة المعروفة للمعتزلة في حدوث الأجسام، فهو وإن كان قد وافقهم على صحة هذه الطريقة، فهو يقول: إن فيها تطويلا وشبهات، ومقدمات كثيرة، فيها نزاع، فلا يحتاج إليه ابتداء، ولا يقف العلم والإيمان بالله تعالى عليها، بخلاف نفس تحول النطفة من حال إلى حال، فإن هذا أبين وأظهر عن كون كل جسم لابد له من أعراض مغايرة له، والأعراض حادث النوع ... " (2) . وقد حاول الباقلاني في شرحه (3) للمع الأشعري أن يفسر أقوال الأشعري في هذه المسألة ليقرب من مذهبه، فقد ذكر أن الأشعري قصد تعميم النطفة إلى سائر الأعراض، كما حاول أن يدلل على أن المحدث لابد له من محدث وأن هذه مسألة نظرية تحتاج إلى برهان. بينما الأشعري سكت عنها لأنها مسألة بدهية لا يخالف فيها أحد من العقلاء. والباقلاني قررها بمنهجه في هذه المسألة حيث ذكر دليل التخصيص، وأن تخصيص المحدث بوقت لون وقت لابد له من مخصص، وهذا وإن كان صحيحا إلا أن ما قصده الأشعري من أن المحدث لابد له من محدث أبين وأقوى. وقد أطال شيخ الإسلام في مناقشة الباقلاني (4) ، ثم بين في النهاية أن طريقة الأشعري خير من طريقة الباقلاني وأن طريقة الباقلاني خير من طريقة المعتزلة ومن وافقهم من الأشاعرة (5) . المسلك الخامس: الاستدلال بما في العالم بما في الإحكام والإتقان، على علم البارىء تعالى، والذي يدل على علمه يدل على ذاته من باب أولى (6) .   (1) دوء التعارض (8/100) . (2) المصدر السابق، نفس الجزء والصفحة. وانظر: مجموع الفتاوى (16/267-270) . (3) هذا الكتاب- كما ذكر مترجو الباقلاني، غير موجود، وقد نقل منه شيخ الإسلام بعض النصوص. انظر: ما سبق في ترجمة الباقلاني (ص: 527) . (4) انظر: درء التعارض (4/304-307، 8/70-88، 300-343) ، وانظر الوجهين في الرد عل الباقلاني، أحدهما (8/106) ، والثاني (8/310) . (5) انظر: المصدر السابق (8/304-306، 308-309) . (6) انظر: المصدر نفسه (3/86-87، 5/294) ، والنبوات (ص: 77) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1019 هذه أهم المسالك التي ذكرها الأشاعرة لإثبات الصانع، وقد أوردها شيخ الإسلام، وبين ما فيها من حق وباطل، فرد الباطل ونقضه، وأيد الحق (1) ، ومحصه إن كان قد تلبس به بعض الباطل. ومن ذلك يتبين مبلغ إنصافه لخصومه، وقبوله للحق ممن جاء به، ولذلك قال بعد مناقشات مطولة للأشاعرة: "وليس العلم بإثبات الصانع سبحانه مفتقرا إلى شيء من الطرق المبتدعة وإن كانت صحيحة، فكيف اذا كانت باطلة؟ لكن الرجل إذا استدل على الحق بدليل صحيح لم يكن هذا مذموما مطقا، كما تجد كثيرا من أهل الحديث، والصوفية، والمتفقهة يعيبون من أقام دليلا عقليا صحيحا على بعض المطالب الدينية، ويجعلون هذا من الكلام المذموم، وليس الأمر كما يقوله هؤلاء، بل الدليل الصحيح مقبول وإن لم يعلم استدلال غيره به، لكن قد يذم لأسباب؛ مثل أن يكون فيه خطر، وغيره مغن عنه، كمن سلك إلى مكة الطريق البعيد (2) المخوفة مع إمكان القرينة الأمينة، وكذلك إذا رد الباطل بممانعة صحيحة، أو معارضة صحيحة. لكن المذموم أن يدعي صحة الباطل، أو يتوقف الإيمان على بدعة ما شرعها الله تعالى ورسوله، فكيف إذا اجتمعا جميعا، كما زعم هؤلاء حيث قالوا: لا يمكن تصديق الرسول-صلى الله عليه وسلم- إلا بما ذكروه من الطرق النظرية التي ابتدعوها (3) ". ويلاحظ أن شيخ الإسلام سبق أن ذكر أن أعظم الطرق لإثبات الصانع طريقة القرآن التي تقوم على الاستدلال بذوات المحدثات والمخلوقات على خالقها، قال تعالى: "أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ" [الطور: 35] ، كما سبق بيان أن الإيمان بالصانع والإقرار به أمر فطري، فدليله ضروري وأن كثيرا من الأشاعرة صرح بذلك (4) .   (1) انظر مثلا: تأييده للشهرستاني فيما ذكره في إثبات الصانع. في درء التعارض (3/128-137) . (2) كذا، ولعل الجواب: البعيدة. (3) شرح الأصفهانية (ص: 317) - ت السعوي-. (4) انظر ما سبق (ص: 867-868) ، وانظر أيضا: درء التعارض (1/91-92، 8/155) . وانظر: كلام شيخ الإسلام الطويل حول الفطرة في درء التعارض (8/359) إلى آخر الجزء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1020 وقد ساق شيخ الإسلام عددا كبيرا من الأدلة الدالة على إثبات الصانع، دون الحاجة إلى تلك المقدمات الباطلة أو الظنية التي أتى بها أولئك المتكلمون، ونظرا لأن شيخ الإسلام ساق هذه الأدلة في مكان واحد فلعل الإشارة إلى موضعها يغني عن الإطالة بذكر نماذج منها (1) . د- " توحيد الربوبية" أو "وحدانية الرب": والمقصود إفراد الله بالربوبية والخلق، وهذا التوحيد لا تكاد تخالف فيه طائفة معروفة من بني آدم (2) ، وقد قرره علماء الأشاعرة جميعا بدليل التمانع المشهور (3) ، وخلاصته كما يقول الأشعري: "فإن قال قائل: لم قلتم إن صانع الأشياء واحد؟ قيل له: لأن الاثنين لا يجرى تدبيرهما على نظام، ولا يتسق على إحكام، ولابد أن لا يلحقهما العجز أو واحدا منهما، لأن أحدهما إذا أراد أن يحيى إنسانا وأراد الآخر أن يميته، لم يخل أن يتم مرادهما جميعا، أو لا يتم مرادهما، أو يتم مراد أحدهما دون الآخر. ويستحيل أن يتم مرادهما جميعا، لأنه يستحيل أن يكون الجسم حيا ميتا في حال واحدة، وإن لم يتم مرادهما جميعا وجب عجزهما والعاجز لا يكون إلها ولا قديما وإن تم مراد أحدهما دون الآخر وجب العجز لمن لم يتم مراده منهما، والعاجز لا يكون إلها ولا قديما فدل ما قلناه على أن صانع الأشياء واحد، وقد قال تعالى: "لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا" [الأنبياء: 22] فهذا معنى احتجاجنا آنفا" (4) . وجميع الأشاعرة يسوقون هذا الدليل، مع تنويع الأمثلة التى يوردونها، كالحركة والسكون، والإحياء والإماتة وغيرها.   (1) انظر: درء التعارض (3/98-127، 265-266) . (2) انظر: التدمرية (ص: 177-178) - ت السعوي. وشرح الأصفهاية (ص: 98- 102) - ت السعوي-. (3) انظر مثلا- غير اللمع للأشعري الذي سيرد نص كلامه فيهـ: التمهيد للباقلاني (ص: 25) ت مكارثي، والمعتمد لأبي يعلى (ص: 41) ، والإرشاد للجويني (ص: 53-59) ، ونهاية الإقدام (ص: 91-97) ، والأربعين للرازي (ص: 221-226) . (4) اللمع (ص: 8) - ت مكارثي، و (ص: 20- 21) - ت غرابة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1021 وشيخ الإسلام يقرر أن دليل التمانع دليل صحيح، موصل إلى المطلوب في إثبات وحدانية الله تعالى في ربوبيته (1) ، ولكنه يرد على، الأشاعرة لوقوعهم في خطأين، أحدهما وقع فيه متقدموهم- ومن جاء بعدهم ممن وافقهم عليهـ والثاني وقع فيه المتأخرون دون المتقدمين، ثم إن شيخ الإسلام يذكر لهذا الدليل برهانين ورد بهما القرآن للدلالة على أن الله واحد. 1- أما الخطأ الذي وقع فيه المتقدمون من الأشاعرة ووافقهم عليه المتأخرون فهو ما أورده الأشعري مما سبق نقله من كلامه حين احتج على دليل التمانع بقوله تعالى: "لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا" [الأنبياء: 22] ، وقد أوضح شيخ الإسلام أن هذا الاحتجاج خاطىء، لأن هذه الآية جاءت لتقرير توحيد الألوهية والعبادة، لا توحيد الربوبية، ويربط شيخ الإسلام خطأ هؤلاء بخطئهم في فهم المقصود بالتوحيد الذي دعت إليه، حيث ظنوا أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الألوهية الذي دعت إليه الرسل (2) ، وقد سبق شرح ذلك-، ويبين شيخ الإسلام الفرق بين دليل التمانع وبين هذه الآية بقوله: " هذه الآية ليس المقصود بها ما يقوله من يقوله من أهل الكلام، من ذكر دليل التمانع الدال على وحدانية الرب تعالى؛ فإن التمانع يمنع وجود المفعول، لا يوجب فساده بعد وجوده. وذلك يذكر في الأسباب والبدايات التى تجري (3) مجرى العلل الفاعلات. والثاني يذكر في الحكم والنهايات التى تذكر في العلل التي هي الغايات، كما في قوله تعالى: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" [الفاتحة: 5] ، فقدم الغاية المقصودة على الوسيلة الموصلة" (4) . وهذا واضح، لأن التمانع يدل على أنه لو فرض أكثر من صانع لما وجدت المخلوقات، فوجودها يدل على صانع واحد، أما الآية فهى دالة على أنه لو وجد أكثر من إله يعبد لحدث الفساد،   (1) انظر. درء التعارض (9/354) ، حيث رد عل ابن رشد الذي رد على الأشاعرة في ذلك. (2) انظر: شرح الأصفهانية (ص: 104-105) ت السعوي-. (3) في المطبوعة المحققة (تجر) ولعله خطأ مطبعي. وهو على الصواب في طبعة حامد الفقي (ص: 461) . (4) اقتضاء الصراط المستقيم (2/846) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1022 ففى الآية " بيان امتناع الألوهية من جهة الفساد الناشىء عن عبادة ما سوى الله تعالى، لأنه لا صلاح للخلق إلا بالمعبود المراد لذاته، من جهة غاية أفعالهم ونهاية حركاتهم، وما سوى الله لا يصلح، فلو كان فيهما معبود غيره لفسدتا من هذه الجهة، فإنه سبحانه هو المعبود المحبوب لذاته، كما أنه هو الرب الخالق بمشيئته. وهذا معنى قول النبي-صلى الله عليه وسلم-: أصدق كلمة قالها الشاعر، كلمة لبيد: ألا كل شيء ماخلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل (1) ولهذا قال الله في فاتحة الكتاب: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" [الفاتحة: 5] وقدم اسم الله على اسم الرب في أولها حيث قال: "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" [الفاتحة: 1] ، فالمعبود هو المقصود المطلوب المحبوب لذاته، وهو الغاية والمعين، وهو البارىء المبدع الخالق ... " (2) . والخلاصة أن الآية جاءت لتقرير توحيد الألوهية المتضمن لتوحيد الربوبية ومعنى الآية أنه لو كان فيهما- أي السموات والأرض- آلهة غير الله لفسدتا ولكن ما فسدتا تدل على أنه ليس فيهما آلهة إلا الله (3) . 2- والخطأ الذي وقع فيه المتأخرون من الأشاعرة هو ظنهم أن القسمة في تقرير دليل التمانع لم تنته، وأنه بقي قسم رابع وهو أن يقال: يجوز أن يتفقا فلا يفضي ذلك إلى الاختلاف. والأشاعرة حيال هذا الأمر ثلاثة أقسام: أ- المتقدمون، كأبي الحسن الأشعري، والباقلاني، والقاضي أبي يعلى (4) ،   (1) الحديث متفق عليه، بالشطر الأول فقط من بيت الشعر: البخاري باب مناقب الأنصار، باب أيام الجاهلية، ورقمه (3841) (الفتح 7/149) ، وكتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر، ورقمه (6147) (الفتح 10/537) ، ومسلم، كتاب الشعر، ورقمه (2255) - عدة روايات. (2) منهاج السنة (3/334-335) - ط جامعة الإمام-. (3) انظر: منهاج السنة (3/314) - ط الامام-، ودرء التعارض (9/369-378) . (4) سبق قبل قليل ذكر كتبهم التي أوردوا فيها هذا الدليل، ويلاحظ أن الباقلاني ذكر في التمهيد (ص: 25) دليل التمانع دون ذكر احتمال اتفاق الارادتين، ولكنه في رسالة الحرة- المطبوعة باسم الإنصاف- (ص: 34) ، أورد الاحتمال على شكل اعتراض ورد عليه. أما الأشعري وصاحب المعتمد فلم يذكرا في كتابيهما- اللمع والمعتمد- إلا الاحتمالات الثلاثة فقط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1023 ذكروا دليل التمانع باحتمالاته الثلاثة، ولم يذكروا الرابع- الذي هو احتمال الاتفاق- لأنهم " علموا أن وجوب اتفاقهما في الإرادة يستلزم عجز كل منهما، كما أن تمانعهما يستلزم عجز كل منهما، فمنهم من أعرض عن ذكر هذا التقرير لأن مقصوده أن يبين أن فرض اثنين يقتضي عجز كل منهما، فإذا قيل: إن أحدها لا يمكنه مخالفة الآخر، كان ذلك أظهر في عجزه " (1) ، وهذا واضح مما فعله هؤلاء في كتبهم فإنهم ضربوا صفحا عن التطويل بذكر هذا الاحتمال الفاسد. ب- وبعض المتأخرين، كالجويني، والشهرستاني والرازي (2) ، قرروا دليل التمانع، ولكن أوردوا الاحتمال الرابع، وردوا عليه من طرق عديدة لكنهم أجابوا "بوجوه عارضهم فيها غيرهم " (3) . 3- وبعض المتأخرين رأى أن هذا الاعتراض- باحتمال الاتفاق- مشكل، ولذلك ظن بعض هؤلاء أن التوحيد إنما يعرف بالسمع (4) . ومن الذين زيفوا دليل التمانع وظنوا أن الاعتراض عليه باحتمال الاتفاق قادح فيه الآمدى (5) . وقد رد عليه شيخ الإسلام، وبين أن دليل التمانع برهان عقلي صحيح كما قرره فحول النظار، وبعد أن أورد دليل التمانع كما ساقوه قال: "فلما قيل لهم: هذا يلزم إذا اختلفت إرادتهما، فيجوز اتفاق إرادتهما. أجابوا بأنه إذا اتفقا في الآخر (6) امتنع أن يكون نفس ما فعله أحدهما نفس الآخر، فإن استقلال أحدهما بالفعل والمفعول، يمنع استقلال الآخر به، بل لابد أن يكون مفعول هذا متميزا عن مفعول هذا، وهذا معنى قوله تعالى: "إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ" [المؤمنون: 91] وهذا ممتنع؛ فإن العالم مرتبط بعضه ببعضه ارتباطا يوجب أن فاعل هذا ليس هو مستغنيا عن فاعل الآخر، لاحتياج بعض أجزاء العالم إلى بعض.   (1) منهاج السنة (3/306) - ط جامعة الامام-. (2) سبقت الإشارة إلى كتبهم التي ذكروا فيها ذلك. (3) منهاج السنة (3/305) - ط جامعة الإمام. (4) انظر: درء التعارض (9/354-369) . (5) انظر: أبكار الأفكار (ج- 1- 165- ب- 171- ب) ، وغاية المرام (ص: 151- 155) . (6) في درء التعارض: الآخرة، ولعل الصواب ما أثبته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1024 وأيضا فلابد أن يعلو بعضهم على بعض، فإن ما ذكرناه من جواز تمانعهما إنما هو مبني على جواز اختلاف إرادتهما، وذلك أمر لازم من لوازم كون كل منهما قادرا، فإنهما إذا كانا قادرين، لزم جواز اختلاف الإرادة. وإن قدر أن لا يجوز اختلاف الإرادة، بل يجب اتفاق الإرادة كان ذلك أبلغ في دلالته على نفي قدرة كل واحد منهما، فإنه إذا لم يجز أن يريد أحدهما ويفعل إلا ما يريده الآخر ويفعله، لزم أن لا يكون واحد منهما قادرا، إلا إذا جعله الآخر قادرا، ولزم أن لا يقدر أحدهما إلا إذا لم يقدر الآخر، وعلى التقديرين يلزم أن لا يكون واحد نهما قادرا، فإنه إذا لم يمكنه أن يريد ويفعل، إلا ما يريده الآخر ويفعله، والآخر كذلك- وليس فوقهما أحد يجعلهما قادرين مريدين - لم يكن هذا قادرا مريدا حتى يكون الآخر قادرا مريدا، وحينئذ فإن كان كل منهما جعل الآخر قادرا مريدا، كان هذا دورا قبليا، وهو دور في الفاعلين والعلل" (1) وهو ممتنع. وقد أطال شيخ الإسلام في مناقشة هذا الأمر في بعض كتبه (2) ، وبين صحة هذا الدليل وسلامته. فهو متفق مع الأشاعرة في ذلك، ونقاشه لبعضهم لا يتطرق لنتيجة الاستدلال المتفق عليها، وإنما أراد شيخ الإسلام أن يستكمل النقص الذي ظن الآمدي وغيره أنه ينال من صحة دليل التمانع وقوته. 4- وقد ذكر شيخ الإسلام- في أثناء مناقشاته لدليل التمانع- أن القرآن الكريم جاء بالأدلة العقلية الواضحة على إثبات التوحيد لله تعالى، وبين أن من ذلك ما ذكره تعالى بقوله: "مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ" [المؤمنون: 91] ، وذكر أن الآية دلت على برهانين يقينيين- وسماهما في شرح الأصفهانية لازمين- يدلان على إفراد الله تعالى بالألوهية.   (1) درء التعارض (9/356-357) . (2) انظر: المصدر السابق (9/362- 370) ، وشرح الأصفهانية (103-134) ، ومنهاج السنة (3/305-313) - ط جامعة الإمام-، والصفدية (1/92- 95) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1025 وشيخ الإسلام وهو يشرح هذين البرهانين لا يفوته أن يُذكِّر بالفرق الواضح بين منهج المتكلمين ومنهج القرآن في ذلك. فالمتكلمون قصدوا تقرير توحيد الربوبية فقط لظنهم أنه غاية التوحيد الذي دعت إليه الرسل. وهذا منهج قاصر، لأن القرآن إنما جاء بالدعوة إلى توحيد الألوهية، لأنه الغاية المقصودة، أما توحيد الربوبية فإن المشركين كانوا مقرين به كما هو معروف، يقول شيخ الإسلام: " ومقصود القرآن توحيد الألوهية، وهو مستلزم لما ذكروه من غير عكس، ولهذا قال: "لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا" [الأنبياء: 22] فلم يقل: لو كان فيهما إلهان، بل المقدر آلهة غير إلإله المعلوم أنه إله، فإنه لم ينازع أحد في أن الله إله حق، وإنما نازعوا هل يتخذ كره إلها مع كونه مملوكا له ... " (1) . وقد سبق- قبل قليل- الإشارة إلى هذين اللازميين أو البرهانين الذين يلزمان على تقدير وجود ربين خالقين، وهذان اللازمان الباطلان هما: اللازم الأول: ما أشار إليه توله تعالى: "إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ" [المؤمنون: 91] يقول شيخ الإسلام: "أما اللازم الأول- وهو ذهاب كل إله بما خلق- فهذا لازم، سواء فرضا متماثلين في القدرة أو متفاضلين فيها، وإن كان كل من التقديرين ممتنعا، لكن بطلان هذا اللازم مما يدل على امتناع كل منهما؛ وذلك لأنه قد تبين أنه يمتنع أن يكون المفعول الواحد فعلا لكل منهما على سبيل الاستقلال، ويمتنع أيضا التعاون، بحيث لا يصير أحدهما قادرا إلا إذا أعانه الآخر، ولا يصير فاعلا إلا إذا [أعانه] الآخر، ويبين ذلك أن ذلك ممتنع لذاته، بل لابد أن يكون أحدهما قادرا على الفعل، يفعل بإرادته دون معاونة الآخر، وإذا كان كذلك وجب أن يتميز مفعوله عن مفعول الآخر، وأن يذهب بمفعوله، لأنه لا يجب اختلاط المفعولين إلا إذا احتاج أحد الفاعلين إلى الآخر، كالحاملين للخشبة، لا يقدر أحدهما على حملها إلا بمعاونة الآخر، فلا يتميز أثره في الخشبة عن أثر الآخر.   (1) درء التعارض، (9/369-370) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1026 فأما القادر- الذي يمتنع افتقاره إلى من يعينه، وقدرته من لوازم ذاته الغنية عن أن يجعله غيره قادرا- فهذا مقدوره متميز مستقل" (1) ، ثم يقول: "و ... تعاونهما ممتنع لذاته، سواء قدر أن كلا منهما يقدر على الاستقلال أو قدر أنه لا يقدر على الاستقلال، وتمانعهما ممتنع لذاته. وخلط أحد المفعولين بالآخر لا يخرج عن التمانع والتعاون؛ فإنه إن كان بمشيئة الآخر لزم التعاون، وإن كان بدون مشيئته لزم التمانع، وكلاهما ممتنع في الربين المقدرين، وما لزم منه الممتنع [فهو ممتنع] . فتبين أنه لو كان مع الله آلهة تخلق لذهب كل إله بما خلق، والموجود خلاف هذا؛ فإن العالم مرتبط بعضه ببعض، متعلق بعضه ببعض، ما من مخلوق إلا وهو متصل بغيره من المخلوقات، محتاج إليه مرتبط به " ثم قال بعد بيان كيف تحتاج المخلوقات إلى بعضها: " فتبين انتفاء اللازم في قوله تعالى: إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ" [المؤمنرن: 91] ، وحذف سبحانه نفي اللازم لظهوره ووضوحه؛ فإن ذهاب كل إله بمخلوقه، وانفراده به، استقلاله به: أمر يظهر بطلانه لعموم العقلاء، والمقدمات الظاهرة البينة لا يحتاج إلى ذكرها في البيان الفصيح، الذي هو طريقة القرآن " (2) ، أي أنه لو كان معه إله لذهب كل إله بمخلوقاته، وهذا غير واقع، لأن العالم مرتبط بعضه ببعض، وليس هناك عالم مستقل عن هذا العالم، فدل على أن خالقه واحد (3) . أما اللازم الثاني: فقد دل عليه قوله "وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ" [المؤمنون: 91] ، يقول شيخ الإسلام: [وأما البرهان الثاني: وهو لزوم علو بعضهما على بعض، وذلك يمنع إلهية المغلوب، فإنه يمتنع أن يقدر أحدهما على عين مقدور الآخر؛ لأن ذلك يستلزم أن يكون ما فعله أحدهما يقدر الآخر أن يفعله، مع كونه فعل الأول.   (1) شرح الأصفهانية (ص: 124- 125) . (2) شرح الأصفهانية (ص: 126-127) - ت السعوي-. (3) انظر أيضا: المصدر السابق إلى (ص 131) ، ودرء التعارض (9/359- 361) ، ومنهاج السنة (3/315-317) - ط جامعة الإمام-. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1027 ويمتنع أن يكون كل منهما لا يقدر إلا إذا مكنه الآخر وأقدره، فإن ذلك يستلزم أن لا يكون أحدهما قادرا، فيمتنع أن يكون كل منهما قادرا على الاستقلال، ويمتنع أن يكونا قادرين على مفعول واحد، فيلزم حينئذ أن لا يوجد مفعول واحد، لا بطريق استقلال أحدهما ولا بطريق اشتراكهما فيه، وذلك يمنع أن يكون أحدهما قادرا. وكذلك يمتنع أن يكونا متماثلين في القدرة، ة إنه إن أمكن كل منهما منع الآخر من الفعل، لزم امتناع الفعل، وانتفاء القدرة عن كل منهما، وإن لم يمكنه ذلك، لزم أن لا يكون قادرا على ما يقدر عليه الاَخر، إذا لو كان قادرا عليه لأمكنه فعله، وذلك ممتنع. وإن لم يكن قادرا على ما يقدر عليه الاَخر، لم تكن قدرته مثل قدرته فإن المثلين هما اللذان يسد أحدهما مسد الآخر، ويقوم مقامه. وإذا امتنع تماثل القدرتين، وجب كون أحدهما أقدر من الاَخر، وحينئذ فالأقدر الأقوى يغلب الأضعف، وهذا معنى قوله "وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ" [المؤمنون: 91] (1) ". والخلاصة أنه إذا قدر إلهان فلابد أن يكون أحدهما أقدر من الآخر، والأقدر لابد أن يعلو من هو دونه في القدرة، وإذا علا بعضهم على بعض فالعالي هو الإله القاهر المستقل بالفعل وحده (2) .   (1) درء التعارض (9/361) . (2) انظر: شرح الأصفهانية (ص: 131-133) - ت السعوي-، ومنهاج السنة (3/318-325) - ط جامعة الإمام-. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1028 المبحث الثاني: في الأسماء والصفات مقدمة : يعتبر هذا المبحث أهم وأوسع المباحث التفصيلية في ردود شيخ الإسلام على الأشاعرة، ومسألة الصفات من مسائل العقيدة الكبرى التي كانت مثار جدل بين الطوائف منذ نشأة الفرق الإسلامية، كما أنها كانت أقوى محك لتمييز من يسير على مذهب السلف الصالح ممن رضي بموافقة إحدى طوائف أهل الأهواء. كما أن مسألة الصفات- بالنسبة للأشاعرة- لها وضع خاص نظرا لتفاوت واضطراب أقوالهم فها: - فهناك صفات اتفقوا على إثباتها، مثل الصفات السبع. - وهناك صفات اتفقوا على تأويلها، مثل الصفات الاختيارية. - وهناك صفات اختلفوا فيها: * مثل الصفات الخبرية. * ومثل العلو والاستواء. وهذا الاختلاف إما أن يكون بين متقدمي الأشاعرة ومتأخريهم، أو عند الفرد الواحد، حيث يميل مرة إلى الإثبات ومرة إلى التأويل،. وإن كان الذي استقر عليه المذهب يغلب عليه التأويل. - على أن بعض الصفات قد تأتي أقوالهم فيها مضطربة، لاختلاف متعلقها، وذلك مثل صفة الاستواء، فأبو الحسن الأشعري يثبته ويبين دلالته على صفة العلو لله تعالى، ويمنع تأويله بالاستيلاء، ولكنه من جانب آخر لا يجعله من الصفات الاختيارية لله تعالى، لأنه ينفي هذه الصفات عن الله ولذلك يفسر الاستواء بأنه فعل فعله الله بالعرش سماه استواء، فيجعله كخلقه للسماء والأرض، ليكون من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1029 باب المفعول المنفصل عنه، لا من باب الأفعال التي تقوم به لئلا تقوم به الحوادث. وأهل السنة لا يفرقون بين الأمرين، بين فعله اللازم والمتعدي، فكلاهما يقوم بالله منه فعل، كما يليق بجلاله وعظمتهـ كما سيأتي توضيح ذلك إن شاء الله تعالى-. وقد تقدم أن من أسس منهج شيخ الإسلام إنصافه لخصومه، ومن الذين كان لهم حظ وافر من ذلك خصومه الأشاعرة، ولذلك فقد اعترف لهم بما وافقوا فيه مذهب السلف- بإجمال- كالأسماء، والصفات السبع، وما أثبته متقدموهم كالأشعري والباقلافي وغيرهم، حيث جعل أقوال هؤلاء حجة على المتأخرين الذين خالفوهم في كثير من المسائل. ولكثرة المسائل المتعلقة بهذا المبحث وتشعبها، كان من المناسب أن تشتمل مباحثه على مقدمات وقواعد عامة، ثم على المناقشات التفصيلية للصفات التي استقر مذهب الأشاعرة على نفيها أو تأويلها، ويأتي هذا كله بعد عرض مختصر للأقوال عامة في الصفات. ولذلك فستكون مسائل هذا المبحث كما يلي: تمهيد: حول أقوال الطوائف في الصفات، ثم خلاصة أقوال الأشاعرة فيها. أولا: إثبات الأشاعرة لأسماء الله. ثانيا: الصفات التي أثبتوها. ثالثا: الصفات التي أولوها. وهذا يشمل: أ- الحجج العامة للأشاعرة على ما نفوه أو أولوه من الصفات، وموقف شيخ الإسلام منها. ب- قواعد عامة في ردود شيخ الإسلام على الأشاعرة في الصفات. ب- مناقشة الأشاعرة تفصيلا في الصفات: 1- الصفات الاختيارية. 2- الصفات الخبرية. 3- كلام الله. 4- العلو. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1030 تمهيد ويشمل: أ- خلاصة أقوال الطوائف في الصفات: تعددت أقوال الطوائف في الصفات وإثباتها لله تعالى، وأهم هذه الأقوال: 1- قول الجهمية، الذين ينفون الأسماء والصفات جميعا، ويوافقهم على هذا كثير من الفلاسفة والباطنية وغيرهم الذين يصفونها بالسلوب والإضافات فقط. 2- قول المعتزلة الذين يثبتون الأسماء وينفون الصفات، ولكن إثبات هؤلاء للأسماء لا يفيدهم شيئا لأنهم يقولون إما أنها أعلام محضة لا تدل على صفات، أو يقولون: عليم بلا علم، قدير بلا قدرة. 3- قول الأشاعرة الذين يثبتون الأسماء وبعض الصفات، ويتأولون بعضها- على اختلاف فيما بينهم- أو يفوضون. 4- قول المشبهة الذين يثبتون الصفات، ولكنهم يجعلونها من جنس صفات الخلوقين، فيشبهون الله بخلقه. 5- قول من يتوقف فيها: إما أنهم يقولون يجوز أن يكون المراد بالصفات ما يليق بالله، أو أمور أخرى، وإما أنهم لا يبحثون ذلك مطلقا، بل يقتصرون على تلاوة القرآن وقراءة الحديث. 6- وهناك بعض الغلاة الذين قالوا: إن أثبتنا الصفات شبهناه بالموجودات، وإن نفيناها شبهناه بالمعدومات، ولذا فالأولى سلب النقيضين عنه، فيقال: لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، وبعضهم يقول: لا موجود، ولا ليس بموجود، ولا معدوم، ولا ليس بمعدوم وهكذا، وهؤلاء هم غلاة القرامطة والباطنية الملاحدة، والعجيب أن شيخ الإسلام ذكر أن هناك طائفة من هؤلاء لما رأوا أن قول المثبتة يلزم منه التشبيه بالموجودات، وقول النفاة يلزم منه التشبيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1031 بالمعدومات، وقول هؤلاء الغلاة الذين يسلبون عنه النقيضين يلزم منه تشبيهه بالممتنعات؛ لجأوا إلى الوقف والسكوت وقالوا: "نحن لا نقول ليس بموجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، فلا ننفي النقيضين، بل نسكت عن هذا وهذا، فنمتنع عن كل من المتناقضين، لا نحكم لا بهذا ولا بهذا، فلا نقول: ليس بموجود ولا معدوم، ولكن لا نقول: هو موجود ولا نقول هو معدوم" (1) . 7- قول أهل السنة الذين يثبتون ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسولهـ صلى الله عليه وسلم- من غير تحريف ولا تكييف، ومن غير تمثيل ولا تعطيل. فهم يثبتون الصفات على ما يليق بجلال الله وعظمته. ولشيخ الإسلام تقسيم دقيق لأقوال الطوائف المنتسبة للسنة، حيث قال: " وجماع الأمر: أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام: - قسمان يقولان: تجري على ظواهرها. - وقسمان يقولان: هي على خلاف ظاهرها. - وقسمان يسكتون. أما الأولون فقسمان: أحدهما: من يجريها على ظاهرها، ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين. فهؤلاء المشبهة. ومذهبهم باطل، أنكره السلف. الثاني: من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله، كما يجري ظاهر اسم العليم، والقدير، والرب، والإله، والموجود، والذات، ونحو ذلك على ظاهرها اللائق بجلال الله ... .   (1) الصفدية (1/96) ، وقد قال بعد ذلك (1/97) "ومن الناس من يحكي هذا القول عن الحلاج". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1032 وأما القسمان اللذان ينفيان ظاهرها، أعني الذين يقولون: ليس في الباطن مدلول هو صفة الله قط، وأن الله لا صفة له ثبوتية، بل صفاته: إما سلبية، أو إضافية، وإما مركبة منهما، أو يثبتون بعض الصفات- وهي الصفات السبعة، أو الثمانية، أو الخمسة عشر- أو يثبتون الأحوال دون الصفات، ويقرون من الصفات الخبرية بما في القرآن دون الحديث، على ما قد عرف من مذاهب المتكلمين- فهؤلاء قسمان: (قسم) يتأولونها، ويعينون المراد، مثل قولهم: استوى بمعنى استولى، أو بمعنى علو المكانة والقدر، أو بمعنى ظهور نوره للعرش، أو بمعنى انتهاء الخلق إليه، إلى غير ذلك من معاني المتكلمين. (وقسم) يقولون: الله أعلم بما أراد بها، لكنا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجية عما علمناه. وأما القسمان الواقفان: (فقوم) يقولون: يجوز أن يكون ظاهرها اللائق بجلال الله، ويجوز أن لا يكون المراد صفة الله، ونحو ذلك. وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم. (وقوم) يمسكون عن هذا كله، لا يزيدون على تلاوة القرآن وقراءة الحديث، معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات. فهذه الأقسام الستة لا يمكن أن يخرج الرجل عن قسم منها" (1) ، ثم بين أن الصواب طريقة السلف، وأن فيها السلامة والرشاد، وأن الطرق الأخرى- خاصة طرق الفلاسفة والمتكلمين- قد يكون فيها العطب والهلاك. ب- أقوال الأشاعرة في الصفات: سبق عند الحديث عن تطور المذهب الأشعري وأشهر رجاله تتبع أقوال الأشاعرة في مسائل الصفات وغيرها، وتبين اختلاف أقوالهم في الصفات وتعددها أحيانا، ويمكن تلخيص ذلك كما يلي:   (1) الحموية الكبرى- مجموع الفتاوى (5/113-117) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1033 1- أجمع الأشاعرة على إثبات الصفات السبع العقلية، واختلفوا في صفة البقاء. 2- أجمع الأشاعرة على نفى الصفات الاختيارية عن الله، وهي التي يعبرون عنها بحلول الحوادث، وذلك مثل صفات الكلام، والرضا، والغضب، والفرح، والمجيء، والنزول، والإتيان، وغيرها. وهذا هو أصل مذهب ابن كلاب، الذي تبعه عليه الأشعري وأصحابه، وما ورد من هذه الصفات إما أن يثبتوها بما لا يتعارض مع هذا الأصل وإما أن يؤولوها- كما هو الغالب على مذهب كثير من الأشاعرة- وقد أوضح شيخ الإسلام مذهب الأشاعرة في ذلك فقال: "لما كان من أصل ابن كلاب ومن وافقه، كالحارث المحاسبي، وأبي العباس القلانسي، وأبي الحسن الأشعري، والقضاة: أبي بكر بن الطيب، وأبي يعلى الفراء، وأبي جعفر السمناني، وأبي الوليد الباجي، وغيرهم من الأعيان، كأبي المعالي الجويني، وأمثاله، وأبي الوفاء ابن عقيل، وأبي الحسن بن الزاغوني وأمثالهما: أن الرب لا يقوم به ما يكون بمشيئته وقدرته، ويعبرون عن هذا بأنه لا تحله الحوادث ووافقوا على ذلك الجهم (1) بن صفوان وأتباعه من الجهمية والمعتزلة- صاروا فيما ورد في الكتاب والسنة من صفات الرب على أحد قولين: إما أن يجعلوها كلها مخلوقات منفصلة عنه، فيقولون: كلام الله مخلوق بائن عنه، لا يقوم به كلام، وكذلك رضاه، وغضبه، ومجيئه، وإتيانه، ونزوله، وغير ذلك، هو مخلوق منفصل عنه، لا يتصف الرب بشيء يقوم به عندهم. وإذا قالوا: هذه الأمور من صفات الفعل، فمعناه أنها منفصلة عن الله، بائنة، وهي مضافة إليه، لا أنها صفات قائمة به، ولهذا يقول كثير منهم: إن هذه آيات الإضافات وأحاديث الإضافات، وينكرون على من يقول آيات الصفات وأحاديث الصفات.   (1) في مجموع الفتاوى (5/411) [للجهم] ، والتصويب من طبعة المكتب الإسلامي لشرح حديث النزول (ص: 63) - ط الرابعة-. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1034 وإما أن يجعلوا جميع هذه المعاني قديمة أزلية، ويقولون: نزوله، ومجيئه، وإتيانه، وفرحه، وغضبه، ورضاه، ونحو ذلك: قديم أزلي، كما يقولون: إن القرآن قديم أزلي، ثم منهم من يجعله معنى واحدا، ومنهم من يجعله حروفا، أو حروفا وأصواتا قديمة أزلية، مع كونه مرتبا في نفسه ويقولون: فرق بين ترتيب وجوده وترتيب ماهيته" (1) . وقوله: "ثم منهم من يجعله حروفا أو حروفا وأصواتا قديمة ... قصد به أقوال بعض الحنابلة الذين أرادوا موافقة شيوخهم الحنابلة في أن كلام الله حروف وأصوات، مع قولهم بأصل ابن كلاب والأشعري، والذي فرق بين ترتيب الوجود وترتيب الماهية هو ابن الزاغوني الذي قال: إن القرآن حروف وأصوات أزلية ثم ترتبت من حيث الوجود لا من حيث الماهية، وهو قول ساقط (2) . والتحليل السابق لشيخ الإسلام- وهو الخبر بالمذهب الأشعري- يبين كيف أن بعض الأشاعرة قد يجمع بين الإثبات لبعض الصفات مع اعتقاد الأصل الكلابي، والملاحظ أن الأشاعرة في بعض الصفاتء مثل الاستواء والنزول والمجيء يفسرونها بما يوافق القول الأول، أي أنهم يجعلونها من المفعولات المنفصلة عن الله تعالى. وفي مثل صفة الرضا والغضب يفسرونها بما يوافق القول الثاني، أي أنهم يجعلونها أزلية (2) . ولذلك اشتهر عنهم القول بالموافاة ومعناه عندهم أن الله لم يزل راضيا عمن علم أنه يموت على الإيمان ولو عاش أغلب عمره كافرا، ولم يزل غاضبا على من علم أنه يموت على الكفر ولو عاش أغلب عمره مؤمنا. 3- أما الصفات الخبرية، كالوجه واليدين والعين، واليمين، والقبضة، والساق، والقدم، والأصابع وغيرها. فقد اختلفت أقوال الأشاعرة فيها: أ- فمتقدموهم يثبتونها في الجملة، فالوجه واليدان والعين يثبتها الأشعري (4) ،   (1) شرح حديث النزول- مجموع الفتاوى (5/411) . (2) انظر: نونية ابن القيم (1/287-289) بشرح ابن عيسى، (1/122 -125) ، بشرح الهراس. (2) انظر ما سبق: (ص: 420-421) . (4) انظر ما سبق: (ص: 425) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1035 والباقلاني (1) ، وابن فورك (2) ، والبيهقي (3) ، وغيرهم، أما صفة اليدين والقبضة والقدم والأصابع، فأغلب هؤلاء يتأولها، مثل أبي الحسن الطبري- تلميذ الأشعري- (4) ، الذي قال أيضا إن الله راء بلا عين (5) ، ومثل ابن فورك (6) ، والبيهقي (7) ، ولذلك قيل إن متقدمي الأشاعرة يثبتون الصفات الخبرية في الجملة، لأن إثباتهم لها مقتصر على بعض الصفات القرآنية وهي الوجه، واليدان، والعين. على إن إثبات بعضهم لها من باب التفويض (8) . ب- أما متأخروهم فيتأولون هذه الصفات، وذلك مثل البغدادي (9) ، والجويني (10) ، ومن جاء بعدهم، وهو الذي استقر عليه المذهب الأشعري، وإن كان المتأخرون صاروا يحكون القولين في مذهبهم: - التأويل، وهو الذي يرجحونه. - أو الإثبات لكن بشرط التفويض. 4- أما صفة العلو والاستواء، فمثل الصفات الخبرية: أ- متقدمو هم يثبتونها، كالأشعري (11) ، وتلاميذه (12) ، والباقلافي (13) .   (1) انظر ما سبق: (ص: 537-538) . (2) انظر ما سبق: (ص: 558) . (3) انظر ما سبق: (ص: 589) . (4) انظر: تأويلاته للقبضة واليمين والقدم فيما سبق (ص: 518- 519) . (5) انظر ماسبق: (ص: 515) . (6) انظر ما سبق: (ص: 559) حيث أول اليمين، والكف، والقبضة، والقدم، والأصابع والساق. (7) انظر ما سبق: (ص: 587-589) . (8) وذلك كقول أبي الحسن الطبري- تلميذ الأشعري- في اليدين حيث فوض فيها، انظر ما سبق (ص: 519) . (9) انظر ماسبق: (ص: 577) . (10) انظر ما سبق: (ص: 609) ، وقد رجع في النظامية إلى التفويض انظر (ص: 621) . (11) أقواله في ذلك مشهورة، وانظر ماسبق: (ص: 423-424) . (12) كأبي الحسن الطبري، انظر ما سبق: (ص: 519-522) . (13) انظر ما سبق: (ص: 538-540) ، ومع ذلك يرى عدم إطلاق الجهة على الله تعالى، انظر ما سبق: (ص 540) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1036 ب- ثم بدأ تأويلها في وقت مبكر نسبيا، على يد ابن فورك (1) ،- وله قول آخر بإثباتها (2) ، والبغدادي (3) ، والبيهقي (4) ، والجويني الذي صرح بنفي العلو وتأويل الاستواء بالاستيلاء كقول المعتزلة (5) . 5- أما صفة الكلام، فأصل المذهب الذي كان عليه متقدمو الأشاعرة باق- وهو إثبات أزليته، والقول بالكلام النفسي، وكونه واحدا- وقد سار عليه المتأخرون، مع بعض الاختلافات في التفاصيل. هذه خلاصة أقوال الأشاعرة في الصفات بإجمال، وما لم يذكر فيما سبق فهو إما داخل في الصفات الفعلية فيتأولونها، أو داخل في الصفات الخبرية فتختلف أقوالهم فيها. ولشيخ الإسلام بعض التفصيلات حول أقوال الأشاعرة في الصفات، فمثلا يقول: "الإثبات في الجملة مذهب الصفاتية، من الكلابية، والأشعرية، والكرامية، وأهل الحديث، وجمهور الصوفية، والحنبلية، وأكثر المالكية، والشافعية- إلا الشاذ منهم- وكثير من الحنفية أو أكثرهم، وهو قول السلفية، لكن الزيادة في الإثبات إلى حد التشبيه هو قول "الغالية" من الرافضة، ومن جهل أهل الحديث، وبعض المنحرفين. وبين نفي الجهمية وإثبات المشبهة مراتب: فالأشعرية: وافق بعضهم في الصفات الخبرية. وجمهورهم وافقهم في الصفات الحديثية. وأما في الصفات القرآنية فلهم قولان: - فالأشعري والباقلاني وقدماؤهم يثبتونها. - وبعضهم يقر ببعضها.   (1) انظر ما سبق: (ص: 560) (2) انظر ما سبق: (ص: 563) (2) انظر ما سبق: (ص: 570-563) . (4) انظر ما سبق: (ص: 584) . (5) انظر ما سبق (ص: 602) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1037 وفيهم تجهم من جهة أخرى، فإن الأشعري شرب كلام الجبائي شيخ المعتزلة، ونسبته في الكلام إليه متفق عليها عند أصحابه وغيرهم، وابن الباقلاني أكثر إثباتا بعد الأشعري في الإبانة، وبعد ابن الباقلاني ابن فورك، فإنه أثبت بعض ما في القرآن. وأما الجويني- ومن سلك طريقتهـ فمالوا إلى مذهب المعتزلة؛ فإن أبا المعالي كان كثير المطالعة لكتب أبي هاشم، قليل المعرفة بالآثار، فأثر فيه مجموع الأمرين. والقشيري تلميذ ابن فورك، فلهذا تغلظ مذهب الأشعري من حينئذ، ووقع بينه وبين الحنبلية تنافر بعد أن كانوا متوالفين أو متسالمين ... " (1) ، ثم تحدث عن الحنابلة من مال منهم إلى مذهب الأشاعرة، ومن مال إلى الإثبات ثم قال:"ولا ريب أن الأشعرية الخراسانيين كانوا قد انحرفوا إلى التعطيل، وكثير من الحنبلية زادوا في الإثبات" (2) . وفي موضع يعرض لمذهب الأشاعرة في الصفات الخبرية ويقول بعد ذكر عدد من أعلامهم: " فما من هؤلاء إلا من يثبت من الصفات الخبرية ما شاء الله، وعماد المذهب: إثبات كل صفة في القرآن، أما الصفات التي في الحديث: فمنهم من يثبتها، ومنهم من لا يثبتها" (3) ، ويذكر شيخ الإسلام أيضا أن عامة قدماء الأشاعرة يثبتون الصفات المعلومة بالسمع، كما يثبتون الصفات المعلومة بالعقل، وأن المتأخرين كأبي المعالي وغيره لا يثبتون إلا الصفات العقلية، أما الخبرية فمنهم من ينفيها، ومنهم من يتوقف فيها كالرازي والآمدي. ثم بين أن نفاة الصفات الخبرية: منهم من يتأولها، وفهم من يفوض معناها (4) .   (1) مجموع الفتاوى (ص: 51-52) . (2) المصدر السابق (6/54) . (3) المصدر السابق (14/147-148) . (4) انظر: منهاج السنة (2/164-165) ،- المحققة-، ط دار العروبة. وانظر أيضا نقض التأسيس- الخطوط- (3/141-412) ، والمسألة المصرية في القرآن- مجموع الفتاوى (12/203) ، والرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز- مجموع الفتاوى (6/358-359) ، ومجموع الفتاوى (4/174) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1038 فالأشاعرة يدورون في الصفات بين الإثبات أو التأويل أو التفويض، ولاشك أن البون شاسع في ذلك بين المتقدمين والمتأخرين. وننتقل إلى الأمور التفصيلية في مذهبهم، سواء منها ما أثبتوه كالأسماء والصفات العقلية، أو ما أوله المتأخرون والمتقدمون كالصفات الاختيارية أو الخبرية أو غيرها مع ذكر مناقشات شيخ الإسلام لكل ذلك. أولا: أسماء الله تعالى : إثبات أسماء الله تعالى الواردة من مسلمات الأشاعرة، وقد حرصوا على التأليف فيها، وإن كان ذلك- في الغالب- بسبب ما حدث بين الأشاعرة والتصوف من ارتباط، وعناية الصوفية بأسماء اللهـ وما يزعمون من أسرارها- معروف. وممن كتب في أعاء الله ومعانيها من الأشاعرة: 1- أبو سليمان الخطابي، ضمن كتابه "شأن الدعاء" (1) . 2- الحليمي، ضمن كتابه "المنهاج في شعب الإيمان" (2) . 3- البيهقي، في كتابه "الأسماء والصفات" (3) . وقد اعتمد في شرحه على الكتابين السابقين. 4- القشيري في كتابه "شرح أسماء الله الحسني". 5- الغزالي في كتابه "المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى". 6- الرازي في كتابه "لوامع البينات، شرح أسماء الله تعالى والصفات". وهذه كلها مطبوعة، وللقرطبي كتاب مشهور في الأسماء والصفات لا يزال مخطوطا، كما أن لكل من أبي بكر بن العربي، والواحدي كتابا في هذا الموضوع. كما أن بعض الأشاعرة قد يشيرون إلى معاني أسماء الله في كتبهم (4) .   (1) (ص: 23-113) . (2) (1/187- 210) . (3) (ص: 3-95) . (4) كالجويني في الإرشاد (ص: 143-155) ، والبيهقي في الاعتقاد (ص: 54-69) ، وفي الجامع لشعب الإيمان (1/283-335) - ت عبد العلي حامد، والمجرد لابن فروك- (ص: 42-57) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1039 وليس للأشاعرة أقوال متميزة فيما يتعلق بأسماء الله تعالى في الجملة، وما يقع من خلاف في بعض مسائلها قد يشاركهم فيه غيرهم، ولذلك فلا داعي للاطالة في مباحث هذه المسألة، ويمكن الإشارة إلى أمرين: أحدهما: ما وافق فيه جمهور الأشاعرة جمهور السلف، ومن ذلك قولهم: 1- أن أسماء الله تعالى توقيفية، وقد ذكر ذلك غالب الأشاعرة، وخالف فيه الباقلاني (1) . بل بعض من ذكر أنها توقيفية خالف في ذلك عمليا فذكر بعض الأسماء التى لم ترد في الشرع- كما سيأتي-. 2- أن أسماء الله تعالى ليست جامدة، ولذلك حرص العلماء على شرحها، وبيان معانيها وذكر ما دلت عليه من صفات لله تعالى، وقد رد شيخ الاسلام وأغلظ على ابن حزم الذي زعم أن أسماء الله بمنزلة أسماء الأعلام التي لا تدل على معنى (2) . 3- أن أسماء الله تزيد على التسعة والتسعين، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة، خلافا لابن حزم وطائفة. وما ورد من ذكر تعداد التسعة والتسعين فهو من ادراج بعض الرواة (3) . والحديث بأصله، وبزياداتهـ لو صحت-   (1) انظر: المقصد الأسنى للغزالي (ص: 167) ، وشأن الدعاء (ص: 111) ، ولوامع البينات للرازي (ص: 36) ، وانظر: المجرد لابن فورك (ص: 42) . (2) انظر: شرح الأصفهانية (ص: 76-77) - ت مخلوف-. (3) انظر: مجموع الفتاوى (6/379-382، 22/481-486) ، ودرء التعارض (3/332) . وحديث "إن لله تسعة وتسعين إسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة" منفق عليه: البخاري، كتاب الشروط، باب ما يجوز من الاشتراط، ورقمه (2736) (الفتح 5/354) ، وكتاب الدعوات، باب لله مئة اسم غير واحدة، ورقمه (6410) الفتح (11/211) ، وكتاب التوحيد، باب إن لله مئة اسم إلا واحدة، ورقمه (7392) (الفتح 13/377) . ومسلم كتاب الذكر والدعاء، باب في أسماء الله تعالى، ورقمه (2677) . أما الرواية التي فيها تعداد الأسماء فقد رواها الترمذي، أبواب الدعوات، ورقمه (3574) في طبعة عمان و (3507) في ط إبراهيم عطوة. وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب أسماء الله ورقمه (3861) ، وابن حبان ورقمه (805، 88-89) من الإحسان، والحاكم (1/16-17) ، والبغوي في شرح السنة (5/32) ، والبيهقي في الجامع لشعب الايمان (1/277) وفي الأسماء والصفات (ص: 5) . وهي روايات ضعيفة، وقد رجح العلماء أن تعداد الأسماء من إدراج بعض الرواة، انظر: فتح الباري (11/215) ، = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1040 لا تعارض ذلك، وقوله "من أحصاها" المقصود به أن هذه الأسماء من أحصاها دخل الجنة، وليس معناه أنه ليس له اسم إلا هذه، كما هو واضح (1) . وثانيهما: أن بعض الأشاعرة خالفوا جمهور السلف في بعض المسائل، ومن ذلك: 1- أن بعض الأشاعرة أطلقوا بعض الأسماء لله وإن لم يرد بها نص ولا إجماع، وذلك كاسم القديم، والذات وغيرها (2) . وقد ناقش شيخ الإسلام هؤلاء ذاكرا الخلاف في ذلك فقال: إن المسلمين في أسماء الله تعالى على طريقتين: كثيير منهم يقول: إن أسماءه سمعية شرعية، فلا يسمى إلا بالأسماء التي جاءت بها الشريعة، فإن هذه عبادة، والعبادات مبناها على التوقف والاتباع. ومنهم من يقول: ما صح معناه في اللغة، وكان معناه ثابتا له لم يحرم تسميته به، فإن الشارع [لم (3) ] ، يحرم علينا ذلك فيكون عفوا. والصواب القول الثالث: وهو أن يفرق بين أن يدعى بالأسماء، أو يخبر بها عنه؛ فإذا دعى لم يدع [إلا (4) ] بالأسماء الحسنى كما قال تعالى: "وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ" [الأعراف: 180] ، وأما الإخبار عنه فهو بحسب الحاجة، فإذا احتيج في تفهيم الغير المراد   = وبلوغ المرام- كتاب الأيمان والنذور (2/326-327) مع حاشية الدهلوي. ط المكتب الاسلامي حيث قال ابن حجر: "والتحقيق أن سردها إدراج من بعض الرواة، وانظر سبل السلام (4/1443) - تحليق الخولي-، حيث قال الصنعاني: "اتفق الحفاظ من أئمة الحديث أن سردها من بعض الرواة". وقال ابن القيم في مدارج السالكين (3/415) : "والصحيح أنه ليس من كلام- النبي صلى الله عليه وسلم-". فالراجح ضعفه وإن كان النووي قد حسنه في الأذكار- آخر "كتاب ما يقوله إذا دخل في الصلاة " ورقمه (269) (ص: 185) - ت محي الدين مستو-، وانظر النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى، وتأليف محمد بن حمد الحمود، ج- 1 ص: 52-56) ، مكتب المعلا- الكويت. (1) انظر: شأن الدعاء (ص: 24-25) ، وفتح الباري (11/220) ، وبدائع الفوائد (1/188) . (2) انظر: المنهاج في شعب الإيمان (1/188) ، والأسماء والصفات للبيهقي (ص: 9) ، والمقصد الأسنى للغزالي (ص: 165) ، ولوامع البينات للرازي (ص: 355-356) . (3) في المطبوعة من الجواب الصحيح بدون [لم] والسياق يقتضيها. (4) في المطبوعة من الجواب الصحيح بدون [إلا] والسياق يقتضيها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1041 إِلى أن يترجم أسماؤه بغير العربية، أو يعبر باسم له معنى صحيح لم يكن ذلك محرما" (1) ، ويقول في موضع آخر بعد ترجيح ما ذكره في القول الثالث قال: "وإما إذا احتيج إلى الإخبار عنه مثل أن يقال: ليس هو بقديم ولا موجود، ولا ذات قائمة بنفسها، ونحو ذلك، فقيل في تحقيق الإثبات: بل هو سبحانه قديم، موجود، وهو ذات قائمة بنفسها، وقيل: " ليس بشيء" فقيل: بل هو شيء. فهذا سائغ وإن كان لا يدعى بمثل هذه الأسماء التى ليس فيها ما يدل على المدح كقول القائل: يا شيء ... " (2) . فهذا التفريق الدقيق الذي ذكره شيخ الإسلام بين الدعاء والإخبار هو الذي يفصل في الأمر، والمتكلمون إنما ذكروا بعض الأسماء التى لم ترد بسبب خوضهم في علوم الكلام واصطلاحات الفلاسفة فاضطروا إلى مجاراتهم حتى لا ينفوا عن الله ما هو ثابت له لأجل أنه اصطلاح حادث. 2- من المسائل المشهورة في هذا الباب مسألة: هل الاسم هو المسمى أو غيره، والمعروف أن الجهمية حرصوا على تقرير أن الاسم غر المسمى ليسلم لهم مذهبهم الفاسد القائل بخلق القرآن. فقابلهم البعض فقالوا: بل الاسم هو المسمى، حتى لا يقال: إن أسماء الله غير الله، وهذا قول بعض المنتسبين إلى السنة. وقد ذكر شيخ الإسلام عدة أقوال في هذه المسألة، وهي: 1) أن الاسم غير المسمى، وهذا قول الجهمية، الذين يقولون: إن أسماء الله غير الله، وما كان غير فهو مخلوق (3) . 2) التوقف والامساك عن إطلاق مثل هذه العبارات نفيا وإثباتا، وأن كلا من الإطلاقين بدعة، وقد ذكر هذا الخلال عن إبراهيم الحربي وغيره، وكما ذكره أبو جعفر الطبري في صريح السنة (4) ، وعده من الحماقات.   (1) الجواب الصحيح (3/203) - ط المدني. (2) مجموع الفتاوى (9/301) ، وانظر: درء التعارض (1/297-298) ، وبدائع الفوائد لابن القيم (1/182) . (3) انظر: المقالات للأشعري (ص: 172) . (4) (ص: 26-27) ، ونسب الأشعري هذا القول إلى بعض أصحاب ابن كلاب، المقالات (ص: 172) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1042 3) أن الاسم هو المسمى، وهذا قول كثير من المنتسبين إلى السنة، مثل أبي بكر عبد العزيز، وأبي القاسم الطبرى، واللالكائي (1) ، وأبي محمد البغوي في شرح السنة (2) . وغيرهم. وهو أحد قولي أصحاب أبي الحسن الأشعري (3) ، اختاره أبو بكر بن فورك وغيره. 4) والقول الثاني- وهو المشهور عن أبي الحسن الأشعري- أن الأسماء ثلاثة أقسام: تارة يكون الاسم هو المسمى، كاسم الموجود. وتارة يكون غير المسمى، كاسم الخالق. وتارة لا يكون هو ولا غيره كاسم العليم والقدوس (4) . 5) أن الاسم للمسمى، كما يقوله أكثر أهل السنة، فهؤلاء وافقوا الكتاب والسنة والمعقول لقوله تعالى: "وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى" [الأعراف: 180] وقال: "أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى" [الإسراء: 110] . وهؤلاء إذا قيل لهم: هل الاسم هو المسمى أو غيره؟ "فصلوا فقالوا: ليس هو نفس المسمى، ولكن يراد به المسمى، وإذا قيل: إنه غيره بمعنى أنه يجب أن يكون مباينا. فهذا باطل؟ فإن المخلوق قد يتكلم بأسماء نفسه فلا تكون بائنة منه، فكيف بالخالق، وأسماؤه من كلامه، وليس كلامه بائنا عنه، ولكن قد يكون الاسم نفسه بائنا، مثل أن يسمى الرجل غيره باسم، أو يتكلم باسمه، فهذا الاسم نفسه ليس قائما بالمسمى، لكن المقصود به المسمى، فإن الاسم مقصوده اظهار المسمى وبيانه" (5) .   (1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (2/204) وما بعدها. (2) (5/29) . (3) ذكر الأشعري عن أهل الحديث أنهم يقولون: إن أسماء الله لا يقال هي غيره، وأنهم يقولون: أسماء الله هي الله. المقالات (ص: 293،290،172) - ريتر. (4) ذكر هذا القول والذي قبله البيهقي في الجامع لشعب الإيمان (1/336-337) ، وانظر: الاعتقاد (ص: 71- 72) . (5) قاعدة في الاسم والمسمى- مجموع الفتاوى (6/207) ، وانظر حول الأقوال السابقة قبل ذلك (ص: 185-206) . ولشارح الطحاوية تلخيص جهد للمذهب الحق في هذه المسألة انظره (ص: 131) - ط الرابعة- المكتب الإسلامي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1043 فالأشاعرة لهم قولان ضعيفان (1) وقد ناقشهما شيخ الإسلام وبين ضعفهما: ومن ردوده على من قال منهم: إن الاسم هو المسمى قوله: "قلت لو اقتصروا على أن أسماء الشيء إذا ذكرت في الكلام فالمراد بها المسميات- كما ذكروه في قوله "يَا يَحْيَى" [مريم: 12] ونحو ذلك- لكان ذلك معنى واضحا، لا ينازعه فيه من فهمه، لكن لم يقتصروا على ذلك، ولهذا أنكر قولهم جمهور الناس من أهل السنة وغيرهم لما في قولهم من الأقوال الباطلة، مثل دعواهم أن لفظ اسم الذي هو (أ، س، م) معناه ذات الشيء ونفسه، وأن الأسماء- التي هى الأسماء- مثل زيد وعمرو هى التسميات، ليست هي أسماء المسميات، وكلاهما باطل مخالف لما يعلمه جميع الناس من جميع الأمم ولما يقولونه ... وأيضا فهم تكلفوا هذا التكليف ليقولوا: إن اسم الله غير مخلوق، ومرادهم أن الله غير مخلوق وهذا مما لا تنازع فيه الجهمية والمعتزلة؛ فإن أولئك ما قالوا الأسماء مخلوقة إلا لما قال هؤلاء هي المسميات. فوافقوا الجهمية والمعتزلة في المعنى، ووافقوا أهل السنة في اللفظ، ولكن أرادوا به ما لم يسبقهم أحد إلى القول به من أن لفظ اسم وهو (ألف، سين، ميم) معناه إذا أطلق هو الذات المسماة، بل معنى هذا اللفظ هى الأقوال التي هى أسماء الأشياء، مثل زيد وعمرو، وعالم وجاهل، فلفظ الاسم لا يدل على أن هذه الأسماء هى مسماة ... (2) " إلى آخر مناقشته لهم. ثم ذكر أن أهل القول الثاني من الأشاعرة- الذي قسموا الأسماء إلى ثلاثة أقسام- " غلطوا من وجه آخر؛ فإنه إذا سلم لهم أن المراد بالاسم الذي هو (ألف، سين، ميم) هو مسمى الأسماء فاسمه الخالق هو الرب الخالق نفسه، ليس هو المخلوقات المنفصلة عنه، واسمه العليم هو الرب العليم، الذي العلم صفة له، فليس العلم هو المسمى، بل المسمى هو العليم، فكان الواجب أن يقال على أصلهم: الاسم هنا هو المسمى وصفته، وفي الخالق الاسم هو المسمى وفعله،   (1) نسب ابن فورك في المجرد إلى الأشعري أنه يقول: أن الاسم غير المسمى، مع مخالفته ورده على الجهمية، انظر: المجرد (ص: 38-39) . (2) قاعدة في الاسم والمسمى- مجموع الفتاوى (6/191-192) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1044 ثم قولهم: ان الخلق هو المخلوق، وليس الخلق فعلا قائما بذاته، قول ضعيف، مخالف لقول جمهور المسلمين" (1) . وبهذا يتبين أن القول الخامس هو القول الراجح وأن الاسم للمسمى، وأنه لابد من الاستفصال عن المقصود لمن قال: الاسم هو المسمى أو غيره. 3- يلاحط على كتب الأشاعرة التى شرحت أسماء الله تعالى أنها مع أنها تثبت هذه الأسماء وما دلت عليه من الصفات، إلا أنها عند تفصيل القول في هذه الصفات تشرحها بما يوافق معتقدها، فإذا كان الاسم دالا على صفة يؤولونها نفوا دلالة الاسم على هذا المعنى الذي ينفونه وإن كان موافقا لمذهب السلف، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومن أبرزها- مثلا- اسم تعالى: "العلى" فكل من شرح هذا الاسم من الأشاعرة المتأخرين فسروه بعلو الشرف والمكانة، وغير ها، ونفوا دلالته على إثبات علو الله على خلقه، ونصوا على نفي هذا المعنى عند شرحهم له (2) . وقد ذكر شيخ الإسلام أن الكلام في تفسير أسماء الله وصفاته وكلامه فيه من الغث والسمين ما لا يحصيه إلا الله (3) . ولذلك فقد ناقش الأشاعرة في بعض الأسماء التى أولوها، ومن ذلك: أ- اسمه تعالى " النور" فقد أطال-رحمه الله- في مناقشة الأشاعرة الذي نفوا هذا الاسم عن الله، وأولوه بأن المقصود الهادى، أو منور السموات أو غيرها، وبين أن اثبات هذا الاسم لله تعالى كما يليق بجلاله وعظمته، وأنه تعالى نور هو مذهب السلف رحمهم الله تعالى. وقد كانت ردوده على من تأول هذا الاسم كالرازى (4) وغيره كما في:   (1) قاعدة في الاسم والمسمى- مجموع الفتاوى (6/201-202) . (2) انظر حول هذا الاسم: شأن الدعاء للخطابي (ص: 66) ، وشرح أسماء الله للقشيري (ص: 150) ، والمقصد الأسنى للغزالي (ص: 108) ، ولوامع البينات للرازي (ص: 259) . (3) انظر: مجموع الفتاوى (6/388) . (4) في أساس التقديس (ص: 79-80) - ط الحلبي-. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1045 1- أن أئمة السلف أثبتوا هذا الاسم لله تعالى، كالإمام أحمد، والدارمي، وابن خزيمة وغيرهم (1) . 2- أن هذا هو قول الصفاتية كابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابهما، وقد أيد شيخ الإسلام ذلك بنصوص من أقوال ابن كلاب (2) ، والأشعري في الإبانة (3) . 3- أن الرازي اتبع في تأويله الجويني، والجويني هو الذي غير المذهب الأشعري وقربه من مذهب المعتزلة (4) ، وقد فسر الجويني النور بالهادي (5) . 4- أن زعم هؤلاء أن تفسير النور بالهادي مروي عن ابن عباس رضى الله عنهما- جوابه من وجوهـ: - أنها من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وهي رواية ضعيفة معروفة بالانقطاع (6) . - أن الثابت عن ابن عباس إثبات النور لله (7) . - وما ورد عن ابن عباس- إن ثبت- فقد يكون رواية بالمعنى، أو ورد عنه، لكنه لم يكن يقصد نفي أن الله نور، وإنما قصد- كعادة السلف في تفسيرهم- ذكر بعض صفات المفسر من الأسماء، أو بعض أنواعه، فهو من اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد (8) .   (1) انظر: نقض التأسيس- مخطوط- (3/24-25، 36-39) . (2) انظر: المصدر السابق (3/29-32) ، وانظر: مجموع الفتاوى (6/379) . (3) انظر: المصدر السابق (3/40) ، وهو في الإبانة (ص: 117) - ت فوقية-. (4) انظر: نقض التأسيس- مخطوط- (3/35) . (5) في الإرشاد (ص: 155) ، وانظر: المصدر السابق- الصفحة نفسها. (6) انظر: نقض التأسيس- مخطوط- (3/41-42) ، وانظر: مجموع الفتاوى (6/389، 393) . (7) انظر: نقض التأسيس- مخطوط- (3/43) . (8) انظر: مجموع الفتاوى (6/390- 391) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1046 5- بل ذكر شيخ الإسلام أن إثبات أن الله نور هو قول قدماء الجهمية كالمريسي وغيرهـ الذي هو إمام الرازي في تأويلاتهـ ولذلك لما سألهم الإمام أحمد عن الله، قالوا: هو نور كله، يقول شيخ الإسلام: " إن كونه نورا أو تسميته نورا مما لم يكن ينازع فيه قدماء الجهمية وأئمتهم الذين ينكرون الصفات (1) "، ثم نقل كلام الإمام أحمد، ثم قال: فإذا "كان أئمة المؤسس وقدماء أهل مذهبه يقولون: إنه نور، فكيف يدعي الإجماع على خلاف ذلك" (2) . 6- كما رد على المؤولة بوجوه أخرى، وبأدلة من الكتاب والسنة (2) . ب- اسمه تعالى " الصمد ": حيث أنكر الرازي (4) التفسير المأثور عن السلف من أنه الذي لا جوف له، لأنهـ على زعمهـ صفة الأجسام الغليظة. ثم تأول هذا الاسم، وقد رد عليه شيخ الإسلام من نحو سبعة وثلاثين وجها، ناقلا أقوال السلف وأئمة التفسير في معنى هذا الاسم، كما انتقد تفسير بعض الأشاعرة للصمد بأنه الذي يصمد إليه في الحوائج، ونفيهم للمعنى الثاني الذي هو أشهر من هذا وهو أنه الذي لا جوف له، وذلك مثل الغزالي (5) ، والخطابي (6) ، والقشيري (7) ، وغيرهم (8) . ب-كما انتقد شيخ الإسلام ما ذكره الأصفهاني في عقيدته من تسمية الله ب- " مريد ومتكلم" (9) ، كما رد على الباقلاني الذي نفي أن يكون من أسمائه   (1) نقض التأسيس- مخطوط- (3/26) . (2) المصدر السابق (3/28) . (3) انظر: مجموع الفتاوى (6/392-394) . (4) في أساس التقديس (ص: 94-95) - ط الحلبي. (5) المقصد الأسنى (ص: 134) ، وهو ما رجحه الزجاج فى تفسير أسماء الله (ص 85) . (6) شأن الدعاء (ص: 85) . (7) شرح أسماء الله الحسنى (ص: 218) ، وقد ذكر أن من الأقوال في الصمد أنه الذي لا جوف له، ولكنه صحح أنه الذي يصمد إليه في الحوائج. (8) انظر: نقض التأسيس- مخطوط- (3/93-94) . (9) انظر: شرح الأصفهانية (ص: 5) - ت مخلوف-، وممن سماه أيضا بالمريد والمتكلم الغزالي في المقصد الأسنى (ص: 165) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1047 الدليل (1) ، كما وافق الخطابي على أن الراجح في "الدهر": أنه ليس من أسماء الله، وإن كان في ذلك قولان مشهوران للحنابلة (2) . هذا هو رأي شيخ الإسلام في مذهب الأشاعرة في أسماء الله تعالى، وقد بقيت مسألة مهمة وهى أن الأسماء التي سمى الله بها نفسه، وسمى عباده بها، هل هى من قبيل المشترك او المتواطىء؟ وسيتم بحثها- مع ما يماثلها من الصفات - ضمن مباحث الفقرة التالية- إن شاء اللهـ.   (1) انظر: مجموع الفتاوى (22/483-484) . (2) انظر: شأن الدعاء (ص: 107-109) ، والقولان المشهرران وأحدهما: قول أبي عبيد وأكثر العلماء أن حديث " لا تسبوا الدهر ... " خرج الكلام فيه لرد ما يقوله أهل الجاهلية ومن أشبههم، حيث يسبون الدهر والزمان ويقصدون من فعل تلك الأمور فيرجع السب على الله تعالى. والثاني: قول نعيم بن حماد وطائفة معه من أهل الحديث والصوفية أن الدهر من أسماء الله ومعناه القديم الأزلي. انظر: غريب الحديث لأبي عبيد (2/145-148) وقال بعد أن ذكر الوجه الأول: لا أعرف وجها غيره. وانظر: مجموع الفتاوى (2/493-494) ، ونقض التأسيس- مطبوع- (4/124-126) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1048 ثانيا: الصفات التي أثبتها الأشاعرة : والمقصود بالصفات الصفات السبع التي أثبتها جميع الأشاعرة، متقدموهم ومتأخروهم، وهي: العلم، والقد رة، والإرادة، والكلام، والسمع، والبصر، والحياة، وهي الصفات التى يسمونها صفات المعاني أو الصفات المعنوية، ويجعلونها في مقابل الصفات النفسية- أو الذاتية- مثل كون الرب موجودا، وقائما بنفسه، وقديما عند بعضهم، ويضيفون إليها قسما ثالثا وهو الصفات الفعلية، وقد انتقد شيخ الإسلام هذا التقسيم عندهم (1) . وإثبات الأشاعرة لهذه الصفات- ولغيرها- جعلهم يدخلون ضمن دائرة الصفاتية المثبتة في الجملة، خلافا للجهمية والمعتزلة النفاة، ولكن مذهب الأشاعرة في الصفات الأخرى، كالصفات الاختيارية وغيرها أثر على تفاصيل أقوالهم في هذه الصفات السبع الني أثبتوها، ولذلك فقد كان لشيخ الإسلام بعض الملاحظات والردود، ويمكن إجمالها من خلال المسائل التالية:   (1) أوضح شيخ الإسلام سبب هذا التقسيم عندهم، ثم انتقده، فقال: "والذين فرقوا بين الصفات النفسية والمعنوية قالوا: القيام بالنفس والقدم- ونحو ذلك من الصفات النفسية- بخلاف العلم والقدرة، فانهم نظروا إلى مالا يمكن تقدير الذات في الذهن بدون تقديره، فجعلوه من النفسية، وما يمكن تقديرها بدونه فجعلوه معنويا، ولا ريب أنه لا يعقل موجود، قائم بنفسه، ليس قائما بنفسه، بخلاف ما يقدر أنه عالم، فإنه يمكن تقدير ذاته بدون العلم. وهذا التقدير عاد إلى ما قدروه في أنفسهم، وإلا ففي نفس الأمر جميع صفات الرب اللازمة له هي صفات نفسية ذاتية فهو عالم بنفسه وذاته وهو عالم بالعلم وهو قادر بنفسه وذاته، وهو قادر بالقدرة، فله علم لازم لنفسه، وقدرة لازمة لنفسه، وليس ذلك خارجا عن مسمى اسم نفسه، (درء التعارض 3/21-22) ، وانظر بقية الرد والمناقشة إلى (ص: 28) من هذا الجزء، وانظر أيضا (ص: 322-333) منه. وفي موضع آخر قال عن الأشاعرة وهو يتحدث عن صفات الأفعال وقول الأشاعرة: إن الفعل هو المفعول: "وهؤلاء يقسمون الصفات إلى ذاتية، ومعنوية، وفعلية، وهذا تقسيم لا حقيقة له؛ فإن الأفعال عندهم لا تقوم به، فلا يتصف بها، لكن يخبر عنه بها، وهذا التقسيم يناسب قول من قال: الصفات هي الأخبار التي يخبر بها عنه، لا معاني تقوم به، كما تقول ذلك الجهمية والمعتزلة ... وأما من كان مراده كالصفات ما يقوم به فهذا التقسيم لا يصلح له على أصلهم، ولكن أخذوا التقسيم عن أولئك وهم مخالفون لهم في المراد بالصفات" (مجموع الفتاوى 16/374) ، وانظر: منهاج السنة (2/295) - المحققة-. ط دار العروبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1049 المسألة الأولى: طرق إثبات هذه الصفات: يوافق شيخ الإسلام متقدمي الأشعرية- كالأشعري والباقلاني وغيرهما- على إثبات هذه الصفات بالعقل (1) ، كما أنها ثابتة بالسمع، ومع ذلك فقد رد على الأشاعرة المتأخرين قي عدة أمور، منها: أحدها: جعلهم القول في الصفات من الأصول العقلية، خلافا للأشعري وأئمة أصحابه الذين يحتجون عليها بالسمع كا يحتجون بالعقل (2) . الثاني: قول بعضهم "إن الصفات الثابتة بالعقل هي التي يجب الإقرار بها، ويكفر تاركها، بخلاف ما ثبت بالسمع، فإنهم تارة ينفونه وتارة يتأولونه ويفوضون معناه، وتارة يثبتونه لكن يجعلون الإيمان والكفر متعلقا بالصفات العقلية، فهذا لا أصل له عن سلف الأمة وأئمتها، إذ الإيمان والكفر هما من الأحكام التى تثبت بالرسالة. وبالأدلة الشرعية يميز بين المؤمن والكافر لا بمجرد الأدلة العقلية" (3) ، وورى شيخ الإسلام أن قولهم إن أصول الدين هي التي تعرف بالعقل، ثم قولهم: إن المخالف لها كافر، مقدمتان باطلتان، والجمع بينهما تناقض لأن ما لا يعرف إلا بالعقل لا يعلم أن مخالفه كافر الكفر الشرعي، لأنه لم يرد في الشرع أن من خالف ما لا يعلم إلا بالعقل فهو كافر (4) . الثالث: تفريق بعض المتأخرين كالرازي والأصفهاني- صاحب العقيدة التي شرحها شيخ الإسلام- بين هذه الصفات السبع في طرق ثبوتها، حيث أثبتوا بعضها بالعقل، وبعضها بالسمع فقط، يقول شيخ الإسلام في شرح الأصفهانية: "لكن المصنف سلك في ذلك طريقة أبي عبد الله الرازي، فأثبت   (1) من الأمثلة على إثبات شيخ الإسلام الصفات السبع بالعقل ما ذكر في تفسير سورة العلق. انظر: مجموع الفتاوى (16/353-355) . أما إثبات الأشاعرة لها فانظر ما سبق في الباب الماضي (ص: 419-420، 537) . (2) انظر: درء التعارض (5/328) . (3) مجموع الفتاوى (3/328) . (4) انظر: درء التعارض (1/242) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1050 العلم والقدرة والارادة والحياة بالعقل، وأثبت السمع والبصر والكلام بالسمع، ولم يثبت شيئا من الصفات الخبرية. وأما من قبل هؤلاء كأبي المعالي الجويني وأمثاله، والقاضى أبي يعلى وأمثاله، فيثبتون جميع هذه الصفات بالعقل، كما كان يسلكه القاضي أبو بكر ومن قبله كأبي الحسن الأشعري وأبي العباس القلانسي ومن قبلهم كأبي محمد بن كلاب والحارث المحاسبي وغيرهما. وهكذا السلف والأئمة كالإمام أحمد بن حنبل وأمثاله، يثبتون هذه الصفات بالعقل كما ثبتت بالسمع وهذه الطريقة أعلى وأشرف من طريقة هؤلاء المتأخرين (1) "، ومنهج شيخ الإسلام أن كثيرا من الصفات- غير الصفات السبع- قد يعلم بالعقل، مثل الحب والرضا والغضب، والعلو والرؤية (2) . ثم إن شيخ الإسلام مع موافقته للأشعرية في أن الصفات السبع يدل عليها العقل، كما قد دل عليها السمع، إلا أنه يرد عليهم منهجهم في إثبات هذه الصفات، حيث إنهم أثبتوها أولا لأن العقل دل عليها، ثم إنهم لما وجدوا أن السمع وافق العقل في هذا احتجوا به، وليس هذا هو منهج السلف الصالح- رحمهم اللهـ الذي يقوم على الإقرار بما ورد في الكتاب والسنة وإن لم نعلمه بعقولنا، يقول شيخ الإسلام: " إن وجوب تصديق كل مسلم بما أخبر الله به ورسوله من صفاته ليس موقوفا على أن يقوم (3) دليل عقلي على تلك الصفة بعينها، فإنه مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرسول-صلى الله عليه وسلم- إذا أخبرنا بشيء من صفات الله تعالى وجب علينا التصديق به وإن لم نعلم ثبوته بعقولنا. ومن لم يقر بما جاء به الرسول حتى يعلمه بعقله فقد أشبه الذين قال الله عنهم: "قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ" [الأنعام: 124] ، ومن سلك هذا السبيل فهو في الحقيقة ليس مؤمنا بالرسول، ولا متلقيا عنه الأخبار بشأن الربوبية، ولا فرق عنده بين أن يخبر الرسول بشيء من ذلك، أو لم يخبر به، فإن ما أخبر به إذا لم يعلمه لا يصدق به، بل يتأوله   (1) شرح الأصفهانية (ص: 8-9) - ت مخلوف - وانظر: مجموع الفتاوى (2/32) . (2) انظر: التدمرية (ص: 149- 150) - المحققة. (3) في المطبوعة- ت مخلوف، (يقوم عليه دليل) والتصويب من المحققة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1051 أو يفوضه، وما لم يخبر به إن علمه بعقله آمن به وإلا فلا" (1) . وهذا المنهج أثر على الأشاعرة في بقية الصفات التي دل عليها السمع ولكن عقولهم أو أصولهم العقلية خالفتها، فكانت النتيجة كما أشار شيخ الإسلام- النفي والإنكار، بالتأويل أو التفويض. ومن الأدلة المشهورة على إثبات هذه الصفات لله تعالى، أن هذه الصفات من صفات الكمال، والعقل دل على اتصاف الله بصفات الكمال، وعلى نفي أضداده من النقائص، ومن الأدلة أيضا: أن كل كمال ثبت للمخلوق- إذا لم يكن فيه نقص بوجه ما- فالخالق أحق به، لأنه هو الذي خلقه (2) . ومع وضوح هذا الاستدلال إلا أن بعض الأشاعرة- كالجويني والرازي والآمدي- قالوا في إثبات صفات الكمال لله ونفي النقائص: إن ذلك لا يعلم إلا بالسمع الذي هو الإجماع (3) ، وجعلوا الطريق الذي نفوا عنه ما نفوه إنما هو نفي مسمى الجسم، ونحو ذلك، يقول شيخ الإسلام عن هؤلاء إنهم: "خالفوا ما كان عليه شيوخ متكلمة الصفاتية كالأشعري، والقاضي أبي بكر، وأبي إسحاق، ومن قبلهم من السلف والأئمة في إثبات السمع والبصر والكلام له بالأدلة العقلية فى إثبات هذه الصفات على مجرد السمع ويقولون: إذا كنا نثبت هذه الصفات بناء على نفي الآفات، ونفي الآفات إنما يكون بالإجماع الذي هو دليل سمعي، والإجماع إنما يثبت بأدلة سمعية من الكتاب والسنة، قالوا: والنصوص المثبتة للسمع والبصر والكلام أعظم من الآيات الدالة على كون الإجماع حجة، فالاعتماد في إثباتها ابتداء على الدليل السمعي الذي هو القرآن أولى وأحرى " (4) .   (1) شرح الأصفهانية (ص: 30- 31) - ت السعوي-، و (ص: 12) - ت مخلوف-. (2) انظر: شرح الأصفهانية (ص: 85-87) - ت مخلوف-. ودرء التعارض (4/76) ، 10/153-156) ، ومجموع الفتاوى (6/228) . (3) انظر: الإرشاد للجويني (ص: 74) ، والأربعين للرازي (ص: 172-174) . (4) الرسالة الأكملية- مجموع الفتاوى (6/73-74) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1052 فهذا الدليل الذي ذكره شيخ الاسلام- وضعفه هؤلاء وأحالوا على السمع - هو الدليل المشهور بقياس الأولى الذي جاء به القرآن- وقد سبق شرحه (1) - ويبين شيخ الإسلام إن "كل كمال - لا نفص فيه بوجهـ ثبت للمخلوق فالخالق أحق به من وجهين: أحدما: أن الخالق الموجود الواجب بذاته القديم أكمل من المخلوق القابل للعدم، المحدث المربوب. الثاني: أن كل كمال فيه فإنما استفاده من ربه وخالقه، فإذا كان هو مبدعا للكمال وخالقا له كان من المعلوم بالاضطرار أن معطي الكمال وخالقه ومبدعه أولى بأن يكون متصفا به" (2) . والعجيب من هؤلاء الأشاعرة المتأخرين إذا جاء دليل العقل من منطق اليونان وفلاسفته، أو أئمة الجهمية، صدقوا به وأخضعوا له النصوص، وإذا جاء دليل العقل من الكتاب والسنة- بقياس الأولى وضرب الأمثال- قالوا لا حجة فيه، ثم أحالوا على أدلة أخرى من السمع وغيره؟. المسألة الثانية: الصفات السبع وحلول الحوادث: وهذه المسألة من أهم المسائل المتعلقة بالصفات السبع التي أثبتها الأشاعرة، لأنها توضح جانبا مهما من جوانب دلالة هذه الصفات وقع فيه الأشاعرة بخطأ جسيم، نظرا لضلالهم في مسائل أخرى في باب الصفات مثل الصفات الاختيارية لله تعالى. وبيان ذلك أن الأشاعرة يقولون بنفي حلول الحوادث بذات الله تعالى، أي نفي ما يتعلق بالله من الصفات الفعلية والاختيارية التي تقوم بذاته، وهذا قالوه بناء على دليل حدوث الأجسام، وأن ما حلت به الحوادث فهو حادث.   (1) (ص: 282-283) . (2) شرح الأصفهانية (ص: 86) - ت مخلوف- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1053 ثم إن الأشاعرة مع قولهم بهذا وتقريرهم له أثبتوا لله الصفات السبع، فوجدوا أن هذه الصفات- ما عدا صفة الحياة- يلزم من إثباتها حلول الحوادث بالله، لأنه مع وجود المخلوقات توجد معلومات ومرادات ومسموعات ومبصرات، ومقدرات، وكذا إذا كلم بعض رسله أو أوحى اليهم، وصلة هذه بالله تعالى يلزم منها ما يسمونه بحلول الحوادث بالله تعالى، لأن علم الله بالشيء بعد وجوده ليس هو نفس علمه قبل وجوده، لم يتجدد له فيه نعت ولا صفة، وإلا صار جهلا، وهكذا بقية الصفات. فالأشاعرة حلوا هذه المعضلة- بزعمهم- بأن قالوا بأزلية هذه الصفات، وأنها لازمة لذات الله أزلا وأبدا، وقالوا إنه لا يتجدد لله عند وجود هذه الموجودات نعت ولا صفة، وإنما يتجدد مجرد التعلق بين العلم والمعلوم فقط. وهؤلاء قد خالفوا المعقول والمنقول، لأن العلم بالشيء بعد وجوده ليس كالعلم به قبل وجوده، وقد ذكر الله تعالى علمه بما يكون في بضعة عشر موضعا، مع أنه تعالى قد أخبر أن علمه قد أحاط بكل شيء قبل كونه. ونضرب أمثلة لمناقشات شيخ الإسلام لهؤلاء في هذه المسألة، في صفة العلم، والإرادة، والسمع والبصر، أما صفة الكلام وهي أوضحها في هذا الباب فسيأتي لها مبحث مستقل إن شاء الله. أ- صفة "العلم" (1) . يقول شيخ الإسلام موضحا الخلاف في علم الله وتعلقه بالمستقبل: "الناس المنتسبون إلى الإسلام في علم الله باعتبار تعلقه بالمستقبل على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يعلم المستقبلات بعلم قديم لازم لذاته، ولا يتجدد له عند وجود المعلومات نعت ولا صفة، وإنما يتجدد مجرد التعلق بين العلم والمعلوم،   (1) الأدلة النقلية على إثبات صفة العلم كثيرة، أما أدلة العقل فقد قررها شيخ الإسلام بعدة طرق، انظر: درء التعارض (10/113-126) ، وشرح الأصفهانية (ص: 24-26) - ت مخلوف-. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1054 وهذا قول طائفة من الصفاتية من الكلابية والأشعرية، ومن وافقهم من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة، وهو قول طوائف من المعتزلة وغيرهم من نفاة الصفات، لكن هؤلاء يقولون: يعلم المستقبلات ويتجدد التعلق بين العالم والمعلوم، لا بين العلم والمعلوم. وقد تنازع الأولون: هل له علم واحد أو علوم متعددة؟ على قولين: والأول قول الأشعري وأكثر أصحابه، والقاضي أبي يعلى وأتباعه، ونحو هؤلاء. والثاني قول أبي سهل الصعلوكي. والقول الثاني: أنه لا يعلم المحدثات إلا بعد حدوثها، وهذا أصل قول القدرية الذين يقولون: لم يعلم أفعال العباد إلا بعد وجودها وأن الأمر أنف، لم يسبق القدر لا شقاوة ولا سعادة، وهم غلاة القدرية ... . والقول الثالث: أنه يعلمها قبل حدوثها، ويعلمها بعلم آخر حين وجودها" (1) . وهذا قول السلف، وهو قول أبي البركات صاحب المعتبر من الفلاسفة، وقول الرازي في المطالب العالية، وهو مخالف لما ينسب إلى الجهم الذي يقول بتجدد علم قبل الحدوث، والذي في القرآن أن التجدد يكون بعد الوجود (2) . يقول شيخ الإسلام: "لا ريب أنه يعلم ما يكون قبل أن يكون، ثم إذا كان: فهل يتجدد له علم آخر؟ أم علمه به معدوما هو علمه به موجودا؟ هذا فيه نزاع بين النظار" ثم قال عن القول الأول- وهو أنه يتجدد له علم آخر- "واذا كان هو الذي يدل عليه صريح المعقول، فهو الذي يدل عليه صحيح المنقول، وعليه دل القرآن في أكثر من عشر مواضع، وهو الذي جاءت به الآثار عن السلف " (3) .   (1) رسالة في تحقيق علم الله جامع الرسائل (1/177-179) - ت رشاد سالم- (2) انظر: المصدر السابق (1/179- 181) . (3) درء التعارض (10/17) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1055 فقول الأشاعرة إنه لا يتجدد له عند وجود المعلومات نعت ولا صفة هذا بناء على نفيهم لحلول الحوادث، لأنه يلزم من ذلك التغير في ذات الله، وقد ذكر شيخ الاسلام أن "التغير" من حجج الفلاسفة على نفي علم الله وأنهم قالوا: "العلم بالمتغيرات يستلزم أن يكون علمه بأن الشيء سيكون غير علمه بأنه قد كان، فيلزم أن يكون محلا للحوادث" (1) . قال شيخ الإسلام: " وهم ليس لهم على نفي هذه اللوازم حجة أصلا- لا بينة ولا شبهة- وإنما نفوه لنفيهم الصفات، لا لأمر يختص بذلك" ثم قال: " بخلاف من نفي ذلك [أي التغير] من الكلابية ونحوهم، فإنهم لما اعتقدوا أن القديم لا تقوم به الحوادث قالوا: لأنها لو قامت به لم يخل منها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث" (2) ، ثم بين شيخ الاسلام أن الرازي والآمدي بينا فساد المقدمة الأولى- وهي أنه لو قامت به الحوادث لم يخل منها- وأن الفلاسفة وكثيرا من النظار منعوا المقدمة الثانية المبنية على منع حوادث لا أول لها، وقالوا إن القديم تحله الحوادث، وجوزوا حوادث لا أول لها (3) . أما شبهة التغير في مسألة العلم- التي جاء بها الفلاسفة- المبنية على المقدمتين السابقتين: ما قامت به الحوادث لم يخل منها- وما لم يخل من الحوادث فهو حادث- فللنظار في جوابها طريقان: أحدهما: منع المقدمة الأولى بالنسبة للعلم وأنه لا يلزم منه حلول الحوادث، وهذا قول الأشاعرة الذين قالوا: "إن العلم بأن الشيء سيكون هو عين العلم بأنه قد كان، وأن المتجدد إنما هو نسبته بين المعلوم والعلم، لا أمر ثبوثي" (4) .   (1) الرد على المنطقيين (ص: 463) . (2) المصدر السابق، نفس الصفحة. (3) انظر: المصدر نفسه (ص: 463-464) . (4) الرد على المنطقيين (ص: 464) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1056 والثاني: منع المقدمة الثانية، وهي أن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، فهؤلاء قالوا: "لا محذور في هذا، وإنما المحذور في أن لا يعلم الشيء حتى يكون، فإن هذا يستلزم أنه لم يكن عالما، وأنه أحدث بلا علم، وهذا قول باطل" (1) ، وهذا قول هشام بن الحكم وابن كرام والرازي وطوائف غير هؤلاء. ومما سبق يتبين حقيقة الخلاف، وعلاقته بمسألة حلول الحوادث التي جعل الأشاعرة منعها أحد أصولهم التي لا يتنازلون عنها، ومما سبق أيضا يتبين المذهب الحق في ذلك، وأن الله يعلم الشيء كائنا بعد وجوده مع علمه السابق به قبل وجوده، وأن علمه الثاني والأول ليس واحدا، وهذا هو الذي دل عليه القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: "وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ" [البقرة: 143] وقوله: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ" [آل عمران: 142] ، وقوله: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ" [آل عمران: 140] ، وقوله: "وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ"- إلى قولهـ "وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [العنكبوت: 3-11] وقوله: "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ" [محمد: 31] ، وغيرها. يقول شيخ الإسلام حول هذه الآيات: "وعامة من يستشكل الآيات الواردة في هذا المعنى، كقوله: "إلَّا لِنَعْلَمَ" و "حَتَّى نَعْلَمَ"، يتوهم أن هذا ينفي علمه السابق بأن سيكون، وهذا جهل؛ فإن القرآن قد أخبر بأنه يعلم ما سيكون في غر موضع، بل أبلغ من ذلك أنه قدر مقادير الخلائق كلها، وكتب ذلك قبل أن يخلقها، فقد علم ما سيخلفه علما مفصلا، وكتب ذلك،   (1) الرد على المنطقيين (ص: 464) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1057 وأخبر بما أخبر به من ذلك قبل أن يكون، وقد أخبر بعلمه المتقدم على وجوه، ثم لما خلقه علمه كائنا مع علمه الذي تقدم أنه سيكون، فهذا هو الكمال، وبذلك جاء القرآن في غير موضع، بل وإثبات رؤية الرب له بعد وجوده، كما قال تعالى: "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ" [التوبة: 105] ، فأخبر أنه سيرى أعمالهم ... " (1) . ثم ذكر شيخ الإسلام أقوال المفسرين في قوله "إِلَّا لِنَعْلَمَ" [البقرة: 143] فقال: " وروى عن ابن عباس في قوله: "إِلَّا لِنَعْلَمَ" أي لنرى، وروى لنميز وهكذا قال عامة المفسرين: إلا لنرى ونميز، وكذلك قال جماعة من أهل العلم، قالوا: لنعلمه موجودا واقعا بعد أن كان قد علم أنه سيكون (2) ، ولفظ بعضهم قال: العلم على منزلتين: علم بالشيء قبل وجوده، وعلم به بعد وجوده، والحكم للعلم به بعد وجوده لأنه يوجب الثواب والعقاب، قال فمعنى قوله "إِلَّا لِنَعْلَمَ" أي لنعلم العلم الذي يستحق به العامل الثواب والعقاب، ولا ريب أنه كان عالما سبحانه بأنه سيكون، لكن لم يكن المعلوم قد وجد، وهذا كقوله: "قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ" [يونس: 18] ، أي بما لم يوجد، فإنه لو وجد لعلمه، فعلمه بأنه موجود ووجوده متلازمان، يلزم من ثبوث أحدهما ثبرقه الآخر، ومن انتفائه انتفاؤه" (3) . فالعقل والقرآن يدلان على أن علمه تعالى بالشيء بعد فعله قدر زائد عن العلم الأول (4) . وتسمية ذلك تغيرا أو حلولا لا يمنع من القول به ما دام دالا على الكمال لله تعالى من غير نقص، وما دامت أدلة الكتابه والسنة تعضده.   (1) الرد على المنطقيين (ص: 464-465!. (2) انظر: تفسير هذه الآية- البقرة: 143- في الطبري، والبغوي، والخازن، والدر المنثور. (3) الرد على المنطقيين (ص: 466-467) . (4) انظر: مجموع الفتاوى (16/304) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1058 ب- صفة الأرادة (1) : ساق شيخ الإسلام الخلاف في الإرادة للشيء وفعله، في مثل قوله تعالى: "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" [يونس: 82] ، وقوله: "فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا" [الكهف: 82] وقوله: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا" [الإسراء: 16] وقوله: "وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ" [يونس: 107] فقال: "وهو سبحانه إذا أراد شيئا من ذلك فللناس فيها أقوال: قيل: الإرادة قديمة أزلية واحدة، وإنما يتجدد تعلقها بالمراد، ونسبتها إلى الجميع واحدة، ولكن من خواص الإرادة أنها تخصص بلا مخصص، فهذا قول ابن كلاب والأشعري ومن تابعهما ... . والقول الثاني: قول من يقول بإرادة واحدة قديمة، مثل هؤلاء، لكن يقول تحدث عند تجدد الأفعال إرادات في ذاته بتلك المشيئة القديمة، كما تقوله الكرامية وغيرهم ... . والقول الثالث: قول الجهمية والمعتزلة الذين ينفون قيام الإرادة به، ثم إما أن يقولوا بنفي الإرادة، أو يفسرونها بنفس الأمر والفعل، أو يقولوا بحدوث إرادة لا في محل كقول البصريين ... . والقول الرابع: أنه لم يزل مريدا بإرادات متعاقبة، فنوع الإرادة قديم، وأما إرادة الشىء المعين فإنما يريده في وقته، وهو سبحانه يقدر الأشياء ويكتبها، ثم بعد ذلك يخلقها، فهو إذا قدرها علم ما سيفعله، وأراد فعله في الوقت المستقبل، لكن لم يرد فعله في تلك الحال، فإذا جاء وقته أراد فعله، فالأول عزم، والثاني قصد" (2) .   (1) أدلتها من القرآن والسنة كثيرة، وانظر: دليلها من العقل في شرح الأصفهانية (ص: 26) - ت مخلوف-. (2) مجموع الفتاوى (16/301-303) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1059 وفي موضع آخر يذكر الخلاف في المشيئة والإرادة هل هي قديمة أو حادثة ويذكر أن للصفاتية في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ليست إلا قديمة، وهو قول ابن كلاب والأشعري وأتباعهما. الثاني: أنها حادثة. الثالث: أنها قديمة وحادثة، وهو قول طوائف من الكرامية وأهل الحديث والصوفية وغيرهم، وهؤلاء يقولون: إن الله متكلم في الأزل، وأنه يتكلم إذا شاء، كما صرح بذلك الأئمة كأحمد وغيره (1) . فالأشاعرة والكلابية جعلوا الإرادة واحدة قديمة، وإنما يتجدد تعلقها - بالمراد، ويشبه هذا مذهبهم في الخلق حين قالوا الفعل هو المفعول، حتى لا يقولوا بحلول الحوادث. وقد رد شيخ الإسلام على الأشاعرة في قولهم السابق فقال: " وكثير من العقلاء يقول: ان هذا فساده معلوم بالاضطرار، حتى قال أبو البركات: ليس في العقلاء من قال بهذا، وما عَلِمَ أنه قول طائفة كبيرة من أهل النظر والكلام. وبطلانه من جهات: من جهة جعل إرادة هذا غير إرادة ذاك، ومن جهة أنه جعل الإرادة تخصص لذاتها، ومن جهة أنه لم يجعل عند وجود الحوادث شيئا حدث حتى تخصص أو لا تخصص، بل تجددت نسبة عدمية، ليست وجودا، وهذا ليس بشيء. فلم يتجدد شيء، فصارت الحوادث تحدث وتتخصص بلا سبب حادث ولا مخصص " (2) . فالأشاعرة جعلوا الإرادة واحدة، كا جعلوا العلم واحدا، حتى لا يقولوا بتجدد العلم والإرادة (3) . ولاشك أن مشكلة الأشاعرة هنا مرتبطة بمذهبهم   (1) انظر: رسالة في تحقيق مسألة علم اللهـ جامع الرسائل (1/182) . (2) مجموع الفتاوى (16/302) . (3) انظر: درء التعارض (2/172) ، وشرح الأصفهانية (ص: 27) - ت مخلوف- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1060 الأصلي في مسألة الصفات الاختيارية التي تقوم بالله، وهم لما التزموا نفي ذلك في صفات الفعل كالاستواء والمجيء والغضب والرضا وغيرها، أثر ذلك في إثباتهم لهذه الصفات السبع. بقي في مسألة الارادة أن شيخ الاسلام في شرحه لمذهب أهل السنة في الإرادة لما ذكر الفرق بين الإرادة القدرية الشاملة السابقة، وإرادة فعل الشيء في وقته ذكر العزم والقصد، ثم ذكر أن هناك خلافا في العزم، هل يوصف الله به على قولين: أحدهما: المنع، كقول القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى. والثاني: الجواز. ثم قال عن الثاني "وهو أصح، فقد قرأ جماعة من السلف: "فَإِذَا عَزَمْت فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ" [آل عمران: 159] بالضم (1) ، وفي الحديث الصحيح من حديث أم سلمة "ثم عزم الله لي" (2) ، كذلك في خطبة مسلم: " فعزم لي" (3) ، وسواء سمى عزما أو لم يسم فهو سبحانه إذا قدرها علم أنه سيفعلها   (1) قراءة الجمهور بفتح التاء من "عزمت"، وقرأ جابر بن زيد، وأبو نهيك، وعكرمة وجعفر ابن محمد- بضم التاء-، انظر: الدر المنثور (2/360) - ط دار الفكر-، وتفسير ابن عطية: المحرر الوجيز (3/281) ، وتفسر القرطبى (4/252) ، والبحر المحيط (3/99) ، وإعراب القرآن للنحاس (1/416) ، والمحتسب لابن جني (1/176) ، ومختصر في شواذ القرآن لابن خالويه (ص: 23) ، والتبيان للعكبري (1/305-306) . وغيرها. وقد ذكر السيوطي أن قراءة جابر بن زيد وأبي نهيك أخرجها ابن أبي حاتم. (2) رواه مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند المصيبة، ورقمه (918) مكرر. (3) الذي في مقدمة صحيح مسلم (1/4) - ط عبد الباقي- "أن لو عزم لي عليه" وكذا في طبعات مسلم الأخرى. وفد نفى هذه الصفة النووي في شرحه لمسلم (1/46، 6/221-222) ، وذكر أقوالا قي تأويلها، وشيخ الإسلام استشهد بقول مسلم هنا لبيان أن أئمة السلف يقولون به، ومسلم قصد أن لو عزم الله لي، قال المازري في المعلم: "لا يظن بمسلم أنه أراد لو عزم الله عليه، لأن إرادة لله سبحانه لا تسمى عزما ... " (ص: 102) ، وهذا بناء عل مذهب بعض الأشاعرة، وقد رد عليه ابن الصلاح قائلا: ليس ذلك كما قال، ثم استشهد بحديث أم سلمة، وذكر وجهين في معنى العزم، انظر: صيانة صحيح مسلم (ص: 116-117) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1061 في وقتها، وأراد أن يفعلها في وقتها، فإذا جاء الوقت فلابد من إرادة الفعل المعين، ونفس الفعل ولابد من علمه بما يفعله" (1) . ج-- صفة السمع والبصر (2) : أشار شيخ الإسلام إلى الخلاف فيهما فقال: "وأما السمع والبصر والكلام فقد ذكر الحارث المحاسبي عن أهل السنة في تجدد ذلك عند وجود المسموع المرئي قولين (3) . والقول بسمع وبصر قديم يتعلق بها عند وجودها قول ابن كلاب وأتباعه والأشعري، والقول يتجدد الإدراك مع قدم الصفة قول طوائف كثيرة كالكرامية وطوائف سواهم، والقول بثبوت الإدراك قبل حدوثها وبعد وجودها قول السالمية، كأبي الحسن بن سالم وأبي طالب المكي، والطوائف الثلاثة تنتسب إلى أئمة السنة كالإمام أحمد، وفي أصحابه من قال بالأول، ومنهم من قال بالثاني، والسالمية تنتسب إليه " (4) . وقد شرح شيخ الإسلام المذهب الحق في ذلك فقال: " وقد دل الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة ودلائل العقل على أنه سميع بصير، والسمع والبصر لا يتعلق بالمعدوم، فإذا خلق الأشياء رآها سبحانه، وإذا دعاه عباده سمع دعاءهم وسمع نجواهم، كما قال تعالى: "قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا" [المجادلة: 1] أي تشتكي إليه   (1) مجموع الفتاوى (16/303-304) . (2) أدلتها النقلية كثيرة جدا، أما أدلتها العقلية، فانظر: شرح الأصفهانية (73-87) - ت مخلوف-، ومجموع الفتاوى (6/228) . (3) انظر: فهم القرآن للمحاسبي (ص: 344-346) ، وقد سبق كلام المحاسبي هذا (ص: 466-467) عند الكلام عنه للدلالة على نفيه للصفات الاختيارية، وقد ربط قوله وترجيحه في مسألة السمع والبصر بنفيه لحلول الحوادث. (4) رسالة في تحقيق مسألة علم اللهـ جامع الرسائل- (1/181-182) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1062 وهو يسمع التحاور- والتحاور تراجع الكلام- بينها وبين الرسول، قالت عائشة: "سبحان الذي وسع سمعه الأصوات لقد كانت المجادلة تشتكي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في جانب البيت وإنه ليخفى على بعض كلامها فأنزل الله: "قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا" [المجادلة: 1] (1) . وقال تعالى لموسى وهارون: "لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى" [طه: 46] وقال: "أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ" [الزخرف: 80] " (2) . فالله تعالى إذا خلق العباد فعلموا وقالوا، فلابد من القول أنه تعالى يرى أعمالهم ويسمع أقوالهم، ونفى ذلك تعطل لهاتين الصفتين، وتكذيب لنصوص القرآن (3) . خاصة وأن فهم هؤلاء الأشاعرة لصفة السمع والبصر ليس هو فهم السلف- الذي يقولون إنه يطلق بمعنى ما به يسمع ويبصر- بل يفسرونهما بمجرد الإدراك فقط. وقد بين شيخ الإسلام في رده على الأشاعرة أن بعض أئمتهم كالرازي اعترفوا بأنه لا مانع من التزام القول بحلول الحوادث هنا، وهذا نموذج لمنهج شيخ الإسلام العام في رده على الأشاعرة حين يذكر ردود بعضهم على بعض - وقد سبق تفصيل ذلك في منهجه العام في رده عليهم-.   (1) رواه أحمد (6/46) ، والبخاري تعليقا في كتاب التوحيد، باب وكان الله سميعا بصيرا (الفتح 13/372) ، ووصله ابن حجر في تغليق التعليق (5/339-339) وصححه ورواه ابن ماجه في المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية، ورقمه (188) ، والنسائي كتاب الطلاق، باب الظهار، ورقمه (3460) - ترقيم أبي غدة-، والحاكم في المستدرك (2/481) ، وصححه ووافقه الذهبي، وابن أبي عاصم في السنة رقم (625) ، وحسنه الألباني في الظلال، والبيهقي في السنن الكبرى- كتاب الظهار، باب سبب نزول آية الظهار (7/382) ، وابن جرير في تفسيرهـ سورة المجادلة- آية (1) . والحديث صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، وفي إرواء الغليل (7/175) . (2) الرد على المنطقيين (ص: 465) . (3) انظر: مجموع الفتاوى (6/228) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1063 فإن شيخ الإسلام وهو يرد على الجويني في مسألة حلول الحوادث (1) ، ألزمه ذلك في مسألة السمع والبصر فقال: "ما ذكره [أي الجويني] أن المعتزلة قصدهم من طرد الدليل في هذه المسألة [أي مسألة حلول الحوادث] أنه إذا لم يمتنع تجدد احكام للذات من غير أن يدل على الحدوث، لم يبعد مثل ذلك في اعتوار الأعراض على الذات" (2) - قال ابن تيمية- يلزمه مثل ذلك في تجدد حكم السمع والبصر، فإنه إنما يتعلق بالموجود دون المعدوم، وإما أن يكون الرب بعد أن خلق الموجودات كحالة قبل وجودها في السمع والبصر، أو لا يكون. فإن كان حاله قبل كحاله بعد، وهو قبل لم يكن يسمع شيئا ولا يراه فكذلك بعد، لاستواء الحالين، فإن قيل: إن حاله بعد ذلك خلاف حاله قبل، فهذا قول بتجدد الأحوال والحوادث، ولا حيلة في ذلك، ولا يمكن أن يقال في ذلك ما قيل في العلم، لأن العلم يتعلق بالمعدوم، فأمكن المفرق أن يقول حاله قبل وجود المعلوم وبعده سواء" (3) . وقول ابن تيمية هنا في "العلم" ليس رجوعا عن قوله السابق: إن الله يعلم الشيء كائنا بعد وجوده، مع علمه السابق- كما سبق بيانه في صفة العلم- وإنما قصد هنا أن مسألة السمع والبصر أكثر وضوحا من مسألة العلم، لأن العلم يتعلق بالمعدوم، أما السمع والبصر فيتعلقان بالمسموع والمبصر من الموجودات، فلو احتج محتج على جواز تعلقهما بالمعدوم حتى لا يقال عند وجود المبصر والمسموع إنه تعالى حلت به الحوادث- على صفة العلم لم تقبل حجته، لأن العلم يجوز أن يتعلق بالمعدوم قبل وجوده ففارق السمع والبصر في ذلك، فابن تيمية قطع الاحتجاج بالعلم أولا، مع أن التحقيق في مسألة العلم أنه لو احتج بها لم يكن له بها حجة، لأن القول بأن علمه تعالى بالشيء   (1) وعلاقتها بصفة الكلام، انظر: التسعينية (ص: 196) وما بعدها. (2) التسعبنية (ص: 202) ، وكلام الجويني في الإرشاد (ص: 45) . (3) التسعينية (ص:202) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1064 بعد وجوده هو نفس علمه به قيل وجوده قول غير صحيح، والدليل على ما قصده ابن تيمية أن الرازي في غالب كتبه سار على طريقة الأشاعرة في أن علم الله واحد لا يتغير مع وجود المعلوم (1) ، إلا أنه في صفة السمع والبصر لم يحتج بالعلم، بل اعترف بضعف جواب المعترضين وقال: إن قول الكرامية بحلول الحوادث ليس محالا. وذلك أن شيخ الإسلام قال بعد الكلام السابق: "وقد ذكر هذا الإلزام أبو عبد الله الرازي والتزم قول الكرامية، بعد أن أجاب بجواب ليس بذاك؛ فإن المخالف احتج عليه بأن السمع والبصر يمتنع أن يكون قديما لأن الإدراك لابد له من متعلق، وهو لا يتعلق بالمعدوم، فيمتنع ثبوت السمع والبصر للعالم قبل وجوده، إذ هم لا يثبتون أمرا في ذات الله به يسمع ويبصر، بل السمع والبصر نفس الإدراك عندهم، ويمتنع أن يكون حادثا لأنه يلزم أن يكون محلا للحوادث، ويلزم أن يتغير وكلاهما محال، وقال- أي الرازي- في الجواب (2) : "لم لا يجوز أن يكون الله سميعا بصيرا بسمع قديم وبصر قديم، ويكون السمع والبصر يقتضيان التعلق بالمرئي والمسموع بشرط حضورهما ووجودهما، قال: وهذا هو المعنّي بقول أصحابنا في السمع والبصر: إنه صفة متهيئة لدرك ما عرض له، فإن قال قائل: فحينئذ يلزم تجدد التعلقات. قلنا: وأي بأس بذلك إذا لم يثبت أن التعلقات أمور وجودية في الأعيان (3) ، فهذا هو تقرير المذهب، ثم [لئن (4) ] سلمنا فساد   (1) وإن كان قد مال في بعض كتبهـ كالمطالب العالية، وشرح الإشارات- إلى جواز التغير، فإنه قال في شرح الإشارات (1/76) : بأن التغير في العلم تغير في الإضافة وذلك غير ممتنع، وقال في المطالب العالية (عن الزركان ص: 309) : "المذهب الصحيح هو قول أبي الحسين البصري وهو أن يتغير العلم عند تغير المعلوم". (2) في نهاية العقول 160- ب. (3) في مخطوطة نهاية العقول: "إذا لم يثبت التعلقات أمورا وجردية في الأعيان. نهاية العقول - 160- ب 261 أ. (4) في مطبوعة التسعينية (لأن) والتصويب من نهاية العقول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1065 هذا القسم فلم لا يجوز أن يكون محدثا في ذاته على ما هو مذهب الكرامية. وقوله: يلزم أن يكون محلا للحوادث، قلنا: إن عنيتم حدوث هذه الصفات في ذاته تعالى بعد أن لم تكن حادثة فيها (1) فهذا هو المذهب، فلم قلتم: إنه محال، وإن عنيتم شيئا آخر فبينوه لنتكلم عليه، وهذا هو الجواب عن قوله: يلزم وجود التغير في ذات الله. قال شيخ الإسلام معلقا على قول الرازي هذا: " قلت: وقد اعترف في هذا الموضع بضعف الجواب الأول، وذلك أن قول القائل: صفة متهيئة لدرك ما عرض عليه ... عند وجود هذا الدرك هل يكون سامعا مبصرا لما لم يكن قبل ذلك سامعا له مبصرا، أم لا يكون، فإن لم يكن كذلك لزم نفي أن يسمع ويبصر، وإن كان سمع ورأي ما لم يكن سمعه ورآه فمن المعلوم بالاضطرار أن هذا أمر وجودي، قائم بذات السامع والرائي، وأنه ليس أمرا عدميا، ولا واسطة بين الوجود والعدم" (2) . فالأشاعرة فسروا السمع والبصر بالإدراك، ثم جعلوه ثابتا في العدم، ثم قالوا إنه لا يتعلق إلا بالموجود، وجعلوا تعلقه بالموجود عدماً محضاً، وهذه أقوال فاسدة (3) . ولاشك أن اعتراف الرازي مهم جدا لأنه بين إلى أي حد كانت قناعة الأشاعرة بمنهجهم في إثباتهم لهذه الصفات. هذا هو مذهب الأشاعرة فيما أثبتوه من الصفات، ومنه يتبين أثر مذهبهم فيما نفوه منها على ما أثبتوه، إضافة إلى وجود التناقض أحيانا في أقوالهم، كاستدلالهم على صفة العلم بالإحكام والإتقان، مع أنهم ينكرون الحكمة والتعليل في أفعال الله (4) .   (1) الذي في نهاية العقول 161-أ: "في ذاته بعد أن يكون حادثا فيها". (2) التسعينية (ص:202-203) . (3) انظر: المصدر السابق (ص: 203) . (4) انظر: النبوات (ص: 357-358) - ط دار الكتب العلمية-. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1066 المسألة الثالثة: مثبتة الأحوال من الأشاعرة: سبق تعريف الأحوال، ومن قال به من الأشاعرة كالباقلاني (1) ، والجويني (2) ، الذي أثبتها أولا، ثم كان آخر أمره نفيها، ومذهب جمهور الأشاعرة إثبات الصفات ونفي الأحوال. وقد أوضح شيخ الإسلام علاقة الأحوال بالصفات، والمذاهب في ذلك فقال: " في مسائل الصفات ثلائة أمور: (أحدها) : الخبر عنه بأنه حي، عليم، قدير، فهذا متفق على إثباته، وهذا يسمى الحكم. (والثاني) : أن هذه معان قائمة بذاته، وهذا أيضا أثبته مثبتة الصفات، السلف والأئمة، والمنتسبون إلى السنة من عامة الطوائف. (والثالث) : الأحوال، وهو العالمية والقادرية، وهذه قد تنازع فيها مثبتو الصفات ونفاتها: - فأبو هاشم وأتباعه يثبتون الأحوال دون الصفات. - والقاضي أبو بكر وأتباعه يثبتون الأحوال والصفات. - وأكثر الجهمية والمعتزلة ينفون الأحوال والصفات. - وأما جماهير أهل السنة فيثبتون الصفات دون الأحوال " (3) . والفرق بين مثبتة الأحوال ونفاتها ممن يثبت الصفات، أن القائلين بالأحوال يقولون: إن له علما، وعالمية، وعالميته معنى زائد على علمه، فصفة العلم   (1) انظر: (ص: 539-540) . (2) انظر: (ص:608) . (3) شرح حديث النزول- مجموع الفتاوى (5/339) ، وانظر: منهاج السنة (2/90-91) - المحققة- ط مكتبة العروبة-. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1067 أوجبت كونه عالما، وكونه عالما حال معللة بالعلم، فعند هؤلاء أن ثبوت الصفات يستلزم ثبوت الأحوال، وإثبات الملزوم يقتضي ثبوت اللازم، ولذلك فهم يثبتون ذاتا توجب أن يكون عالما ولولاها لما كان عالما، فهذه الأحوال زائدة في الخارج على الصفات. أما منكرو الأحوال من مثبتة الصفات فإنهم يقولون: معنى العلم هو معنى العالم، فعلمه هو كونه عالما، وقدرته هو كونه قادرا، ليس هناك أمران ولا علة ولا معلول، ولا يثبتون ذاتا أوجبت كونه عالما (1) . ولا شك أن أكبر دليل على ضعف قول هؤلاء الذين يثبتون الأحوال هو صعوبة فهم هذه الحال التي قالوا بها، وحينما يقولون: العالمية حال معللة بالعلم، فيجعلون العلم يوجبه حال آخر ليس هو العلم، بل هو كونه عالما (2) ، فهذا يصعب فهمه، ولذلك قيل: إن من الأشياء التي لا حقيقة لها أحوال أبي هاشم. ولذلك كان مذهب الأشعري نفسه ومحققي الأشاعرة هو نفي الأحوال، وإليه رجع الجويني في آخر عمره (3) . وشيخ الإسلام لم يعر هذه المسألة كبير اهتمام، ولعل سبب ذلك والله أعلم؛ قلة القائلين بها ومخالفة الجمهور لهم، إضافة إلى تهافت قول أصحابها، ومع ذلك فقد عرض لها من ناحيتين: الأولى: أن بعض (4) القائلين بها من الصفاتية قد تابعوا أبا هاشم الجبائي في قوله إن الحال لاموجودة ولامعدومة (5) ، ولاشك أن هذا قول مخالف   (1) انظر: درء التعارض (5/35-39، 10/234) . (2) انظر: منهاج السنة (2/387) - المحققة- ط مكتبة دار العروبة. (3) انظر: التسعينية (ص: 223) . (4) كالجويني، أما الباقلاني فقد سبق بيان أنه خالف أبا هاشم في قوله: إنها لا موجودة ولامعدومة. انظر: (ص: 539، 608) . (5) انظر: درء التعارض (9/395) ، والرد على المنطقيين (ص: 109) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1068 لبداهة العقل، لأن سلب النقيضين- كجمعهما- ممتنع. الثانية: أن القائلين بقدم العالم من الفلاسفة، الذين يوجبون مقارنة العلة للمعلول، فيقولون: إن المعلول- الذي هو المخلوقات- مقارن للعلة- وهي اللهـ فيكون أزليا معه، لما قيل لهم: إن هذا مما يعلم فساده بضرورة العقل، لأن إلمفعول لا يكون مقارنا للفاعل في الزمان، فأجابوا بأن هذا ممكن، وأن تقدم العلة على المعلول تقدما عقليا لازما، ومثلوا لذلك بتقدم حركة اليد على حركة الخاتم الذي فيها، وتقدم الشمس على الشعاع، ثم إنهم احتجوا على جواز ذلك بما يقوله مثبتو الأحوال، حيث إنهم يقولون: العلم علة كون العالم عالما، فكأنهم ألقوا كون العلة والمعلول متلازمين مقترنين، فلا يستنكر هذا هنا. وقد رد شيخ الإسلام على الفلاسفة في قولهم: إن المعلول يقارن علته في الزمان، وبين خطأهم، وخطأ الفقهاء الذين تابعوهم في ذلك (1) ، ثم قال عن احتجاجهم بقوك أهل الأحوال: " وما ذكروه من اقتران العلة العقلية لمعلولها، كالعلم والعالمية، فجوابه أنه عند جاهير العقلاء ليس هنا علة ومعلول، بل العلم هو العالمية، وهذا مذهب جمهور نظار أهل السنة والبدعة، وهي نفي الأحوال، فلا علة ولا معلول، وإن جعلت المعلول الحكم بكونه عالما، والخبر عنه بكونه عالما، فهذا قد يتأخر عن العلم، وعلى قول من أثبت الحال هو يقول: إنها ليست موجودة ولا معدومة، فليست نظير المعلولات الوجودية. وأيضا فهؤلاء يقولون: إن العالم [ليس فاعل العالمية (2) ] ولا هو جاعل العالمية، ولا هذا عنده من باب تأثير الوجود والأسباب والعلل، فإن كونه عالما لازم للعلم بما يلزم العلم أنه عالم، ليس هذا مثل كون قطع الرقبة سببا للموت، ولا كون الأكل سببا للشبع، من الأسباب التي خلقها الله ... " (3) .   (1) انظر: تفصيل ذلك في الرد على المنطقيين (ص: 378- 381) . (2) في المطبوعة من الرد على المنطقيين [أن العالم فاعل للعالمية] ولعل صحة العبارة ما أثبته. (3) الرد على المنطقيين (ص: 379) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1069 فبين شيخ الإسلام أن قول مثبتة الأحوال لا حجة فيه للفلاسفة على قولهم بقدم العالم، وإن كان قولهم في ذاته باطلا. المسألة الرابعة: أسماء الله وصفاته التي تسمى واتصف بمثلها المخلوقون هل هي من قبيل المشترك أو المتواطئ أو المشكك؟ هذه المسألة متعلقة بالأسماء والصفات، وقد سبق في مبحث الأسماء الاحالة على بحثها هنا، ومن المعلوم أن الله سمى نفسه بأسماء، وسمى عباده بأسماء مختصة بهم توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص، كما وصف نفسه بصفات، ووصف عباده بصفات مختصة بهم، توافق تلك الصفات إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص، وليست صفات الله كصفات الخلق ولا أسماؤه كأسمائهم. ومن الأمثلة على ذلك أن الله سمى حيا فقال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} (البقرة: من الآية255) ، وسمى بعض عباده حيا فقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} (الروم: من الآية19) ، وليس هذا الحي مثل هذا الحي، وسمى نفسه سميعاً بصيراً فقال: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} (النساء: من الآية58) ، وسمى بعض خلقه سميعا بصيرا فقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} (الانسان: 2) . وليس السمعي كالسميع ولا البصير كالبصير، وسمى نفسه بالملك فقال: {الْمَلِكُ الْقُدُّوس} (الحشر: من الآية23) وسمى بعض عباده بالملك فقال: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} (يوسف: من الآية50) . وكذلك سمى صفاته أسماء، وسمى صفات عباده بنظير ذلك فقال في صفة العلم {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (البقرة: من الآية255) . وقال عن المخلوق: {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْم} (غافر: من الآية83) . وليس العلم كالعلم، وكذلك وصف نفسه بالمشيئة ووصف عبده بالمشيئة فقال: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (التكوير: من الآية 28-29) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1070 وكذلك وصف نفسه بالمحبة ووصف عبده بالمحبة فقال: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه} (المائدة: من الآية54) ، ووصف نفسه بالمناداة فقال: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} (مريم: من الآية52) ووصف عبده بالمناداة فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} (الحجرات:4) ، ووصف نفسه بالتكليم في قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} (النساء: من الآية164) ، ووصف عبده بالتكليم في مثل قوله: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} (يوسف:54) ، وغيرها كثير (1) . فهل إطلاق هذه الأسماء والصفات على الله وعلى المخلوق هو من باب المشترك اللفظي (2) ، أو باب المتواطئ (3) أو المشكك؟ (4) . والفرق بين المشترك اللفظي والمتواطئ أو المشكك كبير جدا، لأن معنى المشترك اللفظي أن اللفظ واحد ولكن المعاني والمدلولات التي يصدق عليها هذا   (1) انظر: التدمرية (ص:21-30) - ت السعوي -، والجواب الصحيح (3/148-149) . (2) المشترك االلفظي هو: اللفظ الواحد الذي يطلق على أشياء مختلفة بالحد والحقيقة إطلاقا متساويا، كالعين تطلق على آلة البصر، والينبوع، والجاسوس، انظر معيار العلم (ص:81) - ت دنيا -، والمعغجم الفلسفي (2/376) - صليبا - والمعجم الفلسفي (ص:183) - مجمع اللغة -، والمبين للآمدي (ص:51) ت الأعسم. (3) المتواطئ: يدل على أعيان متعددة بمعنى واحد مشترك بينها، كدلالة اسم الإنسان على زيد وعمرو، أو هو: الكلي الذي يكون حصول معناه وصدقه على أفراده الذهنية والخارجية بالسوية، كالإنسان والشمس، فالإنسان له أفراد في الخارج، والشمس لها أفراد في الذهن، انظر: معيار العلم (ص:81) ، والتعريفات (ص:106) ، والمعجم الفلسفي (2/334) - صلبيا. (4) المشكك: هو ما يدل على أشياء لأ/ر عام مشترك بين أفرادها، لا على السواء، بل على التفاوت، أو هو: الكلي الذي لم يتساو صدقه على أفراده، بل كان حصوله في بعضها أولى أو أقدم أو أشد من البعض الآخر، ك الوجود فإنه ف الواجب أولى وأقدم وأشد مما في الممكن، وكالبياض للثلج والعاج. (والعاج ناب الفيل أو عظمه، وقيل هو الذيل وهو شيء يتخذ من ظهر السلحفاة البرية والبحرية، وقيل كل عظم عند العرب عاج. انظر: النهاية لابن الأثير (3/312) ، والصحاح ولسان العرب وتاج العروس مادة: عوج) . وانظر في معنى المشكك: التعريفات (ص:114) ، والمعجم الفلسفي (2/378) - صليبا -، والمبين للآمديب (ص:50-51) - ت الأعسم -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1071 اللفظ متباينة لا يجمع بينها معى مشترك، فاللعين تطلق على الباصرة وعلى الذهب وعلى الجارية وليس بين هذه الأمور أي معنى يجمعها سوى لفظ "عين" الذي يطلق على كل منها، وكذل المشتري يطلق على مشتري السلعة، ويطلق على الكوكب المسمى بالمشتري، وليس بينهما أي معنى مشترك سوى أن لفظ "المشتري" جمع بينهما لفظا. فإذا قيل: الله سميع، والمخلوق سميع، والمخلوق سميع، فهل السميع هنا من باب المشترك اللفظي؟ ونحن إذا فهمنا معنى السميع بالنسبة للمخلوق فهل يقول قائل: إن السميع بالنسبة لله قد يكون له معنى آخر بعيد جداً، كالبعد الذي بين الكوكب والمبتاع للسلعة.؟، لا شك أن هذا القول يؤدي إلى تعطيل أسماء الله وصفاته عن معانيها اللائقة به تعالى. أما المتواطئ فهو معنى كلي على أعيان متعددة، كالإنسان، فهو معنى كلي يدل على جميع بني الإنسان بالسوية، فيصدق على زيد وعمرو ومحمد وأحمد من الناس، لكن هذا المعنى الكلي الذي يجمعهم لا يعني أن حقيقة زيد هو حقيقة عمرو، بل كل له حقيقته الخاصة وإن كان يجمعهم معنى "الإنسان". والمشكك جزء من التواطؤ العام، لأنه يدل على أشياء متعددة لأمر عام مشترك بين أفرادها، لكنه في بعضها أقوى أو أشد. وقد بين شيخ الإسلام أن هذا التوافق بين أسماء الله وصفاته وأسماء المخلوقين وصفاتهم لا يجوز أن يكون من باب المشترك اللفظي، بل هو من باب المتواطئ أو المشك، لأن هناك معنى كليا يفهم من مطلق صفة السمع أو البصر أو الحياة أو الوجود، وإن كان سمع الله وبصره وحياته ووجوده، يخصه لا يشاركه فيه أحد من الخلق، كما أن سمع المخلوق وبصره وحياته ووجوده يخصه. ومع تجويز شيخ الإسلام أن تكون من باب المتواطئ أو المشكك، إلا أنه يتعمق في ذكر الفرق بينهما، ولذلك فهو يرى أن القول بأ، هـ من المتواطئ واضح في هذا الباب، وأ، القول بأن المعنى الذي هو مدلول اللفظ العام ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام، لا مانع منه ما دامت حقيقة كل قسم تخصه لا يشركه فيه غيره، وأما الذي ظنه بعض الناس من أنه يخلص من هذا الاشتراك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1072 يجعل لفظ "الوجود" أو غيره من باب المشكك، لكون واجب الوجود أكمل، كما يقال في لفظ السواد المقول على سواد القار وسواد الحدقة، ولفظ البياض المقول على بياض الثلج وبياض العاج فإن شيخ الإسلام يجيب عن هذا بقوله: "ولا ريب أ، المعاني الكلية قد تكون متفاضلة في مواردها، بل أكثرها كذلك: وتخصيص هذا القسم بلفظ المشكك أمر اصطلاحي، ولهذا كان من الناس من قال: هو نوع من المتواطئ؛ لأن واضح اللغة لم يضع اللفظ العام بإزاء التفاوت الحاضل لأحدهما، بل بإزاء القدر المشترك"، ثم يقول شيخ الإسلام: "وبالجملة، فالنزاع في هذا لفظي، فالمتواطئة العامة تتناول المشككة، وأما المتواطئة التي تتساوى معانيها فهي قسيم المشككة، وإذا جعلت المتواطئة نوعين: متواطئا عاما وخاصا، كما جعل الإمكان نوعين عاما وخاصا زال اللبس" (1) . والقول بأن هذا التوافق ليس من قبيل المشترك اللفظي هو قول جماهير المسلمين، يقول شيخ الإسلام: "إن مذهب عامة الناس، بل عامة الخلائق من الصفاتية كالأشعرية والكرامية وغيرهم، أن الوجود [ليس (2) ] مقولا بالاشتراك اللفظي فقط، وكذلك سائر أسماء الله التي سمي بها، وقد يكون لخلقه اسم كذلك، مثل الحي والعليم والقدير؛ فإن هذه ليست مقولة بالاشتراك اللفظي فقط، بل بالتوطئ، وهي أيضا مشككة؛ فإن معانيها في حق الله تعالى أولى، وهي حقيقة فيهما، ومع ذلك فلا يقولون: إن ما يستحقه الله تعالى من هذه الأسماء إذا سمى بها مثل ما يستحقه غيره، ولا أنه في وجوده وحياته وعلمه وقدرته مماثلاً لخلقه، ولا يقولون أيضاً إن له أو لغيره في الخارج وجودا غير حقيقتهم الموجودة في الخارج؛ بل اللفظ يدل على قدر مشترك [إذا (3) ] أطلق وجرد عن الخصائص التي تميز أحدها" (4) ، ثم بين أن هذا لا يستعمل في أسماء الله فقط   (1) منهاج السنة (3/586) - ط جامعة الإمام -، وانظر: ما قبل ذلك (2/118-119) . (2) في المطبوع [وهو] ، وسياق الكلام يقتضي ما أثبت، وقد أشار إلى هذا التصويب المعلق في الحاشية. (3) في المطبوعة (إذ) ولعل الصواب ما أثبت. (4) نقض التأسيس - مطبوع - (2/378) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1073 ولا في اللغة أيضاً، وإنما يذكر في مواضع تجرد عن الخصائص لأجل المناظرة فيقدر الأمر تقديراً (1) . ومع أن هذا هو قول جماهير الصفاتية وغيرهم إلا أن بعض من خاض في الفلسفة والمنطق كالرازي والآمدى والشهرستاني ظنوا - في بعض أقوالهم - أنه يجب أ، يكون ما بين أسماء الله وأسماء المخلوقين من توافق مقولا بالاشتراك اللفظين وقد بين شيخ الإسلام أن الذي دفعهم إلى هذا القول شبهتان: إحداهما: شبهة الوقوع في التشبيه والتركيب. والثانية: ظن ثبوت الكليات المشتركة في الخارج. أما الشبهة الأولى فيقول شيخ الإسلام: إن كثيرا من الناس "تنازعوا في الأسماء التي تسمى الله بها وتسمى بها عباده كالموجود والحي والعليم والقدير، فقال بعضهم: هي مقولة بالاشتراك اللفظي حذرا من إثبات قدر مشترك بينهما، لأنهما إذا اشتركا في مسمى الوجود لزم أن يمتاز الواجب عن الممكن بشيء آخر فيكون مركبا، وهذا قول بعض المتأخرين كالشهر ستاني والرازي في أحد قوليهما، وكالآمدى مع توقفه أحياناً" (2) ، ثم رد على الرازي والآمدى حين ظنا أن الأشعري وغيره ممن ينفي الأحوال ويقول إن وجود كل شيء عين حقيقته - يقولون بهذا القول وأنها مقولة بالاشتراك اللفظي، وزعما أن هذا لازم لهم، لأنهم لو قالوا هي متواطئ لكان بينهما قدر مشترك، فيمتاز أحدهما عن الآخر بخصوص حقيقته، والمشترك ليس هو المميز، فلا يكون الوجود المشترك هو الحقيقة المميزة. وبين أن هذا غلط عليهم (3) . هذه شبهة التركيب، أما شبهة التشبيه فإنهم قالوا: إذا قلنا موجود وموجود، وحي وحي، لزم التشبيه (4) .   (1) انظر: نقض التأسيس - مطبوع - (2/379) . (2) منهاج السنة (2/581) - ط جامعة الإمام -. (3) انظر: منهاج السنة (2/581-582) - ط جامعة الإمام -. (4) انظر: منهاج السنة (2/584) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1074 وأما الشبهة الثانية: فبسببها غلط الرازي وغيره "فإنه ظن أنه إذا كان هذا موجودا وهذا موجودا، والوجود شامل لهما، كان بينهما وجود مشترك كلي في الخارج، فلا بد من مميز يميز هذا عن هذا، والمميز إنما هو الحقيقة فيجب أن يكون هناك وجود مشترك وحقيقة مميزة" (1) . وهذه مبنية على مسألة طالما غلط فيها أهل المنطلق والفلسفة وأتباعهم، وهي مسألة الكليات المطلقة التي تكون في الأذهان، وتوهمهم أنها قد تكون موجود في الأعيان. فبهاتين الشبهتين: شبهة التشبيه، وشبهة الكليات الذهنية قال بعض هؤلاء الأشاعرة: إن الوجود وغيره إذا أطلق على الخالق والمخلوق كان من قبيل المشترك اللفظي. وقد رد عليهم شيخ الإسلام من وجوه أهمها: 1- أن القول الذي يقول به جماهير الناس: جمهور المعتزلة، والمتكلمة الصفاتية من الأشعرية والكرامية والسالمية، واتباع الأئمة الأربعة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، وأهل الحديث، والصوفية، أن هذه الأسماء حقيقة للخالق تعالى، وإن كانت تطلق على خلقه حقيقة. وأما الأقوال الأخرى فهي باطلة: مثل قول من يقول: إنها حقيقة في الخالق مجاز في المخلوق، وهو قول أبي العباس الناشئ. ومثل قول من يقول بالعكس، أي أنها حقيقة في المخلوق مجاز في الخالق، كما هو قول غلاة الجهمية والقرامطة والباطنية الذين ينفون عن الله الأسماء الحسنى بل ويقولونك إن الله ليس بحي ولا عالم ولا جاهل (2) ...   (1) منهاج السنة (2/585) - ط جامعة الإمام -. (2) انظر: في هذه الأقوال: الجواب الصحيح (3/150) ، والرد على المنطقيين (ص: 155-157) ، ومجموع الفتاوى (5/196-197، 207) ، ودرء التعارض (5/184-185) ، ومنهاج السنة (2/582-583) - ط جامعة الإمام -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1075 والصواب أنها حقيقة فيهما، ولا معنى لهذا القول إلا بإثبات المعنى المشترك في كل اسم أو صفة، ثم إن وجود الخالق يخصه ووجود المخلوق يخصه، وهكذا بقية الصفات، وكل من قال بالمشتري اللفظي فقد جانب قول أهل الحق، ولزمه أن يقول بواحد من تلك الأقوال الفاسدة. 2- أ، لك موجودين فلا بد بينهما من قدر مشترك وقدر مميز، وهذه مسألة التشبيه والتمثيل، وقد سبق تفصيل القول فيها، مع بيان اعتراف الأشاعرة، بل وتقريرهم أن إثبات الصفات لله كالوجود والسمع والبصر والحياة وغيرها، لا يقتضي أن يكون الله مشابها لخلقه (1) . 3- أن هؤلاء الذين يقولون بالمشترك اللفظي متناقضون، لأنهم مع قولهم إن الوجود مقول بالاشتراك اللفظي إلا أنهم يجعلونه "ينقسم إلى واجب وممكن، أو قديم ومحدث، كما تنقسم سائر الأسماء العامة الكلية لا كما تنقسم الألفاظ المشتركة كلفظ سهيل المقول (2) على "سهيل" الكوكب، وعلى سهيل بن عمرو، فإن تلك لا يقال فيها: إن هذا ينقسم إلى كذا وكذا، ولكن يقال: إن هذا اللفظ يطلق على هذا المعنى، وعلى هذا المعنى، وهذا أمر لغوي لا تقسيم عقلي، وهناك [أي في المتوطئ] تقسيم عقلي: تقسيم المعنى الذي هو مدلول اللفظ العام، ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام" (3) . وتناقضهم في هذا واضح جداً لأن التقسيم لا يكون في الألفاظ المشتركة إن لم يكن المعنى مشتركاً (4) . 4- أنه لو لم تكن هذه الأسماء متواطئة لأدى ذلك إلى عدم فهم المعاني المرادة في كل سياق لأنه إذا قيل: إنها من باب المشترك اللفظي، كان ورود هذا الاسم في موضع له معنى. فإذا ورد في موضع آخر وأراد به المعنى الآخر   (1) انظر: مبحث توحيد الألوهية والربوبية (ص: 948-956) . (2) في طبعة جامعة الإمام (القول) وهو خطأ مطبعي، وهو على الصواب في طبعة مكتبة دار العروبة - المحققة (2/470) ، والمحقق للطبعتين الدكتور/ محمد رشاد سالم -رحمه الله-. (3) منهاج السنة (2/586) - ط جامعة الإمام - وانظر: شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى (5/322) -. (4) انظر: درء التعارض (5/325) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1076 - الذي يختلف عن الأول تماما - فإنه لا يفهم ذلك المعنى إلا بدليل يدل عليه (1) ، فإذا قيل المخلوق موجودا، ثم قيل والله تعالى موجود، فالقول أن الوجود مقول بالاشتراك اللفظي يقتضي أن معنى الوجود في العبارة الثانية له معنى آخر بعيد عن مدلول اللفظ الأول، ولا بد من دليل يدل على المعنى المقصود منه، وهذا لو طبق يؤدي إلى تخبط عجيب في فهم مدلول الألفاظ والعبارات. 5- أن القول بالاشتراك اللفظي يؤدي إلى موافقة الملاحدة والقرامطة، "فإنهم إذا جعلوا أسماء الله تعالى كالحي والعليم والقدير والموجود ونحو ذلك مشتركة اشتراكاً لفظيا، لم يفهم منها شيء إذا سمى بها الله، إلا أن يعرف ما هو ذلك المعنى الذي يدل عليه إذا سمي بها الله، لا سيما إذا كان المعنى المفهوم منها عند الإطلاق ليس هو المراد إذا سمي بها الله. ومعلوم أن اللفظ المفرد إذا سمي به مسمى لم يعرف معناه حتى يتصور المعنى أولا، ثم يعلم أن اللفظ دال عليه، فإذا كان اللفظ مشتركا فالمعنى الذي وضع له في حق الله لم نعرفه بوجه من الوجوه، فلا يفهم من أسماء الله الحسنى معنى أصلا، ولا يكون فرق بين قولنا: حي، وبين قولنا: ميت، ولا بين قولنا: موجود، وبين قولنا: معدوم، ولا بين قولنا: عليم، وبين قولنا: جهول، أو "ديز" أو "كجز" بل يكون بمنزلة ألفاظ أعجمية سمعناها ولا نعلم مسماها، أو ألفاظ مهملة لا تدل على معنا كديز وكجز ونحو ذلك. ومعلوم أن الملاحدة يكفيهم هذا، فإنهم لا يمنعون إطلاق اللفظ إذا تظاهروا بالشرع، وإنما يمنعون أن نفهم معنى" (2) . وهذا هو لب المسألة، لأن القول بالمشترك اللفظي يؤدي إلى اعتقاده أن هذه الأسماء أو الصفات بالنسبة لله تعالى لها معان أخرى بعيدة عن المعاني التي دلت عليها هذه النصوص التي وردت بها، "وإذا لم تكن أسماؤه متواطئة لم يفهم العباد من أسمائه شيئاً أصلا، إلا أن يعرفوا ما يخص ذاته، وهم لم يعرفوا   (1) انظر: درء التعارض (5/326) . (2) منهاج السنة (2/326) - ط جامعة الإمام -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1077 ما يخص ذاته، فلم يعرفوا شيئاً" (1) ، وهذا هو الإلحاد في أسمائه وآياته. 6- والذين قالوا بالمشترك اللفظي طبقوه أو التزموه في لفظ الوجود بالنسبة لله وبالنسبة للمخلوق، فقالوا: يشتركان في الوجود، ويمتاز أحدهما عن الآخر بحقيقته. وهنا يجيبهم شيخ الإسلام بأن القول في الحقيقة كالقول في الوجود، "فإن هذا له حقيقة، وهذا له حقيقة، كما أن لهذا وجودا ولهذا وجودا، وأحدهما يمتاز عن الآخر بوجوده المختص به، كما هو ممتاز عنه بحقيقته التي تختص به. فقول القائل: إنهما يشتركان في مسمى الوجود، ويمتاز كل واحد منهما بحقيقته التي تخصه كما لو قيل: هما مشتركان في مسمى الحقيقة ويمتاز كل منهما بوجوده الذي يخصه. وإنما وقع الغلط لأنه أخذ الوجود مطلقاً لا مختصا، وأخذت الحقيقة مختصة لا مطلقة، ومن المعلوم أن كلا منهما يمكن أن يوجد مطلقاً، ويمكن أن يوجد مختصا، فإذا أخذا مطلقين تساويا في العموم، وإذا أخذا مختصين تساويا في الخصوص، وأما أخذ أحدهما عاما والآخر مختصا فليس هذا بأولى من العكس" (2) . وهذا المنهج الإلزامي الدقيق كثيرا ما يستخدمه شيخ الإسلام، ومن ذلك قوله في مسألة الصفات التي أولها الأشاعرة، مثل صفة المحبة التي أولوها بإرادة الإنعام، لأنهم قالوا: إن المحبة ميل القلب إلى المحبوب وهذه صفة المخلوق، ولا يجوز أن تكون صفة لله، فهنا يقال لهم: يلزمكم في تأويلكم نظير ما لزمكم في المعنى الذي فررتم منه، فإنه يقال لكم في قولكم: إن المحبة إرادة الأنعام: ونحن لا نعلم من الإرادة إلا ميل النفس إلى المراد. فافعلوا في الإرادة ما فعلتم في المحبة فأولوها، أو فافعلوا في المحبة ما فعلتم في الإرادة فأثبتوها، وهكذا بقية الصفات. 7- أما مسألة الكليات المشتركة التي تكون في الأذهان - وتوهم بعض الفلاسفة وأتباعهم أنها قد تكون موجودة في الأعيان - فإن شيخ الإسلام ناقشها   (1) مجموع الفتاوى (5/210) . (2) منهاج السنة (2/587-588) - ط جامعة الإمام -، وانظر: درء التعارض (5/116-118) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1078 طويلاً (1) ، وبين أثناء ذلك أن حجج هؤلاء مدارها على أن المطلق المشترك الكلي موجود في الخارج، قال: "وهذا هو الموضع الذي ضلت فيه عقول هؤلاء، حيث اعتقدوا أن الأمور الموجودة المعينة اشتركت في الخارج في شيء، وامتاز كل منها عن الآخر بشيء، هذا عين الغلط" (2) . وفي منهاج السنة قال مجيبا عن هذا الاشتباه والغلط الذي وقع فيه الرازي والآمدي وغيرهما: "وأما حل الشبهة فهو أنهم توهموا أنه إذا قيل: إنهما مشتركان في مسمى الوجود، يكون في الخارج وجود مشترك هو نفسه في هذا، وهو نفسه في هذا، فيكون نفس المشترك فيهما، والمشترك لا يميز، فلا بد له من مميز. وهذا غلط؛ فإن قول القائل: يشتركان في مسمى الوجود، أي: يشتبهان في ذلك ويتفقان فيه، فهذا موجود، وهذا موجود، ولم يشرك أحدهما الآخر في نفس وجوده البتة. وإذا قيل: يشتركان في الوجود المطلق الكلي، فذاك المطلق الكلي لا يكون مطلقاً كلياً إلا في الذهن، فليس في الخارج مطلق كلي يشتركان فيه، بل هذا له حصة منه، وهذا له حصة منه، وكل من الحصتين ممتازة عن الأخرى (3) "، ثم قال بعد مناقشة أهل المنطق: "فمسألة الكليات والأحوال وعروض العموم لغير الألفاظ، من جنس واحد، ومن فهم الأمر على ما هو عليه، تبين له أنه ليس في الخارج شيء هو بعينه موجود في هذا وهذا. وإذا قال: نوع موجود، أو الكلي الطبيعي موجود، أو الحقيقة موجودة، أو الإنسانية من حيث هي موجودة، ونحو هذه العبارات، فالمراد به أنه وجد في هذا نظير ما وجد في هذا أو شبهه أو مثله، ونحو ذلك. والمتماثلات يجمعها نوع واحد، وذلك النوع هو الذي بعينه يعم هذا ويعم هذا، لا يكون عاما مطلقاً إلا في الذهن، وأنت إذا قلت: الإنسانية   (1) انظر مثلا: درء التعارض (5/89-175) ، وقد ذكر في منهاج السنة (2/595) - ط جامعة الإمام -، أنه أفراد موضوع "الكليات" بمؤلف مختص بها لعموم الحاجة ولإزالة الشبهة، وقد ذكرها ابن القيم في أسماء مؤلفات ابن تيمية (ص:24) . (2) درء التعارض (5/112) . (3) منهاج السنة (2/588-589) - ط جامعة الإمام -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1079 موجودة في الخارج، والكلي الطبيعي موجود في الخارج، كان صحيحا: بمعنى أ، ما تصوره الذهن كليا يكون في الخارج، لكنه إذا كان في الخارج لا يكون كليا، كما أنك إذا قلت: زيد في الخارج، فليس المراد هذا اللفظ، ولا المعنى القائم في الذهن، بل المراد المقصود بهذا اللفظ موجود في الخارج" (1) . ثم طبق شيخ الإسلام كلامه في مسألة الكليات على شبهة التشبيه التي أوقعت هؤلاء بقولهم بالمشترك اللفظي في مسألة الله وصفاته وما وافقها من أسماء المخلوقين وصفاتهم فقال: "وبهذا يتبين غلط النفاة في لفظ التشبيه؛ فإنه يقال: الذي يجب نفيه عن الرب تعالى اتصافه بشيء من خصائص المخلوقين، كما أن المخلوق لا يتصف بشيء من خصائص الخالق، أو أن يثبت للعبد شيء يماثل فيه الرب، وأما إذا قيل: حي وحي وعالم وعالم، وقادر وقادر، أو قيل: لهذا قدرة ولهذا قدرة، ولهذا علم، ولهذا علم، كان نفس علم الرب لم يشركه في العبد، ونفس علم العبد لا يتصف به الرب، تعالى عن ذلك، وكذلك في سائر الصفات، بل ولا يماثل هذا هذا، وإذا اتفق العلماء في مسمى العلم، والعالمان في مسمى العالم، فمثل هذا التشبيه ليس هو المنفي، لا بشرع ولا بعقل، ولا يمكن نفي ذلك إلا بنفي وجود الصانع" (2) . وليس هذا خاصا بالصفات التي أثبتها الأشاعرة، بل يشمل غيرها من الصفات كالنزول والاستواء والمجيء، فإثباتها لله، مع أن المخلوق قد يوصف بالنزول والاستواء والمجيء لا يقتضي المشابهة، والقول بأن ذلك من قبيل المشترك اللفظي يعطل هذه الصفات عن معانيها (3) . وقد بين شيخ الإسلام أن الآمدى - في مسألة الكليات المشتركة ووجودها في الأذهان - قد بين في كتابه أحكام الأحكام ما يناقضها، يقول: "والآمدى   (1) منهاج السنة (2/592) . (2) المصدر السابق (2/595-596) - ط جامعة الإمام -. (3) انظر: مجموع الفتاوى (5/200) وما بعدها. وشرح حديث النزول - مجموع الفتاوى - (5/323) وما بعدها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1080 قد بين فساد هذا [أي المشترك الكلي وكونه قد يوجد في الأعيان] في غير موضع من كتبه، مثل كلامه في الفرق بين المطلق والمقد والكلي والجزئي، وغير ذلك، وزيف ظن من يظن أن الكلي يكون جزءا من المعين، وبين خطأ من يقول ذلك كالرازي وغيره، فلو رجع إلى أصله الصحيح الذي ذكره في الكلي والجزئي والمطلق والمعين، لعلم فساد هذه الحجة، ولكن لفرط التباس أقوالهم وما دخلها من الباطل الذي اشتبه عليهم وعلى غيرهم، ولكن لفرط التباس أقوالهم وما دخلها من الباطل الذي اشتبه عليهم وعلى غيرهم، تزلق أذهان كثير من الأذكياء في حججهم، ويدخلون في ضلالهم من غير تفطن لبيان فسادها، كالرازي والآمدى ونحوهما: تارة يمنعون وجو الصور الذهنية، حتى يمنعوا ثبوت الكلي في الذهن، وتارة يجعلون ذلك ثابتاً في الخارج" (1) . ثم ذكر شيخ الإسلام أن الآمدى في دقائق الحقائق أثبت المشترك الكلي في الخارج (2) ، وفي أحكام الأحكام نفاها ورد على الرازي (3) ، كما ذكر بأن الرازي نفاها أيضاً في الملخص (4) ، وبيان هذا التناقض الذي وقع فيه هؤلاء هو جزء من منهج شيخ الإسلام في ردوده عليهم (5) . 8- وإضافة إلى ما سبق من ردود فإن شيخ الإسلام يبين هذه المسألة ويوضحها من خلال بيان منهج السلف في الصفات، القائم على إثبات هذه الصفات لله تعالى كما وردت من غير تمثيل ولا تكييف، ولا تحريف ولا تعطيل، ونظرا لأن هؤلاء إنما أوقعهم بالقول بالمشترك اللفظي الخوف من التشبيه، فقد أوضح شيخ الإسلام المسألة وبينها وضرب لذلك بعض الأمثلة المهمة:   (1) درء التعارض (5/120) . (2) انظر: المصدر السابق (5/108-111) . (3) انظر: المصدر نفسه (5/120-125) ، وكلام الآمدي في الأحكام (2/183-184) - ت عبد الرزاق عفيفي -، وقد سبقت الإشارة إلى هذا في ترجمة الرازي (ص: 661) . (4) انظر: درء التعارض (5/125-126) ، وانظر أيضاً: (4/248-261) . (5) انظر غير ما سبق: الصفدية (1/99-103) ، ومسألة الأحرف - مجموع الفتاوى (12/96-97) ، ونقض التأسيس - مطبوع - (2/378-382) ، ومنهاج السنة (4/151-152) - ط بولاق -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1081 (أ) فقد بين أن الأسماء والصفات نوعان: نوع يختص به الرب، مثل الإله، ورب العالمين، ونحو ذلك، فهذا لا يثبت للعبد بحال، ومن ناضل المشركون الذين جعلوا لله أنداداً. والثاني: ما يوصف به العبد في الجملة، كالحي والعالم والقادر، فهذا لا يجوز أن يثبت للعبد مثل ما يثبت للرب أصلاً، فإنه لو ثبت له مثل ما يثبت له للزم أن يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويجب له ما يجب له، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، وذلك يستلزم اجتماع النقيضين (1) . وقد سبق تفصيل هذا في مبحث الألوهية والربوبية. (ب) وبالنسبة للنوع الثاني مما يتفقان فيه، فهل يلزم منه التماثل؟ يوضح شيخ الإسلام ذلك ببيان أن هذه الأمور لها ثلاثة اعتبارات: أحدهما: ما يختص به الرب، فهذا ما يجب له ويجوز ويمتنع عليه ليس للعبد فيه نصيب. والثاني: ما يختص بالعبد، كعلم العبد وقدرته وحياته، فهذا إذا جاز عليه الحدوث والعدم لم يتعلق ذلك بعلم الرب وقدرته وحياته، فإنه لا اشتراك فيه. والثالث: المطلق الكلي، وهو مطلق الحياة والعلم والقدرة، فها المطلق ما كان واجبا له كان وجابها فيهما، وما كان جائزاً عليه كاجائزاً عليهما، وما كان ممتعا عليه كان ممتنعا عليهما، فالواجب أ، يقال: هذه صفة كما حيث كانت، فالحياة والعلم والقدرة صفة كمال لكل موصوف والجائز عليهما اقترانهما بصفة أخرى كالسمع والبصر والكلام، فهذه الصفات يجوز أ، تقارن هذه في كل محل - اللهم إلا إذا كان هناك مانع من جهة المحل لا من جهة الصفة - وأما الممتنع عليهما، فيمتنع ا، تقوم هذه الصفات إلا بموصوف قائم بنفسه، هذا ممتنع عليهما في كل موضع فلا يجوز أن تقوم صفات الله بأنفسها، بل بموصوف   (1) منهاج السنة (2/596) - ط جامعة الإمام -، وانظر: الجواب الصحيح (2/232) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1082 وكذلك صفات العباد لا يجوز أن تقوم بأنفسها، بل بموصوف" (1) . وهذا المطلق الكلي الذي هو النوع الثالث، هو الذي من خلاله نفهم ما خوطبنا به، ولذلك فنحن نعلم مثلاً أنه إذا وصف أحد بصفة، فإن هذه الصفة لا بد أن تقوم بالموصوف، ما أننا نفرق بين صفة الحياة، والعلم والكلام، من غير أن يرتبط ذلك بتخصيص الموصوف بها، هل هو الخالق أو العبد، ولولا ذلك لكانت معرفتنا بأسماء الله وصفاته وآياته ألغازا وألفاظاً أعجمية لا تفهم، ومن أراد أن يلتزم نفي التشبيه بنفي أي نوع من أنواع التشابه الذي يرد في المطلق الكلي فلا بد أن يؤدي به الأمر إلى نفي وجود الخالق، ومتى أقر بوجود الخالق وأنه غير هذه المخلوقات لزمه شيء من هذا. (ج) ومن الأصول التي قررها السلف وركز عليها شيخ الإسلام أن القول في الصفات كالقول في الذات، يحتذى حذوه، فكما أن لله ذاتا لا تشبه ذوات المخلوقين، فكذلك له صفات لا تشبه صفات المخلوقين، وإذا كان إثبات الذات لله إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية، وهذا أصل عظيم، مقنع جداً لمن تدبره، وهو مرتبط بما سبق من أن صفات المخلوق تخصه، كما أن له ذاتا تخصه، وكذلك ربنا تبارك وتعالى له صفات تخصه وتليق به كما أن له ذاتا تخصه، ولا يخلط بينهما إلا مشبه ممثل، أو معطل ملحد في أسمائه وصفاته يريد أن يجعل ذلك سلما لتعطيله وتحريفه (2) . (ح) ضرب المثل بنعيم أهل الجنة، وبالروح: وهذان المثلان يكثر ورودهما في مناقشات شيخ الإسلام للأشاعرة ولغيرهم، وفي بيانه للمنهج الحق في الصفات، البعيد عن التأويل والتفويض والتمثيل والتشبيه.   (1) منهاج السنة (2/597-598) - ط جامعة الإمام -. (2) انظر في بيان هذا الأصل: التدمرية (ص:43-46) - ت - السعودي -، والفتوى الحموية - مجموع الفتاوى (5/114) ، وشرح حديث النزول - مجموع الفتاوى (5/330، 351) ، ومجموع الفتاوى (6/355، 12/575) ، ونقض التأسيس - مطبوع - (2/76) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1083 يقول شيخ الإسلام مستدلاً لهذه المسألة: "بل أبلغ من ذلك أن الله أخبر أن في الجنة من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح ما ذكره في كتابه، كما أخبر أن فيها لبنا، وعسلا، وخمراً، ولحما، وحريرا، وذهباً، وفضة، وحورا، وقصورا، ونحو ذلك، وقد قال ابن عباس: "ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء" (1) ، فتلك الحقائق التي في الآخرة ليست مماثلة لهذه الحقائق التي في الدنيا، وإن كانت مشابهة لها من بعض الوجوه، والاسم يتناولها حقيقة، ومعلوم أن الخالق أبعد عن مشابهة المخلوق، فكيف يجوز أن يظن أن فيما أثبته الله تعالى من أسمائه وصفاته مماثلاً لمخلوقاته وأن يقال: ليس ذلك بحقيقة، وهل يكون أحق بهذه الأسماء الحسنى والصفات العليا من رب السموات والأرض؟ مع أن مباينته للمخلوقات أعظم من مباينة كل مخلوق" (2) . وفي موضع آخر شرح ذلك فقال: "إنه يعلم الإنسان أنه حي عليم قدير سميع بصير متكلم، فيتوصل بذلك إلى أن يفهم ما أخبر الله به عن نفسه من أنه حي عليم قدير سميع بصير متكلم، فإنه لو لم يتصور لهذه المعاني من نفسه ونظره إليه لم يمكن أ، يفهم ما غابه عنه، كما أنه لولا تصوره لما في الدنيا من العسل واللبن والماء والخمر والحرير والذهب والفضة، لما أمكنه أ، يتصور ما أخبر به من ذلك من الغيب، لكن لا يلزم أن يكون الغيب مثل الشهادة فقد قال ابن عباس ... "وذكر قوله السابق، وشرح الفرق بين نعيم الجنة والدنيا وأن نعيم الجنة لا يفسد ولا يتغير، ثم قال: "فإذا كان ذلك المخلوق يوافق ذلك المخلوق في الاسم، وبينهما قدر مشترك وتشابه، علم به معنى ما خوطبنا به، مع أن الحقيقة ليست مثل الحقيقة، فالخالق جل جلاله أبعد عن مماثلة مخلوقاته، مما في الجنة لما في الدنيا.   (1) رواه وكيع في نسخته عن الأعمش، رقم (1) ، ت الفريوائي، وهناد في الزهد رقم (3،8) ، وأبو نعيم في صفة الجنة رقم (124) (1/160) ، والبيهقي في البعث والنشور رقم (332) ، وابن أبي حاتم في تفسيره [آية: 25 من سورة البقرة] ورقمه (261) - ت الدكتكور أحمد الزهراني - ط على الآلة الكاتبة، وابن جرير في تفسير [البقرة: آية 25] ، ورقمه عند شاكر (534-535) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (5286) ، وعزاه للضياء في المختارة. (2) مجموع الفتاوى (5/208) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1084 فإذا وصف نفسه بأنه حي عليم سميع بصير قدير، لم يلزم أن يكون مماثلاً لخلقه، إذ كان بعدها عن مماثلة خلقه أعظم من بعد مماثلة كل مخلوق لكل مخلوق ... " (1) . وهذا المثل واضح جدا، مبين للمسألة، وقد وفق شيخ الإسلام في عرضه وشرحه، وهو مما يسلم به مؤولة الصفات، لأنهم يثبتون البعث والجنة والنار، وقد سبق في موضوع تسلط الفلاسفة والقرامطة على المتكلمين بيان أن هؤلاء الملاحدة وصموهم بالتناقض لكونهم أولوا نصوص الصفات ولم يؤولوا نصوص المعاد والجنة والنار (2) ، ومعلوم أن الملاحدة طردوا الأمرين نفيا، وأهل السنة طردوهما إثباتا، وهؤلاء تناقضوا، وشيخ الإسلام حينما يضرب هذا المثل - مثل نعيم الجنة - كأنه يريد أن يقرن بين مسألة دلالة النصوص وأنها واحدة في الصفات والمعاد، - وقد شرحها في عرضه لتسلط الملاحدة - ومسألة ما يفهم من النصوص، وأن نصوص النعيم إذا كانت تفهم لأنها تشبه نعيم الدنيا مع ما بينهما من الاختلاف في الحقيقة والكيفية، فكذلك نصوص الصفات تفهم وتعلم ولا تقتضي موافقتها في الاسم لصفات العباد أن تكون مثلها أو مشابهة لها (3) . وكذلك مثل الروح، فإنها "إذا كانت موجودة، حية، عالمة، قادرة، سميعة بصيرة، تصعد وتنزل، وتذهب وتجيء، ونحو لك من الصفات، والعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها؛ لأنهم لم يشاهدوا لها نظيرا، والشيء إنما تدرك حقيقته، إما بمشاهدته، أو بمشاهدة نظيره، فإذا كانت الروح متصفة بهذه الصفات مع عدم مماثلتها لما يشاهد من المخلوقات، فالخالق أولى بمباينته لمخلوقاته،   (1) مجموع الفتاوى (9/295-296) . (2) انظر ما سبق: (ص: 896) وما بعدها. (3) انظر في شرح هذا المثل - مثل نعيم الجنة - التدمرية (ص: 46-50) - المحققة، والحموية - مجموع الفتاوى (5/115) ، ومنهاج السنة (2/157-159) - ط جامعة الإمام -، ومجموع الفتاوى (5/257-258، 6/123-125، 11/482-483) ، وتفسير سورة الإخلاص - مجموع الفتاوى (17/326) ، والتسعينية (ص: 122) ، والصفدية (1/288-289) ، وشرح حديث النزول - مجموع الفتاوى (5/348) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1085 مع اتصافه بما يستحقه من أسمائه وصفاته، وأهل العقول أعجز عن أن يحدوه أو يكيفوه منهم عن أن يحدوا الروح أو يكيفوها ... " (1) . ومثل الروح كثيراً ما يسوقه شيخ الإسلام لنفي اشتراط معرفة كيفية الصفات لإثباتها، وخاصة في مثل صفة الاستواء والنزول والمجئ، وقد أوضح شيخ الإسلام هذا المثل أيما إيضاح في مناسبات عديدة (2) . المسألة الخامسة: تقابل العدم والملكة (3) ، والرد على الملاحدة الغلاة: هذه المسألة من شبه الغلاة من الجهمية والقرامطة في نفيهم للصفات، وليس الغريب إيرادهم لها، لأن الباطل وأهله لا يتوقفون عن إيراد الأدلة على باطلهم ولو كانت ضعيفة متهافتة، وإنما الغريب أن يذعن لهذه الشبهة بعض النظار من المتكلمين ويعتقدوا أن اعتراضهم وشبهتهم صحيحة (4) .   (1) التدرية (ص: 56) - المحققة -. (2) انظر مثل الروح: الفتوى الحموية - مجموع الفتاوى (5/115-116) ، وشرح حديث النزول - مجموع الفتاوى (5/354-458) ، ومجموع الفتاوى (9/298) ، ودرء التعارض (6/131) . (3) المتقابلان هما اللذان لا يجتمعان من جهة واحدة، وهما أنواع: (I) ... الضدان، وهما اللذان لا يجتمعان ولكن قد يرتفعان، كالسواد والبياض. (II) ... المتضايفان، كالأبوة والبنوة، فهذان قد يجتمعان لكن من جهتين، لا من جهة واحدة، فالأبوة والبنوة قد تجتمع في زيد لكن من جهتين، فإن أبوته بالقياس إلى ابنه، وبنوته بالقياس إلى أبيه. (III) ... المتقابلان بالسلب والإيجاب، وهما أمران أحدهما عدم الآخر مطلقا، كالفرسية، واللافرسية، ومثل: زيد حيوان، زيد ليس بحيوان. (IV) ... المتقابلان بالملكة والعدم: وهما أمران أحدهما وجودي والآخر عدم ذلك الأمر الوجودي لا مطلقا، بل من القابل، كالبصر والعمى والعلم والجهل، فالعمى عدم البصر عما من شأنه البصر، والجهل عدم العلم عما من شأنه العلم. والمراد بالملكة~: كل معنى وجودي أمكن أ، يكون ثابتا للشيء إما بحق جنسه كالبصر للإنسان أو بحق نوع ككتابة زيد، أو بحض شخصه كاللحية للرجل، وأما العدم المقابل لها فهو ارتفاع هذه الملكة. فقال هؤلاء: لما لم يكن الجماد، كالحجر، قابلا للاتصاف بالبصر والعمى، فإنه لا يقال فيه: أعمى ولا بصير (انظر التعريفات ص: 105-106، والمعجم الفلسفي - صليبا 2/318-319) . (4) ذكر هذه المسألة قد يكون من باب الاستطراد، خاصة في مثل هذا البحث الذي كثرت فروعه وتشعبت مسائله، ولكن الذي دعا إلى ذلك أمور: أحدها: أن بعض الأشاعرة - كالآمدي - ذكروا صحة هذه الشبهة وصعوبة الجواب عنها. والثاني: أن هذه الشبهة لم يقتصر مداها وخطرها على مبحث صفة السمع والبصر والكلام؛ التي أثبتها الأشاعرة وغيرهم بطرق، منها لسمع، ومن ثم فصحة هذه الشبهة لم يقدح في ثبوت هذه الصفات بأدلة أخرى، وإنما تعداها إلى صفات أخرى كالعلو، حيث احتج من يقول أنا أقول: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، أو لا قائم بنفسه ولا قائم بغيره بهذه الحجة، وإنهما متقابلان تقابل العدم والملكة. انظر مثلا: درء التعارض (6/127-128) . والثالث: كثرة إيراد شيخ الإسلام لهذه المسألة في كتبه أثناء مناقشته لنفاة الصفات، ومن ثم فإيرادها هنا قد يفيد في بيان مدخل هذه المسألة وسبب إيرادها في مناسبات عديدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1086 وخلاصة المسألة أن الصفاتية احتجوا على إثبات صفة السمع والبصر والكلام لله بدليل الكمال، وهو أنه لو لم يكن متصفاً بهذه الصفات لا تصف بضدها، فاعترض النفاة على هذا بأن هذا يلزم في القابل لها، أما غير القابل - كالجماد - فنفي البصر عنه لا يلزم منه العمى، لكونه غير قابل لهما، يقول شيخ الإسلام في أحد المواضع - وكلامه في ذلك كثير -: "فإن قيل لهم: إذا لم يوصف بصفة الكمال، لزم اتصافه بهذه النقائص. قالوا: هذا إنما يكون فيما يقبل الاتصاف بهذا وهذا، ويقول المنطقيون: هذان متقابلان تقابل العدم والملكة، لا تقابل السلب والإيجاب، والمتقابلان تقابل السلب والإيجاب لا يرتفعان جميعاً، بخلاف المتقابلين تقابل العدم والملكة، كالحياة والموت، والعمى والبصر، فإنهما قد يرفتعان جميعا إذا كان المحل لا يقبلهما كالجمادات، فإنها لما لم تقبل الحياة والبصر والعلم لم يقل فيها إنها حية ولا ميتة، ولا عالمة ولا جاهلة. وقد أشكل كلامهم هذا على كثير من النظار، وأضلوا به خلقاً كثيراً، حتى الآمدى وأمثاله من أذكياء النظار، اعتقدوا أن هذا كلام صحيح، وأنه يقدح في الدليل الذي استدل به السلف والأئمة ومتكلموا أهل الإثبات في إثبات السمع والبصر وغير ذلك من الصفات، وهذا من جملة تلبيسات أهل المنطق والفلسفة التي راجت على هؤلاء فأضلتهم عن كثير من الحق الصحيح، المعلوم بالعقل الصريح" (1) .   (1) درء التعارض (6/135) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1087 وموقف الآمدى - المتأثر بهذه الشبهة كما ذكر شيخ الإسلام - ذكره في أبكار الأفكار، وفي غاية المرام، فقد قال في الأبكار بعد ذكر الشبهة وأنواع المتقابلات: "فإن أريد بالتقابل ها هنا تقابل التناقض بالسلب والإيجاب وهو أنه لا يخلو من كونه سميعا وبصيرا ومتكلما أو ليس، فهو ما يقوله الخصم ولا يقبل نفيه من غير دليل.. وإن أريد بالتقابل تقابل العدم والملكة فلا يلزم أيضاً من نفي الملكة تحقق العدم ولا بالعكس، إلا في محل يكون قابلا لهما، ولهذا يصح أن يقال: الحجر لا أعمى ولا بصير، والقول بكون الباري تعالى قابلا للبصر والعمى دعوى محل النزاع، والمصادرة على المطلوب، وعلى هذا فقد امتنع لزوم العمى والخرس والطرش في حق الله تعالى من ضرورة نفي البصر والسمع والكلام عنه (1) ". ولما رأى الآمدى صدق هذا الاعتراض أحال على طريقة أخرى في الاستدلال لهذه الصفات، أما أصحابة الشبهة من القرامطة وغيرهم فقد قالوا بسلب النقيضين فقالوا: نقول: لا أعمى ولا بصير وهكذا. وقد رد شيخ الإسلام على هذه الشبهة وعلى من صححها، وبين زيفها وبطلانها من وجوه عديدة منها: 1- أن ما لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال أنقص مما يقبل الاتصاف بصفات الكمال، ولذلك كان الحجر أنقص من الحي الأعمى، وحينئذ فإذا كان اتصافه بكون أعمى، أصم، أبكم ممتنعا، مع كون المتصف بذلك أكمل من الجماد والذي لا يقبل الاتصاف بهذا وضده؛ علم أن القول بأنه تعالى غير قابل للاتصاف بذلك أعظم في نقصه، وهو أشد امتناعا. 2- أن هذا اصطلاح اصطلحتم عليه، وهو باطل من وحهين: أأن ما لا حياة فيه ييسمى مواتا وميتا، وهذا موجود في لغة العرب، وقد جاء في القرآن، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} (النحل: من الآية20-21) ، وهذا في أصنام العرب   (1) أبكار الأفكار (1/57) - ب، وانظر: غاية المرام (ص: 50-51) ، وقارن ذلك بما في التدمرية (ص: 151-154) مع حاشية المحقق، ودرء التعارض (4/34-37) ، حيث نقل كلام الآمدي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1088 وهي من الجمادات، وقال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} (يّس: من الآية33) ، وقال: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (الحديد: من الآية17) . ب أن الجامدات يمكن اتصافها بالحياة وغيرها، فإن الله قادر على أن يخلق في الجمادات حياة، كما جعل عصا موسى حية تسعى، تبلع الحبال والعصى. 3- أن نفس عدم الحياة والعلم والقدرة نقص لكل ما عدم عنه ذلك سواء فرض قابل أو غير قابل، فإنا إذا قدرنا موجودين أحدهما يسمع ويبصر ويتكلم، والآخر ليس كذلك، كان الأول أكمل من الثاني، وما لا يقبل ذلك أنقص مما يقبله. 4- أن كل محذور في عدم الملكة هو ثابت في السلب العام وزيادة، فإذا كنتم تقولون: ليس ميتا ولا جاهلا ولا أعمى، كان قولكم مع ذلك: ليس حيا ولا عالما ولا بصيرا، فيه من النقص ما في قول من يقول: ميت وجاهل وأعمى، وزيادة، وهذا مبني على أن ما لا يقبل الملكة أنقص من القابل لها. 5- أن كل كمال اتصف به الممكن إذا لم يستلزم نقصا، فالواجب أولى به من الممكن، واتصافه به أولى لأنه أ: مل ولأنه معطي الكمال لغيره، فالإنسان - الذي هو أكمل عندكم من الجدار الذي ضربتم به المثل في عدم القبول - إذا كان متصفا بصفة من صفات الكمال الذي لا نقص به، فالخالق أولى به، وهذا واضح. 6- أن يقال لهؤلاء أنتم فررتم من التشبيه بالمخلوق الناقص فوقعتم في شر منه حيث شبهتموه بالجماد الذي هو أشد نقصا، بل إن سلبكم النقيضين أدى إلى تشبيهه بما هو أشد نقصا من المعدومات والممتنعات (1) .   (1) انظر فيما سبق: الصفدية (1/90-96) ، والتدمرية (159-164) - المحققة - والجواب الصحيح (2/110-111) ، وشرح الأصفهانية (ص:76) - ت مخلوف -، ودرء التعارض (1/222-223، 341، 3/367-368، 4/9-10، 34-40، 159-160، 5/273-274، 6/135-137) ، والرسالة الأكملية، مجموع الفتاوى (6/88-90) ، وأيضاً مجموع الفتاوى (6/538، 8/22-24) ، والكيلانية مجموع الفتاوى (12/357-358) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1089 هذه أهم أوجه الرد، وهناك ردود أخرى متجهة إلى نفس تقسيمهم للمتقابلات وبيان أنه متداخل وغير حاصر (1) . وبذلك يتبين صحة هذا الدليل على إثبات الصفات، وأن الله لو لم يتصف بالسمع والبصر لا تصف بضدها، كما يتبين تهافت شبهة هؤلاء وبطلانها، وأن الآمدى وغيره كانوا قاصري الفهم حين ظنوا صحة هذه الشبهة. المسألة السادسة: هل الصفة هي الموصوف أو غيره؟: هذه المسألة شبيهة بمسألة: هل الاسم هو المسمى أو غيره، وكل ذلك من الألفاظ المجملة التي كان للسلف - رحمهم الله - فيها موقف واضح محدد، وهو أنه لا ينبغي إطلاق النفي ولا الإثبات، بل لا بد من الاستفصال. والمهم هنا قبل عرض الخلاف في ذلك وبيان الراجح، توضيح منشأ بحث هذه المسألة، أي مسألة هل الصفة هي الموصوف أو غيره، والتي يعبر عنها أحيانا بالقول: هل الصفات هي الذات أو غيرها، والذي يظهر أن ذلك نشأن من خلال ردود أهل الكلام على النصاري: أفالنصارى قالوا: إن كلمة الله التي بها خلق كل شيء تجسدت بإنسان، فكان من ردود أهل الإسلام عليهم - لبيان باطلهم - أن بينوا تهافت قولهم: إن كلمة الله بها خلق كل شيء، لأن الخالق هو الله، وهو خلق الأشياء بقوله "كن" وهو كلامه، فالخالق لم يخلق به الأشياء، فالكلام الذي به خلقت الأشياء ليس هو الخالق لها، بل به خلق الأشياء، فضلال هؤلاء أنهم جعلوا الكلمة هي الخالق. والكلمة مجرد الصفة، والصفة ليست خالقة، وإن كانت الصفة مع الموصوف فهذا هو الخالق، ليس هو المخلوق به، والفرق بين الخالق للسموات والأرض والكلمة التي بها خلقت السموات والأرض أمر ظاهر معروف، كالفرق بين القدرة والقادر ... (2) فهؤلاء النصارى جعلوا الصفة غير الموصوف، وجعلوها خالقة، بل جعلوها حلت في أحد المخلوقات.   (1) انظر التدمرية (ص: 154-159) - المحققة -. (2) انظر: الجواب الصحيح (2/266، 292، 3/54-44) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1090 ب وكان من آثار مناقشة أهل الكلام - وخاصة المعتزلة - للنصارى أن تطرقوا لهذا الموضوع كثيرا، فنشأت شبهة تعدد القدماء، وأن إثبات صفة لله يلزم منه أن تكون قديمة، وإذا كانت غير الموصوف لزم تعدد القدماء، فظنوا - أي المعتزلة - أن تحقيق التوحيد، والخلوص من شرك النصارى لا يتم إلا بنفي جميع الصفات عن الله تعالى وبنوا ذلك على: - أن الصفة غير الموصوف، وغير الذات. - وأن الصفة لله لا بد أن تكون قديمة. والنتيجة أن إثبات الصفات لله يلزم منه تعدد القدماء، وهو باطل (1) . والعجيب أن هؤلاء المعتزلة - وهم أرباب الكلام والبحث في المعقولات - لم تستوعب عقولهم أن الذات لا يمكن أن تنفك عن صفاتها، ومن ثم فلا شبهة ولا تعدد. ج- فلما جاءت الأشعرية وغيرهم اهتموما ببحث هذه المسألة، وصاروا يستخدمون عبارات معينة عن بيان قدم الذات والصفات، كأن يقولوا: الرب قديم، وصفته قديمة، ولا يقولون: الرب وصفاته قديمان لما في العطف والتثنية من الإشعار بالتغاير، أو يقولون: الرب بصفاته قديم، وهكذا. كما بينوا أن الصفات لا يقال هي الذات ولا غيره، حذرا من هذه الشبهة التي وقع فيها المعتزلة. وخلاصة الأقوال في الصفة هل هي الموصوف أو غيره هي: 1- قول من يقول: الصفة غير الموصوف، أو الصفات غير الذات، وهذا قول المعتزلة والكرامية، والمعتزلة تنفي الصفات، والكرامية تثبتها (2) .   (1) انظر: تفصيل مذهب المعتزلة في المحيط بالتكليف (ص: 177) وما بعدها، ط مصر، وشرح الأصول الخمسة (ص: 195-197) ، والمختصر في أصول الدين (1/182-183) ضمن رسائل العدل والتوحيد. (2) انظر: مجموع الفتاوى (3/336) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1091 2- قول من يفرق بين الأمرين، ولا يجمع بينهما،فيقول: أنا أقول مفرقا: أن الصفة ليست هي الموصوف وأقول:إنها ليست غير الموصوف ولكن لا أجمع بين السلبين فأقول: ليست الموصوف ولا غيره، لأن الجمع بين النفي فيه من الإيهام ما ليس في التفريق، وهذا قول أبي الحسن الأشعري، الذي يقول على هذا: الموصوف قديم، والصفة قديمة، ولا يقول عند الجمع: قديمان، كما لا يقال عند الجمع: لا هو الموصوف ولا غيره (1) . 3- جاء بعد الأشعري من الأشاعرة من يجوز الجمع بين السلبين، وصاروا يقولون: ليست الصفة هي الموصوف ولا غيره، كما صاروا يجوزون إطلاق القول بإثبات قديمين، وصار هؤلاء يردون على المعتزلة الذين قالوا لهم يلزم من ذلك إثبات قديمين بعد ردود منها "أن كونهما قديمين لا يوجب تماثلهما كالسواد والبياض اشتركا في كونهما مخالفين للجوهر، ومع هذا لا يجب تماثلهما وأنه ليس معنى القديم معنى الإله ... ولأن النبي محدث وصفاته محدثة، وليس إذا كان الموصوف نبيا وجب أن يكون صفاته أنبياء لكونهما محدثة، كذلك لا يجب إذا كانت الصفات قديمة والموصوف بها قديما أن تكون آلهة لكونهما قديمة" (2) ، وهذا قول الباقلاني (3) ، والقاضي أبي يعلى (4) . 4- أن هذا الكلام فيه إجمال، وأن لفظ "الغير" فيه إجمال، ومن ثم فلا بد من التفصيل، وهؤلاء لا يقولون عن الصفة: إنها الموصوف ولا يقولون: إنها غيره، ولا يقولون: ليست هي الموصوف ولا غيره. ويلاحظ أن المقصود ليست إثبات قول ثالث كما هو قول الباقلاني والقاضي أبي يعلى الذين قالوا ليست الصفة هي الموصوف ولا غيره - فإن هذا قول ثالث، بل المقصود   (1) انظر: الرسائل إلى أهل الثفر (ص: 70-71) [وقد نسب إليه ابن فورك في المجرد ص: 38، أنه يقول: لا يقال لصفاته هي هو ولا غيره] وانظر أيضاً: الرسالة الأكملية - مجموع الفتاوى (6/96) ، وجواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى (17/160) ، ودرء التعارض (5/49) . (2) درء التعارض (5/50) ، وقارن بالتدمرية (ص: 118) - المحققة -. (3) انظر التمهيد (ص: 206-207، 210-212) ، ورسالة الحرة [المطبوعة باسم الإنصاف] (ص: 38) . (4) انظر: المعتمد (ص:46) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1092 أنه لا ينبغي الإطلاق: نفا وإثباتا، وهم تركوا إطلاق اللفظين لما في ذلك من الإجمال. وهذا قول جمهور أهل السنة، كالإمام أحمد وغيره، كما أنه قول ابن كلاب (1) . وهؤلاء قالوا: لفظ "الغير" فيه إجمال: - فقد يراد به المباين المنفصل، ويعبر عنه بأن الغيرين ما جاز وجود أحدهما وعدمه، أو ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود. - وقد يراد بالغير ما ليس هو عين الشيء، ويعبر بأنه ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر (2) . وهناك فرق بين الأمرين، وعلى هذا فيفصل الأمر: 1- فإذا قيل: هل الصفات هي الموصوف أو غيره؟ قيل: إن أريد بالغير الأول، وهو ما جاز مفارقة أحدهما الآخر، فليست الصفة غير الموصوف، وإن أريد بالغير المعنى الثاني - وهو ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر - فالصفة غير الموصوف. فمن قال: إن الصفة هي الموصوف، قاصد بذلك أنها ليست غيره بالمعنى الأول للفظ الغير، فقوله صحيح، وكذا إن قال: الصفة غير الموصوف قاصداً بالغير المعنى الثاني فكلامه صحيح أيضاً. وعكس الأمرين باطل، والسلف يقولون بهذا التفصيل، ومن المعلوم أن الموصوف لا تنفك عنه صفاته.   (1) انظر: جواب أهل العلم والإيمان (17/159-160) ، ودرء التعارض (2/270، 5/49) ، وانظر: مقالات الأشعري (ص: 169-170) - ريتر -. (2) انظر: درء التعارض (1/281) ، وجواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى (17/160-161) ، والمسألة المصرية في القرآن - مجموع الفتاوى (12/170) ، والسبعينية (ص: 96-97) - ط الكردي -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1093 2- وإذا قيل: هل الصفات زائدة على الذات، أو هل الصفات هي الذات أو غيرها؟ قالوا: إن أريد بالذات المجردة التي يقر بها نفاة الصفات فالصفات زائدة عليها، وهي غير الذات، وإن أريد بالذات الذات الموجودة في الخارج فتلك لا تكون موجودة إلا بصفاتها اللازمة والصفات ليست زائدة على الذات، ولا غيرها بهذا المعنى. ومن ذلك يتضح خطأ وصواب من أطلق القول بأن الصفات غير الذات أو هي الذات (1) ، على حسب ما في لفظ الغير، الذات من الإجمال. وبذلك يتبين أرجحية مذهب السلف حين لم يطلقوا الأمرين في ذلك، بل فصلوا واستفصلوا عن المراد، فإن كان حقا قبلوه وإن كان باطلا ردوده (2) . * * * هذه أهم مباحث الصفات التي أثبتها الأشاعرة، وقد خل في إثباتهم - بسبب خوضهم في علم الكلام والفلسفة - كثير من المسائل الفرعية التي خالفوا فيها مذهب السلف. وإذا كان هذا حالهم في الصفات التي اشتهر عنهم إثباتها، فكيف يكون حالهم في الصفات التي لم يثبتوها، وإنما أولوها أو نفوها؟. هذا ما سيتم توضيحه في المباحث القادمة إن شاء الله.   (1) لشيخ الإسلام ملاحظة دقيقة هنا، وهي أنه يجب أ، يفرق بين قول القائل: إن الصفات غير الذات وقوله: إنها غير الله، لأن لفظ "الذات" يشعر بمغايرته للصفة، بخلاف اسم "الله" تعالى فإنه متضمن لصفات كماله، وعلى ذلك فإنه لا يقال: إن الصفات غير الله، لما في ذلك من الإيهام. أما القول إنها غير الذات فقد يكون صحيحاً، لما في التعبير بالذات من الإشعار بأن المقصود بالذات المجردة دون صفاتها. انظر: الجواب الصحيح (3/308) ، والصفدية (1/108-109) ، ودرء التعارض (10/72) . (2) انظر في هذه المسألة: التسعينية (ص: 108-109) ، والدرء (2/230-231، 3/ 20-25، 5/37-50، 338، 9/136، 10/120، 231، 235) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1094 ثالثاً: الصفات التي نفوها أو أولوها: سبق في بداية الفصل تفصيل أقوال الأشاعرة في الصفات التي نفوها أو أولوها، مع بيان الفرق بين متقدميهم ومتأخريهم في هذا الباب: 1- فقد تبين أن جميع الأشاعرة ينفون الصفات الاختيارية عن الله وأنه لا فرق في ذلك بين متقدميهم ومتأخريهم. 2- كما أن أقوالهم في كلام الله والقرآن مرتبطة بهذه المسألة. 3- كما تبين أن الصفات الخبرية أثبتها المتقدمون وتأولها المتأخرون. 4- وكذا العلو والاستواء. والذي استقر عليه المذهب الأشعري تأويل ماعدا الصفات السبع التي أثبتوها (1) ، وقد كان جل اهتمام شيخ الإسلام منصباً على هؤلاء، وكثيرا ما يرد عليهم بأقوال شيوخهم المتقدمين، كما هو واضح في منهجه. وخطة هذا المبحث يمكن عرضها من خلال المسائل التالية: المسألة الأولى: بيان حجج الأشاعرة العامة على ما نفوه من الصفات والعلو، وبيان مناقشة شيخ الإسلام لهذه الحجج. المسألة الثانية: بيان القواعد العامة في ردود شيخ الإسلام على الأشاعرة فيما نفوه من الصفات. ثم مناقشتهم تفصيلا في: المسألة الثالثة: الصفات الإختيارية [ومسألة حلول الحوادث] . المسألة الرابعة: الصفات الخبرية. المسألة الخامسة: العلو. المسألة السادسة: كلام الله. ويلاحظ أن بعض هذه المناقشات ستتم الإحالة - منها - على ما سبق ذكره في الفصول والمباحث السابقة.   (1) مع أن إثباتهم لها فيه ما فيه كما سبق تفصيله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1095 المسألة الأولى: حجج الأشاعرة العامة على ما نفوه من الصفات والعلو، ومناقشتها : لم يكن نفي الأشاعرة لبعض الصفات أو للعلو بناء على موقفهم من نص من نصوص الصفات أو العلو، رأوا أنه لا بد من تأويله، أو أن دلالته غير واضحة، أو غير ذلك من الأمور المتعلقة بتفاصيل الأدلة، وإنما كان نفيهم لذلك وتأويله بناء على أدلة عقلية رأوا أنها دالة على وجوب النفي، وضرورة اللجوء إلى التأويل، ثم أثر تصحيحهم لهذه الأدلة العقلية على موقفهم من الأدلة والنصوص مفصلة. ويمكن عرض أدلتهم كما يلي: أولاً: أدلتهم وحججهم العقلية: وقد ذكر شيخ الإسلام أن جماع أدلتهم حجتان أو ثلاث (1) : أ - حجة الأعراض، والاستدلال بها على حدوث الموصوف بها أو ببعضها كالحركة والسكون، وهذه الحجة مبنية على أن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، وعلى امتناع حوادث لا أول لها. وهذا هو دليل حدوث الأجسام الذي سبق توضيحه (2) . فهؤلاء نفوا الصفات الاختيارية عن الله تعالى بناء على أن إثبات ذلك يقتضي أ، يكون الموصوف جسما، وهذا ممتنع لأن الدليل على إثبات الصانع إنما هو حدوث الأجسام، ولو أثبت الله الصفات لاقتضى ذلك أن جسم قديم، فلا يكون كل جسم حادثا فيبطل دليل إثبات حدوث العالم والعلم بالصانع (3) . ب - حجة التجسيم والتركيب، حيث زعموا أن إثبات بعض الصفات كالوجه واليدين، أو الإستواء، أو العلو، أو النزول، أو غيرها، يلزم منه التجسيم، أو التركيب، وبنوا نفي الجسم على أن الأجسام متماثلة فيلزم من إثباتها   (1) انظر: درء التعارض (4/272، 6/183-184، 7/141) . (2) في فصل توحيد الألوهية والربوبية. (3) انظر: درء التعارض (1/247، 306، 5/286-288، 7/178) ، نقض التأسيس - مطبوع - (1/143) ، والمسألة المصرية في القرآن - مجموع الفتاوى (12/184-185) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1096 أن يكون الله مثل الأجسام. كما بنوا نفي التركيب على أنه لا بد له من مركب، وعلى أن المركب مفتقر إلى حزئه. وأصل هذه الشبهة - شبهة التركيب - جاء من عند الفلاسفة والمعتزلة الذين قالوا: إن إثبات الصفات كالسمع والبصر والكلام والقدرة يلزم منه أن يكون مركبا من الذات والصفات (1) . ج حجة الاختصاص، وخلاصتها أنهم قالوا: إن أجزاء العالم مفتقرة إلى ما يخصصها بما لها من الصفات الجائزة لها، وكل ما كان كذلك فهو محدث. وبنوا ذلك إما على تناهي الأجسام وأنه لا بد لها من شكل معين ومقدار معين، أو على اجتماع الأجسام وافتراقها بناء على مسألة الجواهر الفرد. وقالوا كل ما كان مفتقرا إلى المخصص فهو محدث، فالأجسام والجواهر حادثة (2) . ثم قال هؤلاء إن اختصاص الباري بالقدر والحد يقتضي مخصصا، واختصاصه بالجهة يقتضي مخصصا، وهذا باطل. فهذه الحجج الثلاث مبنية على نفي الجسم، وهناك حجة رابعة لا تبني عليه وهي حجة الكمال والنقصان وسيأتي بيانها - إن شاء الله - في مسألة الصفات الاختيارية التي تقوم بالله، أو ما يسمى بحلول الحوادث، لأن هذه الحجة خاصة بها. ثانياً: موقفهم من أدلة السمع المثبتة للصفات: وقد بنوا ذلك على أدلتهم العقلية، السابقة، حيث إنهم قالوا بتقديم العقل على السمع عند التعارض، ومن ثم كان خلاصة موقفهم من الأدلة السمعية التي جاءت بإثبات الصفات التي نفوها أو أولوها: أ - من ناحية الثبوت - قالوا عن أخبار الآحاد إنها لا يحتج بها في العقيدة. ب - من ناحية الدلالة - وذلك في مثل دلالة القرآن - الذي لا يشك   (1) انظر: درء التعارض (4/272، 7/141-142) . (2) انظر: المصدر السابق (3/351-353) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1097 أحد في ثبوته - أو الحديث عند من يرى الاحتجاج به في العقائد - فقد قالوا فيها إنها من المتشابه، وحينئذ فسبيلها أحد أمرين: - إما التفويض. - أو التأويل عن طريق المجاز وغيره. هذه خلاصة حججهم العامة في باب الصفات، وهي كما يلاحظ بنيت على أدلة العقول، وتشبيه الله بخلقه، حيث صاروا يحكمون عليه تعالى وعلى صفاته بما يحكمون به على مخلوقاته، فأدى بهم هذا التشبيه إلى التعطيل. مناقشة هذه الأدلة: أولاً: مناقشة الأدلة العقلية: الدليل الأول: دليل الأعراض وحدوث الأجسام: أما دليل الأعراض وحدوث الأجسام، فقد سبق بيان فساده، وبطلان مقدماته، وأن كثيرا من الأشاعرة من المتقدمين كالأشعري، والمتأخرين كالرازي بينوا أن هذا الدليل لن تدع إليه الرسل وأن ثبات حدوث العالم لا يتوقف عليه، كما سبق الرد عليهم في استدلالهم بقصة إبراهيم الخليل وقوله: {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (الأنعام: من الآية76) (1) . الدليل الثاني: دليل التركيب والتجسيم (2) : وأما دليل التركيب والتجسيم، فهو من أشهر أدلتهم وأكثرها دورانا في كتبهم، وقد بين شيخ الإسلام بطلان حجتهم من خلال الوجوه التالية: 1- أن لفظ الجسم والتركيب فيه إجمال، وهذا الإجمال هو الذي أوقع هؤلاء في التخبط والاضطراب، والإجمال - كما يرى شيخ الإسلام - كثيرا   (1) انظر الفصل السابق - فصل توحيد الربوبية والألوهية. (2) أما حجة "التشبيه" فقد سبقت مناقشتها عند الكلام على الصفات التي أثبتوها وخاصة مسألة "المشترك"، انظر (ص: 1060) وما بعدها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1098 ما يكون سببا في قول الباطل أو رد الحق، لذلك كان من أصول منهجه ومناقشاته بيان الإجمال في المصطلحات والألفاظ. ومن ذلك لفظ "الجسم" و"المركب" هنا، القائل: إن إثبات الصفات، أو إثبات الاستواء أول العلو أو النزول أو الوجه أو اليدين وغيرها، يلزم منه التجسيم، أو التركيب. يقال له: ما تعني بالتجسيم أو التركيب، لأن هناك أقوالاً عديدة في كل منهما: فالجسم فيه أقوال: - في اللغة هو البدن والجسد. - وعند أهل الكلام: قيل: هو المركب من الجوهر الفرد، إما جوهران أو أربعة، أو ستة، أو ثمانية، أو ستة عشر، أو اثنان وثلاثون. - وقيل: هو المركب من المادة والصورة، كما تقوله الفلاسفة. - وقيل: هو الموجود أو القائم بنفسه، أو ما يمكن أن يشار غليه. ولكثرة مناقشات شيخ الإسلام لهذا الإجمال في الجسم فيمكن اختيار النص التالي له، والإشارة في الحاشية إلى المواضع الأخرى التي ذكر فيها هذا الكلام أو نحوه، فإنه قال بعد أن ذكر الأقوال في الجسم: "إذا قال القائل: إن الباري تعالى جسم. قيل له: أتريد أنه مركب من الأجزاء كالذي كان متفرقا فركب؟ أو أنه يقبل التفريق، سواء قيل: اجتمع بنفسه، أو جمعه غيره؟ أو أنه من جنس شيء من المخلوقات؟ أو أنه مركب من المادة والصورة؟ أو من الجواهر المنفردة؟ فإن قال هذا. قيل: هذا باطل. وإن قال: أريد به أنه موجود أو قائم بنفسه ... أو أنه موصوف بالصفات، أو أنه يرى في الآخرة، أو أنه يمكن رؤيته، أو أنه مباين للعالم، فوقه، ونحو هذه المعاني الثابتة بالشرع والعقل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1099 قيل له: هذه معان صحيحة، ولكن اطلاق هذا اللفظ على هذا بدعة في الشرع، مخالف للغة، فاللفظ إذا حمل المعنى والحق والباطل لم يطلق، بل يجب أن يكون اللفظ مثبتا للحق نافياً للباطل. وإذا (1) قال: ليس بجسم. قيل: أتريد بذلك أنه لم يركبه غيره، ولم يكن أجزاء متفرقة فركب، أو أنه لا يقبل التفريق والتجزئة كالذي ينفصل بعضه عن بعض؟ أو أنه ليس مركبا من الجواهر المنفردة، ولا من المادة والصورة، ونحو هذه المعاني. أو تردي به شيئاً يستلزم نفي اتصافه بحيث لا يرى، ولا يتكلم بكلام يقوم به، ولا يباين خلقه، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل منه شيء، ولا تعرج إليه الملائكة ولا الرسول، ولا ترفع إليه الأيدي، ولا يعلو على شيء، ولا يدنو منه شيء، ولا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا مباين ولا محايث له، ونحو ذلك من المعاني السلبية التي لا يعقل أن يتصف بها إلا المعدوم. فإن قال: أردت الأول: قيل: المعنى صحيح، لكن المطلقون لهذا النفي أدخلوا فيه هذه المعاني السلبية، ويجعلون ما يوصف به من صفات الكمال الثبوتية مستلزمة لكونه جسما، فكل ما يذكر من الأمور الوجودية يقولون: هذا تجسيم، ولا ينتفى ما يسمونه تجسميا إلا بالتعطيل المحض؛ ولهذا كل من نفي شيئاً له لمن أثبته: إنه مجسم: فغلاة النفاة من الجهمية والباطنية يقولون لمن أثبت له الأسماء الحسنى: إنه مجسم. ومثبتة الأسماء دون الصفات من المعتزلة ونحوهم يقولون لمن أثبت الصفات: إنه مجسم. ومثبتة الصفات دون ما يقوم به من الأفعال الاختيارية [كالأشاعرة] يقولون لمن أثبت ذلك: إنه مجسم، وكذلك سائر النفاة.   (1) في طبعة جامعة الإمام من منهاج السنة (2/1212) (وإذا) ولعل الألف ساقطة طباعة، وهي على الصواب في الطبعة الأخرى المحققة (2/156) - مكتبة دار العروبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1100 وكل من نفى ما أثبته الله ورسوله بناء على أن إثباته تجسيم يلزمه فيما أثبته (1) ... " (2) . والتفصيل في الأمور المجملة ومنها الجسم هو منهج السلف رحمهم الله تعالى، مع ترجيحهم عدم إطلاق الألفاظ والمصطلحات غير الواردة في الشرع (3) . أما القول بأن الجسم مركب من المادة والصورة فهذا قول الفلاسفة وقد رده جمهور العلماء بما فيهم الأشاعرة. وأما القول بأن الجسم ما ركب من جوهرين، وأن الأجسام تنتهي إلى جزء لا يتجزأ وهو الجوهر الفرد، فهذا قول جمهور الأشاعرة، وقد أبطله بعض أعلامهم - كما سبق - (4) كما أبطله وناقشته شيخ الإسلام، وبين أن الراجح أن الأجسام تنتهي إلى الإستحالة، أي تستحيل إلى أجسام أخرى كما هو مفصل في مواضع عديدة من كتبه (5) .   (1) في ط جامعة الإمام من منهاج السنة (2/214) ، وكذا في ط دار العروبة - المحققة - (2/157) [فيما أثبته الله ورسوله] ثم ذكر المحقق _ رحمه الله - أنه هكذا في نسختى (ب) و (أ) ، ثم ذكر أن الكلام فيه سقط وحاول إكمال ما بقي من النقص في الحاشية. والذي أرجحه أن عبارة [الله ورسوله] ليست تابعة لقوله [فيما أثبته] لأن سياق العبارة يأباه، ولذلك أوقفت النقل إلى قوله [أثبته] والمعنى عليه واضح ... والله أعلم. (2) منهاج السنة (2/211-214) ، وانظر أيضاً (ص:549) . (3) انظر في لفظ "الجسم" وما فيه من الإجمال، والأقوال فيه، ومنهج السلف في إطلاقه: التسعينية (ص: 192-193) ، نقض التأسيس - مخطوط - (1/121) ، ونقض التأسيس - مطبوع - (2/498-499) ، وشرح حديث النزول - مجموع الفتاوى (5/420-434) ، درء التعارض (4/134-139) - ط جامعة الإمام، والرسالة الأكملية - مجموع الفتاوى (6/102-104) . (4) في فصل "توحيد الألوهية والربوبية". (5) انظر في مسألة الجوهر الفرد ورأى شيخ الإسلام في إنقسام الأجسام: منهاج السنة (2/139-141) - ط جامعة الإمام، وشرح الأصفهانية (ص: 315) - ت السعوي، وتفسير سورة الإخلاص - مجموع الفتاوى (17/243-244، 230-325) ، شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى (50424-428) ، نقض التأسيس - مطبوع - (1/280-281، 285-286) ، درء التعارض (1/303، 2/190-191، 3/355، 442-447، 4/183-186، 5/145،196-203، 7/220-223،232-234، 8/322-3259. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1101 أما "التركيب" ففيه إجمال أيضاً: فالفلاسفة جعلوه خمسة أنواع: التركيب من الوجود والماهية، والتركيب من العام والخاص، والتركيب من الذات والصفات، وتركيب الجسم من الجواهر المفردة، أو من المادة والصورة (1) . أما المعاني الأخرى للمركب: - فقيل هو ما ركبه غيره، كما قال تعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} (الانفطار:8) ، ويقال: ركبت الباب، وهذا هو معنى المركب في اللغة. وقد يقال: المركب: ما كان مفترقا فركبه غيره، كما تركب المصنوعات من الأطعمة والثياب والأبنية، وهذا قريب من السابق. - وقد يقال: المركب ماله أبعاض مختلفة كأعضاء الإنسان، وإخلاطه، وإن خلق ذلك مجتمعا. - وقد يقال المركب: ما يقبل التفريق والانفصال وإن كان شيئا بسيطا كالماء. - وقد يقال المركب: ما يعلم منه شيء دون شيء، كما يعلم كونه قادرا، قبل أن يعلم كونه سميعا بصيرا (2) . ويلاحظ ما بين الجسم والمركب من تداخل. وحينئذ فمن نفى الصفات لأجل شبهة التركيب يقال له: ما تعني بالتركيب؟ إن كنت تقصد به ما ركبه غيره، أو ما كان مفترقا فاجتمع أو ما يمكن تفريق بعضه عن بعضن فلا ريب أن هذا باطل والله منزه عنه.   (1) انظر: الصفدية (1/104-105) ، ودرء التعارض (3/389، 5/142) . (2) انظر: الصفدية (1/105-106) ، ودرء التعارض (5/145-146) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1102 أما إن كنت تقصد به ما تميز منه شيء عن شيء، كتميز العلم عن القدرة، وتميز ما يرىمما لا يرى، ونحو ذلك، أو ما ركب من الوجود والماهية، أو من الذات وصفاتها، فهذا حق، لكن تسمية هذا تركيبا إنما هو اصطلاح اصطلحوا عليه ليس موافقا للغة العرب، ولغة أ؛ د من الأمم، وإذا كان مثل هذا مركبا فما من موجود إلا ولا بد أن يعلم منه شيء دون شيء، والجسم الذي له صفات لا يعرف في اللغة إطلاق كونه مركبا، فإن التفاحة التي لها لون وطعم وريح، لا يعرف في اللغة إطلاق كونها مركبة من لونها وطعمها وريحها، كما لا يعلم في اللغة القول: إن الإنسان مركب من الطول والعرض، أو من حياته ونطقه ... (1) فحجة الأشاعرة وغيرهم صارت مبنية على مثل هذه الألفاظ المجملة. والتزام الألفاظ الشرعية، مع الإستفصال عن الإجمال الواقع في المصطلحات الحادثة، هو منهج السلف، وهو المذهب الحق. 2- إن شبهة التركيب والتجسيم التي اعتمدها جميع النفاة للصفات، سوءا كانوا نفاة لها كلها كالفلاسفة والمعتزلة، أو نفاة لبعضها كالأشاعرة - قد طعن كل فريق في أدلة الفريق الآخر عليها. وهذا المنهج في الرد المبني على إثبات ردود الخصوم بعضهم على بعض ونقض كل طائفة حجج الطائفة الأخرى - هو منهج فريد، تميز به شيخ الإسلام وقد كان لما حباه الله من إطلاع واسع، وحافظة قوية، وسرعة في البديهة أثر في استحضار الأقوال والنصوص، والاحتجاج بها في مواضعها. ومن الأمثلة على ردود بعض من يحتج بالتجسيم أو التركيب على بعض: أأن الغزالي رد على الفلاسفة لما احتجوا بالتركيب على نفي الصفات وقالوا: متى أثبتنا معنى يزيد على مطلق الوجود كان تركيبا، وجعلوا التركيب خمسة أنواع - وقد تقدمت - فرد عليهم وقال: "ومع هذا فإنهم يقولون في الباري تعالى: إنه مبدأ، وأول، وموجود، وجوهر، وواحد، وقديم، وباق،   (1) انظر: درء التعارض (1/280-281، 5/146-147) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1103 وعالم، وعقل، وعاقل، ومعقول، وفاعل، وخالق، ومريد، وقادر، وحي، وعاشق، ومعشوق، ولذيذ، ومتلذذ، وجواد، وخير محض، فزعموا أن كل ذلك عبارة عن معنى واحد، لا كثرة فيه وهذا من العجائب" (1) . وقال أيضاً: "وبم عرفتم استحالة الكثرة من هذا الوجه، وأنتم مخالفون من كافة المسلمين سوى المعتزلة، فما البرهان عليه؟ فإن قول القائل: الكثرة محالة في واجب الوجود، مع كون الذات الموصوفة واحدة، يرجع إلى أنه تستحيل كثرة الصفات، وفيه النزاع، وليست استحالة معلومة بالضرورة، فلا بد من البرهان" (2) . وانظر بقية كلام الغزالي، وتعليق شيخ الإسلام عليه (3) . ولما ذكر الغزالي حجة الفلاسفة في نفي التركيب وأنهم قالوا: "إذا أثبتم ذاتا وصفة، وحلولا للصفة بالذات فهو تركيب، وكل تركيب يحتاج إلى مركب؛ ولذلك لم يجز أن يكون الأول حسما لأنه مركب" - قال الغزالي -: "قلنا: قول القائل: كل تركيب يحتاج إلى مركب، كقوله: كل موجود يحتاج إلى موجد - فيقال له: الأول موجود قديم، لا علة له ولا موجد، فكذلك يقال: هو موصوف قديم، العلة لذاته ولا صفاته، ولا لقيام صفته بذاته ... " (4) ، وقد اعترض ابن رشد على كلام الغزالي في تهافت التهافت ونقله شيخ الإسلام ورد على ابن رشد وانتصر لأبي حامد في رده على الفلاسفة (5) ، ثم قال مخاطبا ابن رشد: "وهذه الطريق هي التي سلكها أبو حامد في مناظرته إخوانك، وهي طريق صحيحة، وقد تبين أن ما ذكره أبو حامد عن احتجاجهم بلفظ "المركب" جواب صحيح" (6) . وهذه الحجة التي ردها الغزالي وهي أن المركب لا بد له من مركب هي حجة متأخرى الأشعرية على ما نفوه من الصفات والعلو.   (1) تهافت الفلاسفة (ص: 164) - ت دنيا. ط الرابعة، والنص في درء التعارض (3/390-391) . (2) تهافت الفلاسفة (ص: 172) ، ط الرابعة، وانظر درء التعارض (3/391) . (3) انظر: درء التعارض (3/392) وما بعدها. (4) تهافت الفلاسفة (ص: 176) ، وانظر: درء التعارض (3/399) . (5) انظر: درء التعارض (3/399-437) ، وقارن بتهافت التهافت لابن رشد (2/516-519) . (6) درء التعارض (3/438) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1104 ب كما أن الغزالي رد على الفلاسفة في مسألة الجسم، وبين أنه لا دليل لهم على نفيه (1) إلا بالاستدلال على حدوث الجسم، ثم إن الغزالي والأشعري وغيرها قد بينوا فساد ما احتجت به المعتزلة على حدوث الأجسام، والرازي أيضاً بين فساد هذا الدليل في المباحث الشرقية والمطالب العالية (2) ، وبذلك يتبين أنه لا دليل للفلاسفة على نفي الجسم مطلقاً. يقول الغزالي في رده على الفلاسفة: "مسألة في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أن الأول ليس بجسم، فنقول: هذا وإنما يستقيم لمن يرى أن الجسم حادث، من حيث إنه لا يخلو من الحوادث، وكل حادث فيفتقر إلى محدث، فأما أنتم إذا عقلتم جسما قديما، لا أول لوجوده، مع أنه لا يخلو من الحوادث، فلم يمتنع أ، يكون الأول جسما، إما الشمس وإما الفلك الأقصى، وإما غيره" ثم ذكر حجتهم وردها فقال: "فإن قيل: لأن الجسم لا يكون إلا مركبا منقسما إلى جزأين، بالكمية، وإلى الهيولي والصورة بالقسمة المعنوية، وإلى أوصاف يختص بها لا محالة حتى يباين سائر الأجسام وإلا فالأجسام متساوية في أنها أجسام، وواجب الوجود واحد لا يقبل القسمة بهذه الوجوه كلها. قلنا: وقد أبطلنا هذا عليكم [أي في مسألة التركيب السابقة] وبينا أنه لا دليل لكم عليه، سوى أن المجتمع إذا افتقر بعض أجزائه إلى البعض كان معلولا، وقد تكلمنا عليه، وبينا أنه إذا لم يبعد تقدير موجود لا موجد (3) له، لم يبعد تقدير مركب لا مركب له، وتقدير موجودات لا موجد لها" (4) . فالغزالي بين أنه لا دليل للفلاسفة على نفي الجسم، ثم هو وأصحابه بينوا أن دليلهم المشهور على نفي الجسم دليل فاسد.   (1) بل إن الجويني عقد فصلا في الشامل (ص: 414) مشتملا على ذكر عجز المعتزلة عن نصب الأدلة على استحالة كون القديم جسما. وكأن نفيه عندهم من المفاخر!! (2) انظر: درء التعارض (4/289-290) . (3) في درء التعارض [موجود] وهو خطأ مطبعي. (4) تهافت الفلاسفة (ص: 193) ، وقارن بالدرء (4/284-285) ، انظر أيضاً: درء التعارض (10/237) ، ومجموع الفتاوى (5/290) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1105 ج ومن الذين تناقضوا في مسألة "التركيب" الآمدي، وبيان ذلك أن الآمدي والأشاعرة جعلوا إثبات واجب الوجود موقوفا على إبطال التسلسل، فرد عليهم الفلاسفة بأن الممكن لا بد له من مرجح مؤثر، ثم إما أن يتسلسل الأمر حتى يكون لكل مرجح ممكن، فتتسلسل العلل والمعلومات الممكنة، أو ينتهي الأمر إلى واجب بنفسه. وقالت الفلاسفة: لم لا يجوز أن يكون التسلسل جائزاً؟ فلما رد عليهم الأشاعرة وغيرهم وجميع الناس بأن التسلسل باطل ضرورة انتهاء الحوادث إلى واجب بنفسه، قالت الفلاسفة - وهو من أعظم أسولتهم: لم لا يكون المجموع [أي مجموع الحوادث] واجباً بأجزائه المتسلسلة، وكل منها واجب بالآخر؟ ومضمونه: وجوب وجود أمور ممكنة بنفسها، ليس فيها ما هو موجود واجب بنفسه لكن كل منها معلول للآخر، والمجموع معلول بالأجزاء (1) . وهذا السؤال ذكره الآمدي، وذكر أنه لا يستطيع أن يجيب عنه بل قال عنه: وهذا إشكال مشكل، وربما يكون عند غيري حله (2) . هذا في واجب الوجود، أما في إثبات العلو والصفات فإن الآمدي يرى أن هذا يلزم منه التركيب والمركب يستلزم أجزاءه. ولم يقل كقوله هناك لم لا يكون المجموع واجباً بنفسه؟ يقول شيخ الإسلام معلقا على هذا ومتعجبا منه: "وهؤلاء قلبوا الحقائق العقلية فقالوا: إذا اجتمعت واجبات بأنفسها صارت ممكنة وإذا اجتمعت ممكنات بأنفسها صارت ممكنة وإذا اجتمعت ممكنات بأنفسها صارت واجبة. فإذا تكلموا في نفي الصفات الواجبة لله، جعلوا كون المركب يستلزم أجزاءه موجبا لامتناع المركب الذي جعلوه مانعا من العلو والتجسيم ومن ثبوت الصفات، ولا يوردون على أنفسهم، ما أوردوه في إثبات واجب الوجود. وإيراده هنا أولى لأن فيه مطابقة لسائر أدلة العقل، مع تصديق ما جاءت به الرسل، وما في ذلك من إثبات صفات الكمال لله تعالى، بل وإثبات حقيقته التي   (1) انظر: درء التعارض (4/232-233) . (2) انظر: المصدر السابق - نفس الجزء والصفحة - وانظر أيضا: درء التعارض (3/95، 147، 175، 272) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1106 لا يكون موجودا إلا بها، فكان يمكنهم أن يقولوا: لم لا يجوز أن يكون المجموع الواجب، أو المركب الواجب، أو الجملة الواجبة، واجبة بوجوب كل جزء من أجزائها، التي هي واجبة بنفسها لا تقبل العدم؟. وكان هذا خيراً من أن يقولوا: لم لا يجوز أن يكون المجموع، الذي كل من أجزائه ممكن بنفسه هو واجبا بنفسه، أو واجبا بأجزائه؟. وهذا الآمدى - مع أنه من أفضل من تكلم من أبناء جنسه في هذه الأمور، وأعرفهم بالكلام والفلسفة - اضطرب وعجز عن الجواب عن هذه الشبهة الداحضة القادحة في إثبات واجب الوجود، وهو دائما يحتج بنظيرها الذي هو أضعف منها على نفي العلو وغيره من الأمور الثابتة بالشرع والعقل، ويقول: إن ذلك يستلزم التجسيم، وإن المخالفين في الجسم جهال. ولو أعطى النظر حقه لعلم إن الجهل المركب، فضلا عن البسيط أجدر بمن سلنك مثل تلك الطريق" (1) . د كما أن الآمدي تناقض مرة أخرى في مسألة الوجود والماهية، حيث "جوز أن يكون الوجود الواجب مفتقرا إلى الماهية، وذكر أن الواجب بنفسه هو الذي لا يفتقر إلى المؤثر، ليس هو الذي لا يفتقر إلى الغير، وإن كونه ممكنا - بمعنى افتقاره إلى الغير لا إلى المؤثر - هو الإمكان الذي يوصف به الوجود الواجب المفتقر إلى الماهية". قال شيخ الإسلام: "وهذا الذي قاله هو بعينه يقال له فيما ذكره هنا [أي في نفي الجسم بناء على نفي التركيب] حيث قال: "إن المجموع مفتقر إلى كل أجزائه، والمفتقر إلى الغي لا يكون واجبا بنفسه لأنه ممكن" (2) . وكذلك تناقض في حجته الثانية على التركيب، وقد أشار إلى ذلك شيخ الإسلام (3) ، وكان من تناقضه أيضاً أنه في مسألة دليل حدوث العالم الذي   (1) انظر: درء التعارض (4/233-235) . (2) انظر: المصدر السابق (4/239) . (3) انظر: المصدر نفسه (4/245-246) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1107 احتج به أصحابه الأشاعرة وهو مبني على أن العالم ممكن الوجود بذاته، وكل ممكن بذاته فهو محدث، وتقرير الإمكان أن أجسام العالم مؤلفه مركبة، وكل ما كان مركبا مؤلفا فهو مفتقر إلى أجزائه، وكل مفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بذاته. وبعد أن ساق الآمدي هذا الدليل ضعفه وقال: "وقولهم: إن العالم مركب، مسلم، ولكن ما المانع أن تكون أجزاؤه واجبة؟ وما ذكروه من الدلالة فقد بينا ضعفها في مسألة الوحدانية" (1) . قال شيخ الإسلام معلقا: "فهنا لما احتجوا بهذه الدلالة على حدوث العالم ذكر ضعفها، وأحال على ما ذكره في الوحدانية، فكيف يحتج بها بعينها في مثل هذا المطلوب بعينه، وهو كون الأجسام ممكنة لأنها مركبة، ويحيل على ما ذكره في التوحيد. ومعلوم أنه لو أبطلها حيث تعارض نصوص الكتاب والسنة، واعتمد عليها حيث لا تناقض ذلك، لكان - مع مافيه من التناقض - أقرب إلى العقل والدين من أن يحتج بها في نفي لوازم نصوص الكتاب والسنة، ويبطلها حيث لا تخالف نصوص الأنبياء" (2) . وخلاصة تناقض الآمدي هنا: أنه في مسألة إثبات أن الله واحد احتج الفلاسفة بأنه لو كان هناك الهان للزم التركيب - كما ذكروا في سياق دليلهم (3) ، فاعترض عليهم الآمدي بأن هذا ضعيف محتجا عليهم بأنه إذا كان إثبات الصفات لواجب الوجود لا يلزم منه التركيب، لأن العذر فيهما واحد (4) . يقول شيخ الإسلام معلقا على هذا - بأسى بالغ -: "ومن أعجب خذلان المخالفين للسنة وتضعيفهم للحجة إذا نصر بها حق، وتفويتها إذا نصر بها باطل: أن حجة الفلاسفة على التوحيد قد أبطلها لما استدلوا بها على أن الإله واحد - والمدلول حق لا ريب فيه، وإن قدر ضعف الحجة.   (1) انظر: المصدر السابق (4/247-248) . (2) انظر: المصدر نفسه، الصفحة نفسها. (3) انظر نص دليلهم في درء التعارض (4/248-250) . (4) انظر: المصدر السابق (4/250-251) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1108 ثم إنه يحتج بها بعينها على نفي لوازم علوا الله على خلقه، بل ما يستلزم تعطيل ذاته، فيجعلها حجة فيما يستلزم التعطيل، ويبطلها إذا احتج على التوحيد" (1) . هـ - والفخر الرازي رد على الفلاسفة في مسألة التركيب، وبين أنه حتى قولهم بالصور العقلية فيه تركيب. وقد أيده شيخ الإسلام مع بيانه أن الرازي لم يجب عن شبهة التركيب وبيان فسادها (2) . ومن خلال الأمثلة السابقة يتبين كيف أن مسألة التجسيم أو التركيب عند هؤلاء ليست من الأمور العقلية الثابتة والمستقرة الواضحة - ولذلك يرد بعضهم على بعض، بل يتناقض الواحد منهم في كلامه - وإنما هي شبه تلقفوها عن أسلافهم من الفلاسفة والمعتزلة، وصاروا يحتجون بها على ما يريدون نفيه من العلو أو الصفات. 