الكتاب: القائد إلى تصحيح العقائد (وهو القسم الرابع من كتاب «التنكيل بما تأنيب الكوثري من الأباطيل») المؤلف: عبد الرحمن بن يحيى بن علي بن محمد المعلمي العتمي اليماني (المتوفى: 1386هـ) المحقق: محمد ناصر الدين الألباني. الناشر: المكتب الإسلامي. الطبعة: الثالثة، 1404 هـ / 1984 م.   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، ومذيل بالحواشي] ---------- القائد إلى تصحيح العقائد عبد الرحمن المعلمي اليماني الكتاب: القائد إلى تصحيح العقائد (وهو القسم الرابع من كتاب «التنكيل بما تأنيب الكوثري من الأباطيل») المؤلف: عبد الرحمن بن يحيى بن علي بن محمد المعلمي العتمي اليماني (المتوفى: 1386هـ) المحقق: محمد ناصر الدين الألباني. الناشر: المكتب الإسلامي. الطبعة: الثالثة، 1404 هـ / 1984 م.   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، ومذيل بالحواشي] ـ[القائد إلى تصحيح العقائد]ـ المؤلف: عبد الرحمن بن يحيى المعلمي العتمي اليماني. المحقق: محمد ناصر الدين الألباني. الناشر: المكتب الإسلامي. الطبعة: الثالثة. سنة النشر: 1404 هـ / 1984 م.   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، ومذيل بالحواشي] -أعده للشاملة: أسامة بن الزهراء؛ فريق عمل الشاملة - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 مقدمة الناشر : إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً رسول عبده ورسوله. أما بعد: فقد كثرت الهجمات الظاهرة والباطنة على السنة النبوية الشريفة، بأشكال متعددة منها: الواضح الصريح، ومنها الخفي الباطن، والبعض بأسماء أصحابه، وغيرها بأسماء مستعارة، لا تمت إلى الحقيقة بصلة، وجميعها تهاجم أنصار سنة محمد صلى الله عليه وسلم بالافتراء والكذب، والحط من مكانتهم، وما ذلك - في اعتقادي - إلا من عصبيتهم لمذاهبهم وأشخاصهم وأقوالهم وأهوائهم، وذلك لأن نشر السنة الصحيحة المطهرة يفضح ما هم عليه!! والهجوم على السنة يصعب عليهم، ولذلك عدلوا إلى حامليها ومصححيها وناشريها لأنهم على كل حال أفراد من الناس. وإن ممن فتح هذا الباب البشع، وسار على خطا أعداء السنة من السابقين والمستشرقين محمود أبو رية. وسبق وتصدى له أستاذنا العلامة عبد الرحمن بن يحيى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 اليماني بكتابه القيم «الأنوار القائد إلى تصحيح العقائد الكاشفة» الذي سبق أن طبع باهتمام العالم السلفي الفاضل الشيخ محمد نصيف عليه رحمة الله. غير أن نسخ هذا الكتاب نادرة الوجود مع أن الحاجة إليه ملحة، لذلك أعدت صفه، وصححت ما ند من أخطاء في طبعته السابقة. راجيا الله سبحانه أن يرحم أستاذنا المؤلف رحمة واسعة وأن يعلي في الجنان درجته، وأن يجعلنا وإياه تحت لواء محمد صلى الله عليه وسلم، مع الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. زهير الشاويش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 ترجمة المؤلف : هو العلامة المحدث الفقيه عبد الرحمن بن يحيى بن علي بن محمد المعلمي العتمي نسبته إلى بني معلم في اليمن. ولد ونشأ في بلاد عتمه، وتعلم فيها وبعدد من بلاد اليمن، ثم أقام في عسير، وتولى رئاسة القضاة، ولقب شيخ الإسلام، ثم سافر إلى الهند، وأشرف على دائرة المعارف العثمانية، وأشرف على ما نشرت من الكتب العلمية. ثم أقام في مكة المكرمة من سنة 1374 هـ وعين أميناً لمكتبة الحرم المكي، وقد خدم المكتبة خدمة جلىّ، وكان على صلة طيبة برجال الإصلاح في العالم الإسلامي. ومن مؤلفاته " التنكيل " وقد طبعه الشيخ محمد نصيف بتصحيح أستاذنا الشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني، وهو تحت الطبع، وله " الأنوار الكاشفة "، وكان له شعر جيد، وما زال الكثير من مؤلفاته والكتب التي حققها غير مطبوعة. وله في المملكة ذرية صالحة، وكانت وفاته سنة 1386 هـ بمكة المكرمة، وفيها دفن تغمده الله برحمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 مقدمة قال الله تبارك وتعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» . فاطر: آية: 15. تضافر العقل والشرع على إثبات أن الله تبارك وتعالى غني عن العالمين، وأنه سبحانه الحكيم، فخلق الله تعالى الخلق وتكليفه لهم لا يكون إلا موافقاً لما ثبت من غناه سبحانه وحمده وحكمته. وقال تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» . الذريات:56 وعبادته سبحانه هي طاعته بامتثال ما أمر به ورضيه، واجتناب ما نهى عنه وكرهه، ولم يكن الغني الحميد، الحكيم العليم، ليأمر عباده إلا بما هو خير لهم، ولا لينهاهم إلا عما هو شر لهم، فإن أمرهم أو نهاهم للابتلاء فقط فطاعته نفسها خير لهم، وعصيانه شر لهم، وقد قال تعالى: «إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ» الزمر: الآية 7، تقول العرب: لا أرضى منك بكذا، وأرضى منك بكذا. إذا كانت الفائدة للمتكلم. فإذا كانت هي للمخاطب ولكن المتكلم بكرمه ورحمته يحب الخير ويكره الشر قالوا: لا أرضى لك كذا، وأرضى لك كذا، وقال تعالى فيما قصه عن لقمان: «وَمَنْ يَشْكُرْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ» : لقمان الآية 12 وفيما يخص قصة سليمان «هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ» النمل: الآية 40 وقال تعالى: «وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ» إبراهيم: 8. وقال عز وجل: «وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ» العنكبوت: 6 وفي (صحيح مسلم) وغيره عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضالٌ إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسُكُم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لوأن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، لوأن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لوأن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أو فيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» . فنستطيع أن نفهم من هذا كله أن الله تبارك وتعالى اقتضى كمال جوده أن يجود بالكمال إلى الحد الممكن، ولا يفي بهذا أن يخلق خلقاً كاملين، فإنما ذلك بمنزلة خلقهم حسان الصور، وذاك كمال يتمحض فيه الحمد للخالق من كل وجه، ولا يحمد عليه المخلوق البتة، فلا يعتد به كمالاً، وكذلك أن يخلقهم غير كاملين ويجبرهم على الكمال، فإنما الحمد منوط بالإختيار. وقريب من هذا أن يخلقهم غير كاملين ولا مجبورين وييسر لهم اختيار الكمال بحيث لا يكون فيه مشقة عليهم، فإن المخلوق إنما يحمد على اختيار الكمال حيث يكون عليه فيه مشقة، وكلما كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 المشقة أشد، كان الحمد أحق والكمال أعظم (1) . 1- فصل لنا أن نقول: أن مدار كمال المخلوق على حب الحق وكراهية الباطل، فخلق الله تعالى الناس مفطورين على ذلك، وقدر لهم ما يؤكد تلك الفطرة، وما يدعوهم إلى خلافها، ليكون عليهم في اختيار وهو مقتضى الفطرة ومشقة وتعب وعناء، ولهم في خلاف ذلك شهو ة وهوى، فمن اختار منهم مقتضى الفطرة وصبر على ما فيه من المشقة والعناء، وعما في خلافه من الراحة العاجلة واللذة استحق أن يحمد، فاستحق الكمال فناله، ومن آثر الشهو ة واتبع الهوى استحق الذم فسقط. وفي (صحيح مسلم) من حديث أبي هريرة وأنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال «حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات» . وهو في (صحيح البخاري) من حديث أبي هريرة بنحوه. وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال: أنظر إليها، قال: فرجع إليه فقال. وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بها فحفت بالمكاره فقل: ارجع إليها، فرجع، فقال: وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد، قال: اذهب إلى النار فانظر إليها، فرجع فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بها فحفت بالشهو ات، فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد» (2) راجع (فتح الباري) «كتاب   (1) يريد أن الحكمة الإلهية التي يحمد الله عليها أن يخلق عباده من الأنس في حالة نقص ويتدرج بهم إلى الكمال باختيارهم فيما كلفهم به مما يتدرج بهم إلى الكمال بأعمالهم الاختيارية، ولوخلقهم كاملين لما عاد عليهم حمد وثناء لهذا الكمال، ولوأجبرهم على الكمال لما حمدوا أيضاً على ما أجبروا عليه، فكان الحمد والثناء عليهم أن يسر لهم طريق الكمال التدريجي باختيارهم مع شيء من المشقة. محمد عبد الرزاق. (2) وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح» . قلت: وإسناده جيد. ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الرقاق» . وقال الله عز وجل «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» البقرة: 216. وقال قبل ذلك: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ» البقرة:214 وقال سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ. وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» البقرة: 153 - 157 والمقصود بالابتلاء هو أن يتبين حال الإنسان، فيفوز من صبر على تحمل المشاق، ثابتاً على الحق معرضاً عما يراه في الباطل من المخارج التي تخلص من تلك المشاق أو تخففها، علماً أن الدنيا زائلة، وأن الذي يستحق العناية هو أمر الآخرة، ويخسر من يلجأ إلى الباطل فراراً من تلك المشاق أو من شدتها. ولا يقتصر الابتلاء على الشدائد، بال قال الله عز وجل: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ» (الانبياء: من الآية35» وذلك من وجهين: الأول: أن الإنسان كما يشق عليه الثبات على الحق عند الشدائد، فكذلكعند النعيم والرخاء، لأن النعيم يدعوا إلى التوسع في اللذات والإستكثارمن الشهو ات، والتكاسل عن الطاعات، والتكبر على الناس، وغير ذلك. وفي الصبر عن ذلك ما فيه من المشقة. الوجه الثاني: أن من أستحوذ عليه إثار الباطل تكون الدنيا أعظم همة، فهو من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 جهة إذا توفرت له نعم الدنيا ولم تنله مصائبها رضي عن ربه ودينه، وإذا أصابته المصائب سخط، ومن جهة أخرى يعد نعم الدنيا ومصائبها أعظم دليل على رضا الله عز وجل وسخطه، فإذا يسرت له نعم الديا ولم تنله مصائبها زعم أن الله عز وجل راضٍ عنه وعن دينه وعن عمله، وإلا زعن أن الله عز وجل ساخط عليه وعلى دينه وعلى عمله! وهذه كانت شبهو فرعون كما بينته في (كتاب العبادة) وقال الله تبارك وتعالى: «فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ: رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ» (سورة الفجر) . وقال تعالى: «وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌوَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ] (هو د: 8 - 11) . وقال تعلى: «لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُودُعَاءٍ عَرِيضٍ» (فصلت: 49 - 51) . وقال سبحانه: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ» (الحج: 11) وأقرأ من سورة (الفرقان) - 7 - 11 ومن سورة (الزخرف) - 31 - 35 والإنسان لا يكره الحق من حيث هو باطل، ولكنه هو يحب الحق بفطرته، ويحب الباطل لهواه وشهو ته، ومدار الفوز أو الخسران على الإيثار، قال الله تبارك وتعالى: «فَأَمَّا مَنْ طَغَى. وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى. وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى» (النازعات - 37 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 - 41) ولك أن تقول: أن الله تبارك وتعالى في جانب، والهوى في جانب، وقد قال تعالى: «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً. أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً» (الفرقان: 43 - 44) وقال تعالى: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ» (الجاثية: 23) . ... وفي الحديث: «حبك الشيء يعمي ويصم» . (1) وقال البريق الهذلي: أين لي ما ترى والمرء تأبى ... عزيمته ويغلبه هواه فيعمي ما يرى فيه عليه ... ويحسب ما يراه لا يراه 2 - فصل الدين على درجات: كف عما نهي عنه، وعمل ما أمر به، واعتراف بالحق، واعتقاد له وعلم به. ومخالفة الهوى للحق في الكف واضحة، فان عامة ما نهي عنه شهو ات ومستلذات، وقد لا يشتهي الإنسان الشيء من ذلك لذاته، ولكنه يشتهيه لعارض. ومخالفة الهوى للحق في الاعتراف بالحق من وجوه: الأول: أن يرى الإنسان أن اعترافه بالحق يستلزم اعترافه بأنه كان على باطل، فالإنسان ينشأ على دين أو اعتقاد أو مذهب أو رأي يتلقاه من مربيه ومعلمه على أنه حق فيكون عليه مدة، ثم إذا تبين له أنه باطل شق عليه أن يعترف بذلك، وهكذا   (1) أخرجه أبو داود وغيره عن أبي الدرداء مرفوعاً. وفي سنده أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف. ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 إذا كان آباؤه أو أجاده أو متبعوه على شيء، ثم تبين له بطلانه، وذلك أنه يرى أن نقصهم مستلزم لنقصه، فاعترافه بضلالهم أو خطئهم اعتراف بنقصه، حتى أنك لترى المرأة في زماننا هذا إذا وقفت على بعض المسائل التي كان فيها خلاف على أم المؤمنين عائشة وغيرها من الصحابة أخذت تحامي عن قول عائشة، لا لشيء إلا لأن عائشة امرأة مثلها، فتتوهم أنها إذا زعمت أن عائشة أصابت وأن من خالفها من الرجال أخطأوا، كان في ذلك إثبات فضيلة لعائشة على أولئك الرجال، فتكون تلك فضيلة للنساء على الرجال مطلقاً، فينالها حظ من ذلك، وبهذا يلوح لك سر تعصب العربي للعربي، والفارسي للفارسي، والتركي للتركي، وغير ذلك. حتى لقد يتعصب الأعمى في عصرنا هذا للمعري! . الوجه الثاني: أن يكون قد صار في الباطل جاه وشهرة ومعيشة، فيشق عليه أن يعترف بأنه باطل فتذهب تلك الفوائد. الوجه الثالث: الكبر، يكون الإنسان على جهالة أو باطل، فيجيء آخر فيبين له الحجة، فيرى أنه إن اعترف كان معنى ذلك اعترافه بأنه ناقص، وأن ذلك الرجل هو الذي هداه، ولهذا ترى من المنتسبين إلى العلم من لا يشق عليه الإعتراف بالخطأ إذا كان الحق تبين له ببحثه ونظره، ويشق عليه ذلك إذا كان غيره هو الذي بين له. الوجه الرابع: الحسد وذلك إذا كان غيره هو الذي بين الحق فيرى أن اعترافه بذلك الحق يكون اعترافاً لذلك المبين بالفضل والعلم والإصابة، فيعظم ذلك في عيون الناس، ولعله يتبعه كثير منهم، وإنك لتجد من المنتسبين إلى العلم من يحرص على تخطئه غيره من العلماء ولو بالباطل، حسداً منه لهم، ومحاولة لحط منزلتهم عند الناس. ومخالفة الهوى للحق في العلم والإعتقاد قد تكون لمشقة تحصيلية، فإنه يحتاج إلى البحث والنظر، وفي ذلك مشقة ويحتاج إلى سؤال العلماء والاستفادة منهم وفي ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ما مر في الاعتراف ويحتاج إلى لزوم التقوى طلباً للتوفيق والهدى وفي ذلك ما فيه من المشقة. وقد تكون لكراهية العلم والاعتقاد نفسه وذلك من جهات، الأول ما تقدم في الاعتراف فأنه كما يشق على الإنسان أن يعترف ببعض ما قد تبين له، فكذلك يشق عليه أن يتبين بطلان دينه، أو اعتقاده، أو مذهبه، أو رأيه الذي نشأ عليه، واعتز به، ودعا إليه، وذهب عنه، أو بطلان ما كان عليه آباؤه وأجداده وأشياخه، ولا سيما عندما يلاحظ أنه أن تبين له ذلك تبين أن الذين يطريهم ويعظمهم، ويثنى عليهم بأنهم أهل الحق والإيمان والهدى والعلم والتحقيق، هم على خلاف ذلك، وإن الذين يحقرهم ويذمهم ويسخر منهم وينسبهم إلى الجهل والضلال والكفر هم المحقون، وحسبك ما قصه الله عز وجل من قول المشركين، قال تعالى: «وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ» (الأنفال: 32) فتجد ذا الهوى كلما عرض عليه دليل لمخالفيه أو ما يوهن دليلاً لأصحابه شق عليه ذلك وأضطرب وأغتاظ وسارع إلى الشغب، فيقول في دليل مخالفيه: هذه شبهة باطلة مخالفة للقطعيات، وهذا المذهب مذهب باطل لم يذهب إليه إلا أهل الزيغ والضلال ... ، ويؤكد ذلك بالثناء على مذهبه وأشياخه ويعدد المشاهير منهم ويطريهم بالألفاظ الفخمة، والألفاظ الضخمة، ويذكر ما قيل في مناقبهم ومثالب مخالفيهم، وإن كان يعلم أنه لا يصح، أو أنه باطل! ومن أوضح الأدلة على غلبة الهوى على الناس أنهم - كما تراهم - على أديان مختلفة، ومقالات متباينة، ومذاهب متفرقة، وآراء متدافعة ثم تراهم كما قال الله تبارك وتعالى: «كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» . فلا تجد من ينشأ على شيء من ذلك ويثبت عليه يرجع عنه إلا القليل، وهؤلاء القليل يكثر أن يكون أول ما بعثهم على الخروج عما كانوا عليه أغراض دنيوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 ومن جهات الهوى أن يتعلق الاعتقاد بعذاب الآخرة فتجد الإنسان يهوى أن لا يكون بعث لئلا يؤخذ بذنوبه، فإن علم أنه لا بد من البعث هوى أن لا يكون هناك عذاب، فإن علم أنه لا بد من العذاب هوى أن لا يكون على مثله عذاب كما هو قول المرجئة، فإن علم أن العصاة معذبون هوى التوسع في الشفاعة - وهكذا. ومن الجهات أنه لا شق عليه عمل كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هوى عدم وجوبه، وإذا ابتلي بشيء يشق عليه أن يتركه كشرب المسكر هوى عدم حرمته. وكما يهوى ما يخفف عليه فكذلك يهوى ما يخفف على من يميل إليه، وما يشتد على من يكرهه، فتجد القاضي والمفتي هذه حالهما. ومن المنتسبين إلى العلم من يهوى ما يعجب الأغنياء وأهل الدنيا، أو ما يعجبه العامة ليكون له جاه عندهم وتقبل عليه الدنيا، فما ظهرت بدعة، وهو يها الرؤساء والأغنياء وأتباعهم إلا هويها وانتصر لها جمع من المنتسبين إلى العلم، ولعل كثيراً ممن يخالفها إنما الباعث لهم عن مخالفتها هوى آخر وافق الحق، فأما من لا يكون له هوى إلا إتباع الحق فقليل، ولا سيما في الأزمنة المتأخرة، وهؤلاء القليل يقتصرون على أضعف الإيمان، وهو الإنكار بقلوبهم والمسارة به فيما بينهم، إلا من شاء الله. فإن قيل: فلماذا لم يجعل الله عز وجل جميع حجج الحق مكشوفة قاهرة لا تشتبه على أحد، فلا يبقى إلا مطيع يعلم هو وغيره أنه مطيع، وإلا عاص يعلم هو وغيره أنه عاص، ولا يتأتى له إنكار ولا اعتذار؟ (1) . قلت: لوكان كذلك لكان الناس مجبورين على إعتقاد الحق فلا يستحقون عليه حمداً ولا كمالاً ولا ثواباً، ولكانوا مكرهين على الاعتراف كمن كان في مكان مظلم فزعم أن ذاك الوقت ليل وراهن على ذلك ففتحت الأبواب فإذا الشمس في   (1) علق الأخ العلامة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة على هذا الموضع ما لفظه «يريد الشيخ بالسؤال والجواب أن يبين حكمة الله تعالى في ابتلاء الناس بالهوى والشبهات والشهوات ليحصل الجهاد والابتلاء ويحمد المجاهد ويؤجر، وإلا فوضوح الحق = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 كبد السماء، ولكانوا قريباً من المكرهين على الطاعة من عمل وكف، لفوات كثير من الشبهات التي يتعلل بها من يضعف حبه للحق فيغالط بها الناس ونفسه أيضاً. فإن قيل: فإن المؤمن إذا كان موقناً كانت الحجة في معنى المكشوفة عنده أفلا يمون مثاباً على إيمانه واعترافه وطاعته؟ قلت: ليس هذا من ذاك في شيء، أما الاعتقاد فمن وجهين: الأول: أن الحجة لم تكن كلها مكشوفة للمؤمن من أول الأمر، وإنما بلغ تلك الدرجة بنظره وتدبره ورغبته في الحق ومخالفته الهوى، وبهذا ثبت صدق حبه للحق   = والباطل أمر لا خفاء به، ليهلك من هلك من بينه، ويحيى من حي عن بينه» . وعلق على ما يأتي أو الفصل الثالث ما لفظه «أن حجج الله تعالى التي سماها بينات هي مكشوفة واضحة لا خفاء بها وإنما تخفى على من في قلبه كن وفي أذنيه وقر وعلى بصره غشاوة من هواه وأخلاقه وما اعتاد» . ... قال المؤلف: لا أراه يخفى أن مرادي بالقضية المكشوفة القاهرة هو أن تكون بحيث لا تخفى هي ولا إفادتها اليقين على عاقل حتى لو زعم زاعم أنه يجهلها، أو أنه يعتقد عدم دلالتها أو يرتاب فيها لقطع العقلاء بأنه إما مجنون الجنون المنافي للتكليف أو كاذب. ولا يخفى أنه ليس جميع حجج الحق هكذا، ولكنها بينات البيان الذي تحصل به الهداية وتقوم به الحجة، ثم هي على ضربين، الضرب الأول الحجج التي توصل الإنسان إلى أن يتبين له أنه يجب عليه أن يكون مسلماُ، الثاني ما بعد ذلك، فالأول حجج واضحة لكن من أتبع هوى قد بان أنه يصد عن الحق، أو قصر في القيام بما قد بان أن عليه أن يقوم به فقد يرتاب أو يجهل، والضرب الثاني على درجات، منه ما هو في معنى الأول فيكفر المخطئ فيه، ومنه ما لا يكفر ولكن يؤاخذ، ومنه ما يعذر، ومنه ما يؤجر أيضاً على إجتهاده. المؤلف. قلت: وهذا التفصيل حق لا غبار عليه عندي. ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وإيثاره على الهوى فيستمر له حكم ذلك بعد انكشاف الحجة، وهو بمنزلة الظمآن الذي يطلب الماء حتى ظفر به، فأراد أن يشرب فقال له مصلط: إن لم تشرب ضربتك أوسجنتك. فمثل هذا لا يقال إذا شرب إنه إنما شرب مكرهاً. الوجه الثاني: أن وضوح الحجة للمؤمن لا يستمر بدون جهاد، لأن الشبهات لا تزال تحوم حول المؤمن لتحجب عنه الحجة وتشككه فيها، والشهوات تساعدها فثباته على الإيمان برهان على دوام صدق محبته للحق، وايثاره على الهوى. وأما الاعتراف فالأمر فبه واضح، فإن وضوح الحجة عند المؤمن لا يكون مكشوفاً لغيره، فليس في معنى المكره على الاعتراف، بل أنه إذا ذكرنا أن الحجة واضحة عنده وجد كثيراً من الناس يكذبونه أو يرتابون في دعواه. وهكذا حاله في الطاعة من عمل وكف، فأن انكشاف الحجة في الإيمان الاعتقادي لا يستلزم إنكشاف الحجج الأخرى التي تترتب عليها الطاعات، وهب أن هذه انكشفت له أيضاً، فقد بقيت شبهات أخرى، لولا صدق حبه للحق وإيثاره على الهوى لأمكنه التشبث بها، كأن يقول: ينبغي أروح عن نفسي فإن لي حسنات كثيرة لعلها تغمر هذا التقصير، أرى لعلها تنالني من شفاعة الشافعين، أولعل الله يغفر لي، أو أتمتع الآن ثم أتوب. وقال الله تبارك وتعالى: «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً» الأنعام: 158 وفي (الصحيحين) وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: «قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، وذلك حين «ينفع نفساً أيمانها» ثم قرأ الآية» . ونحوه من حديث أبوذر وابن مسعود وأبي سعيد الخدري وصفوان بن عسال وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله ابن عباس وعبد الله بن عمروبن العاص وغيرهم. والأخبار بأن الشمس سوف تطلع من مغربها متواترة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومعنى ذلك أن ما يشاهد الآن من سيرها ينعكس، فسكان هذا الوجه الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 كان فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرونها تغرب في مغربها على العادة ثم يرونها في اليوم الثاني طالعة من مغربها، وأما سكان الوجه الأخر فإنها تطلع عليهم من مشرقهم على عادتها، ثم يرونها تسير إلى مغربها ما شاء الله ثم ترجع القهقري حتى تغرب في مشرقهم. وعلى زعم (1) أن الأرض هي التي تدور، فإن دورة الأرض تنعكس فيكون ما ذكر. فأما إيمان الناس جميعاً فوجهه والله أعلم أن النفوس مفطورة على اعتقاد وجود الله عز وجل وربوبيته، ومن شأن ذلك أن يسوق إلى بقية فروع الإيمان، وآيات الآفاق والأنفس تؤكد ذلك، ولكن الشبهات والأهواء تغلب على أكثر الناس حتى يرتابوا فيتبعوا اهو ائهم، فإذا طلعت الشمس من مغربها لحقهم من الذعر والرعب لشدة الهو ل ما يمحق أثر الشبهات والأهواء وتفزع النفوس إلى مقتضى فطرتها، قال الله تعالى في ركاب البحر: «وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ» لقمان: 32. فتلك الآية في حق من يكون قد بلغه أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بها حجة مكشوفة قاهرة، وكذلك هي في حق من لم يبلغه لكن بمعونة الرعب والفزع وشدة الهول. وقد دلت الآية على أن من لم يكن آمن قبل تلك الآية لا ينفعه إيمانه عندها، ومن لم يكن من المؤمنين قبل يكسب الخير لا ينفعه كسب الخير عندها وفهم من ذلك أن من كان مؤمنا قبلها ينفعه الإيمان عندها، ومن كان من المؤمنين يكسب الخير قبلها ينفعه كسب الخير عندها، والنظر يقتضي أنه إنما ينفعه من كسب الخير عندها ما كان عادة له، وفي (صحيح البخاري) وغيره من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا مرض العبد أوسافر كتب له مثل ما كان يعمل   (1) كذا قول المصنف رحمه الله، ولعله من باب التقية، وإلا فكون الأرض تدور في الفضاء أصبحت من الحقائق العلمية التي لا تقبل الجدل، وليس في الكتاب ولا في السنة نص ينافي ذلك، خلافاً لبعضهم. ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 مقيماً صحيحاً» . وجاء نحوه من حديث عبد الله ابن عمرو بن العاص وأنس وعائشة وأبي هريرة، وأشار إليها ابن حجر في (الفتح) . فمن كان معتاداً للعمل من أعمال الخير مواظباً عليه ثم طرأ عليه بغير إختياره أو باختياره مأذوناً له عارض يعجز معه عن ذاك العمل، أو يشرع له تركه أو يدعه وهو نفل لإشتغاله عنه أولزيادة المشقة فيه فقد ثبت باعتياده أنه لولا ذاك العارض - وهو غير مقصر فيه - لأستمر على عادته فلذلك يكتب له ثواب ذاك العمل، فأولا من هذا من كان معتاداً لعمل في عرض باعث آخر على ذاك العمل واستمر العامل على عادته. وقال الله عز وجل في قصة نوح «فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ» . هو د: 27 - 28 يريد والله أعلم أن كراهيتكم للحق وهو اكم أن لا يكون ما أدعوكم إليه حقاً يحول بينكم وبين أن يحصل لكم العلم واليقيين بصحته، وفي (تفسير ابن جرير) 12 / 17 عن قتادة قال: «أما والله لواستطاع نبي الله صلى الله عليه وسلم لألزمها قومه ولكن لم يملك ذلك، ولم يملكه» . والرسول لا يحرص على أن يُكره قومه إكراهاً عادياً على إظهار قبول الدين، فإنه يعلم أن هذا لا ينفعهم بل لعله أن يكون أضر عليهم، وإنما يحرص على أن يقبلوه مختارين، ولذلك يحرص هو وأصحابه على أن يظهر الله تعالى الآيات على يده أملاً أن يحصل للكفار العلم إذا رأوها فيقبلوا الدين مختارين، ويزداد الحرص على هذا عندما يطالب الكفار بالآيات، وهذه كانت حال محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فبين الله تعالى لهم في عدة آيات أنه ليس على الرسول إلا البلاغ، وأن الهداية بيد الله، وأن ما أوتيه من الآيات كاف لأن يؤمن من في قلبه خير، وأن الله لو شاء لهدى الناس جميعاً، لكن حكمته إنما اقتضت أن يهدي من أناب بأن كان يحب الهدى، ويؤثره على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الهوى. فأما من كره الحق واستسلم للهوى، فإنما يستحق أن يزيد الله تعالى ضلالاً، قال الله عز وجل «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ» إلى أن قال: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً» الرعد - 31. (1) وقال تعالى: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ» . الأنعام: 109 - 110 وقال تعالى: «اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ» الشورى - 13. وقال سبحانه: «هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ» المؤمن: 13. وقال تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرائيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً. (2) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً» (3) الاسراء: 101 - 102.   (1) الأصل (27 - 31) . وإنما هي آية واحدة. ن (2) مسحوراً. أي: ساحراً كقوله في الآية الأخرى (وقالوا يا أيه الساحر أدعولنا ربك) الخ والآية: (قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى) وغيرهما. م ع (3) والمثبور الهالك كقوله: (إذا رأتهم من كان بعيد سمعوا لها تغيضاً وزفيراً وإذا القوا فيها مكاناً ضيقاً مقرنين دعوا هنالك ثبوراً. لا تدعوا اليوثبوراً وادعوا ثبوراً كثيراً) . محمد عبد الرزاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وقال تعالى: «فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ. فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً] . النمل:12 - 14. فلما تبين لموسى وهارون أن فرعون وقومه قد استحكم كفرهم انتهى مقتضى الحرص على أن يهتدوا، واقتضى حبهما للحق أن يحبا أن لا يهديهما الله، قال الله تعالى: «وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ. قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» يونس: 88 - 89. وفي القرآن آيات كثيرة في أن الله تعالى لا يهدي الكافرين، والمراد بهم من استحكم كفرهم وليس كل كافر كذلك، فقد روى هدى الله تعالى ويهدي من لا يحصى من الكفار، وإنما الحق أن لا يهدي الله تعالى من استحكم كفره. 3 - فصل وكما اقتضت أن الحكمة أن لا تكون حجج الحق مكشوفة (1) قاهرة فكذلك اقتضت أن لا تكون الشبهات غالبة، قال الله عز وجل: «وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ. وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ. وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ» الزخرف:33 - 35.   (1) الحق أن حجج الله تعالى التي سماها بينات هي مكشوفة واضحة لا خفاء بها وإنما تحفى على من في قلبه كن وفي أذنيه وقر وعلى بصره غشاوة من هواه وأخلاقه وما اعتاد. م ع. أنظر التعليق ص 182. ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وذلك أنه لو كان كل من كفر بالله خصه الله تعالى بذلك النعيم دون المؤمنين، لكانت تلك شبهة غالبة توقع الناس كلهم في الكفر. فتخلص أن حكمة الحق في الخلق اقتضت أن تكون هناك بينات وشبهات، وأن لا تكون البينات قاهرة ولا الشبهات غالبة، فمن جرى مع فطرته من حب الحق ورباها ونماها وآثر مقتضاها، وتفقد مسالك الهوى إلى نفسه فاحترس منها، لم تزل تتجلى له البينات وتتضاءل عنده الشبهات، حتى يتجلى له الحق يقيناً فيما يطلب فيه اليقين، ورجحاناً فيما يكفي فيه الرجحان، وبذلك يثبت له الهدى ويستحق الفوز، والحمد والكمال على ما يليق بالمخلوق، ومن اتبع الهوى وآثر الحياة الدنيا، تبرقعت دونه البينات، واستهو ته الشبهات، فذهبت به (إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم) . 4 - فصل إن قيل: لا ريب أن الانسان ينشأ على دينه واعتقاد ومذهب وآراء يتلقاها من مربيه ومعلمه، ويتبع فيها أسلافه وأشياخه الذين تمتلئ مسامعه بإطرائهم، وتأكيد أن الحق ما هم عليه وبذم مخالفيهم وثلبهم، وتأكيد أنهم على الضلالة، فيمتلئ قلبه بتعظيم أسلافه وبغض مخالفيهم، فيكون رأيه وهواه متعاضدين على اتباع أسلافه ومخالفة مخالفيهم، ويتأكد ذلك بأنه يرى أنه إن خالف ما نشأ عليه رماه أهله وأصحابه بالكفر والضلال، وهجروه وآذوه وضيقوا عليه عيشته، ولكن هذه الحال يشترك فيها من نشأ على باطل ومن نشأ على حق، فإذا دعونا الناس إلى الاستيقاظ للهوى وبينا لهم أثره وضرره، فمن شاء ذلك أن يشككهم فيما نشأو اعليه، وهذا إنما ينفع من نشأ على باطل، فأما من نشأ على حق فإن تشكيكه ضرر محض لأن غالب الناس عاجزون عن النظر. قلت: المطالب على ثلاثة أضرب: الأول: العقائد التي يطلب الجزم بها ولا يسع جهلها. الثاني: بقية العقائد.الثالث: الأحكام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 فأما الضرب الأول فسنبين إن شاء الله تعالى أن النظر فيه ميسر لكل أحد، وأن النظر العقلي المتعمق فيه لا حاجة إليه وهو مثار الشبهات، وملجأ الهدى ومنشأ الضلال، كما سيتضح ذلك إن شاء الله تعالى، فمن استجاب لتلك الدعوة إلى النظر الفطري الشرعي مخلصاً من شوائب الهوى، فإن كان النظر سابقاً على حق فإنه يتبين له بهذا النظر أنه حق، فيلزمه وقد صفا له وخلص، ونجا من اتباع الهوى وصفت له الطمأنينة. وأما الضرب الثاني فمن كان قائلاً بشيء منه عن حجة صحيحة فإن الاستجابة لتلك الدعوة لا تزيد تلك الحاجة إلا وضوحاً مع الخلاص عن الهوى، وإلا فالجهل بهذا الضرب خير من القول فيه بغير حجة وإن صادف الحق. وأما الضرب الثالث فالمتواتر منه والمجمع عليه لا يختلف حكمه، وما عداه قضايا اجتهادية يكفي فيها بذل الوسع لتعرف الراجح أو الأرجح أو الأحوط فيؤخذ به. وإنما يجئ البلاء فيها من أوجه: الأول: التقصير في بذل الوسع. الثاني: التمسك بما ليس من الحق. الثالث: الاعتداد بترجيح النفس الذي يكون منشؤه الهوى. الرابع: عدم الرجوع عما يتبين أن غيره أولى بالحق منه. الخامس: معاداة المخالف مع احتمال أنه هو المصيب وظهور أنه كان مخطئاً فهو معذور، فمن شأن تلك الإستجابة لتلك الدعوة أن تدفع هذه المفاسد. 5 - فصل هذه أمور ينبغي لإنسان أن يقدم التفكير فيها ويجعلها نصب عينيه. 1- التفكير في شرف الحق وضعة الباطل، وذلك بأن يفكر في عظمة الله عز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وجل وأنه رب العالمين، وأنه سبحانه يحب الحق ويكره الباطل، وأن من اتبع الحق استحق رضوان رب العالمين، فكان سبحانه وليه في الدنيا والآخرة، بأن يختار له كل ما يعلمه خيراً له وأفضل وأنفع وأكمل وأشرف وأرفع حتى يتوفاه راضياً مرضياً، فيرفعه إليه ويقربه لديه، ويحله في جوار ربه مكرماً منعماً في النعيم المقيم، والشرف الخالد، الذي لا تبلغ الأوهام عظمته، وأن من أخلد إلى الباطل استحق سخط رب العالمين وغضبه وعقابه، فإن آتاه شيئاً من نعيم الدنيا فإنما ذلك لهو انه عليه ليزيده بعداً عنه، وليضاعف له عذاب الآخرة الأليم الخالد الذي لا تبلغ الأو هام شدته. 2- يفكر في نسبة نعيم الدنيا إلى رضوان رب العالمين ونعيم الآخرة، ونسبة بؤس الدنيا إلى سخط رب العالمين وعذاب الآخرة، ويتدبر قول الله عز وجل: «وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ. وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ. وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ. وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ] . الزخرف: 31 - 35 ويفهم من ذلك أنه لولا أن يكون الناس أمة واحدة لابتلى الله المؤمنين بما لم تجر به العادة من شدة الفقر والضر والخوف والحزن وغير ذلك، وحسبك أن الله عز وجل ابتلى أنبيائه وأصفيائه بأنواع البلاء.وفي (الصحيحين) من حديث كعب بن مالك قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيؤها الرياح تصرعها مرة وتعدلها أخرى حتى يأتي أجله، ومثل المنافق كمثل الأرزة المجذية التي لا يصيبها شيء حتى يكون انجعافها مرة واحدة» وفي (الصحيحين) أيضاً نحوه من حديث أبي هريرة. ومعنى الحديث والله أعلم أن هذا من شأن المؤمن والمنافق فلا يلزم منه أن كل منافق تكون تلك حاله لا يناله ضرر ولا مصيبة إلا القاضية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 والمقصود من الحديث تهذيب المسلمين فيأنس المؤمن بالمتاعب والمصائب ويتلقاها بالرضا والصبر والاحتساب، راجياً أن تكون له عند ربه عز وجل، ولا يتمنى خالصاً من قلبه النعم ولا يحسد أهلها، ولا يسكن إلى السلامة والنعم ولا يركن إليها، بل يتلقاها بخوف وحذر وخشية أن تكون إنما هيئت له لاختلال إيمانه، فترغب نفسه إلى تصريفها في سبيل الله عز وجل، فلا يخلد إلى الراحة ولا يبخل، ولا يعجب بما أو تيه ولا يستكبر ولا يغتر، ولم يتعرض الحديث لحال الكافر لأن الحجة عليه واضحة على كل حال. وأخرج الترمذي وغيره من حديث سعد بن أبي وقاص قال «سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة هون عليه ... » الحديث قال الترمذي: «حسن صحيح» (1) وقد ابتلى الله تعالى أيوب بما هو مشهور (2) . وابتلى يعقوب بفقد ولديه وشدد أثر ذلك على قلبه فكان كما قصه الله عز وجل في كتابه: «وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَأبيضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ» يوسف:84. وابتلى محمداً عليه وعليهم الصلاة والسلام بما تراه في أوائل السيرة، فكلفه أن يدعو قومه إلى ترك ما نشأوا عليه تبعاً لآبائهم من الشرك والضلال، ويصارحهم بذلك سراً وجهاراً، ليلاً ونهاراً، ويدور عليهم في نواديهم ومجتمعاتهم وقراهم، فاستمر على ذلك نحو ثلاث عشرة سنة وهم يؤذونه أشد الأذى مع أنه كان قد عاش قبل ذلك أربعين سنة أو فوقها ولا يعرف أن يؤذي، إذ كان من قبيلة شريفة محترمة موقرة في بيت محترم موقر، ونشأ على أخلاق كريمة احترمه لأجلها الناس ووقروه، ثم كان ذلك على غاية الحياء والغيرة وعزة النفس، ومن كانت هذه حاله يشتد عليه غاية الشدة أن يؤذى ويشق عليه غاية المشقة الاقدام على ما يعرضه لأن يؤذى، ويتأكد ذلك في جنس ذاك الايذاء، هذا يسخر منه، وهذا يسبه، وهذا يبصق في وجهه - بأبي هو وأمي -، وهذا يحاول أن يضع رجليه على   (1) انظر تخريجه وطرقه في «الأحاديث الصحيحة» (143) . ن (2) راجع حديثه في المصدر السابق رقم (17) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 عنقه إذا سجد لربه، وهذا يضع سلى (1) الجزور على ظهره وهو ساجد، وهذا يأخذ بمجامع ثوبه ويخنقه، وهذا ينخس دابته حتى تلقيه (2) ، وهذا عمه يتبعه أنى ذهب يؤذيه ويحذر الناس منه ويقول: إنه كذاب، وإنه مجنون، وهؤلاء (3) يغرون به السفهاء فيرجمونه حتى تسيل رجلاه دماً، وهؤلاء يحصرونه وعشيرته مدة طويلة في شعب ليموتوا جوعاً، وهؤلاء يعذبون من اتبعه بأنواع العذاب، فمنهم من يضجعونه على الرمل في شدة الرمضاء ويمنعونه الماء، ومنهم من ألقوه على النار حتى ما أطفأها إلا ودك ظهره، ومنهم امرأة عذبوها لترجع عن دينها فلما يئسوا منها طعنها أحدهم (4) بالحربة في فرجها فقتلها، (5) كل ذلك لا لشيء إلا أنه يدعوهم إلى أن يخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن الفساد إلى الصلاح، ومن سخط الله إلى رضوانه، ومن عذابه الخالد إلى نعيمه الدائم، ولم يلتفوا إلى ذلك مع وضوح الحجة، وإنما كان همهم أنه يدعوهم إلى خلاف هواهم. ومن وجه آخر ابتلى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأن قبض أبويه صغيراً ثم جده ثم عمه الذي   (1) السلا: غشاء جنين البهيمة. م ع (2) نخس الدابة كان لزينب بنت الرسول فسقطت عنها وأجهضت حينما هاجرت رضي الله عنها م ع يقول المؤلف: بل روي مثل ذلك في شأن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، راجع ترجمة ضباعة بنت عامر من «الاصابة» . قلت: لكن في إسناد الرواية المشار إليها الكلبي وهو متهم! ن (3) هم كبراء الطائف عندما عرض نفسه عليهم ليحموه من قريش فردوا عليه رداً قبيحاً وأغروا به السفهاء. م ع (4) أبو جهل قبحه الله، والمرأة سمية أم عمار. م ع (5) من تدبر هذه الحال علم أنها من أعظم البراهين على صدق محمد صلى الله عليه وسلم في دعوى النبوة، فإن العادة تحيل أن يقدم مثله في أخلاقه وفيما عاش عليه أربعين سنة لما يعرضه لذلك الإيذاء ثم يصبر عليه سنين كثيرة وله مندوحة، ولهذا كان العارفون به من قومه لا ينبسونه إلى الكذب وإنما يقولون: مسحور، مجنون. قال الله تعالى: (فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) . المؤلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 كان يحامي عنه، ثم امرأته التي كانت تؤنسه، وتخفف عنه، ثم لم يزل البلاء يتعاهده صلى الله عليه وآله وسلم وتفصيل هذا يطول، وهذا هو سيد ولد آدم وأحبهم إلى الله عز وجل. فتدبر هذا كله لتعلم حق العلم ما تنافس فيه ونتهالك عليه من نعيم الدنيا وجاهها ليس هو بشيء في جانب رضوان الله عز وجل والنعيم الدائم في جواره، وأن ما نفر منه من بؤس الدنيا ومكارهها ليس في جانب سخط الله عز وجل غضبه والخلود في عذاب جهنم. وفي (الصحيح) من حديث أنس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار ثم يقال له: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا يا رب، ويؤتى بأشد ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له: يا أبن آدم هل رأيت بؤساً قط وهل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط» . 3- يفكر في حاله بالنظر إلى أعماله من الطاعة والمعصية، فأما المؤمن فإنه يأتي الطاعة راغباً نشيطاً لا يريد إلا وجه الله عز وجل والدار الآخرة، فإن عرضت له رغبة في الدنيا فإلى الله تعالى فيما يرجوا معونيته على السعي للآخرة، فإن كان ولا بد ففيما يغلب على ظنه أنه لا يثبطه عن السعي للآخرة، وهو على كل حال متوكل على الله راغب إليه سبحانه أن يختار له ما هو خير وأنفع، ثم يباشر الطاعة خاشعاً خاضعاً مستحضراً أن الله عز وجل يراه ويرى ما في نفسه، ويأتي بها على الوجه الذي شرعه الله عز وجل وهو مع ذلك كما قال الله تعالى: «يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ» المؤمنون: - 60، فهو يخاف ويخشى أن لا تكون نيته خالصة، وذلك أن النية الصالحة قد تكون من قوي الإيمان، وقد تكون من ضعيفه الذي إنما يطيع إحتياطاً وقد لا تكون خالصة بل يمازجها رغبة في ثواب الدنيا لأجل الدنيا، أو رغبة في الآثار الطبيعية ككسر الشهوة حيث لا يشرع، وكتقوية النفس، كالذي يصوم ويقوم ليكون من أهل اللكشف فيطلع على العجائب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 والمغيبات (1) فيلتذ بذلك ويعظم جاهه بين الناس، وكذلك يتعبد ليحصل له الكشف فيصفوا إيمانه ويستريح من الوسوسة ومدافعة الشبهات، فإن هذه الطريقة غير مشروعة، ومن شأنها أن تجر إلى تعاطي الأسباب الطبيعية لتقوية النفس وإن كانت منهياً عنها في الشرع كما هو معروف في بدع المتصوفة، ومن حصل له الكشف بهذه الطريق فهو مظنة ان يضعف أيمانه أو يزول عقوبة له على سلوكه غير السبيل المشروع، حتى لوكشف له عن شيء مما يجب الإيمان به فشاهده لم ينفعه هذا الإيمان كما يعلم مما تقدم. وإنما المشروع أن يجاهد نفسه ويصرفها عن الشبهات والوساوس مستعيناً بطاعة الله تعالى والوقوف عند حدوده مبتهلاً إليه عز وجل أن يثبت قلبه بما شاء سبحانه، فهذا إنما يحمل على إتباع الشرع والاهتداء بهذا. وكمنفعة البدن كالذي يصوم ليصح ويصلي التراويح لينهضم طعامه. وكموافقة الإلف والعادة كمن إعتاد الصلاة من صباه فيجد نفسه تنازعه إلى الصلاة فلا تستقر حتى يصلي، فإن هذا قد يكون كالذي اعتاد العبث بلحيته فيجد نفسه تنازعه إلى ذلك حتى لوكف عن ذلك أو منع منه شق عليه. وكحب الترويح عن النفس كالذي يأتي الجمعة ليتفرج ويلقى أصحابه ويقف على أخبارهم. وكمراعاة الناس لكي يمدحوه ويثنوا عليه فيعظم جاهه ويصل إلى أغراضه ولا يمقتوه، إلى غير ذلك من المقاصد، كالمرأة تتزين وتتعطر وتخرج إلى الصلاة لتشاهد الرجال وتلفتهم إليها. وكالعالم يريد أن يراه الناس ويعظموه ويستفتوه فيشتهر علمه ويعظم جاهه. وكالمنتسب إلى الصلاح يريد أن يعظمه الناس ويقبلوا يده ورجليه، ويشتهر ذكره ويتساقط الناس في شبكته، وكالحاكم النابه يريد أن يتطاول الناس إلى رؤيته ويتزاحموا وترتفع أصواتهم بمدحة وغير ذلك. والمؤمن ولو خلصت نيته في نفس الأمر لا يستطيع أن يستيقن ذلك من نفسه.   (1) قلت: ومع كون هذه الطريقة غير مشروعية، فهي من المستحيل أن توصل إلى الإطلاع على المغيبات بعد ختم الرسالة بالنبي صلى الله عيه وسلم ونزول قوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُول) نعم هي في الحقيقة إنما توصل إلى أوهام وخيالات، يتوهمونها كشوفات ومغيبات! ن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 والمؤمن يخاف ويخشى أن لا يكون أتى بالطاعة على الوجه المشروع، وذلك من أوجه: منها أن للصلاة مثلاً شرائط وأركاناً وواجبات قد اختلف في بعضها، والمجتهد إنما يراعي اجتهاده فيخشى أن يكون قصر في اجتهاده أو استزله الهوى، والعامي إنما يتبع قول مفتيه أو إمامه أو بعض فقهاء مذهبه، فيخشى أن يكون قصر أو تبع الهوى في اختياره قول ذاك المفتي أو في الجمود على مذهب إمامه في بعض ما اختلف فيه. ومنها أن روح الصلاة الخشوع والنفس تتنازعها الخواطر فلا يثق المؤمن خشع بأنه كما يجب، فإن حاولت نفس المؤمن أن تقنعه بإخلاصها في نيتها واجتهادها وخشوعها خشى على نفسه أن يكون مغروراً مسامحاً لنفسه. وهكذا تستمر خشية المؤمن بالنظر إلى طاعاته السالفة يرجوا أن يكون قبلها الله تعالى بعفوه وكرمه، ويحشى أن يكون ردت لخلل فيها، وإن لم يشعر به، أولخلل في أساسها وهو الإيمان. هذه حال المؤمن في الطاعات، فما عسى أن تكون حاله في المعاصي؟ وقد قال الله تبارك وتعالى: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ الأعراف - 201 - 202. فالمؤمن يتصارع إيمانه وهواه فقد يطيف به الشيطان فيغفله عن قوة إيمانه، فيغلبه هواه فيصرعه، وهو حال مباشرة المعصية ينازع نفسه، فلا تصفوا له لذتها، ثم لا يكاد جنبه يقع على الأرض، حتى يتذكر فيستعيد قوة إيمانه فيثبت يعض أنامله أسفاً وحزناً على غفلته التي أعان بها عدوه على نفسه، عازماً على أن لا يعود لمثل تلك الغفلة. وأما إخوان الشياطين، فتمدهم الشياطين في الغي فيمتدون فيه ويمنونهم الأماني فيقنعون، فمن الأماني أن يقول: الله قدره علي، فما شاء فعل. قد أختلف العلماء في حرمة هذا الفعل. قد أختلفوا في كونه كبيرة، والصغائر أمرها هين. لي حسنات كثيرة تغمر هذا الذنب. لعل الله يغفر لي. لعل فلاناً يشفع لي. سوف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 أتوب! وأحسن حاله أن يقول: أستغفر الله، استغفر الله، ويرى أنه قد تاب ومحي ذنبه، قال الله تعالى: «وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً. يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً. أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً. لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً» .النساء - 119 - 124. وقال عز وجل: «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقّ» لأعراف - 169. وفي (مسند احمد) و (المستدرك) وغيرهما من حديث شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الكوت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني» . (1) وفي (الصحيحين) عن عبد الله بن مسعود قال: «إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وان الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا - أي بيده - فذبه عنه» . 4 - يفكر في حاله مع الهوى، أفرض أنه بلغك أن رجلاً سب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وآخر سب داود عليه السلام، وثالثاً سب عمر أو علياً رضي الله عنهما، ورابعاً سب إمامك، وخامساً سب إماماً آخر، أيكون سخطك عليهم وسعيك في عقوبتهم وتأديبهم أو التنديب بهم موافقاً لما يقتضيه الشرع فيكون غضبك على الأول والثاني قريباً من السواء وأشد مما بعدهما جداً، وغضبك على   (1) قلت: في إسناده أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف. ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الثالث دون ذلك وأشد مما بعده، وغضبك على الرابع والخامس قريباً من السواء ودون ما قبلهما بكثير؟ أفرض أنك قرأت آية فلاح لك منها موافقة قول لإمامك، وقرأت أخرى فلاح لك منها مخالفة قول آخر له، أيكون نظرك إليها سواء، لا تبالي أن يتبين منها بعد التدبر صحة ما لاح لك أو عدم صحته؟ أفرض أنك وقفت على حديثين لا تعرف صحتهما ولا ضعفهما، أحدهما يوافق قولاً لإمامك والآخر يخالفه، أيكون نظرك فيها سواء، لا تبالي أن يصح سند كل منهما أو يضعف؟ أفرض انك نظرت في مسألة قال إمامك قولاً وخالفه غيره، ألا يكون لك هوى في ترجيح أحد القولين بل تريد أن تنظر لتعرف الراجح منها فتبين رجحانه؟ أفرض أن رجل تحبه وآخر تبغضه تنازعا في قضية فاستفتيت فيها ولا تستحضر حكمها وتريد أن تنظر ألا يكون هو اك في موافقة الذي تحبه؟ أفرض أنك وعالماً تحبه وآخر تكرهه أفتى كل منكم في قضية وأطلعت على فتويي صاحبيك فرأيتهما صواباً، ثم بلغك أن عالماً آخر أعترض على واحدة من تلك الفتاوى وشدد النكير عليها أتكون حالك واحدة سواء كانت هي فتواك أم فتوى صديقك أم فتوى مكروهك؟ أفرض أنك تعلم من رجل منكراً وتعذر نفسك في عدم الإنكار عليه، ثم بلغك أن عالماً أنكر عليه وشدد النكير، أيكون استحسانك لذلك سواء فيما إذا كان المنكر صديقك أم عدوك، والمنكر عليه صديقك أم عدوك؟ فتش نفسك تجدك مبتلى بمعصية أو نقص في الدين، وتجد من تبغضه مبتلى بمعصية أو نقص آخر ليس في الشرع بأشدمما أنت مبتلى به؟ فهل تجد إستشناعك ما هو عليه مساوياً لإستشناعك ما أنت عليه، وتجد مقتك نفسك مساوياً لمقتك إياه؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وبالجملة فمسالك الهوى أكثر من أن تحصى وقد جربت نفسي أنني ربما أنظر في القضية زاعماً أنه لا هوى لي فيلوح لي فيها معنى، فأقرره تقريراً يعجبني، ثم يلوح لي ما يخدش في ذاك المعنى، فأجدني أتبرم بذاك الخادش وتنازعني نفسي إلى تكلف الجواب عنه وغض النظر عن مناقشة ذاك الجواب، وإنما هذا لأني لما قررت ذاك المعنى أولاً تقريراً أعجبني صرت أهوى صحته، هذا مع أنه لا يعلم بذلك أحد من الناس، فكيف إذا كنت قد أذعته في الناس ثم لاح لي الخدش؟ فكيف لولم يلح لي الخدش ولكن رجلاً آخر أعترض علي به؟ فكيف كان المعترض ممن أكرهه؟ هذا ولم يكلف العالم بأن لا يكون له هوى؟ فإن هذا خارج عن الوسع، وإنما الواجب على العالم أن يفتش نفسه عن هواها حتى يعرفه ثم يحترز منه ويمعن النظر في الحق من حيث هو حق، فإن بان له أنه مخالف لهواه آثر الحق على هواه. وهذا والله أعلم معنى الحديث الذي ذكره النووي في (الأربعين) وذكر أن سنده صحيح وهو «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به» (1) . والعالم قد يقصر في الإحتراس من هواه ويسامح نفسه فتميل إلى الباطل فينصره. وهو يتوهم أنه لم يخرج من الحق ولم يعاده، وهذا لا يكاد ينجوا منه إلا المعصوم، وإنما يتفاوت العلماء، فمنهم من يكثر الإسترسال مع هواه، ويفحش حتى يقطع من لا يعرف طباع الناس ومقدار تأثير الهوى بأنه متعمد، ومنهم من يقل ذلك منه ويخف، ومن تتبع كتب المؤلفين الذين لم يسندوا اجتهادهم إلى الكتاب والسنة رأساً رأى فيها العجب العجاب، ولكنه لا يتبين له إلا في المواضع التي لا يكون له فيها هوى، أو يكون هواه مخالفاً لما في تلك الكتب، على أنه استرسل مع هواه زعم أن   (1) قلت: أنى له الصحة وفي سنده نعيم بن حماد، وقد سبقت ترجمته، وما فيه من الضعف، ثم هو قد اختلف عليه في إسناده كما بينه الحافظ ابن رجب الحنبلي في «شرح الأربعين» (ص 282 - 283) ، وقال: «تصحيح هذا الحديث بعيداً جداً من وجوه، منها تفرد نعيم به ... » . ثم بينها، فمن شاء التفصيل فاليرجع إليه، وقد أشار البخاري إلي ضعفه في «جزء رفع اليدين» . ن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 موافقيه براء من الهوى، وأن مخالفيه كلهم متبعون للهوى. وقد كان من السلف من يبلغ في الاحتراس من هواه حتى يقع في الخطأ الآخر، كالقاضي يختصم إليه أخوة وعده فيبالغ في الاحتراس حتى يظلم أخاه، وهذا كالذي يمشي في الطريق ويكون عن يمينه مزلة فيتقيها ويتباعد عنها فيقع في مزلة عن يساره! 4- يستحضر أنه على فرض أن يكون فيما نشأ يه باطل، لا يخلوا عن أن يكون قد سلف منه تقصير أولا، فعلى الأول إن استمر على ذلك كان مستمراً على النقص ومصراً عليه ومزداداً منه وذلك هو نقص الأبد وهلاكه، وإن نظر فتبين له الحق فرجع إليه حاز الكمال وذهبت عنه معرة النقص السابق، فإن التوبة تجب ما قبلها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وقد قال الله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّأبينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» . وفي الحديث «كلكم خطاءون وخير الخطائين التوابون» (1) . وأما الثاني وهو أن لا يكون قد سبق منه تقصير فلا يلزمه بما تقدم منه نقص يعاب به البتة، بل المدار على حاله بعد أن ينبه، فإن تدبر وتنبه معرف الحق فإتبعه فقد فاز، وكذلك إن اشتبه عليه الأمر فإحتاط، وإن أعرض ونفر فذلك هو الهلاك. 6 - يستحضر أن الذي يهمه ويسأل عنه هو حاله في نفسه، فلا يضره عند الله تعالى ولا عند أهل العلم والدين والعقل أن يكون معلمه أو مربيه أو أسلافه أو أشياخه على نقص، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يسلموا من هذا، وأفضل هذه الأمة أصحاب رسول الله صلة الله عليه وآله وسلم ورضى عنهم وكان آباؤهم وأسلافهم مشركين. هذا مع احتمال أن يكون أسلافك معذورين إذا لم ينبهوا ولم تقم عليهم الحجة. وعلى فرض أن أسلافك كانوا على خطأ يؤاخذون به فأتباعك لهم وتعصبك لا ينفعهم شياً بل يضرهم ضرراً شديداً فإنه يلحقهم مثل إثمك ومثل إثم من يتبعك من أولادك واتباعك إلى يوم القيامة. كما يلحقك مع إثمك مثل إثم من   (1) أخرجه الترمذي وغيره بلفظ: «كل بني آدم خطاء، وخير ... » . وسنده حسن. ن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 يتبعك إلى يوم القيامة، أفلا ترى أن رجوعك الى الحق هو خير لأسلافك على كل حال؟ 7 - يتدبر ما يرجى لمؤثر الحق من رضوان رب العالمين، وحسن عنايته في الدنيا والفوز العظيم الدائم في الآخرة، وما يستحقه متبع الهوى من سخطه عز وجل، والمقت في الدنيا والعذاب الأليم الخالد في الآخرة، وهل يرضى عاقل لنفسه أن يشتري لذة إتباع هواه بفوات حسن عناية رب العالمين وحرمان رضوانه والقرب منه والزلفى عنده النعيم العظيم في جواره، وباستحقاق مقته وسخطه وغضبه وعذابه الأليم الخالد؟ لا ينبغي أن يقع هذا حتى من اقل الناس عقلاً، سواء أكان مؤمناً موقناً بهذه النتيجة، أم ظاناً لها، أم شاكاً فيها، أم ظاناً لعدمها، فإن هاذين يحتاطان، وكما أن ذلك الإشتراء متحقق ممن يعرف أنه متبع هواه، فكذلك من يسامح نفسه فلا يناقشها ولا يحتاط. 8 - يأخذ نفسه بخلاف هواها فيما يتبين له، فلا يسامحها في ترك واجب أو ما يقرب منه، ولا في ارتكاب معصية أو ما يقرب منها، ولا في هجوم على مشتبه، ويروضها على التثبت والخضوع للحق، ويشدد عليها في ذلك حتى يصبر الخضوع للحق ومخالفة الهوى عادة له. 9- يأخذ نفسه بالاحتياط في ما يخالف ما نشأ عليه، فإذا كان فيما نشأ عليه أشياء يرى أه لا بأس بها، أو أنها مستحبة، وعلم أن من أهل العلم من يقول إنها شرك أو بدعة أو حرام، فيأخذ نفسه بتركها حتى يتبين له بالحجج الواضحة صحة ما نشأ عليه، وهكذا ينبغي له أن ينصح غيره ممن هو في مثل حاله، فإن وجدت نفسك تأبى ذلك، فأعلم أن الهوى مستحوذ عليها، فجاهدها. وأعلم أن ثبوت هذا القدر على المكلف أعنى أن يثبت عنده أن ما يدعى إليه أحوط مما هو عليه كاف في قيام الحجة عند الله عز وجل، وبذلك قامت الحجة على أكثر الكفار، فمن ذلك المشركون من العرب، لم يكن في دينهم الذي كانوا عليه تصديق بالآخرة، وإنما يدعون آلهتهم ويعبدونها للأغراض الدنيوية، مع علمهم أن مالك الضر والنفع هو الله عز وجل وحده، ولذلك كانوا إذا وقعوا في شدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 دعوا الله وحده، قال تعالى: «وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» لقمان: 32. وقال تعالى: [وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ» الإسراء: 67. وكانوا يرون من هو على خلاف دينهم لا يظهر تفاوت بينه وبينهم وأحوال الدنيا، وعرفوا فيمن أسلم مثل ذلك، ثم عرض عليهم الإسلام، وعرفوا على الأقل أنه يمكن أن يكون حقاً، وأنه كان حقاً ولم يتبعوه تعرضوا للمضار الدنيوية وللخسران الأبدي في الآخرة، فلزمهم في هذه الحال أن يسلموا، لأنه إن كان الأمر كما بدا لهم من صحة الإسلام فقد أخذوا منه بنصيب، وإلا فتركهم لما كانوا عليه لا يضرهم كما لا يتضرر من خالفهم، فلم يمنعهم من الإسلام إلا إتباع الهوى. قال تعالى: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» فصلت: 26. وقال تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ» فصلت: 52. وقال تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» الأحقاف: 10. وتكذيبهم للحق وإعراضهم عنه بعد أن قامت الحجة عليهم بأن تصديقه واتباعه أحوط لهم وأقرب إلى النجاة ظلم شديد منهم استحقوا به أن لا يهديهم الله عز وجل إلى استيقان أنه حق، وهذا كما تقدم في قصة نوح، وقال الله تعالى: «وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ» الأعراف: 101.ونحوها في سورة (يونس) : 74 وفيها: «كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ» . وقال الله عز وجل: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ. وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ» الأنعام 110:109. وفي (تفسير ابن جرير) 7 / 194: « ... عن ابن عباس قوله: [وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ] ... قال لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شيء وردت عن كل أمر» . وهذا هو الصحيح، الكاف في قوله: «كما» للتعليل. وكذلك هي في قوله تعالى: «وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ» البقرة: 198. قال ابن جرير في (تفسيره) 2 / 163: «يعني بذلك جل ثناؤه: واذكروا الله أيها المؤمنون عند المشعر الحرام بالثناء عليه والشكر له على أياديه عندكم، وليكن ذكركم له بالخضوع له والشكر على ما أنعم عليكم من التوفيق» . وهو الظاهر في قوله تعالى: «فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ» البقرة: 239. قال ابن جرير 3 / 337: « ... فاذكروا الله في صلاتكم وفي غيرها بالشكر له والحمد والثناء عليه على ما أنعم به عليكم من التوفيق لإصابة الحق الذي ضل عنه أعداؤكم» . وقد ذكر ابن هشام في (المغني) هذا المعنى للكاف فراجعه. وفي (الإتقان) : «الكاف حرف جر له معان أشهرها التشبيه ... والتعليل نحو «كما أرسلنا فيكم» . قال الأخفش: أي لأجل إرسالنا فيكم رسولاً منكم فاذكروني، «واذكروه كما هداكم» ، أي لأجل هدايته إياكم ... » . 