3- أما حجج الأشاعرة على نفي الجسم: فإن شيخ الإسلام قد بين أولا ما في ذلك من الإجمال والاشتباه، وأن النزاع بين مثبتيه ونفاته من ناحية اللفظ، ومن ناحية المعنى. أما من ناحية اللفظ: فقد رد شيخ الإسلام على الآمدي وغيره حين منعوا من إطلاق لفظ الجسم والجواهر، مع أنهم يطلقون أيضاً لفظ: قديم، وواجب الوجود، وذات، وغيرها مما لم يرد به الشرع، فكما أنه من نازع الأشعري في إثبات قدم الباري أو وجوب وجوده، قال رادا عليه مخبرا عما يستحقه: إن الله قديم واجب الوجود، فكذلك بعض مثبتة الصفات، إذا نفي أحد الصفات عن الله ضمن نفيه للجسم أو الجوهر فإنه يقول رادا عليه: إنه جسم أو جوهر. وهذا مثل لفظ قديم، وواجب الوجود، وذات. سواء بسواء.   (1) انظر: درء التعارض (4/252) . (2) انظر: شرح الأصفهانية (ص: 70-71) - ت السعوي، وانظر: درء التعارض (6/295) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1109 وإذا كان الأمر كذلك كان الأولى أن يكون الفيصل في ذلك التزام ما أورده الشارع في الصفات، والسكوت عما سكت عنه، والتفريق في الأسماء الحسنى بينا ما يخبر عنه، وما يدعي به (1) . وأما من ناحية المعنى: فإن النزاع بين مثبتة الجوهر والجسم، ونفاته يقع في ثلاثة أشياء: الأولى: في تماثل الأجسام والجواهر، على قولين. فمن قال إنها متماثلة، قال كل من قال بها قال بالتجسيم. ومن قال إنها غير متماثلة لم يلزمه ذلك. فالذين ألزموا من قال بالتجسيم بأنهم مشبهة بناء على اعتقادهم أن الأجسام متماثلة. لكن هذا لا يلزم أولئك لأنهم يقولون إنها غير متماثلة، ولا يجوز إلزامهم بما لم يلتزموه. والثاني: أنهم تنازعوا في مسمى الجسم - كما سبق - وكل من فسر الجسم بتفسير - ككونه مركبا من المادة والصورة، أو من الجواهر المفردة - ألزم من قال بالجسم بالتفسير الذي قصده هو، لكن خصمه ينفي هذا المعنى الذي فسر به الجسم كما ينفي اللزوم الذي ألزمه به. بل قد يكون في المجسمة من يقول: إنه جسم مركب من الجواهر المنفردة، ويقول لا دليل على نفي ذلك ولا على امتناعه. الثالث: وهناك نزاع في أمور أخرى، مثل كونه تعالى فوق العالم، أو كونه ذا قدر، أو كونه متصفا بصفات قائمة به. فنفاتها يقولون لا تقوم هذه إلا بجسم، والمعارضون لهم من المثبتة ينازعونهم في انتفاء هذا المعنى الذي سموه جسما، وهم إما أن يقولوا: لا يلزم منها التجسيم، أو يقولوا بها وإن لزم التجسيم (2) .   (1) انظر: درء التعارض (4/139-140) . (2) انظر: المصدر السابق (4/147-149) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1110 وقد ذكر شيخ الإسلام أدلة الآمدي الثانية على نفي الجسم والجوهر - أربعة للجسم وأربعة للجوهر - وناقشها كلها وبين ما فيها من الفساد (1) . وذكر في الوجه الرابع من الأوجه المختصة بالجسم ما يتعلق بذلك من التركيب، وذكر وجهين في ذلك ناقشهما أيضاً شيخ الإسلام (2) ، مبينا أن استلزام الذات للوازمها من الصفات لازم لجميع الطوائف، متفلسفة، ومعتزلة وأشاعرة، سواء سمى ذلك تركيباً أو لم يسم، أو سمي افتقاراً أو لم يسم (3) . 4- ومن حجج نفاة التركيب المشهورة: أن المركب مفتقر إلى جزئه، وهو محال على الله، وقد بين شيخ الإسلام ما في لفظ "الافتقار" من الإجمال فقال: "ولفظ الافتقار هنا. أن أريد به افتقار المعلول إلى علته كان باطلا، وإن أريد به افتقار المشروط إلى شرطه - فهذا تلازم من الجانبين، وليس ذلك ممتنعا. والواجب بنفسه يمتنع أن يكون مفتقرا إلى ما هو خارج عن نفسه، فأما ما كان صفة لازمة لذاته، وهو داخل في مسمى اسمه فقول القائل: إنه مفتقر إليها، كقوله: إنه مفتقر إلى نفسه، فإن القائل إذا قال: دعوت الله، أو عبدت الله، كان اسم "الله" متناولا للذات المتصفة بصفاتها، ليس اسم "الله" اسما للذات مجردة من صفاتها اللازمة لها. وحقيقة ذلك أن لا تكون نفسه إلا بنفسه، ولا تكون ذات إلا بصفاته، ولا تكون نفسه إلا بما هو داخل في مسمى اسمها، وهذا حق. ولكن قول القائل: إن هذا افتقار إلى غيره، تلبيس، فإن ذلك يشرع أنه مفتقر إلى ما هو منفصل عنه، وهذا باطل (4) ولفظ الافتقار مثل لفظ الغير، ومثل لفظ الانقسام والجزء والتحيز وغيرها كلها ألفاظ مجملة، محتملة للحق والباطل. وتسمية الحق باسم الباطل لا ينبغي أن يؤدي إلى ترك الحق، بل لا بد من الاستفصال (5) .   (1) انظر: درء التعارض (4/149-231) . (2) انظر: المصدر السابق (4/219) وما بعدها، (4/245) وما بعدها. (3) انظر: المصدر نفسه (4/221-222) . (4) انظر: المصدر نفسه (1/282) . (5) انظر: المصدر نفسه (6/296-299) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1111 5- والذين يدعون أن في إثبات العلو أو الوجد واليدين تركيبا، يرد عليهم بأنه يلزمهم التركيب فيما أثبتوه من الصفات كالحياة والعلم، يقول شيخ الإسلام: "فإن قال من أثبت هذه الصفات التي هي فينا أعراض كالحياة والعلم والقدرة، ولم يثبت ما هو فينا أبعاض كاليد والقدم: هذه أجزاء وأبعاض تستلزم التركيب والتجسيم. قيل له: وتلك أعراض تستلزم التجسيم والتركيب العقلي، كما استلزمت هذه عندك التركيب الحسي، فإن أثبت تلك على وجه لا تكون أعراضا، أو تسميتها أعراضا لا يمنع ثبوتها، قيل له: وأثبت هذه على وجه لا تكون تركيبا وأبعاضا، أو تسميتها تركيبا وأبعاضا لا يمنع ثبوتها. فإن قيل: هذه لا يعقل منها إلا الأجزاء. قيل له: وتلك لا يعقل منها إلا الأعراض. فإن قال: العرض مالا يبقى وصفات الرب باقية. قيل: والبعض ما جاز انفصاله عن الجملة، وذلك في حق الله محال، فمفارقة الصفات القديمة مستحيلة في حق الله تعالى مطلقا، والمخلوق يجوز أن تفارقه أعراضه وأبعاضه. فإن قال: ذلك تجسيم، والتجسيم منتف. قيل: وهذا تجسيم، والتجسيم منتف". وهذا منهج - في الإلزام - قوي، كثيرا ما يستخدمه شيخ الإسلام مع نفاة بعض الصفات خاصة. 6- ومما سبق يتبين أن أدلة هؤلاء على نفي التجسيم والتركيب - وإدخالهم في مسمى ذلك علو الله وصفاته، أو بعضها - هي أدلة عقلية فاسدة، ومن أظهر الأدلة على فسادها طعنهم فيها، وطعن بعضهم في أدلة بعض. ويكفي في بيان فسادها مخالفتها لنصوص الكتاب والسنة التي دلت وتواترت على إثبات علو الله وصفاته اللائقة به، ولكن هؤلاء الأشاعرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1112 - لخوضهم في علوم الفلسفة والكلام وثقتهم فيها - ظنوا أن مثل هذه الشبه الباهتة الهزيلة صحيحة، فقدموها على نصوص الوحي الواضحة. وإذا كان هؤلاء المتكلمون قد استدلوا على حدوث الأجسام بقصة الخليل، وقوله: {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (الأنعام: من الآية76) - وقد سبق الرد على استدلالهم بها بالتفصيل - فإن منهم من احتج أيضاً على نفي التجسيم - وأنه لازم للاستواء على العرش - بقوله تعالى في قصة موسى والسامري حيث قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} (لأعراف: من الآية148) ، وقالوا في احتجاجهم بها: ذم الله من اتخذ إلها جسدا، والجسد هو الجسم، فيكون الله قد ذم من اتخذ إلها هو جسم، وإثبات هذه الصفات - كالاستواء وغيره - يستلزم أن يكون جسما، وهذا منتف بهذا الدليل الشرعي (1) . وقد رد شيخ الإسلام على هذا الاستدلال من عشرة أوجه، منها: أأن هذا إنما دل على نفي أن يكون جسدا، والجسم في اصطلاح نفاة الصفات أعم من الجسد. وذكر شيخ الإسلام تفصيلات لغوية، وبين أنه لا دليل لهم في ذلك، وهو على كل تقدير من الألفاظ المجملة ولا بد من الاستفصال فيها. ب أن الله منزه أن يكون من جنس شيء من المخلوقات، من بني آدم أو من الحيوانات أو غيرها، والله تعالى ذكر أن العجل كان جسدا بمعنى أنه لا حياة فيه - وقد قيل إنه خار خورة - والمقصود أنه كان مسلوب الحياة والحركة، وهذا أشد في النقص. ولو أخرج لهم عجلا كسائر العجول، أو آدميا أو فرسا حيا لكان أيضا له بدن وجسم، ولكانت الفتنة به أشد. ت أن الله تعالى قال: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} (لأعراف: من الآية148) "فلم يذكر فيما عابه كونه ذا جسد، ولكن ذكر فيما عابه به أنه لا يكلمهم   (1) انظر: مجموع الفتاوى (5/213) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1113 ولا يهديهم سبيلا، ولو كان مجرد كونه ذا بدن عيبا ونقصا لذكر ذلك، فعلم أن الآية تدل علىنقص حجة من يحتج بها على أن كون الشيء ذا بدن عيبا ونقصا. وهذه الحجة تطير احتجاجهم بالأقوال فإنهم غيروا معناه في اللغة، وجعلوه الحركة، فظنوا أن إبراهيم احتج بذلك على كونه ليس رب العالمين، ولو كان كما ذكروه لكان حجة عليهم لا لهم" (1) . ث أن الله ذكر أن العجل كان جسدا، وأن له خوارا، والخوار هو الصوت، وخوار الثور صوته، فلو كان الصوت لبيان نقصه لذكره مع الجسد، ولبطل الاستدلال بآخر الآية وهي قوله {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} ، فإن تكليمه لو كلمهم لكان بصوت يسمعونه. فعلم أن التصويت لم يكن صفة نقص فكذلك ذكر الجسد. فصارت الآية دالة على نقيض قولهم. وهذا واضح. ج "أن الله تعالى ذكر عن الخليل - - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} (مريم: من الآية42) ، وقال تعالى: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (الشعراء: من الآية 72-74) فاحتج على نفي إلهيتها بكونها لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر، مع كون كل منهما له بدن وجسم، سواء كان حجراً أو غيره. فلو كان مجرد هذا الاحتجاج كافياً لذكره إبراهيم الخليل وغيره من الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام، بل إنما احتجوا بمثل ما احتج الله به من نفي صفات الكمال عنها: كالتكلم والقدرة والحركة وغير ذلك (2) ". و"أنه إذا كان كل جسم جسدا، وكل ما عبد من دون الله تعالى من الشمس والقمر والكواكب والأوثان وغير ذلك: أجساما، وهي أجساد فإن كان الله ذكر هذا في العجل لينفي به عنه الإلهية: لزم أن يطرد هذا الدليل   (1) انظر: مجموع الفتاوى (5/220) . (2) انظر: المصدر السابق (5/222) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1114 في جميع المعبودات. ومعلوم أ، الله لم يذكر هذا في غير العجل، [إنما] (1) ذكر كونه جسدا لبيان سبب إفتتانهم به، لا أنه جعل ذلك هو الحجة عليهم، بل احتج عليهم بكون لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا" (2) . ي أن أدلة الكتاب والسنة على إثبات العلو والاستواء أكثر من أن تحصر، ودلالتها على ذلك جلية بينة مفهومة، وحينئذ فيقال: - إن كان إثبات هذا يستلزم أن الله جسم وجسد، لم يمكن دفع موجب هذه النصوص بما ذكر من قصة العجل، لأن ليس فيها أن كونه جسداً هو النقص الذي عابه الله وجعله مانعا من إلهيته. - وإن كانت إثبات الاستواء والعلو لا يستلزم أن يكون الله جسدا أو جسما، بطل أصل استدلالهم على أن إثباتهم يقتضي التجسيم (3) . وبهذه الأوجه وغيرها يتبين بطلان احتجاجهم بهذه الآية. الدليل الثالث: دليل الاختصاص: وهذا الأدلة العقلية للأشاعرة على نفي العلو وغيره من الصفات، وقد ذكر شيخ الإسلام أن هذا الدليل يمكن ارجاعه إلى الدليل الأول الذي هو دليل الأعراض (4) . وخلاف هذا الدليل - كما سبق - أن كل جسم فهو متناه، وكل متناه فله شكل معين ومقدار معين، وحيز معين، قالوا وكل ماله شكل ومقدار وحيز معين فلا بد له من مخصص يخصصه به. وشرحوا ذلك بأن كل جسم يعلم بالضرورة أنه لا يجوز أن يكون على مقدار أكبر أو أصغر مما هو عليه، أو شكل غير شكله، أو حير غير حيزه إما متيامنا عنه أو متياسرا. وإذا كان كذلك   (1) في مجموع الفتاوى [إنه] ولعل الصواب ما أثبت. (2) مجموع الفتاوى (5/223) . (3) انظر عما سبق من الأوجه وغيرها، مجموع الفتاوى (5/213-225) . (4) انظر: الدرء (7/141) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1115 فلا بد له من مخصص يخصصه بما يخصص به. ثم قالوا: كل مفتقر إلى المخصص فهو محدث وبيان ذلك أن المخصص لا بد أن يكون فاعلا مختارا، وأن يكون ما يخصصه حادثا (1) . وغرضهم من هذا الدليل أن يقولوا: إن اختصاص الله تعالى بجهة العلو، والاستواء، وأنه مباين للعالم، يفتقر إلى مخصص، وهو محال على الله. وقد رد عليهم شيخ الإسلام من خلال ما يلي: 1- أن الآمدي نفسه - الذي أورد هذا الدليل - قد ضعفه فقال: "وهذا المسلك ضعيف أيضاً، إذ لقائل أن يقول: المقدمة الأولى وإن كانت مسلمة غير أن المقدمة الثانية وهي أن كل مفتقر إلى المخصص محدث، ممنوعة" (2) واحتج بجواز أ، تكون الصفات متعاقبة على الجواهر والأجسام إلى غير النهاية، وقد علق شيخ الإسلام على هذا بأن هذا المسلك أضعف من مسلك الحركة والسكون، لأن هذا يفتقر إلى ما يفتقر إليه ذاك من غير عكس، ثم إن كليهما مفتقر إلى بيان امتناع حوادث متعاقبة دائمة، وقد سبق بيان ذلك في مسألة حوادث لا أول لها (3) . 2- أن قولهم لا بد له من قدر، أكثر العقلاء سلموا به، أما قولهم لا بد له من اجتمع وافتراق فهو مبني على مسألة الجوهر الفرد، وأكثر العقلاء - ومنهم كثير من الأشاعرة - ينكرونه. ثم بعد ذلك يقال في مسألة "القدر" ما يقال في مسألة الصفات، لأن القدر صفة من صفات ذي القدر، كلونه وحياته وقدرته وسمعه وبصره وغيرها، "فإذا قال القائل: كل ذي قدر يمكن أن يكون قدره على خلاف ما هو عليه، كان بمنزلة أن يقول: كل موصوف يمكن أن يكون موصوفا بخلاف صفته، فإذا عرضنا على عقولنا ما نعلمه من الموجودات التي لها أقدار وصفات، كان تجويزنا لكونها على خلاف أقدارها كتجويزنا هلا أن تكون عل خلاف صفاتها،   (1) انظر: درء التعارض (3/351-354) . (2) انظر: المصدر السابق (3/354) ، وانظر أيضا (4/269) . (3) انظر: المصدر نفسه (3/354-355) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1116 بل القدر من الصفات" (1) . وهذه مسألة واضحة، لأن كل موجود لا بد له من قدر وصفة، فما يقال في أحدهما يقال في الآخر. والأشاعرة الذين فرقوا بينهما لأجل أن القدر يلزم منه نوع تجسيم إنما هذا تصور منهم، وإلا فلا فرق بينه وبين الصفة، فلو سلمت حجتهم في القدر لسلمت حجة الفلاسفة والمعتزلة في الصفات وأنه يلزم منها التجسيم. ولهذا لم يفرق الرازي في إثبات الصانع بين القدر وغيره (2) . 3- أن قول القائل: كل ذي قدر يمكن أن يكون أكبر أو أصغر، أو أن كل ذي وصف يمكن أن يكون بخلاف ذلك الوصف، ونحو ذلك. يقال له: أتريد الإمكان الذهني، أو الإمكان الخارجي؟ والفرق بينهما أن الإمكان الذهني معناه عدم العلم بالامتناع، والإمكان الخارجي معناه: العلم بالإمكان في الخارج. "فإن قال: أريد به الإمكان الذهني، لم ينفعه ذلك، لأن غايته عدم العلم بامتناع كون تلك الصفة واجبة.. وإن قال: أريد الإمكان الخارجي، وهو أني أعلم أ، كل موصوف بصفة، أو كل ذي قدر يمكن أن يكون بخلاف ذلك، كان مجازفا في هذا الكلام؛ لأن هذه قضية كليلة تتناول من الأفراد ما لا يحصيه إلا الله تعالى، وليس معه دليل يدل على إمكان ذلك في الخارج يتناول جميع هذه الأفراد. غايته أنه رأى بعض الموصوفات والمقدرات يقبل خلاف ما هو عليه، فإذا قاس الغائب على الشاهد كان هذا من أفسد القياس لاختلاف الحقائق. ولأن هذا ينعكس عليه فيقال له: لم نر إلا ماله صفة وقدر، فيقاس الغائب على الشاهد. ويقال: كل قائم بنفسه فله صفة وقدر، وهذا إلى المعقول أقرب من قياسهم، فإن هذا لا يعلم انتقاضه، وأما قول القائل: كل ماله صفة وقد رفيقبل خلاف ذلك فلا يعلم اطراده، فأين القياس الذي لا يعلم انتقاضه من القياس الذي لا يعلم اطراده؟.   (1) انظر: درء التعارض (3/356) . (2) انظر: المصدر السابق (3/358) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1117 والناس متفقون على أنهم لم يروا موجودا إلا له قدر وصفة، وليسوا متفقين على أن كل ما رأوه يمكن وجوده على خلاف صفاته وقدره" (1) . ويلاحظ هنا أن قود مقالتهم هذه في إنكار القدر يؤدي إما إلى إنكار الخالق، أو إنكار أي صفة له، وملاحدة الصوفية الذين قالوا بوحدة الوجود إنما قالوا بذلك لما رأوا تناقض هؤلاء، مثل قولهم: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، وإنكار علو الله وبينونته عن خلقه. وقولهم في "القدر" معارض بالحقائق في نفسها وصفاتها اللازمة لها، "فإن يمكن أ، يقال: كل موجود له حقيقة تخصه يمتاز بها عن غيره، فاختصاص ذلك الموجود بتلك الحقيقة دون غيرها من الحقائق يفتقر إلى مخصص. ويقال أيضا: كل موجود له صفات لازمة تخصه فاختصاصه بتلك الصفات دون غيرها يفتقر إلى مخصص" (2) . 4- أن قولهم هذا يلزم في إثبات واجب الوجود، لأنه إذا كان من المعلوم بضرورة العقل واتفاق العقلاء أن هناك: - واجب الوجود بنفسه، قديم أزلي. - وممكن الوجود، محدث. فإنه كان كلاهما موجودا، وواجب الوجود يختص بما لا يشركه فيه غيره، بل له ذات وحقيقة تخصه لا يشركه فيها غيره، فعلى قاعدة هؤلاء أن كل مختص يفتقر إلى مخصص مباين له - يلزم أن يقال هذا في واجب الوجود، ويقال: اختصاص واجب الوجود بما اختص به لا بد له من مخصص. فيلزم تعطيل وجود الخالق وأن تكون الموجودات كلها ممكنة. وهذا ظاهر الفساد ضرورة (3) . "وبالجملة اختصاص الشيء بما هو عليه من خصائصه، كاختصاصه بنفسه ووجوده، وصفاته كلها، لازمها وعارضها، فقول القائل: كل مختص   (1) انظر: درء التعارض (3/359-360) . (2) انظر: المصدر الاسبق (3/360) . (3) انظر: المصدر نفسه (3/360-364) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1118 لا بد له من مخصص مباين له، كقوله: كل موجود فلا بد له من موجد مباين له، وكل حقيقة فلا بد لها من محق مباين لها، وكل قائم بنفسه فلا بد له من مقوم مباين، وأمثال ذلك" (1) . 5- إن هؤلاء متناقضون، لأنهم في مسألة وجود المحدثات والكائنات بعد أن لم توجد، إذا قيل لهم: لم لم توجد قبل وقت وجودها، أو لم لم تكن أكبر أو أصغر مما هي عليه، أجابوا وقالوا: القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مخصص. وحينئذ فيقال لهم: "هذا مع بطلانه يوجب تناقضكم؛ فإنكم قلتم: لا بد للتخصيص من مخصص، ثم قلتم: كل الممكنات مخصصة ووجدت بدون مخصص، بل رجح أحد المتماثلين على الآخر من غير مخصص. وإذا جوزتم في الممكنات وجود المخصصات بدون مخصص، مع أن نسبة القادرة إلهيا نسبة واحدة، فالموجود بنفسه أولى أن يستغنى عن مخصص مما اختص به من ذاته وصفاته ... " (2) . وهذا تناقض ومحل إلزام لا محيد لهم عنه، فإن النصوص إذا وردت بإثبات صفاته وأنه على العرش استوى، وأنه في جهة العلو بائن من خلقه، وجب إثبات ذلك، فإذا اعترضوا بأن هذا يلزم منه أن يكون له قدر، واختصاصه بهذا القدر لا بد له من مخصص، كان هذا متناقضا مع قولهم في وجود المخلوقات وأنها لم توجد أكبر أو أصغر مما هي عليه بدون مخصص. 6- ومن أعظم تناقض الأشاعرة المنكرين لعلو الله تعالى وصفاته الفعلية القائمة به في هذا الباب، تناقضهم في مسألة الصفات حين حدوده بسبع - أو ثمان مع صفة البقاء لمن قال بها - فإنه يقال لهم - كما يقول الشهرستاني نفسه - "بم تنكرون على من يقول: إن القادر الذي اختص به نهاية وحد، واجب له لذاته، فلا بد يحتج إلى مخصص. والمقادير التي هي في الخلق إنما احتاجت إلى مقدر لأنها جائزة، وذلك لأن الجواز في الجائزات إنما يعرف بتقدير القدرة،   (1) انظر: درء التعارض (3/365) . (2) انظر: المصدر السابق (3/370) ، وأيضا (4/269-272) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1119 فلما كانت المقادير الخلقية مقدورة عرف جوازها، واحتاج الجواز إلى مرجح لها، فإذا لم يكن فوق الباري سبحانه قادر عليه لم تكن إضافة الجواز وإثبات الاحتياج له. ألسنا اتفقنا على أن الصفات ثمان؟ أفهي واجبة له على هذا العدد، أم جائز أن توجد صفة أخرى؟ فإن قلتم: يجب الانحصار في هذا العدد، كذلك نقول: الاختصاص بالحد المذكور واجب له، إذ لا فرق بين مقدار الصفات عددا وبين مقدار في الذات حدا. فإن قلتم جائز أن توجد صفة أخرى، فما الموجب للإنحصار في هذا الحد والعدد، فيحتاج إلى مخصص حاصر" (1) . وقد أجاب الشهرستاني عن ذلك بذكر الخلاف في مسألة انحصار الصفات بثمان هل تسمى بالعدد أم لا، وبمسألة أخص وصف الإله، وكل ذلك ليس فيه جواب عن الإلزام والمعارضة التي أوردها لأن "اختصاص الصفات بعدد من الأعداد كإختصاص الذات بقدر من الأقدار، وإذا كان المسمى لا يسمى ذلك عددا، فمنازعه لا يسمى الآخر قدرا، وليس الكلام في الإطلاقات اللفظية، بل في المعاني العقلية ... " (2) ثم إنه على كل قول من الأقوال فيما زاد على الثمانية (3) "فالمعارضة بالصفات ثاتبة على كل قول من الأقوال الثلاثة؛ إذ لا بد فيها من اختصاص، فإن كان كل مختص يفتقر إلى مخصص مباين، لزم افتقار صفات الله تعالى إلى مباين له" (4) . 7- والآمدي ذكر الدليل الذي ذكره الشهرستاني وبين ضعفه فقال في مسألة العلو والرد على مثبتيه: "وقد سلك بعض الأصحاب في الرد على هؤلاء طريقا شاملا فقال: لو كان الباري مقدار بقدر، متصورا بصورة، متناهيا بحد ونهاية، مختصا بجهة، متغيرا بصفة حادثة في ذاته، لكان محدثا؛ إذ العقل الصريح   (1) نهاية الأقدام (ص:106) ، وقارن بدرء التعارض (3/373-374) . (2) انظر: درء التعارض (3/378) . (3) وهي ثلاثة: إثبات ما زاد كالرضى والغضب واليدين والوجه والاستواء وغيرهما، والثاني نفي هذه الصفات والاقتصار على الثمان، وقول ثالث بالوقف. انظر: درء التعارض (3/380-383) . (4) انظر: درء التعارض (3/385) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1120 يقضي بأن المقادير في تجويز العقل متساوية، فما من مقدار وشكل يقدر في العقل إلا ويجوز أن يكون مخصوصا بغيره، فاختصاصه بما اختص به من مقدار أو شكل أو غيره يستدعي مخصصا، ولو استدعى مخصصا لكان الباري محدثا" - قال الآمدي - "لكن هذا المسلك مما لا يقوى، إنه وإن سلم أن ما يفرق من المقادير والجهات وغيرها ممكنة في أنفسها، وأن ما وقع منها لا بد له من مخصص، لكن إنما يلزم أن يكون الباري حادثا أن لو كان المخصص خارجاً عن ذاته ونفسه، ولعلع صاحب هذا القول لا يقول به، وعند ذلك فلا يلزم أن يكون الباري تعالى حادثا، ولا محوجا إلى غيره أصلا" (1) . فهذى الآمدي بين ضعف هذا الدليل الذي ذكره إخوانه الأشاعرة، وإن كان قد احتج على ما هو أضعف منه، وهو دليل الجواهر وتماثلها. وبهذا يتبين ضعف حجة الاختصاص التي ذكرها الأشاعرة واحتجوا بها على نفي علو الله تعالى وصفاته، مع أن مثل هذه الألفاظ: كالاختصاص، والتقدير، والافتقار، فيها كثير من الإجمال ولا بد فيها من الإستفصال (2) . ثانياً: مناقشة موقفهم من أدلة السمع المثبتة للصفات: سبق بيان أن الأشاعرة لما اعتمدوا الأصول العقلية، قدموها على أدلة السمع، وتلخص موقفهم من أدلة السمع المثبتة للصفات بأمرين: أحدهما: من ناحية الثبوت، حيث طعنوا في أدلة أخبار الآحاد، وجواز الاحتجاج بها في العقائد. وثانيهما: من ناحية الدلالة - وذلك في مثل القرآن الذي لا شك في ثبوته - جعلوا نصوص العلو والصفات التي نفوها، من المتشابه، ومن ثم فسبيلها عندهم: إما التأويل، أو التفويض.   (1) انظر: درء التعارض (3/385-386) ، والنص في غاية المرام للآمدي (ص:181) . (2) انظر: درء التعارض (3/387-388) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1121 أما مسألة أخبار الآحادث فقد سبق مناقشتها في المنهج العام في الرد على الأشاعرة، وبيان الخطأ والضلال والتناقض الذي وقعوا فيه حين قالوا إن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول لا تفيد العلم ولا يحتج بها في العقائد (1) . أما مسألة المتشابه والتأويل والتفويض، فيمكن مناقشتها من خلال الفروع التالية: الفرع الأول: معنى المتشابه، وهل الصفات أو بعضها منه؟ : مما يلاحظ أن أهل الكلام - وفيهم الأشاعرة - مع اهتمامهم بالعقل وأدلته، وتقديمها على أدلة السمع عند التعارض، إلا أنهم يحاولون أن يجدوا لبعض أصولهم العقلية ومنطلقاتهم الكلامية، أدلة من السمع، وقد سبق ذكر مثالين على ذلك: أحدهما: استدلالهم على دليل حدوث الأجسام - الذي كان سببا في كثير من ضلالات المتكلمين في الصفات - استدلالهم عليه بقصة الخليل وقوله: {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (الأنعام: من الآية76) وقد سبق مناقشة هذا الدليل (2) . والثاني: احتجاجهم على نفي العلو وبعض الصفات بنفي التجسيم، وقد استدلوا على نفيه بقوله تعالى في قصة موسى {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَار} (لأعراف: من الآية148) . وقد سبق قبل قليل مناقشة هذا الاستدلال. وفي هذه المسألة يرد مثال ثالث على هذا المنهج الذي أرادوا أن يدعموا به مذهبهم في الصفات أو بعضها؛ وذلك أنهم كثيرا ما يحتجون على تأويلهم للصفات، أو تفويضهم لها بأنها من المتشابه، ويستدلون على ذلك بالآية المشهورة من سورة آل عمران، وهي قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ   (1) انظر: (ص:734-751) . (2) في الفصل الماضي، المتعلق بتوحيد الربوبية والألوهية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1122 فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (آل عمران:7) ، ويبنون احتجاجهم بها على أن الصفات من المتشابه، ويقررون ذلك بأمرين: إما بالإستدلال بها على أن مذهب السلف هو التفويض الكامل، الشامل للمعنى وللكيفية، وذلك عند ردهم على من يثبت الصفات ويحتج بما تواتر من إثبات السلف - رحمهم الله - لها. فيحتجون بهذه الآية على قراءة الوقف على "إلا الله". وهذا التفويض الذي جعلوه مذهبا للسلف يقصدون منه أنهم - أي السلف - جعلوا هذه الصفات من المتشابه، وأثبتوها ألفاظ مجردة لا تدل على معان ولا يفهم منها شيء. وهدفهم النهائي من ذلك أن يجعلوا تأويلهم للصفات وصرفها عن ظواهرها اللائقة بالله، موافقا ضمنا لما يدعونه من تفويض السلف، إذ على كلا الحالتين لا تدل النصوص على الصفات اللائقة بجلال الله وعظمته. وإما - وهذا هو الأمر الثاني - أن يستدلوا بالآية على جواز التأويل - الذي هو عند المتأخرين صرف اللفظ من الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح - ويقولون: إن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابهات - ومنها على زعمهم الصفات - وهذا على قراءة مجاهد وغيره بعطف - (والراسخون في العلم) على ما قبله. والمحكم والمتشابه من مباحث علوم القرآن المشهورة، وقد تعددت الأقوال ف بتحديد المقصود بالمحكم والمتشابه المذكورين في آية عمران (1) . أما الإحكام العام الذي دل عليه مثل قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُه} (هود: من الآية1) ، والتشابه العام الذي دل عليه مثل قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ   (1) انظر: البرهان (2/68) ، والاتقان (3/3-5) ، ومناهل العرفان (2/168-171) ، واللآلي الحسان في علوم القرآن تأليف موسى لاشين (ص: 157-158) ، وتفسير سورة الإخلاص - مجموع الفتاوى (17/418-424) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1123 أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِي} (الزمر: من الآية23) . فهو شامل لجميع القرآن، لأن القرآن كله محكم، ويشبه بعضه بعضا في ذلك. وهذان المعنيان لم يخالف فيهما أحد. ومسألة المحكم والمتشابه اكتسبت أهمية خاصة عند كثير من المتأخرين، لما دخل فيهما من موضوعات مهمة كانت مثار خلاف وجدل بين العلماء. والملاحظ أن ما كتبه الفخر الرازي في تفسيره (1) ، وفي كتابه أساس التقديس (2) حول المحكم والمتشابه وما يتعلق بهما - أصبح مرجعا أساسا لكثير ممن أتى بعده، وإن كان قد سبق إلى ذلك بعض الأشاعرة (3) والمعتزلة (4) . وليس المقصود تتبع مباحث المحكم والمتشابه، لأن هذه لها مناسبات أخرى، وإنما المقصود بيان أن أهم الأمور التي ركز عليها الرازي في ذلك أربعة أمور: 1- أنه لا بد من قانون أصلي لمعرفة المحكم والمتشابه، ثم بين أنه لا يجوز ترك الظاهر الذي دل عليه الآية والخبر إلا بدليل منفصل، ثم ذكر أن هذا الدليل المنفصل إما لفظي وإما عقلي. أما الدليل اللفظي المنفصل فإذا عارض دليلا آخر فليس ترك أحدهما لإبقاء الآخر أولى من العكس. ثم رد الرازي على زعم أن الدليل اللفظي قد يكون قاطعا فيجب تقديمه لذلك: بأن "الدلائل اللفظية لا تكون قطعية لأنها موقوفة على نقل اللغات، ونقل وجوه النحو والتصريف، وعلى عدم الإشتراك، والمجاز، والتخصيص، والإضمار، وعدم المعارض النقلي والعقلي. وكل واحد من هذه المقدمات مظنونة، والموقوف على المظنون أولى أن يكون مظنونا، فثبت أن شيئا من الدلائل اللفظية لا يمكن أن يكون قطعياً (5) . كما رد على من قال إن أحد   (1) (7/166) وما بعدها. (2) (ص:178-192) - ط الحلبي. (3) كالجويني في الشامل (ص:550-553) ، فقد تعرض لذلك عند حديثه عن صفة الاستواء. (4) كعبد الجبار الهمذاني المعتزلي في كتبا متشابه القرآن (ص:5) وما بعدها، وقد نص على أنه يجب ا، رتب المحكم والمتشابه جميعا على أدلة العقل. انظر (ص:7) ، وقد أخذ الرازي بقوله هذا. (5) أساس التقديس (ص:182) - ط الحلبي، وانظر ما سبق (ص:841-842) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1124 الظاهرين أقوى فيعول عليه بأنه "على هذا التقدير يصير ترك أحد الظاهرين لتقرير الظاهر الثاني مقدمة ظنية، والظنون لا يجوز التعويل عليها في المسائل العقلية القطعية" (1) . ولما أبطل التعويل على الدليل اللفظي عول على الدليل العقلي المنفصل فقال: "فثبت بما ذكرنا أن صرف اللفظ عن ظاهره إلى معناه المرجوح لا يجوز إلا عند قيام الدليل العقلي القاطع على أن ظاهره محال ممتنع، فإذا حصل هذا المعنى فعند ذلك يجب على المكلف أن يقطع بأن مراد الله تعالى من هذا اللفظ ليس ما أشعر به ظاهره. ومن لم يجوزه فوض علمه إلى الله تعالى" (2) . وخلاصة رأي الرازي أن الآية والخبر تصير متشابهة ويجب عدم اعتقاد ظاهرها بتأويل أو تفويض - إذا عارضها الدليل العقلي القاطع. 2- ومن الأمور التي ركز عليها الرازي إدخاله الصفات في المتشابه، ومعلوم أ، كتابه "أساس التقديس" خصصه لمناقشات نصوص الصفات وتأويلها، وقد ناقش فيه بإسهاب موضوع المحكم والمتشابه ناصرا مذهبه الذي سار عليه. 3- ومن الأمور التي ذكرها أن الحكمة من إنزال المتشابه مراعاة أحوال العوام في أول أمرهم فيخاطبون بما يدل على التجسيم والتحيز والجهة لأن ذلك يناسب ما تخيلوه وتوهموه. فهذا الذي يخاطبون به من باب المتشابهات، ثم يكشف لهم آخر الأمر استحالة هذه الأمور، الذي هو المحكمات (3) . 4- أنه قرر مذهب السلف بقوله: "حاصل هذا المذهب أن هذه المتشابهات يجب القطع فيها بأن مراد الله تعالى منها شيء غير ظواهرها، ثم يجب تفويض معناها إلى الله تعالى، ولا يجوز الخوض في تفسيرها" ثم قرر مذهب المتكلمين بقوله: "وقال جمهور المتكلمين: بل يجب الخوض في تأويل تلك   (1) أساس التقديس (ص:182) ط الحلبي. (2) المصدر السابق، الصفحة نفسها. (3) المصدر السابق (ص: 192) ط الحلبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1125 المتشابهات" (1) . ثم لما ذكر حجج مذهب السلف من الوقف على قوله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} (آل عمران: من الآية7) ، وإجماع الصحابة على عدم التأويل، قال عن المتكلمين أن حجتهم: "أن القرآن يجب أن يكون مفهوما، ولا سبيل إليه في الآيات (2) المتشابهة إلا بذكر التأويلات فكان المصير غليه حتما" (3) . وقد تكلم الرازي في تفسيره (4) بمثل ما في أساس التقديس وزيادة، ومن ثم تأثر به - في هذه الأمور الأربعة وغيرها - من جاء بعده (5) . ومن المؤسف حقا أن أحد الباحثين أفرد موضوع المتشابه في كتاب مستقل رجح فيه منهج المتكلمين والمعتزلة بشكل خاص، واعتمد في نقوله وأقواله على ما كتبه الغزالي في الجام العوام، وما كتبه الرازي، وعبد الجبار الهمذاني. ولم يحقق القول في مذهب السلف، بل ركز على أن مذهبهم هو التفويض ورد على شيخ الإسلام في ذلك (6) . وقد حوى الكتاب - تقليدا من صاحبه للكوثري -   (1) أساس التقديس (ص: 182-183) . (2) في طبعة الحلبي (ص: 187) (روايات) والتصويب من طبعة السقا (ص: 240) . (3) أساس التقديس (ص:187) ط الحلبي، و (ص:240) ت السقا. (4) (7/167-178) . (5) من هؤلاء الزركشي في البرهان في علوم القرآن (2/76-89) ، والسيوطي في الاتقان (3/12-21، 32) ، وفي معترك الأقران في إعجاز القرآن (1/146-155، 160) ، والزرقاني في مناهل العرفان (2/170-171، 179، 182-198) ، وصبحي الصالح في مباحث في علوم القرآن (ص: 283-286) طالثامنة. أما مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي فقد بنى كتابه: "أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمتشابهات" على إدخال الصفات في المتشابه، وقدم لكتابه بمقدمة طويلة حول المحكم والمتشابه، نقل فيها أقوال الرازي والسيوطي وغيرهما - انظر (ص: 55، 59، 65-67) ط الأولى 1389هـ، ثم أخذ يسوق الصفات والكلام حولها بقوله ومن المتشابه صفة كذا وكذا، انظر (ص: 70، 77، 80، 81، 116، 120، 149) وغيرها. والمؤلف وإن نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية ورجح ما رجحه، إلا أنه لا يخلو من ملاحظات، انظر مثلا (ص: 97، 162) حين عول على التفويض. (6) الكاتب هو عدنان زرززور، واسم كتابه "متشابه القرآن: دراسة موضوعية" انظر من هذا الكتاب (ص: 56) وما بعدها، و (ص: 68) وما بعدها، و (ص: 87-121) ، ومما ينبغي معرفته أن هذا الكتاب - في الأصل - مقدمة لتحقيق المؤلف لكتاب متشابه القرآن لعبد الجبار المعتزلي. وإنما أشرت إلى ذلك لأن هذه الدراسة التي كتبها زوزور وطبعت مستقلة هي أطلو دراسة أطلعت عليها حول موضوع المتشابه، وقد حوت كثير ما من الأخطاء والمغالطات، ولأن مؤلفها اشتهر بعنايته بالدراسات القرآنية والتأليف فيها، ومن ذلك تحقيقه لمقدمة في أصول التفسير لابن تيمية. وقد يظن من لا علم عند أن هذا يدل على سلامة منهجه ورسالة الدكتوراه له كانت عن الحاكم الجشمي ومنهجه في تفسير القرآن. والجشمي من أئمة المعتزلة. وزرزور من المعجبين بالمعتزلة ومنهجهم العقلي ومن دعاة وحدة الفكر الإسلامي بإعادة النظر في الفرق والطوائف السابقة لتصحيح النظرة إليها، وهذا منهج خطير جدا. انظر: الحاكم الجشمي ومنهجه في تفسير القرآن: زرزور (ص:6-11) ط الأولى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1126 كثير من الحقد والسخرية بأئمة أهل السنة وكتبهم، ونال شيخ الإسلام من ذلك حظ وافر (1) . وقد ناقش شيخ الإسلام موضوع المحكم والمتشابه، ورد على الرازي وغيره ممن غلط في جعل الصفات من المتشابه، أو جعل ما خالف العقل فهو متشابه، أو غير ذلك من الأمور التي خاض فيها أهل الكلام. وما كتبه شيخ الإسلام في ذلك كثير، وأهمه ما ذكره في ثلاثة من كتبه: أحدها: ما ذكره في نقضه لأساس التقديس للرازي - وقد يسمى كتاب الرازي تأسيس التقديس - وقد أطال شيخ الإسلام في ذلك، وناقش الرازي في كل ما كتبه، على طريقته في استيعاب مناقضة فصول هذا الكتاب، ولكن - للأسف الشديد - انتهت المخطوطة الموجودة قبل إتمام مباحث هذا الموضوع (2) .   (1) انظر: متشابه القرآن: عدنان زرزور (ص: 101-107، 111، 115، 125-127، 155-160) ط الأولى. ومن الملاحظ أن المؤلف استعان بما كتبه ابن الجوزي نصرة لأهل التعطيل - وهو بذلك يتبع شيخه الكوثري - فلما تكلم ابن الجوزي في شيوخ الاعتزال وأن حقهم الضرب بالسيف أخذ يسخر منه، انظر: (ص:133-134) ، وقريب من ذلك إعجابه واعتماده على ما كتبه الرازي حول المتشابه فملا قرن المعتزلة بالشبهة وجعلهم جميعا منالزائغين الضالين، انتقده ورد عليه. انظر (ص: 139-140) . وأعجب من ذلك أنه في (ص: 158) هاجم ابن تيميةووصفه بالجحد والتعسف لأنه لم يذكر أن من معاني التأويل: التفسير، بل زعم أنه أنكر ذلك. وهذا خطأ واضح لأن شيخ الإسلام ذكر في عامة كتبه أن من معاني التأويل عند السلف: التفسير، وسيأتي إن شاء الله ذك رالمراجع الكثيرة في ذكر من كتب شيخ الإسلام. والمؤلف تجنى كثيرا على شيخ الإسلام، ونحن نبهنا إلى ذلك بإجمال، ول بصاعه كلنا لجاء الكلام معه بأسولب آخر. والله المستعان. (2) انظر: الجزء الثاني من مخطوطة - نقض التأسيس (ص: 199إلى 360) حيث ينقطع الكلام بشكل مفاجئ، وهو رد على الصفحات (173-182) من أساس الرازي. وبقى من (ص:183-192) من أساس الرازي ساقط في مخطوطة نقضه لشيخ الإسلام وقد سبقت الإشارة إلى أن هذا الجزء من مخطوطة جامعة الملك سعود حقه أن يكون الثالث منها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1127 الثاني: في تفسير سورة الإخلاص، وقد بلغت مباحث المحكم والمتشابه فيها أكثر من ستين صفحة (1) . الثالث: في الرسالة التي أفردها في هذا الموضوع بعنوان: الإكليل في المتشابه والتأويل (2) . وخلاصة منهج شيخ الإسلام وهدفه من هذه المناقشة الدفاع عن عقيدة السلف في الأسماء والصفات وغيرها والرد على المتكلمين الذين جعلوا من مسائل المحكم والمتشابه مدخلا لتأويل نصوص الصفات وتحريفها لتوافق عقائدهم وأصولهم الفاسدة، ويمن تلخيص منهجه من خلال الأمور التالية: الأمر الأول: تحقيق مسألة: هل يجوز أن يشتمل القرآن على ما لا يعلم معناه؟: وهي مسألة مهمة تبني عليها مسألة المتشابه، ولذلك أطال شيخ الإسلام الكلام حولها، خاصة في تعليقه أو مناقشته للرازي، الذي ذكر هذه المسألة في أساسه قبل حديثه عن المتشابه فقال ذاكرا الخلاف فيها: "اعلم أن كثيرا من الفقهاء والمحدثين والصوفية يجوزون ذلك. والمتكلمون ينكرونه" (3) . ثم ذكر حجج المتكلمين الكثيرة، أعقبها بذكر حجج مخالفيهم، ثم قال: "هذا ما عندي من كلام الفريقين في هذا الباب وبالله التوفيق" (4) . وقد رجح شيخ الإسلام أدلة من يقول إنه لا يجوز أن يكون في القرآن مالا سبيل لنا إلى العلم به، وزاد على الأدلة التي أوردها الرازي أدلة أخرى كثيرة (5) ،   (1) طبع تفسير سورة الإخلاص مستقبلا، وهو ضمن مجموع الفتاوى ج- 17، وبحوث المحكم والمتشابه (ص: 381-443) من هذا الجزء. (2) ضمن مجموع الفتاوى (ج- 13 ص: 270-313) . وضمن مجموع الرسائل الكبرى (2/5-36) . (3) أساس التقدير للرازي (ص: 173) ط الحلبي. (4) المصدر السابق (ص: 177) ، وانظر (ص: 173-177) . (5) انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (2/200-214) ، وانظر: أدلة أخرى عديدة في تفسير سورة الإخلاص - مجموع الفتاوى (17/395-414) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1128 وإن كان قد تعقبه في بعض أدلته - مثل بعض الأدلة العقلية التي أوردها - لأنها لا تتفق مع أصوله الاشعرية (1) . وشيخ الإسلام هنا لا يعارض استدلاله وإنما يبين تناقضه. يقول شيخ الإسلام بعد ذكره لهذه الحجج - ردا على الرازي -: "هذه الحجج كما أنها دالة على فساد قول من قال: إن في القرآن ما لا سبيل لأحد إلى فهمه، بل معرفة معناه، فهي أيضاً دالة على فساد قول هؤلاء المتكلمين، نفاة الصفات أو بعضها، فهي حجة على فساد قول الطائفتين، وذلك أن هؤلاء النفاة يقولون: إن التوحيد الحق الذي يستحقه الله تعالى ويجب أ، يعرف به ويمتنع وصفه بنقيضه ليس هو في القرآن، ولم يدل عليه القرآن. ودلالة الخطاب المعروفة، وهو كون الرب ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا يشار إليه ولا يقرب من شيء ولا يقرب من شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل منه شيء، ولا يحجب العباد عنه شيء، ولا عنده شيء دون شيء، بل جميع الأشياء سواء، ولا يحتجب عنهم بشيء، وأنواع ذلك، فمن المعلوم أن القرآن لم يدل على شيء من ذلك، ولا بينه، بل إنما دل على نقيضهن وهو إثبات الصفات [التي] (2) تدل على أنه يقرب من غيره ويدونه إليه، ويقرب العبد منه ويدنون إليه،، وعلا انه عالى على جميع الأشياء، فوقها، وأنه ينزل منه كلامه، وتنزل الملائكة من عنده وتعرج إليه، وأمثال ذلك، وهم متفقون على أن ظاهر القرآن إنما يدل على الإثبات الذي هو عندهم تجسيم باطل بل كفر. وغيرهم يقول: بل دلالة القرآن على ذلك نصوص صريحة، بل ذلك معلوم بالاضطرار من القرآن والرسول" (3) . وهؤلاء المتكلمون النفاة أرادوا أن يتوصلوا بقولهم الذي وافقهم عليه شيخ الإسلام - إلى تأويل النصوص إلى معان أخرى باطلة - وقد احتجوا بالآية   (1) انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (2/213-214) . (2) زيارة مني ليستقيم الكلام. (3) نقض التأسيس - مخطوط - (2/215) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1129 {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (آل عمران: من الآية7) على قراءة العطف وفسروا التأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم بأنه صرف اللفظ من الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح. وهذا خطأ عظيم لأن التأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم - على قراءة الوصل - هو التفسير، وهذا قد لا يعلمه بعض الناس لكن الراسخين في العلم يعلمونه، "فمن قال إن القرآن يجوز أن يشتمل على ما لا سبيل لبعض الناس إلى العلم به فقد أصاب، وذلك لعجزه، لا عن نقص في دلالة القرآن، فكثير من الناس لا سبيل له إلى أن يعلم كثيرا من العلوم كالطب والنجوم والتفسير والحديث، وإن كان غيره يعلم ذلك، وإن أراد أنه لا سبيل لأحد إلى معرفة تفسيره فقط غلط. وإن قال: لا سبيل لأحد إلى معرفة حقيقته وكيفيته وهيئته ونحو ذلك فقد أصاب، فينبغي أن يعرف الفصل في هذا الباب حتى يظهر الخطأ من الصواب" (1) . وقد أوضح شيخ الإسلام قبل ذلك ما في قول القائل: ما لا سبيل لنا إلى العلم به من الإجمال (2) . بقى الكلام في أدلة الفريق الثاني المجوزين لوجود مالا سبيل لنا إلى العلم به، وقد ساق الرازي أدلتهم، ثم سكت عن الترجيح بين القولين، ولذلك رد عليه شيخ الإسلام قائلاً: "قلت: ذكر القولين ولم يرجح أحدهما، ولم يذكر جواب أحدهما عن حجة الآخرين فبقيت المسألة على الوقف والحيرة والشك. وكذلك لما ذكر بعد هذا تقرير قول من جزم بالتأويل، فإنه هنا ذكر الخلاف في جواز ورود ما أمكن فهم معناه، وهناك ذكر قول من أوجب وقوع ذلك وجزم بالتأويل، وقد ذكر حجة كل قوم، ولم يذكر لهم جواباً عن حجة الآخرين (3) فبقيت المسألة مما تكافأت فيها الأدلة [عنده] (4) ، وأما في تفسيره فرجح المنع من التأويل، كما رجح أبو المعالي في آخر قوليه، وكما رجحه أبو حامد   (1) نقض التأسيس - مخطوط - (2/200) . (2) انظر: المصدر السابق (2/199) . (3) انظر: حجة الفريقين حول جواز التأويل في أساس التقديس للرازي (ص: 182-187) ، ومن المؤسف أن مخطوطة نقض هذا الفصل انتهت بعد صفحات يسيرة من بداية مناقشتها. (4) في المخطوطة (عنه) ، ولعل الصواب ما أثبت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1130 في آخر قوله" (1) ، ثم نقل كلام الرازي في تفسيره (2) وسبب هذه الحيرة والتوقف عند الرازي - كما يرى شيخ الإسلام - "أن كلا القولين اللذين حكاهما عن المتكلمين والفيذ حكاه عن السلف قول باطل. والذي حكاه عن السلف ليس قولهم ولا قول أحد منهم، ولا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين" (3) . وبهذا يتبين أن خلاصة رأي شيخ الإسلام أنه لا بدل لكل ما أنزل الله تعالى من معنى يمكنه فهمه، وليس هناك فرق بين آيات الصفات وآيات الأحكام. وكثير من الصحابة والتابعين كانوا يعلمون تفسير القرآن، ولا توجد آية ليس لهم فيها تفسير يوضح معناها. وتفسيرهم وفهمهم للنصوص هو الذي يرجع إليه عند الاختلاف. أما ما يدعيه أصحاب التأويلات المحرفة من تأويلاتهم هي المعاني الصحيحة للآيات التي أولوها، فهذا خطأ منهم (4) . وفي رسالة الإكليل بين شيخ الإسلام "أن الصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب الله، ولا قال هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه، وقال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين: إن في القرآن آيات لا يعلم معناها ولا يفهمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أهل العلم والإيمان جميعهم، وإنما قد ينفون علم بعض ذلك عن بعض الناس، وهذا لا ريب فيه"، ثم بين سبب الكلام في هذه المسألة فقال: "وإنما وضع هذه المسألة المتأخرون من الطوائف بسبب الكلام في آيات الصفات وآيات القدر وغير ذلك، فلقبوها: "هل يجوز أو يشتمل القرآن على مالا يعلم معناه، [وأنا] (5) تعبدنا بتلاوة حروفه بلا فهم" فجوز ذكر طوائف متمسكين بظاهر الآية، وبأن الله يمتحن عباده بما شاء. ومنعها طوائف ليتوصلوا بذلك إلى تأويلاتهم الفاسدة التي هي تحريف الكلم عن مواضعه.   (1) نقض التأسيس - مخطوط - (2/221-222) . (2) انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (2/222) ، وقارن بتفسير الرازي (7/170) . (3) نقض التأسيس - مخطوط - (2/222) . (4) انظر: المصدر السابق (2/223) . (5) في مجموع التاوى (13/285) [وأما] ولذلك جاء في أول السطر، وفي مجموعة الرسائل الكبرى (2/15) [وما] ، ولعل الصواب ما أثبت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1131 والغالب على كل الطائفتين الخطأ، أولئك يقصرون في فهم القرآن بمنزلة من قبل فيه: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيّ} (البقرة: من الآية78) ، وهؤلاء معتدون بمنزلة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه.." (1) . وهذه مشكلة المتكلمين دائما يظنون أن قول هذه الطائفة - وقد يكون لها وجود - هو مذهب السلف، وهو ما يعبرون عنه بالتفويض وهذا من الأخطاء الكبرى التي انتشرت وارتكب في حق السلف، وهم منها برآء. بقيت الإشارة إلى أن الرازي لما لم يرجح بين القولين حول مسألة اشتمال القرآن على ما لا سبيل لنا إلى العلم به - انتقده شيخ الإسلام على توقفه وحيرته وشكه ثم رد على أدلة المجوزين التي أوردها الرازي وسكت عنها. وأهم هذه الأدلة: أقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} (آل عمران: من الآية7) والوقف لازم. ب الحروف المقطعة المذكور أوائل السور. ت خبر: "أن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمها إلا العلماء بالله ... " (2) . وخلاصة ردود شيخ الإسلام عليها كما يلي: أأما الآية فقد بين أن فيها قراءتين مشهورتين، قال: "ونحن نسلم قراءة من قرأ {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه} ، لكن من أين لهم أن التأويل الذي لا يعلمه إلا الله هو المعنى الذي عني به المتكلم، وهو مدلول اللفظ الذي قصد المخاطب إفهام المخاطب إياه. وهو سبحانه وتعالى لم يقل وما يعلم معناه إلا الله، ولا قال وما يعلم تفسيره إلا الله، ولا قال وما يعلم مدلوله ومفهومه إلا الله، ولا ما دل عليه إلا الله. قال: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} ولفظ التأويل له في القرآن معنى، وفي عرف كثير من السلف وأهل التفسير معنى، وفي اصطلاح   (1) الأكليل في المتشابه والتأويل - مجموع الفتاوى (13/285-286) . (2) انظر: ساس التقديس للرازي (ص: 176) - ط الحلبي. والحديث سبق بيان حاله (ص: 749) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1132 كثير من المتأخرين له معنى، وبسبب تعدد الإصطلاحات والأوضاع فيه حصل اشتراك غلط بسببه كثير من فهم القرآن وغيره" (1) ، وبعد كلام طويل حول التأويل وأنواعه قال: "وإذا عرف معنى لفظ التأويل ظهر فساد احتجاج هؤلاء بقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه} فإن التأويل الذي لا يعلمه إلا الله ليس هو أن لا يفهم أحد من اللفظ، بل يفهمونه وإن كان تأويله لا يعلمه إلا الله" (2) ، ثم ذكر عددا من أقوال السلف في الآية تبطل حجة هؤلاء ثم قال: "فابن اسحاق ذكر مثل ابن عباس والضحاك وغيرهم الذين يقولون بالقراءتين. يقولون: له تأويل لا يعلمه إلا الله، وتأويل يعلمه الراسخون، وكذلك عامة أهل العربية الذين قالوا ما يعلم تأويله إلا الله، كالفراء وأبي عبيد وثعلب وابن الأنباري، هم يتكلمون في متشابه القرآن كله وفي تفسيره [و] (3) معناه. [و] (4) ليس في القرآن آية قالوا لا يعلم أحد تفسيرها ومعناها، فيجب أ، يكون التأويل الذي اختص الله به عندهم غير ما تكلموا فيه من تفسير الآيات المتشابهة. وقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} قد (5) يقال فيه إن المنفي هو عموم السلب لا سلب العموم، أي وما يعلم جميع التأويل إلا الله، وأما بعضه فيعلمه الراسخون كما قال ابن عباس: "وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، من ادعى علمه فهو كاذب" (6) ، فقول الجمهور هو القراءة الصحيحة، وهو أنه لا يعلم غير الله جميع التأويل، كقوله: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} (المدثر: من الآية31) أي مجموعهم، وإلا فكثير من الناس يعلم بعض جنود ربنا. وبكل حال تفسيره [و] (7) معناه ليس داخلا في التأويل الذي اختص الله به سواء سمي تأويلاً أو لم يسم" (8) .   (1) نقض التأسيس - مخطوط - (2/223-224) . (2) نقض التأسيس - مخطوط - (2/244-245) . (3) زيادة مني ليستقيم الكلام. (4) زيادة مني ليستقيم الكلام. (5) في المخطوطة [وقد] ولعل الواو زائدة. (6) أثر مشهور عن ابن عباس وأوله "التفسير على أربعة أوجه ... " رواه ابن جرير (1/75) ورقمه (71) ، وذكر ابن جرير أنه روى نحوه مرفوعا، لكن بسند فيه نظر، وساقه بعد الأثر السابق، وذكر ابن كثير في آخر مقدمة تفسيره (1/18) - ط الشعب: أن ابن جرير قصد بذلك أن فيه الكلبي وهو ضعيف، وانظر: تعليق شاكر على هذا الحديث في تفسير الطبري (1/76) . (7) زيادة مني ليستقيم الكلام. (8) نقض التأسيس - مخطوط - (2/247) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1133 والخلاصة أن قراءة الوقف على (إلا الله) لها وجهان: - أما أن يكون المقصود بالتأويل الحقيقة التي تؤول إليها الأمور. - أو يكون المقصود به جميع التأويل الذي هو التفسير، ويدل له قول ابن عباس حيث صرح بأن من التفسير ما لا يعلمه إلا الله، كما أوضح ذلك شيخ الإسلام، وبهذا - مع الكلام الذي سيأتي عن الحروف المقطعة أوائل السور - يظهر الجواب عما استشكله الشنقيطي في هذا المقام والله أعلم (1) . ب أما الحروف المقطعة أوائل السبور فقد أجاب شيخ الإسلام عن دعوى أنه من المتشابه بعدة أجوبة: أحدها: "أن هذه ليست كلاما منظوما فلا يدخل في مسمى الآيات، وعامة أهل مكة والمدينة والبصرة لا يعدون ذلك آية، ولكن الكوفيون يعدونها آية، وبكل حال فهي أسماء حروف ينطق بها غير معربة، مثل ما ينطق بألف، باء، تاء، وبأسماء العدد، واحد، اثنان، ثلاثة ... " (2) . الثاني: أن السلف قد تكلموا في معانيها، وكلامهم في ذلك كثير مشهور، وقد ساق شيخ الإسلام بعض أقوالهم (3) . الثالث: "أن يقال: نحن نسلم أن كثيراً من الناس وأكثرهم لا يعرفون معنى كثير من القرآن، فإذا قيل: إن أكثر الناس لا يعرفون معنى حروف الهجاء   (1) قال الشنقيطي في أضواء البيان (1م227) : "وقال بعض العلماء: والتحقيق في هذا المقام ... " وذكر الجمع المشهور في آية آل عمران، وأن من قال: الواو عاطفة جعل معنى التأويل التفسير ومن قال هي استئنافية جع التأويل هو حقيقة ما يؤول إليه الأمر، ثم قال الشنقيطي -رحمه الله- "وهو تفصيل جيد لكن يشكل عليه أمران، الأول قول ابن عباس: التفسير على أربعة أنحاء ... والثاني الحروف المقطعة". وقارن ما نقله الشنقيطي بما في تفسير ابن كثير. سورة ىل عمران الآية (7) ، (1/347) - ط الحلبي - ومطبعة الاستقامة، 1376هـ. (2) نقض التأسيس - مخطوط - (2/248) . (3) المصدر السابق (2/248-249) . أما اختيار شيخ الإسلام وترجيحه فقد حكاه عنه ابن كثير في تفسيره - سورة البقرة. آية رقم (1) {الم} - انظره في طبعات هذا التفسير كلها - سوى طبعة الشعب المحققة، ذات الثامنية أجزاء - فإن ساقط منها. وهذا من عيوبها التي تجعلها لا يوثق بها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1134 التي في أوائل السور فهذا صحيح، لا نزاع فيه، وإن قيل: إن أحدا من الناس لا يعرف ذلك وإن الرسول نفسه لم يكن يعرف ذلك، فمن أين لهم هذا؟ فهذا النفي لا بد له من دليل" (1) . ث أما حديث "إن من العلم كهيئة المكنون ... " فليس له إسناد يقوم به، وعلى تقدير صحته فهو حجة عليهم لأن فيه أن أهل العلم بالله يعلمونه (2) . وبهذا يتبين ضعف حجة هؤلاء الذين يجوزون أن يكون في كلام الله مالا سبيل لنا إلى العلم به، ولذلك قال شيخ الإسلام في تفسير سورة الإخلاص ما يعتبر تلخيصاً لما سبق: "والمقصود هنا أنه لا يجوز أن يكون الله أنزل كلاما لا معنى له، ولا يجوز أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجميع الأمة لا يعلمون معناه كما يقول ذلك من يقوله من المتأخرين، وهذا القول يجب القطع بأنه خطأ، سواء كان مع هذا تأويل القرآن لا يعلمه الراسخون، أو كان للتأويل معنيان: يعلمون أحدهما، ولا يعلمون الآخر، وإذا دار الأمر بين القول بأن الرسول كان لا يعلم معنى المتشابه من القرآن، وبين أن يقال: الراسخون في العلم يعلمون، كان هذا الإثبات خيراً من ذلك النفي، فإن معنى الدلائل الكثيرة من الكتاب والسنة وأقوال السلف على أن جميع القرآن مما يمكن علمه وفهمه وتدبره، وهذا مما يجب القطع به ... " (3) وقد قال كثير من السلف إنهم يعلمون تأويل القرآن، وهذا معروف مشهور (4) . الأمر الثاني: من أمور بيان شيخ الإسلام في مسألة المحكم والمتشابه أنه إذا تبين رجحان قول من قال: إن كلام الله يمكن معرفة تفسيره والعلم به، وإنه ليس هناك في كلام الله ما لا سبيل لنا إلى العلم به - فما المقصود بالمتشابه المذكورة في آية آل عمران؟   (1) نقض التأسيس - مخطوط - (2/249-250) . (2) انظر: تفصيل قوله حول هذا الحديث في نقض التأسيس - مخطوط - (2/250-251) ، وقارن بما سبق (ص:749) . (3) تفسير سورة الإخلاص - مجموع الفتاوى - (17/390،399) . (4) انظر: المصدر السابق (17/390-391) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1135 يذكر شيخ الإسلام أن في ذلك قولين: أحدهما: أنها آيات بعينها تتشابه على كل الناس. والثاني: وهو الصحيح، أن التشابه أمر نسبي، فقد يتشابه عند هذا مالا يتشابه عند غيره، ولكن ثم آيات محكمات لا تشابه فيها على أحد. وتلك المتشابهات إذا عرف معناها صارت غير متشابهة، بل القول كله محكم كما قال: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} (هود: من الآية1) (1) . وقد أطال شيخ الإسلام في تقرير هذا الذي رجحه وصححه، وذكر له أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، مدللا على وقوعه ووجوده عند بعض الناس (2) ، وهذا التشابه النسبي أو الإضافي ليس له ضابط فهو من جنس الاعتقادات الفاسدة، ولذلك تعددت التأويلات وتفاوتت فالفلاسفة والباطنية لهم تأويلات لنصوص الكتاب، والجهمية والمعتزلة يبطلون تأويلات الفلاسفة والباطنية ويجعلون الآيات التي أولوها تأويلات قرمطية وفلسفية - آيات محكمة، لكنهم يؤولون نصوصا أخرى يقولون إنها متشابهة، والأشاعرة يقولون إن هذه الآيات التي أولها المعتزلة هي آيات محكمة لا يجوز تأويلها، ثم يتأولون آيات أخرى. وهكذا. فكل طائفة تدعي أن المحكم ما وافق قولها والمتشابه ما خالفه (3) . والإمام أحمد -رحمه الله- ألف رسالته المشهورة في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله (4) ، ثم إنه لما رد على هؤلاء في استدلالاتهم الباطلة، لم يقل هذه الآيات من المتشابه وسكت عنها، وإنما رد عليهم وبين أحكامها، وفسرها، وذمهم على أنهم تأولوها على غير تأويلها الصحيح (5) .   (1) الفرقان بين الحق والباطل - مجموع الفتاوى (13/144) . (2) انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (2/260-267) ، وانظر: الصواعق المرسلة (1/213) ت الدخيل الله. (3) انظر: المصدر السابق (2/267-273، 305-307) . (4) انظر: الرد على الزنادقة والجهمية - ضمن مجموع عقائد السلف - (ص:52) . (5) انظر: الفرقان بين الحق والباطل - مجموع الفتاوى (13/144) ، وتفسير سورة الإخلاص - مجموع الفتاوى (17/280-383) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1136 وهذا الترجيح الذي رجحه شيخ الإسلام في المتشابه مبنى على الأمر السابق وهو أن القرآن مما يعلم معناه، وأن آياته ليس فيها ما لا سبيل إلى العلم به. الأمر الثالث: هل ما خالف الدليل العقلي هو المتشابة؟: سبق في بداية هذه المسألة - مسألة المحكم والمتشابه - ذكر أن من حجج الرازي الذي قصد بها دعم مذهب الأشاعرة، أنه لا يجوز ترك ظاهر النص إلا بدليل، ثم ذكر أن الدلائل اللفظية لا تكون قطعية لأنها موقوفة على عشرة أمور. ولذلك عول على الدليل العقلي وأن ما خالفه فهو من المتشابه ويجب تأويله بما يوافقه. ومسألة العقل والنقل سبق الحديث عنها، وتبين أن القول بتعارضهما، أو تقديم العقل عند توهم التعارض بينه وبين الشرع، من أعظم الباطل. وقد رد شيخ الإسلام على كلام الرازي السابق - حول التعويل على الدليل العقلي لتمييز المحكم من المتشابه وأن الأدلة اللفظية ليست قطعية - من وجوه عديدة (1) ، تعقب فيها عبارات الرازي التي أوردها في أساسه وبين فيها خطأه وتناقضه، مبينا أن كلامه هذا يؤدي إلى عدم الاستدلال بالسمع أصلا - وهو ما صرح به في بعض كتبه - لأن الاحتجاج به موقوف عنده على نفي المعارض العقلي (2) ، ولذلك يقول شيخ الإسلام في أحد الأوجه: "إنك صرحت هنا وفي غير هذا الموضع أن شيئا من الدلائل اللفظية لا يفيد العلم، وحينئذ فالظاهر سواء عارضه دليل عقلي أو لم يعارضه لا يحصل به علم عندك، فإذا أقر الظاهر فإنما يفيد عندك الظن، [و] (3) الظن لا يجوز التمثيل به في الأصول، فكل آية دلت على مسألة أصولية لا يجوز الاحتجاج بها عندك، بل يجب أن يكون من المتشابه، وعلى هذا فليس القرآن في هذا الباب منقسما عندك إلى محكم ومتشابه، ومع هذا أنه (4) مناقض لما تقرره فهو مخالف لصريح القرآن والسنة والإجماع،   (1) انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (2/303-357) . (2) انظر: المصدر السابق (2/308) . (3) في المخطوطة بالفاء، ولعل صوابها بالواو كما أثبت. (4) كذا في المخطوطة ولعل صحة العبارة: ومع أن هذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1137 وهو باطل عقلاً وشرعاً" (1) . على أن قول الرازي مناقض لنص آية المتشابه لأن الله سبحانه وتعالى أخبر أن من الكتاب آيات محكمات هن الأصل الذي يبنى ويرد إليه المتشابه، والرازي جعل الأصل الذي يرد إليه: العقل، بل إنه جعل القرآن كله محكمه ومتشابهه يرد إلى هذا الأصل وما خالفه فهو متشابه (2) . وهذه الأدلة العقلية التي يعول عليها الرازي وأصحابه، والتي أولوا من أجلها نصوص الصفات التي دل عليها القرآن هي "أقوال باطلة لا تفيد عند التحقيق لا علما ولا ظنا، بل جهلا مركباً" (3) . والقول بأن الدلائل اللفظية لا تفيد القطع هو من أعظم السفسطة، ولذلك لا يعرف هذا القول عن طائفة معينة معروفة من طوائف بني آدم لأنه يؤدي إلى القدح بلغة التخاطب بين الناس التي بها يكلم بعضهم بعضا ويفهم بعضهم عن بعض، وعامة أمور وأحوال بني آدم مبنية على هذا، من بداية تمييز الطفل وفهمه عن والديه، إلى آخر أمور البيع والشراء والنكاح والطلاق وقضاء مختلف الحوائج، ووصف بعضهم لما جرى لبعض ... الخ"ثم إذا كان هذا البيان والدلالة موجوداً في كلام العامة الذين لا يعدون من أهل العلم، فأهل العلم أولى بأن يبينوا مرادهم، وبأن يفهم مرادهم من خطابهم، وإذا كان هذا في العلماء الذين ليسوا بأنبياء، والأنبياء أولى إذا كلموا الخلق وخاطبوهم أن يبينوا مرادهم، وأن يفهم الناس ما بينوه بكلامهم، ثم رب العالمين أولى أن يكون كلامه أحسن الكلام وأتمه بيانا، وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (ابراهيم: من الآية4) (4) .   (1) انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (2/309) ، وانظر في الصفحة نفسها نموذجاً آخر لتناقض الرازي. (2) انظر: المصدر السابق (2/309-310) . (3) انظر: المصدر نفسه (2/312) . (4) انظر: نقض التأسيس - مخطوط (2/317) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1138 ودعوى الرازي أن دلائل القرآن موقوفة على عشرة مقدمات ظنية باطل من وجوه (1) ، ولو كان كما زعم لما صار القرآن نورا وهدى وإذا كان بعض الناس قد يحتاج لبعض هذه المقدمات لفهم بعض الآيات - وهذا مما لا ينكر لأنه قد يوجد من هو حديث عهد بالإسلام أن نشأ ببادية بعيدة - إلا أن تعميم ذلك لجميع الناس ولعموم الآيات هو من أظهر البهتان (2) . وقول الرازي أن المعول عليه في تحديد المتشابه مخالفة دليل العقل أدى به إلى مقالته الأخرى الباطلة حين ذكر من حكم إنزال المتشابه مخاطبة العوام بما يناسبهم مما ظاهره التجسيم والتشبيه، ليناسب ما توهموه أو تخيلوه، وإنه يجب أن يكشف لهم في النهاية عن أحكام هذه الآيات بتأويلها بما يوافق العقول، يقول شيخ الإسلام عن الرازي، إنه "جعل هو المتشابه ما خالف الدليل العقلي، والمحكم ما لم يخالف الدليل العقلي، فجعل الإحكام هو عدم المعارض العقلي، لا صفة في الخطاب، وكونه في نفسه قد أحكم وبين وفصلن مع أنا لم عارض العقلي لا يمكن الجزم بنفيه إذا جوز وقوعه في الجملة، ولهذا استقر أمره على أن جميع الأدلة السمعية القولية متشابهة لا يحتج بشيء منها في العمليات، فلم يبق على قوله لنا آيات محكمات وهن أم الكتاب بحيث يرد المتشابه إليها ولكن المردود إليه هو العقلي، فما وافقه أو لم يخالفه فهو المحكم، وما خالفه فهو المتشابه، وهذا من أعظم الالحاد في أسماء الله تعالى وآياته، ولهذا استقر قوله في هذا الكتاب (3) على رأى الملاحدة الذين يقولون إنه أخبر العوام بما يعلم أنه باطل لكون عقولهم لا تقبل الحق، فخاطبهم بالتجسيم (4) مع علمه أنه باطل، وهذا مما احتج به الملاحدة على هؤلاء في المعاد، وقالوا خاطبهم أيضاً بالمعاد كما خاطبهم بالتجسيم، وهؤلاء جعلوا الفرق أن المعاد علم بالاضطرار من دين الرسول" (5) .   (1) انظر: نقض التأسيس - مخطوط (2/321) وما بعدها. (2) انظر: المصدر السابق (2/328-329) . (3) أي ساس التقديس. (4) انظر: أساس التقديس للرازي (ص:192) ، وقد سبق نقل كلامه في بداية هذه المسألة. (5) انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (2/ 274-275) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1139 وهذه المسألة الأخيرة هي مسألة تسلط الفلاسفة والقرامطة على المتكلمين وقد سبق توضيحها في المنهج العام (1) . الأمر الرابع: أن الصفات ليست من المتشابه: وهذا هو محك الخلاف ونتيجته، ولن أن الكلام في المحكم والمتشابه سلم من إقحام الصفات فيه وطلب تأويلها وتحريف نصوصا تذرعا بأنه من المتشابه، كما فعل أهل البدع والكلام - لبقي الخلاف فيه مثل غيره من مسائل علوم القرآن كأول ما نزل وآخر ما نزل، والمكي منه والمدني، وغيرها - قابلا لتعدد الآراء واختلافها. ومع أن الكلام في الأمر الأول - المتعلق بمنع قول أن في القرآن ما لا سبيل لنا إلى العلم - شامل لموضوع الصفات، إلا أن شيخ الإسلام ناقش هذه المسألة - التي وقع فيها بعض الحنابلة أيضاً - حيث أدخلوا أسماء الله وصفاته - أو بعض ذلك في المتشابه، وبعضهم أعتقد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله - وقد جاءت مناقشة شيخ الإسلام لمن توهم ذلك من المتكلمين وغيرهم من خلال وجهين: أحدهما: مناقضة من قال: إن الصفات من المتشابه، وإنه لا يفهم معناه، يقول شيخ الإسلام: "نقول: أما الدليل على بطلان ذلك فإن ما أعلم عن أ؛ د من سلف الأمة ولا من الأئمة، لا أحمد بن حنبل ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية، ونفي أن يعلم أحد معناه وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، ولا قالوا إن الله ينزل كلاما لا يفهم أحد معناه، وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة، قالوا في أحاديث الصفات: "تمر كما جاءت"، ونهوا عن تأويلات الجهمية - وردوها وأبطلوها - اتلي مضمونها تعطيل النصوص عما دلت عليه. ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه، كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل   (1) (ص:891) وما بعدها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1140 وغير ذلك، وأحمد قد قال في غير أحاديث الصفات: تمر كما جاءت ... " (1) وسيأتي مزيد إيضاح لكلام الإمام أحمد عن الحديث عن مسألة "التفويض". والسلف رحمهم الله تواتر عنهم الرد في تأويلات أهل الكلام، التي هي صرف للنصوص عن ظاهرها إلى ما يخالف ظاهرها، ثم إنهم - رحمهم الله - أثبتوا هذه الصفات ولم يتوقفوا فيها. فكيف يقال إنها عندهم من المتشابه؟ (2) . ومن أدلة شيخ الإسلام على أن الصفات ليست من المتشابه الذي لا يعلم معناه قوله بعد إيراد عدد كبير من نصوص الأسماء والصفات: "فيقال لمن ادعى هذه أنه متشابه لا يعلم معناه: أتقول هذا في جميع ما سمي الله ووصف به نفسه، أم في البعض؟ فإن قلت: هذا في الجميع كان هذا عنادا ظاهراً وجحداً لما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، بل كفر صريح، فإنا نفهم من قوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (لأنفال: من الآية75) معنى، ونفهم من قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: من الآية20) معنى ليس هو الأول، ونفهم من قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (لأعراف: من الآية156) معنى ونفهم من قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} (ابراهيم: من الآية47) معنى، وصبيان المسلمين، بل كل عاقل فيهم يفهم هذا" (3) ، ثم رد على من زعم أن أسماء الله أعلام جامدة كبعض من ابتدع من أهل المغرب، ولعله يقصد ابن حزم (4) . وقد سبقت الإشارة إلى هذا في مبحث الأسماء في الفصل السابق. والثاني: إنه لو قيل: إن الصفات من المتشابه، أو فيها ما هو من المتشابه، كما نقل عن الإمام أحمد تسمية ما استدل به الجهمية النفاة متشابها - فيقال "الذي في القرآن لأنه لا يعلم تأويله إلا الله، إما المتشابه، وإما الكتاب كله ... ونفى علم تأويله ليس نفي علم معناه كما قدمناه (5) في القيامة وأمور القيامة،   (1) الأكليل في المتشابه والتأويل - مجموع الفتاوى - (13/294-295) . (2) انظر: المصدر السابق (13/296) . (3) انظر: المصدر السابق (13/297) . (4) انظر: المصدر نفسه (13/297-305) . (5) انظر: المصدر نفسه (13/280-281) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1141 وهذا الوجه قوى إن ثبت حديث ابن إسحاق في وفد نجران أنهم احتجوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله (إنا) و (نحن) ونحو ذلك (1) ، ويؤيده أيضا أنه قد ثبت أن في القرآن متشابها وهو ما يحتمل معنيين، وفي مسائل الصفات ما هو من هذا الباب كما أن ذلك في مسائل المعاد وأولى، فإن نفي المتشابه بين الله وخلقه أعظم من نفي المتشابه بين موعود الجنة وموجود الدنيا. وإنما نكتة الجواب هو ما قدمناه أولا أن نفي علم التأويل ليس نفيا لعلم المعنى" (2) ، ثم زاده شيخ الإسلام تقريراً وشرحا بشواهد الكتاب والسنة وكلام الصحابة وسائر السلف والأئمة الذين تكلموا في نصوص الصفات وغيرها، وفسروها بما يوافق دلالاتها وبيانها، وحرص عبد الله بن مسعود على تعلم التفسير، ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس، وتعلم جميع الصحابة التفسير مع التلاوة، وأقوال الأئمة، كل ذلك أدلة واضحة لمن هداه الله على إثباتهم للصفات التي دلت عليها النصوص، مع نفي العلم بالكيفية. وبهذا يتبين أنه على القول بأن الصفات ليست من المتشابه مطلقا، أو القول بأنها من المتشابه - بالمعنى السابق - ليس لأهل الكلام ولا لغيرهم دليل على زعمهم أنه يلزم فها تفويض السلف للمعنى والكيفية، أو تأويلها بما يوافق عقولهم الفاسدة. الفرع الثاني: التأويل والمجاز : بين التأويل والمجاز علاقة واضحة (3) ، ويجمعهما أنهما صارا مطية لكثير من الفرق الضالة في تعاملها مع النصوص لتوافق ما لديهما من اعتقادات فاسدة، والين بحثوا في هذين الموضعين - من منطلق لغوي - وجدوا أن الكلام فيهما نشأ وترعرع في أحضان أهل الكلام من المعتزلة والباطنية وغيرهم (4) ، وفي العصر   (1) انظر: سيرة ابن هشام (2/224) ، والروض الأنف (5/10) . (2) الأكليل في المتشابه والتأويل - مجموع الفتاوى - (13/306) ، وانظر ظاهرة التأويل وصلتها باللغة (ص:117-118) . (3) انظر: ظاهرة التأويل وصلتها باللغة للسيد أحمد عبد الغفار (ص:166-174) . (4) انظر: المصدر السابق (ص: 47) وما بعدها، و (ص: 72) وما بعدها، وانظر أيضاً: فلسفة المجاز تأليف لطفي عبد البديع (ص:22) وما بعدها، وانظر أيضاً: التصور اللغوي عند الإسماعيلية (ص:127) وما بعدها، وكتاب التأويل الإسماعيلي الباطني ومدى تحريفه للعقائد الإسلامية (ص:21) وما بعدها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1142 الحاضر كثيرا ما ينطلق دعاة الاستغراب والفكر العقلاني المتمرد على الإسلام وتراثه، باسم الحداثة أو غيرها، كثيرا ما ينطلق هؤلاء من مبدأ "التأويل" (1) . ولأهمية موضوع التأويل والمجاز في علاقتهما بالعقيدة اهتم شيه الإسلام في بيان القول فيهما، دفاعا عن عقيدة السلف، وردا على أهل البدع، وتبعه على ذلك تلميذه ابن القيم إلى أفرد لموضوع التأويل مباحث مطولة في مقدمة كتابه "الصواعق المرسلة" (2) ، ثم لما ذكر الطواغيت الأربعة جعل منها طاغوت المجاز (3) . وقد سبق عند الكلام عن المحكم والمتشابه عرض بعض القضايا المتعلقة بالتأويل، وبقيت بعض المسائل التي تحتاج إلى بيان، ونقد عرض لها شيخ الإسلام ومنها: - التأويل في مصطلح المتأخرين. وتعارض ذلك مع فهم السلف له. - القرائن المتصلة بالخطاب التي توضح أن النص ليس على ظاهره هل هو تأويل؟.   (1) مر دعاة التغريب بمرحلتين: إحداهما: رفض الإسلام والدين جملة وتفصيلا، والدعوة إلى التبعية لأفكار الغرب ومنطلقاتهم الإلحادية - شرقية أو غربية. والثانية: أ، هؤلاء لما وجدوا أن الشعوب الإسلامية - والطبقة الواعية بالذات - رافضة لمنهجهم وإلحادهم، متجهة نحو دينها وتراثها - أخذوا في مسايرة الموجه، فصاروا يبحثون عن منطلقات تراثية لأفكارهم، فوجدوا في آراء الجهمية، والمعتزلة، والرافضة، والقرامطة، والباطنية، والصوفية، ما يعدونه تراثا له قيمة عظيمة ينبغي الرجوع إليه والانطلاق منه. وعلى سبيل المثال وجدوا3 في قضية "التأويل" عند الفرق مجالا خصبا لدعم توجهاتهم الفكرية. انظر مثلا: التأويل والحقيقة: قراءة تأويلية في الثقافة العربية، لأحد كتاب الحداثة وأسمه عليه حرب (ص:21) وما بعدها، و (ص:121) وما بعدها، و (ص:221) وما بعدها. وقد دعا (ص:231) إلى تجديد التأويل، تبعا لأستاذه محمد أركون، وانظر أيضا: فلسفة التأويل: دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين ابن عربي تأليف: نصر حامد أبو زيد، (ص:11) وما بعدها، وقد نعى في (ص:12) على ابن تيمية وابن القيم لقولهما إن المعرفة الدينية لا تتطور. (2) انظر: الصواعق المرسلة - الأصل - (ص:170-631) - ت الدخيل الله. (3) انظر: المصدر السابق (ص:173،632) ، أما تفصيل القول فيه ففي مختصر الصواعق (2/2) وما بعدها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1143 - ما هو الذي يؤول والذي لا يؤول، وتناقض المتكلمين في ذلك. - هل قال الإمام أحمد بالتأويل؟: - الحقيقة والمجاز. ويمكن مناقشتها من خلال الأمور التالية: الأمر الأول: التأويل ومعانيه: ابتدع المتأخرون معنى للتأويل لم يكن معروفاً عند السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وقالوا: هو صرف اللفظ من الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، ثم فسروا التأويل الوارد في آية آل عمران: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (آل عمران: من الآية7) بهذا المصطلح الذي أحدثوه، ومن ثم أضفوا الشرعية علىتأويلاتهم لنصوص الصفات أو بعضها. وقد أولى شيخ الإسلام هذه المسألة اهتماما كبيراً، وعرض لها في مناسبات عديدة من كتبه، وانطلق في ذلك من بيان التأويل الواردة في الكتاب والسنة وأقوال السلف، حيث أوضح من خلال التتبع الدقيق لموارد لفظة "التأويل" في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، وأئمة السلف (1) ، وانتهى من ذلك إلى أن التأويل ورد عندهم بمعنيين: أحدهما: أنه بمعنى المرجع والمصير، والحقيقة التي تؤول إليها الشيء. والثاني: أنه بمعنى التفسير (2) . أما المعنى الثالث الذي اصطلح عليه المتأخرون وهو صرف اللفظ من الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، فليس معروفا عندهم، يقول شيخ الإسلام   (1) انظر مثلا: تفسير سورة الإخلاص - مجموع الفتاوى - (17/364-372) ، ونقض التأسيس - مخطوط - (2/241-247) . (2) انظر: شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى - (5/347-350) ، والفتوى الحموية - مجموع الفتاوى (5/35-36) ، ومجموع الفتاوى (4/68-69) والدرء (1/14-15) ، والإكليل في المتشابه والتأويل - مجموع الفتاوى (13/288-289) ، ونقض التأسيس - مخطوط - (3/2-4) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1144 بعد ذكر المعاني السابقة: "والمقصود هنا أن السلف كان أكثرهم يقف عند قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه} بناء على أن التأويل هو الحقيقة التي استأثر الله بعلمها، لا يعلمها إلا هو، وطائفة كمجاهد وابن قتيبة (1) وغيرهما قالوا: بل الراسخون يعلمون التأويل، ومرادهم بالتأول المعنى الثاني وهو التفسير، فليس بين القولين تناقض في المعنى. وأما التأويل بمعنى صرف اللفظ عن مفهومه إلى غير مفهومه فهذا لم يكن هوالمراد بلفظ التأويل في كلام السلف، اللهم إلا أنه إذا علم أن المتكلم أراد المعنى الذي يقال إنه خلاف الظاهر جعلوه من التأويل الذي هو التفسير، لكونه تفسيراً للكلام وبيانا لمراد المتكلم به، أو جعلوه من النوع الآخر الذي هو الحقيقة الثابتة في نفس المر التي استأثر الله بعلمها لكونه مندرجاً في ذلك لا لكونه مخالفا للظاهر. وكان السلف ينكرون التأويلات التي تخرج الكلام عن مراد الله ورسوله التي هي من نوع تحريف الكلم عن مواضعه، فكانوا ينكرون التأويل الباطل الذي هو التفسير الباطل، كما ننكر قول من فسر كلام المتكلم بخلاف مراده ... " (2) . وقد أراد شيخ الإسلام من هذا الكلام. تقرير عدة أمور: 1- أنه لا يجوز حمل النصوص على مصطلح حادث، بل لا بد من الرجوع أولا إلى الاستعمالات الواردة لهذا اللفظ وقت النزول. ولفظ التأويل لم يرد في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة إلا بهذين المعنيين، فحمل لفظ التأويل - في آية آل عمران - على غيرهما باطل. 2- أن القراءتين الواردتين في الآية صحيحتان (3) ، ولا تعارض بينهما،   (1) انظر: تأويل مشكل القرآن (ص:98-101) . (2) الصفدية (1/291) . (3) انظر: المكتفى في الوقف والابتداء لأبي عمرو الداني (ص:194-197) ، ومنار الهدى في بيان الوقف والابتداء للأشموني (ص:70) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1145 وكل قراءة محمولة على معنى من معاني التأويل الوارد. ففي قراءة الوقف على لفظ الجلالة - وهي قراءة الجمهور - يكون معنى التأويل حقيقة الشيء في قراءة الوصل يكون معناه التفسير. 3- أن التأويل هو بيان مراد المتكلم، وليس هو بيان ما يحتمله اللفظ في اللغة (1) ، ولذلك فقد يوجد في كلام السلف تفسير الآية على خلاف ظاهرها - مما قد يقال بأنه صرف للفظ عن ظاهره - ولكن هذا من باب بيان مراد المتكلم وتفسير كلامه، بضم النظائر إلى بعضها، وتفسير بعض النصوص بنصوص أخرى، توضح المراد منها، وتزيل ما قد يشتبه منها على بعض الناس: وشيخ الإسلام كثيراً ما يركز على "أن الرسول بلغ البلاغ المبين، وبين مراده، وأن كل ما في القرآن والحديث من لفظ يقال فيه إنه يحتاج إلى التأويل الاصطلاحي الخاص الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره، فلا بد أن يكون الرسول قد بين مراده بذلك اللفظ بخطاب آخر، لا يجوز عليه أن يتكلم بالكلام الذي مفهومه ومدلوله باطل، ويسكت عن بيان المراد بالحق، ولا يجوز أن يريد من الخلق أن يفهموا من كلامه ما لم يبينه لهم ويدلهم عليه لا مكان معرفة ذلك بعقولهم، وأن هذا قدح في الرسول الذي بلغ البلاغ المبين الذي هدى الله به العباد وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، وفرق الله به بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وبين الرشاد والغي، وبين أولياء الله وأعدائه، وبين ما يستحقه الرب من الأسماء والصفات وما ينزه عنه من ذلك. فمن زعم أنه تكلم بما لا يدل إلا على الباطل، لا على الحق ولم يبين مراده، وإنه أراد بذلك اللفظ المعنى الذي ليس بباطل، وأحال الناس في م عرفة المراد على ما يعلم من غير جهته بآرائهم فقد قدح بالرسول" (2) .   (1) انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (2/172) . (2) انظر: درء التعارض (1/22-23) ، وانظر تفصيلا مهما لهذه المسألة في نقض التأسيس - مخطوط - (3/162-177) ، ويلاحظ أ، هذا الجزء بدأه بالرد على ما زعمه الرازي من أن جميع الفرق مقرون بأنه لا بد من التأويل، ثم ذكر تسعة أمثلة من القرآن وعشرة من السنة، فعقب شيخ الإسلام - بعد مناقشة كل واحد منها - بقوله عن الرازي: "قلت قد ذكر تسعة عشر حرفا على عدد خزنة جهنم وليس فهيا ما يوجب التأويل ... " (3/162) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1146 وأهل الكلام الباطل ينظرون إلى النص بحد ذاته، ويعلمون فيه آراءهم واجتهاداتهم ومسلماتهم العقلية، دون أن ينظروا إلى مراد المتكلم وقصده من هذا الكلام، ودون أ، يرجعوا إلى النصوص الأخرى التي قد تكون نصا في بيان المراد. ولذلك فإنهم حين يلحظون من كلامهم غلوا في صرف الألفاظ والنصوص عن معانيها، أو يوجه إليهم استشكال وتساؤل عن أسباب هذا التأويل - الذي هو في الحقيقة تحريف وتعطيل - يلجأون إلى جواب غير مقنع - وإخاله غير مقنع لهم أنفسهم لكنهم اضطروا إليه - وهو قولهم أن فائدة إنزال النصوص المثبتة للصفات اجتهاد أهل العلم في صرفها عن مقتضاها بالأدلة المعارضة لها، لتنال النفوس الثواب، وتنهض إلى التفكر والاستدلال بالأدلة العقلية، الموصلة إلى الحقد على حد زعمهم (1) . وعليه فالهدى والنور والبيان الذي جاء به الكتاب والسنة لا يتم إلا بتحريف نصوصهما بما يوافق معقولات الفلاسفة والجهمية وأهل البدع والكلام والباطل!، وقد ضرب شيخ الإسلام لذلك بمثال، أطال في شرحه (2) . والخلاصة أن الأقوال في التأويل، وفي تفسير آية آل عمران على كلا القراءتين، ليس في ذلك كله ما يبرر مذهب النفاة الذين حرفوا كثير من النصوص باسم "التأويل" (3) . الأمر الثاني: القرائن المتصلة بالخطاب التي تدل على أ، النص ليس على ظاهره هل يعتبر تأويلا؟ وما الشيء الذي يؤول والذي لا يؤول؟ هذه المسألة من المسائل التي كثر الخوض فيها دون ضابط أو منهج صحيح، ولذلك ضل فيها طائفتان:   (1) انظر: درء التعارض (5/365) . (2) انظر: المصدر السابق (5/36-368) . (3) من الدراسات الجيدة في هذا الموضوع، ما كتبه الدكتور محمد السيد الجليند بعنوان: الإمام ابن تيمية وقضية التأويل، انظر (ص:29) وما بعدها، وهي دراسة قائمة على فهم صحيح لمنهج شيخ الإسلام. والمشكلة أن كثير من الدارسين في أقسام الفلسفة قد يتعرضون في كتبهم وبحوثهم لآراء شيخ الإسلام ولكن بدون فهم لحقيقة مذهبه ومنهجه، ولذلك تأتي أقوالهم تحمل كثيراً من الأخطاء العلمية والمنهجية بحق مذهب السلف وبحق المدافعين عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1147 طائفة: ظنت أنه إذا كان بعض نصوص الصفات ليس على ظاهره، مثل حديث: عبدي مرضت (1) ، ونحوه، فهو دليل على جواز التأويل لكل نص وارد في الصات دل ظاهره على التشبيه أو خالف المعقول مثلا، ولو كان ثبوته ودلالته قطعيين - وهذا قول طوائف أهل الكلام - مع تفاوتهم في ذلك -. وطائفة: عكست الأمر فظنت إنه إذا كان لا يجوز التأويل في نصوص الصفات، فكذلك النصوص الأخرى يجب حملها على ظاهرها، ولو دلت القرائن على أن هذا الظاهر الفاسد منتف، وهؤلاء كثيرا ما يخلطون بين الأحاديث الصحيحة والموضوعة. وكل من الطائفتين لم يوفق إلى الحق والصواب، بل وقع في البدعة وخالف النصوص الدالة على إثبات الصفات لله من غير تمثيل ولا تعطيل. وسبب ذلك أنهم لم يفرقوا في النصوص بين ما هو من الصفات وما ليس منها، وإنما خلطوا الأمر إما إثباتاً أو نفياً وتعطيلاً. وقد اهتم شيخ الإسلام بهذا الأمر، وميز تمييزا واضحا بين النصوص الدالة على الصفات، والنصوص التي ليست منها، إما لعدم ثبوتها، أو لأن القرائن دلت على أنها ليست من الصفات. بل قد قال شيخ الإسلام جازماً: "وأما الذي أقوله الآن وأكتبه - وإن كنت لم أكتبه فيما تقدم من أجوبتي، وإنما أقوله في كثير من المجالس - أن جميع ما في القرآن من آيات الصفات فليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها. وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما رووه من الحديث، ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مئة تفسير، فلم أجد - إلى ساعتي هذه - عن أحد من الصحاب أنه تأول شيئاً من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف" (2) .   (1) سبق تخريجه (ص:836) . (2) مجموع الفتاوى (6/394) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1148 فالشأن أن تكون من آيات الصفات أو أحاديث الصفات، أما النصوص الأخرى التي قد تدل على الصفة، لكن ليست نصا فيها، فخلاف علماء أهل السنة فيها لا يجعل قول من لم يثبت بها صفة دليلا على تأويل الصفات، لأن النص نفسه ليس صريحا في ذلك. وقد أورد شيخ الإسلام عددا من الأمثلة على ذلك، وقبل إيراد نماذج منها يحسن ذكر ما قاله في مقدمة أحدها، فقد أورد -رحمه الله- مسألة قربه تعالى من عباده، والخلاف في ذلك، ثم قال: "وإذا كان قرب عباده من نفسه، وقربه منهم، ليس ممتنعا عند الجماهير من السلف وأتباعهم من أهل الحديث، والفقهاء، والصوفية، وأهل الكلام، لم يجب أ، يتأول كل نص فيه ذكر ربه من جهة امتناع القرب عليه، ولا يلزم من جواز القرب عليه أن يكون كل موضع ذكر فيه قربه يراد به قربه بنفسه، بل يبقى هذا من الأمور الجائزة، وينظر في النص الوارد، فإن دل على هذا حمل عليه، وإن دل على هذا حمل عليه، كما تقدم في لفظ الإتيان والمجيء: إن (1) كان في موضع قد دل عندهم على أنه هو يأتي، ففي موضع آخر دل على أنه يأتي بعذابه، كما في قوله تعالى: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِد} (النحل: من الآية26) وقوله تعالى: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} (الحشر: من الآية2) . فتدبر هذا؛ فإنه كثير ما يلغط الناس في هذا الموضع، إذا تنازع النفاة والمثبتة في صفة، ودلالة نص عليها: يريد المريد أن يجعل ذلك اللفظ - حيث ورد - دالا على الصفة وظاهرا فيها. ثم يقول النافي: وهناك لم تدل على الصفة فلا تدل هنا. وقد يقول بعضا لمثبتة: دلت هنا على الصفة فتكون دالة هناك، بل لما رأوا بعض النصوص تدل على الصفة، جعلوا كل آية فهيا ما يتوهمون أنه يضاف إلى الله تعالى - إضافة صفة - من آيات الصفات، كقوله تعالى: {فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} (الزمر: من الآية56) . وهذا يقع فيه طوائف من المثبتة والنفاة، وهذا من أكبر الغلط؛ فإن الدلالة   (1) في مجموع الفتاوى [وإن] لعل الواو زائدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1149 في كل موضع بحسب سياقه، وما يحف به من القرائن اللفظية والحالية، وهذا موجود في أمر المخلوقين، يراد بألفاظ الصفات منهم في مواضع كثيرة غير الصفات" (1) ، ثم ذكر مثالين نافعين لذلك. وبعد هذه المقدمة نعود إلى ما ذكره من أمثلة من الكتاب وأمثلة من السنة: أولاً: أمثلة من الكتاب: 1- قال الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (البقرة: من الآية115) ، ويقول شيخ الإسلام عن صفة الوجه: "لما كان إثبات هذه الصفة مذهب أهل الحديث، والمتكلمة الصفاتية: من الكلابية، والأشعرية، والكرامية، وكان نفيها مذهب الجهمية: من المعتزلة وغيرهم، ومذهب بعض الصفاتية من الأشعرية وغيرهم، صار بعض الناس من الطائفتين كلما قرأ آية فيها ذكر الوجه جعلها من موارد النزاع، فالمثبت يجعلها من الصفات التي لا تتأول بالصرف، والنافي يرى أنه إذا قام الدليل على أنه ليست صفة فكذلك غيرها، مثال ذلك قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (البقرة: من الآية115) أدخلها في آيات الصفات طوائف من المثبتة والنفاة، حتى عدها أولئك - كابن خزيمة - مما يقرر إثبات الصفة (2) ، وجعل [النفاة] (3) تفسيرها بغير الصفة حجة لهم في موارد النزاع" (4) . ثم ذكر قصته في المناظرة التي عقدت له فقال: "ولهذا لما اجتمعنا في المجلس المعقود - وكنت قد قلت: أمهلت كل من خالفني ثلاث سنين إن جاء بحرف واحد عن السلف يخالف شيئاً مما ذكرته كانت له الحجة، وفعلت وفعلت، وجعل المعارضون يفتشون الكتب فظفروا بما ذكره البيهقي في كتاب "الأسماء والصفات" في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (البقرة: من الآية115) ،   (1) مجموع الفتاوى (6/13-15) . (2) انظر: التوحيد (1/25) - المحققة. (3) في مجموع الفتاوى [المنافية] ولعل الصواب ما أثبت. (4) مجموع الفتاوى (6/15) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1150 فإنه ذكر عن مجاهد والشافعي أن المراد: قبلة الله (1) - فقال أ؛ د كبرائهم - (2) في المجلس الثاني - قد أحضرت نقلا عن السلف بالتأويل، فوقع في قلبي ما أعد، فقلت: لعلك قد ذكرتما روى في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} قال: نعم، قلت: المراد بها قبلة الله، فقال: قد تأولها مجاهد والشافعي وهما من السلف. ولم يكن هذا السؤال يرد علي، فإنه لم يكن شيء مما ناظروني فيه صفة الوجه، ولا أثبتها (3) ، لكن طلبوها من حيث الجملة، وكلامي كان مقيداً كما في الأجوبة، فلم أر احقاقهم في هذا المقام، بل قلت: هذه الآية ليست من آيات الصفات أصلا، ولا تندرج في عموم قول من يقول: لا تؤول آيات الصفات. قال: أليس فيها ذكر الوجه؟ فلما قلت: المراد بها قبلة الله، قال: أليست هذه من آيات الصفات؟ قلت: لا، ليست من موارد النزاع، فإني إنما أسلم أن المراد بالوجه - هنا - القبلة، فإن الوجه هو الجهة في لغة العرب، يقال: قصدت هذا الوجه، وسافرت إلى هذا الوجه، أي: إلى هذه الجهة ... " - وبعد أن زاد هذا شرحاً، قال: في كلام مهم جدا: "ولكن من الناس من يسلم أن المراد بذلك جهة الله، أي قبلة الله، ولكن يقول: هذه الآية تدل على الصفة وعلى أن العبد يستقبل ربه ... ويقول: إن الآية دلت على المعنيين، فهذا شيء آخر ليس هذا موضعه. والغرض أنه إذا قيل: فثم قبلة الله، لم يكن هذا من التأويل المتنازع فيه الذي ينكره منكروا تأويل آيات الصفات، ولا هو مما يستدل به عليهم المثبتة، فإن هذا المعنى صحيح في نفسه، والآية دالة عليه، وإن كانت دالة على ثبوت صفة فذاك شيء آخر، ويبقى دلالة [قوله] (4) {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}   (1) انظر: الأسماء والصفات للبيهقي (ص:309) . (2) لعله صفي الدين الهندي. (3) أي أنهم في المناظرة الأولى حول الواسطية لم يناظروه فيما ذكره من إثبات صفة الوجه حيث ذكر قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه} (القصص: من الآية88) ضمن نصوص أخرى. وقوله هنا (ولا أثبتها) يحتمل أنه يقصد إنه لم ينص عليها - شرحا وبيانا في الواسطية ما فعل في العلو والكلام والرؤية، ويحتمل أ، يقصد آية {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أي أنه لم يذكرها كدليل على صفة الوجه، ولعل هذا أرجح. (4) في مجموع الفتاوى [قولهم] ، ولعل المثبت هو الصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1151 على فثم قبلة الله، هل هو من باب تسمية القبلة وجها باعتبار أن الوجه والجهة واحد؟ أو باعتبار أن من استقبل وجه الله فقد استقبل قبلة الله؟ فهذا فيه بحوث أخرى، ليس هذا موضعها" (1) . وفي نقض التأسيس أشار إلى ما ذكره هنا، مع زيادة في الشرح والتوضيح، وقال في أثناء ذلك: "فهذا القول ليس عندنا من باب التأويل الذي هو مخالفة الظاهر أصلاً، وليس المقصود نصر هذا القول، بل بيان توجيهه وأن قائليه من السلف لم يكونوا من نفاة الصفة، ولا ممن يقول: ظاهر الآية ممتنع ... " (2) ، ثم ذكر ثلاث احتمالات في هذه الآية: أحدها: أنها دالة على الصفة، وحينئذ تقر على ظاهرها، ولا محذور فيه، ومن يقول بهذا لا يقول إن وجه الله هو نفسه في الأجسام المستقبلة ولا يقول هذا أحد من أهل السنة، و"ثم" إشارة إلى البعيد. والثاني: أن ظاهرها أن الذي ثم هو القبلة المخلوقة فقط، وفي هذه لا تكون الآية مصروفة عن ظاهرها، وتوجيه ذلك أن "ثم" إشارة إلى مكان موجود، والله تعالى فوق العالم ليس هو في جوف الأمكنة. والثالث: أن يقال ظاهرها يحتمل الأمرين، وحينئذ فقول مجاهد لا ينافي ذلك (3) . ولكن ما الذي يرجحه شيخ الإسلام - مع قوله إن قول مجاهد "فثم قبلة الله" ليس تأويلا ولا حجة فيه للنفاة؟، سبق قبل قليل نقل قوله في مجموع الفتاوى: "ولكن من الناس من يسلم أن المراد بذلك جهة الله أي قبلة الله، ولكن يقول: هذه الآية تدل على الصفة ... "، وزاده في نقض التأسيس بيانا   (1) مجموع الفتاوى (6/15-17) ، وقارن بالمناظرة حول الواسطية - مجموع الفتاوى - (3/193) . (2) نقض التأسيس - مخطوط - (3/79) . (3) انظر: المصدر السابق (3/79) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1152 فقال في أحد وجوه الرد على الرازي: "الوجه الثالث: أن يقال: بل هذه الآية دلت على الصفة كغيرها، وذلك هو ظاهر الخطاب وليست مصروفة عن ظاهرها، وإن كانت مع ذلك دالة على استقبال قبلة مخلوقة، ونجزم بذلك فلا نسلم أنها مصروفة عن ظاهرها، ولفظ "الوجه" هو صفة الله، فما الدليل على وجوب تأويلها، وقوله {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} فيه الإشارة إلى وجه الله بأنه ثم، والله تعالى يشار إليه كما تقدم تقرير هذا" (1) . ويجب أن لا يغيب عن البال - في خضم هذه المناقشات - أن الخلاف ليس في إثبات صفة "الوجه" لله تعالى، لأن هذه الصفة ثابتة بنصوص أخرى صريحة قطعية، لا مجال فيها لأي احتمال - وقد أثبتها متقدمو أئمة الأشاعرة - ولكن الكلام هنا يدور حول أحد النصوص الواردة وهو قوله تعالى: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} هل هو دال على الصفة أم لا؟. والخلاصة أن دلالة مثل هذه الآية محتملة، وهي لا تخالف النصوص الأخرىالمثبتة لصفة الوجه، وليس فيما قاله مجاهد - تفسيرا لها - حجة للنفاة على جواز التأويل، وسواء دلت على الصفة أو لم تدل فليس للنفاة فيها حجة أصلا. 2- ومن الأمثلة أيضاً قوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} (الزمر: من الآية56) ، يقول شيخ الإسلام في معرض رده على الرازي - الذي يذكر بعض النصوص التي تحتاج إلى تأويل، ويحتج بها على جواز التأويل: "يقال: من أين في ظاهر القرآن إثبات جنب واحد صفة لله، ومن المعلوم أن هذا لا يثبته جميع مثبتة الصفات الخبرية، بل كثير منهم ينفون ذلك، بل ينفون قول أحد منهم بذلك (2) "، ثم نقل كلام الدارمي في نقضه على المريسي - ورده عليه في احتجاجه بهذه الآية - وأنه قال: "وادعى المعارض زورا على قوم أنهم يقولون في تفسير قوله الله تعالى: {يَا حَسْرَتَى عَلَى   (1) نقض التأسيس - مخطوط - (3/86) . (2) انظر: المصدر السابق (3/11) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1153 مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّه} (الزمر: من الآية56) قال: يعنون بذلك الجنب [الذي] (1) هو العضو، وليس على ما يتوهمونه، قال: فيقال لهذا المعارض: ما أرخص الكذب عندك، وأخفه على لسانك، فإن كنت صادقا في دعواك فأشر بها إلى أحد من بني آدم قاله، وإلا فلم تشنع بالكذب على قوم هم أعلم بالتفسير منك، وأبصر بتأويل كتاب الله منك ومن إمامك؟، إنما تفسيرها عندهم: تحسر الكافرين على ما فرطوا في الإيمان والفضائل التي تدعو إلى ذات الله، واختاروا علهيا الكفر والسخرية بأولياء الله فسماهم الساخرين (2) ، فهذا تفسير الجنب عندهم، فمن أنبأك أنهم قالوا: جنب من الجنوب، فإنه لا يجهل (3) هذا المعنى كثير من عوام المسلمين فضلا عن علمائهم ... " (4) ، ثم عقب شيخ الإسلام بتوجيه آخر يدل على أنها ليست صفة، ونقل كلام ابن بطة والقاضي أبي يعلي (5) . وقد عقب شيخ الإسلام على ما مضى - رادا على الرازي الذي زعم أن ظاهر القرآن يلزم منه أن لله جنبا واحدا عليه أيد كثيرة ... (6) فقال: "وأين في ظاهر القرآن أنه ليس لله جنب واحد بمعنى الشق، ولكن قد يقال: القرآن فيه إثبات جنب الله تعالى، وفيه إثبات التفريط فيه، فثبوت نوع من التوسع والتجوز فيما جعل فيه لا يوجب ثبوت التوسع والتجوز فيه كما في قوله تعالى: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (الملك: من الآية1) ، فإن هناك شيئين: اليد (7) وكون الملك فيها، ولهذا تنازعوا في إثبات ذلك صفة لله" (8) . وما أشار إليه شيخ الإسلام من صفة "اليد" أوضحه في مكان آخر فقال رادا على نفاة هذه الصفة: "ومن ذلك أنهم إذا قالوا: بيده الملك، أو عملته يداك،   (1) زيادة من رد الدارمي على المريسي - وهي ليست في المخطوطة. (2) في المخطوطة (الساخرون) وهي على الصواب في الرد على المريسي. (3) في الرد على المريسي: فإنه يجهل.. (4) نقض التأسيس - مخطوط - (3/11-12) ، والنص في الرد على المريسي للدارمي (ص: 539-540) ضمن "عقائد السلف". (5) انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (3/12-14) . (6) انظر: المصدر السابق (3/8-11) . (7) في المخطوطة (إليه) وهو خطأ. (8) نقض التأسيس - مخطوط - (3/11) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1154 فهما شيئان، أحدهم: إثبات اليد، والثاني: إضافة الملك والعمل إليها. والثاني يقع فيه التجوز كثيراً، أما الأول فإنهم لا يطلقون هذا الكلام إلا لجنس له "يد" حقيقة، ولا يقولون: يد الهوى، ولا يد الماء، فهب أن قوله: بيده الملك، قد علم منه أن المارد بقدرته، لكن لا يتجوز بذلك إلا لمن له يد حقيقة" (1) . ولعله اتضح معنى قوله في نص - نقض التأسيس - عن قوله {بِيَدِهِ الْمُلْك} : "ولهذاتنازعوا في إثبات ذلك صفة لله" أن المقصود بذلك أن من قال إن المراد بذلك بقدرته قد لا يحتج بهذه الآية على إثبات هذه الصفة لله، ولكن ها هنا أمران: أحدهما: أن إثبات صفة اليدين قد دلت عليه أدلة قطعية، لا مجال فيها لأي تأويل. الثاني: أن قوله {بِيَدِهِ الْمُلْك} وإن قيل إن معناه بقدرته، إلا أن الآية تدل على إثبات اليد لله، لأنه لا يتجوز بذلك إلا لمن له يد حقيقة. والخلاصة أن آية {عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّه} من قال إن المقصود هو التحسر على التفريط في الإيمان والأعمال الصالحة، فليس قوله هذا تأويلاً لصفة من الصفات، حتى يكون حجة لنفاة الصفات. وكذلك من أثبت بهذه الآية الصفة، فإنه أثبت صفة الجنب لله، وأثبت التفريط فيه، مثل قوله: {بِيَدِهِ الْمُلْك} ، وقال: إنه لا يتجوز بذلك إلا لمن له جنب. والله أعلم. 3- ومن الأمثلة قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} (القلم: من الآية42) فإن الصحابة والتابعين قد تنازعوا في هذه الآية، هل المقصود بها الكشف عن الشدة، أو المراد أن الرب تعالى يكشف عن ساقه، "ولم تتنازع الصحابة والتابعون فيما ذكر من آيات الصفات إلا في هذه الآية، بخلاف قوله {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي} (صّ: من الآية75) ، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} (الرحمن: من الآية27) ونحو ذلك، فإنه لم يتنازع فيه الصحابة والتابعون، وذلك أنه ليس في ظاهر القرآن أن ذلك   (1) الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز - مجموع الفتاوى - (6/370) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1155 صفة لله تعالى لأنه قال {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاق} ولم يقل عن ساق الله، ولا قال يكشف الرب عن ساقه، وإنما ذكر ساقا نكرة غير معرفة ولا مضافة، وهذا اللفظ بمجرده لا يدل على أنها ساق الله، والذين جعلوا ذلك من صفات الله تعالى أثبتوه بالحديث الصحيح المفسر للقرآن، وهو حديث أبي سعيد الخدري المخرج في الصحيحين الذي قال فيه: "فيكشف الرب عن ساقه" (1) ، وقد يقال أن ظاهر القرآن يدل على ذلك من جهة أنه أخبر أنه يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود، والسجود لا يصلح إلا الله، فعلم أنه هو الكاشف عن ساقه، وأيضاً فحمل ذلك على الشدة لا يصح، لأن المستعمل في الشدة أن يقال: كشف الله الشدة، أي أزالها، كما قال {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} (2) (الزخرف:50) وقال: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ (3) إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوه} (لأعراف: من الآية135) وقال: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (المؤمنون:75) ، وإذا كان المعروف من ذلك في اللغة أنه يقال: كشف الشدة: أي أزالها، فلفظ الآية {يُكْشَفُ عَنْ سَاق} وهذا يراد به الإظهار والإبانة" (4) . وشيخ الإسلام يرجح دلالة الآية على الصفة، خاصة مع دلالة الحديث الواضحة، ومع ذلك فمن قال من السلف إن المراد بها الكشف عن الشدة، فليس قولهم تأويلا، ثم إنهم يثبتون هذه الصفة بالحديث الصحيح، فلو كان قصدهم التأويل - لذات التأويل - كما يدعي النفاة، لكان تأويلهم للحديث أولى، لكن لما أنهم لم يفرقوا بين دلالة الكتاب والسنة الصحيحة على إثبات الصفات،   (1) متفق عليه من حديث طويل، البخاري، كتاب التوحيد، باب قوله الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (القيامة: من الآية 22-23) ، ورقمه (7439) ، (فتح الباري 13/420-422) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، ورقمه (183) ، وقد ورد في صحيح مسلم، كتاب الفتن واشتراط الساعة، باب خروج الدجال حديث رقم (2940) قال في آخره "قال فذاك يوم يجعل الولدان شيبا، وذلك يوم يكشف عن ساق". (2) في المخطوطة (يمكثون) ، وهو خطأ.. (3) في المخطوطة (العذاب) ، وهو خطأ. (4) نقض التأسيس - مخطوط - (3/15-16) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1156 أثبتوا هذه الصفة بالسنة مع ترجيحهم إن الآية لها معنى آخر. فالنتيجة واحدة. ثانياً: أمثلة السنة: من الأصول الفاسدة التي بنى عليها النفاة من أصحاب التأويل الذين أوجبوه وقالوا إنه صرف اللفظ من الإحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح - قولهم إنهم لا بد من تأويل بعض الظواهر، مثل قوله: عبدي مرضت فلم تعدني، ومثل الحجر الأسود يمين الله في الأرض، وغيرهما، ثم زعمهم أن أي نص خالف رأيهم أو مذهبهم هو من هذا الباب وإنه يحتاج إلى تأويل، فهم بين أمرين: 1- أما أن يجعلوا المعنى الفاسد ظاهر اللفظ. 2- أو يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ لاعتقادهم أنه باطل. والثاني مثل تأويلهم لكثير من نصوص الصفات الصريحة، كقوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّك} (الرحمن: من الآية27) ، وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي} (صّ: من الآية75) وقوله - صلى الله عليه وسلم - "يضع عليها قدمه" (1) أي النار، حيث زعموا أن هذه النصوص الواضحة الصريحة القاطعة لا تدل على صفة، ويجب تأويلها. أما الأول - وهو الشاهد هنا - فقد ذكر شيخ الإسلام عدة أمثلة يمكن الإشارة إلى بعضها باختصار: 1- حديث: عبدي مرضت فلم تعدني ... جعت فلم تطعمني (2) ، فظن هؤلاء النفاة أن ظاهر الحديث أن الله تعالى هو الذي مرض وهو الذي جاع فجعلوا هذا المعنى الفاسد ظاهر اللفظ، وعلى كلامهم يكون ظاهر كلام الله ورسوله كفرا والحادا. ثم قالوا لا بد فيه من التأويل. وقد بين شيخ الإسلام غلط هؤلاء وقال: "أما النصوص التي يزعمون أن ظاهرها كفر، فإذا تدبرت النصوص وجدتها قد بينت المراد، وأزالت الشبهة،   (1) سبق تخريجه (ص:682) . (2) سبق تخريجه (ص:836) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1157 فإن الحديث الصحيح لفظه: عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده"، فنفس ألفاظ الحديث نصوص في أن الله لا يمرض وإنما الذي مرض عبده المؤمن. ومثل هذا لا يقال: ظاهره أن الله يمرض فيحتجا إلى تأويل؛ لأن اللفظ إذا قرن به ما يبين معناه، كان ذلك هو ظاهره، كاللفظ العام إذا قرن به استثناء أو غاية أو صفة كقوله: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاما} (العنكبوت: من الآية14) وقوله: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْن} (النساء: من الآية92) ونحو ذلك، فإن الناس متفقون على أنه حينئذ ليس ظاهره ألفا كاملة، ولا شهرين سواء كانا متفرقين أو متتابعين" (1) " (2) . "فهذا الحديث قد قرن به الرسول بيانه، وفسر معناه، فلم يبق في ظاهره ما يدل على باطل، ولا يحتاج إلى معارضة بعقل ولا تأويل يصرف به ظاهره إلى باطنه بغير دليل شرعي، فأما أن يقال: إن في كلام الله ورسوله ما ظاهره كفر والحاد من غير بيان من الله ورسوله لما يزيل الفساد ويبين المراد، فهذا هو الذي تقول أعداء الرسل، الذين كفروا من المشركين وأهل الكتاب، وهو الذي لا يوجد في كلام الله أبداً" (3) . وكثيراً ما يورد شيخ الإسلام هذا المثال، ولذلك بين المراد منه في مناسبات متعددة (4) .   (1) علق المحقق -رحمه الله- على الآيتين، فأصاب في تعليقه على الأولى، دون الثانية، لأن المقصود بها أ، الناس متفقون على وجوب التتابع في صوم هذين الشهرين، وأن الإنسان ليس م خيرا بين صيامهما متتابعين أو متفرقين. (2) درء التعارض (5/235-236) . (3) انظر: المصدر السابق (5/233) . (4) انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (3/88-91) ، فقد أطال الكلام حوله، ورد على الرازي. وانظر أيضاً: درء التعارض (1/149-150) ، ومجموع الفتاوى (6/28) ، والاستغاثة (2/174، 356) ، والمحقيقة والمجاز - مجموع الفتاوى (20/433) ، والتدمرية (ص: 72-73) - المحققة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1158 2- قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض" (1) - فقد زعم الغزالي والرازي أن هذا من الأحاديث التي تأولها الإمام أحمد (2) ، - وسيأتي إن شاء الله مناقشة هذا -، وقد بين شيخ الإسلام أن هذا الحديث ليس فيه حجة لمن يدعي جواز التأويل، يقول: "أما قوله: الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فإن هذا ليس بثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل قد روه عن ابن عباس، ولم يقل أحمد قط إن هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنه يتأول، بل هذا الحديث سواء كان عن ابن عباس أو كان مرفوعا فلفظه نص صريح لا يحتاج إلى تأويل، فإن لفظه: الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن استلمه وقبله، فكأنما صافح الله وقبل يده، وتسمية هذا تأويلا أبعد من تسميته الحديث الذي فيه: "جعت"، وذلك أنه يمين في الأرض، فقوله: "في الأرض"، متصل بالكلام مظهر لمعناه، فدل بطريق النص أنه ليس هو يمين الله الذي هو صفة له حيث قال: في الأرض، كما لو قال الأمير مخاطبا للقوم في جاسوس له: هذا عيني عندكم، فإن هذا نص في أنه جاسوسه الذي هو يمنزلة عينه، ليس هو نفس عينه التي هي صفة، فكيف يجوز أن يقال إن هذا متأول مصروف عن ظاهره، وهو نص في المعنى الصحيح لا يحتمل الباطل، فضلا عن أ، يكون ظاهره باطلا. وأيضا فإنه قال: من استلمه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يده، فجعل المستلم له كأنما صافح الله تعالى، ولم يقل فقد صافح الله، والمشبه ليس هو المشبه به، بل ذلك نص في المغايرة بينهما، فكيف يقال: إنه مصروف عن ظاهره، وهو نص في المعنى الصحيح، بل تأويل هذا الحديث - لو كان مما يقبل التأويل - أن يجعل الحجر عين يمين الله، وهو الكفر الصريح الذي فروا منه" (3) ، ثم نقل شيخ الإسلام كلام الدارمي حوله (4) ، وكلام القاضي   (1) سبق تخريجه، والكلام في رفعه ووقفه (ص: 558) . (2) انظر: الأحياء للغزالي (1/103) ، وأساس التقديس للرازي (ص:81) . (3) نقض التأسيس - مخطوط - (3/103-104) . (4) انظر: المصدر السابق (3/104-105، 109) ، وهو في الرد على المريسي (ص:395-512) ضمن عقائد السلف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1159 أبي يعلي (1) - مع أنه انتقده فيما ذكره من تأويلات أخرى بعيدة، حيث أبطلها إلا واحدا (2) . فالحديث لا يحتاج إلى تأويل كما زعم النفاة، وقد بين ذلك شيخ الإسلام بوضوح (3) . 3- حديث "إني لأجد نفس - بفتح الفاء - الرحمن من قبل اليمن" (4) ، وهو أيضا من الأحاديث التي ذكر الغزالي والرازي أن الإمام أحمد تأولها، يقول شيخ الإسلام بعد نقله كلام القاضي أبي يعلي وغيره حول معنى هذا الحديث (5) ، "فهذا كلام القاضي أبي يعلى، وما ذكره فيه من كلام غيره، وقد بين أنه إ نما تأول الخبر لأن في الخبر نفسه ما دل على صحة التأويل، ومثل هذا لا نزاع فيه، فإنه إذا كان في الحديث الواحد متصلا به ما يبين معناه فذلك مثل التخصيص المتصل، ومثل هذا لا يقال فيه إنه خلاف الظاهر، بل ذلك هو الظاهر بلا نزاع بين الناس، ولهذا يقبل مثل ذلك في الإقرار والطلاق والعتاق والنذر واليمين وغيره ذلك ... " (6) ، ومعنى الحديث إني أجد تفريج الله عن نبيه ما كان فيه من أذى المشركين، والرسول كثيراً ما يمدح أهل اليمن (7) . وقوله "من قبل اليمن" يبين مقصود الحديث، لأنه ليس لليمن اختصاص بصفات الله تعالى حتى يظن ذلك (8) .   (1) انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (3/105-107) ، وهو في أبطال التأويلات - مخطوط - (ص:99-100) . (2) انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (3/107-109) . (3) انظر: درء التعارض (5/236-239) ، والاستغاثة (2/355-356) ، والرسالة العرشية - مجموع الفتاوى (6/580-581) ، ومجموع الفتاوى (6/397-398) ، والتدمرية (ص:71-72) - المحققة. (4) رواه أحمد (2/541) ، وقال العراقي في المغني - تخريج الأحياء (1/103) "رجاله ثقات". (5) انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (3/110-114) ، وقارن بأبطال التأويلات - مخطوط - (ص:149-151) . (6) نقض التأسيس - مخطوط - (3/114-115) . (7) انظر: المصدر السابق (3/112-113) ، وأبطال التأويلات (ص:149) . (8) انظر: مجموع الفتاوى (6/398) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1160 وقد ذكر شيخ الإسلام نماذج وأحاديث أخرى (1) ، وهي أحاديث واضحة الدلالة، مفهومة المعنى، لا تحتاج إلى تأويل، لأنه لا يتبادر إلى الذهن فيها أي معنى من المعاني الفاسدة التي ظنها هؤلاء. وأهل السنة والجماعة يثبتون الصفات الواردة التي دلت عليها عشرات النصوص من الكتاب والسنة، ولا يفرقون، بينها، وهذا معروف متواتر سطرته كتب أهل السنة المتعددة، وقد أثبتوا جميع الصفات ومنها ما نفاه متأخرو الأشعرية - كالاستواء، والعلو، والنزول، والمجيء، والإتيان، والوجه، واليدين، والعين، والقدم، واليمين، والأصابع، وغيرها مما ثبت بالنصوص الواردة. أما تلك الأحاديث - التي ظن النفاة أن ظاهرها يدل على معنى فاسد ويجب تأويلها - فلم يفهم منها أهل السنة إلا المعنى الحق الذي دل عليه النص بقرائنه الواضحة، وما اختلف فيه أهل السنة فهو من هذا الباب لأن بعضهم يرى أن القرائن تدل على أن القصد الصفة، وبعضهم يرى أنها تدل على معنى آخر، ولذلك لما ثبتت صفة "الساق" في الحديث أثبتها أهل السنة، وإن كانوا مختلفين حول دلالة الآية عليها، وهذا هو الذي يوضح الفرق بين منهج السلف، ومنهج المبتدعة من أهل الكلام.   (1) منها: حديث قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (3/142-144) ، والتدمرية (ص: 73) - المحققة، والمقصود الكلام على المعنى الفاسد الذي توهموه وهو أن القلب متصلب بالأصابع مماس لها، وليس المقصود إثبات صفة الأصابع لأن هذا لهل باب آخر، والحديث لد عليه. ومنها: حديث: إنا عند المنكسرة قلوبهم، انظر نقض التأسيس - مخطوط - (3/144-155) . ومنها: حديث: كنت سمعه الذي يسمع به. انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (3/ 155-157) ، والاستغاثة (2/175-176) . ومنها: حديث: الكبرياء ردائي والعظمة أزاري. انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (3/157-160) ، ومجموع الفتاوى (10/253) . ومنها: حديث: آية الكرسي لها لسان. انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (3/160-162) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1161 وقد بين شيخ الإسلام أن هؤلاء النفاة أدى بهم منهجهم إلى كثير من الاضطراب والتناقض، فقال: "ولهذا لما لم يكن لهم قانون قويم، وصراط مستقيم في النصوص، لم يوجد أحد منهم يمكنه التفريق بين النصوص التي تحتاج إلى تأويل، والتي لا تحتاج إليه، إلا يما يرجع إلى نفس المتأول، المستمع للخطاب، لا بما يرجع إلى نفس المتكلم بالخطاب: فنجد من ظهر له تناقض أقوال أهل الكلام والفلسفة - كأبي حامد وأمثاله، ممن يظنون أن في طريق التصفية نيل مطلوبهم - يعولون في هذا الباب على ذوقهم وكشفهم فيقولون: إن ما عرفته بنور بصيرتك فقرره، وما لم تعرفه فأوله (1) . ومن ظن أن في كلام المتكلمين ما يهدي إلى الحق، يقول: ما ناقض دلالة العقل وجب تأويله، وإلا فلا. ثم المعتزلي - والمتفلسف الذي يوافقه - يقول: إن العقل يمنع إثبات الصفات، وإمكان الرؤية. ويقول المتفلسف الدهري: إنه يمنع إثبات معاد الأبدان، وإثبات أكل وشرب في الآخرة، ونحو ذلك. فهؤلاء، مع تناقضهم، لا يجعلون الرسول نصب نفسه في خطابه دليلا يفرق به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، بل يجعلون الفارق هو ما يختلف باختلاف الناس من أذواقهم وعقولهم، ومعلوم أن هذا نسبة للرسول إلى التلبيس وعدم البيان، بل إلى كتمان الحق وإضلال الخلق، بل إلى التكلم بكلام لا يعرف حقه من باطله، ولهذا كان حقيقة أمرهم الإعراض عن الكتاب والرسول، فلا يستفيدون من كتاب الله وسنة رسوله شيئا من معرفة صفات الله تعالى نفيا وإثباتا، وإنما دلالته عندهم في العمليات - أو بعضها - مع أنهم متفقون على أن مقصوده العدل بين الناس وإصلاح دنياهم" (2) .   (1) انظر: الأحياء للغزالي (1/103) . (2) انظر: درء التعارض (5/240-241) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1162 والغزالي ذكر تطور تأويل نصوص السمع عند المعتزلة والفلاسفة وغيرهم في أمور المعاد واليوم الآخر والصفات، وقد نقل شيخ الإسلام كلامه، وبين أنه حجة عليه، كما رد عليه تعويله على الكشف والمشاهدة (1) . الأمر الثالث: هل قال الإمام أحمد بالتأويل؟ " القول بأن الإمام أحمد قال بالتأويل تلقفته طائفتان: إحداهما: طائفة من الحنابلة الذين مالوا إلى شيء من بدع أهل الكلام، حيث جعلوا مثل هذا النقل عن الإمام أحمد حجة لهم في مخالفتهم لما هو مشهور عن جمهور أصحابه المتبعين لمذهب السلف. والأخرى: طائفة من الأشاعرة وغيرهم، ليستدلوا بمثل هذا النقل على صحة مذهبهم في تأويل بعض الصفات، وأنهم مخالفين لمذهب السلف. والذي روى عن الإمام أحمد في هذه المسألة لا يتعدى أحد نقلين: أحدهما: ما نقله الغزالي - في معرض حديثه عن الإمام أحمد ومنعه من التأويل - قال الغزالي: "سمعت بعض أصحابه يقول: إنه حسم باب التأويل إلا لثلاثة ألفاظ: قوله - صلى الله عليه وسلم -: الحجر الأسود يمين الله في أرضه (2) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن" (3) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن (4) .." (5) وقد نقل الرازي هذا عن الغزالي مع تبديل في أحد الأحاديث (6) . الثاني: ما نقله حنبل في المحنة، عن الإمام أحمد، يقول: احتجوا علي يوم المناظرة، فقالوا: تجيء يوم القيامة سورة البقرة، وتجيء سورة تبارك؟   (1) انظر: درء التعارض (5/347غ-357) ، وانظر أيضاً: نقض التأسيس - مخطوط - (3/93-103) . (2) سبق تخريجه (ص:593) . (3) رواه مسلم، كتاب القدر، باب تصريف الله تعالى القلوب كيف يشاء، ورقمه (2654) . (4) سبق تخريجه قريبا (ص: 1154) . (5) أحياء علوم الدين (1/103) . (6) انظر: ساس التقديس للرازي (ص: 81) حيث أبدل حديث أنا جليس من ذكرني بحديث قلوب العبد الذي ذكره الغزالي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1163 قال: فقلت لهم: إنما هو الثواب، قال الله جل ذكره: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} (الفجر:22) ، وإنما تأتي قدرته، القرآن أمثال ومواعظ، وأمر ونهي، وكذا وكذا" (1) ، وأحال القاضي أبو يعلي في أبطال التأويلات على رواية حنبل فقال: "وقد قال أحمد في رواية حنبل في قوله {وَجَاءَ رَبُّكَ} قال قدرته" (2) . ونقل هذه الرواية عن القاضي أبي يعلي بعض الحنابلة، منهم ابن الجوزي في تفسيره (3) ، وفي كتابه الباز الأشهب (4) - الذي نصر فيه مذهب أهل التعطيل -، كما نسبه البيهقي إلى الإمام أحمد (5) . والعجيب أن هؤلاء المعطلة - يعظم عندهم مثل هذين النقلين - مع ما فيهما من كلام كما سيأتي - وأما النصوص المتواترة المشتهرة عن الإمام أحمد في إثبات الصفات، والرد على الجهمية وأتباعهم، والتحذير من الخوض في علم الكلام وتأويل الصفات - فهذه لا حجة فيها عندهم على مذهب هذا الإمام الموافق لمذهب السلف، وغاية ما يقولون فيها أن الإمام أحمد إنما أراد بها التفويض!. ومع ذلك فلا حجة لهم فيما نقلوه عن هذا الإمام، وبيان ذلك كما يلي: أما النقل الأول - الذي ذكره الغزالي والرازي - فقد قال فيه شيخ الإسلام "هذه الحكاية كذب على أحمد، لم ينقلها أحد عنه بإسناد، ولا يعرف أحد من أصحابه نقل ذلك عنه، وهذا الحنبلي الذي ذكر عنه أبو حامد مجهول لا يعرف: لا علمه   (1) الجوهر المحصل في مناقب الإمام أحمد (ص: 58) ، وانظر (ص: 82) ، وانظر: الاستقامة (1/74) . (2) أبطال التأويلات، (ص:61) - مخطوط. (3) زاد المسير [البقرة: 21] ، (1/225) ، وفي سورة الفجر آية: 22 أحال على آية البقرة. (4) (ص:61) ، وهو نفسه "دفع شبه التشبيه" والنصف فيه (ص:45) ، وإن كان الباز فيه بعض الزيادات. والعجيب أن محققي الكتابين - الكوثري، ومحمد منير - يشربان من عين واحدة، هي عين التعطيل وقد رد على ابن الجوزي في دعواته نسبة التأويل إلى الإمام أحمد صاحب رسالة: ابن الجوزي بين التفويض والتأويبل (ص: 138-143) - ط على الآلة الكاتبة. (5) كما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية (10/327) - وقد سبقت الإشارة إلى ذلك (ص:584) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1164 بما قال، ولا صدقه فيما قال" (1) ، والدليل على ذلك اختلاف نقل الرازي عن نقل الغزالي، وله احتمالان: أن يكون الرازي غلط في النقل عن الغزالي، أو أن الغزالي نقل في كتاب آخر - غير الأحياء - خلاف ما ذكره في الإحياء، قال شيخ الإسلام: "وعلى التقديرين فيعلم أن هذا النقل الذي نقله غير مضبوط" (2) . وقال أيضاً عن الغزالي، وعدم علمه بالحديث وشهادته على نفسه بأن بضاعته فيه مزجاة: "ولهذا في كتبه من المنقولات المكذوبة الموضوعة ما شاء الله، مع أن تلك الأبواب يكون فيها من الأحاديث الصحيحة ما فيه كفاية وشفاء، ومن ذلك هذا لا نقل الذي نقله عن أحمد، فإنه نقله عن مجهول لا يعرف، وذلك المجهول أرسله إرسالا عن أحمد، ولا يتنازع من يعرف أحمد وكلامه أن هذا كذب مفتري عليه، ونصوصه المنقولة عنه بنقل الاثبات والمتواتر عنه يرد هذا الهذيان الذي نقله عنه ... " (3) . ثم إن هذه الأحاديث التي أوردها الغزالي والرازي ليس فيها ما يوجب التأويل؛ لأن دلالتها واضحة، فزعمهم أنها - أو غيرها من الأحاديث - بحاجة إلى التأويل، أو أن الإمام أحمد قد تأولها، لا يفيدهم شيئاً في هذا الباب ولهذا ناقش شيخ الإسلام هذه الأحاديث وغيرها، وبينا ما فيها، وقد سبق قبل قليل نقل كلامه فيها. وخلاصة القول: 1- أن هذا النقل غير صحيح، ولم يورده أحد في مسائل وكلام الإمام أحمد. 2- أن النقول الكثبرة عن الإمام أحمد تدل على إثباته ومنعه من التأويل. 3- أن هذه الأحاديث لا حجة فيها لهم، لأن ما فهموه من الظواهر الفاسدة، قد دلت النصوص نفسها على أنه غير وارد.   (1) شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى (5/398) ، وانظر: درء التعارض (7/149-150) . (2) نقض التأسيس - مخطوط - (3/94) . (3) المصدر السابق (3/100) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1165 أما النقل الثاني: الذي أورده حنبل في سياق المحنة، فقد ذكر شيخ الإسلام أن الحنابلة اختلفوا في هذه الرواية على خمس طرق: 1- "قال قو: غلط حنبل في نقل الرواية، وحنبل له مفاريد ينفرد بها من الروايات في الفقه، والجماهير يرون خلافه. وقد اختلف الأصحاب في مفاريد حنل التي خالفه فيها الجمهور، هل تثبت روايته؟ على طريقين، فالخلال وصاحبه قد ينكرانها، ويثبتها غيرهما كابن حامد. 2- وقال قوم منهم: إنما قال ذلك إلزاماً للمنازعين له، فإنهم يتأولون مجيء الرب بمجيء أمره، قال: فكذلك قولوا: مجيء كلامه ثوابه. وهذا قريب. 3- وقال قوم منهم: بل هذه الرواية ثابتة في تأويل ما جاء من جنس الحركة والإتيان والنزول، فيتأول على هذه الرواية بالقصد والعمد لذلك، وهذه طريقة ابن الزاغزني وغيره. 4- وقال قوم: بل يتأول بمجيء ثوابه. وهؤلاء جعلوا الرواية في جنس الحركة، دون بقية الصفات. 5- وقال قوم منهم ابن عقيل وابن الجوزي: بل يتعدى الحكم من هذه الصفة إلى سائر الصفات التي تخالف ظاهرها، للدليل الموجب مخالف الظاهر" (1) . ويلاحظ أن الأقوال الثلاثة الأخيرة تصحح نسبة التأويل إلى الإمام أحمد، وتجعل ذلك حجة لها على مذهبها المائل إلى الأشاعرة كما هو قول ابن الزاغوني وغيره، أو ما هو أشد غلوا منهم في التعطيل والنفي كما هو المشهور من مذهب ابن عقيل وابن الجوزي.   (1) الاستقامة (1/75-76) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1166 وقد نفي شيخ الإسلام بشكل قاطع ما نسب إلى الإمام أحمد من التأويل وقال: "لا ريب أن المنقول المتواتر عن أحمد يناقض هذه الرواية، ويبين إنه لا يقول إن الرب يجيء ويأتي وينزل أمره، بل هو ينكر على من يقول ذلك (1) " وقال: "والصواب أن جميع هذه التأويلات مبتدعة، لم يقل أحد من الصحابة شيئاً منها ولا أحد من التابعين لهم بإحسان، وهي خلاف المعروف المتواتر عن أئمة السنة والحديث، أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة" (2) . وهذه رسائل وأقوال الإمام أحمد مشهورة معروفة، وما من مسألة من مسائل أصول الدين إلا وله فيها كلام، ولم يرد فيها ما يخالف مذهب السلف، ولذلك عده الناس إماما لأهل السنة بسبب ما ابتلى به من المخالفين من أهل الأهواء الذين ناظرهم وبين بطلان أقوالهم، وهو في ذلك متبع لمن قبله من أئمة السلف (3) . وإذا كان هذا هو المتواتر عن الإمام أحمد فلا بد من النظر إلى رواية حنبل - في المحنة - على أنها رواية فردة خالفت المشهور عنه، ولهذا قال القاضي أبو يعلى بعد ذكره لرواية حنبل، وتغليط ابن شاقلا له: "وقد قال أحمد في رواية أبي طالب، {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} (البقرة: من الآية210) ، {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} (الفجر:22) من قال إن الله لا يرى فقد كفر، وظاهر هذا أن أحمد أثبت مجيء ذاته لأنه احتج بذلك على جوازه رؤيته، وإنما يحتج بذلك على جواز رؤيته إذا كان الإتيان والمجيء مضافا إلى الذات" (4) . وخلاصة الجواب عن رواية حنبل - في المحنة -: 1- أما أن يقال هذه من مفاريده وقد خالفت المتواتر والمشهور عنه. 2- وعلى فرض ثبوت هذه الرواية فيقال: أن الإمام قال هذا إلزاماً لخصومه وقد قال شيخ الإسلام على هذا الاحتمال: "وهذا قريب" (5) .   (1) شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى - (5/401) . (2) المصدر السابق (5/409) . (3) انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (3/97-103) . (4) أبطال التأويلات - مخطوط - (ص: 61-62) . (5) سبق نقله قريباً من الاستقامة (1/75) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1167 وشرحه في موضع آخر فقال: "ومنهم من قال: بل أحمد قال ذلك على سبيل الإلزام لهم، يقول: إذا كان أخبر عن نفسه بالمجيء والإتيان، ولم يكن ذلك دليلا على أنه مخلوق، بل تأولتم ذلك على أنه جاء أمره، فكذلك قولوا: جاء ثواب القرآن، لا أنه نفسه هو الجائي، فإن التأويل هنا ألزم، فإن المراد هنا الإخبار بثواب قارئ القرآن، وثوابه عمل له، لم يقصد به الإخبار عن نفس القرآن. فإذا كان الرب قد أخبر بمجيء نفسه، ثم تأولتم ذلك بأمره، فإذا أخبر بمجيء قراءة القرآن فلأن تتأولوا ذلك بمجيء ثوابه بطريق الأولى والأحرى. وإذا قاله على سبيل الإلزام لم يلزم أ، يكون موافقا لهم عليه، وهو لا يحتاج إلى أ، يلتزم هذا؛ فإن هذا الحديث له نظائر كثيرة في مجيء أعمال العباد، والمراد مجيء قراءة القارئ التي هي عمله، وأعمال العباد مخلوقة، وثوابها مخلوق، ولهذا قال أحمد وغيره من السلف: إنه يجيء ثواب القرآن (1) ، والثواب إنما يقع على أعمال العباد، لا على صفات الرب وأفعاله" (2) . والخلاصة: 1- أن هذا مخالف لما تواتر عن الإمام أحمد من المنع من التأويل. 2- أن حنبل تفرد بهذه الرواية. 3- وعلى فرض صحته فالإمام قالها إلزاما لخصومه المعتزلة (3) . هذه خلاصة مباحث "التأويل" تبين سلامة منهج أهل السنة في الصفات، كما شرحه شيخ الإسلام ورد على المجيزين للتأويل، ولا شك أن هذا الباب لما فتحه المتكلمون - وقد يكون عند بعضهم عن حسن نية - ولج منه أهل الإلحاد من القرامطة والباطنية والفلاسفة وغيرهم ليتواصلوا به إلى تعطيل الشرائع، والأمر والنهي، وإنكار المعاد وما فيه، وهذا وحده كاف لوجود سد هذا الباب الخطير.   (1) انظر الكلام على مجيء سورة البقرة وآل عمران في نقض التأسيس - مخطوط - (3/116-1126) . (2) شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى (5/400) . (3) انظر أيضاً: مجموع الفتاوى (16/404، 421-422) ، حيث نقل كلام ابن الزاغوني، وانظر أيضاً (6/156-166) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1168 ويمكن ذكر نموذج واحد لمقالات هؤلاء الذين فتحوا باب التأويل، يقول شيخ الإسلام: "ولهذا قال كثير منهم - كأبي الحسين البصري، ومن تبعه كالرازي والآمدي وابن الحاجب - أن الأمة إذا اختلفت في تأويل الآية على قولين، جاز لمن بعدهم أحداث قول ثالث، بخلاف ما إذا اختلفوا في الأحكام على قولين. فجوزوا أن تكون الأمة مجتمعة على الضلال في تفسير القرآن والحديث وأن يكون الله أنزل الآية، وأراد بها معنى لم يفهمه الصحابة والتابعون، ولكن قالوا: إن الله أراد معنى آخر. وهم لو تصوروا هذه المقالة لم يقولوا إن هذا فإن أصلهم أن الأمة لا تجتمع على ضلالة" (1) . ومن تدبر هذا وأمثاله عرف ما فيه وماله من آثار.   (1) الفرقان بين الحق والباطل - مجموع الفتاوى (13/59) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1169 الأمر الرابع: الحقيقة والمجاز: يشبه هجوم شيخ الإسلام على "المجاز" هجومه على المطق اليوناني، من حيث الدوافع والأسباب وقوة الهجوم، ثم الأثر الذي ترتب عليه، خاصة أثره فيمن جاء بعده من الموافقين والمخالفين. وإذا كان أي باحث في المنطق والفلسفة - المسماة بالإسلامية - لا يمكن أن يغفل أثر ما كتبه شيخ الإسلام في ذلك دفاعا عن مذهب السلف، فكذلك أي باحث في باب المجاز وما يتعلق به لا يمكنه إلا أن يشير إلى مذهب شيخ الإسلام وموقفه منه. وقد أشار إلى هذا أحد الباحثين، ممن أفرد للمجاز كتابا مطولا، بلغ جزأين كبيرين (1) - فقال في مقدمة كتابه بعد عرض مختصر لتاريخ القول بالمجاز بين مثبتيه ونفاته: "والمتابع لسير النزاع بين الفريقين يرى أن الخلاف بينهما كان هادئاً طوال القرون الأولى، حتى النصف الثاني من القرن السابع، والربع الأول من القرن الثامن، فقد اتجه الخلاف إلى الشدة والعنف - ولكن من جانب منكريه وحدهم، دون مجوزيه - فقد برز على الساحة الإمام أبو العباس أحمد ابن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية (661-728هـ) وقد وهبه الله ذاكرة واعية، وقلبا ذكيا، ولسانا فصيحاً، وقلما جريئا، وتبنى مذهب السلف   (1) اسمه: المجاز في اللغة والقرآن بين الإجازة والمنع، للدكتور عبد العظيم المطعني، وقد استعرض تاريخ هذه المسألة بإسهاب، ولم كان ممن يرجح جواز المجاز في اللغة والقرآن فقد تصدى للدر على شيخ الإسلام وأطال في ذلك، انظر (2/639-903) من الكتاب السابق، وفي نقاشه لشيخ الإسلام يلاحظ أمران: أحدهما: أنه كثيرا ما يصادر على المطلوب، فيحتج ببعض النصوص، وينقل كلام السابقين فيها، وأنهم قصدوا بذلك المجاز، وشيخ الإسلام يرى أن هذه النصوص حجة له، وكلام السابقين فيها يدل على سعة اللغة لا على المجاز، فشيخ الإسلام مثلا لا يشك في أن المقصود بسؤال القرية هم أهلها وليس البنيان، ولكن من قال إن هذا مجاز؟ بل القرية تطلق على هذا وهذا. فإذا جاء المؤلف أو غيره ليحتج على شيخ الإسلام بأن من السلف من قال المقصود: أهل القرية، وهذا مجاز، كان هذا مصادرة على المطلوب، لأنه هو موضع الخلاف. والثاني: أن المؤلف مع أنه رجح إلى كتاب "الإيمان" والرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز، إلا أنه غفل عن بحث آخر مطول ومهم جدا عنوانه: "الحقيقة والمجاز" وهو ضمن مجموع الفتاوى (20/400-497) وقد أفرده للرد على الآمدي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1170 من حيث الجملة (1) ، وتصدي لأقاويل كثير من الفرق ولم يترك مجالا من مجالات الفكر الإسلامي إلا وكان له فيه قصب السبق، وكان مما أدلى فيه بدلوه موضوع المجاز، فاختار مذهب المنع ... ومن يقرأ كتابه: "الإيمان" يجد نفسه أمام صخرة عاتية، لا تعمل فيها المعاول إذا أريد النيل منها ... " (2) . وعلى الرغم من أن المؤلف رد على شيخ الإسلام واشتد في الرد أحيانا إلا أنه ذكر السبب الصحيح لموقف شيخ الإسلام من المجاز، فقال "إن الضرورات والظروف التي جعلت الإمام يقف تلك الوقفة من المجاز في كتابه الإيمان، وفي رسالته المدنية، هي في الواقع ظروف جد خطيرة ومن يقف على خطورتها يسوغ للشيخ الإمام وقوفه ضدها، والعمل بكل طاقة على دفعها وكف شرها، ولو أدى ذلك إلى إنكار المجاز، إذ ليس هو عقيدة أو معلوما من الدين بالضرورة، وإنما هو مذهب قولي، وهو فن من فنون البيان لا يفسق منكره ولا يذم. ومجمل ما يمكن تصوره هو كثرة التأويلات التي تعدى بها قائلوها على النصوص الشرعية، وتجاوزوا بها مرحلة المعقول المقبول، إلى المدخول المنحول، الذي يكاد يذهب بكل الحقائق التي جاء بها الإسلام وأقرها. فلم تكن المسألة مسألة تأويل مجازي، وإلا لهان الخطب، وإنما طم شرها وعم، وأغرب قائلوها كل الإغراب، حتى صارت بعض الألفاظ ليس لها مدلول محقق في خضم تلك التأويلات العمياء. ومنشأ تلك التأويلات هو الفرق الكلامية والاعتقادية، والفلاسفة، وغلاة الصوفية، وقد وقف الإمام -رحمه الله- من تحريفات الفرق والمتكلمين وقفات جادة وطويلة وشاقة ... " (3) . ولا شك أن شيخ الإسلام ما كان ليعترض على المجاز أو غيره من العلوم الحادثة لو أنها بقيت مثل كثير من العلوم والفنون التي أفردت بمؤلفات خاصة بها   (1) هذا بحسب رأي المؤلف، لا بحسب الواقع. (2) المجاز في اللغة والقرآن الكريم - المطعمني (1/ح - ط) . (3) المجاز في اللغة والقرآن الكريم (2/890) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1171 - وصار لأصحاب كل فن اصطلاح خاص بهم - ولكن لما أخذ المعتزلة وغيرهم - ومن عنى منهم باللغة وفنونها - يبتدعون هذا المصطلح ليتواصلوا به إلى تصحيح عقائدهم الفاسدة، ودعمها بما يدعونه من الأدلة، بناء على مصطلح المجاز أو غيره، كان لا بد من الوقوف أمام هذه المصطلحات وبيان فسادها أصلا وفرعا. وهذا ما فعله شيخ الإسلام بالنسبة لطاغوت المجاز. ولهذا يقول شيخ الإسلام في معرض رده على الآمدي ودعواه أن الخلاف بين مثبتي المجاز ونفاته، نزاع لفظي: "يقال: هو قد سلم أن النزاع لفظي، فيقال: إذا كان النزاع لفظيا، وهذا التفريق اصطلاح حادث لم يتكلم به العرب، ولا أمة من الأمم، ولا الصحابة والتابعون، ولا السلف - كان المتكلم بالألفاظ الموجودة التي تكلموا بها ونزل بها القرآن أولى من التكلم باصطلاح حادث لو لم يكن فيه مفسدة، وإذا كان فيه مفاسد، كان ينبغي تركه لو كان الفرق معقولا، فكيف إذا كان الفرق غير معقول، وفيه مفاسد شرعية، وهو إحداث في اللغة - كان باطلا عقلا، وشرعا، ولغة. أما العقل فإنه لا يتميز فيه هذا عن هذا. وأما الشرع فإن فيه مفاسد يوجب الشرع إزالتها. وأما اللغة فلأن تغيير الأوضاع اللغوية غير مصلحة راجحة، بل مع وجود المفسدة (1) . فإن قيل: وما المفاسد؟ قيل: من المفاسد أن لفظ المجاز المقابل للحقيقة، سواء جعل من عوارض الألفاظ أو من عوارض الاستعمال، يفهم ويوهم نقص درجة المجاز عن درجة الحقيقة، لا سيما ومن علامات الجاز صحة إطلاق نفيه، فإذا قال القائل: إن الله تعالى ليس برحيم ولا رحمن، لا حقيقة، بل مجاز، إلى غير ذلك مما يطلقونه على كثير من أسمائه وصفاته وقال: "لا إله إلا الله" مجاز لا حقيقة، ما ذكره هذا الآمدي من أن العموم المخصوص مجاز ... . ومعلوم أن هذا الكلام من أعظم المنكرات في الشرع، وقائله إلى أن يستتاب - فإن تاب وإلا قتل - أقرب منه إلى أن يجعل من علماء المسلمين ... " (2) .   (1) كذا في مجموع الفتاوى، ولعل صحة العبارة: "وأما اللغة فلأن تغيير الأوضاع اللغوية ليس فيه مصلحة راجحة، بل معه توجد المفسدة". (2) الحقيقة والمجاز - مجموع الفتاوى (20/454-456) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1172 ثم ذكر شيخ الإسلام أن من هذه المفاسد: "جعل عامة القرآن مجازا كما صنف بعضهم مجازات القراءات (1) ، وكما يكثرون من تسمية آيات القرآن مجازا، وذلك يفهم ويوهمالمعاني الفاسدة، هذا إذا كان ما ذكروه من المعاني صحيحا، فكيف وأكثر هؤلاء يجعلون ما ليس بمجازا؟ وينفون ما أثبته الله من المعاني الثابتة، ويلحدون في أسماء الله وآياته، كما وجد ذلك للمتوسعين في المجاز من الملاحدة أهل البدع" (2) . والخلاف في المجاز مشهورن وأشهر الأقوال فيه ثلاثة: 1- قيل بوجوده في اللغة والقرآن، وهو قول كثير من المتأخرين. 2- وقيل بوجوده في اللغة دون القرآن، وهذا قول داود الظاهري وابنه محمد، وابن حامد، وأبي الحسن الجزري، وأبي الفضل التميمي، ومحمد بن خويز منداد ومنذر بن سعيد البلوطي وغيرهم. 3- وقيل بعدم وجوده في اللغة والقرآن. وهو قول أبي إسحاق الاسفراييني وغيره (3) . وليس المقصود مناقشة هذه الأقوال واستقصاء أدلتها، والترجيح بينها، وإنما المقصود بيان منهج شيخ الإسلام في ذلك، ويمكن تلخيصه من خلال ما يلي: 1- الذي دفع شيخ الإسلام إلى بحث المجاز وإنكار وجوده في القرآن وفي اللغة، أمران:   (1) لعله يقصد مجاز القرآن لأبي عبيدة. (2) الحقيقة والمجاز - مجموع الفتاوى (20/458) . (3) انظر: الإيمان (ص:85) - ط المكتب الإسلامي، ورسالة منع جواز المجاز للشنقيطي (ص:7-8) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1173 أحدهما: القول بالمجاز في أسماء الله وصفاته، وما سببه ذلك من الإلحاد فيها كما سبق. والثاني: قول المرجئة أن القول بأن الأعمال من الإيمان مجاز (1) . 2- تقريره أن تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز حادث في كلام المتأخرين بعد القرون الثلاثة، لم يتكلم به أحد من الصحابة ولا التابعين. لا الأئمة المشهورين. وأن الغالب أن هذا حادث من جهة المعتزلة ونحوهم من المتكلمين (2) . 3- أن التقسيم إلى حقيقة ومجاز لا حقيقة له، إذ ليس لمن فرق بينهما فرق معقول يمكن التمييز به بين نوعين، والتعريفات التي ذكروها لكل منهما غير دقيقة (3) . 4- مناقشة الأمثلة والأدلة التي يذكرونها ويحتجون بها على وجود المجاز في القرآن، والكلام حول كل واحد منها وتوجيهه (4) . 5- أن أخطر القضايا - في هذه المسألة - القول بأن بعض كلام الله تعالى مجاز، وقد بين شيخ الإسلام أن صرف الكلام عن حقيقته إلى المجاز لا بد فيه من أمور أربعة، يقول شيخ الإسلام في مناظرته لأحد الأشاعرة: "قلت له: إذا وصف الله نفسه بصفة، أو وصفه بها رسوله، أو وصفه بها المؤمنون - الذين اتفق المسلمون على هدايتهم ودرايتهم - فصرفها عن ظاهرها اللائق بجلال الله سبحانه، وحقيقتها المفهومة منها، إلى باطن يخالف الظاهر، ومجاز ينافي الحقيقة، لا بد فيه من أربعة أشياء:   (1) انظر: الإيمان (ص:83) - المكتب الإسلامي. (2) انظر: المصدر السابق (ص: 83-84) ، وانظر الحقيقة والمجاز - مجموع الفتاوى (20/451-454) . (3) انظر: الإيمان (ص:92-102) . (4) انظر: المصدر السابق (ص:103-107) ، والحقيقة والمجاز - مجموع الفتاوى (20/462-467) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1174 أحدها: أن ذلك اللفظ مستعمل بالمعنى المجازي؛ لأن الكتاب والسنة وكلام السلف جاء باللسان العربي، ولا يجوز أن يراد بشيء منه خلاف لسان العرب، أو خلاف الألسنة كلها، فلا أن يكون ذلك المعنى المجازي مما يراد به اللفظ، وإلا فيمكن كل مبطل أن يفسر أي لفظ بأي معنى سنح له، وإن لم يكن له أصل في اللغة. الثاني: أن يكون معه دليل يوجب صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه، وإلا فإذا كان يستعمل في معنى بطريق الحقيقة، وفي معنى بطريق المجاز، لم يجز حمله على المجازي بغير دليل يوجب الصرف بإجماع العقلاء، ثم إن ادعى وجوب صرفه عن الحقيقة فلا بد له من دليل قاطع عقلي أو سمعي يوجب الصرف، وإن ادعى ظهور صرفه عن الحقيقة فلا بد من دليل مرجح للحمل على المجاز. الثالث: أنه لا بد من أن يسلم ذلك الدليل - الصارف - عن معارض، وإلا فإذا قام دليل قرآني أو إيماني يبين أن الحقيقة مرادة امتنع تركها، ثم إن كان هذا الدليل نصا قاطعا لم يلتفت إلى نقيضه، وإن كان ظاهرا فلا بد من الترجيح. الرابع: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا تكلم بكلام، وأراد به خلاف ظاهره وضد حقيقته فلا بد أن يبين للأمة أنه لم يرد حقيقته، وأنه أراد مجازه سواء عينه، أو لم يعينه، لا سيما في الخطاب العلمي الذي أريد منهم فيه الاعتقاد والعلم، دون عمل الجوارح؛ فإنه سبحانه وتعالى جعل القرآن نورا وهدى وبيانا للناس وشفاء لما في الصدور، وأرسل الرسل ليبين للناس ما نزل إليهم، وليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. ثم هذا الرسول الأمي العربي بعث بأفصح اللغات وأبين الألسنة والعبارات، ثم الأمة الذين أخذوا عنه كانوا أعمق الناس علما، وأنصحهم للأمة، وأبينهم للسنة، فلا يجوز أن يتكلم هو وهؤلاء بكلام يريدون به خلاف ظاهرة إلا وقد نصب دليلا يمنع من حمله على ظاهره ... " (1) .   (1) الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز - مجموع الفتاوى (6/360-361) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1175 ثم طبق شيخ الإسلام هذه على صفة "اليد" لتكون انموذجا يحتدذي عليه، وناقش ذلك مناقشة عظيمة ونافعة، بين في آخرها أن هذا الأشعري الذي ناقشه أظهر التوبة وتبين له الحق (1) .   (1) انظر: المصدر السابق (6/362-372) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1176 الفرع الثالث: هل مذهب السلف هو التفويض؟ سبق مناقشة الفرعين السابقين: الفرع الأول: في معنى المتشابه، وهل الصفات أو بعضها منه؟ والفرع الثاني: في التأويل والمجاز. وهذان الفرعان يتكئ عليهما نفاة الصفات أو بعضها، حيث إنهم يجعلونها من المتشابه، ثم يقولون لا بد من تأويل النصوص الدالة عليها وحملها على المجاز. وقد سبقت مناقشتهم في ذلك بالتفصيل. أما هذا الفرع - الثالث - فهو مرتبط مما سبق من جهة أن هؤلاء المتكلمين يزعمون أن مذهب السلف في الصفات ليس إلا التفويض الكامل للنصوص - معنى، وكيفية.. وموضوع "التفويض" أفرد له أحد الباحثين كتابا مستقلا (1) ، يبين فيه وجه الحق في هذه المسألة من خلال نقل أقوال ومذهب السلف، ومن خلال مناقشات شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما. وقد اهتم شيخ الإسلام ببيان الحق في هذه المسألة، وذكر فيما ذكر - في مناسبات مختلفة - مجمل حجج الذين زعموا أن مذهبهم هو التفويض، وأهمها: 1- ما أثر عن كثير من السلف أنهم قالوا في الصفات: "أمروها كما جاءت"، قالوا: وهذا يدل على أن مذهبهم فيها الإيمان والتسليم وإمرارها كما جاءت وعدم الخوض في تأوليها، والوقوف عن تفسيرها. 2- قول الإمام مالك - وغيره: "الاستواء معلوم والكيف مجهول،   (1) اسمه: علاقة الاثبات والتفويض بصفات رب العالمين، تأليف رضا نعسان معطي. وانظر بالأخص (ص:30) وما بعدها و (ص:74) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1177 والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة" (1) قالوا: ومعنى قوله إنه معلوم أي إنه وارد في القرآن، ونفيه للكيف وإيجاب الإيمان به دليل على أنهم يسلمون ورود نصوص الصفات ويفوضون معانيها إلى الله تعالى. 3- أن السلف لم يكونوا يفهمون من النصوص ما يستلزم التجسيم وأن ذاته تعالى فوق العرش، قالوا فلما جاء المتأخرون وصاروا يفهمون منها مثل هذا وجب التأويل. 4- ثم إنهم احتجوا بالوقف على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} (آل عمران: من الآية7) . قالوا وهذا دليل على التفويض. وقد رد شيخ الإسلام على ذلك كما يلي: 1- أما قول السلف في الصفات "أمروها كما جاءت" فمعناه عندهم الإيمان بها وإثباتها، والرد على المعطلة الذين أنكروها أو خاضوا في تأويلها، فقول السلف هذا "يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظ دالة على معان، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال: أمروا لفظها، مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، أو أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت حقيقة، وحينئذ فلا تكون قد أمرت كما جاءت، ولا يقال حينئذ: بلا كيف، إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول" (2) .   (1) هذا القول روى عن الإمام مالك: رواد الدارمي في الرد على الجهمية (ص:55-56) - ت البدر - واللالكاني في شرخ السنة (3/398) ، ورقمه (664) ، والصابوني في عقيدة السلف، رقم (24-26) - ت البدر، والبيهقي في الأسماء والصفات (ص:408) من طريقين، وابن عبد البر في التمهيد (7/138،151) وأبو نعيم في الحلية (6/325-326) . وجود ابن حجر في الفتح (13/406-407) أحد اسنادي البيهقي. كما روى هذا القول عن أم سلمة: رواه اللاكلاني في شرح السنة (3/397) ورقمه (663) ، والصابوني في عقيدة السلف رقم (23) ، وابن قدامة في صفة العلو رقم (82) ، والذهبي في العلو (ص:65) ، وضعف رواية أم سلمة ابن تيمية في الفتاوى (5/365) ، والذهبي في العلو (ص:65) وقال أنه محفوظ عن جماعة كربيعة ومالك. (2) الفتوى الحموية - مجموع الفتاوى (5/41-42) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1178 والسلف من الصحابة والتابعين كان اهتمامهم الأول والأخير منصبا على القرآن والحديث، فهل كانوا عندما يتلون القرآن ويعلمونه، ويروون السنة ويتناقلونها ويحدثون بها، يفرقون بين آية وآية، وحديث وحديث؟ ويقولون للناس: هذه آمنوا بألفاظها مجردة، وهذه لا مانع من فهم معانيها؟ ومعلوم أنه كان يتلقى ذلك عنهم أصناف الناس وطبقاتهم. إن المتواتر عنهم - - رضي الله عنه - أنهم لم يكونوا يفرقون بين نصوص الصفات وغيرها، بل كانوا يردون على المعطلة وأهل الكلام ما كانوا يخوضون فيه من ذلك، ولذلك قالوا: أمروها كما جاءت، وواضح أن قصدهم الرد على هؤلاء النفاة، ولو كان قصدهم التفويض الذي أراده المتأخرون النفاة لقالوا - موضحين - أمروا ألفاظها، مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، ولو كان الأمر كذلك لكان نفي الكيف عنها مع مثل هذا القول لغو. على أن شيخ الإسلام يشير في سياق مناقشته لهذه الدعوى إلى ناحية مهمة في منهج السلف وتعاملهم مع النصوص ربما غفل عنها من يتصدى لمثل هذا الموضوع - وهي تدل على ما حبا الله هذا الإمام من فهم قوي وبصر نافذ وإطلاع واسع - وذلك أنه ذكر أن عبارة: تمر كما جاءت، أو نحوها، قد قالها الإمام أحمد في غير أحاديث الصفات، وإذا ثبت هذا بطل احتجاج هؤلاء الذين يدعون أن قصد السلف من ثمل هذه العبارة: تفويض نصوص الصفات. يقول شيخ الإسلام عن الإمام أحمد وغيره - بعد بيانه أنهم لم يقولوا بأن القرآن لا يفهم معناه، وإنما قالوا كلمات صحيحة، مثل: أمروها كما جاءت، ونهوا عن تأويلات الجهمية: "ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه، كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل وغير ذلك. وأحمد قد قال في غير أحاديث الصفات: تمر كما جاءت (1) ،   (1) انظر مثلا قوله عن الحرورية والمارقة لما سئل عنهم هل يكفرون أو يرى قتالهم؟ قال: "اعفني من هذا، وقل كما جاء فيهم في الحديث". مسائل الإمام أحمد لابن هاني (2/158) ، رقم (1884) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1179 وفي أحاديث الوعيد مثل قوله: "من غشنا فليس منا" (1) وأحاديث الفضائل (2) ، ومقصوده بذلك أن الحديث لا يحرف كلمة عن مواضعه كما يفعله من يحرفه، ويسمى تحريفه تأويلا بالعرف المتأخر" (3) . وهذا يدل على أن السلف كانوا يتعاملون مع النصوص على حد سواء لا يفرقون بين نصوص الصفات وغيرها، وحينما يأتي أحد من أهل الأهواء من المعطلة، أو الرافضة، أو المرجئة أو غيرهم يتأول بعض النصوص التي تخالف مذهبه، يكون جواب السلف أن هذه النصوص تروي كما جاءت، ولا يدخلون في تأويلات وانحرافات هؤلاء. 2- أما قول الإمام مالك في الاستواء فهو موافق لمذهب السلف - رحمهم الله تعالى، وهو حجة على أهل التفويض، يقول شيخ الإسلام: "فقول ربيعة ومالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، موافق لقول الباقين: أمروها كما جاءت بلا كيف، فإنما نفوا علم الكيفية، ولم ينفوا حقيقة الصفة، ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه - على ما يليق بالله - لما قالوا: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ولما قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف؛ فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوما، بل مجهولا بمنزلة حروف المعجم. وأيضاً: فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى، وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات. وأيضاً: فإن من ينفي الصفات الخبرية - أو الصفات مطلقا - لا يحتاج إلى أن يقول: "بلا كيف"، فمن قال: إن الله ليس على العرش لا يحتاج   (1) انظر قول الإمام أحمد لما سئل عن هذا الحديث ما وجهه؟ قال: "لا أدري إلا على ما روى. السنة للخلال - رقم (999) (ص:674) - ط على الآلة الكاتبة. وحديث: من غشنا فليس منا، رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من غشنا فليس منا، ورقمه (101-102) . (2) لما سئل الإمام أحمد عن أحاديث جاءت في علي في الفضائل. قال: على ما جاءت، لا نقول في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا خيرا. مسائل ابن هاني (2/169) - رقم (193) . (3) الأكليل في المتشابه والتأويل - مجموع الفتاوى (13/295) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1180 أن يقول بلا كيف، فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا: "بلا كيف" (1) . فالإمام مالك وشيخه ربيعة بينا أمرين: أن الاستواء معلوم وأن الكيف مجهول، وهذا حقيقة مذهب السلف، يؤمنون بالصفات الواردة، ويفهمون ما دلت عليه من المعاني اللائقة بالله تعالى، أما الكيفية فيفوضونها لعالمها. ولهذا لما ذكر شيخ الإسلام تلقي الناس قوله الإمام مالك بالقبول، ذكر اعتراضا وأجاب عنه. قال: "فإن قيل: معنى قوله "الاستواء معلوم، أن ورود هذا اللفظ في القرآن معلوم، كما قاله بعض أصحابنا الذين يجعلون معرفة معانيها من التأويل الذي استأثر الله بعلمه. قيل: هذا ضعيف، فإن هذا من باب تحصيل الحاصل، فإن السائل قد علم أن هذا موجود في القرآن، وقد تلا الآية. وأيضاً فلم يقل: ذكر الاستواء في القرآن، ولا أخبار الله بالاستواء، وإنما قال: الاستواء معلوم، فأخبر عن الاسم المفرد أنه معلوم، لم يخبر عن الجملة. وأيضاً فقد قال: "والكيف مجهول" فلو أراد ذلك لقال: معنى الاستواء مجهول، أو تفسير الاستواء مجهول، أو بيان الاستواء غير معلوم، فلم ينف إلا العلم بكيفية الاستواء، لا العلم بنفس الاستواء، وهذا شأن جميع ما وصف الله به نفسه، لو قال في قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (طه: من الآية46) : كيف يسمع، وكيف يرى؟ لقلنا: السمع والرؤيا معلوم والكيف مجهول، ولو قال: كيف كلم موسى تكليما؟ لقلنا: التكليم معلوم والكيف غير معلوم. وأيضاً فإن من قال هذا من أصحابنا وغيرهم من أهل السنة يقرون بأن الله فوق العرش حقيقة، وأن ذاته فوق ذات العرش، لا ينكرون معنى الاستواء، ولا يرون هذا من المتشابه الذي لا يعلم معناه بالكلية.   (1) الحموية - مجموع الفتاوى (5/41) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1181 ثم السلف متفقون على تفسيره بما هو مذهب أهل السنة، قال بعض: ارتفع على العرش، علا على العرش، وقال بعضهم عبارات أخرى، وهذه ثابتة عن السلف، قد ذكر البخاري في صحيحه بعضها في آخر كتاب الرد على الجهمية (1) " (2) . وتفاسير السلف لمعاني صفات الله تعالى يدل بشكل قاطع على أن ما يقصدونه بإمرار الصفات تفويض الكيفية التي لا يعلمها إلا الله تعالى، أما المعاني فإنهم كانوا يفهمونها (3) . 3- أما قولهم إن السلف لم يكونوا يفهموه من النصوص ما يدل على التجسيمن ولا أن ذاته تعالى فوق العرش - وهذا في مسألة العلو والاستواء - فقد رد عليهم شيخ الإسلام من وجوه منها: أ "أحدها: أن يقال: فعلى هذا التقدير لا يكون المفهوم الظاهر من هذه النصوص إثبات العلو على العالم والصفات، ولا يجوز أن يقال: ظواهر هذه النصوص غير مراد، ولا أنه قد تعارضت الدلائل النقلية والعقلية، فإنه إذا قدر أنها لا تدل على الإثبات - لا دلالة قطعية ولا ظاهرة - بطل أن يكون في ظاهرها ما يفهم منه الإثبات. ومن المعلوم أن هذه خلاف قول الطوائف كلها من المثبتة والنفاة حتى من الفلاسفة القائلين بقدم العالم وإنكار معاد الأبدان، فإنهم معترفون بما اعترف به سائر الخلق من أن الظاهر المفهوم منها هو إثبات الصفات ... (4) .   (1) ذكر ابن حجر في الفتح (13/344) عند كلامه على عنوان "كتاب التوحيد" أن المستملى زاد: "الرد على الجهمية وغيرهم"، وأنه وقع لابن بطال وابن التين: "كتاب رد الجهمية"، وغيرهم: "التوحيد" وعبارات السلف في الاستواء ورد في باب (وكان عرشه على الماء) من هذا الكتاب. الفتح (13/403) . (2) الأكليل في المتشابه والتأويل - مجموع الفتاوى (5/309-310) . (3) انظر: شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى (5/365-413) ، وتفسير سورة الإخلاص - مجموع الفتاوى (17/373-3749، ونقض التأسيس - مخطوط - (2/236) . (4) انظر: درء التعارض (7/107-108) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1182 ب "الوجه الثاني: أن يقال: التفاسير الثابتة المتواترة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان تبين أنهم إنما كانوا يفهمون منها الإثبات، بل والنقول المتواترة المستفيضة عن الصحابة والتابعين حرف واحد يوافق قول النفاة، ومن تدبر الكتب المصنفة في آثار الصحابة والتابعين بل المصنفة في السنة، من: كتاب السنة والرد على الجهمية، للأثرم، ولعبد الله ابن أحمد، وعثمان بن سعيد الدارمي، ومحمد بن إسماعيل البخاري ... [وذكر شيخ الإسلام عددا كبيراً من أئمة السنة وكتبهم] .. رأى في ذلك من الآثار الثابتة المتواترة عن الصحابة والتابعين ما يعلم معه بالاضطرار أن الصحابة والتابعين كانوا يقولون بما يوافق مقتضى هذه النصوص ومدلولها، وأنهم كانوا على قول أهل الإثبات المثبتين لعلو الله نفسه على خلقه، المثبتين لرؤيته، القائلين بأن القرآن كلامه ليس بمخلوق بائن عنه. وهذا يصير دليلا من وجهين: أحدهما: من جهة إجماع السلف، فإنه يمتنع أن يجمعوا في الفروع على خطأن فكيف في الأصول. الثاني: من جهة أنهم كانوا يقولون بما يوافق مدول النصوص ومفهومها، لا يفهمون منها ما يناقض ذلك.. (1) . ومما سبق يتبين أن السلف فهموا من نصوص العلو والاستواء الأثبات، وهذا يبطل قول القائلين بأنهم كانوا مفوضة. 4- أما احتجاجهم بآية آل عمران والوقف على قوله: {إِلَّا اللَّه} - فمعلوم أ، هؤلاء المتكلمين رجحوا القراءة الأخرى بالوصل ليجيزوا لأنفسهم التأويل باصطلاحهم المتأخر، ومعلوم أن من وقف على لفظ الجلالة فإنهم قصدوا التأويل الذي هو الحقيقة والمآل، ومعلوم أن كيفية أسماء الله وصفاته هي من ذاته لا يعلمها إلا الله، وهو من باب تفويض الكيفية التي هي جزء من مذهب السلف   (1) انظر: درء التعارض (7/108-109) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1183 في الصفات (1) ، وقد سبق - في الفرع السابق - تفصيل القول في مسألة التأويل -. ومسألة التفويض مبنية على مسألة المتشابه، وما يتعلق بها مثل ما سبق تفصيل القول فيه من أنه لا يجوز أن يكون في كتاب الله تعالى ما لا سبيل لنا إلى العلم به. والتفويض الذي زعمه هؤلاء يؤدي إلى أن لا نفهم كتاب الله ولا نفرق بين آية وآية، وإنما نتلوه كالأعاجم الذين لا يعرفون العربية مطلقا، وهذا مآله إلى الضلال والإلحاد. ولشيخ الإسلام ردود أخرى - مجملة - على أهل التفويض - ومن ذلك ما ذكره في أثناء ردوده على القائلين بتعارض العقل والنقل، وأن غاية ما ينتهون إليه في كلام الله ورسوله: هو التأويل أو التفويض، قال رادا عليهم: "وأما التفويض: فإن من المعلوم أن الله تعالى أمرنا أن نتدبر القرآن، عن فهمه ومعرفته وعقله؟ وأيضاً: فالخطاب الذي أريد به هدانا والبيان لنا، وإخراجنا من الظلمات إلى النور، إذا كان ما ذكر فيه من النصوص ظاهره باطل وكفر، ولم يرد منا أن نعرف لا ظاهره، ولا باطنه، أو أريد منا أن نعرف باطنه من غير بيان في الخطاب لذلك، فعلى التقديرين لم نخاطب بما يبين فيه الحق، ولا عرفنا أن مدلول هذا الخطاب باطل وكفر. وحقيقة قول هؤلاء في المخاطب لنا: أنه لم يبين الحق، ولا أوضحه، مع أمره لنا أن نعتقده، وأن ما خاطبنا به وأمرنا باتباعه والرد إليه لم يبين له الحق، ولا كشفه، بل دل ظاهره على الكفر والباطل، وأراد منا أن لا نفهم منه شيئاً، أو أنفهم منه ما لا دليل عليه فيه - وهذا كله مما يعلم بالاضطرار   (1) انظر: درء التعارض (1/205-206) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1184 تنزيه الله ورسوله عنه، وأنه من جنس أقوال أهل التحريف والإلحاد" (1) ، ثم ذكر أن هذا كان سببا في استطالة الملاحدة على هؤلاء في مسائل المعاد وغيرها. والقائلون بالتفويض قسمان: قسم يقول: إن الرسول كان يعلم معاني النصوص المتشابهة، ولكنه لم يبين للناس مراده منها، ولا أوضحه للناس. وقسم يقول: وهؤلاء هم أكابر أهل الكلام الذين يميلون لأقوال الفلاسفة - يقولون: إن معاني هذه النصوص المشكلة المتشابهة لا يعلمه إلا الله، وأن معناها الذي أراده الله بها هو ما يوجب صرفها عن ظواهرها، وعلى قول هؤلاء فالأنبياء والرسل لم يكونوا يعلمون معاني ما أنزل الله إليهم. ولا شك أن هذا ضلال مبين وقدح في القرآن وفي الأنبياء (2) . المسألة الثانية: القواعد العامة في ردود شيخ الإسلام على الأشاعرة فيما نفوه من الصفات : سبق في المسألة الأولى مناقشة حجج الأشاعرة على ما نفوه من الصفات، وشبههم التي أوردوها في ذلك، ومن ذلك: 1- أدلتهم وحججهم العقلية، مثل: دليل الأعراض، وحجة التجسيم والتركيب، وحجة الاختصاص. 2- موقفهم من أدلة السمع التي دلت على إثبات الصفات، ومن خلال ذلك تم عرض مسائل: مثل مسألة أخبار الآحاد وحجيتها في العقيدة، ومسألة المتشابه وهل الصفات منها، ومسألة التأويل والمجاز، ومسألة التفويض والرد على زعمهم أنه حقيقة مذهب السلف.   (1) درء التعارض (1/201-202) . (2) انظر: المصدر السابق (1/204-205) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1185 والمناقشة التفصيلية السابقة لهذه الأمور تدل على أن ما اعتمد عليه هؤلاء الأشاعرة - وغيرهم - من أدلة عقلية وغيرها على ما خطوه لأنفسهم من منهج في باب الأسماء والصفات - كان باطلا مخالفا لأدلة الكتاب والسنة وأقوال السلف. وهذا وحده كاف في الرد عليهم وبيان تناقضهم وبطلان أقوالهم المخالفة لمذهب السلف. وهذه الشبه - أو الحجج - التي تناقلها الأشاعرة بعضهم عن بعض وزادها متأخروهم تقريراً وتفصيلا - قد بذل شيخ الإسلام -رحمه الله- وأجزل له المثوبة - جهدا كبيرا في تفتيتها، وكشف حقائقها وخفاياها. ومع أن شيخ الإسلام قد رد على تلك الأدلة - أو الشبه - إلا أنه زاد الأمر بيانا بتقرير بعض الأصول المهمة والقواعد النافعة التي تبين صحة مذهب السلف، وبطلان مذاهب هؤلاء المتكلمين.. ومن أهم هذه القواعد التي قررها: 1- أن مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم. 2- أن الكتاب والسنة فيهما ما يغني عما ابتدعه هؤلاء من علم الكلام المذموم. 3- أنه لا تعارض بين العقل والنقل. 4- أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر. وقد سبق تفصيل القول في الثلاث الأولى (1) ، وبقى الكلام في القاعدة الرابعة، وهي متعلقة بموضوع هذا البحث. ولذلك سيتم توضيح القول فيها بعون الله. قاعدة: القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر: هذا الأصل أو هذه القاعدة - من أعظم الأصول والقواعد في باب الأسماء والصفات، ومن أهمها في بيان تناقض الخصوم من أهل الكلام - على مختلف طبقاتهم ودرجاتهم في هذا الباب - كما أنها مشتملة على جوانب عظيمة في إقناع من يتردد في صحة مذهب السلف، أو يخالطه شك أو شبهة مما ينثره أهل الكلام في كتبهم ومقالاتهم.   (1) الأولى (ص:756) وما بعدها، والثانية (ص:727) وما بعدها، والثالثة (ص:819) وما بعدها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1186 وهذه القاعدة لم يفصل القول فيها أحد - فيما أعلم - قبل شيخ الإسلام، وإن كان قد ألمح إليها بعض الأشاعرة - إحساساً منه بالتناقض (1) - أو بعض أهل السنة اقتناعا منه بتناقض خصومه - (2) ، أما الكلام فيها بهذه القوة والوضوح والإقناع فقد كان مما وفق الله هذا الإمام إليه، وهو سبحانه وتعالى المتفضل على عباده بما يشاء، فله الحمد والمنة. وقبل الدخول في تفاصيل هذا الأصل - أو هذه القاعدة - يمكن إجمال ما اشتملت عليه من الأصول والقواعد بما يلي: 1- أن من نفي بعض الصفات وأثبت البعض الآخر، لزمه فيما أثبته نظير ما يلزمه فيما نفاه. 2- أن عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين، لأنه قد يكون ثبت بدليل آخر غير هذا الدليل. 3- أن كل من أول صفة لزمه فيما أوله نظير ما أظن أنه يلزمه فيما فر منه. 4- أن دلالة السمع والعقل على الصفات واحدة:   (1) مثل ما فعله الجويني في الإرشاد (ص:157-158) ، حين ألزم من يثبت الوجه واليدين بظواهر النصوص، أن يثبت الاستواء والمجيء والجنب وأن يجعلها من الصفات. كما ألزم من يسوغ تأويل الاستواء والجنب أ، يجيز تأويل الوجه واليدين. وقد سبقت الإشارة إلى ذلك (ص:640-641) . (2) مثل ما فعله ابن قدامة في كتابه: "تحريم النظر في كتب أهل الكلام" - الذي هو رد على أبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي - انظر (ص:1) وما بعدها. فإن ابن قدامة لما رد عليه وعلى غيره في مسألة كلام الله، وأن القول: إنه بصوت يلزم منه التشبيه، لأن الصوت في المشاهدات يكون من اصطكاك الأجرام، فرد عليهم ابن قدامة من وجوه ثلاثة: وذكر منها: "الثالث: أن هذا باطل بسائر صفات الله تعالى التي سلتموها من السمع والبصر والعلم والحياة، فإنها لا تكون في حقنا إلا من أدوات، فالسمع من انخراق، والبصر من حدقة، والعلم من قلب، والحياة في جسم. ثم جميع الصفات لا تكون إلا في جسم، فإن قلتم: إنها في حق البارئ كذلك فقد جسمتم وشبهتم وكفرتم، وإن قلتم لا تفتقر إلى ذلك فلم احتج إليها ههنا؟ " تحرم النظر في كتب أهل الكلام (ص:51) ، صححه ونشره جورج المقدسي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1187 أفإذا كان السمع قد دل على الصفات السبع، فقد دل أيضا على غيرها، ووجه الدلالة وقوة النص واحدة. ب وإذا دل العقل على الصفات السبع، فيمكن أن يدل العقل على غيرها، مما ينفيه هؤلاء. 5- أنه يقال للأشعري نظير ما يقوله هو للمعتزلي في مسألة الأسماء. 6- أن هذا الأصل يمكن أن يرد به على جميع النفاة: أالأشعري الذي يثبت بعض الصفات دون بعض. ب والمعتزلي الذي يثبت الأسماء وينفي الصفات. ت والجهمي الذي ينفي الأسماء والصفات ولكن يقر بأن الله شيء وأنه موجود. ث والغلاة: الذين يسلبون النقيضين. وقد استخدم شيخ الإسلام هذا الأصل في الرد على هؤلاء جميعا، وبين تناقضهم. وبالنسبة للأشاعرة - الذين هم مدار هذا البحث - فيمكن بيان منهجه في تقرير هذا الأصل بذكر أحد ردوده العامة، ثم ذكر عدد من الأمثلة التي أوردها شيخ الإسلام في مناقشته لهم معتمداً على الأصل: سبق - في مبحث الأسماء - أن الأشاعرة وإن أثبتوا أسماء الله بإجمال، إلا أنهم يتأولون - في بعض هذه الأسماء - ما تدل عليه من الصفات، فمثلا يثبتون من أسماء تعالى: الرحيم، والعلي، والودود، ولكنهم حينما يفسرونها يتأولونها كما يتأولون صفة الرحمة، والعلو، والمحبة، وغيرها. أما العليم والقدير فلا يتأولونه، كذلك هم في الصفات يثبتون السمع والبصر والكلام والإرادة، ويتأولون غيرها كالرحمة والرضا والغضب وغيرها. فشيخ الإسلام بين تناقضهم في ذلك كله فقال: "من أقر بفهم بعض معنى الأسماء والصفات دون بعض، فيقال له: ما الفرق بين ما أثبته وبين ما نفيته، أو أمسكت عن إثباته ونفيه؟ فإن الفرق: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1188 - أما أن يكون من جهة السمع. - أو من جهة العقل بأن أحد المعنيين يجوز أو يجب إثباته دون الآخر. وكلا الوجهين باطل بأكثر المواضع: أما الأول: فدلالة القرآن على أنه: رحمن، رحيم، ودود، سميع، بصير، علي، عظيم، كدلالته على أنه: عليم، قدير، ليس بينهما فرق من جهة النص، وكذلك ذكره لرحمته، ومحبته، وعلوه، مثل ذكره لمشيئته وإرادته. وأما الثاني: فيقال من أثبت شيئا ونفى آخر: لم نفيت مثلا حقيقة رحمته، ومحبته، وأعدت ذلك إلى إرادته؟. فإن قال: لأن المفهوم من الرحمة رقة تمتنع على الله. قيل له: والمعنى المفهوم من الإرادة في حقنا هي ميل يمتنع على الله. فإن قال: إرادته ليست من جنس إرادة خلقه. قيل له: ورحمته ليست من جنس رحمة خلقه، وكذلك محبته. وإن قال - وهو حقيقة قوله -: لم أثبت الإرادة وغيرها بالسمع، وإنما أثبت العلم والقدرة والإرادة بالعقل، وكذلك السمع والبصر والكلام - على أحد الطريقتين -؛ لأن العقل دل على القدرة، والإحكام دل على العلم، والتخصيص دل على الإرادة. قيل له: الجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الأنعام، والإحسان، وكشف الضر، دل أيضا على الرحمة، كدلالة التخصيص على الإرادة. والتقريب والإدناء وأنواع التخصيص التي لا تكون إلا من المحب، تدل على المحبة، ومطلق التخصيص يدل على الإرادة، وأما التخصيص بالإنعام فتخصيص خاص، والتخصيص بالتقريب والاصطفاء تقريب خاص. وما سلكه في مسلك الإرادة يسلك في مثل هذا. الثاني: يقال له: هب أن العقل لا يدل على هذا، فإنه لا ينفيه إلا بمثل ما ينفي به الإرادة. والسمع دليل مستقل بنفسه، بل الطمأنينة إليه في هذه المضايق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1189 أعظم، ودلالته أتم. فلأي شيء نفيت مدلوله، أو توقفت، وأعدت هذه الصفات كلها إلا الإرادة، مع أن النصوص لم تفرق؟ فلا يذكر حجة إلا عورض بمثلها في إثباته الإرادة زيادة على الفعل" (1) . ثم ذكر شيخ الإسلام نموذجاً لما يمكن أن يكون من مناقشة بين الأشعرين والجهمي المعتزلي الذي ينكر صفة الإرادة فقال: "الثالث: يقل له [أي للأشعري] (2) إذا قال الجهمي [والمعتزلي] : الإرادة لا معنى لها إلا عدم الإكراه، أو نفس الفعل والأمر به، وزعم أن إثبات إرادة تقتضي محذورا - إن قال بقدمها، ومحذورا إن قال بحدوثها (3) ... كان جوابه [أي جواب الأشعري للمعتزلي الجهمي] : أن ما ادعى إحالته من ثبوت الصفات ليس بمحال، والنص قد دل عليها، والعقل أيضا. فإذا أخذ الخصم [أي المعتزلي] ينازع في دلالة النص أو العقل جعله مسفسطا أو مقرمطا [أي حكم الأشعري على المعتزلي بذلك] . [فيقول أهل السنة للأشعري:] وهذا بعينه موجود في الرحمة، والمحبة، ... " (4) . وقد أكمل شيخ الإسلام المناقشة لبيان بطلان مذهب المعتزلة والجهمية وغيرهم، ثم ذكر كلاما مجملا مهما، فقال: "ونكتة هذا الكلام: أن غالب من نفي وأثبت شيئا مما دل عليه الكتاب والسنة، لابد أن يثبت الشيء لقيام المقتضي وانتفاء المانع، وينفي الشيء لوجود المانع، أو لعدم المقتضى، أو يتوقف إذا لم يكن له عنده مقتض ولا مانع: فبين له أن المقتضى فيما نفاه قائم، كما أنه فيما أثبته قائم، إما من كل وجه، أو من وجه يجب به الإثبات، فإن كان المقتضى هناك حقا فكذلك هنا،   (1) الأكليل في المتشابه والتأويل - مجموع الفتاوى (13/298-300) . (2) ما بين المعكوفتين زيادة مني لتوضيح الكلام. (3) أي المعتزلي، لأن القول بقدم الصفة - كالإرادة - يلزم منه تعدد القدماء، والقول بحدوثها يلزم منه حلول الحوادث، وكلاهما ممتنع عندهم، انظر الأكليل - مجموع الفتاوى (13/300) . (4) الأكليل في المتشابه والتأويل - مجموع الفتاوى (13/300-301) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1190 وإلا فدرء ذاك المقتضى من جنس درء هذا. وأما المانع فيبين أن المانع الذي تخيله فيما نفاه من جنس المانع الذي تخيله فيما أثبته؛ فإذا كان ذلك المانع المستحيل موجودا على التقديرين لم ينج من محذوره بإثبات أحدهما ونفي الآخر، فإنه إن كان حقا نفاهما، وإن كان باطلا لم ينف واحد منهما، فعليه أن يسوي بين الأمرين في الإثبات والنفي، ولا سبيل إلى النفي فتعين الإثبات. فهذه نكتة الإلزام لمن أثبت شيئاً وما من أحد إلا ولا بد أن يثبت شيئاً، أو يجب عليه إثباته" (1) . ثم ضرب شيخ الإسلام مثالا في الرد على متأخري الأشعرية - سبق نقله عند الكلام على شبهة التركيب -. وبعد هذه المقدمة العامة يمكن ذكر نماذج من تطبيق شيخ الإسلام لهذا الأصل في ردوده ومناقشاته للأشاعرة، ومنها: 1- إذا كان التجسيم لازما لبعض الصفات فهو لازم للصفات التي أثبتموها، وبالعكس، أي إذا لم يكن التجسيم لازما للصفات التي أثبتموها، فلا يلزم في الصفات التي نفيتموها، وهكذا. والنتيجة أنكم إما أن تثبتوا جميع الصفات لأنها لا تستلزم التجسيم، أو تنفوها كلها لا ستلزامها التجسيم. وهذا وارد في جميع الصفات التي نفاها متأخرو الأشاعرة كصفة الرضا، والغضب، والرحمة، والوجه، واليد، والاستواء، والمجيء وغير ذلك. وقد بدأ شيخ الإسلام في تقرير هذا بأن الصفات من المعتزلة والجهمية والقرامطة والباطنية ومن وافقهم من الفلاسفة، يقولون: "إذا قلتم: إن القرآن غير مخلوق، وإن لله تعالى علماً، وقدرة، وإرادة، فقد قلتم بالتجسيم؛ فإنه قد قاد دليل العقل على أن هذا يدل على التجسيم؛ لأن هذه معاني لا تقوم بنفسها،   (1) الأكليل في المتشابه والتأويل - مجموع الفتاوى (13/302) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1191 لا تقوم إلا بغيرها، سواء سميت صفاتا أو أعراضا، أو غير ذلك، قالوا: ونحن لا نعقل قيام المعنى إلا بجسم، فإثبات معنى يقوم بغير جسم غير معقول" (1) . هذه خلاصة شبهة واستدلال نفاة جميع الصفات، دون تفريق بين صفات المعاني وغيرها. وحينئذ فإن الأشعري سيد عليهم بإثباتهم لأسماء الله وعدم استلزامها للتجسيم، فكذلك هذه الصفات التي أثبتها. فهو يقولك "بل هذه المعاني يمكن قيامها بغير جسم، ما أن عندنا وعندكم إثبات عالم، قادر، ليس بجسم" (2) . وهذا جواب صحيح، ولذلك فالمثبت لجميع الصفات الواردة سيقول للأشعري معلقا على جوابه السابق لنفاة جميع الصفات: "الرضا، الغضب، والوجه، واليد، والاستواء والمجيء [وغيرها كذلك] (3) ، فأثبتوا هذه الصفات أيضا، وقولوا: إنها تقوم بغير جسم" (4) . وحينئذ سيعترض الأشاعرة قائلين: "لا يعقل رضا وغضب إلا ما يقوم بقلب هو جسم، ولا نعقل وجها ويدا إلا ما هو بعض من جسم" (5) . حينئذ فيجيبهم أهل السنة بقوله: "ولا نعقل علما إلا ما هو قائم بجسم، ولا قدرة إلا ما هو قائم بجسم، ولا نعقل سمعا وبصرا وكلاما إلا ما هو قائم بجسم، فلو فرقتم بي المتماثلين؟ وقلتم: إن هذه يمكن قيامها بغير جسم، وهذه لا يمكن قيامها إلا بجسم، وهما في المعقول سواء" (6) . وهذا مما لا محيد للأشاعرة عنه، لأنه لا فرق بينه ما نفوه وما أثبتوه، وقد صاغها شيخ الإسلام في مكان آخر بعبارة أخرى فقال: "إن من نفى شيئاً   (1) مجموع الفتاوى (6/44-45) . (2) المصدر السابق (6/45) . (3) في مجموع الفتاوى [وغير ذلك] ولعل ما أثبت يناسب سياق الكلام. (4) مجموع الفتاوى (6/45) . (5) المصدر السابق، نفس الجزء والصفحة. (6) المصدر نفسه، نفس الجزء والصفحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1192 من الصفات لكون إثباته تجسميا وتشبيها، يقول له المثبت: قولي فيما أثبته من الصفات والأسماء كقولك فيما أثبته من ذلك، فإن تنازعا في الصفات الخبرية، أو العلو، أو الرؤية أو نحو ذلك وقال له النافي: هذا يستلزم التجسيم والتشبيه؛ لأنه لا يعقل ما هو كذلك إلا الجسم، قال المثبت: لا يعقل ما له حياة وعلم وقدرة وسمع وبصر وكلام وإرادة إلا ما هو جسم، فإذا جاز لك أ، تثبت هذه الصفات وتقول: الموصوف بها ليس بجسم، جاء لي مثل ما جاز لك من إثبات تلك الصفات مع أن الموصوف بها ليس بجسم، فإذن جاز أن يثبت مسمى بهذه الأسماء ليس بجسم. فإن قال له: هذه معان وتلك أبعاض. قال له: الرضا والغضب والحب والبغض معا، واليد والوجه - وإن كان بعضا - فالسمع والبصر والكلام أعراض لا تقوم إلا بجسم، فإن جاز لك إثباتها مع أنها ليست أعراضها ومحلها ليس بجسم، جاز لي أ، أثبت هذه مع أنها ليست أبعاضا" (1) . ولن الأشاعربة يعترضون ويقولون: الغضب هو غليان دم القلب لطلب الإنتقام، والوجه هو ذو الأنف والشفتين واللسان والخد، أو نحو ذلك" (2) . فيجيبهم المثبتة بقولهم: "إن كنتم تريدون غضب العبد ووجه العبد، فوزانه أن يقال لكم: ولا يعقل بصر إلا ما كان بشحمه، ولا سمع إلا ما كان بصماخ، ولا كلاما إلا ما كان بشفتين ولسان، ولا إرادة إلا ما كان لاجتلاب منفعة أو استدفاع مضرة، وأنتم تثبتون لله السمع والبصر والكلام والإرادة على خلاف صفات العبد، فإن كان ما تثبتونه مماثلا لصفات العبد لزمكم التمثيل في الجميع، وإن كنتم تثبتونه على الوجه اللائق بجلال الله تعال من غير مماثلة بصفات المخلوقات، فأثبتوا الجميع على هذا الوجه المحدود، ولا فرق بين صفة وصفة، فإن ما نفيتموه من الصفات فيه نظير ما أثبتموه. فإما أن تعطلوا الجميع، وهو ممتنع، وإما أ، تمثلوه بالمخلوقات وهو ممتنع، وأما أ، تثبتوا الجميع على وجه يختص به لا يماثله فيه غيره، وحينئذ فلا فرق بين صفة وصفة، فالفرق بينهما بإثبات أحدهما ونفي الآخر فرارا من التشبيه   (1) درء التعارض (1/127-128) . (2) مجموع الفتاوى (6/45) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1193 والتجسيم قول باطل، يتضمن الفرق بين المتماثلين، والتناقض في المقالتين" (1) . ولا تحتاج هذه المناقشة إلى تعليق، لأن التناقض واضح في تفريقهم بين ما يلزم منه تجسيم وتشبيه وين ما لا يلزم منه ذلك، لأن هذه الصفات كلها يتصف بها المخلوق، فإن لزم في بعضها التشبيه لزم في الباقي، وإن لم يلزم في بعضها لم يلزم في الباقي. ولذلك فإن الأشاعرة يرجعون في التفريق إلى دليل العقل، فيقولون: ما دل عليه العقل وجب إثباته، وما لم يدل عليه العقل فيجب نفيه، أو على الأقل التوقف فيه. يقول الأشعري - معللا تفريقه بين إثبات الصفات السبع ونفي ما عداها -: "تلك الصفات أثبتها بالعقل، لأن الفعل الحادث دل على القدرة، والتخصيص دل على الإرادة، والإحكام دل على العلم، وهذه الصفات مستلزمة للحياة، والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام، أو ضد ذلك" (2) . وهناك يذكر شيخ الإسلام أن لسائر أهل الإثبات أجوبة: أحدها: أن عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين، وهذا مبني على مسالة واضحة جدا يقر بها كل عاقل، وهي أن عدم العلم ليس علما بالعدم (3) ، فعدم علمي بوجود كتاب، أو مدينة من المدن المغمورة، أو وجود شخص ما - لا يعني أ، هذه الأمور غير موجودة، بل قد تكون موجودة وقد يكون علمها غيري، فعدم علمي بها ليس علما بعدمها، وهذا لو أنكره إنسان لعد من أجهل الناس. ولذلك فإنه يقال لهؤلاء الأشاعرة: عدم الدليل المعين، الذي هو دليل العقل، والذي قلتم إنه لم يدل على ما عدا الصفات السبع، لا يستلزم عدم المدلول المعين الذي هو باقي الصفات، "فهب أن ما سلكته من الدليل العقلي   (1) مجموع الفتاوى (6/45-46) . (2) التدمرية (ص:33) - المحققة. (3) انظر: الرد على المنطقيين (ص:100) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1194 لا يثبت ذلك، فإنه لا ينفيه، وليس لك أن تنفيه بغير دليل، لأن النافي عليه الدليل كما على المثبت" (1) . الثاني: أن يقال: إذا كان دليل العقل لم يثبت هذه الصفات، - وعدم إثباته لها ليس دليلاً على نفيها - فإن هناك دليلاً آخر دل عليها، وهو دليل السمع "ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم" (2) . وهذا الوجه الثاني مترتب على الوجه الأول، ولذلك جمع بينهما في وجه واحد في التدمرية، وأفردهما عن بعض في مجموع الفتاوى (3) . الثالث: "أن يقال: يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبت به تلك من العقليات، فيقال: نفع العباد بالإحسان إليهم يدل على الرحمة كدلالة التخصيص على المشيئة، وإكرام الطائعين يدل على محبتهم، وعقاب الكافرين يدل على بغضهم، كما قد ثبت بالشاهد والخبر من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه، والغايات المحمودة في معقولاته ومأموراته - وهي ما تنتهي إليه معقولاته ومأموراته من العواقب الحميدة - تدل على حكمته البالغة كما يدل التخصيص على المشيئة وأولى، لقوة العلة الغائبة، ولهذا كان ما في القرآن من بيان ما في مخلوقاته من النعم والحكم وأعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة" (4) . لا فرق بين استدلالهم بالعقل على الإرادة والعلم، وبين الاستدلال غيرهم به على الحب والبغض، والحكمة والرحمة وغيرها. وهذه الوجوه الثلاثة مبينة أن احتجاجهم بدليل العقل على الصفات السبع لا يدل على نفي ما عداها من الصفات الثابتة. ولكن لو عاد الأشعري وقال:   (1) التدمرية (ص:33-34) - المحققة، وانظر في تقرير هذا الوجه: شرح الأصفهانية (ص:9) - ت مخلوف - ودرء التعارض (4/59-60) ، التسعينية (ً:242-243، 258) . (2) التدمرية (ص:34) المحققة. (3) قارن التدمرية (ص:33-34) - المحققة، بمجموع الفتاوى (6/46) . (4) التدمرية (ص:34-35) - المحققة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1195 صحيح أنني أثبت هذه الصفات بالعقل، ولكني أيضاً نفيت ما عداها بالعقل لأنها تستلزم التجسيم. وحينئذ يعود الكلام إلى ما ذكر أولا في بداية هذه المناقشة ويقال له: "القول في هذه الصفات التي تنفيها كالقول في الصفات التي أثبتها، فإن كن هذا مستلزما للتجسيم فكذلك الآخر، وإن لم يكن مستلزما للتجسيم فكذلك الآخر" (1) ، فدعواه التفريق بينهما باطل وهو متناقض كما تقدم. هذا هو أهم الأمثلة التي ذكرها شيخ الإسلام، وهو مثال شامل لجميع الصفات التي نفاها الأشاعرة (2) . وهناك أمثلة أخرى ترجع إلى ما سبق ومنها: 2- تطبيقه في صفة النزول: يقول شيخ الإسلام في شرح حديث النزول بعد تقريره لهذا الأصل وهو أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر: "ومثل ذلك أنه إذا قال: النزول والاستواء ونحو ذلك، من صفات الأجسام؛ فإنه لا يعقل النزول والاستواء إلا لجسم مركب، والله سبحانه منزه عن هذه اللوازم، فيلزم تنزيهه عن الملزوم، أو قال: هذه حادثة، والحوادث لا تقوم إلا بجسم مركب، وكذلك إذا قال: الرضا والغضب والفرح والمحبة ونحو ذلك من صفات الأجسام. فإنه يقال له: وكذلك الإرادة، والسمع، والبصر، والعلم، والقدرة، من صفات الأجسام، فإنا كما لا نعقل ما ينزل، ويستوى، ويغضب، ويرضي، إلا جسما، لم نعقل ما يسمع، ويبصر، ويريد، ويعلم، ويقدر، إلا جسما. فإذا قيل: سمعه ليس كسمعنا، وبصره ليس كبصرنا، وإرادته ليست كإرادتنا، وكذلك علمه وقدرته. قيل له: وكذلك رضاه ليس كرضانا، وغضبه   (1) مجموع الفتاوى (6/46-47) . (2) انظر أيضاً في تقرير هذا الأصل: درء التعارض (1/99-100) ، الرسالة الأكملية - مجموع الفتاوى (6/75) ، شرح الأصفهانية (ص:27-28،384) - ت السعوي، والفرقان بين الحق والباطل - مجموع الفتاوى (13/165) ، ومنهاج السنة (2/84) - ط دار العروبة المحققة، ومجموع الفتاوى (6/40-41) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1196 ليس كغضبنا، وفرحه ليس كفرحنا، ونزوله واستواؤه ليس كنزولنا واستوائنا ... " (1) ثم أكمل الكلام بمثل ما سبق (2) . 3- في نفيهم العلو: من شبه الأشاعرة في نفي العلو أنه يلزم منه أن يكون الله مركبا، منقسما، ذا قدر: وكان من مناقشة شيخ الإسلام أن ألزمهم ذلك بإثباتهم للصفات فقال: "وإذا جاز أن يقولوا: إن الموصوف الذي له صفات متعددة هو واحد غير متكثر ولا مركب ولا ينقسم، جاز أيضا أن يقال: إن الذي له قدر هو واحد غير متكثر ولا مركب ولا ينقسم، وإن كان في الموضعين يمكن أن يشار إلى شيء منه، ولا يكون المشار إليه هو عين الآخر" (3) . ثم إن شيخ الإسلام ألزم الأشاعرة في إثبات علو الله وقيامه بنفسه بما أثبتوه أيضا من الصفات التي لا يجعلونها أعراضا وينكرون على من ألزمهم بذلك فكذلك يقال لهم: إذا ثبت أن الله تعالى بائن من خلقه قائم بنفسه لا يلزم أن يكون جسما مركبا، يقول شيخ الإسلام: "فيقال إذا كان القائم بغيره من الحياة والعلم والقدرة وإن شارك سائر الصفات في هذه الخصائص "ولم يكن عندك عرضا، فكذلك القائم بنفسه وإن شارك غيره من القائمين بأنفسهم فيما ذكرته، لم يجب أن يكون جسما مركبا منقسما، ولا فرق بين البابين بحال؛ فإن المعلوم من القائم بنفسه أنه جسم، ومن القائم بغيره أنه عرض، وأن القائم بنفسه لا بد ا، يتميز منه شيء عن شيء، والقائم بغيره لا بد أن يحتاج إلى محله، فإذا أثبت اقئما بغيره يخالف ما علم من حال القائم بنفسه (4) في ذلك، فكذلك لزمه أن يثبت قائما بنفس يخالف ما علم من حال القائمين بأنفسهم" (5) .   (1) شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى (5/352) . (2) انظر: المصدر السابق (5/353) . (3) نقض التأسيس - مطبوع - (2/66) . (4) كذا ولعل الصواب [بغيره] . (5) نقض التأسيس - مطبوع - (2/67) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1197 ومثل ذلك ما يقال من أن اختصاص الله تعالى بالوصف كاختصاصه بالقدر، فكيفي فرق بينهما من ينكر العلو والاستواء لاستلزامه القدر (1) وقد سبق توضيح هذا عند الكلام على شبهة "الاختصاص" ضمن حجج الأشاعرة العقلية على نفي ما نفوه من الصفات. 4- في حديث الصورة: "خلق الله آدم على صورته" (2) . ذكر شيخ الإسلام في رده على من تأوله فقال: "المحذرو الذي فروا منه لتأويل الحديث على أن الصورة بمعنى الصفة، أو الصورة المعنوية، أو الروحانية، ونحو ذلك، يلزمهم فيما أثبتوه نظير ما فورا منهن وإذا كان مثل هذا لازما على التقديرين لم يجز ترك مقتضى الحديث ومفهومه لأجله، ولم يكن أيضا محذورا بالإتفاق ... " (3) . 5- القول في نصوص الصفات كالقول في نصوص المعاد: أي أن النصوص التي ثبتت بها الصفات هي مثل النصوص التي ثبت بها المعاد، فتفريق الأشاعرة - وغيرهم - بينهما بإثبات هذا ونفي هذه تناقض، بل يلزمهم أن يقروا بك لما ورد من الصفات كإقرارهم بنصوص المعاد، خاصة وأن نصوص الصفات أكثر (4) .وهذا وضح جداً. هذه أهم الأمثلة، وقد ذكر شيخ الإسلام - في معرض مناقشاته - للاشاعرة في ردودهم على الكرامية، أنه يمكن للكرامية أن يردوا على الأشاعرة بهذا الأصل. وهو يدل على تناقض الأشاعرة في مذهبهم وفي ردودهم على خصومهم من أهل الإثبات (5) .   (1) انظر: المصدر السابق (2/199) ، وانظر: درء التعارض (3/372-385) . (2) متفق عليه: البخاري، كتاب الاستئذان، باب بدا السلام، ورقمه (6227) ، فتح الباري (11/3) ، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب يدخل الجنة أقوا أفئدتهم مثل أفئدة الطير. ورقمه (2841) . (3) نقض التأسيس - مخطوط - (3/273) . (4) انظر: الفتوى الحموية - مجموع الفتاوى (5/33) . (5) انظر: درء التعارض (2/204-205) ، 4/102-103) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1198 وبعد هذه المناقشات الإجمالية في ذكر شبه الأشاعرة والرد عليها، وبيان الأصول والقواعد التي تنقض مذهبهم، ننتقل إلى بعض المناقشات المفصلة في بعض الصفات، مثل: الصفات الاختيارية، والخبرية، وكلام الله، والعلو. المسألة الثالثة: الرد عليهم في نفيهم للصفات الاختيارية : من بداية هذه المسألة وإلى نهاية مباحث الرسالة يكون البحث قد دخل مرحلة المناقشات المفصلة لكل صفة، ولكل جانب من جوانب العقيدة. ولا بد من الإشارة هنا إلى طول المباحث والمناقشات الواردة في كل مسألة من هذه المسائل، ومن خلال جمع المادة العلمية لكل واحدة منها، وهي طويلة جدا، وقف البحث على مفترق طرق: - إما تتبع الفروع والمسائل المتفرقة، والأدلة والمناقشات المتعددة. وذلك لكل جانب من جوانب الصفات وقضايا العقيدة الأخرى. - وإما الاقتصار على بيان الخطوط المجملة، التي توضح منهج شيخ الإسلام في كل واحدة منها. وتأجيل المناقشات التفصيلية إلى بحوث لاحقة. ولما كان الأمر الأول - على فائدته وأهميته - يقتضي طولا غير عادي في هذه الرسالة، إضافة إلى ضيق الوقت وقصر المدة - فإني رأيت أن أسلك الأمر الثاني. ولعل مما يبرر ذلك أن الفصول السابقة اشتملت على أهم القضايا المتعلقة بموضوع الرسالة، ومنها: منهجه العام في الرد على الأشاعرة، ومنهجه في الرد عليهم في توحيد الألوهية والربوبية، وفي الأسماء، وفي الصفات التي أثبتوها، ثم في حججهم العامة على ما نفوه من الصفات والعلو ومناقشتها، وهذه تحتوي على كثير من المسائل الدقيقة، التي قد لا يفطن لها بعض الناس. ولذلك كان من الضروري تفصيل القول فيها، أما المسائل الأخرى مثل مسألة: الصفات الاختيارية، والخبرية، وكلام الله، والعلو، والقدر، والإيمان، فهذه واضحة بشكل مجمل، وخلاف الأشاعرة فيها لأهل السنة مما لا يجهله كثير من طلبة العلم، وإن كانت لا تخلو من التفاصيل والدقائق التي يهتم بها من يعني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1199 بهذا الشأن (1) . هذه تقدمة ضرورية بين يدي ما يأتي من بحوث ومناقشات والله المستعان. ومسألة الصفات الاختيارية، أو الفعلية، هي التي يسميها المعتزلة والأشاعرة مسألة حلول الحوادث (2) ، وأهم ما يميزها بالنسبة للمذهب الأشعري إجماع متقدمي الأشاعرة ومتأخريهم عليها، لأنا كانت الأساس الذي قام عليه المذهب الكلابي، ثم الاشعري. وهذا بخلاف الصفات الخبرية، أو العلو، فإن الخلاف فيها قائم بين المتقدمين والمتأخرين. والصفات الاختيارية هي - كما يقو شيخ الإسلام - "الأمور التي يتصف بها الرب عز وجل، فتقوم بذاته بمشيئته وقدرته، مثل كلامه، وسمعه وبصره، وإرادته، ومحبته، ورضاه، ورحمته، وغضبه، وسخطه، ومثل خلقه، وإحسانه، وعدلة، ومثل استوائه، ومجيئه، وإتيانه، ونزوله، ونحو ذلك من الصفات التي نطق بها الكتاب العزيز والسنة" (3) . ويمكن عرض منهج شيخ الإسلام في إثباتها والرد على الأشاعرة الذين نفوها من خلال الفروع التالية: الفرع الأول: مقدمات في بيان الخلاف حول الصفات الاختيارية ومنشئه: ذكر شيخ الإسلام خلاصة أقوال الطوائف في هذه المسألة فقال: "وأما مسألة قيام الأفعال الاختيارية به: فإن ابن كلاب والأشعري وغيرهما ينفونها، وعلى ذلك بنوا قولهم في مسألة القرآن، وبسبب ذلك وغيره تكلم الناس فيهم في هذا بما هو معروف في كتب أهل العلم، ونسبوهم إلى البدعة وبقايا بعض الإعتزال فيهم.   (1) ولعل الله أن ييسر إبراز كل مسألة من هذه المسئل في بحوث مستقلة، خاصة وأن مادتها العلمية موجودة ومصنفة. والله هو الموفق والمعين. (2) انظر: درء التعارض (2/10) . (3) مجموع الفتاوى (6/217) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1200 وشاع النزاع في ذلك بين عامة المنتسبين إلى السنة من أصحاب أحمد وغيرهم. وقد ذكر أبو بكر عبد العزيز في كتاب "الشافي" عن أصحاب أحمد في معنى أن القرآن غير مخلوق قولين، مبنيين على هذا الأصل: أحدهما: أنه قديم، لا يتعلق بمشيئته وقدرته. والثاني: أنه لم يزل متكلما إذا شاء. وكذلك ذكر أبو عبد الله بن حامد قولين. وممن كان يوافق على نفي ما يقوم به من الأمور المتعلقة بمشيئته وقدرته - كقول ابن كلاب - أبو الحسن التميمي وأتباعه، والقاضي أبو يعلي وأتباعه، كابن عقيل، وأبي والحسن بن الزاغوني وأمثالهم، وإن كان في كلام القاضي ما يوافق هذا تارة، وهذا تارة. وممن كان يخالفهم في ذلك أبو عبد الله بن حامد، وأبو بكر عبد العزيز وأبو عبد الله بن بطه، وأبو عبد الله بن منده، وأبو نصر السجزي، ويحيى ابن عمار السجستاني، وأبو إسماعيل الأنصاري وأمثالهم. والنزاع في هذا الأصل بين أصحاب مالك، وبين أصحاب الشافعي، وبين أصحاب أبي حنيفة، وبين أهل الظاهر أيضاً: فداود بن علي صاحب المذهب وأئمتهم على إثبات ذلك، وأبو محمد بن حزم على المبالغة في إنكار ذلك. وكذلك أهل الكلام: فالهشامية والكرامية على إثبات ذلك، والمعتزلة على نفي ذلك ... وكذلك المتفلسفة: فحكوا عن أساطينهم - الذين كانوا قبل أرسطو - أنهم كانوا يثبتون ذلك، وهو قول أبي البركات صاحب "المعتبر"، وغيره من متأخريهم، وأما أرسطو وأتباعه - كالفارابي وابن سينا - فينفون ذلك، وقد ذكر أبو عبد الله الرازي عن بعضهم أن إثبات ذلك يلزم جميع الطوائف وإن أنكروه، وقرر ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1201 وكلام السلف والأئمة، ومن نقل مذهبهم، في هذا الأصل كثير، يوجد في كتب التفسير والأصول ... " (1) . ومن خلال هذا العرض المفصل لأقوال الطوائف في هذه المسألة يتبين أن الخلاف فيها ليس مع الأشاعرة فقط، كما أن القائلين بها ليسوا أهل السنة فقط، وإنما وافقهم عليها - ولو بشكل مجمل - كثير من أتباع الطوائف المختلفة. ومنشأ الخلاف في هذه المسألة من جهتين: الجهة الأولى: المضافات إلى الله وأنواعها، وقد ذكر شيخ الإسلام أن المضافات إلى الله في الكتاب والسنة ثلاثة أقسام: أحدها: إضافة الصفة إلى الموصوف، مثل علم الله، وقدرة الله سواء كان إضافة اسمية مثل استخيرك بعلمك، أو بصيغة الفعل مثل {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُم} (البقرة: من الآية187) ، أو الخبر الذي هو جملة أسمية مثل: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: من الآية282) . الثاني: إضافة المخلوقات، مثل: بيت الله، ناقة الله، رسول الله. الثالث: ما فيه معنى الصفة والفعل، مثل قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} (النساء: من الآية164) وقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يّس:82) وقوله: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَب} (البقرة: من الآية90) وغيرها. فالقسم الأول: لم يختلف أهل السنة والجماعة في إنه قديم غير مخلوق، وقد خالفهم بعض أهل الكلام في ثبوت الصفات لا في أحكامها. والقسم الثاني: لا خلاف بين المسلمين في أنه مخلوق. أما القسم الثالث: وهو ما فيه معنى الصفة والفعل - فالناس فيه على قولين:   (1) انظر: درء التعارض (2/18-20) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1202 القول الأول: قول المعتزلة، والكلابية، والأشعرية، وغيرهم، أن هذا القسم لا بد أن يلحق بأحد القسمين قبله، فيكون: إما قديما به أزليا، وإما مخلوقا منفصلا عنه. ثم هؤلاء فريقان: فريق: يرى امتناع قيام الصفات به، وهؤلاء هم المعتزلة، قالوا: القرآن مخلوق، وليس لله مشيئة ولا حب ولا بغض. وفريق: وهم الصفاتية الذين يرون قيام الصفات به، ويقولون: له مشيئة، وكلام قديم، واختلفوا في حبه وبغضه، وأسفه ورحمته وسخطه ونحو ذلك هل هو بمعنى المشيئة أو صفات أخرى غير المشيئة؟ على قولين. ثم هؤلاء اختلفوا في الاستواء والنزول والمجيء وغير ذلك من أنواع الأفعال التي هي أنواع جنس الحركة على أحد قولين: أإما أن يجعلوها من باب النسب والإضافات المحضة، بمعنى أن الله خلق العرش بصفة النحت فصار مستويا عليه، وأنه يكشف الحجب التي بينه وبين خلقه فيصير جائيا إليهم ... مثل قول الأشعري عن الاستواء إنه فعل فعله في العرش سماه استواء. ب أو يقول هذه أفعال محضة في المخلوقات من غير إضافة ولا نسبة. القول الثاني: وهو قول الكرامية وكثير من الحنبلية وأكثر أهل الحديث ومن اتبعهم من الفقهاء والصوفية وجمهور المسلمين وأكثر كلام السلف يدل على هذا القول، وهو: أ، هذه الصفات الفعلية ونحوها، المضافة إلى الله تعالى، قسم ثالث، ليست من المخلوقات المنفصلة عنه، وليست بمنزلة الذات والصفات القديمة الواجبة التي لا تتعلق بها مشيئته لا بأنواعها، ولا بأعيانها. وقد يقول هؤلاء: إنه يتكلم إذا شاء، ويسكت إذا شاء، ولم يزل متكلما بمعنى إنه لم يزل يتكلم إذا شاء، ويسكت إذا شاء، وكلامه منه ليس مخلوقا، وكذلك يقولون: وإن كان له مشيئة قديمة فهو يريد إذا شاء، ويغضب ويمقت ويقر هؤلاء - أو أكثرهم - بما جاء من النصوص على ظاهره مثله قوله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1203 {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} (لأعراف: من الآية54) إنه استوى عليه بعد أن لم يكن مستويا عليه، وإنه يدنو إلى عباده ويقرب منهم، وينزل إلى سماء الدنيا ويجيء يوم القيامة بعد أن لم يكن جائياً. ثم هؤلاء اختلفوا: هل يقال: تحل الحوادث بذاته؟ فمنهم من يطلقه، ومنهم من لا يطلق ذلك إما لعدم ورود الأثر به، أو لا يهام معنى فاسد ... (1) . وببيان هذه المسألة العظيمة، مسألة المضاف إلى الله تعالى يتبين كيف وقع كثير من الطوائف في الانحراف في هذا الباب (2) . الجهة الثانية: التي نشأ بسببها الخلاف في الصفات الفعلية أو الاختيارية هي: أن الخلق هل هو المخلوق أو غيره؟ وبيان ذلك أنه إذا كان من المتفق بين جميع الطوائف أن الله تعالى هو الذي خلق السموات والأرض، كما اتفقوا على أن هذه المخلوقات وجدت مخلوقة منفصلة عنه. إلا أنهم اختلفوا في أنه تعالى لما خلقها هل قامت به صفة الخلق، أو أن الخلق هو نفس المخلوق من غير أن تقوم به صفة؟ وارتباط هذه المسألة بحلول الحوادث أو الصفات الاختيارية واضح جدا؛ لأن من المعلوم أن السموات والأرض أو غيرها من المخلوقات ليست مخلوقة منذ الأزل، بل هي حادثة، فحين خلقها الله لا بد أن تكون قد تجددت له صفة لم تكن موجودة من قبل، فبخلقه للسماء قامت به صفة الخلق لها لأن السماء لم تكن مخلوقة من قبل، ومعنى ذلك حسب تعبير أهل الكلام أن الله حلت به الحوادث التي لم تكن موجودة من قبل.   (1) انظر فيما سبق مجموع الفتاوى (6/144-151) . (2) انظر في مسألة المضافات إلى الله. الجواب الصحيح (1/241-245) ، ودرء التعارض (7/263-266) ، وشرح الأصفهانية (ص:66-67) - ت مخلوف، وجواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى - (17/150-152) ، ومجموع الفتاوى (9/290-291) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1204 فالذين يقولون بنفي الصفات الاختيارية ومنع حلول الحوادث أجابوا عن ذلك بأن قالوا إن الخلق هو المخلوق، والفعل هو المفعول، ومعنى ذلك أن صفة الخلق أو الفعل لا تقوم بالله تعالى ويفسرون أفعاله المتعدية مثل قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (الأنعام: من الآية1) وأمثاله أ، ذلك وجد بقدرته من غير أن يكون منه فعل قام بذاتهن بل حاله قبل أن يخلق وبعد ما خلق سواء، لم يتجدد عندهم إلا إضافة نسبة وهي أمر عدمي لا وجودي، كما يقولون في كلامه واستوائه. وهذا قول الأشاعرة (1) . أما جمهور أهل السنة فيفرقون بينهما ويقولون: الخلق غير المخلوق والفعل غير المفعول، فيثبتون صفة الخلق والفعل قائمة بالله، ويقولون بوجود المخلوق والمفعول المنفصل عن الله تعالى، ويقولون بإثبات الصفات الاختيارية التي تقوم بالله وتتعلق بمشيئته. وهذا مع أن النصوص المتواترة من الكتاب والسنة قد دلت عليه فقد دل عليه صريح المعقول، "فإنه قد ثبت بالأدلة السمعية والعقلية أن كل ما سوى الله تعالى مخلوق، محدث، كائن بعد أن لم يكن، وأن الله انفرد بالقدم والأزلية، وقد قال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} (الفرقان: الآية59، والسجدة: الآية4) ، فهو حين خلق السموات ابتداء: إما أن يحصل منه فعل يكون خلقا للسموات والأرض، وأما أن لا يحصل منه فعل، بل وجدت المخلوقات بلا فعل، ومعلوم أنه إذا كان الخالق قبل خلقها، ومع خلقها سواء، وبعده سواء لم يجز تخصي خلقها بوقت دون بلا سبب يوجب التخصيص. وأيضاً: قحدوث المخلوق بلا سبب حادث ممتنع في بادية العقول، وإذا قيل الإرادة والقدرة خصصت قيل: نسبة الإرادة القديمة إلى جميع الأوقات سواء،   (1) انظر: شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى (5/378-379، 528-529) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1205 وأيضا فلا تعقل إرادة تخصص أ؛ د المتماثلين إلا بسبب يوجب التخصيص، وأيضا فلا بد عند وجود المراد من سبب يقتضي حدوثه، وإلا فلو كان مجرد ما تقدم من الإرادة والقدرة كافيا للزم وجوده قبل ذلك، لأنه مع الإرادة التامة والقدرة التامة يجب وجود المقدور" (1) . وقد سبق تقرير هذا عند الكلام عن مسألة دليل حدوث الأجسام والتسلسل ومسألة حوادث لا أول لها. والذين قالوا بأن الخلق هو المخلوق من الأشاعرة وغيرهم - عمدتهم في ذلك: أنه لو كان الخلق غير المخلوق: لكان إما قديما وإما حادثا: فإن كان قديما لزم قدوم المخلوق، وهو محال، وإن كان حادثا لزم أن تقوم به الحوادث، ثم ذلك الخلق يفتقر إلى خلق آخر ويلزم التسلسل وهو باطل. فأجابهم الجمهور - كل طائفة بحسب أصلها -: فطائفة قالت: الخلق قديم، وإن كان المخلوق حادثا، وهذه مسألة التكوين التي قال بها الأحناف والماتريدية، وهؤلاء يقولون القول في الخلق كالقول في الإرادة، فإذا كنتم تسلمون أن الإرادة قديمة أزلية، والمراد حادث، فكذلك نحن نقول في الخلق. وطائفة قالت: بل الخلق حادث في ذاته، ولا يفتقر إلى خلق آخر، بل يحدث بقدرته، وهؤلاء يقولون: إذاكان المخلوق يحصل بقدرته بعد أن لم يكن، والمخلوق منفصل فالمتصل به أولى. وهذا قول الكرامية والهشامية. وطائفة قالت: هب أنه يفتقر إلى فعل قلبه فلم قلتم إن ذلك ممتنع، وقولكم: هذا تسلسل، ياقل: ليس هذا تسلسلا في الفاعلين والعلل الفاعلة، وإنما هو تسلسل في الآثار، وهو حصول شيء بعد شيء، والسلف على إثباته، فإنهم يقولون إن الله تعالى لم يزل متكلما إذا شاء، وقد قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا   (1) مجموع الفتاوى (6/230-231) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1206 بِمِثْلِهِ مَدَداً} (الكهف:109) فكلمات الله لا نهاية لها، وهذا تسلسل جائز كالتسلسل في المستقبل لأن نعيم الجنة لا نفاد له (1) . وقد سبق توضيح هذا في مسألة التسلسل، وأهل السنة يقولون: الخلق والتكوين حادث إذا أراد الله خلق شيء وتكوينه، والله تعالى ذكر وجود أفعاله شيئاً بعد شيء، فهو خلق السموات والأرض، ثم استوى على العرش، وكذا رضاه ومحبته وكلامه وغيرها من الصفات المتعلقة بمشيئته وإرادته (2) . فهذه الطوائف الثلاث ردت على ما يقوله الأشاعرة من أن الخلق هو المخلوق، وقول الطائفة الثالثة هو قول أهل السنة الموافق للمع والعقل. الفرع الثاني: الأدلة على إثبات الصفات الاختيارية: وهي أدلة كثيرة جداً من الكتاب والسنة وأقوال السلف، تدل على اتصاف الله تعالى بهذه الصفات. وقد أفرد لذلك شيخ الإسلام قرابة مجلد كامل من مجلدات درء تعارض العقل والنقل (3) ، واشتمل ذلك على: أأدلة كثيرة من كتاب الله تعالى (4) . ب وأدلة من الأحاديث الصحيحة (5) . ت وأدلة من أقوال أئمة السلف وغيرهم (6) .   (1) انظر: مجموع الفتاوى (6/231-232) ، ومنهاج السنة (2/306) - ط دار العروبة المحققة. (2) انظر: منهاج السنة - ط دار العروبة - المحققة (2/306-307) ، وانظر في موضوع هل الخلق هو المخلوق أو غيره مع بيان الراجح: درء التعارض (1/238-239، 2/264، 4/60، 9/579، 10/22) ، ونقض التأسيس - مخطوط - (3/380) ، ومجموع الفتاوى (6/148-149، 229-230، 16/376-377) ، وشرح حديث النزول - مجموع الفتاوى - (5/528-536) . (3) من بداية الجزء الثاني إلى ص:342. (4) درء التعارض (2/115) وما بعدها، وانظر: مجموع الفتاوى (6/222-224) . (5) المصدر السابق (2/124) وما بعدها. (6) المصدر نفسه (2/20-115) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1207 وهذه الأدلة صريحة في إثبات الصفات الاختيارية القائمة به "كالاستواء إلى السماء، والاستواء على العرش، والقبض، والطي، والإتيان، والمجيء، والنزول، ونحو ذلك، بل والخلق، والإحياء، والإماتة، فإن الله تعالى وصف نفسه بالأفعال اللازمة كالاستواء، وبالأفعال المتعدية كالخلق، والفعل المتعدي مستلزم للفعل اللازم، فإن الفعل لا بد له من فاعل، سواء كان متعديا إلى مفعول، أو لم يكن، والفاعل لا بد له من فعل، سواء كان فعله مقتصرا عليه أو معتديا إلى غيره، والفعل المتعدي إلى غيره لا يتعدى حتى يقوم بفاعله، إذ كان لا بد له من الفاعل، وهذا معلوم سمعا وعقلا: أما السمع فإن أهل العربية التي نزل بها القرآن، بل وغيرها من اللغات متفقون على أن الإنسان إذا قال: "قام فلان وقعد" وقال: "أكل فلان الطعام وشرب الشراب"، فإنه لا بد أن يكون في الفعل المتعدي إلى المفعول به ما في الفعل اللازم وزيادة، إذ كلتا الجملتين فعلية، وكلاهما فيه فعل وفاعل، والثانية امتازت بزيادة المفعول ... فقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (الحديد: من الآية4) تضمن فعلين: أولهما متعد إلى المفعول به، والثاني مقتصر لا يتعدى، فإذا كان الثاني - وهو قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى} - فعلا متعلقا بالفاعل، فقوله: {خَلَقَ} كذلك بلا نزاع بين أهل العربية ... وأما من جهة العقل: فمن جوز أن يقوم بذات الله تعالى فعل لازم له كالمجيء والاستواء، ونحو ذلك، لم يمكنه أن يمنع قيام فعل يتعلق بالمخلوق كالخلق والبعث والإماته والاحياء، كما أ، من جوز أن تقوم به صفة لا تتعلق بالغير كالحياة، لم يمكنه أ، يمنع قيام الصفة المتعلقة بالغير كالعلم والقدرة والسمع والبصر، ولهذا لم يقل أ؛ د من العقلاء بإثبات أحد الضربين دون الآخر ... وإذا كان كذلك كان حدوث ما يحدثه الله تعالى من المخلوقات تابعا لما يفعل من أفعاله الاختيارية القائمة بنفسه، وهذه سبب الحدوث، والله تعالى حي قيوم لم يزل موصوفا بأنه يتكلم بما شاء، فعال لما يشاء، وهذا قد قاله العلماء الأكابر من أهل السنة والحديث، ونقلوه عن السلف والأئمة وهو قول طوائف كثيرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1208 من أهل الكلام والفلسفة المتقدمين والمتأخرين، بل هو قول جمهور المتقدمين من الفلاسفة" (1) . ولعل هذا النص المطول يوضح خلاصة مذهب السلف، ومنهج شيخ الإسلام في تقريره، ومن أنكره من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم فقولهم متناقض، ولهذا ذكر الرازي أن القول به - وهو ما يسمى بحلول الحوادث - لازم لجميع الطوائف (2) . الفرع الثالث: أدلة نفاة الصفات الاختيارية ومناقشتها: لما كان متأخرو الأشعرية حاولوا استقصاء أدلة من سبقهم من نفاة الصفات الاختيارية القائمة بالله تعالى، جعل شيخ الإسلام ردوده منصبة على ما كتبه هؤلاء المتأخرون، مستخدماً منهجه من أدلة أخرى تثبت بطلان مذهب النفاة. ولما كان الآمدي والرازي هما أبرز المتأخرين الذين كتبوا كتبا مطولة في عقائد الأشاعرة، وصار من بعدهما يعتمد على أقوالهم - ذكر شيخ الإسلام - في مناقشة هذه المسألة - ما ذكراه أبطالا لحجج من سبقهما، أو حججا جديدة أتوا بها. ويلاحظ هنا أن هذه المسألة قد اتفق على نفيها متقدموا الأشعرية ومتأخروهم، ولكن لما أن المتأخرين أبطلوا أدلة المتقدمين وزيفوها أورد ذلك شيخ الإسلام، فيكون من باب رد المتأخرين على المتقدمين. كما أن شيخ الإسلام في مسألة العلو والاستواء والصفات الخبرية لما كان المتقدمون يثبتونها وينكرها المتأخرون، رد على هؤلاء المتأخرين بأقوال شيوخهم المتقدمين. عكس المسألة التي معنا.   (1) درء التعارض (2/5-3) . (2) انظر: المصدر السابق (2/256-237،242) ، وانظر في أدلة السلف على إثباث ذلك غير ما سبق: شرح الأصهانية (ص:182-238) - ت العودة، ومجموع الفتاوى (6/225-238، 259-268) ، ودرء التعارض (2/220-222، 291-301) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1209 ويمكن ذكر نماذج من ردود المتأخرين على نفاة حلول الحوادث. يقول شيخ الإسلام: "وفحول النظار كأبي عبد الله الرازي، وأبي الحسن الآمدي وغيرهما ذكروا حجج النفاة لحلول الحوادث وبينوا فسادها. فذكروا لهم أربع حجج. إحداها: الحجة المشهورة وهي: أنها لو قامت به لم يخل منها ومن أضدادها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث. ومنعوا المقدمة الأولى. والمقدمة الثانية. ذكر الرازي وغيره فسادها" (1) ، كما أن الآمدي قال: "وقد احتج أهل الحق على امتناع قيام الحوادث به بحجج ضعيفة: الأولى ... " (2) ، وذكر الحجة السابقة ثم زيفها وذكر الاعتراضات عليها، وانظر تعليقات شيخ الإسلام على كلام الآمدي (3) ، حيث قال في آخرها: "وهذه الحجة التي صدر بها الآمدي وزيفها هي الحجة التي اعتمد عليها الكلابية والأشعرية ومن وافقهم من السالمية ... " (4) . الثانية: من حجج النفاة "أنه لو كان قابلا لها في الأزل لكان القبول من لوازم ذاته، فكان القبول يستدعي إمكان القبول، ووجود الحوادث في الأزل محال. وهذه أبطلوها هم بالمعارضة بالقدرة: بأنه قادر على إحداث الحوادث، والقدرة تستدعي إمكان المقدور، ووجود المقدور وهو الحوادث في الأزل محال" (5) . وقد أورد هذه الحجة الآمدي، وزيفها (6) ، وعلق على ذلك شيخ الإسلام (7) ، كما أوردها الرازي، ورد عليه الأرموي (8) ، كما نقضها شيخ الإسلام من وجوه (9) .   (1) انظر: /جموع الفتاوى (6/247) . (2) انظر: درء التعارض (4/27) . (3) انظر: المصدر السابق (4/27-40) . (4) انظر: درء التعارض (4/40) ، وانظر أيضاً: مجموع الفتاوى (6/238-239) . (5) انظر: مجموع الفتاوى (6/247) . (6) انظر: درء التعارض (4/62-63) . (7) النظر: المصدر السابق (63/71) . (8) انظر: المصدر نفسه (2/212-216) مع تعليق شيخ الإسلام. (9) انظر: مجموع الفتاوى (6/247-249) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1210 الحجة الثالثة: للنفاة: "أنهم قالوا: لو قامت به الحوادث للزم تغيره والتغير على الله محال. وأبطلوا هم هذه الحجة - الرازي وغيره - بأن قالوا: ما تريدون بقولكم: لو قامت به تغيرن أتريدون بالتغير نفس قيامها به أم شيئاً آخر؟ فإن أردتم الأول كان المقدم هو الثاني، والملزوم هو اللازم، وهذا لا فائدة منه، فإنه يكون تقدير الكلام: لو قامت به الحوادث لقامت به الحوادث، وهذا كلام لا يفيد، وإن أردتم بالتغير معنى غير ذلك فهو ممنوع، فلا نسلم أنها لو قامت به لزم "تغير" غير حلول الحوادث. فهذا جوابهم" (1) . وقد أوضح شيخ الإسلام وجه الرد على النفاة ببيان ما في لفظ "التغير" من الإجمال، وأن التغير المعروف في اللغة العربية لا يراد به مجرد كون المحل قامت به الحوادث، ولذلك فالناس لا يقولون للشمس والقمر والكواكب إذا تحركت: إنها تغيرت، ولا يقولون للإنسان إذا تكلم ومشى تغير ... وإنما يقولون لمن استحال من صفة إلى صفة، كالشمس إذا زال نورها ظاهرا لا يقال تغيرت، فإذا أصفرت قبل تغيرت ... (2) . الحجة الرابعة: - للنفاة - وهي مرتبطة بالحجة السابقة، حيث قالوا: حلول الحوادث أفول والخليل قد قال {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (الأنعام: من الآية76) ، والآفل هو المتحرك، أو المتغير (3) . وقد ذكر هذه الحجة - مع التي قبلها - الآمدي وزيفها، انظر كلامه مع تعليق شيخ الإسلام (4) ، كما أن شيخ الإسلام بين الحق في الآية التي استدلوا بها (5) - وقد سبق الكلام حولها عند بحث موضوع دليل حدوث الأجسام -.   (1) مجموع الفتاوى (6/249) . (2) انظر: مجموع الفتاوى (6/249-250) . (3) انظر: المصدر السابق (6/252) . (4) انظر: درء التعارض (4/71-82) . (5) انظر: مجموع الفتاوى (6/253-257) ، وشرح حديث النزول - مجموع الفتاوى (5/542-551) ، ودرء التعارض (2/216-222) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1211 فهذه أهم حجج النفاة لحلول الحوادث بين الأشاعرة أنفسهم فسادها وهي فاسدة في نفس الأمر، لأنها مصادمة لأدلة الكتاب والسنة والمعقول. ولكن إذا كان كل من الرازي والآمدي قد أبطلا حجج النفاة فهل رجعا إلى الحق وقالا بقول أهل السنة الذي قال فيه الرازي: إنه لازم لجميع الطوائف؟. والجواب أنهما لما أبطلا الحجج كلها اعتمدا على حجة واحدة وهي "حجة الكمال والنقصان"، وخلاصتها: أن هذه الصفات "إن كانت صفات نقص وجب تنزيه الرب عنها، وإن كانت صفات كمال فقد كان فاقدا لها قبل حدوثها وعدم الكمال نقص، فيلزم أن يكون ناقصا، وتنزيهه عن النقص واجب الإجماع" (1) . وقد رد شيخ الإسلام على هذه الحجة - في أماكن متعددة من كتبه - من وجوه عديدة: ومنها: 1- "أن يقال القول في أفعاله القائمة به الحادثة بمشيئته وقدرته كالقول في أفعاله التي هي المفعولات المنفصلة التي يحدثها بمشيئته وقدرته، فإن القائلين بقدم العالم أوردوا عليهم هذا السؤال فقالوا: الفعل إن كان صفة كمال لزم عدم الكمال له في الأزل، وإن كان صفة نقص لزم اتصافه بالنقائض. فأجابوهم بأنه ليس صفة نقص ولا كمال" (2) . وهذا نقض لحجتهم وإلزام لا محيد لهم عنه، لأن كلا من الأمرين حادث بقدرته ومشيئته، فحكمها بالنسبة للكمال والنقصان واحد. 2- أن يقال: "إذا عرض على العقل الصريح ذات يمكنها أن تتكلم بقدرتها وتفعل ما تشاء بنفسها، وذات لا يمكنها أن تتكلم بمشيئتها ولا تتصرف بنفسها البتة، بل هي بمنزلة الزمن الذي لا يمكنه فعل يقوم به باختياره، قضى   (1) مجموع الفتاوى (6/241) ، وانظر: درء التعارض (2/210-211، 4/3، 82) ، والرسالة الأكملية - مجموع الفتاوى (6/105) . (2) درء التعارض (4/3) ، وانظر أيضاً: الأكملية - مجموع الفتاوى (6/105) ، ومجموع الفتاوى (6/242) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1212 العقل الصريح أن هذه الذات أكمل، وحينئذ فأنتم الذين وصفتم الرب بصفة النقص، والكمال في اتصافه بهذه الصفات، لا في نفي اتصافه بها" (1) . 3- أن يقال: "الأفعال التي حدثت بعد أن لم تكن، لم يكن وجودها قبل وجوده كمالا، ولا عدمها نقصا، فإن النقص إنما يكون إذا عدم ما يصلح وجوده، وما به يحصل الكمال، وينبغي وجوده، ونحو ذلك، والرب تعالى حكيم في أفعاله، وهو المقدم والمؤخر، فما قدمه كان الكمال في تقديمه، وما أخره كان الكمال في تأخيره، كما أن ما خصصه بما خصصه به من الصفات فقد فعله على وجه الحكمة وإن لم نعلم نحن تفاصيل ذلك، واعتبر ذلك بما يحدثه من المحدثات" (2) . ومثال ذلك تكليم الله لموسى عليه السلام ونداؤه له: "فنداؤه حين ناداه صفة كمال ولو ناداه قبل أن يجيئ لكان ذلك نقصا، فكل منها كمال حين وجوده ليس بكمال قبل وجوده ... " (3) . وقد ذكر شيخ الإسلام أوجها أخرى عديدة (4) . الفرع الرابع: الصفات الاختيارية تفصيلا: لم يكتف شيخ الإسلام بالمناقشات المجملة حول الصفات الاختيارية القائمة بالله تعالى (5) ، وإنما ناقشها صفة، صفة، ويمكن الإشارة إلى بعض هذه الصفات، ومجمل منجهه فيها.   (1) مجموع الفتاوى (6/242) ، وانظر: درء التعارض (4/7-10) . (2) درء التعارض (4/10) . (3) مجموع الفتاوى (6/241) . (4) انظر: درء التعارض (4/3-18، 84-96) ، ومجموع الفتاوى (6/241-242) . (5) انظر في مسألة الصفات الفعلية القائمة بالله - المسماة حلول الحوادث - غير ما سبق: منهاج السنة (1/298) - وما بعدها (2/195-197، 298) وما بعدها ط دار العروبة المحققة، ونقض التأسيس - مطبوع - (1/303) ، وجامع الرسائل (1/159-160) ، والتسعينية (ص:97، 198-201) ، والصفدية (1/128-130) ، والرسالة الأكملية - مجموع الفتاوى (6/86) ، وشرح الأصفهانية (ص:62-63، 68) ت مخلوف، وشرح حديث النزول - مجموع الفتاوى (5/537-539) ، والرد على المنطقيين (ص:231-232) ، والاستقامة (1/183) ، ودرء التعارض (6/310-311، 8/286، 9/253-254) ، ومجموع الفتاوى (5/194-217، 6/8،18،229، 233، 250-251، 268-283، 12/315-319، 16/372-374، 393، 406-407) ، ومسألة الأحرف - مجموع الفتاوى (12/94) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1213 وأهم هذه الصفات: أولا: صفة الاستواء: هذه الصفة يرد بحثها في موضعين: أفي هذا الموضع، وهو الصفات الاختيارية القائمة بالله تعالى، لأنه تعالى استوى على العرش بعد خلقه، فهو متعلق بمشيئته وإرادته. ب وفي موضوع "العلو"، لأن من أهم أدلة العلو الاستواء على العرش. ويلاحظ أن العلو من الصفات العقلية المعلومة بالعقل والسمع. أما الاستواء فهو من الصفات المعلومة بالسمع فقط (1) .وبهذا يكون الاستواء جزءا من أدلة العلو السمعية. ولذلك فإن الأشاعرة تأولوا الاستواء بأحد تأويلين: أ) بالاستيلاء، وهذا تأويل نفاة العلو من متأخري الأشاعرة. ب) أو بأنه فعل فعله الله في العرش سماه استواء، وهذا قول الأشعري وكثير من أصحابه الذين يثبتون العلو ولكن ينفون قيام الصفات الفعلية به. وقولهم هذا ليس خاصا بالاستواء، بل يشمل جميع الصفات الدالة على هذا المعنى كالنزول والمجيء والإتيان. ومعنى الاستواء عند هؤلاء أن الله "يحدث في العرض قربا فيصير مستويا عليه من غير أن يقوم به نفسه فعل اختياري، سواء قالوا: الفعل هو المفعول أو لم يقولوا، وكذلك النزول ... " (2) . وهذا سبب أصلهم في منع حلول الحوادث، ومعنى هذا القول أن الاستواء أو النزول أو المجيء ليس   (1) انظر: مجموع الفتاوى (5/121-122) ، وشرح حديث النزول - مجموع الفتاوى (5/523) ، ونقض التأسيس - مخطوط - (1/29، 3/271) . (2) شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى (5/437) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1214 إلا نسبة وإضافة بين المخلوق والخالق من غير صفة فعل تقوم بالخالق نفسه (1) . ومذهب السلف وأئمة السنة أن هذه الصفات الفعلية تقوم بذات الله تعالى كما دلت عليها النصوص. فمتقدموا الأشاعرة أثبتوا الاستواء دالا على العلو فقط ولذا جعلوه من صفات الذات. ولم يثبتوه صفة فعل تقوم بالله. أما متأخروهم فقد نفوا دلالته على الأمرين (2) . ومنهج شيخ الإسلام في تقرير هذه الصفة - الاستواء - والرد على متأوليها، وهو كما يلي - باختصار -: 1- بين أدلة إثبات صفة الاستواء لله وأقوال السلف في معناه، وأنه مخالف لأقوال هؤلاء المتأولين. وقد أكثر شيخ الإسلام من النقول عن الأئمة - على اختلاف طبقاتهم وبلدانهم - التي يثبتون فيها صفة الاستواء لله تعالى ويردوهن على من تأوله بالاستيلاء أو غيره. وغالب هذه النقول ذكرها شيخ الإسلام في إثبات صفة العلو لله تعالى ولعل الإشارة إليها هنا - مع ذكر مصادرها - يغني عن إعادته هناك (3) . 2- الرد على من أول استوى بمعنى استولى من عدة وجوه (4) .   (1) انظر في مذهب الأشاعرة ومخالفتهم لمذهب السلف في ذلك: التبيان في نزول القرآن - مجموع الفتاوى (12/250-251) ، ودرء التعارض (6/321-322) ، ومجموع الفتاوى (16/393-395) ، ومنهاج السنة (2/513) ط دار العروبة المحققة والاستقامة (1/162) ، وشرح حديث النزول - مجموع الفتاوى (5/386) ، ونقض التأسيس - مطبوع (1/565، 2/206، 316) . (2) انظر: مجموع الفتاوى (16/395-397) . (3) أهم هذه النقول ما ذكره في نقض التأسيس - مخطوط - (1/15،102-121) ، ودرء التعارض (6/191-267) ، وانظر أيضاً: الدرء (2/20-21، 6/115-119) ، مجموع الفتاوى (5/310-314، 6/398-399) ، والتسعينية (ص:122،127-131) ، شرح حديثا لنزول (5/518-522) . (4) انظر: مجموع الفتاوى (5/144-149) حيث أبطل تأويله من اثني عشر وجها، وانظر أيضا: التدمرية (ص:81-84) - المحققة، ودرء التعارض (1/278-279) ، ونقض التأسيس - مخطوط - (2/238-240) ، والفتوى الحموية - مجموع الفتاوى (5/29-41) ، ومجموع الفتاوى (16/395-403) ، وتفسير سورة الاخلاص - مجموع الفتاوى - (17/347-379. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1215 3- الرد على متأخري الأشعرية بأقوال متقدميهم الذين أثبتوا الاستواء وردوا على من تأوله بالاستيلاء (1) . 4- بقى مما يتعلق بالاستواء مسألتان: إحداهما: هل يلزم من إثبات الاستواء على العرش أن يكون الله جسما؟ وقد أجاب شيخ الإسلام عن ذلك بأن مثبتي الاستواء اختلفوا: - فمنهم من يقول: هو فوق العرش وليس بجسم، وهذا قول بن كلام والأشعرية القدماء. - ومنهم من يقول: هو فوق العرش ولا أقول هو جسم ولا ليس بجسم، ثم من هؤلاء من يسكت عن هذا النفي والإثبات، ومنهم من يستفصل عن المراد بالجسم، فإن فسر بما ينزه الرب عنه نفاه، وإن فسر بما يتصف الرب به أثبته (2) . وشيخ الإسلام يرجح هذا القول الأخير الذي هو الاستفصال ما هو منهجه عموما مثل هذه المسائل. والمسألة الثانية: مسألة "الحد"، وهل يقال إن استواء الله تعالى على العرشي بحد، أو بغير حد، وهذه مرتبطة بالمسألة السابقة، وقد أورد شيخ الإسلام الخلاف في ذلك بين مثبتي الاستواء؛ وأن منهم من قال بالحد، ومنهم من منع إطلاقه. وإن كان الذي ورد في عامة كتب السلف إطلاق الحد لبيان بينونة الله عن خلقه والرد على الجهمية والحلولية وغيرهم.   (1) انظر: مجموع الفتاوى (5/317-320، 16/91) ، ونقض التأسيس - مخطوط - (1/82-84، 2/102-103، 182-184) ، ونقض التأسيس - مطبوع - (2/9-10) ، ودرء التعارض (6/193-207) . (2) انظر: شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى (5/418-419) ، ونقض التأسيس - مطبوع - (1/396-397، 2/62-63، 106-111) ، ودرء التعارض (4/209-211، 6/289-290) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1216 وقد ذكر شيخ الإسلام في معرض رده على الرازي لما اعترض بأنه يلزم من إثبات العلو والاستواء لله إثبات الحد والنهاية وأن هذا تجسيم - ذكر أن الكلام في هذه الحجة في مقامين: المقام الأول: "قول من يقول: هو فوق العرش وليس له حد ولا مقدار ولا هو جسم، كما يقول ذلك كثير من الصفاتية، من الكلابية، وأئمة الأشعرية وقدمائهم، ومن وافقهم من الفقهاء والطوائف الأربعة وغيرهم، وأهل الحديث والصوفية، وغير هؤلاء. وهم أمم لا يحصيهم إلا الله، ومن هؤلاء أبو حاتم ابن حبان، وأبو سفيان الخطابي، البستيان ... " (1) والقاضي أبو يعلي كان ينكر الحد ثم رجع إلى الإقرار به (2) . وممن نفي الحد أبو نصر السجزي (3) . فهؤلاء الذين ينفون الحد والمقدار والجسم ونحو ذلك من الصفاتية الذين يثبتون الاستواء على العرش يقولون إذا كان هو نفسه فوق العرش لا يلزم أن يوصف بالحد أو تناهي المقدار (4) . والمقام الثاني: "كلام من لا ينفي هذه الأمور التي يحتج بها عليه نفاة العلو على العرش.. بل قد يثبتها أو يثبت بعضها لفظا أو معنى، أو لا يتعرض لها بنفي ولا إثبات، وهذا المقام هو الذي يتكلم فيه سلف الأمة وأئمتها، وجماهير أهل الحديثن وطوائف من أهل الكلام والصوفية وغيرهم. وكلام هؤلاء أسد في العقل والدين، حيث ائتموا بما في الكتاب والسنة، وأقروا بفطرة الله التي فطر عليها عباده، فلم يغيروا، وجعلوا كتب الله التي بعث بها رسله هي الأصل في الكلام، وأما الكلام في المجمل والمتشابه الذي يتكلم فيه النفاة، ففصلوا مجمله،   (1) نقض التأسيس - مطبوع - (2/169) . (2) انظر: المصدر السابق (2/171) وما بعدها وقارن بإبطال التأويلات للقاضي أبي يعلى - مخطوط - (ص:315) وما بعدها. (3) انظر: نقض التأسيس - مطبوع - (1/446) ، وكلام السجزي في كتاب الرد على من أنكر من الحرف والصوت - (ص:157-158) ط على الآلة الكاتبة. (4) انظر: نقض التأسيس - مطبوع - (2/174-175) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1217 ولم يوافقوهم على لفظ مجمل قد يتضمن نفي معنى حق، ولا وافقوهم أيضاً على نفي المعاني التي دل عليها القرآن والعقل، وإن شنع النفاة على من يثبت ذلك، أو زعموا أن ذلك يقدح في أدلتهم وأصولهم" (1) . وقد أثبت الحد الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة كما ذكر ذلك الدارمي في نقضه على المريسي، والقاضي أبو يعلي في إبطال التأويلات، والخلال في كتاب السنة، والهروي في ذم الكلام. وغيرهم (2) . وهم لما أثبتوا "الحد" قالوا: له حد لا يعلمه إلا هو، كما بينوا مع ذلك أن العباد لا يحدونه ولا يدركونه، وهذا الذي قصده الإمام أحمد لما قال: "نحن نؤمن بالله عز وجل على عرشه كيف شاء، وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد ... " (3) وإلا فهو قد قال في رواية أخرى عنه: لله تعالى حد لا يعلمه إلا هو (4) . فما نفاه الإمام أحمد قصد به الصفة التي يعلمها الخلق، وما أثبته قصد به ما يتميز به عن عباده، ويبين به عنهم، وهذا هو الذي قصده بقوله: له حد لا يعلمه إلا الله وهو الذي قصده من أطلق هذا من السلف. وقد أخطأ من ظن من الحنابلة أو غيرهم أن للإمام أحمد في ذلك روايتين، بل كلامه متسق غير متناقض وكل رواية موافقة للأخرى (5) . وقد اعترض "الخطابي" على إثبات "الحد" بأن صفة "الحد" لم ترد في الكتاب والسنة، ولكن شيخ الإسلام رد عليه من وجوه وبين أن السلف لم يقصدوا بذلك الصفة مطلقا، ولم يقولوا: له صفة هي "الحد"، والحد إنما هو ما يتميز به الشيء عن غيره من صفته وقدره، والسلف قصدوا بذلك الرد   (1) نقض التأسيس - مطبوع - (2/180) . (2) انظر: نقض التأسيس - مطبوع - (1/426-440) ، حيث نقل نصوص كلامهم، وقارن بالنقض على المريسي للدارمي (ص:381) وما بعدها - ضمن عقائد السلف، وإبطال التأويلات (316-317) . (3) نقض التأسيس - مخطوط - (2/163) . (4) انظر: نقض التأسيس - مطبوع - (1/430) وما بعدها. (5) انظر: المصدر السابق (1/433-438، 2/163، 174) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1218 على الجهمية الذين قالوا: ليس له حد، وقصدوا بذلك أنه لا يبياين المخلوقات ولا يكون فوق العالم لأن ذلك مستلزم للحد، فلم استفصل الأمر على أئمة السلف بذكر هذا اللازم وقيل لهم: بحد قالوا: بحد. ومقصودهم واضح جداً (1) . هذه ملامح من منهج شيخ الإسلام في تقرير هذه الصفة والرد على من تأولها. ثانياً: صفة "النزل": القول في هذه الصفة كالقول في صفة الاستواء وغيرها من الصفات الفعلية، ومذهب الأشاعرة فيها واحد، ومعنى النزول عندهم: أن الله يخلق أعراضا في بعض المخلوقات يسميها نزولا، وهذا بناء على أصلهم في نفي قيام الحوادث به (2) ، وبعضهم يقول في النزول إنه من صفات الذات وإنه أزلي كما يقولون أيضا مثل ذلك في الاستواء والمجيء والغضب والفرح والضحك ونحوها (3) . فالقول في صفة النزول كالقول في صفة الاستواء. السلف رحمهم الله تعالى أثبتوا هذه الصفة كما وردت، وردوا على من تأولها بنزول أمره أو رحمته أو ملك أو غير ذلك. وأقوالهم في ذلك مشهورة متواترة (4) . ومن الأمور المتعلقة بصفة النزول: 1- بطلان قول من تأوله بنزول رحمته أو أمره أو ملك أو غير ذلك، وقد ذكر شيخ الإسلام في إبطال هذه التأويلات وجوها عديدة (5) .   (1) انظر نقض التأسيس - مطبوع - (1/441-446) . (2) انظر: شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى - (5/386) . (3) انظر: المصدر السابق (5/410-411) . (4) انظر: المصدر نفسه (5/322،374-375،378-395) ، ومنهاج السنة (2/511-513) ط دار العروبة المحققة. (5) انظر: شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى - (5/369-373، 415-418) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1219 2- ومما يتعلق بالنزول والمجيء والإتيان وغيرها مسألة "الحركة" وهل يوصف الله بها أم لا؟، وقد ساق شيخ الإسلام الخلاف في ذلك فقال: "واختلف أصحاب أحمد وغيرهم من المنتسبين إلى السنة والحديث في النزول والإتيان والمجيء وغير ذلك، هل يقال: إنه بحركة وانتقال، أم يقال: بغير حركة وانتقال، أم يمسك عن الإثبات والنفي؟ على ثلاثة أقوال ذكرها القاضي أبو يعلى في كتاب: اختلاف الروايتين والوجهين: فالأول: قول أبي عبد الله بن حامد وغيره. والثاني: قول أبي الحسن التميمي وأهل بيته. والثالث: قول أبي عبد الله بن بطة وغيره. ثم هؤلاء فيهم من يقف عن إثبات اللفظ مع الموافقة على المعنى وهو قول كثير منهم كما ذكر ذلك أبو عمر بن [عبد البر] (1) وغيره. ومنهم من يمسك عن إثبات المعنى مع اللفظ، وهم في المعنى منهم من يتصوره مجملا، ومنهم من يتصوره مفصلا إما مع الإصابة أو مع الخطأ ... " (2) . وخلاصة مذهب أئمة السلف في إطلاق لفظ "الحركة"، مع اتفاق الجميع على إثبات المعنى الذي دلت عليه هذه النصوص - أنهم على ثلاثة أقوال: - منهم من يصرح بلفظ الحركة. وممن نقل مذهب الأئمة المتقدمين والمتأخرين حرب الكرماني، والدارمي الذي قال: إن الحركة من لوازم الحياة، وذكر حرب أنه قول من لقيه من أئمة السنة كأحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور.   (1) في المطبوعة من شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى [عبد الرحمن] ولعل الصواب ما أثبت، وانظر: ما يرجع هذا في (5/575، وكلام ابن عبد البر في التمهيد (7/136-137) . (2) شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى - (5/402) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1220 - وطائفة أخرى من أئمة السلف كنعيم بن حماد، والبخاري، وأبي بكر ابن خزيمة، وابن عبد البر، وغيرهم، يثبتون المعنى الذي يثبته هؤلاء، ويسمعون ذلك فعلا، ولكن من هؤلاء من يمنع إطلاق لفظ الحركة لكونه لم يؤثر (1) . وقد رجح شيخ الإسلام أن المأثور عن الإمام أحمد "إنكار نفي ذلك ولم يثبت عنه إثبات لفظ الحركة، وإن أثبت أنواعا قد يدرجها المثبت من جنس الحركة، فإنه لما سمع شخصا يروي حديث النزول، ويقول: ينزل بغير حركة ولا انتقال، ولا بغير حال، أنكر أحمد ذلك، وقال: قل كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو كان أغير على ربه منك" (2) . أما العقيدة التي كتبها حرب بن إسماعيل - وفيها تصريحه بالحركة - فقد قال عنها شيخ الإسلام: "ليست هذه العقيدة ثابتة عن الإمام أحمد بألفاظها، فإني تأملت لها ثلاثة أسانيد مظلمة برجال مجاهيل، والألفاظ هي ألفاظ حرب ابن إسماعيل، لا ألفاظ الإمام أحمد ... " (3) . ولعل ما يرجحه شيخ الإسلام في ذلك ما قاله في مثل هذه الألفاظ: "والأحسن في هذا الباب مراعاة ألفاظ النصوص" (4) . 3- ومن المسائل المتعلقة بالنزول: هل يخلو من العرش أم لا؟ وقد ذكر شيخ الإسلام أن في ذلك ثلاثة أقوال: - طائفة ممن يدعي السنة يظن خلو العرش منه، وقد صنف أبو القاسم عبد الرحمن ابن أبي عبد الله بن محمد ابن منده (5) في ذلك كتابا. - وطائفة تقف، لا تقول يخلو، ولا لا يخلو، وتنكر على من يقول ذلك.   (1) انظر: درء التعارض (2/7-8) . (2) الاستقامة (1/72-73) . (3) المصدر السابق (1/73) . (4) مجموع الفتاوى (16/423) ، وانظر في موضوع "الحركة" والأقوال فيه - شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى - (5/426،565-575) ، ومجموع الفتاوى (6/11،8/21-29) ، والدرء (4/25) . (5) والده أبو عبد الله ابن منده الإمام المشهور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1221 وهذا قول الحافظ عبد الغني المقدسي. - والصواب: قول جمهور السلف إنه ينزل ولا يخلو منه العرش (1) . وقد رد شيخ الإسلام على قول عبد الرحمن ابن منده وأطال في ذلك (2) . كما أبطل قول من زعم أنه يكون تحت العرش (3) . 4- كما أجاب شيخ الإسلام على اعتراض من اعترض على النزول باختلاف الليل والنهار والبلدان والفصول في التقدم والتأخر والطول والقصر، وبين أن الكلام في ذلك وفي غيره - مثل مسألة خلو العرش منه - مبنية على قياس خاطيء وهو تشبيه الله بخلقه، وهذا باطل لأن القول في الصفات كالقول في الذات فكما أنه لله ذاتا لا تشبه ذوات المخلوقين فكذلك له صفات لا تشبه صفات المخلوقين (4) . ثالثا: الإتيان والمجيء: وهذا أيضاً من الصفات الثابتة لله تعالى كما يليق بجلاله، وقد رد شيخ الإسلام على الرازي الذي تأولهما بإتيان أمره أو إتيان ملك، أو غير ذلك من التأويلات (5) . كما سبق - في مبحث التأويل - بيان بطلان ما نسب إلى الإمام أحمد من تأويل هذه الصفة. رابعاً: اللقاء والقرب والدنو: والمقصود قرب العبد من ربه، أو قرب الله من عباده ودنوه منهم، وهذه الصفات حكمها حكم ما سبق من صفات النزول والمجيء والإتيان فمن يثبت هذه   (1) مجموع الفتاوى (5/31-132) . (2) انظر: شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى (5/380-396) ، وانظر أيضا (5/366-368،375-385،414-415،459-460) . (3) انظر: درء التعارض (7/7) ، وشرح حديث النزول - مجموع الفتاوى - (5/418) وما بعدها، (467-480) ، ونقض التأسيس - مطبوع - (2/228-230) . (4) انظر: شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى - (5/418) وما بعدها، (467-480) ، ونقض التأسيس - مطبوع - (2/228-230) . (5) انظر نقض التأسيس - مخطوط - (3/86-87، 177-188) ، ومجموع الفتاوى (16/409) ، وفي "الهرولة" انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (3/91-93) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1222 أثبت تلك، ومن يتأول هذه يتأول تلك كما هو مذهب جمهور الأشاعرة. وقد رد شيخ الإسلام على الرازي وغيره في تأويلهم لهذه الصفات (1) . خامساً: الغضب، والضحك، والغيرة، والجود، والفرح، والبغض، والسخط، والمقت، والحب والرضا، والرحمة: والأشاعرة يتأولون هذه الصفات: إما بالإرادة، أو بقولهم إنها أزلية، وكل ذلك بناء على أصلهم في مسألة حلول الحوادث، ومذهب السلف أن هذه الصفات كغيرها من الصفات يثبت ما ورد منها، ولا يجوز تأويل شيء منها، وأهل السنة يثبتونها كما يليق بجلال الله وعظمته من غير تشبيه بصفات المخلوقين ومن غير تكييف ولا تحريف ولا تعطيل. وقد رد شيخ الإسلام على من تأول هذه الصفات من الأشاعرة وغيرهم (2) .   (1) انظر في ذلك: نقض التأسيس - مخطوط - (2/170-197، 3/52-77) ، ومجموع الفتاوى (5/134، 6/7-21) ، وشرح حديث النزول - مجموع الفتاوى - (5/460-467،510) ، وفي اللقاء انظر نقض التأسيس - مخطوط - (2/100-127) ، ومجموع الفتاوى (6/471-475) . (2) انظر: العقيدة الواسطية - مجموع الفتاوى (3/138-139) ، وجواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى - (17/158) ، ومجموع الفتاوى (5/134) ، ونقض التأسيس - مخطوط - (2/14-15) ، وانظر: حول صفة "الغضب" الرسالة الأكملية - مجموع الفتاوى (6/119) ، ودرء التعارض (4/92) ، وفي صفة "الضحك" نقض التأسيس - مخطوط - (3/188-192) ، والرسالة الأكملية - مجموع الفتاوى - (6/121-122) ، وفي صفة "العجب" الرسالة الأكملية - مجموع الفتاوى - (6/123-124) ، ونقض التأسيس - مخطوط - (3/192) ، وفي صفة "الغيرة" نقض التأسيس - مخطوط - (2/11-20) ، وفي صفة "الجود" نقض التأسيس - مطبوع - (1/186-197) ، وفي صفة "الرحمة" الرسالة الأكملية - مجموع الفتاوى (6/117-118) ، وفي صفة "المحبة" درء التعارض (6/62-66،72-77) ، منهاج السنة (2/35-37،42) ط مكتبة الرياض الحديثة، (3/98) طبولاق، الاستقامة (1/215،431) ، جامع الرسائل (2/237) ، النبوات (ص:68-69،97،105-109) ط دار الكتب العلمية، شرح الأصفهانية (ص:11-12) - ت مخلوف، التحفة العراقية - مجموع الفتاوى - (10/66-75) ، قاعدة في المعجزات والكرامات - مجموع الفتاوى - (11/357-362) ، جواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى - (17/51) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1223 المسألة الرابعة: الصفات الخبرية : ويقصد بها الصفات التي ثبتت عن طريق الخبر من الكتاب والسنة كالوجه واليدين والعين، وغيرها كاليمين والقبضة، والأصابع، والحقو والساق. والملاحظ في مذهب الأشاعرة تفريقهم بين الصفات السمعية القرآنية والحديثية، فأكثر متقدميهم أو كلهم يثبت الصفات الواردة في القرآن كالوجه واليدين والعين. أا ما لم يرد إلا فأكثرهم لا يثبتها، ثم منهم من يؤولها ومنهم من يفوض معناها (1) . أما متأخروا الأشاعرة فأكثرهم يتأول جميع الصفات الخبرية، ومن أثبتها منهم - سواء كانت عنده قولا واحدا، أو قولا ثانيا - فوض معناها. وبعض الأشاعرة يجعل هذه الصفات معنوية كصفات العلم والحياة والقدرة، ولا يفرقون بينهما إلا أن هذه ثبتت بالعقل والسمع، وتلك طريقها السمع فقط. وأهل السنة لا يلتزمون هذا الاصطلاح فلا يسمون هذه بالصفات الخبرية لأن من الصفات المعنوية ما لا يعمل إلا بالخبر (2) . وقد سبق مناقشة متأخري الأشعرية الذين تأولوا الصفات الخبرية من خلال بعض القضايا ومنها: 1- الرد على متأخري الأشعرية بأقوال متقدميهم الذين أثبتوا ومنعوا من تأويلها (3) .وقد سبقت الإشارة إلى ذلك. 2- مناقشة شبهة "التركيب" و"التجسيم" التي نفوا لأجلها العلو والصفات الخبرية. وقد سبق بيانها (4) .   (1) انظر: مجموع الفتاوى (12/32) . (2) انظر: نقض التأسيس - مطبوع - (1/76) . (3) انظر: مجموع الفتاوى (4/174، 16/89-90) ، والتسعينية (ص:241-243،288) ، والمسألة المصرية في القرآن - مجموع الفتاوى (12/203) ، ونقض التأسيس - مخطوط - (3/135-137) ، ومن المطبوع (1/64-65) . (4) وانظر أيضاً: نقض التأسيس - مطبوع - (1/79-107) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1224 3- كما سبق في "المسألة الثانية" مناقشة أقوالهم من خلال قاعدة أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر. وبقي من ذلك أن الرازي استدل على وجوب تأويل الصفات الخبرية لاختلاف النصوص حيث ورد فيها: (بيده) ، (أيدينا) ، (بيدي) ، (بأعيننا) ، (على عيني) ، وقد رد عليه شيخ الإسلام بقوله: "إن دعواه أن لله أعينا كثيرة وأيديا كثيرة باطل، وذلك وإن كان قد قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (القمر: من الآية14) وقال: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} (هود: من الآية37) وقال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (الطور: من الآية48) وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} (يّس: من الآية71) وقد قال في قصة موسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي * إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} (طه: من الآية 39-40) فقد جاء هذا بلفظ المفرد في الموضعين، فلم يكن دعواه الظهور في معنى الكثرة لكونه جاء بلفظ الجمع بأولى من دعوى غيره الظهور في معنى الإفراد لكونه قد جاء بلفظ المفرد في موضعين، بل قد ادعى الأشعري فيما اختاره ونقله عن أهل السنة والحديث هو وطوائف معه إثبات العينين لأن الحديث ورد بذلك~، وفيه جمع بين النصين، ما في لفظ اليد بل [لو] (1) قال القائل: الظاهر في العين للمفرد أو المثنى دون المجموع لتوجيه قوله، وذلك أن قوله (بأعيننا) في الموضعين مضاف إلى ضمير الجمع والمراد به الله وحده بلا نزاع، ومثل هذا كثير في القرآن يسمى الرب نفسه من الأسماء المضمرة بصفة الجمع على سبيل التعظيم لنفسه كقوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} (الفتح:1) وقوله: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الزخرف: من الآية32) فلما كان المضاف إليه لفظه لفظ الجمع جاء المضاف كذلك فقيل: بأعيننا، وفي قصة موسى لما أفرد المضاف إليه أفرد المضاف فقال (ولتصنع على عيني) ، وجعلوا أن هذا هو الأصل والحقيقة، فإن الله واحد، سبحانه، ومن احتج بما ذكره الله عن نفسه بلفظ الجمع على العدد، فهو ممن تمسك بالمتشابه وترك المحكم، كما فعل نصارى نجران ...   (1) زيادة مني ليستقيم الكلام.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1225 وهذا الكلام يقال في لفظ "أيدينا" مع قوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (صّ: من الآية75) وقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (المائدة: من الآية64) ، فإن صيغة المضاف إليه هناك صيغة جمع بخلاف صيغة المضاف إليه في بقية الآيات، فجاء على لفظ المضاف إليه. ومما يوضح الأمر في ذلك أن من لغة العرب الظاهرة التي نزل بها القرآن استعمال لفظ الجمع في موضع التثنية في المضاف إذا كان متصلا بالمضاف إليه، والمعنى ظاهر، كقوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا} (التحريم: من الآية4) ، وليس لكل منهما إلا قلب، فالمعنى قلباكما، لكن النطق بلفظ الجمع أسهل، والمعنى معروف أنه ليس لكل منهما إلا قلب، وكذلك قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (المائدة: من الآية38) والمعنى فاقطعوا أيمانهما، إذ لا يقطع من كل واحد إلا يده اليمنى، لكن وضع الجمع موضع التثنية لسهولة الخطاب وظهور المراد ... وإذا كان كذلك قيل: لفظ (أعيننا) ولفظ (أيدينا) مع كون المضاف إليه ضمير جمع أولى بالحسن مما إذا كان المضاف ضمير تثنية، فإذا كان من لغتهم ترك استحسان "قلباكما" و"يديهما" فلأن يكون في لغتهم ترك استحسان "بعيننا" أو"بعيننا"، ومما عملت يدنا، أو يدانا أولى وأحرى ... " (1) . ثم إن شيخ الإسلام بين أن التثنية وردت في القرآن في صفة اليدين بشكل صريح لا يحتمل المجاز مطلقا، وهو قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} (صّ: من الآية75) فدلالة هذه الآية على الصفة أصرح من دلالة الآية الأخرى وهي قوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} (يّس: من الآية71) وقد عقد مقارنة بين الآيتين، بين فيها - من وجوه عديدة - أنه لا يصح تأويل آية سورة "ص" بحال (2) .   (1) نقض التأسيس - مخطوط - (3/16-19) . (2) انظر: المصدر السابق (3/20-22) ، وانظر أيضاً: التدمرية (ص:73-76) ، والرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز - مجموع الفتاوى - (6/362-3729) ، ودرء التعارض (7/267) ، والرسالة الأكملية - مجموع الفتاوى - (6/92) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1226 أما لفظ التثنية في العين فلم يرد في القرآن، ولكن جاء في الحديث ما يدل عليه (1) ، ونسبه الأشعري إلى أهل السنة، ولكن هذه الصفة ثابتة قد دلت عليه النصوص (2) . وكذلك صفة الوجه ثابتة دلت عليها نصوص الكتاب والسنة (3) . ومثلها كل صفة وردت في الكتاب والسنة الصحيحة، مثل: الأصابع (4) ، والقدم (5) ، والساق (6) ، والحقو (7) ، والصورة (8) ، وغيرها.   (1) من ذلك الحديث الذي بوب له البخاري بقوله "باب قوله الله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} . ثم ذكر حديث عبد الله بن عمر قال: ذكر الدجال عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إن الله لا يخفى عليكم إن الله ليس بأعور، وأشار بيده إلى عينه - وإن المسيح الدجال أعور عين اليمنى، كأن عينه عنية طافية" [البخاري - كتاب التوحيد - حديث رقم 4707] . قال ابن قتيبة في الرد على المريسي [ص406 ضمن عقائد السلف] : "ففي تأويل قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله ليس بأعور" بيان أنه بصير ذو عينين خلاف الأعور". وحديث عقبة بن عامر: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر: إن ربنا سميع بصير وأشار إلى عينه" [قال ابن حجر: وسنده حسن [الفتح شرح باب (وكان الله سميعاً بصيراً) . حديث رقم 7376) . وممن قال بذلك غير ابن قتيبه ابن خزيمة والأشعري وغيرهم. (2) انظر: الجواب الصحيح (3/144) ، والواسطية - مجموع الفتاوى - (3/133) ، والحموية - مجموع الفتاوى - (5/90-91) ، وانظر مقالات الإسلاميين للأشعري (ص:290) - ت ريتر، والأبانة (ص:18) ت فوقية. (3) انظر: الواسطية - مجموع الفتاوى - (3/133) ، والحموية - مجموع الفتاوى - (5/98-99) ، والرد الأقوم على ما في نصوص الحكم - مجموع الفتاوى - (2/433) ، ونقض التأسيس - مطبوع - (1/35-39) . (4) انظر:،قض التأسيس - مخطوط - (3/115-116، 142) . (5) انظر: الواسطية - مجموع التفاوى - (3/139) ، والحموية - مجموع الفتاوى - (5/44،75) . (6) انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (3/15-16) . (7) أطال شيخ الإسلام في مناقشة الرازي حول هذه الصفة، وبين أنها مثل غيرها من الصفات تثبت كما وردت. انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (3/127-142) . (8) وقد أطال في الكلام على حديث الصورة، نقض التأسيس - مخطوط - (3/202-514) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1227 المسألة الخامسة: العلو : هذه الصفة من أظهر الصفات التي جاءت بها النصوص مستفيضة متواترة من الكاب والسنة، كما دلت عليها العقول والفطر السليمة، وقد أجمع على إثباتها سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وسطر أئمة السلف - في كتبهم وردودهم على الجهمية المعطلة - ما فيه بيان الحق من الضلال في هذا الباب. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وليس العجب في أن يوجد من ينكر هذه الصفة من الجهمية أو المعتزلة أو غيرهم ممن عرفوا بالزيغ والإلحاد في أسماء الله وصفاته وآياته، ولكن العجب أن يقلدهم في ذلك جماعات من العلماء الفضلاء، الذين يعتبرون من أئمة الفقهاء والعلماء والقضاة. ولو كانت أدلة العلو دليلين أو ثلاثة أو خمسة أو لو كان القائل به عددا محدودا من علماء السلف، لكان هؤلاء بعض العذر في موقفهم مما قد يقال فيه: إن الأمر التبس عليهم. أما أن تكون أدلة العلو بهذه الكثرة والوضوح والقعطية في الثبوت والدلالة، وأن تتوافق الأدلة النقلية - التي زادت على ألف دليل - مع أدلة العقل والفطرة، ثم بعد ذلك يأتي إجماع السلف على إثباتها، ويوافقهم على ذلك أئمة أهل الكلام المتقدمين من الكلابية والأشعرية وغيرهم - فهذا ما لا يجد له المسلم المنصف أي تفسير أو تبرير إلا أن باعثه التقليد والتعصب الأعمى لشيوخهم النفاة. وقد أولى شيخ الإسلام ابن تيمية هذه المسألة اهتماماً كبيراً، وأطال النفس جدا في بيان أدلته والرد على نفاتها ومناقشتهم، ولا يكاد يخلو كتاب من كتبه العقدية من عرض لها إثباتا أو ردا على الخصوم فيها. وقد وصل إلينا - والحمد لله - قسط كبير منها، بلغ مئات الصفحات، خاصة في كتابين من أهم كتبه، وهما: 1- درء تعارض العقل والنقل، حيث أفرد المسألة العلو الجزء السادس بأكمله وجزءا من الجزء السابع (1) .   (1) من أوله إلى ص:140. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1228 2- نقض تأسيس الجهمية، والذي يسمى أحيانا نقض أساس التقديس، أو بيان تلبيس الجهمية، وقد شمل البحث في العلو جزءا من الجزء الأول المطبوع، والجزء الثاني - المطبوع أيضاً - بكامله. إضافة إلى مواضع أخرى عديدة في منهاج السنة، ومجموع الفتاوى وغيرها. واستقصاء كلام شيخ الإسلام ومناقشاته في ذلك مما يصعب الإلمام به هنا في هذا المبحث الذي هو ضمن بحوث ومسائل أخرى، ويمكن الإشارة بإجمال إلى منهجه في معالجة هذه المسألة، وذلك من خلال الأمور التالية: أولاً: الأقوال في العلو: يطلق كثير من أهل الكلام على مسألة العلو والفوقية: الجهة، حتى صارت شبه علم عليها، مع أن "العلو" و"الفوقية" مصطلح شرعي وردت به النصوص، و"الجهة" اصطلاح حادث، ولفظ مجمل، قد يراد بنفيه أو إثباته ما هو حق وما هو باطل. أما الأقوال في "العلو" فذات شقين: أالأقوال في علو الرب تبارك وتعالى وفوقيته، وبينونته عن خلقه. ب الأقوال في ما يعتبره أهل الكلام من لوازم القول بالعلو مثل "الجهة" و"التحيز" و"الجسم" ونحوه. أما الأول: فقد وقع الخلاف فيه بين الطوائف على أقوال: 1- قول من ينكر العلو مطلقا، ويقول: ليس فوق العالم شيء أصلا ولا فوق العرش شيء، وهذا قول الجهمية والمعتزلة وطوائف من متأخري الأشعرية، والفلاسفة النفاة، والقرامطة الباطنية وغيرهم. وهؤلاء قسمان: قسم يقول: ليس داخل العالم ولا خارجا عنه، ولا حالا فيه وليس في مكان من الأمكنة. فهؤلاء ينفون عنه الوصفين المتقابلين. وهذا قول طوائف من متكلميهم ونظارهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1229 وقسم منهم يقول: إنه في كل مكان بذاته، كما يقول ذلك طوائف من عبادتهم ومتكلميهم، وصوفيتهم وعامتهم (1) . "وكثير منهم يجمع بين القولين: ففي حال نظره وبحثه يقول بسلب الوصفين المتقابلين فيقول: لا هو داخل العالم ولا خارجه، وفي حال تعبده وتألهه يقول بأنه في كل مكان، ولا يخلو منه شيء حتى يصرحون بالحلول في كل موجود - من البهائم وغيرها - بل بالاتحاد بكل شيء، بل يقولون بالوحدة التي معناها أنه عين وجود الموجودات، ثم يعلل شيخ الإسلام سبب هذا التناقض فيقول: "وسبب ذلك أن الدعاء والعبادة والقصد والإرادة والتوجه يطلب موجودا، بخلاف النظر والبحث والكلام؛ فإن العلم والكلام والبحث والقياس والنظر يتعلق بالموجود والمعدوم، فإذا لم يكن القلب في عبادة وتوجه ودعاء سهل عليه النفي والسلب، وأعرض عن الإثبات، بخلاف ما إذا كان في حال الدعاء والعبادة فإنه يطلب موجودا يقصده، ويسأله ويعبده، والسلب لا يقتضي إلا النفي والعدم، فلا ينفي في السلب ما يكون مقصودا معبودا" (2) وهذا تحليل دقيق جداً، غاص شيخ الإسلام من خلاله في الثنايا النفس البشرية وطبيعتها، وهو يفسر ما يلاحظه المطع والباحث في كتب العقائد الكلامية من وجود أنواع من التناقض عند كثيرة من هؤلاء المتكلمين والفلاسفة، ومن أمثلة ذلك: ?- جمعهم بين علم الكلام الفلسفي، والتصوف. ?- تعويلهم على العقل في كثير من مباحث أصول الدين، حتى أنهم يقدمونه على النصوص، ثم في الوقت نفسه يعولون على الكشوفات والمشاهدات الصوفية عندهم أو عند أشياخهم. ?- وفي العلود قد يقولون لا داخل العالم ولا خارجه، ثم يقولون هو في كل مكان.   (1) انظر: مجموع الفتاوى (5/122-123،272) . (2) مجموع الفتاوى (5/272-273) ، وانظر: درء (5/169) ، ونقض التأسيس - مطبوع - (2/5-6، 505، 512) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1230 - وفي توحيد الربوبية قد يبالغ في إثباته إلى حد نفي كثيرمن الصفات الثابتة لله لأجل تحقيقه كما يزعم، ثم هو يناقض هذا التوحيد حين يرد في خاطره أو يعتقد أن النجوم أو القبور أو غيرها لها تأثير في الضر والنفع والرزق وغيرها. إلى غير ذلك من أنواع التناقض الذي يصعب أن يجد له الإنسان تفسيراً، فرحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية وغفر له على ما أوضح وبين. وإنما طال القول في بيان مذهب هؤلاء لدخول كثير من متأخري الأشعرية النفاة فيهم. فهذان قولان، قد يجمع بينهما بعض. 2- قول من يقول: "هو فوق العرش، وهو في كل مكان ويقول: أنا أقر بهذه النصوص وهذه، لا أصر واحدا منها عن ظاهره وهذا قول طوائف ذكرهم الأشعري في المقالات الإسلامية (1) ، وهو موجود في كلام طائفة من السالمية والصوفية، ويشبه هذا ما في كلام أبي طالب المكي ... " (2) ، وهؤلاء غالطون وإن زعموا أنهم جمعوا بين نصوص العلو والمعية. 3- قول سلف الأمة وأئمتها، أئمة أهل العلم والدين، وهؤلاء آمنوا بجميع ما جاء في الكتاب والسنة، وأثبتوا علو الله تعالى وفوقيته، وأنه تعالى فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، وهم بائنون منه، وهو أيضاً مع العباد بعلمه، ومع أوليائه وأنبيائه بالنصر والتأييد (3) . والخلاصة أن الأقوال في مباينة الله لخلقه أربعة: 1- منهم من يقول بالحلول والإتحاد فقط، كقول ابن عربي وأمثاله. 2- ومنهم من يثبت العلو ونوعا من الحلول وهو الذي يضاف إلى السالمية أو بعضهم، وفي كلام أبي طالب وغيره ما قد يقال إنه يدل على ذلك.   (1) انظر: مقالات الإسلاميين (ص:215-299) - ت ريتر. (2) مجموع التفاوى (5/124) . (3) انظر: المصدر السابق (5/126) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1231 3- ومنهم من لا يثبت لا مباينة ولا حلولا ولا إتحادا، كقول المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم. 4- والقول الرابع إثبات مباينة [الخالق] (1) للمخلوق بلا حلول، وهذا قول سلف الأمة وأئمتها ... " (2) . ويمكن أن يضاف إلى ذلك قولان آخران: أحدهما: قول من يجمع بين قول الصوفية الحلولية، وقول المعتزلة بأنه لا داخل العالم ولا خارجه - كما سبق -. والثاني: قول من يتوقف في هذا الأمر، فلا يقول بإثبات علوه على العرش ولا نفيه، بل يقول إن الله تعالى واحد في ملكه وهو رب كل شيء ويسكت عما سوى ذلك. وقد رد شيخ الإسلام على هؤلاء (3) . وأما الثاني: وهو في إطلاق الجهة والتحيز، والجسم ففيه أقوال: 1- قول مني قول: "لا أقول إ، هـ متحيز ولا غير متحيز، ولا في هة ولا غاير جهة، بل أعلم أنه مباين للعالم وأنه يمتنع أن يكون لا مباينا ولا مداخلا" (4) ، وهذا قول كثير من أهل الكلام والحديث. 2- "قول من يقول: بل أقول: إنه ليس بمتحيز ولا في جهة، وأقول مع ذلك: إنه مباين للعالم. وهذا قول من يقول: إنه فوق العالم وليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز، كما يقول ذلك من يقوله من الكلابية والأشعرية والكرامية ومن وافقهم من أتباع الأئمة الأربعة وأهل الحديث والصوفية. فإذا قيل هؤلاء: إثبات مباين ليس بمتحيز مخالف لضرورة العقل قالوا:   (1) في درء التعارض [الخلق] وهو خطأ. (2) درء التعارض (10/287) . (3) انظر: القاعدة المراكشية (ص:23-24) ما بعدها، ط دار طيبة. (4) مجموع الفتاوى (5/302) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1232 إثبات موجود ولا محايث ولا مباين أظهر فسادا في ضرورة العقل من هذا ... " (1) . 3- "قول م يتلزم أنه متحيز، أو في جهة، أو أنه جسم، ويقول: لا دلالة على نفي شيء من ذلك، وأدلة النفاة لذلك أدلة فاسدة، فإنهم متفقون على أن نفي ذلك ليس معلوما بالضرورة، وإنما يدعون النظر، ونفاة ذلك لم يتفقوا على دليل واحد، بل كل واحد منهم يطعن في دليل الآخر ... " (2) ، وهذا قول الكرامية وبعض أهل الحديث ومن وافقهم. 4- "جواب أهل الاستفصال: وهم الذين يقولون: لفظ "التحيز" و"الجهة" و"الجوهر" ونحو ذلك، ألفاظ مجملة، ليس لها أصل في كتاب الله ولا سنة رسول الله، ولا قالها أحد من سلف الأمة وأئمتها في حق الله تعالى، لا نافيا ولا إثباتا، وحينئذ فإطلاق القول بنفيها أو إثباتها ليس من مذهب أهل السنة والجماعة بلا ريب، ولا عليه دليل شرعي، بل الإطلاق من الطرفين مما ابتدعه أهل الكالم الخائضون في ذلك. فإذا تكلمنا معهم بالبحث العقي استفصلناهم عما أرادوه بهذه الألفاظ ... " (3) فإن كان حقا قبل - ولا يمنع من قبوله تسميته بهذه المصطلحات الحادثة - وإن كان باطلا رد. ومن خلال ما سبق من عرض الخلاف حول المسألتين يتبين مذهب الأشاعرة، القدماء منهم والمتأخرين، كما يتبين مذهب السلف رحمهم الله تعالى. ثانياً: أدلة أهل السنة على أثبات العلو. إثبات علو الله تعالى معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك لأنه عندهم معلوم بالاضطرار من الدين (4) .   (1) مجموع الفتاوى (5/303) ، وانظر بقية الإجابة والمناقشة إلى ص: 304، وانظر أيضاً: (ص:272) من هذا الجزء. (2) المصدرالسابق (5/304) . (3) المصدر نفسه (5/305) ، وانظر: نقض التأسيس - مطبوع - (2/13-14) . (4) انظر: درء التعارض (7/27) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1233 وسياق الأدلة مما يصعب حصره، وقد ذكر شيخ الإسلام أنها تبلغ مئين، وأن الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين متواترة موافقة لذلك (1) . ونقل شيخ الإسلام عن بعض أكابر أصحاب الشافعية أنه قال: "في القرآن ألف دليل أو أزيد تدل على الله تعالى عال على الخلق، وأنه فوق عباده، وقال غيره: فيه ثلاثمائة دليل تدل على ذلك ... " (2) . وقد ذكر ابن القيم في نونيته أكثر من عشرين نوعا من الأدلة، وكل نوع تحت عدد من الأدلة (3) ، كما ذكر في الصواعق ثلاثين دليل من أدلة العقل والفطرة (4) وهي كلها ملخصة مما ذكره شيخه في مناقشاته. وخلاصة هذه الأدلة: ?- أما أدلة الكتاب والسنة، فمنها نصوص: الاستواء، والنزول، والرؤية (5) ، وصعود الأعمال إليه، وعروج الملائكة إليه، وأنه في السماء، ونزول القرآن، وتنزل الملائكة، والمعراج، والسؤال عنه بالأين، والتصريح بالفوق، وغيرها كثير جداً. ?- أما أدلة العقل والفطرة، فقد ذكر شيخ الإسلام الخلاف في العلو هل يعلم بالعقل أو بالسمع، وذكر أن قول الجماهير أنه يعلم بالعقل وبالسمع. وهذا قول الكلابية وطريقة أكثر أهل الحديث. وممن قال إنه يعلم بالسمع أبو الحسن الأشعري وبعض أصحابه، ولكن هؤلاء يثبتون العلو بالسمع ويبطلون أدلة نفاته.   (1) انظر: درء التعارض (2/26) ، وانظر: القاعدة المراكشية (ص:35) - ط دار طيبة. (2) مجموع الفتاوى (5/121) ، وانظر: الصواعق المرسلة - الأصل - (4/1279) ، والنونية لابن القيم (1/486) ، مع شرح ابن عيسى. (3) انظر: النونية (1/396) وما بعدها، مع شرح ابن عيسى. (4) انظر: الصواعق المرسلة - الأصل - (4/1279-1340) . (5) انظر: جانبا من الرد على الرازي وتناقضه حول الرؤية والعلو في نقض التأسيس - مطبوع - (2/77-90) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1234 يقول شيخ لاإسلام: "والعقل دل على أن الله تعالى فوق العالم، وهذه طريقة حذاق أهل النظر من أهل الإثبات، كما هو طريق السلف والأئمة، يجعلون العلو من الصفات المعلومة بالعقل، وهذه طريقة أبي محمد بن كلاب وأتباعه، كأبي العباس الفلانسي، والحارث المحاسبي، وأشباههما من أئمة الأشعرية، وهي طريقة محمد بن كرام وأتباعه، وطريقة أكثر أهل الحديث والفقه والتصوف، وإليها رجع القاضي أبو يعلي، وأمثاله. ولكن طائفة من الصفاتية من أصحاب الأشعري ومن وافقهم من أصحاب أحمد وغيرهم، يظنون أن العلو من الصفات الخبرية كالوجه واليدين ونحو ذلك، وأنهم إذا أثبتوا ذلك أثبتوه لمجيء السمع به فقط، ولهذا كان من هؤلاء من ينفي ذلك ويتأول نصوصه، أو يعرض عنها، كما يفعل ذلك في نصوص الوجه واليد. ومن سلك هذه الطريقة فإنه يبطل الأدلة التي يقال: إنها نافية لهذه الصفة، كما يبطل ما به ينفون صفة الاستواء والوجه واليد، ويبن أنه لا محذور في إثباتها، كما يقول مثل ذلك في الاستواء والوجه واليد، ونحو ذلك من الصفات الخبرية. وهؤلاء كلامهم أمتن من كلام نفاة لاصفات الخبرية نقلا وعقلاً ... " (1) . ولا شك أن الراجح أن العلو معلوم بدليل العقل والفطرة، وقد قرر ذلك شيخ الإسلام بطرق منها: (2) 1- أن هذا أمر مستقر في فطر بني آدم، معلوم لهم بالضرورة. 2- أن قصدهم لربهم عند الحاجات التي لا يقضيها إلا هو، وذلك في دعاء العبادة ودعاء المسألة - إنما يكون إلى جهة العلو، فهو كما أنهم مضطرون إلى دعائه ومسألته هم مضطرون إلى أن يوجهوا قلوبهم إلى العلو إليه، لا يتوجهون إلى غيره من الجهات.   (1) درء التعارض (7/131-132) ، وانظر أيضا: درء التعارض (6/208-209، 9/16) ، ومجموع الفتاوى (16/407) ، وجواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى - (17/51-52) ، ونقض التأسيس - مخطوط - (1/29، 3/271) . (2) انظر: قواعد مهمة وبراهين قوية لأهل الإثبات في نقض التأسيس - مطبوع - (1/317-369) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1235 3- وهذا أيضاً متفق عليه بين العقلاء السليمي الفطرة، وكل منهم بخير عن فطرته من غير مواطأة من بعضهم لبعض، ويمتنع في مثل هؤلاء أن يتفقوا على تعمد الكذب عادة. 4- ومنها الطرق النظرية مثل قولهم: كل موجودين فإما أن يكون أحدهما مباينا للآخر أو مداخلا له، وإذا ثبت أنه ليس مداخلا له فلا بد أن يكون مباينا له، وهكذا. 5- ومنها أنه إذا ثبت أن العالم كرى، وأن الله لا بد أن يكون مباينا لخلقه، والعلو المطلق فوق الكرة، فيلزم أن يكون في العلو (1) . وكثيرا ما يربط شيخ الإسلام مناقشاته بأمور عمليةواقعية، ولذلك فهو يورد قصة أبي المعالي الجويني مع أبي جعفر الهمذاني لم اعترض عليه وهو يقرر نفي العلو، فقال له الهمذاني: دعنا مما تقول، ما هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، ما ال عارف قط يا الله إلا وجد من قلبه معنى يطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة من قلوبنا. فصرح أبو المعالي، ووضع يده على رأسه وقالك حيرني الهمذاني، أو كما قال، ونزل (2) . ومن عجيب ما جرى لشيخ الإسلام ابن تيمية نفيه مع هؤلاء النفاة ما حكاه بقوله: ولقد كان عندي من هؤلاء النافين لهذا من هو من مشايخهم، وهو يطلب مني حاجة، وأنا أخاطبه في هذا المذهب كأني منكر له، وأخرت قضاء حاجته حتى ضاق صدره، فرفع رأسه إلى السماء، وقال: يا الله، فقلت له: أنت محقق، لمن ترفع طرفك؟ وهل فوق عندك أحد؟ فقال: استغفر الله،   (1) انظر: درء التعارض (7/3-5، 132-134) ، ونقض التأسيس - مطبوع - (1/110،2/21-22، 78، 103-104، 480-481) ، ومن المخطوط (1/26-27) ، ومجموع الفتاوى (5/152،275-276) ، ودرء التعارض (6/11-13) ، ومنهاج السنة (2/517) ط دار العروبة - المحققة. (2) انظر: مجموع الفتاوى (4/44،61، 5/259) ، والاستقامة (1/167) ، ومنهاج السنة (2/515-517) - ط دار العروبة - المحققة، ونقض التأسيس - مخطوط - (1/27-28) . وقد سبقت الإشارة إلى قصة الجويني والهمذاني - مع بعض مصادرها - في ترجمة الجويني (ص:619) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1236 ورجع عن ذلك لما تبين له أن اعتقاده يخالف فطرته، ثم بينت له فساد هذا القول، فتاب من ذلك، ورجع إلى قول المسلمين المستقر في فطرهم" (1) . أما أقوال السلف في هذا الباب فكثيرة جدا، وسترد الإشارة إليها عند الرد على زعم الرازي أنه لم يقل بالجهة سوى الحنابلة والكرامية. ثالثاً: حج النفاة واعترضاتهم، والرد عليها: ليس النفاة العلو دليل نقلي واحد على ما يدعونه، سوى أثر مكذوب رواه ابن عساكر فيما أملاه في نفي الجهة عن شيخه ابن عبد الله العوسجي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الذي أين الأين فلا يقال له: أين"، وقد حكم شيخ الإسلام بأنه مكذوب، وكثيرا ما يشير إليه باسم: حديث عوسجة (2) . ولما لم يكن للنفادة دليل من الكتاب والسنة عولوا على ما زعموه من أدلة العقل، والاعتراض على أدلة السلف المثبتة له. ومجمل أدلة النفاة هي: 1- حججهم العقلية المعروفة مثل: التجسيم، والتركيب، والانقسام، والتجزء والتناهي، والتحيز، حيث قالوا: هذه لازمة لمن قال بالجهة والله منزه عنها. 2- اعترضوا على أدلة السمع كلها بأنها معارضة بالعقل، والعقل عندهم مقدم على النقل عند التعارض. 3- أما دليل أن كل موجودين لا بد أ، يكون أحدهما داخلا في الآخر أو بائنه منه، وأنه لا يجوز أن يكون لا داخلا ولا بائنا - فقد اعترضوا عليه بأن هذا من حكم الوهم والخيال، وإلا فالقسم الثالث صحيح في القسمة العقلية، واستدلوا عليه بوجود العقول والكليات المطلقة.   (1) درء التعارض (6/243-244) . (2) انظر: درء التعارض (5/225،6/5) ، والتسعينية (ص:263) ، ونقض التأسيس - مطبوع - (1/571) ، ولم أجد هذا الحديث الموضوع، ولعله لم يرد إلا في كتاب ابن عساكر في نفي الجهة كما أشار شيخ الإسلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1237 4- أنه لو كان بدهياً لامتنع اتفاق الجمع العظيم على إنكاره وهم من سوى الحنابلة والكرامية. 5- أما التوجه عند الدعاء إلى العلو فلأن السماء قبلة الدعاء وهو منقوض بوضع الجبهة على الأرض. 6- كما اعترضوا بكون العالم كرة، ولا فرق بين الفوق والتحت. وقد ناقش شيخ الإسلام ذلك كما يلي: 1- أما حججهم التي ذكروها من لزوم التجسيم والتركيب والتناهي والتحيز وغيرها فقد سبق الجواب عنها، وبيان ما فيها من الإجمال وذلك في المسألة الأول ضمن مسائل هذا المبحث، وقد استقصى شيخ الإسلام حججهم هذه كما ذكرها الرازي في كتابين من كتبه هما: الأربعين، وأساس التقديسن ورد عليها كلها في منهجه المعروف من حكاية الأقوال، ثم مناقشتها وبيان تناقض الخصوم، وردود بعضهم على بعض. وإذا تبين بطلان هذه الحجج - التي سموها براهين - وجب الرجوع إلى ما يدل عليه السمع والعقل (1) . 2- أما اعتراضه على أدلة السمع المثبتة بأنها معارضة بالأدلة العقلية، فهذه أيضاً سبق تفصيلها في المنهج العام في الرد عى الأشاعرة وقد أفرد شيخ الإسلام مسألة العلو - وبين كيف عارض الرازي أدلتها النقلية بأدلة العقول - ثم رد عليه من وجوه عديدة منها: ?- أن القول بأن الله فوق العالم معلوم بالإضطرار من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، كالعلم بالأكل والشرب في الجنة، والعلم بإرسال الرسل   (1) انظر: أساس التقديس للرازي (ص:45-61) ط الحلبي، والأربعين للرازي (ص:106-113) ، وانظر: الرد على هذه الحجج مستوفي في درء التعارض (6/289-344) ، ونقض التأسيس - مطبوع - (2/45-319) . وقد ذكر في الأرعين ست حجج، وفي أساس التقديس ثمانية براهين، وقد رد شيخ الإسلام على كل واحد منها من وجوه عديدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1238 وإنزال الكتب، ونصوص العلو متواترة مستفيضة وثبتها أعظم من ثبوت كثير مما يقر به هؤلاء كأحاديث الرجم، والشفاعة، الحوض، والميزان، والشفاع، وسجود السهود وغيرها (1) . ?- أن نصوص العلو صريحة لا تقبل التأويل، بل التأويلات في ذلك من جنس تأويلات القرامطة والباطنية وهي معلومة الفساد ضرورة (2) . ?- "أن يقال: لا نسلم أنه عارض ذلك عقلي أصلا، بل العقليات التي عارضتها هذه السمعيات هي من جنس شبه السوفسطائية التي هي أوهام وخيالات غير مطابقة، وكل من قالها لم يخل من أن يكون مقلدا لغيره، أو ظانا ي نفسه، وإلا فمن رجع في مقدماتها إلى الفطر السليمة واعتبر تأليفها، لم يجد فيما يعارض السمعيات برهانا مؤلفا من مقدمات يقينية تأليفا صحيحاً. جمهور من تجده يعارض با أو يعتمد عليها، إذا بينت له فسادها وما فيها من الاشتباه والإلتباس، قال: هذه قالها فلان وفلان، وكانوا فضلاء، فكيف خفى عليهم مثل هذا؟ فينتهون بعد إعراضهم عن كلام المعصوم الذي لا ينطبق عن الهوى، وإجماع السلف الذين لا يجتمعون على ضلالة، ومخالفة عقول بني آدم التي فطرهم الله عليها - إلى تقليد رجال يقولون: إن هذه القضايا عقلية برهانية، وقد خالفهم في ذلك رجال آخرون من جنسهم، مثلهم وأكثر منهم ... " (3) . ثم ذكر بقية الأوجه (4) . والقول بتقديم العقل على السمع من أصول البلاي التي بلي بها أهل الكلام، حيث أصبحت عندهم كالخرج عندما يضايقهم أئمة السنة بالنصوص.   (1) انظر: ردء التعارض (7/26-27) . (2) انظر: المصدر السابق (7/37) . (3) انظر: درء التعارض (7/37-38) ، وانظر: بقية المناقشة وهي مهمة جداًز (4) انظر: المصدر السابق (7/39، 41، 130، 131، 134، 137) . وانظر أيضاً: القاعدة المراكشية (ص:43-44) ط دار طيبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1239 3- أما زعمهم أن دليل العقل والفطرة إنما هو من حكم الوهم والخيال وأن حكم الوهم والخيال إنما يقبل في الحسيات لا في العقليات ثم استشهادهم بالكليات والبنفوس - فقد أجاب عنه شيخ الإسلام في مناسبات مختلفة، ومن دوده عليهم قوله بأن هذا باطل من وجوه: أحدها: أنه إذا جاز أن يكون في الفطرة حكمان بديهان، أحدهما مقبول والآخر مردود، كان هذا قدحا في مبادي العلوم كلها، وحينئذ لا يوثق بحكم البديهة. الثاني: أنه إذا جوز ذلك، فالتمييز بني النوعين: إما أن يكون بقضايا بديهية، أو نظرية مبنية على البديهة، وكلاهما باطل ... فإذا جاز أن تكون البديهيات مشتبهة: فيها حق وباطل، كانت النظريات المبنية عليها أولى بذلك، وحينئذ فلا يبقى علم يعرف به حق وباطل، وهذا جامع كل سفسطة ... الثالث: أن قول القائل: إن الوهم يسلم للعقل قضايا بديهية تستلزم إثبات وجود موجود، تمتنع الإشارة الحسية إليه - ممنوع. الرابع: أنه بتقدير التسليم تكون المقدمة جدية؛ فإن الوهم إذا سلم للعقل مقدمة، لم ينتفع العقل بتلك القضية، إلا أن تكون معلومة له بالبديهية الصحيحة، فإذا لم يكن له سبيل إلى هذا انسدت المعارف على العقل، وكان تسليما لوهم إنما يجعل القضية جدلية لا برهانية. وهذا وحده لا ينفع في العلوم البرهانية العقلية. الخامس: أن قول القائل: إن حكم الوهم والخيال إنما يقبل في الحسيات دون العقليات، إنما يصح إذا ثبت أن في الخارج موجودات لا يمكن أن تعرف بالحس بوجه من الوجوه، وهذا إنما يثبت إذا ثبت أن في الوجود الخارجي مالا يمكن الإشارة الحسية إليه. وهذا أول المسألة فإن المثبتين يقولون: ليس في الوجود الخارجي إلا ما يمكن الإشارة الحسية إليه، أو لا يعقل موجود في الخارج إلا كذلك ... السادس: أن يقال: إن أردتم بالعقليات ما يقوم بالقلب منا لعلوم العقلية الكلية ونحوها، فليس الكلام هنا في هذه، ونحن لا نقبل مجرد حكم الحس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1240 ولا الخيال في مثل هذه العلوم الكلية العقلية، وأن أردتم بالعقليات موجودات خارجة، لا يمكن الإشارة الحسية إليها، فلم قلتم: إن هذا موجود؟ فالنزاع في هذا، ونحن نقول: إن بطلان هذا معلوم بالبديهة" (1) ... إلى آخر الأوجه (2) . ويلاحظ أن شيخ الإسلام بدأ من الوجه الخامس يناقش المسألة التي اعتم عليها الرازي - ومن وافقه - في هذا الباب، حيث اتبعوا ابن سينا وغيره من الفلاسفة في مسألة الكليات الذهنية التي زعموا أنها موجودة في الخارج. وهذه من المسائل التي تخبط بسببها المتكلمون في كثير من قضايا العقيدة ودلائلها. وهي من الباطل الذي لا حقيقة له، إذ ليس ما في الأذهان يكون موجودا في الأعيان، وهذه الكليات المطلقة توجد مطلقة في الأذهان فقط، أما في الأعيان فلا توجد إلا مقيدة، وقد سبقت الإشارة إلى هذا. ولما تكلم شيخ الإسلام عن هذه المسألة - في موضع آخر - ضرب مثالا عليه في مسألة العلو عند هؤلاء النفاة، فقال: "ولكن طائفة من أهل الجدل والحكمة السوفسطائية، يستدلون على إمكان الشيء في الخارج بإمكانه في الذهن، كما يوجد مثل ذلك في كلام كثير من أهل الكلام والفلسفة. والرازي والآمدي ونحوهما يستعملون ذلك كثيراً، كاستدلال الرازي وغيره على إمكان وجود موجود لا مباين للعالم ولا مجانب بأن يقولوا: القسمة العقلية تقتضي أن كل موجود فإما مباين لغيره أو مجانب له، وإما لا مباين ولا مجانب، أو كل موجود فإما داخل في غيره وإما خارج عنه وإما لا داخل ولا خارج. ويجعلون مثل هذا التقسيم دليلا على إمكان كل من الأقسام في الخارج، وقد يسمون ذلك برهانا عقليا، وهو من أفسد الكلام ... " (3) .   (1) درء التعارض (6/15-17) . (2) انظر: المصدر السابق (6/17-18) . (3) المصدر نفسه (3/365-366) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1241 ومثل هذا احتجاجهم بأن الفلاسفة وطائفة من المتكلمين من المعتزلة والشيعة والأشعرية - أثبتوا النفس، وقالوا: إنها لا داخل البدن ولا خارجه، ولا مباينة له ولا حالة فيه. وبطلان هذا مثل بطلان وجود الكليات في الخارج (1) . وكثيرا ما يختلط الأمر عند هؤلاء فيظنون أن الفرق بين الغيب والشهادة هو الفرق بين المحسوس وبينا لمعقول، وهذا أحد مداخل ملاحدة الباطنية والصوفية وغيرهم. والحق أن الغيب ليس غير المحسوس بل الغيب يمكن إحساسهس، والله تعالى أعظم الغيب وهو يرى (2) . وأكبر دليل على فساد ما زعمه هؤلاء من صحة قولهم بإمكان موجود لا مباين ولا محايث، أو لا داخل العالم ولا خارجه - أنهم عجزوا عن الرد على الحلولية من النصارى والصوفية، وقد أفرد شيخ الإسلام لبيان ذلك فضلا طويلا (3) ، ومما قاله: "ولهذا كان الحلولية والإتحادية منهم، الذين يقولون: إنه في كل مكان، يحتجون على النفاة منهم الذين يقولون: ليس مباينا للعالم ولا مداخلا له، بأن قد اتفقنا على أنه ليس فوق العالم، وإذا ثبت ذلك تعين مداخلته للعالم: إما أن يكون وجوده وجود العالم، أو يحل في العالم، أو يتحد به، كما قد عرف من مقالاتهم. والذين أنكروا الحلول والاتحاد من الجهمية، ليست لهم على هؤلاء حجة إلا من جنس حجة المثبة عليهم، وهو قول المثبتة: إن ما لا يكون لا مداخلا ولا مباينا، غير موجود، فإن أقروا بصحة هذه الحجة بطل قولهم، وإن لم يقروا بصحتها أمكن إخوانهم الجهمية الحلولية أن لا يقروا بصحة حجتهم، إذ هما من جنس واحد" (4) ، ثم ذكر شيخ الإسلام نموذجا على ذلك، وهو رد الرازي على حلولية النصارى، حيث علق شيخ الإسلام بعد نقل كلام الرازي   (1) انظر: درء التعارض (6/161) ، وانظر: مجموع الفتاوى (5/292-295) . (2) انظر: المصدر السابق (5/171-173) ، وانظر: مناقشة أخرى مطولة ومهمة في نقض التأسيس - مطبوع - (2/502-588) . (3) انظر: درء التعارض (6/137-186) . (4) المصدر السابق (6/148-149) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1242 في الرد عليهم (1) بقوله: "قلت ما ذكره الرازي من إبطال الحلو بإلزام النصارى كلام صحيح، لكن هذا إنما يستقيم على قول أهل الإثبات المثبتين لمباينته للعالم، فأما على قول الجهمية للنفاة فلا تستقيم هذه الحجة ... " (2) .ط وذلك أنه يلزم من تجويز إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه تجويز قول الحلولية، ولا يمكن أن يوجد في النفاة من يرد على الحلولية ردا مستقيما، بل إن لم يوافقهم كان معهم بمنزلة المخنث - كما يعبر شيخ الإسلام (3) . وقد سبقت الإشارة إلى ما بين هذين المذهبين - النفاة والحلولية - من توافق، إلى حد أن الواحد منهم قد يتلبس بالمذهبين في وقت واحد، حسب حالته. وكثير من النفاة يعظم ملاحدة الصوفية كابن عربي وابن سبعين وابن الفارض، بل إن أحد أفضل المتكلمين من نفاة العلو "يعتقد في مثل هذا أنه كان من أفضل أهل الأرض، أو أفضلهم ويأخذ ورقة فيها سر مذهيه، يرقي بها المرضي، كما يرقي المسلمون بفاتحة الكتاب، كما أخبرنا بذلك الثقاة، وهم يقدمون تلك الرقية على فاتحة الكتاب ... " (4) . ويركز شيخ الإسلام على أن هؤلاء جميعا ينطلقون من تلك المناظرة المشهورة التي جرت بين الجهموالسمنية وقد ذكرها الإمام أحمد (5) ، فالجهم لما احتج عليهم بالروح أن الروح لا ترى ولا تسمع ولا تحس ولا تجس، طبق ذلك على الله تعالى، فقال: وكذلك هو موجود ولا يرى ولا يسمع ولا يوصف بصفة. ومن هذه المناظرة انطق المبطلون: - نفاة الأسماء والصفات من الجهمية وغيرهم.   (1) انظر: المصدر السابق (6/149-151) . (2) المصدر نفسه (6/151) . (3) انظر: المصدر نفسه (6/173) . (4) المصدر نفسه (6/170) . (5) الرد على الزنادقة (ص:64-67) - ضمن عقائد السلف، وخلاصتها أن جماعة من السمنية أرادوا أن يناظروا الجهم - وكان مشهورا بالخصومات والكلام - فاحتجوا عليه بأنه إذا لم يرد إلهه ولم يسمعه ولم يشمه ولم يسحه - فهو غير موجود. فتحير الجهم وبقى أربعين يوما لا يدري من يعبد، ثم استدرك حجة النصارى في عيسى فأخذها، ورد على السمنية بالروح وأنها لا ترى ولا تسمع ولا تشم ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1243 - ونفاة العلو القائلون بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه. - والحلولية بأن الله في كل مكن. فصاروا ينطلقون مما انطلق منهم الجهم، والذين تفلسفوا كالرازي وغيره اعتمدوا على مثل هذا تماما وذلك حين احتجوا بالكليات التي لا توجد إلا في الأذهان، وبالنفوس المفارقة التي قال بها الفلاسفة وغيرهم. وهذا يبين ما بين أهل الباطل من ترابط، وكيف يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا. وقد بين شيخ الإسلام الجواب الصحيح لهؤلاء السمنية، وكيف عدل الجهم عن ذلك، وشبه حجته بحجة الرازي على نفي العلو واحتجاجه بما يقوله الفلاسفة في المعقول والنفوس (1) . وكثيرا ما يعتمد هؤلاء المتكلمون على شبه الفلاسفة (2) . 