10- يسعى في التمييز بين معدن الحجج ومعدن الشبهات، فإنه إذا تم له ذلك هان عليه الخطب، فإنه لا يأتيه من معدن الحق إلا الحق إن كان راغباً في الحق قانعاً به إلى الإعراض عن شيء جاء من معدن الحق، ولا إلى أن يتعرض لشيء جاء من معدن الشبهات، لكن أهل الأهواء قد حاولوا التشبيه والتمويه، فالواجب على الراغب في الحق أن لا بنظر إلى ما يجيئه من معدن الحق من وراء زجاجاتهم الملونة، بل ينظر إليه كما كان ينظر إليه أهل الحق. والله الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الباب الأول: في الفرق بين معدن الحق ومعدن الشبهات وبيان مآخذ العقائد الإسلامية ومراتبها مآخذ العقائد الإسلامية أربعة، سلفيان وهما الفطرة والشرع، وخلفيان وهما النظر العقلي المتعمق فيه، والكشف التصوفي. أما الفطرة فأريد بها ما يعم الهداية الفطرية، والشعور الفطري، والقضايا التي يسميها أهل النظر ضروريات وبديهيان، والنظر العقلي العادي وأعني به ما تيسر للأميين ونحوهم ممن لم يعرف على الكلام ولا الفلسفة. وأما الشرع فالكتاب والسنة. وأما النظر العقلي المتعمق فيه فما يختص بعلم الكلام والفلسفة. وأما الكشف التصوفي فمعروف «عند أهله ومن يوافقهم عليه» . (1) فأما المأخذ السلفي الأول فالهداية والشعور الفطريان يتضحان ويتضح علو درجتهما بالنظر في أحوال البهائم والطير والحشرات كالنحل والنمل، وأذكر من ذلك مثالاً واحداً، لوأنك أخذت فراخ حمام عقب خروجهما من البيض فاعتنيت بحفظها وتغذيتها وتربيتها بعيدة عن جنسها لوجدتها بعد أن تكبر يأتلف الذكر الأنثى منها فلا يلبثان أن يبادر إلى تهيئة موضع مناسب لوضع البيض وحفظه وحضنه فيختاران موضعاً صالحاً لذلك، ثم يتلمسان ما يمهدانه به من الحشيش ونحوه، ثم تضع الأنثى البيض، ثم يتناوبان حضنه، فإذا الفراخ تناوبا   (1) زيادة من فضيلة الشيخ محمد بن عبد الرزاق. ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 حضنها وتغذيتها بما يصلح لها، فإذا كبرت وقويت على تناول الحب والماء بأنفسهما أخذا يلجئانها إلى ذلك بالإعراض عن زقها، فإذا قويت على الطيران هجراها وطرداها كأنهما لا يعرفانها. فإذا تدبرت هذا الصنيع ونتائجه وجدته صواباً كله، ولعلك لو تتبعت أحوال الطير لوجدت ما هو ألطف من هذا وأدق وكذلك من تتبع أحوال النحل والنمل وجد أكثر من هذا وألطف. فإن كان للحمام شعور بأن الائتلاف سبب البيض، وأن البيض يحتاج إلى ما ذكر فتخرج منه فراخ، إلى غير ذلك، فهذا هو الشعور الفطري، وإن لم يكن هناك شعور، وإنما هو انسياق إلى تلك الأفعال مع الجهل بما يرتاب عليها فتلك هي الهداية الفطرية. (1) وعلى كل حال فلإصابة في ذلك أكثر من إصابة الإنسان في كثير مما يستدل عليه بعقله، ومن تدبر حال الإنسان وجد له نصيباً من ذلك في شأن حفظ حياته وبقاء نسله. نعم إنه اكتفى له في بعض الأمور بعقله لكن ذاك العقل العادي، فأما العقل التعمقي فلم يوكل إليه في الضروريات، فإذا أحاطت العناية الربانية الطير والبهائم والحشرات إلى تلك الدرجة وحاطت الإنسان أيضاً في حفظ حياته وبقاء نسله وغير ذلك، فما عسى أن يكون حالها في حياطة الإنسان فما إنما خلق لأجله؟ فإذا وجدنا للإنسان شيئاً من هذا القبيل في شأن وجود الله تبارك وتعالى، وعلوه على خلقه، وعلمه وقدرته، وغير ذلك من صفاته فمن الحق على العقل أن لا يستهين بذلك، زاعماً أنه قضية وأهمية، كيف وقد شهد له العقل والشرع كما يأتي. وأما القضايا الضرورية والبديهية فقد اتفق علماء المعقول أنها رأس مال العقل، وأن النظر إنما يرجى منه حصول المقصود ببنائه عليها، استناده إليها.   (1) وهو ما يعبر عنه علماء الحياة بغريزة الفرد والجنس، وهي تسوق الحيوان سوقاً لا شعورياً إلى ما يحفظ نفسه ويبقى جنسه شاء أم أبى، والإنسان يشارك الحيوان في هذه الغرائز الحيوانية، ويزيد عليها بالعقل والفكر. م ع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وأما النظر بالعقل العادي فقد له الشرائع، وبنت عليه التكليف، ودعت إليه وحضت عليه، وعلماء المعقول مصرحون بأن الدليل العقلي كلما كان أقرب مدركاً وأسهل تناولاً وأظهر عند العقل كان أجدر بأن يوثق به. ولا ريب أنه يخشى قصور العقل العادي في بعض المطالب، لكن ذلك فيما ليس مطلوباً شرعاً فأما المطلوب شرعاً فإن الله تعالى أعد العقول العادية لإدراكه، وأعد لها ما يسددها فيه من الفطرة والآيات الظاهرة في الآفاق الظاهرة والأنفس، ثم أكمل ذلك بالشرع، فإذا انقاد العقل العادي للشرع وامتثل هداه واستضاء بنوره فقد أمن ما يخشى من قصوره. وأما المأخذ الثاني وهو الشرع، فما عسى أن يقال فيه، وإنما هو كلام الله عز وجل وكلام رسوله، لا يخشى فيه ولا خطأ، وكذب، ولا تلبيس، ولا تقصير في البيان «لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد» (1) . هذا، والله سبحانه إنما خلق الناس ليكملوا بعبادته كما أمر في المقدمة، وهو سبحانه الحكيم العليم القدير، فلابد أن يكون خلقهم على الهيئة التي ترشحهم لمعرفته ومعرفة ما فرض عليهم الإيمان به، لأن ذلك رأس العبادة وأساسها، ولا نزاع أن الميسر لهم قبل الشرع هو المأخذ الأول، فلابد أن يكون فيه ما يغني يما ثبت به الشرع بعد تنبيه الشرع، ثم يكون فيه وفي الشرع ما يكفي لتحصيل القدر المطلوب منهم، ويؤكد هذا أن تحصيل الدرجة التي يعتد بها في النظر العقلي المتعمق جداً، قال ابن سينا كما في (مختصر الصواعق) (2) 1 / 243 «فإن المبرزين المنفقين أيامهم ولياليهم وساعات عمرهم على تثقيف أذهانهم وتذكيه إفهامهم وترشيح نفوسهم لسرعة الوقوف على   (1) فصلت (42) . (2) الصواعق للإمام ابن قيم الجوزية تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله تعالى ورضى عنهم. محمد عبد الرزاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 المعاني الغامضة يحتاجون في تفهم هذه المعاني إلى فضل وبيان شرح عبارة» . فمن الممتنع أن يكلف الله تعالى جميع عباده بهذا، ومن الممتنع أن يكتفي منهم في الأصول التي يلزمهم اعتقادها بالتقليد الصرف لمن ليس بمعصوم، كيف وقد علم سبحانه أن النظار سيختلفون، فيكون فيهم المحق والمبطل، ومعرفة العامة بالمحق مع جهلهم بما هو الحق وعدم العصمة ظاهر الامتناع. وقد نص الله تبارك وتعالى في كتابه على أنه خلق الناس على الهيئة التي ترشحهم لمعرفة الحق. قال الله تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» سورة الروم: 30 وعدم العلم إنما هو لأمرين: الأول: ما يطرأ على الفطرة مما يغشاها فيصرف عن مراعاتها، وفي (الصحيحين) من طرق عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهو دانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبوهريرة: وأقرءوا إن شئتم «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» الآية» . لفظ مسلم من الحديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة. الثاني: الإعراض عما أعده الله تعالى لجلاء الفطرة عن تلك الغواشي وهو الشرع، قال الله تبارك وتعالى: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ» خواتيم الشورى. هذا، وقد أرسل الله تبارك وتعالى رسله، وأنزل كتبه، وفرض شرائعه، معرضاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 عن علم الكلام والفلسفة، فأرسل محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس، واختار أن يكون أول من يدعى إلى الحق العرب الأمين، وكلفهم بالنظر والأيمان، وقبل أيمان من آمن منهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس، وبأنهم هم المؤمنون حقاً وقضى بقيام الحجة على من كفر منهم، ولم يكن فيهم أثر لعلم الكلام ولا الفلسفة، ولا أرشدهم الشرع إلى تحصيل ذلك بل حذرهم منه، هذه سورة (الفاتحة) أعظم سورة في أعظم كتاب أنزله الله تبارك وتعالى، فرض الله سبحانه على العباد قراءتها في كل يوم بضع عشرة مرة وفيها «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ» . ومعلوم من أمره إياهم بسؤال الهداية إلى هذا دون ذاك أنه يأمرهم بلزوم هذا واجتناب ذاك والمنعم عليهم هم الأنبياء ومن اهتدى بهديهم، فهم من هذه الأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وخيار أصحابه ومن اهتدى بهديهم ممن بعدهم. ولا خفاء أن المأخذين السلفيين هما صراط هؤلاء، وأن علم الكلام والفلسفة ليسا من صراطهم، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تفسير «المغضوب عليهم والضالين» باليهود والنصارى، لا خفاء أن موسى وعيسى عليهما السلام ومن كان على هديهما هم من المنعم عليهم، وإنما وقع الغضب والضلال على اليهود والنصارى الذين خالفوا هدي موسى وعيسى وأصحابهم وأتباعهم المهتدين بهديهم، وكان من تلك المخالفة الأخذ في علم الكلام والفلسفة إتباعاً لصراط الأمم التي هي أو غل في الضلال كاليونان والرومان. (1) فمن الواضح الذي لا يخفى على أحد أن علم الكلام والفلسفة ليسا من صراط المنعم عليهم بل هما من صراط المغضوب عليهم والضالين. فثبت بهذا أوضح ثبوت أن الشرع لم يقتصر عن الإعراض عن علم الكلام والفلسفة، بل حذر منهما   (1) والهند والفرس بل أن الهند والفرس أعرق بالفلسفة من الرومان، إنما أشتهر الرومان بنظام الدولة ووضع القانون المدني لها. م ع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ونفر عنهما، فهل يقول مسلم بعد هذا أن المأخذين السلفيين غير كافين في معرفة الحق في العقائد، وأن ما يؤخذ من علم الكلام والفلسفة مقدم عل المأخذين السلفيين ومهيمن عليهما؟ ! وقد قال الله تبارك وتعالى لمحمد وأصحابه: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» آل عمران: 110. وقال تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ» كَرِيمٌ الأنفال: 74. والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقال تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً» المائدة: 3 وإكمال الدين وكمال إيمان الصحابة صريح في أن جميع العقائد المطلوب معرفتها في الإسلام كانت مبنية موضحة حاصلة لهم. وليس هذا كالأحكام العملية، فإنه لا يطلب معرفته ما لم يقع سببه منها فقد يكتفي في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببيان الأصل الذي إذا رجع إليه عند وقوع سبب الحكم عرف منه الحكم. ثم رأيت في (شرح المواقف) بعد ذكر الأحكام العملية ما لفظه: «وإنها لا تكاد تنحصر في عدد، بل تتزايد بتعاقب الحوادث الفعلية فلا يتأتى أن يحاط بها ... بخلاف العقائد فإنها مضبوطة لا تزايد فيها أنفسها فلا تعذر الإحاطة بها» . وأيضاً فتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز عند الجمهور، فأما تأخيره عن وقت الحاجة فممتنع باتفاق الشرائع كما نقل عن القاضي أبي بكر الباقلاني، ووقت الحاجة إلى العقائد المطلوب اعتقادها في الشرع لا يمكن تأخره عن حياة النبي صلى الله عليه آله سلم، ووقت الحاجة في النصوص المتعلقة بالعقائد هو وقت الخطاب لأن المكلف يسمع فيعتقد، والقضية العملية التي تستدعي الحكم لا محيص للقاضي عن النظر فيها، والقضاء عندما تحدث، فأما العقائد فلوفرض أن فرعاً منها لم يعرف حاله من المأخذين السلفيين فحقه ترك الخوض فيه وأن يكون الخوض فيه بدعة ضلالة إذا لا ملجئ إلى النظر فيه فضلاً عن الكلام. وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طرق أنه قال: «خير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 القرون (1) قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» . في أحاديث كثيرة في أفضلية الصحابة وكمال إيمانهم ثم إتباعهم، ولا خفاء أنه لم يكن إذا ذاك عند المسلمين خير لعلم الكلام ولا الفلسفة، وأنه لما حدث بعض النظر في الكلام كان بقايا الصحابة ثم أئمة التابعين ينكرونه، وهكذا لم يزل علماء الدين العارفون بالكتاب والسنة المتحققون بأتباع السلف ينكرون الكلام والفلسفة، ويشددون على من ينظر فيهما إلى أن قل العلماء وفشت الفتنة. وبالجملة فشهادة الإسلام بكفاية المأخذين السلفيين في العقائد وتحذيره مما عداهما بغاية البيان، ودلالة العقل بذلك واضحة والله المستعان. فهل يسوغ مع هذا المسلم أن يرضى طعن الكورثي في أئمة السنة باقتباسهم العقائد من المأخذين السلفيين وردهم ما يخالف ذلك.! كقوله ص 115 في الإمام ابن الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم: «وقد ذكر في كتاب (الرد على الجهمية) ما يدل على ما أصيب به عقله ... وهو الذي اعترف أنه يجهل علم الكلام ... ومع ذلك تراه يدخل في مضايق علم أصول الدين ... » . وقال 151 في الإمام ابن الإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل: «وعبد الله بن أحمد صاحب كتاب (السنة) ، وما حواه كتابه هذا كافة في معرفة الرجل، ومثله لا يصدق في أبي حنيفة ... » . وقوله ص 16 في الامام الجليل عثمان بن سعيد الدارمي: «عثمان بن سعيد في السند هو صاحب (النقض) (كتاب الرد على الجهمية) مجسم مكشوف الأمر يعادي أئمة التنزيه ... ومثله يكون جاهلاً بالله سبحانه» .   (1) هكذا أشتهر الحديث عن اللسنة، وقد أخرجاه في «الصحيحين» من حديث ابن مسعود وعمران بن حصين، ومسلم عن أبي هريرة س، وعائشة، ولفظ حديثها وحديث ابن مسعود «خير الناس قرني ... » ولفظ عمران وأبي هريرة «خير أمتي قرني» . ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وقوله ص 19 في الامام الشهير محمد بن إسحاق بن خزيمة: «واعتقاد ابن خزيمة يظهر من كتاب (التوحيد) ... وعنه يقول صاحب (التفسير الكبير) ... إنه كتاب الشرك. فلا حب ولا كرامة» . ويتتبع أصحاب الإمام طاعناً في اعتقادهم يُسِرّحَسْوا في ارتغاء، يقصد الطعن في الإمام أحمد، بل رمز في بعض المواضع إلى الطعن في الإمام أحمد بما هو أصرح من هذا، وطعن ص 5 في رواة السنة وفي أئمتها الذيم امتحنهم المأمون وآله فقال: «وكانت فلتات تصدر من شيوخهم في الله سبحانه وصفاته بما ينبذه الشرع (الفلسفي) والعقل (الجهمي) في آن واحد، فرأى المأمون امتحان المحدثين والرواة في مسألة كان يراها من أجلى المسائل ليوقفهم موقف التروي فيما يرون ويروون، فأخذهم في مسألة القرآن، ويدعوهم إلى القول بخلق القرآن ... فمنهم من أجاب مرغماً من غير أن يعقل المعنى، ومنهم من تورع من الخوض فيما لم يخض فيه السلف» . ولا ذنب لهؤلاء الأئمة إلا أنهم آمنوا بالله ورسوله وصدقوا كتاب الله وسنة رسوله، ولم يلتفتوا إلى ما زعمه غيرهم أنه لا يوثق بالفطرة والعقل إلا بعد إتقان علم الكلام والفلسفة، وأن النصوص الشرعية من كلام الله تعالى وكلام رسوله لا تصلح حجة في العقائد لأنها لا تفيد اليقين كما في (المواقف) وشرحها في أواخر الموقف الأول: «الدلائل النقلية هل تفيد اليقين؟ وقيل لا تفيد، وهو مذهب المعتزلة وجمهور الأشاعرة،.. وقد جزم الإمام الرازي بأنه لا يجوز التمسك بالأدلة النقلية» . فلو أن الطاعن في أئمة السنة طعن فيهم من جهة العقل ساكتاً عن الدين لكان الخطب أيسر إذ يقال: إنه لم يتناقض بل غاية أمره أنه سكت عن الطعن في القرآن والنبي اكتفاء بما يلزم منه ذلك، فأما الطاعن فيهم من جهة الدين، فينبسهم إلى الزيغ والبدعة، والجهل بعقائد الإسلام، فلا يخفى كذبه على عارف. والله المستعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 فصل وأما المأخذ الخلفي الأول، هو النظر المتعمق فيه، أعنى الكلامي والفلسفي فقد تقدم بعض ما فيه. وقد يقال: إن من شأنه أن يشهد المأخذ السلفي الأول فيما أصاب فيه ويكشف عن خطائه فيما أخطأ فيه ويتغلغل إلى ما قصر عنه، وأن يبين المراد من المأخذ السلفي الثاني، فعلى هذا لا معنى لنفور أهل الدين الحق عنه. فأقول: أما من جهة النظر الإسلامي فما يخشى من خطأ المأخذ السلفي الأول قد تكفل الشرع بكشف الحال فيه كما أبطل نسبة الولد إلى الله عز وجل، وستبعاد الحشر، واستحاق غير الله عز وجل للعبادة، وغير ذلك. وما يقصر عنه المأخذ السلفي الأول في العقائد قد تكفل الشرع ببيانه، فإن بقي شيء فالخوض فيه بدعة، وما يخشى من الخطأ في فهم النصوص لابد أن يكون في المأخذين السلفيين ما يكشف الحق فيه ضرورة أنهما كافيان مغنيان بشهادة العقل والشرع القاطعة كما تقدم. فبقي النظر المتعمق فيه لا حاجة إليه في معرفة العقائد في الإسلام، وهو مثار للشبهات والتشكيكات كما يأتي، لا جرم وجب التنفير عنه والتحذير منه، وقد تقدم من الحجة على ذلك ما فيه غنى لطالب الحق، فأما النظر فيه لكشف شبهات أهله فسيأتي ما فيه إن شاء الله تعالى. ولنذفف (1) على هذا المأخذ بسلاح أهله، لينكشف عواره، وتنتهك أستاره، وتندفع شبهة المغترين به والمرعوبين منه:   (1) التذفيف على الجريح الإجهاز عليه لاتمام إزهاق روحه. محمد عبد الرزاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 علماء المعقول يقسمون العلم إلى ضروري ونظري، ويقولون: إن النظر إنما يحصل به العلم إذا كانت المقدمة من الضروريات أولازمة لزوماً تعلم صحه بالضرورة، ثم قسموا الضروريات إلى أنواع، ردها بعضهم إلى ثلاثة: الوجدانيات، والحسيات، والبديهيات. قالوا: والوجدانيات قليلة الفائدة في إقامة الحجة على المخالف لأنه قد ينكر أن يكون يجد من نفسه ما يزعم المدعي أنه يجده، قالوا: فالعمدة في العلم هي الحسيات والبديهيات. ثم ذكروا أن جماعة من الفلاسفة منهم - على ما حكاه الفخر الرازي - إماما الفلسفة أفلاطون وأرسطو، قدحوا في الحسيات، وأن آخرين قدحوا في البديهيات، وآخرين في الجميع، وأن قوماً قدحوا في إفادة النظ للعلم مطلقاً، وآخرين قدحوا في إفادة العلم في الإلهيات. فأما القادحون في الحسيات، فاحتجوا بأن الحواس كثيراً ما تغلط، وذكروا من ذلك أمثلة تراها في (المواقف) وغيرها (1) ، ومن تدبر وجد كثيراً من أمثالها، ثم قالوا: فهذه المواضع تنبهنا لغلط الحواس فيها لوجود أدلة نبهتنا على ذلك، فيحتمل في كثير من المواضع التي نرى الحواس فيها مصيبة أن تكون غلطاً في نفس الأمر، ولكن لم يتفق أن نطلع على دليل ينبهنا على ذلك، ومن الأصول المقررة أن عدم وجدان الدليل لا يستلزم عم المدلول. أجاب العضد وغيره بأن المدار على جزم العقل، وهو لا يجزم بمجرد الإحساس   (1) من ذلك أن القبس إذا حرك بسرعة عظيمة في خط مستقيم رؤي خطا من نار، وإذا حرك كذلك على شكل دائرة رؤي دائرة من نار، والعصا المستقيمة في الماء ترى منحنية أو متعرجة، والشمس والقمر والنجوم ترى ساكنة وهي متحركة. وذو المرة يذوق الماء العذب مرا، وماء الآبار يحس دافئا في الشتاء وباردا في الصيف وهو على حالة واحدة سيفا وشتاء. وعلى رأي متأخري الفلكيين ترى الأرض كسامنة وهي متحركة، والمحموم يشكوبردا وجسده حار الخ. محمد عبد الرزاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 بل مع أمور تنضم إليه لا يدرى ما هي ولا كيف حصلت ولا من أين جاءت. أشار بعضهم إلى القدح في هذا الجواب بأن الجزم مقدوح فيه كما يأتي، أي أن العقل قد يجزم ثم يتبين خطاؤه، وبأننا إذا تأمنا أمثلة الغلط منها ما كانت عقولنا تجزم فيها بالصحة قبل أن تشعر بالدليل الدال على الغلط. أجيب بأن ذاك الجزم ظن قوي ليس هو بالجزم اليقيني المشروط، وهذا الجواب لا يجدي لاشتباه الجزمين، غاية الأمر أنكم سميتم ما تبين غلطه ظناً، وما لم يتبين غلطه يقيناً، ولوفرض أنه الغلط فيبعض ما تسمون الجزم فيه يقيناً لعدتم فسميتموه ظناً. ومما يقوي ذلك القدح أنه توطأ جماعة على تشكيك إنسان في بعض ما يحس به ويجزم، ولم يشعر بتواطئهم لأمكنهم تشكيكه، بل ربما يكفي لتشكيكه واحد، بل يتشكك بنفسه إذا كان يرى أن هناك ما يحتمل التغليط كالسحر. هذا وقد رد علماء الطبيعة المتأخرون عدة نظريات ذهب إليها الفلاسفة مسندين لها إلى الحس، ومن ذلك ما كانوا جازمون به ويبنون عليه مقالات أخرى حتى في الإلهيات، وتعد ذلك من اليقينيات التي يوجب أسلاف الكوثري رد ما يخالفها من كلام الله تعالى وكلام رسوله. فإن قيل: فماذا يقول السلفيون؟ قلت: من تدبر أمثلة الغلط وجدها على ضربين، ضرب يخشى أن يكون سبباً قريباً لمضار ومفاسد، وضرب لا يخشى فيه ذلك، لكن يخشى أن يغلط فيه المتعمقون فيبنوا عليه نظريات تعظم مفاسدها. ووجد الضرب الأول جميعه مما ينكشف فيه الحال عن قرب فمنه أن الإنسان إذا تحاول (1) رأى الشيء أثنين، ولوكان هذا مما يتكرر للإنسان بغير شعوره لأو جب ضرراً ومفاسد، فاقتضت عناية   (1) أي صرف إحدى عينيه عن الأخرى حتى ترى كل واحد منهما غير ما تراه الأخرى. م ع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 الله عز وجل أن لا يكون ذلك، بل اقتضت أن يرى الأحول الشيء واحد كغيره مع أنه كان يجب أن يرى الشيء أثنين كالمتحاول. وهذا كما اقتضت العناية أن يكون لكل إنسان صورة يمتاز بها عن جميع الناس فلا يلتبس بصاحبك الذي عرفته معرفة محققة أح من أهل الأرض، وهكذا ترى العناية شاملة، والله عز وجل إنما خلق الناس لعبادته، فإذا كانت عنايته به في معاشهم على ما تقدم وهو وسيلة فقط، فأولى من ذلك عنايته بهم في المقصد الذي لأجله خلقهم، وهذا يقتضي حفظ المأخذ السلفي الأول عن أن يستمر فيه غلط حسي يؤدي إلى ضلال في الاعتقاد، على أنه لوكان شيء من ذلك لكشفه المأخذ السلفي الثاني وهو الشرع. فأما المتعمقون فإنهم هم الذين يجلبون الضرر على أنفسهم فلا بدع أن يكلمهم الله عز وجل إلى أنفسهم بل ويزيدهم ضلالاً إلى ضلالهم، ونظير ذلك أن الله تبارك وتعالى إنما هيأ للناس ابتداء من الأسلحة ما لا يصيب به الإنسان في مرة واحدة إلا شخصاً واحداً، وبذلك يحصل التكافؤ بين الناس ويخفف ضرر الفتن، ولا تكاد تصيب من لم يتعرض لهما من الصبيان والنساء والعجزة والبهائم، ولكن الإنسان آخذ يدقق في اصطناع الأسلحة حتى أصطنع القنابل التي تهلك الواحد منها ناحية بما فيها، ويفكر في اصطناع ما هو أشد من ذلك «من القنابل الذرية والهيدروجينية وما هو من الأسرار عندهم أعدوه للفتك بالأمم الأخرى» . (1) وأما القادحون في البديهيات فاعتلوا بأمور: الأول: أن أجلى البديهيات قولنا: الشيء إما أن يكون وإما أن لا يكون، قالوا: وأنه غير يقيني، وأو ردوا للقدح في يقينيته عدة شبهات ذكرها وأجاب عنها صاحب (المواقف) فراجعه مع شرحه وحواشيه لتعلم ما يتضمنه النظر المتعمق فيه من التشكيل في أوضح الأشياء، وأجلاها تشكيكاً يشتمل على شبهات يصعب على الماهر حلها، وعلى من دونه فهم الحل، ولوأو رد بعض تلك الشبهات على أمر خفي   (1) زيادة من ع. ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 جاء به الشرع لجزم المتعمقون بأنها براهين قاطعة. الأمر الثاني: أننا نجزم بالعاديات (1) كجزمنا بالأولياء فنجزم أن هذا الشيخ لم يتولد دفعة بلا أب ولا أم بل تولد منهما ونشأ بالتدريج ... ، وأن أو اني البيت لم تنقلب بعد خروجي أناساً فضلاء. ولا أحجار جواهر، ولا البحر دهناً وعسلاً، مع أنه من الجائز خلاف هذا، أما عند المتكلمين فلاستناد الأشياء جميعها إلى المختار فعله أو جب شيئاً من ذلك، وأما عند الحكماء فلاستناد الحوادث الأرضية إلى الأو ضاع الفلكية، فلعله شكل غريب فلكي لم يقع مثله، أو وقع ولكنه مثله إلا في ألوف من السنين. أجاب العضد بأن الامكان لا ينافي الجزم كما في بعض المحسوسات. قال السيد في (شرحه) : «فإنا نجزم بأن هذا الجسم شاغل لهذا الحيز في هذا الآن لا يتطرق إليه شبهة مع أن نقيضه ممكن في ذاته، فقد ظهر أن الجزم في العاديات واقع موقعه» . كذا قال الشارح، وفيه أن القادحين لم يستندوا إلى الإمكان الذاتي المشترك بين أمثلتهم ومثال الشارح، وإنما استندوا إلى احتمال الوقوع في نفس الأمر، فإن أحجار البيت كما يمكن بالإمكان الذاتي انقلابها جواهر، فإنه يحتمل وقوع الانقلاب بعد خروجك وليس مثال الشارح هكذا، فإنه مفروض في الحاضر المشاهد، وقد قال تبارك وتعالى: «وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ» إلى أن قال تعالى «وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى. قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى. قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى. فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى. قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى» طه: 9 - 21 فلما كان موسى عليه السلام مع أهله كانوا يشاهدون عصاه فيجزمون بأنها عصا لم تنقلب حية، فهذا   (1) أي الأمور المعتادة كولادة الإنسان من أبوين اتصلا ببعضهما اتصالا معروفاً ولفظة العاديات تقال للأشياء القديمة جداً نسبة إلى عاد. م ع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 جزم كالجزم في مثال الشارح، ثم لما فارقهم وأمر بإلقاء عصاه وانقلبت حية إذ كان أهله - وهو غائب عنهم - يجزمون في الوقت الذي انقلبت فيه حية يجزمون بمقتضى العادة أنها لم تنقلب حية. فهذا جزم كالجزم في أمثلة القادحين، ولا يخفى الفرق بين الجزمين وأنه لا يلزم من صحة الأول صحة الثاني، ولا من القدح في الثاني القدح في الأول، وإن الثاني في قصة أهل موسى مخالف للواقع، وفي أمثلة القادحين محتمل لذلك فكيف يقال أنه جزم واقع موقعه؟ دع عنك خرق العادة ويغني عنه النقص العادي الذي لم يعهد كالرجل يمسي بالمغرب ثم يصبح في المشرق فإن هذا كان من المحال العادي عند الناس، فانتقض بالطيارات فلوبقي الآن أهل جهة لم يسمعوا بخبر الطيارات لكانوا يجزمون بامتناع ما هو واقع بدون خرق عادة (1) وربما يقال لا يمتنع أن يكون مراد الشارح أن الاحتمال البعيد جداً لا ينافي الجزم، ففي مثاله يحتمل نقيض ما جزم به لاحتمال خطأ الحس، فكذلك احتمال خرق العادة. والظاهر أن مراد المتن والشرح أنه كما أن الحس يحتمل الغلط ومع ذلك يسلّم القادحون في البديهيات أن ذلك لا يقتضي القدح في الحسيات مطلقاً، فهكذا يلزم في العاديات أن لا يقتضي احتمال الخرق القدح فيها مطلقاً. وكأن العضد يقول في الجزم بالعادة مثل ما قاله في الجزم بالحس أن المدار على جزم العقل وهو إنما يجزم بأمور تنضم إلى الحس أو إلى العادة لا يدري ما هي ولا كيف حصلت ولا من أين جاءت. فإذا كان هذا مراده فقد تقدم في الكلام على   (1) وأعجب من هذا أن الطيارات النفاثة يبالغون الآن في تجويد صنعها وسرعة حركتها حتى يقال أنها تقطع في الساعة 800 ميل أو أكثر، فتكون أسرع من حركة الأرض، فإذا جاء اليوم الذي تسبق الطائرة حركة الأرض وطارت من بلد بعد غروب الشمس متوجهة إلى الغرب سبقت حركة الأرض فرؤية الشمس طالعة بعد غروبها ويكون هذا من عجائب العصر. م ع قلت: هذا ما قاله أستاذنا الشيخ عبد الرزاق حمزة رحمه الله، وقد وجدت الآن الصواريخ ذات السرعات الكبيرة (وعلم الإنسان ما لم يعلم) . زهير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 الحسيات ما علمت. والحق الذي لا ريب فيه أن العقل قد يجزم في الحسيات بمجرد الإحساس، وفي العاديات بمجرد العادة، وإنما يقف إذا عرض له ما يشككه، فالذي يجوز السحر إذ قال له من يثق به: إن هنا ساحراً، فأدخله عليه وناوله تفاحة فأنه لا يجزم بأنها تفاحة أثمرتها شجرة، بل يجوز أن تكون روثة - مثلاً - وأن حسه أخطأ لأجل السحر، أو أن تكون روثة انقلبت تفاحة بعمل السحر، فلا يجوز هنا بإحساس ولا عادة. ومع هذا فإن هذا الذي يجوز السحر تجده حيث لا مظنة للسحر يجزم بالإحساس والعادة كما يجزم غيره، وقد يجزم ثم تشككه فيرجع عن جزمه. فالحق أن النفس قد لا تعرف وجه الاحتمال فتجزم، وقد تعرفه ولكنها تجحده فتجزم، وقد تعرفه وتعترف به وتستحضره ولكنها تستبعده جداً فيجزم ولا تبالي به، فاحتمال الجزم للخطأ لا محيص عنه. وسيأتي اعترافهم بذلك. فإن قيل: فماذا يقول السلفيون؟ قلت: قد مر في الكلام على الحسيات ما فيه الكفاية ويعلم منه الجواب عنهم في شأن البديهيات ويأتي إن شاء الله تعالى لذلك مزيد. وأما العاديات فهم يعترفون بجواز خرق العادة، وإنما يحتجون بها في مواطن: الأول: حيث تكون من المأخذ السلفي الأول، بأن يعلم أن من شأنها أن تحمل الأميين على اعتقاد شيء في الدين، ولم يأتي الشرع بما يخالفها، ووجه الاحتجاج هنا هو تقرير الشرع، مع القطع بأنها لوكانت مختلفة لكشف الشرع عن حالها. الثاني: حيث تكون من المأخذ السلفي الثاني كأن يتواتر أثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدين، ووجه الاحتجاج هنا أن الخرق إنما يكون بفعل الله عز وجل، ومن الممتنع أن يقع الخرق هنا بأن يتواتر ما هو كذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدين، فإن هذا تضليل يتنزه الله عز وجل عن مثله. فإن قيل: فقد روي أنه يظهر على يد الدجال بعض الخوارق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 قلت: قد كشف الشرع حالها بالدلالات القاطعة من المأخذين السلفيين على كذب الدجال، ولم يكتف بذلك بل نص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خروج الدجال وكذبه وظهور ما يظهر على يده، وأن ذلك ابتلاء محض. الثالث: حيث لورفض خرقها لكان حجة أخرى تقوم مقام العادة، كما تقول أن من الحجة على إعجاز القرآن أن العرب لم يأتوا بسورة من مثله مع تحديه لهم وتوفر الدواعي أن يفعلوا لوأمكنهم. ففي هذا القول إن فرض الخرق بأن يقال: لعلهم كانوا قادرين ولكن صرفهم الله عز وجل، فهذا الصرف حجة أخرى على الأعجاز. الرابع: حيث يكون مع العادة حجج أخرى لوفرض أن بعضها كالعادة لا يفيد إلا الظن لم يضر ذلك لأن القطع حاصل بالمجموع. الخامس: حيث يكفي الظن. والله الموفق. الأمر الثالث: أن للأمزجة والعادات تأثيراً في الاعتقادات، فقوي القلب يستحسن الإيلام، وضعيف القلب يستقبحه، ومن مارس مذهباً من المذاهب برهة من الزمان ونشأ عليه فإنه يجزم بصحته وبطلان ما يخالفه ... » . قال العضد: «والجواب أنه لا يدل على كون الكل كذلك» . أقول: هذا حق ولكن فيه اعتراف بأن ذلك واقع في كثير، وهذا كاف في القدح في جزم العقل في الجملة، لأن إذا ثبت أن جزمه قد يكون خطا لسبب لم يؤمن أن يكون خطأ في موضع آخر لذلك السبب أولسبب آخر. نعم، قد تتضح القضية جداً فلا يخشى فيها ذلك، كقولنا: الثلاثة اقل من الستة، سوالقضايا التي يختص بها المتعمقون ليست من هذا القبيل ولا قريباً منه، ولا سيما قضاياهم التي يناقضون بها المأخذين السلفيين، وكفى بمناقضتها لها حجة على اختلالها. فأما قضايا السلفيين فما لم يكن منها من ذاك القبيل فهو قريب منه، وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 أمن اختلالها بإقرار الشرع لها، فأما ما لم يقتصر الشرع على اقرارها، بل جاء على وفقها، فتلك الغاية. الأمر الرابع: مزاولة العلوم العقلية دلت على أنه يتعارض دليلان قاطعان بحسب الظاهر بحيث نعجز عن القدح فيهما، وما هو إلا للجزم بمقدماتهما مع أن أحدهما خطأ قطعاً. أجاب العضد بأن البديهي ما يجزم فيه بتصور الطرفين فيتوقف على تجريدهما فلعل فيه خللاً. أقول: هذا اعتراف بأن الجزم قد يكون خطأ، فقد يكون هناك خلل يخفى على الناظر الماهر فيجزم بأنه لا خلل، غاية الأمر أنه عند تعارض الدليلين العقليين يتنبه فيعرف أن هناك خللاً فكيف بما يلوح للمتعمق من الدلائل العقلية بدون أن يلوح له ما يعارضه؟ فأما النصوص الشرعية فأنهم لا يعتدون بها، على أن المتعمقين ربما يرجحون الدليل الخفي المعقد الذي هو مظنة الخلل على البديهي الواضح - ميلاً مع الهوى ورعباً ممن يرونه أمهر في التعمق منهم، ولأنه يصعب عليهم معرفة الخلل في الخفي المعقد، ويسهل عليهم أن يدفعوا البديهي الواضح، بأن يقولوا: هذه قضية وهمية. الأمر الخامس: أنا نجزم بصحة دليل آونة، وبما يلزمه من النتيجة، ثم يظهر خطاؤه، فجاز مثله في الكل. أجاب الشارح بقوله: «لا نسلم أن مقدمات الدليل الذي نجزم بصحته آونة بديهية، ولئن سلم ذلك فالبديهي قد يتطرق إليه الاشتباه لخلل في تجريد طرفيه وتعقلهما على الوجه الذي هو مناط الحكم بينهما، ذلك لا يعم البديهيات» . أقول: هذا اعتراف بأن الناظر الماهر قد يجزم بأن المقدمة بديهية، والواقع أنها غير بديهية وقد يجزم بعد تدبره وإنعام نظره أنه لا خلل وتمام الكلام كما مر في «الأمر الرابع» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الأمر السادس: أن في كل مذهب قضايا يدعي صاحبه فيها البداهة، ومخالفوه ينكرونها، وهو يوجب الاشتباه ورفع الأمان، فلنعد عدة منها ... » فذكروا إحدى عشرة قضية ثم قالوا: «وقد أجيب عنها بأن الجازم بها بديهة الوهم، وهي كاذبة، إذ تحكم بما ينتج نقائضها، قلنا: فيتوقف الجزم بها على هذا الدليل فيدور، وأيضاً فلا يحصل الجزم بما لا يتيقن أنه لا ينتج نقيضه ولا يتيقن، بل غايته عدم الوجدان» . ولم يجب العضد عن هذا الأمر السادس ولا السيد، غير أنه قال في الجواب عن تلك الأمور كلها: «وأجيب عن ذلك بأنا لا نشتغل بالجواب عنها، لأن الأوليات مستغنية عن أن يُذَبّ عنها، وليس يتطرق إلينا شك فيها بتلك الشبه التي نعلم فاسدة قطعاً وإن لم يتيقن عندنا وجه فسادها» . أقول لا ريب أن القدح في البديهيات بما يشمل الأوليات لا سبيل إليه لأن هناك قضايا واضحة متفق عليها، وهؤلاء القادحون لم يدعوا ما يناقضها، وإنما حاولوا التشكيك فيها بما لا يعتد به، وذل كقولنا: «الثلاثة أقل من الستة» و «الشيء أعظم من جزئه» و «الشيء لا يكون موجوداً معدوماً» و «والجسم الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد - بأن يكون كله في أحدهما وكله في الآخر» لكن الوثوق ببعض البديهيات لا يستلزم الوثوق بجميعها، وقد اعترف بذلك المحتجون بها فبقي الكلام معهم في هذا، فيقال له تلك القضايا المعددة في الأمر السادس وهي إحدى عشرة - وما يشابهها اعترفتم جميعاً بأنها بديهية، ثم اختلفتم في الأخذ بها، كل فرقة منكم تزعم أن ما أخذت به من تلك القضايا بديهي عقلي يقيني، وأن ماردته منها بديهي وهمي، فإن كان مرد ذلك إلى التحكم، مَنْ هَوِيَ قضية قال: إنها بديهية عقلية تفيد اليقين، ومن خالفت هواه قال: بديهية وهمية، فهذا ليس من العلم في شيء وإن كان المرد إلى الجزم، فمن أحس بأنه جازم بالقضية قال: عقلية يقينية، ومن أحس بأنه مرتاب فيها قال: وهمية، فهذا قريب من سابقه، إذ قد ثبت أن الجزم يخطئ ويغلط، وقد تقدم أدلة على ذلك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وكفى بالاختلاف في هذه القضايا دليلاً، وإن كان المرد إلى قوة المعارض، فمن لم يقوَ عنده معارض القضية سماها عقلية وقطع بها: ومن قوي عنده المعارض سماها وهمية فردها، فهذه كسابقيه، إذ غايته الجزم بالقضية أو الجزم بمعارضها، وقد ثبت أن الجزم يخطئ ويغلط. وإن هناك معيار صحيح فما هو؟ قالوا: المعيار أن تعرض القضية البديهية المنظور فيها على البديهيات الأخرى، فإن وجدت فيها ما ينتج نقيض هذه القضية علمنا هذه وهمية. قلت: هبوا أني تمسكت بقضية يقينية، فخالفني مخالف وذكر بديهية أخرى وزعم أنها عقلية يقينية، وأنها تنتج نقيض قضيتي، فقد لا أسلم أن القضية التي ذكرها عقلية يقينية، بل أحتج على أنها وهمية بإنتاجها نقيض قضيتي، وما أنتج نقيض الحق فهو باطل، وإن سلمت أن القضية عقلية فقد لا تكون من القضايا المتفق عليها بين العقلاء، وإذا لم تكن منه لم يؤمن أن تكن في نفس الأمر وهمية وتابعت صحبي على الخطأ، وإن كانت من القضايا المتفق عليها بين العقلاء أو بيني وبين صاحبي فقد لا أسلم صحة استنتاجه، إذ غايته أن تكون صحة بديهية فلعل بداهته وهمية، بدليل مناقضته لقضيتي وما ناقض الحق فهو باطل، فالمعيار الذي ذكرتم لا يفيد إلا حيث تكون القضية المعتبر بها من القضايا المتفق عليها بين العقلاء، وتكون صحة إنتاجها كذلك، وهذه فائدة ضئيلة لا تتأتى في شيء من القضايا التي اختلفتم فيها. فإن قيل فماذا يقول السلفيون؟ قلت: يقولون: القضية المحتاج إلى التثبت فيها (1) إما غير ماسة بالدين البتة، وإما ماسة به.   (1) احتراس من القضايا الواضحة ومنها أصل الشرع إلا به. المؤلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 فالأولى: لا شأن لهم بها بل يدعونها لعلماء الطبيعة. وأما الثانية: فإما أن لا تكون من المأخذ السلفي الأول وإما أن تكون منه. فالأولى: لا يعتدون بها إلا أن بعضه قد يتعرض لها وافقت المأخذين السلفيين. وأما الثاني فيحكمون فيها الشرع، فإن وجدوه جاء بما يخالفها علوا أنها باطلة، وإن وجدوه أقر الناس على اعتقادهم الديني بحسبها علموا أنها حق، ولأن الشرع لا يقر على مثل هذا إلا وهو حق، فأما إذا زاد الشرع فجاء على وفقها فتلك الغاية.فهذا المعيار هو الذي ارتضاه الله عز وجل لعباده وكره لهم ما عداه، فهو الصراط المستقيم وسبيل الله وسبيل المؤمنين، وله مزايا لا تحصى، ومنها أنه أتم وأعم من معيار المتعمقين الضئيل الفائدة، ومنها أنه لا يؤدي إلى ما وقعوا فيه من الخروج عن الشرع والعقل بنسبتهم الكذب إلى الله تعالى ورسله كما سيأتي شرحه، ومنها انه لا يؤدي إلى الاختلاف في الدين وتفريقه، بدليل أن الصحابة والتابعين عليهم لهم بإحسان لم يختلفوا، فان أدى إلى اختلاف ما فلا يكاد يكون ألا من قبيل الاختلاف في فروع الفقه، لا يلزم المخطئ كفر ولا ضلال، على انه إن خيف اختلاف في الدين كان الواجب على الأكثر في زمن غلب فيه الخير عدم التدقيق، وعلى الأقل كتمان قولهم كما جرى عليه السلف في مسئله القدر، ومنها أن المخطئ إذا لم يقصر تقصيرا بينا يرجى له العفو، لأنه لم ينشأ خطأو هـ عن اتباع غير سبيل المؤمنين، والتماس الهدي من غير الصراط المستقيم، ومنها تيسر المعرفة بدون الخروج عن الصراط المستقيم ولا السبل المفرقة عن سبيل الله عز وجل، إذ يكفي للمعرفة العلم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله بدون حاجة إلى التعمق في المنطق والفلسفة. ومنها أن العامة لا يحتاجون معه إلى التقليد المريب الموقع للمسلمين في الاختلاف والتفرق والتنابذ والتنابز والفتن، لأن القضية أما أن يتفق عليها علماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الدين فتكون إجماعاً، وإما أن لا يظهر فيها مخالفة إلا ممن يشذ فيكون إتباع الجمهور المعلوم انهم إنما يتبعون كتاب الله تعالى وسنة رسوله أخذاً بالراجح الواضح. وهذا إنما يحتاج إليه في فروع العقائد التي لا يضر عدم استيقانها، هذا مه أنه يسهل على العلماء أن يذكروا للعامة الحجة النقلية فيفهمها العامة فيكون متبعين للشرع، وبذلك تطمئن قلوبهم، ويزيد إيمانهم، ويعظم ثوابهم. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. وأما القادحون في الجميع فهم السوفسطائية، وهم ثلاثة فرق، أمثلها وأفضلها كما في (المواقف) و (شرحها) اللا أدرية يشكون في كل شيء. الثانية: العنادية يزعمون أن لا موجود أصلاً. الثالثة: العندية يقولون: حقائق الأشياء تابعة للاعتقاد، فمذهب كل طائفة حق بالنظر إليهم، وليس في نفس الأمر شيء بحق. قال السيد في (شرح المواقف) : «إنما نشأ هذا من الإشكالات المتعارضة ... وبالجملة ما من قضية بديهية أو نظرية إلا ولها معارضة مثلها في القوة تقاومها» . أقول: فيعلم بهذا أن طريق المتعمقين مشتبه موقعه في كثرة الخطأ والغلط والاختلاف والارتياب والجنون، وحق لمن رغب عن سبيل الله عز وجل وابتغى الهدى في غيرها أن يقع في مثل هذا التيه. وأما القادحون في إفادة النظر العلم مطلقاً فهم السمنية، وتمسكوا بوجوه سأحاول حكاية بعضها، وما أجيب به عنها بالمعنى تقريباً للفهم. الوجه الأول: إفادة النظر الصحيح للعلم لا تعلم إذ لوعلمت فإما بضرورة أو نظر وكلاهما باطل، أما الضرورة فلاختلاف الناس في ذلك وللجزم بأنه دون قولنا «الواحد نصف الاثنين» في القوة وليس ذلك إلا لاحتمال النقيض ولو على أبعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وجه، وأما النظر فلاستلزامه إثبات الشيء بنفسه. أجاب بعضهم باختيار الضرورة، وأن الضروري قد لا يكون تصور طرفيه جلياً ولا تجريدها سهلاً، ولا يكثر وروده على الذهن فيؤلف ويستأنس به، فمثل هذا قد يخالف فيه قليل من الناس، ويدرك أنه دون قولنا «الواحد نصف الاثنين» وذلك لا يخرجه عن كونه ضرورياً. واختار بعضهم النظر، وأجابوا بما فيه طول وتعقيد، فراجعه في (المواقف) و (شرحها) ، لما قدمناه في أول الكلام مع منكري البديهيات. الأمر الثاني (1) : الاعتقاد الجازم عقب النظر لا يعلم أنه علم لأنه لا يعلم إلا بضرورة أو نظر وكلاهما باطل، أما الضرورة فلأنه «قد يظهر للناظر بعد مدة بطلان ما أعتقده وأنه لم يكن علماً وحقاً، وكذلك نقل المذاهب ودلائلها لما مر من أنه قد يظهر صحة ما أعتقد بطلانه وبالعكس» كذا في (المواقف) و (شرحها) . وأما النظر فلاحتياجة إلى نظر آخر ويتسلسل. أجاب العضد بقوله: (الذي يظهر خطاؤه لا يكون نظراً صحيحاً والنزاع إنما وقع فيه» . الأمر الثالث: النظر لا يفيد العلم إلا إذا علم عدم المعارض إذ معه يحصل التوقف «وعدمه ليس ضرورياً إلا لم وإلا لم يقع المعارض، أي لم ينكشف وجود بعد النظر، وكثيراً ما ينكشف فهو نظري، ويحتاج إلى نظر آخر وهو أيضاً محتمل لقيام المعارض ويتسلل» ، كذا في (المواقف) و (شرحها) . أجاب العضد بقوله: «النظر صحيح في المقدمات القطعية كما يفيد العلم بحقية النتيجة يفيد العلم بعدم المعارض في نفش الأمر ضروري» .   (1) كذا الأصل. وقد سبق أنه قال «الوجه الأول» فالنظر يقتضي أن يقول هنا «الوجه الثاني» وكذا في بقية الأمور الباقية. ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 الأمر الرابع: الاعتقاد الجازم قد يكون علماً لكونه مطابقاً مستنداً لموجب، وقد يكون جهلاً لكونه غير مطابق مستنداً إلى شبهة أو تقليد، فلا يمكن التمييز بينهما، فإذاً ماذا يؤمننا أن يكون الحاصل عقيب النظر جهلاً؟» . لخصت هذه العبارة من (المواقف) و (شرحها) . قال العضد: «هذا إنما يلزم المعتزلة القائلين بمماثلة الجهل للعلم» . قال الشارح: «أما نحن (أي الأشعرية) فنقول: إذا حصل للناطر العلم بالمقدمات الصادقة القطعية وبترتيبها المفضي إلى المطلوب فإنه يعلم بالبديهة أن اللازم عنه علم لا جهل» . أقول: إذا كان القادحون يسلمون إمكان علم الناظر بأن نظره صحيح علماً يقينياً باتاً فلا ريب في سقوط شبهاتهم هذه والسبع الباقية المذكورة قي (المواقف) ، وإن كانوا يمنعون ذلك ويقولون: غايته أن يجزم، وهذا الجزم لا يوثق به، فكلامهم قوي بالنسبة إلى النظر المتعمق فيه في ونحوها، وليس فيما أجيب به عن ذلك ما يجدي، إذا غايته أنه إذا علمت صحة النظر علماً يقينياً باتاً حصل العلم بأن ذلك علم، وحصل العلم بعدم المعارض، وحصل الأمن من أن يكون الاعتقاد جهلاً، وهذا إنما يفيد إذا ثبت إمكان العلم اليقيني البات بصحة النظر، فيبقى البحث في هذا الإمكان، ولا ريب أنه ليس عند الناظر في النظر المتعمق فيه الإلهيات ونحوها إلا جزمه بالصحة أن صدق في دعوى الجزم، وهذا الجزم قد ثبت بالتجارب الكثيرة والدلائل الواضحة أن مثله كثيراً ما يكون خطأ وغلطا، واعترف المتعمقون بذلك كما مر مراراً، وإذا احتمل ولوعلى غاية البعد أن يكون الجزم خطأ لم يكن الجزم بصحة النظر علماً بصحته، ولا الجزم بإفادته العلم علماً بذلك، ولا الجزم بأن ما أفاده علم علماً بذلك، ولا الجزم بعد المعارض علماً بعدمه، ولا يحصل الأمن من أن يكون كل ذلك جهلاً. فإن قيل: إننا نقطع مع هذه الشبهات كلها بأن من النظار ما هو صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 قلت: إن كان المراد الصحة في الجملة أي أن يمتنع أن تكون النظار كلها فاسدة، فهذا لا يجدي في الأنظار الجزئية واحداً واحداً، وإنما يفيد في كل منها الاحتمال، فكل نظر يجزم بصحته فإنه يحتمل أن يكون فاسداً في نفس الأمر، ولا ينافي ذلك امتناع أن يعم الفساد جميع الأنظار. وإن كان المراد القطع في بعض الأنظار بعينها فهذا لا يسلم بالنسبة إلى النظر المتعمق فيه في الإلهيات ونحوها، وإنما غاية ما يحصل لكم في ذلك الجزم وقد علمتم ما فيه، وإنما يسلم في القضايا السهلة الواضحة التي تؤول إلى البديهيات المتفق عليها عن قرب، نعم قد يحصل القطع بالأمر لدليل آخر غير النظر الدقيق، كاجتماع أدلة يحصل اليقين بمجموعها، وكأن تكون القضية بديهية قوية وهي في الدين ويقرها الشرع، وكأن يصرح بها الشرع تصريحاً لا يمكن تأو بله إلا بجملة على الكذب أو التلبيس - وسيأتي شرح هذا إن شاء الله تعالى - لكن اليقين بهذه القضايا لا يستلزم صحة نظر دقيق يوافقها بنتيجته إذ قدح تصح النتيجة مع الفساد النظر كما لوأشرت إلى جسم أبيض وقلت: هذا جسم وكل جسم أبيض، فإن النتيجة «هذا أبيض» وهي صادقة، والنظر فاسد كما لا يخفى. وأما القادحون في النظر في الإلهيات فقالوا: إن النظر إنما قد يفيد العلم في الهندسيات والحسأبيات، دون الإلهيات، فإنها بعيدة عن الأذهان جداً، والغية القصوى فيها الظن والأخذ بالأخرى والأخلق، وأحتجوا بوجهين: الأول الحقائق الإلهية من ذاته وصفاته سلا تتصور، والتصديق بها فرع التصور. الثاني، أقرب الأشياء إلى الإنسان هو يته التي يشير إليها بقوله: «أنا» وإنها غير معلومة - لا من حيث وجودها فإنه لا خلاف فيه - بل من حيث تصورها بكنهها، ومن حيث التصديق بأحوالها من لونها عرضاً أو جوهراً، مجرداً أو جسمانياً، منقسماً أو غير منقسم، وقد كثر الخلاف فيها كثرة لا يمكن معها الجزم بشيء من الأقوال المختلفة، وإذا كان اقرب الأشياء إلى الإنسان هذا حاله فما الظن بأبعدها؟ ذكر هذا كله في (المواقف) ثم ذكر أنه أجيب عن الوجه الأول بأنه يكفي التصور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 بعارض يكون هو مناط الحكم، وعن الثاني بقوله: «لا نسلم أن هو ية الإنسان غير معلومة له، وكثرة الخلاف فيها لا تدل إلا على العسر» قال السيد في (شرحه) : «فلم يثبت بما ذكرتم أن هناك نظراً صحيحاً لا يفيد علماً، بل ثبت أن تميز النظر الصحيح عن غيره «في شأن الهو ية» مشكل جداً فيكون ذلك في الإلهيات أشكل، ولا نزاع فيه» . أقول: الذي يظهر من كلام القادحين وما استدلوا به أنهم لم يزعموا أن النظر الصحيح في الإلهيات لا يترتب عليه نتيجة صادقة، ولا انه لا يمكن فيها نظر صحيح في نفس الأمر، وانما زعموا انه لا يمتاز فيها النظر الصحيح من غيره لشدة البعض والغموض والاشتباه والأشكال، فلذلك لا تعلم صحة النظر علماً يوثق به، فلا تعلم صحة النتيجة، فلا يفيد علماً، وعلى هذا فلهم أن يقولوا، التصور بعارض يكون هو مناط الحكم محل غموض واشتباه شديد لاحتمال مخالفة الإلهيات لغيرها في العوارض وما يترتب عليها، والعسر وشدة إشكال تمييز النظر الصحيح من غيره في شأن الهو ية وكونه في الإلهيات أشد وأشد كاف في القدح، إذ غاية ما قد يحصل للناظر أن يجزم، وقد تقدم مراراً أن الجزم كثيراً ما يكون خطأ وغلطاً. إذا كان قد يقع ذلك في الحسيات ونحوها، فما الظن بما هو من البعد والإشكال بالدرجة القصوى؟ هذا ويرد على القادحين أن من أحوال الإلهيات ما هو على خلاف ما ذكروا كالعلم بوجود الخالق عز وجل، وبأنه حي عليم قدير حكيم، لكن لهم أن يقولوا، أما ما كان من هذا القبيل فهو من الضروريات كعلم الإنسان بوجود هو يته وبعض صفاتها أو أوضح من ذلك، وإنما دخل التشكل من جهة النظر المتعمق فيه، وتجاهل وهنه، حتى جر أصحابه إلى إنكار الضروريات كما وقع للسوفسطائيين وغيرهم. أقول: فعلى هذا يختص القدح بالنظر المتعمق فيه. فأما السلفيون فإنما يعتمدون المأخذ السلفي الأول لاثبات جلائل الأمور التي أعده الخالق عز وجل لإدراكها، وبذلك يثبت الشرع يقيناً فيسلمون أنفسهم لخبر من يمتنع عليه الجهل والخطأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 والكذب والتلبيس والتقصير في البيان. فقد اتضح بحمد الله عز وجل أن النظر العقلي المتعمق فيه كثيراً ما يوقع في الغلط، إما بأن يبنى على إحساس غلط لم يتنبه لغلطه، وإما بأن يبنى على قضية وهمية يزعمها بديهية عقلية، وإما بأن يبنى على شبهة ضعيفة فيرد بها البديهية العقلية زاعماً أنها وهمية، وإما بأن يبنى على لزوم باطل يراه حقاً، وقد تبين بالفلسفة الحديثة المبنية على الحس والتجربة وتحقيق الاختبار بالطرق والآلات المخترعة - غلط كثير من نظريات الفلسفة القديمة في الطبيعيات، وكثير من تلك النظريات كانت عند القوم قطعية يبنون عليها ما لا يحصى من المقالات حتى في الإلهيات، فما ظنك بغلطهم في الإلهيات؟ وهم يعتمدون فيها على قياس الغائب على الشاهد، فقد يقع الغلط في اعتقاد مشاركة الغائب للشاهد في بعض الأمور، أو في اعتقاد مخالفته له، أو في اعتقاد اللزوم في الشاهد أبنائه على استقرار ناقص أو غيره من الأدلة التي لا يؤمن الغلط فيها، أو في اعتقاد أنه غير محقق إذا لزم في الشاهد لزم في الغائب، أو في تركيب القياس، أو غير ذلك مما يشتبه ويلتبس، كما يتضح لمن طالع كتب الكلام والفلسفة المطولة، ولاسيما إذا طالع كتب الفريقين المختلفين كالأشاعرة والمعتزلة، فالنظر العقلي المتعمق فيه مع أنه لا حاجة إليه في معرفة الحق كما تقدم فهو مظنة أن يشكك في الحقائق ويوقع في اللبس والاشتباه والضلال والحيرة، وتجد في كلام الغزالي وةغيره ما يصرح بأن النظر العقلي المتعمق فيه لا يكاد ينتهي إلى يقين، وإنما هي شبهات تتقارع وقياسات تتنازع، فأما أن ينتهي الناظر إلى الحيرة، وأما أن يعجز فيرضى بما وقف عنده ولاسيما إذا كان موافقاً لهواه، وأما أن لا يزال يتطوح بين تلك المتناقضات حتى يفاجئه الموت. وقد قال الغزالي في (المستصفى) 1 / 43: «أما اليقين فيشرحه أن النفس إذا أذعنت للتصديق بقضية من القضايا، وسكنت إليها فها ثلاثة أحوال: أحدها: أن تتيقن وتقطع به إليه قطع ثان وهو أن تقطع بأن قطعها به صحيح وتتيقن بأن يقينها فيه لا يمكن أن يكون به سهو ولا غلط ولا التباس فلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 تجوز الغلط في يقينها الأول ولا في يقينها الثاني، ويكون صحة يقينها الثاني كصحة يقينها الأول، بل تكون مطمئنة آمنة من الخطأ، بل حيث لوحكي لها عن نبي من الأنبياء أنه أقام معجزة وادعى ما يناقضها فلا تتوقف في تكذيب الناقل بل تقطع بأن القائل ليس بنبي وأن ما ظن أنه معجزة فهي مخرقة فلا يؤثر هذا في تشكيكها بل تضحك من قائله وناقله، وإن الخطر ببالها إمكان أن يكون الله قد أطلع على سر به انكشف له نقيض اعتقادها فليس اعتقادها يقيناً، مثاله قولنا: الثلاثة أقل من الستة، وشخص واحد لا يكون في مكانين، والشخص الواحد قديماً حديثاً، موجوداً معدوماً، ساكنا متحركاً - في حال واحدة. الحال الثانية: أن بها تصديقاً جزماً ولا تشعر بنقيضها البتة ولوأشعرت بنقيضها تعسر إذعانها للإصغاء إليه، ولكنها لوثبتت وأصغت وحكي لها نقيض معتقدها عمن هو أعلى الناس عندها كنبي أو صديق «أو أجمع الفلاسفة وكبار المتكلمين أو المتصوفة» أو رث ذلك فيها توقفاً، ولنسم هذا الجنس اعتقاداً جزماً وهو أثر اعتقادات عوام المسلمين واليهود والنصارى في معتقداتهم وأديانهم، بل اعتقاد أكثر المتكلمين في نصرة مذاهبهم، فإنهم قبلوا المذهب والدليل بحسن الظن في الصبا فوقع عليه نشؤهم فإن المستقل بالنظر الذي يستوي مليه في نظره إلى الكفر والإسلام عزيز. الحال الثالثة: أن يكون لها سكون إلى الشيء والتصديق به وهي تشعر بنقيضه أولا تشعر ولكن لوأشعرت لم ينفر طبعها عن قبوله وهذا يسمى ظناً وله درجات ... » . أقول: إذا قرن هذا بما تقدم في حال النظر المتعمق في الإلهيات تبين بياناً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 واضحاً أن غالب أقيسته أو عامتها خصوصاً ما يخالف المأخذين السلفيين لا تفيد اليقين بل تقصر عند النظار العارفين عن إفادة الاعتقاد الجازم. فإن قيل: فكذلك أو قريب منه أدلة المأخذين السلفيين لأنها تقبل التشكيك ولوبصعوبة. قلت: أما جلائل الأدلة من المأخذ السلفي الأول وهي التي يتوقف عليها ثبوت أصل الشرع فإنها تقبل التشكيك عند من ابتلي بالنظر المتعمق فيه. وهذا لا يضرنا، فإن من هؤلاء من شك في البديهيات كلها، ومنهم من يشك في كل شيء، ومن يجحد كل فيقول ليس في نفس الأمر شيء بحق كما تقدم، على أننا إن سلمنا قبول التشكيك مطلقاً، فإننا نقول: إن ذلك إنما يكون في حق من لم يقبل الشرع الحق ويمتثل أو امره.ووجوب قبول الشرع يكفي فيه العلم بأنه أولى بالحق والصدق والنجاة والسعادة، وهذا يحصل قطعاً لكل مكلف أصغى للحجة، فإذا قبل الإنسان الشرع وامتثل أو امره مع صدق رغبة في الحق هيأ الله تعالى له اليقين بما شاء إن لم يكن بدليل واحد فبمجموع أدلة كثيرة، وفوق ذلك العناية، قال تعالى: «أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» المجادلة: 22. وقال تعالى: «قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» الحجرات: 14. كلمة «لماَّ» تؤذن بأن المنفي بها هو بصدد أن يثبت قريباً فهذا وعد من الله عز وجل بأن يدخل الإيمان في قلوبهم جزاء لقبولهم الإسلام. وقوله: «وإِن تطيعوا ... » قال بعض أهل العلم: المعنى إنكم إن أطعتم، رزقكم الله تعالى الإيمان فتستحقون ثواب الأعمال. وقال عز وجل: «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ» محمد: 17. وقال تعالى: «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ. وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِل» الزمر: 36 - 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وقد ذكر الغزالي نفسه أنه كان في أول أمره يشك في كل شيء حتى البديهيات الضرورية الأولية قال: «حتى شفى الله تعالى عني ذاك المرض والإعلال، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية موثقاً بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدور، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف» نقله عن شارح (العقيدة الأصفهانية) ص 94 - 95، ونقل عنه ص 98: «وكان قد حصل معي من العلوم التي مارستها والمسالك التي سلكتها في تفتيشي عن صنفي العلوم الشرعية والعقلية إيمان يقيني بالله تعالى، وبالنبوة واليوم الآخر، وهذه الأصول الثلاثة كانت رسخت في نفسي بلا دليل محرر، بل أسباب وقرائن وتجارب لا تدخل تحت الحصر تفاصيلها» . أقول: وذلك النور الذي يقذفه الله تعالى في الصدور ليس لكل أحد فإنه لم يحصل لمنكري البديهيات، وقد ذكر الغزالي أنه بقي نحوشهرين على الشك، بل قد يقال إنه في الأصل بالنسبة إلى الضروريات عام ولكن من خاض في النظر المتعمق فيه وحاول اكتساب اليقين من جهة النظر احتجب اليقين من جهة النظر احتجب عنه ذلك النور، فإن استمر على ذلك استمر على الشك كالسوفسطائية، وإن رجع إلى القناعة بالفطرة عاد له ذلك النور كما وقع للغزالي، وكذلك ليس قذف النور محصوراً في الضروريات العقلية التي يعنيها الغزالي، بل يتناول جميع القضايا العقلية التي لا يثبت الشرع بدونها، ولكن حصوله فيها كلها موقوف على صدق الرغبة في الحق والخضوع لما ظهر منه، وإيثاره على كل هوى. والأسباب والقرائن والتجارب التي تحصل الإيمان اليقيني بالله تعالى وبالنبوة واليوم الآخر ليست مقصورة على النوع الذي ذكر الغزالي أنه اتفق له بممارسته للعلوم، بل ييسر الله تعالى لمن شاء ما هو أقرب منها وأقوى بالنظر العادي في آيات الآفاق والأنفس وتدبر الكتاب والسنة. وإنما الشأن في التعرض لفضل الله عز وجل، فمن اكتفى أولاً برجحان الشرع فآثره على هواه وأسلم له نفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وخضع لما جاء به ووقف عند حدوده فقد تعرض لنيل ذلك النور، وذلك اليقين على وجه هو أصفى مما قد حصل بممارسته العلوم وأضوأ وأبهى وأهنأ، لأن ممارسته المعقولات في شأن الآلهيات تعترض فيها الشبهات والتشكيكات، بل الأمر أشد من ذلك، فإن الخوض في النظر المتعمق فيه طلباً للهدى من جهته عدولٌ عن الصراط المستقيم، وخروج عن سبيل المؤمنين، فهو تعرض للحرمان والخذلان والإضلال، لكن قد يعذر الله تعالى بعض عباده، فلا يحرمه فضله إلا أن الشبهات تنغصه عليه بل لا تزال تغالبه وقد تكون العاقبة لها والعياذ بالله. هذا ومن حصل له اليقين بصحة الشرع جملة فقد حصل له اليقين بصدق جميع ما جاء به الشرع، وأنه لا يتطرق إليه إختلال البتة إذ يستحيل ههنا الجهل، والخطأ، والكذب، والتلبيس، والتقصير في البيان، وهذا هو حال المأخذين السلفيين. غاية الأمر أنه قد تعرض لمن حصل ذلك شبهة يتعسر عليه حلها، فإذا رجع إلى إيمانه وتصديقه لربه لم يبال بتلك الشبهة. وقد تقدم عن النظار فيما أجابوا به عن الأمور التي أو ردها القادحون في البديهيات قولهم: «لا نشتغل بالجواب عنها، لأن الأوليات مستغنية عن أن يذب عنها، وليس يتطرق إلينا شك فيها بتلك الشبهة التي نعلم أنها فاسدة قطعاً، وإن لم يتيقن عندنا وجه فسادها» . فهكذا يقول السلفي في دفع الشبهات المناقضة، لما أيقن به من صدق الشرع. والخائب الخاسر من نسي إيمانه ويقينه، واغتر بالشبهات فهلك. قال الله تعالى: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ. وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ. مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 الْخَاسِرُونَ» . الأعراف:175- 178. أما قول الغزالي: «فإن المستقل بالنظر الذي يستوي ميله في نظره إلى الكفر والإسلام عزيز» . فقد ينكر هذا عليه ويقال: كيف يمدح من يستوي ميله في نظره إلى الباطل والحق؟ ! ويجاب عن هذا بأن مقصوده أن أكثر المتكلمين يميلون إلى الإسلام بدون استيقان منهم أنه الحق، بل عليه فألفوه واعتادوه، ولذلك، يرى من نشأ على اليهودية أو النصرانية أو غيرهما يميلون إلى ما نشأو اعليه مع أنه باطل في نفس الأمر. لكني أقول: أما أئمة السنة الذين وفوا بشرط الله عز وجل من التسليم والخضوع والطاعة له، فلا شأن لهم في هذا لأنهم قد تعرضوا لأن يكتب الله في قلوبهم الإيمان، ويؤيدهم بروح منه، ويزيدهم هدى، ويزيدهم هدى، ويرزقهم النور اليقين، فقنعوا بالمأخذين السلفيين، واهتدوا بها عن بصيرة ويقين، ومن اختار ما علم أنه الحق، وثبت عليه، وأعرض من الشبهات، ولا يقال إنه غير مستقل إنه غير مستقل بالنظر، كما إن النظار المستقلين قطعوا بالبديهيات، وأجابوا عن الأمور التي أو ردها القادحون بما تقدم. وكما أن الغزالي وهو يرى أنه مستقل بالنظر قال: إنه أيقن بالضروريات بدون دليل، بل بنور قذف في صدره، وأنه حصل له الإيمان بالله تعالى، وبالنبوة، واليوم الآخر بدون دليل محرر، بل بأسباب وقرائن وتجارب لا تحصى، ولا ريب أنه لا يمكنه أن يشرح ما حصل له للخصم شرحاً وافياً يحصل للخصم اليقين. بل أقول: إن عامة المسلمين المحبين الخاضعين له، الذين يغلب عليهم التقوى والطاعة هم ممن تعرض لذاك النور، وذلك التأييد وتلك الهداية، وكثير منهم لهم من اليقين الحقيقي الناشيء عن الفطرة والنظر العادي، واجتماع أمور كثيرة يفيد مجموعها اليقين مع عناية الله عز وجل وتأييده ما ليس لأكابر النظار، (1) وذلك   (1) ثم رأيت نقلاً عن (فيصل التفرقة) للغزالي عبارة طويلة تراها في (روح المعاني) ج 8 ص 119 فيها «لست أنكر يجوز ان يكون ذكر أدلة المتكلمين أحد أسباب = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. فأما المتكلمون فلا يبعد أن يكون أكثرهم كما قال الغزالي، وذلك أنهم لأم يتعرضوا لذلك النور والتأييد والهداية، بل تعرضوا للحرمان والإضلال بعدولهم عن الصراط المستقيم وسلوكهم غير سبيل المؤمنين، فإذا حصل لأحدهم شيء من الاعتقاد حمد نفسه قبل ربه! وقال: «إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي» أقرأ من سورة (القصص) : 78، ومن سورة (الزمر) : 49. وإذا قيل لهم صدّقوا بما جاءت به الرسل قالوا: لا نصدق فيما يتعلق بالمعقولات، إلا بما أدركته عقولنا أو أكثر كشفنا، واستهزءوا بمن يأخذ دينه من النصوص وسموهم الحشوية (1) ، والغثاء، والغثر، وغير ذلك. قال الله تعالى: «فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ» المؤمن:83. وقال تعالى: «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ» الآية - البقرة: 85. وإذا قيل لهم آمنوا بالنصوص كما آمن بها السلف الصالح قالوا أولئك أعراض أميون جفاة لا يدرون ما المعقول، قال الله تعالى: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ» البقرة: 13. وآل بهم الزيغ إلى نسبة الكذب إلى الله تعالى ورسله، كما يجيء بالباب الأتي، فأنا يهديهم الله تعالى؟ قال سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ» النحل:104- 105.   = الإيمان في حق بعض الناس ولكن ذلك ليس بمقصور عليه وهو نادر أيضاً ... فالإيمان المستعار من الدلائل الكلامية ضعيف جداً مشرف على التزلزل بكل شبهة، بل الإيمان الراسخ أيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا بتواتر السماع والحاصل بعد البلوغ بقرائن لا يمكن العبارة عنها» . المؤلف. (1) هذا من التنابز بالألقاب وتعمد الاساءة وقد ترددت في كتب المؤولين كثيراً. زهير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 فالقوم خالفوا كثيراً من العقائد الإسلامية، ويوشك أن يكون حالهم فيما لم يصرحوا بمخالفته على نحو ما قال الغزالي، أي أنهم لم يحافظوا على تلك البقية عن إيمان ويقين، ولكن نشأوا على الإسلام واعتزوا بالانتساب إليه فكرهوا أن يقطعوا التعلق به البتة، والعلم عند الله عز وجل. والتحقيق عن الاستقلال بالنظر محمود، ولكن الشأن في النظر، فالنظر بحسب المأخذين السلفيين مع الوقوف عند الحد الذي حده الشرع، وامتثال ما أرشد إليه وعمل به الصحابة وتابعوهم بإحسان من اتقاء الشبهات وتجنب الاختلاف في الدين وتفريطه محمود، فالاستقلال فيه محمود، والنظر المتعمق فيه مذموم، لأنه لا يكاد يثمر إلا التشكيك في الحقائق، والاختلاف في الدين وتفريقه، ويوشك أن يكون الحرص على الاستقلال بالنظر فيه من أمضى أسلحة الشيطان، فأنه قد يحصل للإنسان الإيمان واليقين بالقضايا الفطرية والواضحة من المأخذ السلفي الأول، وبما ذكر الغزالي من اجتماع قضايا كثيرة ظنية يحصل اليقين بمجموعها ومن قذف الله عز وجل في القلب، ثم يعرض له في النظر المتعمق فيه شبهة أو أكثر تخالف ذلك اليقين، وذاك الإيمان، فيتعذر عليه حلها، فيدعوه حب الاستقلال بالنظر إلى إتباعها وترك ذاك اليقين، وذاك الإيمان متهماً نفسه لأن ثقتها ببطلان تلك الشبهة إنما هو لهواها في الإسلام، فمثله مثل القاضي يتباعد عن هواه فيظلم أخاه كما مر في المقدمة. بل أقول: أن الاستقلال بالنظر على الحقيقة هو ترك النظر المتعمق فيه رأساً فيما يتعلق بالإلهيات، أو على الأقل ترك الاعتداد بما خالف المأخذين السلفيين منه كما يتضح لمن تدبر ما تقدم وما يأتي. وقد أبلغ الله تبارك وتعالى في إقامة الحجة على اختلال النظر المتعمق في الإلهيات بأن يسر لبعض أكابر النظار المشهورين بالاستقلال أن يرجعوا قبيل موتهم إلى تمني الحال التي عليها عامة المسلمين، فمنهم الشيخ أبوالحسن الأشعري، وأبوا المعالي ابن الجويني الملقب إمام الحرمين، وتلميذه الغزالي، والفخر الرازي. أما الأشعري أولاً كان معتزلياً، ثم فارق المعتزلة وخالفهم في مسائل وبقي على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 التعمق، ثم رجع أخيراً كما يظهر من كتابه (الإبانة) إلى مذهب أصحاب الحديث، وكتابه (الإبانة) مشهور، وقد طبع مراراً، والأشعرية لا يكادون يلتفتون إليه. وأما ابن الجويني فصح عنه انه قال في مرض موته: «لقد قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها، وعلومه الطاهرة، وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام عنها، كل ذلك في طلب الحق وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن قد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق، «عليكم بدين العجائز» ، (1) فإن لم يدركني الحق بلطف بره فأموت على دين العجائز، وتختم عاقبة أمري عند الرحيل على نزهة أهل الحق، وكلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، فالويل لأبن الجويني» وقال: «أشهدوا علي أني رجعت عن كل مقالة يخالف فيها السلف، وأني أموت على ما يموت عجائز نيسابور» . إلى غير ذلك مما جاء عنه وتجده في ترجمته من (النبلاء) للذهبي، (طبقات الشافعية) لابن السبكي وغيرها. فتدبر كلام هذا الرجل الذي طبقت شهرته الأرض يتضح لك منه أمور: الأول: حسن ثقته بصحة اعتقاد العجائز وبأنه مقتضٍ للنجاة. الثاني: سقوط ثقته سقوط ثقته بما يخالف ذلك من قضايا النظر المتعمق فيه وجزمه بأن اعتقاد تلك القضايا مقتض لويل والهلاك. الثالث: أنه مع ذلك يرى أن حاله دون حال العجائز لأنهن بقين على الفطرة وسلمن من الشك والارتياب، ولزمن الصراط، وثبتن على السبيل، فرجى لهن أن يكتب الله تعالى في قلوبه الإيمان، ويؤيدهن بروح منه، فلهذا يتمنى أن يعود إلى   (1) يشير ابن الجويني إلى أنه حديث، وقد صرح الغزالي في «الإحياء» بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الصواب أنه لا أصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما صرح له أئمة الحديث، نعم في معناه حديث روي عن ابن عمر، ولكنه موضوع، وقد بينت ذلك في «الأحاديث الضعيفة» رقم (53 و54) . وحال الجويني والغزالي في الحديث معروفة عند أهل العلم، ويأتي رأي المصنف فيهما قريباً. ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 مثل حالهن، وإذا كانت هذه حال العجائز، فما عسى أن يكون حال العلماء السلفيين. وأما الغزالي فكان يغلب عليه غريزتان: الأولى: التوقان إلى تحصيل المعارف. الثاني: شدة الحرص على حمل الناس على ما يراه نافعاً، لكنه نشأ في عصر وقطر كان يسود فيها ولا سيما على علماء مذهبه وفرقته وخصوصاً أساتذته أمور: الأول: اعتقاد أن المذاهب والمقالات قد تأسست فما بقي على طالب العلم إلا أن يعرف مذهبه، ومقالة فرقته، ويتقن الأصول، والجدل، وز الكلام، ثم يتجردللدفاع عن مذهبه، ومقالة فرقته س. الأمر الثاني: اعتقاد أن النصوص الشرعية قد فرغ منها، فما كان منها يتعلق بالفقه قد أحاط به المجتهدون، وقد زعم الغزالي أن الاجتهاد قد أنقطع، وما كان متعلقاً بالعقائد قد لخصه وهذبه أئمة الكلام مع ما أشتهر أن مدار العقائد على العقل، وإذا خالفته النصوص وجب تأويلها، وقد كثر فيها ذلك حتى أستقر عندهم أنه لا سلطان لها على العقائد، ولهذا كان هو وأستاذه إمام الحرمين من أبعد الناس عن معرفته السنة كما ترى التنبيه عليه في مواضع من (تلخيص الخبير) وفي الكلام عن قول الله عز وجل: «اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ» . وفي ترجمة محمد بن محيريز من (لسان الميزان) و (تخريج أحاديث الأحياء) ، وغيرها. وبذلك يتبين أن هذين الإمامين كانا قليلي الاعتداد بالنصوص، فإن احتجا إلى ذكرها تعسفاً بدون مبالاة لا يكاد يهيمها أن يحتجا بحديث لا يدريان لعله موضوع، ولا أن ينكر وجود حديث في (الصحاح) وهو فيها كلها. الأمر الثالث: اشتهار أن المذاهب والمقالة اللذين نشأ عليها الغزالي هما أقوم المذاهب والمقالات، فاشتهر أن مذهب الشافعي هو المستوفي لجهتي الأثر والنظر، وأن ما عداه مخل بأحدهما، وأن مقالة الأشعرية هي المستوفية للنقل والعقل، وأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 ما عداها مخل بأحدهما كمقالة المعتزلة ومقالة أصحاب الحديث. الأمر الرابع: اعتقاد أن مقالات الفلاسفة متينة جداً لبنائها على التحقيق البالغ في المعقول مع البراءة من التقليد والتعصب. الأمر الخامس: توهم أن عند الباطنية علماً غريباً لمعرفتهم بالفلسفة ودعواهم معرفة اسرار الدين، ونشاط دعاتهم في ذلك العصر. الأمر السادس: توهم أن عند الصوفية جلية الأمر لدعواهم أنهم بتهذيبهم أنفسهم انكشفت لهم حقائق الأمور كما هي مع ما يظهر منهم من شرح بعض الحقائق بأدق مما يشرحها الفلاسفة والباطنية، وما يظهر لشيوخهم من الكشف عن الخواطر والإخبار عن بعض المغيبات (1) والأحوال الغريبة، مع شهادة الفرق كلها أن لرياضة النفس وتهذيبها أثراً بالغاً في ترقية مداركها. الأمر السابع: زعم أن متكلمي الأشاعرة قد فرغوا من الرد على أصحاب الحديث وعلى المعتزلة وغيرهم من المتكلمين، وبقي مقالة الفلاسفة والباطنية والصوفية. وهذا الأمر السابع هو كالنتيجة للأمور التي قبله فكان هو المستولي على ذهن الغزالي كما يتضح من شرح حاله في كتابه الذي سماه (المنقذ من الضلال) ، وترى ملخص ذلك في (شرح العقيدة الأصفهانية) ص 94 فما بعدها. ومما ذكره أنه أولاً يشك في صحة الحسيات والبديهيات ثم زال ذلك، قال: «ولم يكن ذاك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدور ... ولما كفاني الله تعالى هذا المرض انحصرت أنصاف الطالبين عندي في أربع فرق، المتكلمون ... والباطنية ... والفلاسفة ... والصوفية ... فقلت في نفسي الحق لا يعدوا هذه الأنصاف الأربعة، فهؤلاء السالكون سبيل طلب الحق، فإن شذ الحق   (1) انظر التعليق ص 68 76 - 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 عنهم فلا يبقى في درك الحق مطمع ... فابتدأت لسلوك هذه الطرق واستقصاء ما عند هؤلاء الفرق» . ثم ذكر أنه ابتدأ بتحصيل الكلام فحصله وعقله وصنف فيه، قال: «فلم يكن الكلام في حقي كافياً، ولا لدائي الذي أشكوه شافيا ... فلم يحصل فيه ما يمحوا بالكلية ظلمات الحيرة» ثم ذكر تحصيله الفلسفة والتبحر فيها ثم قال: «علمت أن ذلك أيضاً غير وافي بكمال الغرض فإن العقل ليس مستقلاً بالإحاطة بجميع المطالب، ولا كاشفاً للغطاء عن جميع المعضلات» ثم ذكر الباطنية إلى أن قال: «فهؤلاء أيضاً جربناهم وسبرنا باطنهم وظاهرهم» . وذكر أنه لم يجد مطلوبه عندهم، قال: «ثم أني لما فرغت من هذه أقبلت على طريق الصوفية ... » فذكر وأطال في إطرائها على عادته في إطراء ما يحصل كما أطرى الفلاسفة أولاً فقال: إن من لا يعرف المنطق لا ثقة له بعلمه، ولأنه كان يرى أن التصوف آخر ما يمكنه، فلم يكن له بد من محاولة إقناع نفسه به. ثم صار كلامه في كتبه تردداً بين هذه الطرق، وكثيراً ما يختلف كلامه في القضية الواحدة، يوافق هذه الفرقة في موضع، ويخالفها في آخر، حتى ضرب له ابن رشد مثلاً قول عمران بن حطان: يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معدياً فعدناني وذلك يدل على أن إحاطته بتلك الطرق لم تحصل مقصودة من الخروج عن الحيرة، بل أو قعته في التذبذب، وكان ذلك مما بعثه على الرجوع في آخر عمره إلى ما كان أولاً يرغب عنه، ويرى أنه لا شيء فيه، فأقبل على حفظ القرآن، وسماع (الصحيحين) فيقال أنه مات و (صحيح البخاري) على صدره، لكن لم يمتع بعمره حتى يظهر أثر ذلك في تصنيفه. والله أعلم. وأما الفخر الرازي ففي ترجمته من (لسان الميزان) 4 / 429: «أوصى بوصية تدل على أنه حسن اعتقاده» وهذه الوصية في ترجمته من كتاب (عيون الأنباء) 2 / 26 - 28 قال مؤلف الكتاب: «أملى في شدة مرضه وصية على تلميذه إبراهيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 ابن أبي بكر بن علي الأصفهاني ... وهذه نسخة الوصية: بسم الله الرحمن الرحيم يقول العبد الراجي رحمة ربه، الواثق بكرم مولاه محمد بن عمر بن الحسين الرازي وهو في آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة، وهو الوقت الذي يلين فيه كل قاس، ويتوجه إلى مولاه كل آبق ... إن الناس يقولون: الإنسان إذا مات انقطع تعلقه عن الخلق، وهذا العام مخصوص من وجهين: الأول: أنه إن بقي منه عمل صالح صار ذلك سباً للدعاء، والدعاء له أثر عند الله. والثاني: ما يتعلق بمصالح الأطفال ... ، أما الأول، فعلموا أني كنت رجلاً محباً للعلم. (أ) فكنت أكتب في كل شيء شياً لا أقف على كمية وكيف سواء كان حقاً أو باطلاً، غثاً أو سميناً! (ب) إلا أن الذي نظرته (؟ نصرته) في الكتب المعتبرة لي أن هذا العالم المحسوس تحت تدبير مدبر منزه عن مماثلة المتحيزات والأعراض، وموصوف بكمال القدرة والعلم والرحمة. (ج) وقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم، لأنه يسعى في تسليم العظمة سوالجلال بالكلية لله تعالى ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، ولا ذاك إلا العلم بأن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل في تلك المضايق العميقة، والمناهج الخفية. (د) فلهذا أقول: كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب، ووحدته، وبراءته والشركاء في القدم والأزلية، والتدبير والفعالية، فذاك هو الذي أقول به وألقى الله تعالى به، وأما ما انتهى الأمر فيه إلى الدقة والغموض فكل ما ورد في القرآن سو الأخبار الصحيحة المتفق عليها بين الأئمة المتبعين للمعنى الواحد فهو كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 هو، والذي لم يكن كذلك أقول يا إله العالمين ... أقول ديني متابعة محمد سيد المرسلين، وكتابي هو القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليها ... » . فبين في وصيته هذه أنه تدرج إلى أربع درجات: الأولى: الجري مع خاطره حقاً كان أو باطلاً. الثانية: ما نصره في كتبه المعتبرة. الثالثة: ارتيابه في المأخذ الخلفي وهو النظر الكلامي والفلسفي. الرابعة: ما استقر وثوقه به ورجع إليه، وهو ما أثبته المأخذ السلفي الأول وأكده الشرع، ثم قسم الباقي إلى قسمي: الأول: ما بينه الكتاب والسنة، فهو كما بيناه. الثاني ما عدا ذلك، فبين عدم وثوقه فيه بما سبق أن قاله في كتبه واعتذر عن ذلك بحسن النية. فرجوع هؤلاء الأكابر وقضاؤهم على النظر المتعمق فيه بما سمعت، بعد أن أفنوا فيه أعمارهم من أوضح الحجج على من دونهم. هذا والمشهور بعد الاعتراف بكفاية المأخذين السلفيين والنهي عن الخوض في علم الكلام والفلسفة الاعتذار عن الخائضين من المنتسبين إلى السنة بأنهم اضطروا إلى ذلك لدفع شبهات الكفار والزنادقة، والملحدين والمبتدعة الذين يخوضون في دقائق المعقول ثم يطعنون في الإسلام والسنة، قال المعتذرون ولم يكن ذلك في عهد الصحابة والتابعين وإنما حدث أخيراً بعد ضعف الإيمان وتشوف الناس إلى دقائق المعقول وإعجابهم بأهله، فالخوض محدث لكن لحدوث داع إليه وباعث عليه ومقتض له. وأقول: أما من خاض وحافظ على العقائد الإسلامية كما تعرف من المأخذين السلفيين وكما كان عليه السلف، فعسى أن ينفعه ذاك العذر، وإن كنا نعلم أن في حجج الحق من المأخذين السلفيين ما يغني من يؤمن «وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» ، وأما من خاض فغير وبدل فهؤلاء هم المبتدعة وأتباعهم، فهب أن منهم من يعذر في خوضه، فما عذره في تغييره وتبديله؟ ! ولا سيما من بلغ به التغيير والتبديل إلى القول بأن النصوص الشرعية لا تصلح حجة في العقائد! حتى صرح بعضهم بزعم أن الله تبارك وتعالى أقر الأمم التي بعث فيها أنبياءه على العقائد الباطلة وقررها في كتبه وعلى السنة رسله وثبتها وأكدها وزادهم عليها أضعافها مما هو - في زعم هؤلاء - باطل! ! فهل هذا هو الذب عن الإسلام وعقائده الذي يمتن به عليه أولئك الخائضون؟ ! فصل وأما المأخذ الخلفي الثاني وهو الكشف التصوفي، فقد مضى القرن الأول ولا يعرف المسلمون للتصوف إسماً ولا رسماً، خلا أنه كان منهم أفراد صادقون الحب لله تعالى، والخشية له يحافظون على التقوى والورع على حسب ما ثبت في الكتاب والسنة، فقد يبلغ أحدهم أن تظهر مزيته في استجابة الله عز وجل بعض دعائه أو عنايته به على ما يقل في العادة، ويلقى الحكمة في الوعظ والنصيحة والترغيب في الخير، وإذا كان من أهل العلم، ظهرت مزيته في فهم الكتاب والسنة فقد يفهم من الآية أو الحديث معنى صحيحاً إذا سمعه العلماء وتدبروا، وجدوه حقاً ولكنهم كانوا غافلين عنه حتى نبههم ذلك العبد الصالح. ثم جاء القرن الثاني فتوغل أفراد في العبادة والعزلة وكثرة الصوم والسهر وقلة الأكل لعزة الحلال في نظرهم، فجاوزوا ما كان عليه الحال في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فوقعوا في طرف من الرياضة، فظهرت على بعضهم بعض آثارها الطبيعية كالإخبار بأن فلاناً الغائب قد مات أوسيقدم وقت كذا، وأن فلاناً يضمر في نفسه كذا وما أشبه ذلك من الجزئيات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 القريبة (1) فكان الناس يظنون أن جميع ذلك من الكرامات، والواقع أن كثيراً منه كان من آثار الرياضة وهي آثار طبيعية غريبة تحصل لكل من كاف في طبعه استعداد وتعاني الرياضة بشروطها سواء أكان مسلماً - صالحاً أو فاجراً - أم كافراً، فأما الكرامات الحقيقية فلا دخل فيها لقوى النفس. فلما وقعوا في ذلك   (1) قلت: الإخبار عما في نفس الغير ليس من الجزئيات القريبة، بل هو من خصوصيات الله تبارك وتعالى، (تعلم ما في نفسي ... ) فيستحيل أن يصل إلى هذه المرتبة من يتعاطى الرياضة من مؤمن أو كافر، ونحوه الإخبار بموت الغائب، أو بقدومه، نعم هذان الأمران الأخيران ونحوهما قد يكون من وحي الشيطان الجني الذي يسترق السمع إلى الشيطان الإنسي، أو يمكنه بحكم جبلته أن يطلع على موت فلان، قبل أن يطلع عليه البعيد عنه من بني الإنسان، فيخبر به من يريد أن يضله من الإنس كهؤلاء المرتاضين الذي يتحدث عنهم المصنف رحمه الله تعالى. ومثله قدوم الغائب، ومكان الضالة ونحو ذلك، فهذه أمور ميسورة للجن، فيطلعون بعض الإنس بما لا ضلالهم (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً) ، وأما الإطلاع على ما في الصدور والإخبار به فليس في طوق أحد منهم إلا بإخبار الله عز وجل من شاء من عباده الذين ارتضاهم لرسالته كما قال (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه = أحداً إلا من أرتضى من رسول ... ) . نعم ليس من هذا القبيل ما يلهمه الرجل الصالح، ثم يقع كما ألهم، لأنه لوسئل عنه قبل ذاك لم يستطع الجزم به، فلأنه لم يدري أمن إلهام الرحمن هو أم من وحي الشيطان؟ بخلاف النبي (قالت من أنبأك هذا قال: نبأني العليم الخبير) . وليس منه أيضاً ما يتنبأ به الإنسان بفراسته وملاحظته الدقيقة التي لا يتنبه لها غيره، وقد وقع لي شخصياً من هذا النوع حوادث كثيرة لولا أنني كنت أبادر إلى الكشف عن أسبابها الطبيعية لظنها الناس كشفاً صوفياً! فمن ذلك أنني كنت يوماً في حلقة الدرس أنتظر أن يكتمل الجمع، إذ قلت لمن عن يميني - وهو حي يرزق - بعد قليل يدخل فلان - لشاب سميته. فلم يمضي سوى لحظات حتى دخل! فنظر ألي جليسي دهشاً كأنه يقول: أكشف؟ فقلت: لا بل هي الفراسة. ثم شرحت له سر المسألة، وذلك أن الشاب المشار إليه أعرف أن له دراجة عادية يأتي عليها إلى الدرس وأعرف أيضا أن الراكب لها إذا أراد النزول عنها أوقف تحريك رجليه إذا اقترب من = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وجد الشيطان مسلكاً للسلطان على بعض أولئك الأفراد بمقدار مخالفتهم للسنة، فمنهم من كان عنده من العلم به عن دينه كما نقل عن أبي سليمان الداراني أنه قال: «ربما تقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياماً فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين - الكتاب والسنة» ذكرها ونحوها من كلامهم أبو إسحاق الشاطبي في (الاعتصام) 106 - 121. ومنهم من سلم لهم أصل الإيمان لكن وقع في البدع العملية، ومنهم من كان سلطان السلطان عليه أشد فأو قعه في أشد من ذلك كما ترى الإشارة إلى بعضه في ترجمة رياح بن عمروالقيسي من (لسان الميزان) . ثم صار كثير من الناس يتحرون العزلة والجوع والسهر لتحصيل تلك الآثار، فقوي سلطان الشيطان عليهم، ثم نقلت مقالات الأمم الأخرى ومنه الرياضة وشرح ما تثمره من قوة الإدراك والتأثير،   = المكان الذي يريد النزول عنده، وأنه عند ذاك يسمع منها صوت بعض مسنناتها، وكانت دراجة الشاب من النوع المعروف ب (السباقية) ، والصوت الذي يسمع منها عند النزول أنعم من الأخريات، وكان هو الوحيد الذي يركبها من بين الذين يحضرون الدرس عادة، فلما أراد النزول، وأوقف رجليه طرق سمعي ذلك الصوت، فعرفت أنه هو، وأخبرت جليسي به، فكان كذلك! وقد اتفق لي مراراً - ويتفق مثله لغيري - أنني وأنا في صدد تقرير مسألة يقوم بعض الحاضرين يريد أن يسأل، فأشير إليه بأن يتمهل، فإذا فرغت منها قلت له: الآن فسل. فيقول: ما أردت السؤال عنه قد حصل! فأقول: أهذا هو الكشف؟ ! فمثل هذه الإجابة قد تقع تارة عفواً، وتارة بقصد من المدرس الذي بحكم مركزه قد ينتبه لما لا ينتبه له الحاضرون فيعرف من علامات خاصة تبدوا له من الذي يريد السؤال ما هو سؤاله فيجيبه قبل أن يسأل! فيظن أنه كثير من الناس أنه كشف أو إخبار عما يضمر في نفسه - وإنما هو الظن والفراسة، ويستغل ذلك بعض الدجالين فيلقون في نفوس مريديهم أنهم يطلعون على الضمائر، وأنهم يعلمون الغيب، فيتقبلون ذلك منهم ببساطة وسلامة قلب، حتى أن الكثير منهم لا يسافرون، ولا يأتون عملاً يهمهم، إلا بعد موافقة شيخهم عليه، فكأنه عندهم (بكل شيء عليم) . والله المستعان.ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 فضمها هواتها إلى ما سبق، ملصقين لها بالعبادات الشرعية، تعاطيها من الخائضين في الكلام والفلسفة، فمنهم من تعاطاها ليروج مقالاته المنكرة بنسبتها إلى الكشف والإلهام الروحي، ويتدرع عن الإنكار عليه بزعم أنه من أولياء الله تعالى، ومنهم من تعاطاها على أمل أن يجد فيها حلاً للشكوك والشبهات التي أو قعه فيها التعمق في الكلام والفلسفة. ومن أول من مزج التصوف بالكلام الحارث المحاسبي، ثم اشتد الأمر في الذين أخذوا عنه فمن بعدهم، وكان من نتائج ذلك قضية الحلاج، ولعله كان في أقران الحلاج من هو موافق له في الجملة، بل لعل فيهم من هو أوغل منه إلا أنهم كانوا يتكتمون، ودعا الحلاج إلى إظهار ما أظهره حب الرياسة. وكذلك الفارابي وابن سينا نتقاً من ذلك. وكذلك في كلام متفلسفي المغاربة كابن باجة وغيره. وهكذا الباطنية كانوا ينتحلون التصوف، فلما جاء الغزالي نصب منصب الكلام والفلسفة الباطنية، وزعم أن الحق لا يعدوا هذه الأربع المقالات، وقضى ظاهراً للتصوف مع ذكره كفيره أن طائفة من المتصوفة ذهبوا إلى الأباحة المحضنة، وفي ذلك نبذ الشرائع البتة، ثم لم يزل الأمر يشتد حتى جاء ابن عربي وابن سبعين التلمساني، ومقالاتهم معروفة، ومن تتبع ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة وأئمة التابعين، وما يصرح به الكتاب والسنة وآثار السلف، وأنعم النظر في ذلك، ثم قارن ذلك بمقالات هؤلاء القوم علم يقيناً أنه لا يمكنه إن لم يغالط نفسه أن يصدق الشرع ويصدقهم معاً، وإن غالط نفسه وغالطته، فالتكذيب ثابت في قرارها ولابد. هذا والشرع يقضي بأن الكشف ليس مما يصلح الاستناد إليه في الدين، ففي (صحيح البخاري) من حديث أبي هريرة «سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وسلم يقول: لم يبق من النبوة إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة» . وورد نحوه من حديث جماعة من الصحابة ذكر في (فتح الباري) منها حديث ابن عباس عند مسلم وغيره، وحديث أم كرز عند أحمد وابن خزيمة وابن حبان، وحديث حذيفة بن أسيد عند أحمد والطبراني، وحديث عائشة عند أحمد، وحديث أنس عند أبي يعلي. (1) وفيه حجة على أنه لم يبق مما يناسب الوحي إلا الرؤيا، اللهم إلا يكون بقي ما هو دون الرؤيا فلم يعتد به، فدل ذلك أن التحديث والإلهام والفراسة والكهانة والكشف كلها دون الرؤيا، والسر في ذلك أن الغيب على مراتب. الأولى: ما لا يعلمه إلا الله، ولم يعلم به أحداً أو أعلم به بعض ملائكته. الثانية: ما قد علمه غير الملائكة من الخلق. الثالثة: ما عليه قرائن ودلائل إذا تنبه لها الإنسان عرفه كما ترى أمثلة ذلك فيما يحكى من زكن إياس والشافعي وغيرهما، فالرؤيا قد تتعلق بما هو من المرتبة الأولى لكن الحديث يقضي أنه لم يبق منها إلا ما كان على وجه التبشير فقط وفي معناه التحذير، والفراسة تتعلق بالمرتبة الثالثة، وبقية الأمور بالمرتبة الثانية، وإنما الفرق بينها والله أعلم أن التحديث والإلهام من إلقاء الملك في الخاطر، والكهانة من إلقاء الشيطان، والكشف قوة طبيعية غريبة كما يسمى في هذا العصر قراءة الأفكار. نعم قد يقال: أن الرياضة قد تؤهل صاحبها لأن يقع له في يقظته ما يقع له في نومه فيكون الكشف ضرباً من الرؤيا. وأقول: إن صح هذا فقد تقدم أن الرؤيا قصاراها التبشير والتحذير، وفي   (1) قلت: قد خرجتها وغيرها في «إرواء الغليل» (2539) ، وبعضها في الأحاديث الصحيحة» (468) ن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الصحيح (1) «أن الرؤيا قد تكون حقاً وهي المعدودة من النبوة، وقد تكون من الشيطان، وقد تكون من حديث النفس» ، والتمييز مشكل، ومع ذلك فالغالب أن تكون على خلاف الظاهر حتى في رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما قص من ذلك في القرآن، وثبت في الأحاديث الصحيحة، ولهذه الأمور اتفق أهل العلم أن الرؤيا لا تصلح للحجة، وإنما هي تبشير وتنبيه وتصلح للاستئناس بها إذا وافقت حجة شرعية صحيحة كما ثبت عن ابن عباس أنه كان يقول بمتعة الحج لثبوتها عنده بالكتاب والسنة، فرأى بعض أصحابه رؤيا توافق ذلك فاستبشر ابن عباس. هذا حال الرؤيا فقس عليه حال الكشف إن كان في معناها. فأما إن كان دونها فالأمر أوضح، وتجد في كلام المتصوفة أن الكشف قد يكون حقاً، وقد يكون من الشيطان، وقد يكون تخيلاً موافقاً لحديث النفس، وصرحوا بأنه كثيراً ما يكشف للجل بما يوافق رأيه حقاً كان أو باطلاً، ولهذا تجد في المتصوفة من ينتسب إلى أهل الحديث ويزعم أنه يكشف له بصحة مذهبه، وهكذا تجد فيهم الأشعري والمعتزلي والمتفلسف وغيرهم، وكل يزعم أنه يكشف له بصحة مذهبه، ومخالفه منهم لا يكذبه ولكنه يكذب كشفه، وقد يكشف لأحدهم بما يوافق الفرقة التي ينتسب إليها، وإن لم يكن قد عرف تلك المقالات من قبل، كأنه لحسن ظنه بهم وحرصه على موافقتهم إنما تتجه همته إليهم فيقرأ أفكارهم وترتسم في مخيلته أحوالهم. فالكشف إذن تبع للهوى، فغايته أن يؤيد الهوى ويرسخه في النفس ويحول بين صاحبه وبين الاعتبار والاستبصار، فكان الساعي في أن يحصل له الكشف، إنما   (1) قلت: المراد بـ (الصحيح) عند الإطلاق أحد (الصحيحين) ، وعلى هذا الاصطلاح جرى المصنف فيما سبق، وهذا أن معناه أن الحديث عند أحدهما، وليس كذلك، فأما أنه وهم في عزوه لـ (الصحيح) ، أو أنه تسامح في التعبير، يعني أنه «وفي الحديث الصحيح» وليس في «الجامع الصحيح» ، وإنما أخرجه الترمذي وابن ماجة. ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 يسعى في أن يضله الله عز وجل، ولا ريب أن من التمس الهدى من غير الصراط المستقيم مستحق أن يضله الله عز وجل، وما يزعمه بعض غلاتهم من أن لهم علامات يميزون بها بين ما هو حق من الكشف وما هو باطل، دعوى فارغة، إلا ما تقدم عن أبي سليمان الداراني، وهو أن الحق ما شهد له الكتاب والسنة، ولكن المقصود الشهادة الصريحة التي يفهمها أهل العلم من الكتاب والسنة بالطريق التي يفهمها بها السلف الصالح. فأما ما عرف عن المتصوفة من تحريف النصوص بما هو أشنع وأفظع من تحريف الباطنية فهذا لا يشهد لكشفهم، بل يشهد عليه أوضح شهادة بأنه من أبطل الباطل. أولاً لأن النصوص بدلالتها المعروفة حجة فإذا شهدت ببطلان قولهم علم أنه باطل. ثانياً لأنهم يعترفون أن الكشف محتاج إلى شهادة الشرع، فإن قبلوا من الكشف تأويل الشرع، فالكشف شهد لنفسه فمن يشهد له على تأويله؟ وأما التحديث والإلهام ففي (صحيح البخاري) وغيره من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فأنه عمر» . وأخرجه مسلم من حديث أبي سلمة عن عائشة، وفيه «فإن يكن في أمتي منهم أحد فأن عمر بن الخطاب منهم» وجاء في عدة روايات تفسير التحديث بالإلهام. وهذه سيرة عمر بين أيدينا لم يعرف عنه ولا عن أحد من أئمة الصحابة وعلمائهم استدلال بالتحديث والإلهام في القضايا الدينية، بل كان يخفي عليهم الحكم فيسألون عنه، فيخبرهم إنسان بخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصيرون إليه، وكانوا يقولون القول، فيخبرهم إنسان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلافه فيرجعون إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وأما الفراسة، فإن المتفرس يمكنه أن يشرح لغيره تلك الدلائل التي تنبه لها، فإذا شرحها عرفت فإن كانت مما يعتد به عملت بها لا بالفراسة. فصل مهما يكن في المأخذين الخلفيين من الوهن فإننا لا نمنع أن يستند إليها فيما ليس من الدين ولا يدفعه الدين، بل لا ندفع أن يكون فيهما ما يوصل في كثير من ذلك إلى اليقين، فإن الشرع لم يتكفل ببيان ما ليس من الدين. وكذلك لا نرى كبير حرج في الاستئناس بما يوافق المأخذين السلفيين بعد الاعتراف بأنهما كافيان شافيان، إذ لا يلزم من كفايتهما أن لا يبقى في غيرهما ما يمكن أن يستدل به على الحق، وإنما الممنوع الباطل هو زعم أنهما غير وافيين ببيان الحق في الدين. ولم يقتصر المتعمقون على هذا الزعم الباطل، بل صاروا إلى عزلهما عن بيان الحق في العقائد البتة، حتى آل بهم الضلال إلى نسبة الكذب إلى الرسل عليهم الصلاة والسلام، بل إلى رب العالمين سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الباب الثاني: في تنزيه الله ورسله عن الكذب المتعمقون يردون كثيراً من نصوص الكتاب والسنة في العقائد، فمنهم من ردها مع تصريحه بأن كثيراً منها لا يحمل إلا المعاني التي يزعم أنها باطلة، ويزعم أن الشرع إنما أتي بها مجاراة لعقول الجمهور ليمكن انقيادهم للشرع العملي. ومنهم من زعم أنها غير صالحة للحجة في العقائد مطلقاُ، زاعماً أن ظهورها في معنى اعتقادي أو صراحتها فيه، اومبالغتها في تأكيده، كل ذلك لا يمكن أن يعلم به أن ذاك المعنى هو مراد المتكلم لدلالة النظر العقلي المتعمق فيه، أو الكشف التصوفي على بطلان كثير من تلك المعاني في زعمه واحتمال مثل ذلك في الباقي. ومنهم من لم يصرح بما ولكنه قدم غيرها عليها وتعسف في تأويلها تعسفاً مخرجاً عن قانون الكلام، أو اقتصر - مع زعمه أن المعاني المفهومة منطا باطلة - على زعم أن لها معاني أخرى صحيحة لا حاجة إلى معرفتها. فتحصل من كلامهم حملهم لتلك النصوص على الكذب، أما القول الأول فواضح، وأما الثاني فقريب منه كما يأتي، وأما الثالث فيلزمه ذلك. تنزيه الله تبارك وتعالى عن الكذب مما علم من الدين بالضرورة وشهدت به الفطرة السليمة والعقول المستقيمة أن من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 المحال الممتنع أن يقع الكذب من رب العالمين، وكيف يتصور وقوعه منه؟ وهو عالم الغيب والشهادة القادر على كل شيء، الغني عن كل شيء، الحكيم الحميد الذي له الحمد كله، وإنما تخبط في ذلك متأخروا الأشعرية. وكأن الموقع لهم في التخبط ما ألزمهم به المعتزلة في مسألة القدر، - والخوض في القدر أم كل بلية - ولأمر ما ورد في الشرع النهي عن ذلك وشدد فيه السلف. وإيضاح هذا أن الأشعرية لما صار قولهم إلى أن العباد مجبورون على أفعالهم، قال لهم المعتزلة: كيف يجبر الله تعالى خلقه على الكفر والفجور ثم يعاقبهم عليه، وهذا قبيح ومفسدة والله تعالى منزه عن القبائح، وأفعاله مبنية على المصالح، فاضطرب الأشعرية في هذا ثم لم يجدوا محيصاً إلا أن يجحدوا هذين الأصلين، فقالوا: الأفعال كلها سواء عند العقل ولا يدرك منها حسناً ولا قبحاً، والله عز وجل لا يفعل لشيء، ولا لأجل، إنما يفعل ما يريده، وإرادته لا تعلل بشيء البتة. فقال المعتزلة: فيلزمكم أن يجوز عقلاً أن يكذب الله تعالى، فحاول بعض الأشعرية التملص من هذا الإلزام بوجهين: الأول: أن الكذب نقص والله سبحانه منزه عن النقص. الثاني: أنه لو جاز لكان قديماً، وما ثبت قدمه استحال عدمه فيمتنع الصدق. فلم ير بقية الأشعرية هذين الوجهين شيئاً. أما الأول فلأنه لم يقم برهان عندهم - زعموا - على براءته تعالى من النقص، ومن قال منهم بالبراءة، إنما يقول به في الصفات لا في الأفعال، فأما النقص في الأفعال فهو القبح العقلي الذي ينكرونه. وأما الثاني فلإنه لو تم يختص بما يسمونه الكلام النفسي، والنزاع إنما هو في الكلام اللفظي. فصار الأشعرية إلى التزام أنه يجوز عقلاً أن يقع الكذب من الله تبارك وتعالى، ثم حاولوا القول بأنه وإن جاز عقلاً فلا يقع، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 أخبر بأن كلام الله تعالى كله صدق. فقالت المعتزلة: إنما ثبتت نبوة النبي بإخبار الله عز وجل بأنه صادق، وذلك بإظهار المعجزة على يده إظهار مستلزماً لذاك الإخبار، إذ هو بمنزلة أن يقول تعالى: صدق في دعواه أنني أرسلته.قالوا: فإن كان العقل يجوز وقوع الكذب من الله تعالى جاز أن يكون هذا الخبر كذباً، فلا يكون مدعي النبوة نبياً، فتجويزكم عقلاً أن يقع الكذب من الله تعالى يلزمه أن لا تثبت نبوة محمد يكون لكم أن تحتجوا على نفي وقوعه بخبر؟ أجاب الأشعرية بأن دلالة المعجزة على صدق مدعي النبوة عادية، وذلك أن الله تعالى أجرى العادة بخلق العلم بالصدق عقبها، قالوا: «فإن إظهار المعجز على يد الكاذب وإن كان ممكناً عقلاً فمعلوم انتفاؤه عادة» . قال العضد: «وقد ضربوا لهذا مثلاً قالوا: إذا ادعى الرجل بمشهد الجم الغفير أني رسول هذا الملك إليكم، ثم قال الملك: إن كنت صادقاً فخالف عادتك وقم من الموضع المعتاد لك من السرير واقعد بمكان لا تعتاده، ففعل كان ذلك بمنزلة التصديق بصريح مقاله ولم يشك أحد في صدقه بقرينة الحال، وليس هذا من باب قياس الغائب على الشاهد، بل ندعي في إفادته العلم بالضرورة العادية، ونذكر هذا للتفهيم» . أقول: الذين شاهدوا المعجزات لم يوقنوا جميعاً بل بقي كثيرون منهم مرتابين، وفي القرآن كثيرة نصوص تصرح بذلك، وهذا يدفع أن يكون الله عز وجل أجرى العادة بخلق العلم بالصدق عقب المعجزة. فإن قيل، الذين بقوا مرتابين إنما ارتابوا لعدم علمهم بأن ذلك فعل الله عز وجل بل جوزوا السحر. قلت: فإذا لم يقع العلم بالصدق إلا لمن علم أن ذلك فعل الله عز وجل فهذا نظير المثال الذي ذكروه، فلوفرضنا فيه أن ذلك الجم الغفير كانوا يعتقدون أن الملك لا يبالي أصدق أم كذب ولا أَفَعَل ما تقتضيه الحكمة أم ما آتاه، لم يحصل لهم بقيامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وقعوده أدنى ظن، فصلاً عن الظن الغالب، فضلاً عن العلم، فأما إذا كانوا يعتقدون أنه لا يفعل شيئاً لأجل شيء فالأمر أشد. فثبت أن الذين يعلمون أن المعجزة من فعل الله عز وجل وإنما يصدقون لا اعتقادهم أن الله تعالى منزه عن أن يقع منه الكذب أو فعل مناقض للحكمة، وهذا الاعتقاد هو مقتضى الفطر الزكية والعقول النقية وهو اعتقاد كل من يؤمن حق الإيمان بوجود الله تعالى وكمال علمه وقدرته حتى من الأشاعرة أنفسهم، يعتقدون ذلك بمقتضى فطرهم، وإن أنكروا بألسنتهم. تنزيه الأنبياء عن الكذب من المعلوم من الدين بالضرورة أن الأنبياء صادقون في كل ما أخبروا به عن الله عز وجل، وأن من كذب نبياً في خبر من ذلك فقد كفر، ومعلوم أن جميع ما أخبر به الأنبياء في شؤون الدين فهو إخبار عن الله عز وجل، وهذا من الوضوح عند المسلمين بحيث يستغني عن إيراد حججه. فإن قيل: قد جوز بعض الناس أن يقول النبي في الدين باجتهاده، ومن هؤلاء من جوز أن يخطئ النبي لكنه إن أخطأ نبهه الله عز وجل فوراً، ولعل من يجيز من هؤلاء تأخير البيان إلى وقت الحاجة يجيز تأخير التنبيه إلى وقت الحاجة. قلت: إن جاز الخطأ فإنما يخبر النبي بأنه يظن، ومن قال: أظن كذا، إنما أخبر بأنه يظن، فإذا كان يظن ما ذكر فقد صدق، فإن بان خطأ ظنه لم يقل له: كذبت، وإن قيل: كذب ظنك، فأما الأمور الدنيوية فخبر الأنبياء عنها إن تضمن خبراً عن الله عز وجل فكالأمور الدنيوية، وإلا فالمعروف بين أهل العلم من المسلمين أن الأنبياء معصومون عن تعمد الكذب فيها، وأو رد على ذلك كلمات إبراهيم عليه السلام. وفي (الصحيحين) من حديث أبي هريرة مرفوعاً: «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ... » فذكر تلك الكلمات، وفي (مسند أحمد) من حديث ابن عباس نحوه، وفي (الصحيحين) من حديث أنس مرفوعاً ذكر فزع الناس إلى الأنبياء يوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 القيامة يسألونهم الشفاعة، فيأتون آدم فنوحاً فإبراهيم فموسى فيعتذر كل من هؤلاء بتقصير كان منه في الدنيا، فيذكر آدم أكله من الشجرة، وموسى قتله النفس. وفيه في ذكر إبراهيم: «فيقول: لست هناكم - ويذكر خطيئته» . زاد مسلم: «التي أصاب فيستحي ربه منها» وفي رواية للبخاري في «كتاب التوحيد» : فيقول: لست هنا كم - ويذكر خطاياه التي أصابها» وفي أخرى: «ويذكر ثلاث كذبات كذبهن» وفي (الصحيحين) من حديث أبي هريرة مرفوعاً وفيه قول إبراهيم في عذره: «إن ربي قد غضب اليوم ... وإني كنت كذبت ثلاث كذبات» لفظ البخاري في تفسير سورة (الإسراء) ، ولفظ مسلم: «إن ربي قد غضب اليوم ... ، وذكر كذباته» وقد جاء الحديث من رواية جماعة آخرين من الصحابة. فإطلاق الخليلين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام على تلك الكلمات «كذبات» يدفع أن تكون من المعاريض التي لا راحة للكذب فيها. ويؤكده أن نبينا كان شديدا التقير لأبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وصح عنه أنه قال: «نحن أولى بالشك من إبراهيم ... » وقال له رجل: يا خير البرية، فقال: «ذاك إبراهيم» فكيف يظن به أن يقول: «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات» وه يعلم أنها ليس من الكذب في شيء، مع أنه تحرى في هذا الحديث الثناء على إبراهيم فبين أنه لم يقع منه كذب إلا تلك الثلاث ثم قال: «ثنتين منهم في ذات الله عز وجل، وقوله: «إِنِّي سَقِيمٌ» وقوله: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا» ، وقال: بينا هو ذات يوم وسارة (يعني امرأته) إذ أتي على جبار من الجبابرة ... » . فإن قيل: قد يكون الكلام من تأكيد المدح بما يشبه الذم كقول النابغة: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب قلت: إنما يحسن مثل هذا حيث يكون المستثنى واضح من المستثنى منه، وليس الأمر هنا كذلك، وقد سماها في الحديث الآخر «خطايا» ونظمها في سلك أكل آدم من الشجرة وقتل موسى للنفس، وحكم إبراهيم بأنها تقصر به عن مقام الشفاعة، وتتقضى إستحياءه من ربه لأجلها فالجواب عن تلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 الكلمات بأنها ليس بكذب كما ترى. وثم وجب آخر وهو أن تلك الكلمات وقعت من إبراهيم عليه السلام قبل نبوته، وكما أن قتل موسى للنفس كذلك فقد قص الله تعالى عنه أنه ذُكر بتلك الفعلة فقال: «قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ. فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ» الشعراء: 20-21. وقريب من ذلك حال آدم، فإن أكله من الشجرة كان في الجنة قبل النبوة المعتادة.وقد قال الله تعالى في القصة التي ذكر فيها قول إبراهيم: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا» ، وهي إحدى الكلمات: «قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ... قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ» الأنبياء: 59 - 63. والكلمة الثانية وهي قوله: «إِنِّي سَقِيمٌ» ، كانت قبل ذلك. فأما الثالثة وهي قوله: «هي أختي» فالظاهر والله أعلم أنها بعد ذلك، ولكن في سياق القصة ما قد يشعر بأنها كانت قبل النبوة، فإطلاقهم عليه «فتى» ظاهر في أنه يومئذ لم يبلغ أربعين سنة، فإن الفتى هو الشاب الحدث كما في (المصباح) ، وقد صرح كثير من أهل العلم أن الأنبياء إنما نبئوا بعد بلوغ كل منهم أربعين سنة كما وقع لنبينا عليه الصلاة والسلام، ز جزم به القاضي أبوبكر ابن العربي وآخرون، وتاولوا ما في قصتي يحيى وعيسى، وقال قوم: إن ذلك هو الغالب. فإن قيل: فإن اثنتين من تلك الكلمات وقعتا في صدد دعوته قومه إلى التوحيد، والثالثة يظهر أنها بعد ذلك، فكيف يدعوقبل النبوة؟ قلت: قد كان هداه الله تعالى من صباه بتوجيه نظره إلى الآيات الكونية، قال الله عز وجل: «وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ» . ثم ذكر القمر والشمس «فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 تُشْرِكُونَ ... إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ... » الأنعام: 75 - 80. فكان يحاج قومه بما هداه الله إليه بنظره. فإن قيل: لو كانت تلك الثلاث قبل النبوة لذكر معها قوله: هذا ربي، فإن هذه أشد. قلت: قد ذكر في بعض الروايات لكن قيل إنه خطأ من الرواي. وعلى هذا فقد يقال إنما تذكر تلك الكلمة لأنها كانت في الطفولة فيما قاله بعض أهل العلم وتلك الثلاث كانت بعد البلوغ. وفي هذا نظر، فإن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات» يعم الطفولة. وقد يقال: إنما لم يذكرها لأن إبراهيم لم يرد بها الإخبار، وإنما أراد الاستفهام الإنكاري. وهذا القول حكاه ابن جرير عن بعض أهل النظر، ورده، وروي عن ابن عباس ما ينص على أن الكلام على الإخبار وأن إبراهيم فعل ما يوافق ذلك، ولم يذكر عن أحد من السلف خلافه، ومع هذا فمن مال إلى هذا التأويل من أهل النظر وجّهوه بأن إبراهيم أراد في نفسه الاستفهام، وأراد في الظاهر إيهام قومه أنه موافق لهم ليكون ذلك أقرب إلى جرهم إلى الحق، وعلى هذا فهذه الكلمة أشد من تلك الثلاث، والحديث السابق يأبى ذلك كما مر. فإن قيل: أفليس الأنبياء معصومين عن الكفر مطلقاً؟ قلت: ليس هذا بكفر في حكم الشرع، فإن إبراهيم عليه السلام قال ذلك قبل أن تعرض عليه، فضلاً عن أن تقوم عليه حجة بنظر ولا غيره وهو حريص على معرفة الحق، باذل وسعه في تحصيلها، صادق العزم على اتباع الحق على كل حال، ليس في نفسه شائبة هوى في غير الحق، فإن كان ذلك في الطفولة كان الأمر أوضح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 فإن قيل: فعلى هذا أيضاً يبقى الإشكال بحاله أو أشد فإن قوله: «هذا ربي» يكون خبراً مخالفاً للواقع ظاهراً وباطناً، وتلك الثلاث إن كان الخبر فيها مخالفاً الواقع فظاهراً فقط. قلت: تلك الثلاث كانت عمداً أي أن إبراهيم كان يعلم أن الظاهر غير واقع، وأم قوله: «هذا ربي» فخطأ محض غير مؤاخذ به (1) . والمتبادر من قولهم «لم يكذب فلان» نفي أن يكون وقع منه إخبار بخلاف الواقع يلام عليه، وفي (صحيح مسلم) في أحاديث البكاء على الميت «فقالت عائشة: يغفر الله لأبي عبد الرحمن أما إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ» وفي رواية «قالت: إنكم لتحدثون عن غير كاذبين ولا مكذبين ولكن السمع يخطيء» . وقولهم: «كذب فلان» المتبادر منه أنه تعمد أو أخطأ خطأ حقه أن يلام عليه، ومن ذلك حديث «كذب أبو السنابل» وقول عبادة: «كذب أبو محمد» وقول ابن عباس: «كذب نوف» وما أشبه ذلك، والكذب لغة هو مخالفة الخبر - أي ظاهره الذي لم تنصب قرينة على خلافه - للواقع مطلقاً، لكن لشدة قبح الكذب وأن العمد أغلب من الخطأ كان قولنا: «كذب فلان» مشعراً بذمه فاقتضى ذلك أن لا يؤتى بذلك حيث ينبغي التحرز عن الإشعار بالذم. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. هذا، ولم يرد إبراهيم عليه السلام بقوله: «هذا ربي» ، رب العالمين، وإنما بنى على ما كان يقوله قومه في الكواكب أن أرواح الملائكة متعلقة بها مدبرة بواسطتها ما أقدرها الله عليه، أو شافعه إليه، ولما رأو اأن الكواكب لا تكون ظاهرة أبداً اتخذوا الأصنام تذكارات لها ولأرواحها، وكانوا يعبدون الأصنام والكواكب   (1) هذا هو الجواب عن عدم ذكرها مع الثلاث، ثم ظهر لي جواب آخر، وهو أن قوله «هذا ربي» لم يكن إخباراً منه لغيره بل لعله لم يكن عنده أحد وإنما قال ذلك على وجه الاعتراف كالمخاطب لنفسه، وجواب ثالث وهو أن القرائن تدل أنه إنما بنى على ظنه فكأنه قال: «أظن هذا ربي» ومن ظن أمراً فأخبر بأنه يظنه فهو صادق وإن أخطأ ظنه كما مر ويأتي إيضاحه. المؤلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 تقرباً إلى تلك الأرواح، ويقولون: أن الله رب الأرباب وآله الآلهة وقد أوضحت هذا بدلائله من الكتاب والسنة وأقوال السلف والآثار التاريخية والمقالات في كتاب (العبادة) ولله الحمد. وعلى كل حال فتلك الكلمات أن ترجح أنها داخلة فيما يسمى كذباً فهي من أخف ذلك وأهونه ولنبين ذلك في إحداها: دخل إبراهيم ومعه امرأته (سارة) بلداً كان ملكه جباراً، إذا سمع بامرأة جميلة أخذها فإن كان لها زوج بطش به، فلما سمع الجبار بسارة أرسل إلى إبراهيم فسأله عنها فخاف أن يقول: امرأتي، فيبطش به، وأن يقول: أجنبية عني، فيقال: فما شأنك معها؟ فقال: هي أختي، واراد الأخوة الدينية. فإطلاق أخ وأخت في الأخوة الدينية شائع ذائع، فاحتمال الخبر للمعنى الواقع قريب كما ترى، ومع ذلك فهناك قرينة من شأنها إذ تبه لها المخاطب أن توهن الظاهر، وهي أن تلك الحال يحتاج من وقع في مثلها إلى التورية والإيهام خلاف الواقع ليدفع عن نفسه الظلم، ويدفع عن مخاطبيه الوقوع في الظلم، ولا تترتب على ذاك الإيهام مفسدة، فقد يقال: إن هذه الحال إذا نظر إليها على هذا الوجه ولوحظ أن الخبر محتمل إحتمالاً قريباً لغير ظاهره صار الخبر مجملاًَ محتملاً لكل من المعنيين على السواء، فعلى هذا لا يكون كذباً. لكن قد يرد على هذا أن تلك الحال إذا لوحظت إنما تقتضي أن من وقع فيها قد يترخص في الكذب، فالاعتداد بها لا يبرئ الخبر عن إسم الكذب، ألا ترى أنه لوعلم الجبار بالواقع لكان له أن يقول لإبراهيم: لم كذبت؟ وعلى كل حال فالأحاديث أطلقت على تلك الكلمات: كذبات، فإن كانت كذلك حقيقة فقد يتعين أنها كانت قبل النبوة كما مرة، وإلا فسواء أكانت قبلها أم بعدها فالأحاديث صريحة بأنها - بالنظر لما فيها من شبه الكذب - هي مما يعد وقوعه من مثل إبراهيم عليه السلام خطيئة، فينبغي أن لا يكون وقع مثلها فضلاً عما هو أشد منه من محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه مبعوث إلى الناس كافة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 حين بعث إلى يوم القيامة فالعناية بشأنه آكد، وهذا هو الواقع. أما قبل النبوة فقد شهد له أعدائه بالصدق والأمانة حتى سموه «الأمين» ، ولم يستطيعوا مع إسرافهم في عداوته، واضطرارهم إلى صد الناس عن إتباعه، أن يذكر أحدهم أنه كذب أو وقع منه ما يشبه الكذب، وقد سئل هرقل أبا سفيان أشد المشركين عدواة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ وأحرصهم على أن يعيبه كما يعلم من سياق القصة في أوائل (صحيح البخاري) وغيره، قال هرقل: فهل كنتم تتهمونه (يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم) بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ (يعني قبل النبوة) قال أبو سفيان: لا، ثم قال هرقل: فقد أعرف إن لم يكن ليذر (1) الكذب على الناس ويكذب على الله. وقال الله تبارك وتعالى لرسوله: «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» الأنعام: 33. يعني والله أعلم لا ينسبونك إلى تعمد الكذب، وهذا بين واضح من كلماتهم، كقولهم: «مجنون» أي لا يعقل ما يقول، «كاهن» أي تلقي إليه الشياطين ما تلقي فيحسبه من عند الله. فأما قولهم: «شاعر» فقصدوا به توجيه بلاغة القرآن. وأما قولهم: «ساحر» فقصدوا به توجيه المعجزات، ومنها بلاغة القرآن وعجزهم عن معارضته. فإن كان في كلماتهم ما فيه ذكر تعمد الكذب فذاك من باب اللجاج الذي يعرف قائله قبل غيره أنه لا يخفى بطلانه على أحد وإنما أعتني القرآن بحكاية ذلك وأبطاله إبلاغاً في إقامة الحجة، وليبين للناس أنه لا شبه لهم إلا مثل ذلك اللجاج، وهذا مثل ما قصه الله عز وجل من قول بعض اليهود (2) : «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ   (1) أي ليدع ويترك. م ع (1) هذا قول بعض المفسرين مستدلاً على ذلك برد الله عليه بإنزال التوراة التي يعترفون بها. ولكن السياق والأسلوب يدل على أن ذلك من قريش ورد الله عليهم بإنزال التوراة من باب الإفحام بما لا يمكن رده، وفشهرة التوراة وإنها كتاب الله مما لم يجحده قريش، فالحجة قائمة على جاحد الوحي من قريش بشهرة التوراة وأنها كتاب الله = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ» ، قال الله تعالى: «قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ» الأنعام: 91 حمل اللجاج ذلك اليهودي على أن جحد أساس دينه على حد قول الشاعر اقتلوني ومالكاً ... واقتلوا مالكاً معي وفي (جامع الترمذي) و (تفسير ابن جرير) وغيرهما بسند رجاله رجال (الصحيح) (1) . عن ناجية بن كعب قال: «قال أبو جهل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنا لا نكذبك،   = واعتراف جمهور الناس بذلك من يهود ونصارى وعرب وعجم. أفاده المحقق ابن القيم في بعض كتبه. م ع يقول المؤلف: جمهور المفسرين على أن القائلين بعض اليهود، وهو المنقول عن ابن عباس من رواية على بن أبي طلجة، وسيأتي في تفسير (قل هو الله أحد) رأي الشيخ في روايته، وعن عكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بع كعب القرضي والسدي وغيرهم، ويعنيه ويكاد قوله تعالى «تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً منها» هكذا قرأها جمهور القراء وقرأها ابن كثير وأبوعمروبالياء على الالتفات، وأما القول بأن القائلين من قريش فنقل عن مجاهد واختاره ابن جرير وقال: «والأصوب من القراءة في قوله (يجعلونه قراطيس ببدونها ويخفون كثيراً) أن يكون بالياء لا بالتاء» كذا قال، واستبعاد أن يقول بعض اليهود ذاك القول ليس في محله لأن اليهود بهت وقد قالوا «يد الله مغلولة» وقالوا «إن الله فقير ونحن أغنياء» قاتلهم الله أنا يؤفكون، وأما السياق والأسلوب فلا يقاوم دلالة «تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً منها» . على أنه لا مانع من الجمع بين الوجهين، القاتل من اليهود، وقريش توافقه على ذاك القول.والله أعلم. (1) قلت: لكن هذا السند ينتهي إلى ناجية بن كعب، وهو تابعي يروي عن علي، فالقصة مرسلة، بيد أن الترمذي قد وصله في إحدى رواياته وكذا الحاكم (2 / 315) عنه عن علي. وقال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين» . وأقره ابن كثير، ورده الذهبي في «التلخيص» بقوله: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 ولكن نكذب الذي جئت به» . وفي رواية: «ما نتهمك ولكن نتهم الذي جئت به» . وفي (تفسير ابن جرير) وغيره عن السدي قصة وقعت قبيل بدر وفيها: «فخلا الأخنس بأبي جهل فقال: يا أبا الحكم ... فقال أبو جهل: ويحك، والله إن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة فماذا يكون لسائر قريش» . وأما بعد النبوة فالأمر أوضح، فمن المشركين من كان مرتاباً فيما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم من استيقنت نفسه ولكنهم عاندوا، وكلا الفريقين عرفوا من حاله - صلى الله عليه وسلم - سابقاً ولاحقاً أنه لا مجال لاحتمال تعمده الكذب، وأن اتهامه بذلك مكابرة مفضوحة إلى حد أنهم رأوا أن أقرب منها أن يقولوا: مجنون، مع علمهم وعلم كل من عرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أعقل الناس. وفي (المستدرك) ج 3 ص 45 وغيره في قصة أبن أبي سرج لما جيء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليبايعه «فرفع رأيه منظر إليه ثلاثاً «ثم بايعه» ثم أقبل على أصحابه فقال: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أو مأت إلينا بعينك؟ فقال: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين» . (1) وجاءت قصة أخرى في   = «قلت: ما خرجنا لناجية شيئاً» . قلت: وأيضاً فقد قال الترمذي عقب الطريق الأول المرسل: «وهذا أصح» . (1) قلت: قال الحاكم عقبة «صحيح على شرط مسلم» . ووافقه الذهبي. قلت: وفيه أحمد بن المفضل وهو صدوق في حفظه شيء. عن أسباط بن نصر، وهو صدوق كثير الخطأ، كما في «التقريب» . وهما من رجال «الميزان» للذهبي، والآخر من «الضعفاء» له. ومن هذا الوجه أخرجه أبو داود أيضاً (2683 و4359) والنسائي (2 / 170) وإلى هذا وحده عزاه الحافظ في «الفتح» (6 / 120) وسكت عليه، وما بين = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 رجل من المشركين كان شديداً على المسلمين فنذر أحدهم قتله، ثم جاء المشرك ليسلم، فكف النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مبايعته مراراً، ثم بايعه، فقال الناذر: أني نذرت ... القصة، وفيها أيضاً: «أنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين» . فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب قتل الرجلين إما لأنه قد سبق منهما من شدة الكفر والإسراف ما أحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينالهما عاقبه في الدنيا والآخرة كما قص الله تعالى من دعاء موسى وهارون على آل فرعون: «رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ» يونس: 88. وأما لمعنى آخر يعلم بالتدبر وكأنه ألطف من هذا. فقد أحب - صلى الله عليه وسلم - قتل الرجلين، لكن كره أن يصرح بالأمر يذلك في تلك الحال لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل من جاءه تائباً، فأما إذا قتلا بدون أمر جديد منه فإنه يقال: إنهما قتلا بدون أمره، وكره أن يومض لأن الإيماض من شعار أهل الغدر لا ينبغي للأنبياء. أقول: فإذا لم ينبغي للأنبياء الإيماض في الحق لأنه في الجملة من شعار أهل الغدر فكيف ينبغي لهم (1) الكذب وهو نفسه قبيح مذموم؟ ! وقال ابن حجر في (الفتح) «باب الكذب في الحرب» : «قال   = المعكوفين، إنما وضعه المصنف بينهما إشارة ألا أنها ليست في «المستدرك» ، وإنما هي عند من ذكرنا بلفظ «فبايعه» . ن (1) كذا الأصل ولا غبار عليه في الأسلوب العربي: ففي القرآن: (وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا) وفيه (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) . أي لا يجوز، فلا أدري ما الذي ما الذي بدأ لفضيلة الشيخ محمد عبد الرزاق من هذه الكلمة «ينغى لهم» حتى كتب في الأصل فوقها كالمصحح لها «يجوز عليهم» مع أن المعنى واحد، واللفظ على الأسلوب القرآني فهو أفصح. ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 النووي: الظاهر إباحة الكذب حقيقة في الأمور الثلاثة، لكن التعريض أولى ... ولا يعارض ذلك ما أخرجه النسائي ... في قصة عبد الله بن سعيد بن أبي سرح ... » ثم قال ابن حجر: «والجواب المستقيم أن نقول: المنع مطلقاً من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يتعاطى شيئاً من ذلك وإن كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها، فإن المراد أنه كان يريد أمراً فلا يظهره، كأن يريد أن يغزووجهة الشرق فيسأل عن أمر في جهة الغرب ويتجهز للسفر ... » . أقول: كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد غزوة شرع في التجهيز وأمر أصحابه بذلك، فقد تكون هناك قرينة تشعر بالجهة التي يريد، وقد يكون هناك جاسوس لأهل تلك الجهة، فإذا رأى التجهز وعرف تلك القرينة أسرع فأنذرهم فتحرزوا، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول ما يدافع تلك القرينة ليلتبس الأمر على الجاسوس، فأما أن يتأخر ليعرف الحال فيسبقه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وإما أن يرجع إلى جهته فيخبرهم بأمر محتمل فلا يقوى الباعث لهم على التحرز. فإن التوريه تحصل بهذا وليس من لازمها أن يكون ما يقوله صلى الله عليه وآله وسلم ظاهراً في غير ما في نفسه. واختصاص النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون أفراد أمته بوجوب تنزهه عن كل ما يقال إنه كذب حكم معقول المعنى، لأن وقوع مثل ذلك منه صلى الله عليه وآله وسلم لا ينفعك عن احتمال ترتب المفاسد عليه. منها أنه لو ترخص في بعض المواضع لكان ذلك حاملاً على اتهامه في الجملة فيجر ذلك إلى ما عدى ذاك الموضع، وهو صلى الله عليه وآله وسلم مبلغ عن الله فوجب أن لا يكون منه ما قد يدعوإلى اتهامه ولو في الجملة. ومنها أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يزل منذ بعثه الله تعالى محارباً أو في معنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 المحارب فلو وقع منه شيء مما يقال إنه كذب في الحرب لجر ذلك إلى الارتياب في كثير من أخباره، إذ يقال: لعله كايد بها المشركين، لعله، لعله. ومنها أن الناس يقيسون فيقولون إنما ساغ ذلك في الحرب للمصلحة، فينبغي أن تكون هي المدار فيسوغ مثل ذلك للمصلحة ولو في غير الحرب فيرتابون في أكثر أخباره صلى الله عليه وآله وسلم حتى في الدين. ومنها أنه فتح باب للمحدثين ولكل من غلبه هواه، ولا يشاء أحدهم أن يندفع نصاً من النصوص النبوية إلا قال: إنما كان للمصلحة في عصره صلى الله عليه وآله وسلم. وهلم جراً، فيصبح الدين ألعوبة كما وقع فيه الباطنية. إلى غير ذلك من المفاسد التي تكون صغراها أكبر جداً من جميع المفاسد التي كانت تعرض في حروبه صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يمكنه أن يدفعها ببعض ما يقال: أنه كذب. فوجب أن تكون كلماته كلها حقاً وصدقاً. فأما الخطأ فلا ريب أن الأنبياء قد يخطئ ظنهم في أمور الدنيا، وأنهم يحتاجون إلى الأخبار بحسب ظنهم، لكنهم إذا احتاجوا إلى ذلك فإنما يخبر أحدهم بأنه يظن وذلك - كما تقدم - صدق، وحتى على فرض خطأ الظن، فمن ذلك ما جاء في قصة تأبير النخل، نشأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة وليست بأرض نخل، ورأى عامة الأشجار تثمر ويصلح ثمرها بغير تلقيح، فلا غروظن أن الشجر كلها كذلك، فلما ورد المدينة مر على قوم يؤبرون نخلاً، فسأل فأخبروه فأخبروه، فقال: «ما أظن يغنى ذلك شيئاً» وفي رواية «لعلكم لولم تفعلوا كان خيراً» فتركوه، فلم يصلح، فبلغه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإني لن أكذب على الله» . وفي رواية «إنما أنا بشر أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أن بشر. أو كما قال» أخرج مسلم الرواية الأولى من حديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 طلحة بن عبيد الله، والثانية من حديث رافع بن خديج، ثم أخرج من طريق حماد بي سلمة عن هشام ابن عروة عن أبيه عن عائشة، وعن ثابت عن أنس القصة مختصرة وفيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لولم تفعلوا لصلح» وحماد على فضله كان يخطئ فالصواب ما في الروايتين الأوليين. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم «ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به فإني لن أكذب على الله» و «إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به» واضح الدلالة على عصمته - صلى الله عليه وسلم - من الكذب خطأ فيما يخبر به عن الله وأمر الدين. ومن ذلك قسصة ذي اليدين: سلم - صلى الله عليه وسلم - في الظهر أو العصر من ركعتين فقام إليه ذواليدين فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ فقال: كل ذلك لم يكن، فقال ذواليدين " بل يعض ذلك قد كان، فسأل - صلى الله عليه وسلم - الناس فصدقوا ذا اليدين، فقم فأتم بهم الصلاة. فقوله: «كل ذلك لم يكن» يتضمن خبرين: الأول: عن الدين وهو أن الصلاة لم تقصر، وهو حق. والثاني: عن شأن نفسه، وهو أنه لم ينس، والواقع أنه كان قد نسي. والقرائن واضحة في أنه اعتمد في الخبر الثاني على ظنه، فهو في قوة قوله: «لم أنس فيما رأى» . ومما يدخل في هذا ما جاء في رضاع الغيل، (1) ففي (صحيح مسلم) من حديث سعد بن أبي وقاص أنه ذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لوكان ذلك ضاراً لأضر فارس   (1) الغيل وطء المرضع، فربما حملت من هذا الوطء فيفسد لبنها فيضر ذلك برضيعها، فكان العرب يتجنبون ذلك محافظة على صحة أولادهم أثناء رضاعهم، وهم النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه جرياً على تجارب العرب ولكنه رجع عن ذلك لفعل الروم وعدم ضرره لهم. م ع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 والروم» ، وفيه من حديث جذامة (2) بنت وهب مرفوعاً: «لقد همت أن أنهى عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم، فلا يضر أولادهم ذلك شيئاً» . وفي (سنن أبي داود) : «حدثنا أبو توبة نا محمد بن مهاجر عن أبيه عن أسماء بنت يزيد ابن السكن قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تقتلوا أولادكم سراً فان الغيل يدرك الفارس فيدعثره عن فرسه» . أبو توبة ومحمد بن مهاجر من رجال (الصحيح) ، ومهاجر روى عن جماعة وذكره ابن حبان في (الثقات) . (3) فالله أعلم.   (1) كذا الأصل بالذال المعجمة، وهو رواية لمسلم، وفي أخرى له: «جذامة» بالدال المهملة، قال مسلم: «وهو الصحيح» . قال الدارقطني: «هي بالجيم والدال المهملة، ومن ذكرها بالذال المعجمة فقد صحف» . وعلى الصواب، وقع فيما يأتي بع سطور، وبالذال أيضاً، فكان المصنف ذكره على الروايتين، مشيراً إلى أنه لم يترجح عنده الصواب منهما. ن (2) قلت وهو معروف بتساهله في التوثيق كما سبق بيانه من المؤلف ومنا ج 1 ص 436 - 438، ولم نر أحداً قد وافقه على توثيقه، بل إن أبي حاتم لما أو رد في كتابه (4 / 1 / 261) سكت عنه، مشيراً بذلك إلى أنه غير معروف عنده، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في تعليقنا ص 436 ولذلك لم يعتمد توثيقه الحافظ بن حجر، فقال في «التقريب» : «مقبول» . يعني عن المتابعة، وإلا فلين الحديث، كما نص على ذلك في المقدمة. ولذلك، فإن القلب لا يطمئن لصحة هذا الحديث، وقد أشار إلى تضعيفه العلامة ابن القيم في «تهذيب السنن) بقوله (5 /362) : ... «فان كان صحيحاً فيكون النهي عن (الغيل) أولاً إرشاداً وكراهة، ولا تحريما» . قلت: وهذا التأويل وإن كان بعيداً عن ظاهر حديث أسماء كما بينه المصنف، فالمصير إليه واجب لحديث عبد الله ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الاغتيال، ثم قال: لو ضر أحداً لضر فارس والروم. قال الهيثمي في «المجمع» (4 /298) : «رواه الطبراني والبزار ورجاله رجال = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 زعم الطحاوي أن حديث أسماء كان أولاً، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنى ذلك على ما هو المشهور بين العرب، ثم كان حديث وجدامة بعد ذلك عندما أطلع - صلى الله عليه وسلم - على أن الغيل لا يضر. هذا معنى كلامه وليس بمستقيم. أولاً: لأن حديث أسماء جزم بالنهي، وحديث سعد وجدامة ظن مبني على أنه - صلى الله عليه وسلم - بلغه عن فارس والروم أنهم يغيلون ثم لا يظهر بأولادهم ضرر لا يطهر مثله بأولاد العرب الذين لم يكونوا يغيلون فيتجه حمله على أنه عن الغيل. ثانياً: في حديث أسماء جزم بضرر يخفى على الناس، فإنما يمون ذلك عن الوحي، وحديث سعد وجدامة إنما فيه نفي الضر الذي يظهر. ثالثاً: في حديث جدامة: «لقد همت أن أنهى» وفي حديث أسماء نهي صريح وكل من هذه الأوجه يقتضي تأخر حديث أسماء - على فرض صحته - وأن حديث سعد وجدامة كان رأياً رآة - صلى الله عليه وسلم - وظناً ظنه. هذا وقد أطلت في هذا الفصل ومع ذلك بقيت أمور مما يشتبه على بعض الناظرين كتأخير البيان إلى الحاجة عند الجماعة من أهل العلم، وما روي في نزول قوله تعالى: «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَد» ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لأزواجه «أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً» . فأما المجمل الذي لا ظاهر له فواضح أنه ليس فيه رائحة من الكذب، وأما   = الصحيح» . قلت: وكذلك رواه بن أبي حاتم في «العلل» (1 / 401) لكنه قال عن أبيه: «الصحيح مرسل» لكن له شاهد من شاهد من حديث أبي هريرة مثله. رواه الطبراني في «الأوسط» ، وفيه ليث بن حماد وهو ضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 الذي له ظاهر، فإنما يتأخر بيانه إذا كانت هناك قرينة تدافع ذاك الظهور، فيبقى النص في حكم المجمل الذي لا ظاهر له، وأما الآية والحديث فالحق أن فهم غير المراد منهما إنما كان من تقصير السامع، ولو تدبر سياق الكلام ولاحظ القرائن لما فهم غير المراد، وقد شرحت ذلك بأدلته في رسالة (أحكام الكذب) وشرحت فيها ما حقيقة الكذب؟ وما الفرق بينه وبين المجاز؟ وما هي المعاريض؟ وما هو الذي يصح الترخيص فيه؟ وغير ذلك. «وَقَالُوا (*) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقّ» الأعراف: 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الباب الثالث: في الاحتجاج بالنصوص الشرعية في العقائد كان من المعلوم المقطوع به في عهد السلف الصالح أن أثبت ما يحتج به في العقائد وغيرها كلام الله تعالى وكلام رسوله، ثم لما حدث التعمق في النظر العقلي كان بعض المتعمقين ربما يزيغ عما يعرفه الناس فيرد عليه أئمة الدين، ويبدعونه ويضللونه ويحتجون بالنصوص، فربما تأول هو النص أو رد الحديث زاعماً أنه لا يثق بسنده، فيرد عليه أئمة الدين تأويله بأنه خلاف المعنى الذي تعرفه العرب من لسانها وخلاف ما أثر من التفسير عمن سلف، ويردون عليه رده للحديث بأن رجاله ثقات وأن أئمة الرواية يصححونه. واستمر الأمر على هذا زماناً. وفي القرن الثاني نبغ من المبتدعة من يرد أخبار الآحاد حتى في الفقهيات، واقتصر بعضهم على ردها إذا خالفت القياس، وظاهر أن هذا يردها إذا خالفت المعقول في زعمه، وقد رد أئمة الدين على هؤلاء، وفي كتب الشافعي كثير من الرد عليهم، وكذلك تعرض له البخاري في (الصحيح) ، وعلى كل حال فكان معروفاً بين الناس أن أولئك المتأولين للنصوص على خلاف معانيها المعروفة والرادين للأخبار الصحيحة هم مبتدعة. ثم عندما كثر المتعمقون والتبس بعضهم بأهل السنة كثر القائلون بأن أخبار الآحاد إذا خالف المعقول يجب تأويلها أو ردها، ولبسوا بذلك، فإن المعقول المقبول وهو ما كان من المأخذ السلفي الأول لا يصح نص بخلافه، بل إذا صح نص ظاهر لفظه خلافه فالعقل حينئذ قرينة صحيحة لابد في فهم الكلام من ملاحظتها، فالظاهر الحقيقي الذي هو معنى النص هو ما يظهر منه مع ملاحظة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 قرائنه. كل هذا وأهل السنة المتبعون لأئمتها المتفق على إمامتهم فيها ثابتون على ما كان السلف من الاحتجاج بالنصوص وتضليل من يصرفها عن معانيها المعروفة، أو يرد الأخبار الصحيح. ثم نشأ المتوغلون في الفلسفة كالفارابي وابن سينا، فكان مما خالفوه من العقائد الإسلامية أمر المعاد، فاحتج عليهم المتكلمون بالنصوص فغاضهم ابن سينا مغاضة شديدة، كما تراه في (مختصر الصواعق) ج 1 ص 241. وعباراته طويلة جداً، وأنا أحاول المقصود أحاول تلخيص المقصود منها. زعم أن الشرائع إنما وردت لخطاب الجمهور، أنها لوجائتهم بذكر التوحيد والتنزيه على ما يراه الفلاسفة ومن يوافقهم من المتكلمين، قال: «لسارعوا إلى العناد أو اتفقوا على أن الإيمان المدعو إليه إيمان بمعدوم لا وجود له أصلا» . فزعم أن الحكمة اقتضت أن تجيئهم الشرائع بما يمكن تصديقهم به من التجسيم والتشبيه ونحو ذلك ليمكن قبولهم للشرائع العملية. وذكر أن التوراة كلها تجسيم وأن في نصوص القرآن ما لا يحصى من ذلك قال: «وبعضه جاء تنزيهاً مطلقاً عاماً جداً لا تخصيص ولا تفسير له» . ثم ذكر أن من النصوص ما هو صريح في التجسيم والتشبيه «ولا يقع شبهة في أنها ليست استعارية ولا مجازية ولا يراد فيها شيء غير الظاهر» . قال: «فإن كان أريد بها ذلك (يغني غير الظاهر) إضماراً (يعني أن المتكلم أضمر في نفسه إرادة غير الظاهر، وإن كان الكلام لا يحتمله) فقد رضي (المتكلم بالقرآن) بوقوع الغلط والتشبيه (يعني التجسيم ونحوه) والاعتقاد المعوج بالإيمان يظاهرها تصريحاً» . ثم ذكر أن الحال في أمور المعاد كذلك، قال: «ولم يكن سبيل للشرائع إلى الدعوة إليها والتحذير عنها إلا بالتعبير عنها بوجود من التمثيلات المقربة إلى الأفهام ... فهذا هو الكلام على تعريف من طلب أن يكون خاصاً من الناس لا عاماً أن ظاهر الشرائع غير محتج به في هذه الأبواب» . ويمكن ترتيب مقاصده في تلك العبارة على ما يا يأتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 المقصد الأول: أن من تلك النصوص ما هو ظاهر في تلك المعاني، ومنها ما هو صريح فيها. الثاني: أن الصريح منها يدفع احتمال الاستعارة والمجاز، ويأبى أن يكون المراد منه إلا ذاك المعنى الذي هو صريح فيه. (الثالث) : أنه ليس في الكتاب ولا السنة نص ينفي تلك المعاني التي دلت عليها تلك النصوص الكثيرة بظهورها أو صراحتها نفياً بيناً، وإنما هناك إشارات يسيرة ليست بالبينة. (الرابع) : أن تلك المعاني موافقة لعقول المخاطبين الأولين وهو العرب الذين بعث فيهم محمد صلى الله عليه وآله ويلم، حتى لوخوطبوا بنفيها لأنكرته عقولهم وردته، وحالهم في ذلك كحال الجمهور من الناس في عصرهم وقبلهم وبعدهم. (الخامس) : أن تلك المعاني في رأي ابن سينا ومن يوافقه من المتكلمين ز غيرهم باطلة بدلالة النظر العقلي المتعمق فيه. (السادس) : أن صحة الدين الإسلامي ومجيئه بتلك النصوص على ما تقدم من حالها متناقضان ظاهراً، إذ كيف يأتي الدين الحق بالاعتقاد الباطل؟ ! (السابع) : أن صحة الدين الإسلامي ثابتة بالبرهان وبطلان تلك المعاني ثابت - في زعمه ومن يوافقه - بالبرهان. (الثامن) : أنه لا مخلص من هذا التناقض مع ثبوت كلا الأمرين، بالبرهان إلا القول بأن الدين الحق قد يأتي بالاعتقاد الباطل رعاية لمصلحة البشر ليقبلوا الشرائع العملية التي تصلح شئونهم! . (التاسع) : أنه إذا كان الأمر هكذا، فاللائق بالجمهور قبول ما جاء به الدين الحق على أنه حق، واللائق بالخاصة وهم الذين تنبهو البطلان بعض تلك المعاني أن يعرفوا أن الدين إنما جاء لإصلاح الجمهور وأنه جاراهم على اعتقادهم وما يوافقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وإن كان باطلاً في نفس الأمر، فليدع الخاصة الاحتجاج بالنصوص للجمهور، وليحققوا لأنفسهم! (العاشر) : أنه كما وقع في الدين ذاك التلبيس في عقائد في ذات الله وصفاته، ولا مفر للمتكلمين الذين اعترفوا ببطلان تلك المعاني من الاعتراف به، فكذلك وقع في أمور المعاد، ووقوعها فيها أهو ن، والمدار إنما هو على اقتضاء المصلحة، وهي تقتضي التلبيس في أمور المعاد فإن الجمهور لا يخضعهم إلا الرغبة والوهبة، ولا تؤثر فيهم الرغبة والرهبة إلا فيما يتعلق بالجسمانيات التي عرفوها وألفوها. وقد رأيت أن أفرض لأنه انعقد مجلس للنظر في هذه المقاصد حضره متكلم وسلفي وناقد، فجرى ما يأتي شرحه: النظر في المقصد الأول المتكلم: النصوص التي نوافق على بطلان ظواهرها لا نسلم أنها في تلك المعاني صريحة صراحة مطلقة أو ظاهرة ظهوراً مطلقاً، كيف والقرينة قائمة على صرفها عنها، وهي العقل والإشارات التي ذكرت في المقصد الثالث. الناقد: أما العقل فقد زعم ابن سينا كما مر أن عقول الجمهور ومنهم المخاطبون الأولون موافقة لتلك المعاني، فإن منعت هذا فنؤجل البحث فيه إلى المقصد الرابع، وإن سلمته بطلت دعواك هنا، فإن قانون الكلام أن تكون القرينة كاسمها مقترنة بالخطاب في ذهن المخاطب أو بحيث إذا تدبر عرفها وعرف صرفها عن الظاهر، إذ المقصود عن نصب القرينة أن يكون الخبر صدقاً من حقه أن لا يفهم المخاطب منه خلاف الواقع ما لم يقصر. وإذا كانت عقول الجمهور ومنهم المخاطبون الأولون توافق تلك الظواهر وتجزم بوجوبها عقلاً أو جوازاً أولا تشعر بامتناعها فكيف يعتد عليهم بما قدر يدركه المتعمق في النظر بعد جهد جهيد، مع العلم بأنهم لم يعرفوا التعمق في النظر ولا خالطوا متعمقاً بل نهاهم الشرع عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ذلك، وهل هذا إلا كما لو غزا جماعة إلى أرض بعيدة ثم عادوا بعد مدة دون واحد فسئلوا عنه فأخبروه بأنه قتل فحزن أهله ثم قسموا تركته واعتدت نساؤه وتزوجن إلى غير ذلك، ثم قدم رجل فزعم أنه رأى ذلك الذي قيل انه قتل، رآه بعد خبر القتل بمدة في الثغر حياً صحيحاً، فافرض أنه ذكر ذلك للمخبرين بالقتل فصدقوا هذا المخبر الأخير واعتذروا عن أخبارهم بالقتل بأنهم أرادوا بذاك الخبر خلاف ظاهره، فقيل لهم: فهلا نصبتم قرينة؟ فقالوا: كان الرجل حال خبرنا حياً صحيحاً سالماً وكفى بذلك قرينة! فهل يقبل منهم هذا العذر؟ أولا يرده عليهم العقلاء قائلين: ذاك لوكانت حياته وصحته وسلامته بحيث يدركها المخاطبون وهم أهله عند إخباركم لهم. فأما وهم لا يعلمون ذلك ولا يدركونه لبعده عنهم بمراحل كثيرة فليس هذا بقرينة، إذ ليس من شأن العلم به أن يقترن عند المخاطب بالخطاب فيصرفه عن فهم الظاهر (1) . أما تلك الإشارات ففي المقصد الثالث أنها ليست بالبينة، فإذاً لا تصلح أن تكون صارفة عن معاني النصوص الكثيرة الظاهرة أو الصريحة الموافقة لعقول المخاطبين، بل يكون الأمر بالعكس وهو أن عقولهم وتلك النصوص الكثيرة تصرف عما قد يظهر من تلك الإشارات فإن كنت تزعم أن تلك الإشارات صريحة فنؤجل الكلام إلى المقصد الثالث. المتكلم: إنما يصح الأخذ بظاهر الخبر إذا علم أن ذلك الأمر المخبر بوقوعه غير ممتنع عقلاً، فأما إذا احتمل أن يكون ممتنعاً عقلاً فإنه يجب التوقف، ويكون هذا الاحتمال قرينه تدافع ظاهر الخبر، فتوجب التوقف فيه.   (1) وفي «صحيح مسلم» وغيره حديث «يمينك على ما يصدقك به صاحبك» وهذا صريح في أن إضمار المتكلم في نفسه معنى غير المعنى الذي حقه أن يفهمه المخاطب لا يغني عن المتكلم شياً إذا كان المعنى الذي حقه أن يفهمه المخاطب غير واقع. المؤلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 الناقد: في المقصد الرابع أن معاني تلك النصوص كانت موافقة لعقول المخاطبين، فإن سلمت ذلك سقط كلامك هنا لثبوت أنها لم تكن عندهم محتملة للامتناع، فعلى فرض أن احتمل الامتناع يعد قرينة فلم يكن حاصلاً لهم، فكيف يعتد عليهم به؟ وقد مر الكلام في هذا، وإن لم يسلم فينظر فيه في المقصد الرابع. المتكلم: لم يكن القوم ماهرين في علوم المعقول فلا يعتد بإدراك عقولهم الوجوب أو الجواز، بل يبقى الحكم في حقهم الاحتمال، فإن لم يشعروا بقصورهم القاضي عليهم بالتوقف فقد قصروا. السلفي: كيف لا تعتد بعقولهم وقد اعتد بها رب العالمين فأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وأمرهم بالظر والتفكر والاعتبار والتدبر، وقبل إيمان من آمن منهم وأثنى عليهم، نقم كفر من كفر منهم وعاقبه عليه؟ ! وقد مر في صدر هذه الرسالة ما فيه الكفاية. المتكلم: فدع هذا، ولكن لي نظر في دعوى أن عقولهم كانت موافقة لتك المعاني. الناقد: فيأتي الكلام في المقصد الرابع. السلفي: هب أن تلك المعاني كانت محتملة في عقول القوم أي أنهم لا يدركون وجوبها ولا امتناعها ولا تقطع عقولهم بجوازها، فدعواك أن احتمال الامتناع عقلاً قرينة توجب التوقف في ظاهر الخبر دعوى باطلة عقلاً وشرعاً وعملا، أما العقل فإنه يقتضي قبول ظاهر الخبر إذا كان المخبر ثقة أميناً لا يخشى منه الكذب ولا التلبيس، إذ الغالب صدقه، والغالب في الأخذ به حفظ المصلحة واتقاء المفسدة، ولا يفرق العقل بين ما يقطع المخاطب بجوازه وما لا يقطع، لأن الخبر الثقة الأمين غالب صدقه في الحالين، وحفظ المصلحة غالب في الأخذ بظاهر خبره في النوعين، فأما إذا ثبت عقلاً أن المخبر معصوم عن الجهل والغلط وعن الكذب والتلبيس، فوجوب قبول خبره بغاية الوضوح، بل إذا قطع المخاطب بعصمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 المخبر عما ذكر وقطع بأن ظاهر خبره هذا هو المعنى، وبأنه لا قرينة صحيحة تصرف عنه، فأنه يقطع عقلاً بوقوع ذاك المعنى، وإن كان قبل ذلك يجوز امتناعه عقلاً. وأما الشرع فظاهر، فقد طالب الأنبياء الناس أن يصدقوهم فيما يخبرون به عن ربهم، وأن يوقنوله بذلك، وقضوا بإيمان المصدق الموقن ووالوه، وبكفر الممتنع عن التصديق وعادوه، مع أن مما أخبروا به وطالبوا الناس بالإيقان به ما كانت عقول المخاطبين تستبعده، وعقول الفلاسفة وبعض المتكلمين تصوب ذاك الاستبعاد، وذلك كحشر الأجساد بل مما أخبر به الأنبياء وطالبوا الناس بالإيقان به ما تزعم الفلاسفة أنه ممتنع عقلاً، ووافقهم المتكلمون على ما وافقوهم من ذلك. وأما العمل فلا يخفى على من تصفح أحوال الناس أنهم كانوا ولا يزالون ولن يزالوا يعتمدون على خبر الثقة الأمين فيما يقطعون فيه بعدم الامتناع وفيما يقطعون، واعتبر ذلك بأخذهم بأخبار علماء الحساب والهندسة والمساحة ونحوذلك من العلوم العقلية، وهكذا العقائد، فإن الناس يأخذونها من علمائهم تقليداً في كثير منها، ويرضى منهم علماؤهم بذلك ويحضونهم عليه. هذا والخبر بوقوع الأمر يتضمن قطعاً بعدم امتناعه فكأن المخبر بعدم الامتناع، واحتج بمشاهدته الوقوع، ولووجب أن يتوقف عن قبول ظاهر خبر الثقة الأمين في مثل هذا لوجب مثله فيما علم جوازه عقلاً لأن جوازه لا يقتضي وقوعه وما لم يقع فالحكم بوقوعه ممتنع، وتفسير هذا أنه إن كان ينبغي التوقف عن حمل الخبر على ظاهره فيما إذا احتمل أن يكون ذاك الظاهر ممتنعاً لذاته، فكذلك فيما إذا احتمل أن يكون ممتنعاً لثبوت نقيضه، حتى لوكنت قد علمت أن زيداً في بيته فأخبر بأنه خرج منه فإن خروجه ذلك يحتمل أن يكون ممتنعاً عقلاً لثبوت نقيضه إذا يحتمل أنه لم يخرج من بعد أن عهدته فيه، وإذا كان لم يخرج فمن الممتنع عقلاً أن يكون خرج. المتكلم: إنما فرقنا بين النوعين لأنه قد لا يحتمل في الأول أن يقوم بعد وقت الخطاب ولو بمدة طويلة دليل على أن ذاك الظاهر ممتنع عقلاً، فيجب حينئذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 صرف الخبر عن ظاهره أو الاعتراف بأن المتكلم به غير معصوم. السلفي: إن ساغ هذا الاحتمال في الأول ساغ في الثاني، فيحتمل فيما أخبر النص بأنه وقع أو سيقع في وقت كذا أن يقوم فيما يأتي دليل خلاف ذلك. فليس هناك إلا سبيلان: الأولى: سبيل المؤمنين أنه يستحيل عقلاً أن يكون المتكلم بالقرآن أو من النبي عليه الصلاة والسلام فيما يخبر به ربه جهل أو غلط أو كذب أو تلبيس، ففرض أن يقوم دليل قاطع على خلاف النص الثابت قطعاً، أو الظاهر قطعاً ز لا قرينة معه قطعاً، فرض للمستحيل. الثانية: سبيل ابن سينا ومن وافقه من تجويز الجهل والغلط، أو الكذب والتلبيس «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» الكهف: 29. المتكلم: وهل كلامنا إلا في القطع؟ فهب أن احتمال الامتناع العقلي لا يصلح أن يكون قرينة فمن أين يأتي القطع؟ ومن المحتمل أن يخطئ الناظر الناظر فيعتقد أن الحديث ثابت، وليس بثابت، أو يعتقد صراحة الآية أو الحديث الثابت فيما فهمه، وليس كذلك، أو يعتقد ظهور ما ليس بظاهر، أو يعتقد انتفاء القرينة وهناك قرينة غفل عنها. السلفي: سيأتي إثبات حصول القطع في الكلام مع الرازي والعضد، فأما الخطأ، فالخطأ في الباب إنما يكون في الظن، وليس كالنظر العقلي المتعمق الذي يكثر فيه الغموض والاشتباه والقطع بالباطل كما مر في الباب الأول، والنظر في النصوص على وجه الإيمان بها والتسليم لها اهتداء يحبه الله تبارك وتعالى «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ» محمد: 17. والنظر في الشبهات التعميقية على وجه الوثوق بها وتقديمها على النصوص زيغ عن سبيل الله «وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ» الصف: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 ومن الواضح أن المهتدي أهل أن يعفى عن خطئه بخلاف الزائغ. وفوق ذلك فكلامنا هنا إجمالي، فتتبعوا إن شئتم التفصيل فبينوا على طريق المأخذين السلفيين خطأ من أخطأ منا إن استطعتم، فأما تعمقكم فقد أثبتنا أنه ليس بحجة في الدين فلا علينا أن لا نلتفت إليه، فإن رضيتم بما عندكم فنحن بما عندنا أرضى «فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ. وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ» الشورى:15 - 16. المقصد الثاني المتكلم: لا أسلم أن فيما أزعم بطلان ظاهره من النصوص المتعلقة بالعقائد ما هو من الصراحة بحيث يدفع احتمال الاستعارة والمجاز ونحوذلك، ويأبى أن يكون المراد به إلا ظاهره، بل أقول يمتنع أن يكون في النصوص المتعلقة بالمعقولات ما هو كذلك. السلفي: النصوص كلام، ومعلوم أن الكلام كثيراً ما يكون صريحاً بنظمه أو بسياقه أو بتأكيده أو بتكراره في مواضع كثيرة على وتيرة واحدة، اوبالنظر إلى نظائره، أو إلى حال المخاطب التي يعلمها المتكلم - إلى غير ذلك، وهكذا حال النصوص وهي بحمد الله تعالى معروفة، وأمرها أوضح من أن يحتاج إلى بيانه، وليس هذا موضع التفصيل. والتفرقة بين المعقولات وغيرها مبنية على شبهة قد مر إبطالها، على أن الظهور وحده قد يكفي للقطع كما تقدم، وسيأتي في الكلام مع الرازي وغيره مزيد إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 المقصد الثالث المتكلم: كيف تكون تلك الإشارات غير بينة؟ وفيها قوله تعالى: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» واسمه تعالى «الواحد» و (قل هو الله أحد) السورة. السلفي: أما قوله تعالى: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» فمثل الشيء - في لغة العرب - نظيره الذي يقوم مقامه ويسد مسده. وعند اكثر المتكلمين: مشاركة في جميع الصفات النفسية. وعند أكثر المعتزلة: مشاركة في أخص وصف النفس. وقال قدماء المتكلمين كما في (المواقف) «ذاته تعالى مماثلة لسائر الذوات، وإنما تمتاز عن سائر الذوات بأحوال أربعة: الوجوب والحياة «التامة» والعلم التام والقدرة التامة ... » قال السيد في (شرحه) : «قالوا ولا يرد علينا قوله تعالى: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» . لأن المماثلة المنفية ههنا المشاركة في أخص صفات النفس دون المشاركة في الذات والحقيقة» . وقال النجار: مثل الشيء مشاركة في صفة لإثبات وليس أحدهما بالثاني. وألزموه: «مماثلة الرب للمربوب إذ يشتركان في بعض الصفات الثبوتية كالعالمية والقادرية» كذا في (المواقف) (وشرحها) وفيما بعد ذلك «هل يسمى المتخالفان المتشاركان في بعض الصفات النفسية أو غيرها مثلين باعتبار ما اشتركا فيه؟ لهم فيه تردد وخلاف ويرجع إلى مجرد الاصطلاح ... وعليه ... يحمل قول النجار ... فالله مماثل عنده للحوادث في وجوده عقلاً أي بحسب المعنى والنزاع في الاطلاق ... » أقول: وليس في النصوص التي ينكر المتكلمون معانيها ما يظهر منه إثبات مناظرة على الإطلاق بين الله عز وجل وغيره، ولا مشاركة في جميع الصفات النفسية، ولا في أخص وصف النفس، فإذا حملت المماثلة المنفية في الآية على واحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 من هذه المعاني فليس بين الآية وبين شيء من المعاني الظاهرة لتلك النصوص منافاة ما. فأما المماثلة في بعض الصفات دون بعض فقد علمت إن المتكلمين يثبتونها في الجملة، ولذلك ذكر الفخر الرازي أنه لا يصلح حمل الآية ما ينفي ذلك، وأجاب الآلوسي بقوله: «من المعلوم البين أن علم العباد وقدرتهم ليسا مثل علم الله عز وجل وقدرته جل وعلا - أي ليس سادين مسدهما» . أقول: قد تؤخذ المماثلة في مطلق العالمية والقادرية ونحوذلك. فإن قيل ذاك أمر لا يلتفت إليه، إذ ليس الواقع إلا قدرة ذاتية تامة لله عز وجل، وقدرة مستفادة ناقصة للعبد - وهكذا. قلت: فهذا المعنى أيضاً غير مناف لشيء من تلك الظواهر. تحقيق معنى الآية من تتبع موارد استعمال نفي المثل في الكتاب والسنة وكلام البلغاء علم أنه إنما يراد به نفي المكافئ فيما يراد إثباته من فضل أو غيره، فمن ذلك قول الشاعر: ليس كمثل الفتى زهير ... خلق يدانيه في الفضائل وقول الآخر: سعد بن زيد إذا أبصرت جمعهم ... ما إن كمثلهم في الناس من أحد وقال الله عز وجل: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» . الاسراء: 88. وقال تعالى: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ. إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ» الفجر:6 - 8. أي - والله أعلم - في قوة الأجسام كما يومئ آيه السياق وآيات أخرى. وقال سبحانه: «هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ» خاتمة سورة (محمد) أي في الولي والبخل. وفي حديث أبي أمامة في (المسند) وغيره أنه قال يا رسول الله مرني بعمل. فقام: عليك بالصوم فإنه لا مثل له. (1) ودونك الآيات التي فيها (ليس كمثله شيء) ونظائرها «حم عسق. كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ. تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ. وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي   (1) قلت: هو في «المسند» (5/258,255) من طريق مهدي بن ميمون ثنا محمد بن عبد الله ابن أبي يعقوب الضي عن رجاء بن حيوة عن أبي أمامة. ومن هذا الوجه ابن حبان (929) ، وهذا إسناد صحيح. رجاله ثقات رجال الشيخين، لكن رواه شعبة عن محمد هذا قال: سمعت أبا نصر الهلالي عن رجاء بن حيوة. أخرجه ابن حبان (930) والحاكم (1 /421) وقال: «صحيح الإسناد وأبونصر الهلالي هو حميد بن هلال العدوي» . ووافقه الذهبي. كذا قالا، وأبونصر هذا ليس هو حميد ابن هلال، بل هو رجل لا يدرى من هو كما قال الذهبي نفسه في «الميزان» . وقال الحافظ في «التقريب» : «مجهو ل» . لكن ذكره في الإسناد شاذ، فقد رواه ثقتان آخران كما رواه مهدي بم ميمون بإسقاطه، وصرح بعضهم بسماع ابن أبي يعقوب من رجاء فهو إسناد متصل صحيح وقد صححه الحافظ في «الفتح» كما بينته فيما علقته على (الترغيب والترهيب) . ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 السَّعِيرِ. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ. أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ. فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» . (فواتح سورة الشورى) . ومن نظائر هذه الآيات في الجملة قوله تعالى: «قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ» الرعد: 16. وقوله سبحانه: «قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ. فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ» يونس: 31 - 32. وقوله تعالى: «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ. أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ.» النمل:59 - 60. وقوله تبارك اسمه: «قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ. قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ. بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ. عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ» . المؤمنون 84 - 92. الآيات في هذه المواضع وأمثالها مسوقة لإقامة الحجة على المشركين الذين يتخذون من دون الله تعالى وبغير سلطان منه أولياء يعبدونهم أي يخضعون لهم طلباً للنفع الغيبي، فالقرآن يبين أن مناط استحقاق العبادة أن يكون المعبود مالكاً للتدبير الغيبي مختاراً أن ينفع به ويضر كما يشاء لا على وجه الطاعة منه لمن هو أعلى منه، ولا مفتقراً إلى إذن خاص ممن هو أعلى منه، فإن هذا المالك هو الذي يكون خضوع من دونه له سبباً لأن ينفعه، وإعراضه عنه مظنة أن يضره، فحينئذ يحق لمن دونه أن يخضع له. فأما من ليس كذلك فلا يمكن أن ينال من دونه منه نفع ولا ضر. نعم إن الله عز وجل يأمر الملائكة بما يريد فيفعلونه ويأذن لهم في الشفاعة لمن يحب فيشفعون وهم كما قال تعالى: «عِبَادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ.يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ. وهم بأمره يعملون. يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون» الأنبياء: 26 - 28. فإذا أمرهم سبحانه بنفع عبد فعلوا ذلك طاعة لربهم فقط. وإذا أذن لهم في الشفاعة شفعوا رغبة في رضا ربهم، ولوفرض أنهم لم يشفعوا بعد الأذن فلم يأذن لهم ربهم إلا وقد ارتضى الأمر الذي أذن لهم أن يشفعوا فيه فهو كائن لا محالة وإن لم يشفعوا، وبهذا يتضح يقيناً أن سؤال العبد من الملائكة أو خضوعه لهم عبث من جهة وسبب لغضب الله عز وجل على السائل، فتغضب الملائكة لغضب ربهم من جهة أخرى. ولوكان الملائكة يتصرفون بأهو ائهم لأختلفوا، إذ قد يهوى هذا نصر أحد الجيشين المقتلين ويهوى الآخر نصر الجيش الآخر فيعمل كل منهما بحسب هواه، يبذل جهده في التصرف بكل ما يمكنه، هذا مع عظم قوة الملائكة وقدرتهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 فتختل الأمور ويفسد النظام، قال الله عز وجل: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا» الأنبياء: 22. وقال تعالى: «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِن» المؤمنون: 71. ولما أذن الله عز وجل للبشر إذناً قدرياً عاماً في عمل ما يريدون - لأن مقصود التكليف لا يتم في حقهم إلا بذلك جعل قدرتهم محدودة، فيقع من الفساد ما يناسب قدرتهم كما هو مشاهد، وكلما زادت قدرتهم بواسطة الآلات والمخترعات زاد الفساد كما تراه في هذا العصر، ولولا الله عز وجل يكفكف شدة ذلك بقدره لكان الفساد أعظم، قال تعالى: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» البقرة:251. إن كان الله عز وجل يأذن لأرواح الصالحين الموتى بأمر يتعلق بالأحياء فلن يكون حال الأرواح إلا كحال الملائكة سواء، بل الأرواح أولى بأن لا يؤذن لها في التصرف (1) بأهوائها، فإنها في غير دار تكليف لا تخشى عقوبة علة ما يقع منها   (1) والحق أن الأرواح بعد في قبضة الواحد القهار لا تصرف لهم في شؤون الأحياء بل قد انقطع عملهم كما في الحديث: «إذا مات أبن آدم انقطع عمله غلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعوا له» وهذه الثلاثة الباقية له بعد موته في آثار أعماله في الحيات قبل موته فليست عملاً له بعد الموت. وقال تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا «وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا» فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا «الْمَوْتَ» وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى) . فالذي مات أمسك في قبضة القهار، بخلاف الحي الذي أرسل إلى أجل مسمى. وما فتح الشرك على من أشركوا بالأموات والصالحين إلا اعتقادهم فيهم أنهم يفعلون بعد موتهم مثل ما كانوا يفعلون في حياتهم أو أشد وأقوى على سبيل الكرامة بزعمهم، فتوكلوا على الأموات وعبدوهم ونسوا الحي القيوم فلم يتكلموا عليه ولم يخلصوا له العبادة كما هو مشاهد من أحوال عباد القبور والمنتصرين لهم من شرق الأرض وغربها. والله المستعان كتبه محمد عبد الرزاق س. يقول المؤلف: إنما فرضت الأذن للأرواح فرضاً، وأوضحت أنه على فرضه فلن يكون حالها إلا كحال الملائكة في أن تصرفها إنما يكون تنفيذاً لما يأمر الله عز وجل، وكما أن ثبوت ذاك التصرف للملائكة لا شبهة فيه لمن يعبدهم فكذلك الأرواح. وهذا = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 بخلاف الملائكة، وبعض المسلمين يتردد في عصمه بعض الملائكة، والقائلون بالعصمة يقولون بالتكليف مع شدة الخشية، كما تقدم في بعض الآيات السابقة والمشركين الذين يزعمون أن الملائكة يتصرفون بأهو ائهم، يزعمون أنهم غير معصومين، بل يجعلون حالهم كحال البشر مع عظم القدرة، ويقولون كما أن للإنسان أن يسأل إنساناً آخر أغنى أو أقدر منه ويخضع له، فكذلك له أن يسأل الملائكة ويخضع لهم لأنهم يعملون ما يشاءون، ويشاءون ما يهوون كالبشر وقدرتهم أعظم وهذا الشرك يوجد في بعض مشركي الهند وغيرهم، وعليه كان أكثر الأمم المشركة. أما مشركوا العرب فإنهم قلدوا غيرهم من الأمم في الشرك العملي فقط كما تقدم في الآيات، إلا أنهم كانوا عندما يسألون عن ذلك يتشبثون بالشفاعة فقط، مع تردد فيها، ولما حاجهم القرآن لم يبق بأيديهم إلا الشغب حتى أنقذهم الله عز وجل، وبالجملة فكان شركهم يكاد يكون عملياً فقط. وإذا تأملنا ما وقع فيه عامة المسلمين في القرون المتأخرة وجدناه أشد جداً مما كان عليه مشركوالعرب. فإنا لله وأنا إليه راجعون.   = واضح جداً وهو أقطع للنزاع من بسط الكلام في نفي التصرف البتة. وفي (كتاب الروح) لأبن القيم ما يؤخذ منه أنه يثبت للأرواح تصرفاً في الجملة، وسمعت بعض الأخوان يستعظم ذلك، كأنه برى أن ذلك يروج شبه دعاة الموتى. ولا أشك أن هذا لم يغب عنه ذهن أبن القيم، ولكنه يعلم أن الشبهة إنما تروج إذ أثبتنا للأرواح تصرفاً بأهو ائها، فأما ما كان من قبيل تصرف الملائكة فلا وما ذكره الشيخ من انقطاع العمل حق، لكن لأبن القيم أن يقول قد تحب الأرواح أن تعمل عملاً في طاعة الله عز وجل تلذذاً بالطاعة كصلاة الأنبياء ليلة الإسراء ونحوذلك فيكون ذاك التصرف في حقها من جملة النعيم تلتذ به نفسه ولا تثاب عليه، وعلى كل حال فإنما فرضا فرضاً، ليس فيه أدنى متشبث لدعاة الموتى فتدبر. وانظر كتاب "الآيات البيان في عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات " للعلامة الألوسي بتحقيق أستاذنا الألباني - الطبعة الثالثة - المكتب الإسلامي. زهير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وأما البشر الأحياء فقدرتهم معروفة ولا تكون لهم قدرة غير عادية، نعم قد يتفق قدرة عادية غريبة كما يقع لبعض المرتاضين والسحرة وسيأتي الكلام فيها، فأما معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء فليست بقدرتهم ولا في ملكهم، قال اله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: «وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى» . وكان الصحابة إذا احتاجوا إلى نفع غيبي إنما يسألون النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء كما في الاستسقاء، وقلة الأزواد في السفر، وغير ذلك، والدعاء داخل في المقدورات العادية كما لا يخفى. وكانوا إذا بعدوا عنه فاحتاجوا أن يراجعوه في شيء كتبوا إليه أو أرسلوا على ما جرت به العادة، فإذا لم يمكن ذلك قال أحدهم: أللهم أخبر عنا رسولك، كما قال عاصم بن ثابت، وجاء نحوه عن خبيب ابن عدي / ومنا يحكى عنه مما يخالف ذلك لا يثبت، ولوثبت وجب حمله على المعنى المعروف. ودعاؤهم مرجوا الإجابة وليس ذلك بحتم، قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ» وقال سبحانه: «وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ» الأنعام: 35 والنصوص في هذا المعنى كثيرة. وأما الجن فأنه مأذون لهم أذناً قدرياً عاماً في الوسوسة لبني آدم، وذاك كالأمر الطبيعي لهم، إما يستدعي بمعصية الله عز وجل والغفلة عن ذكره، ويستدفع بطاعته سبحانه والتعوذ به. فأما ان ينفعوا الناس أو يضروهم فلوكان مأذوناً لهم فيه أذناً قدرياً عاماً يشبه الأذن للناس، لفسدت الدنيا، فإن كان قد يقع شيء من ذلك فإنما يكون بأذن قدري خاص لا يفسد قواعد الدنيا، والإنسان لا يحتاج إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 الرغبة إليهم لتحصيل شيء من ذلك لأن الله عز وجل قد أغنى الناس بالأسباب العادية، وبدعائه سبحانه، أوليس أن تسأل المالك الحقيقي القادر على كل شيء أقرب وأولى من أن تسأل جنياً على أمل أن يأذن له الله عز وجل إذناً قدرياً خاصاً في فعل مطلوبك؟ فإن فرض أن إنساناً رغب إلى الجن فحصل له نفع أو أندفع عنه ضر فذلك بمنزلة من يتقرب إلى المشركين بالسجود لأصنامهم ونحوه، فإنهم قد ينفعونه وليس ذلك بعذر له، بل الأمر أبعد فإن المشركين مأذون لهم إذناً قدرياً عاماً في النفع والضر على ما جرت به العادة. وحال السحر كحال الجن قال الله عز وجل: «وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ (1) إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» أي والله أعلم إذناً قدرياً خاصاً وإنما يقع ذلك نادراً، نعم قد يعد من السحر ما هو مبني على سبب عادي غريب كالتنويم المغناطيسي، وما يقع لبعض المرتاضين من التأثير بالهمة فيحسبه الجاهل كرامة. هذا وإذا أمر الله عز وجل بطاعة أحد أو الخضوع له أو بفعل هو في الصورة خضوع له ففعل المأمور ذلك طلباً للنفع الغيبي من الله عز وجل فهذه عبادة الله عز وجل، وهذا كسجود الملائكة لآدم، وهكذا تعظيم المسلمين لحرمات الله عز وجل كاستقبال الكعبة (2) والطواف بها وتقبيل الحجر الأسود، وغير ذلك مما أمرهم الله به ففعلوه طاعة لله غير مجاوزين ما حده لهم، وكذلك توقير النبي وإكرام الأبوين وأهل العلم والصلاح بدون مجاوزة ما حده الله تعالى من ذلك.   (1) في الأصل (به أحدا) . ن (2) تعظيم المسلمين لحرمات الله واستقبال الكعبة والطواف بها وتقبيل الحجر الأسود ليس كل ذلك من الخضوع لغير الله وطاعته بل هو خضوع لله وطاعة له بهذا العمل. م ع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 والحاصل أن الخضوع طلباً للنفع الغيبي عبادة. فإن كان عن أمر من الله تعالى ثابت بسلطان فهو عبادة له سبحانه ولو كان في الصورة لغيره كالكعبة، وإلا فهو عبادة لغيره. ويتعلق بهذا الباب مباحث عديدة قد بسطت الكلام عليها في كتاب (العبادة) (1) وإنما ذكرت هنا شذرة منه. وأصل المقصود هنا تفسير الآية فأقول: إن القرآن يذكر التدبير الغيبي جملة أو يذكر بعض أنواعه تفصيلاً، ويبين أن المالك له القادر عليه المختار فيه بدون توقف على أمر آمر أو إذن أو تسليط مسلط، هو الله وحده لا شريك له، وأن ذلك هو مناط استحقاق العبادة، فإذا كان سبحانه هو المتفرد بذلك فهو المتفرد باستحقاق العبادة. فتدبر الآيات المتقدمة تجدها على ما وصفت، وتدبر آيات الشورى التي فيها «ليس كمثله شيء» تجدها من هذا القبيل، فإذا كان الأمر هكذا فالظاهر أن المراد بقوله: «ليس كمثله شيء» نفي المثل فيما ذكر في السياق من أنه تعالى يحي الموتى وأنه على كل شيء قدير، وأن إليه الحكم وأنه فاطر السماوات والأرض إلى غير ذلك. وجماع ذلك كله ملك التدبير الغيبي والقدرة عليه والاختيار فيه على ما تقدم وصفه، والمقصود بذلك إثبات أنه لا آله إلا الله. وهب أنه يسوغ حمل قوله «ليس كمثله شيء» على ما يخالف تلك الظواهر التي يفر منها المتكلمون فهو احتمال مرجوح، وهبه مساوياً أو راجحاً فهل يصح أن يعتد بها قرينه تصرف عن ظواهر تلك النصوص التي لا تحصى، منها الظاهر البين،   (1) كتاب من تأليفي استقرأت فيه الآيات الاقرآنية ودلئل السنة والسيرة والتاريخ وغيرها لتحقيق ما هي العبادة، ثم تحقيق ما هو عبادة لله تعالى مما هو عبادة لغيره يسر الله نشره. المؤلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 ومنها الصريح الواضح، ومنها المؤكد المثبت، ومعها عقل المخاطبين الأولين من الصحابة وغيرهم وجمهور الناس؟ وهل هذا إلا قلب للمعقول الواضح؟ هذا والقائلون بأن ذات الله تعالى مجرداً أكثرهم يثبتون أو يجوزون وجود ذوات كثيرة مجردة من عقول ونفوس وأرواح غيرها! فليتدبر من له عقل أليسوا أولى بزعم أن لله عز وجل مثلاً بل أمثالاً ممن لا يقول بالتجرد المحض الذي يزعمونه؟ فإن الذوات المخلوقة غير المجردة تتفاوت تفاوتاً عظيماً جداً فما الظن بذات الخالق تبارك وتعالى؟ فأما المجردة على فرض وجودها فكيف يعقل التفاوت العظيم بينهما حتى تكون هذه ذات رب العالمين وهذه ذات روح بعوضة؟ وما قيل أن التجرد أمر عدمي لا يدفع ذلك، على أنه عندهم براءة لأمر وجودي احتيج إليه، لأنه ليس في اللغات لفظ يدل على ذاك المعنى، لأن اللغات تابعة للعقول الفطرية، والعقول الفطرية لا تعقل وجود ذات مجردة ذاك التجرد، وإنما تعبر عن ذاك المعنى بقولها: «معدوم» (1) . قال السلفي: واقتصر عن النظر في تلك الآية على ما ذكرت راجياً أن يكون فيه الكفاية لمن لم يستحوذ عليه الهوى، فأما من ختم على قلبه فلا مطمع فيه. والله الموفق. وأما اسم الله تعالى «الواحد» فلفظ «واحد» يراد به في اللغة ما يقابل المتعدد ومن تتبع مواقعه في القرآن وغيره من الكلام العربي الفصيح وجده يأتي وصفاً لموصوف ويكون هناك شيء محكوم عليه بالموصوف مع وصفه، فعدم التعدد يكون للمحكوم عليه باعتبار الموصوف. قال الله تعالى: «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً» حكم على الناس فيما كانوا عليه بقوله «أمة واحدة» فعدم التعدد ثابت   (1) يأتي لهذا مزيد في مسألة الجهة. المؤلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 للناس باعتبار «أمة» أي لم يكونوا أمتين أو أكثر، وقد يصرح في الكلام بالمحكوم عليه وبالموصوف كما رأيت، وقد يطوى ذكر أحدهما فيعرف بالتدبر، ولا أطيل بأمثلة ذلك. وعلى كل حال، فإنه يأتي على أحد معنيين: الأول: نفي التعدد في المحكوم عليه نفسه كالمثال السابق: نفي أن يكون الناس كانوا أمتين أو أكثر. المعنى الثاني: نفي أن يكون مع المحكوم عليه مثله أو مثلاه أو أمثاله باعتبار الموصوف فيكون المجموع متعدداً، ومن ذلك قوله تعالى: «وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ» أي ليس معه آله آخر أو أكثر فيكون المجموع متعدداً، ومن هذا الثاني قولهم: فلان واحد في فنه. واحد زمانه، أي لا نظير له في ذلك. ... إذا تقرر هذا فلنذكر الآيات التي ورد فيها هذا الاسم. قال تعالى فيما قصة عن يوسف عليه السلام: «يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ. مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا» يوسف 39 - 40 وقال عز وجل: «قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ» الرعد - 16. وقال سبحانه: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ. وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ. سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ. لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ. هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ» . خواتيم سورة (إبراهيم) . وقال تبارك وتعالى: «قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ. رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ» ص - 65 - 66. وقال تعالى: «أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ. لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ» الزمر - 3 - 4 وقال سبحانه: «يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ» غافر - 16 هكذا جاء هذان الاسمان الكريمان «الواحد القهار» في القرآن مقترنين معرفتين في المواضع كلها، وكل ذلك في سياق إقامة الحجة على المشركين في الألوهية الزاعمين أن لله شركاء في استحقاق العبادة. فالكلام جارٍ على المعنى الثاني، وهو نفي الحاصل بجود مثله معه في الربوبية وما يقتضي استحقاق العبادة، وسياق الآيات واضح جداً في ذلك، وإنما ادعى بعضهم المعنى الأول في آية (الزمر) فقال: إن إمكان أن يكون له ولد، يستدعي التركيب والانفصال والوحدة تنافي التركيب. والتركيب الذي يريده الفلاسفة والمتكلمون ليس من التعدد الذي تعقله العقول الفطرية في شيء، «الواحد» بالمعنى الثاني الولد بدون تكلف فإنه لوكان له سبحانه ولد لكان نظيراً له في القدرة وغيرها فيكون رباً مستحقاً للعبادة، وقد قال تعالى: «وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً. إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً.» مريم: 92 - 93. وقال تعالى: «وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ» . البقرة: 116. وقال سبحانه: «وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ» . الأنبياء: 26 فحصل المقصود مع بقاء الاسم «الواحد» (1) على معناه المعروف الموافق لسائر الآيات. هذا ولما كان الاسم «الواحد» إنما هو صريح في نفي النظير في الربوبية، وما يقتضي استحقاق العبادة، وليس بالصريح في نفي المشارك في ذلك مشاركة تقتضي استحقاق العبادة في الجملة أردف في الآيات كلها بالاسم «القهار» ليتمم المعنى المقصود، وجاء الاسمان معرفين لأن ذلك معروف مسلم عند المشركين، كما يوضحه الآيات الأخرى التي تقدم ذكر بعضها في الكلام على قوله تعالى: «ليس كمثله شيء» . والله الموفق. وأما سورة الإخلاص ففي (صحيح البخاري) وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «قال الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لم يعيدني كما بدأني ... وأم إياي فقوله: اتخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد لم ألد، ولم أولد، ولم يكن لي كفؤا أحد» وفي رواية: «وأنا الصمد الذي لم ألد ... » وقال الترمذي: «حدثنا أحمد بن منيع حدثنا أبوسعد - هو الصاغاني - عن أبي جعفر الرازي عن الربيع عن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب أن المشركين   (1) من أدل شيء على أن الوصف بالواحد أو الأحد أو الوحيد لا ينفي الصفات عمن وصف بذلك الله تعالى وصف فيلسوف قريش الوليد بن المغيرة متوعداً متهدداً بقوله (ذرني ومن خلقت وحيداً) الخ فوصفه بالوحيد بمعنى الواحد ولم ينفي عنه ذلك الوصف أن يكون إنسان له أو صاف أخرى من يدين ورجلين ووجه ورأس الخ، فوصف الله تعالى بالأحدية لا ينفي صفاته الأخرى، إفادة الإمام أحمد في «رده على الجهمية» الذين نفوا صفات الله تعالى من وصفه بالأحد والواحد. م ع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انسُب لنا ربك، فأنزل الله: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ» ، فالصمد الذي لم يلد ولم يولد، لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، ولا شيء يموت إلا سيورث، وإن الله عز وجل لا يموت ولا يورث. «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» قال: لم يكن له شبيه ولا عدل، وليس كمثله شيء» . ثم قال الترمذي: «حدثنا بن حميد حدثنا عبيد الله بن موسى عن أبي جعفر الرزاي عن الربيع عن أبي العالية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر آلهتهم، فقالوا: أنسُب لنا ربك، فأتاه جبريل بهذه السورة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ - فذكر نحوه، ولم يذكر فيه عن أبي بن كعب، وهذا أصح من حديث أبي سعد» . أقول: أبوسعد قال فيه الإمام أحمد: «صدوق، ولكن كان مرجئاً» وقال أبوزرعة: «كان مرجئاً ولم يكن يكذب» وضعفه الباقون، قال ابن معين في رواية: «ضعيف» وفي أخرى: «كان جهمياً وليس هو بشيء» ، وفي ثالثة: «صاحب ابن أبي دؤاد كان هاهنا وليس هو بشيء» ، وفي رابعة: «جهمي خبيث» . وقال البخاري في موضع: «فيه أضطراب» ، وآخر: متروك الحديث» ، وفي ثالث: «ليس بثقة ولا مأمون» . لكن لم ينفرد أبوسعد بوصل الحديث فقد أخرج الحاكم في (المستدرك) ج 2 ص 540: «أخبرنا أبوعبد الله محمد بن يعقوب الحافظ وأبوجعفر محمد بن علي قالا: ثنا الحسين بن الفضل ثنا محمد بن سابق ثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن المشركين قالوا: يا محمد، أنسُب لنا ربك، فأنزل الله عز وجل: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ» ، قال: الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد ... » بمثل حديث أبي سعد، ومحمد بن سابق ثقة جليل إلا أن في ضبطه شيئاً حتى قال أبو حاتم: «يكتب حديثه ولا يحتج به» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وقد صحح ابن خزيمة والحاكم هذا الحديث. (1) وأخرج ابن جرير من طريق إسماعيل بن مجالد عن أبيه عن الشعبي عن جابر قال: «قال المشركون: أنسُب لنا ربك، فأنزل الله: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» » . وأخرج عن قتادة قال: «جاء ناس من اليهود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا:أنسُب لنا ربك، فنزلت ... » وعن سعيد بن جبير نحوه مطولاً، وعن عكرمة: أن المشركين قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن ربك، صف لنا ربك، ما هو؟ ومن أي شيء هو؟ فأنزل الله تعالى «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» » . والذي يصح في الباب حدبث البخاري، ثم يليه حديث أبي العالية، وقد شهد له حديث جابر، وسنده صالح للمتابعة. وحديث البخاري يدل على أن أشد ما كان المشركون يعتدون فيه في حق الله تبارك وتعالى هو شكهم في قدرته على البعث، وقد أخبر به، ونسبتهم إليه الولد، والقرآن يؤيد ذلك (2) فإنه كرر تثبيت البعث ونفي الولد في مواضع كثيرة، فأما شركهم في الألوهية فكان عندهم مرتبطاً بدعوى الولد كما هو بين من عدة آيات، وقد أوضحت ذلك في كتاب (العبادة) وتبين لي أن أول ما سرى إلى العرب نسبته إليه تعالى كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، على معنى أنهم مقربون إليه، ولم يقولوا: أبناء الله، خشية إيهام أن يكونوا نظراءه فقالوا: بنات الله، لأن الإناث عندهمضعيفات، وليس لهن ميراث من آبائهن، ثم طال الزمان فصار أخلافهم يقولون: بنات الله، ولا يحققون المعنى، ولم يكونوا يثبتون أن الله عز وجل   (1) قلت: وكذا صححه الذهبي في «تلخيص المستدرك» وفيه بعد، لأن أبا جعفر الرزاي فيه ضعف كما سبق بيانه في التعليق على حديث اللقنوت في الفجر ج 1 ص 147. لكن حديث جابر الآتي بعده يشهد له في الجملة. ن (2) أي يؤيد ما أقاده حديث البخاري من شكهم في قدرة الله تعالى على البعث فكرر الرد عليهم في ذلك بذكر أدلة قدرته على البعث، وذكر نفي الولد عنه بالحجج والبينات الواضحة التي تقطع شبههم وتقيم الحجة عليهم. محمد عبد الرزاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 صاحبة، ولذلك يقولون: احتج عليهم القرآن بقوله: «أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ» . فدل هذا على أن انتفاء الصاحبة أمر مسلم، وفي قصة إسلام طلحة أنه جاء وجماعة معه إلى أبي بكر، فقال: أدعوك إلى عبادة اللات والعزى، فقال أبو بكر: واللات والعزى؟ فقال طلحة: بنات الله، فقال أبو بكر: ومن أمهم؟ فأسكت طلحة، ثم قال لأصحابه: أجيبوا الرجل، فأسكتوا، فأسلم طلحة. فأما قول الله عز وجل: «وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبا» ، فالمراد بالجنة هاهنا: الملائكة، والمعنى أنهم جعلوا الملائكة بنات له، وما روي أنهم كانوا يقولون إن أمهاتهم بنات سروات الجن، ولم يصح، ولوصح لكان الظاهر أنهم اخترعوا هذا بعد قصة طلحة، واللات والعزى ومناة كانت عندهم أسماء لتلك الإناث التي زعموا أنها بنات الله، ثم جعلوا لتلك الإناث تماثيل وسموها بأسمائها، كما جرت به عادة المشركين في أصنامهم، بل عادة الناس جميعاً في إطلاقهم على التمثال والصورة اسم من يرون أن ذلك ثمثال أو صورة له. وبهذا التحقيق يتضح معنى آيات النجم، وقد أوضحت ذلك في كتاب (العبادة) بما يثلج الصدر. والحمد لله. والمقصود هنا أن الذي يظهر من الآثار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما صارح المشركين بإبطال قولهم في الإناث التي يجعلونها آلهة من دون الله، يزعمون أنها الملائكة، وأنها بنات الله، ويمثلون التماثيل بأسمائها ويعظمونها تعظيماً لها، وصارحهم بنتزيه الله عن الولد، قالوا: أنسُب لنا ربك، طمعاً منهم أن يجيبهم بما يستخرجون منه شبهة يشدون بها قولهم، فأنزل الله تعالى هذه السورة. فأما تحقيق معناها فلفظ «أحد» زعم ابن سينا ومن وافقه أنه الواحد من جميع الوجوه المنزه «عن الجنس والفصل والمادة والصورة والأعراض والأبعاض والأعضاء والأشكال والألوان وسائر ما يثلم الوحدة الكاملة والبساطة الحقة» . وهذا ما نقلوه من عباراته المموهة. وهو ومن وافقه يوهمون أنهم إنما يجتهدون في تنزيه في تنزيه عز وجل، وهو في نفس الأمر بعيد عن ذلك، كما يعلم من نفيهم صفات الكمال عنه، وإنما غرضهم توجيه وجوده تعالى، أي وُجُودُه من غير علة. وبعبارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 أوضح في العقول الفطرية توجيه وجوده من دون أن يوجده موجد. وذلك أن الفطرة والعقل قاضيان بأن الموجود من هذا الأشياء التي نراها لابد له من موجد، وأنه مهما كان لبعضها صانع منها فإن فوقها جميعها رباً هو الموجد الحقيقي. ولكن كثيراً من النفوس لا تقنع بهذا حتى تقول: فهذا الموجد الحقيقي من أوجده؟ فإن قيل: لا موجد له. قالت: وكيف وجد من غير موجد؟ فإذا قيل: هذا السؤال إنما يأتي فيما ثبت أو جاز أنه لم يكن ثم كان، وذلك كأن تمر ببقعة لا بيت فيها ثم تمر بها وفيها بيت، وكالشمس فإن العقول الفطرية حتى الساذجة تجيز أن يخلق الله تعالى شمساً أخرى غير هذه الشمس، وتجيز أن يكون قد مضى زمان لا شمس فيه ثم خلق الله تعالى هذه الشمس، وهكذا سائر المخلوقات، وإنما قد تتوقف العقول الفطرية في بعض الأشياء التي لا ضير في التوقف فيها من جهة العقل، وذلك كالفضاء والزمان فإنهما أمرين عدميين كما عليه المتكلمون فالأعدام أزلية، (1) وإن كانا موجدين فلا يصلحان ولا واحد منهما أن يكون رباً أو جد هذه الموجودات. والمقصود أنه في مثل البيت والشمس يأتي ذلك السؤال فيقال: لم يكن موجوداً فمن أو جده؟ فأما الموجود الحق الذي ثبت أنه لم يزل فلا يأتي في حقه ذاك السؤال أصلاً. فقد لا تطمئن النفس لهذا حق الاطمئنان، وقد نبه الشرع على هذا وعلى علاجه، ففي (الصحيحين) وغيرهما من طرق عن أبي هريرة «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله (2) ولينته» لفظ البخاري في   (1) أوضح من هذا أن يقال: الأعدام عدم والعدم لا يتصوره العقل وإنما يتخيل بتصور ضده ن الموجودات، فإذا طرد من بين الموجودات فلا يتصور أن يكون موجداً لشيء منها ونحن في غنى عن تخيل أزلية أو غيرها للعدم. م ع (2) ذكر شيخ الاسلام ابن تيمية رداً على الرازي في تشكيكه أن الاستعاذة بالله كيف تكون هلاجاً في دوام وجود الله وعدم أوليته؟ أفاد شيخ الإسلام أن الشك في العلوم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 «بدء الخلق» وفيهما من حديث أنس «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله؟ لفظ البخاري في «الاعتصام» . وفي (مسند أحمد) من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوالأول وفيه «فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل: آمنت بالله ورسوله، فإن ذلك يذهب عنه» . (1) فمن أيقن بما قدمناه أول الرسالة من مرتبة الشرع فزع إليه فوجد الشفاء من تلك الوسوسة، ومن لم بفزع إليه وحاول الاكتفاء بذلك الجواب، وهو أن ذلك السؤال لا يرد أصلاً جاءه الشيطان من طريق أخرى فقال: إن كان هذا الذي تقوله أنه الموجد الحقيقي أو أنه واجب الوجود شبيهاً بهذه المحسوسات فحكمه حكمها، وإلا فماذا عساه أن يكون؟ فإذا دفع ذلك بنفي تلك الذات المقدسة بحجة أنه لم يرها، ولا رأى ما تكون من جنسه، وما كان هكذا فلا سبيل إلى تصوره، فالأكمة لا يتصور الألوان حتى أنه حتى لا يحلم في نومه بأنه أبصر شيئاً جاءه الشيطان من جهة أخرى فاستعرض ما يثبته العقل والشرع لله عز وجل فيعمد إلى أمر من ذلك فيقول: إن ثبت هذا لتلك   = النظرية يدفعه التفكير والبحث وأخذها من البديهيات والقطعيات والضرويات فهنا مرض عقلي ووسواس لا علاج له إلا الرجوع إلى طبيب العقول وهادي النفوس ومصححها وشافيها. وقد استشفى الغزالي بهذا الدواء حينما أصيب بهذا الشك في المحسوسات. وقد قال الشاعر: وليس يصح في الاذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل وقد قال ابن عقيل الحنبلي لرجل سأله أنه يغتسل ويتوضأ ويشك في وصول الماء إلى جسده وأعضائه؟ فقال ابن عقيل: سقط عنك التكليف لأنك مجنون وقد رفع القلم عن المجنون أو نحو هذا. م ع (1) قلت: وإسناده حسن، وهو صحيح لغثير كما بينته في «الأحاديث الصحيحة» (116) . ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 الذات كانت شبيه بهذا المحسوسات فيلزم الافتقار. فأما من وفقه الله عز وجل فإنه لا يعدم مخلصاً، وأم المخذول فإنه يرى أنه مضطراً إلى نفي الأمر، ثم يعمد الشيطان إلى أمر آخر فيقول: وهذا كالأول، وهكذا حتى يأتي على عامة تلك الأمور، ومنها لوازم الوجود فلا يبقى للإنسان إلا اعتقاد وجود يعتقد انتفاء لوازمه. وقد لا يكتفي الشيطان منه بهذا، بل يقول له: وكيف تعقل مثل هذا؟ وما تظنه حجة على الوجود قد جربت أمثاله في تلك الأمور، فليس هناك حجة، وإنما هي شبهات نسجتها الأوهام والأغراض في العصور المظلمة، فكن حر الفكر، قوي الإرادة، وخلص نفسك من تلك القيود والأغلال، فإنك في عصر العلم! (1) فهذه هي الحقيقة والغاية لتلك الوحدة التي موه ابن سينا عبارته عنها، فإنه يزعم أن ذات الله عز وجل ليست منفصلة عن العالم ولا متصلة به، ليست خارجة عنه ولا هي فيه، ليست مباينة له ولا محاثيه (2) ، لم توجد الذوات الأخرى حين وجدت خارج ذات الله عز وجل قريباً أو بعيداً ولا داخل ذاته. والمتكلمون وافق أكثرهم ابن سينا على هذا الأصل، ثم يقع الخلاف في التفريع فابن سينا وموافقوه يقولون: لا قدرة لله عز وجل ولا إرادة ولا علم بالجزئيات، واستحيا بعضهم فقال: يعلم ذاته، وعندهم أنه لا شأن لله عز وجل بخلق ولا تقدير ولا اختيار ولا تدبير، بل عندهم أنه سبحانه ليس برب للعالم، وإنما هو السبب الأول لوجوده في الجملة، وذلك أن   (1) واستعذ بالله من تلك الوساوس كما أرشد إلى ذلك الحديث وادع لها بالدعاء المأثور: «اللهم رب جبريل وميكائيل واسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما له يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك انك تهدي من تشاء إلى صراط المستقيم» . وآثر عن الشيخ ابن تيمية رحمه الله أنه كان إذا أشكلت عليه مسالة توجه إلى الله تعالى وقال: يا معلم إبراهيم أهدني إليها. فيفتح عليه بها الفتاح العليم. م ع (2) ضد مباينة أي يوجد والكلمة مشتقة من (حيث) ظرف المكان، كما يقال: جلست حيث يجلس القاضي مثلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 أصول الموجودات عندهم أشياء قديمة: أحدها: وجود محض هو عندهم الواجب لذاته، أو قل: «الله» . الثاني شيء نشأ عن الأول بدون قدرة للأول ولا إرادة ولا علم! ويسمون هذا الثاني «العقل الأول» قالوا ونشأ عن العقل الأول عقل ثان ونفس وفلك وهكذا إلى عشرة عقول وتسع أنفس وتسعة أفلاك! قالوا والعقل العاشر هو العقل الفعال وهو المدبر للعالم السلفي بواسطة الكواكب وتغير مواضعها. وشأن عندهم لله تعالى بالموجودات البتة خلا أنه كان في القدم سبباً محضاً لوجود العقل الأول بدون قدرة ولا إرادة ولا اختيار ولا علم! (1) ومن تدبر هذا علم أن البعوضة تملك من العلم والقدرة والإرادة والاختيار والتصرف مالا يسمحون لله عز وجل بلمك عشر معشاره! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. هذا مع ما في ترتيبهم المذكور على أصولهم فضلاً عن غير الاختلال، بل هو هو س يخجل العاقل من نسبة القول به إلى من يشاركه في الانسانية! وقولهم: إن ذات الواجب وجود محض. أو رد عليه أن الوجود عندهم من المعقولات الثانية وهي عندهم أمور معدومة. فعلى هذا تكون ذاته عندهم عدماً، والعدم لا يكون سبباً لوجود. أجاب بعضهم بأن الوجود الذي هو ذات الواجب في زعمهم وجود خاص وهو موجود وإنما المعدوم الوجود المتعارف، قالوا: والداعي لهم إلى القول بأن ذات الواجب وجود خاص أنها لوكانت شيئاً آخر احتاجت إلى ما يفيدها الوجود، فإن كان غيرها كانت ممكنة، أو بلسان الجمهور كانت هي أو جدت نفسها فهذا محال. وقد أطال المتكلمون البحث في هذا. ويمكن أن يقال على وجه الالزام: ذاك الوجود الخاص إن لم يكن متصفاً بهذا الوجود المتعارف، اتصف ضرورة بنقيضه وهو العدم، والمعدوم مفتقر في أن   (1) بل بطريق التولد وقد أوضح شيخ الإسلام الرد عليهم في تفسير سورة (الإخلاص) وأن ذلك من نوع نسبة الولد إلى الله تعالى التي نقته السورة المذكورة. م ع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 يوجد إلى غيره حتماً، وإن كان متصفاً به وقعتم فيما فررتم منه. وفي (حواشي عبد الحكيم) على (شرح المواقف) : «الصواب عندي أن لا إيجاد ههنا بل هو اقتضاء الماهية للوجود، والمقتضي لا يلزم أن يكون موجداً، ألا ترى أن الماهيات مقتضية للوازمها وليست فاعلة لها ... كيف والإيجاد الخارجي لابد له من موجود وموجد في الخارج، وليس في الخارج ههنا إلا الماهية المقتضية للوجود، واعتبار التعدد فيها باعتبار أنها من حيث هي موجد ومن حيث الاتصاف بالوجود موجد إنما هو في الذهن» . (1) أقول: فمن فهم هذا وقنع به فذاك، وإلا فينبغي أن يدع التعمق ويرجع إلى اليقين وهو أن الله عز وجل هو الحق الذي لم يزل، وأنه خالق كل شيء، وليستعذ بالله ولينته (2) .   (1) أقول: وهذا الهوس نظير ما في الحديث من وسوسة الشيطان بقوله: هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله؟. وعلاجه الاستعاذة بالله واللجوء إلى طب الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. م ع (2) وليحمد الله أن عافاه من تفكير يؤدي إلى أن الله موجد - بتفج الجيم - في الذهن، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - فإن ابتليت من هذا الهو س فخدر نفسك من الجهل والغباوة والاشتغال بشيء من علوم الدنيا فلك وجبر وهندسة حتى تصحومن تلك السكرة ثم ابتدئ التفكير والنظر بأسلوب الأنبياء والصديقين وخذه من القرآن والحديث، وسيرة الرسول وخلفائه وسلف الأمة وسر في ركابهم واربط رقبتك في عجلتهم وتلمس غبار غبار قافلتهم، فإن نازعتك نفسك الا البحث الضيق فزج بها في أحضان علوم الكون والخليقة من فلك وطب وزراعة وسياسة واجتماع وصناعة فهي بحار تكفي لسباحة السابحين وخوض الخائضين، والغرق فيها مأمون العاقبة لا يخشى عليه الهلاك الأبدي والكفر بالله تعالى، بل أما انقاذ إلى شاطئ الحياة الدنيا، أو الموت على الإسلام شهيداً أو قريباً من صفوف الشهداء، ببركة البعد عن شكوك الشاكين في الله تعالى، وببركة السير على صراط أنبياء الله ورسله والصديقين والصالحين من عباده وحسن أولئك رفيقاً. م ع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وقد سمعت بعض الأكابر يذكر عن جد أبيه وهو من المشهورين أنه إذا كان ذكر له ما يسميه المتأخرون على التوحيد قال: «إنما هو علم التوحيل» . أقول: وتلك المناقضات والمعارضات والوساوس بحر من الوحل لا ساحل له إلا من جهة واحدة فمن جاء من تلك الجهة فخاض في ذاك الوحل لم يزده الإمعان فيه إلا تورطاً، فالسعيد من أعانه الله عز وجل على الرجوع إلى الساحل. (1) والمقصود هنا أن المتفلسفين لما أصلوا ذاك الأصل وهو أن ذات الله تعالى ليست منفصلة عن العالم ولا متصلة به أمعنوا في النفي كما تقدم. فأما المتكلمين الذين وافقوا على هذا الأصل فيضطربون في التفريع، يثبت أحدهم أمراً فيجئ الذي بعه فيجد أنه مضطر إلى نفيه بمقتضى الاعتراف بذاك الأصل، وهكذا. وعلى كل حال فابن سينا نفسه معترف بأن تلك الوحدة تأباها العقول الفطرية، وهي عقول الجمهور ومنهم الصحابة والتابعون، وتقطع أن حاصلها العدم المحض، ويعترف بأن الشرائع جاءت بضد تلك الوحدة وقد مر كلامه، ويوافق عليه من يتعانى التحقيق من المتكلمين كما يأتي في مسألة الجهة الغزالي والتفتاني، وإذا كان الأمر هكذا فلا ريب أنه لا وجه لحمل قول الله عز وجل «أحد» على تلك الوحدة، فلنطلب معنى آخر. قال بعض السلفيين أنه «الواحد في الربوبية والألوهية لا رب سواه، ولا آله إلا هو» . وهذا المعنى محتاج إلى التطبيق على السياق، وسبب النزول، وذلك ممكن بنحوما مر في «الواحد» لكن يبقى هنا سؤال وهو: لماذا جاء الاسم «الواحد» في القرآن معرفاً وجاء «أحد» غير معرف؟ وهنا معنى ثالث. في كتب اللغة أنه قال «رجل وحد لا يعرف نسبه ولا أصله» ، وعن ابن سيدة أنه يقال «رجل أحد» بهذا المعنى وفي القاموس «رجل   (1) ساحل السلامة من الفطرة وطريقة الرسل والأنبياء. م ع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وحد وأحد محركتين ووحد ووحيد ومتوحد منفرد» قال شارحة: «وأنكر الأزهري قولهم: رجل أحد ... لأن أحداً من صفات الله عز وجل التي استخلصها لنفسه» وفي القاموس (أح د) : «الأحد بمعنى الواحد، أي الأحد لا يوصف به إلا الله سبحانه وتعالى» . قال الشارح بعد قوله: الأحد: «أي المعرف باللام الذي لم يقصد به العدد المركب كالعدد عشرة ونحوه» . ثم قال الشارح أخيراً: «وهو الفرد الذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر، وقيل: أحديته معناها انه لا يقبل التجزي لنزاهته عن ذلك، وقيل: الأحد الذي لا ثاني له في ربوبيته، ولا ذاته، ولا في صفاته» . أقول: فالظاهر أن «وَحِد وأحد» الذي قالوا: أنه لا يعرف نسبه وأصله، وإنما حقيقته أنه بمعنى: منفرد، ثم لوحظ فيه التقييد، أي «منفرد عمن يكن من نسبه وأصله» . لا يوجد من يكون نسيباً له، ولكن لما كان هذا ممتنعاً في الرجل إذ لابد في غير آدم وعيسى من أن يكون له أب ويغلب له عم وابن عم وإن بعد وغير ذلك وإنما غايته أن لا يعرف نسبه وأصله عبروا بهذا، والمعنى الحقيقي ثابت لله تبارك وتعالى، فإنه لا نسيب له ولانسب البتة، وبهذا يتضح موافقة سبب النزول وهو قول المشركين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنسب لنا ربك، ولما كان هذا الوصف قد يطلق على غيره تعالى بمعنى أنه لا يعرف نسبه وقد يطلق على آدم بمعنى أنه لا أب له وإن كان مخلوقاً من الطين، وكذلك عيسى وإن كان له نسب من جهة أمه ونحو هذا يقال في الملائكة وأبي الجان، لما كان الأمر كذلك قيل: «قل هو الله أحد» ولم يقل «الأحد» وأكد ذلك أن المشركين لما قالوا: أنسب لنا ربك، اقتضى ذلك أنهم يزعمون أن الله عز وجل ليس أحداً بذاك المعنى بخلاف «الواحد» في الربوبية فإنهم يعترفون به كما تقدم. وهذا المعنى هو المناسب لسبب النزول كما مر، ومناسبته للسياق واضحة أيضاً. وقوله سبحانه: (الله الصمد) تقدم في حديث البخاري في رواية «شتمه إياي قوله: اتخذ الله ولداً، وأن الصمد ... » وفي حديث أبي العالية «فالصمد الذي لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 يلد ولم يولد..» وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب «الصمد الذي لم يلد ولم يكن له كفواً أحد» يظهر أن المراد أن الصمد يستلزم أنه لم يلد ولم يولد، وتوجيه ذلك يعلم مما يأتي: أخرج ابن جرير من وجهين صحيحين عن مجاهد قال: «الصمد المصمت الذي لا جوف له» . ومن وجه صحيح عن الحسن البصري قال: «الصمد الذي لا جوف له» . ومن وجه صحيح عن سعيد ابن جبير سئل عن الصمد فقال: «الذي لا جوف له» . ومن وجه صحيح عن عكرمة قال «الصمد الذي لا جوف له» . ومن وجه آخر صحيح عن عكرمة أيضاً قال: «الصمد الذي لا يخرج منه شيء» زاد في رواية «لم يلد ولم يولد» . ومن وجه صحيح عن الشعبي قال: «الصمد الذي لا يطعم الطعام» . وفي رواية «الذي لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب» . ومن وجه فيه ضعف عن عبد الله بن أبي بريدة عن أبيه قال عبد الله: «لا أعلمه إلا قد رفعه (يعني إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم) قال: الصمد الذي لا جوف له» ومن وجه فيه ضعف عن ابن عباس قال: «الصمد الذي ليس بأجوف» . ومن وجه ضعيف عن ابن المسيب قال: «الصمد الذي لا حشوة له» . هذه الأقوال كلها تعود إلى مثل قول مجاهد، واستلزم هذا المعنى لنفي الولد والوالد كما في حديث البخاري وحديث أبي العالية وقول محمد بن كعب ظاهر، وذلك أن من يكون كذلك لا يمكن أن يكون له ولد على الوجه المعروف في التناسل أو نحوه، لأن ذلك يتوقف على أن يخرج من جوف الأب شيء يتكون منه الأب، وهكذا من كان كذلك لا يكون له أب لأن الأب لابد أن يكون شبيه الابن في الذات، ففرض أب للمصمت الذي لا جوف له يستلزم نفي الأبوة - وهذا المعنى مع صحته عن أكابر من التابعين كما رأيت واضح المناسبة للسياق، ولحديثي البخاري وأبي العالية، ولتقديم «لم يلد» فإن دلالة هذا المعنى على أنه لم يلد أقرب من دلالته على أنه لم يولد كما لا يخفى. لكن أخرج ابن جرير من وجه صحيح عن الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: «الصمد السيد الذي قد انتهى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 سودده» . وقال: «حدثنا علي (1) قال: ثنا أبوصالح قال ثنا معاوية عن علي عن إسماعيل عن ابن عباس في قوله: «الصمد» ، يقول: السيد الذي كمل في سودده والشريف الذي قد كمل شرفه والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والغني الذي قد كمل في غناه، والجبار الذي قد كمل في جبروته، والعالم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه، هذه صفته التي لا تنبغي إلا له» . والسند عن أبي وائل فيه الأعمش، وهو مدلس مشهور بالتدليس، وربما دلس عن الضعفاء، (2) والسند عن ابن عباس فيه كلام وهو مع ذلك منقطع، علي ابن أبي   (1) علي هو ابن داود بن يزيد التميمي القنطري من شيوخ ابن جرير ومن تلاميذ أبي صالح عبد الله ابن صالح كاتب الليث بن سعيد عن معاوية بن صالح الحضرمي عن على بن أبي طلحة الوالي عن ابن عباس رضي الله عنه. م ع قلت: القنطري هذا ثقة صدوق، ولم يتفرد به. فقد قال ابن أبي حاتم في «تفسيره» حدثنا أبي ثنا أبوصالح به. كما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية في «تفسير سورة الإخلاص» ص 5، لكن السند فيه ضعف وانقطاع كما يأتي عن المصنف رحمه الله تعالى. ن (2) رواية الأعمش عن أبي وائل معتمدة في «الصحيحين» لاختصاصه به، فلا يضره وجود شيء من التدليس في غير روايته عن أبي زائل، ولو تنطعنا في رد رواية رمى بشيء من التدليس لرددنا رواية كثير من الأئمة كمالك والثوري وغيرهما، راجع رسالة الحافظ ابن حجر في مراتب المدلسين. وأما رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس فأقصى ما يكون من أمرها أخذها عن مجاهد وابن جبير وهما من خيار ثقات أصحاب ابن عباس، فاستندت إلى أقوى ركنين من أركان الرواة عن ابن عباس فزادت قوة بما يظن أنه يوهنها، ولذلك اعتمدها أئمة التفسير المأثور كابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما. والله أعلم. م ع قلت: ما ذكر فضيلته في رواية الأعمش عن أبي وائل وجيه، وكذلك رواية علي عن ابن عباس، إن ثبت أن بينهما مجاهد وسعيد، ولكن أين السند بذلك؟ وما ذكره من = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 طلحة أجمع الحفاظ كما في (الإتقان) عن الخليلي على أنه لم يسمع من ابن عباس، وقال بعضهم: إنما يروي عنه بواسطة مجاهد أوسعيد بن جبير. ولا دليل على أنه لا يروي عنه بواسطة غيرهما، والثابت عنهما في تفسير الصمد خلاف هذا كما مر، لكن ابن جرير قال: «الصمد عند العرب هو السيد الذي يصمد إليه الذي لا أحد فوقه، وبذلك تسمى به أشرافها ومنه قول الشاعر: ألا بكر الناعي بخيري بني أسد ... بعمروبن مسعود وبالسيد الصمد وقال الزبرقان: ... ولا رهينة إلا سيد صمد. فإذا كان ذلك كذلك فالذي هو أولى بتأويل الكلمة المعنى المعروف من كلام من نزل القرآن بلسانه، ولوكان حديث ابن بريدة صحيحاً كان أولى الأقوال بالصحة لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعلم بما عنى الله جل ثناؤه وبما أنزل عليه. أقول: الذي يدل عليه البيتان مع مراعاة الاشتقاق أن «صمد» بمعنى: مصمود   = اعتماد ابن جرير وابن أبي حاتم لروايته عن ابن عباس، فيه نظر، فإن مجرد الاعتماد على الرواية لا يدل على ثبوت إسنادها، لجواز أن يكون هناك ما يشهد لها من سياق أوسبب نزول، وأو غير ذلك، مما يسوغ به الاعتماد على الرواية مع كون إسنادها في نفسه ضعيفاً. على أنه ليس من السهل إثبات أن الإمامين المذكورين اعتمدا هذه الرواية في كل متونها، الله إلا إن كان المقصود بالاعتماد المذكور إنما هو اخراجهما لها، وعدم الطعن فيها، وحينئذ، فلا حجة لثبوت اخراجهما لكثير من الروايات بالأسانيد الضعيفة، وقد ذكرت بعض الأمثلة على ذلك من رواية ابن أبي حاتم في بعض تأليفي، منها قصة نظر داود عليه السلام إلى المرأة وافتتانه بها وقصة هاروت وماروت، وقد خرجتهما في «سلسة الأحاديث الضعيفة» برقم (314 / 170) . على أنه لو سلمنا بما ذكر فضيلته من الاتصال، فلا يسلم السند إلى علي من كلام كما ذكره المصنف، مشيراً بذلك إلى الضعف الذي عرف صالح كاتب الليث، ففي «التقريب» : «صدوق كثير الغلط، ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة» . ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 إليه كثيراً، فأما زيادة «الذي لا أحد فوقه» فتؤخذ في الآية من القصر الذي يقتضيه تعريف الجزئين. وهذا المعنى وإن كان كأنه أشهر في العربية فالمعنى الأول معروف فيها، والاشتقاق يساعد المعنيين، وفي (اللسان) : «قال أبو عمرو: الصمد من الرجال الذي لا يعطش ولا يجوع في الحرب وأنشد: وسارية فوقها أسود ... بكفي سبتني ذفيف صمد (السارية) الجبل المرتفع الذاهب في السماء كأنه عمود، والأسود العلم بكف رجل شجاع» . أقول: وهذا على المبالغة أي كأنه لا جوف له فيجوع ويظمأ. وكفى دلالة على صحة المعنى الأول ثبوت القول به من أئمة التابعين، ثم هو الأوضح مناسبة للسياق وسبب النزول. وذهب بعض الأجلة (1) إلى تصحيح كلا المعنيين. وهذا إما مبني   (1) كأنه يعني به شيخ الإسلام ابن تيمية في «تفسير سورة الإخلاص» له. وتصحيحه للمعاني الواردة على أئمة المفسرين من الصحابة والتابعين ليس من باب استعمال المشترك في معنيه أو معانيه ولا من باب التخيير الإباحي ولكنه رضي الله عنه صححها كلها لأنها متلازمة، ولك معنى منها وجه من وجوه معنى الصمد، فالسيد الذي كمل في سؤدده وعلمه وحلمه وحكمته وغناه هو الذي استغنى عن الطعام والشراب، وتعالى عن الجوف والبطن والمعدة والأمعاء. وشيخ الإسلام يرى فيما نقل من أقوال السلف في التفسير أنها متلازمة متشابهة لا اختلاف فيها، وكثير منها بل أكثرها من باب التمثيل وتقريب المعنى، ويذكر وجه من وجوهه ونوع من انواعه، كما لوسألك أعجمي عن الخبز فأشرت إلى رغيف وقلت له هذا، وأشار إلى رغيف بشكل آخر، وقال: الخبز هذا، وأشار ثالث إلى فطير أو بقسماط أو بقلاوة، وقال: مثل هذا، فتجمع هذه التفاسير عند الأعجمي على معنى كلي أنه ما صنع من دقيق الحب، ولوتنوعت كيفيات الصناعة، فكلها خبز أو من نوع الخبز أو شبيه به وحينئذ فلا تعارض ولا تناقض. وكذلك إذا تأملنا تفاسير السلف للصمد وجدناها متلازمة يشرح بعضها بعضاً ويبني بعضها بعضاً تجتمع كلها على إثبات عظمة الله وتنزيهه عن النقائص. والله أعلم. م ع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 على صحة استعمال اللفظ المشترك في معنييه معاً، وإما على ما يشبه التخيير الإباحي، كأنه قيل: من فهم هذا وبنى عليه فقد أصاب، ومن فهم هذا وبنى عليه فقد أصاب. والمتكلمون يقولون: إن المعنى الأول محال على الله عز وجل، لأن ذلك من صفات الأجسام، ولا شأن لنا الآن بهم، وإنما الكلام ههنا فيما فهمه المخاطبون الأولون، وقد سمعت قول كبار التابعين المروي عن بعض الصحابة، ومن الواضح أنه لا ينافي المعناي التي ينكرها المتعمقون من آيات الصفات وأحاديثها، وكذلك المعنى الثاني لا ينافيها وإنما حاصلة أن الله سبحانه هو الذي يعمد إلى الخلق فيما قصده فيما يهمهم، وحاصلة أنه سبحانه المنفرد بالربوبية واستحقاق الألوهية، «ومن لوازم ذلك نفي النقائض عنه» . (1) قوله تعالى: «لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ» واضح ليس فيه ما ينافي تلك المعاني. قوله سبحانه: «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» مر في حديث أبي العالية: «ولم يكن له شبيه ولا عدل وليس كمثله شيء» وأخرج ابن جرير من نسخة على بن أبي طلحة عن ابن عباس: «ليس كمثله شيء فسبحان الله الواحد القهار» وأخرج من وجه صحيح عن مجاهد قال: «صاحبة» ، والمعنى الأول متضمن للثاني، والمنفي ههنا هو الكفء، والمشاركة الإجمالية في الوجود والعالمية والقادرية وغيرها ليست مكافاة إذ الواقع «في الوجود» (1) إنما هو وجود ذاتي واجب كامل، ووجود مستفاد ممكن ناقص، وقس على ذلك، فلوفرض أن تلك المشاركة يصح عليها مشابهة، فالمنفي هنا هو الشبيه المكافئ، فليس في هذا أيضاً ما ينافي المعاني التي ينكرها المتعمقون.   (1) زيادة من فضيلة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة. ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 المقصد الرابع المتكلم: أمهلوني حتى أعيد النظر في المقاصد الثلاثة الأولى، وأفكر فيها. الناقد:فليتكلم السلفي في بقية المقاصد، الرابع فما بعده. السلفي: كان العرب الذين خوطبوا بالقرآن والسنة أولاً كغيرهم من الناس بعقولهم الفطرية وما توارثوه عن الشرائع أن الله عز وجل «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» فكانوا يعلمون أنه سبحانه ليس بحجر ولا كوكب ولا إنسان ولا طائر ولا جني ولا ملك ولا من المخلوقات التي عرفوها والتي لم يعرفوها بل هو رب كل شيء وخالقه. وقد شهد لهم القرآن بأنهم كانوا يعتقدون وجود الله عز وجل وربوبيته، وأنه يرزق من السماء والأرض، والذي لملك السمع والأبصار، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويدبر الأمر كله، وله الأرض وما فيها، رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، خلق السماوات والأرض، وسخر الشمس والقمر، ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر له، ينزل من السماء ماء فيحي به الأرض، خلق السماوات والأرض وهو العزيز العليم. إلى غير ذلك. انظر سورة (يونس) : 31، وسورة (المؤمنون) : 84 - 89، وسورة (العنكبوت) : 61 - 63، وسورة (الزمر) : 38، وسورة (الزخرف) : 9 و87، وسورة (البقرة) : 21 - 22 و (تفسير ابن جرير) ج 1 ص 126. وكانوا كغيرهم من أصحاب العقول الفطرية يعلقون أن الله سبحانه وتعالى ذاتاً قائمة بنفسها، ولم يكن ذلك موجباً أن يتوهموا أنه من جنس ما يرونه ويلمسونه، ولا مماثلاً لشيء من ذلك فقد كانوا يعتقدون وجود الجن والملائكة، وأنها قد تكون بحضرتهم وهم لا يرونها، ولا يسمعون كلامها ولا يحسون بمزاحمتها لهم، ويعلمون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 أن الله عز وجل أعلى وأجل وأبعد عن مماثلة ما يرونه ويلمسونه وكانوا كغيرهم من الناس يعلمون أن الموجود القائم بنفسه حقيقة لا يمكن أن يكون لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه، ولا قريباً من غيره من الذوات ولا بعيد عنها، فكانوا يعتقدون أن الله تبارك وتعالى فوق عرشه الذي فوق سمواته. ولم يكونوا إذا قيل لهم: يد الله، مثلاً ليفهموا من ذلك يداً كأيديهم،، فإنهم يعلمون أن المضاف يختلف باختلاف المضاف إليه، يقال: رأس جرادة، رأس حمامة، رأس إنسان، رأس حصان، فيختلف كما ترى، فما بالك بنحو «يد الله» مع ما قدمنا انهم كانوا يعلمون أنه تعالى ليس بإنسان ولا جني ولا ملك ولا مماثل لشيء من ذلك ولا لغيرها من مخلوقاته، وأنه أعلى وأجل وأكبر من ذلك كله، وأنهم كانوا يعتقدون وجود الجن والملئكة وأنها قد تكون بحضرتهم، لا يرونها ولا يسمعون كلامها ولا يدركون لها حساً ولا أثراً، ويعلمون أن الله تبارك وتعالى أعلى وأجل وأبعد عن مماثلة المحسوسات، والإنسان إذا كان يعرف المضاف إليه أو مثله أمكنه تصور المضاف تحقيقاً أو تقريباً يتأتى معه أن يقال: مثل، أو شبيه، ولم يبق هناك إلا إجمالي، فإذا كان المضاف إليه هو الله عز وجل لم يتصور من يده مثلاً إلا ما يليق بعظمته وجلاله وكبريائه، فلا يلزم من تلك المشاركة الإجمالية أن تكون يده مثل المخلوق ولا شبيهة بها بمقتضى لسان العرب الفطري، فإنه لا يطلق في مثل ذلك «ذاك شبيه بهذا» وقد سبق في أو اخر الكلام على قوله تعالى: «ليس كمثله شيء» ما ينبغي تذكره. فينبغي استحضار هذا لئلا يتوهم أن العرب كانوا يعتقدون أن لله عز وجل يدين يدي إنسان أو مثلها أو يجوزون ذلك، أو فهموا ذلك من قول الله تعالى: «خلقته بيدي» وقس على هذا، فإن كان في بعض النصوص ما يوهم ظاهره المماثلة فعقول القوم كانت قريبة كافية لصرفه عن ذلك، إلا أن تكون مماثلة في مطلق أمر فهذه قد تقدم تحقيقاً في الكلام على قوله تعالى: «ليس كمثله شيء» . قال السلفي: وليست جميع النصوص المتعلقة بالعقائد موافقة لما كان عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 العرب، فقد كانوا ينسبون إلى الله تعالى الولد، وينكرون البعث، إلى غير ذلك مما رده عليهم القرآن. المقصد الخامس إلى الثامن قال السلفي: لسنا نلتفت إلى دعوى ابن سينا ومن وافقه ولا إلى نظرهم المتعمق فيه بل نقول: كل ما كان حقاً في نظر المأخذين السلفيين فهو حق، وكل ما كان باطلاً في نظرهما فهو باطل، وقد تقدم في الباب الأول ما فيه كفاية، وبذلك تسقط دعواهم وما بني عليها. وحاصل كلام ابن سينا ومن وافقه إنما هو نسبة الكذب إلى الله تبارك في كثير مما أخبر به عن نفسه وغيبه، وإلى الرسول في كثير مما أخبر به عن ربه، فإن منهم من اعترف، ومنهم من تقوم عليه الحجة، بأن من تلك النصوص في دلالتها على المعنى الذي يزعمون بطلانه ما هو ظاهر بين، وما هو صريح واضح، وما هو مؤكد مثبت، مع أنه ليس في المأخذين السلفيين ما يصح أن قرينة تصرف أفهام المخاطبين الأولين من كان مثلهم عن فهم تلك الظواهر، بل فيها ما هو واضح كل الوضوح بل، فيها ما هو واضح كل الوضوح في تثبيت تلك الظواهر. ولا يقتصر أمرهم على هذا بل يلزمه أن يتناول الكذب في زعمهم جميع النصوص الواردة في الثناء على الله عز وجل، وعلى رسوله وعلى كتابه، وعلى دين الإسلام - بالصدق والحق والهداية والبيان والإبانة ونحوذلك كقول الله عز وجل «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً» «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً» وغير ذلك مما لا يحصى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 ومن المعلوم من دين الإسلام بالضرورة تنزيه الله عز وجل عن الكذب، وتنزيه أنبياءه عن الكذب عليه أي فيما أخبروا به عنه أو عن دينه. وقد تقدم الكلام في ذلك، وفيه بيان تنزههم عن تعمد الكذب فيما عدا ذلك، فإن ثبت أن كلمات إبراهيم عليه السلام مما يطق عليه اسم الكذب، فاظاهر أنها كانت قبل النبوة كما مر، وبالجملة فهي أشد ما حكي عنه الأنبياء، فقد سماها إبراهيم ومحمد عليهما السلام «كذبات» وسميت في الحديث «خطايا» ويرى إبراهيم عليه السلام أنها تقعد به عن رتبة الشفاعة في المحشر، وتقتضي أن يستحي من ربه عز وجل. وأرى أن أو ازن بين تلك الكلمات وبين النصوص التي زعم المتعمقون بطلان معانيها الظاهرة ليتضح للناظر أنه يلزم أن يكون إبراهيم أصدق من رب العالمين - لا من محمد فحسب - بدرجات لا نهاية لها. وذلك من وجوه: الأول: أن كلمات إبراهيم ثلاث فقط لم يقطع منه طول عمره غيرها، وتلك النصوص تبلغ آلافاً، عن أنهم يزعمون أن نصوص التوراة وسائر كتب الله عز وجل كذلك. الثاني: أن كلمات إبراهيم في مقاصد موقتة، وتلك النصوص تعم الأزمنة إلى يوم القيامة. الثالث: أن كلمات إبراهيم تتعلق بالذين خاطبهم فقط وتلك النصوص تعم حاجة الناس إليها إلى يوم القيامة. الرابع: أن كلمات إبراهيم في مقاصد دنيوية ليس فيها إخبار عن الله عز وجل ولا عن دينه، وتلك النصوص في أصل الدين وأساسه. الخامس: ان إبراهيم لم يكن عند الذين خاطبهم نبياً فيشتد وثوقهم بخبره، وفي الحديث: «كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثاً هو لك به مصدق وانت له لك به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 كاذب» ، (1) وتلك النصوص مخاطب بها المسلمون الذين يؤمنون بأن القرآن كتاب الله وأن محمداً رسول الله. السادس: أن إبراهيم لم يكن قد التزم لمخاطبيه أن لا يحدثهم إلا بالصدق، وتلك النصوص في الكتاب والسنة، وقد قال تعالى: «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً» ، «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً» ، «الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ» وغير ذلك. السابع: أن كلمات إبراهيم قريبة لإحتمال المعنى الواقع، وتلك النصوص أكثرها بغاية البعد عما يزعم المتعمقون أنه الواقع. الثامن: أن كلمات إبراهيم لم تؤكد، تلك النصوص كثير منها مؤكدة فيما هي ظاهرة فيه غاية التأكيد. التاسع أنت كلمات إبراهيم لت تكرر، وتلك النصوص تكرر كثير منها في الكتاب والسنة. العاشر: أن حال إبراهيم كانت ظاهرة للمخاطبين مقتضية أن يترخص في إيهامهم، وتلك النصوص على خلاف ذلك، فلم تكن حال محمد صلى الله عليه وآله وسلم تقتضي إلا الصدق المحض، فأما رب العالمين فما عسى أن يقال فيه؟ الحادي عشر: أن إبراهيم احتاج إلى تلك الكلمات، ولم يكن يمكنه قبل ذلك الاستعداد للحوادث لتلك الحوادث بما يغنيه عن تلك الكلمات أو نحوها، وتلك النصوص على خلاف هذا - لولم تكن حقاً، فإن الله عز وجل إنما خلق الناس لعبادته كما تقدم تقريره أو ائل الرسالة، فلوكان الحق في نفس الأمر ما يزعمه المتعمقون لخلق الله   (1) أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» وأبو داود في «السنن» من حديث سفيان بن أسيد، وفيه ضبارة بن مالك وهو مجهو ل. ورواه أحمد من حديث النوارس بن سمعان، وفيه عمر بن هارون وهو متروك كما في «التقريب» ، فمن قال في إسناده: «جيد» ، فقد تساهل أو هم. ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 تعالى الناس على الهيئة التي ترشحهم لإدراك ذلك بدون صعوبة شديدة، وذلك بأن يزيد في عقولهم ويهيئ لهم من آيات الآفاق والأنفس ما يقرب إدراك الحق إلى أذهانهم، حتى إذا خاطبهم به في كتبه، وعلى ألسنة رسله، ونبههم على الدلائل القريبة في ذلك أمكن من يحب الحق منهم ويرغب فيه أن يفهم ذلك ويدركه. فنقول للمتعمقين: ألم يعلم الله عز وجل ما يكون عليه حال الناس؟ أم علم ولكن لم يقدر على أن يخلقهم على الهيئة المذكورة ويهيئ لهم من آيات الآفاق والأنفس ما ذكر؟ أم علم وقدر، ولكن لم يعبأ باقتضاء الحكمة، فضطر سبحانه وحاشاه - أخيراً إلى الكذب والتلبيس الذي يوقع الناس في نقيض ما خلقهم لأجله في ا؟ لأصول وحرصاً على أن يقبلوا بعض الفروع؟ هذا مع ما يترتب على ذلك من المفاسد كما يأتي. الثاني عشر: أن كلمات إبراهيم كان إبراهيم محتاجاً إليها حاجة محققة، وتلك النصوص - لولم تكن حقاً - على خلاف ذلك، فإن العرب كانوا في جاهليتهم يعترفون بوجود الله وربوبيته وغير ذلك، كما سلف في الجواب عن المقصد الرابع، فلوبنى الشرع أولاً على ما كانوا يعترفون به مما يعترف المتعمقون أنه حق في نفس الأمر، وعلى ما يشبه ويقرب منه، وسكت عن غيره مما تأباه عقولهم، لم يكن ما ينفرهم عن قبول الشرع، فأي حاجة دعت إلى أن يخاطبوا بما يزعم المتعمقون أنه باطل؟ بل أقول: لوجاءهم الشرع بالأصل الجامع في الجملة لما يزعمه المتعمقون، وهو أن الله عز وجل ليس داخل العالم ولا خارجه، ثم كرر الدعوة والاستدلال كما صنع في إثبات ما كانت عقولهم تأباه من قدرة الله عز وجل على حشر الأجساد، وكما صنع في نفي ما كانت عقولهم تتقبله أو توجبه من أن الله عز وجل ولداً - لكان فيهم من يخضع لذلك، ثم لا يزالون يزدادون، وأنت ترى من لا يحصي من المنتسبين إلى العلم وطلبه وقبلوا ذاك الأصل الجامع، وبعض فروعه ممن أحسنوا به الظن من المتكلمين؛ فقلدوه في ذلك وتعصبوا له، وعادوا من يخالفه، غير مبالين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 بعقولهم، ولا بنصوص الكتاب والسنة، ولا بمخالفة من هو أجل عندهم ممن قلدوه. وقد جاء أفراد بمقالات تنبذها العقول الفطرية، ويردها النظر المتعمق فيه، ومع ذلك تبعهم من لا يحصى، والعرب إنما كانوا يستندون في إنكار ذاك الأصل إلى عقولهم الفطرية وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندهم أوسطهم نسباً، وأفضلهم خلقاً، معروفاً بينهم بالصدق والأمانة، والعدل وحب الحق والحرص عليه، ولا يريد رياسة ولا جاهاً، ثم جاءهم بالمعجزات، فلوجاءهم بذاك الأصل ونحوه أما كان يجد منهم من يقلده ويتبعه كما وجد المتعمقون والأفراد الآخرون، بل كما وجد الرسول نفسه في نفي نسبة الولد إلى الله عز وجل، وفي إثبات حشر الأجساد؟ وسيأتي في الجواب عن المقصد العاشر على هذا. وهب أن الحاجة دعت إلى إظهار موافقتهم على ما يخالف ذاك الأصل وبعض فروعه وأنه ساغ ذلك، فقد كان يكفي نص أو نصان أو ثلاثة مما هو ظاهر في غير ما يوافقهم محتمل لما يوافقهم، فيحملون ذلك على ما يوافقهم وأهو ائهم، فإن كان ولابد فما يحتمل المعنيين على السواء، أو يكون ظاهراً فيما يوافقهم ظهوراً ضعيفاً، غايته أن يكون نحوكلمات إبراهيم، فما بال الكتاب والسنة مملوأين بتلك النصوص التي يزعم المتعمقون أن ظاهرها باطل، ومنها ما ظاهر بين، وما هو صريح واضح، وما هو واضح، وما هو محقق مثبت مؤكد، فهل كانت الضرورة تدعوة إلى ذلك كله؟ الثالث عشر: كلمات إبراهيم لم تقتض الحكمة أن يتداركها بالبيان في الدنيا لأنها كانت في قضايا مؤقتة، ولم تترتب عليها مفسدة ما كما تقدم، وتلك النصوص لوكانت لما يزعم المتعمقون لاقتضت الحكمة اقتضاء باتاً أن يتبعها الشرع بما يتبين الحق، ولم يقع من هذا شيء، فأما الإشارات المذكورة في المقصد الثالث فقد مر الكلام فيها. فإن قيل: وكَلَهم الشرع إلى العقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 قلنا: العقل الفطري يوافق تلك النصوص كما تقدم، والنظر المتعمق فيه جاء في الشرع التنفير عنه وعن أهله، هذا مع الأمر المؤكد بالوقوف مع الكتاب والسنة والاعتصام بهما، ة الحكم بالزيغ والضلال والكفر على من خالفهما، وتأكيد أن الحق كله فيهما، وأن الدين قد كمل لهما، والأمر بالرجوع عند التنازع إليهما، وبيان أن الكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن الرسول يهدي إلى صراط مستقيم، وغير ذلك. الرابع عشر: كلمات إبراهيم عليه السلام يظهر من تسميتها خطايا، ومن خجله واستحيائه من ربه في المحشر من أجلها انه ندم عليها في الدنيا، وعزم أن لا يعود إلى مثلها، وتلك النصوص لم يرد ما يشير إلى ندم محمد صلى الله عليه وآله وسلم من اجلها، بل الوارد خلاف ذلك، فأما الرب عز وجل فهو عالم الغيب والشهادة. الخامس عشر: أن كلمات إبراهيم لم تترتب عليها مفسدة ما، بل ترتب عليها درء مفاسد عظيمة، وتحصيل مصالح جليلة، فقوله: «هي أختي» ترتب عليها سلامة إبراهيم من بطش الجبار، وسلامة الجبار وأعوانه من ذاك الظلم. وقوله: «إني سقيم» ترتب عليها تمكنه من تحطيم الأصنام، وما تبع ذلك من إقامة الحجة. والثالثة ترتب عليها إقامة الحجة على عباد الأصنام حتى اضطروا إلى الاعتراف، فقال بعضهم لبعض: «إنكم أنتم (1) الظالمون» . وأما النصوص التي يكذب المتعمقون معانيها التي هي فيها ما بين ظاهر بين، وصريح واضح، ومحقق مؤكد. فإن كانت كما يزعم المكذبون فقد ترتب عليها مفاسد لا تحصى. الأولى: لزوم النقص كما تقرر في الوجوه السابقة حتى لولم يخلق الله تعالى الناس لما لزم مثل ذاك النقص، ولا ما يقاربه، بل لا يلزم نقص فيما أرى. الثانية: تثبيت الاعتقاد الباطل في أصل الدين وحمل الناس عليه.   (1) الأصل «لأنتم» . ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 الثالثة: حمل كثير ممن يسميهم ابن سينا «الخاصة» وهم المتعمقون في النظر العقلي على تكذيب الشرع البتة لأنهم يرون فيه تلك النصوص التي يرون أن معانيها باطلة، فيقولون: لو كان هذا الشرع حقاً ما جاء بالباطل، والله تعالى أعز وأجل مكن أن يجل أو يكذب، والأنبياء الصادقون لا يجهلون ولا يكذبون عليه، واعتذار ابن سينا باطل كما ترى. فإن قيل أما هذم المفسدة فهي حاصلة على كل حال، قلت: لكن إن كانت النصوص كما يقول المكذبون كانت تبعة هذا المفسدة عليها. فأما إذا كانت حقاً كما يقول السلفيون فإن تبعة هذه المفسدة تكون على التعمق في النظر وتقديم ما يلوح منه على الفطرة والعقول الفطرية وكلام الله وكلام رسوله، وبعبارة أخرى تكون تبعتها على إتباع الهوى، وإيثاره على الحق، ويكون ذلك بالنظر إلى الشرع مصلحة. الرابعة: حمل أشد المؤمنين إخلاصاً وأقواهم إيماناً بالله ورسوله، وألزمهم اعتصاماً بالكتاب والسنة - على تضليل أو تكفير من يظهر خلاف تلك النصوص من «الخاصة» ، وحمل «الخاصة» على تجهيل أولئك المخلصين وتضليلهم والسخرية منهم. ومن أعجب العجب أن الفريقين إذا علما ما في الافتراق في الدين من الفساد طلباً من الدين نفسه الذي أو قعها - على زعم المتعمقين - في الافتراق، وقد زجر عنه - أن يدلهما على المخلص، فلا يجد أن إلا قول الله عز وجل: «فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً» النساء - 59. فيتداعى الفريقان الى تحكيم الكتاب والسنة، فأما السلفيون فيقولون: ذلك ما كنا نبغي، وأما «الخاصة» فيعلمون أنهم إن أجابوا قضى الكتاب والسنة قضاء باتاً بتلك النصوص، وإن أعرضوا تلا السلفيون ما يلي تلك الآية «أَلَمْ تَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً» . النساء - 60 - 61. وقوله بعد ذلك: «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» . النساء - 65. الخامسة: إن وقوع الكذب في بعض النصوص الشرعية يفتح الباب لتكذيب الشريعة كلها حتى على فرض قبول اعتذار ابن سينا، هذا هو نفسه لما علم أن المتكلمين يوافقونه في بعض النصوص الاعتقادية فيزعمون أن ظواهرها باطلة جر ذلك إلى نصوص أخرى في العقائد، ثم إلى نصوص تتعلق بالملائكة والنبوة والأرواح، ثم إل النصوص المتعلقة بالبعث والنشور والجنة والنار وغير ذلك، ثم ختم بأن قضى على كل من يريد أن يكون من «الخاصة» بأن لا يلتفت إلى الشرع فيما للرأي فيه مجال، ففتح الباب بمصارعه ومهد لأصحابه الباطنية وغيرهم. ولا ريب أنه لو جاز أن يكون في النصوص الشرعية كذب وتلبيس دعت إليه مصلحة ما وإن عارضتها عدة مفاسد، لم يسلم نص من النصوص من احتمال ذلك، وإنما حاصل هذا أن الشرع باطل، وأن الأنبياء إنما أتبعوا أهواءهم، وأحسن أحوالهم عند «الخاصة» أن يكونوا أتبعوا تخيلاتهم. والحق الذي لا يرتاب فيه مؤمن تنزيه الله عز وجل وكتبه ورسله عما يقول الظالمون الذين يسمون أنفسهم الخاصة، وأن اتباع الأهواء والتخيلات هي صفة أولئك الفجار، «لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ» ثم لرسله (1) «الْمَثَلُ   (1) بل المثل الأعلى لله وحده وهو تفرده بالصمدية والسؤدد والكمال وتنزهه عن كل عيب ونقص وشين وذم. فالكتاب العصريون الذين استعملوا المثل الأعلى في مطمح النظر والكمال المرجو لمن يتطلبه قد حرفوا المثل الأعلى أن يقال: ولله المثل الأعلى فس الوصف بالكمال ولرسله البيان الواضح والبلاغ المبين فيما أخبروا عن الله ولله وصفه كما قال تعالى: (سبحان رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين) . قال الشيخ ابن تيمية ما معناه: نزه نفسه عما وصفه به المبطلون، وسلم على المرسلين لسلامة أقوالهم عما لا يليق بالله تعالى إثباتاً ونفياً، وحمد نفسه على وصفه، بربوبية رب العالمين آه ملخصاً بالمعنى في تفسير الآية من «الواسطية» وأما إستنكار وصف غير الله تعالى بأنه له المثل الأعلى، فقد أستفدته من محاورة بعض شيوخ الهند المحققين. والله أعلم. م ع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» . النحل - 60. المقصد التاسع قال السلفي: المقصد التاسع مبني على ما قبله وقد علم حاله، وما ذكر من أن الفرض على هؤلاء كذا وعلى هؤلاء كذا لم يذكره ابن سينا، ولكنه قد يؤخذ من كلامه، وقد نحا الغزالي في بعض كتبه قريباً من هذا المنحي، وصرح به ابن رشد في كتبه وزاد فأو جب على «الخاصة» أن يكتموا نتائج تعمقهم المخالفة للدين، وأن إظهارها كفر أنه يحمل العامة على الكفر. وأقول: كان الحق على المتعمقين عندما برون مخالفة بعض نتائج تعمقهم للدين أن يعملوا بنصيحة ذاك الفريق من الفلاسفة القائلين أن النظر المتعمق فيه لا يوثق به في الآلهيات كما تقدم في الباب الأول، وحينئذ يحصرون تعمقهم في البحث عن الطبيعيات ونحوها، فإن أبى أحدهم فاليقصر داءه على نفسه على فلا يعلم ولا يصنف ولا يناظر، فإن اضطر إلى الذب عن الدين فليخل بمن يطعن في الدين وليقل له: لم يخف عنا ما بدا لك، ولكن عرفنا ما مل تعرف فإن الشرائع الحقة جاءت بما تنكره، فإما أن يكون الحق ما جاءت به إذ من المحال أن يخطئ الله وأنبياؤه، وتصيب أنت بنظرك الذي قد جربت عليه الخطأ والغلط غير مرة، وإما أن تكون الشرائع جاءت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 بما يصلح الجمهور على علم بما فيه، وعلى كلا الحالين لا ينبغي معارضتها، فإن أبيت فأني أرى علي أن أرد عليك، وأقدح فيما تستدل به. أقول: ومن تأمل طرق استدلالهم ومناقضاتهم ومعارضاتهم عرف أنه لا يصعب على الماهر في كلامهم الدفاع عن تلك النصوص، وأنفعل مع اعتقاده خلافها لم يكن عليه عند نفسه غضاضة في علمه ولا دينه - إن كان متديناً - لأنه إنما رضي لنفسه من ذلك ما يرى أن رب العالمين رضيه لنفسه ولأنبيائه ورسله، وقد وبخ الله عز وجل المشركين في قولهم أن له سبحانه بنات مع كراهيتهم أن تكون لهم بنات، قال تعالى: «أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى» النجم - 21 - 22 وقال سبحانه: «أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ. وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ. أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ» الزخرف - 16 - 17 - 18 مع أن المشركين فيما أرى حاولوا التنزيه لأنهم رأو أن الابن من شأنه أن يشارك أباه في ملكه بخلاف البنات فإنهن كن في عرفهم مطرحات. وصنيع أولئك الذين يسمون أنفسهم «الخاصة» أسوأ من ذلك، إذ يزعمون أن الله تبارك وتعالى رضي لنفسه ولرسله الكذب والتلبيس، ثم لا يرتضون مثل ذلك لأنفسهم بل يتنزهون عن ذلك جهدهم، مع علمهم بأن صنيعهم مناقض لما يقولون أن صلاح الناس فيه وموقع فيما يقولون: إنه فساد عظيم. فليتهم إذ لم يسمح لهم شرف أنفسهم في زعمهم أن يتلوثوا بما يزعمون أن الله عز وجل ارتضاه لنفسه ولرسله سكتوا عن مناقضة ما جاء به الشرع وتركوا المسلمين ودينهم. لكن الله تبارك وتعالى أراد أن يهتك أستارهم، ويبلو بهم كما ابتلاهم، قال تعالى: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (*) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ» . فاتحة (العنكبوت) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 المقصد العاشر قال السلفي: لا ريب أن ابن سينا في أمر الحشر أقوى من شبهته في شأن الاعتقاد في ذات الله تعالى وصفاته، فلو ساغ الكذب في شأن الاعتقاد لكان في شأن الحشر أسوغ لأن فحشه أخف، والحاجة إلى التشديد في الترغيب والترهيب ظاهرة، فألزمه للمتكلمين في محله، فأما السلفيون فلا سلطان له عليهم كما لا يخفى. ومع أن شبهة ابن سينا داحضة لمعارضتها اليقين الضروري، ففيها خلل من جهات تعلم مما تقدم، ويختص بقضية حشر الأجساد أن العرب كانوا في جاهليتهم يعترفون بحياة الروح بعد موت الجسد، ويقولون: أن المقتول تبقى تنوح على قبره حتى يؤخذ بثأره كما هو معروف في أشعارهم، وقد جاء الكتاب والسنة بأشياء من حال الأرواح تصرح بحياتها منفصلة عن الجسد ولم ينكر ذلك أحد من المسلمين ولا المشركين، فقد كان من الممكن أن يوسع القول في تعميم الأرواح وعذابها بدون تعرض لما كان العرب ينكرونه من حشر الأجساد، بل لوكان المقصود إنما هو إجترارهم إلى قبول الشرع العملي لما ذكر لهم حشر الأجساد، فإنه من أشد ما صدهم عن الإسلام، قال الله عز وجل: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ» سبأ: 7 - 8. وقال تعالى: «وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ. وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ. قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ. فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ» الصافات: 14 - 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 كانوا يكذبون بالمعجزات إنها سحر، محتجين بأن الذي ظهرت على يده بما لا يعقل من حشر الأجساد. وانظر (الصافات) أيضاً: 53 و (المؤمنون) : 35 و82 و (الواقعة) : 47. مهمة قد يفسر حشر الأجساد بجمع أجزائها المتفرقة، وقد يفسر بإنشاء أجساد أخرى، والنصوص الشرعية تدل على أمر جامع لهذين، وقد أو رد على الأول أن الأبدان في الدنيا تنمووتحلل فتفارقها أجزاء وتتعوض أجزاء أخرى، ولا تزال هكذا ثم تبلى بالموت وتتفرق فتدخل أجزاء من هذا البدن في تركيب من هذا البدن في تركيب أبدان أخرى وهلم جرا، وإعادة تلك الأجزاء أعيانها في جميع تلك الأبدان بأن تكون هي أعيانها في هذا وهي أعيانها في ذاك في وقت واحد غير معقول، فإن أعيدت في بعضها فلم يعد غيره على ما كان عليه، وأيضاً فقد تكون الأجزاء من بدن مؤمن، ثم تصير من بدن كافر، وعكسه. وأجيب بأن المعاد في كل بدن إنما هو أجزاؤه الأصلية. ونوقش في هذا بما هو معروف. (1) أقول: النصوص لا تدل على إعادة هذه الأجزاء كلها في كل بدن في وقت   (1) أقول: والمعروف الآن عند علماء الحياة (البيولوجيا) ووظائف الأعضاء (الفسيولوجيا) والتشريح الدقيق أن بدن الإنسان بله الحيوان في تبدل دائم حتى إنهم حددوا مدة تبدل البدن كله بسبع سنوات ومع هذا فمن ارتكب جرما وقتا ما، ثم عوقب عليه بعد مدة تبدلت فيها خلايا بدنه بغيرها لا يقال عرفاً ولا عقلاً وفطرة أن المعاقب غير المجرم، فمن قتل مثلاً في شبابه واقتص منه في هرمه وشيخوخته فما عوقب إلا الجاني وإن تبدل باتفاق الباحثين في علم الحياة ووظائف الأعضاء، وهذا يدل على أن الإنسان شخصية تعقل وتريد وتعمل وتحسن وتسئ راكبة مطية البدن لابسة ثياب الأعضاء فمهما تبدلت المراكب والثياب فالشخص هو الشخص على أي مركب ركب وبأي ثوب ظهر. والله أعلم. م ع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 واحد، وإنما تدل على الإعادة في الجملة، وإذا تدبرنا الحكمة في الإعادة أمكننا أن نفهم التفصيل تقريباً. فمن الحكمة إظهار قدرة الله عز وجل على الحشر، وتصديق خبره بأنه واقع. وهذه الحكمة إنما تستدعي الإعادة في الجملة، وذلك يحصل بما يأتي قريباً. ومنها أن ينال الجزاء هذه الأجزاء، وهذا غير متحتم لأن الكاسب المختار للطاعة أو المعصية، والمدرك لأثرها في الدنيا والمدرك للذة الجزاء أو ألمه في الآخرة هو الروح، وإنما البدن آلة لها، غاية الأمر أنه إذا كانت آلة الكسب هي آلة الجزاء كان ذلك أبلغ في كمال العدل فليكن من ذلك ما يمكن. وقد جاءت عدة نصوص تدل أن أبدان أهل الجنة والنار يكون بعض البدن منها أو كله من غير الأجزاء التي كانت منها في الدنيا، ففي (الصحيحين) في قصة الذين يخرجون من النار «فيخرجون قد أمتحشوا وعادوا حمماً فيلقون في نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ... » وجاءت عدة أحاديث أن أهل الجنة يكونون كلهم على صورة آدم طوله ستون ذراعاً، راجعها في «الباب التاسع والثلاثين» من (حادي الأرواح) . وقال تبارك وتعالى في أهل النار «كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ» . النساء: 56. وفي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع» وقال تعالى: «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» آل عمران:169. وفي (صحيح مسلم) من حديث أبن مسعود أنه سئل عن هذه الآية؟ فقال: أما إنا قد سألناه عن ذلك فقال: «أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأو ي إلى تلك القناديل فأطلع إليهم ربهم أطلاعة ... » أخرجه عن جماعة عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن ابن مسعود، وقد أخرجه ابن جرير في (تفسير) ج 4 ص 106 - 107 من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 طريق شعبة ومن طريق سفيان الثوري كلاهما عن الأعمش بسنده أنهم سألوا عبد الله بن مسعود فقال: «أرواح الشهداء ... » فثبت سماع الأعمش لهذا الحديث من عبد الله بن مرة، لأن شعبة لا يروي عن الأعمش إلا ما علم أنه سماع للأعمش ممن سماه نص على ذلك أهل المصطلح غيرهم، (1) وكذلك أخرج هذا الحديث الدرامي ج 2 ص 206 من طريق شعبة، فأما عدم التصريح بالرفع فلا يضر لأن هذا ليس مما يقال بالرأي، مع ظهور الرفع في رواية مسلم. وفي (مسند أحمد) ج 1 ص 265، «ثنا يعقوب ثنا أبي إسحاق حدثني إسماعيل ابن أمية بن عمروا بن سعيد عن ابن الزبير المكي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله عز وجل أرواحهم في أجواف طير خضر تردد أنهار الجنة، تأكل من ثمارها، وتأو ي إلى قناديل من ذهب وظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن منقلبهم قالوا يا ليت إخواننا يعلمون ... » أبوالزبير يدلس، (2) وقد أخرج الحاكم في (المستدرك) ج 2 ص 297 الحديث من وجه آخر عن ابن إسحاق عن إسماعيل عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، زاد في السند «سعيد بن جبير. وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم» وأقره الذهبي.   (1) ليتك قلت ذلك في حديثه عن أبي وائل عن ابن مسعود السابق في تفسير الصمد ولم تمل إلى تضعيفه مع أنه ربما كان أصح مما صححت في تفسير «الصمد» وإن كان لا يخالفه بل يتلازمان ويتظاهران على توضيح المراد. م ع (2) لورددنا حديث كل مدلس لرددنا جمهرة طيبة مباركة من السنة التي قبلها الأكابر ونشروها وعملوا بها، والذي يظهر من عمل المحققين من أئمة السنة إلى مراتب الجرح والتعديل عند التعارض (!) ليأخذوا بالأرجح الأقوى إن لم يمكن الجمع، وحديث أبي الزبير هذا ليت شعري ما الذي عارضه من رواية من هم أرجح منه حتى نشكك فيه وروايته محشوبها (البخاري) مكتظ بها (مسلم) وغيره فضلاً عن بقية دواوين السنة كأبي داود والترمذي وغيرهم من أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد. م ع قلت: يبدوا لي في كلام فضيلته ملاحظات: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وقال الله عز وجل: «وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَاب. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ» . المؤمن: 45 - 46 وأخرج ابن جرير في (تفسيره) ج 24 ص 42 بسند رجاله ثقاة عن هزيل بن شرحبيل أحد ثقاة التابعين قال: «أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تغدوا وتروح على النار وذلك عرضها» وفي (روح المعاني) أن عبد الرزاق وابن أبي حاتم أخرجا نحوه عن ابن مسعود. ومن حكم الإعادة أداء الشهادة قال الله تبارك وتعالى: «وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» فصلت: 19 - 20.   = 1 - التسوية بين تدليس الأعمش وتدليس أبي الزبير في التسامح بهما ليس بجيد، لأن تدليس الأول قليل، وتدليس الآخر كثير، ولذلك أحتج الشيخان بالأعمش، ولم يحتج بأبي الزبير غير مسلم منهما، أو رده الحافظ في المرتبة الثانية من «طبقات المدلسين» ، وهي - كما ذكر في المقدمة - مرتبة من احتمل الأئمة تدليسه، وأخرجوا له في «الصحيح» . ثم أو رد أبي الزبير في المرتبة الثالثة، وهي مرتبة من أكثر من التدليس فلم يحتج الأئمة من أحاديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع كأبي الزبير الملكي. ثم أو رد في هذه الطبقة وقال: «مشهور بالتدليس» . 2 - قوله في أبي الزبير: «وروايته محشوا بها (البخاري» ) . ليس بصواب، فإن البخاري لم ينسد له غير حديث واحد متابعة غير محتج به! قال الحافظ ابن حجر في «مقدمة الفتح» (2 / 126) : «لم يروا البخاري رحمه الله سوى حديث واحد في «البيوع» ، قوله بعطاء عن جابر، وعلق له عدة أحاديث» ومسلم وإن كان أحتج به، فقد قال الذهبي في ترجمته من «الميزان» : «وفي «صحيح مسلم» عدة أحاديث مما لم يوضح فيها أبوالزبير السماع عن جابر، ولا هي من طريق الليث عنه، ففي القلب منها شيء» . ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وقال عز وجل: «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» يّس: 65. وقال سبحانه: «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» النور: 24. والمقصود من استشهاد الأعضاء إبلاغ الغاية القصوى في إظهار العدل، وفي (صحيح البخاري) وغيره عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم يا رب، فتسأل أمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير، فيسأل: من شهو دك؟ فيقول: محمد وأمته: فقال رسول الله صلة الله عليه وآله وسلم: فيجاء بكم فتشهدون أنه قد بلغ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» » . وفي (صحيح مسلم) وغيره عن أنس قال: «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضحك، فقال: هل تدرون مما أضحك؟ قال قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه يقول يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجير على نفسي إلا شاهداً مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام الكاتبين شهودا، قال: فيختم على ما في فيقال لأركانه أنطقي، قال: فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعداً لكن وسحقاً، فَعَنْكُنَّ كنت أناضل» . وفي (صحيح مسلم) أيضاً عن أبي هريرة قال: «قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال ... قال فيلقى العبد فيقول أي فل ... ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت - ويثنى بخير ما استطاع، فيقول: ههنا إذا، ثم يقال: الآن نبعث شاهداً عليك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 ويتفكر في نفسه: من ذا الذي يشهد علي؟ فيختم على فيه ويقال ... فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك ليعذر من نفسه ... » . فالإنسان إذا رأى يوم القيامة إن الله عز وجل يقرره بعمله ولا يؤخذ بمجرد علمه تعالى يتوهم أن الإنكار ينفعه ثم لا يرضى بشهادة الملائكة ولا الرسل، فتشهد عليه أعضاؤه حينئذ يظهر له ولغيره عين اليقين الغاية القصوى في عدل الله تبارك تعالى، ومع ذلك يعترف بلسانه صريحاً عند دخوله النار قال الله تبارك وتعالى: «وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً. حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ» الزمر: 71. وقال تعالى في شأن جهنم: «كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ، وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ. فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ) الملك: 8 - 11. (1) وهذه الحكمة إنما تستدعي إعادة الأجزاء التي تؤدي الشهادة وذلك عند أدائها فلا يلزم أن تعاد في كل بدن جميع أجزاءه ثم تبقى خالدة معه، بل إذا فرضنا أجزاء معينة قد دخلت في تركيب عدة أبدان في الدنيا على التتابع بأن كانت في هذا البدن، ثم صارت من ذاك البدن وهلم جرا، واقتضت الحكمة أن تؤدي الشهادة يوم القيامة في كل بدن من تلك الأبدان بما فعل، فإن ذلك يمكن بأن تحشر أولا   (1) ومن الحكم في البعث ما ذكره الله تعالى أنه تصديق لما أخبرت به رسله، وفضح وتوبيخ لمن كذب رسله كما قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُم) - إلى أن ذكر جزاء المؤمنين بها والمكذبين لها ثم قال - (ويرى الذين أو توا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراطٍ مستقيم) وقال: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ. قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) . م ع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 كما شاء الله تعالى إما في بدن واحد، وإما متفرقة في تلك الأبدان، (1) ثم إذا حوسب أول إنسان من أصحاب تلك الأبدان جمعت تلك الأجزاء في بدنه ثم إذا أدت الشهادة فارقته إلى بدن أول من يحاسب بعده من أصحاب تلك الأبدان وهكذا حتى تستوفي تلك الأبدان كلها التي دخلت فيها وقضت الحكمة باستشهادها على أصحابها. وقد يشير إلى هذا قوله تبارك وتعالى: «يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ» الانبياء: 104 وقوله سبحانه: «كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» الأعراف: 29. وأما الجزء الجسماني فمن الحكمة فيه تنعيم الأرواح وتعذيبها بما هو من جنس ما ألفته في الدنيا بواسطة الأبدان، فإن الأرواح لطول صحبتها للأبدان واعتيادها اللذات والآلام التي تصل إليها بواسطتها تبقى بعد مفارقة الأبدان متصورة تلك اللذات والآلام، متشوقة إلى جنس تلك اللذات، نافرة عن جنس تلك الآلام، فإذا أعيدت إلى أبدان ثم نعمت بما هو من جنس اللذات التي ألفتها، كان ذلك أكمل للذتها وأتم لنعيمها من أن تنعم بلذات روحية محضة فكيف إذا جمع لها الأمران معاً (2) وإن أعيد إلى أعيدت إلى أبدان ثم عذبت بما هو من جنس الآلام التي كانت تنفر عنها كان ذلك أبلغ في إيلامها من أن تعذب بآلام روحية محضة فكيف إذا جمع لها الأمران (2) .   (1) تكلف المؤلف القول بحشر أجزاء كل بدن في بدن واحد أو في أبدان متعددة وما يلي ذلك من أدائها شهادتها في بدن واحد أو أبدان متعددة هو النظر المتعمق فيه الذي ذمه المؤلف كثيراً وذكر ما نشأ عنه من مفاسد وشبهات أبعدت المتكلمين عن تصديق الكتاب والسنة فما كان أحراه أن يبتعد عما ذم غيره عليه وخير ما قاله سابقاً أن البدن آلة الروح يحي هذا الإشكال ولا حاجة إلى التعمق، قلت أنا أن البدن مطية الشخصية الإنسانية وثيابها وما أبلغ أن يشهد على الإنسان مطيته وثيابه قديمة أو جديدة لبسها غيره قبله أو اختص هو بلبسها، الحجة قائمة في شاهد عليك منك. والله أعلم. م ع (2) أي فإن ذلك أكمل وأكمل، وذلك هو الواقع. المؤلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 ومنها تصديق وعد الله ووعيده وإخباره بالحساب والجنة والنار، وسائر ما يتعلق بالآخرة، وهذه الحكمة كافية لإبطال شبهة ابن سينا وموافقيه في أمر الآخرة، فإننا لوأعرضنا عن الحكم الأخرى واقتصرنا على هذه الحكمة لكفى، بأن نقول: هب أن الأمر كما زعمت من أن الناس لا يؤثر فيهم الترغيب والترهيب، إلا إذا كان بما هو من جنس ما أفوه واعتادوه في الدنيا من الأمور الجسمانية واللذات والآلام الجسمانية، فإن الحكمة إذا اقتضت أن يقضي الله عز وجل وقوع ذلك وتحقيقه لئلا يكون إخباره تعالى وإخبار رسله كذباً، فإنه سبحانه يتعالى عن ذلك. ولنقتصر على هذا القدر على مقالة ابن سينا في إنكاره الاحتجاج بالنصوص الشرعية وننظر مقالات من بعده والله الهادي. قول الفخر الرازي في الاحتجاج بالنصوص الشرعية في (مختصر الصواعق) ج 1 ص 252 - 256 عبارة طويلة للفخر الرازي سأحاول تلخيصها مع شيء من الإيضاح، المطالب الثلاثة: الأول: ما يتوقف ثبوت الشرع على ثبوته، كوجود الله وعلمه بالمعلومات كلها، وصدق الرسول، فهذا يستحيل أن يعلم بإخبار الشرع. الثاني: ثبوت أو إنتفاء ما يقطع العقل بإمكان ثبوته وإمكان انتفائه. فهذا إذا لم يجده الإنسان من نفسه، ولا أدركه بحسه، استحال العلم به إلا من جهة الشرع. الثالث: وجوب الواجبات، وإمكان الممكنات، واستحالة المستحيلات. فهذا يعلم من طريق العقل بلا إشكال، فأما العلم بإخبار الشارع فمشكل، لأن خبر الشارع في هذا المطلب إن وافقه عليه العقل، فالاعتماد على العقل، وخبر الشارع فضل، وإن خالفه العقل وجب تقديم العقل وتأويل الخبر في قول المحققين، لأن تقديم الخبر على العقل حكم على العقل بأنه غير موثوق به، فيلزم من هذا أن لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 يكون ما ثبت به الشرع موثوقاً به، فيسقط الشرع وما أدى ثبوته إلى انتفائه فهو باطل، وإن لم يعلم موافقة العقل للخبر ولا مخالفته له كان محتملاً أن يكون العقل مخالفاً له فيجيب تأويله، ومع هذا الاحتمال لا يفيد العلم. قال: «فإن قيل: إن الله سبحانه لما أسمع المكلف الكلام الذي يشعر ظاهره بشيء فلوكان في العقل ما يدل على بطلان ذلك الشيء وجب عليه سبحانه أن يخطر ببال المكلف ذلك الدليل، وإلا كان تلبيساً من الله تعالى، وإنه غير جائز، قلنا: هذا بناء على قاعدة الحسن والقبح وأنه يجب على سبحانه شيء، ونحن لا نقول بذلك، سلمنا ذلك فلم قلتم: إنه يجب ... ، وبيانه أن الله إنما يكون ملبساً على المكلف لوأسمعه كلاماً يمتنع عقلاً أن يريد به إلا ما أشعر به ظاهره، وليس الأمر كذلك، لأن المكلف إذا سمع ذلك الظاهر فبتقدير أن «لا» يكون الأمر كذلك لم يكن مراد الله من ذلك الكلام ما أشعر به الظاهر، فعلى هذا إذا أسمع الله المكلف ذلك الكلام، فلوقطع المكلف لحمله على ظاهره مع قيام الاحتمال الذي ذكرنا كان التقصير واقعاً من المكلف لا من قبل الله تعالى ... فخرج بما ذكرنا أن الأدلة النقلية لا يجوز التمسك بها في باب المسائل العقلية، نعم يجوز التمسك بها في المسائل النقلية، تارة لإفادة اليقين كما في مسألة الاجماع وخبر الواحد، وتارة لإفادة الظن كما في الأحكام الشرعية» . أقول: أما المطلب الأول فقد أعد الله تبارك وتعالى لثبوته فطر الناس وعقولهم الفطرية وآيات الآفاق والأنفس، ثم تكفل الشرع بالتنبيه على ذلك وإيضاحه مع تضمنه لآيات أخرى ثم، ثم يتمم الله عز وجل ذلك بالتوفيق لمن استحقه، فمن كان في قلبه محبة للحق ورغبة فيه وإيثار له على ما سواه رزقه الله الإيمان لا محالة، ولهؤلاء درجات بحسب درجاتهم في المحبة والرغبة والإيثار، فمنهم من تقوى هذه الأمور عنده وتصفوفيصفوله اليقين بالفطرة وأدنى نظر. ومنهم من يكون دون ذلك فيحتاج إلى زيادة. وعلى كل حال، فإن المأخذين السلفيين شافيان مغنيان في تحصيل الحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 من هذا المطلب ضرورة أن الله عز وجل بعث رسله وأنزل كتبه في أقوام لا خبر عندهم لغير المأخذين السلفيين ولا أثر؛ واكتفى بهما وبنى عليهما. ولا يقف الأمر عند الإستغناء عن المأخذين الخلفيين بل إن شأنهما أن يمانعا حصول الإيمان ويزلزلاه لأسباب: الأول: أن المشتغل بهما يغفل عن المأخذين السلفيين. الثاني: أنه يتعرض لشبهات تعتاص عليه فيسوء ظنه بالمأخذين السلفيين. الثالث: وهو أعظم الأسباب حرمان التوفيق، فإن طالب الحق في غير المأخذين السلفيين إما أن يكون فاقداً لصدق المحبة والرغبة والإيثار للحق، وإما أن يكون كان عنده شيء من ذلك ولكنه ضعف بإعراضه عن سبيل الله عز وجل. فقد يبلغ به الضعف إلى أن يزول أثره البتة، وقد يبقى أثره في الجملة فيبقى العبد متردداً، وربما يتداركه الله عز وجل في آخر الأمر فيرجع إلى المأخذين السلفيين، وإن كان لا صفوله ذلك كما يصفولمن ثبت عليهما من أول أمره، ولذلك كان إمام الحرمين يتمنى في آخر أمره أن يموت على دين عجائز نيسابور كما تقدم في الباب الأول. وأما المطلب الثاني فإن أراد الرازي أن الأخبار الشرعية فيه قد تفيد العلم اليقيني فما هي ظاهرة فيه كما يدل عليه قطع الأشاعرة بتنزيه الله عز وجل عن الكذب مع مصيرهم إلى أنه لا حجة في ذلك إلا النصوص كما تقدم، وكما يدل آخر كلام الرازي، وسيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى، فهكذا يلزمه في المطلب الثالث بل هو أولى وأحرى لتعلقه بأعظم أصول الدين فالخطر فيه أشد، واحتياط الشارع له آكد، ويترتب على التلبيس فيه مفاسد عظيمة كما مر في الكلام مع ابن سينا. وأما المطلب الثالث فقوله: «إن خبر الشارع إذا وافق العقل فالاعتماد على العقل وخبر الشارع فضل» قول مردود عليه، بل إن كان الدليل العقلي من المأخذ السلفي الأول فهما دليلان، وإلا فالنص هو الدليل، والقياس التعمقي فضله كما يعلم مما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 تقدم في الباب الأول، على أنه بعد ثبوت صدق الشارع بالدلائل العقلية يكون الاحتجاج بخبره احتجاجاً بالعقل. قوله: «فإن خالفه العقل وجب تقديم العقل ... » قول مردود عليه، بل إن كان الدليل العقلي من المأخذ السلفي الأول فهو قرينة صحيحة يعلم بها أن معنى الخبر خلاف ما يتراءى منه لولا القرينة، فليس هنا تقديم للعقل ولا للشرع إذ لا تخالف، وإنما هنا حمل للخبر على ما هو الظاهر الحقيقي، فأن الخبر إذا اقترنت به قرينة صحيحة تصرف عما يتراءى منه لولاها، فظاهره الحقيقي هو ما يفهم منه مع القرينة وهي حينئذ بمثابة كلمة من لفظ الخبر. وإن لم يكن هناك ما يخالف ظاهر النص إلا قياس أو أقيسة مما يركبه المتعمقون مكن أصحاب المأخذ الخلفي الأول، فالواجب تقديم النص ولا سيما إذا كان قطعي الثبوت كآية من القرآن أوسنة ثابتة قطعاً، وقد تقدم في الباب الأول بيان وهن تلك الأقيسة، ولا يلزم من تقديم النص عليها حكم على العقل الذي هو من المأخذ السلفي الأول بأنه لا يوثق به، وإنما يلزم الحكم بذلك على ذاك القياس وما كان قبيله، والشرع لم يثبت بشيء من ذلك، كيف وقد ثبت الإسلام في العرب، ولا أثر فيهم للتعمق البتة، وكذلك بقية الشرائع، وإنما ثبت الشرع بما تقدم في المطلب الأول، والعقل هناك هو العقل الفطري الذي أعده الله عز وجل لإدراك بيناته في الدين. هذا وقد تقدم في الباب الأول بيان حال النظر المتعمق فيه، وأنه قد يتعرض عند أصحابه قياسان كل منهما بحيث لوأنفرد لكان قاطعاً عندهم، وقد يحصل لبعضهم قياس يعتقد أنه قاطع يقيني ثم بعد مدة يتبين له أنه مختل، وكثيراً ما يتمسك أحد الفريقين المختلفين منهم كالأشعرية والمعتزلة بقياس، ويرى أنه قطعي يقيني، ويتمسك الفريق الآخر بقياس آخر مناقض لذلك ويرى أنه قطعي يقيني، ويثبت كل الفريقين على رأيه في قياسه يحاول القدح في قياس مخالفه، ويستمر هذا إلى مئات السنين، وهم يعرفون هذا ويعترفون به، مع ذلك لا يرونه موجباً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 عدم الثقة بالعقل مطلقاً ولا بما كان من جنس تلك الأقيسة، فكيف يسوغ لهم مع هذا أن يزعموا أن خبر الله عز وجل مع العلم بأنه سبحانه لا يجهل ولا يخطئ ولا يكذب - إذا قدم على قياس تلك الأقيسة كان ذلك قدحاً في العقل مطلقاً؟ بل الحق أن تقديم القياس على النص هو الأولى بأن يكون قدحاً في العقل، بل هو رد للعقل الصريح بشبهة واهية، فقد ثبت الشرع بالعقل الصريح وثبت صدق الشارع وإبانته بالعقل الصريح، وكثير من المعاني التي دلت عليها النصوص وهم ينكرونها ثابتة بالفطر والبدائة وهي رأس العقل الصريح، وقد أبتت مع ذلك بأقيسة من جنس أقيستهم. قوله: «وإن لم يعلم موافقة العقل للخبر ولا مخالفته له ... » . أقول: أما العقل الصريح الواضح الجلي الذي صلح أن يكون قرينة فلا يمكن أن لا يعلم، فإن جاز أن يذهل عنه بعض المخاطبين الأولين يلبث أن ينبهه غيره، فإذا لم يعلم ما يكون قرينة كان النص نفسه برهاناً على صحة ما دل عليه، وعلى عدم المخالف الصحيح، ولا يبقى إلا إحتمال أن يوحي الشياطين إلى بعض أوليائهم شبهة النظر المتعمق فيه، وقد قال الله عز وجل: «وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ» . الأنعام: 121 قوله: «فإن قيل: إن الله سبحانه لما أسمع المكلف ... » . أقول: هذا كله مغالطة، فإن النصوص المتعلقة بذات الله تعالى وصفاته لم تقتصر في الدلالة على تلك المعاني على إشعار الظاهر، بل فيها المؤكد، والصريح الواضح، والظاهر البين، ولم يكن معها معارضاً لها قرينة صحيحة من شأنها أن لا تخفي على المخاطبين الأولين، فعلى فرض بطلان تلك المعاني أو بعضها لا يكون اللازم التلبيس فقد بل تكون كذباً صريحاً، وبطلان هذا اللازم لا يتوقف على القول بأنه يجب على الله تعالى، ولا على القول بالحسن والقبح العقليين، وإنما يتوقف على امتناع أن يكذب الله عز وجل أو يكذب رسوله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 والأشاعرة ومنهم الرازي يعترفون بهذا الامتناع، ويكفرون من لا يقول به، غاية الأمر أنهم زعموا أن العقل لا يمنع أن يكذب الله سبحانه أو أن لا يكذب، ولكن الرسول أخبر بأن الله تعالى لا يكذب، وقد ثبت صدق الرسول بظهور المعجزة على يده، قالوا ودلالة المعجزة على صدقه عادية- على ما مر بيانه في الباب الثاني - والدلالة العادية عندهم يقينة ومهما يكن في استدلالهم من الوهن فيكفي أنهم معترفون بامتناع أن يقع من الله تعالى أو من رسوله فيما يخبر له عن كذب، ويكفر من يقول خلاف ذلك، ولا ريب أنهم إذا عرفوا بطلان استدلالهم، ولم يبق إلا أن يقولوا بالوجوب والحسن والقبح العقليين، أو يكفروا، إنما يختارون الأول، فإن فرض أن أتباعهم اختار المفر فإلى حيث ألقت رحلها أم قشعم! فأن قيل: يؤخذ من كلام الرازي أنه يزعم أن احتمال الامتناع العقلي قرينة تدافع ظاهر الخبر، فلا يلزم من القول ببطلان تلك المعاني أو بعضها تكذيب النصوص، ولا من القول باحتمال البطلان القول باحتمال الكذب. قلت: هذا زعم باطل كما مر في الكلام على المقصد الأول من مقاصد ابن سينا، وإنما الذي يصح أن يكون قرينة هو الامتناع العقلي نفسه إذا كان من شأنه أن لا يخفى على المخاطب، فأما احتماله فقط فإنما هو كاحتمال عدم وقوع ما دل الخبر على وقوعه، وذلك كما لوكان في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعمى صائم في رمضان وهو عريش بعيد عن البيوت فلم يدر أقد غربت الشمس أم لا، فينما هو كذلك إذ مر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال للأعمى: قد غربت الشمس وصلينا المغرب، فهل للأعمى أن يقول في نفسه: لوكنت بصيراً، واخبرني النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الخبر وأنا أشاهد الشمس لم تغرب، لكان ذلك قرينة على أن المراد بالخبر غير ظاهره، كأن يكون عنى قد غربت أمس، أو قد قارت الغروب، فعلي الآن أن لا آخذ بظاهر الخبر، لأن احتمال عدم الغروب اليوم قرينة؟ فإن قيل: فإن الرازي فرق بين الأمور التقليدية وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 قلت: لم يأت على ذلك بحجة، بل هو فرق باطل، مع ذلك فإنا إذا فرضنا أن الشمس لم تكن قد غربت في ذاك اليوم فاحتمال أن تكون قد غربت فيه ممتنع عقلاً، ثم نقول للرازي: أرأيت عالماً خرج إلى البادية فكان يخبر الناس أخباراً ظاهرة بينة في عقائد باطلة، ويتأول في نفسه معاني صحيحة، ويقول في نفسه: القرينة على احتمال أني لم أرد الظاهر هي احتمال الامتناع العقلي وكثر من ذلك جداً، ألا يقبح منه ذلك ولا يأثم ولا يكفر إذا كان في أخبار ما هو ظاهر بين فيما هو كفر؟ وقال ابن حجر الهيتمي في (الإعلام) بهامش (الزواجر) ج 2 ص 31: «نقل الإمام - يعني إمام الحرمين - عن الأصوليين أن من نطق بكلمة الردة وزعم أنه أضمر تورية كفر ظاهراً أو باطناً، وأقرهم على ذلك» . ثم ذكر الهيتمي أن الحكم بالكفر باطناً فيه نظر. أقول: قولهم: «كلمة الردة» إنما يفهم منها عند الإطلاق الكلمة الصريحة فيها، وقولهم: «أضمر تورية» ظاهر في تلك الترية لا قرينة عليها، وما كان كذلك فالتلفظ به مع معرفة حاله لا يكون إلا عن تهاون شديد، (1) ومن المعلوم أن من كان كارهاً لشيء نافراً عنه فإنه يتباعد عنه ما استطاع، وهذا قد تقرب من الردة ما استطاع وكفى بذلك تهاوناً، ومع هذا فقد قالوا إن الرضا بالكفر كفر، ولا ريب أن ذاك الخارج إلى البادية قد رضي أن يعتقد الناس ظواهر ما أخبرهم به. وافرض أن أهل البادية كانوا يسألونه عن قضايا اتفقت فيهم في الوصايا وقسمة المواريث يحتاج في معرفة مقاديرها إلى معرفة دقائق الحساب وكان يذكر لهم مقادير   (1) ثم رأيت في كتاب «تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي» للبقاعي ص 23 ذكر مقالة إمام الحرمين ثم قال: «قال الإمام الغزالي في «البسيط» بعد حكايته عن الأصوليين: «بحصول التهاون منه» ، ومنه ص 66 الحافظ العراقي: «لا يقبل ممن اجترأ على مثل هذه المقالات القبيحة أن يقول: أردت بكلامي هذا خلاف ظاهره، ولا نؤول له كلامه ولا كرامة» . المؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 يعلم أنها مخالفة للواقع ويضمر تورية في نفسه، فيعملون بظاهر فتاواه ويحفظونها ليعلموا بها فيما يتفق بعد ذلك من أمثال تلك القضايا، وترتب على ذلك ظلم كثير للفقراء واليتامى والأرامل، وهو يزعم أن لم يرتكب محظوراً لإضماره التورية مع احتمال الامتناع العقلي لأن مسائل الحساب من أوضح المعقولات، فهل يعذر في ذلك؟ وافرض أن رجلاً عاقل خاطبك بكلام، فتدبرته ملاحظاً القرائن، فعلمت أن الكلام ظاهر بين في معنى، وأنه لا قرينة تصرف عن ذاك المعنى، وأنه لا وجه لفرض أن يكون المتكلم عجز عن البيان أو جهل أو أخطأ، أفلا تعلم ذلك بأن المتكلم أراد أن يكون كلامه ظاهراً بيناً في ذاك المعنى، وعمل بمقتضى هذه الإرادة فجاء بالكلام على وفقها؟ ثم أن خطر ببالك احتمال أن يكون أراد في نفسه معنى آخر على وجه التأويل، وأن يكون ذاك المعنى الظاهر البين الذي أراد أن يكون الكلام مفهماً له ثم جاء بالكلام على وفق من هذه الإرادة غير واقع، أليس معنى هذا الخاطر إنما هو احتمال أن يكون الكلام كذباً، وإن يكون ببالك لكان تأويل المتكلم في نفسه إنما هو على أحد ثلاثة أوجه: الأول: مثل تأويل إبراهيم عليه السلام. الثاني: أن يكون توهم أنه إذا تأول في نفسه فقد برئ من معرفة الكذب. الثالث: أن يكون إنما أعد عذراً حتى إذا انكشف الحال وبان كذبه قال: إنما عنيت كيت وكيت. فأما الأول فهو تأويل إبراهيم فقد سبق أن محله أن يكون الكلام قريب الاحتمال جداً لغير ما هو ظاهر في، وأن يكوالمتكلم مضطراً إلى الإيهام، وأن يكون في ذاك الإيهام دفع مفسدة عظيمة، ولا ترتب عليه مفسدة ما، وهذه الأمور منتفية عن النصوص التي يزعم المتعمقون أن ظواهرها باطلة، كما قدمناه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 الكلام على المقصد الخامس من مقاصد ابن سينا، ومع ذلك فقد قدمناه الحجة على أن كلمات إبراهيم عليه السلام كذبات، وإنها لا تناسب مقام النبوة فضلاً عن مقام الربوبية. وأما الوجه الثاني فممتنع في النصوص، كيف وقد ثبت الحكم على كلمات إبراهيم عليه السلام بأنها كذبات وخطايا، وأنها لا تناسب مقام النبوة فضلاً عن مقام الربوبية، فما بالك بما هو أشد منها بدرجات كثيرة كما مر؟ وأما الوجه الثالث فتعالى الله عز وجل وتنزه أنبياؤه عنه، إنما هو دأب الكذابين إذا افتضح أحدهم قال: إنما عنيت كيت وكيت؟ وأعلم أن مقتضى كلام الرازي في منعه الاحتجاج البتة بالنصوص بالعقائد التي لا يجزم العقل وحده فيها بالجواز أنه لوكان الرازي في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد قامت عنده البراهين العقلية اليقينية على أنه نبي صادق، وآمن به ثم أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخبر يتعلق بتلك العقائد لقال الرازي:لا يمكنني أن أعلم أن هذا المعنى الظاهر الوضح من كلامك هو مرادك، لإحتمال أن تكون أردت خلافه، فلو قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لم أرد إلا هذا المعنى وهو الظاهر الواضح وهو كيت وكيت، لقال الرازي: كلامك هذا الثاني كالأول فلو أكد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأقسم بآكد الأقسام لقال الرازي: لا تتعب يا رسول الله فإن ذاك الأمر الذي دل عليه خبرك يحتمل أن يكون ممتنعاً عقلاً، ما دام كذلك فلا يمكن أن أثق بمرادك، فلو قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه ليس بممتنع عقلاً بل هو واقع حقاً، لقال الرازي: لا يمكنني أن أثق بما يفهمه كلامك مهما صرحت وحققت وأكدت حتى يثبت عندي ببرهان عقلي أنه غير ممتنع عقلاً! فليتدبر العاقل هل يصدر مثل هذا ممن يؤمن بأن محمداً رسول الله، وأنه صادق في كل ما أخبره به عن الله؟ مع أن من هؤلاء من يكتفي في إثبات عدم الامتناع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 العقلي بأن يرى في بعض كتب ابن سينا عبارة تصرح بذلك، وإن لم يكن فيها ذكر دليل عليه، فعلى هذا لو كان أحدهم مكان الرازي فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: انظر كتاب (الشفاء) - مثلاً - لابن سينا في باب كذا، فنظر فوجد تلك العبارة المصرحة بعدم الامتناع، لصدق وقال: اطمأن قلبي، لكن لو قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: انظر كتاب الله تعالى في سورة كذا، فنظر فوجد آية أصرح من عبارة ابن سينا وأوضح، لما أعتد بها، بل لقال: حال هذه الآية كحال كلامك يا رسول الله، لأنه يحتمل عندي أن يكون هذا المعنى ممتنعاً عقلاً! بل أقول: قضية كلامهم أنه لو وقف أحدهم بين يدي الله تعالى وعلم يقيناً أن الذي يخاطبه هو الله تعالى غير أنه لا يراه ولم يكن ثبت عند هذا الرجل بدليل عقلي جواز رؤية الله عز وجل في الآخرة، فقال له الله تعالى: إن المؤمنين سيروني بأعينهم في الآخرة، لكان عندهم على الرجل أن لا يجزم بذلك مهما تكرر إخبار الله تعالى بالرؤية وبعدم امتناعها، بل عليه أن يطالب الله عز وجل بدليل عقلي على الجواز، فلولم يسمعه الله تعالى دليلاً ورجع فلقي رجلاً آخر فأخبره، فذكر له الرجل قياساً من مقاييسهم التي تقدم حالها في الباب الأول، يدل على الجواز، فنظر فلن يتهيأ له قدح لصدق حينئذ، وكذلك لولم يذكر صاحبه قياساً ولكن أراه عبارة لابن سينا تصرح بعدم الامتناع. فهذه قضية ذاك القول، بل هذه ثمرة التعمق، بل هذه من مقتضيات دعوى الإمامة بغير حق، بل هذه من نتائج استكراه العقل على أن يخوض فيما لم يحط به علماً، ثم إذا سكن إلى شيء وألتزمه كان عليه أن يهدم كل ما خالفه، بل هذه عقوبة الخروج عن الصراط المستقيم، وأتباع غير سبيل المؤمنين، والرغبة عن طريق السلف الصالحين. وفوق هذا كله فإن كثيراً من النصوص التي ينكر المتعمقون ظواهرها كانت عقول المخاطبين الأولين تقطع بوجوب ما دل عليها بعضها، وجواز ما دل عليه الباقي - كما مر في الكلام مع ابن سينا ويأتي طرف منه في مسألة الجهة وغيرها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 فاحتمال الامتناع العقلي كان منتفياً عندهم، فعلى فرض بطلان بعض تلك المعاني، يلزم أن تكون كذباً قطعاً حتى على زعم أن احتمال الامتناع العقلي قرينة. فإن قيل: لم يكونوا ماهرين في المعقول فكان عليهم أن يشكروا في جزم عقولهم. قلت: فعلى هذا لم يكن يلزمهم الإيمان البتة، بل على هذا لا يلزم أحداً الإيمان لأنه مهما بلغ من المهارة فلا بد أن يكون فوق درجته ما هو أعلى منها، وأي باطل أبطل من هذا؟ وإنما الحق أن هناك قضايا فطرية يستوي في إدراكها العاقل والأعقل، وهناك قضايا يقع التفاوت فيها، ولكن يتفق أن يكون الرجل فيها أفضل من كثيرين كلهم أعقل منه، إما لأنه يسر له من المشاهدة والتجربة والملاحظة والوجدان ما لم ييسر لهم، وإما لأنهم عرضت لهم عوائق من الهوى والشبهات والاستكبار لم تعرض له. فإن قيل: أما القضايا التي يثبت بها الشرع فكانت عند المخاطبين الأولين، بل هي عند جميع المكلفين إذا لم يعاندوا أو يقصروا بغاية الوضوح، فلم يكن عليهم أن يشكوا في جزم عقولهم بها، ولكنا ندعي أن القضايا التي توافق ظواهر النصوص التي ندعي بطلانها، لم تكن عندهم بغاية الوضوح، فكان عليهم أن يشكوا في جزم عقولهم بها فقط. قلت: هذه دعوى باطلة فإن من تدبير وجد أن من القضايا التي تدعون بطلانها ما من شأنه أن يكون أوضح عندهم، من بعض القضايا التي يتوقف ثبوت الشرع على ثبوتها، ومنها ما يكون مثلها، ومنها ما قد يكون دومنها، ولكن كيف ترون عليهم أن يميزوا هذا التمييز الدقيق مع قولكم إنهم لم يكونوا ماهرين؟ وهب أنه كن يمكنهم ذلك أفلم يوجب الله عز وجل عليهم اتباع الشرع ويخبرهم بأنه «لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» ؟ أفلا يكون في موافقة الشرع لعقولهم على تلك القضايا ما يجبر ما عسى أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 يكون عندهم من الشعور بأن جزم عقولهم بها ليس بغاية الوضوح؟ هذا كله إبلاغ في إقامة الحجة، وإلا فمن المعلوم أن الذي يصلح قرينه إنما هو الامتناع العقلي الذي من شأنه أن يدركه المخاطب. فأما قول الرازي إن الله إنما يكون ملبساً على المكلف لو أسمعه كلاماً يمتنع عقلاً أن يريد به إلا ما أشعر به ظاهره» فجوابه يعلم مما يأتي: اعلم أن للمتكلم إرادتين تتفقان تارة وتختلفان أخرى. فالأولى: إرادة أن يكون خبره بحسب تركيبه مع قرائنه حقه أن يفهم منه المخاطب هذا المعنى، فإذا لم يكن من المتكلم جهل ولا خطأ ولا عجز فلا بد أن يجيء خبره مطابقاً لهذه الإرادة. الإرادة الثانية: إرادة المعنى كمنت يقول: «رأيت أسداً» فقد يريد في نفسه أسداً حقيقياً، وقد يريد رجلاً شجاعاً، فإذا لم يقصد المتكلم الكذب والتلبيس فإنما يريد بهذه الإرادة ذاك المعنى الذي حق الخبر أن يفهم منه، فلا يختلف المعنى في الإراديتين إلا في الكذب والتلبيس، فاعرف ذلك. فإن عنى الرازي بقوله: « ... أن يريد به ... » الإرادة الأولى، أو الثانية مع تسليم لأنها لا تكون في كلام الله تعالى إلا موافقة للأولى، فمآل عبارته أن المكلف لا يمكنه القطع بأن المعنى الذي فهمه من الخبر هو الذي حقه أن يفهم منه. فأقول: الرازي يخص هذه الدعوى بمطلبه الثالث حيث يحتمل الإمتناع العقلي، ويعترف بحصول القطع في مطلبه الثاني، فأولى من ذلك حصوله في مطلبه الثالث حيث يكون العقل موافقاً للشرع. إذا تقرر هذا فالمخاطبون الأولون كانوا يعتقدون فيما اختص بإنكاره المتعمقون من معاني النصوص وجوب بعضه عقلاً فيحصل لهم باعتراف الرازي القطع من ذلك، فإما أن يلزم باعتراف الرازي الكذب والتلبيس، وإما أن تكون تلك المعاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 حقاً. وهو الحق المطلوب. فإن قال: إنما عنيت بالعقل العقل الصحيح، والمخاطبون الأولون إن اعتقدوا الوجوب العقلي أو الجواز فيما أقول بامتناعه عقلاً أو احتمله الامتناع عقلاً فذلك خطأ منهم. قلت: المانع عندك من القطع إنما هو احتمال الامتناع، فمن انتفى عنده احتمال الامتناع حصل له القطع، والله عز وجل قد ارتضى عقول المخاطبين الأولين وكلفهم بحسبها، ولمة يرشدهم الشرع إلى التعمق في المعقول فيما يتعلق بالدين، بل كره لهم ذلك، فعلى فرض أنهم أخطئوا لعدم تعمقهم فذلك خطأ لأتبعه عليهم فيه البتة، بل على فرض بطلان تلك المعاني تكون التبعة على من خاطبهم خطاباً يعلم أنه من حقه بالنظر إليهم أن يفهموا منه الباطل ويقطعوا به بدون تقصير منهم. وهب أن القطع لا يحصل في كل خبر فالرازي معترف بحصول الظن القوي، وذلك اعتراف بأن تلك النصوص أو أكثرها مت حقها أن يفهم المخاطبون الأولون منها تلك المعاني التي ينكرها المتعمقون، فإن من الممتنع عادة أن يخطئ المخاطبون الأولون ومن كان مثلهم في فهم تلك النصوص كلها خلاف ما حقها أن يفهموه منها، وإذ ثبت هذا ثبت أن القول ببطلان تلك المعاني تكذيب لله عز وجل ولا بد. وأيضاً فالإيقاع في ظن الباطل قريب من الإيقاع في القطع به، ألا ترى أن الإنسان إذا أخبر صاحبه بخبر إنما يحصل لصاحبه الظن لاحتمال أن يكون غلط أو أخطأ اوجهل أو عجز أو تعمد الكذب، ومع ذلك فإنه إذا كذب فعليه تبعة الكذب. وإن عنى الرازي بقوله: « ... أن يريد به ... » الإرادة الثانية على زعم أنها قد تخالف في كلام الله تعالى الأولى، فحاصل عبارته على هذا: أن الله تعالى لا يكون ملبساً إلا إذا امتنع عقلاً أن يكون ملبساً، وهذا لا يظهر له معنى إلا أن يكون مغزاه أن اله تعالى إنما يكون ملبساً إذا امتنع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 عقلاً أن يكذب، فإما إذا لم يمتنع عقلاً أن يكذب فالمصدق له هو المقصر، فعلى هذا تكون منزلة رب العالمين عند الرازي منزلة الرجل الذي دينه الكذب، فإذا كذب على قوم فبنوا على خبره، فنالهم ضرر، فلاموه كان لغيره أن يقول لهم: هذا رجل من عادته الكذب فأنتم المقصرون إذا عملتم بخبره، فإن لم تعرفوا عادته فقد كان عليهم أن تتثبتوا! والرازي لا يرضى هذا المثل نفسه، ولا أقل أصحابه، بل لا يرضى به إنسان لنفسه «لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» النحل: 60. وبخ الله تعالى بهذا المشركين على قولهم أن له سبحانه بنات، مع كراهيتهم أن تكون لهم بنات، ولا أرى المقالة السابقة إلا أكبر من هذه، وقال تعالى في الذين قالوا أن له سبحانه ولداً: «كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً» . الكهف: 5. وقال سبحانه لقائلي ذلك: «لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً. تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً» مريم: 89 - 90. وقد اتفق المسلمون على أنه يمتنع عقلاً أن يقع من الله تعالى كذب، غاية الأمر أن أكثر الأشاعرة زعموا أن الامتناع إنما هو بواسطة إخبار الرسول به مع امتناع أن يكذب الرسول. هذا وقد رجع الرازي ولله الحمد أن الإحتجاج بالنصوص كما تقدم في الباب الأول، وإنما اشبعت الكلام لأن كثيراً من الناس تبعوه في مقالاته، ولم يلتفتوا إلى رجوعه، كما يأتي عن العضد وغيره. والله المستعان. قول العضد وغيره كلام العضد وغيره في هذه المسألة تلخيص لكلام الرازي الذي تقدم نقل بعضه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 عن (مختصر الصواعق) ، مع مخالفة يسيرة ستراها إن شاء الله تعالى. قال العضد في أواخر الموقف الأول من (المواقف) . المطالب ثلاثة أقسام: أحدها: هو ما يمكن، أي لا يمتنع عقلاً إثباته ولا نفيه، نحوا جلوس غراب الآن على منارة الإسكندرية، فهذا لا يمكن إثباته إلا بالنقل. الثاني: ما يتوقف عليه النقل مثل وجود الصانع ونبوة محمد، فهذا لا يثبت إلا بالعقل، إذ لوثبت بالنقل لزم الدور. الثالث: ما عداهما نحوا الحدوث إذ يمكن لإثبات الصانع دونه، والوحدة، فهذا يمكن إثباته بالعقل إذا يمتنع خلافه عقلاً بالدليل الدال عليه، وبالنقل لعدم توقفه عليه» . أقول: هذه هي مطالب الرازي وإنما اختلف الترتيب. قال السيد الجرجاني في شرحه للمطلب الأول وهو في ترتيب الرازي الثاني: «لأنه - يعني جلوس غراب على منارة الإسكندرية ونحوه - لكا كان غائباً عن العقل والحس معاً استحال العلم بوجوده إلا من قول الصادق، ومن هذا القبيل تفاصيل أحوال الجنة والنار والثواب والعقاب ... » . أقول: هذا يدل على ما قدمته من أن فرار المتكلمين إلى هذا التقسيم إنما هو محاولة للتخلص من إلزام ابن سينا وقد مر ما فيه. ثم قال العضد: «الدلائل النقلية هل تفيد اليقين؟ : لا، لتوقفه على العلم بالوضع والإرادة، والأول إنما يثبت بنقل اللغة والنحووالصرف، وأصولها تثبت برواية الآحاد، وفروعها بالأقيسة، وكلامها ظنيان. والثاني يتوقف على عدم النقل والاشتراك والمجاز والإضمار والتخصيص والتقديم والتأخير، والكل لجوازه لا يجزم لانتفائه بل غايته الظن، ثم بعد الأمرين لا بد من العلم بعدم المعارض العقلي، إذ لو وجد لقدم على الدليل النقلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 قطعاً، إذ لا يمكن العمل بهما ولا بنقضهما، وتقديم النقل على العقل إبطال للأصل بالفرع، وفيه إبطال للفرع، وإذ أدى إثبات الشيء إلى إبطاله كان مناقضاً لنفسه فكان باطلاً، لكن عدم المعارض العقلي غير يقين، إذ الغاية عدم الوجدان، وهو لا يفيد القطع بعدم الوجود، فقد تحقق أن دلالتها تتوقف على أصول ظنية، لأن الفرع لا يزيد على الأصل في القوة، والحق إنها قد تفيد اليقين بقرائن مشاهدة أو متواترة تدل على انتفاء الاحتمالات، فأنا نعلم استعمال لفظ الأرض والسماء ونحوهما في زمن الرسول في معانيهما التي تراد منها الآن، والتشكيك فيه سفسطة، نعم في إفادتها اليقين في العقليات نظر، لأنه مبني على أنه هل يحصل بمجردها الجزم بعدم المعارض العقلي؟ وهل لقرينه مدخل في ذلك؟ وهما مما لا يمكن الجزم بأحد طرفيه» . أقول: أصل التشكيك كله للرازي كما يعلم من بعض كتب أصول الفقه. وأقول: أما نقل اللغة والنحووالصرف فلا ريب أن هناك ألفاظاً يتفرد بنقلها بعض أهل اللغة، وأوجهاً من النحووالصرف يتفرد بحكايتها بعض أهل العربية، لكن الأعم الأغلب من نقل اللغة والصرف والنحوالتواتر، ومحاولة القدح في الجميع بأن البعض ظني مع العلم بأن الأكثر قطعي صنيع أخس من أن يسمى سفسطة كما نعلم من الموازنة بينه وبين ما تقدم عن السوفسطائية في الباب الأول. وأمل النقل، والمراد به هنا نقل الشارع الكلمة عن معناها اللغوي إلى معنى شرعي، فقد وصف الله تبارك وتعالى كتابه بأنه «مبين» وانه «بيان للناس» وأنه «بلسان عربي مبين» وقال: «ثم أنا علينا بيانه» ، وأو جب على الناس تدبره وتصديقه والعمل به، وقال: «أنا نحن نزلنا الذكر وأنا له لحافظون» ، ولا شبهة أنه ليس المراد حفظ ألفاظه فقط، وإنما المقصود بحفظه بقاء الحجة قائمة والهداية دائمة إلى قيام الساعة، وبهذا يعلم يقيناً أن الشارع لونقل كلمة عن معناها اللغوي إلى معنى آخر لبين ذلك للناس بياناً واضحاً، ولوبين لنقل بيانه، لتكفل الله عز وجل بحفظ الدين، ولما يلزم من انقطاع ذلك أن تنقطع الحجة والهداية، فتقوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 الساعة أو يبعث نبي آخر، وقد علمنا أن الدنيا باقية، وأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين، وقد تقرر في الأصول أن من الأخبار المقطوع بكذبها ما نقل آحاداً، والعادة تقضي أنه لو وقع لنقل متواتراً، فما لم ينقل آحاداً من ذلك فالقطع بعدم وقوعه أوضح. وفوق هذا فإن السياق كثيراً ما يعين معنى الكلمة حتى لمن يجهل أصل معناها، وكثير من الكلمات تتكرر في الكتاب والسنة ويدل السياق في كثير من تلك المواضع أو أكثرها على معنى الكلمة، وهكذا يكثر استعمالها على ألسنة حملة الشرع من الصحابة والتابعين، بل كثيراً ما يدل السياق في الكلمة التي قد ثبت أن الشارع نقلها على أنها في ذلك الموضع ليست بالمعنى المنقولة إليه كقوله تعالى: «إن الله والملائكة يصلون على النبي» ، (1) وقوله تعالى: «ولا تزكوا أنفسكم هو اعلم بمن أتقى» ، وغير ذلك، فما بالك بما لم يأت أنه نقل إلى معنى آخر. ونحوهذا يأتي في الاشتراك والمجاز والإضمار والتخصيص والتقديم والتأخير، وقد تقرر أن الظاهر حجة، وأن من استعمل الكلمة في غير المعنى الظاهر منها كان عليه أن ينصب قرينة وإلا كان الكلام كذباً، واحتمال قرينة لم تنقل يرده ما تقدم من تكفل الله عز وجل بالبيان وبحفظ الشريعة، وقضاء العادة بأنها لوكانت هناك قرينة لنقلت، وكثيراً ما تقوم الحجة القاطعة على أن الكلام على ظاهره، إما من الكلام نفسه بتركيبه وسياقه، وأما بمعونة نظائره في الكتاب والسنة، وقد أخطأ أفراد من الصحابة في فهم قوله تعالى: « ... وكلوا وأشربوا حتى يتبين لكم   (1) كأنه يشير إلى أن لفظ (يصلون) في الآية الأولى ولفظ (تزكوا) في الثانية منقول عن وضعه اللغوي، وهذا وإن ظهر في لفظ (يصلون) فلا يظهر في لفظ (تزكوا) . م ع يقول المؤلف: عبارتي واضحة في غير هذا، إنما أردت أن الشارع نقل لفظ الصلاة إلى ذات الركوع والسجود ولفظ الزكاة إلى أداء زكاة المال. ومع ذلك فسياق الآية الأولى يبين أن الصلاة فيها غير ذات الركوع والسجود، وسياق الثانية تبين أن الزكاة فيها غير أداء زكاة المال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 الخيط الأبيض من الخيط الأسود» ، مع أن خطأهم إنما كان لغفلتهم عن السياق والقرائن كما أوضحته في رسالة (أحكام الكذب) ، ومع ذلك كان خطأ أولئك الأفراد سبباً لإنزال الله عز وجل بقية الآية زيادة في البيان والإيضاح، فكيف يعقل أن يكون النص في العقائد ثم تخفى القرينة على جميع الصحابة ثم لا يبين الله لهم، أو يعرفها جماعة منهم ثم لا يبالون بنقلها، ولا يبعثهم الله تعالى على نقلهم نقلاً متواتراً يصل إليه علماء الرواية فيشيعونه ويذيعونه؟ ! ولا ريب أنه كما كان الصحابة مخاطبين بالنصوص فكذلك من بعدهم وكما تترتب المفسدة الشديدة على جهل الأولين بالقرينة فكذلك من بعدهم، غاية الأمر أن القرينة وإن كانت في حق المخاطبين الأولين لا بد أن تقترن بالنص فقد يجوز أن يستغني بعض النقلة باشتهارها فلا ينقلها مع النص، لكن لا يلزم من هذا ألان لا تنقل، بل لا بد من النقل لما تقدم، فإذا طلبها العلماء في مظانها فلم يجدوها، وحقها أن تنقل نقلاً متواتراً تواتراً يناله العلماء، قطعوا بأنها لم تنقل كذلك، فقطعوا بعدمها، فقطعوا بأن النص على ظاهره. وليس الحال فيما يتعلق بالعقائد كالحال فيما يتعلق بالأحكام، فإن الأحكام يجوز فيها أن تنقل القرينة آحاداً فقط لأن الخطأ في ذلك أمر هين، وقد يكون الخطأ بالنظر إلى النصوص في الأحكام صواباً بالنظر إلى الحكمة، فإن القوانين الشرعية تبنى على الأغلب في الحكمة، ولكن الله تبارك وتعالى يتولى تطبيق الحكمة بقضائه وقدره، فكما فرض الله تعالى الحكم بشهادة العدلين، وقد يتفق أن يخطئ عدلان، لكن الله تبارك وتعالى يتولى في مثل هذا تطبيق الحكمة بقضائه وبقدره، فكذلك قد يعرف القاضي دليلاً عاماً فيقضى به، وهناك مخصص له لم يقف عليه، فهذا القضاء وإن كان خطأ بالنظر إلى نفس الأمر بحسب الدلائل، فلعله صواب عند الله عز وجل بمقتضى الحكمة في تلك القضية، فأما العقائد فعلى خلاف هذا إذا لا يعقل تغيير الحكمة فيها، وكما يضر فيها القطع بالباطل فقريب منه الظن، فهب أن العالم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 إذا بحث فلم يجد قرينه لم يقطع بظاهر النص، فلا بد أن يظنه، ولا يستطيع أن يدفع الظن عن نفسه، ومع الظن فلا بد أن يحمد من أصحاب المقالات من يوافق ذاك الظن، ويذم من خالفه لغير حجة صحيحة. وبالجملة فمن تدبر القرآن والسنة وآثار السلف لم يخف عليه الحق في كثير منها، وأنه لا يمنعه عن القطع والإستيقان إن منعه إلا الشبهات المحدثة المبنية على التعمق، فأما من يقوي إيمانه ولا يبالي بتلك الشبهات، فإنه يقطع بدلالة كثير من تلك النصوص ويؤمن بها، وأما من لا إيمان له وهو مفتون بالشبهات فإنه يقطع بتلك الدلالة ويكفر بها. وأما الذين يكونون كما قال الله عز وجل: «مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ» فقد عرفت حالهم، ووراء ذلك أقوام يجهلون ما عليه العقول الفطرية كعقول المخاطبين الأولين أو يتجاهلون، ويغفلون عن قوانين البيان أو يتغافلون، ولا يعرفون وهن النظر المتعمق فيه، أو يعرفون وينكرون، ولا يتدبرون النصوص فيعرفون دلائلها القواطع، أو يتدبرون ويجحدون «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ» . وبالجملة فأسلافنا على ثلاث طبقات: الأولى: من ضح لنا اعتصامه بالكتاب والسنة فهؤلاء الذين نتولاهم. الثانية: من وضح لنا تهاونه بالكتاب والسنة فعلينا أن نتبرأ منهم. الثالثة: قوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يعفوعنهم ويعذرهم، وعلينا أن نحمد الله فيما أصابوا فيه، ونبرأ مما أخطأو افيه. والله المستعان. فأما ما ذكره العضد من المعارض العقلي فقد علمت حاله في الكلام مع الرازي، وقوله: «والحق أنها قد تفيد اليقين بقرآئن مشاهدة أو متواترة» ففيه قصور شديد، بل قد تفيد اليقين من أوجه أخرى كما سلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 ثم نكس فقال: «نعم في إفادتها اليقين في العقليات نظر لأنه مبني على أنه هل يحصل بمجردها الجزم بعدم المعارض العقلي؟ وهل للقرينة مدخل في ذلك؟ وهما مما لا يمكن الجزم بأحد طرفيه» . أقول لا ريب أنه من التيسر في كثير من الكلام إن لم نقل في أكثره أن يحصل القطع بالمعنى الذي حقه أن يفهم منه، وإنكار هذا مكابرة، فم إذا حصل القطع بهذا في كلام من يمتنع عليه الغلط حصل القطع بأنه أراد أن يكون الكلام كذلك، أي حقه أن يفهم من ذاك المعنى، فإذا كان ممتنعاً عليه قطعاً أن يكذب خطأ ولا عمداً حصل القطع بصحة ذاك المعنى فيحصل القطع باستحالة أن يوجد دليل عقلي صحيح على بطلان ذاك المعنى.فمن زعم أن النصوص لا يحصل بها القطع بعدم المعارض العقلي فإما أن يكون جاهلاً بقوانين الكلام، وإما أن يكون يكذب المتكلم بالنصوص، فأما زاد على هذا فرد بعض تلك النصوص أو حرفها إلى غير المعاني التي يعلم أن حقها بحسب قانون الكلام منها فهو مكذب للمتكلم بها ولابد. ومن وقف عن نفي حصول القطع وإثباته مع معرفته بقوانين الكلام فإن كان واقفاً في المسائل التي يختلف فيها السلفيون وغيرهم أو غالبها، فهو غير جازم بتصديق المتكلم بالنصوص وإن كان يرد كثيراً من تلك النصوص أو يحرفها، فلا معنى لوقفه بل هو مكذب البتة، فإن قيل قد يخطئ في فهم النصوص التي خالفها. قلت: إنما يتجه الحمل على الخطأ حيث يقل ويكون الغالب الصواب، ومع ذلك فهذا إنما يفيد الجزم بالتصديق، فأما المرتاب فسواء أخطأ أم تعمد. فأما القرآئن فهي على ضربين: الضرب الأول: ما هو كالجزء من الكلام بأن ينصبه المتكلم أو يلاحظ تتميماً لمقصود الكلام وهو الإفهام، فتارة تكون فائدتها تأسيسية , ذلك حيث يتوقف عليها الفهم أو تعيين المراد أو تبيينه، وتارة تكون تأكيدية وذلك حيث توافق ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 يدل عليه الكلام. الضرب الثاني: العلامات والأمارات الدالة على بعض الأمور، كأن نعلم أن القاضي مريض مرضاً خطراً ثم نسمع البكاء من بيته، ويدعى الغسالون والحفارون ويحضر العلماء والأمراء، ثم تخرج من بيت القاضي جنازة على هيأة العلماء فيتسابق أهل العلم والفضل إلى حملها، ومعها أبناء القاضي بهيئة الغم والحزن، ثم توضع للصلاة فيقدمون للإمامة أكبر أبناء القاضي، فتقدم ويقوم حيث يقوم الإمام من جنازة الرجل، ثم يذهب بها فيدفن الميت في قبره بجانب قبر والد القاضي، ثم نرى الناس يتقدمون إلى أبناء القاضي على هيأة ما جرت به العادة في التعزية - إلى غير ذلك مما يدلنا على أن القاضي مات ولولم نشاهد موته، ولم نسمع مخبراً يخبر بموته، وهذه الأمارات قد تقوي وتكثر حتى يحصل اقطع بموت القاطي، وذلك حيث يستحيل في العادة أن يتفق اجتماع لغير موته. فإذا فرضنا أنه عندما سمعنا البكاء من بيت القاضي خرج طبيب كان دعي قبل ساعة، فسئل فقال: مات القاضي، فهذا الخبر قد يحصل به وبتلك الأمارات القطع حتى على فرض عم الخبر. وهذا الضرب قد يحتاج إليه الناس لوجهين: الأول: تثبيت صدق المخبر. الثاني: الدلالة على معنى الخبر حيث لم يكن صريحاً كما لوكان الطبيب لما سئل قال: «مات رجل كبير» . فأما الشرع فإنه غني عن تثبيت صدق أخباره، وإنما الشأن في ثبوت أه أخبر، ثم في معنى الخبر، وكلا الضربين يدخل فيما يتعلق بالعقليات، كما يدخل في غيره. وجاري السيد الجرجاني في (شرح المواقف) المتن. ثم قال: «وقد جزم الإمام بأنه لا يجوز التمسك بالأدلة النقلية ... » الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 أقول: قد رجع الرازي كما تقدم (1) ولله الحمد. والسيد هذا هو المصرح في البيان كما في بحث الاستعارة من حيث (حواشي عبد الحكيم على المطول) بأن الكذب العمد لا ينصب صاحبه قرينة «بل يروج ظاهره لكن لا مانع من قصد التأويل في ذهنه» . وجاراهما المحشي عبد الحكيم قم قال «ههنا بحث مشهور، وهو أن المبني لعدم المعارض العقلي في التشريعات صدقُ القائل، وهو قائم في العقليات أيضاً، وما لا يحكم العقل بإمكانه ثبوتاً وانتفاء لا يلزم أن يكون من الممتنعات لجواز إمكانه الخالي من العقل، فينبغي أن يحمل كل ما علم أن الشرع نطق به على هذا القسم، لئلا يلزم كذبه، وإبطال قطع العقل بصدقه، فالحق أن النقلي أيضاً يفيد القطع في العقلي أيضاً، ولا يفيد ما ذكره الشارح، ولا مخلص إلا بأن يقال مراده أن النظر في الأدلة أنفسها والقرآئن في الشرعيات يفيد الجزم بعد المعارض لأجل إفادته الإرادة من القائل الصادق جزما، وفي العقليات إفادته الجزم بعدمه محل نظر بناء على إفادته لإرادة محل له لأنه بعد ما علم مراد الشارع يقيناً في العقلي والنقلي يحصل الجزم بعدم المعارض في الثاني دون الأول فإنه غير مسلم» . أقول: لا شك أن هذا الذي زعمه هو مرادهم، لكنه لا يفيدهم شيئاً، لأن ذاك النظر لا يستند إلى شيء سوى أنهم وجدوا الشبهات التعمقية تخالف بعض النصوص، فلم يكن عندهم من قوة الإيمان ما يحملهم على اطراح تلك الشبه وتصديق الشرع، وكبر عليهم أن يصرحوا بتكذيب الشرع، فحاولوا أن يتخذا بين ذلك سبيلاً، وهيهات! وكذلك السع التفتازاني جرى في (المقاصد) و (شرحها) على أن النصوص لا   (1) يعني في وصيته التي لخصها المؤلف من «لسان الميزان» ص 33، م ع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 يحتج بها في مقابل تلك الشبه وجمجم في ذاك الموضع جمجمة ينكشف حالها في كلامه في موضع آخر، كما يأتي في مسألة الجهة إن شاء الله تعالى. وقد أوضحت في رسالة (أحكام الكذب) اتفاق البيانيين ومنهم التفتازاني والجرجاني وعبد الحكيم أن الكلام إذا كان حقه أن يفهم منه مع ملاحظة قرينة - إن كانت - خلاف الواقع، لم تخرجه الإرادة التي هي التأويل الذهني عن كونه كذباً، وتقدم بعض ما يتعلق بذلك ومرت عبارة الجرجاني قريباً. فمتى تحقق في النص أنه ظاهر بين في معنى ولا قرينة تصرف عنه ففرض بطلان ذاك المعنى مستلزم أن الكلام كذب، وأن المتكلم كاذب ولابد، ويتأكد بعيداً جداً عن احتمال غير ذاك المعنى فإنه يتحقق حينئذ عدم العلاقة مع عدم القرينة. وزعم الجرجاني في (شرح المواقف) أن القول بأن الأدلة لا تفيد اليقين هو مذهب المعتزلة وجمهور الأشاعرة، فإن صح هذا القول فهو بالنظر إلى متأخري الطائفتين، فأما المتقدمون فلا يظن بهم هذا، نعم إنهم يخالفون بعض النصوص ولكن قد يكون ذلك لاشتباه ما توهموا أنه دليل عقلي بالدليل العقلي الصحيح الذي من شأنه أن لا يخفى على المخاطبين الأولين فتوهموا أنه قرينة صحيحة، أولاشتباه معاني بعض الآيات عليهم، فظنوا أنها صريحة فيما ذهبوا إليه، وأنها قرينة صحيحة توجب تأويل ما يخالفها، وقل عالم إلا وقد خالف بعض النصوص، وكما لا يلزم من ذلك إنكار أن تكون النصوص حجة، فكذلك لا يلزم إنكار أنها قد تفيد اليقين، بلى إذا كثرت المخالفة فقد يتجه الحكم. والله أعلم. المحكم والمتشابه كثير من المتعمقين يسترون تكذيبهم للنصوص بدعوى أن ما يخالفونه منها هو من المتشابه المنهي عن إتباعه، وقد كثر الكلام في المحكم والمتشابه، وسألخص ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 بان لي راجياً من تعالى التوفيق. المعنى المتبادر إلى الذهن من كلمتي «محكم» و «متشابه» أن المحكم هو المتقن الذي لا خلل فيه، والمتشابه هو الذي يشبه بعضه بعضاً، والقرآن كلام رب العالمين، أحكم الحاكمين، العليم القدير، فلابد أن يكون كله محكماً، وينبغي أن يعلم إحكام الشيء يختلف باختلاف ما أعد له، ففي البناء يختلف الإحكام في الحصن ودار السكنى وقصر النزهة، (1) وهكذا يختلف الإحكام في حجر الدار الواحدة كالمجلس والمخزن والحمام، ويختلف المعد لغرض واحد باختلاف الأحوال، فالمجلس الذي يصلح للشتاء قد لا يصلح للصيف، والذي يصلح للصيف في بلد لا تكون فيه السموم (2) قد لا يصلح في بلد تكون فيه، وهكذا الكلام كما يقوله البيانيون في تفسير البلاغة، فمهما يكن في بعض الآيات مما يزعمه بعض الناس خللاً فهو بالنظر إلى ما أعدت له الآية عين الإحكام. وهناك صفات تشترك فيها آيات القرآن كالإحكام والصدق وغير ذاك من الصفات المحمودة، فيصح أن يقال: إن القرآن كله متشابه كما أنه كله محكم، وقد وصفه الله تعالى بهذين الوصفين، قال تعالى: «الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» فاتحة سورة (هود) . وقال عز وجل: «وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ» فاتحة سورة (يّس) . وقال سبحانه: «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً» . الزمر: 23. (3)   (1) كل بحسبه، فإتقان الحصن غير إحكام دار السكنى قصر النزهة. م ع (2) السموم الرياح الحارة مع الجفاف كاصبا والشمال في تهامة والحجاز وكالجنوب في مصر. م ع (3) والذي أفاده شيخ الإسلام ابن تيمية أن الإحكام والتشابه العام في القرآن يتشابهان، فهو محكم متقن بين واضح، وهو متشابه يشبه بعضه بعضاً في الإحكام والصدق والبيان والوضوح. م ع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 فيبقى النظر في قوله تعالى: «الم. اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ.نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ» إلى قوله: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوالْأَلْبَابِ. رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» . فواتح سورة (آل عمران) . دل هذا أن منه آيات محكمات غير متشابهات، وآيات متشابهات غير محكمات، فلابد أن يكون الإحكام والتشابه هنا معنى غير الأول فما هو؟ أشهر ما روي عن السلف في ذلك قولان: الأول: أن المحكم ما ينسخ. والمتشابه المنسوخ. الثاني: أن المحكم ما للناس سبيل إلى معرفة تأويله كآيات الحلال والحرام. والمتشابه ما لا يعلم تأويله إلا الله كوقت قيام الساعة. وقد عرف من عادة السلف أنهم يفسرون الآية ببعض ما تتناوله وذلك على سبيل التمثيل، وأنهم كانوا يطلقون النسخ على ما يشمل البيان بالتخصيص ونحوه، وفيمكن أن يشرح ذلك القولان على ما يأتي: القول الأول: أن المحكمات هي كل آية بينة بنفسها، والمتشابهات ما تحتاج إلى أن يبينها غيرها كالمنسوخ والمجمل بنوعيه. القول الثاني: أن المحكمات كل آية يتهيأ للسامع مع معرفة معناها الذي سيقت لبيانه أن يعرف ما تتوق إليه نفسه مما يتعلق بما اشتملت عليه، والمتشابهات ما عدا ذلك، فالآيات المنذرة بقيام الساعة إنما سيقت لإعلام العباد أن لهم بعد هذه الحياة الفاني حياة خالدة يحاسبون فيها على ما قدموه في الدنيا ويجزون به، ليستعدوا لها بالإيمان والعمل الصالح والاستكثار منه، واجتناب الكفر والظلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 والفسوق العصيان، فهذا هو المقصود، ولكن كثيراً من النفوس تخطاه متعطشة إلى معرفة وقت قيام القيامة، قال الله تعالى: «يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» . الأعراف: 187. (حفي عنها) : معني بالسؤال عن وقتها حتى علمته، فرد الله تعالى عليهم بأن رسول ليس مثلهم في الحرص على معرفة ذلك لأنه يعلم أن المهم هو الإستعداد لها فهو مستعد فلا يهمه أن تقوم بعد لحظة أو بعد ألوف القرون، وفي القرآن عدة آيات أخرى في هذا المعنى. وفي (الصحيحين) عن أنس «أن رجلاً قال: يار رسول الله متى الساعة؟ قال ويلك وما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها إلا أني أحب الله ورسوله، قال أنت مع من أحببت، قال: أنس فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بها» . عدل به النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المهم، ونبهه على أن المحبة تقتضي المعينة، فمن صدق حبه لله ورسوله كان معها في الدنيا بالإيمان والطاعة والاتباع فيحبه الله فينيله المعية في الآخرة بالنجاة والدرجات، قال تعالى: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ» . وتفاوت المعية في الدنيا دليل تفاوت المحبة، وقضية ذلك تفاوت المعية في الآخرة، ويزيد الله تعالى من شاء من فضله. ويدخل في المتشابه على القول الثاني الآيات المتعلقة بذات الله تعالى وصفاته وغيبه كقوله تعالى فيما قصة من خطابه لإبليس: «قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي» . ص: 75. فالآيات سيقت لحض بني آدم على مخالفة الشيطان وتحذيرهم من طاعته أو فعل مثل فعله، وبيان عداوته لهم، وبيان إقامة الله عز وجل الحجة عليه، وبيان أن الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 تعالى شرف أباهم بأن خلقته بيديه سبحانه، وبيان أن له سبحان يدين كما يليق بعظمته، وهذه المعاني ظاهرة لا لبس فيها، لكن النفس قد تتخطاها إلى الخوض في منه اليدين وكيفيتهما. فعلى كلا القولين تكون تلك الآيات محكمة أي متقنة على ما اقتضته الحكمة، وفي بقاء المنسوخ بعيداً عن ناسخه، والإتيان بالمجمل بنوعيه ابتلاء من الله لعباده، فيكون عليهم مشقة وعناء في استنباط الأحكام لاحتياج ذلك إلى الإحاطة بنصوص الكتاب والسنة واستحضارها، وفي ذكر ما لا سبيل للعباد إلى معرفة كنهه وكيفيته مع ما يتعلق بذلك من المعاني الظاهرة ابتلاء لهم ليمتاز الزائغ عن الراسخ، وقد تقدمت حكمة الابتلاء في أوائل الرسالة. ويبقى النظر في وجه تسمية تلك الآيات متشابهات، والذي يظهر أنه ليس المراد أنها يشبه بعضها بعضاً، بل المراد - والله أعلم - أن كل آية متشابهة، أي يمكن أت تحمل على معان متشابهة في أن لا يترجح بعضها على بعض رجحاناً بيناً. وفي حديث (الصحيحين) : «الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشبهات ... » وفي (فتح الباري) : «وفي رواية الأصيلي مشتبهات ... وهي رواية ابن ماجه وهو لفظ ابن عون ... ورواه الدارمي عن أبي نعيم شيخ البخاري بلفظ: «وبينهما متشابهات» واشتبهو اوتشابهو ايأتيان بمعنى واحد، شأن افتعل وتفاعل في كثير من الكلام، فالأمر الذي بين الحلال والحرام متشابه الحل والحرمة في الاحتمال، يحتمل كلاً منهما كما يحتمل الآخر، لا يترجح فيه ذا ولا ذاك، فهكذا والله أعلم تكون الآية المتشابهة يتشابه فيها معنيان فأكثر، وانطباق هذا على المجمل الذي ظاهر له واضح، فأما الذي له ظاهر فإنما يقع حيث تكون هناك قرينة تقاوم ظهوره، كما أوضحته في رسالتي في (أحكام الكذب) ، وبذلك يصير في حكم الأول، هذا بالنسبة إلى الصحابة. فأما من بعدهم فقد علم المسلمون أن في النصوص ما هو منسوخ نسخة نص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 آخر بعيد عنه، وما هو عام خصصه نص آخر، وما هو مطلق قيده نص آخر، وهكذا، فمن لم يستقرىء النصوص ويتدبرها فإنه يقف على ما هو في نفس الأمر منسوخ ولم يعلم ذلك يكون محتملاً في حقه أن يكون حكمه باقياً، وأن يكون منسوخاً, وقس على هذا حال الباقي، فثبت التشابه. وأما ما لا سبيل إلى علم تأويله، وأو قل: كنهه وكيفيته كاليدين في قوله تعالى: «خَلَقْتُ بِيَدَيّ» فإنه لا يبقى إلا التخرص ولا حد له فقد يتخرص الانسان وجهين، أو أكثر ومعلوم أنه لا يتبين واحد من ذلك بياناً واضحاً، فثبت التشابه. وكلا القولين يمكن تطبيقه على السياق. وأما القول الأول؛ فأهل الزيغ يتبعون المنسوخ والمجمل، فتارة يعيبون القرآن بالتناقض - زعموا - وبعدم البيان. وتارة يتشبثون بذلك لتقوية أهو ائهم كما فعل النصارى، إذ تشبثوا بما في القرآن من إطلاق الكلمة والروح على عيسى، وكما فعل المشركون عندما سمعوا قوله تعالى: «إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّم» وتارة يبتغون تأويله مع عدم تأهلهم لذلك وعدم رجوعهم إلى الراسخين، كما فعل الخوارج في قوله تعالى: «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» وقوله: «لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَان» ، ونحوذلك. وأما القول الثاني: فأهل الزيغ يتبعون تلك النصوص، تارة ابتغاء الفتنة، بأن يعيبوا القرآن والإسلام بزعم أنه جاء بالباطل فيزعمون أن لفظ «بِيَدَيّ» معناه أن لله سبحانه يدين مماثلتين ليدي الإنسان يجوز عليهما ما يجوز على يدي الإنسان ثم يقولون: وهذا باطل، ثم يوجه كل منهم ذلك إلى هواه، فنمهم من يستدل بذلك على أن القرآن ليس من عند الله، وأن محمداً ليس بنبي، ومنهم من يستدل بذلك على أن القرآن جاء بالبطل مجاراة لعقول الجمهور، إلى غير ذلك. وتارة ابتغاء تأويله، فمنهم من ذهب يتخرص تخرص هشام بن الحكم وأصحابه وغيرهم من المشبهة الضالة، ومنهم من يحرف تلك النصوص بحملها على معاني بعيدة، كعقول بعضهم أن اليدين هما القدرة والإرادة وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وقوله تعالى: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا به» ، وينطبق على كل من القولين، إلا أنه القول الأول يكون قوله: «وَالرَّاسِخُونَ» عطفاً، والمعنى أن الراسخين يعلمون تأويله أيضاً، وعلى القول الثاني يكون قوله: «وَالرَّاسِخُونَ» استئنافاً، فهم لا يعلمون تأويله، وإنما امتازوا بأنهم لا يتبعونه إتباع الزائغين، بل يقولون: «آمَنَّا به» الآية. ويدل على تصحيح كلا القولين أن من الناس من وقف على قوله: «إلا الله» ، ومنهم من لم يقف، وأنه صح عن ابن عباس أنه ذكر الآية ثم قال: «أنا ممن يعلم تأويله» . وصح عنه أنه قرأ: «ويقول الراسخون» . والتأويل على القول الأول بمعنى التفسير، وعلى الثاني بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها اللفظ، ففي قوله تعالى: «لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي» تأويل اليدين حقيقتهما وكنههما على ماهما عليه. واعلم أن التأويل يكون للفعل، كخرق صاحب موسى (1) سفينة المساكين، وقتله الغلام وإقامته الجدار، ويكون للرؤيا، ويكون للكلام. فتأويل الفعل إما مآله أي ما يؤول إليه، وهو المقصود من فعله كسلامة السفينة من غضب الملك، وسلامة أبوي الغلام من إرهاقه، وسلامة كنز اليتيمين، وإما بيان أن الفعل يؤول إلى المآل. قال الله تعالى فيما قصة عن صاحب موسى: «سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» ثم أخبره بأن القصد من تلك الأفعال أن تؤول ذاك المآل، ثم قال: «ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» وقال تعالى: «ذَلِكَ (2) خَيْرٌ   (1) صاحب موسى هم الخضر كما صرح به حديث ابن عباس في (الصحيحين) وغيرهما وقصتهما في سورة الكهف، وذكر البخاري حديث الخضر وموسى في عدة مواضع من (صحيحه) كالعلم والإيمان والتفسير وأحاديث الأنبياء وغيرها، ولا أدري لماذا أبهم المؤلف اسم صاحب (موسى) مع التصريح باسمه في الأحاديث الصجيجة، وأن اسمه خضر أو الخضر بذكر الألف واللام وحذفها. م ع (2) أي الفعل المأمور به، أنظر الآيتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً» النساء - 59، الإسراء- 35. وتأويل الرؤيا إما مآلها وهو الواقع في نفس الأمر الذي هي تمثيل له كسجود إخوة يوسف وأبويه له، فقال يوسف قصة الله تعالى عنه «عندما سجد له أبواه وإخوته] (3) هذا تأويل رؤياي، وإما بيان ما تؤول إليه، وذلك تعبيرها. ومنه ما قصه الله تعالى من قول يعقوب ليوسف «وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيث» ، ثم قول يوسف «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ» . ويحتمل المعنيين ما قصه الله تعالى من قول صحأبي السجن ليوسف «نبأنا بتأويله» وقوله لهما: «إلا نبأتكما بتأويله» ، وقول الناجي منها للملك ومن معه «أنا أنبئكم بتأويله» بعد قوأصحاب الملك «وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين» . وتأويل الكلام إما مآله الخارجي وهو الواقع في نفس الأمر إذا كان الكلام خبراً، والفعل المأمور به إذا كان أمراً، وقص على ذلك قص الله عز وجل في سورة (الأعراف) حال القيامة والجنة والنار، ثم قال: [) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ» الأعراف - 52 - 53. وقال تعالى: «وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ» إلى أن قال: «بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُه» يونس - 37 - 39 وفي (صحيح مسلم) من حديث عائشة: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول فيركوعه وسجوده: سبحان الله وبحمده اللهم أغفر لي، يتأول القرآن» . تريد والله أعلم: يأتي بتأويل قوله تعالى: «فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ» وإما مآله المعنوي كأن يقال: تأويل رأيت أسداً يرمي، رأيت رجلاً   (3) زيادة من الشيخ محمد عبد الرزاق. ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 شجاعاً.وإما بيان أحدهما، وهذا هو المسمى بالتفسير، ويحتمل هذا الذي قبله قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ابن عباس: «اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل» . (1) فعلى الأول يكون المعنى: علمه المعاني التي تؤول إليها النصوص، وعلى الثاني يكون المعنى: عامة أن يؤول النصوص أي يبين معانيها التي تؤول إليها. إذا تقرر هذا فعلى القول الأول في المتشابه يكون المراد بتأويله معانيه، وعلى القول الثاني يكون المراد ما يؤول إليه من الحقائق، فكما أن تأويل الأخبار بالبعث هو البعث نفسه، فكذلك تأويل الأخبار بأن لله يدين هو اليدين، والعلم الذي ينفرد الله تعالى به في شأن اليدين هو العلم بالكنه والكيفية، فأما العلم الإجمالي الذي يتوقف عليه الإيمان بأن لله تعالى يدين على الحقيقة، فهذا يحصل للمؤمنين، وبه يكونون مصدقين لخبر الله عز وجل، وبذلك يخلصون من تكذيبه ويمتازون عن الزائغين المتبعين له ابتغاء الفتنة، وبقناعتهم به يمتازون عن الزائغين المتبعين له ابتغاء تأويله. فإن قيل: فإن للمتعمقين أن يقولوا: الصواب عندنا من القولين المذكورين في المتشابه القول الأول، النصوص التي تتعلق بالمعقولات كلها من المجمل الذي له ظاهر، ولا يمكن الوثوق بأن ذلك الظاهر هو المراد، إلا أن يقوم الدليل العقلي على وجوب ذاك الظاهر أو جوازه، ثم نقول: إن كل نص من تلك النصوص يحتاج إلى بيانين: الأول: بيان صحة ذاك الظاهر أو بطلانه. الثاني: بيان المعنى المراد، فأما البيان الأول فيحصل بالعقل، ويحصل بقوله تعالى: «ليس كمثله شيء» وقوله: «قل هو الله أحد» السورة، فقد بين العقل، وهاتان الآيتان وغيرهما بطلان ظواهر تلك النصوص التي نتأولها، فوجب أن يكون   (1) أخرجه أحمد باسناد صحيح، وهو في «الصحيحين» دون قوله: «وعلمه التأويل» . ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 المراد بها معان أخرى صحيحة. فأما الزائغون فاتبعوا تلك الظواهر، هم فريقان: الأول: الملحدون القانون: هذه الأمور باطلة قطعاً، فالشرع الذي جاء بها باطل. الفريق الثاني: الذين يجهلون أو يتجاهلون بطلانها فيدينون بإثباتها، والسلف وأئمتنا أبرياء من الفريقين، غير أن السلف كانوا مع العلم ببطلان تلك الظواهر يمتنعون من الخوض في البيان الثاني، وأئمتنا اصطدموا بالزائغين الزاعمين أن تلك الظواهر هي المعاني المرادة من تلك النصوص ويبالغون فيدعون أن تلك النصوص صريحة في تلك المعاني لا تحتمل التأويل، فاحتاج أئمتنا إلى بيان الاحتمال، فمن لم يجزم منهم بمعنى معين فلم يأتي بما ينكر عليه، ومن جزم بذلك فقد ينكر عليه من يذهب إلى أن الراسخين لا يعلمون ذلك، أي أنهم ولوعلموا بطلان الظاهر، وأن المراد غيره، فلا يعلمون التأويل وهو المعنى المراد لاحتمال النص عدة معان، لكن قد يقال: إذا كان المعنى الذي جزم به ذلك الجازم صحيحاً في نفسه فالخطب تسهل، وذلك كالقائل: إن المراد باليدين في قوله تعالى: «لما خلقت بيدي» القدرة والإرادة، فإن هذا معنى صحيح في نفسه، للعلم بأن الله تعالى قدرة وإرادة، وأن لها تعلقاً بخلق آدم، فإن فرض أن المراد باليدين في الآية معنى آخر فليس في الجزم المذكور كبير حرج. فالجواب عن هذا كله يعلم مما تقدم في هذه الرسالة وألخصه هنا بعون الله عز وجل:قولكم: «فلا يمكن الوثوق بأن ذلك الظاهر هو المراد إلا أن يقوم الدليل العقلي على وجوب ذاك الظاهر أو جوازه» . قول باطل مردود عليكم، بل الحق أنه أن دل العقل الصريح - الذي يصح أن يكون قرينة بأن يكون من شأنه أن لا يخفى على المخاطب إذا تدبر - على امتناع ذاك الظاهر لم يبقى ظاهراً ضرورة أن القرينة ركن من الكلام، وإلا كان النص برهاناً على الوقوع فضلاً عن الجواز، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ضرورة أنه إن لم يكن كذلك كان كاذباً، وقد قامت البراهين على استحالة أن يقع الكذب من الله تعالى ولا من رسوله. فإن قيل: لا يلزم من فرض البطلان التكذيب، لجواز تأخير بيان المجمل الذي له ظاهر. ومن أجاز التأخير فمحله في مجمل لا ظاهر له، أوله ظاهر بحسب اللفظ لكن تكون هناك قرينة صحيحة كدافع ذاك الظهور، فيبقى النص في حكم المجمل، الذي لا ظاهر له، على هذا إذا كان للنص ظاهر ولا قرينة تدافعه وجب الجزم بأن ذاك الظاهر هو المراد. وهناك نصوص في الأحكام يمثلون بها لما أدعوه من جواز أن يكون للنص ظاهر غير مراد ويتأخر بيانه، ونحن نجيب عنها إجمالاً فنقول: ما ثبت فيه الظهور وثبت أنه لم تكن قرينة صحيحة تدافعه وثبت أنه ورد بعده ما يخالفه فإننا نصحح ذلك الظاهر ونقول: إنه هو المراد، وإن ما ورد بعده مخالفاً فهو ناسخ له، فإن ثبت إن المتأخر ورد قبل العمل بالمتقدم اخترنا جواز النسخ قبل العمل، ويكون المقصود من الحكم السابق إنما هو ابتلاء المكلفين ليتبين من يتقبل الحكم بالرضا والعزم على العمل به والاستعداد له. وعلى ذلك فهذا إنما يتأتى في النصوص المتعلقة بالأحكام، دون النصوص المتعلقة بالعقائد والفرق بين النصوص التي قيل إنها كانت من المجمل الذي ظاهر غير مراد، وهي متعلقة بالأحكام وبين النصوص المتعلقة بالعقائد التي ينفرد المتعمقون بإنكار ظواهرها من وجوه: الأول: أن الأولى يعقل فيها تأخر الحاجة كآية تنزل في شوال، وتتعلق بحكمٍ لصيام رمضان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 فأما الثانية: فالحكم المقصود منها يتعلق بالاعتقاد، وهو يحصل عقب السماع فوقت الحاجة فيها هو وقت الخطاب. الوجه الثاني: أن الأولى يعقل قيام قرينة تدافع الظهور. وأما الثانية فبعيد عن ذلك لأن كثيراً منها أو أكثرها كانت موافقة لعقول المخاطبين، فدلالة العقل تدفع ما قد يحتمل من قرينة وتصير النص صريحاً في ظاهره. الوجه الثالث: أن الأولى لا تخلوفائدة فقد ذهب حمع من أهل العلم إلى أن من احتاج إلى عمل ووجد نصاً يتعلق به إلا أنه يحتمل أن يكون له ناسخ أو مخصص أو مقيد، ولم يمكنه البحث حالاً كان عليه العمل بذلك النص ثم يبحث، ويشهد لهذا أن استقبال بين بيت المقدس نزل نسخه وأناس من المسلمين غائبون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فبقي الحكم في حقهم استقبال بيت المقدس حتى بلغهم النسخ، وكذلك تحريم الخمر نزل وأناس من المسلمين غائبون، فبقي الحكم في حقهم حلها حتى بلغهم التحريم، هذا مع أن من أولئك الغائبين من غاب بعد أن علم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتوقع القبلة وتحريم الخمر، وعلى هذا فإذا جاز أن تنزل في شوال آية تتعلق بحكم رمضان وتكون مجملة لها ظاهر غير مراد وتكون هناك قرينة تدافع ذاك الظهور فسمعها بعض المسلمين ثم غاب، وطالت غيبته حتى دخل رمضان كان عليه العمل بتلك الآية، وإن كان محتملاً عنده نزل بع غيبة ما يبين أنها على خلاف الظاهر، فهذا ونحوه إنما يعقل في الأحكام التي يعقل فيها الاختلاف، فيكون الحكم حقاً في وقت أو حال، وباطلاً في غيره، فأما الاعتقادات فإنما تكون على حال واحدة. الوجه الرابع: أن الظهور في الأولى ضعيف واحتمال خلافه قوي، وذلك كالعموم، وقد قيل: ما من عام خص، وكالإطلاق وهو قريب من ذلك، والثانية كثير منها أو أكثرها صريحة في المعاني التي ينكرها المتعمقون، وما كان كذلك فلا مجال لتجويز أن يكون ذلك المعنى غير مراد، لأن ذلك يكون تكذيباً له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 الوجه الخامس: أن الأولى قليلة حتى أنكر جمع كثير من أهل العلم وقوع تأخير البيان بل أنكروا جوازه، والثانية كثير جداً. الوجه السادس: أن الأولى توجد النصوص المبينة لها صريحة واضحة في البيان، والثانية لا يوجد نص واحد بين في خلافها. وقد مر النظر في قوله تعالى: «ليس كمثله شيء» وما معها. الوجه السابع: أن الأولى لا يكاد ينقل من أقوال الصحابة والتابعين ما يتعلق بها إلا مع بيانها. والثانية لا يصح عن أحدهم منهم قول يخالف معانيها التي ينكرها المتعمقون، بل جاء عنهم مما يوافقها ويقرر معانيها وما يشبهها الكثير الطيب. وزعمكم أن السلف كانوا يعتقدون بطلان تلك المعاني، من العجب العجاب. ودونكم الحقيقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 الباب الرابع: في عقيد السلف وعدة مسائل من تدبر القرآن وتصفح السنة والتأريخ علم يقيناً أنه لم يكن بين يدي السلف مأخذ يأخذون منه عقائدهم غير المأخذين السلفيين، وأنهم كانوا بغاية الثقة بهما والرغبة عما عداهما، وإلى ذلك دعاهم الشرع حتى لا تكاد تخلوا آية من آيات القرآن من الحض على ذلك. وهذا يقضي قضاء باتاً بأن عقائدهم هي العقائد التي يثمرها المأخذان السلفيان، يقطعون بما يفيدان فيه عندهم القطع، ويظنون ما لا يفيد أن فيه إلا الظن، ويقفون عما عدا ذلك، وهذا هو الذي تبينه الأخبار المنقولة عنهم كما تراها في التفاسير السلفية وكتب السنة، وهو الذي نقله أصاغر الصحابة عن اكبارهم، ثم نقله أعلم التابعين بالصحابة وأخصهم بهم واتبعهم لهم عنهم، ثم نقله صغار التابعين عن كبارهم، وهكذا نقله عن التابعين أعلم أتباعهم بهم، وأتبعهم لهم، وهلم جرا. وهذا قول السلفيين في عقيدة السلف، ويوافقهم عليه أكابر النظار، صرح بذلك من لم ينصب نفسه منصب المدافع عن الدين والمحامي عن عقائد المسلمين كابن سينا وابن رشد وأشار إليه من نصب نفسه ذاك المنصب كما يأتي في مسألة الجهة. وأما من دون هؤلاء فمضطربون فمنهم من يقف، ومنهم من يزعم أن السلف كانوا واقفين في غالب العقائد التي اختلف فيها من بعدهم يطلقون بألسنتهم ما يوافق ظاهر النصوص غير جازمين بأنه على ظاهره أو على غير ظاهره، ومنهم من ينتحل السلف، فمن أتباع الأشعرية من يقول كانت عقيدة السلف هي عقيدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 الأشعرية نفسها! فكانوا يرون بطلان ظواهر النصوص التي يقول الأشعرية ببطلانها! إلا أنهم لم يكونوا يخوضون في بيان معانيها الأخرى، فكانوا يعتقدون أن الله عز وجل غير مباين للعالم ولا محايث له ولا ولا، ومع ذلك أنهم يطلقون أنه تعالى على عرشه فوق سماواته، معتقدين بطلان ظاهر هذا ساكتين عن معناه الذي يرونه صحيحاً! وهذا القول الأخير شهره المتعمقون حتى لا يكاد يخلوا عنه كتاب من كتب الخلف في أي فن كان. ويمكن أن يتشبثوا في الانتصار له بأن يقول: لا نزاع أن السلف كانوا أفضل الأمة وخيرها وأعلمها بالدين وأثبتها على الحق، وكان أسلافنا من المتعمقين علماء خياراً صالحين، يعرفون فضل السلف، فلم يكونوا ليخالفوهم. فيقال لهؤلاء إن أسلافكم ذهبوا إلى أنه لا يحتج بالعقائد بالكتاب ولا السنة ولا أقول السلف، بل كان المتبعون منهم من أجل خلق الله بالسنة، وأقول السلف، وإنما استقروا عقائدهم من النظر العقلي المتعمق فيه، ثم اعتراض بعض نصوص القرآن التي تخالف راية ورأي أشياخه من المتعمقين، فحاول صرفها عن معانيها، مع أنه في مواضع آخر يقرر أن مثل ذلك الصرف لا يسوغ وأن الخبر إذا كان صريحاً في معنى أو ظاهراً فيه ولا قرينة صحيحة تصرف عنه، فزعم أن ذاك المعنى غير واقع تكذيب للخبر وإن زعم أن المخبر تأول في نفسه معنى آخر كما تقدم إيضاحه غير مرة، وهكذا تصدى بعضهم لنصوص السنة التي تخالف راية ورأي أشياخه فرد بعضها زاعماً أنها مخالفة للعقل، وحاول صرف بعضها عن تلك المعاني كما صنعوا في نصوص القرآن، ولعلهم بظهور سخافتهم فيما يرتكبونه يحاولون ترويجه بأمرين: الأول: زعمهم أن الملجئ لهم إلى ذلك احتياجهم إلى الدفاع عن الدين، لئلا يلزم من مجيئه بتلك النصوص بطلانه! الثاني: عيب أئمة المؤمنين الذين يصدقون الله ورسوله، والسخرية منهم بأنهم لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 يعقلون ولا يفهمون، ويسمونهم «الحشوية» وغير ذلك من الأسماء المنفردة - كما صنع ابن الجويني المدعو إمام الحرمين في رده على كتاب «الإبانة» للحافظ أبي نصر السجزي، وذلك قبل أن يرجع ابن الجويني ويتمنى الموت على دين عجائز نيسابور، وكما صنع ابن فورك في كتابه (مشكل الحديث) ، وإني والله ما آسى على ابن فورك وإنما آسى على مسحوره البيهقي الذي امتلأ من تهويلات ابن فورك وغيره رعباً فاستسلم لهم وانقاد ورائهم. (1) وكان عبد الرزاق ابن همام الصنعاتي قد أخذ عن جعفر بن سليمان الضبعي طرفاً من التشيع، فشنعوا عليه بذلك حتى قال محمد بن أبي بكر المقدمي، فقدت عبد الرزاق، ما أفسد جعفر بن سليمان غيره، وليت شعري لوكان ابن فورك والبيهقي أدركا المقدمي ما عسى كان يقول فيها. فأما ما يعترضهم من كلام السلف، فإنهم يصرحون بقلة حياء بأن تلك الأقوال تجسيم كما صنعوا فيما صح عن كبار أئمة التابعين من تفسير الصمد بأنه الذي لا جوف له وقد مر ذلك في الباب الثالث. فإذا كان أشياخهم يردون القرآن والسنة ويجهلون أئمة السلف فكيف تظنون بهم أنهم لا يخالفون السلف؟ (فإن قيل) حاصل هذا أنهم كانوا يعتمدون النظر العقلي، وعلى هذا فما أثبته العقل فهو حق لا ريب فيه، وإذا كان حقاً فلن يكون الكتاب والسنة مخالفين له، ولن تكون عقيدة السلف إلا موافقة له، لأنهم خير الأمة وأفضلها وأعلمها بالحق وأولاها به. قلت: قد مر في الباب الأول كلمة «العقل» وقع فيها التدليس، فهناك العقل الفطري الصريح الذي لا التباس فيه، وهو الذي أعده الله تعالى ليبنى عليه الشرع والتكليف وهو الذي كان حاصلاً للأمم التي بعث الله تعالى فيها رسله وأنزل فيها كتبه، وهو الذي كان حاصلاً للصحابة ومن لعدهم من السلف، فهذا هو   (1) يعني أن البيهقي سحر بتأويلات فورك وانبهر بها فأخذته عن السير في طريق الصحابة وكبار التابعين وتابعيهم إلى السير وراء ابن فورك كما تجد كثيراً من ذلك في كتابه «الأسماء والصفات» . م ع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 الذي يسوغ أن يقال: إن ما أثبته قطعاً فهو حق، ودون ذلك نظر متعمق فيه، مبني على تدقيق وتخرص ومقاييس يلتبس فيها الأمر في الإلهيات ويشتبه ويكثر الخطأ واللغط، ويطول النزاع والمناقضة والمعارضة على ما أوضحناه في الباب الأول. فهذا هو الذي اعتمده أشياخكم مع اعترافهم بوهنه، ولذلك رجع بعض أكابرهم عنه كما سلف. فإن قالوا: وكيف يجوز أن يعتمد أولئك الأجلة على ما يسوغ الاعتماد عليه. قلت: لم يكونوا معصومين، وقد اختلفوا، وخالفهم من هو مثلهم وأعرف منهم بالنظر وبحسبكم أن أكابرهم رجعوا في أو اخر أعمارهم كما مر. هذا وما منا إلا من يعتز بآبائه وأشياخه، ويعز عليه أن يتبين أنهم كانوا على باطل، ولكن أقل ما يجب علينا أن نعلم أن آباءنا وأشياخنا لم يكونوا معصومين، وهب أنه يبعد عندنا جداً أن يكونوا تعمدوا الباطل، فما الذي يبعد أن يكونوا غلطوا وأخطأو ا؟ وعلى كل حال فليسوا إلا أفراداً من المسلمين وقد اختلف المسلمون، في الفرق الأخرى أئمة وأكابر إن لم يكونوا أفضل من آبائنا وأشياخنا فلم يكونوا دونهم، وإذا راجعت نفسك علمت أنك لست بأحق من مخالفك بالقناعة بما مضى عليه الآباء الأشياخ، وأنه كما يحتمل أن يكون آباؤه وأشياخه هم المبطلين عمداً أو خطأ فمن المحتمل أن يكونوا هم المحقين، بل الحق أنه لك ولا له في التضحية بالنفس والدين في سبيل التعصب الفارغ الذي يعود بالخسران المبين، وبالضرر على الآباء والأشياخ أنفسهم، كما مر في أو ائل الرسالة. فدع الآباء والأشياخ، والتمس الحق من معدنه، ثم إن شيءت فاعرض عليه مقالة آبائك وأشياخك فما وافقه حمدت الله تعالى على ذلك، وما خالفه التمست لهم العذر، برجاء أن يكونوا لم يعتمدوا الباطل، ولم يقصروا تقصيراً لا يسعه عفوالله تبارك وتعالى، بل قد ثبت رجوع بعض أكابرهم كما مر (1) في الباب الأول، ولعل   (1) في وصية الرازي وإمام الحرمين عند موته. م ع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 غيرهم قد رجع وإن لم ينقل. فإذا سلكت هذه الطريق فقد هديت، وإن أبيت إلا التعصب لآبائك وأشياخك، والجمود على اتباعهم، فقد قامت عليك الحجة. والله المستعان. (الأينية، أو الفوقية، أو كما يقولون: الجهة) أطلقت أنا: الأينية لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله للسوداء: أين الله؟ قالت: في السماء، وفي آخر الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم لسيدها: اعتقها فإنها مؤمنة. وفي حديث أبي رزين العقيلي قال: «قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: كان في عماء، ما تحته هو اء وما فوقه هو اء، وخلق عرشه على الماء» (2) في الأثر عن عثمان أنه قال لرجل ظنه أعرأبياً: «يا أعرأبي أين ربك؟» . وأرى أن أسوق هنا عبارة الشيخ أبي الحسن الأشعري في كتابه (الإبانة) (1)   (1) وحديث الجارية السوداء في الموطأ وصحيح مسل وغيرهما وحديث أبي رزين في «جامع الترمذي» وانظر أثر عثمان في كتب الآثار، ولعل المؤلف يشير فيما بعد إلى من أخرجه. م ع قلت: حديث أبي رزين مع شهرته وتحمس بعض السلفيين له لا يصح من قبل إسناده، فيه وكيع بن حدس، قال الذهبي: «لا يعرف» ، وفيما صح في الباب ما يغني عنه. ن (2) كتاب مشهور للأشعري طبع مراراً في الهند ومصر، وقد ذكره جماعة من القدماء ونقلوا عنه - منهم الحافظان الشافعيان أبوبكر البيهقي وأبوالقاسم بن عساكر وجماعة آخرون كما في رسالة ابن درباس المطبوعة مع الإبانة. المؤلف قلت: وكما في «تبين كذب المفتري» لابن عساكر فقد اعترف فيه بالإبانة للأشعري ونقل منها ودافع عن الأشعري بما نقله منها. م ع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 تأنيساً للمنتسبين إليه وغيرهم لأنه أشهر المتبوعين في المقالات التعمقية، وفي (روح المعاني) وغيره أن كتاب (الإبانة) آخر مصنفاته - قال: «باب ذكر الاستواء على العرش: إن قال قائل ما تقولون في الاستواء؟ قيل له نقول: إن الله عز وجل مستوٍ على عرشه كما قال: «الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى» ، وقد قال الله عز وجل: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ» ، وقال: «بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْه» ، وقال عز وجل: «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْه» ، وقال حكاية عن فرعون: «يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً» كذب موسى عليه السلام في قوله إن الله عز وجل فوق السموات، وقال عز وجل: «أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْض» ، فالسموات فوقها العرش فلما كان العرش فوق السموات قال: «أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» ، لأنه مستوعلى العرش الذي فوق السموات وكل ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السموات ... ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا نحوالسماء لأن الله عز وجل مستوعلى العرش الذي هو فوق السموات ... (سؤال) وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية أن قول الله عز وجل: [الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى» أنه استولى وملك وقهر، وأن الله عز وجل في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله عز وجل على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 عرشه كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة. ولوكان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض ... وزعمت المعتزلة والحرورية (1) والجهمية أن الله عز وجل في كل مكان، فلزمهم أن الله في بطن مريم، وفي الحشوش والأخلية، وهذا خلاف الدين، تعالى الله عن قولهم ... » . ثم ساق الكلام وذكر حديث «ينزل الله عز وجل كل ليلة إلى السماء الدنيا ... » من طرق، ثم قال: (دليل آخر) : وقال الله عز وجل: «يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ» ، وقال «تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْه» ، وقال: «ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ» ، وقال: «ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً» ، وقال: «ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ» فكل ذلك يدل على أنه تعالى في السماء مستو على عرشه ...   (2) الحرورية هم الخوارج نسبة إلى حروراء بلد على دجلة والفرات لجأو ر وتحصنوا به بعد ما خرجوا على علي ابن أبي طالب فخرج إليهم فيها وقاتلهم حتى شتت شملهم، وقد ثبت منهم الأباصية والأزارقة وغيرهم ووكرهم بجزيرة العرب مسقط وعمان- - ولحج ولهم فروع بجنوب افريفيا زنجبار، وبشمالها بالجزائر ولهم مؤلفات في الحديث والفقه كمسند الربيع بن حبيب، وشرحه بعض متأخريهم باسم «الجامع» ، كلاهما مطبوع بمصر. م ع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 (دليل آخر) : وقال عز وجل: «وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً» ، وقال: «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ» ، وقال: [) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى. مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى. أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى» إلى قوله: «لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى» ، وقال عز وجل لعيسى بن مريم عليه السلام: «إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ» ، وقال: «وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ» . وأجمعت الأمة على أن الله عز وجل رفع عيسى إلى السماء، ومن دعاء أهل الإسلام جميعاً إذا هم رغبوا إلى الله عز وجل في الأمر النازل بهم يقولون جميعاً: يا ساكن العرش، ومن حلفهم جميعاً: لا والذي احتج بسبع سماوات ... دليل آخر: وقال عز وجل: «ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ» ، وقال «وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِم» ، وقال «وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُورُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ» ، وقال عز وجل: «وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّا» ... فلم يثبتوا (1) له في وصفهم حقيقة، ولا أو جب له الذي يثبتون له بذكرهم إياه وحدانية، إذ كل كلامهم يؤول إلى التعطيل، وجميع أو صافهم تدل على النفي أو التعطيل، ... وروت العلماء عن عبد الله بن عباس أنه قال:   (1) يعني الجهمية ومن معهم. المؤلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 «تفكروا في خلق الله عز وجل ولا تفكروا في الله عز وجل، فإن بين كرسيه إلى السماء ألف عام، والله عز وجل فوق ذلك» . دليل آخر: وروت العلماء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمة سوداء فقال يا رسول الله إني أري أن اعتقها في كفارة فهل يجوز عتقها؟ فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - أين الله؟ قالت: في السماء، قال: فمن أنا؟ قالت: أنت رسول الله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اعتقها فإنها مؤمنة. وهذا يدل أن اللع عز وجل على عرشه فوق السماء.» (1) يعلم من عبارة الأشعري وغيرها أن الأمة كانت مجمعة على إثبات الأينية (2) غير أن السلف يثبتون الفوقية، والجهمية تقول بالمعية، أي أنه تعالى في كل مكان، وثبت السلفيون على قول السلف على الحقيقة، ووافقهم على ذلك في الجملة فرق قد انقرضت، وصار المتعمقون إلى فرقتين، الأولى: تدعي موافقة السلف، والأخرى: تنمى إلى الجهمية، واتفقت الفرقتان على نفي الأينية، لكن الأولى تطلق ما يظهر منه الفوقية، وتتأول ذلك بالفوقية المعنوية، والثانية: تطلق أنه تعالى في كل مكان، وتتأول ذلك بالعلم والقدرة، وعرضهما التمويه والتمهيد لتأويل النصوص وأقوال من سبق. وعلى كل حال فعبارة الأشعري التي سقناها صريحة واضحة في أنه يثبت الفوقية الذاتية على الحقيقة، والمنتسبون إليه يواربون محتجين بأنه ينفي الجسمية.   (1) اه. كلام الأشعري رحمه الله تعالى. م ع. (2) يعني أن الأمة الإسلامية جميعاً من سلفيين صحابة وتابعيهم وجهمية مخالفين لهم، جميعاً يؤمنون بجواب أين الله تعالى؟ فالسلفيون يؤمنون أن الله في السماء فوق العرش، والجهمية والمعتزلة يؤمنون أنه في كل مكان، فرد عليهم الأشعري بالنصوص السلفية إثباتاً لعلوا الله على عرشه. م ع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 فيقال لهم: إن كان صريح بنفي الجسمية فيحتمل حاله أوجهاً: الأول: أن يكون رجع عن ذلك وقد تقدم أن (الإبانة) آخر مصنفاته. الثاني: أن يكون إنما ينفي الجسمية المستلزمة للمحذور - على حد قول جماعة: «جسم لا كالأجسام» . الثالث: أن يكون يخص اسم الجسم بما يستلزم المحذور، ويرى أن ما ثبت لله عز وجل بما ذكره في عبارته السابقة من الفوقية والنزول كل ليلة إلى السماء الدنيا، والمجيء يوم القيامة، وغير ذلك لا يقتضي أن يسمى جسماً، وإن كان يستلزم ما يسميه غيره جسمية. وأيا ما كان فلندع الأشعري وننظر في أصل القضية. احتج مثبتو الأينية مع النصوص الشرعية وإجماع السلف بأنه لا يعقل الموجود بدونها، وهذا من أجلى البديهيات وأوضح الضروريات. أجاب المتعمقون بأن هذه بديهية وهمية، قال الغزالي في (المستصفي) ج 1 ص 46: «السادس الوهميات، وذلك مثل قضاء الوهم بأن كل موجود ينبغي أن يكون مشاراً إلى جهته، فإن موجوداً لا متصلاً بالعالم، ولا منفصلاً عنه، ولا داخلاً، ولا خارجاً محال، وإن إثبات شيء مع القطع بأن الجهات الست خالية عنه محال ... ومن هذا القبيل نفرة الطبع عن قول القائل، ليس وراء العالم خلاء ولا ملأ. وهاتان قضيتان وهميتان كاذبتان: والأولى منهما: ربما وقع لك الإنس بتكذيبها لكثرة ممارستك للأدلة العقلية الموجبة إثبات وجود ليس في جهة ... وهذه القضايا مع أنها وهمية فهي في الأنفس لا تتميز عن الأوليات القطعية ... بل يشهد به أول الفطرة كما يشهد بالأوليات العقلية» . قال المثبوت: أما أن القضية بديهية فطرية فحق لا ريب فيه. وأما زعم أنها وهمية فباطل، فإن القضايا الوهمية من شأنها أن ينكشف حالها بالنظر انكشافاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 واضحاً، ومن شأن الشرع إذا كانت ماسة بالدين كهذه أن يكشف عنها. وكلا هذين منتف، أما الشرع فإنما جاء بتقرير هذه القضية وتثبيتها وتأكيدها بنصوص صريحة تفوق الحصر، بل أصل بناء الشرائع على نزول الملك من عند الله عز وجل بالوحي على أنبيائه. وأما النظر فقد اعترف الغزالي بأن أقصى ما يمكن من مخالفته لهذه القضية أنه ربما حصل الإنس بتكذيبها لمن كثرت ممارسته للأدلة العقلية ... ، ففي هذا أن تلك الأدلة كلها فضلاً عن بعضها لا تثمر اليقين، ولا ما يقرب منه، ولا ما يشبهه، وإنما غايتها أنه ربما حصل الإنس لمن كثرت ممارسته لها. وقد شرح الغزالي نفسه في (المستصفى) ج 1 ص 43 يقين النفس بقوله: «أن تتيقن وتقطع به، وينضاف إليه قطع ثان، وهو أن تقطع بأن قطعها به صحيح، وتتيقن بأن يقينها فيه لا يمكن أن يكون به سهو ولا غلط ولا التباس، فلا يجوز الغلط في يقينها الأول، ولا في يقينها الثاني، ويكون صحة يقينها الثاني كصحة يقينها الأول، بل تكون مطمئنة آمنة من الخطأ، بل حيث لوحكى لها عن نبي من الأنبياء أنه أقام معجزة وادعى ما يناقضها، فلا تتوقف في تكذيب الناقل، بل تقطع بأنه كاذب، أو تقطع بأن القائل ليس بني، وأن ما ظن بأنه معجزة فهي مخرقة، فلا يؤثر هذا في تشكيكها، بل تضحك من قائله وناقله، وإن خطر ببالها إمكان أن يكون الله قد أطلع نبياً على سرٍ به انكشف له نقيض اعتقادها فليس اعتقادها يقيناً، مثاله قولنا: الثلاثة أقل من الستة ... » فأنت إذا عرضت قوله: «ربما حصل لك الإنس ... » على هذا اليقين الذي شرحه علمت أن بينهما كما بين السماء والأرض، فثبت أن ما سماه أدلة عقلية موجبة إثبات موجود ليس في جهة، ليس معنى ايجابها ذلك إثمار اليقين ولا ما يقاربه ولا ما يشبهه، فإذا كانت كذلك فكيف تسوغ أن اعرض بها القضية البديهية الواضحة؟ فإن قيل: لكنها تزلزل اليقين بتلك القضية فلا تبقى يقينية؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 قلت: أما زلزلة اليقين في جميع النفوس فممنوع. وأما زلزلته في بعض النصوص فلا يقدح، ألا ترى أن من العقلاء من شك في البديهيات كلها وقدح فيها كما مر في الباب الأول؟ أولا ترى أن الغزالي نفسه صرح في كتابه (المنقذ من الضلال) بأنه نفسه كان يشك في الحسيات والبديهيات، وأنه بقي على ذلك نحو شهرين، وقد تقدم حكاية ذلك في الباب الأول (1) . فالحق أن اليقين قد يطرأ عليه التفات إلى الشبهات ورعب منها إذا حكيت عن جماعة اشتهروا بالتحقيق والتدقيق، وأنهم اعتمدوها فيعرض التشكك، وهذا هو الذي ربما يعرض هنا، بما ذكره الغزالي من كثرة الممارسة، وقد تقدم في الباب الأول أن القادحين في البديهيات احتجوا بقولهم: «من مارس مذهباً من المذاهب برهة من الزمان ونشأ عليه فإنه يجزم بصحته وبطلان ما يخالفه» . (2) ولم يجب مخالفوهم إلا بقولهم: «الجواب أنه لا يدل على كون الكل كذلك» . فإذا كانت كثرة الممارسة للباطل قد تورث الجزم ببطلان ما يخالفه فكيف لا تورث ما ذكره الغزالي هنا بقوله: «ربما حصل لك الإنس» وإذا وجب أن لا يعتد بالجزم الحاصل عن طول الممارسة فكيف يعتد باحتمال حصول الإنس؟ ولوكان هذا كافياً للتشكيك في البديهيات، وخشية أن تكون وهمية لثبب القدح في عامة البديهيات وطوي بساط العقل وحقت السفسطة، وقد تقدم في الباب الأول (3) قولهم في الجواب عن شبهات القادحين في البديهيات: «ولا نشتغل بالجواب عنها لأن الأوليات مستغنية من أي يذب عنها، وليس يتطرف إلينا شك فيها بتلك الشبه التي نعلم أنها فاسدة قطعاً، وإن لم يتيقن عندنا وجه فاسدها» . أفلا يكفي مثبتي الأينية (4) أن يجيبوا عما سماه الغزالي أدلة بمثل هذا؟   (1) ص (64 - 75 - 73) . (1) تقدم ص 52. (2) ص 45. (4) أي المؤمنين بجواب «أين الله» وأنه في السماء فوق العرش مباين للخلق. م ع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 فإن قيل: إن من تلك الأدلة البراهين على وجوب واجب الوجود لنه لا يصح كونه واجب الوجود إلا إذا لم يكن له أين فجمودهم على تلك القضية يقتضي نفي وجود واجب الوجود. قلت: البراهين الصحيحة على وجوده لا تقيد بعدم الأين، بل منها ما يقتضي بوجوده مع ثبوت الأين له، فأما المقاييس التي يتشبث بها النفاة فهي من الشبهات التي نتيقن فسادها وإن فرض أنه لم يتعين لنا وجهه. أقول: وفي هذا مع الأدلة الشرعية ما يكفي الراغب في الحق الخاضع له، فلا حاجة بنا إلى التشاغل بتلك الشبهات، ولكن أشير هاهنا إلى نكات: الأولى: المتعمقون يقولون أن ذاك البارئ عز وجل مجردة، ثم منهم من يثبت ذوات كثيرة مجردة حتى عدوت منها الملائكة وأرواح الخلق، (1) ومنهم من يقتصر على تجويز ذلك، وردوا على من نفى ذلك محتجاً بأنه لووجدت ذات أخرى مجردة لكانت مماثلة لذات الله عز وجل، بأن المشاركة في التجرد لا تقتضي المماثلة التي تستلزم اشتراك الذاتيين فيما يجب ويجوز ويمتنع. وأنت إذا تدبرت علمت ما في هذا القول كما مر في الباب الثالث. (2) فإن قيل: الإنصاف أن من أثبت المشاركة في أمر ما فقد أثبت المثل في مطلق ذاك الأمر، ولزوم التساوي في الأحكام إنما هو بالنظر لذاك الأمر فالمثبت الشريك في الوجود يلزمه تساوي الذاتين في أحكام مطلق الوجود، وهكذا يقال في التجرد والجسمية والأينية وغيرها وليس المحذور هنا إثبات مثل في أمر ما، ولا إثبات مساوفي أحكام أمر ما، وإنما المحذور لزوم حكم باطل.   (1) يعني أرواح بني آدم ويمونها النفوس الناطقة ولا يدخل في ذلك عندهم أرواح الحيوانات. م ع (2) ص 278. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 قلت: فهذا يوضح سقوط تشبثهم بقوله تعالى: «ليس كمثله شيء» ، وقوله: «ولم يكن له كفواً أحد» ، ويبين ما قدمناه في ذلك في الباب الثالث. ولله الحمد. ثم أقول: التجرد المزعوم إنما حاصل عند العقول الفطرية العدم وذلك مناف للوجود فضلاً عن الوجوب، وعلى فرض أنه لا ينافي الوجود، فأي فرق يعقل بين ذاتين مجردتين حتى تكون هذه روح بعوضة وتلك ذات رب العالمين؟ فأما ذاتان مشتركتان في مطلق الأينية، فإن معقولية الفرق بينهما بغاية الوضوح، بل يجيئ ذلك في الجسمية وإن كنا لا نقول أنه سبحانه وتعالى جسم. فأما زعمهم أن في أحكام مطلق الأينية ما ينافي الوجود. فإنما مستندهم فيه تلك الشبهات التي تقدم أنه لا يلزمنا التشاغل بها للعلم ببطلانها مع اعتراف أشد أنصارها تحمساً ومجازفة بأن غايتها أنها ربما تورث منطالت ممارسته لها الأنس بمقتضاها، ومن تدبر تلك الشبهات علم وهنها. يقول الفلاسفة: إن ذات الله تعالى وجود. ومال إلى هذا كثير من متأخري المتكلمين.وأو رد عليهم أن الوجود عندهم أمر عدمي. فأجابوا بأنه لا مانع من تفاوت الأفراد، فيكون هذا الفرد المعروف من الوجود أمراً عدمياً، وفرد آخر منه واجب الوجود لذاته، ومن العجب أن يزعموا معقولية هذا، وينكروا معقولية التفاوت في الأينية، أو قل في الجسمية. (1) الثالثة القائلون: جسم لا كالأجسام، يقولون لا حاجة أن تلزمونا ذلك بإثباتنا الفوقية، بل نحن نلزمكم ذلك بما اعترفتم به أنه سبحانه موجود قائم بنفسه، بل ذلك   (1) مجاراة للذين يزعمون أن إثبات الصفات من العلووالأستواء والنزول والوجه واليدين لله عز وجل يستلزم أن يكون جسماً. فيقال لهم على سبيل التنزل والمجاراة: إذا قلتم بتجرد ذات الله وتجرد العقول النفوس الناطقة مع عدم المشابهة فقولوا بإثبات النصوص الشرعية وقولوا لمن يقول بلزومها للجسمية بعدم المماثلة والمشابهة، وحينئذ تكونون قد وافقتم الشرع والفطرة وسنن المرسلين. م ع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 هو معنى القيام بالنفس، وهذه من أجلى البديهيات. وذكروا أن بعضهم أو رد هذا على أبي إسحاق الإسفرائني (1) ففر إلى قوله: إنما أعني بقولي: قائم بنفسه، أنه غير قائم بغيره. وهذا عجب! فإنه إذا كان موجوداً والموجود إما قائم بنفسه، وإما قائم بغيره، فقوله: «غير قائم بغيره» ، إنما حاصله أنه قايم بنفسه، فحاصل جوابه إنما يعني بقوله " قايم بنفسه، أنه قيم بنفسه! أقام يُعْمِلُ أياماً رَوَّيته ... وشبَّه الماء بعد الجهد بالماء الرابعة: في عبارة الغزالي ذكر قضية الخلاء والملأ، فالفلاسفة ومن تبعهم قولون: إنه ليس وراء العالم خلاء ولا ملأ، والعقول الفطرية تنكر ذلك، وأو رد عليهم أنا إذا فرضنا إنساناً على طرف العالم فمد يده إلى خارجه فإن امتدت فثم خلاء، وإلا فثم ملأ، فأجابوا باختيار أنها لا تمتد، ولكن لا لوجود ملأ، بل لعدم شرط الامتداد وهو الخلاء. أقول: وهذه القضية قريبة من سابقتها. فإن الفطر قاضية بأن الخلاء والملأ إذا فقد أحدهما وجد الآخر، وعلى هذا ففقد الخلاء ومعناه وجود الملأ. الخامسة: مذهب المتكلمين أن الخلاء أمر عدمي، والأعدام قديمة، واستدل الفلاسفة على أنه أمر وجودي بأنه يشار إليه ويتقدر، ومما دفع أنهم يقولون: ليس وراء العالم خلاء ولا ملأ، فلنفرض أن الله عز وجل خلق وراء العالم جدراناً وخلق لها خلاء (2) تقوم فيه وتكون بحيث يأتلف منها مربع ويبقى جوفه على ما كان عليه، فإن ذاك الجوف يكون مشاراً إليه متقدراً، ومع أنه بات على ما كان   (1) كذا الأصل بالهمزة بين الألف والنون، والصواب (الإسفرايني) بالياء المكسورة كما في كتب الأنساب. وقال السيوطي: قلت «بلا همزة» . ونحوه في «معجم البلدان» إلا أنه زاد في ضبطها ياء أخرى ساكنة. يعني (الإسفراييني) . ن. (2) أي بناء على زعم أن الخلاء أمر وجودي. المؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 عليه. والعقول الفطرية يمكنها أن تتصور أن يكون الكون له جسماً واحداً مثلاً، وأن تتصور عدم الأجسام، وأن يكون الكون كله خلاء، (1) ولا تتصور ارتفاع الأمرين، وهذا يقضي بأن الخلاء أمر عدمي، فإن يعقل ارتفاع العدم بالوجود، ويستحيل ارتفاعهما معاً. (1) وظواهر النصوص الشرعية توافق هذا، فإنها تعرضت لخلق العالم في الخلاء، ولم تتعرض لخلق الخلاء، بل في عدة نصوص ما يقتضي أن الخلاء لم يكن مرتفعاً (2) فقط قبل وجود الملأ، ولا أعلم من سلف المسلمين قائلاً بأن الخلاء أمر وجودي، وانه لم يكن خلاء ولا ملأ حتى خلق الله تعالى ذلك. وقال لي قائل: هب أن زاعماً زعم أن الخلاء وجودي، وأنه قديم محذور في هذا؟ فإن الخلاء لا يصلح أن يكون منه تخليق ولا تدبير فلا يتوهم أن يكون هو رب العالمين أو مغنياً عنه أو شريكاً له، وقضية الافتقار إليه على فرض كونه واجباً لا ينافي الوجود، ولا تز عن الافتقار إليه على فرض أنه عدمي، وعلى الافتقار إلى المانع نحو ذلك. وأقول: خير لمن يعرض له مثل هذا أن يعرض عن التفكير، ويستغني بما ثبت بالقواطع، وسيأتي لهذا مزيد. والله الموفق. السادسة: من تدبر عبارة الغزالي علم أنه يعترف أن العرب والصحابة والتابعين   (1) بل العلوم التجريبية التي هي أصح من تفكير المتكلمين وأقيستهم قد ثبت فيها بما لا شك فيه أن بين الأجرام السماوية من شموس وكواكب خلاء حقيقي ففوق الأرض بنحومائة كيلومتر بعد طبقة الهو اء الأرضي خلاء صرف إلى ما يشاء الله تعالى لا يشغله غير الأجرام السماوية والحرارة والنور والأشعة الأخرى تأتي إلينا من مصادرها في خلاء صرف. فليتخيل المتخيلون في هذا الخلاء الواسع الأطراف الذي لا يعلم حدوده إلا الله سبحانه ماشؤوا من خيالات القدم والحدوث والعدم فهو بحر تسبح فيه الأجرام السماوية سباحة الأسماك في البحار. م ع (2) أي منفياً. م ع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وكل من لم تطل ممارسته لمزاعم الفلاسفة في التجرد (1) إذا أيقن أحدهم بوجود الله عز وجل فإنه يوقن بثبوت الأينية له ولابد، وإذ كانت الفطر قاضية بأنه سبحانه فوق سمواته، فإنهم يوقنون بذلك على ظاهره وحقيقته، فإذا سمعوا النصوص الشرعية الموافقة لذلك، فإنما يفهمون منها تلك المعاني الموافقة، وليس في وسع أحد منهم أن يتوقف عن فهم ذلك منها، وعلى فرض أن في النصوص ما يشعر بخلاف ذلك، فإنهم يحملونه على خلاف ما يشعرون به. وبهذا تعلم أن من ينكر تلك المعاني فإنه ينسب النصوص إلى الكذب البتة، ولعل للغزالي عبارات أصرح مما ذكر، وفيما ذكر كفاية، وفإن الأمر واضح جداً. وكذلك غيره من المتعمقين يلزمهم ذلك، ويظهر من حالهم أنهم يعرفونه ويعترفون به. ومن آخرهم السعد التفتازاني قال في (شرح المقاصد) : - «فإن قيل: إذا كان الدين الحق نفي الحيز والجهة فما بال الكتب السماوية والأحاديث النبوية مشعرة في مواضع لا تحصى بثبوت ذلك من غير أن يقع في موضع واحد منها تصريح بنفي ذلك وتحقيق (؟) كما كررت الدلالة على وجود الصانع ووحدته وعلمه وقدرته وحقيقة المعاد وحشر الأجساد في عدة مواضع وأكدت غاية التأكيد، مع أن هذا أيضاً حقيق بغاية التأكيد والتحقيق لما تقرر في فطرة العقلاء مع اختلاف الأديان والآراء من التوجه إلى العلوعند الدعاء ومد الأيدي إلى السماء؟ أجيب: بأنه لما كان التنزيه عن الجهة مما تقصر عنه عقول العامة حتى تكاد تجزم بنفي ما ليس في الجهة كان الأنسب في خطاباتهم والأقرب إلى إصلاحهم والأليق بدعزتهم إلى الحق ما يكون ظاهراً في التشبيه وكون الصانع في أشرف الجهات مع تنبيهات دقيقة على التنزيه المطلق عما هو من سمة الحدوث» .   (1) أي عموم بني آدم الذين لم يخرجوا عن سنن الفطرة التي فطر الله عليها عباده ولم تفسدها عليهم خيالات الفلاسفة والمتكلمين وهو سهم وأقيستهم الباطلة. م ع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 أقول: تدبر عبارة هذا الرجل وانظر ما فيها من التلبيس والتدليس! أولاً: قوله: «الدين الحق» وكل مسلم يعلم (أن الدين عند الله الإسلام) والإسلام باعتراف هذا الرجل جاء بنقيض ما زعم أنه الدين الحق، وكذلك جميع أديان الأنبياء، فكيف يقول مسلم أن الدين الحق نقيض ما جاء به الأنبياء؟ ثم ما الذي جعله حقاً وهو مع مخالفته للكتب والسنة وسائر كتب الله تعالى وأنبيائه منابذ لبدائة العقول؟! ثانياً قوله: «مشعرة» ومن عرف الكتاب والسنة علم يقيناً أن نصوصهما بغاية الصراحة في الإثبات. ثالثاً قوله: «تقصر عنه عقول العامة» والحق أن العقول كلها تنبذه البتة، إلا أن من أرعبته شبه المخالفين لعظمتهم في وهمه وطالت ممارسته لها قد يأنس بالنفي الساقط كما تتقدم، وهذا الأنس إنما هو ضرب من للحيرة بل هو ضرب من الجنون، افرض أنك خرجت من بيتك وعلى رأسك عمامة فيلقاك رجل فيقول لك: لم خرجت بلا عمامة؟ فترى أنه يمازحك، قم يلقاك آخر فيقول لك نحوما قال الأول، ثم يلقاك ثالث، ثم رابع ثم خامس وهكذا كل منهم يقول لك نحومقالة الأول، ألا ترتاب في نفسك وتخاف أن تكون قد جننت حيث تعتقد أن على رأسك عمامة تراها وتلمسها وتحس بثقلها وهؤلاء كلهم ينفون ذلك، وينتهي بك الحال إلى أن تحاول أن تقنع نفسك بأنه ليس على رأسك عمامة، وتتقي أن تخبر أحداً بأنك تعتقد أن على رأسك عمامة، بل قد ترى الأولى أن ترمي العمامة حتى يتفق اعتقادك واعتقاد الناس، ولكن افرض رميت بها واعتقدت أنه ليس على رأسك عمامة حتى يتفق اعتقادك واعتقاد الناس، ولكن افرض أنك رميت العامة واعتقدت أنه ليس على رأسك عمامة فلقيك رجل فقال لك: عمامتك هذه كبيرة، ثم لقيك آخر فقال: عمامتك هذه وسخة، ثم ثالث ثم رابع ثم خامس وهلم جرا كل منهم يثبت لك أن على رأسك عمامة، فماذا يكون حالك؟ وقد وقع ما يشبه هذا فكانت نتيجته الجنون! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 أُخبرت أنه كان في هذه البلدة امرأة من نساء كبار الأمراء وكان ولد يعارضها ويمانعها عما تريد، واشتدت مضايقته لها، حتى عمدت إلى جماعة أعدتهم لمجالسة ولدها وصحبته وأن يتعمدوا مخالفته وإظهار التعجب منه في أشياء كثيرة، كانوا يقولون في الحلوإنه حامض، وفي الأصفر إنه أحمر، ونحوذلك ففعلوا ذلك وألحوا فيه حتى تشكك الولد وجن. وأُخبرت أنه كان لرجل من كبار الوزراء ابن أخ أو قريب آخر، وكان القريب عاقلاً ذكياً فطناً مهذباً نبيل الأخلاق، وكان الأبن دون ذلك فخاف الوزراء أن يموت فيتولى الوزراة قريبه دون أبنه، فأعد جماعة لمجالسة قريبه وأمرهم بمخالفته، وتشكيكه، ففعلوا ذلك حتى جن المسكين. (1) رابعاً قوله: «حتى تكاد تجزم بنفي ما ليس في الجهة» . والحق أنها تجزم بذلك كل الجزم، إلا أن يبتلى بعضها بالتشكك كما مر. خامساً قوله: «مع تنبيهات دقيقة» إن أراد بالتنبيهات قوله تعالى: «ليس كمثله شيء وهو السميع البصير» ونحوها فقد تقدم الجواب، وإن أراد الدلائل على وجوب الوجود والغنى فقد تقدم الكلام فيها، وعلى كل حال فليس في العقول   (1) ومغزى الحكايتين أن من عاش في وسط مخالف له في التفكير والتعبير، فإما أن يوافق هذا الوسط وينسى فكره وعقله، أو يجن إذا أصر على مناقضتهم والخلاف معهم. وقد فسروا الجنون بالحالة التي لا يقدر صاحبها على الأنسجام مع وسطه الذي يعيش فيه. وقد سمعت من بعض المفكرين في إصلاح العامة أن ذلك يكون بأمرين إما يتنزل رجل ممتاز التفكير إلى طبقتهم حتى يأخذ بأيديهم إلى الارتقاء والتهذيب بلطف، أو بنبوغ رجل منهم يقودهم برفق وهو في وسطهم لا يترفع عنهم. وقال: هكذا كانت حال الأنبياء والمصلحين مع أممهم أهـ م ع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 الفطرية ولا النصوص الشرعية ما يصح ونظراءه لزوماً واضحاً تكذيب النصوص ولابد. وقد حكى بعض المحشين على (المواقف) عبارة التفتازاني المذكورة ثم تعقبها بقوله: «فيه فتح باب الباطنية لأنه جاز إظهار الباطل حقاً في آيات كثيرة وتقريره في عقول عامة المسلمين لقصور دركهم جاز مثله في سائر الأحكام كخلود العذاب الجسماني والجنة والجسماني والصراط الأدق من الشعر لأن الصرف عن الظاهر لا يتوقف على استحالة بل الاستبعاد كاف نحورأيت الأسد في الحمام، فالحق أن تأويل تلك الآي بظهور المجرد في صورة الجسماني» . أقول: حاصل هذا التعقب موضحاً أن الاستحالة المزعومة لم تكن تدركها عقول المخاطبين فلا يصح عدها قرينة تدفع الكذب، فإن زعمتم أنه اقتضت المصلحة التسامح في هذا والاكتفاء بجواز الكذب من الله ورسله والتكذيب منكم بأن هناك ما لوعلمه المخاطبون لكان قرينة وهو الاستحالة العقلية كان للبطنية أن يعتذروا بنحوعذركم عن تأويلاتهم لغالب العقائد والأحكام متشبثين بدعوى الاستبعاد كما تشبثتم بدعوى الاستحالة، والحاصل أنكم تشبثتم باقتضاء المصلحة ودعوى وجود ما لوعلمه المخاطبون لكان قرينة، وهذه حال الباطنية أيضاً. ثم أقول: الاستحالة مدفوعة، وكثير من النصوص صريح لا يحتمل غير ذاك المعنى الذي ينكره المتعمقون، والكلام الذي غير الظاهر احتمالاً قريباً لا يصرف عن ظاهر إلا بقرينة، ومن شرط القرينة أن يكون من شأنها أن لا تخفى على المخاطب، فإن لم يتحمل غير ظاهره أو احتمله ولا قرينة فزعم أن ظاهره باطل تكذيب له ولابد، ومعلوم من الدين بالضرورة استحالة أن يقع كذب من الله تعالى أو من رسوله فيما يخبر به عنه، والله تعالى أجل وأعظم من أن يكذب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 لمصلحة، والمصلحة المزعومة قد مر إبطالها في الباب الثالث، ومر هناك ما يكفي ويشفي. فأما ظهور المجرد في صورة الجسماني، فالتجرد المزعوم لا حقيقة له، وإنما المعروف ثمثل الملك بشراً ولا يلزم من جواز ذلك في المخلوق جوازه أو نحوه في الخالق جل وعلا، ومع ذلك فتلك حال عارضة والنصوص صريحة في حال مستقرة مستمرة وبدائه العقول تقتضي بذلك كما لا يخفى. والله الموفق. السابعة: المباحث التي تتعلق بالتدقيق في شأن وجود الله عز وجل، يلتبس فيها الأمر فينزل النظر من الوجود الواجب الذاتي الذي لم يزل الممكن والحادث كما تقدم في الباب الثالث (1) وتقدم هناك المخلص من أمثال ذلك، وإمتثالاً لذلك نقول: إننا لا نطلق ما لم يطلقه الشرع ولا وضح به الحق، وإنما ندين بما ثبت بالمأخذين السلفيين، عاملين أنه لا يلزم الحق إلا حق، فكل ما ثبت بالمأخذين السلفيين فهو حق، وم اأو رد عليه من الإلزامات التعمقية لم يخل الخال أن يكون اللزوم باطلاً أو يكون اللازم حقاً لا ينافي ما ثبت بالمأخذين السلفيين. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنه لا حول ولا قوة إلا بالله. القرآن كلام الله غير مخلوق هذه القضية كانت بغاية الوضوح في عهد السلف، ثم جحدها الزائغون، ثم التبس الأمر فيها على بعض الناس، وقد كفى فيها وشفى ما بينه إمام السنة أبوعبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، ثم ما حرره الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل   (1) ص 131 - 136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 البخاري، ثم ما حققه ونقحه شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين ابن تيمية، ولكن لا أخلي هذه الرسالة عن إشارة إلى ذلك، فأقول: العقول الفطرية قاضية بأن لله تعالى الكمال المطلق والقدرة التامة، وأنه متى شاء أن يتكلم الكلام الحقيقي المعروف بعبارة وحرف وصوت تكلم كيف شاء، ثم جاءت كتب الله تعالى ورسله بإثبات أنه سبحانه تكلم ويتكلم، وكلم ويكلم، وقال ويقول، ونادى وينادي، وأن القرآن هذا المعروف كلام الله على الحقيقة الحقة. وقد أخبر الله تعالى أن الجمادات قد تتكلم كلاماً حقيقياً، وأن أعضاء الإنسان تنطق يوم القيامة فتشهد عليه، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يسمع تسليم الحجر والشجر عليه، وأسمع أصحابه تسبيح الحصى. فكان من المعلوم عند الناس أن التكلم بالعبارة والحرف والصوت ليس موقوفاً على الآلات التي يتكلم بها الإنسان، بل قد يتكلم المخلوق بغيرها فكيف الخالق عز وجل؟ فلم يلزم من تكلم الله عز وجل أن يكون له جوف اوغير ذلك مما هو منزه عنه. ثم جحد الزائغون كلام الله عز وجل، وحاولوا تحريف معاني النصوص التي لا تحصى تحريفاً ليس بخير من التكذيب الصريح، بل لعله شر منه، ثم حال بعض الناس التلبيس فحمل النصوص على كلام نفسي ليس بعبارة ولا حرف ولا صوت، بل راد أنه معنى واحد لا تنوع فيه ولا تعدد، فلا أمر فيه ولا نهي، ولا خبر ولا ولا، ثم لم يزالوا في تخبيط وتخليط إلى أن صاروا إلى ما في (روح المعاني) ج 1 ص 15 قال: «الذي انتهى إليه كلام أئمة الدين كالماتريدي والأشعري وغيرهما من المحققين أن موسى عليه السلام سمع كلام الله تعالى بحرف وصوت كما تدل عليه النصوص التي بلغت في الكثرة مبلغاً لا ينبغي معه تأويل، ولا يناسب معه قال وقيل» . ثم ذكر آيات النداء ثم قال: «واللائق بمقتضى اللغة والأحاديث أن يفسر النداء بالصوت، بل قد ورد إثبات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 الصوت لله تعالى شأنه في أحاديث لا تحصى، وأخبار لا تستقصى. روى البخاري في (الصحيح) : يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان» . ثم ذهب إلى تخليط المتصوفة، إلى أن قال: والفرق بين سماع موسى عليه السلام كلام الله تعالى وسماعنا له على هذا أن موسى عليه السلام سمع من الله عز وجل واسطة لكن من وراء حجاب، ونحن إنما نسمعه من العبد التالي» . وعاد إلى تخليط المتصوفة. فأقول: قد مر الله تبارك وتعالى عباده بتدبر القرآن وتصديقه والإيمان به على حسب فطرهم وعقولهم الفطرية، ولم يكلفهم تعمق المتكلمين فضلاً عن تغلغل المتصوفة، سواء أكان عن تخيل أم عن تعقل، وفي (الصحيحين) عن ابن عمر «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا (أشار بيديه مبسوطة أصابعهما) وعقد الإبهام على الثالثة، ثم قال: الشهر هكذا وهكذا وهكذا (أشار بها مبسوطة أصابعهما في الثلاث كلها) يعني تمام الثلاثين يعني تسعة وعشرين مرة ثلاثين» . وإذ أعترف المتعمقون بأن الله تبارك وتعالى يتكلم بلا واسطة بعبارة وحرف وصوت ويسمع كلامه من يشاء من خلقه، فهذا الذي قامت عليه الحجة، وعليه سلف الأمة وأتباعهم، ولم يبق إلا التنطع عن الكيفية، وهي من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، ولا يبتغيه إلا أهل الزيغ «والراسخون في العلم يقولون: آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا ومن لدنك رحمة أنك أنت الوهاب» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 الإيمان قول وعمل يزيد وينقص اشتهر عن أبي حنيفة أنه كان يقول: ليس العمل من الإيمان، والإيمان لا يزيد ولا ينقص. وروى الخطيب عن جماعة من أهل السنة إنكارهم ذلك على أبي حنيفة، ونسبته إلى الأرجاء، فتكلم الكوثري في تلك الروايات، وحاول التشنيع على أولئك الأئمة، وأسرف وغالط على عادته، فاضطررت إلى مناقشته دفعاً لتهجمه بالباطل على أئمة السنة. قال الكوثري ص 40 من (تأنيبه) : «يرى أبوحنيفة أن العمل ليس بركن أصلي من الإيمان، بحيث إذا أخل المؤمن بعمل يزول منه الإيمان، كما يرى أن الإيمان هو العقد الجازم بحيث لا يحتمل النقيض، ومثل هذا الإيمان لا يقبل الزيادة والنقص» . وقال ص 34: «وحيث كان أبوحنيفة وأصحابه لا يرون تخليد المؤمن العاصي في النار، رماهم خصومهم في الأرجاء وأعلنوا عن أنفسهم أنهم منحازون إلى الخوارج في المعنى» . وقال ص 44: «والإرجاء بالمعنى الذين هم يقولون به هو محض السنة، ومن عادى ذلك لا بد أن يقع في مذهب الخوارج أو المعتزلة شاعراً أو غير شاعر» . ثم قال: كان في زمن أبي حنيفة وبعده أناس صالحون يعتقدون أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ويرمون بالإرجاء من يرى إن الإيمان هو العقد والكلمة، مع أنه الحق الصراح بالنظر إلى حجج الشرع، قال الله تعالى: «ولما يدخل الإيمان في قلوبكم» ، (1) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ورسله   (1) وقع في «التأنيب: «قلوبهم» سهو اً. المؤلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 واليوم الآخر، ونؤمن بالقدر خيره وشره» أخرجه مسلم عن ابن عمر، (2) وعليه جمهور أهل السنة، وهؤلاء الصالحون باعتقادهم ذلك الاعتقاد أصبحوا على موافقة المعتزلة أو الخوارج حتماً، إن كانوا يعدون خلاف اعتقادهم هذا بدعة وضلالة، لأن الإخلال بعمل من الأعمال - وهو ركن الإيمان - يكون إخلالاً بالإيمان، فيكون من أخل بعمل خارجاً من الإيمان، إما داخلاً في الكفر كما يقوله الخوارج، وإما غير داخل فيه، بل في منزلة بين منزلتين - الكفر والإيمان - كما هو مذهب المعتزلة، وهو من أشد الناس تبرؤاً من هذين الفريقين، فإذا تبرموا أيضاً مما كان عليه أبي حنيفة وأصحابه وباقي أئمة هذا الشأن يبقى كلامهم متهافتاً غير مفهوم، وإما إذا عدوا العمل من كمال الإيمان فقط، فلا يبقى وجه للتنابز والتنابذ، لكن تشددهم هذا التشدد يدل على أنهم لا يعدون العمل من كمال الإيمان فحسب، بل يعدونه ركناً منه أصلياً، ونتيجة ذلك كما ترى ... فإرجاء العمل من أن يكون من أركان الإيمان الأصلية هو السنة، وأما الإرجاء الذي يعد بدعة، فهو قول من يقول: لا تضر مع الإيمان معصية، وأصحابنا أبرياء من مثل هذا القول ... ولولا مذهب أبي حنيفة وأصحابه في هذه للزم إكفار جماهير المسلمين غير المعصومين، لإخلالهم من الأعمال في وقت من الأوقات، وفي ذلك الطامة الكبرى» . أقول: اختلفت الأمة فيمن كان مؤمناً ثم ارتكب كبيرة. فقالت الخوارج: يكفر، وقالت المعتزلة: لا يكفر ولكن يزول إيمانه، وإذا مات من غير توبة دخل النار وخلد فيها مع الكفار، وقالت المرجئة لا يكفر ولا يزول إيمانه ولا يدخل النار، لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وقال أهل السنة: لا يكفر، ولا يزول إيمانه البتة بمجرد ارتكابه الكبيرة ولكنه يكون ناقصاً، وقال بعض الأئمة: إلا ترك الصلاة المكتوبة عمداً فإنه كفر، وحقق بعض إتباعهم أن الترك نفسه   (1) كذا الأصل، أعني «التأنيب» وهو خطأ، والصواب: «عمر بن الخطاب» فإنه من مسنده عند مسلم وغيره، وإنما رواه ابن عمر عنه، فتوهم الكورثي أنه من مسند ابن عمر. ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 ليس كفراً، ولكن الشرع قضى انه لا يكون إلا من كافر. يستدل المرجئة والمعتزلة والخوارج بنصوص ظاهرها أن المؤمنين لا يعذبون، ويستدل المعتزلة والخوارج ظاهرها بنصوص أن مرتكب الكبيرة لا يبقى مؤمناً، ويستدل الخوارج بنصوص ظاهرها أن ارتكاب لعض الكبائر كفر. وأهل السنة يجيبون عن الأولين؛ بأن المراد الإيمان الكامل، وعن الثالث بأنه كفر دون كفر، فهو كفر يقتضي نقص الإيمان لا زواله، ويدفع المرجئة الجواب المذكور بقولهم: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، والأعمال ليس من الإيمان. وهذا القول قد كان أبوحنيفة يقوله، لكن يقول الكوثري أنه مع ذلك مخالف للمرجئة في أصل قولهم، وهو أنه لا يضر مع الإيمان، ولا غرض في النظر في هذا وتتبع الروايات. بل أقول: تلك الموافقة يعترف بها تكفي لتبرير إنكار الأئمة، أما من لم يعترف منهم أن أبا حنيفة وإن وافق المرجئة في ذاك القول فهو مخالف لهم في أصل قولهم، فعذره في إنكاره واضح، وأما من عرف فيكفي لإنكار القول أنه مخالف للأدلة كما يأتي، وأنه قد يسمعه من يقتدي بأبي حنيفة، ولا يعلم قوله أن أهل المعاصي يعذبون فيتغير بذلك، وقد يبلغ بعضهم قولاه معاً إلى الثاني بل يقولون: رأس الأمر الإيمان، فإذا كان إيمان الفجار مساوياً لإيمان الأنبياء والملائكة ففيم العذاب وقد دلت النصوص على أن المؤمنين لا يعذبون؟ ! ويحملهم ذلك على التهاون بالعمل، ويقول أحدهم لم أعذب نفسي في الدنيا بما لا يزيد إيماني شيئاً، حسبي أن إيماني مساوٍ لإيمان جبريل ومحمد عليهما السلام! ويحملهم ذلك على احتقار الملائكة والأنبياء والصديقين قائلين: أعظم ما عندهم الإيمان، وأفجر الفجار مساوٍ لهم فيه! وإذا كان أبو حنيفة كما يقول الكوثري يرى أن الإيمان هو الاعتقاد القلبي الجازم، وأنه لا يزيد ولا ينقص، فقد يبلغ هذا بعض الناس فيقولن: إذا كنت لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 أصير مؤمناً إلا بأن يكون يقيني مساوياً ليقين جبريل ومحمد عليهما السلام فهذا ما لا يكون، ففيم إذاً أعذب نفسي بالأعمال فأجمع عليهما عذاب الدنيا وعذاب الآخرة؟ ! وبعد فيكفي مبرراً لإنكار ذاك القول مخالفته للنصوص الشرعية، وأما النصوص على أن الأعمال من الإيمان، وأنه يزيد وينقص بحسبها فمعروفة، حتى اضطر الكوثري إلى المواربة، فزعم أن أبا حنيفة إنما كان يدفع أن يكون العمل ركناً أصلياً لا أنه من الإيمان في الجملة، كاليدين والرجلين وغيرها من الأعضاء بالنسبة إلى الجسد هي منه وينقص بفقدها مع بقاء أصله، وإن كان في لعض عبارات الكوثري ما يخالف هذه الدعوى. وأما النصوص على أن الإيمان القلبي يزيد وينقص، فمنها الأحاديث الصحيحة في أنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال شعيرة من إيمان، ثم من قالها وفي قلبه مثقال حبة خردل من لإيمان، ثم من قالها وفي قلبه أدنى أدنى من مثقال حبة خردل من إيمان. (1) فأما قول الله عز وجل: «قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ» فليس فيها ما ينافي أن تكون الأعمال من الإيمان، وإنما غاية ما فيها أن الاعتقاد القلبي ركن ضروري للأيمان، فلا يكون الإنسان مؤمناً حقاً بدونه، فإن قوله «لم تؤمنوا» نفي لإيمانهم، ويكفي نفيه   (1) قلت: من شاء الاطلاع على الأحاديث الواردة في زيادة الإيمان ونقصانه، وكذا الآثار عن الصحابة والتابعين فليرجع إلى «كتاب الإيمان» لأبي بكر ابن أبي شيبة الذي قمنا بتحقيقه، وأشرفنا على طبعه مع رسائل أخرى، تم طبعها على نفقة صاحب المعالي الشريف شرف رضا آل يحيى وجعلها وقفاً لله تعالى، جزاه الله خيراً. ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 انتفاء ركن ضروري عنه كما لا يخفى، وقوله: «وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ» لا يقتضي أن الإيمان كله هو الذي يكون في القلب، ألا ترى أنه يصح أن يقال: لم يدخل الإسلام في قلب فلان.. أو: لم يدخل الدين في قلب فلان. مع الاتفاق أن الإسلام والدين لا يختص بما في القلب. وأما ما في حديث جبريل: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ... » فقد أجاب عنه البخاري في «كتاب الإيمان» من (صحيحه) قال: «باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، وبيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: «جاء جبريل عليه السلام يعلمكم دينكم» ، فجعل ذلك كله ديناً وما بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوفد عبد القيس من الإيمان وقوله تعالى: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» » . وقصة وفد عبد القيس التي أشار إليها هي في (الصحيحين) أيضاً وقد وردها فيما بعد فأخرج من طريق ابن عباس في قصة محاورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم « ... فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع، أمرهم بالإيمان بالله وحده، , قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة ... » فقد يقال: الإيمان في حديث جبريل منحوٌّ به المعنى اللغوي لا المعنى الشرعي، ويؤيد ذلك أن السائل في حديث جبريل كان في الظاهر كما يعلم من الروايات أعرابياً لم يجتمع قبل ذلك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما أبتدأ فقال: ما الإيمان؟ كان الظاهر أنه إنما يريد بالإيمان ما يعرفه في اللغة، فإذا كان معناه في اللغة التصديق القلبي، فظاهر السؤال: ما الذي يطلب في الدين التصديق القلبي به؟ . وأما في قصة عبد القيس، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو ابتدأ فأمرهم بالإيمان ثم فسره لهم، فكان المعنى الشرعي للإيمان هو ما جاء في قصة عبد القيس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 فإن قيل: فإنه لم يستوعب الأعمال. قلت: هذا السؤال مشترك، ولا قائل أن ما ذكر فيه من الأعمال هي من الإيمان دون غيرها، ومثل هذا في النصوص كثير من الاقتصار على الأهم، وإما لعلم المخاطب بغيره، وإما اتكالاً على أنه سيعلمه عند الحاجة، وإما لأن في الإجمال ما يدل عليه، وكثيراً ما يقع الاختصار من بعض الرواة. وبالجملة، فإذا صح قول الكوثري أن أبا حنيفة لا يقول إن الأعمال ليست من الإيمان مطلقاً وإنما يقول إنها ليست ركناً أصلياً وإنما الركن الأصلي العقد والكلمة، فالأمر قريب. فلندع هذا، ولننظر فيما زعمه أن الإيمان القلبي لا يزيد ولا ينقص حتى قال ص 67: «لأن الإيمان الشرعي إنما يتحقق عند تحقق الجزم المنافي لتجويز النقيض ... لا يتصور تفاوت أصلاً بين إيمان المؤمنين من جهة الجزم والتيقن، ويكون النقص عن مرتبة اليقين كفراً» . أقول: تفاوت الإيمان القلبي ثابت نقلاً ونظراً. أما النقل فمعروف، وقد تقدمت الإشارة إلى حديث الخروج من النار. وأما النظر فإن الإنسان إذا قارن بين اعتقاده أن الثلاثة من حيث العددية أقل من الستة وبين اعتقاداته الدينية التي يجزم أنه موقن بها بأن له الفرق. فإن أحب الكوثري فليحكم على نفسه وعلى جمهور الناس بعدم الإيمان، وإن أحب فليثبت ما نفاه، وقد صرح النظار بأن اليقين يتفاوت قوة وضعفاً كما تراه في (المواقف) (1) وغيرها، وفي (فتح الباري) «قال الشيخ محي الدين (2) الأظهر المختار أن التصديق   (1) موقف 6 مرصد 3 مقصد 2. (2) محي الدين كأنه النووي الفقيه الشافعي شارح «صحيح مسلم» رحمه الله تعالى، وليس المراد به محي الدين بن عربي الحاتمي المتصوف فذاك له مجال آخر. م ع هو النووي قطعاً. المؤلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 يزيد وينقص بكثرة النظر، ووضوح الأدلة ولهذا كان إيمان الصديق أقوى من إيمان غيره بحيث لا تعتريه الشبه، ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى أنه يكون في بعض الأحيان أعظم يقيناً وإخلاصاً وتوكلاً منه في بعضها، وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها. وقد نقل محمد بن نصر المروزي في كتابه: (تعظيم قدر الصلاة) عن جماعة من الأئمة نحوذلك» . فإن أحب الكوثري فليحكم على نفسه وعلى جمهور الناس أن أحدهم يختلف حاله في حياته، فيكون تارة مؤمناً وتارة غير مؤمن! وإن أحب فليثبت ما نفاه. وفي (صحيح مسلم) وغيره قصة أبي ابن كعب رضي الله عنه في اختلاف القراءة وفيها قوله: «فسقط في نفسي من التكذيب في الجاهلية، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري، ففضت عرقاً، وكأنما أنظر إلى الله فرقاً..» ولا يرتاب عاقل أن لإيمان هذا الصحابي الجليل عند تلك الغشية دون إيمانه قبلها وبعدها. وقد عرض لعمر بن الخطاب وغيره قصة الحديبية ما يشبه ذلك. وفي حديث الرجل الذي قاتل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هو من أهل النار: «فكاد بعض الناس يرتاب» . ولا يرتاب عاقل أن المؤمنين يتفاوتون في التقوى تفاوتاً عظيماً، وأعظم أسباب ذلك تفاوتهم في اليقين، فإننا نرى أحوالهم في اتقاء الضرر الدنيوي لا يتفاوت ذاك التفاوت. بل إنك تجد من نفسك أنه قد يقوى فترغب نفسك في الطاعة وعن المعصية، وقد يضعف فتتهاون بذلك. وكذلك تجد ذلك عندما تطلع على الأدلة أو الشبهات، فقد يقف العالم على عدة نصوص من الكتاب والسنة فيتبين له أن بعضها يصدق بعضاً، وقد يتراءى له أنها تتناقض. وقد يرى نصوصاً في العقائد، فيتبين له أن العقل موافق لها وقد يتراءى له أنه يخالفها. ويرى نصوصاً في الأحكام فيتبين له أنها موافقة للرأي والنظر والحكمة والقياس، وقد يتراءى له أنها مخالفة لذلك. ويرى نصوصاً في الأخبار عن الجن والشياطين، والأرض والسماء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 والشمس والقمر، وغير ذلك، فيتبين له أنها موافقة للواقع، وقد يتراءى له أنها مخالفة له. ويطالع السيرة فيها أموراً واضحة الدلالة على النبوة، وقد يرى فيها ما يتراءى له منه خلاف ذلك. ويسمع من الأطباء وغيرهم ما يوافق ما جاء في الشرع، وقد يسمع منهم ما يخالفه. يطيع النبي صلى الله عليه آله وسلم في بعض الأمور فيناله نفع، وقد يتفق له خلاف ذلك، وهذا كمن يريد سفراً مع رفقة فتعزم الرفقة على الخروج يوم الجمعة قبل الصلاة فيأبى أن يخرج قبل الصلاة للنهي الشرعي عن ذلك، (1) وسافر الرفقة فتصيبهم مصيبة كاصطدام القطار، أو غرق الباخرة أو نحو ذلك، وينج لتأخره، وقد يتفق خلاف هذا بأن تسلم الرفقة وتغنم، ويخرج هو بعد الصلاة فيصيبه ضرر. وأشباه هذا كثيرة لا تكاد تمضي ساعة إلا ويقع شيء منها. ولا ريب أن اعتقاد الإنسان بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يبقى على حال واحدة مع اختلاف الأمور المذكورة، بل يصفوتارة، ويتكدر أخرى، ويقوى تارة، ويضعف أخرى، ويزيد تارة، وينقص أخرى. ولا أدرى عاقلاً يتصور حاله وحال الملائكة والأنبياء ويقول: إن يقينه مثل يقينهم. وقد حاول الكوثري أن يجيب عن هذا فقال ص 67: «نعم، إن الإيمان الأنبياء، وإيمان العلماء، وإيمان العوام يتفاوت من جهة ما يحتمل الزوال منها، وما لا يحتمله، واحتمال الزوال أو عدم احتماله، ناشيء من أمر خارج، وذلك من تفاوت طرق حصول الجزم عندهم، لا من التفاوت في ذات الإيمان، فالإيمان عند الأنبياء لا احتمال لزواله منهم، لأن حصوله عن مشاهدة ووحي قاهر، وإيمان العلماء يحتمل الزوال بطروء بعض شبه على أدلة الإيمان عندهم، ولواحتمالاً ضعيفاً، وأما إيمان العوام فربما يزول بأيسر تشكيك ... فبهذا البيان   (1) قلت: لم يثبت النهي عن السفر يوم الجمعة، بل صح عن عمر رضي الله عنه أنه قال لمن سمعه يقول: لولا أن اليوم جمعة لخرجت! قال عمر: «أخرج فإن الجمعة لا تحبس عن سفر» . راجع لهذا وغيره مما روي في النهي كتابنا «سلسلة الأحاديث الضعيفة» رقم (218، 219) . ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 اتضحت المسألة تمام الاتضاح إن شاء الله تعالى لكل من ألقى السمع وهو شهيد» . ونَوَّهَ عن هذا الكلام ص 193 بقوله: «تحقيق بديع ... » ! أقول: لنا أن نلتمس من الأستاذ الكوثري أن يفكر في اعتقاده أن الثلاثة من حيث العددية أقل من الستة، هل يمكن أن يتشكك فيه يوماً ما مع بقاء عقله؟ فإن قال: لا، فليستعرض الاعتقادات الدينية الضرورية للإيمان، التي يرى أنه جازم حق الجزم، هل يمكن أن يتشكك في بعضها يوماً ما؟ فإن قال: لا، فقد أخرج نفسه من زمرة العلماء الذين قضى في عبارته السابقة بأن يحتمل الزوال! وإن قال: يجوز ذلك. قيل له: فتجويزك هذا ألا يدل على أن جزمك بتلك العقيدة دون جزمك بأن الثلاثة نصف الستة؟ . فإن قال: قد قلت: إن هذا الأمر خارج. قيل له: هذا الأمر الخارج إنما حاصله قوة الدليل في حق الأنبياء، وكونه دون ذلك في حق العلماء، أوليس من لازم تفاوت الأدلة في القوة تفاوت الجزم بمدلولاتها عند العارف بتفاوتها؟ فالدليل الذي الذي يكون عندك غاية في القوة، ويكون جزمك بمدلوله، وانتفاء نقيضه أقوى من جزمك بمدلول دليل دونه عندك في القوة. فإن قال: ليس هذا بلازم الجزم قد يقع عن شبهة باطلة. قلت: من جزم عن شبهة باطلة، فإنه لا يراها شبهة، بل يراها دليلاً قاطعاً، وكلامنا إنما هو في العالم الذي يميز بين الأدلة. فإن عاد وقال: تفاوت الأدلة مع الجزم بمدلولاتها إنما يكون من جهة إن بعضها لا يحتمل إن تعرض شبهة تشكك فيه، وبعضها يحتمل ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 قيل له: تسمية العارض شبهة، فيه شبه مغالطة، فإن من جزم بشيء ثم عرض له ما يجزم بأنه شبهة، فإن لا يتغير جزمه الأول، وإنما يتغير حيث يجوز أن العارض دليل، فعلى هذا، إذا كنت الآن تجوز في بعض ما تجزم أن يعرض ما يشكك فيه ويزيل جزمك، فمعنى ذلك أنك تجوز أن يعرض مشكك فيه يحتمل أن يكون دليلاً صحيحاً، وأن يكون شبهة، (1) ويوضح هذا أن بعض المسائل الحسابية والهندسية واليقينية يجوز لجازم بها بعد أن يحيط بها أن يعرض ما يظهر منه خلاف ما جزم به، ولكنه يجزم الآن بأنه لوعرض ألف عارض من تلك العوارض لما تغرير جزمه، وكما يجزم بهذا في حق نفسه، فكذلك يجزم في حق غيره بأن من عرف تلك المسألة كما عرفها، لا يتغير جزمه ما دام عقله، فهذا هو الذي يصح أن تحكم بأنه جازم أن العارض لا يكون إلا شبهة. فإن قيل: فما قولك أنت؟ قلت: أقول: إن الإيمان يتفاوت، وإن ذلك التجويز المستعبد إذا كان صاحبه ينفر عنه، ويشفق منه، ويستعيذ بالله عز وجل فإنه لا يضر، بل ولا يضره عروض الشبهة إذا كان عند عروضها يتألم ويتأذى وتشق عليه، ويبادر إلى طردها عن نفسه مستعيذاً بالله عز وجل، وإنما يضره أن يأنس بها، وتستقر في نفسه، وتبيض، وتفرخ، حتى يصدق عليه اسم «مرتاب» هذا هو تدل عليه النصوص، والذي لا يسع الناس غيره و «لا يكلف الله نفساً إلا وسعها» . ومعيار الإيمان القلبي العمل، ولهذا كان السلف يقولون: «الإيمان قول وعمل» ، ولا يذكرون الاعتقاد، وكانت المرجئة تقول: «الإيمان قول» . ثم منهم من يوافق أهل السنة على اشتراط الاعتقاد، ومنهم من لا يشترطه في اسم الإيمان، ولكن يشترطه للنجاة، وهذا قول الكرامية. ومنهم من لا يشترطه في اسم الإيمان، ولا في النجاة، وهؤلاء هم الغلاة.   (1) كذا الأصل لا، ولا تخلوا العبارة من شيء. ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وقال الله عز وجل: «قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ» إلى قوله: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» الحجرات: 14 - 15 وقال تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً» . الأنفال: 1 - 4 وفي (الصحيحين) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان» . وفي رواية مسلم: «أعلاها لا آله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق» . وذكر الله عز وجل في سورة (التوبة) المنافقين ثم قال: «وآخرون اعترفوا بذنبهم» إلى أن قال: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» التوبة: 102 - 105. وفي (الصحيحين) من حديث أبي هريرة: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: آية المنافق ثلاث: - زاد مسلم: وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم - إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان» . وفيها من حديث عبد الله بن عمرو: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» . وفي (تذكرة الحفاظ) ج 2 ص 53: عن سفيان الثوري أنه قال: «خلاف ما بيننا وبين المرجئة ثلاث: يقولون: الإيمان قول لا عمل، ونقول: قول وعمل، ونقول: يزيد وينقص، وهم يقولون: أنه لا يزيد ولا ينقص، ونحن نقول: النفاق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 وهم يقولون: لا نفاق» . أقول: كأنهم في قولهم: «النطق بالشهادتين هو الإيمان» ، يشترطون أن يقع النطق من قائليه طوعاً ولا يكذبون أنفسهم فيه إذا خلا بعضهم إلى بعض، ثم يقولون: إن المنافقين الذين كانوا في عهد النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا ينطقون تقية ويكذبون أنفسهم إذا خلوا، فهذا هو النفاق، فأما من يقول طوعاً، ولا يكذب نفسه إذا خلا، فهو مؤمن، وإن كان في نفسه شاكاً مرتاباً، بناء على جحدهم اشتراط الاعتقاد في الإيمان، وأهل السنة يقولون هذا نفاق إذا شرط الإيمان عندهم الاعتقاد. وبالجملة فلا أرى عاقلاً لقوله يقول: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، إلا على أحد أوجه: الأول: أن يكون يخص لفظ الإيمان القلبي بالتصديق الذي لا يعتد بها دونه، فهو بمنزلة النصاب، فكما أن نصاب الذهب في حق الأغنياء بالذهب واحد لا يزيد ولا ينقص وإن تفاوتوا في الغنى بالذهب، فكذلك يقول هذا: إن الإيمان الذي هو نصاب التصديق لا يزد ولا ينقص وإن تفاوت الخلف في التصديق. أو قل: إنه بمنزلة زكاة الفطر، وهي صاع لا يزيد ولا ينقص، وإن كان من الناس من يعطي صاعين أو مائة أو ألفاً اوأكثر من ذلك. الثاني: أن يكون عنده أن الإيمان قول فقط، وهذا إن فسر القول بالشهادتين، وقال: إنه لا يكفي للنجاة فهو قول الكرامية، وإن فسره بهما وقال: إنه يكفي، فهو قول غلاة المرجئة، وإن فسره بالاعتراف اللساني بربوبية الله عز وجل، وقال: إنه لا يكفي للنجاة ولجريان أحكام الإسلام فهو قريب من الأول، وإن قال إنه يكفي لذلك فهو أشد من قول غلاة المرجئة. الثالث: أن يزعم أن الإيمكان هو القوزل والاعتقاد الذي لا يقين فوقه، ولا أرى هذا إلا قاضياً على نفسه وغالب الناس بعدم الإيمان. والله المستعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 قول: أنا مؤمن إن شاء الله جاء عن بعض السلف كراهية أن يقول الرجل: «أنا مؤمن حقاً» والأمر بأن يقول: «أنا مؤمن إن شاء الله» (1) وكذلك كانوا يقولون، وقال البخاري في (كتاب الإيمان) من (صحيحه) : «باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر. وقال إبراهيم التيمي: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً. وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلهم يخاف النفاق عن نفسه، ما منهم أحد يقول: أنه على إيمان جبريل وميكائيل. ويذكر عن الحسن (البصري) : ما خافه إلا مؤمن، وما أمنه إلا منافق ... » . وفي (فتح الباري) أن مقالة الحسن صحيحة من طرق، وأن في رواية المعلى بن زياد: «سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا آله إلا هو ما مضى مؤمن قط وما بقي إلا وهو من النفاق مشفق، ولا مضى منافق قط ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن. وكان يقول: من لم يخف النفاق فهو منافق. وفي رواية هشام: سمعت الحسن يقول: والله ما مضى مؤمن ولا بقي إلا وهو يخالف النفاق، ولا أمنة إلا منافق إلا» . واقتبس البخاري أول الترجمة من قول الله تبارك وتعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ» . أول (الحجرات) .   (1) راجع الآثار الواردة في ذلك في «كتاب الإيمان» لابن أبي شيبة الذي سبقت الإشارة إليه قريبا كتاب، واستعن على ذلك بـ «فهرس الآثار» الذي وضعناه في آخره. ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 والمؤمن لا تحبط أعماله، قال الله تعالى: «وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً» طه: 112. وقال تعالى: «وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» . التوبة: 102. وإنما تحبط أعمال الكافر، قال الله تعالى: «وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ» . المائدة: 5 وأقرأ من آل عمران: 22، والأنعام: 88، والأعراف: 77، والتوبة: 17، و69، وإبراهيم: 18، والكهف: 105، والفرقان: 23، والزمر: 65، والقتال: 32 - 34،. وقد قال تعالى: «قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» . الحجرات: 14. فإذا كان حال هؤلاء فما الظن بحال من قد آمن واستقر الإيمان في قلبه؟ فأما قوله تعالى: «مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» . هو د: 15 - 16. فهي في سياق الكلام في الكفار فهي ورادة فيهم ويدخل فيهم المنافقون، وللمؤمنين المخلصين في بعض أعمالهم المرائين في بعضها نصيب من الآية بالنظر إلى ما وقع فيه الرثاء دون غيره. وأما قوله سبحانه: «فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ» البقرة: 200 - 202. فالفريق الأول هم الذين يكون جميع دعائهم وعبادتهم لطلب الدنيا فقط ولا شأن لهم بالآخرة، وهذا أنما يكون ممن لا يؤمن بالآخرة إيماناً صادقاً، ومن لا يؤمن بها فليس بمؤمن، فأما المؤمن فإنه لا بد أن يهتم بالآخرة، فالمؤمن لا يحبط عمله حتى دعاؤه لطلب حاجته المباحة من الدنيا، فإنه قد لا يقضي الله عز وجل له بعض تلك الحوائج، ولا يعوضه في الدنيا، بل يدخر له ثواب دعائه في الآخرة، كما ورد في أحاديث تفسير استجابة الدعاء، وقد اتفق الأمة فيما أعلم على أن المؤمن لا تحبط أعماله التي أخلص فيها واستمر على إخلاصه، ومن قال من المعتزلة: إن الكبيرة تحبط الأعمال هم الذين يقولون أن ارتكاب الكبيرة يبطل الإيمان. وروى الخطيب بسنده إلى محمود بن غيلان «حدثنا وكيع قال سمعت الثوري يقول نحن المؤمنون، وأهل القبلة عندنا مؤمنون في المناكحة والمواريث والصلاة والإقرار، ولنا ذنوب، ولا ندري ما حالنا عند الله، قال وكيع: وقال أبوحنيفة: من قال بقول سفيان هذا فهو عندنا شرك، نحن المؤمنون هنا وعند الله حقاً. قال وكيع: ونحن نقول بقول سفيان، وقول أبوحنيفة عندنا جرأة» . وذكر الكوثري في (تأنيبه) ص 34 هذه الرواية، ثم ذكر عن كتاب ابن أبي العوام بسنده إلى عبيد بن يعيش قال: «حدثنا وكيع قاتل كان سفيان الثوري إذا قيل أمؤمن أنت؟ قال: نعم، فإذا قيل له: عند الله؟ قال: أرجو. وكان أبوحنيفة يقول: أنا مؤمن هنا وعند الله. قال وكيع: قول سفيان أحب إلينا» . وقال الكوثري ص 67: «لكن الإيمان الشرعي إنما يتحقق عند تحقق الجزم المنافي لتجويز النقيض فمن يقول: أنا مؤمن، ولا أدري ما حالي عند الله، أو: أنا مؤمن إن شاء الله، فإن كان مراد بذلك إن الخاتمة مجهو لة وأرجوالله أن يختم لي بخير فليس ذلك من منافاة الجزم في شيء، وأما إن كان مراده بذلك القول أنا مؤمن هنا ولا أدري ما إذا كان ما اعتقده إيماناً هنا إيماناً عند الله فهو شاك غير جازم بل جوز بتلك الإرادة أن يكون الإيمان خلاف ما يعتقده، فهو ليس من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 الإيمان في شيء، لأنه ليس من اليقين على شيء، فتبين من هذا البيان أنه لا يتصور تفاوت أصلاً بين إيمان المؤمنين من جهة الجزم ويكون النقص عن مرتبه اليقين كفراً» . أقول: مسألة الزيادة والنقصان قد سلف النظير فيها. فأما المسألة الأخرى فتحريرها أن هناك ثلاث قضايا: الأولى: اعتقادك ثبوت كل أمر من الأمور التي ترى اعتقاد ثبوت جميعها هو الإيمان الذي لا بد منه. الثانية: اعتقادك أنك جازم بكل واحد من تلك الأمور الجزم الكافي عند الله عز وجل. الثالثة: اعتقادك أنك وافٍ بجميع الأمور الضرورية للإيمان في نفس الأمر، من اعتقاد وفعل وترك. فمن قيل له: أمؤمن أنت؟ فقال: أرجو، أو: إن شاء الله، فهذا يتعلق بالقضية الثالثة كما لا يخفى، ولا يجب تعلقه بالثانية، فأما الأولى فبعيد عنها. وقد دلت آيات الحجرات السابقة على أن المؤمن قد يزول إيمانه وهو لا يشعر فكيف يسوغ ذلك مع هذا أن تجزم بالقضية الثالثة فتقول: أنا عبد الله مؤمن حقاً، اللهم ألا أن تريد بالإيمان معنى هذا كمجرد النطق بالشهادتين، أو مجرد الاعتراف اللساني بربوبية الله عز وجل. وتدبر آيات الحجرات، وتأمل معاملتك للنصوص الشرعية التي تخالفها في العقائد والإيمان والفقه زاعماً أنك تخالف ظواهرها، وأنعم النظر في ذلك ألا تخشى أن يكن في معاملتك لها ما هو قديم بين يدي الله ورسوله ورفع لصوتك خلاف صوته وجهر له بالقول كما تجهر لمخالفيك ودون جهرك لأئمتك في الكلام والفقه بكثير؟ ! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وتدبر قوله تعالى: «فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُون» إلى قوله: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً» إلى قوله: «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» . النساء - 59 - 65 وانظر أين أنت منها، ففي هذا الإجمال كفاية، وبها يتضح ما في عبارة الكوثري من المغالطة، فإنها توهم أن قول القائل: أرجو، أو: إن شاء الله، ينافي الجزم بما في القضية الأولى، فإن قول الكوثري في تفسير ذلك «ولا أدري ما إذا كان ما اعتقده إيماناً هنا، إيماناً عند الله» يصدق بأن تكون الإشارة إلى الإيمان بما في القضية الأولى، كأنه قال: لا أدري هل الإيمان بنبوة محمد إيمان عند الله؟ وهكذا في بقية الأمور، وقول الكوثري: «بل جوز بتلك الإرادة أن يكون الإيمان خلاف ما يعتقده» كالصريح فيما ذكر من الإيهام. فإن قلت: إذا كان الرجل جازماً بوجود الله تعالى وبروبيته وتفرده بالألوهية ونبوة محمد وغير ذلك من أمور الإيمان التي تتضمنها القضية الأولى فما الذي يشككه في القضية الثانية أي في أنه جازم في تلك الأمور؟ ثم ما الذي يشككه في الثالثة أي في أنه عند الله تعالى مؤمن حقاً؟ قلت: قد مر ما يكفي لوتدبرته، وأزيده إيضاحاً: تقدم في المسألة السابقة أن الجزم يتفاوت، فإذا ثبت ذلك ولم يكن عندك برهان واضح على أن القدر الذي عندك منه كاف عند اله تعالى، فمن أين يتهيأ لك أن تجزم بذلك؟ وهب أن الجزم الأول لا يتفاوت فمن أبن لك أن تجزم بأن جزمك مسار لجزم جبريل ومحمد عليهما السلام؟ فإن منتك نفسك ذلك فأنظر إن كنت من إتباع المتكلمين في النصوص المصرحة بأن الله تعالى في السماء فوق سماواته على عرشه، والنصوص الدالة على أنه سبحانه وتعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، وإنه يجيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 يوم القيامة، وغير ذلك مما خالفت فيه السلفيون، ثم تأمل في جزمك بأن محمداً رسول الله صادق في كل ما أخبر به عن الله واستحضر ما تقدم عن أئمتك في مسألة الجهة وفي الباب الثالث: فإن زعمت أنك جازم، فوازن بين ذاك الجزم وبين جزمك بأن الثلاثة أقل من الستة. وانظر إن كنت فقيهاً في الأحاديث الذي اشتهر أن إمامك يخالفها، وتفكر فيما تعاملها به، وانظر هل تقع منك تلك المعاملة وأنت جازم بأن محمداً رسول الله صادق بكل ما أخبر به عن الله، وأنك محكم له فيما وقع فيه الاختلاف، مسلم لحكمه تسليماً لا تجد في نفسك جرحاً مما قضى؟ وانظر، وانظر، وأعم ذلك أن تنظر في عملك اعمل من يوقن بأن محمداً رسول الله صادق في كل ما أخبر به من التكليف والحساب والجزاء والجنة والنار؟ وهل عملك مساوأو مقارب لعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأفاضل أصحابه وخيار التابعين؟ وأما القضية الثالثة: فإنك إن تدبرت وجدت شأنها أوضح فأن الأمة اختلفت في أمور الإيمان، فمن الناس من يشترط الجزم بثبوت بعض ما تنفيه أنت أو ينفي بعض ما تثبته، أو يعد منها ما لا تعده. ومن أهل السنة من يشترط المحافظة على الصلوات المكتوبة، والمعتزلة والخوارج يشترطون المحافظة على الفرائض والسلامة من الكبائر، وليس جزمك بخطأ هؤلاء في جميع ما يخالفونك فيه كجزمك بأن الثلاثة أقل من الستة، أفلا تخشى أن يكون من أقوالهم ما هو حق في نفس الأمر، وتكون أنت مقصراً تقصيراً لا تعذر فيه؟ ! وقد اختلف الفقهاء في كثير من أحكام الصلاة فلعل كثيراً من صلواتك يقول بعض مخالفيك أنها باطلة، فلعلك غير معذور في مخالفته فيكون حكمك حكم من ترك تلك الصلوات. ولعل فيما تسامح نفسك ما يكون فريضة في نفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 الأمر، وفيما تسامح نفسك بفعله ما يكون كبيرة في نفس الأمر، ولعلك لا تستح عذر الجاهل أو المخطئ. وأشد من ذلك أن رأس أمور الإيمان شهادة ألا آله إلا الله، فهل حققت معنى الألوهية، أفلا تخشى أن يكون في اعتقاداتك وأعمالك ما هو تأليه وعبادة لغير الله عز وجل، وقد قال تعالى: «وما يؤمن أكثرهم بالله وهم مشركون» . يوسف - 106 وقال سبحانه: «اتخذوا أحباركم ورهبانهم أرباباً من دون الله» . التوبة - 31 وفي حديث: «أتقوالشرك فأنه أخفى من دبيب النمل» ، ذكرت طرقه في كتاب (العبادة) وأوضحت أنه على ظاهره. وبسيط هذا المطلب في ذاك الكتاب. وبالجملة فمن تدبر علم أنه لا يمكنه أن يجزم غير مجازف أنه عند الله مؤمن حقاً إلا أن يريد بقوله «مؤمن» معنى ناطق بالشهادتين وإن لم يعرف معناها تحقيقاً، ولا التزم مقتضاهما تفصيلاً، بل قد يكن مصراً على بعض ما ينافيهما، ولاحول ولا قوة إلا بالله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 الخاتمة: فيما جاء في ذم التفرق وأنه لا تزال طائفة قائمة على الحق وما يجب على أهل العلم في هذا العصر قال الله تبارك وتعالى: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ. وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ» . الشورى - 13 - 14. وقال عز وجل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا» إلى أن قال: «وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا «مِنْ» (1) بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ» . آل عمران:-100 - 105. وقال تعالى: «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» . الأنعام: 153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وقال سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء» الأنعام: -159» . وقال تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» الروم:- 30 - 32. وقال سبحانه: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» هو د:118 - 119. إن قيل: التفرق والاختلاف يصدق بما إذا ثبت بعضهم على الحق وخرج بعضهم عنه، والآيات تقتضي ذم الفريقين. قلت: كلاَّ، فإن الآيات نفسها على إقامة الدين، والثبات عليه، والاعتصام به، واتباع الصراط، بل هذا هو المقصود منها، فالثابت على الصراط لم يحدث شيئاً، ولم يقع بفعله تفرق ولا اختلاف، وإنما يحدث ذلك بخروج من يخرج من الصراط، وهو منهي عن ذلك، فعليه التبعة. فإن قيل: المكلف مأمور بالاستقامة على الصراط، ولا يمكنه الاستقامة عليه حتى يعرفه، وإنما يعرفه بالبحث والنظر والتدبير، وحجج الحق كما سلف في المقدمة غير مكشوفة فالباحث معروف للخطأ، بل متدبر الحجج علم أنه يستحيل في العادة أن لا يخلف الناظرون فيها، فما الجامع بين الأمر باتباع الحجج وهو يؤدي إلى الاختلاف، وبين الزجر عن الاختلاف، وقد قال الله تبارك وتعالى: «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا» وقال سبحانه: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . أقول: وأسأل اتلله تبارك وتعالى التوفيق: قولي: إن حجج الحق غير مكشوفة،   (1) سقطت من الأصل. ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 إنما معناه كما سلف إنها بحيث يحتاج في إدراكها إلى عناء ومشقة، ويمكن من له هوى في خلافها أن يغالط نفسه وغيره بحيث يتيسر له زعم أنه إن لم يكن هو المحق فهو معذور، واتباع الحجج لا يؤدي إلى اختلاف،، وإنما يؤدي إليه اتباع الشبهات، وإنما الشأن في أمرين: الأول: تمييز الحجج من الشبهات. الثاني: معرفة الاختلاف المنهي عنه. وجماع هذا في أمر واحد هو معرفة الصراط المستقيم، وقد بينه الله تعالى بقوله: «صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ» . وقد علمنا أن المنعم عليهم قطعاً من هذه الأمة هم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. وقد قال الله عز وجل: «قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي» . يوسف: 108. وقال تعالى: «وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ «مِنْ» (1) بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً» النساء: 115. فالصراط المستقيم هو ما كان عليه محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وقد تقدم بيان جوامعه في الباب الأول، وأول الباب الرابع. فما اتضح من المأخذين السلفيين بحسب النظر الذي كان متيسراً للصحابة وخيار التابعين، فهو من الصراط المستقيم، وما خفي أو تردد فيه النظر فالصراط المستقيم هو السكوت عنه، قال الله تعالى لرسوله: «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» . الإسراء: 36. وقال تعالى: «قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ» ص ّ: 86. وفي (الصحيحين) من حديث جندب بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه» .   (1) سقطت من الأصل. ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 فإن كان من الأحكام العملية والقضية واقعة ساغ الاجتهاد فيه على الطريق التي كانت يجري عليها من أمثال ذلك الصحابة وأئمة التابعين. فمن لزم هذه السبيل فهو الثابت على سبيل الحق والصراط المستقيم، ومن لزم ذلك في المقاصد، وخاض في النظر المتعمق فيه، لتأييد الحق وكشف الشبهات، وقد تحققت الحاجة إلى ذلك، فلا يقضى عليه بالخروج على الصراط ما لم يتبين خروجه عنه في المقاصد فتلحقه تبعة ذلك بحسب مقدار خروجه. هذا والاختلاف المنهي عنه من لازمه كما بينته الآيات التحزب وأن يكونوا شيعاً، وسبيل الحق بينة، والدين محفوظ قد تكفل الله تعالى بحفظه، وبأن لا تزال طائفة من الأمة قائمة عليه، فإن أخطأ عالم لم يلبث أن يجد من ينبهه على خطأه، فإن لم يتفق له ذلك، فالذي يوافقه أو يتابعه لا بد أن يجد من ينبهه، فلا يمكن أن يستولي الخطأ على فرقة من الناس يثبتون عليه ويتوارثونه إلا باتباعهم الهوى، ولهذا نجد علماء كل مذهب يرمون علماء المذاهب الأخرى بالتعصب واتباع الهوى، وأكثرهم صادقون بالجملة، ولكن الرامي يغفل عنه نفسه، وكما جاء في الأثر (1)   (1) الذي يؤثر عن المسيح عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم ومعناه في القرآن (أمأمورون الناس بالبر وتنسون أنفسكم «وأنتم تتلون الكتاب» أفلا تعقلون) وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُون َكَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ» . م ع قلت: بل هو حديث مرفوع صحيح الإسناد، أخرجه ابن حبان في «صحيحه» (1848 - موارد) وغيره، وهو مخرج في «سلسلة الأحاديث الصحيحة» رقم (33) ، ولا أدري كيف خفي ذلك على الشيخين، ولا سيما فضيلة الشيخ محمد عبد الرزاق فإنه هو الذي قام على نشر كتاب «موارد الضمآن إلى زوائد أبن حبان» ، وعلى تحقيقه أيضاً، فلعله لم يتذكر الحديث عند كتابته لهذا التعليق قد ختمه بقوله: «وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبيه محمد، وآله وصحبه، وسائر الأنبياء والمرسلين، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 «يرى القذاة في عين أخيه. وينسى الجذع في عينه» . وعلى كل حال فإن الأمة قد اتبعت سنن من قبلها كما تواترت بذلك الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ذلك بل من أعظمه بل أعظمه أنها فرقت دينها وكانت شيعاً، وقد تواترت الأخبار أيضاً بأنه لا تزال طائفة قائمة على الحق، فعلى أهل العلم أن يبدأ كل منهم بنفسه فيسعى في تثبيتها على الصراط، وإفرادها عن اتباع الهوى، ثم يبحث عن إخوانه، ويتعاون معهم على الرجوع بالمسلمين إلى سبيل الله، ونبذ الأهواء التي فرقوا لأجلها دينهم وكانوا شيعاً. ويتلخص العمل في ثلاثة مطالب: الأول: العقائد، وقد علمت أن هناك معدناً لحجج الحق وهو المأخذان السلفيان، ومعدناً للشبه، وهو المأخذان الخلفيان، فطريق الحق في ذلك وضح. المطلب الثاني: البدع العملية، والأمر في هذتا قريب لولا غلبة الهوى، فإن عامة تلك البدع لا يقول أحد من أهل العلم والمعرفة أنها من أركان الإسلام ولا من واجباته ولا من مندوباته، بل غالبهم يجزمون بأنها بدع وضلالات، وصرح قولهم منهم بأن منها ما هو شرك وعبادة لغير الله عز وجل، وقد شرحت ذلك في كتاب (العبادة) ، وبحسبك هنا أن تستحضر أن من يزعم من المنتسبين إلى العلم أنه لا يرى ببعضها بأساً، أو زاد على ذلك أنه يرجى منها النفع، فإنه مع مخالفته لمن هو أعلم منه يعترف بأنفي الأعمال المشروعة اتفاقاً ما هو أعظم أجراً وأكبر فضلاً بدرجات لا تحصى، وقد قال الله تعالى: «فاتقوا الله ما استطعتم» ، وفي (الصحيحين) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم «الحلال بين، والحرام بين، وبينهما   = فرغت من قراءته صباح يوم الثلاثاء 23 ذي الحجة سنة 1370 كتبه محمد عبد الرزاق حمزة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، فقد إستبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه» وفي حديث آخر «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» . وفي حديث آخر: «أنه لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى ما لا بأس به حذراً لما به بأس» . والنظر الواضح يكشف هذا، فإنك لوكنت مريضاً فاتفق الأطباء على أشياء أنها نافعة لك، واختلفوا في شيء، فقال بعضهم: أنه سم قاتل، وقال بعضهم: لا نراه سماً ولكنه ضار، وقال بعضهم: لا يتبين لنا أنه ضار، وقال بعض هؤلاء: بل لعله لا يخلومن نفع. أفلا يقضي عليك العقل إن كنت عاقلاً بأن تجتنب ذاك الشيء؟ أوليس من يأمرك ويلح عليك أن تصرف وقتك في تناول ذاك الشيء تاركاً ما اتفقوا على نفعه بحقيق أن تعده ألد أعداؤك؟ وتدبر في نفسك أيصح من عاقل محب الإيمان خائف من الشرك أن يستحضر هذا المعنى ثم يصر على تلك البدع التي يخاف أن تكون شركاً؟ ! أوليس من يصر إنما يشهد على نفسه أنه لا يبالي إذا وافق هواه أن يكون شركاً؟! المطلب الثالث: الفقهيات، والاختلاف فيها إذا كان سببه غير الهوى أمره قريب، لأنه كما مرت الإشارة إليه لا يؤدي إلى أن يصير المسلمون فرقاً متنازعة وشيعاً متنابذة، ولا إلى إيثار الهوى على الهوى، وتقديم أقوال الأشياخ على حجج الله عز وجل، والالتجاء إلى تحريف معاني النصوص، وإذا كان المسلمون قد وقعوا في ذلك فإنما أوقعهم الهوى، فلا مخلص لهم منه إلا أن يستيقظ أهل العلم لأنفسهم فيناقشوها الحساب، ويكبحونها عن الغي ويتناسوا ما استقر في أذهانهم من اختلاف المذاهب، وليحسبوها مذهباً واحد اختلف علماءه، وإن على العالم في زماننا النظر في تلك الأقوال وحججها وبيناتها، واختيار الأرجح منها، وقد نص جماعة من علماء المذاهب أن العالم المقلد إذا ظهر له رجحان الدليل المخالف لإمامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 لم يجز له تقليد إمامه في تلك القضية، بل يأخذ بالحق لأنه إنما رخص له بالتقليد، عند ظن الرجحان، إذ الفرض على كل أحد طاعة الله وطاعة رسوله، ولا حاجة في هذا إلى اجتماع شروط الاجتهاد، فإنه لا يتحقق رجحان خلاف قول إمامك إلا في حكم مختلف فيه، فيترجح عندك قول مجتهد آخر، وحينئذ تأخذ بقول هذا الآخر متبعاً الدليل الراجح من جهة، ومقلداً في تلك القضية لذاك المجتهد الآخر من جهة، والفقهاء يجيزون تقليد المقلد غير إمامه في بعض الفروع لمجرد احتياجه، فكيف لا يجوز بل يجب أن يقلده فيما ظهر أن قوله أولى بأن يكون هو الحق في دين الله؟ وقضية التلفيق إنما شددوا فيها إذا كانت لمجرد التشهي وتتبع الرخص، فأما إذا اتفقت لمن يتحرى الحق وإن خالف هواه فأمرها هين، فقد كان العامة في عهد السلف تعرض لأحدهم المسألة في الوضوء فيسأل عنها عالماً فيفتيه فيأخذ بفتواه، ثم تعرض له مسألة أخرى في الوضوء أيضاً أو الصلاة فيسأل عالماً آخر فيفتيه فيأخذ بفتواه، وهكذا، ومن تدبر علم أن هذا تعرض للتلفيق، ومع ذلك لم ينكره أحد من السلف فذاك إجماع منهم على أن مثل ذلك لا محذور فيه، إذ كان غير مقصود، ولم ينشأ عن التشهي وتتبع الرخص. فالعالم الذي يستطيع أن يروض نفسه على هذا هو الذي يستحق أن يهديه الله عز وجل، ويسوغ له أن يثق بما تبين له، ويسوغ للعامة أن يثقوا بفتواه، نعم قد غلب اتباع الهوى وضعف الإيمان في هذا الزمان، فإذا احتيط لذلك بأن يرتب جماعة من أعيان العلماء للنظر في القضايا والفتاوى فينظروا فيها مجتمعين! ثم يفتوا بما يتفقون عليه أو أكثرهم لكن في هذا خير كثير وصلاح كبير إن شاء الله تعالى. فتلخص مما تقدم أن من اعتمد في العقائد المأخذين السلفيين ووقف معها، واتقى البدع، وجرى في اختلاف الفقهاء على أنها مذهب واحد اختلف علماؤه فتحرى الأرجح، واكن مع ذلك محافظاً على لفرائض، مجتنباً للكبائر، فإن عثر استقال ربه وتاب وأناب، فهو من الطائفة التي أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 أنها لا تزال قائمة على الحق، فليتعرف إخوانه، وليتعاضد معهم على الدعوة إلى الحق، والرجوع بالمسلمين إلى سواء الصراط. فأما من أبى إلا الجمود على أقوال آبائه وأشياخه والانتصار لها، فيوشك أن يدخل في قول الله تبارك وتعالى: «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه» . التوبة: 31، وقوله تعالى: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ» . الجاثية: 23. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، «رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 بسم الله الرحمن الرحيم تذييل لكتاب العقائد إلى تصحيح العقائد بقلم: فضيلة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة فرغت من قراءة كتاب (العقائد إلى تصحيح العقائد) للعلامة المحقق: الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي العتمي فإذا هو كتاب من أجود ما كتب في بابه من مناقشة المتكلمين والمتفلسفة الذي انحرفوا بتطرفهم وتعمقهم في النظر والأقيسة والمباحث، حتى خرجوا عن صراط الله المستقيم الذي سار عليه الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من إثبات صفات الكمال لله تعالى من علوه سبحانه وتعالى على خلقه علواً حقيقياً يشار إليه في السماء عند الدعاء إشارة حقيقية، وإن القرآن كلامه حقاً حروفه ومعانيه كيفما قرء أو كتب، وإن الإيمان يزيد وينقص حقيقة، يزيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 بالطاعات، وينقص بالمعاصي، وأن الأعمال جزء من الإيمان، لا يتحقق الإيمان إلا بالتصديق والقول والعمل. حقق العلامة المؤلف هذه المطالب بالأدلة الفطرية والنقلية من الكتاب والسنة على طريقة السلف الصالح من الصحابة وأكابر التابعين وناقش كمن خالف ذلك من الفلاسفة كابن سينا ورؤساء علم الكلام كالرازي والغزالي والعضد والسعد فأثبت بذلك ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتبه المحققة الشافية الكافية بأوضح حجة وأقوى برهان - أن طريقة السلف في الإيمان بصفات الله تعالى أعلم وأحكم وأسلم، وإن طريقة الخلف من فلاسفة ومتكلمين أجهل وأظلم وأو دى وأهلك. قرأت الكتاب فأعجبت به أيما إعجاب، لصبر العلامة على معاناة مطالعة نظريات المتكلمين خصوصاً من جاء منهم بعد من ناقشهم شيخ الإسلام أبن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم كالعضد والسعد، ثم رده عليهم بالأسلوب الفطري والنقول الشرعية التي يؤمن بها كل من لم تفسد عقيلته بخيالات الفلاسفة والمتكلمين، فسد بذلك فراغاً كن على كل سني سلفي سده بعد شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى، وأدى عنا ديناً كنا مطالبين بقضائه، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وحشرنا وإياه في زمرة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. آمين. وبقيت بعد ذلك لمن يبتلي بمطالعات في كتب العصر وما تحوي من نظريات علمية وتجارب صناعية مسائل يظن تعارضها مع ما جاءت به أنبياء الله ورسله، فيغتر بها ضعفاء العقول، ويفتتن بها سفهاء الأحلام، وسأذكر شيئاً منها على سبيل المثال، وأشير إلى المخرج لمن هداه الله تعالى ووفقه للإيمان بما جاءت به أنبياؤه ورسله، والله الهادي إلى الصراط المستقيم، ممهداً لذلك بتمهيد وجيز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 تمهيد: أرسل الله رسله مبشرين ومنذرين، وأنزل كتبه هداية للمتقين بأصول سعادة الدنيا والآخرة للبشر أجمع، فقررت أصول الإيمان بالله ورسله والملائكة واليوم الآخر وقدر الله في خلقه، وشرحت أركان العمل الصالح في معاملة الله تعالى ومعاملة خلقه من عبادات ومعاملات وتشريع مدني وجنائي، وبينت نتائج السير على هذا الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة وعواقب الانحراف عنه وعقوباته دنياً وأخرى، وسعادة من سار عليه، وشقاء من انحرف وحاد عنه. أما علوم المعاش، رفاهة الحياة الدنيا وملذاتها من صناعة وزراعة وطب وهندسة وكيميا وطبيعة وفلك قلم تعن بها شرحاً وبحثاً وتنقيباً، بل تركت ذلك لجهو د العقل البشري وتجارب الناس وهمم الباحثين، لأن ذلك يتطور حال الناس ويظهر بمظاهر تناسب عصورهم وتفكيرهم وجهو دهم العقلية والاجتماعية، وهو قابل للأخذ والرد والتمحيص والتحوير والاستبدال، واصلاحه ممكن بالعقل وبتطور الزمان ومناسبة المكان. فإن عرضت الشرائع لشيء من ذلك فعلى سبيل المثال وذكر نعمة في خلقه ورحمته بهم بأرضه وسمائه ورياحه وسحبه وأمطاره، ولا يضيرها في ضرب هذه الأمثال أن تقر بها لعقول الناس وتفكير العقلاء. (هذا تمهيد أول) . (الثاني) يظهر للمتأمل في مخلوقات الله تعالى أن لكل حادث منها أسباباً مادية يتلمسها الباحثون ويقفون على كثير منها ظناً وتخميناً، أو قطعاً ويقيناً، وأن لهذه الحوادث أسباباً غيبية وعللاً روحية أشارت إليها الديانات ولوحت إليها كتب السماء. وسيأتي شيء من الأمثلة الآتية توضيح لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وجل هم الباحثين في العلوم العصرية والتجارب المعيشية التعرف إلى الأسباب المادية، وربطها بمسبباتها وما يقوي ذلك أو يضعفه. وأما رسل الله الكرام فمطمع نظرهم وجل توجههم إلى الأسباب الغيبية والتدبير الآلهي للأسباب والمسببات والراسخون في العلم من يؤمنون بما جاءت به الأنبياء وينتفعون بما أثبتته التجارب وبحوث الباحثين، جامعيين بين الإيمان والانتفاع بثمرات العقول ونتائج الأبحاث الصحيحة، والأمثلة الآتية توضيح وتفريغ للتمهيدين السابقين، وإزالة لشبهة تعارض الدين والمباحث العصرية. (1) مسألة خلق آدم أبي البشر من تراب أثبتتها شرائع الله في التوراة والإنجيل والقرآن بما لا يحتمل الشك أو الجدل. وبحث باحثون على رأسهم دارون الإنكليزي أن الحياة متسلسل بعضها من بعض من الأدنى إلى الأرقى، وأن البشر تسلسلوا من سلسلة حيوانية أدنى منهم وأرقى من القردة، والمسألة نظرية تخمينية لا تزال في بوتقة البحث والتمحيص، لم تصعد سلماً من سلالم القطع والمشاهدة، فنلدع باحثيها في شغلهم بها ويسلم لنا الدين بلا معارض ولا منازع. والعجب من قوم منا فتنتهم هذه الفكرة التخمينية فأخذوا يؤولون نصوص الكتاب العزيز ليخضعوه إليها.ونبرأ إلى الله تعالى من ذلك. (2) مسألة النيل والفرات جاء في حديث (الصحيحين) أنهما ينبعان من أصل شجرة المنتهى فوق السماء السابعة، والمعروف عند الناس اليوم أن النيل يخرج من بلاد الحبشة أمطارها وبحيراتها إلى السودان إلى مصر - والفرات من جبال أرمينيا إلى العراق. فذهب قوم كابن حزم الظاهري إلى حل المسألة باشتراك الاسمين أي أن الجنة نهرين أسمهما النيل والفرات، ينبعان من أصل سدرة المنتهى، وأنهما غير النيل والفرات اللذين في الدنيا، و «وأنهما» وإن اشتركا معهما في الاسم فالمسميان متغايران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وذهب الآخرون كالنووي وغيره إلى المجاز والتشبيه، وإن النيل والفرات يشبهان أنهار الجنة في النماء والبركة والعذوبة. وعندي أنه لا بأس بحل المسألة بتطبيق التمهيد الثاني المتقدم آنفاً وإن ما جاء في الحديث في نبه النيل والفرات من أصل سدرة المنتهى نظر إلى السبب الغيبي الروحاني، وأن نبعها مما هو معروف لدى الناس الآن هو السبب الحسي المادي. فإن أعجبك التوجيه، وإلا فأنت في حل منه، وإنما هو جهد المقل، وحاول الجمع بين الإيمان المعقول، والمعقول الذي لا يشوش الإيمان. (3) مسألة الخسوف والكسوف - ثبت لدى علماء الفلك وأقره المحققون من علماء الدين كالغزالي والرازي وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم إن خسوف القمر لاحتجاب نور الشمس عنه بظل الأرض، وكسوف الشمس لاحتجاب نورها عنا بتوسط جرم القمر. وجاء في حديث أبي داود أن كسوف الشمس لتجلي الله تعالى لها، وأن الله تعالى إذا تجلى لشيء خضع له. (1) فتجرأ الغزالي بسبب أنه - كما شهد على نفسه - مزجى البضاعة في الحديث فتجرأ بالقول برد الحديث، وغلطه الشيخ ابن تيمية فقوى الحديث واعتمده.   (1) قلت هذا قطعة من خطبته صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف، والخطبة متواترة عنه صلى الله عليه وسلم رواها عنه نحوعشرين صحابياً، وأكثرهم له عنه أكثر من طريق واحد، ولم ترد هذه القطعة إلا من حديث قبيصة بن مخارق أو النعمان بن بشير من رواية أبي قلاية عنه، وهذا إسناد أعله المحققون من علماء الحديث بالانقطاع، مثل ابن أبي حاتم البيهقي وغيرهما، زد على ذلك أن بإسناده ومتنه اضطراباً كثيراً، لا مجال لبيانه هنا، ومحلة في رسالتي المؤلفة في «صفة صلاة الكسوف، وما رأي صلى الله عليه وسلم فيها من الآيات» رقم (16) . وأيضاً فالتجلي المذكور لم يرد إلا في بعض الطرق عن أبي قلابة، فإذا ضممنا إلى = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وحل المسألة عندي مستفيداً من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ومجالسة بعض محققي علماء الهند أو الحديث جاء على طريقة الأنبياء من النظر إلى الملكوت في الأسباب والمسببات التي وراء الأسباب الظاهرة المعروفة، وحينئذ فتفكير الباحثين في أسباب الخسوف والكسوف صحيح، والحديث على طريقة الأنبياء صحيح، والعاقل من آمن بها جميعاً. (4) مسألة كروية الأرض ودورانها حول نفسها وحول الشمس. تقطع العلوم الحديثة من فلك وجغرافيا بهذه المسألة قطعاً لا شك فيه عندهم في الكروية وظناً يقرب من اليقين، مع الإطباق والتطبيق عليه من مسألة الحركة. وظواهر النصوص تخالف ذلك بادي الرأي. وعندي أن هذه المسألة لا حاجة لها في الدين، وإنما ذكر الله الأرض وسكونها وعدم حيدانها، والشمس والقمر وجريانهما دائبين لنزداد إيماناً برحمته بنا وخلق لاما في السماوات والأرض جميعاً لمنافعنا فالنعمة سابغة، ورحمة الله شاملة لنا، دارت الأرض أم سكنت. المؤمن يزداد إيماناً بما ذكرنا الله من نعمه علينا وتكرار آلائه علينا. (5) مسألة تنفس جهنم نفسين في الشتاء يكون منه شدة البرد، وفي الصيف يكون منه شدة الحر، «كما» جاء في الحديث الصحيح.   = ذلك عدم ورودها في أحاديث سائر الصحابة العشرين، فلا ريب بعد ذلك أنه ضعيف منكر للتفرد والمخالفة لرواية التواتر، وبأقل من ذلك تثبت النكارة، وتقوية أبن تيمية إنما هو باعتبار ظاهر الرواية عن أبي قلابة عن الصحابي، ولم يتنبه للانقطاع الذي بينهما ولا الاضطراب الذي ألمحنا إليه. ثم أن هذه القطعة ليست عند أبي داود، وإنما هي عند النسائي وعند أبي داود أصل الحديث. فاقتضى التنبيه. ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 والمسألة نفس لأمر غيبي لا نعرفه فلنؤمن به وبنفسه، والكيفية عند الله تعالى. (6) جاء في بعض الآثار (1) إن لله بيتاً معموراً فوق السماء السابعة يوازي بيته العتيق بمكة المكرمة، والمسألة كسابقتها غيب في غيب والإيمان واجب، والشك بدعة، والكيف مجهول. (7) جاء في الحديث أن الله خلق آدم طوله ستون ذراعاً، فما زال الخلق أي من بنيه يتناقص حتى صاروا إلى ما هم عليه الآن. استشكله ابن خلدون، ونقل أشكاله الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) بأن ديار ثمود في الحجر لا تزيد أبوابها عن أبواب ديارنا وهم من القدم على ما يظهر أن يكونوا في نصف الطريق بيننا وبين آدم فكان على هذا يجب أن تطول أبدانهم عنا بنحوثلاثين ذراعاً، ولعل أهل الحفريات عثروا على عظام وجماجم قديمة جداً ولا يزيد طولها عن طول الناس اليوم - سمعت حل الإشكال من الشيخ عبيد الله السندي رحمه الله أن الطول المذكور في عالم المثال لا في عالم الأجسام والمشاهدة. فالله أعلم. (2) (8) جاء في سورة القمر «اقتربت الساعة وانشق القمر» وجاء في الحديث المشتهر المستفيض عن أنس وابن مسعود وغيرهما ثبوت انشقاقه معجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإقامة للحجة على طالبيها منه من قريش.   (1) قلت التعبير بـ «الآثار» قد يوهم أن الحديث المذكور موقوف غير مرفوع، وليس كذلك، فقد جاء مرفوعاً في «الصحيحين» وغيرهما من حديث أنس رضي الله عنه، لكن ليس فيه «يوازي بيته العتيق» ، وإنما جاءت هذه الزيادة عن قتادة مرسلاً بمعناها بسند صحيح، ورويت من حديث أبي هريرة وابن عباس مرفوعاً، وعلي موقوفاً، مما يشهد مجموعها لثبوتها، وقد خرجت ذلك في «الأحاديث الصحيحة» برقم (471) . (2) قلت هذا التأويل أشبه بتأويلات المتكلمين والمتصوفة، وأني متعجب جداً من حكاية فضيلة الشيخ إياه وإقراره له. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 ورأيت لبعض المتأخرين بحثاً تشكيكياً في ذلك، وقد سألت مدير مرصد حلوان الفلكي: هل رأيت ما يثبت ذلك فلكياً أو يقربه من العقل؟ فأجاب: لا. وشكوك الملاحدة على المسألة معروفة من قديم الزمان. وعندي أن المسألة ما دامت أنها آية فسبيلها سبيل الآيات، لا مجال للعقل إلا تكيفها، ويعجبني من صاحب الكتاب (الطب الحديث والقرآن) الأستاذ بكلية الطب عبد الخالق العزيز (!) باشا إسماعيل أنه عندما يمر بمعجزة أو آية كولادة عيسى ابن مريم ومعجزات موسى وإبراهيم وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنه يمر عليهما مر الإيمان بدون تعليل ولا تكييف لأنه معجزة وكفى، أي فيدل اسمها على عجز العقل عن تكيفها. فلله دره من مؤمن مسلم لما أخبر الله تعالى. وعلى ذكر آيات الأنبياء ومعجزاتهم فقد انقسم الناس فيها شأنهم في أكثر المسائل ثلاثة طوائف: طائفة الماديين عمي البصائر، الذين أنكروها وساروا وراء قردة قلدوهم في الأفكار، واستحيوا من المسلمين فنافقوا بتأويلها.   = واستشكال ابن خلدون إنما يصح على ما استظهره أن ثمود في نصف الطريق بيننا وبين آدم. وهذا رجم بالغيب، إذ لم يأت به نص عن المعصوم، ولا ثبت مثله حتى الآن من الآثار المكتشفة، بل لعلها قد دلت على خلاف ما استظهره. فيبقى الحديث من الأمور الغيبية التي يجب الإيمان بها دون أي استشكال. والحديث المشار إليه أخرجه الشيخان في «صحيحهما» . ن وبه انتهى التعليق على هذا الكتاب النافع إن شاء الله تعالى بتاريخ 17 شعبان سنة 1386 من هجرة سيد المرسلين، وصلة الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وكتب: محمد ناصر الدين الألباني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وطائفة الخرافيين الذين توسعوا في الخرافات والمخرقات حتى جعلوا كون الله العجيب ملعباً للدجاجلة يلعبون به حسب أهوائهم وأهواء الناس فيهم. والثالثة: الوسط المؤمن بها من سائر العقلاء والمصدقون بما صح منها نقلاً متواتراً في كتاب الله تعالى، وصحيح الأخبار عن نبيه - صلى الله عليه وسلم -، مع رفع العصا والنعال في وجوه الدجالين والمخرفين والمظلمين للعامة بمنازعة الله تعالى في ربوبيته والتلاعب بزعمهم في سننه، طبائع مخلوقاته. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. كتب بالطائف صباح الخميس 25 ذي الحجة 1370 محمد عبد الرزاق حمزة حامداً مصلياً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257