4- أما دعوى أنه لو كان بديهيا لامتنع اتفاق الجمع العظيم على إنكاره، وهم من سوى الحنابلة والكرامية، فجابه من وجوه: أحدها: أن العكس هو الصحيح، فإن أمم الأرض جميعا يقولون بأن الله فوق العالم، والذين خالفوا ذلك فئات قليلة من الفلاسفة والجهمية والمعتزلة والأشاعرة، تلقاه بعضهم عن بعض تقليداً. ومسألة العلو ليست من المسائل الصغيرة - التي قد تعرفها أمة أو أتباع نبي دون غيرهم - بل هي من المسائل الكبار المتعلقة بأصل التوحيد وهي مما ينفصل فيه أهل الإيمان عن الإلحاد، ولذلك اتفق الأنبياء جميعا عليها كما اتفقوا على التوحيد (3) . ولتواتر النصوص الواردة في إثبات العلو لم يستطع - الأشاعرة المتأخرون   (1) انظر: نقض التأسيس - مطبوع - (1/318-325) ، ودرء التعارض (5/165-175) ، والتسعينية (ص:32-39) . (2) انظر: مثالا على ذلك في نقض التأسيس - مطبوع - (1/103-121) . (3) انظر: المصدر السابق (2/9) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1244 - ولا غيرهم - إنكارها أو معارضتها، وإنما صاروا يعبرون عن المعاني التي يريدونها من نفي العلو بعبارات ابتدعوها، ويكون فيها اشتباه وإجمال، مثل أن يقولوا: إن الله ليس بمتحيز ولا في جهة، وغيرها من العبارات المحتملة للحق والباطل، وهم قصدوا بها رد الحق (1) . ولو كانت دعواهم كما صورها الرازي أنه لم يخالف فيها إلا الحنابلة والكرامية لما تدسسوا إلى آرائهم وأقوالهم بمثل هذه الأساليب حين يتعاملون مع مئات النصوص الواردة المثبتة للعلو. وقد رد شيخ الإسلام على هذه الدعوى بنقل النصوص العديدة لعشرات الأئمة والعلماء من السلف وممن جاء بعدهم من مختلف الطوائف" من الفقهاء: المالكية، والشافعية، والحنفية، والحنبلية، والظاهرية، وأهل الحديث، والصوفية والشيعة وأهل الكلام والفلسفة غيرهم. فكيف يقال مع هذا إنه لم يقل بالعلو إلا الحنابلة والكرامية؟. ومن هؤلاء الأئمة الذين أثبتوا العلو ونقلت أقوالهم: عبد الله بن المبارك، وربيعة، والإمام مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو حنيفة، والبخاري، والفضيل ابن عياض، وسليمان بن حرب، وابن خزيمة، والصابوني، والحاكم، وابن عبد البر، وابن أبي زمنين، وأبو نصر السجزي، وأبو عمر الطلمنكي، ونصر المقدسي، وأبو نعيم الأصبهاني، وأبو أحمد الكرخي، وأبو محمد المقدسي، وابن أبي حاتم، والخلال، وعبد الله بن الإمام أحمد، والقرطبي، والبيهقي، وابن رشد، وغيرهم كثير جداً، وأقوالهم ونصوصهم مدونية يثبتون فيها هذه الصفة ويردون على من تأولها (2) . فكيف يدعي الرازي أنه لم يثبت العلو سوى الحنابلة والكرامية؟. الثاني: أن من المخالفين للرازي - ولمتأخري الأشعرية كالجويني والغزالي، والآمدي - شيوخهم المتقدمين من أئمة الأشاعرة، كابن كلاب، والقلانسي،   (1) انظر: المصدر السابق (2/12-13) . (2) انظر: أقوال هؤلاء في درء التعارض (6/78-82، 212-226، 250-267) ، ومجموع الفتاوى (5/136-143، 175-183، 256-261، 314-317) ، والقاعدة المراكشية (ص:55-57، 62-79) ط دار طيبة، ونقض التأسيس - مطبوع - (2/35-45) - مخطوط - (1/61-65) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1245 والمحاسبي، وأبي الحسن الأشعري، وتلاميذه كابن مجاهد، وأبي الحسن الطبري، والباقلاني، وابن فورك - في أحد قوليه - والقاضي أبي يعلي، والقرطبي، والخطابي، وغيرهم ممن جاءت نصوصهم صريحة واضحة في إثبات العلو والرد على الجهمية (1) . فهؤلاء المتأخرون النفاة من الأشاعرة مخالفون لأقوال شيوخهم، وقد علق شيخ الإسلام على ذلك - بعد نقله أقوال أولئك في إثبات العلو وغيره من الصفات - بقوله: "فإذا كان قول ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابه، وهو الذي ذكروا أنه اتفق عليه سلف الأمة وأهل السنة، أن الله فوق العرش، وأن له وجها ويدين، وتقرير ما ورد في النصوص الدالة على أنه فوق العرش، وأ، تأويل (استوى) بمعنى استولى هو تأويل المطلين ونحو ذلك - علم أن هذا الرازي ونحوه هم مخالفون لأئمتهم في ذلك، وأن الذي نصره ليس هو قول ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابه، وإنما هو صريح قول الجهمية والمعتزلة ونحوهم، وإن كن قد قاله بعض متأخري الأشعرية كأبي المعالي ونحوه" (2) . الثالث: "أن يقال حول قوله باتفاق الجمع العظيم على إنكار العلو - "لم يطبق على ذلك إلا من أخذه بعضهم عن بعض، كما أخذ النصارى دينهم بعضهم عن بعض، وكذلك اليهود والرافضة وغيرهم. فأما أهل الفطر التي لم تغير فلا ينكرون هذا العلم، وإذا كان كذلك فأهل المذاهب الموروثة لا يمتنع أطباقهم على جحد العلوم البديهية، فإنه ما من طائفة من طوائف الضلال - وإن كثرت - إلا وهي مجتمعة على جحد بعض العلوم الضرورية" (3) .   (1) انظر نصوص أقوالهم في: درء التعارض (2/12-13، 6/119-134، 193-212، 242-243) ، ومجموع الفتاوى (5/152، 13/174، ذ6/89-91) ، ومنهاج السنة (2/251-252) ط دار العروبة - المحققة - ونقض التأسيس - مطبوع - (1/127، 2/14-35، 433-439) ، - مخطوط - (1/55-82، 2/109-111، 181-182) ، وغيرها كثير جداً. (2) نقض التأسيس - مطبوع - (2/35) . (3) درء التعارض (6/267-268) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1246 أم دعوى التواطؤ فمردودة بأن الفطر التي لم تتواطأ يمتنع اتفاقها على جحد ما يعلم بالبديهة، قد يوافق بعض الناس - أو بعض عامتهم - على إنكار الجهة والتحيز والمكان، حين يقصد بنفيها ما هو معنى صحيح مثل نفي أن الله محصور في خلقه، أو مفتقر إلى مخلوق، إلى غير ذلك من المعاني التي يجب نفيها عن الله تعالى. أما لو قصد بذلك أن الله ليس فوق السموات، وأنه ليس وراء العالم إله موجود، فهذا لا يوافق عليه أحد بفطرته، وإنما يوافق عليه من قامت عنده شبهة من شبه النفاة (1) . 5- أما الاعتراض على رفع الأيدي، وأن القلوب مفطورة - عند دعائها ومسألتها - على التوجه إلى الله في العلو - بأن ذلك لأن السماء قبلة للدعاء وأن هذا منقوض بوضع الجبهة على الأرض، أو غير ذلك من التعليلات الهزيلة (2) - فقد أجاب عنه شيخ الإسلام بجواب مفصل، اشتمل على أربعين وجها - وصلت إلينا في الجزء المطبوع من نقض التأسيس - (3) والحمد لله. وقد ركز شيخ الإسلام في هذه الأوجه على بيان أن الاستدلال برفع الأيدي والأبصار إلى السماء عند الدعاء، إنما هو حجة أهل الإثبات من السف والخلف، وأن هؤلاء الأشعري وأئمة أصحابه، وقد نقل شيخ الإسلام كلامهم في ذلك (4) ، فالرازي في الحقيقة إنما يعترض على شيوخه الأشاعرة، وهم باستدلالهم يردون عليه. والإشارة إلى الله في العلو باليد والأصابع أو العين أو الرأس، قد تواترت به السنن عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - (5) . والنهي عن رفع البصر   (1) انظر: درء التعارض (6/271-272) ، وانظر أيضاً (6/191-193) . (2) من ذلك ما زعمه الرازي من الرفع إلى السماء لأن الأنوار تنبعث من جانب السموات، أو لأن الحياة متوقفة على الهواء وهو دائما فوق الأرض. أو لأن الغيث ينزل من السماء. انظر: أساس التقديس (ص:76-77) . وهي تعليلات هزيلة جداً ومع ذلك فقد ناقشها شيخ الإسلام ضمن غيرها في الأوجه الأربعين التي ذكرها. (3) (2/431-502) . (4) انظر: نقض التأسيس - مطبوع - (2/433-439) . (5) انظر: المصدر السابق (2/439-445) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1247 في الصلاة لأنه من باب الخشوع الذي أثنى الله على أهله، ولو كان الله ليس فوق، بل هو في السفل كما هو في الفوق لم يكن رفع البصر إلى السماء ينافي الخشوع، بل كان يكون بمنزلة خفضها (1) . والناس على اختلاف عقائدهم وأديانهم يشيرون عند الدعاء إلى السماء لأن هذا شيء يجدونه في فطرهم (2) . ودعوى أن السماء قبلة للدعاء كالكعبة قبلة للصلاة، باطل معلوم بالاضطرار بطلانه من وجوه: منها أن المسلمين مجمعون على أن قبلة الداعي هي قبلة الصلاة، ومنها: أن كون السماء أو العرش قبلة لا يثبت بغير الشرع، وليس في النصوص أي دليل على ذلك، ومنها أن القبلة أمر يدخله النسخ، ولذلك تحولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، ولو كانت القبلة هي العرش أو السماء لجاز تغييرها وتبديلها، ولجاز أن يدعو الإنسان ربه إلى سائر الجهات، وهذا فضلا عن أنه باطل، فإن العباد مفطورون على أن لا يتوجهوا إلا إلى جهة العلو. ومنها: أن القبلة ما يستقبله الإنسان بوجهه، أما ما يرفع الإنسان إليه يده أو رأسه أو بصره، فهذا باتفاق الناس لا يسمى قبلة، ومعلوم أن مستقبل القبلة يستدبر ما يقابلها، أما الداعي فإنه لا يكون مستقبلا للسماء مستدبرا للأرض، بل يكون مستقبلا لبعض الجهات. إلى غيرها من الأوجه (3) . ووضع الجبهة على الأرض يفعله الناس لكل ما يعظمونه، ولهذا يسجد المشركون لأصنامهم. وهذا بين (4) . فتبين من هذه الأوجه وغيرها سلامة احتجاج السلف على العلو بما فطر الناس عليه من رفع أيديهم إلى السماء عند الدعاء والحاجة.   (1) انظر: نقض التأسيس - مطبوع - (3/445) ، وانظر الرسالة العرشية - مجموع الفتاوى - (5/576-580) . (2) انظر: نقض التأسيس - مطبوع - (2/446-447) . (3) انظر: المصدر السابق (2/452-464) . (4) انظر مناقشة ذلك من خمسة أوجه في الدرء (7/21-25) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1248 6- أما اعتراضهم بأن العالم كرة، وأن الله إذا كان في جهة فوق لكان أسفل بالنسبة لسكان الوجه الآخر. فشيخ الإسلام لا ينازع في استدارة الفلك - كما قد ينازع فيه بعض الجهال (1) -، وقد أجاب عن هذا الاعتراض بعدة أوجه: منها: أن القائلين بأن العالم كرة يقولون أن السماء عالية على الأرض من جميع الجهات، والأرض تحتها من جميع الجهات. والجهات قسمان: حقيقية: ولها جهتان العلو والسفل فقط، فالأفلاك وما فوقها هو العالي مطلقا، وما في جوفها هو السافل مطلقا. وإضافية: وهي الجهات الست بالنسبة للحيوان، فما حاذى رأسه كان فوقه وما حاذى رجليه فهو تحته، وما حاذى جهته اليمنى كان عن يمينه. وهكذا. ويتضح الفرق بينهما فيما لو علق رجل، فجعلت رجلاه إلى أعلى، ورأسه إلى أسفل، فبالنسبة للجهة الحقيقية لم يتغير عليه شيء إذ لا تزال السماء فوقه والأرض تحته، أما بالنسبة للإضافية فإن الأرض فوق رأسه (2) . "وإذا كان كذلك فالملائكة الذين في الأفلاك من جميع الجوانب، هم باعتبار الحقيقة، كلهم فوق الأرض، وليس بعضهم تحت بعض، ولا هم تحت شيء من الأرض، أي الذين في ناحية الشمال ليسوا تحت الذين في ناحية الجنوب وكذلك من كان في ناحية برج السرطان ليس تحت من كان في ناحية برج العقرب وإن كان بعض جوانب السماء تلي رؤوسنا تارة وأرجلنا أخرى، وإن كان فلك الشمس فوق القمر، وكذلك السحاب، وطير الهواء، هو مع جميع الجوانب فوق الأرض وتحت السماء، ليس شيء منه تحت الأرض، ولا من في هذا الجانب تحت من في هذا الجانب ... [ف-] علم أنه لا يلزم من كون الخالق فوق السماوات،   (1) انظر: نقض التأسيس - مطبوع - (2/215) . (2) انظر: درء التعارض (6/327-328) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1249 أن يكون تحت شيء من المخلوقات، وكأن من احتج بمثل هذه الحجة إنما احتج بالخيال الباطل الذي لا حقيقة له ... " (1) . "وإذا كانت المخلوقات التي في الأفلاك والهواء والأرض لا يلزم من علوها على ما تحتها أن تكون تحت ما في الجانب الآخر من العالم، فالعلي - سبحانه - أولى أن لا يلزم من علوه على العالم أن يكون تحت شيء منه" (2) . وقد سبق - عند ذكر أدلة أهل السنة العقلية على العلو - أن كون العالم كرة من أدلة العلو. ومنها: أنه لا يسلم لزوم السفول، وإن سلم لزومه فلا بد من دليل ينفي به ذلك، ولا يلزم من ذلك نقص، لأن الأفلاك موصوفة بالعلو على الأرض - مع لزوم ما ذكر من السفول تحت سكان الوجه الآخر - وليس ذلك نقصا فيها. وإذا كان هذا في المخلوقات فالخالق أولى أن يتنزه عنه حين يوصف بالعلو عليها كلها (3) . أما دعوى أنه يلزم أن يكون الله فلكا محيطا بالعالم حتى يكون عاليا عليه فيقال: "على هذا التقدير إذا كان محيطا لم يكن سافلا البتة، بل يكون عاليا، وعلى هذا فإذا كان هوا لظاهر الذي ليس فوقه شيء، وهو الباطن الذي ليس دونه شيء، ولو أدلى المدلي بحبل لهبط عليه - كان محيطا بالعالم عاليا عليه مطلقا ولم يلزم من ذلك أن يكون فلكا ولا مشابها للفلك، فإن الواحد من المخلوقات تحيط قبضته بما في يده من جميع جوانبها، وليس شكلها شكل يده، بل ولا شكل يده شكلها" (4) . ثم إن العلو لا يشترط فيه الإحاطة، وإن كانت الإحاطة لا تناقضه والناس يعلمون أن الله فوق العالم، وإن لم يعلموا أنه محيط به، وإذا علموا أنه محيط به لم يكن ذلك ممتنعاً عندهم.   (1) درء التعارض (6/328-329) بتصرف يسير. (2) المصدر السابق (6/330) . (3) انظر: المصدر نفسه (6/330-333) . (4) المصدر نفسه (6/335) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1250 و"الله تعالى ليس مثل فلك من الأفلاك، ولا يلزم إذا كان فوق العالم ومحيطا به أ، يكون مثل فلك، فإنه العظيم الذي لا أعظم منه" (1) . "والمقصود: أنه إذا كان الله أعظم وأكبر وأجل من أن يقدر العباد قدره، أو تدركه أبصارهم، أو يحيطون به علما، وأمكن أن تكون السموات والأرض في قبضته لم يجب - والحال هذه - أن يكون تحت العالم، أو تحت شيء منه، فإن الواحد من الآدميين إذا قبض قبضة أو بندقة أو حمصة أو حبة خردل وأحاط بها يغر ذلك، لم يجز أن يقال: إن أحد جانبيها فوقه، لكون يده لما أحاطت بها كان منها الجانب الأسفل يلي يده من جهة سفلها، ولو قدر من جعلها فوق بعضه بهذا الاعتبار، لم يكن هذا صفة نقص، بل صفة كمال. وكذلك أمثال ذلك من إحاطة المخلوق ببعض المخلوقات، كإحاطة الإنسان بما في جوفه، وإحاطة البيت بما فيه، وإحاطة السماء فيها من الشمس والقمر والكواكب، فإذا كانت هذه المحيطات لا يجوز أن يقال: إنها تحت المحاط وإن ذلك نقص، مع كون المحيط يحيط به غيره - فالعلي الأعلى المحيط بكل شيء، الذي تكون الأرض جميعا قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه، كيف يجب أن يكون تحت شيء مما هو عال عليه أو محيط به، ويكون ذلك نقصا ممتنعا؟ " (2) . والخلاصة: 1- أن كون العالم كرة دليل على العلو، لأنه ليس هناك إلا علو مطلق أو سفل، وهو مركز الأرض، وهذا بالنسبة لجميع سكن الأرض، وإذا ثبت أن الله بائن من خلقه فهو في جهة العلو مطلقا. 2- أن الأرض والسموات إذا كان الله يقبضها بيده، فتصور أن يكون تحت شيء منها تصور فاسد، لم يقدر صاحبه ربه حق قدره. فكل ما يفترضه   (1) درء التعارض (6/339) . (2) المصدر السابق (6/39-340) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1251 المفترض من لزوم أن يكون الله محيطا بالمخلوقات، أو أنه فلك، أو غير ذلك من التصورات فهي إما تصورات فاسدة، كتصور أنه فلك أو أنه لا يلزم منها نقض ينافي مال ربوبية الله تعالى ككون الله تعالى محيطا بخلقه. ولشيخ الإسلام في ذلك مناقشات مطلولة بين من خلالها أن ثبوت العلو الذي جاءت به النصوص وفطرت عليه العقول - لا يلزم منه شيء من هذه اللوازم التي ذكرها نفاته (1) . ومن ذلك أن لقائل أن يقول: ما فائدة أن يتوجه الإنسان عند الدعاء إلى العلو، ولما لا يتجه إلى إحدى الجهات الأخرى من يمين أو شمال ما دامت نهايتها العلو نفسه؟ يقول شيخ الإسلام - بعد توضيحه لبعض الأمور: "وإذا كان مطلوب أحدهما ما فوق الفلك لم يطلبه إلا من الجهة العليا، لم يطلبه من جهة رجليه أو يمينه أو يساره لوجهين: أحدهما: أن مطلوبه من الجهة العليا أقرب إليه من جميع الجهات، فلو قدر رجل أو ملك يصعد إلى السماء أو إلى ما فوق، كان صعوده مما يلي رأسه أقرب إذا أمكنه ذلك، ولا يقول عاقل: إنه يخرق الأرض ثم يصعد من تلك الناحية، ... الوجه الثاني: أنه إذا قصد السفل بلا علو كان ينتهي قصده إلى المركز، وإن قصده أمامه أو وراءه أو يمينه أو يساره من غير قصد العلو كان منتهى قصده أجزاء الهواء، فلا بد له من قصد العلو ضرورة، سواء قصد مع ذلك هذه الجهات أو لم يقصدها، ولو فرض أنه قال: أقصده من اليمين مع العلو، أو من السفل مع العلو، كان هذا بمنزلة من يقول: أريد أن أحج من المغرب، فأذهب إلى خراسان ثم أذهب إلى مكة ... " (2) .   (1) انظر: درء التعارض (6/326-340) ، ونقض التأسيس - مطبوع - (2/211-230) ، ورسالة في الهلال - مجموع الفتاوى - (25/196-197) . (2) الرسالة العرشية، مجموع الفتاوى (6/568-569) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1252 المسألة السادسة: كلام الله : يعتبر مذهب ابن كلاب وأبي الحسن الأشعري وأتباعهم في كلام الله من المذاهب الجديدة التي لم يسبقوا إليها، ولذلك أصبحت هذه المسألة هي أخص مذهب الأشعري التي يكون الرجل بها مختصا بكونه أشعريا، أما سائر المسائل فليس لابن كلاب أو الأشعري بها اختصاص "بل ما قالا، قاله غيرهما، إما من أهل السنة والحديث، وإما من غيرهم، بخلاف ما قاله ابن كلاب في مسألة الكلام، وأتبعه عليه الأشعري، فإنه لم يسبق ابن كلاب إلى ذلك أحد، ولا وافقه عليه أحد من رؤوس الطوائف" (1) . وهي مسألة مرتبطة ارتباطا وثيقا بمسألة الصفات الاختيارية، وقيامها بالله تعالى، بل مسألة الكلام إحدى أصولها الكبار. وقبل عرض مذهب الأشاعرة فيه (2) ، ومنهج شيخ الإسلام في مناقشاته لهم، لا بد - لكي تتضح الصورة - من عرض خلاف الطوائف في مسألتين: إحداهما: أقوالهم في مسمى "الكلام" ومن "المتكلم"؟ الثانية: أقوالهم في "كلام الله".   (1) درء التعارض (2/99) ، وانظر التسعينية (ص: 149-288) . (2) انظر في مذهب الأشاعرة في كلام الله ما سبق في فصل تطور المذهب الأشعري، وأقوال أعلامهم فيه، ويمكن الإشارة إلى بعض كتبهم وأقوالهم في كلام الله، انظر: اللمع للأشعري (ص:17-18) ت مكارثي، والرسالة إلى أهل الثغر (ص:70-72) ، والتمهيد للباقلاني (ص:250-251) ت مكارثي، ورسالة الحرة - المطبوعة باسم الاتصاف (ص:80-143) حيث أطال جدا في شرح مذهب الأشاعرة، وانظر: مشكل الحديث لابن فورك (ص:169-192-194، 212-215) ، ط المكتبة العصرية، وأصول الدين للبغدادي (ص:106-108) ، والاعتقاد للبيهقي (ص:94-111) ، والأسماء والصفات له (ص:181-276) ، حيث شرح مذهب الأشاعرة وجمع في ذلك نصوصا كثيرة مع ذكر أقوال السلف، وحاول تأويلهابما لا يعارض مذهب الأشاعرة. وانظر: الإرشاد للجويني (ص:99-137) ، ولمع الأدلة له (ص:89-93) ط الأولى، والاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص:73-83) ط دار الكتب العلمية، ونهاية الأقدام (ص: 268-317) ، والأربعين للرازي (صك173-184) ، وغاية المرام للآمدي (ص:88-120) ، وطوالع الأنوار للبيضاوي (ص:78-79) ، والمواقف للإيجي - مع شروحه - (8/91-104) وغيرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1253 أولاً: الأقوال في مسمى "الكلام" و"المتكلم": والمقصود مسمهما عند الإطلاق، ويلاحظ أن الخلاف في ذلك قد بنت عليه كل طائفة قولها في كلام الله تعالى. والأقوال في مسمى "الكلام" أربعة: 1- قيل هو اسم لمجرد الحروف، ومسماه هو اللفظ، وأما المعنى فليس جزء مسماه؛ بل هو مدلول مسماه، وهذا قول المعتزلة وغيرهم، فعندهم أن الكلام اسم للفظ بشرط دلالته على المعنى. ولذلك قالوا في كلام الله إنه مخلوق منفصل عن الله، لأن الكلام هو الألفاظ والحروف، وهذه لا يجوز أن تقوم بالله فجعلوها مخلوقة منفصلة. 2- وقيل: هو اسم لمجرد المعنى، فمسماه هو المعنى، وإطلاق الكلام على اللفظ والحروف مجاز، لأنه دال عليه، وهذا قول الكلابيةوالأشعرية الذين يقولون إن الكلام هو المعنى المدلول عليه باللفظ. ولقولهم هذا قالوا في كلام الله إنه معنى قائم بالنفس، ليس بحروف ولا أصوات، ثم قالوا عن القرآن المتلو إنه ليس كلام الله، بل هو حكاية أو عبارة عن كلام الله، لأن الكلام عندهم هو المعنى فقط، أما إطلاق اللفظ عليه فمجاز. 3- وقيل: إن الكلام يطلق على كل من اللفظ والمعنى بطريق الاشتراك اللفظي. وهذا قول بعض متأخري الأشعرية لجأوا إليه كمخرج من التناقض الذي وقعوا فيه، ومن هؤلاء الجويني والرازي (1) . ويلاحظ أن التعبير بالمشترك اللفظي لا يقتضي أن يكون بينهما تقارب في المعنى، بل هما يمنزلة المشتري الذي يطلق على الكوكب وعلى المبتاع.   (1) هذا هو القول الثاني للأشاعرة بعد القول السابق، وقد ذكر شيخ الإسلام أن للأشاعرة قولا ثالثا يروى عن أبي الحسن وهو: أن اللفظ مجاز في كلام الله حقيقة في كلام الآدميين، لأن حروف الآدميين تقوم بهم، فلا يكون الكلام قائما بغير المتكلم، بخلاف الكلام القرآني فإنه لا يقوم عنده بالله، فيمتنع أ، يكون كلامه. الإيمان (ص:162) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1254 4- وقيل: إن الكلام يتناول اللفظ والمعنى جميعا، كم يتناول لفظ الإنسان للروح والبدن جميعا، وهذا قول السلف والفقهاء والجمهور الذين يقولون إن الكلام اسم عام لهما جميعا، يتناولها عند الإطلاق وإن كان مع التقييد يراد به هذا تارة، وهذا تارة. ولقول السلف هنا في الكلام قالوا في كلام الله تعالى - من القرآن وغيره مما تكلم به - إنه شامل للفظ والمعنى، وإن القرآن حروفه ومعانيه كلامه الله تعالى (1) . أما أهم الأقوال في من "المتكلم" فثلاثة: 1- أحدها أن المتكلم من فعل الكلام، ولو كان منفصلا عنه، فعله في غيره. وهذا قول المعتزلة والجهمية. وهؤلاء يقولون: هو صفة فعل منفصل عن الموصوف لا صفة ذات. ولذلك أنكروا صفة الكلام الثابتة لله، وقالوا إن كلام الله مخلوق. 2- الثاني: أن المتكلم هو من قام به الكلام، ولو لم يكن بفعله، ولا هو بمشيئته وقدرته، وهذا قول الكلابية والأشعرية والسالمية وغيرهم فهؤلاء يقولون: هو صفة ذات لازمة للموصوف لا تتعلق بمشيئته ولا قدرته. ولذلك قالوا في كلام الله إنه المعنى النفسي القائم بالله، وإن الله لا يتكلم إذا شاء متى شاء، بل كلامه أزلي قائم به كحياته وعلمه. 3- الثالث: أن المتكلم من جمع الوصفين، فقام به الكلام وقدر عليه. فهو من تكلم بفعله ومشيئته وقدرته، وقام به الكلام، وهذا قول السلف وأكثر أهل الحديث وطوائف من المرجئة والكرامية متعلق بمشيئته وقدرته. وهذا مطابق لمذهب السلف في كلام الله (2) .   (1) انظر في هذه الأقوال: الإيمان (ص:162) ط المكتب الإسلامي، ودرء التعارض (2/329، 10/222) ، والاستقامة (1/211) ، ومسألة الأحرف - مجموع الفتاوى - (12/67) ، ومجموع الفتاوى (6/533) . (2) انظر: منهاج السنة (2/294) - ط دار العروبة المحققة، ودرء التعارض (10/222) ، والتسعينية (ص:146) ، وشرح الأصفهانية (ص:67-69) - ت مخلوف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1255 والخلاف في هاتين المسألتين: "الكلام" و"المتكلم" يوضح كيف وقع الخلاف في المسألة الأصل "مسألة كلام الله تعالى". التي وقع فيها خلاف عريض بين الطوائف. ثانياً: الأقوال في "كلام الله": الأقوال في كلام الله على وجه الإجمال ستة أو سبعة، وعلى وجه التفصيل عشرة أو تزيد، وأهم هذه الأقوال: 1- أن كلام الله ليس صفة قائمة به، ولا مخلوقا منفصلا عنه، بل هو ما يفيض على النفوس إما من العقل الفعال أو غيره، حسب نظريتهم في الخلق، حيث إنهم يزعمون أن الله لا تقوم به الصفات، وليس خالقا باختياره، وليس عالما بالجزيئات. وهذا قول الفلاسفة والصائبة ومن وافقهم. وهؤلاء ربما سموا هذا الفيض كلاما بلسان الحال، وربما قالوا: إن الله متكلم مجازا. 2- قول من قد يوافق الفلاسفة في أن كلام الله هو ما يفيض على النفوس من العقل الفعال أو غيره، لكن يقولون إن هذا الفيض يكون للأنبياء والأولياء، ثم إذا غلب عليهم القول بالإتحاد ووحدة الوجود قالوا: كل كلام في الوجود هو كلام الله، سواء نثره ونظامه، حسنه وقبيحه - تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا - وهذا قول غلاة الصوفية وفلاسفتهم (1) . 3- إن كلام الله مخلوق منفصل عنه، خلقه في غيره، وهذا قول المعتزلة والجهمية الذين ينفون أن تقوم بالله صفة من الصفات، لا حياة، ولا علم، ولا قدرة، ولا كلام. 4- إن كلام الله معنى واحد قديم، قائم بذات الله أزلا وأبدا، هو الأمر بكر ما أمر الله به، والنهي عن كل ما نهي الله عنه، والخبر عن كل ما أخبر الله عنه، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة،   (1) لم يفرد شيخ الإسلام مذهب الطائفة بقول مستقل، وإنما جعل مذهبهم مع مذهب الفلاسفة، وكأنه اعتبره حالة تمر على بعض غلاتهم، ولكنه أشار إلى مذهبهم بوضوح في مجموع الفتاوى (6/316) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1256 وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، والأمر والنهي والخبر عندهم ليست أنواعا ينقسم الكلام إليها، وإنما هي صفات إضافية، كما يوصف الشخص الواحد بأنه ابن لزيد، وعم لعمرو، وخال برك. ويقول هؤلاء إن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وكلامه بغير حرف وصوت. وهذا قول ابن كلاب والأشعري ومن اتبعهم. ثم هؤلاء افترقوا: أفمنهم من قال: إنه معنى واحد في الأزل، وإنه في الأزل أمر ونهي وخبر. وهذا قول الأشعري. ب ومنهم من قال: هو عدة معان: الأمر والنهي والخبر والاستخبار. وهذا قول ابن كلاب. ت ومنهم من قال: بل يصير أمراً ونهيا عند وجود المأمور والنهي. وهو قول بعضهم. 5- قول من يوافق الكلابية والأشعرية في أن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته ولكنهم قالوا: القديم هو حروف، أو حروف وأصوات قديمة لازمة لذات الرب أزلا وأبدا، لا يتكلم بها بمشيئته وقدرته، ولا يتكلم بشيء بعد شيء. ولم يفرق هؤلاء بين جنس الحروف وجنس الكلام، وبين عين الحروف الأزلية، بل كله قديم أزلي، وليست الباء قبل السين ولا السين قبل الميم. وهذا قول السالمية ومن اتبعهم كابن الزاغوني وبعض أهل الحديث وغيرهم. ومن هؤلاء من يقول في الحروف: إن الترتيب يكون في ماهيتها لا في وجودها، كما أن من هؤلاء من يقول: إن ما يسمع من أصوات العباد بالقرآن أو بعضه هو الكلام القديم، وقد يصرحون بأنه صوت الله. وهذا أقوال باطلة ظاهرة الفساد. 6- إن الله يتكلم بمشيئته وقدرته بالقرآن العربي وغيره، وكلامه قائم به، لكنه حادث بذات الله، تكلم به بعد أن لم يكن متكلما، قالوا: ولم يكن يمكنه أن يتكلم بمشيئته في الأزل لامتناع حوادث لا أول لها، فيمتنع أن يكون كلامه قديما لامتناع كون المقدور قديما. وهؤلاء يقولون: إن الله يتكلم بحروف وأصوات. وهذا قول الكرامية والهشامية ومن وافقهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1257 7- "قول من يقولك كلامه يرجع إلى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته. ثم من هؤلاء من يقول: لم يزل ذلك حادثا في ذاته، كما يقوله أبو البركات صاحب المعتبر، ومنهم من لا يقول بذلك. وأبو عبد الله الرازي يقول بهذا القول في مثل المطالب العالية". 8- "قول من يقول: كلامه يتضمن معنى قائما بذاته، وهو ما خلقه في غيره، ثم من هؤلاء من يقول في ذلك المعنى بقول ابن كلاب، وهذا قول أبي مصنرو الماتريدي، متشيعهم ومتصوفهم". 9- "قول من يقول: كلام الله مشترك بين المعنى القديم بالذات، وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات. وهذا قول أبي المعالي ومن اتبعه من متأخري الأشعرية" (1) . 10- قول أهل السنة والجماعة: وهو أن الله "لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء، وكيف شاء، بكلام يقوم به، وهو يتكلم بصوت يسمع، وإن نوع الكلام أزلي قديم، وإن لم يجعل نفس الصوت المعين قديما" (2) . فهم يقولون: "إن القرآن جميعه كلام الله، حروفه ومعانيه، ليس شيء من ذلك كلاما لغيره، ولكن أنزله على رسوله، وليس القرآن أسماً لمجرد المعنى، ولا لمجرد الحرف، بل لمجموعهما، وكذلك سائر الكلام ليس هو الحروف فقط، ولا المعاني فقط، كما أن الإنسان المتكلم الناطق ليس هو مجرد الروح، ولا مجرد الجسد، بل مجموعهما وإن الله تعالى يتكلم بصوت كما جاءت به الأحاديث الصحاح، وليس ذلك كأصوات العباد، لا صوت القارئ ولا غيره، وإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فما لا يشبه علمه وقدرته وحياته علم المخلوق وقدرته وحياته، فكذلك لا يشبه كلامه كلام المخلوق، ولا معانيه تشبه معانيه، ولا حروفه يشبه حروفه، ولا صوت الرب يشبه صوت العبد،   (1) منهاج السنة (2/281-282) ط دار العروبة - المحققة. (2) المصدر السابق (2/281) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1258 فمن شبه الله بخلقه فقد ألحد في أسمائه وآياته، ومن جحد ما وصف به نفسه فقد ألحد في أسمائه وآياته" (1) . هذه خلاصة الأقوال في كلام الله (2) ،وبعضها - كما يلاحظ - قد يتشعب إلى أقوال أخرى، كما هي سنة الله في الاختلاف والافتراق أنه لا يقف عند حد معين. والذي يهم من هذا الأقوال: - قول الأشاعرة ومن تبهم. - قول أهل السنة والجماعة، وموقفهم من مذهب الأشاعرة كما شرحه وأوضحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: رد شيخ الإسلام على الأشاعرة في كلام الله: يلاحظ أن مذهب الأشاعرة في كلام الله تعالى يقوم على عدة أمور - بعد إثباتهم لصفة الكلام بإجمال ضمن الصفات السبع - فهم يقولون: 1- إنه معنى قائم بالنفس، دون الحروف والألفاظ. وهذا ما يسمونه بالكلام النفسي، ومن ثم منعوا أن يكون كلام الله بحرف وصوت. 2- وإنه قديم أزلي قائم بذات الله تعالى كحياته وعلمه، ولذا فهو لا يتعلق بمشيئة الله وقدرته، ولا يتكلم إذا شاء متى شاء.   (1) مجموع الفتاوى (12/243-244) . (2) انظر فيما سبق من الأقوال: الجواب الصحيح (2/162-163، 3/94-103) ، مسألة الأحرف - مجموع الفتاوى - (12/42-52) ، والمسألة المصرية - مجموع الفتاوى (12/163-173) ، ومنهاج السنة (2/278-286) ط دار العروبة المحققة (3/104-107) ط بولاق، درء التعارض (2/255) ، شرح الأصفهانية (ص:341) ت العودة، جواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى - (17/165-166) ، والنبوات (ص:202) ط دار الكتب العلمية، ومجموع الفتاوى (9/283-285) . وانظر: مختصر الصواعق (2/286-293) ، وشرح الطحاوية (ص:179-180) ط المكتب الإسلامية الرابعة، وقد اعتمد شارح الطحاوية في نقل الأقوال على ما في منهاج السنة (2/278-286) . ط در العروبة، ت رشاد سالم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1259 3- وإنه معنى واحد لا يتجزأ، هو الأمر بكل مأمور والنهي عن كل منهي عنه، والخبر عن كل مخبر عنه، إن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً. 4- إن القرآن العربي عبارة عن كلام الله، إن القرآن العربي عبارة عن كلام الله، وهو مخلوق، أتى به جبريل أو محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو أوجده الله في الهواء أو في اللوح المحفوظ. ودعموا مذهبهم هذا بمذهب اللفظية الذين قالوا: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، ولما كان الإمام أحمد وهو إمام أهل السنة قد أ، كر على الطائفتين وبدعهم: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، ومن قال لفظي به غير مخلوق، لما في ذلك من اللبس وخلط الحق بالباطل - قالت الأشعرية: إن الإمام قصد باللفظ: النبذ والطرح، ولم يقصد التلاوة، وإنه قصد إنكار هذا المعنى على من قال: لفظي بالقرآن مخلوق (1) . 5- إن تكليم الله لملائكته وتكليمه لموسى، وتكليمه لعباده يوم القيامة، ومناداته لمن ناداه، إنما هو خلق إدراك في المستمع أدرك به ما لم يزل موجوداً (2) . وقد جاءت مناقشة شيخ الإسلام وردوده على الأشاعرة في هذه المسائل متنوعة وكثيرة، إما في رسائل مستقلة أو ضمن كتبه المطولة، وأهمها ما جاء في كتبه التالية: 1- قاعدة في القرآن وكلام الله. 2- مسألة الأحرف التي أنزلها الله على آدم. 3- المسألة المصرية في القرآن. 4- الكيلانية. وهذه - مع رسائل وفتاوى غيرها - موجودة ضمن الجزء الثاني عشر الخاص بالقرآن، من مجموع الفتاوى.   (1) انظر في مسألة "اللفظ" ومذهب الأشعرية فياه وفي المقصود بكلام الإمام أحمد: الكيلانية - مجموع الفتاوى - (12/359-364) . (2) انظر: درء التعارض (2/305-306) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1260 5- التسعينية. وقد اشتملت على مناقشة للأشاعرة من ثمانية وسبعين وجها (1) ، كلها للرد عليهم حول كلام الله. وهي مناقشات فريدة في هذا الباب. ويمكن ذكر منهجه في ذلك كما يلي: أولاً: نشأة قول الأشاعرة في كلام الله، وأسبابه: قلما يعرض شيخ الإسلام لمسألة كلام الله وأقوال الكلابية والأشاعرة فيه إلا ويعرض لنشأة مذهبهم في ذلك، تلك النشأة التي أصبحت تمثل مذهبا خاصا بهم، تميزوا به عن غيرهم. وقد بين شيخ الإسلام أن قول الأشاعرة في كلام الله جزء من مذهبهم في الصفات الاختيارية القائمة بالله، والتي نفوها لأجل دليل حدوث الأجسام والأعراض الذي استدلوا به على حدوث العالم - وقد سبق شرحه عند الكلام على توحيد الربوبية، وعلى ما نفوه من الصفات - وأول من ابتدع مقالة نفي الصفات الفعلية القائمة بالله ومقالة القول بقدم كلام الله وأنه معنى واحد ليس بحرف ولا صوت ابن كلاب، وتبعه على ذلك الأشاعرة. فإن الناس قبل ابن كلاب كانوا في الصفات على قولين: - قول أهل السنة الذين يثبتون جميع الصفات، كالعلم والحياة والقدرة والإرادة والكلام والوجه واليدين والعين والمجيء والنزول والاستواء والغضب والمحبة وغيرها، دون أن يفرقوا بين صفات الذات، وصفات الفعل المتعلقة بمشيئته وقدرته. - وقول الجهمية والمعتزلة الذين ينفون جميع هذه الصفات دون تفريق.   (1) عرض شيخ الإسلام في بداية التسعينية لبعض المتعلقة بمحنته في مصر، وموقفه منها، وأهمها مسألة العلو والجهة ومسألة كلام الله، وبدأ في (_ص:30) مناقشة مسألة كلام الله والحرف والصوت، وفي (ص:138-143) نقل كلام الرازي في نهاية العقول، ثم رد عليه من ثمانية وسبعين وجها (ص:143-241) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1261 - ولم يكن هناك قول ثالث غيرهما حتى جاء ابن كلاب فأثبت لله الصفات المعنوية والذاتية كالعلم والإرادة والكلام والوجه واليدين، ونفي ما يتعلق بمشيئته وإرادته مما يقوم بذاته، من الصفات الاختيارية. وتبعه على ذلك الأشعري وجمهور الأشاعرة. وكذلك كانوا في كلام الله على قولين: - قول المعتزلة والجهمية الذين يقولون إن كلام الله مخلوق خلقه في غيره. ولذلك قالوا بخلق القرآن. - قول أهل السنة الذين يثبتون صفة الكلام وأن الله يتكلم إذا شاء متى شاء، وأنه كلم موسى، ويكلم عباده يوم القيامة، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وهذا شامل لحروفه ومعانيه، وأن نوع الكلام قديم وجنسه حادث بناء على أن الله يتكلم بمشيئته وإرادته. - ولم يكن هناك قول ثالث حتى جاء ابن كلاب فابتدع القول بأن كلام الله قديم، وأنه معنى واحد، وأنه لا يتعلق بمشيئة الله وإرادته. يقول شيخ الإسلام في جواب سؤال عن أن القول بأن كلام الله قديم، لا بصوت ولا حرف إلا معنى قائم بذات الله، هو قول الأشعرية - فقال: "هذا صحيح ولكن هذا القول أول من قاله في الإسلام عبد الله بن كلاب، فإن السلف والأئمة، كانوا يثبتون لله تعالى ما يقوم به من الصفات، والأفعال المتعلقة بمشيئته وقدرته. والجهمية تنكر هذا وهذا، فوافق ابن كلاب السلف على القول بقيام الصفات القديمة، وأنكر أن يقوم به شيء يتعلق بمشيئته وقدرته ... " (1) ، ثم ذكر أن الأشعري وافق ابن كلاب على قوله. وابن كلاب والأشعري إنما ابتدعا هذا القول - في كلام الله وفي الصفات الاختيارية - لتقصيرهما في علم السنة، وتسليمهما للمعتزلة أصولا فاسدة، فصارا يوافقان المعتزلة في بعض أصولهم وإن لم يكونا موافقين لهم بإطلاق (2) .   (1) المسألة المصرية في القرآن - مجموع الفتاوى - (12/178) . (2) انظر: الاستقامة (1/212) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1262 وقد نقل شيخ الإسلام نصا لأبي نصر السجزي في رسالته المعروفة إلى أهل زبيد - والتي تسمى باسم: الرد على من أنكر الحرف والصوت - بين فيه نشأة قول ابن كلاب ومن اتبعه في كلام الله فقال: "اعلموا - أرشدنا الله وإياكم - أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم من أول الزمان إلى الوقت الذي ظهر فيه ابن كلاب والقلانسي والأشعري وأقرانهم - الذين يتظاهرون بالرد على المعتزلة، وهم معهم، بل أخس منهم في الباطن - من أن الكلام لا يكون إلا حرفا وصوتا، ذا تأليف واتساق، وإن اختلفت به اللغات، وعبر عن هذا المعنى الأوائل الذين تكلموا في العقليات وقالوا: الكلام حروف متسقة، وأصوات مقطعة، وقالت [العرب] (1) - يعني علماء العربية (2) -: الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى، فالاسم مثل زيد وعمرو، والفعل مثل جاء وذهب، والحرف الذي يجيء لمعنى مثل هل وبل وقد، وما شاكل ذلك، فالإجماع منعقد بين العقلاء على كون الكلام حرفا وصوتا. فلما نبغ ابن كلاب وأضرابه، وحاولوا الرد على المعتزلة من طريق مجرد العقل، وهم لا يخبرون أصول السنة، ولا ما كان السلف عليه، ولا يحتجون بالأخبار الواردة في ذلك، زعما منهم أنها أخبرا آحاد وهي لا توجب علما، وألزمتهم المعتزلة أن الإتفاق (3) حاصل على أن الكلام حرف وصوت، ويدخله التعاقب والتأليف ... قالوا: فعلم بهذه الجمة أن الكلام المضاف إلى الله تعالى خلق له، أحدثه وأضافه إلى نفسه، كما نقول: خلق الله، وعبد الله، وفعل الله. فضاق بابن كلاب وأضرابه النفس عند هذا الإلزام لقلة معرفتهم بالسنن، وتركهم قبولها، وتسليمهم العنان إلى مجرد العقل. فإلتزموا ما قالته المتزلة، وركبوا مكابرة العيان، وخرقوا الإجماع المنعقد بين الكافة: المسلم والكافر،   (1) ليست في درء التعارض، وهي في الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص:89) - ط على الآلة الكاتبة. (2) شرح من شيخ الإسلام. (3) هكذا في الرد على من أ، كر الحرف والصوت (ص:90) ، والذي في درء التعارض (2/84) [وألزمتهم المعتزلة الاتفاق على أن الاتفاق حاصل ... ] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1263 وقالوا للمعتزلة: الذي ذكرتموه ليس بحقيقة الكلام، وإنما سمى ذلك كلاما على المجاز لكونه حكاية أو عبارة عنه، وحقيقة الكلام: معنى قائم بذات المتكلم، فمنهم من اقتصر على هذا القدر، ومنهم من احترز عما عمل دخوله على هذا الحد، فزاد فيه: "تنافي (1) السكوت والخرس والآفات المانعة فيه (2) من الكلام، ثم خرجوا من هذا إلى أن إثبات الحرف والصوت في كلام الله تجسيم، وإثبات اللغة تشبيه، وتعلقوا بشبه منها قول الأخطل: إن البيان من الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا (3) فغيروه وقالوا: إن الكلام من الفؤاد (4) " (5) . ثم نقل شيخ الإسلام نصوصا أخرى للسجزي وللكرجي، ولأبي حامد الإسفراييني الذي اشتهر عنه مخالفة ابن كلاب والأشاعرة في مسألة كلام الله، التي تطرق إليها في أصول الفقه عند الكلام على صيغ الألفاظ، وأن الأمر هل هو أمر لصيغته أو لقريبنة تقترن به (6) .   (1) في الرد على من أنكر الحرف [ما ينافي] . (2) [فيه] ليست في الرد على من أنكر الحرف. (3) لم أجده في ديوانه - صنعة السكري - وكثيرا ما يورده الأشاعرة في كتبهم. انظر التمهيد للباقلاني (ص:251) ت مكارني، والاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص:75) ، وغاية المرام (ص:97) ، وذكر المحقق في الحاشية أن بعض طابعي ديوان الأخطل أضافوا هذا البيت إلى ما نسب غليه. وانظر الرد على من أ، كر الحرف والصوت (ص:92-93) - حاشية المحقق. وقال شيخ الإسلام في الإيمان (ص:132) ط المكتب الإسلامي: "من الناس من أنكر أن يكون هذا من شعره، وقالوا: إنهم فتشوا دواوينه فلم يجدوه. وهذا يروى عن أبي محمد الخشاب. وقال بعضهم: لفظه: إن البيان لفي الفؤاد ... "، وانظر: مجموع الفتاوى (6/296-297) . (4) في الرد على من أ، كر الحرف والصوت (ص:92) : أن الكلام من الفؤاد وإنما جعل اللسان على الكلام دليلا (5) درء التعارض (2/83-86) ، وقارن بالرد على من أنكر الحرف والصوت (ص:87-92) . ط على الآلة الكاتبة. (6) انظر: درء التعارض (2/95-108) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1264 ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقا على هذه النصوص التي نقلها، مبينا الأصل والسبب الذي حدا بابن كلاب والأشعري إلى أن يقولا في كلام الله ما قالا، - قال -: "وإنما اضطر ابن كلاب والأشعري ونحوهما إلى هذا الأصل، أنهم لما اعتقدوا أن الله لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته، لا فعل ولا تكلم ولا غير ذلك، وقد تبين لهم فساد قول من يقولك القرآن مخلوق، ولا يجعل لله تعالى كلاما قائماً بنفسه، بل يجعل كلامه ما خلقه في غيره، وعرفوا أن الكلام لا يكون معفولا منفصلا عن المتكلم، ولا يتصف الموصوف بما هو منفصل عنه، بل إذا خلق الله شيئاً من الصفات والأفعال بمحل كان ذلك صفة لذلك المحل، لا لله، ... وهذا التقرير مما اتفق عليه القائلون بأن القرآن غير مخلوق من جميع الطوائف، مثل أهل الحديث والسنة، ومثل الكرامية والكلابية وغيرهم، ولازم هذا أن من قال: القرآن العربي مخلوق، أن لا يكون القرآن العربي كلام الله، بل يكون كلاما للمحل الذي خلق فيه ... والمقصود هنا: أن عبد الله بن سعيد بن كلاب وأتباعه وافقوا سلف الأمة وسائر العقلاء على أن كلام المتكلم لا بد أن يقوم به، فما لا يكون إلا بائنا عنه لا يكون كلامه، كما قال الأئمة: كلام الله من الله ليس ببائن منه، وقالوا: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فقالوا: "منه بدأ" ردا على الجهمية الذين يقولون: بدأ من غيره. ومقصودهم أنه هو المتكلم به كما قال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (الزمر:1) وقال تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} (السجدة: من الآية13) وأمثال ذلك. ثم إنهم - مع موافقتهم للسلف والأئمة والجمهور على هذا - اعتقدوا هذا الأصل، وهو أنه لا يقوم به ما يكون مقدوراً له متعلقا بمشيئته، بناء على هذا الأصل الذي وافقوا فيه المعتزلة، فاحتاجوا حينئذ أن يثبتوا مالا يكون مقدوراً مرادا، قالوا: والحروف المنظومة والأصوات لا تكون إلا مقدورة مرادة، فأثبتوا معنى واحد، مل يمكنهم إثبات معان متعددة، خوفا من إثبات مالا نهاية له، فاحتاجوا أن يقولوا معنى واحدا، فقالوا القول الذي لزمته تلك اللوازم التي عظم فيها نكير جمهور المسلمين، بل جمهور العقلاء عليهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1265 وأنكر الناس عليهم أمورا: - إثبات معنى واحد، هو الأمر والخبر. - وجعل القرآن العربي ليس من كلام الله الذي تكلم به، وأن الكلام المنزل ليس هو كلام اله. - وإن التوراة والإنجيل والقرآن إنما تختلف عباراتها، فإذا عبر عن التوراة بالعربية كان هو القرآن. - وإن الله لا يقدر أن يتكلم، ولا يتكلم بمشيئته وإختياره. - وتكليمه لمن كلمه من خلقه - كموسى وآدم - ليس إلا خلق إدراك ذلك المعنى لهم، فالتكليم هو خلق الإدراك فقط. ثم منهم من يقول: السمع يتعلق بذلك المعنى وبكل موجود، فكل موجود يمكن أن يرى ويسمع، كما يقوله أبو الحسن. ومنهم من يقول: بل كلام الله لا يسمع بحال، لا منه ولا منه غيره؛ إذ هو معنى، والمعنى يفهم ولا يسمع، كما يقوله أبو بكر ونحوه. ومنهم من يقول: إنه يسمع ذلك المعنى من القارئ مع صوته المسموع منه، كما يقول ذلك طائفة أخرى. وجمهور العقلاء يقولون: إن هذه الأقوال معلومة الفساد بالضرورة، وإنما الجأ إليها القائلين بها ما تقدم من الأصول التي استلزمت هذه المحاذير، وإذا انتفى اللازم انتفي الملزوم ... " (1) . فهذه الأصول الفاسدة - مع عدم المعرفة التامة بأصول السنة - هي التي أوقعت الكلابية والأشعرية في هذه البدعة الكبرى في كلام الله، كما شرحه قبل قليل السجزي المتوفي سنة 44هـ، ثم بينه وزاده تحقيقا شيخ الإسلام ابن تيمية.   (1) درء التعارض (2/111-115) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1266 ومما سبق يتبين أن هذا القول بقدم القرآن وأنه معنى واحد أول من ابتدعه ابن كلاب (1) ، وأن الذين اتبعوه في أقواله في كلام الله - بناء على نفي الصفات الاختيارية القائمة بالله - طائفتان: الطائفة الأولى: الأشارعة من اتبعهم، وهؤلاء قالوا بقول ابن كلاب تماماً، ولم يخالفوه إلا في ثلاث مسائل: أإحداها: مسألة أزلية الأمر والنهي، أي هل كان في الأزل آمرا وناهيا؟ أو صار آمرا ناهيا بعد أ، لم يكن، أي عند وجود المأمور والمنهي. الأول: وهو القول بأزلية الأمر والنهي هو قول الأشعري، والثاني قول ابن كلاب (2) . ب والثانية: أن الكلام مع القول بقدمه وأزليته وأنه معنى واحد: هل هو صفة واحدة، أو خمس صفات، الأول هو قول الأشعري، والثاني قول ابن كلاب (3) . ت والثالثة: أن القرآن حكاية عن كلام الله عند ابن كلاب، وعبارة عنه عند الأشعري. والطائفة الثانية: السالمية ومن اتبعهم، جعلوا الأزلية للحروف والأصوات، ليجمعوا بين: موافقة ابن كلاب على نفي أن تقوم بالله الصفات الاختيارية،   (1) انظر في ذلك: شرح الأصفهانية (ص:324-325) ت السعوي، ومجموع الفتاوى (12/301-302) ، وشرح حديث النزول - مجموع الفتاوى - (5/533،552-553) . (2) انظر ما سبق (ص:450) في ترجمة ابن كلاب، وانظر الكيلانية - مجموع الفتاوى (12/376) . (3) انظر: الكيلانية - مجموع الفتاوى - (12/376) ، وانظر أيضاً: في مذهب الكلابية والأشعرية في كلام الله: درء التعارض (2/172-173، 304-307) ، شرح الأصفهانية (ص:27) ت مخلوف، التسعينية (ص:85-87) ، مجموع الفتاوى (6/251، 7/662، 12/245-526) ، جواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى - (17/53، 86-87) ، الكيلانية - مجموع الفتاوى - (12/392) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1267 وموافقة الجمهور على أن الكلام ألفاظ ومعاني (1) . وابن كلاب ومن اتبعه من هاتين الطائفتين مخالفون لأقوال جمهور السلف وأئمة الحديث والسنة، بل وجمهور العقلاء. ومما سبق من بيان نشأة قول الأشاعرة في كلام الله وأسبابه والأصول التي قادتهم إلى أقوالهم يتبين ما يلي: 1- أن قولهم هذا مبتدع في الإسلام، خالفوا فيه إجماع الناس. 2- أن ادعاء الأشاعرة أن قولهم موافق لقول السلف غير صحيح؛ لأن مذهب السلف كان معروفا قبل ابن كلاب، ولما ابتدع مقالته تلك اشتد نكير جماهير اسلف عليه وعلى أتباعه. 3- أن أتباع ابن كلاب انقسموا إلى طائفتين: الأشعرية، والسالمية، وكل طائفة تطعن في قول الطائفة الأخرى. وهذا يدل على بطلانهما جميعاً. 4- بطلان دعوى الإجماع التي ادعوها على صحة قولهم (2) . ثانياً: الرد عليهم في قولهم بالكلام النفسي: أثبت الأشاعرة - بإجمال - صفة الكلام لله، وقالوا - خلافا للمعتزلة والجهمية وغيرهم من النفاة - إن هذه الصفة ثابتة، قائمة بالله تعالى، ولكنهم فسروها بأنها معنى يقوم بذات الله، لازم له أزلا وأبدا، وسموا هذا المعنى بالكلام النفسي، وقالوا إن هذا المعنى القائم بالذات لا ينقسم إلى سر وعلانية، ولا يكون منه شيء في نفس الرب وشيء منه عند الملائكة، بل اسماع الملائكة أو غيرهم لكلامه إنما هو خلق إدراك لهم فقط (3) .   (1) انظر في قول هذه الطائفة ومناقشتها: منهاج السنة (2/101-102) ط مكتبة الرياض الحديثة، والكيلانية - مجموع الفتاوى (12/370-371) ، التسعينية (ص:96-101) ، منهاج السنة (3/105) ط بولاق، شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى - (5/556-557) ، ومجموع الفتاوى (9/284) . (2) أطال شيخ الإسلام في مناقشة هذه الدعوى، فناقشها في التسعينية، الأوجه: (8-11، 26-29) ، انظر الصفحات (147-151، 169-172) . وهي مناقشات مهمة جدا ناقش فيها أيضاً منهج الأشاعرة وأهل الكلام في دعواهم الإجماع على أقوالهم. (3) انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (2/52) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1268 فحصروا الكلام بما يقوم بالنفس، وأنه لازم للذات لا ينفك عنها، وأن الألفاظ والحروف ليست كلاما. وقد احتجوا لأقوالهم بعدة حجج منها: 1- قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِم} (المجادلة: من الآية8) . 2- وقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} (لأعراف: من الآية205) . 3- قوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (الملك:13) . فسمى الإسرار قولا. 4- وقوله تعالى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً} (آل عمران: من الآية41) . وقو عمر - رضي الله عنه -: "زورت في نفسي مقالة أردت أن أقولها" (1) . 6- وقول الأخطل السابق: إن الكلام لفي الفؤاد ... .. هذه أهم حججهم على الكلام النفسي، وقد ناقش شيخ الإسلام هذه الحجج، وبين أنه لا دليل لهم فيها: 1- أما قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} (المجادلة: من الآية8) فعنه جوابان: أحدهما: أن المراد أنهم قالوه بألسنتهم سرا، وحينئذ فلا حجة لهم فيه. وهذا هو الذي ذكره المفسرون، حيث كانوا يقولون: سام عليك، فإذا خرجوا يقولون في أنفسهم، أي يقول بعضهم لبعض: لو كان نبيا عذبنا بقولنا له ما نقول (2) .   (1) رواه البخاري، كتاب الحدود، باب رجم الحبلي من الزنا إذا أحصنت، حيث ساق حديث السقيفة بطوله، ورقمه (6830) (الفتح 12/144-145) ، ورواه أ؛ مد (1/55-56) ، ورقمه عند أحمد شاكر (391) . (2) انظر: الإيمان (ص:129) ط المكتب الإسلامي، ومجموع الفتاوى (15/35) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1269 والثاني: إنه قيده بالنفس، وهذا على أن المقصود أنهم قالوه بقلوبهم، وإذا قيد القول بالنفس كان دلالة المقيد خلاف دلالة المطلق، والدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم أو تعمل" (1) ، وهذا رد عليهم مطلقاً لأنه قال "ما لم تتكلم" فدل على أن حديث النفس ليس هو الكلام المطلق. 2- وأما قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَة} (لأعراف: من الآية205) فالمقصود الذكر باللسان لأنه قال (تضرعا وخيفة ودون الجهر منالقول) ، ومن استقراء النصوص يتبين أن الذي يقيد بالنفس لفظ "الحديث"، مثل الحديث السابق: "وما حدثت به أنفسها"، أما لفظ "الكلام" فلم يعرف أنه أريد به ما في النفس فقط (2) . 3- أما قوله: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ} (الملك: من الآية13) واحتجاجهم على أن القول المسر في القلب دون اللسان لقوله تعالى في آ×ر الآية {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، ف-"هذه حجة ضعيفة جداً، لأن قوله {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ} يبين أن القول يسر به تارة، ويجهر به أخرى، وهذا إنما هو فيما يكون في القول الذي هو بحروف مسموعة، وقوله بعد ذلك: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإنه إذا كان عليما بذات الصدور فعلمه بالقول المسر والمجهور به أولى" (3) . 4- أما قوله تعالى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً} (آل عمران: من الآية41) فقد ذكر في مريم {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} (مريم: من الآية10) والمعنى: آيتك ألا تكلم الناس، لكن ترمز لهم رمزاً" (4) .   (1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب إذا خنث ناسيا في الأيمان ورقمه (6664) (الفتح 11/548-549) ، ومسلم، كتاب الأيمان باب تجاوز الله عن حديث النفس ورقمه (127) . (2) انظر: ألإيمان (ص:130) . (3) مجموع الفتاوى (15/36) ، وانظر: الإيمان (ص:130) . (4) الإيمان (ص:131) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1270 5- أما قول عمر في قصة السقيفة "زورت في نفسي مقالة" فهي حجة عليهم، لأن التزوير: إصلاح الكلام وتهيئته، "فلفظها يدل على أنه قدر في نفسه ما يريد أ، يقوله ولم يقله، فعلم أنه لا يكون قولا إلا إذا قيل باللسان، وقبل ذلك لم يكن قولا، لكن كان مقدرا في النفس، يراد أن يقال، كما يقدر الإنسان في نفسه أنه يحج وأنه يصلي، وأنه يسافر، إلى غير ذلك، فيكون لما يريده من القول والعمل صورة ذهنية مقدرة في النفس، ولكن لا يسمى قولا وعملا إلا إذا وجدت في الخارج ... (1) " وهذا يدل عليه الحديث السابق: إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل. 6- أما البيت المنسوب للأخطل، ففيه ما فيه من ناحية صحة نسبته إليه، حتى ألفاظ البيت حرفت لتوافق مقصود من استشهد هب من أهل الكلام، وقد تعجب شيخ الإسلام من هؤلاء الذين يحتجون بهذا البيت الذي قاله نصراني، ولم يثبت عنه - فقال: "ولو احتج محتج في مسألة بحديث أخرجاه في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقالوا: هذا خبر واحد، ويكون مما اتفق العلماء على تصديقه وتلقيه بالقبول، وهذا البيت لم يثبت نقله عن قائله بإسناد صحيح لا واحد وأكثر من واحد، ولا تلقاه أهل العربية بالقبول (2) ، فكيف يثبت به أدنى شيء من اللغة، فضلا عن مسمى الكلام" (3) ، وقد أطال شيخ الإسلام في المناقشة ما يشفي ويكفي (4) . هذه أدلة الأشاعرة النقلية واللغوية على قولهم بالكلام النفسي، مع بيان بطلان استدلالهم فيها، وبيان أنها في الرد عليهم أقرب من أن تكون دليل لهم. وشيخ الإسلام لم يقتصر مثل هذه الردود، وإنما ناقش حقيقة مذهبهم في الكلام النفسي، وأن قولهم فيه باطل، وقد جاءت هذه المناقشة المهمة في التسعينية   (1) الإيمان (ص:131-132) ط المكتب الإسلامي. (2) بحثت عن هذا البيت في لسان العرب - من خلال فهارسه المطولة التي بلغت سبعة مجلدات- فلم أجده، وكذا في كتب اللغة الأخرى. (3) الإيمان (ص:132) . (4) انظر: المصدر السابق (ص:132-134) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1271 من خلال عدد من الأوجه (1) ، ويمكن تلخيص مناقشاته هذه بما يلي: اعترض على دعوى الأشاعرة بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس فقيل لهم: أنتم قتلم إن الكلام هو الخبر والأمر والنهي، وأن ذلك كله معنى يقوم بالنفس، فيقال لكم إذا كان الكلام عندكم لا صيغة له فما الفرق بين الخبر والعلم، وبين الأمر والنهي والإرادة؟ لأن الخبر - بدون صيغة وألفاظ - ليس غير العلم الذي يقوم بالنفس، وكذا الأمر والنهي - بغير صيغة ولفظ الأمر والنهي - ليس غير الإرادة التي تقوم بالنفس. وإذا صح هذا كان إثباتكم للكلام النفسي على أنه الخبر والأمر والنهي إنما يرجع إلى صفتي: العلم والإرادة، والنتيجة أن قولكم يؤدي إلى إنكار صفة الكلام، لأن ما أثبتموه من الكلام النفسي لم يكن غير العلم والإرادة. أجاب الأشاعرة عن ذلك - كما يعبر عنهم الرازي - بما يلي: أبالنسبة للخبر أن قالوا بأن الإنسان قد يحكم بما لا يعتقده ولا يظنه، أي أنه قد يخبر بخبر هو فيه كاذب، مع علمه بخلاف الخبر، فيكون أ×بر بخلاف علمه. وهذا يدل على مغايرة الخبر للعم. ب وبالنسبة للأمر والنهي قالوا: إن الله تعالى قد يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد، فالله أمر الكافر بالإيمان ولم يرده منه كونا، ونهاه عن الكفر، وأراده منه كونا، قاولا فهذا يدل على أن الأمر والنهي قد يكون مغايرا للإرادة (2) . وقد نوقش الأشاعرة في جوابهم بما يلي: أأجاب بعضهم بأن الخبر يؤول إلى العلم، بناء على أن بعض الناس قال في الكلام إن الأمر والنهي يؤول إلى الخبر، وإذا كان كذلك فلم لا يؤول الخبر أيضاً إلى العلم. ولكن شيخ الإسلام ضعف هذا الجواب بناء على أن الإنسان يجد في نفسه فرقا بين الطلب والخبر (3) .   (1) انظر: التسعينية الوجه الثاني عشر إلى الوجه الخامس والعشرين (ص:151-169) . (2) انظر: التسعينية (ص:140-154) . (3) انظر: المصدر السابق (ص:152-154) الوجه الخامس عشر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1272 ثم إنه أجاب عن ذلك بأن الرازي والأشاعرة إذا كانوا قد أجابوا عن مسألة الأمر والنهي بأن الله قد يأمر بما لا يريد - ومعهم في هذا حق بالنسبة للإرادة الكونية - إلا أنهم لم يمكنهم أن يقولوا: إن الله أخبر بما لا يعلمه، أو بما يعلم ضده، بل علمه من لوازم خبره ولهذا أخبر الله تعالى عن رسوله بأن القرآن لما جاءه، جاء العلم فقال تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} (آل عمران: من الآية61) وقال: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} (البقرة: من الآية120) ، وهذا مما احتج به الأئمة على تكفير من قال بخلق القرآن، لأن الله أخبر أن هذا الذي جاءه من العلم، وقول المتعزلة يستلزم أن يكون علم الله مخلوقا (1) . أما دعوى أن الإنسان قد يحكم أو يخبر بخلاف علمه - وهي حجة الرازي التي سبقت - فإن شيخ الإسلام رد عليها من وجوه: أحدها: أن الأشاعرة أنفسهم قد أقروا بفسادها؛ وذلك "أنهم يحتجون على وجوب الصدق لله بأن الكلام النفساني يمتنع فيه الكذب لوجوب العلم لله، وامتناع الجهل، وهذا الدليل قد ذكره جميع أئمتهم حتى الرازي ذكره - لكن قال: إنما يدل على صدق الكلام النفساني لا على صدق الحروف الدالة عليه - وإذا جاز أن يتصف الحي بحكم نفساني لا يعلمه ولا يعتقده ولا يظنه، بل يعلم خلافه، امتنع حينئذ أن يقال: الحكم النفساني مستلزم للعلم، أو أنه يمتنع أن يكون بخلاف العلم فيكون كذبا. وهذا الذي قالوه تناقض في عين الشيء، ليس تاقضا من جهة اللزوم ... " (2) ، ووجه التناقض واضح فإنهم لما أرادوا أن يقولوا أن الخبر قد يغاير العلم استدلوا بأن الإنسان قد يحكم ويخبر بخلاف علمه مما هو كذب، فيكون خبره مخالفا لعلمه، ثم قالوا في الاستدلال على أن الله صادق أن الكلام النفساني يمتنع فيه الكذب لوجوب اعلم لله وامتناع الجهل، وعليه فيمتنع أن يكون في خبر الله ما يخالف علمه، وهذا يناقض القول السابق   (1) انظر: التسعينية (ص:154) . (2) التسعينية (ص:155) ، وانظر: الفرقان بين الحق والباطل - مجموع الفتاوى (13/129) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1273 بأن الإنسان قد يخبر بخلاف علمه، وإذا علم أن أصل المسألة إنما يتعلق بخبر الله وعلمه لا خبر الإنسان وعلمه بأن تناقضهم، ولم يدهم شيئاً كون ذلك قد يقع للإنسان، لأنهم إنما احتجوا بذلك ليتوصلوا به إلى صحة مغايرة الخبر للعلم بالنسبة لله، وهم يقولون إن خبر الله لا يخالف علمه. الثاني - تناقضهم أيضاً في مسألة الإيمان، فإنهم يقولون - كما يقول الجويني - "إن حقيقة الإيمان التصديق بالله تعالى، فالمؤمن بالله من صدقه، ثم التصديق على التحقيق كلام النفس، ولا يثبت كلام النفس إلا مع العلم، فإنا أوضحنا أن كلام النفس يثبت على حسب الاعتقاد" (1) ، قال شيخ الإسلام مبينا تناقضهم: "وهذا تصريح بأنه لا يكون [أي الإيمان والتصديق] مع عدم العلم، ولا يكون على خلاف المعتقد، وهذا يناقض ما أثبتوا به كلام النفس وادعوا أنه مغاير للعم" (2) ، ويلاحظ هنا أن الجويني صرح بأن التصديق - على التحقيق - كلام النفس، ثم صرح بأنه لا يكون النفس إلا مع العلم. وهذا مناقض تماما لما ذكروه في الكلام النفسي. ولبعض الأشاعرة تناقض آخر في مسألة الإيمان، حيث صرح أبو إسحاق بأن الإيمان هو التصديق، وأن ذلك لا يتحقق إلا بالمعرفة والإقرار، وإذا كان من المعلوم أن الإقرار إنما يكون باللسان، كن هذا مناقضا لما ادعوه من أن الكلام مجرد ما يقوم بالنفس (3) . الثالث: أن دعواهم - في مغايرة الخبر للعلم - بأن الإنسان قد يخبر بخلاف علمه مما هو كذب "يهدم عليهم إثبات العلم بصدق الكلام النفساني القائم بذات الله، وإذا فسد ذلك لم ينفعهم إثبات كلام له يجوز أن يكون صدقا أو كذبا، بل لم ينفعهم إثبات كلام لم يعلموا وجوده إلا وهو كذب؛ فإنهم لم يثبتوا الخبر النفساني إلا بتقدير الخبر الكذب، فهم لم يعلموا وجود خبر نفساني   (1) الإرشاد للجويني (ص:397) ، وهو في التسعينية (ص:157) . (2) التسعينية (ص:157) ، وانظر بقية المناقشة إلى ص:162. (3) انظر: التسعينية (ص:160-161) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1274 إلا ما كان كذبا، فإن أثبتوا لله ذلك كان كفرا باطلا خلاف مقصودهم، وخلاف إجماع الخلائق، إذ أحد لا يثبت لله كلاما لازما لذاته هو كذب، وإن لم يثبتوا ذلك لم يكن لهم طريق إلى إثبات الخبر النفساني بحال، لأنا حينئذ لم نلم وجود معنى نفسانيا صدقا غير العلم ونحوه لا شاهدا ولا غائبا" (1) . الرابع: أنه الله تعالى قال: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام: من الآية33) "فنفي عنهم التكذيب وأثبت الجحود، ومعلوم أالتكذيب باللسان لم يكن منتفيا عنهم، فعلم أنه نفي عنهم تكذيب القلب، ولو كان المكذب الجاحد علمه يقوم خبر نفساني لكانوا مكذبين بقلوبهم، فلما نفي عنهم تكذيب القلوب علم أن الجحود الذي هو ضرب من الكذب، والتكذيب بالحق المعلوم - ليس هو كذبا في النفس ولا تكذيبا فيها، وذلك يوجب أن العالم بالشيء لا يكذب به ولا يخبر في نفسه بخلاف علمه" (2) ، وقد اعترض على هذا باعتراض أجاب عنه شيخ الإسلام (3) . ولشيخ الإسلام مناقشات وأوجه أخرى في الرد (4) . وبهذه الأوجه يتبين أن ما ادعاه الأشاعرة من أن الخبر يغاير العلم غير صحيح بالنسبة لله، وإذا ثبت هذا تبين أن إثباتهم للكلام النفسي ليس شيئاً غير صفة العلم، فأين صفة الكلام التي أثبتوها مغايرة لصفة العلم؟. ب أما بالنسبة لقولهم في مغايرة الأمر والنهي للإرادة بأن الله قد يأمر بما لا يريد، فقد أجاب شيخ الإسلام عن ذلك بأجوبة منها: الأول: أنه احتج بإرادة الكائنات، وهذا في الإرادة الشاملة لكل موجود المنتفية عن كل معدوم وهي الإرادة الكونية القدرية، وهذه ليست الإرادة التي هي مدلول الأمر والنهي، لأن هذه مستلزمة للمحبة الرضا. وقد جاءت   (1) التسعينية (ص:162) ، وانظر (صك163) . (2) المصدر السابق (ص:165) . (3) انظر: المصدر نفسه (ص:165-166) . (4) انظر: المصدر نفسه (ص:166-169) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1275 النصوص بالتفريق بن الإرادتين، فالكونية مثل قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} (الأنعام: من الآية125) والثانية مثل قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة: من الآية6) ، وغيره كثير (1) . الثاني: أن احتجاج الرازي بإرادة الكائنات - وهي الإرادة الكونية - وأن الله قد يأمر بما لا يريد - معارض بأن النهي مستلزم لكراهة المنهي عنه، كما أن الأمر مستلزم لمحبة المأمور به، والمكروه لا يكون مرادا - شرعا -. والمنهي عنه إذا وقع - يعتوره أمران: - أنه مراد إرادة كونية شاملة. - وأنه غير مراد الإرادة الدينية، بل هو مكروه. فالإرادة المنفية عن المكروه الواقع غير الإرادة اللازمة له، وكل منهي عنه وإن كان مرادا فهو مكروه والكراهة مستلزمة له، فإجابة الرازي بأن إرادة الكائنات فهيا ما هو منهي مردودة بأن ما كان منها منهيا عنه فهو مكروه، فزلمت الكراهية النهي وإن كان مرادا كونا وهذا يضعف احتجاجه بأن الله قد ينهي عما يريد. وقد أجاب الرازي بقوله: لا نسلم أنها مكروهة، بل هي منهي عنها. ولكن هذا الجواب مخالف لإجماع المسلمين بل لما علم بالضرورة من الدين، والله تعالى يقول: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} (الاسراء:38) (2) . الثالث: أن الرازي لما طولب بالفرق بين الطلب والإرادة ذكر وجهين ضعيفين، ذكرهما شيخ الإسلام وناقشهما (3) .   (1) انظر: التسعينية (ص:151) . (2) انظر: المصدر السابق (ص:152) . (3) انظر: المصدر نفسه (ص:151-152) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1276 ومع ذلك فإن شيخ الإسلام قد ذكر أن تفريق الأشاعرة بني الخبر والعلم ليس عندهم فيه أي دليل صحيح، بخلاف تفريقهم بين الأمر والنهي وبين الإرادة، بأن الله قد يأمر بما لا يريد، مع ما في هذا الدليل مما سبق بيانه (1) . وبما سبق من مناقشة أدلة الأشاعرة على الكلام النفسي، وما تلاه من اعترض عليهم بأنه لا فرق بين الخبر والعل، ولا بين الأمر والنهي والإرادة، ما داموا حصر الكلام بأنه ما قام بالنفس فقط، فصفتا العلم والإرادة تقومان مقامه. ثالثاً: الرد عليهم في قولهم بقدم الكلام وأن الله لا يتكلم بمشيئته: وهذا مبني - كما سبق - على نفيهم لقيام الصفات الاختيارية بالله، فقالوا بقدم الكلام ومنعوا أن يكون الله يتكلم إذا شاء متى شاء، ومذهب أهل السنة والجماعة إن الله لم يزل مت كلما إذا شاء، وأن كلام اله لآدم أو لموسى أو للملائكة، كل في وقت تكليمه ومناداته، أي أنه تعالى لم يناد موسى قبل خلقه ومجيئه عند الشجرة، وإن كانت صفة الكلام أزلية، وقد بنى أهل السنة مذهبهم على مقدمتين: - على أن الأمور الاختيارية تقوم بالله. - وعلى أن كلام الله لا نهاية له كما قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} (الكهف:109) وقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه} (لقمان: من الآية27) (2) . وقد ذكر السلف - توضيحا لمذهبهم، وتميزاً له عن مذهب الكلابية والأشعرية ومن اتبعهم - أن الله يوصف بالسكوت، وأنه إذ اشاء تكلم وإذا شاء سكت، وكان من أشهر ما وقع في ذلك قصة ابن خزيمة مع الكلابية   (1) انظر: التسعينية (ص:154-155) . (2) انظر: منهج السنة (2/98) ط مكتبة الرياض الحديثة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1277 - وكان ممن اعتنق مذهبه بعض تلامذته - فجرت ذكرها الحاكم في تاريخ نيسابور، ونقلها وعلق عليها شيخ الإسلام (1) ، وأشار أبو إسماعيل الأنصاري إلى هذه القصة في مناقب أحمد بن حنبل، ومما قاله فيها: "وجاءت طائفة فقالت: لا يتكلم بعد ما تكلم، فيكون كلامه حادثا" (2) ، ثم قال بعد ذكره لموقف أبي بكر بن خزيمة من هؤلاء: "فطار لتلك الفتنة ذلك الإمام أبو بكر، فلم يزل يصيح بتشويهها، ويصنف في ردها كأنه منذر جيش، حتى دون في الدفاتر، وتمكن في السرائر ولقن في الكتاتيب، ونقض في المحاريب: إن الله متكلم، إن شاء الله تكلم وإن شاء سكت، فجزى الله ذلك الإمام وأولئك النفر الغر عن نصرة دينه وتوفير نبيه خيرا" (3) . ويلاحظ التنصيص على ألفاظ واضحة البيان في مخالفة مذهب الكلابية والأشعرية، ومن ذلك قول ابن خزيمة - كما قصته مع الكلابية -: "الذي أقول به إن القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله غير مخلوق، ومن قال: إن القرآن شيئاً منه، ومن (4) وحيه وتنزيله مخلوق، أو يقول: إن الله لا يتكلم بعدما كان يتكلم به في الأزل ... فهو عندي جهمي يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه" (5) . وذكر عن ابن خزيمة أيضاً أنه قال: "زعم بعض جهلة هؤلاء الذين نبغوا في سنتنا هذه أن الله لا يكرر الكلام فهم لا يفهمون كتاب الله ... " (6) . ولهذا لما كان مذهب الأشاعرة نفي ما يقوم بالله من الصفات الاختيارية بناء على ني حلول الحوادث، ومن ثم منعوا أن يقال: إن الله يتكلم إذا شاء متى شاء كلاما قائما به، وإنه يتكلم شيئاً بعد شيء - أجابهم شيخ الإسلام بقوله:   (1) في درء التعارض (2/9-10، 78-83) ، ومجموع الفتاوى (6/169-177) . (2) درء التعارض (2/76-77) . (3) عن درء التعارض (2/77-78) ، وشرح الأصفهانية (ص:202-203) ت السعوي. (4) كذا في درء التعارض وفي مجموع الفتاوى [وعن] . (5) درء التعارض (2/79) ، ومجموع الفتاوى (6/170) . (6) نفس المصدر السابقين: درءا لتعارض (2/79) ، ومجموع الفتاوى (6/171) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1278 "قلنا من أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل، وهو قول لازم لجميع الطائف (1) ... " (2) . والنصوص الدالة على إثبات صفة الكلام لله - على وفق مذهب السلف - كثيرة جدا، بل إن فيها أن الله يد يوصف بالسكوت، ومن هذه الأدلة: 1- قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (النمل:8) وقوله: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين} (القصص:30) وقوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} (النازعات: من الآية 15-16) وقال: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} (طه:11) ، قال شيخ الإسلام معلقا على هذه النصوص: "وفي هذا دليل على أنه حينئذ نودي، ولم يناد قبل ذلك، ولما فيها من معنى الظرف" (3) . 2- ومن ذلك قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} (القصص:65) ، {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} (القصص:74) فإنه وقت النداء بظرف محدود، فدل على أن النداء يقع في ذلك الحين دون غيره من الظروف، وجعل الظرف للنداء لا يسمع النداء إلا فيه" (4) . 3- "ومثل هذا قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: من الآية30) وقوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} (البقرة: من الآية34) وأمثال ذلك مما فيه توقيت بعض أقوال الرب بوقت معين، فإن الكلابية ومن وافقهم من أصحاب الأئمة الأربعة يقولون: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، بل الكلام المعين لازم لذاته كلزوم الحياة لذاته" (5) . وهذه النصوص   (1) كما صرح بذلك الرازي نفسه، حيث ذكر أن القول بحلل الحوادث لازم لجميع الطوائف ومنهم الأشاعرة، انظر تصريحه بذلك واعترافه به في المطالب العالية (2/106-111) ت السقا ط 1407هـ. (2) منهاج السنة (2/298) ط دار العروبة المحققة. (3) مجموع الفتاوى (12/131) . (4) المصدر السابق - نفس الجزء والصفحة. (5) المصدر السابق - نفس الجزء والصفحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1279 واضحة الدلالة في الرد عليهم، لأنه إذا كانت دالة على أن الله تكلم بالكلام المذكور، في ذلك الوقت، فكيف يقال إنه كان أزليا أبديا، وهل يمكن أن يقال أن لم يزل ولا يزال قائلاً {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ} ، {اسْجُدُوا لِآدَمَ} ، {يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} (هود: من الآية48) ؟ (1) . 4- أما الأحاديث في ذلك فكثيرة، منها: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صلى بهم صلاة الصبح بالحديبية "أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟، قالوا الله ورسوله أعلم، قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر (2) .."، وحديث "إذا قضى الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كالسلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للي قال الحق وهو العلي الكبير ... " (3) ، وفي لفظ آخر أكثر صراحة: "إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماء كجر السلسلة على الصفا.." (4) ، فكيف يفسرون مثل   (1) انظر: منهاج السنة (3/104-105) ط بولاق. (2) متفق عليه: البارين كتاب الأذان، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم ورقمه (846) الفتح (2/333) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال مطرنا بالنؤ، ورقمه (71) . (3) رواه البخاري، كتاب التفسير، سورة الحج، باب (إلا من استرق السمع) ، ورقمه (4701) الفتح (8/380) وسورة سبأ، باب (حتى إذا فزع عن قلوبهم) ورقمه (4800) الفتح (8/8/537) . (4) روى عن عبد الله بن مسعود - مرفوعا وموقوفا - والموقوف في حكم المرفوع، رواه أبو داود - كتاب السنة، باب في القرآن، ورقمه (4738) - ت الدعاس، والبخاري تعليق، موقوفا - كتاب التوحيد، باب (ولا تنفع الشفاعة عنده غلا لمن أذن له) الفتح (13/452-453) [ووصله ابن حجر في التعليق (5/352-353) ] ، وف يخلق أفعال العباد رقم (465) ت البدر، وابن خزيمة في كتاب التوحيد (207-209) - مرفوعا وموقوفا - ت الشهوان وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة رقم (536-540) ، والبيهقي في لاأسماء والصفات (ص:200-203) ، والطبري في تفسيره - موقوفا - سورة سبأ، آية 23، (22/90) ط الحلبي، وابن حبان في صحيحه - الإحسان - رقم (37) ، ت الأرناؤوط - أسد، والنجاد في الرد على من يقول القرآن مخلوق - موقوفا - رقم (5-6) ، والخطيب في تاريخ بغداد - مرفوعا وموقوفا - (11/392-393) ..والحديث صحيح، وقد صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (1293) وقال: "والموقوف وإن كان أصح من المرفوع، ولذلك علقه البخاري في صحيحه ... فإنه لا يعل المرفوع؛ لأنه لا يقال من قبل الرأي كما هو ظاهر، لا سيما وله شاهد من حديث أبي هريرة مرفوعا نحوه أخرجه البخاري والترمذي ... " سلسلة الصحيحة (3/283) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1280 هذه النصوص من الكتاب والسنة بأن المقصود من كلام الله لهم خلق إدراك لم يسمعون به الكلام القديم (1) ؟، ولا شك إن ذلك تأويل وتحريف للنصوص مثل تأويل بقية الصفات التي أولها النفاة ومن يوافقهم من هؤلاء. 5- أما الأحاديث التي فيها ذكر السكوت، فمنها حديث: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو ... " (2) وحديث: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها" (3) .   (1) انظر: مجموع الفتاوى (6/180) . (2) رواه أبي الدرداء الحاكم (2/375) وقا لصحيح الإسناد ووافقه الذهبي، والبزار، كشف الأستار - رقم (123، 2231، 2855) ، وقال إسناده صالح، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/55) "رواه البزار ورجال ثقات"، وقال أيضا (1/171) : رواه البزار والطبراني في الكبير وإسناده حسن، ورجال موثقون. وحسنه الألباني في غاية المرام رقم (22) ، أما من حديث سلمان، فرواه الترمذي، كتاب اللباس، باب ما جاء في ليس الفراء، ورقمه (1726) - ت عطوة - وابن ماجه في الأطعمة - رقم (3367) ، والبيهقي (10/12) ، والحاكم (4/115) ، والعقيلي في الضعفاء الكبير - في ترجمة سيف ابن هارون البرجمي - (2/174) ، رقم الترجمة (693) ، والكامل لابن عدى - في نفس الترجمة - (3/1267) . وقد رجح الألباني - تبعا للبخاري كما نقل عنه الترمذي - وقفه على سلمان، وضعفه، وهو في المعنى كالذي قبله فذال يغني عنه - انظر: غاية المرام (ص:17) . (3) رواه الدارقطني - آخر باب الرضاع، (4/183-184) مع التعليق المغني، والبيهقي (10/12-13) ، والحاكم (4/115) - بلفظ وترك أشياء - وغيرهم من حديث أبي ثعلبه الخشني..وله شاهدان من حديث أبي الدرداء: أحدهما روه الطبراني في الصغير رقم (111) ت محمد شكور وقال عنه الهيثمي في مجمع الزوائد (1/171) "رواه الطبراني في الأوسط والصغير وفيه أصرم بن حوشب وهو متروك، ونسب إلى الوضع". والثاني رواه الدارقطني كتاب الصيد والذبائح - آخر حديث فيه - (4/297-298) مع التعليق المغنى وفي إسناده نهشل وهو كذاب. وحديث أبي ثعلبة حسنه النووي في أربعينه رقم (30) ، وفي رياض الصالحين - كتاب المنثورات والملح - رقم (1841) - ت الألباني، كما حسنه أبو بكر السمعاني في أماليه كما في جامع العلوم والحكم (ص:261) - ط الحلبي - الرابعة، وحسنه أ] ضاً أبو الفتوح الطائي في الأربعين - كما في غاية المرام للألباني (ص:18) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/171) - بعد أن ذكر رواية الطبراني في الكبير بلفظ "وغفل عن أشياء ... ": "رواه الطبراني في الكبير وهو هكذا في هذه الرواية، وكان بعض الرواة ظن أن هذه معنى: وسكت، فرواها كذلك، والله أعلم، ورجاله رجال الصحيح) . وقد تعقب النووي ابن رجب في جامع العلوم والحكم، وذكر له علتين، ما تعقب النووي وغيره الشيخ ناصر الدين الألباني في مقدمة تحقيق رياض الصالحين (ص:11) ، وفي غاية المرام رقم (4) حيث قال - بعد ذكر من رواه -: "قلت وهذا إسناد رجاله ثقات رجال مسلم، لكن له علتان كما قال الحافظ ابن رجب ... " ثم ذكر الألباني أن العلة الثانية ليست قادحة، أما الأولى وهي الانقطاع - حيث لم يسمع مكحول من أبي ثعلبة - فهي قادحة ولذلك حكم بضعفه، ثم ذكر - الشاهدين - للطبراني في الصغير، والدارقطني في كتاب الصيد - وقال إنهما واهيان جدا فلا يصلحان للشهادة. ولا شك أن الأحاديث الضعيفة - التي فيها كذاب أو من هو متهم بالوضع - لا تصلح لتقوية الأحاديث الضعيفة، ولكن يلاحظ أن من حسنه من المتأخرين كالأرناؤوط في تحقيقه لجامع الأصول (5/59) ، ذكر أن من شواهده أيضا حديث أبي الدرداء السابق "ما أحل الله فهو حلال ... " الذي حسنه الألباني وغيره. ولكن الشأن في صلاحية متنه أن يكون شاهدا. والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1281 قال شيخ الإسلام معلقا على هذه الأحاديث: "فثبت بالسنة والإجماع أن الله يوصف بالسكوت. لكن السكوت يكون تارة عن التكلم، وتارة عن إظهار الكلام وإعلامه، كما قال في الصحيحين عن أبي هريرة: "يا رسول الله: أرأيتك سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب ... " (1) إلى آخر الحديث، فقد أخبره أنه ساكت، وسأله ماذا تقول؟ فأخبره أنه يقول في حال سكوته، أي سكوته عن الجهر والإعلان. لكن هذان المعنيان المعروفان في السكوت، لا تصح على قول من يقول: إنه متكلم كما إنه عالم، لا يتكلم عند خطاب عباده بشيء، وإنما يخلق لهم إدراكا ليسمعوا كلامه القديم، سواء قيل: هو معنى مجرد، أو معنى وحروف، كما هو قول ابن كلاب والأشعري، ومن قال بذلك من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية من الحنبلية وغيرهم، فهؤلاء إما أن يمنعوا السكوت - وهو المشهور من قولهم - أو يطلقوا لفظه ويفسروه بعدم خلق إدراك للخلق يسمعون به الكلام القديم، والنصوص تبهرهم، مثل قوله: إذا تكلم الله بالوحي ... " (2) والله تعالى فرق بين إيحائه وتكليمه كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ   (1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب ما يقول بعد التكبير، ورقمه (744) الفتح (2/227) ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة، ورقمه (598) . (2) مجموع الفتاوى (6/179-180) ، وانظر: الفرقان بين الحق والباطل - مجموع الفتاوى - (13/131) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1282 اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} (الشورى: من الآية51) ، وغيرها، وكذا تكليم عباده يوم القيامة، وغير ذلك من النصوص، وكلها تدل على تجدد تكليم من جهته تعالى (1) . وقد حاول بعض الحنابلة - كالقاضي أبي يعلي وابن الزاغوني - أن يفسروا قول الإمام أحمد: "لم يزل الله متكلما إذا شاء" بما يوافق مذهبهم الكلابي، وقد ناقش شيخ الإسلام هذه المسألة وبين خطأ هؤلاء في تفسيرهم لكلام الإمام أحمد، مبينا أن تفسير هؤلاء - وغيرهم - للسكوت بأنه عدم خلق إدراك لغيره - غير معقول (2) . وجمهور الأشاعرة يمنعون من أن يوصف الله بالسكوت ويجعلون ذلك من حججهم على قولهم بأن كلام الله قديم، فإن لهم في ذلك حجتين: الحجة الأولى: أنه لو لم يكن الكلام قديما للزم أ، يتصف في الأزل بضد من أضداده، إما السكوت وإما الخرس، ولو كان أحدهما قديما لامتنع زواله وامتنع أن يكون متكلما فيما لا يزال، ولما ثبت أنه متكلم فيما لم يزل ثبت أنه لم يزل متكلما، وأيضاً فالخرس آفة ينزه الله عنها. والحجة الثانية: أنه لو كان مخلوقا لكان قد خلق إما في نفسه، أو في غيره، أو قائما بنفسه، والأول ممتنع، لأنه يلزم أن يكون محلا للحوادث، والثاني باطل، لأنه يلزم أ، يكون كلاما للمحل الذي خلق فيه، والثالث باطل لأن الكلام صفة والصفة لا تقوم بنفسها، فلما بطلت الأقسام الثلاثة تعين أنه قديم" (3) . والحجة الثانية هي الحجة المشهورة التي بنوا عليها مذهبهم في كلام الله وفي الصفات الاختيارية وهي مسألة حلول الحوادث التي منعوها (4) .   (1) انظر: درء التعارض (4/128-129) . (2) انظر: تفصيل ذلك في مجموع الفتاوى (6/157-163) ، وشرح الأصفهانية (ص:204-205) - ت السعوي - ط على الآلة الكاتبة. (3) مجموع الفتاوى (6/291) . (4) انظر: التسعينية (ص:101-102) ، ومجموع الفتاوى (6/519) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1283 وهاتان الحجتان هما من حجج الأشاعرة القديمة جاءت على يد الأشعري (1) . ولقفها أتباعه من بعده. وقد ناقش شيخ الإسلام هاتين الحجتين بتفصيل ووضوح، وبين ما فيهما من حق وهو الدلالة على إثبات صفة الكلام لله وقدم نوعه، وما فيهما من باطل وهو الزعم بأنها تدل أن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته (2) .ونقاش شيخ الإسلام لذلك طويل ومهم، ويمكن تلخيصه بما يلي: أأما الحجة الأولى: للأشاعرة - وهي أن ضد الكلام الخرس والسكوت - وأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده ... فيقال فيها ما يلي: 1- أن أصحابهم المتأخرين - كالرازي والآمدي - خالفوهم في هذا (3) . 2- أن القاعدة الكلية التي ذكروها، وهي "أن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده - باطلة، لأن هذه لا يجوز أن تدعى إلا في حق الله خاصة، أما المخلوق فإنه إذا كان قابلا للشيء كان وجود القبول فيه غيره وهو الله تعالى، وإحداث الله لذلك القبول لا يجوز أن يكون مقارنا للقابل، بل يجوز أ، يتوقف على شروط يحدثها الله، وعلى موانع يزيلها، فوجود القبول هنا ليس منه [أي من المخلوق] فلم تكن ذاته كافية فيه، وأما الرب تعالى فلا يفتقر شيء من صفاته وأفعاله على (4) غيره، بل هو الأحد الصمد المستغنى عما سواه ... " (5) ، وقد شرح هذا بالنسبة لله فقال: "تقرير الحجة بأن يقال: لأن الرب تعالى إذا كان قابلا للاتصاف بشيء لم يخل منه أو من ضده، أو يقال: بأنه إذا كان قابلا للاتصاف بصفة كمال لزم وجودها له؛ لأن ما كان الرب قابلا له لم يتوقف وجوده له على غيره، فإن غيره لا يجعله متصفا ولا فاعلا، بل ذاته وحدها هي الموجبة لما كان قابلا له" (6) .   (1) انظر: الإبانة (ص:66-67،72) - ت فوقية، واللمع (ص:17) - ت مكارثي. (2) انظر: هذه المناقشة في مجموع الفتاوى (6/292-329) . (3) انظر: المصدر السابق (6/293) . (4) كذا ولعل صوابها: إلى. (5) مجموع الفتاوى (6/294) . (6) المصدر السابق (6/293) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1284 وإذا تقررت هذه الحجة فإنها تكون دالة على قدم صفة الكلام، وأنه تعالى لم يزل متكلما، بل تكون دالة على قدم جميع صفاته، وأن ذاته مستلزمة لجميع صفات الكمال - مما لا نقص فيه بوجه من الوجوه - ومن ذلك صفة الكلام لأن من يتكلم أكمل ممن لا يتكلم (1) . ويقرر شيخ الإسلام - هذه الحجة على وفق مذهب السلف فيقول: "يقال: إما أن يكون قادرا على الكلام أو غير قادر، فإن لم يكن قادرا فهو الأخرس، وإن كان قادرا ولم يتكلم فهو الساكت" ثم بين أن الكلابية لا يمكنهم أن يحتجوا بهذه الحجة لأن الكلام عندهم ليس بمقدور - ثم أكمل الحجة فقال: "لكن [هل] (2) مدلولها قدم كلام معين بغير قدرته ومشيئته؟ أم مدلولها أنه لم يزل متكلما بمشيئته وقدرته؟ والأول قول الكلابية، والثاني قول السلف والأئمة وأهل الحديث والسنة، فيقال: مدلولها الثاني لا الأول، لأن إثبات كلام يقوم بذات المتكلم بدون مشيئته وقدرته غير معقول ولا معلوم، والحكم على الشيء فرع عن تصوره. فيقال للمحتج بها: لا أنت ولا أحد من العقلاء يتصور كلاما يقوم بذات المتكلم بدون مشيئته وقدرته، فكيف تثبت بالدليل المعقول شيئاً لا يعقل؟ " (3) . وبهذا تكون هذه الحجة دليل على إثبات صفة الكلام لله وقدم نوعه وأن الله يتكلم إذا شاء متى شاء خلافا للأشعرية. 3- أن دعوى أنه "لو لم يتصف بالكلام لا تصف بالخرس والسكوت إنما يعقل في الكلام بالحروف والأصوات، فإن الحي إذا فقدها لم يكن متكلما فإما أن يكون قادرا على الكلام ولم يتكلم، وهو الساكت، وإما أن لا يكون قادرا عليه، وهو الأخرس. وإما ما يدعونه من "الكلام النفساني" فذاك لا يعقل أن من خلا عنه كان ساكتا أو أخرسن فلا يدل بتقدير ثبوته [على] أن الخالي عنه يجب أن يكون ساكتا أو أخرس" (4) ، وإذا كان الكلام النفساني   (1) انظر: مجموع الفتاوى (6/294) . (2) زيادة مني ليستقيم الكلام. (3) مجموع الفتاوى (6/294-295) . (4) المصدر السابق (6/295) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1285 الذي ادعوه غير متصور، فالسكوت والخرس إنما يتصور إذا تصور الكلام، وهؤلاء - في الكلام - يشبهون النصارى في الكلمة (1) . 4- أن المعتزلة اعترضوا عليهم هنا ولم يستطيعوا أن يجيبوهم بجواب صحيح، وذلك أنهم قالوا للكلابية والأشعرية: القول في الكلام كالقول في الفعل، فإننا إذا كنا - نحن وأنتم - قد اتفقنا على أن الله تعالى لم يكن فاعلا في الأزل، ثم صار فاعلا، ولم نقل - لا نحن ولا أنتم - إنه كان في الأزل عاجزا أو ساكتا، فإذا كان لا يلزم من عدم فعله في الأزل أن يوصف بضده من العجز والسكوت، فكذلك يقال في صفة الكلام، إذا قيل: لم يكن متكلما - على مذهب المعتزلة - لا يوصف بضد الكلام وهو السكوت أو الخرس. ومناقشة الأشاعرة للمعتزلة هنا مناقشة ضعيفة ولهذا عدل بعض متأخري الأشعرية كالجويني إلى الحجة الثانية (2) . أما السلف فلا يلزمهم اعتراض المعتزلة لأنهم يقولون الكلام كالفعل، وإن الله لم يزل خالقا فاعلا كما أنه لم يزل متكلما (3) ، كما سبق بيانه في مسألة حوادث لا أول لها. ب وأما الحجة الثانية: للأشاعرة وهي إنه لو كان مخلوقا   (1) انظر: مجموع الفتاوى (6/296) . (2) انظر: المصدر السابق (6/297) . (3) انظر: المصدر نفسه (6/298-299) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1286 لكان إما خلقه في نفسه أو في غيره أو لا في محل، والأول يلزم منه أن يكون محلا للحوادث وهو باطل، والثاني يلزم منه أن يكون صفة لذلك المحل وهو باطل، والثالث ممتنع لأن الصفة لا تقوم بنفسها - فشيخ الإسلام بين أن هذه الحجة - أيضاً - صحيحة، ولكنها تدل على صحة مذهب السلف وفساد مذهب الكلابية والأشعرية، والمعتزلة. أما مذهب المعتزلة فواضح فساده من جهة أنه لو خلقه في محل لكان صفة لذلك المحل، وإن كان الأشاعرة متناقضين هنا، لأنهم لم يطردوها وذلك تسلط الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1287 عليهم المعتزلة بأنهم يصفونه بأنه خالق ورازق ومحيي ومميت، وعادل محسن، من غير أن يقوم به شيء من هذه المعاني، بل يقوم بغيره، لأن الاشاعرة - كما سبق في مسألة حلول الحوادث - يقولون الخلق هو المخلوق، فكيف يقولون إن الله يوصف بأنه خالق ورازق من غير أن تقوم بالله صفة، وإنما المقصود ما يخلقه الله من الخلق والرزق - لا يقولون إن الله متكلم، من غير أن تقوم به صفة الكلام والمقصود الكلام الذي خلقه في غيره؟ ولماذا لم يجعلوا هذا مثل هذا. وليس للأشاعرة جواب صحيح على هذا الاعتراض، وهو من التناقضات العديدة التي يزخر بها مذهب الأشاعرة. أما أهل السنة والسلف فإن الفعل عندهم غير المفعول، ويقولون إن الفعل يقوم به كالكلام. ومن ثم جعلوا هذه القاعدة حجة على الفريقين: المعتزلة والأشاعرة (1) . أما الاحتمال الأول - وهو أنه لو خلقه في نفسه لكان محلا للحوادث - فأهل السنة والجمهور يمنعون أن يسمى كل حادث مخلوقا، بل كلام الله المحدث كما قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (الانبياء: من الآية2) ، لا يقال عنه إنه مخلوق، لأن الله يتكلم إذا شاء متى شاء بكلام بعد كلام، وكذا ما يقوم بذاته بقدرته ومشيئته، فهناك فرق بين هذه الصفات، وبين ما يكون بائنا عنه من المخلوقات، لأنها لا بد لها من خلق، أما صفة الخلق أو الكلام أو غيرهما، القائم بذاته فإنه لا يفتقر إلى خلق، بل هو حصل بمجرد قدرته ومشيئته (2) . ولذلك يرى شيخ الإسلام أن هذه الحجة لا داعي فيها لهذا الاحتمال - وهو أ، هـ خلقه في نفسه - بل يقال: "لو خلقه لكان إما أن يخلقه في محل فيكون صفة له، أو يخلقه قائما بنفسه وكلاهما ممتنع، ولا يذكر فيها: إما خلقه في نفسه؛ لأن كونه مخلوقا يقتضي أن له خلقا، والخلق القائم به لو كان مخلوقا لكان له خلق، فيلزم أن يكون كل مخلق مخلوقا، فيكون الخلق مخلوقا بلا خلق وهو ممتنع" (3) . وهذا على أصل السلف والجمهور الذين لا يسمون كل محدث مخلوقا، وأما من يجعل كل حادث مخلوقا، فيمكن أ، يرد هذا الاحتمال - الأول - فيقال: إذا أحدثه فإما أن يحدثه في نفسه أو خارجا عن نفسه، أو لا في محل. والثاني والثالث ممتنعان بإطلاق. ويبقى الأول - وهو احتمال أن يحدثه في نفسه، والأشاعرة يمنعونه لبطلان حلول الحوادث عندهم، وأهل السنة يقولون به لأنهم يجوزون أن تقوم بالله الصفات الاختيارية، وإن سماها هؤلاء أو غيرهم حوادث - ومن ثم يرجع إلى الكلام إلى ما سبق تفصيله في مسألة "حلول الحوادث" (4) . ولو قالوا - كما سبق مثاله في حججهم على نفي حلول الحوادث، مع مناقشته - لو قالوا هنا: الفرد من أفراد الكلام هل هو نقص أو كمال؟ فإن كان نقصا فهو ممتنع، وإن كان كمالا فهو ناقص قبله - فيقال لهم: "هو كمال وقت وجوده، ونقص قبل وجوده، مثل مناداته لموسى كانت كمالا لما جاء موسى، ولو ناداه قبل ذلك لكان نقصا، والله منزه عنه ... " (5) . وقد اعترف الرازي - أحد أئمة الاشاعرة - بأن حلول الحوادث لازم لجميع الطوائف فقال (6) : "هل يعقل أن يكون محلا للحوادث؟ قالوا: إن هذا قول لم يقل به أحد إلا الكرامية. وأنا أقول: إن هذا قول قال به أكثر أرباب أهل المذاهب، أما الاشعرية: فإنهم يدعون الفرار من هذا القول إلا أنه لازم عليهم من وجوه ... " (7) ولما جاء إلى صفة الكلام، بين أنه ليس هناك فرق معقول بين الطب والإرادة - وهذا رد على مسألة الكلام النفسي - كما سبق -   (1) انظر: مجموع الفتاوى (6/317-318) ، ونظر: الكيلانية - مجموع الفتاوى - (436) ، والتسعينية (ص:102-105) ، ومنهاج السنة (2/292) - ط دار العروبة المحققة. (2) انظر: مجموع الفتاوى (6/320) . (3) مجموع الفتاوى (6/321) . (4) انظر: المصدر السابق (6/326) وما بعدها. (5) المصدر نفسه (6/326) . (6) سبقت الإشارة إلى هذا عند الكلام على مسألة حلول الحوادث - وإنما نقلت نص كلام الرازي هنا لأنه قد وصل إلى - حال كابة هذه المباحث - كتابه الكبير "المطالب العالمية" مطبوعا في تسعة أجزواء جاءت في خمسة مجلدات. (7) المطالب العالية للرازي (2/106) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1288 ثم بين أن الذين زعموا أن هذا الكلام - النفسي - قديم - هو قول بعيد، وذكر أدلة كون هذا القول بعيدا - وهي أدلة إلزامية قوية - ثم ذكر أدلة من قال بقدمه ورد عليها (1) . هذا هو الرازي الذي يعتبرونه أعظم أئمتهم ومحققيهم يقول بما يدل على بطلان مذهب الأشاعرة، وصحة مذهب أهل السنة، في مسألة من أهم المسائل وأعظمها، وبها تميز المذهب الاشعري عن غيره. وإذا كان الرازي قد يتناقض في هذا الباب - فتارة يوافق الأشاعرة وتارة يرد عليهم - فإن غير الرازي كأبي حامد الاسفرابيني، وأبي محمد الجويني - والد إمام الحرمين - وغيرهما كانوا يخالفون الأشاعرة ويقولون إن مذهب الشافعي والإمام أحمد وسائر علماء الأمصار مخالف لما عليه هؤلاء الأشاعرة في كلام الله (2) . رابعاً: الرد على الأشاعرة في قولهم: إن كلام الله معنى واحد: وقولهم: هو الأمر بكل مأمور والخبر عن كل مخبر، إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً، وقولهم إن الأمر والنهي صفات للكلام، لا أنواع له، ولذلك فلا فرق بين القرآن والتوراة، ولا بين آية وآلة أخرى دلت على معنى مختلف. وهذا من أعجب ما في مذهب الأشاعرة وأشده غرابة، حيث إنه مخالف لبدائه العقول، ولواقع الأمر أيضاً، ولا شك أن أعلام الأشاعرة - وفيهم الأئمة والقضاة والفقهاء - لم يكونوا ليقبلوا الإقرار بمثل هذا لولا أن هناك أصولا عقلية سلموها تسلطت على رؤوسهم ورقابهم لم يستطيعوا منها فكاكا ولا لها دفعا. فأصبحوا يسلمون بمثل هذه الأقوال المخالفة للعقل والنقل والفطر، ويبحثون لها عن تعليلات وتبريرات وتخريجات لا تغني شيئاً.   (1) انظر: المطالب العالية للرازي (3/204-207) . (2) انظر: مجموع الفتاوى (12/557-558) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1289 ولذلك اعترف بعض أعلامهم بما في المذهب الأشعري من إشكالات، حتى قال العز بن عبد السلام لما سئل في مسألة القرآن: "كيف يعقل شيء واحد هو أمر ونهي وخبر واستخبار؟ فقال أبو محمد: ما هذا بأول إشكال ورد على مذهب الأشعري" (1) . وسترد أمثلة أخرى إن شاء الله تعالى. ومناقشة قول الأشاعرة - في زعمهم أن كلام الله معنى واحد - واضحة جدا، ويمن إجمال ردود شيخ الإسلام عليهم في ذلك بما يلي: 1- أن هذا القول انفردوا به عن سائر الفرق، كما ذكره الرازي (2) ، سواء قالوا - كما هو قول جمهورهم - إنه معنى واحد، أو قالوا إنه خمسة معان، كما هو قول بعضهم. فالذين قالوا هو معنى واحد قالوا: ذلك المعنى هو معنى كل أمر أمر الله به، سواء كان أمر تكوين، أو أمر تشريع، وسواء أمرا ورد في القرآن أو ورد في التوراة، وكذلك هو معنى كل نهي نهى الله عنه، وهو معنى كل خبر أخبر الله به. والذين قالوا إنه خمسة معان يقولون الأمر الواحد هو الأمر بالصالة والزكاة، والحج، والسبت - الذي لليهود - وهو الأمر بالناسخ والمنسوخ، وبالأقوال وبالأفعال، وبالعربي والعبراني، كل ذلك أمر واحد، ومثله النهي ومثله الخبر، حيث يقولون: إن ما أخبر الله به في آية الكرسي وسورة الإخلاص، وقصص الأنبياء والكفار، وصفة الجنة والنار، كل ذلك خبر واحد (3) . يقول شيخ الإسلام معلقا على هذا: "ومن المعلوم أن مجرد تصور تصور هذا القول يوجب العلم الضروري بفساده، كما اتفق على ذلك سائر العقلاء، فإن أظهر المعارف أن الأمر ليس هو الخبر، وأن الأمر بالسب ليس هو الأمر بالحج،   (1) انظر: التسعينية (ص:261) . (2) انظر: المصدر السابق (ص:175) . (3) انظر: المصدر نفسه - نفس الصفحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1290 وأن الخبر عن الله ليس هو الخبر عن الشيطان الرجيم" (1) ، ولا شك أيضاً أن معنى آية الكرسي هو معنى آية الدين، كما أن معاني {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الاخلاص:1) ليس هي معاني {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} (المسد:1) (2) . وكذلك أيضاً فإن "المعاني التي أخبر الله بها في القرآن في قصة بدر وأحد والخندق، ونحو ذلك لم ينزلها الله على لسان موسى بن عمران، كما لم ينزل على محمد تحريم السبت، ولا الأمر بقتال عباد العجل فكيف يكون كلام الله معنى واحدا" (3) .ومن المعلوم أن التوراة إذا عربت لم تكن هي القرآن، كما أن آية الكرسي ليست معنى آية الدين (4) .وهذا واضح جدا، ويلاحظ أن الأشاعرة يلتزمون هذه اللوازم الفاسدة فيقولون: إن كلام الله معنى واحد، فلا يفرقون بين آية الدين وآية الكرسي، ولا بين القرآن والتوراة، بل كل ذلك معنى واحد لا يتبعض ولا يتجزأ، ولا يتكلم الله بشيء منه دون شيء إلا على معنى خلق إدراك للخلق فقط - كما سبق -. بل إن شيخ الإسلام يرى أنه يلزم على قولهم أن تكون الحقائق الموجودة كالملائكة والجن، والجنة والنار - شيئاً واحدا، لأن معاني الكلام تتبع الحقائق الخارجة، وهذا لازم لا محيد لهم عنه (5) . 2- يقال للاشاعرة: موسى لما كلمه الله، أفهم كلامه كله أو بعضه؟ إن قلتم: كله، فقد صار موسى يعلم علم الله، وهذا من أعظم الباطل، وإن قلتم بعضه: فقد تبعض كلام الله وأنتم تقولون: إنه لا يتبعض. وفي هذا إبطال لقولكم (6) . وأيضاً فإن الله فضل موسى بالتكليم على غيره ممن أوحى إليهم،   (1) التسعينية (ص:175،177) . (2) انظر: مجموع الفتاوى (12/122،267) ، ومنهاج السنة (3/104) - ط بولاق، وجواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى (17/71) . (3) منهاج السنة (3/104) ط بولاق. (4) انظر: مجموع الفتاوى (12/558) ، والدرء (1/267، 112-113) . (5) انظر: مجموع الفتاوى (12/558) ، والدرء (1/267،112-113) . (6) انظر: التسعينية (ص:177) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1291 كما فرق تعالى بين التكليم والوحي، وهذا يدل على أن الكلام ليس معنى واحدا، لأنه - حينئذ - لا يكون هناك فرق بين التكليم الذي خص به موسى، والوحي العام الذي يكون لغيره. وهذا بين (1) . وكذلك قولهم إن القرآن، عبارة عن كلام الله، فإن كان عبارة عن كلام الله كله فهو باطل، وإن كان عبارة عن بعضه فهو مبطل لقولكم (2) . 3- إلزامهم أن يقولوا في الصفات ما قالوه في الكلام، وبالعكس، وذلك أنه إذا جاز أ، يجعلوا الحقائق المتنوعة - كآية الدين، وآية الكرسي، وقصة موسى، وقصة نوح، والأمر بالصلاة، والأمر بالسبت، والنهي عن الزنا وعن الربا، والقرآن، والتوراة، والإنجيل - شيئاً واحدا، فيلزمهم أن يجوزوا أن يكون العلم والقدرة والكلام والسمع والبصر والحياة والإرادة، صفة واحدة، أو أن يقولوا في الكلام ما يقولونه في الصفات من أن العلم غير القدرة والإرادة غير الحياة، وإن كانت صفات قائمة بالله تعالى. وقد أسهب شيخ الإسلام في شرح هذا الإلزام وبين أنه لا محيد للاشاعرة عنه، وأن أئمتهم اعترفوا به (3) . وممن اعترف بذلك الآمدي، حيث قال بعد أ، ذكر هذا الاعتراض - وهو الإلزام بالصفات - وذكر جواب أصحابه الأشاعرة عنه - قال معلقا على جواب شيوخه: "وفيه نظر" (4) ، ثم قال: "والحق أن ما أوردوه من الإشكال على القول باتحاد الكلام وعود الاختلاف إلى التعلقات والمتعلقات مشكل، وعسى أن يكون عند غيري حله، ولعسر جوابه فر بعض أصحابنا إلى القول بأن كلام الله القائم بذاته خمس صفات مختلفة، وهي الأمر والنهي والخبر   (1) انظر: منهاج السنة (3/105) - ط بولاق، ومجموع الفتاوى (9/283،12/130) ، وجواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى (17/153-154) . (2) انظر: منهاج السنة (3/105) ط بولاق. (3) انظر: مجموع الفتاوى (12/122-123) . (4) انظر: درء التعارض (4/118) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1292 والاستخبار والنداء" (1) . وقد علق شيخ الإسلام على كلام الآمدي بأن القول بأن الكلام خمس صفات أو سبع أو تسع أو غير ذلك من العدد لا يزيل ما تقدم من الأمور الموجبة لتعدد الكلام (2) . ولشيخ الإسلام مناقشات متنوعة لهذا الإلزام وبيان تناقضهم من وجوه عديدة (3) .وقياسهم لوحدة الكلام بوحدة المتكلم مردود أيضا من وجوه عديدة (4) . 4- وهناك إلزام آخر لهم، وهو أنه يقال لهم ما يقولون هم لمن قال إن القرآن حروف وأصوات قديمة أزلية، وإن الباء ليست قبل السين، وهكذا، وقد نقل شيخ الإسلام نصا مهما للباقلاني من كتابه - النقض - رد فيه على هؤلاء (5) ، ثم قال: "هذا بعينه وارد عليك فيما أثبته من المعاني، وهو المعنى القائم بالذات، فإن الذي نعلمه بالضرورة في الحروف نعلم نظيره بالضرورة في المعاني، فالمتكلم منا إذا تكلم ببسم الله الرحمن الرحيم، فهو بالضرورة ينطق بالاسم الأول لفظا ومعنى، قبل الثاني، فيقال في هذه المعاني نظير ما قاله في الحروف ... " (6) . ولشيخ الإسلام في درء التعارض مناقشة أخرى مماثلة، فإن من قال باجتماع المعاني يلزمه ما يلزم من قال باجتماع الحروف وعدم تعاقبها (7) .   (1) لدرء التعارض (4/119) ، وهو في أبكار الأفكار (1/95-ب-96-أ) . (وقد سبق نقله (ص:713-714) . (2) انظر: درء التعارض (4/119) وما بعدها. (3) انظر: التسعينية (ص:176-177) (الوجه 33) ، (ص:179) (الوجه 38) ، و (ص:180-181) (الوجه 43) ، و (ص:186) (الوجه 52) ، من أوجه مناقشة الرازي وانظر مجموع الفتاوى (9/283) ، والتسعينية أيضا (ص:191) . (4) انظر: ألمصدر السابق (ص:181-187) (الأوجه 44-53) من أوجه الرد على الرازي. (5) انظر: التسعينية (ص:188) . (6) المصدر السابق، نفس الصفحة. (7) انظر: درء التعارض (4/111-115) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1293 5- أن النصوص قد وردت بما يدل على تعدد الكلام وبطلان قول من زعم أنه معنى واحد، ومنها: أالآيات الواردة بأن لله كلمات، ومنه قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} (الأنعام: من الآية115) وقوله: {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه} لا (لقمان: من الآية27) وقوله: {وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِه} (الشورى: من الآية24) وغيرها كثير جداً. ب كما وردت أحاديث كثيرة، فيها الإستعاذة بكلمات الله التامات (1) . ت ومنها ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} جزءا من القرآن" (2) . فكيف يقال - مع هذه النصوص - إن كلام الله لا يكون إلا معنى واحدا؟ (3) . 6- أن الأدلة دلت على أن القرآن بعضه أفضل من بعض وهذا أصح القولين لأهل السنة. وهذا يدل على أن كلام الله ليس معنى واحدا. ولشيخ الإسلام مناقشات مطولة في هذا الموضوع (4) . 7- ما في كلام هؤلاء من شبه بأقوال النصارى. وهذا يدل على بطلانه (5) .   (1) انظر: مثلا البخاري، كتاب الأنبياء باب رقم 10، ورقم الحديث 3371، الفتح (6/408) ، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب التعوذ من سوء القضاء ورقمه (2708) . (2) روه مسلم، كتاب المسافرين باب فضل قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ورقمه (811) مكرر. (3) انظر: التسعينية (ص:210-217) ، حيث أورد بعض الأشاعرة على الاستدلال بأن الكتاب والسنة نطقا بأن لله كلمات، كما أورد (ص:218) اعتراضا من الأشاعرة على حديث إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء وأجاب عنه. (4) انظر: درء التعارض (7/271-273) ، وجواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى (ص:10-74،147-172) . (5) انظر: التسعينية (ص:225، 331) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1294 8- أن أئمة الأشاعرة اعترفوا بفساد قول ابن كلاب والأشعري في كلام الله، ومن هؤلاء: أو حامد الإسفراييني، وأبو محمد الجويني، وأبو الحسن الكرجي، والعز بن عبد السلام وغيرهم (1) ، والإسفراييني كانت له مواقف مشهورة في الإنكار على البلاقلاني وأقواله في كلام الله (2) . وقد حاول الرازي أن يستدل لمذهب الاشاعرة في كلام الله وأنه بمعنى واحد بصفة العلم وأن علم الله لا نهاية له وهو واحد، ولكن شيخ الإسلام رد عليه من كلامه، وبين بطلان كلامه وتناقضه (3) . وبما سبق من أوجه الرد والمناقشة والإلزام يتبين فساد مذهب الاشاعرة فيما أدعوه من أن كلام الله معنى واحد. خامساً: هل كلام الله بحرف وصوت؟ سبق في فقرة - الرد على الاشاعرة في الكلام النفسي - ما يوضح مذهب الأشاعرة في هذا وأنهم لما قالوا إنه معنى قائم بالذات، قالوا إنه ليس بحرف ولا صوت، كما سبق - من خلال المناقشة - بيان أن الكلام هو ما كان مسموعا مفهوماً. وقد سئل شيخ الإسلام عن القرآن: هل هو حرف وصوت؟ فأجاب بأن إطلاق هذا الجواب- نفيا وإثباتا - من البدع المولدة، الحادثة بعد المئة الثالثة، ثم قال: "والصواب الي عليه سلف الأمة، كالإمام أحمد والبخاري صاحب الصحيح في كتاب خلق أفعال العباد، وغيره، وسائر الأئمة قبلهم وبعدهم - اتباع النصوص الثابتة، وإجماع سلف الأمة وهو أن القرآن جميعه كلام الله، حروفه ومعانيه، ليس شيء من ذلك كلاما لغيره ... وأن الله يتكلم بصوت كما جاءت به الأحاديث الصحاح ... " (4) .   (1) انظر: التسعينية (ص:236-238) . (2) انظر: المصدر السابق (ص:238) ، ودرء التعارض (2/95-99) . (3) انظر: المصدر نفسه (ص:219-223) . (4) مجموع الفتاوى (12/243-244) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1295 وهذا من دقة السلف رحمهم الله في مسائل العقيدة، وخاصة ما يتعلق منها بالله وصفاته. حيث إنهم لا يبتدعون كلاما جديدا، بل يصفون الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولما لم يرد إطلاق أن القرآن بحرف وصوت لم يطلقوه عليه كما يفعله البعض، وإنما يقولون: القرآن كله حروفه ومعانيه كلام الله، كما يقولون إن الله نادى موسى، والنداء لا يكون إلا بصوت، والرسول - صلى الله عليه وسلم - ذكر أن الله ينادي بصوت (1) . ومن المعلوم أن الكلام إذا أطلق فإنه يشمل الحروف والمعاني وهذا هو الذي فهمه السلف من صفة الكلام لله تعالى - على ما يليق بجلاله وعظمته -. ولكن لما وجد - في أهل البدع - من ينكر الحرف والصوت لينكروا كلام الله، بين السلف أن كلام الله شامل للحروف والمعاني، وأنه تعالى يتكلم بصوت، كما يصفونه بما ورد من التكليم والمناداة والمناجاة (2) . وقد وردت نصوص فيها ذكر الحرف في كلام الله، وهو القرآن، ومن ذلك حديث: "إن الله يأمرك أن تقرأ على أحرف" (3) ، وحديث "أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته" (4) ، وحديث "اقرأني جبريل على حرف ... " (5) وحديث: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف (6) وحديث: "من قرأ حرفا من كتاب الله ... " (7) وغيرها.   (1) سبق تخريجه (ص:585) . (2) انظر: مجموع الفتاوى (6/518) . (3) رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف، ورقمه (821) . (4) رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل الفاتحة، ورقمه (806) . (5) رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب نزل القرآن على سبعة أحرف، ورقمه (4991) الفتح (9/23) . (6) رواه البخاري - بعد الحديث السابق مباشرة، ورقمه (4992) . (7) رواه الترمذي، كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفاً من القرآن، ورقمه (2910) - ت إبراهيم عطوة. وهو حديث صحيح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1296 وقد احتج شيخ الإسلام بحديث: إن الله ينادي بصوت، على إثبات أن الله يتكلم بصوت، ورد على من قال من الأشاعرة إنه حديث آحاد - من وجوه عديدة (1) . كما احتج بالآيات على ذلك مثل آيات النداء لموسى وغيره (2) . سادساً: القرآن العربي كلام الله وغير مخلوق؟ مذهب السلف في كلام الله تعالى، وفي القرآن، وأنه كلام الله غير مخلوق، واضح تمام الوضوح، وردودهم على المعتزلة في ذلك مشهورة، أكثر من أن تحصر (3) . كما أنه قد اشتهر عنهم قولهم إن القرآن كلام الله، منه بدأ وإليه يعود، ومعناه أن الله هو المتكلم به، فمنه بدأ، لا من بعض المخلوقات، وإليه يعود في آخر الزمان حين يرفع من المصاحف والصدور (4) . فلما جاءت الكلابية والأشعرية وابتدعوا في كلام الله ما ابتدعوا، كان مذهبهم الذي تمسكوا به: أن كلام الله إنما هو معنى قائم بذاته وأن حروف القرآن ليست من كلام الله. ولكن الأئمة من هؤلاء كابن كلاب والأشعري كما يقولون - مع ذلك ومع قولهم إن القرآن حكاية أو عبارة عن كلام الله -: إن القرآن محفوظ بالقلوب   (1) انظر: مجموع الفتاوى (6/513، 530-544) . (2) انظر: مجموع الفتاوى (12/130) . (3) انظر: في مذهب السلف في كلام الله وفي القرآن: مجموع الفتاوى (6/153، 166-169، 177-178، 518) ، التسعينية (ص:94-95، 131-138) ، شرح الأصفهانية (ص:66) - ت مخلوف، مسألة الأحرف - مجموع الفتاوى (12/37-38) ، المسألة المصرية في القرآن، مجموع الفتاوى (12/235-236) ، جواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى (17/74-75) ، درء التعارض (7/257-273) . (4) انظر: أقولا السلف في ذلك في محنة الإمام أحمد بن حنبل (ص:49) ، والرد على الجهمية رقم (344) - البدر، وشرح السنة اللالكائي رقم (582-584) (2/348) ، والنقض على المريسي للدارمي (ص:474) ضمن عقائد السلف، وانظر: العقيدة السلفية في كلام رب البرية تأليف عبد الله بن يوسف الجديع (ص:71-180) . وأما كلام شيخ الإسلام وشرحه لذلك فانظر: شرح الأصفهانية (ص:5-6) ت مخلوف، ومجموع الفتاوى (6/529، 12/40، 274) ، وجواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى - (17/83) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1297 حقيقة، متلو بالألسن حقيقة، مكتوب في المصاحف حقيقة (1) ، ومن ثم كانوا يعترفون بأن هذا القرآن كلام الله، ويحترمونه. فجاء بعد ذلك أقوام - من أتباعهم - فقالوا - في القرآن إنه "معنى قائم بذات الله فقط، وأن الحروف ليست من كلام الله، بل خلقها الله في الهواء، أو صنفها جبريل، أو محمد، فضموا إلى ذلك، أن المصحف ليس فيه إلا مداد وورق، وأعرضوا عما قاله سلفهم من أن ذلك دليل على كلام الله فيجب احترامه - لما رأوا أن مجرد كونه دليلا لا يوجب الإحترام، كالدليل على الخالق المتكلم بالكلام؛ فإن الموجودات كلها أدلة عليه، ولا يجب احترامها، فصار هؤلاء يمتهنون المصحف حتى يدوسوه بأرجلهم، ومنه من يكتب أسماء الله بالعذرة، اسقاطا لحرمة ما كتب في المصاحف والورق من أسماء الله وآياته. وقد اتفق المسلمون على أن من استخف بالمصحف، مثل أن يلقيه في الحش أو يركضه برجله، إهانة له، أنه كافر مباح الدم. فالبدع تكون في أولها شبرا، ثم تكثر في الأتباع حتى تصير أذرعا وأميالا وفراسخ" (2) . ولا شك أن هذا الغلو والكفر الذي وقع فيه هؤلاء لا يرتضيه جمهور الأشاعرة، ولكن التعصب في بعض الأوقات قد يجر بعض الناس إلى مواقف وأقوال لا تليق، إظهارا لمذهبهم، وإبرازا لقناعتهم به. والأشعري يطلق على القرآن أنه كلام الله، ولكنه يقول إنه القرآن العربي مخلوق، خلقه الله في الهواء أو الجسم. وأما إطلاق أن هذا القرآن العربي كلام جبري - عليه السلام - أو محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقد جاء من المنتسبين إليه ولم يكن قولا للأشعري (3) .   (1) ومن زعم أن مقصودهم بذلك أن المعنى أن القرآن محفوظ بالقلوب كما أن الله معلوم بالقلوب، ومتلو بالألسن كما أن الله مذكور بالألسن، ومكتوب بالمصاحف كما أن الله مكتوب بالمصاحف، فقد غلط عليهم، لأن القرآن عندهم عبارة عنه. انظر: مجموع الفتاوى (8/424) . (2) مجموع الفتاوى (8/425) . (3) انظر: المصدر السابق (12/557) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1298 ثم إن ابن كلاب كان يقول بأن القرآن حكاية عن كلام الله، فلما جاء الأشعري زاد فيه قليلا وقال: لا يجوز أن يقال إنه حكاية، لأن الحكاية قد تكون مطابقة للمحكي، كما يقال: حكى فلان الكلام بلفظه وهذا يناسب قول المعتزلة. والقرآن العربي ليس مطابقا لكلام الله القائم بنفسه، ومن ثم فالأولى عنده - أي عند الأشعري - أن يقال: هو عبارة عن كلام الله، لأن الكلام ليس من جنس العبارة (1) . ويلاحظ مما سبق تطور أقوال الكلابية والأشعرية في القرآن: - فالأولون كانوا يحترمونه، ثم خف احترامهم له إلى حد الامتهان، عند بعضهم. - والأولون كانوا يطلقون أن القرآن كلام الله، وأنه مخلوق خلقه الله في الهواء أو في الجسم، فجاء المتأخرون ليقولوا - صراحة - هو كلام جبريل أو محمد. - كما أن التطور من التعبير بالحكاية إلى العبارة، فيه ما فيه، وإن كان كل منهما باطلا. والذي استقر عليه المذهب الأشعري، وقال به جمهورهم أن القرآن العربي مخلوق، وليس هو كلام الله - مع اختلاف فيما بينهم في بعض التفاصيل (2) - وهم قالوا هذا بناء على مذهبهم في الكلام النفسي الذي يقوم بالله ولا ينفصل عنه، بل هو - على زعمهم - لازم له أزلا وأبدا. والأشاعرة - مع قولهم بالكلام النفسي - وإن كانوا يوافقون أهل السنة في الرد على المعتزلة، إلا أنهم يخالفون مذهب السلف - في مسألة القرآن - في أمرين مهمين:   (1) انظر: مجموع الفتاوى (12/272) ، والتسعينية (ص:87، 237-238، 266) ، ودرء التعارض (2/107) . (2) انظر: جواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى - (17/69-70) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1299 أحدهما: قولهم إن نصف القرآن من كلام الله، والنصف الآخر ليس كلام الله عندهم، أي أن المعنى كلام الله أما القرآن العربي فليس كلام الله، وإنما خلقه الله في الهواء أو في اللوح المحفوظ، أو أحدثه جبريل، أو محمد - صلى الله عليه وسلم - ومعنى ذلك أنهم في هذا النصف العربي موافقون لمذهب المعتزلة، لكن المعتزلة يقولون هو كلام الله، وهو مخلوق، وهؤلاء يقولون: هو مخلوق وليس كلام الله. وكل منهم وقع في البدعة. والثاني: قولهم إن القرآن المنزل إلى الأرض ليس هو كلام الله، فما نزل به جبريل من المعنى واللفظ، وما بلغه محمد - صلى الله عليه وسلم - لأمته من المعنى واللفظ ليس هو كلام الله، لا حروفه ولا معانيه، بل هو مخلوق عندهم، وإنما يقولون: هو عبارة عن كلام الله القائم بالنفس، لأن العبارة لا تشبه المعبر عنه (1) . هذه خلاصة مذهب الأشاعرة في القرآن، كما عرضها شيخ الإسلام، ولعل تصورها، مع ما سبق من مناقشات لأقوالهم في الكلام النفسي، وفي قولهم إنه معنى واحد - كاف في بيان بطلانها، ومع ذلك فقد رد عليهم شيخ الإسلام، ويمكن بيان مناقشته لهم من خلال ما يلي: 1- لا شك أن قول الأشاعرة في القرآن قد بنوه على أن الكلام عندهم معنى قائم بالنفس، قديم أزلي، لا يتعلق بمشيئة الله وقدرته، وأنه ليس بحرف ولا صوت، لذلك قالوا في هذا القرآن الذي يتلى إنه مخلوق، خلقه الله في الهواء أو في اللوح المحفوظ، أو إنه أحدثه جبريل أو محمد - صلى الله عليه وسلم -، وليس هو كلام الله. ولا شك أن الأساس الذي بنوا عليهم مذهبهم هذا باطل - كما سبق بيانه -: - فالكلام هو اللفظ والمعنى، ولا يسمى كلاما ما دام قائما بالنفس. - كما أن النصوص دلت على أن الله يتكلم بمشيئته وقدرته، وأن كلامه مثل فعله، وهذا ثابت لله وإن سماه هؤلاء حلولا.   (1) انظر: مجموع الفتاوى (12/272-273، 376-379) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1300 وإذا تبين بطلان هذه الأسس التي بنوا عليها مذهبهم، علم أن قولهم في القرآن مخالف لنصوص الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة. 2- أما احتجاجهم على أن القرآن من جبريل أو محمد بقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} (الحاقة:40) والرسول في آية الحاقة هو محمد - صلى الله عليه وسلم -، وفي آية التكوير هو جبريل عليه السلام - فهو احتجاج غريب، خاصة وأن النصوص الأخرى واضحة الدلالة في أنه منزل من عند الله وأنه كلام الله. وقد رد عليهم شيخ الإسلام في استدلالهم بما يلي: أ - أنه: "أضافة إلى الرسول من البشر تارة، وإلى الرسول من الملائكة تارة، باسم "الرسول"، ولم يقل: إنه لقول ملك، ولا نبي؛ لأن لفظ الرسول يبين أنه مبلغ عن غيره، لا منشى له من عنده {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} (النور: من الآية54) ، فكان قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} (الحاقة:40) بمنزلة قوله: لتبليغ رسول، أو مبلغ من رسول كريم، أو جاء به رسول كريم، وليس معناه أنه أنشأه أو أحدثه أو أنشأ شيئاً منه وأحدثه رسول كريم، إذ لو كان منشئا لم يكن رسولا فيما أنشأه وابتدأه، وإنما يكون رسولا فيما بلغه وأداه، ومعلوم أن الضمير عائد إلى القرآن مطلقا" (1) . ب- "وأيضاً فلو كان أحد الرسولين أنشأ حروفه ونظمه امتنع أن يكون الرسول الآخر هو المنشى المؤلف لها، فبطل أن تكون إضافته إلى الرسول لأجل إحداث لفظه ونظمه" (2) . ولو صح قول هؤلاء لجاز أن يقال إنه قول البشر، وهذا قول الوحيد الذي فضحه الله وأصلاه سقر، ولو قالوا: الوحيد جعل الجميع قول البشر، ونحن جعلنا الكلام العربي قول البشير، وأما معناه فهو كلام الله، فيقال لهم:   (1) مجموع الفتاوى (12/265-266) ، وانظر أيضاً: الكيلانية - مجموع الفتاوى - (12/377-378) . (2) المصدر السابق (12/266) ، وانظر: المصدر نفسه (2/50، 12/308) ، والكيلانية - مجموع الفتاوى (12/377) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1301 هذا نصف قول الوحيد، والقرآن الذي يتلى هو الذي كان يفهم منه المشركون أنه كلام الله دون أن يفرقوا بين ألفاظه ومعانيه (1) . ج- ودلالة الآيتين واضحة، لأنه لما كان المبلغ للقرآن ملكا وليس شيطانا، أخبر تعالى أنه تبليغ ملك كريم، وكذلك الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه هو المبلغ لهذا القرآن للناس، وأن هذا الرسول ليس شاعرا ولا كاهنا وإنما هو رسول كريم (2) . وكثيرا ما يركز شيخ الإسلام على بيان أن الكلام كلام لمن اتصف به مبتدئا منشئا لا لمن تكلم به مبلغا مؤديا. وهذا واضح، فإن من قرأ حديثا للرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو قصدة لشاعر، فإنه لا يقول عاقل إن الحديث أو القصيدة هي من إنشاء راويها (3) . 3- أن هناك أدلة تدل على نزول القرآن من ربه، والقرآن اسم للقرآن العربي لفظه ومعناه. ومن هذه الأدلة قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ * وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (النحل: من الآية 98-103) . فقوله {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} (النحل: من الآية102) يدل على نزول القرآن من ربه، والقرآن اسم للقرآن العربي لفظه ومعناه، كما أن قوله {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ   (1) انظر: مجموع الفتاوى (12/266-267، 307) ، ودرء التعارض (1/258) . (2) انظر: المصدر السابق (12/270) . (3) انظر: الكيلانية مجموع الفتاوى (12/378) ، ودرء التعارض (1/256-257) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1302 يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} ، وهم كانوا يقولون إنما يعلمه بشر، ولم يكونوا يقصدون أنه يعلمه معانيه فقط، لقوله بعد ذلك: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} والله تعالى أبطل قول الكفار، لأن لسان الذي يضيفون إليه القرآن أعجمي، والقرآن بلسان عربي مبين (1) . ومن الأدلة - أيضاً - قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} (الأنعام: من الآية112) إلى قوله: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (الأنعام:114) والكتاب اسم للقرآن العربي بالضرورة والاتفاق، وهذا يرد على الكلابية والأشعرية، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} يتناول نزول القرآن العربي على كل قول من الأقوال التي تفرق بين كتاب الله وكلام الله، أو بين القرآن (المعنى) ، والقرآن (اللفظ) . لأن الله سمى مجموع اللفظ والمعنى كتابا وقرآنا وكلاما (2) . والقرآن الكريم يجب أن يعلم فيه أصلان عظيمان: أحدهما: "أن القرآن له بهذا اللفظ والنظم العربي اختصاص لا يمكن أن يماثله في ذلك شيء أصلا، أعني خاصة في اللفظ، وخاصة فيما دل عليه من المعنى، ولهذا لو فسر القرآن ولو ترجم، فالتفسير والترجمة قد يأتي أصل المعنى أن يقربه، وأما الإتيان بلفظ يبين المعنى كبيان لفظ القرآن فهذا غير ممكن أصلا، ولهذا كان أئمة الدين على أنه لا يقرأ بغير العربية، لا مع القدرة عليها، ولا مع العجز عنها ... ". الأصل الثاني: أن القرآن إذا ترجم أو قرئ بالترجمة فله معنى يختص به لا يماثله فيه كلام أصلا، ومعناه أشد مباينة لفظه ونظمه لسائر اللفظ والنظم، والإعجاز في معناه أعظم بكثير كثير من الإعجاز في لفظه ... " (3) . ومعلوم   (1) انظر: مجموع الفتاوى (12/123-124) . (2) انظر: المصدر السابق (12/124-126) . (3) التسعينية (ص:215) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1303 أن الإعجاز شامل للفظ والمعنى. 4- أن قول الأشاعرة في القرآن يقرب كثيرا من قول المعتزلة، وقد اعترف بذلك بعض علمائهم وذكروا أن بالنسبة للقرآن العربي لا فرق فيه بين القولين. فالأشاعرة يوافقون المعتزلة في إثبات خلق القرآن العربي، ولكنهم يفارقونهم من وجهين: أحدهما: أن المعتزلة يقولون: المخلوق كلام الله، والأشاعرة يقولون: إنه ليس كلام الله، لكن يسمى كلام الله مجازا، وهذا قول جمهورهم، ومن قال من متأخريهم إنه يطلق على المعنى وعلى القرآن العربي بالاشتراك اللفظي فإنه ينتقض عليهم أصلهم في إبطال قيام الكلام بغير المتكلم به. وعند المفاضلة بين قولي المعتزلة والأشاعرة هنا يلحظ أن الأشاعرة لا يقولون عن القرآن العربي هو كلام الله حقيقة، أما المعتزلة فيقولون هو كلام الله حقيقة - مع اتفاقهم على أنه مخلوق، فقول الأشاعرة شر من قول المعتزلة، لأنهم زادوا عليهم بالقول أن القرآن ليس كلام الله. والثاني: أن الأشاعرة يثبتون لله كلاما هو معنى قائم بذاته، والمعتزلة يقولون: لا يقوم به كلام. ومن هذا الوجه فالأشاعرة خير من المعتزلة. وإن كان جمهور الناس يقولون: إن إثبات الأشاعرة للكلام النفسي، وقولهم إنه معنى واحد هو الأمر والنهي والخبر، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة - يؤدي في النهاية إلى أن لا يشبتوا لله كلاما حقيقة غير المخلوق (1) . وبهذا يصبح قول الأشاعرة في القرآن أشد بطلانا وفسادا من أقوال المعتزلة الذين أجمع السلف على تبديعهم والإنكار عليهم، وهذا ما يفسر هجوم أئمة السلف - في كل عصر - على الكلابية والأشعرية فإنهم كانوا يعرفون حقيقة مذهب هؤلاء، وما يؤدي إليه من انحراف.   (1) انظر: مجموع الفتاوى (12/121-123، 132، 15/222) ، والتسعينية (ص:235-236) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1304 5- بين اللفظ والأشاعرة: والمقصود باللفظية الذين يقولون: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، وهذه الفئة نشأت قبل الأشاعرة. وقد كان موقف الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف منهم أنهم جعلوهم جهمية، وجعلوا الجهمية ثلاث طوائف: - من قال إن القرآن مخلوق. - واللفظية الذين يقولون تلاوة القرآن، واللفظ بالقرآن مخلوق. - والواقفة الذين لا يقولون القرآن مخلوق ولا غير مخلوق. فلما انتشر هذا بين أهل السنة نشأ في مقابل "اللفظية" طائفة مقابلة لهم قالوا: لفظنا بالقرآن غير مخلوق، وتلاوتنا له غير مخلوقة، ولكن الإمام أحمد بدع هؤلاء وأمر بهجرهم. واستقر مذهب السلف على تبديع الطائفتين، وصار من أصول مذهبهم في القرآن أنه كلام الله غير مخلوق، ومن قال لفظي بالقرآن مخلوق، أو قال غير مخلوق فهو مبتدع، وكذلك من وقف فيه فهو مبتدع. وموقف السلف مبني على ما في مسألة "اللفظ" و"التلاوة" من الإجمال؛ إذ قد يراد به المقروء والمتلو، وقد يراد به صوت القارئ وفعله. فمنعوا من إطلاق الأمرين لذلك. فلما جاء الأشعري ومن معه - بما معهم من المذهب في الكلام النفسي وأن القرآن العربي مخلوق - وأرادوا موافقة السلف في الإنكار على الطائفتين من طوائف "اللفظية"، ذكروا قول السلف هذا (1) ، ولكنهم فسروا مقصودهم باللفظ تفسيرا آخر، وهو أنهم قالوا إن قصد السلف باللفظ: النبذ والطرح، ولم يكن قصدهم التلاوة، وهذا تفسير الأشاعري وابن الباقلاني، والقاضي أبي يعلى   (1) انظر: المقالات للأشعري (ص:292) - ت ريتر، والكيلانية - مجموع الفتاوى (12/362) ، ومجموع الفتاوى (6/527) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1305 وابن الزاغوني وغيرهم (1) . والاشاعرة فسروا كلام السلف بهذا التفسير ليسلم لهم مذهبهم في القرآن العربي وأنه مخلوق، لأنهم بهذا موافقون لمن يقول لفظي بالقرآن مخلوق، ويقصد به التلاوة. ولا شك أن هؤلاء مخطئون فيما ظنوه، والإمام أحمد وغيره لم ينكروا إطلاق اللفظ لأن المقصود به الطرح، وإنما لأن اللفظ يقصد به التلاوة والقراءة، والمسلمون يقولون تلوت القرآن وقرأته. ثم إن اللفظ وارد في الكلام، فيقال: لفظت الكلام وتلفظت به كما قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (قّ:18) ، وأهل السنة ربطوا بين اللفظ والتلاوة فقالوا: من قال لفظي بالقرآن وتلاوتي أن قراءتي مخلوقة فهو جهمي، ومن قال: إنه غير مخلوق فهو مبتدع (2) . ومسألة اللفظ شرحها شيخ الإسلام وبين ما فيها من اللبس، مع بيان ما جرى بين علماء السنة فيها، وفصل وجه الحق فيها، وبين وجه إنكار السلف على الطائفتين، وما في هذه الألفاظ من الإجمال (3) . كما عرض شيخ الإسلام لمسألة أخرى متعلقة بذلك وهي مسألة الحروف عموما في كلام الله وكلام غيره - هل يقال إن الحروف مخلوقة لأنها من كلام الآدميين، أو يقال: إنها ليست مخلوقة لأنها من كلام الله، كل قول من هذين قال به طوائف.   (1) انظر: الكيلانية - مجموع الفتاوى - (12/362) ، ودرء التعارض (1/268) . (2) انظر: المسألة المصرية في القرآن - مجموع الفتاوى - (12/209-210) . (3) انظر: في مسألة "اللفظ" درء التعارض (1/256-271) ، والتسعينية (ص:234-235) ، ومجموع الفتاوى (12/306-307، 573-574) ، والمسألة المصرية - مجموع الفتاوى (12/206-210) ، ومسألة الأحرف - مجموع الفتاوى (12/74-75) ، والكيلانية - مجموع الفتاوى (12/359-364، 374، 408-433) ، وجواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى (17/34-36) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1306 والصواب في ذلك أن يقال ما قاله الأئمة كأحمد وغيره: "إن كلام الإنسان كله مخلوق حروفه ومعانيه، والقرآن غير مخلوق حروفه ومعانيه" (1) . والخلاصة أن مذهب الأشاعرة في القرآن العربي موافق لأقوال اللفظية الذين يقولون ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، وهؤلاء عدهم أئمة السنة من الجهمية. هذه أهم مباحث "كلام الله" عند الأشاعرة، ومن ذلك يتبين أن الأشاعرة وإن أثبتوا صفة الكلام بإجمال، إلا أنهم ضلوا فيه وخالفوا الكتاب والسنة وأقوال السلف - في أمور أهمها: 1- قولهم بالكلام النفسي، وأنه لازم لذات الله تعالى. 2- قولهم بأن كلام الله قديم وأن الله لا يتكلم إذا شاء متى شاء، وأن موسى لم يسمع كلام الله - وقت تكليمه - وإنما سمع الكلام الأزلي، أو أن الله خلق له الإدراك. 3- قولهم بأن كلام الله معنى واحد، لا يتجزأ ولا يتبعض، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وأن الخبر والأمر والنهي شيء واحد. 4- قولهم بأن القرآن العربي مخلوق، وما في هذا من موافقة للمعتزلة، واللفظية وغيرهم من الجهمية. ولا شك أن هذه المسائل المتعلقة بكلام الله عظيمة جدا، ومذهب الأشاعرة فيها كان ضلالاً وانحرافا واضحاً عن مذهب السلف والأئمة.   (1) الكيلانية - مجموع الفتاوى - (12/450) ، وانظر - مناظرة حول الواسطية - مجموع الفاوى (3/173) ، ومسألة الأحرف - مجموع الفتاوى - (12/37-116) ، والكيلانية - مجموع الفتاوى - (12/413-414، 441-453) ، ومجموع الفتاوى (12/571-573) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1307 المبحث الثالث: في القضاء والقدر مقدمة : موضوع "القضاء والقدر" من الموضوعات الكبرى التي خاض فيها جميع الناس، مؤمنهم وكافرهم، على مر العصور والأزمان، وقد تكلم فيها الجميع، وشغلت أذهان الفلاسفة والمتكلمين وأتباع الطوائف من أهل الملل ومن غيرهم. والسبب في ذلك واضح وهو ارتباط القدر بحياة الناس وأحوالهم اليومية وما فيها من أحداث وتقلبات ليس لهم في كثير منها أي إرادة أو تأثير، ولو لم يكن هناك إلا مسألة الحياة والموت - واختلاف الناس في الأعمار - ومسألة الغنى والفقر، والصحة والمرض وتفاوت الناس فيها - لكان كافيا في أن يفكر الإنسان في هذه الأحداث هل هي مقدرة أم لا؟ خاصة وأن الإيمان بالله وأن هذا لكون لا بد له من خالق، أم فطري، لا يكاد ينكره أحد. والأقوال في القدر - بإجمال - لم تتغير قبل الإسلام أو بعده، فهي ترجع دائما إلى ثلاثة أقوال: 1- قول أهل الجبر، الذين يقولون إن الإنسان مجبورا على أفعاله وليس له إرادة ولا قدرة، ويمثل هذا في الفرق الإسلامية مذهب الجهمية ومن وافقهم، وهو ما يسمى في العصور المتأخرة بالمذهب الحتمي. 2- ويقابلهم قول أهل حرية الإرادة، واستقلال الإنسان في أفعاله عن خالقه، وأن الإنسان له إرادة مستقلة عن إرادة الله، كما أنه هو الذي يخلق أفعاله، ويمثل هذا المذهب المعتزلة (القدرية) ، ومن وافقهم. 3- وهناك قول وسط بين وهؤلاء، يثبتون القدر، وأن الله خالق كل شيء، ويقولون أيضاً إن للإنسان إرادة ومشيئة ولكنها خاضعة لمشيئة، كما أن له قدرة يفعل بها فعله، لكنه هو وأفعاله مخلوق لله تعالى. وهذا مذهب السلف وأتباع الأنبياء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1308 وبين هذه الطوائف - الثلاث - قد تنشأ فرق أخرى، تميل في بعض المسائل إلى طائفة، وفي المسائل الأخرى إلى طائفة ثانية، ويكون الحكم عليها حسب ما يغلب على مذهبها، فقد يقال إنها مائلة إلى مذهب الجبر، أو إلى مذهب القدرية، أو إلى مذهب السلف. ومن أشهر هذه الطوائف طائفة الأشعرية، حيث يغلب عليهم مخالفة المعتزلة والميل إلى مذهب الجبرية، وإن لم يصلوا إلى حد موافقة الجهم في أقواله وفي غلوه. وشيخ الإسلام ابن تيمية اهتم كثير بمسألة القدر، ورد على المنحرفين فيه من الجبرية والقدرية وغيرهم، وشرح مذهب السلف في ذلك وذكر أدلته وأصوله. ومما يجب ملاحظته أن مذهب الأشاعرة في القدر لا يتمثل في مسألة "الكسب" فقط، كما هو مشهور عنهم، وإنما ارتبط بهذه المسأ - التي اشتهروا بها وصارت شه علم عليهم، لا يذكر الكسب إلا ويذكر مذهب الأشاعرة - مسائل أخرى مرتبطة بها لا تنفك عنها، ولها أثر كبير على مذهبهم في الكسب وأفعال العباد. ويولي شيخ الإسلام - بمنهجه الدقيق، الشامل، وبطريقته الفريدة في تلك المسائل أهمية خاصة نظرا لأثرها الكبير على خلاف الطوائف - من الأشاعرة وغيرهم - في القر. ولذلك سيكون - بعون الله - عرض مباحث القدر على أساس الفرعين التاليين: الفرع الأول: المسائل المتعلقة بالقدر : وأهم هذه المسائل: 1- تعليل أفعال الله. 2- هل الإاردة تقتضي المحبة أم لا؟. 3- التحسين والتقبيح. 4- معنى الظلم. 5- تكليف ما لا يطاق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1309 الفرع الثاني: أفعال العباد ومسألة "الكسب": ومن خلال ذلك سيتم عرض الخلاف باختصار، وبيان مذهب الأشاعرة وخطئهم ومنهج شيخ الإسلام في الرد عليهم من خلال بيانه لمذهب السلف. أما تعريف القدر اصطلاحا: فهو تقدير الله تعالى الأشياء في القدم، وعلمه سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة، وعلى صفات مخصوصة، وكتابته سبحانه لذلك ومشيئته له، ووقوعها على حسب ما قدرها، وخلقه لها. والإيمان بالقدر يشمل الإيمان بأربع مراتب: الأولى: العلم، أي أن الله علم ما الخلق عاملون بعلمه الأزلي. الثانية: الكتابة: وأن الله كتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ. الثالثة: المشيئة: وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن ليس في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئته - سبحانه -، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد. الرابعة: الخلق: أي أن الله خالق كل شيء، ومن ذلك أفعال العباد. هذا هو مذهب السلف الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة (1) . وبعد بيان مذهب السلف بإجمال ننتقل إلى الكلام على الفرعين السابقين: الفرع الأول: المسائل المتعلقة بالقدر: وهذه المسائل: منها ما للخلاف فيه تأثير على مسألة القدر، حسب مذهب كل طائفة، ومنها ما له علاقة قوية بالقدر أو هي اثر من آثار الخلاف فيه. وأهم هذه المسائل: أولاً: تعليل أفعال الله وإثبات الحكمة فيها: كل ما خلقه الله تعالى فله فيه حكمة، والحكمة تتضمن شيئين: أحدهما: حكمة تعود إليه تعالى، يحيها ويرضاها.   (1) انظر: الواسطية - مجموع الفتاوى - (3/148-150) ، وشفاء العليل لابن القيم (ص:66) ط دار التراث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1310 والثاني: حكمة تعود إلى عباده، هي نعمة عليهم، يفرحون بها، ويلتذون بها، وهذا يكو في المأرات وفي المخلوقات (1) . فهو "سبحانه حكيم، لا يفعل شيئاً عبثا ولا بغير معنى ومصلحة وحكمة، هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل، وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا وهذا في مواضع لا تكاد تحصى" (2) ، وقد ذكر ابن القيم بعضها (3) . وقد وقع الخلاف في مسألة تعليل أفعال الله على أقوال: 1- قول من نفى الحكمة وأنكر التلعيل، وهؤلاء يقولون: إن الله تعالى خلق المخلوقات، وأمر المأمورات، لا لعلة ولا لداع ولا باعث، بل فعل ذلك لمحض المشيئة، وصرف الإرادة، وهذا مذهب الجهمية والأشاعرة وهو قول ابن حزم وأمثاله (4) . 2- إن الله فعل المفعولات وخلق المخلوقات، وأمر بالمأمورات لحكمة محمودة، ولكن هذه الحكمة مخلوقة، منفصلة عنه، لا ترجع إليه، وهذا قول المعتزلة ومن وافقهم (5) . 3- قول من يثبت حكمة وغاية قائمة بذاته تعالى، ولكن يجعلها قديمة غير مقارنة للمفعول. 4- إن الله فعل المفعولات وأمر بالمأمورات لحكمة محمودة، وهذه الحكمة تعود إلى الرب تعالى، لكن بحسب علمه، والله تعالى خلق الخلق ليحمدوه   (1) انظر: مجموع الفتاوى (8/35-36) . (2) شفاء العليل لابن القيم (ص:400) - ط التراث. (3) انظر: المصدر لاسابق (ص:400-434) . (4) انظر: الإرشاد للجويني (ص:268) وما بعدها، ونهاية الأقدام (ص:297) ، ومحصل أفكار المتقدمين للرازي (ص:205) ، الفصل (3/174) - ط دار المعرفة. الأحكام لابن حزم (8/1110) وما بعدها. (5) انظر: المغني في أبواب التوحيد والعدل. لعبد الجبار الهمذاني (6/48، 11/92-93) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1311 ويثنوا عليه ويمجدوه، فهذه حكمة مقصودة واقعة، بخلاف قول المعتزلة فإنهم أثبتوا حكمة هي نفع العباد. وهذا قول الكرامية الذين يقولون: من وجد منه ذلك فهو مخلوق له وهم المؤمنون، ومن لم يوجد منه ذلك فليس مخوقه له (1) . 5- قول أهل السنة وجمهور السلف وهو أن الله حكمة في كل ما خلق، بل له في ذلك حكمة ورحمة - كما سبق بيانه في بداية هذه المسألة. هذه خلاصة الأقوال في هذه المسألة، ويلاحظ أنها تنتهي إلى قولين أحدهما: نفاة الحكمة، وهو قول الأشاعرة ومن وافقهم. والثاني: قول الجمهور الذين يثبتون الحكمة. وهؤلاء على أقوال: أشهرها قول المعتزلة الذين يثبتون حكمة تعود إلى العباد ولا تعود إلى الرب، وقول جمهور السلف الذين يثبتون حكمة تعود إلى الرب تعالى (2) . ويلاحظ أن من نفي الحكمة والتعليل - كالأشاعرة - دفعه إلى ذلك إلى الميل إلى الجبر وإثبات الكسب القدرة غير المؤثرة للعبد. ومن أثبت حكمة تعود إلى العباد، جعلوا هذه الحكمة لا تتم إلا بأن يكون العباد هم الخالقين لأفعالهم وهذا قول المعتزلة. أما أهل السنة فلم يلزمهم لازم من هذه اللوازم الباطلة، ولذلك جاء مذهبهم وسطا في باب القدر - كما سيأتي أن شاء الله -. والأشاعرة الذين نفوا الحكمة والتعليل، احتجوا على مذهبهم بعدة حجج أهمها: ?- أن ذلك يستلزم التسلسل، فإنه إذا فعل لعلة، فتلك العلة أيضا حادثة فتفتقر إلىعلة، وهكذا إلى غير نهاية وهو باطل.   (1) انظر: مجموع الفتاوى (8/39) . (2) انظر: أقوم ما قيل في القضاء والقدر - مجموع الفتاوى (8/83-93، 97-98) ، منهاج السنة (1/97-98) ط دار العروبة المحققة، والاستغاثة (ص:2/27) ، جواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى - (17/198-203) ، درء التعارض (8/54) ، مجموع الفتاوى (8/377-381) ، ومنهاج السنة (1/94-95) ط دار العروبة المحققة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1312 وقد رد شيخ الإسلام على هذه الحجة من وجوه: 1- يقال لهم في الكمة ما يقولونه هم في "الفعل"، وذلك بأن يقال لهم: "لا يخلو إما أن يكون الفعل قديم العين أو قديم النوع، أو لا يمكن ذلك. فإن جاز أن يكون قديم العين أو قديم النوع، جاز في الحكمة التي يكون الفعل لأجلها أن تكون قيدمة العين أو قديمة النوع" (1) .ويلاحظ هنا أن القول بأن الفعل قديم "العين" هو قول الفلاسفة، ومعلوم أن الفلاسفة نفاة للحكمة - فهم موافقون للأشاعرة في هذا - فهذا الإلزام صالح لهم. ومن قال هذا ممتنع - أي قدم العين أو النوع في العقل - قيل وكذلك الحكمة يمتنع تسلسلها. "وإن لم يمكن أن يكون الفعل لا قديم العين ولا قديم النوع، فيقال إذا كان فعله حادث العين والنوع، كانت حكمته كذلك" (2) . فتبين أن معنى كونه تعالى يفعل لحكمة "أنه يفعل مرادا لمراد آخر يحبه، فإذا كان الثاني محبوبا لنفسه، لم يجب أن يكون الأول كذلك، ولا يجب في هذا تسلسل" (3) . 2- يقال لهم في الحكمة ما يقال في الأسباب، فإذا كان تعالى خلق شيئاً بسبب، وخلق السبب بسبب آخر حتى ينتهي إلى أسباب لا أسباب فوقها فكذلك خلق لحكمة والحكمة لحكمة حتى ينتهي إلى حكمة لا حكمة فوقها (4) . 3- أن هذا التسلسل الذي يدعونه إنما هو تسلسل في الحوادث المستقبلة لا في الحوادث الماضية، فإنه إذا فعل فعلا لحكمة كانت الحكمة حاصلة بعد الفعل - والتسلسل في المستقبل جائز عند جماهير المسلمين وغيرهم، والجنة أكلها دائم (5) .   (1) شرح الأصفهانية (ص:363-364) ت السعوي. (2) المصدر السابق (ص:364) . (3) المصدر نفسه، ونفس الصفحة. (4) انظر: المصدر نفسه (ص:365) . (5) انظر: المصدر نفسه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1313 - والحجة الثانية للأشعرة على نفي الحكمة والتعليل هي حجة الكمال والنقصان، ومعناها - عندهم - أن الله "لو خلق الخلق لعلة لكان ناقصا بدونهها مستكملا بها، فإنه إما أن يكون وجود تلك العلة وعدما بالنسبة إليه سوءا، أو يكون وجودها أولى به، فإن كا الأول امتنع أن يفعل لأجلها، وإن كان الثاني ثبت أن وجودهاأولى به، فيكون مستكملا بها، فيكون قبلها ناقصا" (1) . وهذه الحجة أصلها مبني على نفي حلول الحوادث. وقد سبق مناقشة هذه الحجة في مسألة الصفات، عند مناقشة الصفات الاختيارية القائمة بالله التي يسميها الأشاعرة وغيرهم حلول الحوادث. وقد ناقش شيخ الإسلام هذه الحجة هنا - في مبحث التعليل - من وجوه: 1- "أن هذا منقوض بنفس ما يفعله من المفعولات، فما كان جوابا في المفعولات، كان جوابا عن هذا، ونحن لانعقل في الشاهد فاعلا إلا مستكملا بفعله" (2) . 2- أن قولهم "مستكمل بغيره" باطل، لأن هذا إنما حصل بقدرته ومشيئته، لا شريك له في ذلك، فلم يكن في ذلك محتاجا إلى غيره وإذا قيل: كمل بفعله الذي لا يحتاج فيه إلى غيره، كان كما لو قيل كمل بصفاته، وبذاته" (3) . 3- "أن العقل الصرحي يعلم أن من فعل فعلا لا لحكمة، فهول أولىبالنقص ممن فعل لحكمة كانت معدومة، ثم صارت موجودة في الوقت الذي أحب كونها، فكيف يجوز أن يقال: فعله لحكمة يستلزم النقص، وفعله لا لحكمة لا نقص فيه" (4) .   (1) مجموع الفتاوى (8/183) ، وانظر الأربعين للرازي (ص:149-150) . (2) مجموع الفتاوى (8/146) ، وانظر: شرح الأصفهانية (ص:360) ت السعوي. (3) مجموع الفتاوى (8/146) . (4) شرح الأصفهانية (ص:362) ت السعوي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1314 4- "إنه ما من محذور يلزم بتجويز أن يفع للحكمة، إلا والمحاذير التي تلزم بكونه يفعل لا لحكمة أعظم وأعظم ... " (1) . وهناك أوجه أخرى في مناقشة هذه الحجة (2) ، كما أن لشيخ الإسلام مناقشات عديدة للاشاعرة حول نفيهم للحكمة التي دلت عليها نصوص الكتاب والسنة (3) . كما أشار - أحياناً - إلى تناقضهم في هذا الباب (4) . والأدلة على إثبات الحكمة والتعليل على وفق مذهب أهل السنة كثير جداً، ذكر طرقا منها شيخ الإسلام (5) ، وذكر جملة منها ابن القيم - كما سبق -. ثانياً: هل الإاردة تقتضي المحبة أم لا؟ هذه المسألة مرتبطة بشكل قوي بالمسألة السابقة - مسألة تعليل أفعال الله - لأن حدا بالأشاعرة إلى أن ينكروا التعليل ما توهموه من وجود تعارض بين الأمر والقدر، وكيف يريد الله أمرا إرادة كونية كالكفر والمعاصي، ثم هو لا يحبها ولا يريدها دينا؟ فرأوا أن الخروج من هذا المأزق يكون بإنكار الحكمة والتعليل في أفعال الله وأوامره. وموضوع الإاردة وهل هي مستلزمة للرضى والمحبة مما خاض فيه أهل الأهواء، وضلوا فيه عن الحق وأدى بهم ضلالهم إلى انحراف خطير جدا في مسألة القضاء والقدر وفي مسألة الأمر والنهي، وعلاقة هذه بتلك. وقد وصل الأمر   (1) انظر: شرخ الأصفهانية (ص:363) ت السعوي. (2) انظر: المصدر السابق (ص:357-363) ، ومجموع الفتاوى (8/146-147) ، ودرء التعارض (4/203) ، ومنهاج السنة (1/297-298) ط دار العروبة المحققة. (3) انظر: شرح الأصفهانية (ص:354-379) - حيث استقصى حججهم كما ذكرها الرازي وناقشها، وانظر أيضاً: منهاج السنة (1/97-98، 398-301) - ط دار العروبة المحققة، ونقض التأسيس - مطبوع - (1/199-217) ، والنبوات (ص:131-134، 357-361) - ط دا رالكتب التعليمية، ومجموع الفتاوى (16/130-132) ، والجواب الصحيح (4/257-259) . (4) انظر: أمثلة على ذلك في الاستغاثة (2/228) ، ومجموع الفتاوى (14/183-184) . (5) انظر: شرح الأصفهانية (ص:157-159) - ت السعوي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1315 بغلاة الصوفية إلى أن اعتقدوا "أنه ليس في مشهدهم لله محبوب مرضى مراد إلا ما يقع، فما وقع فالله يحبه ويرضاه، وما لم يقع فالله لا يحبه ولا يرضاه، والواقع هو تبع القدر لمشيئة الله وقدرته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فهم من غلب كانوا معه، لأن من غلب كان القدر معه، والمقدور عندهم هو محبوب الحق، فإذا غلب الكفار كانوا معهم، وإذا غلب المسلمون كانوا معهم" (1) ، وعلى هذا فإبليس وجميع الكفار والملاحدة والعصاة مطيعون لله، لموافقتهم للقدر، ولعل هذا سر ما يؤثر عن غلاة الصوفية من انحرافات أخلاقية سافة، ومن أقوال كفرية لم تؤثر حتى عن الكافرين والملاحدة. والخلاف في هل الإاردة تستلزم الرضى والمحبة وقع على قولن: القول الأول: أن الإاردة تستلزم الرضى، وهذا قول المعتزلة والجهمية وأغلب الأشاعرة (2) . وبعض الأشاعرة لهمع بارات تخفف من هذه المقالة، مثل قول بعضهم يحمل المحبة والرضا على الإرادة، ولكنه يقول: إذا تعلقت الإاردة بنعيم ينال عبدا فإنها تسمى محبة ورضى، وإذا تعلقت بنقمة تنال عبدا فإنها تسمى سخطا" (3) ، فمن جوز إطلاق المحبة على الإاردة قالوا: إن الله يحب الكفر ويرضاه كفرا معاقبا عليه (4) . ولكن هؤلاء الذين اتفقوا على أن الإرادة بمعنى الحبة والرضى - اختلفوا فيما بينهم على قولين جعلت أقوالهم تتباين كثيرا في مسألة القدر: ?- فالمعتزلة القدرية قالوا: قد علم بالدليل أن الله يحب الإيمان والعمل الصالح، ولا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ويكره الكفر والفسوق والعصيان، ولما كان هذا ثابتا لزم أن تكون المعاصي ليست مقدرة له ولا مقضية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه، قالوا: ولما كنا مأمورين بالرضى بالقضاء، ومأمورين بسخط هذه الأفعال وبغضها وكراهتها، فإذن يجب أن لا تكون واقعة بقضاء الله وقدره فأنكروا لذلك مرتبة المشيئة والخلق (5) . ?- وأما الأشاعرة - ومن معهم - فقالوا قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولما ثبت عندهم أن المشيئة والإرادة والمحبة والرضى كلها بمعنى واحد   (1) رسالة الاحتجاج بالقدر (ص:80-81) - المكتب الإسلامي. (2) انظر: المغني في أبواب التوحيد والعدل (ج-6 - قسم 2- ص: 51-6) ، والحر - المطبوعة باسم باسم الانصاف - للباقلاني (ص:44-45) ، ولباب العقول للمكلاتي (ص:288) . (3) الإرشاد للجويني (ص:239) وشرح المواقف (ص:288) - جزء مستقل محقق. (4) انظر: لباب العقول (ص:288) . (5) انظر: الاحتجاج بالقدر (ص:66-67) - ط المكتب الإسلامي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1316 - قالوا: فالمعاصي والكفر كلها محبوبة لله لأن الله شاءها وخلقها (1) . وهكذا انتهى الأمر بهاتين الطائفتين إلى قولين باطلين: إما إخراج بعض المقدورات أن تكون مقدرة ومرادة لله كما فعل المتزلة، وإما بالقول بأن الله يحب الكفر والمعاصي كما فعلت الأشعرية الذين خالفوا نصوص الكتاب والسنة (2) . القول الثاني: أن الإرادة لا تستلزم الرضى والمحبة، بل بينهما فرق، وهذا قول عامة أهل السنة المثبتين للقدر، وهؤلاء يقولون إن قول المعتزلة والأشاعرة مخالف للكتاب والسنة والإجماع، فإنهم متفقون على أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وعلى أن الله لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، وأن الكفار يبيتون مالا يرضى من القول. كما هو صريح النصوص. ولكن هل بين النصوص تعارض كما توهمه أولئك؟ أهل السنة يرون أن النصوص الواردة في المشيئة والإرادة، وفي المحبة ليس بينهما تعارض مطلقا إذا أعطيت حقها من الفهم والتفسير الصحيح. وذلك أن أهل السنة يقولون إن الخطأ الذي وقع فيه المخالفون لهم من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم، هو ظنهم أن الإاردة في النصوص كلها بمعنى واحد.   (1) انظر: الاحتجاج بالقدر (ص:67) ، ومدارج السالكين لابن القيم (1/228، 251، 2/189) . (2) انظر: الرسالة الأكملية - مجموع الفتاوى - (6/115-116) ، ومنهاج السنة (1/358-359) - ط مكتبة الرياض الحديثة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1317 والحق أن الإرادة نوعان: أحدهما: نوع بمعنى المشيئة العامة، وهذه هي الإاردة الكونية القدرية، فهذه الإاردة كالمشيئة شاملة لكل ما يقع في هذا الكون، وأدلة هذا النوع كثيرة، منها قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} (الأنعام: من الآية125) . فهذه الإرادة لا تستلزم المحبة، وليست بمعناها. والثاني: نوع بمعنى المحبة والرضى، كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: من الآية185) وهذه هي الإرادة الدينية الشرعية. وهذه الإرادة هي المستلزمة للمحبة والرضى، وهي المستلزمة للأمر (1) . وعلى هذا فبالنسبة لوقوع المراد، وفي أي النوعين يتعلق - تكون الأقسام أربعة: أحدها: ما تعلقت بن الإرادتان الكونية والدينية، وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة، فهذه مرادة دينا لأنها أعمال صالحة مأمور بها، ومرادة كونا لأنها وقعت. الثاني: ما تعلقت به الإاردة الدينية فقط، وهو ما أمر الله به من الطاعات والأعمال الصالحة، فعصى ذلك الكفار ولم يأتوا به، فهذا مراد شرعا لأنها من الأعمال الصالحة، وغير مرادا كونا لأنه لم يقع م الكفار والعصاة. الثالث: ما تعلقت به الإاردة الكونية فقط، كالمباحات والمعاني التي لم يأمر بها الله إذا فعلها العصاة. فهي غير مرادة دينا، ولكنها مرادة كونا لأنها وقعت.   (1) انظر: في ذلك مراتب الإاردة - مجموع الفتاوى - (8/88-190، 197) ، ومجموع الفتاوى (8/22-23، 44، 474-476) ، والرسالة الأكملية - مجموع الفتاوى - (6/115-116) ، وجواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى - (17/101) ، ومنهاج السنة (1/360) ، مكتبة الرياض الحديثة - (3/90، 102) ط بولاق ومجموع الفتاوى (18/132) ، وما بعدها، والتسعينية (ص:270) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1318 الرابع: ما لم تتعلق به الإرادتان، وذلك مما لم يقع ولم يوجد من أنواع المباحات والمعاصي (1) . وبهذا التفصيل (2) - الذي دلت عليه النصوص - يتبين رجحان مهب أهل السنة والجماعة. أما محاولة بعض الأشاعرة أن يجيبوا عن النصوص التي دلت على أن الله لا يحب الكفر ولا الفساد - بأن هذا خاص بمن لم يقع منه الكفر والفساد، والمعنى أن الله لا يحب الفساد لعباده المؤمنين ولا يرضاه لهم - فهذا جواب فاسد لأن لازم هذا أن الله لا يحب الإيمان ولا يرضاه من الكفار، لأنه لم يقع منهم، لأن المحبة عندهم كالإرادة إنما تتعلق بما وقع دون ما لم يقع. وهذا من أعظم الباطل (3) . ولا شك أن تخبط الأشاعرة ومعهم المعتزلة في هذه المسائل أدى بهم إلى الانحراف في مسألة القدر وأفعال العباد. ثالثا: التحسين والتقبيح: أول من اشتهر عنه بحث هذا الموضوع الجهم بن صفوان الذي وضع قاعدته المشهورة: "إيجاب المعارف بالعقل قبل ورود الشرع" (4) ، وبنى على ذلك أن العقل يوبج ما في الأشياء من صلاح وفساد، وحسن وقبح، وهو يفعل هذا قبل نزول الوحي، وبعد ذلك يأتي الوحي مصدقا لما قال به العقل من حسن بعض الأشياء وقبح بعضها، وقد أخذ المعتزلة بهذا القول ووافقهم عليه الكرامية (5) .   (1) انظر: مراتب الإرادة - مجموع الفتاوى - (8/189) . (2) ومثل الإرادة ما ورد في القرآن من الأمر والحكم، والقضاء، والأذن، والكتاب، والكلمات، والبعث، والإرسال، والتحريم، والجعل، فإنها كلها تنقسم إلى كونية ودينية، انظر: مجموع الفتاوى (8/61) ، التحفة العراقية في الأعمال القلبية - مجموع الفتاوى - (10/24-26) ، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان - مجموع الفتاوى - (11/265-270) ، والحسينة والسيئة - مجموع الفتاوى (14/383-384) ، ونقض التأسيس - مخطوط - (2/293-298) . (3) انظر: رسالة الاحتجاج بالقدر (ص:68) - ط المكتب الإسلامي. (4) الملل والنحل (1/88) ت كيلاني. (5) انظر: نشأة الفكر الفلسفي للنشار (1/346) ، والتجسيم عند المسلمين - مذهب الكرامية - سهير مختار - (ص:363) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1319 ومن ثم وقع الخلاف حوله على ثلاث أقوال: 1- أن الحسن والقبح صفتان ذاتيتان في الأشياء، والحاكم بالحسن والقبح هو العقل، ولافعل حسن أو قيح إما لذاته، وإما لصفة من صفاته لازمة له وإما لوجوه واعتبارات أخرى، والشرع كاشف ومبن لتلك الصفات فقط. وهذا هو مذهب المعتزلة والكرامية ومن قال بقولهم من الرافضة والزيدية وغيرهم (1) . 2- أنه لا يجب على الله شيء من قبل العقل، ولا يجب على العباد شيء قبل ورود السمع، فالعقل لا يدل على حسن شيء، ولا على قبحه قبل ورود الشرع، وفي حكم التكليف، وإنما يتلقى التحسين والتقبيح من موارد الشرع وموجب السمع. قالوا: ولو عكس الشرع فحسن ما قبحه، وقبحا ما حسنه لم يكن ممتنعا. وها قول الأشاعرة ومن وافقهم (2) . 3- التفصيل، لأن إطلاق التحسين والتقبيح على كل فعل من جهة العقل وحده دون الشرع، أو نفي أي دور للعقل في تحسين الأفعال أو تقبيحها، غير صحيح، ويوضح شيخ الإسلام ابن تيمية مذهب أهل الحق في هذا توضيحاً كاملاً، فيقسم الأفعال إلى ثلاثة أنواع: "أحدها: أن يكون الفعل مشتملا على مصلحة أو مفسدة، ولو لم يرد الشرع بذلك، كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل على فسادهم، فهذا النوع هو حسن أو قبيح، وقد يعلم بالعقل والشرع قبح ذلك، لا أنه ثبت للفعل صفة لم تكن، لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقبا في الآخرة إذا لم يرد شرع بذلك، وهذا ما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح، فإنهم قالوا: إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة، ولو لم يبعث الله إليهم رسولا، وهذا خلاف النص، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا   (1) انظر المغني لعبد الجبار ج6 - القسم الأول - (ص:26-34، 59-60) ، والمعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري (1/363) ، والبحر الزخار لابن المرتضى (1/59) ، والعقل عند المعتزلة (ص:98-100) ، والمعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية (ص:137) . (2) انظر الإرشد (ص:258) وما بعدها، والمحصل للرازي (ص:202) ، وشرح المواقف (8/181-182) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1320 مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الاسراء: من الآية15) . النوع الثاني: أن الشارع إذا أمر بشيء صار حسنا، وإذا نهى عن شيء صار قبيحاً، واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع. النوع الثالث: أن يأمر الشارع بشيء ليمتحن العبد، هل يطيعه أم يعصيه، ولا يكون المراد فعل المأمور به، كما أمر إبراهيم بذبح ابنه {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِين} (الصافات:103) حصل المقصود، ففداه بالذبح وكذلك حديث أبرص وأقرع وأعمى، فلما أجاب الأعمى قال الملك: أمسك عليك مالك، فإنما ابتليتم، فرضى عنك وسخط على صاحبيك" (1) . فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس الأمور به. وهذا النوع والذي قبله لم يفهمه المعتزلة، وزعمت أن الحسن والقبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك بدون أمر الشارع، والأشعرية ادعوا أن جميع الشريعة من قسم الامتحان، وأن الأفعال ليست صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع. وأما الحكماء والجمهور فأثبتوا الأقسام الثلاثة، وهو الصواب" (2) . وشيخ الإسلام يزيد الأمر تحقيقاً فيبين أن التحسين والتقبيح قسمان: أحدهما: كون الفعلا ملائما للفاعل نافعا له أو كونه ضارا له منافرا فهذا قد اتفق الجميع على أنه قد يعلم بالعقل (3) . الثاني: كونه سببا للذم والعقاب، فهذا هو الذي وقع فيه الخلاف: - فالمعتزلة قالوا قبح الظلم والشرك والكذب والفواحش معلوم بالعقل، ويستحق عليها العذاب في الآخرة وإن لم يأت رسول.   (1) متفق عليه البخاري كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث أبرص وأعمى وأقرع ورقمه (3464) الفتح (6/500) ، ومسلم كتاب الزهد ورقمه (2964) . (2) مجموع الفتاوى (8/434-436) . (3) انظر: المصدر السابق (8/90، 309-301) ، ومنهاج السنة (1/364) - مكتبة الرياض الحديثة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1321 - والأشاعرة قالوا: لا حسن ولا قبح ولا شر قبل مجيء الرسول، وإنما الحسن ما قييل فيه الفعل، والقبيح ما قيل فيه لا تفعل. ولم يجعلوا أحكام الشرع معللة، وهذا يوافق مذهبهم في التعليل. - جمهور أهل السنة قالوا: الظلم والشرك والكذب والفواحش كل ذلك قبيح قبل مجيء الرسول، لكن العقوبة لا تستحق إلا بمجيء الرسول (1) . وما فصله شيخ الإسلام هو الموافق لمذهب السلف، وهو الذي دلت عليه النصوص، أما الكلام في هذه المسألة كاصطلاح فإنما نشأ في المائة الثالثة من الهجرة (2) . والأشاعرة لأنهم يميلون إلى "الجبر" في القدر، قالوا بالتحسين والتقبيح الشرعي فقد. ولذلك احتج الرازي صراحة عليه بالجبر، فإنه أثبت أن العبد مجبور على فعله القبيح، فلا يكون شيء من أفعال العباد قبيحا. ويرى شيخ الإسلام أن هذه الحجة هي في الأصل حجة المشركين المكذبين بالرسول الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام: من الآية148) ، فإنهم نفوا قبح الشرك وتحريم ما لا يحرمه الله من الطيبات بإثبات القدر، لكن شيخ الإسلام يستدرك - انصافا لخصومه - فيقول: "لكن هؤلاء الذين يحتجون بالجبر على نفي الأحكام إذا أقروا بالشرع لم يكونوا مثل المشركين من كل وجه، ولهذا لم يكن المتكلمون المقرون بالشريعة كالمشركين وإن كان فيهم جزء من باطل المشركين. لكن يوجد في المتكلمين من المتصوفة طوائف يغلب عليهم الجبر حتى يكفروا حينئذ بالأمر والنهي والوعد والوعيد والثواب والعقاب، إما قولا وإما حالاً وعملا ... " (3) .   (1) انظر: مجموع الفتاوى (8/677-686، 11/676-677) . (2) انظر: التسعينية (ص:347) . (3) انظر: مجموع الفتاوى (8/677-686، 11/676-677) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1322 ولا شك أن الأشاعرة - وكذلك المعتزلة - ليسهم له حجة على قولهم في التحسين والتقبيح، سوى أخذهم ببعض النصوص دون بعض، وشيخ الإسلام كثيرا ما يفصل الخلاف في ذلك مبينا المذهب الحق (1) . رابعاً: معنى "الظلم": القول في معنى "الظلم" مبنى على مسألة التحسين والتقبيح، وقد وقع الخلاف في معنى الظلم على ثلاثة أقوال: 1- قول الجهمية والأشاعرة، وهؤلاء قالوا في تعريف الظلم: إما أنه التصرف في ملك الغير، أو أنه مخالفة الآم الذي تجب طاعته، وهؤلاء يقولون: الظلم بالنسبة لله غير ممكن الوجود، بل كل ممكن إذا قدر وجوده فإنه عدل، والظلم منه ممتنع غير مقدور، وهو محال لذاته كالجمع بين الضدين، وكون الشيء موجوداً معدوماً. وهؤلاء يقولون لو عذب الله المطيعين ونعم العاصين لم يكن ظالما، لأن الظلم عندهم إنما هو التصرف في ملك الغير، والله تعالى مالك الملك، فأي فعل فعله ولو كان تعذيب أنبيائه وملائكته وأهل طاعته، وتكريم أعدائه من الكفار والشياطين لم يكن ظالما، لأنه لم يتصرف إلا في ملكه، وكذلك فليس هناك آمر فوقه حتى يخالفه. وهذا قول جمهور الأشاعرة، وهو قول كثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، كالقاضي أبي يعلي، وأتباعه، وأبي المعالي الجويني وأتباعه، وأبي الوليد الباجي وأتباعه وغيرهم (2) .   (1) انظر: أقوم ما قيل ي القضاء والقدر - مجموع الفتاوى - (8/90) ، قاعدة في المعجزات والكرامات - مجموع الفتاوى - (11/347-355) ، منهاج السنة (1/316-317) ، ط دار العروبة المحققة، الدرء (8/22، 492، 9/49-62) ، شرح الأصفهانية (ص:161) ت مخلوف، الرد على المنطقيين (ص:420-437) ، النبوات (ص:139) وما بعدها، ط دار الكتب العلمية، الجواب الصحيح (1/314-315) ، مجموع الفتاوى (16/498) . (2) انظر: منهاج السنة (1/90، 2/232) ط دار العروبة المحققة. وجامع الرسائل - رسالة في معنى كون الرب عادلا، وي تنزهه عن الظلم - (1/121-122) ، ورسالة في شرح حديث أبي ذر - مجموعة الرسائل المنيرية (3/207) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1323 3- قول المعتزلة، وهؤلاء يقولون: إن الظلم مقدور لله تعالى، ولكنه منزه عنه، وهذا حق، ولكنهم يجعلن الظلم الذي حرمه الله وتنزه عنه نظير الظلم من الآدميين بعضهم لبعض، وشبهوه في الأفعال ما يحسن منها وما لا يحسن بعباده، فضربوا له من أنفسهم الأمثار، ولذلك فهم يسمون مشبهة الأفعال. وبناء على هذا قالوا: "إذا أمر العبد ولم يعنه بجميع ما يقدر عليه من وجوه الإعانة كان ظالما له، والتزموا أنه لا يقدر أن يهدي ضالا كما قالوا: إنه لا يقدر أن يضل مهتديا، وقالوا عن هذا: إذا أمر اثنين بأمر واحد، وخص أحدهما بإعانته على فعل المأمور كان ظالما إلى أمثال ذلك من الأمور التي هي من باب الفضل والإحسان، جعلوا تركه لها ظلما، وكذلك ظنوا أن التعذيب لمن كان فعله مقدرا ظلم له، ولم يفرقوا بين التعذيب لمن قام به سبب استحقاق ذلك ومن لم يقم" (1) . فالله عند المعتزلة عدل لا يظلم لأنه لم يرد وجود شيء من الذنوب، لا الكفر ولا الفسوق ولا العصيان، بل العباد يفعلون ذلك بغير مشيئته، والله لم يخلق شيئاً من أفعال العباد لا خيراً ولا شراً، لأنه لو كان خالقا لها ثم عاقب العاصين لكان ظالما لهم (2) . 4- قول أهل السنة، قالوا: الظلم وضع الشيء في غير موضعه وهذا معناه في اللغة، يقال: من أشبه أباه فما ظلم، ومن استرعى الذئب فقد ظلم (3) ، وعلى هذا المعنى بنى أهل السنة تعريفهم للظلم الذي نزه الله نفسه عنه فقالوا: إن الله تعالى حكم عدل يضع الأشياء مواضعها، فلا يضع شيئاً إلا في موضعه الذي يناسبه، ولا يفرق بين متماثلين، ولا يسوي بين مختلفين (4) . وعلى هذا فالظلم الذي حرمه الله على نفسه، وتنزه عنه فعلا وإرادة هو ما فسره به سلف الأمة وأئمتها أنه لا يحمل المرء سيئات غيره، ولا يعذب بما لم تكسب يداه،   (1) شرح حديث أبي ذر - مجمو الرسائل المنيرية (3/206) . (2) انظر: جامع الرسائل (1/123) . (3) انظر: الصحاح، ولسان العرب مادة - ظلم - وانظر: تأويل مشكل القرن (ص: 467) . (4) انظر: جامع الرسائل (1/124) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1324 وأنه لا ينقص من حسناته فلا يجازي بها أو ببعضها، وهذا هو الظلم الذي نفي الله خوفه عن العبد بقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} (طه:112) ، قال المفسرون لا يخاف أن يحمل عليه من سيئات غيره ولا ينقص من حسناته، وقيل: يظلم بأن يؤاخذ بما لم يعمل (1) . والله تعالى قادر على الظلم، ولكنه تعالى نزه نفسه عنه، وحرمه على نفسه، كما ورد في ذلك الأدلة الكثيرة، وأشهرها حديث أبي ذر: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم مكرما فلا ظالموا" (2) . وغيره. ويلاحظ أن الأشاعرة جاء تفسيرهم للظلم مواكبا لمذهبهم في القدر، فهم لميلهم إلى مذهب الجبرية، إذا قيل لهم إن قولكم إن للعبد قدة غير مؤثرة، نتيجته الجبر، فكيف يعذب الله العباد على ما جبرهم عليه، هذا ظلم، قالوا ليس هذا ظلماً لأن الظلم هو التصرف في ملك الغير أو مخالفة الآمر الذي تجب طاعته، وهذا منتفق بالنسبة لله. ولا شك أن هذا التفسير للظلم مخالف للمعروف من لغة العرب، ولما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة التي ورد فيها هذا اللفظ، كما أن قولهم بأن الظلم ممتنع عليه ليسه فيه مدح ولا كمال، وإنما المدح والكمال أن يقال: إن الله سبحانه منزه عنه، لا يفعله لعدله، والمدح إنما يكون بترك المقدور عليه، لا بترك الممتنع (3) . خامساً: تكليف ما لا يطاق: الطاقة هي الإستطاعة، والخلاف بين الطوائف قائم حول تحديد المقصود با لا يطاق، هل هو الممتنع عادة، أو المستحيل كالجمع بين الضدين، أو هو كتكليف الكافر وهو لا يؤمن.   (1) انظر: زاد المسير - سورة ط آية: 112- شرحح الطحاوية (ص:50) ط المكتب الإسلامي، ومنهاج السنة (1/90-92) . ط دار العروبة المحققة. (2) سبق تخريجه (ص:728) . (3) انظر: في مسألة الظلم والأقوال فيه: جامع الرسائل (1/27-129) ، والجواب الصحيح، (1/219) ، النبوات (ص:143) - ط دار الكتب العلمية، منهاج السنة (1/318) ط دار العروبة المحققة، (1/361) - مكتبة الرياض الحديثة، (3/23-26) - ط بولاق، مجموع الفتاوى (8/505-510، 11/675-676) ، درء التعارض (10/28) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1325 وشيخ الإسلام يبين أن هذا الخلاف ناتج عن عدم التفريق بين أمرين متعلقين بالنزاع في هذه المسألة: 1- ما يرجع إلى الفعل المأمور به، وهذا فيما يتعلق بالقضاء والقدر. 2- وما يرجع إلى جواز الأمر بالشيء، وهذا فيما يتعلق بمسائل الأمر والنهي. والذين خلطوا بين هذين القسمين وقعوا في المحذور، مثل قياس بعضهم أمر الله الكافر بالإيمان مع علمه تعالى أنه لا يفعل، بمسألة العاجز الذي لو أراد الفعل لم يقدر عليه، وجعلهم القسمين قسما واحداً وأنه تكليف بما لا يطاق. فهذا جمع مخالف لما يعلم بالإضطرار من الفرق بينهما، وهو من مثارات الأهواء بين القدرية والجبرية (1) . ولذى يرى شيرخ الإسلام أن إطلاق القول بتكليف ما لا يطاق من البدع الحادثة في الإسلام (2) . وقد وقع الخلاف في تكليف ما لا يطاق على أقوال: 1- جواز تكليف ما لا يطاق، ومنه تكليف الأعمى البصر، والزمن أن يسير إلى مكة. وهذا قول جهم بين صفوان (3) . 2- عدم جواز تكليف ما لا يطاق، وقد معونه لقبحه عقلا، وهذا مبني على مذهبهم في أن القدرة تكون قبل الفعل فقط، حتى يتحقق التكليف، ومن ثم يترتب عليه الثواب والعقاب، ولذلك منعوا أن تكون القدرة مقارنة لمقدورها، لأن معنى ذلك أن يكون تكليف الكافر بالإيمان تكليفاً بما لا يطاق؛ إذ لو أطاقه لوقع منه، فلما يقع منه دلي على أنه غير قادر عليه، وتكليف ما لا يطاق قبيح، وهذا قول المعتزلة ومن وافقهم (4) .   (1) انظر: درء التعارض (1/64-65) . (2) انظر: المصدر السابق (1/65) . (3) انظر: مجموع الفتاوى (8/297) . (4) انظر: شر ح الأصول الخمسة (ص:396) ، والمختصر في أصول الدين لعبد الجبار الهمذاني (ص:218) ، ونظرية التكليف، عبد الكريم عثمان (ص:301) ، وشرح المواقف (ص:331) - الجزء المحقق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1326 3- أن تكليف ما لا يطاق جائز، وهذا مذهب الأشاعرة، وبنوا ذلك على ما في مذهبهم من أنه لا يجب على الله شيء ولا يقبح منه شيء. لكن الأشاعرة يقولون، إن ما لا يطاق أقسام: ?- أن يمتنع الفعل لعلم الله بعدم وقوعه، كتكليف الكافر الإيمان في حالة كفره، وهذا جائز عند جميع الأشاعرة، وهذا النوع هو مالا يستطيعه المكلف لاشتغاله بضده فقط وهو الذي منعه المعتزلة (1) . ?- أن يمتنع الفعل لنفسه، بكون محالا كالجمع بين الضدين. وهذا اختلف فيه الأشاعرة، منهم من أجازه كالرازي ومنهم من منعه (2) . ?- ألا تتعلق به القدرة الحادثة عادة، كحمل الجبل، والطيران، فهذا يجوزه بعض الأشاعرة وإن لم يقع من خلال الإستقراء، وبعض المجوزين يحتج لذلك بتكليف أبي لهب الإيمان مع ورود الخبر أنه لا يؤمن (3) . 4- مذهب السلف، التفصيل، وذلك أن يقال: تكليف مالا يطاق على وجهين: أحدهما: مالا يقدر على فعله لاستحالته، وهو نوعان: أما وقع ممتنع عادة كالمشي على الوجه والطيران، وكالمقعد الذي لا يقدر على القيام، والأخرس الذي لا يقدر على الكلام. ب وما هو ممتنع في نفسه كالجمع بين الضدين، وجعل المحدث قديما، والقديم محثدا، ونحو ذلك. فهذا النوعان قد اتفق حملة الشريعة على أن مثل هذا ليس بواقع، وأنه لا يجوز تكليفه (4) .   (1) انظر: شرح المواقف (ص:331-332) الجزء المحقق. (2) انظر: الإرشاد (ص:226) ما بعدها، معالم أصول الدين للرازي (ص:85-86) ، ط مكتبة الكليات الأزهرية، وشرح المواقف (ص:332) الجزء المحقق. (3) انظر: مجموع الفتاوى (8/295) ، وشرح المواقف (ص:333) الجزء المحقق. (4) انظر: مجموع الفتاوى (8/301) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1327 والثاني: ما لا يقدر عليه لإستحالته، ولا للعجز عنه، لكن لتركه والاشتغال بضده، مثل تكليف الكافر الإيمان في حال كفره، فهذا جائز خلافا للمعتزلة، لأنه من التكليف الذي اتفق المسلمون على وقوعه في الشريعة. ولكن إطلاق تكليف ما لا يطاق على هذا مما منعه جمهور أهل العلم، وإن كان بعض المنتسبين إلى السنة قد أطلقه في ردهم على القدرية (1) . بقي الكلام في احتج به بعض الأشاعرة من جواز تكليف الممتنع عادة، بقصة أبي لهب (2) ، فشيخ الإسلام يرى أن هذا خطأ، لأن من أخبر الله أنه لا يؤمن وأنه يصلي النار، بعد دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له إلى الإيمان، فهذا حق حققت عليه كلمة العذاب، فهو كالذي يعاين الملائكة وقت الموت، فلم يبق هذا مخاطباً من جهة الرسول بالأمرين المتناقضين. وهو أيضاً كقوم نوح حين أخبر الله نوحاً - عليه السلام - أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، فلم يكن بعد هذا يأمرهم بالإيمان بهذا الخطاب (3) . "بل إذا قدر أنه أخبر بصليه النار المستلزم لموته على الكفر وأنه سمع هذا الخطاب ففي هذا الحال انقطع تكليفه، ولم ينفعه إيمانه حينئذ، كإيمان من يؤمن بعد معاينة العذاب، قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} (غافر: من الآية85) (4) . فأبو لهب قد حقت عليه كلمة العذاب، فلا ينفعه الإيمان (5) . وهكذا فالقول الراجح هو التفصيل فيها. ومن ذلك يتبين خطأ المعتزلة والجهمية وبعض الأشاعرة علما بأن من الأشاعرة من ذلك القول الحق بتفصيله   (1) انظر: المعتمد في أصول الدين للقاضي أبي يعلى (ص:46-147) ، ومجموع الفتاوى (8/298-302) ، ودرء التعارض (1/60) . (2) كالرازي في معالم أصول الدين (ص:85) ، ط مكتبة الكليات الأزهرية، وانظر: مجموع الفتاوى (8/303) . (3) انظر: مجموع الفتاوى (8/302) ، ودرء التعارض (1/63) . (4) انظر: درء التعارض (1/63-64) . (5) انظر: مجموع الفتاوى (8/438، 473-474) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1328 في هذه المسألة (1) . هذه أهم المسائل المتعلقة بالقدر، وهي وإن كانت مسائل فرعية إلا أنها ذات صلة قوية بموضوع القدر، أو هي جزء منه، ولا شك أن الأشاعرة لم يسلكوا فيها المسلك الصحيح الذي هو مسلك السلف - رحمهم الله - ولذلك جاء مذهبهم في القدر وفي أفعال العباد، منحرفا عن المذهب الحق.   (1) انظر: المعتمد في أصول الدين (ص:146) ، والاقتصاد للغزالي (ص:112-114) ط دار الكتب العلمية، ومجموع الفتاوى (8/296، 469-470) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1329 الفرع الثاني: أفعال العباد ومسألة "الكسب" : هذه المسألة هي لب الخلاف في القدر، ولأجلها صار الناس فيه فرقا وأحزابا، ولكي تتضح الصورة، وتحديد موضع الخلاف، ينبغي أن يلاحظ ما يلي: 1- القدر له أربع مراتب هي: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق، فأما مرتبتا العلم والكتابة فلم ينكرهما إلا غلاة القدرية الذين يقولون إن الأمر أنف، أي لم يسبق الله فيه علم، وقد تبرأ منهم الصحابة - رضي الله عنه -. أما بقية الطوائف فهم مقرون بهاتين المرتبتين. 2- أما مرتبنا: المشيئة والإرادة، والخلق، فقد وقع فيهما الخلاف على قولين: أحدهما: إنكار هاتين المرتبتين، وهذا مذهب المعتزلة - ومن وافقهم - الذين يقولون إن الله لا يريد الكفر والمعاصي، ويقولون إن الله لا يخلق أفعال العباد، وإنما هم الخالقون لأفعالهم. والثاني: الإقرار بهاتين المرتبتين. بإثبات الإرادة والمشيئة الشاملة، والقول بأن الله خالق كل شيء ومن ذلك أفعال العباد. وهذا قول الجمهور من أهل السنة، والجهمية، والأشاعرة والماتريدية ومن وافق هؤلاء. ولكن أفعال العباد لها متعلقان: أحدهما: بالخالق تعالى، فهذا قد اتفق فيه أهل السنة والأشاعرة على أن الله خالق أفعال العباد. والثاني: بالعبد، وله له قدرة أو لا، وهل قدرته مؤثرة أو غير مؤثرة. وهذه وقع فيها الخلاف بين الطوائف إلى حد كبير. وهذه القدرة التي بها يتمكن العبد من الفعل، هي التي تسمى بالاستطاعة. ولتوضيح هذه المسألة - مسألة علاقة أفعال العباد بهم - لا بد من عرض الخلاف من خلال أمرين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1330 أحدهما: الاستطاعة أو القدرة، وهل تكون قبل الفعل أو بعده. والثاني: هل هذه القدرة موجودة أو معدومة، وهل هي مستقلة أو غير مستقلة، وهل إذا كانت غير مستقلة تكون مؤثرة أو غير مؤثرة. أولاً: الاستطاعة: الاستطاعة، والقدرة، والقوة، والوسع، والطاقة، كلها متقاربة المعنى. وقد عرف الجرجاني الاستطاعة بأنها: "هي عرض يخلقه الله في الحيوان يفعل به الأفعال الاختيارية" (1) ، وهي في عرف المتكلمين: عبارة عن صفة بها يتمكن الحيوان من الفعل والترك (2) . وقد وقع الخلاف فيها على أقوال: 1- قول الجهمية، وهو أنه ليس للعبد أي استطاعة، لا قبل الفعل ولا معه، بل له قدرة شكلية غير مؤثرة في الفعل أصلا، وتسمى فعلا له تجوزا (3) . 2- قول المعتزلة ومن وافقهم: وهو أن الله تعالى قد مكن الإنسان من الاستطاعة، وهذه الاستطاعة قبل الفعل، وهي قدرة عليه وعلى ضده، وهي غير موجبة للفعل (4) . 3- قول الأشاعرة ومن وافقهم: وهو أن الاستطاعة مع الفعل لا يجوز أن تتقدمه ولا أن تتأخر عنه، بل هي مقارنة له، وهي من الله تعالى، وما يفعله الإنسان بها فهو كسب له (5) .   (1) انظر: التعريفات (ص:12) . (2) انظر: المصدر السابق، نفس الصفحة. (3) انظر: الملل والنحل (1/85) ، والبحر الزخار (1/123) ، والفرق بين الفرق (ص:211) ، والإرشاد (ص:215) . (4) انظر: مقالات الإسلاميين (1/300) - ت عبد الحميد، والفرق بين الفرق (ص:116) ، ونظرية التكليف (ص:317) ونما بعدها. وانظر: شرح الأصول الخمسة (ص:398) ، وفي الفلسفة الإسلامية، منهج وتطبيقه (2/106-107) . (5) انظر: الإرشاد (ص:219-220) ، والحرة - المطبوعة باسم الإنصاف (ص:46) ، ومعالم أصول الدين للرازي (ص:83) ، ط مكتبة الأزهرية، والمعتمد لأبي يعلى (ص:142) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1331 4- قول أهل السنة - وهو الذي عليه محققو المتكلمين وأهل الفقه والحديث والتصوف وغيرهم - وهو التفصيل: أفهناك استطاعة للعبد بمعنى الصحة والوسع، والتمكن وسلامة الآلات، وهي التي تكون مناط الأمر والنهي، وهي المصححة للفعل، فهذه لا يجب أن تقارن الفعل، بل تكون قبله متقدمة عليه، وهذه الاستطاعة المتقدمة صالحة للضدين ومثالها قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران: من الآية97) ، فهذه الاستطاعة قبل الفعل ولو لم تكن إلا مع الفعل لما وجب الحج إلا على من حج، ولما عصى أحد بترك الحج. وهذه الاستطاعة هي مناط الأمر والنهي، ويه التي يتكلم فيها الفقهاء وهي الغالبة في عرف الناس. ب وهناك الاستطاعة التي يجب معها وجود الفعل، وهذه هي الاستطاعة المقارنة للفعل، الموجبة له، ومن أمثلتها قوله تعالى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} (هود: من الآية20) وقوله: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} (الكهف:101) "فالمراد بعدم الاستطاعة مشقة ذلك عليهم وصعوبته على نفسوهم، فنفوسهم لا تستطيع إرادته وإن كانوا قادرين على فعله لو أرادوه. وهذه حال من صده هواه أو رأيه الفاسد عن استماع كتب الله المنزلة واتباعها وقد أخبر أنه لا يستطيع ذلك، وهذه الاستطاعة هي المقارنة الموجبة له" (1) ، وهي الاستطاعة الكونية التي هي مناط القضاء والقدر، وبها يتحقق وجود الفعل (2) . وبهذا التفصيل - الوسط - الذي شرحه شيخ الإسلام يحل الاشكال، ويتضح الأمر. والذين حاولوا أن يوجدوا حلا للخلاف القائم بين المعتزلة والأشاعرة لم يجدوه إلا بالرجوع إلى هذا التفصيل الموافق لمذهب أهل   (1) درء التعارض (1/61) . (2) انظر: مجموع الفتاوى (8/129-130، 290-292، 371-376، 441) ، ومنهاج السنة (1/7-8، 369-373) مكتبة الرياض الحديثة، والتحفة العراقية - مجموع الفتاوى - (10/32) ، وشرح حديث أني حرمت الظلم - مجموع الفتاوى - (18/172-173) ، ودرء التعارض (9/241) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1332 السنة (1) . أما من خالفهم فقد وقع في الانحراف، فالمعتزلة حصروا القدرة والاستطاعة عند الإنسان بأنها تكون قبل الفعل، وأنكروا الاستطاعة الكونية المقارنة. والأشاعرة جعلوا الاستطاعة كلها مقارنة للفعل فلم يجدوا حلا صحيحاً للاستطاعة والقدرة التي هي شرط للعمل والتي هي بمعنى الصحة وسلامة الآلات. أما أهل السنة فجعلوا الاستطاعة نوعين، نوعا قبل الفعل وهو سلامة الجوارح، ونوعا معه وهو ما يجب به وجود الفعل. ثانياً: مدى قدرة العباد على أفعالهم: وكثيرا ما يعرض الخلاف حولها باسم الأقوال في أفعال العباد، وهي أهم قضية وقع فيها الخلاف، ويمكن عرض الأقوال فيها - مع شرح واضح لمذهب الأشاعرة - كما يلي: القول الأول: إن العباد مجبورون على أعمالهم، لا قدرة لهم ولا إرادة ولا اختيار، والله وحده هو خالق أفعال العباد، وأعمالهم إنما تنسب إليهم مجازاًن وحركتهم واختيارهم كورق الشجر تحركه الرياح، وكحركة الشمس والقمر والأفلاك. وهذا هو مذهب الجبرية وأشهر فرقهم الجهمية (2) . القول الثاني: إن أفعال العباد ليست مخلوقة لله، وإنما العباد هم الخالقون لها، ولهم إرادة وقدرة مستقلة عن إرادة الله وقدرته، فأفعالهم لا فاعل لها ولا محدث سواهم، ومن قال: إن الله خالقها ومحدثها فقد عظم خطؤه - كما يقول عبد الجبار الهمذاني (3) .   (1) انظر: محاولة الرازي في معالم أصول الدين (ص:83) ، ط الأزهرية، وانظر: حاشية محقق رسالة الحرة - المطبوعة باسم الأنصاف (ص:46) . (2) انظر: الفرق بين الفرق (ص:211) ، والملل والنحل للشهرستاني (1/87) ، ومقالات الإسلاميين (1/238) ، ت عبد الحميد، واعتقادات فرق المسلمين للرازي (ص:103) ، وانظر "جهم بن صفوان ومكانته في الفكر الإسلامي" تأليف خالد العسلي، (ص:114-177) . (3) انظر: المغنى لعبد الجبار (8/8، 16، 43، 9/95) وما بعدها، وشرح الأصول الخمسة (ص:336) وما بعدها، وإنقاذ البشر من الجبر والقدر (ص:49) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1333 والمعتزلة قالوا إن العبد يخلق، فعله، ليصح ثوابه وعقابه على أعماله (1) . القول الثالث: قول الماتريدية، وهم يقولون: إن الله تعالى خالق أفعال العباد كلها، ولا خالق إلا هو، كما يقول الأشاعرة وجميع أهل السنة (2) ، يقول الماتريدي: - عند تفسيره لقوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (البقرة: من الآية15) رادا على المعتزلة: "وفي هذا أنه إذا كان هو الذي يمدهم في الطغيان قدر على ضده من فعل الإيمان، فدل أن الله خالق فعل العباد، إذ من قولهم: إن القدرة التامة هي التي إذا قدر على شيء قدر على ضده" (3) ، ويقول عند تفسير قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} (البقرة: من الآية109) بعد رده على المعتزلة "ولكن نقول: خلق فعل الحسد من الخلق، وكذلك يقال في الأنجاس والأقذار والحيات والعقارب ونحوها: إنه لا يجوز أن تضاف إلى الله تعالى، فيقال يا خالق الأنجاس والحيات والعقارب، وإن كان ذلك كله خلقه، وهو خالق كل شيء" (4) . ويقول النسفي: "والله سبحانه وتعالى خالق لأفعال العباد من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان لا كما زعمت المعتزلة أن العبد خالق لأفعاله" (5) .   (1) انظر: كتاب العدل والتوحيد للرسي - ضمن رسائل العدل والتوحيد (1/118) . (2) انظر: شرح الفقه الأكبر لأبي حنيفة: أعداد عبد الكريم تتان (ص:28-29) . نشر مكتبة الغزالي ومكتبة ابن الفارض - حماة، وانظر: شرح الفقه الأكبر ملا علي قاري (ص:44) ، والوصية لأبي حنيفة (ص:74) ، بقلم فؤاد علي رضا، مكتبة الجماهير - بيروت، مكتبة مدبولي - القاهرة، ط الأولى 1970م. (3) تفسير الماتريدي: المسمى: تأويلات أهل السنة ج1 (ص:51-52) طبعة 1391هـ. (4) تفسير الماتريدية (1/249) . (5) شرح العقائد النسفية: سعد الدين التفتاراني (ص:77-78) ، تحقيق: كلود سلامة ط دمشق، وزارة الثقافة والإرشاد القومي 1974م. وانظر: كتاب بحر الكلام في علم التوحيد" تأليف: أبي المعين النسفي (ص:41) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1334 فالماتريدية - وجمهور الحنفية منهم - موافقون لأهل السنة في أن الله سبحانه وتعالى خالق أفعال العباد، ولكن تعلق العباد بأفعالهم لهم فيه رأي خاص اشتهروا به وهو: أنهم يثبتون للعباد إرادة جزئية، ويه غير مخلوقة، وأمرها بأيديهم، فهم "جعلوا كسب العباد عبارة عن إرادتهم الجزئية ... وربما عبروا عنها بالقصد وصرف الإرادة الكلية نحو الفعل، قالوا: إن هذه الإرادة الجزئية صادرة من العباد، وهي لا موجودة ولا معدومة، وإما من قبيل الحال المتوسط بينهما أو من الأمور الاعتبارية، فلا يتضمن صدورها منهم معنى الخلق، إذ الخلق يتعلق بالموجود" (1) ، فالعبد عند الماتريدية له قدرة يخلقها الله تعالى فيه عنده قصده الفاعل قصداً مصمما، طاعة كان أو معصية، وإن لم تؤثر قدرته في وجود الفعل لمانع هو تعلق قدرة الله التي لا يقاومها شيء في إيجاد ذلك (2) . ويلاحظ أن مذهب الماتريدية هذا قربهم قليلاً من مذهب المعتزلة، كما أن مذهب جمهور الأشاعرة قريب من قول الجهمية، فكلا قولي الأشاعرة والماتريدية متفق على أن الله هو الخالق والعبد كاسب، بمعنى أنه متسبب بعزمه في أن يخلق الله الفعل ويجريه على يديه، لكن اختلفوا في هذا العزم، أمن عمل العبد هو أم من عمل الرب؟ بمعنى: هل العبد هو الذي يوه إرادة نفسه مختارا في هذا التوجيه؟ أم الله هو الذي يوجه إرادة العبد إلى الشيء أو ضده ولا يملك العبد لذلك نقضا ولا تحويلا؟ قال بالأول الماتريدية، وبالثاني الأشاعرة (3) . القول الرابع: قول الأشاعرة وأتباعهم: وهؤلاء يقولون: إن الله - سبحانه وتعالى - خالق أفعال العباد، وبهذا الأصل خالفوا المعتزلة القائلين بأن الله لا يخلق أفعال العباد بل هم الخالقون لها،   (1) موقف البشر تحت سلطان القدر: مصطفى صبري (ص:69) ، وانظر الإنسان هل مسير أم مخير؟ الدكتور فؤاد العقلي (ص:50) - طبعة أولى 1980م. (2) انظر: شرح الفقه الأكبر: علي قاري (ص:46 - وانظر: شرح العقائد النسفية (ص:86-87-88) ، تحقيق كلود سلامة. (3) انظر: المختار من كنوز السنة النبوية: الدكتور: محمد عبد الله دراز (ص:247) ، وانظر أيضاً: "شيخ الإسلام الهروي" للدكتور محمد سعيد الأفغاني (ص:154-155) . وانظر في مذهب الماتريدية: في الفلسفة الإسلامية (2/123-124) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1335 وبتميز هذا الجانب عند الأشاعرة والماتريدية صار مذهبهم مشهوراً بأنه مذهب أهل السنة والجماعة، وهذا حق. ولكن عند عرض مذهبهم في الجاني الثاني من قضية خلق أفعال العباد وهو جانب تعلق أفعال العباد بهم، وهل هم الفاعلون لها؟ أم هي كسب لهم، وما مدى تعلق قدرة العباد بأفعالهم ... الخ. أقول: عند عرض مذهبهم في هذا يتضح مدى اختلافهم وبعدهم عن مذهب أهل السنة والجماعة الحقيقي. وهناك آمر آخر، وهو أن بعض كبار الأشاعرة قد رجعوا عن آرائهم التي كانوا يقولون بها في القدر إلى مذهب أهل السنة والجماعة، وهذا يستلزم الدقة في عرض الآراء، وخاصة في نسبة الأقوال إلى أصحابها من الناحية التاريخية. وقد عرض آراء الأشاعرة - من خلال كتبهم - نورد ما أورده الشهرستاني حول مذهب الأشاعرة في القدر، وتطور آرائهم على يد كبار علمائهم، الواحد تلو الآخر، يقول: "قال (أي أبو الحسن الأشعري) : والعبد قادر على أفعاله إذ الإنسان يجد من نفسه تفرقة ضرورية بين حركات الرعدة والرعشة، وبين حركات الاختيار والإرادة، والتفرقة راجعة إلى أن الحركات الاختيارية حاصلة تحت القدرة، متوقفة على اختيار القادر، فمن هذا قال: المكتسب هو المقدور بالقدرة الحاصلة، والحاصل تحت القدرة الحادثة. ثم على أصل أبي الحسن: لا تأثير للقدرة الحادثة في الإحداث، لأن جهة الحدوث قضية واحدة لا تختلف بالنسبة إلى الجوهر والعرض، فلو أثرت في قضية الحدوث لأثرت في حدوث كل محدث حتى تصلح لإحداث الألوان والطعوم والروائح وتصلح لإحداث الجواهر والأجسام، فيؤدي إلى تجويز وقوع السماع على الأرض بالقدرة الحادثة، غير أن الله تعالى أجرى سننه بأن يحقق عقيب القدرة الحادثة أو تحتها، أو معها: الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرد له، ويسمى هذا الفعل كسباً، فيكون خلقا من الله تعالى إبداعاً وإحداثاً، وكسبا من العبد: حصولا تحت قدرته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1336 والقاضي أبو بكر الباقلاني تخطى عن هذا القدر قليلا، فقال: الدليل قد قام على أن القدرة الحادثة لا تصلح للإيجاد، لكن ليست تقتصر صفات الفعل أو وجوهه واعتباراته على جهة الحدوث فقط، بل ها هنا وجوه أخرهن وراء الحدوث من كون الجوهر جوهرا متحيزاً، قابلاً للعرض، ومن كون العرض عرضا، ولونا، وسوادا، وغير ذلك ... قال: فجهة كون الفاعل حاصلا بالقدرة الحادثة أو تحتها نسبة خاصة، ويسمى ذلك كسبا، وذلك هو أثر القدرة الحادثة ... فأثبت القاضي تأثيراً للقدرة الحادثة وأثرها ... . ثم إن إمام الحرمين أبو المعالي الجويني تخطى عن هذا البيان قليلا، قال: أما نفي هذه القدرة والاستطاعة فمما يأباها العقل والحس، وأما إثبات قدرة لا أثر لها يوجه فهي كنفي القدرة أصلاً، وأما إثبات في حالة لا يفعل فهو كنفي التأثير، خصوصا والأحوال على أصلهم لا توصف بالوجود والعدم، فلا بد إذن من نسبة فعل العبد إلى قدرته حقيقة لا على وجه الإحداث والخلق، فإن الخلق يشعر باستقلال إيجاده من العدم، والإنسان كما يحس من نفسه الاقتدار يحس من نفسه أيضاً عدم الاستقلال ... " (1) . فهذا النص - عن الشهرستاني - يوضح كيف أن قول الأشاعرة في أفعال العباد لم يثبت على قدم الإستقرار، ولم يكن مقنعا لكبار علمائهم الذين بحثوا هذه المسألة، ويلاحظ في عرض هذا التطور لمذهب الأشاعرة أنهم يسرون نحو القول الحق الذي يقول به أهل السنة والجماعة - كما سيأتي - مع العلم بأن الذي استقر عليه مذهب الأشاعرة موافق لما قالوه أولا، والذي ذكر الشهرستاني أنه قول أبي الحسن الأشعري، وأنه لا تأثير للقدرة الحادثة. ونعرض لأهم أقوال الأشاعرة: 1- قول جمهور الأشاعرة ومتأخريهم، وهؤلاء يقولون إن الله خالق أفعال العباد فيثبتون مرتبتي المشيئة والخلق، ولكن يقولون: "إن أفعال العباد   (1) الملل والنحل للشهرستاني (1/96-99) ، وانظر: نهاية الأقدام له (ص:72-78) ، وانظر: مذهب الإسلاميين: عبد الرحمن بدوي (1/557-561) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1337 الاختيارية واقعة بقدرة الله تعالى وحدها، وليس لقدرتهم تأثير فيهان بل الله سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختيارا، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما، فيكون الفعل مخلوقاً لله إبداعاص وإحداثاً، ومكسوباً، للعبد، والمراد بكسبه إياه: مقارنته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلا له" (1) . فأفعال العباد كلها مخلوقة لله تعالى، وهي كسب للعباد، وعلى ذلك يترتب الثواب والعقاب، ولا تأثير لقدرة العبد في الفعل، وهذا قول جمهور الأشاعرة وهو القول الذي شنع بسببه المعتزلة على الأشاعرة لأنهم لما لم يثبتوا للعبد قدرة مؤثرة لم يكونوا بعيدين عن قول الجبرية (الجهمية) . وللكسب عند هؤلاء تعريفات، أهمها: 1- ما يقع به المقدور من غير صحة انفراد القادر به (2) . 2- ما يقع به المقدور في محل قدرته (3) . 3- وبعض الأشاعرة يعرف الكسب بأنه: "ما وجد بالقادر وله عليه قدرة محدثة" (4) . ويضرب بعضهم للكسب مثلا "في الحجر الكبير قد يعجز عن حمله رجل، ويقدر آخر على حمله منفردا به، إذا اجتمعا جميعاً على حمله كان حصول الحمل بأقواهما ولا خرج أضعفهما بذلك عن كونه حاملا، كذلك العبد لا يقدر على الانفراد بفعله ولو أراد الله الانفراد بإحداث ما هو كسب للعبد   (1) شرح المواقف: للجرجاني (237) ، تحقيق الدكتور أحمد المهدي، وانظر: عيون المناظرات لأبي علي عمر السكوني (ص:164، 176، 224) . (2) الإنسان هل هو مسير أم مخير؟ الدكتور فؤاد العقلي (ص:11) ، الطبعة الأولى 1980م، مكتبة الخانجي القاهرة. وانظر: شرح جوهرة التوحيد للباجوري (ص:219) ، ط 1392هـ. (3) شرح جوهرة التوحيد (ص:219) . (4) المعتمد في أصول الدين: (ص:128) ، وانظر: التعليقات على شرح الدواني للعقائد العضدية: لجمال الدين الأفنغاني (ص:309) من الجزء الأول، ضمن الأعمال الكاملة لمؤلفات جمال الدين الأفغاني، تحقيق محمد عمارة، ط الأولى 1979م. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1338 قدر عليه ووجد مقدوره، فوجوده على الحقيقة بقدرة الله تعالى ولا يخرج مع ذلك المكتسب من كونه فاعلا وإن وجد الفعل بقدرة الله تعالى" (1) . وكسب الأشعري هذا هو الذي قيل فيه: ثلاثة أشياء لا حقيقة لها ومنها كسب الأشعري (2) ، وقد دار حوله نقاش طوي لوعريض، ولم ينته الأشاعرة فيه إلو قول مستقيم (3) . 2- قول أبي بكر الباقلاني: وهو كقول جمهور الأشاعرة إلا أنه خالفهم بأن الأفعال واقعة بمجموع القدرتين "على أن تتعلق قدرة الله بأصل الفعل وقدرة العبد بصفته، أعين بكونه طاعة ومعصية، إلى غير ذلك من الأوصاف التي لا توصف بها أفعال تعالى، كما في لطم اليتيم تأديبا أو إيذاء، فإن ذات اللطم واقعة بقدرة الله وتأثيره، وكونه طاعة على الأول، ومعصية على الثاني بقدرة العبد وتأثيره" (4) ، يقول الباقلاني في رسالة الحرة: "ويجب أن يعلم أن العبد له كسب وليس مجبوراً، بل مكتسب لأفعاله من طاعة ومعصية لأنه تعالى قال: {لَهَا مَا كَسَبَت} (البقرة: من الآية134) يعني من ثواب طاعة {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَت} (البقرة: من الآية286) يعني من عقاب معصية ... ويدل على صحة هذا أيضاً: أن العاقل منا يفرق بين تحرك يده جبرا وسائر بدنه عند وقوع الحمى به، أو الارتعاش، وبين أن يحرك هو عضوا من أعضائه قاصدا إلى ذلك باختياره، فأفعال العباد هي كسب لهم وهي خلق الله تعالى، فما يتصف به الحق لا يتصف به الخلق، وما يتصف به الخلق لا يتصف به الحق، وكما لا يقال لله تعالى إنه مكتسب، كذلك لا يقال للعبد إنها خالق" (5) .   (1) أصول الدين للبغدادي (ص:133-134) ، وانظر: نشأة الأشعرية وتطورها، دكتور: جلال محمد موسى (ص:238) . (2) وطفرة النظام، وأحوال أبي هاشم، انظر: مجموع الفتاى (8/128*. (3) انظر: مثلا: النشر الطيب على شرح الطيب، ادريس بن أحمد الوزاني الفاسي، (1/461) ، ط الأولى 1348هـ، وانظر: كتاب المسامرة، للكمال بن أبي شريف، بشرح المسايرة لابن الهمام (ص:107) ، ط الأولى، بولاق، 1317هـ، وانظر: حاشية الكلنبوي على شرح الدواني، مع حاشية المرجاني والخلخاني (1/251) ، ط 1317هـ. (4) شرح المواقف (ص:239) - الجزء المحقق. (5) رسالة الحرة - المطبوعة باسم الإنصاف (ص:43-44) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1339 إذن فمذهب الباقلاني أن الفعل واقع بقدرة العبد بوصفه طاعة أو معصية يترتب عليه الثواب والعقاب. 3- قول أبي المعالي الجويني: كان في الو أمره يقول بقول عامة الأشاعرة وقد صرح بمذهبه هذا في الإرشاد: قال "اتفق سلف الأمة قبل ظهور البدع والأهواء واضطراب الآراء على أن الخالق المبدع رب العالمين، ولا خالق سواه، ولا مخترع إلا هو، فهذا هو مذهب أهل الحق، فالحوادث كلها حدثت بقدرة الله تعالى، ولا فرق بين ما تعلقت قدرة العباد به، وبين ما تفرد الرب بالاقتدار عليه ويخرج من مضمون هذا الأصل أن كل مقدور لقادر فالله تعالى قادر عليه وهو مخترعه ومنشئه" (1) . ثم قال: "فالوجه القطع بأن القدرة الحادثة لا تؤثر في مقدورها أصلا، وليس من شرط تعلق الصفة أن تؤثر في متعلقها، إذ العلم معقول تعلقه بالمعلوم مع أنه لا يؤثر فيه، وكذلك الإرادة المتعلقة بفعل العبد لا تؤثر في متعلقها" (2) . وواضح من هذا الكلام تمسك الجويني بمذهب الأشاعرة، وكلننا نجد في "العقيدة النظامية" وهي آخر ما كتب في العقيدة يرد قوله هذا وقول عموم الأشاعرة (3) وقد أطال الكلام في هذه المسألة ووضح مذهبه الذي انتهى إليه، وهو موافق لمذهب أهل السنة والجماعة.   (1) الإرشاد (ص:187) . (2) المصدر السابق (ص:210) . (3) انظر: العقيدة النظامية (ص:43-56) ، تحقيق أحمد حجازي السقا، ط الأولى 1398هـ، وانظر في مذهب الجويني: النشر الطيب (1/464) ، والملم والنحل للشهرستاني (1/98) ، ونهاية الأقدام (ص:78) وما بعدها. وفي الفلسفة الإسلامية (2/118) وما بعدها، ومذاهب الإسلاميين (1/739) وما بعدها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1340 4- قول أبي حامد الغزالي، وهو أن أفعال العباد واقعة بمجموع القدرتين على فعل واحد، وجوز اجتماع المؤثرين على فعل واحد، يقول "وإنما الحق إثبات القدرتين على فعل واحد، والقول بمقدور منسوب إلى قادرين فلا يبقى إلا استبعاد توارد القدرتين على فعل واحد، وهذا إنما يبعد إذا كان تعلق القدرتين على وجه واحد، فإن اختلفت القدرتان واختلف وجه تعلقهما، فتوارد التعلقين على شيء واحد غير محال" (1) ، فالمؤثر عنده مجموع القدرتين، قدرة الله وقدرة العباد (2) . القول الخامس: قول أهل السنة والجماعة، وهؤلاء يقرون بالمراتب الأربع الثابتة والتي دلت عليها النصوص، وهي: العلم، والكتابة، والمشيئة والخلق، أما أفعال العباد فهي داخلة في المرتبة الرابعة، ولذلك فهم يقولون فهيا: إن الله خالق أفعال العباد كلها، والعباد فاعلون حقيقة، ولهم قدرة حقيقة على أعمالهم ولهم إرادة، ولكنها خاضعة لمشيئة الله الكونية فلا تخرج عنها. منهج شيخ الإسلام في الرد على الأشاعرة في القدر: أولاً: يوافق الأشاعرة أهل السنة في إثبات القدر، وأن الله خالق أفعال العباد. ثانياً: أما قولهم بإثبات قدرة للعبد غير مؤثرة، وتسمية فعله كسبا، فشيخ الإسلام يرجع أصل قولهم هنا إلى قضية سبق شرحها في باب الصفات وهي قولهم: إن الفعل هو المفعول، والخلق هو المخلوق، وعدم تفريقهم بين ما يقوم بالله من الأفعال، وما هو منفصل عنه، وجعلهم كل أفعال الله مفعولة له منفصلة عنه. فلما جاءوا إلى مسألة القدر وأفعال العباد واعتقدوا أنها مفعولة لله، قالوا: هي فعله، لأن الفعل عندهم هو المفعول، فيقيل لهم في ذلك: أهي فعل العبد؟ فاضطربوا في الإجابة، وانقسموا حيالها إلى أقوال ثلاثة:   (1) الاقتصاد (ص:58-59) ، ط دار الكتب العلمية. (2) انظر: الأربعين للرازي (ص:13) ، ط دار الآفاق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1341 - جمهورهم قالوا: هي كسب العبد لا فعله، ولم يفرقوا بين الكسب والفعل بفرق محقق. - ومنهم من قال: بل هي فعل بين فاعلين. وهو قول الغزالي الذي سبق. - ومنهم من قال: بل الرب فعل ذات الفعل والعبد صفته وهذا قول الباقلاني - كما سبق - (1) . "والتحقيق الذي عليه أئمة السنة وجمهور الأمة من الفرق بين الفعل والمفعول، والخلق والمخلوق. فأفعال العباد هي كغيرها من المحدثات مخلوقة مفعولة لله، ما أن نفس العبد وسائر صفاته مخلوقة مفعول لله، وليس ذلك نفس خلقه وفعله، بل هي مخلوقة ومفعولة، وهذه الأفعال هي فعل العبد القائم به، ليست قائمة بالله ولا يتصف بها، فإنه لا يتصف بمخلوقاته ومفعولاته، وإنما يتصف بخلقه وفعله كما يتصف بسائر ما يقوم بذاته، والعبد فاعل لهذه الأفعال وهو المتصف بها، وله عليها قدرة، وهو فاعلها باختياره ومشيئته، وذلك كله مخلوق لله، فهي فعل العبد، وهي مفعول للرب" (2) . وبهذا التفصيل الجيد يتبين غلط الأشاعرة حين جعلوا الفعل هو المفعول، فأوقعهم هذا في مأزق الكسب الذي اشتهروا به ولم يستطيعوا التخلص منه. ومع هذا الرد المجمل فإن لشيخ الإسلام كثيراً من الردود التفصيلية، وأهمها: 1- أن كسب الأشعري لا حقيقة له، لأنهم فسروه بأنه عبارة عن اقتران المقدور بالقدرة الحادثة، وقالوا: الخلق هو المقدور بالقدرة القديمة. وما دام العبد ليس بفاعل، ولا له قدرة مؤثرة في الفعل فالزعم بأنه كاسب، وتسمية فعله كسبا لا حقيقة له، لأنه القائل بذلك لا يستطيع أن يوجد فرقا بين الفعل الذي نفاه عن العبد، والكسب الذي أثبته له. وكثيرا ما يشير شيخ الإسلام إلى أن قول   (1) انظر: مجموع الفتاوى (2/119) . (2) المصدر السابق (2/119-129) ، وانظر: منهاج السنة (1/322-326) - ط دار العروبة المحققة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1342 الأشاعرة هذا قريب من قول الجهم الذي يصرح بالجبر (1) . 2- أما زعمهم بأنهم يفرقون بين الكسب الذي أثبتوه وبين الخلق بأن الكسب: عبارة عن اقتران المقدور بالقدرة الحادثة، والخلق هو المقدور بالقدرة القديمة، وقولهم أيضاً: الكسب هو الفعل القائم بمحل القدرة عليه، والخلق هو الفعل الخارج عن محل القدرة عليه، وزعمهم أن هذا يبعد قولهم عن قول الجهم الذي يقول بالجبر المحض (2) أما مزاعمهم هذه فمردودة بما يلي: أأن قولهم هذا "لا يوجب فرقاً بين كون العبد كسب، وبين كونه فعل، وأوجد، وأحدث، وصنع، وعمل، ونحو ذلك، فإن فعله وإحداثه وعمله وصنعه هو أيضاً مقدور بالقدرة الحادثة، وهو قائم في محل القدرة الحادثة" (3) . ب "وأيضاً فإنه لا فرق لا حقيقة له، فإن كون المقدور في محل القدرة أو خارجاً عن محلها لا يعود إلى نفس تأثير القدرة فيه، وهو مبني على أصلين: أن الله لا يقدر على فعل يقوم بنفسه، وأن خلقه للعالم هو نفس العالم، وأكثر العقلاء من المسلمين وغيرهم على خلاف ذلك، والثاني أن قدرة العبد لا يكون مقدورها إلا في كل وجودها، ولا يكون شيء من مقدورها خارجا عن محلها. وفي ذلك نزاع طويل" (4) . فالأشاعرة بنوا أقوالهم في الكسب وقدرة العبد على أصول غير مسلمة.   (1) انظر في مناقشة شيخ الإسلام لمسألة الكسب وإنه لا حقيقة له، وإنه كطفرة النظام وأحوال أبي هاشم، والرد عليهم في مسألة القدرة الحادثة: الصفدية (1/149-153) ، والنبوات (ص:199) - ط دار الكتب العلمية -، ومجموع الفتاوى (8/387، 403-407، 467-468) ، وشرح الأصفهانية (ص:149-150، 350) ت السعوي، والاستغاثة (2/173) ، ومنهاج السنة (1/323) ط دار العروبة المحققة (1/358، 2/51) ، مكتبة الرياض الحديثة، أقوم ما قيل في القضاء والقدر - مجموع الفتاوى - (8/128، 136-137) ، درء التعارض (1/82-84، 4/65، 6/49، 7/247-248، 9/167، 10/114-115) . (2) انظر: مجموع الفتاوى (8/118-119) . (3) المصدر السابق (8/119) . (4) المصدر نفسه، نفس الجزء والصفحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1343 جـ - وتفسيرهم التأثير بمجرد الاقتران يقتضي أن لا يكون هناك فرق بين أن يكون الفارق في المحل أو خارجاً عن المحل (1) . ح أن "من المستقر في فطر الناس، أن من فعل العدل فهو عادل، ومن فعل الظلم فهو ظالم، ومن فعل الكذب فهو كاذب، فإذا لم يكن العبد فاعلا لكذبه وظلمه وعدله، بل الله فاعل ذلك لزم أن يكون هو المتصف بالكذب والظلم" (2) ، وهذا من أعظم الباطل. ويقال للأشاعرة أيضاً: يقال لكم هنا ما تقولونه أنتم للمعتزلة في مسألة الكلام وأن من قام به الكلام فهو المتكلم، وأن الكلام إذا كان مخلوقاً كان كلاماً للمحلى الذي خلقه فيه. فكذلك إرادة العبد وقدرته (3) . خ أن القرآن مملوء بذكر إضافة أفعال العباد إليهم، ومن ذلك قوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة: من الآية17) وقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} (فصلت: من الآية40) وقوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} (التوبة: من الآية105) وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (البقرة: من الآية277) وغيرها كثير جداً (4) . د "أن الشرع والعقل متفقان على أن العبد يحمد ويذم على فعله، ويكون حسنة له أو سيئة، فلو لم يكن إلا فعل غيره لكان ذلك الغير هو المحمود المذموم عليها" (5) . ثالثاً: أن التفصيل الذي ذكره السلف، هو الحق وبه يزول الإشكال الذي توهمه هؤلاء في مسألة العباد، وكونها مخلوقة لله تعالى، وفي فعل للعباد حقيقة. وقد بنى السلف ذلك على أن الفعل غير المفعول والخلق غير المخلوق.   (1) انظر: مجموع الفتاوى (8/119) . (2) المصدر السابق (8/119-120) . (3) انظر: المصدر نفسه (8/120) . (4) انظر: المصدر نفسه، نفس الجزء والصفحة. (5) المصدر نفسه، نفس الجزء والصفحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1344 ومع وضوح مذهب السلف فإن شيخ الإسلام شرح بعض القضايا الغامضة حول مذهبهم، ومنها: 1- ما يقال من أنه إذا كانت أفعال العباد مخلوقة لله، وهي فعل لهم حقيقة، فكيف نجمع بين هذين الأمرين؟ يجيب عن هذا شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول: "قول القائل: هذا فعل هذا، وفعل هذا: لفظ فيه إجمال، فإنه تارة يراد بالفعل نفس الفعل، وتارة يراد به مسمى المصدر، فيقولك فعلت هذا أفعله فعلا، وعملت هذا أعمله عملا، فإذا أريد بالعمل نفس العمل الذي هو مسمى المصدر كصلاة الإنسان وصيامه ونحو ذلك، فالعمل هنا هو المعمول، وقد اتحد هنا مسمى المصدر والفعل، وإذا أريد بذلك ما يحصل بعمله كنساجة الثوب وبناء الدار ونحو ذلك، فالعمل هنا غير المعمول، قال تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَات} (سبأ: من الآية13) فجعل هذه المصنوعات معمولة للجن، ومن هذا الباب قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (الصافات:96) أي والله خلقكم وخلق الأصنام التي تنحتونها ... والمقصود أن لفظ "الفعل" و"العمل" و"المصنع" أنواع وذلك كلفظ البناء والخياطة والتجارة تقع على نفس مسمى المصدر، وعلى المفعول وكذلك لفظ "التلاوة" و"القراءة" و"الكلام" و"القول" يقع على نفس مسمى المصدر، وعلى ما يحصل بذلك من نفس القول والكلام، فيراد بالتلاوة والقراءة نفس القرآن المقرؤ المتلو، كما يراد بها مسمى المصدر. والمقصود أن القائل إذا قال: هذه التصرفات فعل الله أو فعل العبد، فإن أراد بذلك أنها فعل الله بمعنى المصدر فهذا باطل باتفاق المسلمين، وبصريح العقل، ولكن من قال هي فعل الله وأراد به أنها مفعولة مخلوقة لله كسائر المخلوقات فهذا حق"، ثم وضح المسألة فقال: "وأما من قال (وهم جمهور أهل السنة) : خلق الرب تعالى لمخلوقاته ليس هو نفس مخلوقاته، قال: إن أفعال العباد مخلوقة كسائر المخلوقات، ومفعولة للرب كسائر المفعولات، ولم يقل: إنها نفس فعل الرب وخلقه، بل قال: إنها نفس فعل العبد، وعلى هذا تزول الشبهة، فإنه يقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1345 الكذب والظلم ونحو ذلك من القبائح يتصف بها من كانت فعلا له، كما يفعلها العبد، وتقوم به، ولا يتصف بما خلقه في غيره من الطعوم والألوان والروائح والأشكال والمقادير والحركات وغير ذلك، فإن كان قد خلق لون الإنسان لم يكن هو المتلون به، وإذا خلق رائحة منتنة أو طعما مرا أو صورة قبيحة ونحو ذلك مما هو مكروه مذموم مستقبح، لم يكن هو متصفا بهذه المخلوقات القبيحة المذمومة المكروهة والأفعال القبيحة، ومعنى قبحها كونها ضارة لفاعلها، وسببا لذمه وعقابه، وجالبة لألمه وعذابه، وهذا أمر يعود على الفاعل الذي قامت به لا على الخالق الذي خلقها فعلا لغيره" (1) . 2- ومن الأمور التي تحتاج إلى بيان: مسألة قدرة العبد وهل لها تأثير أولا؟ يوضح هذا شيخ الإسلام ابن تيمية: فيقولك "إن التأثير إذا فسر بوجود شرط الحادث أو سبب يتوقف حدوث الحادث به على سبب آخر، وانتفاء موانع - وكل ذلك بخلق الله تعالى - فهذا حق، وتأثير قدرة العبد في مقدورها ثابت بهذا الاعتبار، وإن فسر التأثير بأن المؤثر مستقل بالأثر من غير مشارك معاون ولا معاوق مانع، فليس شيء من المخلوقات مؤثرا، بل الله وحده خالق كل شيء لا شريك له ولاند له، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ... فإذا عرف ما في لفظ "التأثير من الإجمال والاشتراك ارتفعت الشبهة، وعرف العدل المتوسط بين الطائفتين" (2) ، ويقول في موضع آخر: "الذي عليه السلف وأتباعهم وأئمة أله السنة وجمهور أهل الإسلام المثبتون للقدر، المخالفون للمعتزلة: إثبات الأسباب، وأن قدرة العبد مع فعله لها تأثير كتأثير سائر الأسباب في مسبباتها، والله تعالى خلق الأسباب والمسببات، والأسباب ليست مستقلة بالمسببات، بل لا بد لها من أسباب أخر تعاونها، ولها مع ذلك أضداد تمانعها، والسبب لا يكون حتى يخلق الله جميع أسبابه، ويدفع عنه أضداده المعارضة له، وهو سحبانه يخلق جميع ذلك بمشيئته وقدرته كما يخلق سائر المخلوقات، فقدرة العبد سبب من الأسباب، وفعل العبد لا يكون بها وحدها، بل لا بد من الإرادة   (1) مجموع الفتاوى (8/121-123) . (2) المصدر السابق (8/134-135) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1346 الجازمة مع القدرة، وإذا أريد بالقدرة القوة بالإنسان فلا بد من إزالة الموانع كإزالة القيد والحبس ونحو ذلك، والصاد عن السبيل كالعدو وغيره" (1) . وقد وضع شيخ الإسلام هذه القضية توضيحاص تاما فقال: "التأثير اسم مشترك، قد يراد بالتأثير الانفراد بالابتداع والتوحيد (2) بالاختراع فإن أريد بتأثير قدرة العبد هذه القدرة فحاشاً الله، لم يقله سني، وإنما هو المعزو إلى أهل الضلال. وإن أريد التأثير في ذات الفعل، إذ لا فرق بين إضافة الانفراد بالتأثير إلى غير الله سبحانه في ذرة أو فيل، وهل هو إلا شرك دون شرك وإن كان قائل هذه المقالة ما نحا إلا نحو الحق. وإن أريد بالتأثير أن خروج الفعل من العدم إلى الوجود كان يتوسط القدرة المحدثة، بمعنى أن القدرة المخلوقة هي سبب وواسطة في خلق الله سبحانه وتعالى الفعل بهذه القدرة، كما خلق النبات بالماء، وكما خلق الغيث بالسحاب، وكما خلق جميع المسببات والمخلوقات بوسائط وأسباب، فهذا التفسير إلى قدرة العبد شركا، وإلا فيكون إثبات جميعا لأسباب شركاً" (3) . وكلام ابن تيمية في هذين الموضوعين واضح تمام الوضوح، وفيه حل لاشكالات كثيرة، وما وجدت أحداً قبل شيخ الإسلام -رحمه الله- بين هذا البيان في هذه القضايا المهمة التي كثر فيها الكلام، واختلط فيها الحق بالباطل. فلقد كان شرحه وافياً، شافياًن دقيقاً. وما وجدت من كتب في القدر ككتابة ابن تيمية وتلميذه ابن القيم - رحمهما الله تعالى. 3- ومن الأمور التي ينبغي الإشارة إليها: معنى الكسب عند أهل السنة، فكثيراً ما يذكر علماء السنة أن أفعال العباد كسب لهم، وقد يقع إيهام في ذلك   (1) مجموع الفتاوى (8/487-488) . (2) هكذا في النص ولعلها: التوحيد. (3) انظر: مجموع الفتاوى (8/389-390) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1347 خاصة وإن الأشاعرة يعبرون عن مذهبهم في هذا الموضوع بالكسب، فيقع الإيهام أحياناً، ونوضح هنا أن أهل السنة عندما يقولون: أن أفعال العباد كسب لهم، معناه: أنها أفعالهم التي تعود على فاعليها بنفع أو ضر، ما قال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: من الآية286) "فبين سبحانه أن كسب النفس لها أو عليها، ولما كان العباد يكملون بأفعالهم ويصلحون بها، إذ كانوا في أول الخلق خلقوا ناقصين، صح إثبات السبب، إذ كمالهم وصلاحهم من أفعالهم". فمقصود أهل السنة أنها كسب لهم واقعة بقدرتهم وإرادتهم وكل أفعالهم مخلوقة لله سبحانه وتعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1348 المبحث الرابع: الإيمان مقدمة اشتهر عن الأشاعرة ميلهم إلى مذاهب المرجئة في الإيمان، وقولهم فيه يشبه كثيرا قولهم في مسألة الكلام، حين حصروه بالكلام النفسي دون الألفاظ، وفي الإيمان جعلوا معناه المعرفة أو التصديق، ولم يدخلوا فيه القول ولا الأعمال. وشيخ الإسلام رد عليهم وعلى غيرهم من أصناف المرجئة، ما رد على من قابلهم في الانحراف كالمعتزلة والخوارج. وحتى لا يتشعب الكلام ويطول يمكن عرض هذه المسألة كما يلي: أولاً: الأقوال في الإيمان. ثانياً: مقدمات في عرض أصل الخلاف في الإيمان. ثالثاً: ردود شيخ الإسلام على الأشاعرة في الإيمان. أولاً: الأقوال في الإيمان: وقع الخلاف بين الطوائف في حقيقة الإيمان، وهل الأعمال داخلة فيه وحكم مرتكب الكبيرة - على أقوال: 1- قول أهل السنة والجماعة وجماهير السلف، إن الإيمان قول واعتقاد وعمل، قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، قالوا ومرتكب الكبيرة مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته وفي الآخرة تحت المشيئة. 2- قول المعتزلة والخوارج، وهؤلاء يقولون: الإيمان قول واعتقاد وعمل، وأما مرتكب الكبيرة: أ - فحكمه في الدنيا عند المعتزلة أنه ليس بمؤمن ولا كافر، بل هو في منزلة بين المنزلين، ومن ثم فليس مباح الدم. وأما عند الخوارج فهو كافر مباح الدم والمال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1349 ب - وأما حكمه في الآخرة فقد اتفق الخوارج والمعتزلة على أنه مخلد في النار كالكفار. 3- قول مرجئة الفقهاء - من أتباع أبي حنيفة - أن الإيمان قول واعتقاد، وأما الأعمال فغير داخلة فيه. وأما حكم مرتكب الكبيرة عندهم فهو موافق لمذهب أهل السنة. 4- قول الجهمية: أن الإيمان هو المعرفة فقط، وما عداها من تصديق القلب وإقراره، ومن القول والعمل، فغير داخل في الإيمان، وهذا قول الجهم. ولازم قوله أن إبليس وفرعون ومن شابههم ممن عرف الله وعاند فسب الله ورسوله، وعاداهم، وقتل الأنبياء، وهدم المساجد، وأهان المصاحف - أنه مؤمن كامل الإيمان. 5- قول الماتريدية: أن الإيمان هو التصديق، وأما قول اللسان فهو دليل عليه وليس داخلا فيه، وأما العمل فغير داخل فيه. 6- قول الكرامية: أن الإيمان قول باللسان فقط. وهذا لإثبات إيمانه في الدنيا، أما في الآخرة فمن لم يوافق قوله ما في قلبه من الاعتقاد الصحيح - كالمنافق - فهو مخلد في النار. 7- قول الكلابية والأشعرية: ولهم في الإيمان قولان: أحدهما: قول أنه قول واعتقاد وعمل، وهذا قول أبي علي الثقفي، والقلانسي، وإليه مال ابن مجاهد، وهو أحد قولي أبي الحسن الأشعري، ذكره في المقالات (1) - ضمن مقالة أصحاب الحديث وأهل السنة، وقال إنه بكل ما قالوه يقول (2) . قال شيخ الإسلام بعد نقله: "فهذا قوله في هذا الكتاب وافق فيه أهل السنة وأصحاب الحديث، بخلاف القول الذي نصره في الموجز" (3) . وذكر إنه اختيار طائفة من أصحابه (4) .   (1) انظر: المقالات (ص:293-294) ت ريتر. (2) انظر: المصدر السابق (ص:297) . (3) الإيمان الأوسط - مجموع الفتاوى (7/550) ، وانظر: الإيمان (ص:115) ط المكتب الإسلامي. (4) انظر: المصدر السابق (7/509) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1350 والثاني: القول الثاني لأبي الحسن الأشعري - الذي ذكره في الموجز - ووافقه عليه جمهور الأشاعرة، كالباقلاني، والجويني وغيرهما. وهو أن الإيمان مجرد تصديق القلب ومعرفته. ويختلف تعبير الأشاعرة هنا فتارة يقولون هو المعرفة كقول جهم، وتارة يقولون هو التصديق (1) . أما مذهبهم في مرتكب الكبيرة فهو موافق لقول أهل السنة. ويلاحظ أن القول الثاني هو الذي اشتهر عند الأشاعرة، وهو الذي نصره أئمتهم ممن جاء بعد الأشعري، وهو الذي استقر عليه المذهب. هذه خلاصة الأقوال في الإيمان، ومنها يتبين أن للأشاعرة فيه قولين، أحدهما موافقا لمذهب السلف، والثاني موافقا للجهم. ثانياً: مقدمات في عرض أصل الخلاف في الإيمان: لشيخ الإسلام تأصيلات وقواعد في باب الإيمان ذكر بعضها في كتاب الإيمان الكبير، وبناها على استقراء جيد لما ورد من النصوص في ألفاظ الإيمان وما شابهه، كما أن له تحقيقات دقيقة ذكر فيه أصول الخلاف وتفاوت الطوائف في مدى التزامها بلوازم أقوالها. وليس القصد استيفاء هذه الأصول والقواعد، وإنما يمكن الإشارة إلى لمحات سريعة تتعلق بالخلاف في الإيمان فقط. ومن ذلك: 1- ما ذكره من أن الأصل الذي نشأ بسببه النزاع في الإيمان التزام بعضهم بمسألتين: أحدهما: أن الإيمان كل لا يتجزأ إذا زال جزء منه زال باقيه. والثانية: قولهم إنه لا يجتمع عند الإنسان طاعة ومعصية، وإيمان وكفر، وإسلام ونفاق، بل إذا وجد أحدهما انتفى الآخر.   (1) انظر: الإيمان (ص:189-239) ، ط المكتب الإسلامي، والإيمان الأوسط - مجموع الفتاوى (7/509، 543-550) ، والتسعينية (ص:160) ، ومجموع الفتاوى (2/94) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1351 فلما استقرت هذه القواعد عندهم، وخالفهم فيها أهل السنة - صارت الأقوال في الإيمان ثلاثة: القول الأول: قول الخوارج والمعتزلة، وهؤلاء قالوا ثبت بالأدلة أن الأعمال من الإيمان، ومن ثم فمن تركها فقد ترك بعض الإيمان، والقاعدة أن الإيمان إذا زال بعضه زال باقيهن ولا يكون في العبد إيمان ونفاق. ومن ثم لم يقولوا بجواز تبعيض الإيمان، لا في الاسم ولا في الحكم. فرفعوا عن صاحب الكبيرة الإيمان بالكلية - وهذا في الاسم - وأوجبوا له الخلود في النار - وهذا في الحكم. والقول الثاني: قول الجهمية والمرجئة، وهؤلاء قالوا: قد علما يقينا أن أهل الذنوب من أهل القبلة، لا يخلدون في النار، بل يخرجون منها كما توارت بذلك الأحاديث، كما أن الإجماع حاصل على أنهم ليسوا كفارا مرتدين. قالا فلو أدخلنا الأعمال في مسمى الإيمان - والقاعدة أن الإيمان كل لا يتجزأ، إذا ذهب بعضه ذهب باقيه - لو وجب إذا فعل المؤمن ذنبا وزال بعض إيمان أن يزول كله فيخلد في النار، وهذا خلاف ما تواتر في النصوص. لذلك أخرجوا الأعمال عن مسمى الإيمان لئلا يؤدي ترك بعضها إلى زوال الإيمان كلية والخلود في النار، وهذا مخالف للنصوص. فهؤلاء المرجئة نازعوا في الاسم لا في الحكم. فقالوا في الحكم يجوز أن يكون صاحب الكبيرة مثابا معاقبا، محمودا مذموما - وبعضهم يقف في نفوذ الوعيد، فلا يجوز نفوذ الوعيد في حق أحد من أرباب الكبائر كما قال ذلك من قاله من مرجئة الشيعة والأشعرية كالقاضي أبي بكر وغيره - هذا في حكمه في الآخرة. أما في اسمه في الدنيا فمنعوا التبعض في الإيمان، وقالوا لا يجوز أن يكون معه بعض الإيمان دون بعض. القول الثالث: قول أهل السنة، فقالوا بجواز التبعيض في الاسم والحكم، "فيكون مع الرجل بعض الإيمان لا كله، ويثبت له من حكم أهل الإيمان وثوابهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1352 بحسب ما معه، كما يثبت له من العقاب بحساب ما عليه" (1) ، وقالوا إنه يجتمع عند الإنسان طاعة ومعصية وإيمان وكفر أصغر، وإسلام ونفاق عملي، كما تجتمع له الولاية والعدواة بحسب ما معه من الطاعات والمعاصي. فهو في الدنيا - إذا فعل كبيرة - مؤمن ناقص الإيمان، وفي الآخر تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له. مع أنه لا بد من الوعيد المجمل لأهل الكبائر، فيدخل بعضهم النار لكن لا يخلدون فيها (2) . وهذا تحليل دقيق جداً لمنشأ الخلاف كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، ولا شك أن النصوص متواترة في إثبات أنه قد يجتمع عند الإنسان إيمان ونفاق، وآثار الصحابة والتابعين دلت على ذلك، بل أجمع السلف على ذلك. ومن العجيب أن الأشعري حكى في بعض كتبه الإجماع على أنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق، وتابع على ذلك أصحابه، يقول شيخ الإسلام: "والأصل الذي أوقعهم في هذا اعتقادهم أنه لا يجتمع في الإنسان بعض الإيمان وبعض الكفر، أو ما هو إيمان وما هو كفر، واعتقدوا أن هذا متفق عليه بين المسلمين، كما ذكر ذلك أبو الحسن وغيره، فلأجل اعتقادهم في هذا الإجماع وقعوا فيما هو مخالف للإجماع الحقيقي، إجماع السلف الذي ذكره غير واحد من الأئمة" (3) . والنصوص الدالة على مذهب السلف وأنه يجتمع عند الإنسان طاعة ومعصية وإيمان ونفاق صريحة جداً (4) . 2- أن من قال قولا في الإيمان، ثم لم يلتزم لوازمه الباطلة بقي بين أمرين، إما مناقضة قوله، أو التزام القول الباطل المجمع عليه.   (1) شرح الأصفهانية (ص:144) ت مخلوف. (2) انظر: في تفصيل ما سبق المصدر السابق (ص:137-138، 143-144) ت مخلوف، الفرقان بين الحق والباطل - مجموع الفتاوى - (13/48-50) ، وشرح حديث: إنما الأعمال بالنيات - مجموع الفتاوى 18/270-271، 276) ، والإيمان (ص:209-210، 376) ط المكتب الإسلامي، والإيمان الأوسط - مجموع الفتاوى - (7/510-520) ، وفيه مناقشة مفصلة لهذه المسألة. (3) الإيمان (ص:387) ط المكتب الإسلامي. (4) انظر: المصدر السابق (ص:337-387) ط المكتب الإسلامي، والإيمان الأوسط - مجموع الفتاوى - (7/215-522) ، والاستقامة (1/430) ، ومجموع الفتاوى (11/173-175، 19/295-296) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1353 ومن أوضح الأمثلة على ذلك مذهب الجهم في الإيمان، وأقوال من وافقه من الأشاعرة، فالإمام أحمد - في رده على الجهم - ألزمه بهذا الإلزام الذي قال فيه: "يلزمه أن يقول: إذا أقر ثم شد الزنار في وسطه، وصلى للصليب، وأتى الكنائس والبيع، وعمل الكبائر كلها، إلا أنه في ذلك مقر بالله، فيلزمه أن يكون عنده مؤمناً، وهذه الأشياء من أشنع ما يلزمهم" (1) ، قال شيخ الإسلام معلقاً: قلت: هذا الذي ذكره الإمام أحمد من أحسن ما احتج الناس به عليهم. جمع في ذلك جملا، يقول غيره بعضها، وهذا الإلزام لا محيد لهم عنه، ولهذا لما عرف متكلمهم مثل جهم - ومن وافقه - أنه لازم التزموه، وقالوا: لو فعل ما فعل من الأفعال الظاهرة لم يكن بذلك كافراً في الباطن، لكن يكون دليلاً على الكفر في أحكام الدنيا، فإذا احتج عليهم بنصوص تقتضي أنه يكون كافراً في الآخرة قالوا: فهذه النصوص تدل على أنه الباطن ليس معه من معرفة الله شيء، فإنها عندهم شيء واحد. فخالفوا صريح المعقول وصريح الشرع" (2) . ثم يقول شيخ الإسلام عن الأشاعرة الذي وافقوا الجهم: "ومن كان موافقاً لقول جهم في الإيمان بسبب انتصار أبي الحسن لقوله في الإيمان، يبقى تارة يقول بقول السلف والأئمة، وتارة يقول بقول المتكلمين الموافقين لجهم" (3) . ثم ضرب مثالاً بمسألة سب الله الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: "حتى في مسألة سب الله ورسوله: رأيت طائفة من الحنبليين والشافعيين والمالكيين إذا تكلموا بكلام الأئمة قالوا: إن هذا كفر باطنا وظاهراً، وإذا تكلموا بكلام أولئك قالوا: هذا كفر في الظاهر، وهو في الباطن يجوز أن يكون مؤمنا تام الإيمان، فإن الإيمان عندهم لا يتبعض. ولهذا لما عرف القاضي عياض هذا من قول بعض أصحابه أنكره، ونصر قول مالك وأهل السنة، وأحسن في ذلك ...   (1) الإيمان (ص384) ط المكتب الإسلامي. (2) الإيمان (ص:384-384) . (3) المصدر السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1354 وكذلك تجدهم في مسائل الإيمان يذكرون أقوال الأئمة والسلف، ويبحثون بحثا يناسب قول الجهمية؛ لأن البحث أخذوه من كتب أهل الكلام الذين نصروا قول جهم في مسائل الإيمان" (1) . ثم ذكر شيخ الإسلام مثالاً على هذا وهو أن الفخر الرازي لما صنف مناقب الشافعي، وحكى مذهبه في الإيمان الذي هو موافق لمذهب السلف، استشكل معارضة ذلك لما يعرفه من مذهب أصحابه المرجئة وهو ممن يوافقهم على بدعتهم (2) . وفي الصارم المسلول لما عرض لهذه المسألة وذكر قولي القاضي أبي يعلي - أحدهما الموافق لجمهور السلف (3) ، والثاني الموافق لقول جهم في الإيمان حيث قال أبو يعلى: "إن من قتله بلا استتابة، فهو لم يره ردة، وإنما يوجب القتل فيه حدا، وإنما نقول ذلك مع إنكاره ما شهد عليه، أو إظهاره الإقلاع عنه والتوبة، ونقتله حداً كالزنديق إذا تاب، قال: ونحن وإن أثبتنا له حكم الكافر في القتل فلا نقطع عليه بذلك لإقراره بالتوحيد، وإنكاره ما شهد به عليه ... وأما من علم أنه سبه معتقداً لاستحلاله فلا شك في كفره بذلك، وكذلك إن كان سبه في نفسه كفراً كتكذيبه أو تكفيره ونحوه، فهذا مالا إشكال فيه، وكذلك من لم يظهر التوبة واعترف بما شهد به وصمم عليه فهو كافر بقوله واستحلاله هتك حرمة الله أو حرمة نبيه" قال شيخ الإسلام: "وهذا أيضاً تثبيت منه بأن السب يكفر به لأجل استحلاله، إذا لم يكن في نفسه تكذيباً صريحاً. وهذا موضع لا بد من تحريره، ويجب أن يعلم أن القول بأن كفر الساب في نفس الأمر إنما هو لاستحلاله السب زلة منكرة وهفوة عظيمة، ويرحم الله القاضي أبا يعلى، قد ذكر في غير موضع ما يناقض ما قاله هنا، وإنما وقع من وقع في هذه المهواة بما تلقوه من كلام طائفة من متأخري المتكلمين - وهم الجهمية الإناث الذين ذهبوا مذهب الجهمية الأولى في أن الإيمان هو مجرد التصديق   (1) الإيمان (ص:386) ط المكتب الإسلامي. (2) وانظر: المصدر نفسه، نفس الصفحة، وانظر: مناقب الشافعي للفخر الرازي (131-132، 146-147) . (3) انظر: الصارم المسلول (ص:513) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1355 الذي في القلب وإن لم يقترن به قول اللسان، ولم يقتض عملا في القلب ولا في الجوارح" (1) . وقد أوضح شيح الإسلام بعد ذلك مأخذ هؤلاء المرجئة حيث إنهم رأوا أن الإيمان هو تصديق الرسول فيما أخبر به، ورأوا أن اعتقاد صدقه لا ينافي السب والشتم بالذات، كما أن اعتقاد وجوب طاعته لا ينافي معصيته، فلما رأوا أن الأمة كفرت الساب قالوا إنما كفر لأن سبه دليل على عدم اعتقاده لحرمة السب، فكفر بهذا التكذيب لا بتلك الإهانة. وهذا قول عجيب مخالف لإجماع السلف، وقد أطال شيخ الإسلام في الرد على أصناف المرجئة في هذا (2) . ثالثاً: ردود شي الإسلام على جمهور الأشاعرة في الإيمان: سبق - عند عرض الخلاف - في الإيمان أن الرأي الثاني للأشاعرة والذي عليه جمهورهم أن الإيمان هو التصديق أو المعرفة، وأن الأعمال غير داخلة في الإيمان. وقد جاءت ردود شيخ الإسلام عليهم حسب المسائل التالية: المسألة الأولى: هل الإيمان التصدق فقط؟ يقول شيخ الإسلام عن أبي الحسن الأشعري: "وأبو الحسن الأشعري نصر قول جهم في الإيمان، مع أنه نصر المشهور عن أهل السنة من إنه يستثنى في الإيمان، فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله، لأنه نصر مذهب أهل السنة في أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة، ولا يخلدون في النار وتقبل فيهم الشفاعة، ونحو ذلك، وهو دائماً ينصر في المسائل التي فيها النزاع بين أهل الحديث وغيرهم قول أهل الحديث، لكنه لم يكن خبيرباً بمآخذهم، فنصره على ما يراه هو من الأصول التي تلقاها عن غيرهم فيقع في ذلك من التناقض ما ينكره هؤلاء وهؤلاء، كما فعل في مسالة الإيمان، ونصر فهيا قول جهم مع نصره للإستثناء. ولهذا خالفه كثير من أصحابه في الإستثناء ... وأتبعه أكثر أصحابه على نصر قول جهم في ذلك.   (1) الصارم المسلول (ص: 514-515) . (2) انظر: المصدر السابق (ص:517-525) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1356 ومن لم يقف إلا على كتب الكلام، ولم يعرف ما قاله السلف وأئمة السنة في هذا الباب، فيظن أن ما ذكروه هو قول أهل السنة، وهو قول لم يقله أحد من أئمة السنة، بل قد كفر كأحمد بن حنبل ووكيع وغيرهما من قال بقول جهم في الإيمان الذي نصره أبو الحسن، وهو عندهم شر من قول المرجئة" (1) أي مرجئة المتكلمون. ويلاحظ من هذا النص لشيخ الإسلام أن مذهب الأشاعرة في الإيمان قد تطور في بعض مسائله، فمثلاً كان للأشعري قولان، أحدهما موافق للسلف - كما سبق - وقول آخر وافق فيه جهما، ومع ذلك فهو في الاستثناء في الإيمان موافق لمذهب السلف. فلما جاء أصحابه من بعده نصورا قوله الموافق لجهم دون أقواله الأخرى الموافقة لمذهب السلف. أما أدلة الأشاعرة على قولهم في الإيمان فقد ذكر شيخ الإسلام عمدتهم في ذلك - كما ذكره الباقلاني في التمهيد، فقالك "قال القاضي أبو بكر في التمهيد: "فإن قالوا: فخبرونا ما الإيمان عندكم؟ قيل: الإيمان هو التصديق بالله وهو العلم، والتصديق يوجد بالقلب. فإن قال: فما الدليل على ما قلتم؟ قيل: إجماع أهل اللغة قاطبة على أن الإيمان قبل نزول القرآن وبعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - هو التصديق، لا يعرفون في اللغة إيمانا غير ذلك، ويدل على ذلك قوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} (يوسف: من الآية17) أي: بمصدق لنا، ومنه قولهم: فلان يؤمن بالشفاعة، وفلان لا يؤمن بعذاب العبر، أي لا يصدق بذلك، فوجب أن الإيمان في الشريعة هو الإيمان في اللغة ... " (2) إلى آخر قول الباقلاني الذي نقله شيخ الإسلام ثم قال: "هذا عمدة من نصر قول الجهمية في مسألة الإيمان" (3) .   (1) الإيمان (ص:115) ط المكتب الإسلامي. (2) المصدر السابق (ص:115-116) ط المكتب الإسلامي، وقارن بالتمهيد للباقلاني (ص: 346) ت مكارثي. (3) الإيمان (ص:116) ط المكتب الإسلامي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1357 أما منهج شيخ الإسلام في مناقشة هذا القول فقد كان بطريقين: إجمالي، وتفصيلي. أما الإجمالي: فإن شيخ الإسلام ذكر من خلاله ردود جمهور أهل السنة عليهم، حسب منطلق كل قول. فمن ذلك: أ - "قول من ينازعه في أن الإيمان في اللغة مرادف للتصديق، ويقول هو بمعنى الإقرار وغيره". ب - "قول من يقول: وإن كان في اللغة هو التصديق، فالتصديق يكون بالقلب واللسان وسائر الجوارح، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" (1) . ت - "أن يقال: ليس هو مطلق التصديق، بل هو تصدق خاص مقيد بقيود اتصل اللفظ بها، وليس هذا نقلاً للفظ، ولا تغييرا له، فإن الله لم يأمرنا بإيمان مطلق، بل بإيمان خاص، وصفة وبينة". ث - "أن يقال: وإن كان هو التصديق، فالتصديق التام القائم مستلزم لما وجب من أعمال القلب والجوارح ... ج - "قول م يقول: إن اللفظ باق على معناه في اللغة، ولكن الشارع زاد فيه أحكاماً". ح - "قول من يقول: إن الشارع استعمله في معناه المجازي، فهو حقيقة شرعية، مجاز لغوي".   (1) متفق عليه: البخاري: كتاب الاستئذان، باب زنا الجوارح دون الفرج، ورقمه (6343) الفتح (11/26) ، وفي القدر، باب (وحرام على قرية أهلكناها) ورقخ (6212) ، الفتح (11/502-503) ، ومسلم، كتاب القدر، باب قدر على ابن آدم حظه من الزنى ورقمه (2657) بروايتين. ويلاحظ أن لفظ (أو يكذبه) لم ترد في جميع طبعات البخاري (التي مع الفتح، واستانبول، والحلبية، والمنيرية) لكنها وردت في إحدى نسخ البخاري كما في حاشية طبعة الحلبي (8/67، 156) ، والمنيرية (8/98/98، 225) ، وهي المذكورة في نفس شرح فتح الباري (11/504) ، كما أنها وردت في إحدى روايتي مسلم. أما اللفظ الآخر الوارد في طبعات البخاري وفي الرواية الأخرى لمسلم فهو (ويكذبه) بدون الألف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1358 خ - قول من يقول: إنه منقول (1) . فكل واحد من هذه الأقوال مشتمل على الرد على قول هؤلاء أن الإيمان هو التصديق فقط، وهي - سوى الأول (2) - لا تنازع في أن من معاني الإيمان التصديق، أو أن معناه في اللغة هو التصديق، ثم إن الشارع جعله تصديقاً بأمور معينة، وزاد عليه أمورا أخرى، كصلاة فإن معناها في اللغة الدعاء، وفي الشرع هذه الصلاة المعروفة المحددة بالأقوال والأفعال والأوقات. فهلا قال هؤلاء المرجئة في الصلاة مثل قولهم في الإيمان، فجعلوا مطلق الدعاء كاف في الإتيان بها، كما قالوا في الإيمان هو التصديق وهو كاف في حصول الإيمان؟. أما الرد التفصيلي: على أقوال الأشاعرة وحججهم كما عرضها الباقلاني فقد رد عليها شيخ الإسلام من أوجه عديدة، جاءت كما يلي: 1- نقض دعواهم الإجماع على أن الإيمان في اللغة قبل نزول القرآن هو التصديق، وذلك بمطالبتهم بأن يذكروا من نقل هذا الإجماع، وفي أي كتاب ذكر، ثم من المقصود بأهل اللغة؟ هل المقصود نقلتها كأبي عمرو والأصمعي، والخليل ونحوهم، أو المتكلمون بها؟ أما علماء اللغة فهؤلاء لا ينقلون كل ما كان قبل الإسلام بإسناد، وإنما ينقلون ما سمعوه من العرب في زمانهم، أو ما سمعوه في دواوين الشعر وكلام العرب بالإسناد، ولا نعلم فيما نقلوه لفظ الإيمان، فضلا عن أن يكونوا أجمعوا عليه. أما إن كان المقصود بأهل اللغة أنفسهم فهؤلاء لم ينقل عنهم ذلك. ثم لو فرض أنه نقل عن واحد أو اثنين أن الإيمان التصديق فكيف بعد هذا إجماعاً؟ ثم إن العرب لا يقولون: معنى الإيمان كذا، ولو فرض أنه نقل في الكلام المسموع عن العرب ما يدل على أنهم قصدوا بالإيمان التصديق فليس ذلك بأبلغ من نقل المسلمين كافة للقرآن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) .   (1) الإيمان (ص:116-117) ط المكتب الإسلامي. (2) يرى أصحاب هذا القول أن الإيمان مأخوذ من الأمن. انظر: الإيمان (ص:121) . (3) انظر: الإيمان (ص:117-119) ط المكتب الإسلامي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1359 2- أن دعواهم أن الإيمان في اللغة هو التصديق لم يؤيده بشاهد من كلام العرب، وإنما دعمه بما ينقض دعواه، وذلك أنه قال: ومنه قولهم: فلان يؤمن بالشفاعة، وفلان لا يؤمن بعذاب القبر، وهذا - قطعاً - ليس من ألفاظ العرب قبل نزول القرآن. ثم بعد ذلك فمن قال هذا ليس مراده مجرد التصديق - كما يدعي هؤلاء - وإنما مراده التصديق بالقلب واللسان، لأن إيمانه لا يمكن أن يعلم حتى يخبر عنه. وأيضاً فإن التصديق بالشفاعة وعذاب القبر وغيرهما مما يرجى ويخاف، لا يتم تصدقه إلا مع الخوف من عذاب القبر، والرجاء للشفاعة، ولو صدق بهما من غير خوف ولا رجاء لم يكن مؤمناً. كما أن إبليس لا يسمى مؤمناً وإن كان مصدقاً بوجود الله وربوبيته، كما أن فرعون لا يسمى مؤمناً وإن كان عالماً بأن الله أرسل موسى، ولا يسمون اليهود مؤمنين بالقرآن والرسول، وإن كانوا يعرفون أنهما حق ... وهكذا (1) . 3- أنه لو فرض أن الإيمان في اللغة هو التصديق، فمن المعلوم أن الإيمان ليس هو التصديق بلك شيء، بل بشيء مخصوص وهو ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحينئذ فالإيمان في كلام الشارع أخص من الإيمان في اللغة. والخاص تضم إليه قيود لا توجد في جميع العام، كقول اللسان وعمل القلب، فيكون الإيمان في كلام الشارع مؤلفاً من العام والخاص (2) . 4- وإذا كان الإيمان له في الشرع معان خاصة، فلا بد من الرجوع إلى المقصود به في الكتاب والسنة، مثلا الصلاة، والزكاة، والحج. وفي القرآن لم يرد ذكر إيمان مطلق غير مفسر، وإنما ورد لفظ الإيمان فيه إما مقيداً، وإما مطلقا مفسراً: فالمقيد قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (البقرة: من الآية3) ، وقوله: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} (يونس: من الآية83) .   (1) انظر: الإيمان (ص:119-120) . (2) انظر: المصدر السابق (ص:121) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1360 والمطلق المفسر كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (لأنفال: من الآية2) وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات:15) ، وقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:65) وأمثال هذه الآيات "وكل إيمان مطلق في القرآن فقد بين فيه أنه لا يكون الرجل مؤمنا إلا بالعمل مع التصديق، فقد بين في القرآن أن الإيمان لا بد فيه من عمل مع التصديق، كما ذكر ذلك في اسم الصلاة والزكاة والصيام والحج" (1) . وقد أورد شيخ الإسلام هنا اعتراضا - ذكره القاضي أبو يعلي وغيره - يزعم فيه أن هناك فرقاً بين هذه العبادات - التي هي الصلاة والزكاة والصيام والحج - وبين الإيمان، بأن هذه الأسماء باقية، ولكن ضم إلى المسمى أعمال في الحكم لا في الاسم أي أن اسم الصلاة - مثلا - باق أن المقصود به الدعاء، ولكن ضم إليه أعمال في حكم الصلاة لا في اسمها، وبهذا تكون قد فارقت الإيمان. ولن شيخ الإسلام يجيب بأن هذا إن كان صحيحاً في الصلاة وغيرها فيقال مثله في الإيمان، حيث وردت النصوص بضم العمل إليه. أما من زعم أن القرآن لم يذكر فيه العمل - ليفرق بين الإيمان والصلاة - فليس كما زعم، "بل القرآن والسنة مملوءان بما يدل على أن الرجل لا يثبت له حكم الإيمان إلا بالعمل مع التصديق، وهذا في القرآن أكثر بكثير من معنى الصلاة والزكاة، فإن تلك إنما فسرتها السنة، والإيمان بين معناه الكتاب والسنة وإجماع السلف" (2) . والخلاصة أن الإيمان كالصلاة، قد يكون له أصل في اللغة، ولكن الشارع أضاف إليه أموراً من أعمال القلوب واللسان والجوارح، وإذا كان في أعمال الصلاة ما تبطل الصلاة يتركه، وفيها ما تنقص الصلاة بتركه فكذلك الإيمان في شعبه. وهذا واضح.   (1) الإيمان (_ص:122) . (2) المصدر السابق، الصفحة نفسها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1361 5- أن من المعلوم علما ضروريا - أن من قيل: "إنه صدق، ولم يتكلم بلسانه بالإيمان مع قدرته على ذلك، ولا صلى ولا صام، ولا أحب الله ولا رسوله، ولا خاف الله، بل كان مبغضا للرسول، معاديا له، يقاتله - أن هذا ليس بمؤمن، كما قد علمنا أن الكفارة من المشركين وأهل الكتاب الذين كانوا يعلمونه أنه رسول الله، وفعلوا ذلك مع، كانوا عنده كفارا لا مؤمنين، فهذا معلوم عندنا بالاضطرار أكثر من علمنا بأن القرآن كله ليس فيه لفظ غير عربي. فإن قالوا: من علم أن الرسول كفره، علم انتفاء التصديق من قبله. قيل لهم: هذه مكابرة إن أرادوا أنهم كانوا شاكين مرتابين، وأما إن عنى التصديق الذي لم يحصل معه عمل، فهو ناقص كالمعدوم، فهذا صحيح" (1) ، وهو مبطل لدعواهم. فهؤلاء غلطوا في أصلين: "أحدهما: ظنهم أن الإيمان مجرد تصديق وعلم فقط، ليس معه عمل وحال وحركة وإرادة ومحبة وخشية في القلب، وهذا من أعظم غلط المرجئة مطلقاً ... ". والثاني: ظنهم أن كل من حكم الشارع بأنه كافر مخلد في النار فإنما ذاك لأنه لم يكن في قلبه شيء من العلم والتصديق، وهذا أمر خالفوا به الحس والعقل والشرع، وما أجمع عليه طوائف بني آدم السليمي الفطرة، وجماهير النظار ... " (2) ، وأدلة هذا من واقع الإنسان نفسه، ومن حياة الأمم مع رسلها كثيرة جداً (3) . وفي الإيمان الأوسط أضاف شيخ الإسلام إلى خطئهم في هذين الأصلين خطأ ثالثا ورابعاً.   (1) الإيمان (ص:125) ط المكتب الإسلامي. (2) المصدر السابق (ص:180) . (3) انظر: المصدر نفسه (ص:180-183) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1362 أما الثالث: فهو "أنهم جعلوا ما يوجد من التكلم بالكفر، من سب الله ورسوله والتثليث، وغير ذلك، قد يكون مجامعا لحقيقة الإيمان الذي في القلب، ويكون صاحبه ذلك مؤمنا عند الله حقيقة، سعيدا في الدنيا والآخرة، وهذا يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام". وأما الرابع فهو: "أنهم جعلوا من لم يتكلم قط بالإيمان مع قدرته على ذلك، ولا أطاع الله طاعة ظاهرة، مع وجوب ذلك عليه وقدرته - يكون مؤمنا بالله، تام الإيمان، سعيداً في الدنيا والآخرة" (1) . قال شيخ الإسلام بعد هذا: "وهذه الفضائح تختص بها الجهمية، دون المرجئة من الفقهاء وغيرهم" (2) ، أي الذين يوجبون القول مع التصديق، أما الجهمية ومن وافقهم من الأشعرية فيحصرون الإيمان بالتصديق القلبي فقط الذي يفسرونه بالعلم أو المعرفة. ثم ذكر أخطاءا أخرى تلزم الجهمية ومن افقهم، كما تلزم مرجئة الفقهاء ومنها: الخامس: "أن العبد قد يكون مؤمنا تام الإيمان، إيمانه مثل إيمان الأنبياء والصديقين، ولو لم يعمل خيراً، لا صلاة، ولا صلة، ولا صدق حديث، ولم يدع كبيرة إلا ركبها ... وهو مع ذلك مؤمن تام الإيمان، إيمانه مثل إيمان الأنبياء" (3) وهذا بين البطلان. وقد اعترف الأشاعرة بما في أقوالهم من التناقض، فالتزموا أن كل من حكم الشرع بكفره فإنه ليس في قلبه شيء من معرفة الله ولا معرفة رسوله. وقد أنكر عليهم هذا جماهير العقلاء، وقالوا هذه مكابرة وسفسطة (4) .   (1) الإيمان الأوسط - مجموع الفتاوى - (7/582-583) . (2) المصدر السابق (7/583) . (3) المصدر نفسه، نفس الجزء والصفحة. (4) انظر: الإيمان (ص:140-143) ط المكتب الإسلامي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1363 6- أن التصديق نوع من أنواع الكلام، واستعماله في اللغة دالا على اللفظ والمعنى، أكثر من استعماله في المعنى المجرد عن اللفظ الذي هو تصديق القلب. وهذا المبحث هو نفسه مبحث الكلام النفسي - الذي سبق - حيث زعموا أن الكلام معنى قائم بالنفس فقط، دون الحروف والألفاظ، وقد سبق عرض أدلتهم ومناقشتها في مبحث كلام الله، والعجيب أن شيخ الإسلام استوفى مباحث هذه المسألة - مسألة الكلام النفسي والرد على الأشاعرة فيه - في كتاب الإيمان أكثر من غيره من كتبه ورسائله. وهذا يبين أن مأخذ الأشاعرة في المسألتين واحد (1) . 7- أما احتجاجهم بقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} (يوسف: من الآية17) أي بمصدق لنا، وقولهم إن الإيمان مرادف للتصديق. فقد رد عليهم شيخ الإسلام من عدة وجوه، منها: أ - أن لفظ الإيمان تكرر في القرآن والحديث أكثر من غيره من الألفاظ، والإيمان أصل الدين، وكل مسلم يحتاج إلى معرفته، فلا بد أن يؤخذ معنى الإيمان من جميع موارده، لا من آية واحدة (2) . ب - أن الإيمان ليس مرادفا للتصديق من وجوه: منها: أحدها: أنه يقال للمخبر إذا صدقته: صدقه، ولا يقال: آمنه وآمن به، بل يقال آمن له، كما قال: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} (العنكبوت: من الآية26) ، وقال: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} (يونس: من الآية83) ، وقال فرعون: {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} (الشعراء: من الآية49) ، فلفظ الإيمان يتعدى إلى الضمير باللام دائما، لا يقال آمنته، وإنما يقال آمنت له، كما يقال أقررت له. الثاني: وليس مرادفا له في المعنى، فإن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال: كذبت. أما لفظ الإيمان فلا يستعمل   (1) انظر: الإيمان (ص:126-134) ط المكتب الإسلامي. (2) انظر: المصدر السابق (ص:274) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1364 إلا في الخبر عن غائب. فلو قال: طلعت الشمس أو غربت فلا يقال: آمناه كما يقال: صدقناه، لأن الإيمان مشتق من الأمن فإنما يستعمل في خبر يؤتمن عليه المخبر كالأمر الغائب، ولهذا لم يوجد في القرآن وغيره قط، آمن له، إلا في هذا النوع. وفي الآية المذكورة قالوا: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} (يوسف: من الآية17) ، ومعناها: أنك لا تقر بخبرنا، ولا تثق به، ولا تطمئن إليه، ولو كنا صادقين، لأنهم لم يكونوا عنده ممن يؤتمن على ذلك. فلو صدقوا لم يأمن لهم. الثالث: أن لفظ الإيمان لم يقابل بالتكذيب كلفظ التصديق، وإنما مقابل الإيمان: الكفر، لأن الكفر ليس هو التكذيب فقط، فكذلك ما يقابله وهو الإيمان ليس هو التصديق فقط (1) . ج- أنه لو فرض أن الإيمان مرادف للتصديق، فقولهم: إن التصديق لا يكون بالقلب أو اللسان عنه جوابان: أحدهما: المنع، لأن الأعمال تسمى تصديقا كحديث: "العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذن تزني وزناها السمع، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها المشي، والقلب يتمنى ذلك ويشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" (2) ، وكذلك قال أهل اللغة وطوائف من السلف والخلف (3) . والثاني: أنه إذا كان أصله التصديق، فهو تصديق مخصوص كما أن الصلاة دعاء مخصوص، فالتصديق له لوازم صارت داخلة في مسماه (4) . المسألة الثانية: أدلة دخول الأعمال في مسمى الإيمان والرد على المرجئة : العمل الذي أنكر جمهور الأشاعرة دخوله في الإيمان نوعان: 1- عمل القلب. 2- وعمل الجوارح.   (1) انظر: الإيمان (ص: 275-277) ، وانظر: مجموع الفتاوى (10/269-274) . (2) متفق عليه، وتقدم قريباً. (3) انظر: الإيمان (ص:278-281) . (4) انظر: المصدر السابق (ص:281) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1365 أما عمل القلب من الحب والخوف والخشية والرغبة والرهبة وغيرها فقد سبق بيان أن مجرد تصديق القلب مع عدم عمله لا يمكن أن يكون إيمانا، وإلا لصار إبليس وفرعون من المؤمنين لوجود المعرفة في قلوبهم. وقد زاد شيخ الإسلام مسألة دخول أعمال القلوب في الإيمان إيضاحاً فقال: "وفي الجملة، فلا بد في الإيمان الذي في القلب من تصديق بالله ورسوله، وحب الله ورسوله، وإلا فمجرد التصديق مع البغض لله ولرسوله، ومعاداة الله ورسوله، ليس إيمانا بإتفاق المسلمين، وليس مجرد التصديق والعلم يستلزم الحب، إلا إذا كان القلب سليما من المعارض، كالحسد والكبر، لأن النفس مفطورة على حب الحق، وهو الذي يلائمها، ولا شيء أحب إلى القلوب السليمة من الله وهذا هو الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام الذي اتخذه الله خليلاً ... ثم الحب التام مع القدرة يستلزم حركة البدن بالقول الظاهر والعمل الظاهر ضرورة ... فمن جعل مجرد العلم والتصديق موجبا لجميع ما يدخل في مسمى الإيمان، وكل ما سمي إيماناً فقد غلط، بل لا بد من العلم والحب، والعلم شرط في محبة المحبوب، كما أن الحياة شرط في العلم، ولكن لا يلزم من العلم بالشيء والتصديق بثبوته محبته إن لم يكن بين العالم والمعلوم معنى في المحب أحب لأجله، ولهذا كان الإنسان يصدق بثبوت أشياء كثيرة ويعلمها، وهو يبغضها كما يصدق بوجود الشياطين والكفار ويبغضهم ... وإذا قام بالقلب التصديق به والمحبة لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة، فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما في القلب ولازمه، ودليله ومعلومه، كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له أيضاً تأثير فيما في القلب، فكل منهما يؤثر في الآخر، لكن القلب هو الأصل والبدن فرع له، والفرع يستمد من أصله، والأصل يثبت ويقوى بفرعه" (1) .   (1) الإيمان الأوسط - مجموع الفتاوى (7/537-541) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1366 وقد بين شيخ الإسلام أن جماهير المرجئة يقرون بأن عمل القلب داخل في الإيمان، كما نقله أهل المقالات عنهم (1) . وأما عمل الجوارح: ودخوله في الإيمان فقد بينه شيخ الإسلام ورد فيه على الأشاعرة وغيرهم من المرجئة كما يلي: أسياق أدلة دخول الأعمال في مسمى الإيمان، من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، وأئمة السلف، 1- أما نصوص القرآن والسنة فقد أورد بعضها (2) ، ونقل عن المروزي، والإمام أحمد ما استشهدا به منها (3) . 2- كما نقل كلام العلماء وأئمة السلف، الذين حكوا الإجماع، الذي ذكره الشافعي، وابن عبد البر (4) . وليس بعجيب أن يخالف المرجئة هذه النصوص وتلك الأقوال التي سطرها أئمة السنة، فلهم في مسائل الصفات والقدر أمثلة كثيرة مشابهة. والله المستعان. ب أما من قال من المرجئة إن الإيمان يتناول الأعمال مجازا فقد رد شيخ الإسلام هذا القول من وجهين: أحدهما: كلامه في الحقيقة والمجاز - ولشيخ الإسلام في ذلك رأي في ذلك وهو منع المجاز في اللغة والقرآن، وقد سبق بيان ذلك في مبحث الصفات. على رأي شيخ الإسلام يكون القول بأن الأعمال داخلة في الإيمان مجازا، باطل (5) .   (1) انظر: المصدر السابق حيث نقل أقوال المرجئة (7/543-555) . (2) انظر: الإيمان (ص:152-153) . (3) انظر: المصدر السابق (ص:300-302، 383-384) . (4) انظر: المصدر نفسه (ص:292-315) ، وانظر التمهيد لابن عبد البر: (9/238) وما بعدها، (243) وما بعدها، (251) وما بعدها. (5) انظر: الإيمان (ص:83-112) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1367 والثاني: أنه على فرض صحة التقسيم إلى حقيقة ومجاز فهو لا ينفعكم، "بل هو عليكم لا لكم، لأن الحقيقة هي اللفظ الذي يدل بإطلاقه بلا قرينة، والمجاز إنما يدل بقرينة، وقد تبين أن لفظ الإيمان حيث أطلق في الكتاب والسنة دخلت فيه الأعمال" (1) . وأيضاً فلفظ الإيمان ليس بأقل من لفظ الصلاة والصيام والحج في دلالتها على الصلاة الشرعية، والصيام الشرعي، والحج الشرعي (2) . ج- أما دليل المرجئة المشهور على عدم دخول الأعمال في الإيمان وهو قولهم: إن الله عطف الأعمال على الإيمان في مواضع كثيرة من القرآن منها: قوله {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} (البقرة: من الآية25) قالوا: والعطف يقتضي المغايرة. فقد أجاب شيخ الإسلام أولا بعض أنواع المغايرة بين المعطوفين، وأنها في القرآن وسائر الكلام على أربع مراتب: 1- أعلاها: أن يكونا متباينين، ليس أحدهما هو الآخر، ولا جزؤه ولا يعرف لزومه له كقوله {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} (الأنعام: من الآية1) ونحو ذلك. 2- ويليه أن يكون بينهما لزوم كقوله: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقّ} (البقرة: من الآية42) . 3- والثالث: عطف بعض الشيء عليه، كقوله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} (البقرة: من الآية238) . 4- والرابع: عطف الشيء على الشيء لاختلاف الصفتين: كقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} (الأعلى: من الآية 1-4) (3) .   (1) الإيمان (ص:112) . (2) انظر: المصدر السابق (ص:112-113) ، وانظر: الإيمان الأوسط - مجموع الفتاوى - (7/576-580) . (3) انظر: الإيمان (ص:163-168) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1368 ولكن من أيها عطف العمل على الإيمان؟ يقول شيخ الإسلام بعد كلام طويل بين فيه أن لفظ "الإيمان" إذا أطلق في القرآن يراد به ما يراد بلفظ "البر" و"التقوى"، و"الدين"، وشعب الإيمان هي شعب البر والتقوى والدين (1) - يقول: "أما قولهم: إن الله فرق بين الإيمان والعمل في مواضع، فهذا صحيح، وقد بينا أن الإيمان إذا أطلق أدخل الله ورسوله في الأعمال المأمور بها، وقد يقرن به الأعمال ... وذلك لأن أصل الإيمان هو ما في القلب، والأعمال الظاهرة لازمة لذلك، لا يتصور وجود القلب الواجب، مع عدم جميع أعمال الجوارح، بل متى نقصت الأعمال الظاهرة كان لنقص الإيمان الذي في القلب، فصار الإيمان متناولا للملزوم واللازم، وإن كان أصله ما في القلب، وحيث عطفت عليه الأعمال فإنه أريد أنه لا يكتفي بإيمان القلب بل لا بد معه من الأعمال الصالحة" (2) . وهذا تنبيه لطيف جدا إلى منزلة الأعمال الصالحة مع إيمان القلب، وأن في ذكرها معه إشارة إلى أنه لا يكتفي بإيمان القلب. ولعل ذلك راجع إلى أن الأعمال من دلائل الإيمان الظاهرة، وأنها لازمة له، فكلما وجد الإيمان فلا بد أن يوجد العمل معه. ثم بين أن للناس في هذا العطف قولين: أحدهما: أنه من باب عطف الخاص على العام، وأن إفراده بالذكر لأهميته وتخصيصا له لئلا يظن أنه لا يدخل في الأول. وأمثلة هذا النوع كثيرة. فذكر الإيمان أولا لبيانه أنه الأصل الذي لا بد منه، ثم ذكر العمل لبيان أنه من تمام الدين، ولئلا يظن الظان أن الإيمان يكفي بدون العمل الصالح (3) .   (1) انظر: الإيمان (ص:170) وما بعدها. (2) المصدر السابق (ص:186-187) . (3) انظر: المصدر نفسه (187-190) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1369 والثاني: قول من يقول: إن الأعمال في الأصل ليست من الإيمان، فإن أصل الإيمان هو ما في القلب، ولكن الأعمال لازمة له، فمن لم يعمل انتفى إيمانه، لأن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم. ثم إنها صارت في عرف الشارع جزاءا من الإيمان (1) . وبما سبق يتبين أن الأعمال داخلة في الإيمان خلافا للمرجئة. المسألة الثانية: الاستثناء في الإيمان : وهو قول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الله (2) . والأقوال فيه ثلاثة: 1- قول من يحرمه، وهم الجهمية والمرجئة وغيرهم الذين يجعلون الإيمان شيئاً واحدا يعلمه الإنسان من نفسه. ومن استثنى فقد شك، وسموا المستثنين الشكاكة. 2- قول من يوجبه، ولهم فيه مأخذان: أحدهما: مأخذ الكلابية والأشعرية، الذين يقولون بالموافاة، وهو أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، وكذلك الكفر هو ما مات عليه الإنسان، أما قبل ذلك فلا عبرة به. فعند هؤلاء بالنسبة لما مضى من إيمان الإنسان لا يجوز له أن يستثنى فيه، ثم لما رأوا المشهور عن أهل الحديث الاستثناء في الإيمان، جعلوا الاستثناء في المستقبل لأنه هو الذي يشك فيه الإنسان فأوجبوه لهذا. ودعم هذا من مذهبهم منع حلول الحوادث بذات الله، ومن ثم قالوا إن الحب والرضا، والسخط والغضب ونحو ذلك صفات أزلية قديمة. قالوا: والله يحب في أزله من كان كافرا إذا علم أنه يموت مؤمنا، ويبغض في أزله من كان مؤمنا إذا علم أنه يموت كافراً.   (1) انظر: الإيمان (ص:190) . (2) أما الاستثناء في الإسلام وقول الإنسان: أنا مسلم إن شاء الله، فالمشهور عن أهل الحديث أنه لا يستثنى فيه، وهو المشهور عن الإمام أحمد. وروى عنه الاستثناء فيه. انظر: الفرقان بين الحق والباطل - مجموع الفتاوى - (13/43) ، والإيمان (ص:239، 243) ط الكتب الإسلامي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1370 ومن ثم ربطوا مسألة الاستثناء في هذا القول، وأوجبوه، بناء على أن الإنسان لا يعلم على أي شيء يموت (1) . وهم متناقضون في هذا لأنهم يقولون إن الإيمان هو التصديق، ثم يقولون إن الإيمان في الشرع هو ما يوافي به العبد ربه، وأوجبوا الاستثناء لذلك، فهذا عدول منهم عن الإيمان في اللغة إلى معنى آخر، فهلا فعلوا ذلك في الأعمال؟ (2) . والأشاعرة يحتجون لقولهم في الموافاة بما روى عن ابن مسعود لما قيل له: إن قوما يقولون: إنا مؤمنون؟ فقال: أفلا سألتموهم أفي الجنة هم؟ فلما سألوا أحدهم قال: الله أعلم، قال ابن مسعود: فهلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية؟ (3) . السلف - رحمهم الله - كأحمد وغيره، لم يكن مقصودهم الموافاة، وإنما كان مقصدوهم ن الإيمان المطلق يتضمن فعل جميع المأمورات، وهذا لا يضمنه الإنسان. أما قول ابن مسعود فواضح لأنه "لم يكن يخفى عليه أن الجنة لا تكون إلا لمن مات مؤمنا، وأن الإنسان لا يعلم ماذا يموت، فإن ابن مسعود أجل قدرا من هذا، وإنما أراد: سلوه هل هو في الجنة إن مات على هذه الحال؟ كأنه قال: سلون أيكون من أهل الجنة على هذه الحال؟ فلما قال: الله ورسوله أعلم. قال: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية. يقول: هذا التوقف يدل على أنك لا تشهد لنفسك بفعل الواجبات وترك المحرمات، فإنه من شهد لنفسه بذلك شهد أنه من أهل الجنة إن مات على ذلك" (4) .   (1) انظر: الإيمان (ص:410-411) . (2) انظر: المصدر السابق (ص:137-138) . (3) انظر: المصدر نفسه (ص:399) . (4) انظر: المصدر نفسه (ص:400) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1371 وقد تدرج الأمر بهؤلاء الذين يوجبون الاستثناء باعتبار الموافاة، أن صار بعض أتباعهم المتأخرين يستثنون في كل شيء فيقول الواحد منهم: هذا ثوب إن شاء الله، وهذا حبل إن شاء الله، وهذا حبل إن شاء الله، وإذا ما اعترض عليهم بأن هذا لا شك فيه، قالوا: إن الله قادر على أن يغبره (1) . هذا هو المأخذ الأول لمن يوجب الاستثناء، وهو مأخذ الكلابية (2) ، وهو مخالف لما عليه السلف. المأخذ الثاني: لمن أوجب الاستثناء، وهو مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون، وإن جوزوا ترك الاستثناء بمعنى آخر، فهؤلاء يقولون: إن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك المحرمات كلها، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن بهذا الاعتبار، فقد شهد لنفسه بأنه من الأبرار المتقين، القائمين بفعل جميع ما أمروا به، وترك كل ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله، وهذا من تزكية الإنسان لنفسه ... " (3) . 3- القول الثالث: من يجوز الأمرين باعتبارين؛ فإن أراد المستثنى الشك في أصل إيمانه منع من الاستثناء، وهذا مما لا خلاف فيه. وإن أراد به اعتبارات أخرى: - مثل أنه لم يقم بجميع ما وجب عليه ولم يترك جميع ما نهى عنه. - ومثل: عدم علمه بالعاقبة، لأنه لا يدري على ما يموت عليه. - ومثل أن يستثنى خوفا من تزكية النفس. فهذا جائز (4) ، وهو الذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال السلف (5) .   (1) انظر: الإيمان (ص:413) . (2) انظر أيضاً: مجموع الفتاوى (3/289) ، والاستقامة (1/150) ، والإيمان الأوسط - مجموع الفتاوى - (7/509-510) . (3) انظر: الإيمان (ص:426) . (4) مجموع الفتاوى (8/427) . (5) انظر: الإيمان (ص:430) ، وما بعدها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1372 هذه خلاصة الأقوال في الاستثناء (1) . ومنه يتبين رجحان ما عليه أئمة السنة، وضعف مأخذ الكلابية، وتناقضهم فيه، وغاية ما يدل عليه مأخذهم جواز الاستثناء، ولذلك سماه شيخ الإسلام وجها حسنا (2) . أما مسألة زيادة الإيمان ونقصانه فقد منع منه المرجئة، وفسروا ما ورد من زيادة الإيمان بتجدد أمثاله، وهو قول باطل ترده النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة وأقوال السلف (3) . وكذلك مسألة الإسلام والإيمان، أخطأ الأشاعرة حين جعلوا الإيمان خصلة من خصال الإسلام. ورد عليهم شيخ الإسلام وبين تناقضهم (4) . والأقوال في ذلك ثلاثة: 1- أن الإسلام هو الإيمان (5) . 2- الإسلام الكلمة والإيمان والعمل (6) . 3- التحقيق والتفصيل، وأن الإيمان والإسلام كالشهادتين، إذا اجتمعا افترقا، فصار الإيمان الأعمال الباطنة، والإسلام الأعمال الظاهرة، وإذا افترقا اجتمعا، فيدخل الإيمان في الإسلام إذا ذكر مفردا، كما يدخل الإسلام في الإيمان إذا ذكر مفردا، والأصل في الفرق بينهما وبيان درجاتهما مع الإحسان حديث جبريل المشهور (7) .   (1) انظر: الإيمان (ص:410) ، ومجموع الفتاوى (7/681) ، والفرقان بين الحق والباطل - مجموع الفتاوى - (13/40-47) . (2) انظر: الاستقامة (1/150) . (3) انظر: الإيمان (ص:139، 211-224، 383، 390-391) ، والإيمان الأوسط - مجموع الفتاوى - (7/562-574) ، ومجموع الفتاوى (6/479-480) ، والفرقان بين الحق والباطل - ومجموع الفتاوى (13/51-55) . (4) انظر: قول الباقلاني ومناقشته في الإيمان (ص:147-151) . (5) انظر: الإيمان (ص:227-229) . (6) انظر: المصدر السابق (ص:245) . (7) انظر: المصدر نفسه (ص:246-271) ، وانظر أيضاً (ص:301-347، 359) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1373 أما حكم مرتكب الجريمة فإن جمهور الأشاعرة موافقون لأهل السنة في أن صاحبها تحت مشيئة الله إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له (1) ، وإن كان قد مال منهم من مال - كالباقلاني - إلى التوقف في حال أهل الكبائر حيث جوزوا أن لا يدخل النار أحد من أهل التوحيد، وهذا مخالف لما عليه السلف من القول بالوعيد المجمل، وأنه قد تواترت النصوص الدالة على أنه لا بد أن ينفذ الوعيد في بعض العصاة، لكن أهل التوحيد منهم لا يخلدون في النار (2) .   (1) انظر: الإيمان (ص: 338) . (2) انظر: مجموع الفتاوى (16/196-197) ، وانظر: التسعينية (ص:269-270) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1374 المبحث الخامس: مسائل متفرقة سبق في المباحث السابقة عرض ردود شيخ الإسلام على الاشاعرة في مسائل العقيدة الكبار التي خالفوا فيها مذهب أهل السنة، وهي: 1- توحيد الربوبية والإلوهية. 2- توحيد الأسماء والصفات. 3- القضاء والقدر. 4- الإيمان. وكما هو واضح مما سبق فإن مسألة الأسماء والصفات هي أهم المسائل وأكثرها تفريعا، وطول مناقشة. وفي هذا المبحث - المختصر جداً - سيتم عرض بعض المسائل المتفرقة، والكلام عنها بإيجاز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1375 أولاً: الرؤية: مذهب السلف إثبات الرؤية، وأن المؤمنين يرون ربهم في الجنة كما دل على ذلك الكتاب والسنة والعقل والإجماع، ووافقهم على ذلك الاشاعرة، خلافا للمعتزلة ومن وافقهم. ولكن الاشاعرة لما كانوا يؤولون الصفات الاختيارية القائمة بالله ومنها المحبة، والرضا، وأن الله يحب ويحب، وكذلك لما كان متأخروهم ينفون صفة العلو والاستواء لله تعالى - لما كان الأشاعرة على هذا وهم يثبتون الرؤية، وقعوا في التناقض، وخالفوا مذهب السلف في أمرين: أحدهما: قولهم إن الله يرى لا في جهة، لا أمام الرائي، ولا خلفه ولا عن يمينه، ولا عن يساره، ولا فوقه، ولا تحته. وقالوا. ليس من شرط الرؤية المقابلة والجهة، واحتجوا بما ذكره الأشعري من أن كل موجود يصح أن يرى (1) ، وقد يحتجون بالمرآة فإن الإنسان يرى نفسه فيها لا في جهة (2) . الثاني: أن بعض الأشاعرة - مع إقرارهم بالرؤية - أنكروا أن يكون المؤمن ينعم بنفس رؤية ربه، لأنه لا مناسبة بين المحدث والقديم (3) ، وهذا مخالف لمذهب جمهور السلف. أما الأمر الثاني: فهو مبني على إنكار هؤلاء أن الله يحب ويحب، ولا شك أن نصوص الرؤية المتواترة دلت على أن المؤمنين يتلذذون بالنظر إلى ربهم تبارك وتعالى في الجنة، وأن ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، والنصوص التي دلت على الرؤية، دلت في بعض رواياتها على ذلك (4) .   (1) انظر: الإرشاد للجويني (ص:180-181) . (2) انظر: الاقتصاد للغزالي (ص:42) ط دار الكتب العلمية. (3) انظر: النظامية للجويني (ص:39-40) ، ومنهاج السنة (3/97) ط بولاق، والاستقامة (2/96-97) وهو أيضاً في مجموع الفتاوى (10/695) . (4) من ذلك رواية مسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة لربهم ورقمه (181) ، ورواية النسائي، كتاب السهر، باب الدعاء بعد الذكر، ورقمه (1305) سنن النسائي (3/54-55) . ومسند الإمام أحمد (5/191) ، وانظر الاستقامة (2/98-106) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1376 وأما الأمر الأول: وهو قولهم بالرؤية بلا جهة، فقد ناقشه شيخ الإسلام طويلا، وفي مناسبات متعددة، ويمكن تلخيص ردوده عليهم كما يلي: 1- أن النصوص الواردة في الرؤية - وهي كثيرة، وقد أفردها بعض علماء السنة بمؤلفات - دالة على أن رؤية المؤمنين لربهم إنما تكون في جهة، وإذا كانت نصوص الرؤية متواترة، فكذلك دلالتها على أنها في جهة، وتشبيه الرؤية برؤية الشمس ليس دونها سحاب، أو رؤية القمر ليلة البدر صحوا، أو أن الله يكشف الحجاب من فوقهم. وقد أورد شيخ الإسلام أربعة وجوه قاطعة تدل - من خلال حديث واحد فقط من أحاديث الرؤية - على أن الرؤية إنما تكون في جهة (1) . 2- أن كون الله يرى بجهة من الرائي ثبت بإجماع السلف والأئمة، ونصوصهم في ذلك متواترة (2) . 3- أن أئمة هؤلاء المتأخرين كالأشعري وغيره، هم ممن يثبت الرؤية والاحتجاب والعلو وأن الله فوق العرش - وقد سبق بيان ذلك - (3) . 4- أن الأشاعرة - مع كونهم أقرب إلى الحق من المعتزلة، لأنهم أقروا بالرؤية، وإن كانوا قد نفوا العلو - بخلاف المعتزلة الذين نفوا الأمرين - إلا أنهم متناقضون، لأن إثباتهم للرؤية يقتضي إثباتهم للعلو، كما أن نفيهم للعلو يقتضي نفيهم للرؤية أيضاً. فيلزمهم أحد أمرين: إما نفي الرؤية أو اللحاق بأهل السنة في إثباتهما. وأحد الأمرين لازم لهم. 5- أن بعض محققي الأشاعرة كالرازي - والغزالي في بعض أقواله - رأوا أن الإلزام السابق لازم لهم، ومن ثم حرصوا بأن المقصود بالرؤية - التي أثبتوها - زيادة انكشاف بخلق مزيد من الإدراك لهم، أي أنهم فسروها بنوع   (1) انظر: نقض التأسيس - مطبوع - (2/409-411) ، وانظر أدلة أخرى (ص: 411 إلى ص:415) . (2) انظر: المصدر السابق (2/415-421) ، ومجموع الفتاوى (16/82-89) . (3) انظر: نقض التأسيس - مطبوع - (2/420-423) ، ومنهاج السنة (2/250-252) ط دار العروبة المحققة، درء التعارض (1/250) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1377 من العلم، ومن ثم أقروا بأن الخلاف بينهم وبين المعتزلة لفظي أو قريب من اللفظي (1) . ولا شك أن هذا اعترف منهم بفشلهم في الجمع بين نفي العلو والزعم بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه، وبين إثبات الرؤية. 6- أما احتجاجهم بأن كل موجود يصح أن يرى، فهو دليل ضعف لأنه يلزم منه أن ترى الأصوات والروائح وهي موجودة. أما دليل المرآة فهو باطل لأن الذي في المرآة الخيال والصورة وليس الذات. وقد أورد شيخ الإسلام ردودا أخرى عديدة (2) ، ولا شك أن قول الاشاعرة بالرؤية مع نفي العلو في غاية التناقض، وجميع أجاباتهم ومحاولاتهم لإزالة هذا التناقض لم تفلح إلا بأن تفسر الرؤية بما يقربها إلى مذهب المعتزلة، وهذا ما فعله بعض المتأخرين منهم. وهو ما استقر عليه مذهبهم كما في شرح المواقف (3) . ثانياً: النبوات والمعجزات: يوافق الأشاعرة أهل السنة في مسألة النبوات والمعجزات الدالة عليها. ولكنهم - لمذاهبهم المنحرفة في الصفات والقدر - خالفوا أهل السنة في بعض تفاصيل مسألة النبوات والمعجزات والكرامات. وأول من فصل القول في ذلك من الأشاعرة الباقلاني، حيث أفرد لذلك كتابا مستقلا، وهو رأس الذين اتبعوه كالقاضي أبي يعلى والجويني والرازي والآمدي وغيرهم (4) . وقد سبق عرض مذهبه في ذلك مفصلا (5) .   (1) انظر:،قض التأسيس - مطبوع - (1/360، 2/396، 404، 418، ومجموع الفتاوى (6/32، 41، 16/85) ، ودرء التعارض (1/250) ، والمسألة المصرية - مجموع الفتاوى - (12/175) . (2) انظر: نقض التأسيس - مطبوع - (1/357-368، 2/101-106، 421-431) ، والتسعينية (ص:259، 262) ، ودرء التعارض (1/247-248، 7/239-240) . (3) (8/115-116) . (4) انظر: النبوات (ص:3959) . (5) انظر: (ص:543-545) في ترجمة الباقلاني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1378 وكتاب النبوات أفرده شيخ الإسلام للرد على الباقلاني وغيره من الأشاعرة، ومجمل ملاحظات وردود شيخ الإسلام عليهم يمكن عرضها - باختصار - كما يلي: 1- حصرهم دلائل النبوة بالمعجزات التي هي خوارق، وهذا موافق لرأي المعتزلة، وإن اختلوفا معهم في كيفية دلالتها على صدق النبي. أم رأي جمهور أهل السنة، فهو أن دلائل ثبوت نبوة الأنبياء كثيرة، ومنها المعجزات (1) . 2- قول بعض الاشاعرة: إن المعجزة تدل على صدق النبي لئلا يفضي إلى تعجيز الرب، لأنه لا دليل على الصدق إلا خلق المعجز، فلو لم يكن دليلا لزم أن يكون الرب غير قادر على تصديق الرسول الصادق. وهذه طريقة الأشعري - في أحمد قوليه - والقاضي أحيانا، والاسفراييني وابن فورك، وأبو يعلى وغيرهم. وبعض الأشاعرة قالوا العلم بصدق المعجز يحصل ضرورة، وهذه طريقة الجويني والرازي، لأنهم عرفوا ضعف مسلك أولئك، بسبب أنهم يقولون بتجويز أن يفعل الله كل شيء ولو كان قبيحا، ومن ذلك إظهار المعجزة على يد كذاب. فلما علم أن هذا قد يؤدي إلى عدم التفريق بين الصادق والكاذب، جعلوا المعجزة تدل على صدق النبي، وأن الله لا يظهرها على يد كاذب لئلا يفضي إلى ذلك إلى تعجيز الرب عن إثبات صدق أنبيائه. وهذا تناقض منهم. والحق أن الله لا يظهرها على يد كاذب لأنه يفعل لحكمة ولأنه منزه عن ذلك. أما من جز على الله كل قبيح فقوله باطل ومتناقض كما فعلوا هنا (2) . 3- وعلى مذهبهم في تعريف المعجزة، وأنها أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي يظهر على يد نبي، سالم من المعارضة - يجعل الفرق بين المعجزة وبين السحر والشعوذة هو فقط عدم المعارضة، وكونها جاءت على يد مدعي النبوة - وهذا فرق ضعيف جدا، لأن مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي وغيرهما لم يعارضوا، فلو أنهم أتوا بسحر وكهانة وادعوا النبوة، فما الفرق بينهم وبين   (1) انظر: درء التعارض (9/40) . (2) انظر: النبوات (ص:51-57، 148-149) ط دار الكتب العلمية، والجواب الصحيح (4/259-261) ، ودرء التعارض (1/89-90، 96، 9/52-53) ، وشرح الأصفهانية (ص:156-165) ت مخلوف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1379 معجزة الأنبياء؟ (1) . ومعلوم أن آيات الأنبياء الدالة على نبوتهم "هي التي تعلم أنها مختصة بالأنبياء، وأنها مستلزمة لصدقهم، ولا تكون إلا مع صدقهم، وهي لا بد أن تكون خارقة للعادة، خارجة عن قدرة الإنس والجن، ولا يمكن أحد أن يعارضها. لكن كونها خارقة للعادة، ولا تمكن معارضتها هو من لوازمها، ليس هو حدا مطابقا لها، والعلم بأنها مستلزمة لصدقهم قد يكون ضروريا كانشقاق القرم، وجعل العصا حية وخروج الناقة، فمجر العلم بهذه الآيات يوجب علما ضروريا بأن الله جعلها آية لصدق هذا الذي استدل بها ... وقد تكون الآيات على جنس الصدق، وهو صدق صاحبها، فيلزم صدقه إذا قال: أن نبي، ولكن يمتنع أن يكون لكاذب" (2) . 4- أنهم لم يفرقوا بين المعجزات والسحر، بل جعلوا الفرق فقط هو تحدي الرسول بالإتيان بمثله، قالوا ولو احتج الساحر بسحره وادعي به النبوة أبطله الله بوجهين: أحدهما: أن ينسبه عمل السحر، والثاني: أن تمكن معارضته. ولما طولب الباقلاني بالفرق بين السحر والمعجزات التي للأنبياء عول على أن المعجز لا يكون معجزا حتى يكون واقعا من فعل الله، على وجه خارق للعادة، مع تحدي الرسول بالإتيان بمثله (3) . وقد ناقش شيخ الإسلام هذا الكلام ورد عليه من وجوه عديدة منها: أ - أن كون آيات الأنبياء مساوية في الحد والحقيقة لسحر السحرة معلوم الفساد بالإضطرار من دين الرسل. ب - أن في هذا قدحا في الأنبياء حيث جعلت آياتهم من جنس السحر والكهانة. ت - أنه على تقديم قولهم: يمكن للساحر أن يدعي النبوة، وما ذكر   (1) انظر: النبوات (ص:282-283) ط دار الكتب العلمية. (2) النبوت (ص:283) ، وانظر أيضاً (ص:297-298، 315-316، 320) وما بعدها. (3) انظر: النبوات (ص:47-49) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1380 من إبطال بدعواه بأمرين، منقوض بمذهبه الذي جوزوا فيه على الله فعل كل شيء ولو كان قبيحا كإظهار المعجزة على يد الكاذب. ث - أنه، أي الباقلاني، جوز أن تظهر المعجزات على يد كاذب إذا خلق الله مثلها على يد من يعارضه فعمدته سلامته من المعارضة بالمثل. ج - أن من الناس من اعدى النبوة، وكان كاذبا وظهرت على يده بعض هذه الخوارق، فلم يمنع منها، ولم يعارضه أحد، كما حدث للأسود العنسي ومسيلمة، وبابك وغيرهم. وإنما عرف كذبهم بطرق متعددة. فدعواهم أن الكذاب لا يأتي بمثل هذه الخوارق ليس كما يدعونه (1) . 5- وأخيرا فإن أقوال الأشاعرة في هذه المسائل أدى بهم إلى بعض الأقوال - أو تجويز بعض الأمور - الباطلة، ومنها: أ - تجويز بعضهم أن يقع الفسخ في شرائع الأنبياء في الأصول الجامعة، كالأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وبر الوالدين، والصدق، والعدل، وتحريم الفواحش. وهذا لأنهم جوزوا أن يأمر الله بكل شيء وينهى عن كل شيء، وأن مرد ذلك إلى محض المشيئة. وهم وإن قالوا إن شيئا من ذلك لم يقع، إلا أن تجويزهم له خالفوا به قول جمهور السلف الذين لا يجوزون دخول النسخ في هذه الأمور (2) . ب - تجويز بعضهم - كالباقلاني - أن يكون النبي فاعلا للكبائر، بناء على نفيهم للتحسين والتقبيح العقلي (3) . ت - قولهم إن كرامات الأولياء ليست من آيات الأنبياء نظرا لمذهبهم   (1) انظر: النبوات (ص:49-51) . (2) انظر: المصدر السابق (ص:321-323) . (3) انظر: المصدر السابق (ص:146) ، ومنهاج السنة (2/324-327) ط دار العروبة المحققة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1381 في شروط المعجزة حيث جعلوا منها: أن تقارن دعوى النبوة. وهذا مخالف لمذهب الجمهور الذين جعلوا من آيات الأنبياء، لأنها مستلزمة لنبوتهم وتصديقهم فيهان ولولا تصديقهم للأنبياء واتباعهم لهم، لم تكن لهم كرامات (1) . ث - تناقضهم في قولهم إن كل ممكن فهو جائز على الله، مع قولهم، إنه لا يظهر المعجزة على يد الكاذب (2) . ج - تناقضهم أيضاً، حيث جعلوا من شرط المعجزة أن تكون مما ينفرد الرب بالقدرة عليه، مع قولهم: كل ما في الوجود فهو مقدور لله، حتى قدرة العبد عندهم غير مؤثرة في مقدورها. فإذا صح هذا فما معنى الشرط السابق؟ (3) . ح - قول الباقلاني: إن الخوارق تدل على الولاية بالإجماع، مع تجويزه ظهورها على يدي الكفار والسحرة. وهذا تناقض (4) . هذه لمحات في مسألة المعجزات وما يتعلق بها، وهي تدل على تداخل أمور العقيدة، وتأثير الانحراف في بعضها على الانحراف في جوانبها الأخرى. وفي ختام هذا المبحث الذي هو آخر مباحث هذا الفصل الذي اشتمل على ردود شيخ الإسلام التفصيلية على الأشاعرة، لا بد من الإشارة إلى أن هناك   (1) انظر: النبوات (ص:306-307) . (2) انظر: النبوات (ص:372) . (3) انظر: المصدر السابق (ص:206) . (4) انظر: المصدر نفسه (ص:181) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1382 بعض المسائل الفرعية التي قد تشتمل عليها كتب الأشاعرة، وهي مخالفة لمذهب السلف، ولكن هذه المسائل إما أن تكون متعلقة بمسألة من المسائل المشهورة كالصفات أو القدر أو الإيمان أو غيرها، أو تكون وردت في بعض كتب الأشاعرة رأيا لصاحب الكتاب، واجتهاد منه، فمناقشتها تكون ضمن بحوث مستقلة تفرد لتتبع هذا الكتاب أو آراء صاحبه. والأشاعرة موافقون لأهل السنة فيما يتعلق بالسمعيات كالمعاد والحشر والحوض والصراط والجنة والنار، وعذاب القبر، ونحو ذلك. وكذلك في الإمامة والتفضيل وما يتعلق بهما. وكذلك في أنه لا يخلد أحد من أهل القبلة في النار. فهم - كما قال شيخ الإسلام - مخالفون للخوارج والشيعة، ومن ثم كانوا أقرب الطوائف إلى السلف وأهل السنة والحديث (1) .   (1) انظر: النبوات (ص:198) ط دار الكتب العلمية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1383 الخاتمة والآن بعد هذه المباحث المتواصلة التي شملت عدة فصول في "موقف ابن تيمية من الأشاعرة" نخلص إلى خاتمة هذه الدراسة باستخلاص النتائج التالية: 1- أن مذهب السلف يقوم على أسس وقواعد قوية ثابتة، عمادها الكتاب والسنة والإجماع، وكل دعوى في أتباع مذهب السلف لا تقبل ما لم تكن مبنية على منهجهم الواضح المستقيم. ولا تزال - والحمد لله - في كل زمن طائفة قائمة بالحق، تدعو إليه، وتجاهد في سبيله، وتجدد ما اندرس من معالمه، لا يضرها من خذلها ولا من خالف أمرها. ومن خلال ما كتبه أئمة السنة - وخاصة أصحاب القرون المفضلة - سواء كان شرحا للعقيدة، أو ردا على خصومها، تكونت معالم بارزة، ومنطلقات واضحة، تحدد المنهج الحق لمن أراد أن يسلكه والطريق الصحيح لمن رام خدمة دينه وعقيدته وابتغاء رضوان ربه. 2- ومن خلال عرض حياة شيخ الإسلام وعصره، تبين كيف كان ذلك العصر مليئا بالأحداث الجسام، وكيف كان شيخ الإسلام ابن تيمية علما بارزا، وإماما عظيماً، كان له أثر واضح في تلك الأحداث. السياسية منه والعلمية. 3- ظهور شيخ الإسلام في ذلك العصر الذي طغت فيه الطوائف المنحرفة من باطنية ورافضة، وصوفية، ومعتزلة وأشاعرة وغيهرا - على أنه المدافع والمنافح عن مذهب وعقيدة السلف أمام هؤلاء جميعا. وقد ترك على إثر ذلك تراثا ضخما، تمثل في عشرات المجلدات في شتى الفنون. يجمعها الدفاع عن مذهب السلف والرد على خصومه. 4- وشيخ الإسلام كان له منهج واضح في عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة أو في الرد على مخالفيها، وأبرز ما في هذا المنهج - إضافة إلى اعتماده على الكتاب والسنة وأقوال السلف، وتأدبه بأدبهم - ثباته على منهم محدد، فلم يتناقض ولم تتغير قناعته، ولم تختلف به المناهج والسبل كما حدث لغيره، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1384 وإنما بقى صامدا مع كثرة المحن والأحداث التي مرت به. وهذا واضح جداً في كتبه التي وصلت إلينا، فهي على كثرتها، وتكرار بعض موضوعاتها لم يلاحظ عليه تناقض أو تراجع أو تردد، وهذا راجع إلى سلامة المنطلق والأساس الذي كان يعتمد عليه في كتبه. 5- أما مذهب الأشاعرة فقد تبين من خلال الفصول المتعلقة به، كيف كانت نشأة المذهب وكيف انتشر وكيف تطور على يد أعلام لا إلى القرب من مذهب السلف وإنما إلى البعد عنهم، وخاصة قربه من مذهب المعتزلة، والصوفية والفلاسفة. أما مؤسس المذهب أبو الحسن الأشعري فقد كان أقرب إلى مذهب السلف ممن جاء بعده من أتباعه، وهو وإن كان في الإبانة قرب جدا من السلف إلا أنه بقيت عليه بقايا من مذهب المعتزلة. 6- أما موقف ابن تيمية من الأشاعرة فقد تبين مما سبق: أ- أن شيخ الإسلام وهو يواجه أعداء الإسلام من النصارى والتتار والرافضة، إلا أنه لم يقل - كما يدعي البعض - ينبغي أن نتفرغ للعدو الأكبر وندع الخلافات التي بيننا، وإنما رد على هؤلاء وجاهدهم بيده ولسانه وقلمه، كما رد على أشاعرة عصره وفضح ما كانوا فيه من تجهم وتصوف. وبين أن أولئك الأعداء ما تسلطوا على المسلمين إلا لأجل تفريطهم وبعدهم عن مذهب أهل السنة، ووقوعهم في المعاصي والكبائر، والظلم وعدم العدل. وحين تبدأ ساعة الجد والجهاد يركز على العدو الأصلي ويعمل على جمع الصفوف، ولم الشعث، وحث الناس على البذل والتضحية في سبيل الله. ب- ومن خلال ردوده ومناقشاته للاشاعرة برز في منهجه أمران: أحدهما: إنصاف خصومه الأشاعرة، واعترافه بما معهم من حق. وثانيهما: الرد عليهما فيما خالفوا فيه مذهب أهل السنة بتقعيد الردود وتأصيلها، إضافة إلى المناقشات المفصلة لكل مسألة من مسائل العقيدة التي جانبوا فيها الحق والصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1385 ومن ثم جاءت ردوده شاملة لمسائل توحيد الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات، والقدر والإيمان وغيرها. جـ - وردود شيخ الإسلام أظهرت ما في مذهب الأشاعرة من انحرافات شملت أغلب جوانب العقيدة. ومن ثم فكتبهم الكلامية - وإن كثرت وانتشرت - إلا أنها لا يجوز أن تكون مصدرا لتدريس عقيدة أهل السنة والجماعة، كما لا يجوز أن تعتبر ممثلة لمذهب السلف، ولو ادعى ذلك المدعون. وفي الختام فهذا جهد المقل أقدمه، فما كان فيه من صواب فمن الله وهو المحمود على توفيقه، وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1386