الكتاب: الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق المؤلف: عائشة محمد علي عبد الرحمن المعروفة ببنت الشاطئ (المتوفى: 1419هـ) الناشر: دار المعارف الطبعة: الثالثة عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ الكتاب: الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق المؤلف: عائشة محمد علي عبد الرحمن المعروفة ببنت الشاطئ (المتوفى: 1419هـ) الناشر: دار المعارف الطبعة: الثالثة عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الكتاب: الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق المؤلف: د. عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) الناشر: دار المعارف الطبعة: الثالثة عدد الأجزاء: 1 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] جَزَى اللَّهُ كَاتِبَهُ وَمَنْ تَحَمَّلَ نَفَقَةَ الْكِتَابَةِ خَيرَ الجَزَاءِ وَأَوفَاهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 الإهداء إلى شيخي الوالد، العالم العارف القدوة، الشيخ: عليّ عبد الرحمن إلى أستاذى الإمام: أمين الخولى فى قلوبنا وضمائرنا وعقولنا وإلى تلاميذى الزملاء الأصدقاء: طلاب جامعة القرويين أهدى هذه الدراسة القرآنية نقلا لرسالة العلم من جيل إلى جيل عائشة عبد الرحمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 دليل الجزء الأول: الإعجاز البياني - مدخل: خطوات على الطريق. * المبحث الأول - المعجزة. - الجدل والتحدى، آيات المعاجزة. - وجوه الإعجاز والبيان القرآني. - البلاغيون والإعجاز. * المبحث الثاني: دراسة استقرائية. - فواتح السور، وسرُّ الحرف. - دلالات الألفاظ، وسر الكلمة. - الأسلوب وسر التعبير. * الجزء الثاني: مسائل ابن الأزرق - فى المطبوعات، والمخطوطات. - المسائل: نص ودراسة. - خاتمة. الفهارس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 فاتحة : ْلولا نسب لى فى الشيوخ عريق، لتهيبت التصدى لهذا الموضوع الدقيق الصعب الذى توارد عليه أئمة من علماء السلف أفنوا أعمارهم فى خدمة القرآن الكريم، وقدموا إلى المكتبة الإسلامية ثمار جهودهم السخية الباذلة. ولولا ما أعلم من مكانة جليلة للمرأة المسلمة فى تاريخنا، لأحجمت عن التقدم إلى هذا الميدان الجليل، إشفاقا من أن يُنكر مكاني فيه. . . مع الكتاب المعجزة عشت عمرى كله، وفي المدرسة القرآنية كانت تلمذتي الطويلة التي تولاها أبي فى مراحلها الأولى. وإليها انتهى تخصصى فى الدراسة - العليا التى وجهنى إليها أستاذى الإمام "أمين الخولى"، وظل لمدى ثلث قرن يقود خطاي على الطريق الشاق، ويحمينى من عثرة الرأى ومزالق التأويل وسطحية النظر، ويأخذني بضوابط منهجه الدقيق الصارم الذى لا يجيز لنا أن نفسر كلمة من كلمات الله تعالى دون استقراء لمواضع ورودها بمختلف صيغها فى الكتاب المحكم، ولا أن نتناول موضوغا قرآنيا أوظاهرة من ظواهره الأسلوبية، دون اسيعاب لنظائرها وتدبر سياقها الخاص فى الآية والسورة، وسياقها العام فى القرآن كله. *** وقد شغلتني قضية الإعجار البياني دون أن أتجه إليها قصدا: فأثناء اشتغالى بالتفسير البياني والدراسات القرآنية، تجلى لي من أسراره الباهرة ما لفتنى إلى موقف العرب الأصلاء من المعجزة القرآنية فى عصر المبعث، ووجهنى إلى محاولة منهجية في فهم عجزهم عن الإتيان بسورة من مثل هذا القرآن، وقد تحداهم أن يفعلوا، والعربية لغته ولغتهم، والبيان طوع ألسنتهم. وهم لا ريب قد أدركوا من أسرار إعجازه البياني، ما أياسهم من محاولة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الإتيان بلفظ يقوم مقام اللفظ منه، أو أن يأتوا بآية على غير الوجه الذى جاءت به فى البيان المعجز. . . وهذا هو مجال المحاولة المتواضعة التى أقدمها اليوم فى فهم إعجاز البيان القرآني، لا أجحد بها جهود السلف الصالح فى خدمة القرآن الكريم، تفسيرًا وإعرابًا وبلاغة وإعجازًا، وقد زودتنى بمعالم هادية على الطريق الذى سرت فيه من حيث انتهت خطواتهم. واثقة أن الأجيال بعدنا حين تبدأ من حيث انتهى بنا الجهد، سوف تجتلى من أسراره الباهرة ما تضيفه إلى عطاء السلف الصالح، رضى الله عنهم. الجزء الأول، في الإعجاز البياني، يجمع خلاصة مما لمحت من أسراره الباهرة، فى دراساتي القرآنية المنشورة من قبل: وبحوث قدمتها إلى مؤتمرات: المستشرقين بالهند (سنة 1964) والأدباء العرب ببغداد (1965) وندوة علماء الإسلام بالمغرب (1968) وأسبوع القرآن بجامعة أم درمان الإسلامية (1968) ومحاضرات فى الدراسات القرآنية العليا بجامعة القرويين. وأما الجزء الثاني، فمحاولة تطبيقة لمنهج الدرس الاستقرائى للنص القرآني، بدراسة نحو مائتى مسألة فى كلمات قرآنية، سأل فيها نافع بن الأزرق، عبدَ الله بن عباس رضى الله عنهما، وطلب إليه فى تفسير كل مسألة منها أن يأتي بشاهد له من كلام العرب. قدمتها فى الطبعة الأولى، ولم أكن وقفت على مخطوطات ثلاث للمسائل، بالخزانة الظاهرية بدمشق ودار الكتب المصرية، أتاحت لى فى هذه الطبعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الجديدة أن أعود على بدء فأدرس المسائل بعد بضع عشرة سنة انقطعت فيها لخدمة القرآن، مزودة بما تعلمت وعلَّمت فى هذه المرحلة الأخيرة من عمرى، وما أشرفت عليه من رسائل فى علوم القرآن والحديث والعربية، لطلاب الدراسات العليا بجامعات القرويين والأزهر وعين شمس وكلية البنات بالرياض، وما قرأت معهم من ذخائر مخطوطة ومطبوعة، أجدتْ عليَّ مزيد نضج وتثبت، وتواضع وتهيب. والله من وراء القصد، له سبحانه الفضل والمنة، ومنه التوفيق وبه المستعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الجزء الأول الإعجاز البياني - مدخل: خطوات على الطريق. - المبحث الأول: المعجزة - الجدل والتحدى - وجوه الإعجاز والبيان القرآني - علماء السلف والإعجاز البياني - المبحث الثاني: محاولة فى فهم الإعجاز البياني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 من إعجاز القرآن أن يظل مشغلة الدارسين العلماء جيلا بعد جيل، ثم يبقى أبدًا رحبَ المدى سخى المورد، كلما حسب جيل أنه بلغ منه الغاية، امتد الأفق بعيدًا وراء كل مطمح، عاليا يفوت طاقة الدارسين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 من إعجاز القرآن أن يظل مشغلة الدارسين العلماء جيلا بعد جيل، ثم يظل أبدًا رحب المدى سخى المورد كلما حسب جيل أنه بلغ منه الغاية، امتد الأفق بعيدًا وراء كل مطمح، عاليا يفوت طاقة الدارسين. فى القرن الثالث للهجرة، كانت البيئة الإسلامية تموج بأقوال فى الإعجاز أخذت وضعا حادا فى صراع الفرق الإسلامية، فانتصر أعلام كل فرقة لرأيهم فيه وتصدوا لنقض أراء مخالفيهم. ولم تنفرد قضية الإعجاز فى أول الأمر بالبحث والنظر، وإنما عولجت مع غيرها من القضايا التي نشط فيها الكلام وتجادلت الفرق، وبخاصة تلك التي تتصل بالنبوة والمعجزة، كالذى فى (تأويل مشكل القرآن) لابن قتيبة، و (مقالات الإسلاميين) لأبى الحسن الأشعرى، و (حجج النبوة، للجاحظ) و (الانتصار) لأبى الحسين الخياط الذى نقض كتب "ابن الراوندى"، ومنها (الزمرد) ، و (الدامغ) و (الفريد) فى نظم القرآن. أو تناولها المفسرون فى سياق التفسير كالذى فى (جامع البيان) للطبرى و (مجاز القرآن) لأبى عبيدة. . . . على أن القضية لم تبث أن استقلت بالتأليف المفرد: ففى القرن الثالث ظهرت كتب فى الإعجاز تحمل فى الغالب عنوان (نظم القرآن) وللجاحظ (ت 255 هـ) كتاب بهذا الاسم لم يصل إلينا، وإن كان الجاحظ أشار إليه فى كتابه (الحجج) كما أشار إليه الباقلاني فى كتابه (إعجاز القرآن) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وألف " السجستاني: أبو بكر عبد الله " كتابه (نظم القرآن) في النصف الثاني من القرن الثالث وأوائل الرابع، وكذلك أبو زيد البلخى، أحمد بن سليمان ت (322) ومعاصره "أبو بكر أحمد بن على": ابن الإخشيد" (ت 326) وقد أشار إلى كتابه الخياط فى (الانتصار) والزمخشرى فى خطبة (الكشاف) . وفى أواخر القرن الثالث، ظهر أول كتاب - فيما نعلم - بعنوان (إعجاز القرآن، في نظمه وتأليفه) لأبي عبد الله بن يزيد الواسطى المعتزلى (ت 306 هـ) وقد ذكر حاجى خليفة فى (كشف الظنون) أن كتاب الواسطى فى إعجاز القرآن شرحه الشيخ عبد القاهر الجرجاني فى شرحين: الكبير وسماه المعتضد، والشرح الصغير. وظن أعلام هذه الطبقة الأولى ممن كتبوا فى نظم القرآن وإعجازه، أنهم استوفوا الكلام فيه فلم يدعوا لمن بعدهم مجالا لجديد يقال. كتب الجاحظ فى (حجج النبوة) يقدم كتابه (نظم القرآن) إلى الفتح بن خاقان: ". . . فكتبت لك كتابًا أجهدت فيه نفسى وبلغت منه أقصى ما يمكن مثلى فى الاحتجاج للقرآن والرد على كل طعان. فلم أدع فيه مسألة لرافضى ولا لحديثى ولا لحشوى، ولا لكافر مبادٍ ولا لمنافق مقموع ولا لأصحاب النظام ولمن نجم بعد النظام ممن يزعم أن القرآن حق وليس تأليفه بحجة، وأنه تنزيل وليس ببرهان ولا دلالة. وشهد أبو الحسين الخياط لهذا الكتاب فقال فى (الانتصار) : ومن قرأ كتاب عمرو الجاحظ فى الرد على المشبهة وكتابه فى الأخبار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وإثبات النبوات، وكتابه فى نظم القرآن، علم أن له فى الإسلام غناء عظيمًا لم يكن الله عز وجل ليضيعه عليه، ولا يُعرف كتاب فى الاحتجاج لنظم القرآن وعجيب تأليفه وأنه حجة لمحمد على نبوته غير كتاب الجاحظ. ونقل أبو حيان التوحيدى" فى (البصائر) قول أبى حامد القاضى "فى كتاب أبى زيد البلخى: "لم أر كتابا فى القرآن مثل كتاب لأبى زيد البلخى، وكان فاضلا يذهب إلى رأى الفلاسفة، لكنه يتكلم فى القرآن بكلام لطيف دقيق فى مواضع، وأخرج سرائره وسماه نظم القرآن، ولم يأت على جميع المعاني فيه". *** وتلقى القرن الرابع هذا الجهد فلم يجد فيه مع ذلك ما يغنى، بل كان فى تقديره كما قال القاضى أبو بكر الباقلاني في (إعجاز القرآن) : لأوقد كان يجوز أن يقع ممن عمل الكتب النافعة فى معاني القرآن وتكلم فى فوائده من أهل صنعة العربية وغيرهم من أهل صناعة الكلام، أن يبسطوا القول فى الإبانة عن وجه معجزته والدلالة على مكانه، فهو أحق بكثير مما صنفوا فيه من القول. . . فالحاجة إليه أمَس، والاشتغال به أوجَبُ. "وقد قصَّر بعضهم فى هذه المسألة حتى تحول قوم منهم إلى مذاهب البراهمة فيها، ورأوا أن عجز أصحابهم عن نصرة هذه المعجزة يوجب أن لا مستنصرَ فيها ولا وجه لها، حين رأوهم قد برعوا فى لطيف ما أبدعوا وانتهوا إلى الغاية فيما أحدثوا ووضعوا، ثم رأوا ما صنفوه فى هذا المعنى - إعجاز القرآن - غير كامل فى بابه ولا مستوفى فى وجهه، قد أخِل بتهذيب طرقه وأهمل ترتيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 بيانه. "وقد يُعذرَ بعضهم فى تفريط يقع منه فيه وذهاب عنه، لأن هذا الباب مما لا يمكن إحكامه إلا بعد التقدم في أمور شريفة المحل عظيمة المقدار دقيقة المسلك لطيفة المأخذ. . . "وقد صنف الجاحظ فى نظم القرآن كتاباً لم يزد فيه على ما قاله المتكلمون قبله ولم يكشف عما يلتبس فى أكثر هذا المعنى". وكذلك قال أبو سليمان الخطابي (388 هـ) في مقدمة رسالته فى الإعجاز: "قد أكثر الناس الكلام فى هذا الباب قديما وحديثاً وذهبوا فيه كل مذهب من القول. وما وجدناهم بعدُ صدروا عن رِيٍّ، وذلك لتعذر معرفة وجه الإعجاز فى القرآن ومعرفة الأمر فى الوقوف على كيفيته " وقدم هذا القرن الرابع رصيده، واختار عنوان (إعجاز القرآن) الذى كتب على رسائل من تصدوا للتأليف فيه من أعلام هذا القرن. ومن أشهر ما وصل إلينا من مصنفاتهم فى الإعجاز: (النكت في إعجاز القرآن) لأبي الحسن علي بن عيسى الرماني - ت 384 هـ (بيان إعجاز القرآن) للخطاب، أبي سليمان حمد بن محمد - ت 386 هـ (إعجاز القرآن) لأبي بكر الباقلاني - ت 403 هـ ومعها مجلد (إعجاز القرآن) من كتاب (المغنى: فى أبواب التوحيد والعدل) للقاضى عبد الجبار أبي الحسن المعتزلى " - ت 315 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وقد نقلنا آنفاً من كلام الباقلاني فيمن سبقوه، ما ندرك معه كيف رأى أن موضوع إعجاز القرآن " قلَّ أنصاره واشتغل عنه أعوانه وأسلمه أهله، فصار عرضة لمن شاء أن يتعرض فيه، حتى عاد مثل الأمر الأول على ما خاضوا فيه عند ظهور أمره، فمن قائل قال إنه سحر وقائل يقول إنه شعر، وآخر يقول إنه أساطير الأولين، وقالوا: (لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا) . إلى الوجوه التى حكى الله عزَّ وجل عنهم أنهم قالوا فيه وتكلموا به، فصرفره إليه " وتجرد الباقلاني لتفصيل القول فى مسألة الإعجاز وفاء بما قصر عنه سلفه، ليجىء فى نظم القرآن، بما يكون مستفادا من كتاب خاصة، وموجها ما وصل إليه جهده، إلى الخاصة "من أهل صناعة العربية الذين وقفوا على جمل من محاسن الكلام ومتصرفاته ومذاهبه، وعرفوا جملة من طرق المتكلمين ونظروا فى شىء من أصول الدين. *** وظن الباقلاني أنه أغلق الباب وقال فيه الكلمة الأخيرة، فجاء "عبد القاهر الجرجاني" فى القرن الخامس، وعرض السؤال فى قضية الإعجاز كأن لم يُعرض من قبل، وبدأ القولَ فيها كمن يرى الميدان خالياً ليس فيه دليل، بحيث احتاج إلى وضع كتاب (دلائل الإعجاز) ، مقدمة لفهمه بإدراك أسرار العربية، فاستفرغ طاقته فى عرض أسالييها ونحوها وملاحظها البلاغية من حيث هى الهادية إلى دلائل الإعجاز. ولم يبدأ فى كتابه حتى نظر فى كتب السلف فلم ير إلا شرًّا وتخليطا وأنكر تصدى كثير مهم لتفسير القرآن وتأويله وقد أعوزتهم آلة فهمه وإدراك إعجازه، وقال فيما قال: "ولو أن هؤلاء القوم إذ تركوا هذا الشأن تركوه جملة فلم يأخذوا أنفسهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 بالتقَوِّى فيه والتصرف فيما لم يعلموا منه، ولم يخوضوا فى التفسير ولم يتعاطوا التأويل، لكان البلاء واحداً ولكانوا إذا لم يبنوا لم يهدموا وإذا لم يصلحوا لم يكونوا سببا للفساد. ولكنهم لم يفعلوا، فجلبوا من الداء ما أعيا الطبيب وحير اللبيب، وانتهى التخليط بما أتوه فيه إلى حدٍّ يُئس من تلافيه، فلم يبق للعارف الذى يكره الشغب إلا التعجب والسكوت. وما الآفة العظمى إلا واحدة وهى أن يجىء من الإنسان يجرى لفظه ويكثر من غير تحصيل، وأن يحسن البناء على غير أساس وأن يقول الشىء لم يقتله علماً. . . "ثم إنا وإن كنا فى زمان هو ما هو عليه من إحالة الأمور عن جهاتها وتحويل الأشياء عن حالاتها ونقل النفوس عن طباعها وقلب الخلائق المحمودة إلى أضدادها، ودهر ليس للفضل وأهله لديه إلا الشر صرفاً والغيظ بحتاً وإلا ما يدهش معقولهم، حتى صار أعجز الناس رأيا عند الجميع من كانت له همة أن يستفيد علماً أو يزداد فهما أو يكتسب فضلا. . . "فإن الإلْف من طباع الكريم، وإذا كان من حق الصديق عليك ولا سيما إذا تقادمت صحبته وصحَّت صداقته ألا تجفوه بأن تنكبك الأيام وتضجرك النوائب وتحرجك محن الزمان فتتناساه جملة وتطويه طيًّا، فالعلم الذى هو صديق لا يحول عن العهد ولا يدغل فى الود، وصاحب لا يصح عليه النكث والغدر ولا يُظن به الخيانة والمكر، أولى منه بذلك وأجدر، وحقه عليك أكبر. . " 27 وظن الجرجاني أنه قطع قول كل دارس وجاء فى بيان فوت نظم القرآن بما قصر عنه الأوائل والأواخر، وأتى به على وجه يؤخذ باليد ويُتناول من كتب ويُتصور فى النفس كتصور الأشكال، بين ما ادعيناه من الفصاحة العجية فى القرآن" 70 وأوجب على كل ذى عقل ودين أن ينظر فى الكتاب الذى وضعه فيه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 "فإن عَلِم أنه الطريق إلى البيان والكشف عن الحجة والبرهان، تبع الحق وأخذ به. وإن رأى أن له طريقا غيره أومأ لنا إليه ودلنا عليه، وهيهات ذلك! أو كما أضاف، الجرجاني متحدياً: إني أقول مقالا لست أخفيه. . . ولست أرهب خصماً إن بدا فيه ما من سبيل إلى إثبات معجزة. . . فى النظم إلا بما أصبحت أبديه قولوا وأصغوا للبيان تروا. . . كالصبح منبلجا فى عين رائيه ومع الدلائل، قدم الجرجاني (الرسالة الشافية) فى إعجاز القرآن - نشرت مع: ثلاث رسائل فى الإعجاز - وحسب أنه أتى فيها "بما يشفى من له طبع إذا قدحتَه أورى، وقلب إذا أريته رأى. . . فأما من لا يرى ما تريه ولا يهتدى للذى تهديه، فأنت معه كالنافخ فى الفحم من غير نار وكالملتمس الشم من أخشم. وكما لا يقيم الشعر فى نفس من لا ذوق له، لا يفهم هذا البابَ من لم يؤتَ الآلة التى بها يفهم. إلا أنه إنما يكون البلاء أو ظن العادم لها أنه قد أوتيها، وأنه ممن يكمُل للحكم ويصح منه القضاء فجعل يخبط ويخلط ويقول القولَ لو علم عِيه لاستحيا منه. . . "فليس الكلام إذن بمغن عنك ولا القول بنافع، ولا الحجة مسموعة، حتى تجد مَن فيه عون لك، ومن إذا أبى عليك أي ذاك طبعُه فردَّه إليك وفتح سمعه لك ورفع الحجاب بينه وبينك وأخذ به إلى حيث أنت، وصرت ناظره إلى الجهة التى أليها أومأت، فاستبدل بالنفار أنساً وأراك من بعد الإباء قبولا. وبالله التوفيق". *** فى القرن الخامس أيضاً، ظهر ابن حزم الظاهرى (ت 456 هـ) فتصدى للسلف ممن تكلموا فى إعجاز القرآن، واشتدت وطأته على القاضى الباقلاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 فوصفه بالكفر أعظم الكفر، والهذيان المحض والحمق العتيق ونقل من كتابه (الانتصار) أقوالا من باب الدلالة على القرآن معجزة للنبى، صلى الله عليه وسلم، ما رآه من الكفر الصريح والكيد للإسلام، من هذا النذل المستخف الباقلاني. وجاء القرن السادس فلم ير فى فصل ابن حزم ما ينهي الصراع المذهبى بين المفسرين والمتكلمين في الإعجاز والنبوة، كما لم يجد فى شافيهّ الجرجاني ما يشفى غليلا أو يروى ظمأ. ولا صح عنده أن عبد القاهر جاء بدلائل الإعجاز على نحو يؤخذ باليد أو بلغ منها ما قاله من (إقرار الأمور قراوها ووضع الأشياء فى مواضعها، وبيان ما يشكل وحل ما يتعقد والكشف عما يخفى، حتى يزداد السامع ثقة بالحجة واستظهارا على الشبهة واستبانة للدليل"، وتقدم ابن رشد الحفيد (ت 595 هـ) إلى الميدان فأنكر هذه الخصومات المذهبية التى أضرت بالإسلام أشد الضرر. وصرح بأن الأقاويل الشرعية المصرح بها في الكتاب العزيز للجميع، ثلاث خواص دلت على الإعجاز: إحداها أنه لا يوجد أتم إقناعاً وتصديقا للجميع منها. والثانية أنها تقبل النصرة بطبيعها إلى أن تنتهى إلى حد لا يقف على التأويل فيها - إن كانت مما فيه تأويل - إلا أهل البرهان. والثالثة أنها تتضمن التنبيه لأهل الحق على التأويل الحق. وهذا ليس يوجد لا فى مذاهب الأشعرية ولا في مذاهب المعتزلة أعنى أن تأويلاتهم لا تقبل النصرة ولا تتضمن التنبيه على الحق ولا هى حق، ولهذا كثرت، البدع. ." ". . . فعسى أن يكون ذلك مبدأ لمن يأتي بعد، فإن النفس مما تخلل هذه الشريعة من الأهواء الفاسدة والاعتقادات المحرفة، في غاية الحزن والتألم. وبخاصة ما عرض لها من ذلك من قِبَلِ مَن ينسب نفسه إلى الحكمة. فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الأذية من الصديق هى أشد"من الأذية من العدو. أعنى أن الحكمة هى صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة، فالأذية ممن ينسب إليها أشد الأذية مع ما يقع بينهما من العداوة والبغضاء والمشاجرة. وهما المصطحبتان بالطبع والمتحابتان بالجوهر والغريزة. وقد آذاها أيضا كثير من الأصدقاء الجهال ممن ينسبون أنفسهم إليها، وهى الفِرق الموجودة فيها". وفى عصر أبي الوليد ابن رشد، قدم الإمام فخرالدين الرازى - محمد بن عمر، (ت 606 هـ) كتابه (نهاية الإيجاز فى دراية الإعجاز) يوجر به أن يستدرك ما فات غيره وإن عذب ما قالوه وبخاصة عبد القاهر الجرجاني، الذى قال فيه الرازى، فى مقدمة كتابه، إنه "أهمل فى رعاية ترتيب الأصول والأبواب، وأطنب فى الكلام كل الإطناب. . ولما وفقنى الله لمطالعة كتابيه - دلائل الأعجاز، والشافية - التقطت منهما معاقد فوائدهما ومقاصد فرائدهما، وراعيت الترتيب مع التهذيب، والتحرير مع التقرير، وضبط أوابد الإجمالات فى كل باب بالتقسيمات اليقينية، وجمعت متفرقات الكلم فى الضوابط العقلية، مع الاجتاب عن الإطناب الممل، والاحتراز عن الاختصار المخل". وفي القرن السابع أيضاً، قدم ابن أبي الأصبع المصرى (ت 654) كتابه (بديع القرآن) . *** ثم لم يمض غير قرن واحد، حتى كان الإمام يرحيى بن حمزة العلوى - (ت 749 هـ) يرى اليدان قفرأ خاليا، ولا ينقضى له عجب من حال علماء البيان وأهل البراعة فيه عن آخرهم، وهو أنهم أغفلوا بلاغة القرآن فى مصنفاتهم. . مع أن ما ذكروه من الأسرار المعنوية واللطائف البيانية من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 البديع وغيره، إنما هو بيان لطائف الإعجاز وإدراك دقائقه واستنهاض عجائبه. فكيف ساغ لهم تركها وأعرضوا عن ذكرها، وذكروا فى آخر مصنفاتهم ما هو بمعزل عنها،. . "ثم لو عذرنا من كان منهم ليس له حظ فى المباحث الكلامية ولا كانت له قدم راسخة فى العلوم الإلهية، وهم الأكثر منهم، كالسكاكى وابن الأثير وماحب التبيان. . . فما بال من كان له فيها اليد الطولى كالرازى، فإنه أعرض عن ذلك فى كتابه المصنف فى علم البيان، فلم يتعرض لهذا المباحث ولا شَم. منها رائحة، ولكنه ذكر فى صدر (كتاب النهاية) كلاما - قليلا فى وجه الإعجاز، لا ينقع من غلة ولا يشفى من علة ". وقدم ابن حمزة العلوى كتابه الموسوم بالطراز، المتضمن أسرار البلاغة وحقائق الإعجاز، لينقع الغلة ويشفى العلة. *** ولكن القرن التالى، لم يجد فى الطراز أكثر مما وجده مصنفه فى تراث السلف، وألقى البقاعى - برهان الدين بن عمر، ت 885 هـ - دلوه فى النبع السخى، فخرج بكتاب سماه (نظم الدرر) وصفه حاجى خليفة فى (كشف الظنون) فقال (إنه كتاب لم يسبقه إليه أحد. جمع فيه من أسرار القرآن ما تتحير فيه العقول، وأتقن فيه المناسبات، وأوضح المعاني المشكلات. وقال فى بيان فضله: هل رأيتم يا أولي التفسير مَن. . . صاغ تفسيرا كنظم الدررِ دقً معنى جلَّ سبكاً لفظُه. . . فى وجوه الفكرمثل الغرر ولم يمهل الزمن البقاعى فى انتظار جواب ما سأل عنه، بل تصدى له من معاصريه مَن خالفوه وجرحوه، حتى كادت تكون فتنة! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وقد حمل البقاعى ذلك منهم على داء الحسد، فقال فيما نقل حاجى خليفة في الكشف: "إني بعدما توغلت فيه واستقامت لى مبانيه فوصلت إلى قريب من نصفه، فبالغ الفضلاء فى وصفه بحسن سبكه وغزارة معانيه وإحكام رصفه، دبَّ داء الحسد في جماعة أولى نكد ومكر، فصوبوا من سهام الشرور والأباطيل وأنواع الزور ما كثرت بسببه الوقائع وطال الأمر فى ذلك سنين وعَم الكرب" وفات البقاعى أن يدرك أن المجال يتسع لآراء مخالفيه، وأن أعلام السلف قالوا فى مصنفاتهم فى تفسير القرآن ونظمه وإعجازه، مثل ما قال فى كتابه (نظم الدرر) فلم يُسلَّم لأحد منهم أن يدعى القول الفصل فى الكتاب المعجز -. فى القرن الثامن، لخص "البدر الزركشى" الأقوال فى الإعجاز، فى النوع الثامن والثلاثين من كتابه (البرهان فى علوم القرآن) آل إليه الجلال السيوطى فى "فصل فى وجوه الإعجاز" من كتابه (الإتقان فى علوم القرآن) . وفى العصر الحديث، عقد "الشيخ محمد عبده" فى (تفسير الذكر الحكيم) فصلا "فى تحقيق وجوه الإعجاز بمنتهى الاختصار والإيجاز" مهد له بقوله: "وللباحثين فيه أقوال كُتبت فيها فصول وألفت فيها رسائل وكتب. وقد عقدت هذا الفصل لما علمت من شدة حاجة المسلمين أنفسهم إليها، دع أمر دعوة غيرهم أو الاحتجاج عليهم بها. . . "ولعمرى إن مسألة النظم والأسلوب لإحدى الكبر، وأعجب العجائب لمن فكر وأبصر. ولم يوفها أحد حقها على كثرة ما أبدأوا فيها وأعادوا". وجاء من بعده السيد مصطفى صادق الرافعى فنظر فى تراث المكتبة القرآنية فلم يرَ فيه كله شيئاً ذا بال، بل وجد أن القوم من علمائنا رحمهم الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 قد أكثروا من الكلام فى إعجاز القرآن وجاءوا بقبائل من الرأى لونوا فيها مذاههم ألواناً مختلفات وغير مختلفات، بيد أنهم يمرون فى ذلك عُرضا على غير طريق، وويشتقون فى الكلام ههنا وههنا من كل ما تمترس به الألسنة فى اللدد والخصومة وما يأخذ بعضه على بعض من مذاهبهم ونحلهم، وليس وراء ذلك كله إلا ما تحصره هذه المقاييس من صناعة الحق - فسرها بهامشه فقال: كناية عن علماء الكلام، وفنهم يقوم على الجدل والمنطق! - وإلى أشكال من هذه التراكيب الكلامية، ثم فتنة متماحلة لا تقف عند غاية فى اللجاج والعسر. والرافعى لا يتحرج من القول بالظن فى مصنفات السلف: فهر يحكم على كتاب الجاحظ، ولم يصل إلينا، بأنه لم يحاول فيه "أكثر من توكيد القول فى الفصاحة والكشف عنها على ما يفى بالابتداء فى هدا المعنى، إذ كان هو الذى ابتدأ التأليف فيه ولم تكن علوم البلاغة قد وضعت بعد. وقال فى كتاب الواسطى، ولم يصل إلينا كذلك: "ولا نظن الواسطى بنى إلا على ما ابتدأه الجاحظ، كما بنى عبد القاهر فى دلائل الإعجاز على الواسطى " ثم يشير إلى كتاب لابن سراقة فى إعجاز القرآن، ضاع فيما ضاع من تراثنا، فيحكم عليه قائلا: "على أن كتابه لوكان مما ينفع الناس لمكث فى الأرض" وتصدى الرافعى للموضوع الجليل، فتناوله أول الأمر مبحثاً من مباحث كتابه (تاريخ آداب العرب) ثم أفرده مستقلا ليكون كما قال: (كتابا بنفسه، تعم به المنفعة ويسهل على الناس تناوله" ونشره بعنوان (إعجاز القرآن) ولم يحتمل - رحمه الله - أن يختلف معاصروه فى كتابه، فيكون منهم من يراه فصل الخطاب وشهد له بأنه كأنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الذكر الحكيم) كما قال سعد زغلول، ومن يوجب "على كل مسلم عنده نسخة من القرآن أن تكون عنده نسخة من هذا الكتاب " كما قال الدكتور يعقوب صروف فى تقريظه للكتاب. ويكون منهم علماء شيوخ لا يحسنون الرأى فى الكتاب ولايتقبلوفه بمثل ما تقبله به سعد زغلول ويعقوب صروف - وليسا من أصحاب الكلمة فى مثل هذا الموضوع - فيقف الرافعى منهم مثل الموقف الذى أنكره على السلف من "اللدد فى الخصومة والفتنة المتماحلة لا تقف عند غاية فى اللجاج والعسر" كتب فى مقدمة الطبعة الثالثة من (إعجاز القرآن) : "وأما بعد فهذه هى الطبعة الثالثة من نسخ كتابى تظهر اليوم، وإن فينا مع فريق الطاعة فريق المعصية، ومع أهل اليقين عصبة الشك، ومع طائفة الحقيقة دعاة الشبهة، ومع جماعة الهداية أفراد الضلالة. يتخذون الحلم دُرْبة لإفساد الناس وتحليل عُقدهم الوثيقة وتوهين أخلاقهم الصالحة القوية* ويزعمون للعلم معنى إن يكن بعضه فى العلم فأكثره فى الجهل، وإن يكن له صواب فله خطلأ يغمر صوابه وإن كان فيه ما يرجع إلى عقول العلماء ففيه كذلك مايرجع إلى عقولهم هم،، * وناهيك بها عقولا ضعيفة معتلة غلب عليها الكيد وأفسدها التقليد ونزع بها لؤم الطبع شر منزع، حتى استهلكها ما أوبقهم من فساد الخلق، وما يستهويهم من غوايات المدنية، فجاءونا فى أسماء العلماء ولكن بأفعال أهل الجهل، وكانوا فى العلم كالنبات الذى خبُث لا يخرج في الأرض الطيبة إلا خبيثا. . . "وإنك لن تجد سيماهم إلا فى أخلاقهم فتعرفهم بهذه الأخلاق، فستنكرهم جميعا، ولتعلمن عليهم كل سوء، ولترينهم حشو أجسامهم طينا وحماة، فى زعم كذبٍ يسمي لك الطين طيباً والحمأة مسكا! ولتجدن أحدهم وما فى السفلة أسفل منه شهواتٍ ونزغاتٍ، وإنه مع ذلك لُيزوِّر لك ويلبس عليك" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 فما فيه من لون عندك يعيبه إلا هو عنده تحت لون يزينه، ولا رذيلة تقبحه إلا هى فى معنى فضيلة تجمله. فخذ منه الكذب فى فلسفة المنفعة، والتسفلَ فى شفاعة الغريزة، والوقاحة فى زعم الحرية، والخطأ فى علة الرأى، والإلحاد فى حجة العلم، وفسادَ الطبيعة فى دعوى الرجوع إلى الطبيعة! وبالجملة، خذ أفعالهم فسَمها غيرَ أسمائها وانحلها غير صفاتها، واكذِبْ بالألفاظ على المعاني وقل: علماء ومصلحون، وأنت تعنى ما شئت إلا حقيقة العلم والإصلاح. "أيتها الحصاة! ما يسخر منك الساخر بأكثر من أن يجلوك على الناس فى علبة جوهرة. "وأنت أيها القارئ فلا يغرنك منهم من يلبس العمامة ويتسم بسمة الشرع ثم يذهب أين ذهب وشعلة الجحيم العلمية تدور فى رأسه تهفو من هنا وهنا! "وَمَن تراه فى ثياب المعلم يتلبس بالنشء كما يتلبس الداء بعضو حيٍّ لا يدع أبدا أن يغمز غمزة، ويبتلى بما فيه من ضعة وبلاء فلايصلح إلا على إفساد الحياة، ولا يقوى إلا على إضعاف القوى، ولا يعيش إلا على غذاء من الموت، كان هذا المعلم أخزاه الله كان دودة فى قبر ثم نفخه الله إنسانا فيما يبلو به الخلقَ ويضرب الحياة به ضربة انحلال وبِلى وتعفن! "وَمن تراه سخِر به القدر أشد سخرية قط، فضغطه في قالب من قوالب الحياة المصنوعة فإذا هو فى تصاريف الدنيا كاتب مرشد متنصح، ينفث دخان قلبه الأسود ويعمل كما تعمل الأعاصير على إهداء الوجوه والأعين والأنفاس صحفاً منشرة من غبار الأرض، إن لم تكن مرضًا فأذى، وإن لم تكن أذى فضيق، وإن لم تكن ضيقا فلن تكون شيئا مما يساغ أو يقبل أو يحب. "على إنك ترى أصحابنا العلماء لا يتحاملون على شىء، ما يتحاملون على القرآن الكريم. فهم يخصونه بمكاره العلم كله ويجفون عنه أشد جفاء، لكنهم وإياه فى غرورهم وأوهامهم لكالطيارات غرها أن تصعد فى الجو فمضت حاشدة فى حملة حربية إلى فلك الشمس. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وأعتذر عن هذه الإطالة فى نقل فقرات من مقدمة السيد الرافعى لكتابه (الإعجاز) فعباراته فيها تعكس صدى رأى علماء جيله فى هذا الكتاب، بقدر ما تكشف لنا عن طريقته في النظر والتناول، ومنطقه فى البرهنة والاحتجاج وأسلويه فى المناقشة والجدل. . فبمثل هذا التدفق جرى قلمه فى موضوع الإعجاز. وبمثل هذه الطواعية الخطابية صال وجال فى الميدان كمن يقول، كم ترك الأول للآخر! واستراح حيث ظن أنه ألقم الأوائل والآواخر حجراً، وقال: (فى غير الجهات التى كتب فيها كل من قبله "! *** ثم لم يلبث أن صار هو من الأول الذى ترك لنا ما ترك. لم تمض أعوام على ظهور كتابه فى الإعجاز، حتى بدا الميدان لمن بعده خاليا أو يكاد، فرأى الدكتور عبد العليم أن ينشر فى الهند كتاب الباقلاني فى (إعجاز القرآن) فى الوقت الذى رأى فيه الزميل السيد أحمد صقر أن ينشر الكتاب نفسه فى مصر، لأنه فى تقديره "أعظم كتاب ألف فى الإعجاز إلى اليوم". وهو رأى لم يسلم به الدارسون من قدامى ومحدثين، وينقل الزميل فى مقدمته لإعجاز الباقلاني، أن بعض المتعصبين كرهوا نشر الكتاب، قال: "حدثى من أثق بصحة حديثه أن دارا للنشر والطبع استشارت كبيرا منهم فى طبع هذا الكتاب بتحقيقى، فكتب إليها بخط يده يقول: (أنا لا أنصح بطبع كتاب إعجاز القرآن للباقلاني، لأنه ليس أنفسَ كتاب فى موضوعه) . ولما لقيت كاتب هذا التقرير العجيب قذفت سامعتيه بهذا التحدى: دلنى على كتاب واحد فى إعجاز القرآن تربو قيمته على كتاب الباقلاني. فأبلس ولم يحر جوابا" قلت وأنا أقرأ هذا التعليق: رحم الله ابن حزم! ورحمنا الله إن كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 حياتنا عَقُمت، فليس لها أن تعرف من الإعجاز، غير ما قاله قائل منذ عشرة قرون! *** ونبدأ نحن من حيث انتهى السلف، وتراثهم بين أيدينا علامات على الطريق، لا نغض من قيمته ولا نحط من أقدار أهله، وإنما نرى فى كل منهم جهد عصر ومستوى بيئة، وحتمية تقدم وسنة حياة. ونمض ونترك للأجيال بعدنا ما نترك، والباب مفتوح أبداً ليس لأحد أن يدعى أنه أغلقه، والمجال رحب يتلقى كل حين جديدا لن يلبث أن يصير من القديم، دون أن تسلم الحياة بأن أحدا قال الكلمة الأخيرة فيه. لقد قالها الجاحظ من قديم وهو يقدم كتابه (نظم القرآن) إلى الفتح ابن خاقان، وقالها الباقلاني من بعده، والجرجاني وابن حزم والرازى والعلوى والبقاعى. . . فما لبث الزمن أن نسخ ما قالوا. وكذلك قالها الرافعى فى كتابه الذى بدا لسعد زغلول كأنه تنزيل من التنزيل " وأوجب يعقوب صروف "على كل مسلم عنده نسخة من القرآن، أن يقتنى نسخة منه ". فما مضت أعوام حتى جاء من لم ير كتابا ظهر فى الإعجاز بعد كتاب الباقلاني من القرن الرابع للهجرة! فإن تكن الخصومة المذهية والفكرية فيما مضى، قد وضعت قضية الإعجاز فى دوامة الصراع المذهبى والجدل الكلامى والعداوة الشخصية، فإنا نعود بعد هذا كله فنقول ما قلناه فى مستهل هذا المدخل: لعل من إعجاز القرآن أن تظل الأجيال تتوارد عليه جيلا بعد جيل، وهو رحب المدى سخى المورد، كلما حسب جيل أنه بلغ منه مبلغاً، امتد الأفق بعيدا وراء كل مطمح وفوق كل طاقة. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 ومع إدراكي أن الإعجاز البياني للقرآن يفوت كل محاولة وجهد، أتقدم فى خشوع إلى الميدان الجليل فأضع إلى جانب محاولات السلف الصالح، ما هدى إليه عكوفى الطويل على تدبر كلمات الله، من وجهٍ فى هذا الإعجاز: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) . صدق الله العظيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 المبحث الأول 1 - المعجزة 2 - قضية التحدى وآيات المعاجزة 3 - وجوه الإعجاز والبيان القرآني 4 - البلاغيون والإعجاز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 المعجزة من فجر المبعث، فرض القرآن إعجازه على كل من سمعوه من العرب، على تفاوت مراتبهم فى البلاغة، وقد تحير المشركون فى وصفه، وحرصرا على أن يصدوا العرب عن سماعه، عن يقين بأنه ما من عربى يخطئه أن يميز بين هذا القرآن، وقول البشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 قضية الإعجاز البياني بدأت تفرض وجودها على العرب من أول المبعث. فمنذ تلا المصطفى عليه الصلاة والسلام فى قومه ما تلقى من كلمات ربه، أدركت قريش ما لهذا البيان القرآني من إعجاز لا يملك أي عربي يجد حسَّ لغته وذوقها الأصيل، سليقة وطبعًا، إلا أن يسلم بأنه ليس من قول البشر. من هنا كان حرص طواغيت الوثنية من قريش، على أن يحولوا بين العرب وبين سماع هذا القرآن. فكانوا إذا دنا الموسم وآن وفود قبائل العرب للحج، ترصدوا لها عند مداخل مكة، وأخذوا بسبل الناس لا يمر بهم أحد إلا حذروه من الإصغاء إلى ما جاء به "محمد بن عبد الله" من كلام قالوا إنه السحر يفرق بين المرء وأبيه وأخيه، وبين المرء وزوجه وولده وعشيرته. وربما وصلت آيات منه إلى سمع أشدهم عداوة للإسلام، فألقى سلاحه مصدقا ومبايعًا، عن يقين بأن مثل هذه الآيات ليست من قول البشر. حدثوا أن عمر بن الخطاب خرج ذات مساء متوشحا سيفه يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورهطا من أصحابه، فى بيت عند الصفا سمع أنهم مجتمعون فيه، فلقيه فى الطريق من سأله: - أين تريد يا عمر، أجاب: أريد محمدًا هذا الصابئ الذى فرق أمر قريش وسفه أحلامها وعاب دينها وسبَّ آلهتها، فأقتله. قال له محدثه: - غرْتك نفسك ياعمر! أترى بنى عبد مناف تاركيك تمشى على الأرض وقد قتلت محمدًا، أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم، سأله عمر، وقد رابه ما سمع: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 - أي أهل بيتى تعنى، فأخبره أن صهره وابن عمه "سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل " قد أسلم. وكذلك أسلمت زوجه، أخت عمر "فاطمة بنت الخطاب ". فأخذ عمر طريقه إلى بيت صهره مستثار الغضب، يريد أن يقتله ويقتل زوجه فاطمة. فما كاد يدنو من الباب حتى سمع تلاوة خافتة لآيات من سرة طه، فدخل يلح فى طلب الصحيفة التى لمح أخته تخفيها عند دخوله. . . وانطلق من فوره إلى البيت الذى اجتمع فيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بأصحابة، فبايعه. وأعز الله الإسلام بعمر، وقد كان من أشد قريش عداوة للإسلام. وفي حديث بيعة العقبة، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ندب صاحبه مصعب بن عمير ليذهب مع أصحاب العقبة إلى يثرب، ليقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام. فنزل هناك على أسعد بن زرارة الأنصارى الخزرجى. فحدث أن خرجا يومًا إلى حى بني عبد الأشهل على رجاء أن يسلم بعض القوم. فلما سمع كبيرا الحى سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير بمقدم مصعب وأسعد، ضاقا بهما وأنكرا موضعهما من الحى. قال سعد بن معاذ لصاحبه أسيد بن حضير: لا أباً لك! انطلق إلى هذين الرجلين فازجرهما وانههما عن أن يأتيا ديارنا. فإنه لولا أن أسد بن زرارة منى حيث علمتَ، كفيتك ذلك: هو ابن خالتى ولا أجد عليه مقْدَما. والتقط أسيد بن حضير حربته ومضى إلى صاحبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فزجرهما متوعدا: - ماجاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا، اعتزلانا إن كانت لكما بنفسيكما حاجة. قال له مصعب بن عمير: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 - أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهتَه كُفَّ عنك ما تكره، فركز أسيد حربته واتكأ عليها يصغي إلى ما يتلو مصعب من القرآن. ثم أعلن إسلامه من فوره، وعاد إلى قومه فعرفوا أنه جاء بغير الوجه الذى ذهب به. وما زال أسيد بسعد بن معاذ حتى صحبه إلى ابن خالته أسعد بن زرارة فبادره سعد سائلا فى غضب وإنكار: "يا أبا أمامة، لولا ما بينى وبينك من القرابة مارُمتَ هذا منى. أتغشانا فى دارنا بما نكره،! ولم يجب أبو أمامة، بل أشار إلى صاحبه مصعب الذى استمهل سعد بن معاذ حتى يسمع منه، ثم تلا آيات من القرآن، نفذت إلى قلب ابن معاذ فمزقت عنه حجب الغفلة وغشاوة الضلال. أعلن إسلامه وعاد إلى قومه فسألهم: يا بنى عبد الأشهل، كيف تعلمون أمرى فيكم، أجابوا جميعًا: سيدنا، وأفضلنا رأيا، وأيمننا نقيبة. فعرض عيم الإسلام فوالله ما أمسى فى حي بنى عبد الأشهل رجل أو امرأة إلا مسلمًا ومسلمة. وفي ترجمة الصحابى جبير بن مطعم بن عدى القرشى - رضي الله عنه -، أنه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى بعض أسارى بدر، وجبير وقتئذ مشرك، فدخل على المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ فى المغرب بسورة الطور، فلما انتهى - صلى الله عليه وسلم - إلى آيات منها، كاد قلب جبير يطير، ومال إلى الإسلام. وفى حديث العقبة الأولى أن وفد الخزرج أسلموا بمجرد أن تلا عليهم المصطفى عليه الصلاة والسلام، آيات من القرآن، وأقام مصعب بن عمير القرشى سنة فى يثرب يقرأ القرآن فلم ييق بيت من بيوت الأنصار إلا وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 قرآن، فكان أن فتحت يثرب بالقرآن، قل الهجرة بسنتين. هل فرض القرآن إعجازه على هؤلاء الذين استنارت بصائرهم فآمنوا بالمعجزة القرآنية بمجرد سماعهم آيات منها، دون غيرهم ممن لجوا فى العناد والتكذيب، ذهب القاضى أبو بكر الباقلاني إلى هذا، حين عدَّ تفاوت العرب، عصر المبعث، فى الفصاحة، من الوجوه الصارفة عن الإسلام، لمن ظلوا منهم على الشرك والتكذيب أمدًا طال أو قصر. ذكر آية التوبة: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) . فرأى فيها الدليل البين على أن فيهم من يكون سماعه إياه حجة عليه: فإن قيل: لو كان كذلك على ما قلتم، لوجب أن يكون حال الفصحاء الذين كانوا فى عصر النبى - صلى الله عليه وسلم -، على طريقة واحدة عند سماعه،. قيل له: لا يحب ذلك، لأن صوارفهم كانت كثيرة: مها أنهم كانوا يشكون، ففيهم من يشك فى إثبات الصانع، وفيهم من يشك فى التوحيد، وفيهم من يشك فى النبوة. . . فكانت وجوه شكوكهم مختلفة وطرق شبَههم متباينة. فمنهم من قلَّت شبهه وتأمل الحجة حق تأملها ولم يستكبر فأسلم. ومنهم من كثرت شبهه أو أعرض عن تأمل الحجة حق تأملها، ولم يكن فى البلاغة على حدود النهاية فتطاول عليه الزمان إلى أن نظر واستبصر وراعى واعتبر، واحتاج إلى أن يتأمل عجز غيره عن الإتيان بمثله، فلذلك وقف أمره. . . ولو كانوا فى الفصاحة على مرتبة واحدة، وكانت صوارفهم وأسبابهم متفقة، لتوافوا إلى القبول جملة واحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وعاد الباقلاني فأكد المعنى، وأبْعَدَ فسّوى بين العربي الذي ليس في المرتبة العليا من الفصاحة والأعجمي، من حيث لا يتهيأ له "كما لا يتهيأ لمن كان لسانه غير العربية من العجم والترك وغيرهم، أن يعرفوا إعجاز القرآن إلا بأن يعلموا أن العرب - البلغاء - قد عجزوا عن ذلك. . . "وكذلك نقول: إن من كان من أهل اللسان العربي إلا إنه ليس يبلغ في الفصاحة الحد الذي يتناهى إلى معرفة أساليب الكلام ووجوه تعرف اللغة وما يعدونه فصيحاً بليغاً بارعاً من غيره، فهو كالأعجمي في إنه لا يمكنه أن يعرف إعجاز القرآن إلا بمثل ما بينا أن يعرف بع الفارسي الذي بدأنا بذكره. وهو - أي العربي غير البليغ - ومن ليس من أهل اللسان، سواء". ص 171 وفي هذا الكلام نظر، من حيث أن العرب في عصر المبعث فصحاء، وهم وإن تفاوتوا في مراتب البلاغة والاقتدار على فن القول، وتميز منهم خاصة من خطباء بلغاء وشعراء فحول، فما كانوا بحيث يغيب عنهم جيد القول من رديئة، وعاليه من هابطه، أو يفوتهم حِسُّ لغتهم في ذوقها وبيانها. شأنهم في هذا شأن "أم جندب": لم تُعرف لها مشاركة في قول الشعر ولا كان لها حظ منه، ولكنها بحسها اللغوي المرهف سليقة وطبعاً، استطاعت أن تميز مواضع الضعف والقوة في قصيدتي امرئ القيس وعلقمة بن عبدة الفحل، في وصف الخيل. فعامة العرب في عصر المبعث، مهما يتفاوتوا في البلاغة والاقتدار على فن القول، كانت لهم هذه الحاسة النقدية التي أرهفتها سليقة لغوية أصلية لم تفسد. وأرى الباقلاني قد خلط هنا بين الفصاحة وبين القدرة البلاغية: فالفصاحة عامةٌ في العرب قبل أن يخرجوا من جزيرتهم ويخالطوا غيرهم من الأمم مخالطة لغوية. وقد اعتمد علماء اللغة ما سُمع من عرب الجاهلية وعصر المبعث، حجةً في الفصاحة، دون أن يفوت اللغويين في تدوينهم معجم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الفصحى أن العرب الفصحاء ليسوا سواء في المقدرة البيانية والمرتبة البلاغية. وليس الأمر في إعجاز القرآن أن يتوهم كل فرد القدرة على الإتيان بمثله ثم يعجز، أو "أن يكون الرجوع فيه إلى جملة الفصحاء دون الآحاد" كنص عبارة الباقلانى. بل العبرة فيه إنهم جميعاً فصحاء قادرون على أن يدركوا فوت البيان القرآني بلاغَة بلغائهم، وفي هذا أيضاً أرى الباقلانى قد اختلط عليه الفرق بين المعجزة وبين التحدي. فمن حيث هو معجز. الأمر فيه واضح لكل ذي سليقة عربية أصلية. وإدراكُ إعجازه كان ميسراً لهم جميعاً في عصر المبعث لا ينفرد به خاصة بلغائهم دون العامة. وما تلا المصطفى عليه الصلاة والسلام آيات معجزته وهو يُقدر أن البلغاء وحدهم هم الذين يدركون إعجازهم. وأما من حيث تحديهم أن يأتوا بسورة من مثله، فتلك قضية أخرى معروضة على أبلغ بلغائهم ومن يظاهرونهم من جِِنَّ فيما زعموا، على ما يأتي بيان ذلك بتفصيل في قضية التحدي والمعاجزة. ونوجز القول هنا في إيضاح الفرق بين إدراك المعجزة وبين التحدي، فنلفت إلى أن الشاعر العربي كان يقول قصيدته فيتلقاها جمهور المستمعين بالإعجاب والتقدير أو الصد والتهاون. وأما أن يعارضها آخر منهم، فذلك محصور في أقرانه من الشعراء لا يعدوهم إلى عامة القوم. * * * والمشركون من قريش حين كانوا يأخذون سُبُلَ الحاج إلى مكة ليصرفوهم عن سماع القرآن، لم يكونوا يتحرون الخطباء البلغاء والشعراء الفحول منهم أو يُقدرون أن الوافدين على الموسم كانوا سواء في المرتبة البلاغية، بل التقدير أنهم جميعاً عرب خُلص فحاء يجدون حس لغتهم فطرة وطبعاً ويميزون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 أساليبها بسليقتهم اللغوية. ومن هنا كان التوجيه القرآني - في آية التوبة - خاصاً بمن لم يسمعوا منهم كلام الله، وليس بمن هم في المرتبة العليا من البلاغة: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} - 6 والذين بادروا منهم إلى الإيمان بالمعجزة، لم يكونوا جميعاً من صناع القول المشهود لهم بالمرتبة البلاغية العليا، وإنما أدركوا بسليقتهم أن هذا القرآن معجز. والذين تأخر إسلامهم، كانوا في الغالب ممن صَدُّوا عن سماع القرآن أو صُدوا عنه، ثم لما أصغوا إليه آمنوا به، وليسوا جميعاً شعراء وخطباء. أريد لأقرر أن القرآن لن يفرض إعجازه البياني من أول المبعث. على هؤلاء الذين سبقوا إلى الإيمان به فحسب، بل فرضه كذلك على من ظلوا على سفههم وشركهم، عناداً وتمسكاً بدين الآباء ونضالاً عن أوضاع دينية واقتصادية واجتماعية لم يكونوا يريدون لها أن تتغير. وقد أمعنوا في إيذاء المصطفى واضطهاد من آمنوا برسالته وما كان لديه - صلى الله عليه وسلم - ما يواجه به الوثنية الباغية في عنفوان شراستها، سوى كلمات الله يتلوها فتزلزل صروح الوثنية وكأنها تريد أن تنقض. وفي الخبر أن من طواغيت قريش وصناديد الوثنية العتاة من كانوا يتسللون في أوائل عصر المبعث خفية عن قومهم، ليسمعوا آيات هذا القرآن دون أن يملكوا إرادتهم: روى "ابن إسحاق" في السيرة أن أبا سفيان بن حرب الأموي، وأبا جهل ابن هشام المخزومي، والأخنس بن شريق الزهري، خرجوا ذات ليلة متفرقين على غير موعد إلى حيث يستمعون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي ويتلو القرآن في بيته. فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه، ولا أحد منهم يعلم بمكان صاحبيه. فباتوا يستمعون إليه حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 "لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاًَ". ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة التالية. عاد كل منهم إلى مجلسه لا يدري بمكان صاحبيه. فباتوا يستمعون إلى القرآن حتى طلع الفجر فتفرقوا وجمعهم الطريق فتلاوموا، وانصرفوا على ألا يعودوا". لكنهم عادوا فتسللوا في الليلة وباتوا يستمعون إلى القرآن. وفي (السيرة) أيضاً أن الملأ من قريش بعثوا أحد صناديدهم "عتبة بن ربيعة" إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليعرض عليه أموراً أرسلوه بها. فقرأ المصطفى آيات من سورة "فُصَّلَتْ" عاد "عقبة" بعدها إلى قريش مأخوذاً، فما لمحوه حتى صاحوا: عاد أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. وقد تحير المشركون من قريش فيما بينهم، بم يصفون هذا القرآن: قالوا هو شعر، وقالوا هو سحر، وقالوا هم كهانة. وقد عرفوا الشعر كله رجزه وقصيده ومقبوضة ومبسوطة، وعرفوا السحر ونفثه وعُقَدة، وعرفوا الكهانة وسجعها وزمزمتها. وما جهلوا أن القرآن ليس شيئاًَ من ذلك كله، فإذا كانوا قد وصفوه هكذا فلقد أقروا بأن له من السلطان على عقولهم وأفئدتهم ما لم يعهدوا له شبيهاً إلا في أخذة السحر ونفوذ الشعراء والكهان. ذلك حين اجتمعوا في دار الندوة وقد دنا أول موسم بعد المبعث وآن وفود القبائل للحج. وإذ تواطأ طواغيت قريش على أن يأخذوا سبل الناس إلى مكة ويصدوهم عن سماع القرآن. كان عليهم أن يتفقوا فيما بينهم على قول واحد في هذا القرآن يلقون به العرب, حتى لا يختلفوا فيه ويرد بعضهم قول بعض. وشهدت دار الندوة حيرتهم في وصفهم إياه بالسحر أو الشعر أو الكهانة، وإنهم ليعلمون - كما قال قائلهم - أن العرب بحيث لا يفوتها أن تميز القرآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 من قول الشعراء والسحرة والكهان. حتى انتهوا آخر الأمر إلى رأي الوليد ابن المغيرة المخزومي": أن يقولوا: إن محمداً جاء بكلام هو السحر يفرق بين المرء وأخيه وأبيه، وبين المرء وزوجه وولده وعشيرته الأدنين. هو إذن سحر البيان يعرفون سلطانه على الوجدان العربي، فهم في خشية من أن يدرك العرب، كل العرب لا البلغاء والشعراء منهم فحسب، إعجاز البيان القرآني. أو هذا هو ما فهمتُه من وصفهم القرآن بالشعر والسحر، لا على أنهم حملوه حقيقة على النسق المألوف من شعر شعرائهم. وهو أحد وجهين صحًّا لدى الباقلانى. وأما الوجه الآخر مما صح عنده، فهو "أن يكون محمولاً على ما كان يطلق الفلاسفة على حكمائهم وأهل الفطنة منهم في وصفهم إياه بالشعر، لدقة نظرهم في وجوه الكلام وطرق لهم في المنطق، وإن كان ذلك الباب خارجاًَ عما هو عند العرب شعر على الحقيقية". ونضيف في رد هذا الوجه: أن العرب في عصر المبعث يعرفون مذهب الفلاسفة في وصف حكمائهم وذوي الفطنة منهم بالشعر، ولا كانوا يحملون الشعر على دقة النظر في وجوه الكلام وطرق لحكمائهم في المنطق! ثم لا نتعلق بما تصدى له "الباقلانى" من رفض ما قد يزعمه زاعم من إنه وجد في القرآن شعراً. وأورد منه عدداً من الأمثلة، فيها أبيات لأبي نواس - وأين هو من عصر المبعث! - بها عبارات قرآنية على وجه التضمين، لا على وجه كونه شعراً في القرآن. ذلك زعم يحتمل أن يكون قيل بعد عصر المبعث، ورد عليه الجاحظ من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 قبل، بأنك إذا قست الشعر بهذا المقياس، فلن تعدم أن تجد في كل كلام حتى كلام السوقة والباعة، ما تحمله على الشعر!. وما نعلم المشركين خاضوا أيام المبعث، في أن من آيات القرآن ما يمكن أن يُحمل على وزن الشعر ونسقه حين قالوا إن محمداً شاعر، وإنما أرادوا أن للقرآن مثل وقع الشعر على الوجدان والعقل، وذهبوا إلى وصف سحر بيانه، بما ألفوا من وصف روائع شعرهم. وأوهن منه أن يرد الباقلانى على من يسأل عن هذا الوجه في حمل وصف المشركين للقرآن بالشعر على أن فيه مقاطع موزونة كوزن الشعر، بمثل قوله: "أعلم أن الذي أجاب به العلماء عن هذا السؤال سديد. وهو أنهم قالوا: إن البيت الواحد وما كان على وزنه لا يكون شعراً. وأقل الشعر بيتان فصاعداً. وإلى ذلك مذهب أكثر أهل صناعة العربية من أهل الإسلام. "وقالوا أيضاً: إن ما كان على وزن بيتين إلا إنه يختلف وزنهما أو قافيتهما فبيس شعر. "ثم منهم من قال إن الرجز ليس بشعر أصلاً، لاسيما إذا كان مشطوراً أو منهوكاً. وكذلك ما كان يقاربه في قلة الأجزاء. وعلى هذا يسقط السؤال". وأضاف: "ثم يقولون إن الشعر إنما يطلق متى قصد القاصد إليه على الطريق الذي يُتعمد ويُسلك، ولا يصح أن يتفق مثله إلا من الشعراء دون ما يستوي فيه العامي والجاهل، والعالم بالشعر واللسان وتصرفه. وما يتفق من كل واحد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 فليس يكتسب اسم الشعر ولا صاحبُه اسم شاعر، لأنه لو صح أن يسمى شعراً كل ما اعترض في كلامه ألفاظ تتزن بوزن الشعر أو تنظيم انتظام بعض الأعاريض كان الناس لهم شعراء؛ ألا ترى أن العامي يقول لصاحبه: أغلق الباب وائتني بالطعام. ويقول الرجل لأصحابه: أكرموا من لقيتم من تميم. ومتى تتبع الإنسان هذا النحو عرف إنه يكثر في تضاعيف الكلام مثله وأكثر منه". ولخص احتجاجه لنفى الشعر عن القرآن، بأن "من سبيل الموزون من الكلام أن تتساوى أجزاؤه في الطول والقصر والسواكن والحركات، فإن خرج عن ذلك لم يكن موزوناً. . . "وليس في القرآن على الوزن الذي وصفناه أولاً، وهو الذي شرطنا فيه التعادل والتساوي في الأجزاء، غير الاختلاف الواقع في التقفية. ويبين ذلك أن القرآن خارج عن الوزن الذي بينا، وتتم فائدته بالخروج منه. وأما الكلام الموزون فإن فائدته تتم بوزنه" - 84. * * * الباقلانى لم يزد هنا على ما سبقه إليه الجاحظ في رده على من زعم أن في قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} شعراًَ، لأنه في تقدير: * مستفعلن مفاعلن * قال في (البيان والتبيين) : "أعلم إنك لو اعترضت أحاديث الناس وخطبهم ورسائلهم لوجدت فيها مثل: * مستفعلن فاعلن * كثيراً وليس أحد في الأرض يجعل ذلك المقدار شعراً. ولو أن رجلاًَ من الباعة صاح: من يشتري باذنجان؟ لقد كان تكلم بكلام في وزن * مستفعلن مفعولان * فكيف يكون هذا شعراً وصاحبه لم يقصد إلى الشعر، ومثل هذا المقدار من الوزن قد يتهيأ في جميع الكلام؟ وإذا جاء المقدار الذي يُعلم إنه من نتاج الشعر والمعرفة بالأوزان والقصد إليها كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ذلك شعراً. . . وسمعتُ غلاماً لصديق لي، وكان قد سقى بطنه، وهو يقول لغلمان مولاه: اذهبوا إلى الطبيب وقولوا قد اكتوى. "وهذا الكلام يخرج وزنه على خروج: فاعلاتن مفاعلن، مرتين. وقد علمتَ أن هذا الغلام لم يخطر على باله قط أن يقول بيت شعر أبداً. ومثل هذا كثير، ولو تتبعته في كلام حاشيتك وغلمانك لوجدته". والجاحظ لا يسوق هذا الكلام، ردًّا على وصف قريش للقرآن بالشعر وإنما يرد على من التقطوا بعض آيات قرآنية زعموا أنها في وزن الشعر. لكن يوهنه عندي، هذا التنظير بكلام العامة والسوقة، من الحاشية، والغلمان وباعة الباذنجان. فما هانت القضية إلى المدى الذي يساق فيه مثل هذا، في الاحتجاج لنفي الشعر عن البيان الأعلى. مازلت أقول: "إن مثل هذا في كلام الباقلانى عن الوجوه التي يحتملها "ماحكاه القرآن عن الكفار من قولهم إنه شاعر، وإنه هذا شعر" لا موضع له. من حيث أرى أن الكفار من قريش، ما قصدوا إلى أن فيه بعض فقرات موزونة وزن الشعر، ولا خطر لهم على بال أن يتعلقوا بآيات فيه على وزن بيت أو بيتين من قصيد أو رجز، ولا بلغ بهم عقم الطبع وفساد السليقة، أن بيت أو بيتين له بمثل ما يجرى على ألسنة العامة في مبتذل الكلام. وإنما هو سحر البيان، عرفه للقرآن مشركو قريش من قبل أن يسمع غيرهم من سائر العرب كلمات منه، وكان "الوليد بن المغيرة" يتحدث عن سليقة أصلية مرهفة حين لفت قومه إلى أنهم ما إن يقولوا إن القرآن شعر حتى ينكر العرب عليهم ذلك، وإنما غاية ما يبلغون من وصفه أن يقولوا ما نصح لهم به: إن محمداً جاء بكلام هو السحر يفرق بين الرجل وأخيه وزوجه وولده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وهم قد عرفوا سحر الكلام، وأسر البيان. ولا شيء غير هذا أفهمه من نص الحوار الذي دار بينهم أول المبعث، ورواه ابن إسحاق في (السيرة النبوية) . وهو أيضاً ما عنوه حين وصفوه بسجع الكهان، ناظرين فيه إلى ما ألفوا من وقعه على وجدانهم وسيطرته على أفئدتهم، وذلك ما نعرض له بمزيد تفصيل في الحديث عن "السجع ورعاية الفاصلة" في النظم القرآني. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وإذ كانت صفة الشعر هي أقرب ما تعلقوا به، حرص القرآن على أن ينفي عن المصطفى عليه الصلاة والسلام هذه الشاعرية، لا ذمًّا للشعر كما ذهب الباقلانى في الفصل الذي عقده "في نفي الشعر من القرآن"د ولكن لأن الشعر مظنة الالتباس بالمعجزة البيانية، نفاذاً إلى الوجدان العربي وسلطاناً على عقولهم وأفئدتهم وضمائرهم. وأول ما نزل من ذلك، آية "يس" المكية: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} 69، 70. ونص الآية صريح في أنها تحديد لصفة القرآن وبيان لمهمته ورسالته، وليست إعلاناً عن موقف عداء للشعر. بعدها نزلت آية "الصافات" ترد على من جادلوا في المعجزة: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} 36، 37. ثم آية الأنبياء: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} - 5. وآية الطور: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} 29: 31 وكل هذه الآيات مكيات، وكذلك آية "الحاقة" التي نزلت في أواخر العهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 المكي تحسم بأسلوب رادع، ذلك الجدلَ العقيم في صفة المعجزة والرسول: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 38: 43. وأما الآيات المدنية من سورة الشعراء المكية: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} . فلم تأت في سياق نفي الشعر عن القرآن والاحتجاج للمعجزة كما وهم الباقلانى (ص 76) وإنما نزلت في شعراء الأحزاب من قريش، أخذوا مكانهم في المعركة بين الوثنية والإسلام، يَكذبون ويُضلون ويستهوون الغاوين. وليس المقصود بالذم فيها مطلقَ الشعراء بل تمضي الآيات بعدها فتستثنى الشعراء المؤمنين الذين يتقون الله فيما يقولون، وينتصرون للحق دفعاً لما سيموا من ظلم المشركين، وقد وعد الله هؤلاء الشعراء المتقين بنصرهم على الظالمين: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} 227. * * * والسؤال الذي يعرض هنا هو: لم جاءت معجزة النبي العربي بهذا البيان الذي تعلق المشركون في وصفه، بالشعر وبالسحر والكهانة، لما رسخ في يقينهم من سلطانه الذي لا عهد لهم بما يشبهه في كلام البشر، إلا أن تكون أخذةَ السحر وأسرَ الشعر وسيطرة الكهانة؟ ولم لم يؤيد الله رسوله المصطفى بآية من مثل ما جاء به الرسل الأولون كما اقترح الكفار من قومه وهم يحادونه ويجادلونه؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 التفت "الشريف المرتضى" - في: طيف الخيال - إلى ارتباط معجزة النبي العربي بمكان البيان في قومه. وأزيد الموقف إيضاحاً، بما أطمئن إليه، والله أعلم، مما هدى إليه النظر في تاريخ الأديان المقارن من أن معجزات الأنبياء سايرت تدرج البشرية في مراحل تطورها من قديمها البدائي إلى عصر رشد الإنسان. فلقد نلحظ أن موسى عليه السلام تلقى رسالته وقد آن للبشرية أن تجاوز عصر السحر. فكانت معجزته التي غلبت أفانين السحرة في زمنه وتحدت براعة المهرة منهم، ليؤمن المرتابون أن ما جاء به "موسى" ليس في طاقة البشر، ويصدقوا بنبوته فيهديهم برسالته إلى عصر جديد. لكن اليهود ما لبثوا أن زيفوا الرسالة الموسوية وحرفوا كلمات الله عن مواضعها: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} البقرة: 79. ومضى حين من الدهر ضجت البشرية فيه من شر عصابات من يهود، وتزييفهم رسالة نبيهم فكانوا كما قال الله فيهم: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الجمعة: 5. حتى تقلى "عيسى عليه السلام" رسالته وقد آن للبشرية أن تنتقل من عصر عبادة الأبطال البديل من عصر تعدد الآلهة. وإذ كانت البطولة في ذلك الزمن تقترن بالخوارق، جاءت معجزة المسيح الخارقة، لكي يؤمن الناس بنبوته المؤَّيدة بما يجاوز خوارقهم البطولية، فيتبعوه وهو يخلصهم من عبادة الأبطال ويهديهم إلى التوحيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 لكن معجزة المسيح الخارقة، ما لبث أن التبست على كثير من أتباعه، فقالوا بإلوهيته وهو الذي بعث لينسخ عصر الشرك وعبادة البشر، ويدعو عبادة الخالق وحده. ومضت ستة قرون على مبعث المسيح عليه السلام، أنهكت فيها البشرية المتدينة بالصراع الذهبي بين القائلين بلاهوتية السيد المسيح والقائلين بناسوتيته، وآن العقيدة الدينية أن تتحرر من كل شائبة تمس التوحيد وهو جوهر الدين كله. فاصطفى الله لختام رسالاته "محمد بين عبد الله" بشراً سوياً يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وتجوز عليه أعراض البشرية وعواطفها وهمومها، مثلما تجوز على سائر البشر. وكانت المعجزة الكبرى الشاهدة على نبوة هذا البشر الرسول، كتاباً عربياً مبيناً يعيى العرب أن يأتوا بمثله، لكي يصدقوا بنبوته ويتبعوه وهو يقودهم برسالته إلى عصر الإنسان الذي لا يقر بالعبودية لغير خالقه. وإذ جاء الإسلام مصدقاً لما بين يديه من رسالات الله ومهيمناً عليها بما نقى من جوهر الدين الحق، اختتمت به الرسالات بعد أن شارفت الإنسانية في تطورها مرحلة رشدها، وصارت أهلاً لأن تحتمل أمانة إنسانيتها وتكاليف وجودها الحر. وما ينبغي أن يتعلق بالوهم، تجاهلُ المعجزات الأخرى للمصطفى عليه الصلاة والسلام التي تواتر بها الخبر. وإنما الأمر أن موضوع هذه الدراسة خاص بإعجاز القرآن. وليس صحيحاً أن المعتزلة أبطلوا سائر المعجزات غير القرآن، فالحق أنهم أثبتوها معجزة ودلالة على النبوة، وعدُّوها - بالنسبة إلى من لم يشاهدوها، ممن جاءوا بعد عصر المبعث - فرعاً على ثبوت النبوة، لكنهم لم يتعلقوا بها في الاحتجاج والرد على المخالفين. يقول "القاضي عبد الجبار" بعد احتجاجه لثبوت المعجزة القرآنية على وجه الإلزام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 "ولهذه الجملة لم يعتمد شيوخنا في إثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، على المعجزات التي إنما تُعلم بعد العلم بنبوته - صلى الله عليه وسلم -. لأن ثبوت ذلك فرع على ثبوت النبوة، فكيف يصح أن يستدل به على النبوة؟ وجعلوا هذه المعجزات مؤكدة وزائدة في شرح الصدور فيمن يعرفها من جهة الاستدلال.. فأما من يشاهد ذلك - ممن عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - فحاله فيها كحاله مع القرآن، في إنه يمكنه الاستدلال بها كما يمكنه ذلك في القرآن، لأن ثبوتها بالمشاهدة أخرجها من أن يكون عِلمُ المشاهِد لها كالفرع على النبوة، فصح أن يستدل بها على النبوة، ولذلك أعتمد شيوخنا في تثبيت نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، على القرآن، لأن عِلْمَ المخالف به كعلم الموافق، من حيث ظهر نقله - والتحدي به - على وجه الشياع. وهذا هو الذي ذكره شيخنا أبو علي في (نقض الإمامة) على ابن الراوندي، وفي غيره. "فأما من شنع وزعم أنهم أبطلوا سائر معجزات محمد - صلى الله عليه وسلم -، فكلامه يدل على جهل. لأن شيوخنا أثبتوها معجزة ودلالة، لكنهم لم يجوزوا الاعتماد عليها في مكالمة المخالفين". ثم أفرد القاضي عبد الجبار، فضلاً "للكلام في إثبات سائر معجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم - سوى القرآن، وبيان دلالتها على نبوته". ونقل فيه عن شيوخه، أن "من هذه المعجزات ما يُعلم باضطرار، مما حدث في المجامع العظيمة وحصل النقل فن متظاهراً. . . وقد ذكر أبو هاشم في مواضع، فأما شيخنا أبو علي فقد ذكر ذلك في (نقض الإمامة) على ابن الراوندي". * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 (2) الجدل والتحدي وآيات المعاجزة {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (سورة الإسراء 88) {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (سورة البقرة 23 - 24) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 تلا المصطفى عليه الصلاة والسلام، في قومه قريش مل تلقى من كلمات معجزته، فآمن بها من آمن بمجرد أن أصغى إليه. وعز على طواغيت الوثنية القرشية أن يسلموا بنبوة بشر مثلهم، ابن امرأة من قريش تأكل القديد، جاء يسفه أحلامهم وينسخ دين آبائهم ويقوض أوضاعاً سائدة راسخة، توارثوها خلفاً عن سلف، واستقرت عليها حياتهم من قديم الدهور والأحقاب، وتهيأ بها لقريش شرفها ونفوذها الديني والتجاري على قبائل العرب، بحكم استئثارها بالوظائف الكبرى في "أم القرى" مثابة حج العرب، ومركز سيادتها على الأسواق العامة التي كانت تقام هناك بالبلد العتيق في موسم الحج، بعكاظ ومجنة وذي المجاز. . . ولم يأتهم "محمد بن عبد الله" بآية من مثل ما أتى المرسَلون قبله. وتلا عليهم ما أوحى إليه من هذا القرآن العربي المبين، يعرفون كما لا يعرف سواهم أنه معجز، وما عهدوا على "محمد بين عبد الله" كذباً قط، ولا ارتابوا في أمانته ورجاحة عقله وكرم خلقه، لكنهم في مواجهة الدعوة التي ترفض دين آبائهم وتسفه أحلامهم وتمحق عبادتهم وتقوض ما ألفوا من أوضاع، تصدوا لمجادلته في معجزة نبوته. ومن شأن هذه المجادلة أن تورطهم في اتهامه بما يوقنون أنه برئ منه. ولهذا ينبغي أن نفرق في موقفهم من المعجزة، بين حقيقة رأيهم فيها، وبين ما انساقوا إليه من دعاوى جدلية في خصومتهم العنيدة للمصطفى عليه الصلاة والسلام، لعلها تصد العرب عن الإيمان برسالته. وفيما سبق من حديث المعجزة، نقلنا ما كان من حيرتهم في وصف القرآن بالشعر أو السحر والكهانة، مع إقرارهم فيما بينهم وبين أنفسهم بأنه ليس شيئاً من ذلك كله، ويقينهم أنه غير ما عرفوا من كلام البشر. ولم تبلغ بهم الغفلة أن يتصوروا أن العرب يفوت عليهم أن يميزوا بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 القرآن ومنظوم الشعر وسجع الكهان وهمهمة السحر، وإنما تعلق أمل المشركين من قريش، في أن يصرفوا سمع العرب الوافدين إلى مكة في الموسم، عن هذا القرآن. وتكلفوا بأهل مكة، بأن رابطوا في البيت الحرام يحولون بين المسلمين وبين تلاوة القرآن في الحرم، اتقاء نفاذه إلى قلوب المكيين وضمائرهم، مع الإلحاح في اضطهاد من يسلم منهم. ولكن الدعوة مضت تكسب كل يوم مؤمناً بها. . . وكلمات الله تصدع جبروت الوثنية وتزلزل صروحها، فتجذب من حزبِها جنوداً لله، أصحاباً لرسوله عليه الصلاة والسلام. ومع الاضطهاد والتعذيب، كان المسلمون يزدادون ثباتاً على عقيدتهم واستبسالاً في احتمال الأذى. . . وفي مهب الخطر، بدا للمشركين أن يكذبوا الرسول ويتهموه بافتراء القرآن. لا عن ظن بأنه افتراه حقاً، ولا لأن فيهم من تصور "أن الكل قادرون على الإتيان بمثله". ولكن ليلقوا ظلال الريب على رسالته، فيصد عنها من يحرصون على بقاء الأوضاع الموروثة والأعراف الراسخة، ومن يشق عليهم أن يعقوا آباءهم وينسلخوا من دينهم، ومن يشفقون من تصدع كيان القبيلة التي حازت شرف السيادة الدينية وجاه السيطرة الاقتصادية والأدبية على جزيرة العرب. يقول القاضي عبد الجبار: "على أن ما ظهر من أحوالهم يدل على أن القوم لم يكونوا شاكَين في أمر القرآن، لآن استجابة بعضهم تدل على نفي الشك، وكذلك إعظامُ من لم يستجب لحال القرآن، وعدوله إلى ما عدل إليه، وكذلك عدولهم إلى الحرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وغيره، فلا يصح والحال هذه أن يكونوا شاكين في ذلك". * * * واحتدم الجدل على امتداد العهد المكي، من أول المبعث إلى آخر سورة نزلت بمكة وهي سورة المطففين على المشهور: إن محمداً بشر لا يُنكر بشريته، فلماذا لا يقولون إنه تقوَّل القرآن، فهو أفك افتراه، وما عدا أن يكون من قول البشر؟ وفيهم من يكتتبون أساطير الأولين، فماذا عليهم لو زعموا أنها أساطير اكتتبها؟ وفيهم كذلك من التقطوا كلمات من صحف الأولين، وقد يفوت الأمر على من لم يسمعوا القرآن، لو أن المشركين ادعوا إنه تلقى كلمات من تلك الصحف، فهي تُملى عليه بكرة وأصيلاً؟ ويسجل القرآن مفترياتهم لا يكتمها، ويجادلهم فيها بما يهدي كلَّ ذي عقل وبصيرة إلى وجه الزيف فيما زعموا، كما في آيات: القلم: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} 10: 15. {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} 45: 47 المدثر: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} 11: 26 الفرقان: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} 4: 11 ومعها الإسراء: 87: 96. الأنعام: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} 7: 9. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} 25: 26. سبأ: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 43: 47. الأنبياء: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} 1: 10. الحاقَّة: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} 48: 52. العنكبوت: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 48: 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 المطففين: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 10: 14. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 ولقد أملى لهم في هذا الجدل السقيم والمماراة الفاحشة، أن "محمد ابن عبد الله" يقر بأنه بشر مثلهم، وأنه لم يأتيهم بآية مما اقترحوه عليه. وردًّا على هذه المزاعم الجدلية من المشركين، بدأ القرآن من أواسط العهد المكي - الذي أشتد فيه الجدل على ما نقلنا - يواجههم بالتحدي والمعاجزة، حسماً لكل جدل أو ريب فيه، وبرهاناً قاطعاً على إعجازه، وحجة بالغة على من زعموا أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - تقوله وافتراه أو اكتتبه من أساطير الأولين. وأول ما نزل من آيات المعاجزة، آية الإسراء المكية، ردًّا على من جحدوا نبوة الرسول لكونه بَشَراً مثلهم، فكان إعجاز القرآن مع الإقرار ببشرية الرسول عليه الصلاة والسلام، تحدياً جهيراً لهؤلاء الذين أبوا إلا كفوراً واستكباراً: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} 88: 96 بل هو بشر رسول لا ريب في بشريته المماثلة لبشرية سائر الناس، وهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 القرآن معجزة رسالته، يتحداهم مجتمعين، إنساً وجناً، أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، وهذه هي قضية الإعجاز مطروحة عليهم، وهم قوم لُدَّ خَصِمُون. * * * وسورة الإسراء المكية ترتيبها في النزول الخمسون - على المشهور - والتحدي فيها {بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ} . وبعد أن ألقى القرآن هذا التحدي العام، في آية الإسراء، نزلت بعدها آية يونس تتحداهم أن يأتوا بسورة واحدة فحسب، مثل هذا القرآن، وليدعوا من استطاعوا من دون الله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} 38، 39. والمشهور في سورة يونس أنها نزلت بمكة بعد الإسراء مباشرة، إلا الآيات 40، 94، 95، 96 فنزلت بالمدينة (الإتقان 1 / 15) وآية التحدي هي الثامنة والثلاثون فهي في حيز المكيات. والتحدي فيها بسورة واحدة، قطعاً للجدل وتقوية للحجة. بل لماذا وقد زعموا أن محمداً افتراه، لا يأتون بعشر سور مثله مفتريات، وإنه لبشر مثلهم؟ بهذا تحدتهم آية هود التي نزلت بعد سورة يونس مباشرة: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 13، 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 بل لماذا واللغة لغتهم والبيان طوع ألسنتهم، لا يأتون بحديث مثله كما تحدتهم آية الطور: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} 30: 34. وكل هذه الآيات في المعاجزة نزلت قبل الهجرة، من آية الإسراء وترتيبها في النزول الخمسون، إلى آية الطور وهي السورة السادسة والسبعون، على المشهور في ترتيب النزول. وبعدها، في مستهل العهد المدني نزلت آية البقرة، أولى السور المدنيات، والتحدي فيها بسورة من مثله إنهاء لهذا الجدل الذي طال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 23، 24. على هذا النحو حُسِمتْ قضية المعاجزة بالقرآن، وقد نزلت منه في العهد المكي سبع وثمانون سورة، أعيا العرب أن يأتوا بسورة من مثله. ولا وجه لما تعلق به بعض المتكلمين فيما نقل "القاضي عبد الجبار" عنهم، من أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما تحداهم بالقرآن لما قوى أمره وظهر حاله وكثر أصحابه، وعاجلهم بالحرب فمنعهم الخوف من إيراد مثله". وقد نقضه عليهم القاضي عبد الجبار، بما لا نرى ضرورة لنقله هنا، إذ يغنينا عنه أن آيات التحدي - عدا آية البقرة - نزلت قبل الهجرة التي تحول فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة بعد أن بلغت الجولة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 المكية ذروتها الرهيبة من ضراوة الاضطهاد والأذى والفتنة، دون أن يؤذن للمسلمين في قتال. وآية البقرة آخر آيات التحدي، نزلت في مستهل العهد المدني، من قبل أن يبدأ الصدام المسلح بين الإسلام وأعدائه من مشركين ومنافقين ويهود. . . * * * فإلى من، اتجه هذا التحدي؟ هذا أوان ما وعدنا به - في الحديث عن المعجزة - من إيضاح لبيان موقف العرب عصرَ المبعث، بين إدراك المعجزة وبين معاجزته من يدعون منهم إنه من قول البشر، فيلزمهم - لتصح دعواهم - أن يأتوا بمثله إن استطاعوا. وقد سبق القول إن إدراك المعجزة ميسر لكل العرب في عصر المبعث، لا ينفرد به بلغاؤهم دون عامتهم، على ما وَهِم الباقلانى. وأمَّا المعاجزة، فصريح النص القرآني لآياتها، أن التحدي للإنس والجن جميعاً أن يأتوا بمثله. لكن الخطاب فيها موجه إلى المشركين العرب الذين جادلوا في المعجزة، والمقام يقتضي أن من يتصدون للتحدي، إن استطاعوا، هم أعلى البلغاء مرتبة وأقدرهم على البيان، إذ تفرض طبيعة الموقف ألا ينتظر من عامة مشركي العرب التعرض لهذا التحدي، وإنما يندب له بطبيعة الحال من يتوهم في طاقته القدرة عليه. وقد أَلِفَ العرب في مواسمهم في أخريات الجاهلية أ، يقوم الشاعر الفحل منهم فيعاجز كل من حضروا الموسم بقصيدة ينشدها، ويتحداهم أن يعارضوها بمثلها. فلا يُفَهمُ أنه يتجه بالتحدي إلى عامة القوم، وإنما يتجه به إلى أقرانه الأكفاء من فحول الشعراء. والأمر في هذا لا يختلف عن عرفهم في المنافرة، وعن تقاليد فرسانهم وأبطالهم في النزال، حين يقف البطل فيتحدى الناس جميعاً فلا يقوم له منهم سوى أقرانه ونظرائه الأكفاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وموسى عليه السلام، عاجز بآيته قوم فرعون، فندب له أمهر السحرة في زمانه. طبيعة الموقف إذن تفرض أن يعاجز القرآن من يتوهمون في أنفسهم القدرة على الإتيان بمثله نم أمراء البيان، وإن أطلق التحدي عاماً للناس جميعاً. ويؤنس إلى تعلق التحدي بأبلغ بلغائهم قوله تعالى في آيتي التحدي، من سورتى يونس وهود: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . بما تُفهِم من مطالبتهم أن يدعوا للإتيان بمثل هذا القرآن، من يرونهم كفئاً له ويتوهمون أنهم قادرون عليه. وفي هذا يقبل ما ذكره الباقلانى من تفاوت مراتبهم في البلاغة، دون أن يختلط بسياق إدراكهم جميعاً لإعجاز القرآن. ونعجب مع الباقلانى لمن "ذهب إلى أن الكل قادرون على الإتيان بمثله، وإنما يتأخرون عنه لعدم العلم بوجه ترتيبٍ لو علموه لوصلوا إليه. وأعجب منه قول فريق منهم إنه لا فرق بين كلام البشر وكلام الله تعالى في هذا الباب، وإنه يصح من كل واحد منهما الإعجاز على حد واحد". ونراها مما أقحمه بعض المتكلمين على قضية التحدي، فكا خطر على بال المشركين حين تورطوا جدلاً في أن القرآن من قول البشر، أن أحداً من أبلغ بلغائهم يقدر على الإتيان بمثله. * * * والقرآن يتحدى الجن مع الإنس. ونفهم من معاجزة الجن، ما تواترت به المرويات من أن العرب كان الشعر يبهرها فتتصور أن لكل شاعر فحل تابِِعَه من الجن يظاهره ويلهمه روائع القصيد. وشاهده في آية التحدي من سورة الإسراء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} . لكن "الباقلانى" فهم من معاجزة الجن "أن نظم القرآن وقع موقعاً من البلاغة يخرج عن عادة كلام الجن (؟!) كما يخرج عن عادة كلام الإنس، فهم يعجزون عن الإتيان بمثله كعجزنا ويقصرون دونه كقصورنا، وقد قال الله - عز وجل -: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} . "فإن قيل: هذه دعوى منكم وذلك أولئك أنه لا سبيل لنا إلى أن نعلم عجز الجن عن الإتيان بمثله وقد يجوز أن يكونوا قادرين على الإتيان بمثله إن كنا عاجزين، كما أنهم قد يقدرون على أمور لطيفة وأسباب غامضة دقيقة لا نقدر نحن عليها ولا سبيل لنا للطفها إليها، وإذا كان كذلك لم يكن إلى علم ما ادعيتم سبيل. "قيل: قد يمكن أن نعرف ذلك بجزاء بخبر الله - عز وجل -، وقد يمكن أن يقال إن الكلام خرج على ما كانت العرب تعتقده من مخاطبة الجن وما يروون لهم من الشعر ويحكون عنهم من الكلام. وقد علمنا أن ذلك محفوظ عندهم منقول عنهم. والقدر الذي نقلوه من ذلك قد تأملناه فهو في الفصاحة لا يتجاوز حد فصاحة الإنس، ولعله يقصر عنها. ولا يمتنع أن يسمع الناس كلامهم، ويقع بينهم وبينهم محاورات في عهد الأنبياء صلوات الله عليهم، وذلك الزمان مما لا يمتنع فيه وجود ما ينقض العادات. على أن القوم إلى الآن يعتقدون مخاطبة الغيلان، ولهم أشعار محفوظة مدونة في دواوينهم. . . ". ونقل بعدها مختارات في كلام الغيلان أو وصفها، من شعر تأبط شراً، وشمير بن الحارث الضبى، وعبيد بن أيوب، وذي الرمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 على حين أبطل "القاضي عبد الجبار" قول من قال: إن مقتضى تحدي الإنس والجن بالقرآن، ألا نعلم كونه معجزاً إلا بعد أن نعلم تعذر المعارضة على الجن. أبطله بقوله: "قد بينا أنا نعتبر في كونه القرآن ناقضاً للعادات، العادة المعروفة دون ما لا نعرف من العادات، فإذا لم يكن لنا في العقل طريق إلى معرفة الجن أصلاً لأنهم لا يُشاهَدون ولا تعرف أحوالهم بغير المشاهدة، فقد كفانا في معرفة كون القرآن معجزاً، خروجه عن عادة مَن تعرف عادته. ثم إذا علمنا بذلك صحة نبوته وخبَّرنا - صلى الله عليه وسلم - بالجن وأحوالهم، وأنهم كالأنس في تعذر المعارضة عليهم، علمنا أن حالهم كحال العرب، لأن العلم بإعجاز القرآن موقوف على هذا العلم. "يبين ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لو لم يخبرنا بالجن، كنا لا نعلم إيمانهم أصلاً، وكان لا يقدح ذلك في العلم بأن القرآن معجز. وكذلك القول في فقد المعرفة بحالهم. ولولا الخبر الوارد كنا لا نقول إن المعارضة متعذرة فكان لا يقدح في كون القرآن معجزاً، وكان يحل ذلك محل أن يجعل دلالة نبوته تمكنه من حمل الحبال الراسيات وطمر البحار، في أن ذلك إن تعذر على الإنس فقد صار دالاً على نبوته وإن لم نعلم تعذره على الجن أو الملائكة". وفهُمُنا لمعاجزة الجن، على ما قدمنا من توابع الشعراء يظاهرونهم ويلهمونهم، يغنينا عن الخوض في مثل هذا الجدل الغريب والتعلق بمعتقدات العرب في الجن ومغامرات شعرائهم مع الغيلان، احتجاجاً لفوت القرآن فصاحةَ الجن! وقد نرى عجباً من العجب، أن يسوق الباقلانى شعراً لتأبط شراً وذي الرمة وغيرهما، ليحكم به على مستوى كلام الجن والغيلان من جهة الفصاحة! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 والذي حكاه الشعراء العرب عن مغامراتهم مع الغيلان ونقلوه من كلامهم، هو بلا ريب من كلام الشعراء أنفسهم. ودون أن ندخل في مناقشة لحقيقة هذه المغامرات وما إذا كان الشعراء فيها يحكون عن مشاهدة لما تجسَّد من تصوراتهم، أو أن الأمر فيها لا يعدو تجاوب شعرية لمغامرات خيالية. أقول إن الشاعر حين يحكي عن الجن ويتحدث بلسان الغيلان، فبِلُغَته يتكلم وبلسانه هو يعبر: وقد جمع "المرزبانى" في القرن الرابع جملة من (أشعار الجن) في كتاب له بهذا الاسم، أشار إليه أبو العلاء في (رسالة الغفران) حين التقى بالجني "أبي هدرش، الخيتعور، من بني الشيصبان: حيَّ من الجن". وشخصية أبي هدرش من الشخوص المسرحية التي ابتدعها خيال أبي العلاء، ونظم على لسانه قصيدتين مطولتين تحكيان مغامراته. والقصيدتان مشحونتان بغريب الألفاظ، ولا كلمة منها أو من الحوار الذي أنطق فيه أبو العلاء أبا هدرش، يمكن أن نحكم بها على كلام الجن حقيقة، وإنما النصوص كلها لأبي العلاء تصوراً وصياغة ولفظاً! وما تحدثت التوابع والزوابع في (رسالة ابن شهيد) وإنما تحدث "ابن شهيد" بلسانها، شعراًَ ونثراً. وأقرب من هذا إلى ما نحن بصدده من معاجزة الجن، أن نذكر أن القرآن الكريم قد حكى عن الجن، فهل يخرج ما حكاه من ذلك، عن البيان القرآني المعجز، إلا كلام الجن على الحقيقة؟ وهل نطق الهدهد والنملة، بنص الكلمات التي نتلوها في سورة النمل؟ وكذلك قص علينا القرآن من قصص الغابرين، مثل حوار أهل الكهف، ونوح وابنه، وموسى وفرعون والسحرة، وامرأة العزيز ونسوة بالمدينة، والعزيز والملأ من قومه، وإبراهيم والملائكة. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 ولا شيء من هذا كله يمكن أن يخرج عن البيان القرآني المعجز، لنحكم به على فصاحة هؤلاء الغابرين، في اللسان العربي! * * * وتلقانا هنا أيضاً، في قضية التحدي والمعاجزة، مسألة بالغة الدقة، لما داخلها من التباس، وهي: هل كان التحدي موجهاً إلى العرب في عصر المبعث، أو إنه قائم أبداً على امتداد الزمان؟ ذهب فريق ممن كتبوا في الإعجاز إلى "اختصاص أهل العصر الأول بالتحدي" وذهب آخرون إلى أنه "تحد لسائر الناس على مر العصور والأجيال". وتردد بعضهم بين بين، ذهبوا مرة إلى القول الأول، ثم انساقوا إلى القول الثاني من حيث يدرون أو لا يدرون. وقد أرى أن الخلاف في هذه المسألة الدقيقة يحسمه أن نفرق بين الإعجاز والتحدي: الإعجاز قائم في كل عصر لا يختص به أهل زمان دون زمان، وهذا هو ما نفهمه من كلام الإمام الطبري عما أيد الله به المصطفى من معجزة "على الأيام باقية، وعلى الدهور والأزمان ثابتة، وعلى مر الشهور والسنين دائمة". فالحديث هنا عن المعجزة، لا عن التحدي كما فهم من نقل هذه الفقرة من كلام الطبري، واستخلص منها" أن الإعجاز فيها واقع في كل عصر، والتحدي بها لازم لأهل كل زمان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 فإن لم يكن للعرب في عصر المبعث وجه اختصاصٍ بالتحدي، فلأنهم أصحاب هذا اللسان العربي يدركون أسرار بيانه. فمناط التحدي إذن، هو عجز بلغاء العرب في عصر المبعث عن معارضة هذا القرآن جون أن يُفهم من هذا أن حجة إعجازه خاصة بعصر دون عصر، أو على العرب دون العجم. وكان الخلط بين ما في ثبوت عجز المشركين من العرب عن الإتيان بسورة من مثله، من حسم لموقف التحدي، وبين خلود المعجزة وبقاء الحجة بها ثابتة على مر الدهور، هو مدعاة الالتباس في القضية وطول الجدل فيها. وقد نقل "القاضي عبد الجبار" كلام من سألوا عن العجم، ممن لا يعرفون الفصاحة أصلاً، كيف يعرفون مزية كلام فصيح على سواه؟ فإن كانوا لا يعرفون ذلك فيجب ألا يكونوا محجوجين بالقرآن. وردَّ بأن الجميع يعرف إعجاز القرآن، في الجملة، بعجز العرب عن معارضته مع توافر الدواعي. وقد أطال القاضي عبد الجبار الكلام في موقف العجم عن إعجاز القرآن، وهم يعرفون القدر المعتاد من الفصاحة فضلاً عن أن يعرفوا الخارج عن هذا الحد، ونقل أقوال شيوخه في هذه المسألة، ثم قال: "فأما قول من يقول: إن العجم إذا لم يصح فيهم تأتَّي مثل هذا القرآن ولا نعذُّره، فلا ينكشف ذلك فيهم أصلاًَ، فكيف يصح التحدي فيهم والاحتجاج بالقرآن عليهم؟ فبعيد، وذلك لأنا لا نقول إنه - صلى الله عليه وسلم - تحداهم، وإنما تحدى أهل هذا الشأن، وجعل تعذر المعارضة عليهم دلالة على نبوته، ودلالة لسائر الناس على أن القرآن خارج عن العادة. . . فهم يعلمون أن تعذر المعارضة على أهل هذا اللسان هو الدلالة، فإذا أمكنهم معرفة ذلك فحالهم في أن الحجة قائمة عليهم، كحالهم لو عرفوا تعذر المعارضة من قِبَلِهم لو كانوا أهل الفصاحة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 واضطرب "الباقلانى" في موقفه من هذه القضية، فهو يشتد في حملته على خطأ من زعموا اختصاص أهل العصر الأول بالتحدي، "وقالوا: الذي بني عليه الأمر في تثبيت معجزة القرآن، أ، هـ وقع التحدي إلى الإتيان بمثله، وأنهم عجزوا عنه بعد التحدي إليه. فإذا نظر الناظر وعرف وجه النقل المتواتر في هذا الباب، وجب له العلم بأنهم كانوا عاجزين عنه". ثم لا يلبث أن يقول: "إن هذه الآية - المعجزة - عِلْمٌ يلزم الكلَّ قبولُه والانقيادُ له، وقد علمنا تفاوت الناس في إدراكه ومعرفة وجه دلالته، لأن الأعجمي لا يعلم أنه معجز إلا بأن يعلم عجز العرب عنه. وهو يحتاج في معرفة ذلك إلى أمور لا يحتاج إليها من كان من أهل صنعة الفصاحة، فإذا عرف عجز أهل الصنعة حل محلهم في توجُّه الحجة عليه. وكذلك لا يعرف المتوسط من أهل اللسان من هذا الشأن. ما يعرفه العالي في هذه الصنعة. فربما حل في ذلك محل الأعجمي في أن لا تتوجه عليه الحجة حتى يعرف عجز المتناهي في الصنعة عنه. . . "والمرجوع في هذا إلى جملة الفصحاء، دون الآحاد. . . ". وهو في هذا الكلام، لا يبعد عما ذهب إليه الذين ذهبوا إلى اختصاص أهل العصر الأول بالتحدي، فأشتد في نكيره عليهم. وإذ يقول في أهل العصر الأول: "إنا إذا علمنا أن أهل ذلك العصر - عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا عاجزين عن الإتيان بمثله، فمَن بعدهم أعجز، لأن فصاحة أولئك في وجوه ما كانوا يتفننون فيه من القول، مما لا يزيد عليه فصاحة من بعدهم، وأحسن أحوالهم أن يقاربوهم أو يساووهم، فأمَّا أن يسبقوهم فلا". لا يلبث في الفقرة التالية لها مباشرة، أن يهدر اختصاص العرب في عصر المبعث، ويقول بأن التحدي مطروح عليهم وعلى غيرهم على حدَّ واحد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 ذلك "أما قد علمنا عجز سائر أهل الأعصار كعلمنا بعجز أهل العصر الأول. والطريق في العلم بكل واحد من الأمرين طريق واحد، لأن التحدي في الكل على جهة واحدة، والتنافس في الطباع على حد واحد، والتكليف على منهاج لا يختلف". وأخشى أني أظلم القاضي الباقلانى بنقل فقرات من كلامه قد أراها تحدد موقفاً له من قضيتي الإعجاز والتحدي، فالحق أنني ما أكاد أستبين له رأياً في فقرة أنقلها من كلامه، حتى يبدو لي في فقرة أخرى، تالية، غير ما فهمتُه من الفقرة قبلها. وأحسبه ما تحير في موقفه إلا لأنه لم يفصل بين الإعجاز باقياً أبداً ملزماً للناس جميعاً على اختلاف العصور وامتداد الزمن، وبين التحدي للعرب المشركين في عصر المبعث، قد حسمه عجزهم عن أن يأتوا بمثله، وفيهم أمراء البيان ومن يظاهرهم من جن فيما زعموا. وكان "عبد القاهر الجرجاني" أجلى موقفاً وأوضح مسلكاً في بيانه لوجه اختصاص العرب في عصر المبعث بالتحدي، لا يعني اختصاصهم بالإعجاز، بل يعني أن ثبوت عجزهم عن الإتيان بمثله، قاطع الدلالة على عجز سواهم، ومن ثم يكون هذا العجز حاسماً لقضية التحدي، وأما الإعجاز فيبقى قائماً ما بقى الدهر. قال في مقدمة رسالته (الشافية) : "معلوم أن سبيل الكلام سبيل ما يدخله التفاصيل، وأن للتفاضل فيه غايات ينأى بعضها عن بعض، ومنازل يعلو بعضها بعضاً، وأن عِلْمَ ذلك علمٌ يخص أهله، وأن الأصل والقدوة فيه العرب - في لسانهم - ومن عداهم تبع لهم وقاصر فيه عنهم، وأنه لا يجوز أن يُدَّعَى للمتأخرين من الخطباء والبلغاء عن زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -، الذي نزل فيه الوحي وكان فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 التحدي، أنهم زادوا على أولئك الأولين أو كملوا في علم البلاغة أو تعاطيها لما لم يكملوا له. . . "هذا خالد بن صفوان يقول: كيف نجاريهم وإنما نحكيهم؟ أم كيف نسابقهم وإنما نجري على ما سبق إلينا من أعراقهم؟ . . . "والأمر في ذلك أظهر من أن يخفى أو ينكره إلا جاهل أو معاند، وإذ ثبت أنهم الأصل والقدوة، فَبِنَا أن ننظر في دلائل أحوالهم وأقوالهم حين تُلى عليهم القرآن وتُحدوا إليه وملئت مسامعهم من المطالبة بأن يأتوا بمثله ومن التقريع بالعجز عنه، وبُتَّ الحكم بأنهم لا يستطيعونه ولا يقدرون عليه". * * * وما من شك في أن عجز البلغاء من العصر الأول، عن معارضة القرآن، وفيهم أصل الفصاحة، برهان قاطع في قضية التحدي، فحين نقول إنها حَسمت في عصر المبعث، فلا يمكن بحال ما أن تُحمل هذا القول على مظنة اختصاص إعجازه بعصر المبعث دون سائر الأعصار، وإنما معناه أن من هم أصل العربية، لغة القرآن، هم الذين يُفترض أن يواجَهوا بالتحدي، لما يملكون من أسرار لغتهم التي نزل بها الكتاب العربي المبين. فاختصاصهم بالتحدي جاء من كونهم أهل الاختصاص بالعربية لغة القرآن، وقد حسمها عجزهم عن أن يأتوا بسورة من مثله، والمعجزة "على الأيام باقية وعلى الدهور والأزمان ثابتة" كما قال الإمام الطبري في مقدمة تفسيره. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 (3) وجوه الإعجاز والبيان القرآني اختلفت مذاهب السلف من علماء الإسلام في بيان الإعجاز، وتعددت أقوالهم في وجوهه. لكن إعجازه البلاغي لم يكن قط موضع خلاف، وإنما كان الجدل بين الفرق الإسلامية، في اعتباره الوجه في الإعجاز، أو القول بوجوه أخرى معه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 حُسمت قضية التحدي بعجز العرب المشركين في عصر المبعث، عن أن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن. لتظل قضية الإعجاز معروضة على الأجيال المتعاقبة، تلقاهم بهذا السؤال: لماذا أعيا العرب أن يأتوا بسورة من مثله، وقد تحداهم أن يفعلوا، وليدعوا من استطاعوا، وليستظهروا بالجن مجتمعين؟ وقد نزل القرآن بلغتهم، وكانت في عصر نزوله في عز أصالتها ونقائها، لم تَشُبْها شائبة من عجمة، ولا اختلطت بغيرها من الألسن. فكيف عجز شعراؤهم الفحول وأمراء البيان من بلغائهم، ممن عبأتهم قريش لحربها ضد الرسالة والرسول، أن يأتوا بسورة من مثل سورة القصار، وهم الذين خاضوا المعركة ضد الإسلام بسلاح الكلمة وأجهدوا قرائحهم في هجاء المصطفى عليه السلام بقصائد مطولات، كان يغني عنها أن يجتمعوا على الإتيان بسورة من مثل هذا القرآن؟ سورة واحدة فحسب، كانت تعقيهم كذلك من التورط في حملة الاضطهاد السفيهة الشرسة التي أرهقوا بها من أسلم منهم، وتكفيهم شر الحرب التي صَلُوا نارها سنين عدداً وأكلت فلذات أكبادهم وحصدت رءوس صناديدهم. "لو كان ذلك في وسعهم وتحت أقدارهم، لم يتكلفوا هذه الأمور الخطيرة ولم يركبوا الفواقر المبيدة، ولم يكونوا تركوا السهل الدمث من القول إلى الحزن الوعر من الفعل. هذا ما لا يفعله عاقل ولا يختاره ذو لب. وقد كان قومه قريش موصوفين برزانة الأحلام ووفارة العقول والألباب، وقد كان فيهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الخطباء المصاقع والشعراء المفلقون، وقد وصفهم الله تعالى في كتابه بالجدل واللدد فقال سبحانه: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} وقال: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} . . . ومعلوم بالضرورة أن رجلاً عاقلاً لو عطش عطشاًَ شديداً خاف منه الهلاك على نفسه، وبحضرته ماء معروض للشرب فلم يشربه حتى هلك عطشاً، أنه عاجز عن شربه غير قادر عليه. وهذا بَيَّنٌ واضح لا يشكل على عاقل". ويؤكد القاضي المعتزلي عبد الجبار هذا الملحظ ويضيف إليه: "فإن قيل: فقد قال أمية بين خلف الجمحي: "لو نشاء لقلنا مثل هذا". قيل له: إن إدعاء الفعل وإمكانه لا يمنع من الاستدلال على تعذره بأن لا يقع مع توفر الدواعي، يبين لذلك أن كل واحد منا يتمكن من أن يدعى ما يعلم أنه لا يمكنه أن يأتيه. "فإن قال: فكيف استجاز ذلك مع ظهور كذبه؟ قيل له: لا يمتنع على الواحد والجمع اليسير أن يدعى ما يعلم خلافه، على طريق البَهْتِ والمكابرة، لبعض الأغراض. . . "وبعد فإنا لا نُجَوَّز على الجمع اليسير ما ظنه السائل على كل حال، من تواطؤ على ترك المعارضة أو إخفائها، لأنه مع التنافس الشديد والتقريع العظيم وتحرك الطباع ودخول الحمية والأنفة وبطلان الرياسة والأحوال المعتادة والدخول تحت المذلة، لا يجوز في كثير من الأحوال على الواحد أن يسكت عن الأمر الذي يزيل به عن نفسه الوصمة والعار والأنفة، فكيف على الجامعة القليلة أو الكثيرة؟ مثل هذا لا يجوز على عاقل واحد إذا كان من أهل المعرفة فكيف على الجماعة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 "وكيف يجوز أن يدعي فيهم النبوة ويوجب عليهم الدخول تحت الطاعة، ويعدلون عن الأمر الواضح الذي لا شبهة فيه؟ وهل حالهم في ذلك إلا كحال من يجوز عليه من شدة العطش والماء معروض والموانع زائلة، أن يعدل عن تناوله مع شدة الحاجة وتوفر الدواعي إليه؟ وذلك يوجب إخراجهم عن حد العقلاء". * * * ومن قديم فرضت قضية الإعجاز نفسها على السلف من علماء المسلمين على اختلاف مذاهبهم، وتعددت أقوالهم في وجوه هذا الإعجاز. وأيًّا ما قالوا فيها، فالذي لا ريب فيه هو أن إعجازه البلاغي لم يكن قط موضع جدل أو خلاف، وإنما كان الجدل بين الفرق الإسلامية، في اعتباره الوجه في الإعجاز، أو القول معه بوجوه أخرى. وقد تبدو شبهة خلاف فيه، في ضجيج جدلهم الكلامي، لكن الشبهة تنجلي في المال، بإمعان النظر في موقفهم من خلال الجدل المثار. * * * * قال قوم فيه بالصرفة، عنوا بها "أن الله تعالى صرف الهمم عن معارضته" وشاعت نسبة هذا القول إلى المعتزلة بعامة، ونُقل فيه كلام عدد من متقدمي شيوخهم - منهم، أبو إسحاق النظام، إبراهيم بن سيار - وهشام القوطي وعباد بن سليمان. ووجهُ احتجاجهم للصرفة، إنه إذا جاز عقلاً عدم تعذر المعارضة، ثم عجز بلغاء العرب - فضلاً عمن دونهم - عن معارضته وانقطعوا دونه، فذلك برهان على المعجزة "لأن العائق من حيث كان أمراً خارجاً عن مجارى العادات، صار كسائر المعجزات". ولعلهم لم ينظروا في ذلك إلى المعجزة وإنما نظروا إلى دلالتها على النبوة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 فبصرف النظر عن المعجزة ذاتها، يكفي عجز البشر عنها لتكون الآية والبرهان. أو كما قالوا افتراضاً: "ولو كان الله - عز وجل - بعث نبياً في زمان النبوات، وجعل معجزته في تحريك يده أو مدَّ رجله في وقت قعوده بين ظهراني قومه، ثم قيل له: كما آيتك! فقال: (آيتي أن أحرك يدي أو أمد رجلي، ولا يمكن أحداً منكم أن يفعل مثل فعلي) - والقوم أصحاء الأبدان لا آفة بشيء من جوارحهم - فحرك يده أو مد رجله، فراموا أن يفعلوا مثل فعله فلم يقدروا عليه، كان ذلك آية دالة على صدقه، وليس يُنظَر في المعجزة إلى عظم حجم ما يأتي به النبي ولا إلى فخامة منظره، وإنما تعتبر صحتها بأن تكون أمراً خارجاً عن مجارى العادات ناقصاً لها، فمهما تكن بهذا الوصف، كانت آية دالة على صدق من جاء بها". ويبدو أن مثل هذا الاحتجاج للنبوة بصرف الهمَم عن معارضة القرآن، قد أوقع في شبهة أن إعجازه البلاغي غير معتبر عند من لم ينظروا إليه. وذلك ما التفت إليه أعلام المعتزلة أنفسهم، فجهدوا في تقرير وجه إعجاز فصاحته ونظمه، وتجردوا للاحتجاج له. فالجاحظ، وهو من تلاميذ "النظَّام" صنف كتابه (نظم القرآن) احتجاجاً لإعجاز هذا النظم، ومخالفاً به رأي من أكتفوا فيه بالقول بالصرفة، دون نظر إلى بلاغته المعجزة التي تفوت بلاغات البشر. والذي فهمته من كلام القاضي عبد الجبار، وهو من أقطابهم، هو أن الاعتبار الأول عنده لإعجاز القرآن من جهة فصاحته، وأن القول بالصرفة حجة ملزمة لمن قالوا بها. قال في مبحث "بيان صحة التحدي بالكلام الفصيح": "فإن قال - السائل -: هلا قلتم إن التحدي بالقرآن يصح لأمر يرجع إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 التخلية والدواعي، فكأنه يتحداهم أن يأتوا بمثله فيمتنع عليهم ذلك لحصول منع فيهم أو لورود بعض الصوارف عليهم مما يختص القلب أو اللسان. . . فمن أين لكم مع تجويز ما ذكرناه، أنه خارج عن العادة من قدر الفصاحة؟ . . . "قيل له: 'ن الذي ذكرته، لو صح، لأيد ما قلناه في التحدي. لأنه يؤذِن بأنه يصح من وجوه سوى الذي ادعيناه - في خروجه عن العادة في الفصاحة - وإنما يصح هذا السؤال بين من يعترف بإعجاز القرآن إذا اختلفوا في الوجه الذي صار به معجزاً. وغرضنا في هذا الباب الكلام على المخالفين الذين يظنون أن التحدي لا يصح به، على وجه، لكنا مع ذلك نبين فساد ما أوردتَه. وقد علمنا أن المنع من الكلام لا يكون إلا بما يجرى مجرى المنافي له. . . وإنما يقع المنع بأمر يختص محله وآلته، ولا يكون ذلك بما يضاد القدرة أو يغير حال الآلة والبنية. وما هذا حاله، يؤثر في صحة الكلام أصلاً، وقد علمنا أن من كان في زمانه - صلى الله عليه وسلم - من الفصحاء، لم يعتذر عليهم الكلام، فلا يصح أن يقال إنهم اختصوا بمنع، وبانَ هو - عليه الصلاة والسلام - منهم بالتخلية. "فإن قال: امتنع عليهم ذلك بأن أعدمهم الله تعالى العلوم التي معها يكون الكلام الفصيح فصار ذلك ممتنعاً عليهم لفقد العلم؛ "قيل له" لست تخلو فيما ذهبت إليه من وجهين: إما أن نقول: قد كان ذلك القدر من العلم حاصلاً من قبل معتاداً، فمنعوا منه عند ظهور القرآن، أو تقول: إن المنع من ذلك مستمر غير متجدد، وأنهم لم يختصوا، ولا من تقدمهم، بهذا القدر من العلم. فإن أردت الوجه الأول فقد كان يجب أن يكون قدر القرآن في الفصاحة قدَر ما جرت به العادة من قبل، وإنما منعوا من مثله في المستقبل. لو كان كذلك لم يكن المعجز هو القرآن، لكونه مساوياً لكلامهم ولتمكنهم - قبلُ - كم فعل مثله في قدر الفصاحة، وإنما يكون المعجز ما حدث منهم من المنع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 فكان التحدي يجب أن يقع بذلك المنع لا بالقرآن. حتى لو لم ينزل الله تعالى القرآن ولم يظهر أصلاً، وجعل دليل نبوته امتناع الكلام عليهم على الوجه الذي اعتادوه، لكان وجه الإعجاز يختلف. وهذا مما نعلم بطلانه باضطرار، لأنه عليه الصلاة والسلام تحدى بالقرآن وجعله العمدة في هذا الباب. على أن ذلك، لو صح، لم يقدح في صحة نبوته، لأنه كان يكون بمنزلة أن يقول - صلى الله عليه وسلم -: دلالة نبوتي أني أريد المشي في جهة فيتأتى لي على العادة، وتريدون المشي فيتعذر عليكم.. فإذا وُجد الأمر كذلك دل على نبوته، لكون هذا المنع على هذا الوجه ناقضاً للعادة. وإن أراد الوجه التالي مما قدمناه - أي أن المنع مستمر - فهو الذي يعُول عليه. أنا نعلم أن للقرآن المزية في الفصاحة من حيث يحتاج إلى قدر من العلم لم تجر العادة بمثله أن يفعله تعالى فيهم. . . "فأما إدعاء السائل أنه - صلى الله عليه وسلم - توافرت دواعيه وأتى بمثل القرآن، وانصرفت دواعيهم عن فعل مثله فلذلك لم يأتوا به، وأن وجه التحدي في ذلك وقوع الصرف فيهم عن مثله، فبعيد. لأنا نعلم باضطرار توافر دواعيهم إلى إبطال أمره والقدح في حاله، حتى لم يبق وجه في الدواعي إلا توافر فيهم، فكيف يصح مع ذلك إدعاء ما ذكرت؟ "فإن قلت: إن دواعيهم وإن توافرت فإنه تعالى صرفهم عن ذلك بجنس من الدواعي، فهذا يوجب إثبات ما لا يعقل من الدواعي. وإن قلت: إنه تعالى صرفهم بمنع، فهو الذي بَيَّنا فساده من قبل. وهذا الجملة تبطل قول من يتعلق في إعجاز القرآن بذكر الصرفة، لأنها إذا كُشفت فلابد من أن يراد بها بعض ما بينا فساده. ولا معتبر بالعبارات في هذا الباب وإنما المعتبر بالمعاني". إلى هذا المدى، يمضي عبد الجبار المعتزلى في الرد على من يتعلق في إعجاز القرآن بالصرفة، وبيان وجه فساده إن اعتبر فيها بالألفاظ الموهمة احتمالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 القدرة على الإتيان بمثله، في فصاحته، لولا صرفهم عن ذلك. ومدار كلامه، على إعجاز القرآن بفصاحته والتحدي بأن يأتوا بمثله. وقد تجرد لبيان وجه "اختصاص القرآن بمزية في رتبة الفصاحة خارجة عن العادة" ردًّا على من قالوا: "فبَيًّنُوا أن للقرآن هذه الرتبة في الفصاحة ليتم ما ذكرتم" وحين عرض لاختلاف مذاهب العلماء في وجه إعجاز القرآن، صرح بأن فصاحته الخارجة عن العادة هي وجه الإعجاز ومناط التحدي به، قال: "واختلف العلماء في وجه دلالة القرآن: فمنهم من جعله معجزاً لاختصاصه برتبة الفصاحة خارجة عن العادة. وهو الذي نظرناه وبينَّا مذهب شيوخنا فيه. "ومنهم من قال: لاختصاصه بنظم مباين للمعهود عندهم صار معجزاً. ومنهم من جعله معجزاً من حيثُ صرفت همهم عن المعارضة وإن كانوا قادرين متمكنين، ومنهم من جعله معجزاً لصحة معانيه واستمرارها على النظر وموافقتها لطريقة العقل". وفي إبطال الصرفة، بالفهم الشائع، قال: إن المتقدمين قالوا بها لعجزهم عن معارضته. "فلما رأى أتباعهم الأكابرَ ضاق ذرعهم بالقرآن وعدلوا عن المعارضة إلى الأمور الشاقة، تبعوهم في هذه الطريقة لعلمهم بأنهم عن ذلك أشد عجزاً. فذلك استمرت أحوالهم على هذا الوجه، لا للصرفة التي ظنها السائل. ولولا أنهم علموا أن القرآن في أعلى رتبة من الفصاحة الجامعة لشرف اللفظ وحسن المعنى حتى بهرهم ذلك، لقد كان يجوز أن يختلفوا في سائر المعارضة فيكون فيهم من يكفُّ وفيهم من يحاول. . . لكن الأمر في القرآن لَمَّا كان على ما ذكرناه عدلوا عن المعارضة لظهور حاله. ولولا صحة ذلك من هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 الوجه، لقد كان القول بالصرفة يقوى من حيث لم تجرِ العادة مع التنافس الشديد وتباين الهمم وامتداد الأوقات، أن يقع الكفُّ عن الأمر المطلوب الذي قويت الدواعي إلى فعله، فكان يصح أن يُتعلق بالصرفة ويراد بها انصرافهم عن المعارضة وإن كانت غير مؤثرة، دون المعارضة المؤثرة، لأن هذه المعارضة يُعلم أنها لا تحصل، بما قدمناه من الأدلة. لكن ذلك يبعد، لأنه متى جُوز في انصرافهم عنها أن يكون الوجه فيه الصرفة، لم يأمن أن تكون المعارضة الصحيحة أيضاً ممكنة وإنما عدلوا عنها للصرفة التي ذكرها السائل وهذا بين فيما أردناه". و"علي بن عيسى الرماني" وهو من المعتزلة أيضاً، لم يزد في القول بالصرفة، على أن ساقه بإيجاز مع وجوه إعجاز القرآن. قال: "وأما الصرفة فهي صرف الهمم عن المعارضة، وعللا ذلك كان يعتمد بعض أهل العلم في أن القرآن معجز من جهة صرف الهمم عن المعارضة، وذلك خارج عن العادة كخروج سائر المعجزات التي دلت على النبوة. وهذا عندنا أحد وجوه الإعجاز التي يظهر منها للعقول". على حين جعل رسالته كلها (النكت في إعجاز القرآن) للحديث عن إعجازه البلاغي، باستثناء الصفحتين الأخيرتين. ويوشك أن يكون هذا هو الموقف الغالب على المتكلمين في إعجاز القرآن، ممن عدوا الصرفة وجهاً للإعجاز، ثم مضوا ينظرون في بلاغته المعجزة. فالزمخشري المعتزلى، يقرر أنه "لابد من علم البيان والمعاني لإدراك معجزة رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، ومعرفة لطائف حجته". * * * وقد خالف أهل السنة، من قالوا بالإعجاز بالصرفة واكتفوا بها عن النظر في المعجزة. قال "الخطابي" بعد أن ساق كلامهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 "وهذا أيضاً وجه قريب - من وجوه الإعجاز - إلا أن دلالة الآية تشهد بخلافه، وهي قوله سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} . فأشار في ذلك إلى أمر طريقُه التكَلُّفُ والاجتهاد، وسبيله التأهب والاحتشاد. والمعنى في الصرفة التي وصفوها لا يلائم هذه الصفة. فدل على أن المراد غيرها والله أعلم". وذهب إلى أن البشر تعذر عليهم الإتيان بمثل القرآن، "لأنه معجزة البلاغة، جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف متضمناً أحسن المعاني". * * * وسلَّم "ابن حزم الظاهري" بأن في كون القرآن كلام الله تعالى، وقد أصاره معجزاً ومنع من مماثلته، برهاناً كافياً. غير أنه أنكر أن يكون أحد قد قال إن كلام البشر معجز. ونص عبارته في (الفِصَل) : "لم يقل أحد إن كلام غير الله تعالى معجز. لكن لما قاله الله تعالى - أي القرآن - وجعله كلاماً له، أصاره معجزاً ومنع من مماثلته. . . وهذا برهان كاف لا يحتاج إلى غيره". وأراد "الفخر الرازي" أن يتحاشى هذا الخلاف، فقال في تفسير آية المعاجزة من سورة الإسراء: "وللناس في إعجاز القرآن قولان: منهم من قال إنه معجز في نفسه، ومنهم من قال إنه ليس معجزاً إلا أنه تعالى لما صرف دواعيهم عن الإتيان بمعارضته، مع أن تلك الدواعي كانت قوية، كانت هذه الصرفة معجزة. "والمختار عندنا في هذا الباب أن نقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 القرآن في نفسه إما أن يكون معجزاً أو لا يكون. فإن كان معجزاً فقد حصل المطلوب. وإن لم يكن معجزاً بل كانوا قادرين على الإتيان بمعارضته وكانت الدواعي متوافرة على الإتيان بهذه المعارضة، وما كان لهم عنها صارف ومانع، وعلى هذا التقدير كان الإتيان بمعارضته واجباً لازماً، فعدم الإتيان بهذه المعارضة مع التقديرات المذكورة يكون نقضاً للعادة فيكون معجزاً. فهذا هو الطريق الذي نختاره في هذا الباب" نقله "ابن كثير" ورأى أن هذه الطريقة إنما تصلح على سبيل التنزل والمجادلة، لكنها غير مرضية، لأن القرآن في نفسه معجز، قال: "وقد قرر بعض المتكلمين الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة، وقول المعتزلة في الصرفة، فقال: إن كان القرآن معجزاً في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله ولا في قواهم معارضتُه، فقد حصل المدعَّى وهو المطلوب. وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله ولم يفعلوا مع شدة عداوته له، كان ذلك دليلاً على أنه من عند الله لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك. "وهذه الطريقة وإن لم تكن مرضية، لأن القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر معارضته كما قررنا، إلا أنها تصلح على سبيل التنزل والمجادلة والمنافحة عن الحق. وبهذه الطريقة أجاب الرازي في تفسيره عن سؤاله في السور القصار كالعصر وإنا أعطيناك الكوثر". والمسألة كما ترى قد عولجت في مجال الجدل النظري وإن آلت بالمعتزلة أنفسهم، بعد الجيل الأول من شيوخهم، إلى أن اعتبار الصرفة وجهاً من وجوه الإعجاز، لا يعطل النظر في وجه إعجازه البلاغي. والذين ذكروا الصرفة، من غير المعتزلة، استيعاباً لمذاهب المتكلمين في الإعجاز، لم يلبثوا أن خصوا إعجازه البلاغي بالعناية والاهتمام. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 *وقال قوم إن إعجاز القرآن بقيَمه ومثُله وأحكام، ووجههُ استحالةُ أن يأتي مثلها من بشر أمي في قوم أميين، في زمان ومكان هيهات أن يشارفا ذلك الأفق القرآني العالي. وهؤلاء أيضاً لم يكونوا بحيث يفوتهم أن البيان القرآني - أو النظم كما سماه بعضهم - هو الذي فرض إعجازه على العرب من مستهل الوحي، وأن قضية التحدي واجهت المشركين في العهد المكي وحُسمت بآية البقرة أولى السور المدنيات، قبل أن يتم التشريع والأحكام بتمام الوحي في آخر العهد المدني. وهو وإن لم ينصوا على التفاتهم إلى هذا الملحظ، فقد عبر عنه مسلكهم حين أكتفوا بأن عَدُّوا القيم والأحكام بين وجوه الإعجاز، ثم تفرغوا للنظر في الإعجاز البلاغي للقرآن. بل إنهم لم يستطيعوا فصل الأحكام والقيم والمثل القرآنية، عن النظم البليغ المعجز الذي نزلتْ به. فالخطابي يقول شرحاً لهذا الوجه من الإعجاز: "وأعلم أن القرآن إنما صار معجزاً لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمناً أحسن المعاني: من توحيد له عزت قدرته، وتنزيه له في صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان بمنهاج عبادته: من تحليل وتحريم وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم وأكر بمعروف ونهي عن منكر وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساوئها. واضعاً كل شيء منها موضعه الذي لا يُرَى شيء أولى منه. . . "ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور والجمع بين شتاتها حتى تنتظم وتتسق، أمر تعجز عنه قوى البشر ولا تبلغه قُدَرُهم، فانقطع الخلق دونه. . . ". و"الباقلانى" كتب بعض فقرة في "إعجاز المعاني التي تضمنها، في أصل وضع الشريعة والأحكام، والاحتجاجات في أصل الدين والرد على الملحدين" ثم اتجه بكل هذا إلى أن المعاني والأحكام "جاءت على تلك الألفاظ البديعة وموافقة بعضها بعضاً في اللطف والبراعة مما يتعذر على البشر ويمتنع. وذلك أنه قد علم أن تخير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة والأسباب الدائرة بين الناس، أسها وأقرب من تخير الألفاظ لمعان مبتكرة وأسباب مؤسسة مستحدثة. فإذا برع اللفظ في المعنى البارع كان ألطف وأعجب من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرر، والأمر المتقرر المتصور. ثم انضاف إلى ذلك التصرفُ البديع في الوجوه التي تتضمن تأييد ما يُبتدأ تأسيسه ويراد تحقيقه، بَانَ التفاضلُ في البراعة والفصاحة. ثم إذا وجدت الألفاظ وفق المعنى والمعاني وفقها، لا يفضل أحدهما على الآخر فالبراعة أظهر والفصاحة أتم". ويوشك أن يكون هذا هو النهج الغالب على من عدواً قيم القرآن وأحكامه وجهاً من وجوه إعجازه، لم يفصلوها عن نظمه المعجز الذي حشدوا جهدهم للنظر في بلاغته. وإعجاز القيم والمثل والأحكام القرآنية، ليس موضع جدل أو خلاف. لكنه كما التفت الخطابي "ليس بالأمر العام في كل سورة من سور القرآن، وقد كانت المعاجزة بسورة واحدة. ومعلوم بالضرورة أن سورة واحدة لا تجمع كل ما ذكروه من أحكام القرآن ومعانيه ومثله وآدابه"27. فضلاً عن كون التشريع والأحكام، مما اتجهت إليه عناية القرآن في العهد المدني أكثر، بعد حسم قضية المعاجزة، بآية البقرة: أولى السور المدنية. * * * * ويقال مثل هذا فيمن ذهبوا إلى أنه معجز بما ذَكَر من أحداث قبل أن تقع، وأخير عن أمور كانت لا تزال مطوية في مضمر الغيب، ثم حدثت تماماً كما أنبأ عنها. وهو أحد وجوه قال بها الأشاعرة في الإعجاز ولم يختلف أحد معهم في صدق ما أخبر به القرآن من أحداث قبل أن تقع، حتى أصحاب الصرفة من المعتزلة قالوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 به. فشيخهم "النظام" يقرر أن "الآية والأعجوبة في القرآن، ما فيه من الإخبار عن الغيوب". وأهل السنة لم يترددوا في تقرير أن هذا وجه من وجوه الإعجاز، لكنه عندهم ليس الوجه العام الذي يتحقق في كل سورة، فتقع به المعاجزة. والأمر فيه كما قال الخطابي: "وزعمت طائفة أن إعجازه إنما هو فيما يتضمنه من الإخبار عن الكوائن في مستقبل الزمان. نحو قوله سبحانه: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ} وكقوله سبحانه: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} . ونحوهما من الأخبار التي صدقت. . . "قلت: ولا يُشَك في أن هذا وما أشبهه من أخباره، نوع من أنواع إعجازه. ولكنه ليس بالأمر العام في كل سورة من سور القرآن. وقد جعل سبحانه في صفة كل سورة أن تكون معجزة بنفسها لا يقدر أحد من الخلق أن يأتي بمثلها فقال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} من غير تعيين - للسورة - فدل ذلك على أن المعنى غير ما ذهبوا إليه. ويوضح القاضي عبد الجبار مذهب المعتزلة في هذا الوجه: إن اعتبرُ به في صدق النبوة فصحيح، وأما أن يقال إنه مناط التحدي بإعجاز القرآن، فبعيد. أو كما قال: "فأما من قال إنه - صلى الله عليه وسلم - إنما تحدى بالقرآن من حيث تضمن الإخبار عن الغيوب، فبعيد، لأنه قد تحدى بمثل كل سورة من غير تخصيص، ولا يتضمن كل ذلك الإخبار عن الغيوب. ولأنا نعلم أنه تحدى بجملته لا ببعضه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 "فإن قال: جوَّزوا، وإن كانت المعارضة ممكنة، أنهم ظنوا أنه تحداهم بما تضمنه من الإخبار عن الغيوب. ولولا ظنهم ذلك لما طلب بعضهم إلى بعض أخبارَ الفرُس. قيل له: إن هذا الوجه مما يدل على النبوة - على ما سنذكره - لكنه - صلى الله عليه وسلم - تحدى بالقرآن لمرتبته في قدر الفصاحة، لا لما ذكرتَه، للوجوه التي بيَّناها من قبل. ولا يجوز في العرب أن تنصرف في هذا الباب عن الطريقة المعتادة لهم في التحدي، إلى طريقة غير معتادة. لأنهم قد عرفوا أن المنازعة والمباراة في سائر الكلام كيف تقع، وأنه لا معتبر فيه بالمعاني - وحدها - وإنما يعتبر قدوه في الفصاحة: إما على كل وجه، أو في نظم مخصوص، على ما تقدم ذكره. وذلك يُسقط هذا السؤال". أضيف إليه: أن كثيراً من الصحابة آمنوا بالمعجزة، بمجرد سماع آيات منها. وأن كل السابقين الأولين سبقوا إلى الإسلام إثر نزول السور الأول من الوحي، دون أن ينتظروا حتى تتحقق أحداث أنبأ بها ليدركوا وجه إعجازه. وهذا الملحظ نفسه، وارد على من ذهبوا إلى أن القرآن كان معجزاً، بما جاء به من أخبار الماضي الغابر "ووجهه أنه كان معلوماً من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان أمياً، ولم يكن يعرف شيئاً من كتب المتقدمين وأنبائهم وسيرهم. ثم أتى القرآن بجمل ما وقع وحدث من عظيمات الأمور ومهمات السير، من حين خلق الله آدم عليه السلام إلى حين مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - ". والذين ذكروا هذا الوجه في الإعجاز، لم يستطيعوا أن يفصلوه عن البيان القرآني. وقد علموا أن التوراة والإنجيل فيهما الكثير من أخبار الأمم الخالية وقصص الأنبياء منذ خلق الله سبحانه آدم. ولعلها في التوراة والإنجيل أكثر تفصيلاً. ولم يقل أحد إن الكتب السماوية كانت معجزات لرسلها وآيات نبوتهم، ولا علمنا أن عيسى وموسى عليهما السلام، تحديا قومهما أن يأتوا بسفر أو إصحاح من مثل التوراة والإنجيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وواضح أن القرآن قدر مكان البيان في العرب، ودرايتهم بفنون القول، بحيث يستطيعون أن يحكموا في إعجازه. * * * * والإعجاز البلاغي هو الذي "ذهب إليه الأكثرون من علماء أهل النظر" وسيطر على مباحث المتكلمين في الإعجاز، سواء منهم من جعلوه الوجهَ الذي يصح به التحدي بالسورة الواحدة من القرآن، ويفسر موقف العرب، عصرَ المبعث، من المعجزة، والذين ذكروا مع إعجازه البلاغي غيره من وجوه الإعجاز الأخرى التي لا مشاحة فيها، وإنما الخلاف في أن تنفصل عن إعجاز نظمه وبلاغته. والواقع أن المصنفات الأولى في الإعجاز، على اختلاف مذاهب أصحابها، جاءت أشبه بمباحث بلاغية مما قدروا أن إعجاز القرآن يُعرف بها، وإن استوعبت أقوال المتكلمين في وجوه الإعجاز، فرسائل الخطابي السني، والرماني المعتزلى، والباقلانى الأشعري تأخذ مكانها في المكتبة البلاغية. وبعد أن استقلت البلاغة بالتأليف والتصنيف، وُجَّهت إلى خدمة الإعجاز البلاغي: "الجرجاني" يضع كتابه في النظم والبلاغة ويقدمه باسم (دلائل الإعجاز) . و"أبو هلال العسكري" يضع علم الفصاحة والبلاغة تالياً لعلم التوحيد، ويقدم (كتاب الصناعتين) بقوله: "أعلم علمك الله الخير أن أحق العلوم بالتعلم وأولاها بالحفظ، بعد المعرفة بالله جل ثناؤه، علمُ البلاغة والفصاحة، الذي يعرف به إعجاز كتاب الله". و"الزمخشري" البلاغي، وهو من المعتزلة، يقرر أنه "لابد من علم البيان والمعاني لإدراك معجزة رسول الله ومعرفة لطائف حجته". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 و"ابن سنان الخفاجي" وإن قال بالصرفة وصرح بأنا "إذا عُدنا إلى التحقيق وجدنا وجه إعجاز القرآن صرف العرب عن معارضته" قرر في مقدمة (سر الفصاحة) أنه "لابد لمن يبحث في إعجاز القرآن من معرفة سر الفصاحة والبلاغة، سواء أقال بالصرفة أو بغيرها". و"السكاكى" إمام البلاغيين المدرسيين، يقول في كتابه مفتاح العلوم: "أعلم أن إعجاز القرآن يدرك ولا يمكن وصفه، كاستقامه الوزن تدرك ولا يمكن وصفها، وكما يدرك طيب النغم العارض للصوت. ولا يدرك تحصيله لغير ذوي الفطرة إلا بإتقان علمي المعاني والبيان والحذق فيهما". و"حمزة بن يحيى العلوي" يصنف كتابه المرسوم بالطراز في (أسرار البلاغة) ، يتلوها فصل في حقائق الإعجاز، يمهد له بأن "الكلام في بيان كون القرآن معجزاً، خليق بإيراده في المباحث الكلامية والأسرار الإلهية لكونه مختصاً بها ومن أهم قواعدها، لما كان علامة دالة على النبوة وتصديقاً لصاحب الشريعة، حيث اختاره الله تعالى بياناً لمعجزته وعلماً دالاً على نبوته وبرهاناً على صحة رسالته". ثم يؤكد صلة المباحث البلاغية بالإعجاز، من حيث "كانت وصلة وذريعة إلى بيان السر واللباب. والغرض المقصود عند ذوي الألباب، إنما هو بيان لطائف الإعجاز وإدراك دقائقه واستنهاض هممه". من هنا كان بدؤه بالمباحث البلاغية مدخلاً إلى هذا الفصل في الإعجاز. وقد نقلنا في مدخلنا هنا، عَجَبه الذي لا ينقضي من حال علماء البيان وأهل البراعة فيه لما أغفلوا من هذا الشأن. وجرى المتأخرين على أن يجمعوا في الإعجاز كل ما قال السلف من وجوه. كصنيع "الشيخ محمد عبده" في الفصل الذي كتبه في تفسيره عن الإعجاز فبدأ بإعجازه بأسلوبه ونظمه وبلاغته، وبتأثيره في القلوب والعقول. ثم ذكر إعجازه بأخبار الغيب فيه، وتعبيره عن المعاني بما يقبله المختلفون في فهمها مع موافقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الحق، وبسلامته من الاختلاف، وبالعلوم الدينية والتشريع، وبعجز الزمان عن إبطال شيء منه، وتحقق مسائل كانت مجهولة للبشر. * * * ولا أعرض هنا للذين خاضوا حديثاً فيما سموه "الإعجاز العلمي" وتأولوا فيه آيات قرآنية في اختراع الذرة وسفن الفضاء وقانون الجاذبية ودوران الأرض وهندسة السدود، وغير ذلك مما لم يخطر على بال أي عربي في عصر المبعث وصدر الإسلام، ولا كان بحيث يلتقط لمحةً منه، أيُّ صحابي من ألوف المؤمنين الذين لقوا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وأصغوا إلى كلمات ربه فبهرهم إعجازها وخروا لله ساجدين. وهل كان طواغيت الوثنية القرشية وهم يأخذون سبل العرب إلى مكة في الموسم ويحذرونهم من الإصغاء "إلى ما جاء به محمد من كلام هو السحر" يحسبون حساباً لأي شيء سوى إدراك العرب أن هذا البيان القرآني ليس من قول البشر؟ لا أحد يحجر على أي إنسان في أن يفهم القرآن كما يشاء، ولكن المحنة أن يؤلَّف فيه من ليسوا من أهل الاختصاص، وتروج في البيئة الإسلامية أقاويل وتأويلات مقحمة على القرآن نصاً وروحاً، لا يعرف لها فقهاء العربية والإسلام والمتخصصون في القرآن، سنداً ولا دليلاً، وإنما تستند إلى ملتقطات من معارف المحدثين، في التشريح وعلم الأجنة ورياضيات الفلك وبيولوجيا القمر.. والتكنولوجيا. . . و. . . ولا شيء من هذا صح في أي خبر أن الرسول عليه الصلاة والسلام قاله لتلاميذه الصحابة لكي يفهموا هذا الإعجاز العلمي، فضلاً عن أن يبينوه للناس!. وقد يلفتنا أن أكثر المحدثين ممن خاضوا في مجال التفسير العلماني وصنفوا الكتب في القرآن والعلوم، ردوا النظريات والكشوف العلمية في عصرنا إلى أصول لها في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 القرآن وليسوا من أهل الاختصاص في الدراسة القرآنية وعلوم العربية والإسلام. وطالما نبه علماء الدراسات القرآنية إلى ما ينبغي لكل دارس يتعرض لشيء منها، من اختصاص بالعربية وفقه لأساليب كلامها، وإطلاع على طرق المتكلمين وأصول الدين. و"من هنا تهيب كثير من السلف - كما قال الخطابي - تفسير القرآن، وتركوا القول فيد حذراً أن يزلوا فيذهبوا عن المراد، وإن كانوا علماء باللسان فقهاء في الدين. فكان الأصمعي، وهو إمام أهل اللغة، لا يفسر شيئاً من غريب القرآن". * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 (4) البلاغيون والإعجاز البياني خطوات على الطريق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 هذا الإجماع على إعجاز البيان القرآني، هو الذي نقل القضية إلى الميدان البلاغي على وجه التخصيص، إلى جانب ما يعرض له المفسرون، وبخاصة البلاغيون منهم، من ملاحظ بلاغية في سياق تفسيرهم لآيات الكتاب المحكم. وقد ظهرت محاولات مبكرة في الإعجاز البلاغي، واشتهر عبد القاهر الجرجاني بأنه صاحب مذهب الإعجاز في النظم، واشتهر أبو بكر الباقلانى بأنه أول من بسط القول في بلاغة القرآن. والواقع أن كل المصنفات الأولى التي تحمل عنوان (نظم القرآن) تشير إلى أن مصنفيها اتجهوا إلى الدرس البلاغي "احتجاجاً لنظم القرآن" كما قال الجاحظ في تقديمه كتاب (نظم القرآن) إلى الفتح بن خاقان، ومثله كتاب أبي بكر السجستاني في (نظم القرآن) والكتابان من تراث القرن الثالث. وإذا كنا لا نملك الحكم على مناهج المصنفين الأوائل في الإعجاز البلاغي، ممن لم تصل إلينا كتبهم، فلننظر في مناهج الذين بقيت كتبهم معالم لخطواتهم على الطريق. سبق "الخطابي" من القرن الرابع الهجري - ت 388 هـ - في رسالته (بيان إعجاز القرآن) إلى شرح فكرة الإعجاز بالنظم، إيضاحاً للإعجاز من جهة البلاغة "الذي قال به الأكثرون من علماء أهل النظر" قبله، وإن كانت فكرتهم فيه قائمة على نوع من التقليد وضرب من غلبة الظن. أو كما قال: "وفي كيفيتها - جهة البلاغة - يعرض لهم إشكال ويصعب عليهم منه الانفصال. ووجدتُ عامة أهل هذه المقالة - الإعجاز من جهة البلاغة - قد جروا في تسليم هذه الصفة للقرآن على نوع من التقليد وضرب من غلبة الظن دون التحقيق له وإحاطة العلم به، ولذلك صاروا إذا سئلوا عن تحديد هذه البلاغة التي أختص بها القرآن، الفائقة في وصفها سائر البلاغات، وعن المعنى الذي يتميز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 به عن سائر أنواع الكلام الموصوف بالبلاغة، قالوا: إنه لا يمكننا تصويره ولا تحديده بأمر ظاهر نعلم به مباينة القرآن غيره من الكلام، وإنما يعرفه العالمون عند سماعه ضرباً من المعرفة لا يمكن تحديده. وأحالوا على سائر أجناس الكلام الذي يقع فيه التفاضل، فتقع في نفوس العلماء به عند سماعه معرفةُ ذلك، ويتميز في أفهامهم قبيلُ الفاضل من المفضول منه. قالوا: وقد يخفى سببه عند البحث ويظهر أثره في النفس حتى لا يلتبس على ذوي العلم والمعرفة به. قالوا: وقد توجد لبعض الكلام عذوبة في السمع وهشاشة في النفس لا يوجد مثلها لغيره منه، والكلامان معاً فصيحان، ثم لا يوقف لشيء من ذلك على علة. "قلت: وهذا لا يقنع في مثل هذا العلم، ولا يشَفى من داء الجهل به، وإنما هو إشكال أُحِيلَ على إبهام. . . "فأما من لم يرضَ من المعرفة بظاهر السمة دون البحث عن ظاهر العلة. . . فإنه يقول إن الذي يوجد لهذا الكلام من العذوبة في حس السامع الهشاشة في نفسه، وما يتحلى به من الرونق والبهجة التي يباين بها سائر الكلام حتى يكون له هذا الصنيع في القلوب وتَحصى الأقوال عن معارضته وتنقطع به الأطماع عنها، أمر لابد له من سبب، بوجوده يجب له هذا الحكمُ وبحصوله يستحق هذا الوصف" 24: 26 ومناط البلاغة في النظم القرآني، عند الخطابي، إنه "اللفظ في مكانه إذا أبدل فسد معناه أو ضاع الرونق الذي يكون منه سقوط البلاغة" 29 وهذا الملحظ الدقيق، هو المحور الذي أدار عليه عبد الظاهر مذهبه في الإعجاز بالنظم، وهو أيضاً مما يلتقي - إلى حد ما - مع جوهر فكرتنا في الإعجاز البياني، ثم نختلف بعد ذلك في تحقيق مغزاه ولمح أبعاده وطريق الاحتجاج له: فالخطابي حين يقول بسقوط البلاغة لفساد المعنى أو ضياع الرونق، يتجه إلى الرونق اللفظي فيجعله غير فساد المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وسنرى الجرجاني يعتمد هذه التفرقة بين المعنى واللفظ أساساً لنظريته في النظم، على حين لا نرى اللفظ منفصلاً عن معناه بحيث يمكن أن يصح أحدهما والآخر فاسد، بل يفسد المعنى بفساد لفظه، ولا عبرة عندنا برونق لفظي مع فساد المعنى. ثم إن الخطابي في شرح فكرته في النظم المعجز، يرى من الإعجاز أن تأتي بلاغات القرآن جامعة لطبقات ثلاث متفاوتة من حيث المستوى بعد استبعاد الهجين المذموم. قال: "والعلة فيه - يعني إعجاز القرآن من جهة البلاغة - أن أجناس الكلام مختلفة ومراتبها في نسبة التبيان متفاوتة ودرجاتها في البلاغة متباينة غير متساوية: فمنها البليغ الرصين الجزل، ومنها الفصيح القريب السهل، ومنها الجائز الطلق. وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود، دون النوع الهجين المذموم الذي لا يوجد في القرآن شيء منه البتة: "فالقسم الأول أعلى طبقات الكلام وأرفعه. والقسم الثاني أوسطه وأقصده، والقسم الثالث أدناه وأقربه، فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة، وأخذت من كل نوع من أنواعها شعبة، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة" 26 والعبارة موهمة، قد يُفهم منها أن في القرآن ما هو من الدرجة العليا في البلاغة وفيه ما هو من أوسطها وأدناها. وذلك مردود عندنا من ناحيتين: أولاهما: أن فهمنا للإعجاز البياني، فوت لأعلى درجات البلاغة دون أوسطها وأدناها. والأخرى، أن هذه الدرجات الثلاث لا تجتمع، بالضرورة، في السورة الواحدة، وبسورة واحدة كان التحدي والمعاجزة. وسبق "الخطابي" أيضاً إلى لمح فروق دقيقة في الدلالة، لألفاظ قرآنية جرت معاجمنا وكتب المفسرين على القول بترادفها مع "ألفاظ أخرى في معناها" مثل: العلم والمعرف، الحمد والشكر، العتق وفك الرقبة، (29: 33) . . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وهذا أيضاً مما نتزود به لطريقنا إلى فهم الإعجاز البياني، على ما سوف نوضحه في: "الترادف وسر الكلمة". وتجرد الخطابي لدفع شبهات من جادلوا في بلاغة عبارات قرآنية قالوا إنها جاءت على غير المسموع من فصيح كلام العرب. وفي ردَّ الخطابي عليهم ملاحظُ دقيقة، غير أنا نختلف معه، من حيث المبدأ، في قبول عرض العبارات القرآنية على ما نقل عصر التدوين من فصيح كلام العرب. والأصل أن يعرض هذا الذي نقلوه على القرآن، إذ هو الفصحى والنص الموثق الذي لم يصل إلينا من أصيل العربية بنص آخر صح له مثل ما صح للقرآن من توثيق يحميه من شوائب الرواية النقلية، وما لألفاظه من حرمة لا تجيز رواية بالمعنى، فضلاً عما في الشواهد الشعرية من ضرورات لا مجال لمثلها في الشواهد القرآنية. وتفرغ الخطابي في النصف الأخير من رسالته، لنقض ما سموه "معارضات للقرآن" من مدّعي النبوة، فبسط القول في معنى المعارضة وشروطها ورسومها، وضرب الأمثلة من معارضات امرئ القيس وعلقمة في وصف الفرس، وامرئ القيس والحارث بن التوءم اليشكرى في إجازة أبيات، كما ضرب أمثلة من تنازع الشاعرين معنى واحداً، كأبيات في وصف الليل لامرئ القيس والنابغة الذبيانى، وفي وصف الخمر للأعشى والأخطل، وفي صفة الخيل لأبي دؤاد الإيادي والنابغة الجعدي. وقابل هذا كله إسفاف مسيلمة الكذاب وسُخف من تكلم في الفيل مبيناً سقم كلامهم وعدم استيفائه شروط المعارضة ورسومها. . . ولهذا الفصل من رسالة الخطابي قيمته في المباحث البلاغية والنقدية المبكرة. ونرى مع ذلك أن أبا سليمان كان في غنى عن الاشتغال بهذيان من ادّعوا النبوة بعد عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجاءوا بسخافات هابطة سقيمة يعارضون بها القرآن فيما زعموا. وهي عندنا أهون من أن توضع في الميزان أو يشار إليها في مجال الاحتجاج لإعجاز القرآن من جهة البلاغة. ومجرد ذكرها في هذا المقام الجليل، ولو للكشف عن سقمها وإسفافها، يرفع شأنها ويعطيها من القيمة ما لا تستحق. . . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وبلاغة القرآن هي موضوع "علي بن عيسى الرماني" - من القرن الرابع أيضاً - في رسالته (النكت في إعجاز القرآن) : مهد لها بسرد مذاهب القوم في وجوه سبعة للإعجاز، ثم تفرغ للنظر في إعجازه من جهة البلاغة. والبلاغة عنده على ثلاث طبقات، عليا ووسطى ودنيا "فما كان أعلاها طبقة فهو معجز، وهو بلاغة القرآن. وما كان دون ذلك فهو ممكن كبلاغة البلغاء من الناس" 75 خلافاً لما ذهب إليه أبو سليمان الخطابي من أن بلاغة القرآن تحوز هذه البلاغات في طبقاتها الثلاث. وليست البلاغة عند الرماني: "في إفهام المعنى، لأنه قد يُفهِمُ المعنى متكلمان أحدهما بليغ والآخر عَيِىّ، ولا البلاغة أيضاً بتحقيق اللفظ على المعنى، لأنه قد يحقق اللفظ على المعنى وهو غث مستكره ونافر متكلف. وإنما البلاغة إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ: فأعلاها طبقة في الحُسن بلاغة القرآن وأعلى طبقات البلاغة للقرآن خاصة" 76 ثم كان منهجه في بيان إعجاز القرآن من جهة البلاغة، أن جعل البلاغة عشرة أقسام: الإيجاز، والتشبيه، والاستعارة، والتلاؤم، والفواصل، والتجانس، والتصريف، والتضمين، والمبالغة، وحسن البيان. وعقد لكل باب منها فصلاً يبدأ بتعريف الباب، ثم يقدم شواهد قرآنية منه، ففي باب الإيجاز مثلاًَ، يبدأ فيعرفه بأنه "تقليل الكلام من غير إخلال بالمعنى. وهو على وجهين: إيجاز حذف، وإيجاز قِصَر. فالحذف إسقاط كلمة للاجتراء عنها بدلالة غيرها من الحال أو فحوى الكلام. والقصر بنية الكلام على تقليل اللفظ وتكثير المعنى من غير حذف" ثم يقدم من شواهد الحذف: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} {لَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ} {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} "ومنه حذف الأجوبة وهو أبلغ من الذكر. وما جاء منه في القرآن كثير كقوله جل ثناؤه: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} كأنه قيل: لكان هذا القرآن. ومنه: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} كأنه قيل: حصلوا على النعيم المقيم الذي لا يشوبه التنغيص والتكدير. "وإنما صار الحذف في مثل هذا أبلغ من الذكر لأن النفس تذهب فيه كل مذهب، ولو ذكر الجواب لقصر على الوجه الذي تضمنه البيان. "وأما الإيجاز بالقصر دون الحذف فهو أغمض من الحذف وإن كان الحذف غامضاً، للحاجة إلى العلم بالمواضع التي يصلح فيها من المواضع التي لا يصلح. فمن ذلك: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} واستطرد الرماني إلى بيان وجه الإعجاز بإيجاز القصر في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} عن طريق المقارنة بينها وبين ما استحسنه الناس من الإيجاز في قولهم: "القتل أنفى للقتل" فذكر أن التفاوت بينهما يظهر من أربعة أوجه: - أن العبارة القرآنية أكثر فائدة، ففيها كل ما في قولهم: القتل أنفى للقتل، مع زيادة معان حسنة، منها إبانة العدل لذكره القصاص، وإبانة الغرض المرغوب فيه لذكره الحياة، والاستدعاء بالرغبة والرهبة لحكم الله. - الإيجاز في العبارة، فعدد حروف "القتل أنفى للقتل" أربعة عشر حرفاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وقوله تعالى {الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} عشرة أحرف. - البعد عن التكليف بالتكرير الذي فيه على النفس مشقة. ففي قوله: "القتل أنفى للقتل" تكريرٌ غيرهُ أبلغُ منه. ومتى كان التكرير كذلك فهو مقصَّر في البلاغة عن أعلى طبقة. - العبارة القرآنية أحسن تأليفاً بالحروف المتلائمة، يُدْرَك بالحس ويوجد في اللفظ. فإن الخروج من الفاء إلى اللم - في القصاص - أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة - في: القتل أنفى - لبعد الهمزة من اللام. وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء، أعدل من الخروج من الألف إلى اللام. "فباجتماع الأمور التي ذكرناها صار (الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) أبلغ من (القتل أنفى للقتل) وإن كان بليغاً حسناً" واستأنف الرماني القول في الإيجاز، فأوضح الفرق بينه وبين التقصير، وذكر أوجه الإيجاز ومسالكه ومراتبه، من حيث كانت المعرفة بها "سبيلاً إلى معرفة فضيلة ما جاء في القرآن منه على سائر الكلام، وعلوه على غيره من أنواع البيان" وختم الباب بقوله: "الإيجاز تهذيب الكلام بما يحسن به البيان. والإيجاز تصفية الألفاظ من الكدر وتخليصها من الدرن. والإيجاز البيانُ عن المعنى بأقل ما يمكن من الألفاظ. والإيجاز إظهار المعنى الكثير باللفظ اليسير" 80. * * * وعلى هذا النهج سار "الرماني" في الأبواب الأخرى التسعة، للبلاغة عنده. وقد تمهلت في الوقوف عنده دون ضجر بنقل ما نقلتُ منه، لأني أقدر أن الرماني قدم في (النكت) محاولة جليلة من المحاولات الرائدة في التصنيف البلاغي وتنسيق أبواب ومصطلحات فيه. كما أردت أن ألفت إلى كونه لم يخرج عن موضوع الإعجاز فيما عرض له من أبواب البلاغة، بل كان همه أن يقدم لكل باب شواهده القرآنية، وان يلمح بذوق مرهف ما فيها من نكت بلاغية. وهذا ما نفتقده في أكثر الكتب التي تناولت إعجاز القرآن من جهة البلاغة، بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 الرماني. فنرى الباقلانى مثلاً يُخرج في كتابه عن الدراسة القرآنية إلى دراسات للشعر، ونرى عبد القاهر يستكثر في (الدلائل) من الاستشهاد بالشعر. وقلما يأتي بشواهد قرآنية تجلو الملحظ البلاغي. وهذا هو ما غلب على جمهرة المصنفين من البلاغيين فيما عدا قلة منهم جعلت للشواهد القرآنية المكان الأول في مباحثها البلاغية، كابن أبي الأصبع المصري - في القرن السابع - الذي سار في (بديع القرآن) على نهج الرماني، في تقديم الشاهد القرآني. ونرجئ التعرض لرأي الرماني في بلاغة اللفظ والمعنى إلى حيث يتسع المجال لمثل هذا في "مذهب النظم للجرجاني" ونتابع خطوات السلف على الطريق، انطلاقاً من هذه الخطوة الرائدة التي وصل إليها جهد الرماني في دراسته البلاغية للقرآن، وقد بدا واضح الفكرة والمنهج، لم تختلط عنده بالجدل الكلامي، ولا شُغل عنها بالنظر في هذيانِ مُدَّعِى معارضة القرآن. * * * وفصاحة القرآن كانت مناط النظر، في الجزء الخاص بإعجاز القرآن، من (كتاب المغني) للقاضي المعتزلى عبد الجبار. لم يتناوله تناول البلاغيين، كزميلة الرماني، وإنما كان همّه الاستدلال لإعجاز القرآن، من جهة فصاحته التي انفرد بها، وصحة التحدي به. فاقتضى هذا بطبيعة الحال، أن ينظر في مفهوم الفصاحة وإعجازها، فكان أن عرض لقضية النظم، مقصوداً به النمط الخاص من صياغة الكلام، وبيَّن وجهة نظر المعتزلة فيها. والملحظ الدقيق في النظم عنده. بمعنى النسق والطريقة، أنه لا يكفي عدم السبق إلى مثله، ليكون وجهاً لإعجاز. وإلا كان يجب القول بإعجاز من يبتدع طريقة ركيكة من النظم، لم يُسبق إليها "وقد علمنا أنه لابد من أن يُعتبر مع النظم المبتدع، رتبتُه في الفصاحة". ومن ثم ينبغي أن يتبين المقصود بالنظم: إن أريد به مجرد السبق إلى طريقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 مبتدعة، فبعيد "وإن أراد من قال: "إن وجه إعجاز القرآن النظم المخصوص" هذا المعنى، وهو أنه تعالى خصه بالقرآن على نظام لم تجر العادة بمثله، مع اختصاصه برتبة في الفصاحة - معجزة - فهو الذي بينَّاه. لأن خروجه عن العادة في الفصاحة، يوجب كونه معجزاً، بإنفراد واختصاصه بنظم، من دون هذا الوجه لا يوجب كونه معجزاً. وإنما يُقوى ويؤكد كونَه معجزاً فإن سلَّم هذا المخالفُ بما ذكرناه، فهو الذي نصرناه. "فإن قال: إنه يكون معجزاً للنظم فقط، ولكونه على هذه الطريقة المباينة لمنظوم كلامهم ومنثورة، وإن لم يختص برتبة الفصاحة، فالذي قدمناه يبطله. ومتى اعتُبر في كونه معجزاً كلا الأمرين: فإن أراد أنه بمجموعهما يتم ذلك، فقد بينا أنه قد يتم بأن يَبيِن من كلامهم برتبة عظيمة في الفصاحة. وإن أراد أنه يؤكد ذلك فهو صحيح، وهذا هو الأقرب. لأنهم لا يريدون النظام دون رتبة الفصاحة، وإنما يريدون بذلك أنه تعالى جاء بالقرآن على أوكد الوجوه في نقض العادة والمباينة، وأوكدها أن يكون نظاماً مبايناً لما تعارفوه، مع رتبته العظيمة في الفصاحة، وهذا بيَّن". ولم ير "القاضي عبد الجبار" أن إبدال لفظة بأخرى موضع تعلق، "وذلك لأن هذه الطريقة تقارب الحكاية، فكما أن حكاية الكلام لا تدل على معرفة، فكذلك وضع لفظة بدل أخرى ووزنهما واحد، لا يدل على المعرفة. وإن كان من يتمكن في هذا الباب، لابد من أن يكون له قدر من العلم بالألفاظ التي تتفق معانيها وأوزانها، حتى يمكنه أن يأتي بَدلَ واحدة منها ما يماثلها أو يقاربها، لكن هذا القدر من العلم لا يكفي في التصرف المخصوص الذي قدمنا ذكره، لأنه يحتاج في ذلك إلى قدر مخصوص من العلم زائد على ذلك، حتى يمكنه أن يورد هذا القدر من الفصاحة، وبذلك أبطلنا قول من يقول: إن المفحم يمكنه قول الشعر على هذه الطريق؛ لأن إبدال الكلمات لا يُعدَ تمكيناً من الشعر وإن كان الكلام شعراً. حتى إذا صح منه أن يبتدئ ذلك ويتصرف فيه، عُدَّ ذلك منه شعراً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وعقد القاضي فصلاً (في اختصاص القرآن بمزية في رتبة الفصاحة خارجة عن العادة) فلم يتناول الموضوع تناول البلاغيين بل مضى على طريقته في الاستدلال لإعجاز القرآن بعلو مرتبته في الفصاحة إلى حيث بايَنَ الفصيح من كلام العرب، وأعياهم أن يأتوا بمثله، قال: بينا أن العرب كانت عارفة بما يباين المعتاد من الفصيح، للتجربة والعادة. فلم تكن عند سماع القرآن والوقوف على مزيته محتاجة إلى تجربة مجددة، وعلمت خروجَه عن العادة. ومَن قصَّر حاُله عن حالهم فكَمِثْل، لأنه إذا عرف بالتجربة تعذر مثل كلامهم عليه، فبأن يتعذر عليه أوْلى. وإن كان لا يمتنع أن يكون في العرب من ظن في الوقت أن مثل القرآن يواتيه إن رامه، ثم تبين تعذره. وإن كان ذلك - الظن - يبعد من أهل التقدم في الفصاحة، كما يبعد ممن جرب مقادير ما يمكنه أن يفعله، أن تلتبس عليه حال الأمور العظيمة. وقد أورد بعضُ شيوخنا عند جحد بعض اليهود أن للقرآن مزية، بعض ما ذكرناه من حال العرب. ثم تلا عليه قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وبعضهم تلا قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . وإذا تأمل السامع لقوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} إلى آخر الآيات، علم أن كزيته على ما نسمع من الكلام الفصيح عظيمةٌ، وإنما يشتبه مثلُ ذلك على من لاحظَّ له" 16 / 134 ثم كان أكثر ما تجرد له القاضي عبد الجبار: الرد على مطاعن المخالفين في القرآن (337) وبطلان القول بأن للتنزيل في القرآن تأويلاً باطناً غير ظاهر، على ما يحكى الباطنية (363) وبطلان طعنهم في القرآن بأن فيه تناقضاً واختلافاً فيما يتصل باللفظ والمعنى والمذهب (387) وبيان فساد طعنهم من جهة التكرار والتطويل وما يتصل بذلك (397) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وفي كل ذلك، كان يجادل على طريقة الكلاميين لا البلاغيين. وحسبنا على كل حال، أنه أكد نصره لوجه إعجاز القرآن بفصاحته، وأعطانا مفهوماً محرراً لمعنى النظم: لا يراد به مجردُ طريقة مبتدعة في صياغة الكلام تُباين ما عرف العرب من منظوم ومنثور، وإنما انفرد معها برتبه في الفصاحة عرفها أهلُ التقدم منهم بمجرد سماعه، دون أن يظنوا أن مثل القرآن يُواتى من رامه. . . * * * وجاء "الباقلانى" في أواخر القرن الرابع، فقدم كتابه المشهور في (إعجاز القرآن) ، وليس دراسة قرآنية خالصة للإعجاز كما يُفهم من عنوانه وكما تَعدِ مقدمتُه، بل هي أقرب إلى الجدل الكلامي والمذهبي، والنقد الأدبي لنصوص طوال، من الشعر والنثر. ففي الفصول الأولى، يتصدى الباقلانى لتخطئة أقوال في الإعجاز، رفضها الأشاعرة وهو منهم، ولإبطال زعم من زعموا أن علم وحدانية الله لا يمكن بالقرآن، والرد على زعم المجوس أن بعض كتبهم معجز. . . وهو في هذا كله يورد شبهات الخصوم دون ذكر أسمائهم، ويشتد في تجريحهم والطعن عليهم والزراية بهم. بعد ذلك ينقل عن الأشاعرة ثلاثة أوجه في الإعجاز، فلا يطيل الوقوف عند الأول والثاني منها - الإخبار عن غيب المستقبل، وعن الماضي منذ خلق الله آدم - بل يمر بهما سريعاً كي يخلص للوجه الثالث وهو "بديع نظم القرآن وعجيب تأليفه وتناهيه في البلاغة" فتحسبه قد تجرد للدرس البلاغي لبديع نظم القرآن، لكنه لا يلبث أن يستطرد بين حين وآخر إلى جدل كلامي مُجهِد. بل إنه فيكا يختص بالفصول البلاغية التي عقدها، لا يفرغ للنظر في أسرار البيان القرآني، وإنما يعمد إلى نقل قصائد وخطب طوال من مختار الشعر والنثر، ويتعجل النقد لما ينقده منها "لكيلا يتوهم متوهم أن جنس الشعر معارض لنظم القرآن، فتخطفه الطير أو تَهوِى به الريح في مكان سحيق". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وقد يكتفي بإيراد النصوص الشعرية والنثرية المختارة، ويعقب عليها بأن هبوطها عن مستوى النظم القرآني لا يخفى على ذي بصر وبصيرة. نقل نصوصَ سبع خطب للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكتابيه إلى كسرى والنجاشي، وعهد صلح الحديبية، ليقول بعدها: "إن من كان له حظ في الصنعة وقسط من العربية، لا يشتبه عليه الفرق وكلام النبي" عليه الصلاة والسلام. ونقل بعدها خطبة لأبي بكر الصديق، وعهده إلى عمر، وكتابين من أبي عبيدة ابن الجراح ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب ورده عليهما، وعهده إلى أبي موسى الأشعري في القضاء، وخطبةً لعثمان بن عفان، وكتابه إلى علي بن أبي طالب، ورثاء عليَّ لأبي بكر، وخطبتين من خطب الإمام علي، وكتابه إلى عبد الله بن عباس، وخطباً لابن مسعود - رضي الله عنهم جميعاً - وعمر بن عبد العزيز، والحجاج بن يوسف، وقس بن ساعدة، وخطبة أبي طالب فر زواج محمد - صلى الله عليه وسلم - من خديجة - رضي الله عنها - (169: 234) وعقب على هذا الحشد الكاثر - الذي ملأ به سبعين صفحة - بعبارة توجز القول بأن "من تأمل الخطب المتقدمة ونحوها، سيقع له الفصلُ بين كلام الآدميين وكلام رب العالمين". وملأ ثلاث صفحات من كلام مسيلمة الكذاب وسجاح التميمية، ليقول: "ومن كان له عقل لم يشتبه عليه سخف هذا الكلام" (238: 240) وتتبع القصائد المشهورة لكبار الشعراء، ينقلها وينقدها بيتاً بيتاً، حتى لتستغرق القصيدة الواحدة بضع عشرات من الصفحات، كمعلقة امرئ القيس (243: 277) وقد انتهى منها إلى القول: "فأما نهج القرآن ونظمه، وتأليفه ورصفه، فإن العقول تتيه في جهته وتحار في بحره وتضل دون وصفه. ونحن نذكر لك في تفصيل حذا ما تستدل به على الغرض وتستولي على الأمد وتصل به إلى المقصد، وتتصور إعجازه كما تتصور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 الشمس وتتيقن تناهي بلاغته كما تتيقن العجز. . . وأعلم أن هذا علم شريف المحل عظيم المكان قليل الطلاب ضعيف الأصحاب، ليس له عشيرة تحميه، ولا أهل عصمة تفطن لما فيه، وهو أدق من السحر وأهول من البحر وأعجب من الشعر. "ولو لم يكن من عظم شأنه إلا أنه طبق الأرض أنواره وجلل الآفاق ضياؤه ونفذ في العالم حُكمُه وقُبِل في الدنيا رسمه، وطَمسَ ظَلام الكفر بعد أن كان مضروب الرواق ممدود الأطناب مبسوط الباع مرفوع العماد. . . فكان كما وصفه الله تعالى جل ذكره من أنه نور فقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} الآية "فأنظر إن شئت إلى شريف هذا النظم وبديع هذا التأليف وعظيم هذا الرصف، كلُّ كلمة من هذه الآية تامة، وكلُّ لفظ بديع واقع" 284 وتتوقع بعد هذا أن يفرغ الباقلانى لما "تستدل به على الغرض وتستولى على الأمد وتتصور إعجاز النظم القرآني كما تتصور الشمس". فإذا به يستأنف نقل النصوص الطوال من شعر البحتري وأبي نواس وابن الرومي وأبي تمام وابن المعتز وأبي فراس، ومختارات من نثر الجاحظ وابن العميد. . . ليقول إن هذا كله مما يمكن أن يوازي بغيره أو يعارض، احتجاجاً لما ذكره قبل هذه الصفحات المئات، من أن نظم القرآن: "ليس له مثال يحتذى عليه ولا إمام يقتدي به، ولا يصح وقوع مثله اتفاقاً كما يتفق للشاعر البيت النادر والكلمة الشاردة والمعنى الفذ الغريب والشيء القليل العجيب. وكما يلحق من كلامه بالوحشيات ويضاف من قوله إلى الأوابد. لأن ما جرى هذا المجرى ووقع هذا الموقع فإنما يتفق للشاعر في لُمَعٍ من شعره وللكاتب في قليل من رسائله وللخطيب في يسير من خطبه. ولو كان كل شعره نادراً ومثلاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 سائراً ومعنى بديعاً ولفظاً رشيقاً، وكل كلامه مملوءاً من رونقه ومائه، ومحلى ببهجته وحسن روائه، ولم يقع فيه المتوسط بين الكلامين والمتردد بين الطرفين، ولا البارد المستثقل والغث المستنكر، لم يبن الإعجاز في الكلام ولم يظهر بَيَّنُ التفاوتِ العجيب بين النظام والنظام" 164 ومن أشق الأمور على دارس ينظر في كتاب الباقلانى، أن يستخلص له من بين ذلك الحشد الكاثر من الجدل الخطابي والنصوص الطوال من الشعر والنثر، فكرةَ ّواضحة في الإعجاز البلاغي لنظم القرآن. فقد عقد بعد هذا كله فصلاً "في وصف وجوه من البلاغة" بدأه بقوله: "ذكر بعض أهل الأدب والكلام أن البلاغة على عشرة أقسام" ثم نقل هذه الأقسام العشرة عن "الرماني" - لم يصرح باسمه -، فملأ بها ثلاثين صفحة (396: 426) ثم تعقبها بالنقد الذي لا يستبين منه مذهبٌ واضح في الإعجاز البلاغي في بديع نظم القرآن. وفيما تناوله من أنواع هذا البديع، بمعنى البلاغة، لم يلتزم منهج الرماني في الاستشهاد بالقرآن، بل قدم مع الشواهد القرآنية شواهد من الشعر والنثر. وربما بدأ بتقديم هذا الشواهد من كلام البشر، ثم عقب عليها بقوله: "ونظير ذلك في القرآن. . . " أو: "ومثله في القرآن. . . " وهذا التنظير والمماثلة، مما ينبو عنه حِسَّ من يدرك أن الإعجاز البياني لا يحتمل وجودَ المثل والنظير. . . وأقدم هنا مثلاً من نظر "الباقلانى" في الإعجاز البلاغي، وأسلوبه في التنظير: "ويعدون من البديع، الموازنة، وذلك كقول بعضهم: "أصبر على حر اللقاء ومضض النزال وشدة المِصاع" - أي المجالدة بالسيف - وكقول امرئ القيس: سليم الشظا عبل الشوى شنج النَّسَا. . . له حجبات مشرفات على الفال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 "ونظيره من القرآن: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} "ومن البديع صحةُ التقسيم، ومن ذلك قول نصيب. . . وقول الآخر. . . وقول المقنع الكندي. . . وكقول عروة بن حِزام. . . "ونحوه قول الله - عز وجل -: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} . "ومن البديع التكميلُ والتتميم، كقول القائل: "وما عسيت أن أشكرك على مواعيد لم تُشَنْ بمكل، ومرافدَ لم تُشَب بمنَّ، وبِشْرٍ لم يمازجه مَلَقٌ، ولم يخالطه مذق. . . وكقول نافع بن خليفة: رجال إذا لم يقبلوا الحق منهمُ. . . ويعطوه، عادوا بالسيوف القواطع وذلك كقول الله - عز وجل -: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ. . .} الآية. "ومن البديع الترصيعُ، وذلك على ألوان. . . منها قول امرئ القيس: مخش مجش مقبل مدبر معاً. . . كتيس ظباءِ الحُلَّبِ العدوان ومن ذلك كثير من مقدمات أبي نواس: يا مِنَّةً امتنَّها السُّكْرُ. . . ما ينقضى منى لها الشكر" ثم لم يقدم على الترصيع شاهداً من القرآن. . . كما لم يقدم أي شاهد قرآني لعددٍ من أنواع البديع اكتفى لها بشواهد من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 الشعر والنثر: كالمساواة، والمبالغة، وصحة التفسير، والتكافؤ، والكناية والتعريض، والاعتراض، والرجوع، والاستثناء. . . * * * وتحاول أن تلتمس في تناول الباقلانى لفنون البديع، ملحظاً له في أسرار الإعجاز، أو نكتة بلاغية فيما يقدم من شواهد قرآنية، فيلقاك بمثل قوله: "فكر في هذه الكلمات، من القرآن، كل واحدة منها كالنجم في علوه ونوره، وكالياقوت يتلألأ بين شذوره ص 293. "وما رأيك في قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} هذه تشتمل على كلمات، سناؤها وضياؤها على ما ترى، وسلاستها وماؤها على ما تشاهد، ورونقها على ما تعاين، وفصاحتها على ما تعرف. . . "أنظر إلى هذه الكلمات الأربع التي ألف بينها، واحتج بها على ظهور قدرته ونفاذ أمره، أليس كل كلمة منها في نفسها غُرَّة وبمفردها دُرَّة؟ وهو مع ذلك يصدر عن علو الأمر ونفاذ القهر، ويتجلى في بهجة المقدرة، ويتحلى بخالصة العزة، ويجمع السلاسة إلى الرصانة، والسلامة إلى المتانة، والرونق الصافي، والبهاء الضافي. - 286 "ثم أنظر في آية أية، وكلمة كلمة، هل تجدها كما وصفنا من عجيب لنظم وبديع الرصف؟ فكل كلمة لو أفردت كانت في الجمال غايةً وفي الدلالة آية، فكيف إذا قارنتْها أخواتُها وضامَّتْها ذواتها، مما تجرى في الحسن مجراها وتأخذ في معناها؟ - 289. "فلعلك ترجع إلى عقلك وتستر ما عندك إن غلطت في أمرك أو ذهبت في مذاهب وهمك أو سلطت على نفسك وجهَ ظنك. متى نهيأ لبليغ أن يتصرف في قدر آية في أشياء مختلفة فيجعلها مؤتلفة من غير أن يبين على كلامه إعياءُ الخروج والتنقل، أو يظهر على خطابه آثار التكلف والتعمل؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 "هيهات هيهات! إن الصبح يطمس النجوم وإن كانت زاهرة، والبحر يغمر الأنهار وإن كانت زاخرة.." _ 290 "ومنَ المؤتلف قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} "وهذه ثلاث كلمات، كل كلمة منها أعز من الكبريت الأحمر - 296 "أي خاطر يتشوف إلى أن يقول: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. . .} الآية؟ "وأي لفظ يدرك هذا المضمار، وأي حكيم يهتدي إلى ما لهذا من النور، وأي فصيح يهتدي إلى هذا النظم؟ - 303. "ثم تأمل قوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ. . .} "كل كلمة من ذلك على ما قد وصفتها، من أنه إذا رآها الإنسان في رسالة، كانت عينَها، أو في خطبةٍ كانت وجهها، أو قصيدة كانت غرة غرتها وبيت قصيدتها، كالياقوتة التي تكون فريدة العقد وعين القلادة ودرة الشذر، إذا وقع بين كلام وشَّحه، وإذا ضُمن في نظام زيَّنه، وإذا اعترض في خطاب تميز عنه وبان بحسنه منه - 304. "أرفع طرف قلبك وأنظر بعين عقلك وراجع جلية بصيرتك، إذا تفكرت في كلمة كلمة مما نقلناه إليك وعرضناه عليك، ثم فيما ينتظم من الكلمات إلى أن يتكامل فصلاًََ وقصة، أو يتم حديثاً وسورة؛ "لا، بل فكر في جميع القرآن على هذا الترتيب، وتدبره على نحو هذا التنزيل، فلم ندَّع ما ادعيناه لبعضه، ولم نصف ما وصفناه إلا في كلمة، وإن كانت الدلالة في البعض أبين وأظهر، والآية أكشف وأبهر؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 "وإذا تأملت على ما هديناك إليه ووقفناك عليه، فانظر هل تجد وقع هذا النور في قلبك واشتماله على لبَّك وسريانَه في حسك ونفوذه في عروقك، وامتلاءك به إيقاناً وإحاطة، واهتداءك به إيماناً وبصيرة؟ أم هل تجد الرعب يأخذ منك مأخذه من وجه، والهزة تعمل في جوانبك من لون، والأريحية تستولى عليك من باب؟ وهل تجد الطرب يستفزك للِطيفِ ما فطنتَ له، والسرور يحركك من عجيب ما وقفت عليه، وتجد في نفسك من المعرفة التي حدثت لك عزة، وفي أعطافك ارتياحاً وهزة، وترى لك في الفضل تقدماً وتبريزاً وفي اليقين سبقاً وتحقيقاً، وترى بالعين التي يجب أن تلحظ بها، ومراتبهم بحيث أن ترتبها؟ "هذا كله في تأمل الكلام ونظامه وعجيب معانيه وأحكامه. فإن جئت إلى ما نبسط في العالم من بركته وأنواره، وتمكن في الآفاق من يمينه وأضوائه، وثبت في القلوب من إكباره وإعظامه.. فهل يدلك هذا على عظيم شأنه وراجح ميزانه وعالي مكانه؟ - 308 "ونظم القرآن في مؤتلفة ومختلفة، وفي فصله ووصله، وافتتاحه واختتامه، وفي كل نهج يسلكه وطريق يأخذ فيه وباب يتهجم عليه ووجه يؤمه، على ما وصفه الله تعالى به لا يتفاوت: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} "وغيره من الكلام كثير التلون دائم التغير، يقف بك على بديع مستحين ويعقبه بقبيح مستهجن، ويطلع عليك بوجه الحسناء ثم يعرض للهُجْرِ بخَدَّ القبيحة الشوهاء، ويأتيك باللفظة المستنكرة بين الكلمات التي هي كاللآلي الزهر، وقد يأتيك باللفظة الحسنة بين الكلمات البهم، وقد يقع إليك منه الكلام المثبج، والنظم المشوش والحديث المشوه - 314. "وعلى هذا فقِسْ بحثك عن شرف الكلام وماله من علو الشأن، لا يطلب مطلباً إلا انفتح، ولا يسلك قلباً إلا انشرح، ولا يذهب مذهباً إلا استنار وأضاء، ولا يضرب مضرباً إلا بلغ فيه السماء. لا تقع منه على فائدة فقدرت أنها أقصى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 فوائدها إلا قصّرت، ولا تظفر بحكمة فظننت أنها زُبدة حِكَمِها إلا وقد أخللتَ" - 322 * * * إلى أين وصل الباقلانى في بيان إعجاز القرآن من جهة البلاغة، بعد طول الجهد وعناء النقل للمطولات من القصائد والخطب والتصدي لنقدها؟ أوثر هنا أيضاً أن أترك له تلخيص جهده فيه واستخلاص ثمرته، وإيضاح الشوط الذي قطعه على الطريق لفهم الإعجاز البلاغي، حيث يقول: "فالقرآن أعلى منازل البيان، وأعلى مراتبه ما جمع وجوه الحسن وأسبابه، وطرقه وأبوابه: من تعديل النظم وسلامته وحسنه وبهجته، وحسن موقعه في السمع وسهولته على اللسان، ووقوعه في النفس موقع القبول وتصوره تصور المشاهدَ، وتشكله على جهته حتى يحل نحل البرهان ودلالة التأليف، مما لا ينحصر حسناً وبهجة وسناء ورفعة. "وإذا علا الكلام في نفسه كان له من الوقع في القلوب والتمكن في النفوس، ما يذُهل ويبهج، ويقلق ويؤنس، ويطمع ويؤيس، ويُضحك ويبكي، ويحزن ويُفرح، ويسكن ويزعج، ويشجي ويطرب، ويهز الأعطاف ويستميل نحوه الأسماع، ويورث الأريحية والعزة، وقد يبعث على بذل المهج والأموال شجاعة وجوداً، ويرمي السامع من وراء رأيه مرمى بعيداً. وله مسالك في النفوس لطيفة، ومداخل إلى القلوب دقيقة. "وبِحَسَبِ ما يترتب في نظمه ويتنزل في موقعه، ويجرى على سمت مطلعه ومقطعه، يكون عجيبُ تأثيراته وبديع مقتضياته. وكذلك على حسب مصادره يُتصور وجوه موارده. وقد ينبئ الكلام عن محل صاحبه، ويدل على مكان متكلمه وينبه على عظيم شأن أهله وعلى علو محله" - 419 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 ثم يقول خاتمة لكتابه في إعجاز القرآن: "وقد بيَّنا في نظم القرآن أن الجملة تشتمل على بلاغة منفردة، والأسلوب يختص بمعنى آخر من الشرف. ثم الفواتح والخواتم، والمبادئ والمثاني، والطوالع والمقاطع، والوسائط والفواصل. "ثم الكلام في نظم السور والآيات، ثم في تفاصيل التفاصيل، ثم في الكثير والقليل. "ثم الكلام الموشح والمرصع،. . . والمجنسَّ والموشع، والمحلى والمكلل، والمطوق والمتوج، والموزون والخارج عن الوزن، والمعتدل في النظم والمتشابه فيه، في منظر بهيج ونظم أنيق ومعرض رشيق، غير معتاص على الأسماع ولا مُتَلَوَّ على الأفهام. . . ممتلئ ماء ونضارة، ولطفاً وغضارة. يسرى في القلوب كما يَسرى السرور، ويمر إلى مواقعه كما يمر السهم، ويضئ كما يضئ الفجر، ويزخر كما يزخر البحر. طموح العباب جموح على المتناول المنتاب. كالروح في البدن، والنور المستطير في الأفق، والغيث الشامل والضياء الباهر: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} "من توهم أن الشعر يلحظ شأوه بان ضلاله ووضح جهله، إذ الشعر سَمت قد تناولته الألسن وتداولته القلوب وانثالت عليه الهواجس، وضرب الشيطان فيه بسهمه وأخذ منه بحظه. وما دونه من كلامهم فهو أدنى محلاً وأقرب مأخذاً وأسها مطلباً.. "أنظر وفقك الله لما هديناك إليه، وفكر فيما دللناك عليه، فالحق منهج واضح والدين ميزان راجح، والجهل لا يزيد الأعَمى، ولا يورث إلا ندماً.." - 461 * * * وما استكثرتُ من نقل آراء الباقلانى في بلاغة القرآن بنص عبارته، إلا حرصاً مني على أن يأخذ بها موضعه من قضية الإعجاز البلاغي. لا أظلمه. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 ومضى الباقلانى بعد أن ترك للبلاغين ممن تكلموا في الإعجاز بعده، هذا الرصيد الضخم من ألفاظه البديعة وعباراته الفخمة، في النصاعة والبراعة والفخامة والسلاسة، والنضارة والغضارة، والرونق والماء، والحسن والبهاء والبهجة والسناء، والنور والضياء، والدر والياقوت، وفريدة العقد وعين القلادة ودرة الشذر، والبحر الزاخر والنجوم الزاهرة، والكبريت والأحمر. . . وترك لمدرسة السكاكي، طريقته في التناول البلاغي: تقدم مع الشواهد من قول البشر شاهداً من القرآن، دون تفرقة أو تمييز، بل على القول بالمثل والنظير. . . * * * والجرجاني - من القرن الخامس الهجري - يعرض في رسالته (الشافية) لقضية الإعجاز في جدل المتكلمين خصومه المذهبيين، متعقباً شبهات من صرفوا الإعجاز عن وجهة البلاغي، وبخاصة من قالوا فيه بالصرفة. وإذ كانت البلاغة عنده ليست إلا النظم، يقرر أن العرب إنما عجزوا عن الإتثيان بمثله في النظم - 117 "وإن التحدي كان أن يجيئوا في أي معنى شاءوا بنظم يبلغ نظم القرآن في الشرف أو يقرب منه" - 141. ويذهب الجرجاني إلى استحالة أن يكون التحدي بالكلم المفردة أو بمعانيها التي هي لها بوضع اللغة. فذلك متاح لأهل اللغة. كما يُبطل أن يكون النظم: "الإتيان بكلام في زنة كلمات القرآن بمقاطعة ومفاصله، على نحو ما يأتي الشاعر بقصيدة يعارض بها أخرى في وزنها وعلة رَوِيَّها" - 198 "وإذ امتنع ذلك لم يبق إلا أن يكون الإعجاز في النظم والتأليف، لأنه ليس من بعد ما أبطلنا أن يكون فيه، إلا النظم" - 201. ويحدد معنى النظم والتأليف، بأنه "ليس شيئاً غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم، وأنَّا إن بقينا الدهلا نجهد أفكارنا حتى نعلم للكلم المفردة مسلكاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 ينظمها وجامعاً يجمع شملها ويؤلفها ويجعل بعضها بسبب من بعض، غيرَ توخي معاني النحو وأحكامه فيها، طلبنا ما كلُّ محالٍ دونه" - 201. وهو يتجه بمعاني النحو إلى مواضعها في نسق الكلام ونظم الأسلوب، لا إلى الصنعة الإعرابية التي تُجَرى بمعزل عن المعنى. * * * ويمتنع عند عبد القاهر، أن يَفهم هذا الإعجاز البلاغي في النظم، مَن لم يؤت الآلة التي بها يفهم وهي العلم بالبلاغة والفصاحة. وكتابه (دلائل الإعجاز) يُفَصَّل القول في هذا العلم الشريف بما يتفاضل به الكلام في نظمه. أي أن الدلائل مقدمة لفهم الإعجاز ووسيلة إليه. ومعقد البلاغة عنده "أن يؤتى المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته، ويُختار له اللفظ الذي هو أخص به وأكشف عنه وأتم له، وأحرى بأن يكسبه نبلا ويظهر فيه مزية. ولا تفاضل بين لفظتين في الدلالة حتى يكون إحداهما أدل على معناها من الأخرى. "وهل تجد أحداً يقول: هذه اللفظة فصيحة، إلا وهو يعتبر مكانها من النظم وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها وفضل مؤانستها لاخواتها؟ وهل قالوا: لفظة متمكنة ومقبولة، وفي خلافة: قلقة ونابية ومستكرها، إلا وغرضهم أن يعبروا بالتمكن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناها، وبالقلق والنبو عن سوء التلاؤم، وأن الأولى ام تَلِقْ بالثانية في معناها، وأن السابقة لم تصلح أن تكون لفقاً للتالية في مؤادها؟ "فالألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة، وإنما تثبت لها الفضيلة وخلافها، في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها، أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ. ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع، ثم تراها بعينك تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر. . . " - 38 وقد تجرد في الفصول الأولى من كتابه (دلائل الإعجاز) للاحتجاج لمذهبه في أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 العبرة في الفصاحة والبلاغة ليست إلا بالنظم، دون الألفاظ التي هي مجرد خَدَمٍ للمعاني. ومن حيث رأى أن الإعجاز في نظم القرآن يُفهم بإدراك أسرار الفصاحة، فرغ في كتابه لمباحث بلاغية خالصة يجلو بها وجه الفصاحة. وفيما بين مبحث وآخر يقدم لمحات من البيان القرآني في سياق الاستشهاد أو التنظير. والكتاب على هذا الوضع، من المصنفات البلاغية القيمة، ولعله من خير ما كُتبَ في قضية النظم، لكن اتصاله بالإعجاز غير مباشر، إذ ينظر في أساليب البلاغة العربية، وفي تقديره أنها الوسيلة إلى فهم الكتاب العربي المبين. قال يشرح وجه الإعجاز بالنظم: "إنا إذا سقنا دليل الإعجاز فقلنا: لولا أنهم حين سعوا كلاماً لم يسمعوا قط مثله، وأنهم قد رازوا أنفسهم فأحسوا بالعجز عن أن يأتوا بما يوازيه أو يدانيه أو يقع قريباً منه، لكان محالاً أن يَدَعوا معارضته وقد تُحدوا إليه وقرعوا فيه وطولبوا به. . . "فخبرونا عنهم؟ عماذا عجزوا؟ أعن معان من دقة معانيه وحسنها وصحتها في العقول، أم عن ألفاظ مثل ألفاظه؟ فإن قلتم عن الألفاظ، فماذا أعجزهم من اللفظ أم ما بهرهم منه؟ فقلنا: أعجزتم مزايا ظهرت لهم في نظمه وخصائص صادفوها في سياق لفظه، وبدائع راعتهم من مبادئ آية ومقاطعها، ومجارى ألفاظه ومواقعها، وفي مضرب كل مثل، ومساق كل خبر، وصورة كل عظة، وتنبيه وإعلام وتذكير وترغيب وترهيب، مع كل حجة برهانٌُ وصفة وتبيان، وبهرهم أنهم تأملوه سورة سورة وعشراً عشراً وآية آية، فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبو بها مكانها، ولفظة تُنكر شأنها أو يُرى غيرها أصلح هناك أو أشبه أو أحرى وأخلق، بل وجدوا اتساقاً بهر العقول وأعجز الجمهور، ونظاماً والتئاماً وإتفاقاً وإحكاماً، لم يَدَع في نفس بليغ منهم ولو حَكَّ بيافوخه السماء، موضعَ طمع. حتى خرست الألسن عن أن تدعي وتقول، وخلدت القروم فلم تملك أن تصول. . . " - 32 ثم لم يمض الجرجاني في الاحتجاج لهذا الوجه من الإعجاز تدبراً لأسرار النظم القرآني المعجز، بل قدر أن الدراية بذلك "لا تتأتى عن طريق حفظ متن الدليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وظاهر لفظه. . . وإنما يستقصى الدارس النظَر في أبواب البلاغة باباً باباً، حتى يعرف بها الشاهد والدليل، فلا يكون كمن قيل فيه: يقولون أقوالاً ولا يعلمونها. . . فلو قيل هاتوا حَقَّقوا، لم يحققوا" وقطعاً لعذر المتهاون، يقدم الجرجاني مباحثه البلاغية "يهدي فيها إلى أمور في نظمها، لا غنى بالعاقل عن معرفتها، والوقوف عليها والإحاظة بها" - 33 وهو فيما يعرض له من أبواب البلاغة، لا يتحرى تناولها في النظم القرآني والاستئهاد لها منه، وإنما يصرف النظر عنه عمداًَ، مصرحاً بقوله: "إن الجهة التي يقف منها - الباحث - والسبب الذي تُعرف به بلاغة النظم، استقراء كلام العرب وتتبع أشعارهم والنظر فيها" - 33 ومن ثم مضى في مباحثه البلاغية، فاستوفى القول في: تحقيق الفصاحة والبلاغة، وتوقف النظم على التركيب النحوي، ونظم الكلام ومكان النحو منه، والكناية والإستعارة، ومزايا النظم بحسب المعاني والأغراض، والتقديم والتأخير، والحذف والإثبات، والتعريف والتنكير، والقصر والاختصاص. . . ملتمساً لكل فصل منهلا شواهده من بليغ الشعر والنثر، وقد يقدم بين حين وآخر شاهداً قرآنياً على سبيل التنظير. ومحتجاً بهذا كله لشرف علم البيان الذي "لا ترى علماً هو أرسخ منه أصلاً وأبسق فرعاً وأحلى جنى وأعذب وِرْداً وأكرم نتاجاً وأنور سراجاً. والذي لولاه لم تر لساناً يحرك الوشى ويصوغ الحلى ويلفظ الدر وينفث السحر ويقرى الشهر ويريك بدائع من الزهر ويجنيك الحلو اليانع من الثمر، والذي لولا تحفيه بالعلوم وعنايته بها وتصويره إياها، ابقيت كامنة مستورة، ولما استبنتَ لها يدَ الدهر صورة، ولاستمر السرار بأهلَّتها واستولى الخفاء على جملتها، إلى فوائد لا يدركها الإحصاء، ومحاسن لا يحصرها الاستقصاء" - 4 * * * وما نجادل فيما ذهب إليه "الجرجاني" من أن الدراية بأسرار للعربية، هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 السبيل إلى فهم إعجاز النظم القرآني، فغير مُتصور أن يكون لمن أعوزته الدراية بأسرار التعبير في لغةٍ ما، أن يقدر روائع نصوصها، فضلاً عن أن يميز وجه البلاغة فيها. ثم إن الجرجاني في تقديره لبلغاء العرب، قد نجا مما تورط فيه "الباقلاني" حين تعقب مشهور القصائد والخطب لفحول لاشعر وأمراء البيان، بالتهوين والتحقير والزراية، فانساق بهذا، من حيث لا يدي، إلى أن العرب الفصحاء في عصر المبعث، ما سلموا بإعجاز القرآن إلا وهم هابطوا المستوى جاهلون بأسرار البيان. وقد نرى الوجه في الإعجاز، أن يكونوا قد بلغوا من علو المستوى في الفصاحة والبلاغة، ما يجعلهم قادرين على إدراك هذا الإعجاز. لكنا نختلف مع الجرحاني، في أن تُلتمس أسرار البيان العربي في شعر الشعراء ونثر البلغاء، ولا تلتمس في النص الأعلى الذي لا يمكن أن يصحَّ لنا ذوق العربية بمعزل عنه. وإذا كنا نأخذ على المتأخرين من علماء البلاغة، التماسهم ملاحظها وشواهدها من النماذج الشعرية والنثرية التي أرضت ذوقهم، وكان ينبغي أن يجتلوا بلاغة العربية في كتابها الأكبر، فكيف يهون أن نتناول مباحث البلاغة بمعزل عن القرآن الكريم، في كتاب يقدم هذه المباحث مدخلاً لفهم النظم القرآني ودلائل إعجازه؟! على أي حال، نرى الجرجاني في (دلائل الإعجاز) قدم ملاحظ دقيقة مما لمحه من أسرار البلاغة العربية، ولم يقدم دراسة قرآنية للإعجاز البلاغي، وهذه المباحث تأخذ مكانها في الدرس البلاغي، ولعلها تجلو براعة بلغاء العرب واقتدارهم على فن القول، لكن دون أن تتصل بإعجاز القرآن إلا على وجه التوطئة والوسيلة والتمهيد. . . ويظل السؤال قائماً: ما وجه فوت النظم القرآني نظم البلغاء من العرب؟ وماذا بهرهم من أسرار بيانه فانقطعوا دون وأعياهم أن يأوا بسورة من مثله؟ ولعل إدراك الجرجاني لقوصر (دلائله) عن أن تتجاوز المدخل إلى الموضوع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 والدلائل إلى الأدلة، والوسيلة إلى الغرض، هو الذي جعله يختم مباحثه البلاغية في (دلائل الإعجاز) بفضل يحيل فيه إدراك البلاغة على مبهمات ومجردات مما سماه الذوق والإحساس الروحاني، والأمور الغامضة الخفية. والناس عنده مرضى حتى يلتمسوا الطب لديه. وقد يجدي أن أنقل هنا هذا الفصل الختامي من (دلائل الإعجاز) يلخص مذهب الجرجاني ويوضح طريقته في التناول وأسلوبه في الجدل والاحتجاج: "اعلم أنك لن ترى عجباً من الذي عليه الناس في أمر النظم. وذلك إنه ما من أحد له أدنى معرفة إلا وهو يعلم أن ههنا نظماً أحسن من نظم، ثم تراهم إذا أنت أردت أن تبصرهم بذلك تسدر أعينُهم وتضل عنهم أفهامُهم. وسبب ذلك أنهم أوَّل شيء عدموا العلم به نفسه من حيث حسبوه شيئاً غير توخي معاني النحو، وجعلوه يكون في الألفاظ جون المعاني. فأنت تلقى الجهد حتى تميلهم عن رأيهم، لأنك تعالج مرضاً مزمناً وداء متمكناً. "ثم إذا أنت قُدتَهم بالخزائم إلى الاعتراف بأن لا معنى له غير توخي معاني النحو، عرض لهم من بعدُ خاطر يدهشهم حتى يكادوا يعودون إلى رأس أمرهم. وذلك أنهم يروننا ندعى المزية والحسن لنظم كلام من غير أن يكون فيه من معاني النحو شيء يُتصور أن يتفاضل الناس في العلم به. ويروننا لا نستطيع أن نضع اليد من معاني النحو ووجوهه على شيء يُعم أن من شأن هذا، أن يوجب المزية لكل كلام يكون فيه. بل يروننا ندعي المزية لكل ما ندعيها له من معاني النحو ووجوهه وفروقه، في موضع دون موضع وفي كلام دون كلام وفي الأقل دون الأكثر وفي الواحد دون الألف. فإذا رأوا الأمر كذلك دخلتهم الشبهة وقالوا: كيف يصير المعروف مجهولاً، ومن أين يُتصور أن يكون للشيء في كلام مزيةٌ عليه في كلام آخر، بعد أن تكون حقيقته فيهما حقيقة واحدة؟ فإذا رأوا التنكير يكون فيما لا يحصى من المواضع اتهمونا في دعوانا ما ادعيناه لتنكير حيلة في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} من أن له حسناً ومزية، وأن فيه بلاغة عجيبة، وظنوه وهماً منا وتخيلاً. "ولسنا نستطيع في مشف الشبهة في هذا عنهم، ما استطعناه في نفس النظم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 يعني حملهم على الإقرار بأن البلاغة ليست إلا النظم - لأنا ملكنا في ذلك أن نضظرهم إلى أن يعلموا صحة ما نقول. وليس الأمر في هذا كذلك، فليس الداء فيه بالهين، ولا هو بحيث إذا رمت العلاج منه وجدت فيه الإمكان مع كل أحد مسعفاًَ والسعي منجحاً. لأن المزايا التي تحتاج أن تُعلمهم مكانها وتصور لهم شأنها، أمور خفية ومعان روحانية، أنت لا تستطيع أن تنبه السامع لها وتُحدِث له علماً بها، حتى يكون مهيَّئاً لإدراكها وتكون له طبيعة قابلة لها، ويكون له ذوق وقريحة يجد لهما في نفسه إحساساً بأن من شأن هذه الوجوه والفروق أن تعرض فيها وقريحة يجد لهما في نفسه إحساساً بأن من شأن هذه الوجوده والفروق أن تعرض فيها المزية على الجملة، ومن إذا تصفح الكلام وتدبر الشعر، فرَّق بين موقع شيء منها وشيء، ومَن إذا أنشدته قول الشاعر: لي منك ما للناس كلهم. . . نظرً وتسليم على الطرقِ وقول البحتري: وسأستقل لك الدموع صبابةً. . . ولو آن دجلة لي عليك دموعُ وقوله رأت مَكِناتِ الشيب فابتسمت لها. . . وقال: نجوم لو طلعن بأسعدِ وقول أبي نواس: ركب تساقوا على الأكوار بينهم. . . كأس الكرى فانتشى المسقى والساقي كأن أعناقهم والنومُ واضعها. . . على المناكب لم تعمد بأعناق وقوله: يا صاحبَّى عصيتُ مصطبحاً. . . وغدوت للذّّات مُطَّرحساً فتزودا مني محادثة. . . حذرُ العصا لم يُبِق لي مرحاً وقول إسماعيل بن يسار: حتى إذا الصبح بدا ضوؤه. . . وغابت الجوزاء والمرزم خرجتُ والوطءُ حفى كما. . . ينساب من مكمنه الأرقم "إذا أنشدته هذه الأبيات - ولاحظْ أن الجرحاني على منهجه في الدلائل في الاستكشار من الشواهد الشعرية، لا القرآنية - أنِق لها وأخذته الأريحية عندها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وعرف لطف موضع الحذف والتنكير في قوله * نظرٌ وتسليم على الطرق * وما في قول البحتري * لي عليك دموع * من شبه السحر،. . . وعرف كذلك شرف قوله * نجوم لو طلعن بأسعد * وعلو طبقته ودقة صنعته. . . "والبلاء والداء العياء، أن هذا الإحساس قليل في الناس، حتى لإنه ليكون أن يقع للرجل الشيء من هذه الفروق والوجوه، في شعر يقوله أو رسالة يكتبها، الموقعَ الحسن ثم لا يعلم أنه قد أحسن. "فأما الجهل بمكان الإساءة، فلا تعدمه بمن له طبع إذا قدحته وَرَى، وقلبٌ إذا أريته رأى، فأما وصاحبك كم لا يرى ما تُريه ولا يهتدي للذي تهديه، فأنت رامٍ معه في غير مرمى، ومَعَنَّ نفسك في غير جدوى. وكما لا تقيم الشعر في نفس من لا ذوق له، كذلك لا تُفهم هذا الشأن مَن لم يُؤت الآلة التي بها يُفهم. إلا أنه إنما يكون البلاء إذا ظن العادم لها أنه أوتيها، وأنه ممن يكمل للحكم ويصح منه القضاء، فجعل يقول القول لو علم غَيَّة لاستحيا منه. فأما الذي يحس بالنقص من نفسه ويعلم إنه قد علم علماً قد أوتيه من سواه فأنت معه في راحة، وهو رجل عاقل قد حماع عقله أن يعدو طوره، وأن يتكلف ما ليس بأهل له". ويستطرد الجرجاني في بيان عقد (الدلائل) مع خصم معاند لا يملك من الذوق والروحانية والأريحية ما يدرك به فروق البلاغية في النظم، فيذكر أن العلوم التي لها أصول معروفة وقوانين مضبوطة، قد يخطئ فيها المخطئ ثم يعجب برأيه فلا تستطيع رده عن هواه وصرفَه عن الرأي الذي رآه إلا بعد الجهد والمشقة، إذا كان حصيفاً عاقلاً. وهذا الصنف من الناس العقلاء يعز ويقل. "فكيف بأن ترد الناس عن رأيهم في هذا الشأن - مزايا النظم يتفاضل بها الكلام - وأصُلك الذي تردهم إليه وتعول في محاجتهم عليه، استشهادُ القرائح وسبر النفوس وفَلْيُها، وما يعرض فيها من الأريحية عند ما تسمع؟ "وهو لا يضعون أنفسهم موضع مَن يرى الرأي ويفتي ويقضي، إلا وعندهم أنهم ممن صفَت قريحته وصح ذوقه وتمت أدانه. فإذا قلت لهم: إنكم قد أوتيتم من أنفسكم. ردوا عليك مثله وقالوا: لا، بل قرائحنا أصح ونظرنا أصدق وحِسُّنا أذكى، وإنما الآفة فيكم لأنكم خيَّلتم إلى أنفسكم أموراً لا حاصل لها، وأوهمكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 الهوى والميل أن توجبوا لأحد النظمين المتساويين فضلاً على الآخر، من غير أن يكون ذلك الفضل معقولاً. "فتبقى في أيديهم حسيراً لا تملك إلا التعجب! "فليس الكلام بمغن عنك لا القول بنافع ولا الحجة مسموعة، حتى تجد من فيه عون لك على نفسه، ومن إذا أبى عليك ذلك طبعُه فردَّه إليك وفتح سمعَه لك، ورفع الححجاب بينك وبينه، وأخذ به إلى حيث أنت، وصرف ناظره إلى الجهة التي إليها أومأت، فاستبدل بالنفار أنسا وأراك من بعد الإباء قبولاً. . . "ولم يكن الأمر - في بلاغة النظم والمزايا التي يتفاضل بها - على هذه الجملة، إلا لأنه ليس في أصناف العلوم الخفية والأمور الغامضة الدقيقة، أعجب طريقاً في الخفاء من هذا. وإنك لتتعب في الشيء نفسَك وتكد فيخ فكرك وتجهد فيه كل جهدك، حتى إذا قتلته علماً وأحكمته فهماً، كنت بالذي لا يزال يتراءى لك فيه من شبهة ويعرض فيه شك، كما قال أبّو نواس: ألا لا أرى مثل امترائىَ في رسم. . . تغص به عيني ويلفظه وهمي أتتْ صُوَرُ الأشياء بيني وبينه. . . فطني كَلاَ ظنًّ، وعلمي كَلاَ علم! "وإنك لتنظر في البيت دهراً طويلاً وتفسره، ولا ترى أن فيه شيئاً لم تعلمه، ثم يبدو لك فيه أمر خفى لم تكن قد علمته. . . " 393: 403. * * * ومضى "الجرجاني" بعد أن أتم توجيه البلاغة لتكون علم الاستدلال للإعجاز، ونقل القضية نقلة حاسمة إلى ميدان الدرس البلاغي بمعزل عن القرآن نفسه! فرسم معالم الطريق لمن جاءوا بعده، فأفردوا البلاغة بالدرس والتأليف المستقل، يرون أنهم بهذا يخدمون المعجزة القرآنية ويَهدون إلى فهم إعجازها. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وتفرعت دروب الدارسين بعد الجرحاني، وإن أخذوا عنه أو داروا في فلَكه: منهم من رأى أن محاولة الجرجاني في (دلائل الإعجاز) تحتاج إلى إعادة ترتيب وتحرير وتهذيب، كالفخر الرازي الذي ألف كتابه (نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز) فاعترف بأن الجرجاني كان الذي استخرج أصول هذا العلم وأقسامه وشرائطه وأحكامه، لكنه أهمل رعاية ترتيب الأصول والأبواب، وأطنب في الكرم كل الإطناب. ومنهم من قدر حاجة هذه المباحث البلاغية إلى أن تلتمس لها الشواهد القرآنية كصنيع ابن أبي الإصبع المصري (ت 654 هـ) الذي نسق كتابه (بديع القرآن) - والبديع عنده بمعنى البلاغة - في مائة وعشرين باباً، تحرى فيها الاستئهاد بالقرآن الكريم، وإن يكن في الغالب، قد اكتفى في أكثر هذه الأبواب بأن يذكر المصطلح البديعي للباب، ثم يتبعه بالشاهد أو الشواهد القرآنية، دون تفصيل لبيان وجه القوة أو سر البلاغة فيه. ومنهم من اكتفى بما وجه إليه الجرجاني من دراسة البلاغة طريقاً لفهم الإعجاز ودلائَل عليه، فاستقل بالبحث البلاغي بعيداً عنة قضية الإعجاز، كما عزل البلاغة عن معاني النحو التي قرر الجرحاني، بحق، أنها داخلة في بلاغة النظم. وإمام هذه المدرسة هو "السكاكي" - ت 626 هـ - الذي جعل البلاغة في (مفتاح العلوم) علماً يُحَّصل وصنعة تضبط بقواعد منطقية. وكان حظ القرآن من (مفتاح العلوم) وشروحه، بضع شواهد قرآنية سيقت مع حشد من شواهد وأمثلة أخرى من قول البشر. ثم كان الجهد، كل الجهد، موجهاً إلى العناية بإجراء الصنعة البلاغية التي تتعلق في التشبيه مثلاً: ببيان أركانه وأداته ووجهه وأقسامه ومرتيته، وفي الاستعارة: بمعرفة المستعار له والمستعار منه والجامع والقرينة والتجريد والتصريح والترشيح. . . وفي المجاز والكناية: ببيان المعنى الأصلي والمعنى المجازي، والعلاقة وأنواعها، والقرينة مانعة أو غير مانعة من إرادة المعنى الأصلي. وفي البديع: بالمحسنات اللفظية وغير اللفظية وضروبها ومصطلحاتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 فكان أن جَمَّدوا روح البلاغة في قوالب الصنعة وأغلال المنطق، وشغلتهم الحدود والتعريفات والإجراءات، عن لمح سر البيان وذوق الأسلوب وروح النص. * * * وتوارت قضية الإعجاز في الميدان البلاغي، في فيض الشروح والمختصرات والحواشي على متن (مفتاح السكاكي) الذي سيطر على الدراسة البلاغية. فانحصرت قضية الإعجاز في كتب علوم القرآن الجامعة، كالبرهان للزركشي والإتقان للسيوطي. وفي كتب المفسرين، يتناولونها في تأويل آيات لبتحدي والمعاجزة. على نحو ما فعل "الشيخ محمد عبده" في تفسير آيتى البقرة: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} حيث كتب فصلاً "في تحقيق وجوه الإعجاز" لخص به مختلف الأقوال فبه. ويعينيا هنا ما يتصل بالبيان، أو ما سماه الإعجاز بأسلوبه ونظمه. ووجه هذا الإعجاز عنده، هو اشتمال القرآن على النظم الغريب والوزن العجيب والأسلوب المخالف لما استنبطه البلغاء من كلام العرب، في مَطالعه وفواصله ومقاطعه، قال: "ولعمري إن مسألة النظم والأسلوب لإحدى الكُبَر، وأعجب العجائب لمن فكر وأبصر، ولو يوفها أحدٌ حقها على كثرة ما أبدأوا وأعادوا فيها. وما هو بنظم واحد ولا بأسلوب واحد، وإنما هو مائة وأكثر: القرآن مائة وأربع عشرة سورة متفاوتة في الطول والقصر، من السبع الطوال إلى الوسطى إلى ما دونها. وكل سورة منها تقرأ بالترتيل المشبه للتلحين المعين على الفهم المفيد للتأثير. على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 اختلافها في الفواصل، وتفاوت آياتها في الطول والقصر. وهي على ما فيها من متشابه وغير متشابه في النظم، متشابهة كلها في مزج المعاني العالية بعضها ببعض. . . "ومن اللطائف البديعة التي يخالف بها نظم القرآن كلام العرب من شعر أو نثر، أنك ترى السور ذات النظم الخاص والقوافي المقفاة، تأتي في بعضها فواصلُ غير مقفاة فتزيدها حسناً وجمالاً وتأثيراً في القلوب. تأتي في بعض آخر آياته مخالفة لسائر آيها في فواصلها وزناً وقافية، فترفع قدرها وتكسوها جلالا وتكسبها روعة وعظمة، وتجدد من نشاط القارئ وترهف نم سمع المستمع. وكان ينبغي للخطباء والمتراسلين أن يحاكوا هذا النوع من محاسنه، وإن كانوا يعجزون عن معارضة السورة في جملتها أو الصعود إلى أفق بلاغتها" 1 / 201. ويتصدى الشيخ محمد عبده لمن يمارون في مثل هذا الكلام عن البلاغة ويرون "أن الإجابة على الذوق فيها إحالة على مجهول لا تقوم به حجة ولا يثبت به مدلول، لأن الذوق المعنوي كالحسي خاص بصاحبه، ومن ذاق عرف". وهو يرد على هؤلاء الناس، بمثل ما ورد به عبد القاهر الجرحاني فيقول: إن سبب هذا هو جهلهم اللغة الفصحى نفسها. ملتفتاً إلى أن اللغة الفصحى يُكسَب ذوقها بمدارسة الكلام البليغ منها واستظهاره واستعماله. وليس بقراءة كتب الصنعة المتأخرة التي هي إلى العجمة والتعقيد أدنى منها إلةى الفصاحة والبيان. ومنوهاً في الوقت نفسه بكتب الأولين ممن وضعوا قواعد النحو واللغة والبلاغة، حتى القرن الخامس للهجرة، وبخاصة (أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز) لأنهما الكتابان اللذان يحيلانك في قوانين البلاغة على وجدانك وجنانك، قال: "وقد مرت القرون في إثر القرون على ترك الناس لهذه المدراسة، واقتصار مدارس الأمصار على قراءة كتب النحو والصرف والمعاني والبيان، هي أدنى ما وُضع في فنونها فصاحة وبياناً وأشدها هجمة وتعقيداً، وهي الكتب التي اقتصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 مؤلفوها على سرد القواعد بعبارة دقيقة بعيدة عن فصاحة أهل اللغة وعن بيان المتقدمين الواضعين لهذا الفنون ومَن بعدهم إلى القرن الخامس الهجري، كالخليل وسيبويه وأبى علي الفارسي وابن جنى والجرحاني، حتى صار أوسع الناس علماً بهذه الفنون أجهل قراء هذه اللغة بها وأعجزهم عن فهم البليغ منها، بله الإتيان بمثله. فمن لم يقرأ من كتب البلاغة إلا مثل (السمرقندية وشرحى جوهر الفنون وعقود الجمان فشرحى التلخيص للسعد التفتازانى) وحواشيها، لا يُرجى أن يذوق للبلاغة طعماً أو يقيم للبيان وزناً. وإنما يُرجى هذا الذوق لمن يقرأ (أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز) فإنهما هما الكتابان اللذان يحيلانك في قوانين البلاغة على وجدانك وما تجد من أثر الكلام في قلبك وجنانك، فتعلم أن علمى البيان شعبة من علم النفس، ولكن لابد مع ذلك من قراءة الكثير من منظوم الكلام ومنثوره، واستظهار بعضه مع فهمه كما قرر حكيمنا ابن خلدون في الكىم على علم البيان من (مقدمته) . فهذا هو الأصل في تحصيل ملكة البلاغة فهماً وأداء. والقوانين الموضوعة لها مستنبطة من الكلام البليغ وليس هو مستبطاً منها. وقد عُكست القضية منذ القرون الوسطى حتى ساغ لمستقل الفكر أن يقول في الكتب التي أشرنا إليها، وهي التي تقرأ في مدرية الجامع الأزهر، وأمثالها: إن قواعدها تقليدية لا يمكن أن يُعلم بها تفاضلُ الكلام، إذ يمكن حمل كل كلام عليها. ولذلك كان أكثر الناس مزاولة لها، أضعفهم بياناً وأشدهم عيّاً وفهامة. "فمعرفة مكان القرآن من البلاغة لا يُحكمها من الجهة الفنية والذوقية إلا مَن أوتى حظّاً عظيماً من مختار كلام البلغاء المنظوم والمنثور، من مرسل ومسجوع، حتى صار ملكة وذوقاً. واستعان بمثل (كتابي عبد القاهر، والصناعتين، والخصائص وأساس البلاغة، ومغنى اللبيب لابن هشام) هذه مقدمات البلاغة، ونتيجتُها الملكة. ولها غاية يمكن العلم بها من التاريخ وهي ما كان للقرآن من التأثير في الأمة العربية، ثم فيمن حذقها من الأعاجم أيضاً.. "الحد الصحيح للبلاغة في الكلام، هي أن يبلغ به المتكلم ما يريد من نفس السامع بإصابة موضع الإقناع من العقل، والوجدان من النفس - وقد يُعَّبر عنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 بالقلب - ولم يُعرف في تاريخ البشر أن كلاماً قارب القرآن في قوة تأثيره في العقول والقلوب، فهو الذي قَلَبَ طباعَ الأمة العربية وحولها من عقائدها وتقاليدها، وصرفها عن عاداتها وعداواتها، وصدف بها عن أثرتها وثاراتها، وبدلها بأميتها حكمة وعلماً، وبجاهليتها أدباً رائعاً وحلماً، وألف من قبائلها المتفرقة أمة واحدة، سادت العالم بعقائدها وفضائلها وعدلها وحضارتها وعلومها وفنونها. "اهتدى إلى هذا النوع من إعجازه بعضُ حمكاء أوربة مستنبطاً له من هذه الغاية التاريخية، وقد رأينا وروينا عن بعض أدباء هذه اللغة، من غير المسلمين، أنهم يذهبون في بعض ليالي رمضان إلى بيوت معارفهم من المسلمين ليسمعوا القرآن ويمتعوا ذوقهم العربي وشعورهم الروحاني الأدبي بسماع آياته المعجزة. وقد شهد له أهل العلم والإنصاف منهم بهذا الإعجاز في النظم والأسلوب، والبلاغة يغوص تأثيرها في أعماق القلوب. ولكنهم لم يفقهوا دلالة ذلك على أنه من عند الله - عز وجل -. "ولو شئت أن أورد الشواهد على هذا الوجه لخرجت عن الاختصار الذي التزمته في هذا الفسل. إنك لتجد من التنبيه على عجائبها في كل جزء من هذا التفسير ما لا تجده في غيره حتى الدقه في معاني مفرداته وتحديد الحقائق في جُمَلِه، ومزج المعاني الكثيرة في أسلوبه، ولطف التناسب بين آياته وبين سُورة. ومن أعجبها ضروب الإيجاز التي انفرد بها وكثرة تكراره للمعنى الواحد بعبارات لا يملها قارئ ولا سامع، ومن العجب غفلة أكثر ظلاب البلاغة عنها". وبهذا أضاف الشيخ الإمام محمد عبده إلى دلائل الإعجاز كما بينها الجرحاني: ضرورة الإتصال بروائع الفصحى لكسب ذوقها الذي به تُدرك بلاغة النظم المعجز. كما لفت إلى الأثر النفسي لفن القول، وهو الملحظ الذي انظلق به أستاذنا أمين الخولي إلى مداه الرحب، فقدم فيه رسالته عن (الإعجاز النفسي للقرآن) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 والشيخ محمد عبده، عبر عن النظم بالأسلوب، وجعل لتأثير التلاوة مكاناً في قضية الإعجاز البلاغي، وأدخل الأوربيين ممن تعلموا العربية، في الاحتجاج لإعجاز القرآن، وتعلق "بشهادة أهل العلم والإنصاف منهم، بهذا الإعجاز في النظم والأسلوب، والبلاغة يغوص تأثيرها في أعماق القلوب". وفيما عدا ذلك، نراه متأثراً بمذهب عبد القاهر في فهم الإعجاز ونهجه في المناقشة والاحتجاج. والواقع أنه بقدر ما سيطر "السكاكي" على البلاغين المدرسيين، سيطر "عبد القاهر" على من تصدى من المحدثين لموضوع الإعجاز البلاغي، فكان الذي أضافوه إلى رصيده أن يتحدث المتحدثون عن إعجاز القرآن فيقولوا: ما أروع وما أعظم، ما أبهى وأبلغ، وما أجل وأسنى، ونظر إلى شرف هذا المعنى وجزالة ذلك اللفظ وفخافة هذه العبارة وروعة ذلك المثل، وتأمل في سحر هذا الإيقاع واسر ذلك النغم. . . إلى أمثال لهذا العبارات المبذولة والقوالب الصماء التي ملّها سمع الزمان لطول ما ابتذلتها أقلام الكتاب وألسنة المداحين، في تقريظ قصص هزيلة يروَّجون لها، وأغان مبتذلة ينتشون بها. ومن ألف سنة رُدَّدَتْ أمثال هذه العبارات الرنانة، فلم يجد فيها أبو سليمان الخطابي - ت 388 هـ - ما يقنع أو يشفى، قال في (بيان إعجاز القرآن) يرد على من ذهبوا إلى أن تميز القرآن عن سائر الكلام الموصوف بالبلاغة، أمر لا يمكن تصويره وقد يخفى سببه ويظهر أثره في النفس: "إن الذي يوجد لهذا الكلام من العذوبة في حس السامع والهشاشة في نفسه، وما يتحلى به من الرونق والبهجة التي يباين بها سائر الكلام حتى يكون له هذا الصنيع في القلوب والتأثير في النفس فتصطلح من أجله الألسن على أنه كلام لا يشبهه كلام، وتحصر الأقوال عن معارضته وتنقطع به الأطماع عنها، أملا لابدَّ له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 من سبب، بوجوده يجب له هذا، وبحصوله، يستحق هذا الوصف" * * * وظل الإعجاز البلاغي مع ذلك، يدور في هذا النطاق من القوالب التقليدية الصماء والعبارات المضخمة التي لم يجد فيها مثل الخطابي، من القؤرن الرابع، ما يقنع في هذا المجال أو يشفى من داء الجهل، والتي لم تعد تليق بحرمة الكتاب المعجز، ولا تقدم شياً ذا بال، إلى هذا الجيل من أبناء العربية الذين نحرص على أن نصلهم بمعجزة البيان الأعلى. . . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 المبحث الثاني محاولة في فهم الإعجاز البياني 1 - فواتح السوَر، وسِرُّ الحرف. 2 - دلالات الألفاظ، وسر الكلمة. 3 - الأساليب، وسِرُّ التعبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 (1) فواتح السُّوَر وسِرُّ الحرف ما مِنْ حرف في القرآن الكريم تأوَّلوه زائداً أو قدَّروه محذوفاً أو فسرُوه بحرف آخر، لا يتحدى بسرَّه البياني كل محاولة لتأويله على غير الوجه الذي جاء به في البيان المعجز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 مع إدراكي أن الإعجاز البياني للقرآن الكريم يفوت كل محاولة لتحديده، ويجاوز مدى طاقتنا على مشارفة آفاقه الرحبة واجتلاء أسراره الباهرة، أتقدم في خشوع إلى الميدان الجليل، فأضع إلى جانب محاولات السلف، محاولتى المتواضعة في فهم هذا الإعجاز. وسبق الالتفات إلى أن "الخطابي" لمح الإعجاز في "اللفظ في مكانه إذا أُبدِل فَسَدَ معناه، أوضاع الرونق الذي يكون منه سقوط البلاغة". وهذه اللمحة الدقيقة، هي - كما قلت من قبل - محور فكرة عبد القاهر الجرجاني في النظم، ولعلها أيضاً تلتقي مع جانب من فكرتنا في الإعجاز البياني، ثم نختلف بعد ذلك في إدراك مغزاها ولمح أبعادها، وطريق الاحتجاج لها والاستدلال عليها. لقد شُغل البلاغيون عن الإعجاز بمباحث بلاغية قدموها بمعزل عن المعجزة، لأنهم رأوا علوم البلاغة هي دلائل الإعجاز وسبيل فهمه. على حين نتعلم نحن البلاغة من هذا القرآن، ونخلص إليه لنتدبر أسرار بيانه المعجز. . . * * * ولعل أول ما لفتني إلى سر الحرف والكلمة، وقفتي أمام فواتح السور، وهي الحروف المقطعة التي افتتحت بها سِتُّ وعشرون سورة مكية، وثلاث من السور المدنية المبكرة. وهذا هو المشهور في تسمية الفواتح، وإن كان البلاغي المصري "ابن أبي الإصبع" مؤلف بديع القرآن، قد صنف كتاباً عنوانه (الخواطر السوانح في أسرار الفواتح) وعنى بالفواتح أنواع الكلام في مفتتح السور القرآنية، وقد نسقها في عشرة أنواع أحدها حروف التهجي، أو ما نسميه الفواتح، والأنواع التسعة الأخرى هي: الثناء على الله تحميداً وتسبيحاً، والنداء، والجملة الخبرية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 والقسم، والشرط، والأمر، والاستفهام، والدعاء، والتعليل. ومثله طالزركشي" في النوع السابع من كتابه البرهان: "في أسرار الفواتح والسور". وقد أدرجها "السيوطي" في نوع فواتح السور من كتابه (الإتقان) ، وأما الفواتح بمعنى الحروف المقطعة، فجاء بها باسم أوائل السور، في فصل المتشابه. * * * والسور المكية المستهلة بالفواتح، هي على المشهور في ترتيب النزول: القلم (ن) ، ق، ص، الأعراف (المص) يس، مريم (كهيعص) طه، الشعراء (طسم) النمل (طس) القصص (طسم) يونس وهود ويوسف والحجر (الر) لقمان (الم) ، غافر وفصلت (حم) الشورى (حم عسق) الزخرف والدخان والجاثية والأحقاف (حم) إبراهيم (الر) السجدة والروم والعنكبوت (الم) . والسور المدنية هي: البقرة وآل عمران (الم) والرعد (المر) . وقد تنبه السلف إلى أن مجموع هذه الحروف، بغير المكرر منها، أربعة عشر حرفاً، هي نصف الحروف العربية. كما أطال بعضهم النظر في هذه الحروف، فلفتهم منها أنها نصف الحروف الهجائية على أي وجه من الوجوه التي اصطلح عليها علكاء اللغة بعد نزول القرآن بزمن طويل. ففيها خمسة مهموسة، وعدد المهموس من حروف العربية عشرة. وفيها كذلك نذف الحروف المجهورة، بغير زيادة ولا نقصان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وفيها ثلاثة من حروف الحلق، هي نصف الحروف الحلقية، كما أن فيها نصف الحروف غير الحلقية. وفيها نصف الحروف الشديدة، ونصف الحروف الرخوة. وفيها حرفان من الأحرف الأربعة المطبقة، ونصف الحروف الأخرى المنفتحة غير المطبقة. وفيها نصف الحروف المستعلية، ونصف الحروف المنخفضة. وقد ذهب قوم، منهم الباقلانى، إلى "أن مجئ هذه الحروف على حدَّ التنصيف مما تواضع عليه العلماء بعد العهد الطويل، هو من دلائل الإعجاز، من حيث لا يجوز أن يقع هكذا إلا من الله - عز وجل -، لأن ذلك يجرى مجرى علم الغيوب". وإن يكن في موضع آخر، قد عدها معنى من معاني إعجاز القرآن "بديع نظمه وعجيب تأليفه وتناهيه في البلاغة". ووقف الزمخشري عند هذه النصفية في حروف الفواتح، ورأى فيها لطائف ملزمة بالحجة. * * * ولكن، لم جاءت حروف الفواتح، المفردة منها والمركبة، على هذه الصورة التي نزلت بها؟ وماذا قال السلف فيها؟ شغل المفسرون بها من قديم، فما يخلو كتاب تفسير من التعرض لها. وغالباً ما يأتي كلامهم فيها عند تفسير فاتحة سورة البقرة (الم) إذ هي أول سورة في ترتيب المصحف، مفتتحة بالحروف. وقد أورد الإمام الطبري في تفسيره لفاتحة البقرة، ما انتهى إلى عصره من أقوال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 في الفواتح. ولا يكاد المتأخرون يخرجون عن تلك الأقوال، إلا أن يختاروا قولاً منها يزيدونه تفصيلاً وبياناً وإيضاحاً: قيل هي حروف يتألف منها اسم الله الأعظم. ورووا عن سعيد بن جبير أنها أسماء الله تعالى مقطعة، لو عرف الناس تأليفها تعلموا اسم الله الأعظم. قال ابن عباي: إلا أنا لا نعرف تأليفه منها. أو هي اسم ملك من ملائكته تعالى، أو نبي من أنبيائه. وعند بعضهم أن حروف الفواتح دوالّ على أسماء الله الحسنى أو مفاتيح لها، فما من حرف منها إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه تعالى: فالكاف من الكريم أو الكبير والهاء من الهادي، والعين من العزيز أو العليم أو العلي، والصاد من الصمد أو المصور، والألف من الله، والراء من الرحمن، والميم من الملك، والقاف من القدوس أو القاهر أو القادر. . . ونحو ذلك ما روى عن ابن عباس من أن في قوله تعالى (الم) : أنا الله أعلم، وفي (المص) : أنا الله أفصل) ، وفي (الر) " أنا الله أرى. * * * وقيل، هي أسماء للسور التي افتتحت بها. قال "الزمخشري" في الكشاف: "وعليه - أي على هذا الوجه - إطباق الأكثر". ولا يعني هذا عنده أنها أسماء السور حقيقة، بل هي التسمية بما افتُتحت به واستهلن. ونظيره قولهم" فلان يروى * قفا نبكِ، وعفت الديار * وقول القائل: قرأت من القرآن "الحمد لله"، و"براءة". وقريب من هذا، قول من قال إن الفواتح من أسماء القرآن، كالفرقان. ومن تأويلها رموزاً لأسمائه، القول بأنها علامات وضعها كُتَّاب الوحي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وهو قول متأخر فيما يبدو. ويمنعه أنْ تدخل هذه العلامات وهي من عند البشر، في آي القرآن الكريم. * * * وقيل هي أوصوات للتنبيه كما في النداء، عمد إليها القرآن ليكون في غرابتها ما يثير الالتفات، وقد ترك ما ألفوا من ألفاظ التنبيه إلى ما لم يألفوا، لأنه لا يشبه كلام البشر، ولكي يكون أبلغ في قرع الأسماع. ثم اختلفوا فيمن يكون المقصود بهذا التنبيه: أبو حيان يرى أنها تنبيه للمشركين إلزاماً لهم بالحجة: "ليستغربها المشركون فيفتحوا لها أسماعهم فتجب عليهم الحجة" بسماع القرآن. على حين يتجه بها "الفخر الرازي" إلى تنبيه النبي عليه الصلاة والسلام، لا المشركين. قال يفصل هذا الوجه من وجوه تأويلها: "الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة، ومن يكون مشغول البال بشغل من الأشغال، يُقدّم على الكلام المقصود شيئاً غيره، ليلتفت المخاطب بسببه إليه ويقبل بقلبه عليه، ثم يشرع في المقصود. وذلك المنبه "قد يكون كلاماً له معنى مفهوم كقول القائل: اسمع، واجعل بالك إلىّ. . . وقد يكطون شيئاً في معنى الكلام المفهوم كقول القائل: أزيْدُ، ويا زيد، و. . . ألا يا زيد. وقد يكون صوتاً غير مفهوم كالصفير بالفم والتصفيق باليد. . . "والنبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان يقظان الجنان، لكنه إنسان يشغله شأن عن شأن، فكان يحسُن من الحكيم أن يقدم على الكلام المقصود حروفاً هي كالمنبهات. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 "ثم إن تلك الحروف بحيث تكون أتم في إفادة المقصود الذي هو التنبيه، من تقديم الحروف التي لها معنى. . . لأن المقدَّم إذا كان كلاماً منظموماً وقولاً مفهوماً، فربما يظن السامع أنه كل المقصود ولا كلام بعد ذلك، فيقطع الالتفات عنه. أما إذا سمع صوتاً بلا معنى فإنه يقبل ولا يقطع نظره عنه ما لم يسمع غيره، لجزمه بأن ما سمعه ليس هو المقصود. فإذن تقديم الحروف التي لا معنى لها في هذا الموضع، على الكلام المقصود، فيه حكمة بالغة". استجاده الإمام الجويني، أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف، فقال: "القول بأنها تنبيهات جيد، لأن القرآن كلام عزيز وفوائده عزيزة، فينبغي أن يرد على سمع متنبه، فكان من الجائز أن يكون الله قد علم في بعض الأوقات كونَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في عالم البشر مشغولاً، فأمَر جبريَل بأن يقول عند نزوله: "الم" و"الر" و"حم". . . ليسمع النبي صوت جبريل فيقبل عليه ويصغى إليه. وإنما لم يستعمل الكلمات المشهورة في التنبيه كـ: ألا وأمَا. . . لأنها من الألفاظ التي يتعارفها الناس في كلامهم، والقرآ، كلام لا يشبه الكلام، فناسبَ لأن يؤتىَ فيه بألفاظِ تنبيه لم تُعهد، ليكون أبلغ في قرع سمعه". * * * وقيل هي من حروف الجُمَّل، أو ما يسمونه "حساب أبي جاد" ويعنون به الأبجدية: أبجد هوز حطي كلمن. . . واتجهوا بدلالة الأعداد فيها، إلى مدة المِلة أو مدة الأمم السابقة، أو مدة الدنيا! . . . ولعل كل المرويات في تأويلها على حساب أبي جاد - مع اختلاف دلالته - تبدأ من قصة "حُيَىَّ بن أخطب اليهودي" وقد نقلها "ابن إسحاق" مفصلة في (السيرة النبوية) مع ما نقل من كيد يهود للإسلام، وجدلهم المعنت للمصطفى عليه الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 والسلام إثر هجرته إلى المدينة، وقد كانت هي وما حولها منطقةّ نفوذٍ لهم منذ حطوا عليها فراراً من وطأة الرومان، قبل المبعث بنحة خمسة قرون، فتسلطوا على مواردها الإقتصادية ومزقوا الوجود العربي فيها، بالعداوة والبغضاء. وخلاصة القصة، أن "أبا ياسر بن أخطب" مر بالمصطفى عليه الصلاة والسلام عام الهجرة، وهو يتلو فاتحة سورة البقرة، أول سورة نزلت بالمدينة: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} فأتى أبو ياسر أخاه "حيى بن أخطب" في نفر من يهود، فنقل إليهم ما سمع مما يتلو المصطفى من القرآن. فمشى "حيى" في النفر من قومه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأله فيما تلا من فاتحة البقرة، فلما استوثق منه قال: "لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بينَّ لنبي منهم ما ملكُه وما أجَلُ أمتِه غيرَك: الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون. فهذا إحدى وسبعون سنة، أفندخل في دين نبي إنما مدة مُلكه وأجَل أمته إحدى وسبعون سنة؟ " ثم استطرد يسأل: يا محمد، هل معك مع هذا غيرهُ؟ قال عليه الصلاة والسلام: نعم، المَصْ. قال حيى: هذه أثقل وأطول: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، فهذا إحدى وستون ومائة سنة، هل مع هذا غيره؟ رد المصطفى: نعم، الر. قال اليهودي: هذه أثقل وأطول: الألف واحدة واللام ثلاثون الراء مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة، هل مع هذا غيره؟ ولما ذكر المصطفى عليه الصلاة والسلام: المر، أحصاها حيى بن أخطب على حساب أبى جاد، فهي إحدى وسبعون ومائتان سنة. وعندها توقف، ثم قام وهو يقول للنبي عليه الصلاة والسلام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 "لقد لبس علينا أمرُك حتى ما ندري أقليلاً أُعطِِيتَ أم كثيراً وانصرف بالنفر من قومه، فتساءل أخوه أبو ياسر: ما يدرينا لعله جُمِعَ هذا كله لمحمد؟ وأحصى مجموع ما سمعوا من حروف، فبلغت سبعمائة وأربعا وثلاثين سنة. وقال النفر من اليهود: لقد تشابه علينا أمره. ومن هذا التأويل اليهودي، دخل القول بحساب الجُمَّل، حساب أبى جاد، يتنقل في كتب التفسير - بصورة أو بأخرى - مع غيره من الإسرائيليات التي خالطت الفهمَ الإسلامي للقرآن الكريم، ونقل السيوطي تأويل الفواتح بهذا الحساب، فيما جمع من أقوال السلف في هذه الحروف. ونقل معه شيخ الإسلام الحافظ "ابن حجر": "وهذا باطل لا يعتمد عليه، فقج ثبت عن ابن عباس الزجرُ عن عدَّ أبى جاد، والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر، وليس ذلك ببعيد، فإنه لا أصل له في الشريعة". وكذلك رفضه "الحافظ ابن كثير" من أئمة القرن الثامن للهجرة، (ت 774 هـ) ، قال: "وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدُدَ، وأنه يُستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم، فقد ادعى ما ليس له وطار في غيره مطاره. وقد ورد في ذلك حديث ضعيف، وهو مع ذلك أدلّ على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته، وهو ما رواه محمد بن إسحق بن يسار صاحب المغازي قال: حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله بن رئاب، قال: مر أبو ياسر بن أخطب - ونقل القصة كما وردت بسندها في السيرة لابن إسحاق عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 ابن الكلبي - فهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي، وهو ممن لا يحتج بما اتفرد به". ويُفهم من عبارة "ابن كثير" أن حساب أبي جاد بدأ في قصة ابن أخطب اليهودي - في السيرة النبوية - بِعَدَّ الحروف مدة الإسلام وأجَلَ أمته، قد أضافت إليه العصور، بعد ابن إسحاق في القرن الثاني للهجرة، استخراجَ أوقات الحوادث والفتن والملاحم، من حساب الحروف بعدَّ أبى جاد! وقد استسخفه الشيخ الإمام محمد عبده وقال فيه: "إن أضعف ما قيل في هذه الحروف وأسخفه، أن المراد بها الإشارة بأعدادها في حساب الجُمَل إلى مدة هذه الأمة أو ما يشابه ذلك. وروى ابن إسحاق حديثاً في ذلك عن بعض اليهود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. . . "ولا يزال يوجد في الناس، حتى علماء التاريخ واللغات منهم، من يرى أن في هذه الحروف رموزاً إلى بعض الحقائق الدينية والتاريخية ستظهره الأيام" ثم بدا للسيد الأستاذ "على نصوح الطاهر"، أن يتجه بحسابها العددي إلى عدد حروف السوَر التي افتتحت بها، لكن المحاولة - وقد نشرها في رسالة مطبوعة في القدس، سنة 1960 - لم تسلم بعد الجهد الإحصائي المضني. * * * وقيل إن الحروف في مفتتح السور تشير إلى غلبة مجيئها في كلمات هذه السورة. ذكره "الزركشي" بمزيد تفصيل في (البرهان) : بياناً لوجه اختصاص كل سورة بما بدئت به، حتى لم تكن لترد (الم) في موضع (الر) ولا (حم) في موضع (طس) قال: "وكل سورة بدئت بالحروف المفردة، فإن أكثر كلماتها وحروفها مماثل له، فحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 لكل سورة منها ألا يناسبها غير الواردة فيها. فلو وضع (ق) في موضع (ن) لم يكن، لعدم التناسب الواجب مراعاته في كلام الله. وسورة ق بدئت به لما تكرر فيها من الكلمات بلفظ القاف، من ذكر: القرآن، والخلق، وتكرار القول ومراجعته مراراً، والقرب من ابن آدم، وتلقي الملكين، وقول العتيد، وذكر الرقيب والسائق، والقرين، والإلقاء في جهنم، والتقدم بالوعيد، وذكر المتقين والقلب، والقرن، والتنقيب في البلاد، وتشقق الأرض، وإلقاء الرواسي فيها، وبسوق النخل، والرزق، والقوم، وخوف الوعيد وغير ذلك. . . "وتأمب ما اشتملت سورة (ص) على خصومات متعددة، فأولها خصومة الكفار مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، اختصام الخصمين عند داود، ثم تخاصم أهل النار، ثم اختصام الملأ الأعلى في العلم، ثم تخاصم إبليس في شأن آدم. . . وكذلك سورة (ن، والقلم) : فإن فواصلها كلها على هذا الوزن، مع ما تضمنت من الألفاظ النونية" ولا أدري ما وجهه، وفي فواصل سورة القلم: عظيم، الخرطوم، زعيم، مكظوم، مذموم. مع: يكتبون، الصالحين، متين، مثقلون! ويبدو أن الملحظ لما لم يطرد في سائر السور المفتتحة بالحروف، عمد الزركشي إلى التأويل والتخريج، حتى خرج بها إلى إشاريات بعيدة من مثل قولها: "و (الم) جمعت المخارج الثلاثة: الحلق واللسان والشفتين، على ترتيبها. وذلك إشارة إلى البداية التي هي بدء الخلق، والنهاية التي هي بدء الميعاد، والوسط الذي هو المعاش من التشريع بالأوامر والنواهي, وكل سورة افتتحت بها (الم) فهي مشتملة على الأمور الثلاثة. "وسورة الأعراف زيد فيها الصاد على (الم) - المص - لما فيها من شرح القِصص: قصة آدم فمن بعده من الأنبياء، ولما فيها من ذكر {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} ولهذا قال بعضهم، معنى (المص) : {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وذهب الظاهرية إلى أنها من المتشابه، قال أبو محمد ابن حزم: "والمتشابه من القرآن هو الحروف المقطعة والأقسام فقط، إذ لا نص في شرحها ولا إجماع، وليس فيما عدا ذلك متشابه على الإطلاق". * * * واستراح قوم من كل هذا العناء المضني الذي لا ينتهي في أي وجه قيل، إلى ما يُطمأن إليه من اطراد في كل فواتح السور، فقالوا إنها سر من مكنون علمه تعالى: ورووا عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال: "في كتاب الله سر، وسر الله في القرآن، في الحروف التي في أوائل السور". وحوّم حول هذا، جماعة من القائلين بعلوم الحروف، ذكرهم "أبو حيلن" وقال: "وقد أنكر جماعة من المتكلمين أن يكون في القرآن ما لا يُفهم معناه. فانظر إلى هذا الاختلاف المنتشر الذي لا يكاد ينضبط في تفسير هذه الحروف والكلام عليها. والذي أذهب إليه أن هذه الحروف في فواتح السور هو المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، وسائر كلامه تعالى محكم. . . "وإلى هذا ذهب أبو محمد علي بن أحمد اليزيدي، وهو قول الشعبي والثوري وجماعة من الحدَّثين. قالوا: هي سر الله في القرآن، وهي من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه، ولا يجب أن نتكلم فيها ولكن نؤمن بها وتمر كما جاءت. وقال الجمهور: بل يجب أن نتكلم فيها وتُلتمس الفوائد التي تحتها والمعاني التي تتخرج عليها. واختلفوا في ذلك الاختلاف الذي قدمناه. قال ابن عطية: والصواب ما قال الجمهور، فنفسر هذه الحروف ونلتمس لها التأويل". ويبدو أن القول بأنها من المتشابه، هو ما غلب على المتأخرين بحيث ساغ للسيوطي أن يضع الأقوال المختلفة في هذه الحروف في نوع المتشابه، وإن لم يقصره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 عليها بل أضاف إليها غيرها إنه من متشابه القرآن. وقد بدأ الفصلَ الخاص بالحروف، من نوع المتشابه، بقوله: "ومن المتشابه أوائل السور. والمختار فيها أنها من الأسرار التي لا يعلمها إلا الله تعالى". . . "وخاض في معناها آخرون" ممن نقل الجلال السيوطي اقوالهم في هذا الباب. * * * ويئس بعضهم من ذلك الجدل المثار في الحروف، واختلاف الأقوال في تأويلها. منهم القاضي "أبو بكر ابن العربي" الذي قال، فيكا نقل السيوطي من كلامه في (فوائد رحلته) : "ومن الباطل علمُ الحروف المقطعة في أوائل السور. وفد تحصل لي فيها عشرون قولاً وأزيد. ولا أعرف أحداً يحكم عليها بعلم ولا يصل فيها إلى فهم. والذي أقوله إنه لولا أن العرب كانوا يعرفون لها مدلولاً متداولاً عنهم لكانوا أول من أنكر ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم -. بلا تلا عليهم (حَمَ) و (صَ) وغيرها فلم ينكروا ذلك، بل صرحوا بالتسليم له في البلاغة والفصاحة، مع تشوفهم إلى عثرة وحرصهم على زلة. فدلَّ على أنه كان أمراً معروفاً بينهم لا إنكار فيه" . . . . . . . . . فماذا عساه أن يكون ما عرف العرب من دلالة هذه الحروف المقطعة في فواتح السور؟ لا يمكن أن يكونوا عرفوها إذا كانت من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه. ومثله في البعد عن إدراكهم، أن تكون حروفاً يتألف منها الأسم الأعظم أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 اسم ملك من ملائكته تعالى أو نبي من أنبيائه، فذلك أيضاً مما لم يحيطوا به علماً؛ ولا نتصور أنهم، الأمين، عكفوا على حساب الجُمَّل يعدون الحروف على عدَّ أبي جاد، كما فعل اليهودي "حيى بن أخطب، وأخوه أبو ياسر" كما لا يسهل أن نتصور أنهم راحوا يحصون حرف القاف في (سورة ق) ومواقف الخصومة في سورة (ص) أو يربطون بين بداية الخلق ونهايته والمعاش والتكليف بينهما، بمخارج حروف (الم) من الحلق واللسان والشفتين. . . . * * * ثم يرد على كل هذه الأقوال، سؤال عن وجه اختصاص بعض سور القرآن بفواتح من حروف مقطعة دون سائر السور. وإن كان الزمخشري يرى أن هذا السؤال ساقط "كا إذا سَمَّى الرجل بعض أولاده زيداً والآخر عَمْراً، لم يُقَلْ له: لم خصصت ولدك هذا يزيد وذاك عمرو؟ لأن الغرض هو التمييز، وهو حاصل أية سلك. ولذلك لا يقال: لم سُمَّي هذا الجنس بالرجل وذاك بالفرس، ولم قيل للانصتاب القيام، ولنقضيه القعود؟ " على حين لم يُسقط الفخر الرازي هذا السؤال عن حكمة اختصاص بعض السور بحروف الفواتح دون سائر السور، بل رد عليه فقال: "عقل البشر عن إدراك الأشياء الجزئية على تفاصيلها عاجز، والله أعلم بجميع الأشياء، لكن نذكر ما يوفقنا الله له" ثم مضى فقدم في رده ملحظاً هاماً هو: غلبة ذكر القرآن أو الكتاب بعد هذه الفواتح. قال: "كل سورة في أوائلها حروف التهجي، فإن في أوائلها ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن، كقوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} {المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} {يس (1) وَالْقُرْآنِ} {ص وَالْقُرْآنِ} {ق وَالْقُرْآنِ} {الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} إلا ثلاث سور: {كهيعص} ، {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ} ، {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ} - أي: مريم، والعنكبوت، والروم. لكن الفخر الرازي لم يمض بهذا الملحظ الهام إلى تدبر سر الحرف في الإعجاز البياني، بل ربطه بتأويلها بالمنبهات، ورأى "أن الحكمة في افتتاح السور التي فيها القرآن أو التنزيل أز الكتاب بالحروف، هي أن القرآن عظيم، والإنزال له ثقل، والكتاب له عبء كما قال تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} وكلُّ سورة في أولها ذِكْرُ القرآن والكتاب والتنزيل، قدم عليها منبه يوجب ثبات المخاطب لاستماعه". ولم يفت الرازي أنَّ ربك الفواتح بذكر تالقرآن والكتاب والتنزيل، لا يسلم له طرداً ولا عكساً كما يقول المناطقة. فثقل القرآن لا تختص به السور المفتتحة بالحروف دون سائر السور الأخرى. فضلاً عن وجود ذُكَرِ الإنزالُ زالكتاب في آياتها الأولى، غير مفتتحة بالحروف، مثل سور: الكهف: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الفرقان {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} القَدْر: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} الزُّمَر: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} كما أن التنبيه، جاء في القرآن بغير الحروف المقطعة، كالنداء في سور النساء والحج والتحريم، والبدء بواو القسم في مثل سور الضحى والعصر والليل والفجر والشمس والنجوم. . . وعدم ذكر البسملة، في سورة التوبة. وقد رد الرازي على الأول، بأن السورة التي فيها ذكر القرآن تُنبه على كل القرآن. وردَّ على الثاني بأن هذه السور غير المفتتحة بالحروف، ليست واردة على مشغول القلب بشيء غير القرآن. وردّ على الثالث بأن أوائل الحج والتحريم أشياء هائلة عظيمة. وأما السور التي افتتحت بالحروف ولم يذكر بعدها القرآن أو التنزيل، فعلَّله بأن ثقل القرآن، بما فيه من التكاليف والمعاني. ولا يبدو ردهُّ مقنعاً، بل هو واضح التكلف. وكان "الزركشي" أوضح مسلكاً وأنأى عن تكليف، إذ اكتفى بقوله: "واعلم أن عادة القرآن العظيم في ذكر هذه الحروف، أن يذكر بعدها ما يتعلق بالقرآن. . . وقد جاء بخلاف ذلك في العنكبوت والروم، فيسأل عن حكمة ذلك." وهو ما حاوله "الحافظ ابن كثير" فهداه الاستقراء إلى أن كل سورة افتتحت بالحروف فلابد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه. على ما سوف ننقل فيما يلي. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 ولعل أقرب ما قالوه في حروف الفواتح، إلى طبيعة البيان وقضية الإعجاز، هو أن هذه الحروف ذكرت لتدل على أن القرآن مؤلف من حروف هجائهم، مفردة أو مركبة "ليدل القوم الذين نزل القرآن بلغتهم، أنه بالحروف التي يعرفونها ويبنون كلامهم منها". ذكره الإمام الطبري في تفسيره، وأتى به الزمخشري في بيان مجئ الحروف مقطعة "مسرودة على نمط التعديد، كالإيقاع وقرع العصا لمن تُحدى بالقرآن وبغرابة نظمه، وكالتحريك إلى النظر في أن هذا المتلو عليهم، وقد عجزوا عنه من آخرهم، كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم، ليؤديهم النظر إلى أن يستيفنوا أنْ لم تتساقط مقدرتهمة دونه ولم يظهر عجزهم عن أن يأتوا بمثله بعد المراجعات المتطاولة، وهم أمراء الكلام وزعماء الحوار، وهم الحراص على التساجل في اقتضاب الخطب والمتهالكون على الافتنان في القصيد والرجز؛ ولم يبلغ من الجزالة وحسن النظم المبالغ التي بزت بلاغة كل ناطق وشقت غبار كل سابق، ولم يتجاوز الحد الخارج من قوى الفصحاء، ولم يقع وراء مطامح أعين البصراء إلا لأنه ليس بكلام البشر". وبعد أن ساق الزمخشري ملحظ مجئ الفواتح على حرف، واثنين، وثلاثة، وأربعة، وخمسة، كمجئ ألفاظ العرب وأبنيتهم على هذا لم تتجاوز، انتصر لهذا الوجه الذي يربط حروف الفواتح بالإعجاز فقال: "وهذا القول من القوة والخلاقة بالقبول بمنزل، إشارة إلى ما ذكرتُ من التبكيت لهم وإلزام الحجة إياهم". نقله الحافظ ابن كثير في تفسيره، وأضاف: "قلت: ولهذا، كل سورة افتتحت بالحروف فلابد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته. وهذا معلوم بالاستقراء، وهو الواقع في تسع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وعشرين سورة ولهذا يقول تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} {المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} {الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء - القائلون بأنها إشارة إلى أن القرآن المعجز جاء من مألوف حروفهم - لمن أمعن النظر". وينتصر الحافظ ابن كثير لهذا المذهب في مجئ هذه الحروف "بياناً لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها. وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين، وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحز هذا. وقرره الزمخشري في (كشافه) ونصره أتم نصر، وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية، وشيخنا الحافز المجتهد أبو الحجاج المزى، وحكاه لي عن ابن تيمية". وترى هذا الكلام بنصه تقريباً، قد نقله السيد محمد رشيد رضا، معقباً به على قول الشيخ محمد عبده: "آلم: هو وأمثاله أسماء للسور المبتدأة به. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 "وحكمه التسمية والاختلاف في: {الم} ، {المص} نفوض الأمر فيها إلى المسمى سبحانه وتعالى. ويسعنا في ذلك ما وسع صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتابعيهم. وليس من الدين في شيء أن يتنطع متنطع فيخترع ما يشاء من العلل التي قلما يسلم مخترعها من الزلل". * * * هذا الوجه الذي لمحه الإمام الطبري، وقال به عدد من أئمة المحققين، لغويين ومفسرين، وقرره الزمخشري ونصره أتم نصر، وأيده ابن كثير بما حكاه عن شيوخه. . .؛ هو فيما نرى أقرب ما يكون طبيعة الكتاب العربي المبين في إعجاز بيانه. ومن ثم أستخلصه من بين حشد الأقوال التي تأولوا بها فواتح السور وزادت على العشرين، فيما ذكر القاضي أبو بكر ابن العربي في فوائد رحلته. وأمعن النظر فيها بمزيد تدبر، لعلى أجتلة منها ما أضيفه إلى ما قاله السلف الصالح في مجئ الفواتح بهذه الحروف التي يبني العرب منها كلامهم "بياناً لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثله، مع أنه مركب من الحروف التي يتكلمون بها". وقد نقلنا ما وصل إليه جهدهم، من مجئ هذه الحروف القرآنية على حد النصف من حروف التهجي العربية، على أي وجه صنفها به علماء العربية وفقهاء اللغة بعد عصر نزول القرآن. وليس لدىّ ما أضيف إلى هذا المجال. ويبقى أن أتابع ما التفت إليه الرازي من غلبة مجئ هذه الحروف في سور مفتتحة بآيات فيها ذكر القرآن أو الكتاب أو التنزيل. فلا أربطها به من "المنبهات التي توجب ثبات المخاطب لاستماعه"ولا ألمح فيها ما لمحه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 الآيات بعدها من ثقل العبء، من حيث لا أرى هذه السور تنفرد عن سائر سور القرآن، بهذا الملحظ. وإنما أتابع ما قرره "ابن كثير" في "أن كل سورة افتتحت بالحروف فلابد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه. وهذا معلوم بالاستقراء، وهو الواقع في تسع وعشرين سورة" وهو استقراء كامل كما ترى، وان اكتفى "الحافظ" بأن استئهد بسبع مبتدأة بالفواتح، ومعها مفتتح ثلاث سور من الحواميم. وفيها جميعاً يأتي ذكر الكتاب أو القرآن والتنزيل، في مستهل السور. وقد علق ناشر (تفسير ابن كثير) - السيد محمد رشيد رضا - على هذا الملحظ، فكتب بهامشه: "ولكن الاستقراء غير تام، لأن سورة مريم ليست كذلك". ومن قبله التفت "الفخر الرازي، والزركشي" إلى أن سورة مريم، ومعها سورتا العنكبوت والروم، افتتحت بالحروف المقطعة، دون أن يليها ذكر القرآن أو الكتاب: مريم: {كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} العنكبوت: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} الروم: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} ولم يفت الرازي والزركشي تخلفُ هذه السور الثلاث عن الملحظ في مجئ الكتاب أو القرآن والتنزيل، في مستهل السور المفتتحة بالحروف المقطعة، على ما نقلنا من كلامها آنفاً. على حين لا نرى وجهاً لتعليق السيد محمد رشيد رضا على ملحظ "ابن كثير" من حيث لم يُقيده بالآيات التاليه للفواتح في مستهل السور، وإنما أطلق القول بأن "كل سورة افتتحت بالحروف فلابد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 قوله: يُذكَر فيها، لا يقيد الانتصار للقرآن بالآيات التالية للفواتح، وإنما يطلقه فيجئ في أي موضع من السورة. وهذا ما لم ينتبه إليه السيد رشيد رضا، كما فات الرازي أن يلحظه فقيد ذكر القرآن بأوائل السور، ومن ثم تخلفت سور مريم والعنكبوت والروم، مفتتحة بالحروف المقطعة، لا يتلوها ذكر الكتاب أو القرآن والتنزيل. وبتدبر السور الثلاث، يطرد ملحظ ابن كثير، لا تتخلف عنه سورة مريم - كما وهم السيد رضا - وفيها يتكرر قوله تعالى للمصطفى عليه الصلاة والسلام: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ. . .} خمس مرات - آيات: 16، 41، 51، 54، 56 - ثم تختتم السورة بقوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} 97، 98 كما يسلم الملحظ نفسه، لا يتخلف، في سورة العنكبوت، وفيها من آيات الانتصار للقرآن والاستدلال لإعجازه، ردّاً على جدل المشركين والمرتابين وأهل الكتاب، قوله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 45: 52 وكذلك يطرد الملحظ لا يتخلف، في سورة الروم، وفي ختامها تأتي هذه الآيات احتجاجاً للقرآن: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} 58: 60 * * * ماذا عسانا أن نضيف إلى هذا الملحظ الهام الذي يتصل اتصالاً قوياً ومباشراً، بما يشغلنا من أمر الإعجاز البياني؟ يتجه منهجنا ابتداء، إلى استقراء كامل لجميع السور المفتتحة بالحروف المقطعة، مرتبة على حسب النزول. وهي محاولة لا أعلم أن أحداً ممن قرأت لهم في هذه الفواتح قد اتجه إليها، مع أنها التي يمكن أن تهيدنا إلى ملحظ مشترك في هذه السور جميعاً، مأخوذ من تدبر سياقها وفهم طبيعة المقام الذي اقتضى إيثارها بهذه الفواتح، مرتبطاً بسير الدعوة عصرَ المبعث ونزول آيات المعجزة: وأول سورة نزلت مفتتحة بالحرف، هي سورة القلم ثاني السور على المشهور في ترتيب النزول. واللافُت اقترانُ الحرف فيها بالقلم وما يسطرون، والرد على المجادلون في المعجزة: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} 1: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 واضح أن الآيات موجهه إلى تأييد نبوة المصطفى عليه الصلاة والسلام، تثبيت قلبه في مواجهة من يكذبونه ويجادلون في معجزته، فيزعمون أن هذا القرآن من مثل ما يسطرون من أساطير الأولين. والرسول في أول عهده بالوحي كان في أشد الحاجة إلى ما يثَّبت فؤاده ويذهب عنه قلق النفس وشواغل البال من ناحية المشركين من طواغيت قريش. وقد وصفوه بالجنون حين دعاهم إلى ترك أوثانهم التي وجدوا آباءهم لها عابدين. وزعموا أن هذا القرآن أساطير الأولين. وإنهم لعلى عِلم بتلك الأساطير، وفيهم من كان يكتبها ويتلو منها تحدياً للمصطفى عليه الصلاة والسلام. على ما في (السيرة النبوية: 1 / 321) . وهذه هي آيات المعجزة معروضة عليهم بلغتهم وحروفهم، فليقابلوها على ما لديهم مما كانوا يسطرون. ويأتي النذير الصادع في ختام السورة: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} لقد بدأ إذن جدل المشركين في المعجزة من أول المبعث، ولم يكن قد نزل من القرآن غير الآيات الأولى من سورة العلق. ومجئ الحرف (ن) في سورة القلم المكية المبكرة، فيه لفت واضح إلى سر الحرف في البيان المعجز: فمن حيث يجادل المشركون في القرآن ويحملونه على أساطير الأولين، يبدأ الاحتجاج للقرآن بأن يعرضوه على ما عرفوا منها، وإن كلماته لمن الحروف التي عرفوها. ونربط هذا الاحتجاج للمعجزة في سورة {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} بما نزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 قبلها مباشرة في مستهل الوحي، وقد كانت كلمته الأولى: "اقرأ" وفيها لفت إلى آية الله الكبرى في الإنسان، خلقه الله من علق، وعلم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم. فكأن نزول سورة القلم بعدها مبتدأه بحرف (ن) يلفت إلى سر الحرف الذي هو مناط القراءة والعلم والبيان، تنطق به في حروف التهجي، منفرداً منقطعاً فلا يعطي أي معنى أو دلالة، وما يخرج عن مجرد صوت. ثم يأخذ الحرف موضعه من الكلمة فيتجلى سره الأكبر. وما كان المصطفى بقارئ، ولا كان يتلو من كتاب من قبل القرآن ولا يخطه بيمينه. والمشركون بحيث لا يجهلون أنه ليس كأساطير الأولين التي يعرفون ويسطرون، لكنهم جادلوا فيه عناداً واستكباراً أن يؤمنوا بنبوة بشر مثلهم. ومن ثم توالى الوحي، بعد أن لفتهم إلى سر الحرف في آية القلم، يبهرهم بآيات هذا القرآن لعلهم بما يجركون من إعجاز بيانه، يكفون عن جدل فيه. فلما أصروا على عنادهم، اتجه إلى صريح التحدي والمعاجزة، إلزاماً لهم بالحجة. وقيبل التحدي والمعاجزة، في العهد المكي، نزلت تسع سور مفتتحة بالحروف المقطعة. من هذه السور يبدو أن الدجل في المعجزة قد اشتد وأن المشركين أصروا على التكذيب بها وحملها إما على أساطير الأولين، أو على قول شاعر أو كاهن أو ساحر. ويسجل القرآن دعاواهم ومزاعمهم، متجهاً إلى دحضها والكشف عن زيفها وبطلانها، بالاحتجاج للمعجزة، وسوق العبرة بمن مضى من أمم كذبوا برسالات ربهم واتهموا رسله بالافتراء، وبالسحر والجنون، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر. إيناساً للمصطفى عليه الصلاة والسلام فيما يحمل من أعباء رسالته وما يلقى من تكذيب قومه، وتذكرةّ وعبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.. وهذه هي آيات الجدل والاحتجاج في السور التسع التي نزلت مفتتحة بالحروف المقطعة، قيبل مواجهة العرب المشركين بصريح التحدي والمعاجزة، نوردها هنا على المشهور في ترتيب النزول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 34، سورة ق: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} 37.. {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} 45. 38 - سورة ص: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} 1: 8 {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} 29. {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} 89: 88. 39 - الأعراف: {المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} 1: 6 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 52: 53. {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} . إلى قوله تعالى: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 182: 204. 41 - يس: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} 1: 7. {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} 69: 70. 44 - مريم. {كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} 1: 2. {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} 73: 74. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} 96: 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 45 - طه: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} 1: 6. {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} 113: 114. {وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى} 133: 135. 47 - الشعراء: {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} 1: 6. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 191: 195. {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} 210: 212. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 48 - النمل: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 91: 93. 46 - القصص: {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 1: 3 {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} 44: 51. {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 85: 88. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وفي هذه السور التي تقارب وقتُ نزولها، كما تقارب ترتيبُها في المصحف، يبدو التركيزُ، في الاحتجاج للمعجزة، على ما تلا القرآن من قصص المرسلين الذين كُذَّبوا. فإن كذَّب المشركون بمحمد رسولاً، فكذلك كذب من قبلهم قومُ نوح، وعاد وثمود، وقوم لوط وإبراهيم وموسى وعيسى. وإن جادل المشركون في معجزة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فكذلك جادل الأولون في معجزات الرسل عليهم السلام. ولا يخطئنا أن نلتفت إلى وصفه تعالى للقرآن بأنه: كتاب عربي مبين، تنزيل من رب العالمين، نزل به الوحي على خاتم المرسلين، ويسرَّه بلسانه ليبشر به المتقين وينذر به قوماً لُدّاًَ. وفي سورة القصص، العاشر من السور المكية الأولى المفتتحة بالحروف المقطعة، تبدأ المعاجزة والتحدي، بأن يأوا بكتابٍ من عند الله هو أهدى مما أوتى محمد وموسى، عليهما السلام. كما لا يفوتنا أن نلحظ أن الفواتح بدأت في السور الثلاث الأولى منها، بحرف واحد، ن، ق، ص. لافته إلى سر الحرف. ثم نزلت سور "الأعراف ويس ومريم وطه والشعراء والنمل والقصص" بفواتح من حرفين: يس، طه، طس، وثلاثة: طسك. وأربعة: المص، وخمسة كهيعص. وألفاظ العربية مبنية على مثل هذا العدد من الأحرف التي نزل بها الكتاب العربي المبين. فلفتت إلى أن الحروف قد تتألف منها ألفاظ عجماء، فإذا أخذ الحرف موضعه في البيان، تجلَّى سرُّه. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 بعد أن نزلت عشر سور مفتتحة بالحروف المقطعة أولاها "ن" وعاشرتُها سورة القصص المفتتحة بـ "طسم" والتي بدأ فيها تحدي المكذبين المجادلين بأن يأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى من القرآن والتوراة. نزلت سورة الإسراء - الخمسون في ترتيب النزول - تواجههم بصريح المعاجزة بمثل هذا القرآن، في سياق تعنت المشركين في جدلهم في المعجزة، وما اقترحوا على المصطفى من دلائل أخرى تقنعهم بنبوة بَشَرٍ رسول: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} 88: 96. {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} 105: 109 بلى، هو بشَر رسول، معجزته هذا الكتاب العربي المبين، يعرف الذين نزل بلسانهم كما لا يعرف سواهم من غير العرب، أنه يعيى الإنس ومن يظاهرهم من الجن، أن يأتوا بمثله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 ومن ثم واجَه المكذبين والمجادلين بالتحدي والمعاجزة، مع تتابع نزول السور مفتتحة بهذه الحروف المقطعة التي يتألف كلام العرب منها، ولا سبيل لأحد من أصحاب هذه العربية، لغة القرآن، وأمراء بيانها، أن يأتوا بسورة من مثله. فهل يقولون افتراه؟ فيم إذن عجزهم عن الإتيان بمثل ما افتراه، وإنه ليتحداهم تحدياًَ جهيراً معلناً، بعد أن أعلن - في آية الإسراء - عجز الإنس والجن مجتمعين أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً؟ بعد نزول سورة "الإسراء" بهذه المعاجزة، نزلت مباشرة سورتا "يونس وهود" مفتتحين بالحروف "الر" مع آيات الكتاب الحكيم، كتاب أحمت آياته ثم فُصَّلت من لَدُنٌ حكيم خبير. وفي السورتين آيات تحدَّ ومعاجزة، رداً على جدل المشركين في المعجزة: في يونس - وترتيبها في النزول الحادية والخمسون - يتحداهم أن يأتوا بسورة مثله: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} 37: 44. بل لماذا وقد زعموا أن محمداً افتراه، لا يأتون بعشر سُوَرٍ من مثله مفتريات كما تحدتهم آية "هود" الثانية والخمسون، في ترتيب النزول - وألزمتهم الحجة إن لم يفعلوا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 12: 14. وتلتها سور "يوسف،، الحجر، لقمان" ترتيبها على التوالي: 53، 54، 57، مففتحة بالحروف "الر، الر، الم" متلوة بآيات الكتاب وقرآن مبين، هدى ورحمة. وفيها جميعاً آيات تؤكد الاحتجاج لهذا القرآ، العربي المبين الذي نزل بلسانهم، وتكشف عن سَفَهِ تورظهم في الجدل في المعجزة، بعد أن عجزوا عن الإتيان بسورة من مثل هذا القرآن، كانت، لو أنهم استطاعوا، بحيث تغنيهم عن اللدد في الخصومة. 53 - يوسف: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} 1: 3. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 54 - الحجر: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} 1: 15. 57: لقمان: {الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} 1: 7 {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 27. ثم نزلت الحواميم السبع متتالية في ترتيب نزولها (60: 66) متتالية كذلك في ترتيب المصحف (40: 46) وهي سور: غافر، فصلت، الشورى، الزخرف، الدخان الجاثية، الأحقاف. وكلها تبدأ بحرفى "حم" ومعهما في سورة الشورى: "عسق" وفيها جميعاً احتجاج للقرآن ردّاً على جدل المكذبين، فهي تستهل بعد الأحرف المقطعة، بتقرير تنزيله من العزيز الحكيم، كتاباً عربياً مبيناً فُصَّلت آياته لقوم يعلمون، وتنذر من جادلوا فيه بالباطل، بمثل ما حاق بالذين كذبوا من قبلهم بآيات الله وجادلوا فيها فأخذهم، وتَرُد عن المصطفى تهمة الافتراء ودعوى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 السحر، فما كانت عليه الصلاة والسلام بدْعاً من الرسل، وإنما يتبع ما أوحى إليه فليصبر على عنت المجادلين وتكذيب الضالين: 60 - غافر: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} 1: 5 {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 56. {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} 77: 78. 61 - فُصلت: {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} 1: 6. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} 40: 44 62 - الشورى: {حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1: 3 {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} 7. {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} 16: 17 {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} 23: 24. {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} 51: 53. 63 - الزخرف: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} 1: 8 {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 30: 32. {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} 40: 44. 64: الدخان: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 1: 6 {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} 10: 14. {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} 58: 59. 65 - الجاثية: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. . .} 1: 2. {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} 6: 9. {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 20 66 - الأحقاف: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} 1: 2. {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} 7: 12. * * * بعد الحواميم، نزلت خمس سور بغير فواتح من الحروف المقطعة، وكان المتوقع أن ينتهي جدل المشركين في المعجزة، من حيث لزِمْتهم الحجةُ ولم يبقَ أمامهم إلا التسليم بأن هذا الكتاب العربي المبين، تنزيل من رب العالمين. ولكنهم عادوا يَلْغُون فيه، ونزلت سورتا إبراهيم (72) والسجدة (75) مبدوءتين بالأحرف: "الر، الم" مقترنة بتقرير إنزال الكتاب من الله ودحض حجج من جادلوا فيه. 7 - إبراهيم: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1: 4. 75 - السجدة: {الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} . بعدهما نزلت سورتا الطور، والحاقة (76، 78) بغير فواتح، ومن آياتهما ندرك أن المشركين لجوا في عنادهم وكفرهم، وضاقوا بهذا التحدي الذي كشف عجزهم وألزمهم الحجة، فعادوا على بدء، يخبطون في متاهة الحيرة ويتعثرون في أمر هذا القرآن، لا يستقرون على قول فيه، كدأبهم في أول المبعث حين تحيروا فيه بين أن يقولوا هو قول شاعر، أو كاهن أو مجنون. وإنهم لعلى يقين من أن العرب تدري من الشعر والكهانة والجنون، ما لا يمكن أن يصدقوا هذه المزاعم فيما يتلو المصطفى، عليه الصلاة والسلام، من آيات القرآن. 76 - الطور: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} 29: 34. 78 - الحاقة: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} 38: 52 بعد هذا التحدي الصادع المكرَّر، نزلت، في أواخر العهد المكي، سورتا الروم والعنكبوت مقتتحتين بـ "الم" ولا تستهل السورتان بذكر القرآن وتنزيله من رب العالمين، لكن فيهما كلتيهما، احتجاجاً للمعجزة التي يصر المبطلون، ممن عميت قلوبهم، على جحدهم كع ظهور آيتها لكل ذي بَصَرٍ وبصيرة. 84 - الروم: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} 1: 3. {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} 58: 60. 85: العنكبوت: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} 1: 2. {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 45: 51. * * * وبدأ الوحي في العهد المدني، بعد الهجرة، بسورة "البقرة" مفتتحة بِـ: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} 1: 2 وفي هذه السورة المدنية الأولى، حسم القرآن قضية المعاجزة بهذا التحدي الصادع: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 23: 24. وبعدها، لم تنزل سورة مبدوءة بالحروف المقطعة، غير سورتى آل عمران والرعد، وهما من أوائل السور المدنية، وفيهما يطرد ملحظ الاحتجاج للمعجزة وتقرير نزولها بالحق من الله الحي القيوم، وإنذار الذين كفروا بها، بعذاب شديد، والله عزيز ذو انتقام. 3 - آل عمران: {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} 1: 4. {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 9 - الرعد: {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} 1. {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} 31: 32. {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} 37. * * * بسورة الرعد، انتهت السور المبدوءة بفواتح من أحرف مقطعة، كما انتهت قضية التحدي والمعاجزة بآية البقرة التي كررت تحديهم بأن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن إن كانوا في ريب منه، فإن لم يفلعوا، ولن يفعلوا، فليتقوا النار. * * * ونخلص من هذا الاستقراء الكامل للفواتح في سورها وترتيب سياقها، بالملاحظ الآتية: 1 - أنها بدأت من أوائل الوحي في سورة القلم، لفتة إلى سر الحرف، ثم كثرت وتتابعت في أواسط العهد المكي - من سورة ق وترتيب نزولها الرابعة والثلاثون إلى سورة القصص وترتيب نزولها التاسعة والأربعون - حين بلغ الجدل في القرآن أشده، فعُرِضَتْ قضية التحدي، وظلت آيات القرآن تعاجزهم وتتحداهم أن يأتوا بمثله أو بسورة منه، إلى أول العهد المدني الذي نزلت فيه آية البقرة فحسمت الجدل العقيم، بعد أن لزمتهم الحجة على صدق المعجزة، بعجزهم مجتمعين أن يأتوا بسورة من مثله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 2 - ما من سورة بُدئت بالحروف المقطعة، إلا كان فيها احتجاج للقرآن وتقرير نزوله من عند الله، ودحض لدعاوى من جادلوا فيه. مع التنظير لموقف المجادلين فيه، بموقف أمم قبلهم كذبوا بآيات الله واستهزئوا برسله تعالى فحق عليهم العقاب. 3 - أكثر السور المبدوءة بالفواتح، نزلت في المرحلة التي بلغ فيها عتو المشركين أقصى المدى، وأفحشوا في حمل الوحي على الافتراء والسحر والكهانة، فواجههم القرآن بالتحدي. وعاجزهم مجتمعين، ومن ظاهرهم من الجن، أن يأتوا بسورة من مثله مفتراة، أو فليأتوا بعشر سور، أو بحديث مثله، ما داموا يزعمون أن محمداً افتراه وتقوله. وأفحموا، عجزوا جميعاً عن أن يأتوا بسورة من مثله، وإنه لكتاب عربي مبين: ألفاظه من لغتهم، وحروفه هي حروف معجمهم، تلك الحروف التي تقرأ مقطعة مفردة أو مركبة، فلا تعطي دلالة ما، لكنها حين تأخذ مكانها في القرآن يتجلى سرها البياني المعجز. * * * هكذا وقفتُ أمام فواتح السور، فكانت اللمحة المضيئة لسر الحرف. وما أعجب سره: ما أعجب أن تتحق آيات الإنسان الناطق، بحروف من مثل: ا، ح، ر، س، ص، ط، ع، ق، ك، ل، م، ن، هـ، ى! حروف صماء، قد تتألف منها أصوات عجماء لا تُبين ولا تنطق. ومنها تصاغ الكلمات فيحقق بها الإنسان آية نطقه وبيانه، ويحقق آية القراءة والعلم، متميزاً عن الحيوان الأعجم، ومرتقياً بإنسانيته إلى درجتها العليا في الكائنات، ومحتملاً بها أمانة التكليف ومسئولية الخلافة في الأرض. وبها نزلت آيات المعجزة البيانية، فتجلى سر الكلمة في البيان الأعلى الذي أعيا العربَ أن يأتوا بسورة من مثله، والحروف التي يتألف منها مبذولة لهم في لغتهم التي نزل بها القرآن كتاباً عربياً مبيناً. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وانطلاقاً من هذا الملحظ لسر الحرف، أقدم هنا لقضية الإعجاز البياني، بعض الشزاهد من حروف قرآنية، حاول اللغويون والبلاغيون في تأويلها أن يعدلوا بها على وجه التقدير، عن الوجه الذي جاءت به، لكي تلبي مقتضيات الصنعة الإعرابية وتخضع لقواعد المنطق البلاغي المدرسي، فبقيت هذه الحروف تتحدى كل محاولة بتغيير أو تقدير لحذف أو زيادة. منها مثلاً حرف الباء، في مثل أية القلم: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} . جرى النحاة والمفسرون على القول بأن هذه الباء زائدة في خبر ما، كما تأتي زائدة في خبر ليس. فهي تعمل في لفظ الخبر، ويبقى الحكم الإعرابي على أصله منصوباً بفتحة مقدرة على أخر الخبر، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. لا يعنون بلفظ الزيادة أنها تأتي عبثاً أو لغواً، وإنما هي زائدة عندهم للتأكيد. وقد جاء "ابن هشام" بهذه الباء الزائدة في الخبر، مع خمسة مواضع أخرى لزيادة الباء، وأدرجها جميعاً تحت حكم عام هو: معنى التأكيد المستفاد من الباء الزائدة. ومع تنبههم إلى أن من هذه المواضع ما تكون الزيادة فيه واجبة وغالبة وضرورة، جرت الصنعة الإعرابية على قصر عملها على اللفظ دون المعنى. وباستقراء ما في القرآن من خبر "ما، وليس" تلقانا كثيرا، ظاهرة مجيء هذه الباء المقول بزيادتها، في خبرهما المفرد الصريح غير المؤول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وقد أحصيت من مواضع مجيء الباء في خبر "ليس" الصريح المفرد، ثلاثا وعشرين آية، في مقابل ثلاث آيات فحسب، جاء فيها خبر ليس غير مقترن بالباء. وهي آيات: (النساء 94، هود 8، الرعد 43) ولها سياقها الخاص، نتدبره بعد. وكذلك خبلا "ما" الصريح المفرد يأتي غالباً مقترناً بالباء المقول بزيادتها، إلا أنْ تُتلىَ "ما" النافية، بالفعل "كان" فينصب الخبر به صريحاً مفرداً غير مقترن بالباء في آيات: البقرة: {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} ومعها آيتا: الأنعام 144، ويونس 45. آل عمران 67: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا} الأعراف 7: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} الأنعام 23: {إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} الأنفال 33: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} الأنفال 53: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} يوسف 111: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} الإسراء 15: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} الإسراء 20: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} الكهف 51: {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} مريم 64: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} الشعراء 8: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} 67، 103، 121، 139، 158، 174، 190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 الشعراء 209: {ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} . النمل 32: {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} القصص 45: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} القصص 59: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} الأحزاب 40: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} وأنظر معها آيات: البقرة 196، الأنفال 35، يونس 37، 71، هود 20، يوسف 73، 81، الكهف 28، مريم 4، 28، الأنبياء 8، يس 28، الأحقاف 9، الزخرف 13. . . وأما في غير أسلوب "كان" فالأكثر في البيان القرآني أن يقترن خبر "ما" الصريح، بهذه الباء المقول بزيادتها. لم تتخلف فيما أذكر إلا في آية المجادلة: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} وآية يوسف: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} وأما هذه الظاهرة الأسلوبية، من غلبة اقتران خبر "ما، وليس" بالباء، لا يهون القول بأنها حرف زائد، إذ مقتضى القول بزيادتها، إمكان الاستغناء عنها واطراحها، وهو ما لا يؤنس إليه البيان القرآني. * * * والمفسرون يذهبون كذلك إلى أن هذه الباء زائدة للتأكيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وفي منهجنا، لا تؤخذ الباء هنا بمعزل عن نظائرها، وقد نلحظ في آيات قرآنية أن الباء تقترن بخبر المنفي بـ "ليس" فلا تؤكد النفي، بل تنقضه وترده تقريراً وإلزاماً مثل قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} الباء فيها لم تؤكد النفي، بل هي تنقُضه وتجعله تقريراً وإثباتاً. فلننظر إذن في كل الآيات التي يقترن فيها خبر "ما وليس" بالباء، مقارَنةَ بالتي استغنى الخبر فيها عن هذه الباء، لعل الاستقراء يهدينا إلى ملاحظ بيانية في الكتاب العربي المبين المحكمّ، تعطي سر هذه الباء: متى تلزم الخبر؟ ومتى يستغنى عنها؟ ونبدأ بخبر "ما" غير المتلوة بكان، فنلحظ في النظم القرآني أن الباء تلزمه في الآيات المحكَمات: البقرة 8: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} البقرة 74: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} معها آيات: البقرة 85، 140، 144، 149، آل عمران 99. الأنعام 132: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} معها: هود 123، النمل 93. الأنعام 107: {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} معها: الشورى 6. البقرة 96: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} البقرة 102: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} . ق 29: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} معها: فُصلت 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 البقرة 167: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} هود 29: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} معها: الشعراء 114. هود 83: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} يوسف 17: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} النحل 46: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} غافر 56: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} إبراهيم 22: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} والأنعام 134. يوسف 44: {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} يوسف 103: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} الشعراء 137، 138: {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} النمل 81: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} . ومعها: الروم 53. فاطر 22: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} الصافات 162: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} الطور 29: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} . ومعها: القلم 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 التكوير 22 - 24: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} الطارق 13، 14: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} فهل تكون الباء زائدة، مع اطراد مجيئها في هذا الأسلوب، لم تتخلف فيما أذكر، إلا في آيتى المجادلة: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} ويوسف: {مَا هَذَا بَشَرًا} ؟ أو هل يكفي القول بأن الباء زيدت لمجرد تأكيد النفي؟ العربية تعرف أساليب عدة للتأكيد اللفظي والمعنوي، كالقسم والتكرار وأدوات التأكيد المعروفة، ولابد أن يكون لكل أسلوب منها ملحظّ بيانيِ يميزه عن سواه. وقد نحس في كل هذه الآيات التي اقترن فيها خبرُ "ما" بالباء، أن المقام مقام جحد وإنكار، ولعله قد أغنى عنها في آيتى المجادلة ويوسف، التقرير المستفاد من القَصْر بعدهما: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} {إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} . كما أغنى عنها في خبر "ما كان" أن النفي بهذا الأسلوب يفيد الجحد، فاستغنى عن الباء. * * * وننظر في خبر "ليس" فيهدى البيان القرآني إلى وجوب التفرقة بين الجمل الخبرية منها، والجمل الاستفهامية. فحيث يجئ النفي بليس في الجمل الخبرية، في مقام الجحد والإنكار اقترن الخبر بالباء، كما في آيات: البقرة 267: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 آل عمران 182: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} معها: الأنفال 51، الحج 10، فصلت 46. المائدة 116: {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} الأنعام 66: {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} الأنعام 89: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} الحجر 20: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} الأنعام 122: {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} الأحقاف 32: {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} المجادلة 10: {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} ولا يستوي البيان بهذا الباء، والاستغناء عنها في خبر "ليس" بأسلوب النفي البسيط المعتاد، حين يكون قائل الجملة الخبرية غير مستيقن مما ينفيه، بل يجرى لسانه بهذا النفي وفي نفسه من الأمر شيء يمنع من التقرير والجحد، كالذي في آية الرعد: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} 43. أو يكون المقام في حاجة إلى التثبيت قبل نفي الخبر، كآية النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} 94. أو يغني عن تقرير النفي بالباء، تعقيبٌ على الجملة الخبرية بما ينقلها من الإخبار عن غيب لم يقع، إلى ماض قد تقرر وكان، كآية هود: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} 8. وهذه الآيات الثلاث فحسب، هي التي لم يقترن خبر ليس فيها بالباء، في الكتاب العربي المبين. * * * هذا عن الجمل الخبرية المنفية بـ "ليس". وأما الجمل الاستفهامية، فيطرد مجئ الخبر فيها مقترناً بالباء، لا يتخلف. وما من آية منها، يمكن أن تحتمل نفياً أو تأكيداَ لنفي، بل ينتقص النفي فيها جميعاً، ويصير إلى إثبات مؤكد وتقرير ملزم. ويبلغ التقرير والإثبات فيها، أن يُستغنَى عن جواب المستفهَم عنه، أو يجاب عنه بلفظ "بلى" المختص بإيجاب ما يُستفهم عنه منفياً. فلنتدبر كل ما في القرآن من آيات استفهامية لجملٍ منفية بليس، والخبر فيها صريح غير مؤوَّل: الأنعام 30: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} الأنعام 53: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} الأعراف 172: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} هود 81: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} العنكبوت 10: {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} يس 81: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 الزمر 36: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} الزمر 37: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} الأحقاف 34: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} القيامة 40: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} التين 7، 8: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} النفي في هذه الآيات جميعاً قد انتقض وخرج إلى تقرير باتَّ وإثبات حاسم. فهل جاء معنى التقرير والإثبات في هذه الآيات، من خروج الاستفهام عن معناه الأصلي، على ما قرره علماء البلاغة؟. معروف أن الاستفهام قد يخرج إلى هذا الوجه من التقرير، كما قد يخرج إلى وجوه أخرى كالاسترحام والضراعة أو النفي والزجر والوعيد أو التوقُّع والانتظار. . . وهذه الآيات خاصة بالاستفهام عن منفى بليس، وقد انتقض النفي فيها جميعاً وخرج إلى التقرير لا إلى أي وجه آخر من الوجوه التي يعرفها البلاغيون. ومن حيث اطرد اقتران الخبر فيها بالباء، تعين أن يكون لهذه الباء أثرها في الدلالة البيانية. فلو قلنا مثلاً: ألست غافلاَ عما حولك؟ أليس الصبح قريباً؟ احتمل الاستفهام أن يكون على معناه الأصلي من طلب الفهم، وأن يخرج إلى التوبيخ أو التنبيه أو السخرية والتهكم أو التوقع والانتظار. ولا شيء من هذه المعاني، مما تحتمله آيات الاستفهام المقترن خبر ليس فيها بالباء، وإنما هي للتقرير والإثبات لا لمعنى آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وهذا هو سر الباء التي قالوا إنها زائدة على الخبر لمعنى التأكيد، ثم جروا على إبطال عملها أصالةَ في الخبر، وأعربوه منصوباً منع من ظهور حركته الأصلية اشتغالُ محلها بحركة حرف الجر الزائد. * * * وخلاصة ما هدى إليه الاستقراء لآياتها في البيان القرآني: - أن الجمل الخبرية المنفية بـ "كان" لا يقترن خبرها بالباء. ووجه الاستغناء عن الباء، أن النفي بهذا الأسلوب يفيد الجحد أصالةَ، شأنه شأن أسلوب الجحد في الفعل: "ما كان الله ليعذبهم". - حيثما جاء الخبر منفياً بما أو ليس، في الجمل الخبرية، واقترن الخبر بالباء، أفادت تقرير النفي بالجحد والإنكار. وتلزم الباء خبر ما وليس في هذا السياق، في البيان القرآني: ولا تتخلف إلا حين يكون المقام مستغنياً عن تقرير النفي، أو محتملاً لشك في الخبر. - في الجمل الاستفهامية، يطرد اقتران خبر ليس بالباء، وبها ينتقض النفي ويخرج الاستفهام إلى إثبات حاسم وتقرير بات، لا إلى أي وجه آخر من سائر الوجوه التي يعرفها علم البلاغة في خروج الاستفهام عن معناه الأول في أصل اللغة. * * * وإذ كشف حرف الباء عن سره في البيان الأعلى، يبدو القول بزيادته مما يجفوه حس العربية المرهف. ولا يلطف من هذه الجفوة أن نعلم أنهم لم يعنوا بالزيادة مجرد الحشو أو الفضول، بل أدرجوها تحت الحكم العام لمعنى التأكيد بالباء الزائدة. ولا أدري ما إذا كان من المجدي، أن أقول في هذه الباء غيرَ ما قرره النحاة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 كي تبقى حرفاً أصلياً غير زائد؟ وتظل على أصيل معناها في الإلصاق، وتعمل عملها المباشر في الخبر ملصقة به غير معقول بزيادتها، ومنها معاً يستفاد خبر المنفي بما وليس؟ غير أني لا أشك في أننا لو رجعنا النظر في سائر المواضع الأخرى التي قال النحاة فيها إن الباء تأتي فيها زائدة، لهدى الاستقراء إلى ملاحظ بيانية ذات بال. * * * ولعنا كذلك نعيد النظر في حروف أخر قالوا بزيادتها، لنلتمس سرها في البيان القرآني، كحرف "من" في آية الحجرات: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 4، 5. تَصَرَّفَ به الظرفُ "وراء" من جموده مبيناً بمعنى خلف، إذ ليس الحكم في الآية مقيداً بالنداء خلفَ الحجرات، بل من أي جهة من وراء حجراته - صلى الله عليه وسلم - نادوه منها. ومن النظائر قوله تعالى: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} . الحشر 14. {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} المؤمنون 100. وسيأتي في الحديث عن "الظواهر الأسلوبية وسر التعبير" مثل آخر من قولهم بزيادة "لا" النافية قبل فعل القسم، في مثل قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وننظر في حروف أخرى لم يتأولوها على تقدير زيادتها، بل قدروها محذوفة، ومضوا في تأويل الآيات على تقدير حرف محذوف وهو مراد؟ ولنأخذ مثلاَ: حذف حرف "لا" مقدراً، في آيات: يوسف 85: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} النساء 176: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} البقرة 184: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} تأويل الحذف فيها، يخضع للقاعدة النحوية في حذف "لا النافية". وهم يقولون إنها تُحذف اطراداً في جواب القسم إذا كان المنفي مضارعاً.. وقدموا له شواهد من الشعر، وأما القرآن الكريم فقدموا منه آية يوسف: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} . على تأويل حرف (لا) محذوفاً، والتقدير: تالله لا تفتأ تذكر يوسف. والذي نفهمه، هو أنه متى اطرد الحذف - كقولهم - فالسياق حتماً مستغنٍ عن المحذوف، ولا وجه إذن لتقدير الحرف ثم تأويل حذفه. لأن السياق متى أعطى المعنى المراد، مستغنياً عن هذا الحرف أو عن غيره، كان ذكره من الفضول أو الحشو الذي يتنزه عن الكلام البليغ، فضلاً عن البيان المعجز. وأراهم في تقدير حرف نفي محذوف، حملوا "تفتأ" على: "مازال" أْمَّ الباب من أفعال الاستمرار. وقد نلحظ أن "زال" لا تكون فعل استمرار إلا منفية، ومضارعها: ما يزال فإذا لم يسبقها حرف نفي فهي تامة بمعنى الزوال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 نقيض البقاء، ومضارعها: يزول واستعمالها تامة، كثير في العربية. وهي تتصرف فيه: فعلاً ومصدراً واسم فاعل ومفعولٍ وزمانٍ ومكان. . . على حين تفيد "فتئ" معنى الاستمرار أصالة مستغنية عن حرف النفي. ولا تأتي تامة في العربية، فيما أذكر. وقلما تتصرف فيها إلا بالفعل ماضياً ومضارعاً: فتئ يفتأ. ولا ينفك عنهما معنى الاستمرار. * * * وأما ما جوزوا فيه الحذف بغير اطراد، فذكر ابن هشام في (المغني) أنه قيل به في آية: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} على تقدير: لئلا تضلوا. ثم أضاف: "وقيل: المحذوف مضاف، أي: كراهةَ أن تضلوا" والآية من آيات الأحكام في تشريع المواريث. وسياقها مستغن تماماً عن تقدير حرف محذوف لم يجد البيان القرآني حاجة إلى ذكره. إذ لا يخطر على البال، إيهامُ أن يكون المعنى: يبين الله لكم لتضلوا! وإنما يبين الله لنا ما نتقي به الضلال. ومتى أعطى السياقٌ المعنى المراد مستغنياً عن الحرف الذي قدروه محذوفاً، فذِكْرُ المحذوف الذي لا حاجة إليه، يأباه البيان العالي. إذ لو كان الحذف مما يوقع في شبهة إيهام، لاقتضى المقام وجوب ذكره دفعاً لأي وَهْم. ولعله مراد "ابن جنى" في (باب في أن المحذوف إذ دلت الدلالة عليه كان في حكم الملفوظ به) إذ استهل الباب قبله (في الاستغناء عن الشيء بالشيء) بقول سيبويه: "أعلم أن العرب قد تستغني بالشيء عن الشيء حتى يصير المستغني عنه مُسقَطاَ من كلامهم". * * * ونتدبر آية الإفطار والفدية في تشريع أحكام الصيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} البقرة 183، 184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 والكلام فيها يطول: فالحذف فيها ليس مما يطرد على قواعد النحاة، وإنما هو مما يجوز ولا يطرد. وقد اختلف علماء الأحكام والمفسرون في القول بنسخها أو إحكامها، وفي تأويلها على القولين: منهم من قال إنها منسوخة، والقول بنسخها هو أول ما أورده "الطبري" من الأقوال في تفسيرها: "قال بعضهم، كان ذلك في أوَّل ما فُرض الصوم، وكان من أطاقه من المقيمين - غير المسافرين - صامه إن شاء، وإن شاء أفطره وافتدى فأطعم لكل يوم أفطره مسكيناً، حتى نُسخ ذلك، فلم تنزل الرخصة إلا للمريض والمسافر" يعني النسخ يقوله تعالى في الآية بعدها: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 185. على أن الإمام الطبري، نقل كذلك، بعد القول بنسخ الحكم في الآية، قولَ آخرين: "لم يُنسخ ذلك ولا شيء منه. وهم حُكم مثبت مِن لَدُنْ نزلت هذه الآية إلى قيام الساعة". وأصح الأقوال فيها عنده "أبي جعفر النحاس"، أنها منسوخة، ومن لم يجعلها منسوخة فبمعنى يطيقونه على جهد، أو كانوا يطيقونه. ولم يتعرض لقول بتقدير "لا" محذوفة ونقل فيها "أبو بكر الجصاص" في كتابه (أحكام القرآن) سورة البقرة، أقوالاً ثلاثة. أنها منسوخة، وغير منسوخة، وأن حكم النسخ للصحيح المقيم والمريض المسافر، والإفطار والفدية للشيخ لا يرجى له قضاء في أيام أخر. "فحكمة إيجاب الفدية في الحال، من غير خلاف أحد من نظرائهم - القائلين به - فصار ذلك إجماعاً لا يسع خلافه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وعند "الزْْمخشري": أن يكون الحكم منسوخاً، وأن يكون تأويل الآية على تقدير: يتكلفونه على جهد منهم وعسر، وهم الشيوخ والعجائز. . . وحكم هؤلاء الإفطار والفدية، وهو على هذا الوجه غير منسوخ (الكشاف) . وأما "القاضي أبو بكر ابن العربي" فقال في كتابيه (أحكام القرآن، والناسخ والمنسوخ) إن الآية منسوخة. نقله القرطبي في (جامع أحكام القرآن) فيما تقصى من أقوال في الآية، ثم قال: "فقد ثبت بالأسانيد الصحاح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الآية ليست بمنسوخة، وأنها محكة في حق من ذكر - الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصوم، والمرضع والحامل إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا - والقول الأول، بنسخها، صحيح أيضاً إلا أنه يحتمل أن يكون النسخ هناك بمعنى التخصيص". وحاصل الأمر عند "ابن كثير" في تفسيره: "أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه، لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وأما الشيخ الفاني الهرم الذي لا يستطيع الصيام فلع أن يفطر ولا قضاء عليه، لأنه ليست له حال يتمكن فيها من القضاء". وأوجز السيوطي فقال في (إتقانه) : قيل منسوخة بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقيل محكمة، و"لا" مقدرة. والقول بأن لا "محذوفة وهي مرادة" مما تداوله عدد من المفسرين، والفقهاء، في تأويل الآية، على القول بأنها محكمة غير منسوخة. وهي من شواهد "ابن هشام" في (المغني) على جواز حذف "لا" وهي مرادة، على ما نقلنا آنفاً. قال "أبو حيان" بعد أن ذكر أن القول بنسخها هو قول أكثر المفسرين: "وجوَّز بعضهم أن تكون "لا" محذوفة، فيكون الفعل منفياً، وتقديره: وعلى الذين لا يطيقونه. حذَف "لا" وهي مرادة، كقول الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 آليت أمدح مقرفاَ أبداًَ. . . متى المديح ويذهب الرفد وقال آخر: فخالِفْ فلا والله تهبطُ تلعة. . . من الأرض إلا أنت للذلَّ عارفُ وقال امرؤ القيس: فقلت يمينَ اللهِ أبرحُ قاعداً. . . ولو قطعوا رأسي لديكِ وأوصالي ثم عقب أبو حيان: "وتقديرُ (لا) خطأ لأنه مكان إلباس. ألا ترى أن الذي يتبادر إليه الفهم هو أن الفعل مثبت؟ ولا يجوز حذف (لا) وإرادتها إلا في القسم. والأبيات التي استدل بها هي من باب القسم. وعلة ذلك مذكورة في النحو". البحر المحيط. والنحو لم يمنع حذف (لا) في غير القسم، وإنما القاعدة حذفها اطراداً مع القسم إذا كان المنفي فعلاً مضارعاً، وجوازه في غيره، على ما نقلنا آنفاً من كلام ابن هشام في (المغني) . تبين من هذا العرض الموجز، أن الآيتين المختلف على القول بالنسخ فيهما تشرعان لحالين مختلفتين: الفدية على من يطيقونه، طعام مسكين. والقضاء على من كان مريضاً أو على سفر، عدةً من أيام أخر. والقضاء لا يكلف به إلا من عرض له عذر يبيح الإفطار في شهر رمضان، ثم يلزمه القضاء بعد زوال العذر فيصوم بعدد الأيام التي أفطراها. وفي مثل هذا لا تقبل الفدية بديلاً من القضاء. وإنما الفدية بنص الآية "على من يطيقونه". فهل هم الذين لا يطيقونه؟ نستبعد، والله أعلم، أن تكون "لا" حُذفت هنا وهي مرادة. فالآية من آيات التشريع والأحكام. وغير قريبٍ أن يعبر عنها القرآن بالإيجاب والثبوت، فنتأولها على النفي والحذف. ونأخذ بقول أبي حيان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 "وتقدير (لا) خطأ، لأنه مكان إلباس. ألا ترى أن الذي يتبادر إليه الفهم هم أن الفعل مثبت"؟ لقد قال تعالى في أحكام الصيام: "وعلى الذين يطيقونه" فيما ينبغي لنا أن نتأولها بالنفي: وعلى الذين لا يطيقونه، فنخرجها بهذا النفي إلى نقيض نصها الصريح بالإثبات. ولعل الذين تأولوا الآية على تقدير حذف "لا" - صراحة أو مآلاً، فهموا "يطيقونه" بمعنى: يستطيعونه. وليست الكلمتان: يطيقونه ويستطيعونه، سواء. في لفظ الاستطاعة، حسُّ الطواعية والمواتاة والقدرة. ولو كان المكلَّف بحيث يستطيع الصوم، فالتكليف قائم لا تقبل عنه فدية ولا قضاء. وبه نفهم ما روى عن عطاء في "الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم". وأما الطاقة فهي في العربية أقصى الجهد ونهاية الاحتمال. وحين يقول العربي لصاحبه: هل تطيق هذا؟ لا يقولها إلا وهو يقدر أن هذا مما لا يحتمل ولا يستطاع. وبهذه الدلالة على أقصى الجهد ونهاية الاحتمال، نُقل لفظ الطاقة إلى المصطلح العلمي في الطبيعية والرياضيات. وجاءت "طاقة" مرتين في القرآن الكريم، بآيتي البقرة: {قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} وبهما نستأنس في فهم الآية الثالثة: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فندرك أن الأمر في احتمال الصوم إذا جاوز الطاقة إلى ما لا يطاق، سقط التكليف. لأنه لا تكليف شرعاً بما لا يطاق، والله سبحانه وتعالى لا يكلف نفساً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 إلا وسعها. فالحكم بالفدية في الآية. غير وارد على من يستطيعونه، إذ التكليف مع الاستطاعة قائم. وغير وارد كذلك على من لا يطيقونه، بسقوط التكليف عمن لا يطيق. وإنما الفدية تيسير على من يطيقونه، بمعنى من يستنفذ الصوم طاقتهم وأقصى احتمالهم، فليسوا بحيث يستطيعون القضاء عدة من أيام أخر. ونقبل هنا قول من ذكروا في تفسير الآية: "المريض الذي لا يرجى شفاؤه، والشيخ الفاني الهرم، لا قضاء عليه لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء" كما نقبل قول الزمخشري: "يطيقونه، يتكلفونه على جهد منهم وعسر. وهم الشيوخ والعجائز، وحكم هؤلاء الإفطار والفدية. وهو على هذا الوجه غير منسوخ" تيسيراً على من لا يستطيعون القضاء عدة من أيام أخر. وتبقى الآية على صريح نصها: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} دون تأويلها على >حذف لا النافية وهي مرادة" والله أعلم. ذلك مَثَلٌ مما قالوا فيه بحذف الحرف، يمكن أن يصدق على حروف أخر قالوا فيها بالتأويل على الحذف، ويقوم النص في البيان القرآني مستغنياً عن تقدير حرف محذوف، ولافتاً إلى سر البيان في الاستغناء عما قدروه محذوفاً. * * * ومن النظائر، قوله - عز وجل -: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} فاطر 41. {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} الحج 65. {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} الأعراف 172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} المائدة 19. وأنظر معها آيات: البقرة 282، المائدة 2، الحجرات 6، الفتح 25. . . * * * وقريب من هذا، الإبقاءُ على حرف "لا" مع تعطيل دلالته في صريح النص، كمثل صنيعهم في تأويل آية التوبة: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} 44 صريح سياقها: نفىُ استئذان المؤمنين في الجهاد. حَملها مفسرون على نفي الاستئذان في التخلف والقعود وترك الخروج للجهاد. من حيث بدا لهم أن الاستئذان لا يكون إلا في التخلف والقعود. قال الإمام الطبري: "فأما الذي يُصدق بالله ويقر بوحدانيته وبالبعث والدار الآخرة والثواب والعقاب، فإنه لا يستأذن في ترك الغزو وجهاد أعداء الله بماله ونفسه. وعن ابن عباس: فهذا تعيير للمنافقين حين استأذنوا في القعود عن الجهاد من غير عذر. وعذَر الله المؤمنين، فقال: لم يذهبوا حتى يستأذنوه - صلى الله عليه وسلم - ". وهذا التأويل بنفي الاستئذان في القعود، يبدو مخالفاً لما ذهب إليه الزمخشري في تفسير الآية: "ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا. وكان الخُلَّص من المهاجرين والأنصار يقولون: لا نستأذن النبي أبداً، ولنجاهدن أبداً معه بأموالنا وأنفسنا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 ونحتكم إلى النص القرآني، فنرى أن الأوْلى حمل الآية على نفي استئذان المؤمنين "أن يجاهدوا" لا أن يتخلفوا ويقعدوا. فليس المؤمن بحيث يستأذن في أن يؤدي فريضة الجهاد، كنا لا يستأذن في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج. وآية التوبة نزلت في "غزوة تبوك" ولا مجال لاستئذان في الخروج مع المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بعد أن استفز أصحابه للجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، بل أن الاستئذان في مثل هذا الموقف أقرب إلى أن يكون مظهر تردد وتباطؤ. فالمترددون هم الذين يستأذنون المصطفى في الخروج معه، عن ارتياب وحيرة بين أن يخرجوا أوْ لا يخرجوا. ولو أنهم أرادوا الخروج حقاً لبادروا بالاستعداد له دون أن يترددوا ويتباطئوا، انتظاراً لإذنه - صلى الله عليه وسلم -. وهذا هو ما تعطيه الآية بصريح تعلق استئذان المؤمنين فيها بأن يجاهدوا، وصريح سياقها مع الآيات بعدها: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} 45، 46. ومعها آية التوبة (83) في هؤلاء المنافقين الذين ارتابت قلوبهم في ربيهم يترددون: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} وإذ يقول تعالى لنبيه المصطفى: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا. . .} نفهم الآية المحكمة بصريح لفظها وسياقها، دون تأويل لها بمثل ما نقل فيها الطبري: لا يستأذنك في ترك الغزو والجهاد. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وننظر في حروف أخرى لم يقولوا فيها بتأويل على تقدير زيادة أو حذف، وإنما أخذوا فيها بمذهبٍ للنحاة يقول إن حروف الجر يمكن أن تتعاقب فيأخذ أحدها مكان الآخر وينوب بعضها عن بعض. . . "وهذا مما يتداولونه ويستدلون به" كما قال "ابن هشام". وهو مذهب رفضه من وصفهم "أبو هلال العسكري" بالمحققين من أهل اللغة، ونقل عن "ابن درستويه" قوله: "في جواز تعاقبهما - أي الحرفين - إبطالُ حقيقة اللغة وإفسادُ الحِكمة فيها والقولُ بخلاف ما يوجبه العقل والقياس". "قال أبو هلال: وذلك أن الحروف إذا تعاقبت خرجت عن حقائقها ووقع كل واحد منها بمعنى الآخر، فأوجب ذلك أن يكون لفظان مختلفان لهما معنى واحد. فأبى المحققون أن يقولوا بذلك، وقال به من لا يتحقق المعاني". وقال "ابن هشام" تعقيباً على قولهم إن بعض حروف الجر ينوب عن بعض: "وتصحيحه بإدخال (قد) على قولهم: ينوب عن بعض. وإلا تعذر استدلالهم به، إذ كل موضع ادعوا فيه ذلك، يقال لهم فيه: لا نسلم أن هذا مما وقعت فيه النيابة. ولو صح قولهم، لجاز أن يقال: مررتُ في زيد، ودخلت من عمر، وكتبت إلى القلم. "وعلى أن البصريين ومن تبعهم يرون في الأماكن التي ادُّعِيتْ فيها النيابة، أن الحرف باق على معناه" فإن كان تجوُّز فليكن في الفعل، لأن التجوز في الفعل أسها منه في الحرف. ونعرض هذا الخلاف على البيان الأعلى: فيأبى أن نتأول حرفاً منه بحرف آخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 يمكن أن ينوب عنه. من ذلك مثلاً، قوله تعالى: في آية التوبة: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} 45. قيل إن حرف "في" يمكن أن يتأول بحرف منْ أو اللام، على تقدير: فهم من ريبهم، أو لريبهم، يترددون. ولا يقوم أحد الحرفين مقام الحرف في النص القرآني. وليس المقصود منه التعليل المستفاد من حرف اللام. وإنما مناط التعبير فيه هذا الانغماس والملابسة الملحوظة في ظرفية "في" * * * وحرف "عن" في آية الماعون: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} نستبعد قول من تأولوا السهو عن الصلاة في الآية، بأنه سهو في الصلاة، فليس السهو فيها بخطيئة أو منكر، وكل مؤمن عرضة لأن يسهو في صلاته فينجبر سهوه في الصلاة بسجود السهو أو بالسنن والنوافل على ما هو مقرر في باب صلاة السهو من أحكام العبادات. كما لا نطمئن في تفسير السهو عن الصلاة، إلى ما ذهب إليه الإمام الطبري في قوله: "وأوْلى الأقوال عندي بالصواب، أنهم ساهون لاهون يتغافلون عنها وفي اللهو عنها والتشاغل بغيرها تضييعها أحياناً وتضييع وقتها أحياناً أخرى، فصح بذلك قولُ من قال: عنى بذلك ترك وقتها، وقول من قال: عنى تركَها". وقريب من هذين الوجهين في تأويل السهو عن الصلاة بتركها أو ترك وقتها ما أضافه الزمخشري: أو لا يصلونها كما صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والسلف. ولكن ينقرونها نقراً من غير خشوع وإخبات، ولا اجتناب لما يُكره فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 من العبث باللحية والثياب وكثرة التثاؤب والالتفات، ولا يدرى الواحد منهم كما انصرف، ولا ما قرأ من السور". وحين نفهم الآية في سياقها مع الآيات قبلها، ومع الآية التالية لها وقد ارتبطت بها ارتباط الصلة بالموصول: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} . يعطينا حلاف "عن" سره، فنرى النذير بالويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون غافلون عن كونها قياماً بين يدي الخالق، يكبح غرور الإنسان وينهاه عن الفحشاء والمنكر، ويأخذه بالخشوع والتواضع أمام جلال خالقه وعظمته وقدرته، ويرهف ضميره فيتقي الله في اليتيم والمسكين مؤدياً حقهما في التواصي بالمرحمة. ليس السهو عن الصلاة إذن سهواً فيها ولا تركاً لها أو ترك وقتها، أو العبث باللحية والثياب وكثرة التثاؤب، وإنما هو سهو عن حكمتها، ومراءاة بها، قد يؤديها بعضهم في أوقاتها، ويتظاهرون بالخشوع فيها والإخبات رثاء الناس وقصداً إلى منفعة. وصلاة الذي يدُّ اليتيم ولا يحض على طعام المسكين، لا يمكن أن تصدر عن قلب خاشع وضمير مؤمن، وحين لا تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر، فذلك، والله أعلم، هو السهو عنها، تعود به طقوساً شكلية ونفاقاً من المصلين يراءون به الناس. * * * ونتدبر معها حرف "ثم" في آية البلد: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} وقف مفسرون طويلاً عند عطف الإيمان على فك رقبة، بحرف "ثم" الذي يفيد الترتيب مع التراخي فتأولوه بما يخرج به من صريح سياقه وظاهر معناه، ليفيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 إبعاد الإيمان عما قبله، والتراخي في الرتبة لا الترتيب. قالوا: إن "ثم" جئ بها هنا قصداً إلى إبعاد الإيمان عن فك رقبة أو إطعام يتيم أو مسكين، كيلا يكون معهما في رتبة واحدة. ونص عبارة "الزمخشري" في (الكشاف) : "جاء بـ (ثم) لتراخي الإيمان وتباعده في الفضيلة والرتبة عن العتق والصدقة، لا في الوقت. لأن الإيمان هو السابق المقدم على غيره، ولا يثبت عمل صالح إلا به" وإلى مثل هذا ذهب "أبو حيان" وزاده تفصيلاً فقال: "ثم: لتراخي الإيمان في الفضيلة لا للتراخي في الزمان، لأنه لابد أن يسبق تلك الأعمال الحسنة الإيمانُ، إذ هو شرط في صحة وقوعها من الطائع. أو يكون المعنى: ثم كان في عاقبة أمره من الذين وافوا الموتَ على الإيمان إذ الموافاة عليه شرط في الانتفاع بالطاعات، أو يكون التراخي في الذكر، كأنه قيل: ثم اذكر أنه كان من الذين آمنوا. . . ". * * * وبعيداً عن مثل هذه التأويلات، نأخذ حرف "ثم" على صريح معناه في السياق، فنفهم أن القرآن إذ يرتب مراحل اقتحام العقبة الجدير بالإنسان المميز أن يكابده، يضع العتق والتراحم خطوتين سابقتين على الإيمان لازمتين له، مقرراً بذلك أن الإيمان لا يُرجَى فيمن يتسلط على عباد الله بالاسترقاق، أو يتحجر قلبه فيطيق في يوم ذي مسْغبة، جوعَ يتيم ذي مقربة أو مسكين ذي متربة. فلا موضع لإيمان صادق، من مثل هذا الجاحد القاسي، يستعبد الخلق ويغفل عن حق اليتيم القريب أو المسكين في يوم مجاعة!. ويؤنس إلى هذا الفهم لحرف "ثم" آية الماعون: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 طَعَامِ الْمِسْكِينِ} وآية آل عمران: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} والإيمان فيها مسبوق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولا حاجة إلى احتراز بمثل قولهم: إن الإيمان شرط قي صحة الطاعات. لأن هذا من أصل العقيدة. وإنما يحترز عن الظن بأن ظاهر الإيمان يغني عن المجاهدة والبذل والإيثار، وأن أداء العبادات يعفي من تكاليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنواصي بالصبر والحق والمرحمة. . . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 ومن الحروف التي تأولوها في القرآن الكريم، حرف الواو في آية النساء: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} - 3. كأنهم حسبوا أن العطف بالواو يعطي حاصل الجمع: تسع نساء! فقالوا: إن الواو فيها نائبة عن "أو" وقد يكفي أن أنقل هنا من ردَّ "ابن هشام": "ولا يُعرف ذلك في اللغة، وإنما يقوله بعضُ ضعاف اللغويين والمفسرين". ثم نقل من كلام "أبي طاهر حمزة بن الحسن الأصفهاني" في كتابه (الرسالة المعربة عن شرف الإعراب) : "القول فيها - أي في آية النساء - بأن الواو بمعنى أو، عجز عن دَرْك الحق. فاعملوا أن الأعداد التي تجمع قسمان: قسم يؤتَى به ليُضَم بعضَه إلى بعض، وهو الأعداد الأصول، نحو: {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} "ولم يقولوا: ثُلاثَ وخماسَ، ويريدون ثمانية" كما قال تعالى: {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} * * * ونستأنس لفهم آية النساء، بآية فاطر: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} - 1 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وآية سبأ: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} 46. فندرك دلالة الواو في مثل هذا السياق، بما يفيد من كون الملائكة ليسوا جميعاً سواء أولى أجنحة مثنى، أو ثلاثَ، أو رُباعَ، بل منهم أولو أجنحة مثنى، ومنهم أولو ثلاث، وأولوا رُباع. وفي (آية سبأ) يجوز لهم أن يقوموا لله مثنى وأن يقوموا فرادى أي وحدانا ومجتمعين. ولو كان القول: مثنى أو فرادى، للزم أن يقوموا جميعاً، إما مثنى وإما فرادى. وبهذا الاستئناس، لا نرى السياق يستقيم، بل لا نرى المعنى يصح إطلاقاً، إذا ما وضعنا "أو" نيابة عن "الواو" في آية النساء. لأن مقتضى التخيير بـ: أو، أن ينكحوا إما مثنى أو ثلاث أو رباع، بحيث لا يحل لمن اختاروا أن ينكحوا مثنى، أن ينكحوا ثلاث أو رباع. وليس هذا هو الحكم المستفاد من الآية، في إباحة تعدد الزوجات مثنى وثلاث ورباع، ثم لا يتجاوز إلى المحظور وراء رباع. ويخطئ سر العربية مّن لا يفرق بين: مثنى وثلاث ورباع، وبين اثنتين وثلاث وأربع، مجموعها تسع، فالأعداد لا تجمع إلا إذا جاءت على أصلها غير معدول بها إلى: مثنى وثلاث ورباع. كما يخطئه من لا يميز بين "مثنى وثلاث ورباع" بما تفيد من إباحة التعدد مثنى وثلاث ورباع، بحسب الظروف والأحوال؛ وبين: مثنى أو ثلاث أو رباع، بما تفيد من دلالة التخيير يُقْتصَرُ فيها إما على مثنى أو ثلاث، أو رباع. * * * أحسب أن هذه الشواهد التي قدمتها تكفي لاجتلاء سر الحرف لا يقوم مقامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 ويُغني عن مزيد تتبع هنا، ما قد يتاح لنا من تدبر سر الحرف في سياقه القرآني عند الحديث عن "الأسلوب وسر التعبير" ثم في مسائل ابن الأزرق وأخص بالذكر منها المسألتين 120، 121. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 (2) دلالات الألفاظ وسر الكلمة من قديم شغلت قضية الترادف علماء العربية. واختلفت مذاهبهم فيها. والبيان القرآني يجب أن يكون له القول الفصل فيما اختلفوا فيه، حين يهدي إلى سر الكلمة لا تقوم مقامَها كلمةٌ سواها من الألفاظ المقول بترادفها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 والأمر كذلك في ألفاظ القرآن: ما من لفظ فيه يمكن أن يقوم غيره مقامه وذلك ما أدركه العرب الخلَّص الفصحاء الذين نزل فيهم القرآن. وأحتاج هنا إلى نظر في مشكلة الترادف التي طال الجدل فيها والخلاف عليها. ولا يشغلنا تعدد الألفاظ للمعنى الواحد، إذا كان عن اختلاف لغات القبائل العربية. وذلك ما لا خلاف فيه، فيما أعلم. وإنما يشغلنا الترادف حين يقال بتعدد الألفاظ للمعنى الواحد، دون أن يرجع هذا الترادف إلى تعدد اللغات، أو يكون بين الألفاظ المقول بترادفها قرابة صوتية. منا من يَعُدُّ هذا التعدد ظاهرةَ فقدان الحس اللغوي وعدم قدرته على ضبط الدلالات وتحديد معاني الألفاظ. أو يراه من الفضول والتزيد الذي لا فائدة فيه. ومن من يراه ظاهرة ثراء وسعة وقدرة على التصرف. وما أكثر من يباهون بهذه الثروة اللغوية ويعدونها ميزة من مزايا العربية الشريفة! وإن يكن تقدم الدراسات اللغوية قد جاوز بنا مرحلة المفاضلة الساذجة بين لغتنا وغيرها من اللغات، ووجَّهنا إلى البحث في خصائص العربية منتفعين بما هدت إليه البحوث العلمية في اللغويات والصوتيات، فلم تعد كثرة الألفاظ الدالة على الكعنى الواحد، مدعاة فخر ومباهاة، وإنما أصبحت قضية تلتمس حلاً. * * * وحين ننظر فيما وصل إلينا من كتب اللغة ومعاجمها، نراها تسلك مسلكين متغايرين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 منها ما يذهب إلى وجود الترادف فيجمع للمعنى أو الشيء الواحد الفاظاً ذات عدد، دون إشارة إلى كونها لغات فيه. وهذا هو مذهب "أبي مسحل الأعرابي ق 2هـ" في (كتاب النوادر) و"ابن السكيت - 244 هـ" في (الألفاظ) . وللفيروزابادى، صاحب القاموس - 817 هـ - كتاب اسمه (الروض المسلوف، فيما له اسمان إلى ألوف) وكتاب آخر في (أسماء العسل) ذكروا أنه جمع فيه منها ثمانين اسماً. ولكن من كتب اللغة ما يميز دلالة خاصة لكل لفظ من الألفاظ التي تطلق على الشيء الواحد أو تتوارد على معنى من المعاني. وهو مذهب "أبي منصور الثعالبي" في (فقه اللغة) وأبي هلال العسكري في (الفروق اللغوية) وأحمد بن فارس في (الصاحبي في فقه اللغة) وأبي الفتح ابن جنى في (الخصائص) وهم من علماء العربية في القرن الرابع للهجرة. والخلاف بين المذهبين قديم. نقل "أحمد بن فارس" حبر الأصمعي حين سأله "الرشيد" في شعر غريب ففسره، فقال الرشيد: "يا أصمعي، إن الغريب عندك لغَيرُ غريب. قال: يا أمير المؤمنين، ألا أكون كذلك وقد حفظت للحجَر سبعين اسماً؟ " وسُمِعَ "ابن خالويه" يقول: جمعتُ للأسد خمسمائة اسم، وللحيَّةِ مائتين. ورووا أنه قال يوماً في مجلس سيف الدولة بحلب: أحفظ للسيف خمسين اسماً. فتبسم "أبو علي الفارسي"، وكان يومئذ بالمجلس، وقال: ما أحفظ له إلا اسماً واحداً وهو السيف. ولما سأله ابن خالويه: فأين المهند، والصارم، والقضيب، والحسام، وكذا وكذا؟ أجاب أبو علي: هذه صفات، وكأن الشيخ لا يفرق بين الاسم والصفة. ويقول "المبرد" في كتابه (ما اتفق لفظه واختلف معناه من القرآن المجيد) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 "هذه حروف ألفناها من كتاب الله - عز وجل -، متفقة الألفاظ مختلفة المعاني متقاربة في القول مختلفة في الخبر، على ما يوجد في كلام العرب، لأن من كلامهم اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين، واختلاف اللفظين والمعنى واحد، واتفاق اللفظين والمعنى واحد: "أما اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين فنحو قولك: ذهب وجاء، وقام وقعد، ويدٌ، ورجل، وفرس، وأما اختلافها والمعنى واحد، فقولك: ظننت وحسبت، وقعدت وجلست، وذراع وساعد، وأنف ومِرسَن". وأما اتفاقهما واختلاف المعنيين فنحو قولك: وجدت شيئاً وجدانا للضالة، ووجدت على الرجل موجدة أي غضبت، ووجدت زيداً كريماً، أي علمت" ما جاء به المبرد أمثلةً لاختلاف اللفظين والمعنى واحد، فيه نظر: إذ ليس الظن والقعود والذراع والأنف، مرادفة للحساب والجلوس والساعد والمرسن. على أن "المبرد" في موضع آخر، يرفض القول بالترادف، على ما سوف ننقله بعدُ. وممن قالوا بوجود الترادف: قطرب أبو علي البصري، والفخر الرازي، والتاج السبكي. . . ويوشك أن يكون هذا هو مذهب السيوطي أيضاً. وأنكره علماء آخرون إنكاراً باتاً، منهم "ثعلب" الذي نقل عن ابن الأعرابي قوله: "كل حرفين أوقعتهما العرب على معنى واحد، في كل منهما معنى ليس في صاحبه، ربما عَرَفناه فأخبرنا به، وربما غمض علينا فلم نلزم العربَ جهله" ومسلك "الثعالبي" في (فقه اللغة) يقطع برفضه القول بالترادف، وابن الأنباري في (كتاب الأضداد) يقرر أن هناك علة لغوية كامنة وراء تعدد لفظين في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 معنى واحد، إذ أن كل لفظ منها يختلف عن الآخر في المعنى اختلافاً مت "وقد يكون الفرق دقيقاً لا ينتبه له إلا العارف بلغة العرب". وصنّف "أبو هلال العسكري" كتابه (الفروق اللغوية) لبيان فروق الدلالات بين معاني ألفاظ مقول بترادفها. صدَّره بباب "في الإنابة عن كون اختلاف الألفاظ في لغو واحدة، يوجب اختلاف المعاني" فإذا جرى اسمان على معنى من المعاني أو عين من الأعيان في لغة واحدة، فإن كان كل واحد منهما يقتضي خلاف ما يقتضيه الآخر، وإلا لكان الثاني فضلاً لا يُحتاج إليه. قال: "وإلى عذا ذهب المحققون من العلماء. . . وإليه أشار المبرد في تفسير قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} قال: فعطف شِرعةً على منهاج، لأن الشرعة لأوَّل الشيء، والمنهاج لمعظمه ومتَّسعِه. . . ويعطف الشيء على الشيء، وإن كانا يرجعان إلى شيء واحد، إذا كان في أحدهما خلاف للآخر، فأما إذا أريد بالثاني ما أريد بالأول، فعُطِف أحدهما على الآخر، فهو خطأ. "قال أبو هلال: والذي قاله المبرد ههنا في العطف، يدل على أن جميع ما جاء في القرآن وعن العرب من لفظين جاريين مجرى ما ذكرنا، من العقل واللب، والمعرفة والعلم، والكسب والجرح، والعمل والفعل. . . معطوفاً أحدهما على الآخر، فإنما جاز هذا فيهما لما بينهما من الفرق في المعنى، ولولا ذلك لم يجُز عطفُ زيد على أبي عبد الله، إذا كان هو هو. . . "وكما لا يجوز أن يدخل اللفظ الواحد على معنيين، فكذلك لا يجوز أن يكون اللفظان يدلان على معنى واحد، لأن في ذلك تكثيراً للغة بما لا فائدة فيه" وقال "ابن فارس" في كتابه (الصاحبي) : "ومذهبنا أن كل صفة منها - أي الصفات الواقعة على الشيء الواحد - معناها غير معنى الأخرى. وقد خالف قوم في ذلك فزعموا أنها وإن اختلفت ألفاظها، فإنها ترجع إلى معنى واحد". * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وظلت القضية فيما أعلم، معلقة لم يستقر فيها أصحاب العربية على رأى، حتى بعد أن اتصلت دراساتنا اللغوية الحديثة بجديد البحوث غي علوم اللغة والصوت والاجتماع. وإن كان مذهب القول بالترادف هو الذي غلب وراج في العصور المتأخرة. ويقول به اليوم عدد من أصحاب التخصص في فقه اللغة وعلم الاجتماع اللغوي منهم "الدكتور علي عبد الواحد" الذي نشر في (مجلة الثقافة سنة 1963) مقالاً في مزايا لغتنا العربية، التي انفردت بشرف نزول الوحي بها. فكان مما عده من مزاياها، أنها تستطيع لثرائها أن تؤدي المعنى الواحد بعشرات الألفاظ. و"الدكتور إبراهيم أنيس"، قطع في كتابه (دلالات الألفاظ) بوجود الترادف في العربية، فلم يلمح فرقاً، أي فرق، بين أن تقول مثلاً: لم يسمع، وفي أذنيه صمم، وفي أذنيه وقر. وذكر الآية الكريمة شاهداً: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} وإلى عهد قريب، كانت قضية الترادف من بين ما شَغِلَ به المجمع اللغوي في القاهرة. وقد اقترح أحد السادة الأعضاء، أن نتخفف من ثقل المترادفات فنصنف معجماً لألفاظ العربية، يستبعد في المعنى الواحد مازاد على لفظ واحد يختاره المجمعيون من حشد الألفاظ المترادفة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والقرآن الكريم كتاب العربية الأكبر، ومن الحق ألا نأخذ في القضية برأي دون عرضها على الكتاب العربي المبين، لأنه الذي يحسم ذلك الخلاف الذي طال. وفيما أشتغل به على المدى الطويل من تخصص في الدراسات القرآنية، شهد التتبع الاستقرائي لألفاظ القآن في سياقها، أنه يستعمل اللفظ بدلالة معينة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 لا يؤديها لفظ آخر، في المعنى الذي تحشد له المعاجم وكتب التفسير عدداً قلَّ أو كثر من الألفاظ. * * * الرؤيا والحلم: في آيتى يوسف مثلاً، عن رؤيا ملك مصر: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} 43، 44. المعاجم تفسر الحلم بالرؤيا. فهل من العرب الخلص في عصر المبعث. بحيث يضعون أحد اللفظين بدلاً من الآخر، حين تحداهم القرآن أن يأتوا بسورة من مثله، فيقال مثلاً: أفتوني في حلمي إن كنتم للحلم تعبرون؟ ذلك ما لا يقوله عربي يجد حسَّ لغته، سليقة وفطرة. ونستقرئ مواضع ورود اللفظين في القرآن فلا يترادفان. استعمل القرآن "الأحلام" ثلاث مرات، يشهد سياقها بأنها الأضغاث المهوشة والهواجس المختلطة، وتأتي في المواضع الثلاثة بصيغة الجمع، دلالة على الخلط والتهويش لا يتميز فيه حلم من آخر: في جدل المشركين: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} الأنبياء: 5. وعلى لسان الملأ، من قوم العزيز، حين سألهم أن يُفتوه في رؤياه: {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} يوسف 44 وأما الرؤيا، فجاءت في القرآن سبع مرات، كلها في الرؤيا الصادقة، وهو لا يستعملها إلا بصيغة المفرد، دلالة على التميز والوضوح والصفاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 من بين المرات السبع، جاءت الرؤيا خمس مرات للأنبياء، فهي من صدق الإلهام القريب من الوحي: رؤيا إبراهيم عليه السلام في آية الصافات: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} 104، 105 ورؤيا يوسف إذ قال له أبوه: {يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} 5 نتابع سياقها في السورة وقد صدقت وتحققت: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} 100 ورؤيا المصطفى عليه الصلاة والسلام في الإسراء: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} ورؤياه في الفتح: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} 27 فهذه خمس مرات من استعمال القرآن للرؤيا من الأنبياء. والمرتان الأخريان في رؤيا العزيز وقد صدقت. وفي آيتها هبر عنها القرآن مرتين على لسان الملك بالرؤيا، لوضوحها في منامه وجلائها وصفائها، وإن بدت للملأ من قومه هواجس أوهام وأضغاث أحلام. {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} يوسف 43، 44 وتمضي القصة في سياقها القرآني، فإذا رؤيا الملك صادقة الإلهام، وليست كما بدت للملأ من قومه أضغاث أحلام. * * * آنس، وأبصر: في المعاجم، آنس الشيء أبصره، والصوتَ سمعه. واستأنس: استأذن. فهل تسيغ العربية النقية، حيث يقول القرآن: {آنس ناراً} أن سقال: أبصرها، أو نظرها، أو رآها، أو ما أشبه ذلك من الألفاظ التي يُظن أنها تتعاقب على معنى آنس؟ نستقرئ الاستعمال القرآني، فيعطينا حِسَّ العربية المرهف، لا تقول "آنس" في الشيء تُبصره أو تسمعه إلا أن تجد فيه أْنساً. فإذا قال العربي الأصيل: آنستُ، فقد رأى أو سمع ما يؤنسه. والقرآن قد استعمل الفعل "آنس" خمس مرات، منها أربعً في النار التي رآهل موسى عليه السلام إذ سار بأهله في البرية، فأنس إليها وهذه آياتها: طه 10: {إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} . النمل 7: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} القصص 29: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} والمرة الخامسة في آية النساء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} 6 ليس الإيناس هنا مجرد إبصار لظواهر الرشد المادية الحسية في سن البلوغ ولكنه الطمأنينة المؤنسة بالابتلاء والامتحان، إلى أنهم قد رشدوا حقاً. وفي القرآن من المادة، صيغة الفعل المضارع من الاستئناس في آية النور: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} . الاستئناس فيها ليس مجرد استئذان كما وهم الذين فسروه بذلك، وإنما هو حِسُّ الإيناس لأهل البيت قبل دخوله. ولا يسوغ في ذوق العربية أن يقال مثلاً: استأنس الرشطي، أو جابى الضرائب، أو الجائن. وإنما هو الاستئذان ليس فيه حِسُّ إيناس. كما لا يسوغ استعمال "آنس" في رؤية عدو أو نار حريق، أو في سماع هزيم رعد وزئير وحش. . . * * * النأى، والبُعد: يأتي بهما أكثر المعجميين والمفسرين تأويلاً لأحدهما بالآخر، دون إشارة إلى فرق بينهما. وفَرَّقَ بينهما مَن أنكروا الترادف. ونستقرئ مواضع الاستعمال القرآني للنأى والبعد فلا يترادفان: النأى يأتي بمعنى الإعراض والصد والإشاحة، بصريح السياق في آياته: الإسراء 83: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} معها فصلت 51 الأنعام 25، 26: {حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} وأما البعد، فيأتي بمختلف صيغة في القرآن، على الحقيقة أو المجاز، في البعد المكاني أو الزماني، المادي منهما والمعنوي، بصريح آياته: التوبة 42: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} الوخرف 38: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} الفرقان 12: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} سبأ 52: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} معها: سبأ 53. فُصلت 44: {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} هود 83: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} الأنبياء 101: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} آل عمران 30: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} الأنبياء 109: {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} المعارج 6: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا} سبأ 19: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} النمل 22: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} ق 31: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} وكلها في البُعد المكاني أو الزمني. وجاء البعد نقيضاً للقرب في لعنة الطرد بآيات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 هود 95: {أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} هود 44، 60، 68، {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ومعها: المؤمنون 41، 44 كما جاء في المعنويات في: {شِقَاقٍ بَعِيدٍ} بآيات: البقرة 176، الحج 52، فصلت 52. و {ضَلَالٍ بَعِيدٍ} بآيات: إبراهيم: 3، 18، والنساء: 6، 116، 136، 167، والحج 12، الشورى 18، سبأ 8، ق 27. والبعد، فيها جميعاً، نقيض القرب على حين يخلُص النأى للصد والإعراض، نقيض الإقبال. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 حَلَفَ وأقسم: كثيراً ما يُفسر أحدهما بالآخر. وقلما نفرق بينهما المعاجم. وقد تأتي "حلف" في شواهد من الشعر الجاهلي بمعنى أقسم، في مثل قول "النابغة الذبيانى": * حلفت فلم أترك لنفسك ريبة * وقول "الأعشى": * حلفت له بالراقصات إلى مِنىً * وشاس بن عبدة: * حلفتُ بما ضمَّ الحجيج إلى منى * ولكن اللافت من حِس العربية النقية، أنها تقول: حِلفة فاجر، وأحلوفة كاذبة، ولم يُسمع بَرً وأحلوفة صادقة، إلا أن تأتي مجازاً. وفي العربية: أحَلفَ الغلامُ، جاوز رُهاق الحُلمُ فشُكَّ في بلوغه. وقد قالت العرب: ناقة محلفة السنام، للمشكوك في سنها. وقالت: كميت محلفة، إذا اشتبه لونها بين الأحوى والأحم، فإذا كانت صافية الكُمتة، قالوا: كميت غير محلفة. وقالوا: حضارِ والوزنُ محِلفان، وهما كوكبان يطلعان قبل سُهيل، فيُظن بكل واحد منهما أنه سهيل. فهل يكون ما في الشعر من "حلف" في غير موضع الشك والريبة، من الضرورات الشعرية؟ نحتكم إلى البيان الأعلى، في النص المحكم الموَثَّق، فيشهد الاستقراء الكامل بمنع ترادفهما: جاءت مادة "ح ل ف" في ثلاثة عشر موضعاً، كلها بغير استثناء، في الِحنْث باليمين. والغالب أن يأتي الفعل مسنداً إلى المنافقين، كآيات التوبة التي فضحت زيف نفاقهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} 42 {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} 56 {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} 62 {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} 74 {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ. . .} 95 {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} 96 {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} 107 ومعها في المناقفين. . . كذلك، آيات: النساء 61 - 63: {إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} المجادلة 14: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} المجادلة 18: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} وآية القلم 10 - 12: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وجاء الفعل مرة واحدة مسنداً إلى ضمير الذين آمنوا فوجبت عليهم كفارة الحَلْف: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} المائدة 89. وأما القسم، فيأتي في الإيمان الصادقة: وجاء موصوفاً بالعظمة في آية الواقعة: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} 76 وسؤالاً من الله تعالى، على وجه الاعتبار، لكل ذي حجر، في آية الفجر 5: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} ؟ واختص القسم بحرمة الشهادة على الوصية، حيث لا يحل الحنث باليمين، في آيتى المائدة (108، 109) . وكان أصحاب الجنة، في سورة القلم، صادقين: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ} وليس المجرمون بكاذبين إذ يقسمون يوم تقوم الساعة {مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} . وكذلك يسند القسم في القرآن إلى الضالين، عن وَهْمٍ منهم أو إيهام بالصدق، قبل أن ينكشف أنهم كانوا على ضلال، كما في آيات: الأنعام 109: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} فاطر 42: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا} الأعراف 48، 49: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} ؟ إبراهيم 44: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} النحل 38: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} وفي آية المائدة 53: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} يحتمل سياقُها أن يكون هذا القسم قبل أن يُبتلى المنافقون بالتجربة الكاشفة عن كذبهم والله أعلم. وأما هذا البيان القرآني، لا يهون أبداًَ أن نفسر القسم بالحلف، وصنيع القرآن يلفت إلى فرق دقيق بينهما. فإن لم نقل إن القسم لليمين الصادقة - حقيقة أو وهماً - والحلف لليمين الكاذبة على إطلاقها، فلا أقل من أن يكون بين دلالتهما الفرق بين العام والخاص: فيكون القسمَ لمطلق اليمين بعامة، ويختص الحَلْفُ بالحنث في اليمين، على ما اطرد استعماله في البيان القرآني. * * * التصدع والتحطم: وقوله تعالى في آية الحشر: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 21 ليس التصدع فيها مرادفاً للتحطم: التصدع من الصدع، والأصل فيه الشق في الأجسام الصلبة، وتستعمله العربية مجازاً في الصداع، كأنه انشقاق في الرأس من الألم أو الخمار، ومنه آية الواقعة: {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ} 18، 19 كما يستعمل معنوياً في التصدع بمعنى التفرق والتمزق. والصدعُ بالأمر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 الفصلُ فيه بحسم قاطع، ومنه آية الحِجر: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} وأما الحطم فأصله في العربية الهشم، مع اختصاص بما هو يابس وإن لم يكن صلباً، كالعظام، وقيل للأسد حطوم، يحطم الفريسة ويهشمها. والحاطوم والحطمة: السنة المشئومة. ورجل حكم يلتهم كل شيء ولا يشبع. وراعٍ حُطَمة وحطم، كأنه يحطم الماشية عند سوقها، لعنفه. وهذا الملحظ الأصيل من التهشيم مع العنف والقسوة، لا نخطئه في الاستعمال القرآني للمادة، في المواضع الستة التي جاءت فيها: الفعل في آية النمل 18: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} وحطام، للزرع المصفر اليبيس المهشم، في آيتى الزمر والحديد: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا} 21 {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} 20 وحُطمة، في آيتى "الهمزة" لنار الله الموقدة تهشم كل هُمَزة ولمزةٍ: {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} 2 - 6 وهذا الحطم للهشيم اليَبيِس، غير التصدع للجبل الصلب في آية الحشر، وصدعِ الأرضِ في آية الطارق: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} 11 - 14 * * * الخشوع والخشية والخضوع والخوف: والتصدع للجبل، في آية الحشر. آية البيان فيه، أن تراه خاشعاً متصدعاً من خشية الله، لو أنه تعالى أنزل عليه هذا القرآن. إذ ليس من شأن الجبل أن يخشع ولا أن يخشى، والخشوع والخشية، كلاهما، من أفعال القلوب التي لا تصدر عن جماد، إلا أن يكون ذلك من صنيع البيان يبث الحياة في الصخر الأصم. وتفترق الخشية عن الخوف، بأنها تكون عن يقين صادق بعظمة من نخشاه، كما يفترق الخشوع عن الخضوع، بأننا لا نخشع إلا عن إنفعال صادق بجلال مَن نخشع له. وأما الخوف فيجوز أن يحدث عن تسلط بالقهر والإرهاب، كما أن الخضوع قد يكون تكلفاً عن نفاق وخوف، أو تقية ومداراة. والعرب تقول: خشع قلبه، ولا تقول: خضع، إلا تجوزاً. وعجيب أمر هذا البيان المعجز في اطراد نسقه ولطف دلالاته وباهر أسراره: كل خشية فيه، على اختلاف صيغها، لا تكون إلا في الحياة الدنيا، لا في الآخره، إذ الدنيا هي مجال الإبتلاء: وإذا تعلقت الخشية، في القرآن، بأمر يَّخشىَ، فإنه الغيب، والساعة، واليوم الأخر. أو العنت والكساد والإملاق، وضياع اليتامى، والإرهاق طغياناً وكفراً. وأما إذا تعلقت بذات، لا بأمر، فإنها في تقدير القرآن، لا تكون إلا الخشية لله، وحده، دون أي مخلوق. يطرد ذلك في كل مواضع استعمالها في الكتاب المحكم، بصريح الآيات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 يس 11: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} معها آيات: ق 33، الأنبياء 49، فاطر 18، الملك 13، الرعد 21، المؤمنون 57. البينة 8: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} النازعات 19: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} الأحزاب 37: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} معها آيات: المائدة 3، 44 والتوبة 13 والبقرة 150، والنساء 77. التوبة 18: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} آل عمران 173: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} وتسند خشية الله في القرآن إلى: الذين يبلغون رسالات ربهم، ومن اتبع الذكر، والمؤمنين، والعلماء، والذين رضى الله عنهم ورضوا عنه. . . فإذا كانت خشية الله متوقَّعة من الجبل كما في آية الحشر، أو من الحجارة كما في آية البقرة: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} 74. فذلك من رائع البيان الرقآني إذ يبث الحياة في الجامد الأصم، فيجعله بحيث يحس وينفعل، ويخشى الله ويخشع. والخشوع كذلك، ليس من شأن الجبل الجامد، لأنه من أفعال القلوب. وإذا خشع الصوت أو خشع الوجه أو البصر، فإنما يكون ذلك من خشوع القلب. ويتسق البيان القرآني في استعماله للخشوع، كمثل اتساقه في استعمال الخشية: فكل خشوع في القآن إنها هو لله تعالى: يأتي وصفاً أو بياناً لحال المؤمنين، في هذه الحياة الدنيا، مطرداً بلا تخلف، بصريح الآيات: الإسراء 107 - 109: {إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} المؤمنون 1، 2: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} آل عمران 199: {خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} الأنبياء 90: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} ومعها آيات: البقرة 45، الأحزاب 35، الحديد 16. فإذا جاء الخشوع، في البيان القرآني من المجرمين والكفار، فذلك إنما يكون منهم في اليوم الآخر الذي كانوا يوعَدون، بصريح السياق في الآيات: الغاشية 1 - 4: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} النازعات 8 - 12: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} المعارج 43، 44: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} الشورى 44، 45: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} القمر 6، 7: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} وأمعن التدبر لهاذ الملحظ من المراد مجئ خشوع المؤمنين لله في الدنيا، وخشوع الكفار والمجرمين والظالمين ف6ي الآخرة، وسرُّه البياني - فيما ألمح - هو أن خشوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 الكفار لا يكون إلا بعد أن يأتي اليوم الذي يوعّدون فيخشعوا خوفاًَ ورهبة وذلة، على حين يخشع المؤمنون في الدنيا، عن صدق إيمان وتقوى، وخشية لله. وفي آية الحشر، لا يمنع الجبلّ من الخشوع إلا أن هذا القرآن لم ينزل عليه، وإلا لرأيته خاشعاَ متصدعاً من خشية الله. مثل يضربه الله تعالى للناس لعلهم يتفكرون. فإذ كان الجبل الصلد الأصم بحيث يُرى خاشعاً متصدعاً من خشية الله، لجلال هذا القرآن، فكيف بالإنسان المدرك الواعي، المميز السميع البصير؟ قليل منه، وقد أُنزِل إليه هذا القرآن، لأن يُرى خاشعاَ من خشية الله، وإن الجبل لجدير بأن يُرى كذاك، لو أنزِل القرآن عليه. ودون هذه الدرجة من الحس والتأثير والاعتبار، تُهدر إنسانية بجحود عقله وقسوة قلبه، فيكون أقسى قلباً من الحجارة وأكثف حِساً من الجبل: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} * * * زوج، وامرأة: وترى البيان القرآني يستعمل لفظ "زوج" حيثما تحدث عن آدم وزوجه: (آيات البقرة 35 والأعراف 19 وطه 117) على حين يستعمل لفظ "امرأة" في مثل: امرأة العزيز، وامرأة نوح وامرأة لوط، وامرأة فرعون. قد يبدو من القريب أن يترادفا فيقوم أحد اللفظين مقام الآخر - وكلاهما من الألفاظ القرآنية - فنقول في "زوج آدم" مثلاً: امرأة آدم، وفي "امرأة العزيز": زوج العزيز. وذلك ما يأباه البيان المعجز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وهو الذي يعطينا سرَّ الدلالة في الزوجية مناط العلاقة بين آدم وزوجه في قصة أول زوجين من البشر. ولم تكن زوج آدم امرأة من أخريات. بل كانت وحدها الزوج، وكانت الزوجية، ولا شيء غيرها، مناط علاقتها بآدم، وسر وجودها. ونتدبر سياق استعمال القرآن للكلمتين: كلمة زوج تأتي حيث تكون الزوجية هي مناط الموقف: حكمة وآية، أو تشريعأً وحُكماً: في آية الزوجية قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} الروم 21 {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} الفرقان 74. وكذلك الأمر في "أزواج" بالحياة، في مثل آيات: الواقعة 7، والبقرة 25، وآل عمران 15، والنساء 56، والزخرف 70، ويس 56. . . فإذا تعطلت آيتها من السكن والمودة والرحمة، بخيانة أو تباين في العقدية، فامرأة لا زوج: {امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} يوسف 30، 51 {امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} التحريم 10 - ومعها في امرأة لوط، آيات: العنكبوت 33، النمل 57، الحجر 60، الذاريات 81، الأعراف 83. "امرأة فرعون" وقد تعطلت آية الزوجية بينهما، بإيمانها وكفره: التحريم 11 وحكمة الزوجية في الإنسان وسائر الكائنات الحية من حيوان ونبات، هي اتصال الحياة بالتوالد. وفي هذا السياق يكون المقام لكلمة زوج، وزوجين وأزواج، من ذكر وأنثى، كآيات: النساء 1، هود 40، الشورى 11، يس 36، الذاريات 49، النجم 45، النبأ 8. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 ومعها: المؤمنون 17، الأنعام 103، الزمر 6، الرعد 3، لقمان 10، الحج 5، الشعراء 7، طه 53، ق 7. . . فإذا تعطلت حكمة الزوجية في البشر بعقم أو ترمل، فامرأة لا زوج، كالآيات في امرأة إبراهيم وامرأة عمران (هود 71، والذاريات 29، آل عمران 35) ويضرع زكريا إلى الله سبحانه: {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} مريم 5 {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} - آل عمران 40 ثم لما استجاب له ربه وحققت الزوجية حكمتها، كانت الآية: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} الأنبياء 90 وبملحظ دقيق من تقرير التكامل بين الزوجين، لم يستعمل القرآن الكريم كلمة "زوجة" - وإن صحت عربيةً - في الإفراد ولا في التثنية والجمع، بل هي زوجه وهو زوجها، وهما زوجان، وهن أزواجهم وهم أزواجهن،.. يطرد ذلك حيثما وردت الكلمة في البيان القرآني. . . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 والمحققون من فقهاء العربية لم ينكروا الترادف في الألفاظ التي تختلف حروفها وموادها فحسب، بل أنكروه كذلك في الألفاظ تتفق مادتها وحروفها، وتختلف صِيَغُها وأبنيتها - إلا أن يجئ ذلك في لغتين - بل إنه لا يجوز أن تختلف الحركتان في الكلمتين ومعناهما واحد. ونقل "أبو هلال" من ذلك مثلاً، صيغ المبالغة: "إذا كان الرجل قوياً على الفعل قيل فعول، مثل صبور وشكور. وإذا فعل الفعل وقتاُ بعد وقت، قيل فعَّال، مثل علام وصبَّار. وإذا كان ذلك عادة له قيل مفعال، مثل معوان ومعطاء. ومن لا يتحقق المعاني يطن أن ذلك كله يفيد المبالغة فقط. وليس الأمر كذلك. بل هي مع إفادتها المبالغة تفيد المعاني التي ذكرناها. "وكذلك قولنا: فعلت، يفيد خلاف قولنا: أفعلت، في جميع الكلام، إلا ما كان من لغتين. فقولك: سيقت الرجل، يفيد أنك أعطيتة ما يشربه أو صببته في حلقه. وأسقيته: يفيد أنك جعلت له سقيا أو حظاً من المائ. وقولك: شرقت الشمس، يفيد خلافَ غرُبت، واشرقت يفيد أنها صارت ذات إشراق. "فأما قول بعض أهل اللغة إن الشَّعَر والشَّعْر، والنهَر، والنَّهْر بمعنى واحد، فإن ذلحك لغتان. وإذا كان اختلاف الحركات يوجب اختلاف المعاني، فاختلاف المعاني أنفسها أولى أن يكون كذلك" * * * ويجلو لنا كتاب العربية الأكبر، هذا الملحظ الدقيق من فروق الدلالات بين الألفاظ تختلف حركاتها أو صِيَغُها من المادة الواحدة. . . من ذلك مثلاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 أشتات، وشتى: مادتهما واحدة، والشتُّ والشتات في اللغة التفرق والاختلاف. وقد وردت المادة خمس مرات في القرآن الكريم، ثلاث منها بصيغة شتى، في آيات: طه 53: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} الليل 4: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} الحشر 14: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} ومعنى الاختلاف، المقابل للائتلاف، هم ما يعيطه سياقها. على حين يؤذن السياق بمعنى التفرق، المقابل للتجمع، في صيغة أشتات، يآيتى: الزلزلة 6: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} النور 61: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} * * * الإنس والإنسان: يلتقيان في الملحظ العام لدلالة مادتها المشتركة على نقيض التوحش، لكنهما لا يترادفان، بل ينفرد كل منهما بكلحظ خاص يميزه عن الآخر: لفظ الإنس يأتي في القرآن دائماً مع الجن على وجه التقابل. يطرد ذلك ولا يتخلف في كل الآيات التي جاء فيها اللفظ قسيماً للجن، وعددها ثماني عشر آية. وملحظ الإنسية فيه، بما تعني من نقيض التوحش، هو المفهوم صراحة من مقابلته بالجن في دلالتها أصلاً على الخفاء الذي هو من ظواهر التوحش. وبهذه الإنسية يتميز جنسنا عن أجناس خفية مجهولة غير مألوفة لنا، ولا هي تخضع لنواميس حياتنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وأما الإنسان فليس مناط إنسانيته فيما نستقرئ من آيات البيان المعجز. كونه مجرد إنس، وإنما الإنسانية فيه ارتقاء إلى أهلية التكليف وحمل أمانة الإنسان، وما يلابس ذلك من تعرض للابتلاء بالخير والشر. وقد جاء لفظ الإنسان في القرآن الكريم في خمسة وستين موضعاً نتدبر سياقها جميعاً فتهدينا إلى الدلالة المميزة للإنسانية هو في جنسه العام إنس: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} الرحمن: 14 {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} الحجر: 26 لكنه مع إنسيته، يختص إنساناً: بالقراءة والعلم: العلق 1 - 5 والبيان: الرحمن 3. والكسب والتكليف: الإنسان، النجم 39، القيامة 14، الإسراء 17. والجدل: الكهف 54 ويحتمل الوصية: لقمان 14، العنكبوت 8 وهموم المكابدة واقتحام العقبة: البلد 4 ويحمل الأمانة التي أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها: الأحزاب 72 وهو الذي يتعرض لتجربة الابتلاء ومحنة الغواية: الفرقان 24، ق 16، الحشر 16، الإنسان 2، 4، الفجر 15 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 ويزدهيه الغرور فيطغى ويستكبر، ويضله وهمُ الاستغناء عن خالقه: العلق 6 وما أكثر ما يُذكر القرآن هذا الإنسان بضعفه وهَوَانِه، كبحاً لجماح غروره كيلا يتجاوز قدره فيطغى. وهو مظنة أن يتمادى به الغرور والطغيان إلى حد الكفر بخالقه والوقوف منه تعالى موقف خصيم مبين. (النحل 4، مريم 67، الانفطار 6، فصلت 49، الزخرف 15، عبس 17، العاديات 6) . * * * النعمة، والنعيم: اللفظان من مادة واحدة، وهما يلتقيان فب الدلالة العامة لمادتهما المشتركة. والمعاجم اللغوية لا تكاد تفرق بين الصيغتين، والمفسرون يؤولون النعيم بكل ما تحتمله الدلالة المعجمية للمادة. ونستقؤئ الصيغتين في القرآن كله فنراه يفرق بينهما تفرقة واضحة: كل نعمة في القرآن إنما هي لنعم الدنيا على اختلاف أنواعها. يطرد ذلك ولا يتخلف في مواضع استعمالها، مفرداً وجمعاً، وعددها ثلاثة وخمسون موضعاً. وأم صيغة النعيم فتأتي في البيان القرآني بدلالة إسلامية، خاصة بنعيم الآخرة. يطرد هذا أيضاً ولا يتخلف، في كل آيات النعيم وعددها ست عشرة آية. منها خمس عشرة آية لا يحتمل صريح لفظها أي تأويل بغير نعيم الجنة: الواقعة 89: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} المعارج 38: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 المطففين 22: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} . الشعراء 85: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} الإنسان 20: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} . . . {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} المائدة 65: {وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} يونس 9: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} القلم 34: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} لقمان 8: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} الطور 17: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} الحج 56: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} معها آيتا: الصافات 43، الواقعة 12. التوبة 21: {وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} وتبقى آية التكاثر، خطاباً لمن ألهاهم التكاثر: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} لا نستطيع أمام اطراد تخصيص القآن صيغة نعيم لنعيم الآخرة، أن نفسرها بنعمة من نعم الدنيا التي لا تأتي في البيان القرآني إلا بصيغة نعمة ونعماء ونِعَم. وسرُّ البيان فيها، أن الذين ألهاهم التكاثر في أعراض الدنيا عن اتزود لأخراهم، سوف يُسألون يوم يرون الجحيم، وسيرونها عين اليقين، عن النعيم الحق ما هو، وعندئذ يعلمون علم اليقين حققية النعيم الذي أضاعوه، وألهاهم عنه التكالب على نعم الدنيا الفانية والتكاثر في أعراضها الزائلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 أكتفي بما قدمت من شواهد تؤيد ما ذهب إليه المحققون من أهل اللغة في إنكار القول بالترادف إلا أن يجئ في لغتين "فأما أن يجئ في لغة واحدة فمحال أن يختلف اللفظان والمعنى الواحد، كما ظن كثير من النحويين واللغويين. وإنما سمعوا العرب تتكلم بذلك على طباعها وما في نفوسها من معانيها المختلفة، وعلى ما جرت به عادتها وتعارفُها، ولم يعرف السامعون تلك العلل والفروق فظنوا ما ظنوه من ذلك وتأولوا على العرب ما لا بجوز في الحكم". * * * فأما ما كان من لغتين فقال فيه "ابن جنى" في (باب الفصيح تجتمع في كلامه لغتان فصاعداً) : وما اجتمعت فيه لغتان أو ثلاث، أكثر من أن يحاط به، فإذا ورد شيء من ذلك كأن يجتمع في لغة رجل واحدٍ لغتان فصيحتان فصاعداً، فينبغي أن تتأمل حال كرمه: فإن كانت اللفظتان في كلامه متساويتين كثرتُهما واحدة، فإن أخلق الأمر به أن تكون ف=قبيلته تواضعت في ذلك المعنى على تينك اللغتين، لأن العرب قد تفعل ذلك للحاجة إليه في أوزان أشعارها وسعة تصرف أقوالها. وقد يجوز أن تكون لغته في الأصل إحداهما ثم إنه استفاد الأخرى من قبيلة أخرى وطال به عهده وكثر استعماله فلحقت لطول المدة واتصال استعمالها بلغته الأولى. وإن كانت إحدى اللفظتين أكثر في كلامه من صاحبتها فأخلَقُ الحالين به في ذلك أن تكون القليلة الاستعمال هي المفادة، والكثيرة هي الأولى الأصلية. . . "وإذا كثر على المعنى الواحد ألفاظ مختلفة فسُمِعَتْ في لغة إنسان واحد فإن أحْرى ذلك أن يكون قد أفاد أكثرها أو طرفا منها، من حيث كانت القبيلة الواحدة لا تتواطأ في المعنى الواحد على ذلك كله. هذا غالب الأمر وإن كان الآخر من وجه القياس جائزاً.." * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وقد ينبغي لي أن أعترف هنا بقصوري عن لمح فروق الدلالة لألفاظٍِ قرآنية تبدو مترادفة، فليس لي إلا أن أقر بالعجز والجهل، وأنا أتمئل بكلمة ابن الأعرابي: "كل حرفين أوقعتهما العرب على معنى واحد، في كل منهما معنى ليس في صاحبه، ربما عرفناه فأخبرنا به، وربما غمض علينا فلم نُلزم العربَ جهلَه". * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 (3) الأساليبُ وسرُّ التعبير قد نكون عرفنا البلاغة علماً وثَقِفناها صناعةً ومنطقاً. غير أننا ما نزال في أشد الحاجة إلى أن نجتليها ذوقاً أصيلاً وحِساً مرهفاً في آيات الفصاحة العليا والبيان المعجز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 الاستغناء عن الفاعل: من الظواهر الأسلوبية اللافتة في البيان القرآني، ظاهرة الاستغناء عن الفاعل التي توزعت في دراستنا وكتبنا بين أبواب شتى متباعدة، لا تعطي سر هذا الاستغناء. فأنت تقرأ في علم الصرف كيفية بناء الفعل للمجهول وصيغ المطاوعة، وتقرأ في علم النحو أحكام نائب الفاعل، أما لماذا حُذف الفاعل وبني فعله للمجهول، فذلك موضوع آخر تدرسه في علم آخر هو علم المعاني التي انفصلت عن الإعراب فعاد هذا الإعراب صنعة، وهو في الأصل مناط المعنى. كما تدرس في علم البيان إسنادَ الفعل إلى غير فاعله على سبيل المجاز. دون أن يحاول أحد الدراسين فيما أعلم، أن يجمع هذا الشتاتَ المنتثر لظاهرة أسلةبية واحدة، لاستجلاء سرها الذي من أجله تستغنى العربية عن الفاعل فتسنده إلى غير فاعله، بالبناء للمجهول أو المطاوعة أو الإسناد المجازي. وقد لفتني اطراد ظاهرة الاستغناء عن الفاعل في البيان القرآني، في موقف القيامة، أما بالبناء للمجهول في مثل آيات: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} ومعها سائر آيات النفخ في الصور، وكلها مبنية للعل المجهول، الماضي منها والمضارع: (الكهف 99، المؤمنون 101، يس 51، الزمر 68، ق 20، الحاقة 23، الأنعام 73، طه 102، النمل 87، النبأ 18. . .) وإما أن يستغنى البيان القرآني عن ذكر الفاعل في موقف الآخرة، بإسناده إلى غير فاعله، مطاوعة أو مجازاً، كما في آيات: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا} {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} . وعجيب حقاً أن تطرد هذه الظاهرة الأسلوبية في موقف واحد، ثم لا تلفت البلاغيين والمفسرين مع وضوحها. والبلاغيون يقولون في حذف الفاعل: إنه يُحذف للعلم أو الجهل به، أو الخوف منه أو عليه. ونعرض هذه الوجوه على البيان القرآني، فيأبى أن يكون حذف الفاعل، سبحانه، لأحداث القيامة، للخوف عليه أو الجهل به. ثم يشهد الاستقراء أن القرآن لم يحذف الفاعل في مواضع العلم به يقيناً، مثل: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} {يُحْيِي وَيُمِيتُ} {يَهدِى ويُضِلُّ} {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} . . . . . . . . . . . . .. فما سر ظاهرة الاستغناء عن ذكر الفاعل في أحداث يوم القيامة؟ يهدينا البيان القرآني إلى: أن أساليب: البناء للمجهول، والمطاوعة، والاسناد المجازي، تلتقي جميعاً في الاستغناء عن ذكر الفاعل، وإن كان لكل أسلوب منها ملحظة البياني الخاص، يجلوه استقراء مواضعه في الكتاب المحكم. * اطراد هذه الظاهرة في موقف البعث والقيامة، ينبه إلى أسرار بيانية وراء ضوابط الصنعة وإجراءات الإعراب الشكلية: فبناء الفاعل للمجهول: فيه تركيز الاهتمام على الحَدث، بِصَرْفِ النظرِ عن مُحدِثه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 والمطاوعة: فيها بيانً للطواعية التي يتم بها الحدَثُ تلقائياً أو على وجه التسخير، وكأنه ليس في حاجة إلى فاعل. . . والإسناد المجازي: يعطى المسنَد إليه فاعليةً محققة يستغنى بها عن ذكر الفاعل الأصلي. . . والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 البدء بواو القسم: ننطر في ظاهرة أسلوبية أخرى من البيان القرآني، وهي ظاهرة البدء بواو القسم في مثل آيات: الضحى: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} الليل: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} الفجر: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} النجم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} العاديات: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} العصر: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} . . . . . . . . . . . . . . . والأصل في الواو أن تأتي في درَج الكلام للربط والعطف، فإذا جاءت للقسم فإن لها الصدارة، في مقام التوثيق لما يسبق إنكاره، أو الإقرار والشهادة. وقد اتجه بها المفسرون، أو جمهرتهم فيما أعلم، إلى تعظيم المقسَم به. ثم مضوا يلتمسون وجه العظمة في المقسم به بالواو. وأكثر ما ذكروه من ذلك يدخل في الحكمة وهي تختلف تماماً عن العظمة: فما من شيء في الكون خُلِق عبثاً، وكل ما خلقه الله، خلقه لحكمة ظاهرة لنا أو خفية علينا، وأما العظمة فلا يهون القول بها لمجرد لمح وجهٍ لظاهر الحكمة في المقسَم به، بعد هذه الواو. ثم إنهم غالباً، لم يراعوا القيد في المقسم به: ففي الضحى مثلاً تحدثوا عن عظمة الضياء، وليس مقصوراً على وقت الضحى، بل لعله في الظهيرة أقوى. . . وفي الليل إذا سجى، تحدثوا عن عظمة الليل مطلق الليل، وهو في الآية مقيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 بـ "إذا سجى" وجاء في آيات أخرى مقيداً بـ: إذا عسعس، إذا يغشى، إذا يسرى، إذا أدبر. . . وفي آية النجم، تحدثوا عن عظمة النجم، وهو في الآية مقيد بـ: إذا هوى: واضطربوا كذلك في ربط القسم بهذه الواو، بجواب قسَمه: فأين الصلة بين عظمة العاديات ضبحاً، وبين كنود الإنسان لربه، وبعثرة ما في القبور؟ وما معقد الصلة بين عظمة الليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى، وبين: إن سعيكم لشتى؟ أو بين عظمة النجم إذا هوى، و {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} ؟ وقبل ذلك كله، ما السر البياني لهذا البدء بالواو القسم؟ وهل كان العربي الأصيل في عصر المبعث لا يجد فرقاً بين الآيات: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} . . . وبين مألوف التعبير بصريح القسم: أقسم بالضحى، وبالليل إذا سجى، وأقسم بالنجم إذا هوى؟ . . . إن التعظيم الذي لفتهم من واو القسم، يتحقق مثله بصريح لفظ القسم، فهل العدول عن: أقسم بالنجم، إلى "والنجم" لا يعطى أي ملحظ بياني؟ * * * نلحظ بادئ ذي بدء أن ظاهرة القسم بالواو جاءت في مستهل السور مع: الضحى، والليل، والفجر وليال عشر، والعصر، والتين والزيتون، والنجم إذا هوى، والعاديات ضبحاً، والنازعات غرقاً، والذاريات ذرواً، والصافات صَفَّا والسماء والطارق، والسماء ذات البروج، والشمس وضحاها، والطور وكتاب مسطور، والتين والزيتون، وطور سنين. . . وكلها سور مكية، ولم تأت سورة مدنية مبدوءة بهذه الواو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 فإذا كان القصد إلى إعظامها، فما وجه إيثارها بهذا الاستهلال، وليس في القرآن كله، سورة مفتتحة بالواو مع اسم من أسماء الله الحسنى، وأين من عظمته تعالى عظمة مخلوقاته؟ ولا مجال أن نقيس بعظمة الله، عظمةَ التين والزيتون والعاديات ضبحاً، والنجم إذا هوى. . . بل ليس في القرآن "والله" قسماً غير قسم المشركين يوم القيامة، في آيتى الأنعام: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} - 23 {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} - 30 والواو هنا في درج الكلام وليست في مستهل السورة أو الآية، والمقسِمون هم المشركون يوم الحشر، والقسم على أصل معناه من الإقرار. . . على حين تأتي واو القسم في فواتح السور والآيات، والمقسِم فيها جيمعأً هو الله سبحانه. وجاءت واو القسم مع "رَبًّ" في أربع آيات ليست في مستهل سورها، والواو فيها لا تثع ابتداء في أول الجملة، بل يسبقها حرف الفاء، أو: فلا، أو إى: الذرايات 23: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} الحجر 92: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} النساء 65: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} يونس 53: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 والقسم فيها جميعاً على وجهه من التأكيد والتقرير والإعظام. وإذ يأتي القسم بالواو على وجهه مع "ربَّ" في أربع آيات ومع "الله" في آيتين فحسب، وجاء القسم بـ: "والليل" وحده ست مرات، يطرد فيها مجئ الواو في صدر الآيات، فإن ذلك يدعو إلى مراجعة لما قنع به المفسرون والبلاغيون في تأويل هذه الواو بأنها لإعظام ما تلاها، من ليل ونهار وضحى وفجر وتين وزيتون. . . ولا سبيل إلى قياس عظمتها بعظمة الخالق جل جلاله. وهم قد ذكروا في القسَم بالليل والنهار مثلاً، وجوهَ الحكمة فيهما وعَدوُّا الكثير من فوائدها. وكرروا ذكر هذه الفوائد حيثما جاء القسم بالفجر والصبح والضحى والنهار، أو بالليل ساجياً وغاشياًَ وسارياً ومدبراً. . . وحمَّلوا الآيات من التأويلات الفلسفية والإشارية - في مثل ما نقرأ في تفاسير الفخر الرازي والنبيسابورى والطبرسى والشيخ محمد عبده - ما لا نتصور أن هذه الواو يمكن أن تحمله من قريب أو بعيد. مع ملاحظة أن البيان القرآني يلفت إلى آيتى الليل والنهار، أو الشمس والقمر، بغير القسم، فيفهمها النائ بأيسر تنُّبهٍ، كالذي في آيات: القصص 71: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} ؟ الإسراء 12: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} يونس 6: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} - وانظر معها آيات: الأنعام 96، يونس 67، النمل 86، آل عمران 190، الجاثية 5، الفرقان 47، الروم 23. وليس على هذا النحو من بيان الحكمة، تأتي آيات القسم بالواو: والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، والنجم إذا هوى، والضحى، والليل إذا سجى. ونظائرها. من هنا كان وقوفي أمام هذه الظاهرة الأسلوبية في البيان القرآني، لعلى أجتلى من سرها البياني ما أضيفه إلى فكرة الإعظام التي سيطرت وحدها على جمهرة من قرأت لهم من المفسرين والبلاغيين. . . . والذي اطمأننت إليه بعد طول التدبر لسياقها في الآيات المستهلة بالواو، هو أن هذه الواو قد خرجت عن أصل معناها اللغوي الأول في القسم للتعظيم، إلى معنى بلاغي، هو اللفتُ بإثارة بالغة إاى حِسَّيات مُدرَكة لا تحتمل أن تكون موضع جدل ومماراة، توطئة إيضاحية لبيانِ معنوياتِ مُمارَى فيها، أو تقرير غيبياتِ ليست من الحسيات والمدركات. فالبيان القرآني في قسمه بالفجر وبالصبح إذا أسفر وإذا تنفس، وبالشمس وضحاها، والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى. . . يَجلو معاني من الهدى والحق أو الضلال والباطل، بماديات من النور والظلمة في مختلف درجاتهما. وهذا البيان للمعنوي بالحسي، هو مدار استعمال البيان القرآني للظلمات والنور بمعنى الضلال والهدى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وهو الذي يمكن أن نعرضه على أكثر الآيات المستهلة بواو القسم، فتقبله دون تكلف في التأويل أو اعتساف الملحظ. ففي آيات الليل مثلاٍ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} ذكروا فيها وجوه الحكمة في تعاقب الليل والنهار، وليسا هنا مطلق الليل ومطلق النهار. وإذ لم يتعلق البيان القرآني فيهما بغير الغشية والتجلي، نلمح السر البياني فيما تلفت إليه الواو من تقابل واضح محسوس، بين غشية الليل بظلامه وتجلي النهار بضيائه. ومثله في الوضوح الحسي المدرك، التفاوت بين خلق الذكر والأنثى. توطئة إيضاحية لبيان تفاوت مماثل في معنويات لا تدرك بالحس: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} وتفاوت أبعدَ في غيبياتٍ بين الآخرة والأولى، والجزاء والعقاب. {أَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} . . . {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} . كل هذه المتقابلات: المعنوي منها والغيبي: اعطى وبخل، اتقى واستغنى، صدق وكذب، اليسرى والعسرى، الآخرة والأولى، يصلاها ويُجَنَّبُها، الأشقى والأتقى. . .، يجلوها البيان المعجز بتوطئة موضحة لافتة إلى التفاوت المادي الواضح المدرك في: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وفي آيات الضحى: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} الواو لافتة إلى صورة مادية وواقع حسي، يشهد به الناس تألق الضوء في ضحوة النهار، ثم فتور الليل إذا سجى وسكن. وتتعاقب الظاهرتان الكونيتان كل يوم دون أن يكون في تواردهما ما يبعث على دهشة وإنكار، بل دون أن يخطر على بال أحد أن السماء تخلت عن الأرض بأن أسلمتها إلى وحشة الليل بعد تألق الضوء في ضحى اليوم نفسه. فأي عجب في أن يجئ بعد أنس الوحي وتجلي نوره على المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فترةُ سكون للوحي، على نحو ما نشهد من سجو الليل بعد تألق الضحى؟ وفيم القول، أو الظن بأن محمداً ودعه ربه وقلاه؟ * * * ونتدبر كذلك آية النجم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} . اللفت بالواو إلى ظاهرة كونية مشهودة، يراها الناس في النجم إذا هوى فيلمحون على الأفق ما يبدو على مد البصر من اتصال السماء بالأرض بخيط من النور. ظاهرة كونية تتكرر على مرأى منهم ومشهد، فلا يجدون فيها ما هو موضع جدل أو إنكار، ففيم العجب وفيم المماراة والإنكار للظاهرة الغيبية المماثلة، إذ يتجلى نور الوحي من الأفق الأعلى فيدنو ويتدلى حتى يصل إلى المصطفى على هذه الأرض؟ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} ؟ * * * وآيات العاديات: السورة تبدأ بالواو لافتة إلى ما عهد القوم من غارات الخيل المصبحة، تفجؤهم على غير توقع فلا ينتيهون إلا وقد توسطت الجمعَ فبعثرته وسط نقعها المثار. توطئة إيضاحية لصورة بيانية أخرى منذرة بغيب غير مشهود ولا مدرك، يفجأ الإنسانَ الكنود لربه، بالبعث يأخذه على غير أهبة أو توقع، فإذا الناس في حيرة وارتباك، قد بعثُروا من القبور أشتاتاً كالفراش المبثوث أو الجراد المنتشر، وإذا كل ما في صدورهم قد حُصّل لم تفلت منه خافية مضمرة في طي الصدور: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} . . . {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} * * * وآية العصر: الواو في موضعها الذي تطرد به الظاهرة الأسلوبية في اللفت إلى ابتلاء الإنسان بالزمن يعصره ويصهره بالضغط والمعاناة. توطئة إيضاحية لبيان ما يستخلص العصرُ من عصارة هذا الإنسان وما يبلو من طاقته ويصهر من معدنه، كاشفاً عن خبره أو شره. فيكون الخسر أو النجاة: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وقوة اللفت في مثل هذا الأسلوب، تأتي من العدول بالواو عن موضعها المألوف في درج الكلام، فتثير أقصى التنبه. ولعل السلف الصالح من المفسرين، ما فاتهم هذا الملحظ البياني إلا لأن علماء البلاغة قد عرفوا خروج الخبر والاستفهام والأمر والنهي عن معانيها الأولى في أصل اللغة إلى معان بلاغية نصوا عليها في كتب البلاغة المدرسية. ثم لم يشيروا إلى خروج القسم عن معناه الأول. فكان ما كان من اعتساف التأويل للآيات المبدوءة بواو القسم لتظل كما أراد لها علماء البلاغة على أصل معناها اللغوي، لا تخرج عنه إلى معنى بلاغي. ولا بأس علينا إن شاء الله، إذا نحن التمسنا من البيان القرآني ما يمنح هذه الواو سرها البلاغي وراء معناها القريب المألوف الذي عرفوه لها. والله أعلم. . . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 السجع ورعاية الفواصل: وأنتقل إلى النظر في الفواصل القرآنية التي شغلت السلف واختلفوا فيها اختلافاً بعيداً. ولا خلاف بينهم أعلمه في أن لفواصل القرآن إيقاعها الفريد وبلاغتها العليا، لكن الخلاف في شأن هذه الفواصل، هل هي من قبيل ما يعرف بالسجع في فنون البديع، أو هي شيء آخر غيره؟ ومنذ بدأ عصر التأليف في الدراسات القرآنية والبلاغية، أخذت قضية الفواصل موضعها من عناية الأجيال الأولى من علماء العربية وأن لم تستقل بمباحث مفردة بل جاءت عارضة في ثنايا المصنفات القرآنية المبكرة: فأبو عبيجة، معمر بن المثنى البصري - 310 هـ - يقف بين حين وآخر في متابه (مجاز القرآن) عن الفاصلة إذا لحظ فيها عدولاً عن مألوف الاستعمال اللغوي، موجهاً همه إلى الاحتجاج لهذا العدول بأن "العرب تفعل ذلك في كلامها" وهي العبارة التي تلقانا كثيراً في كتاب مجاز القرآن. كذلك لم يعرض "الفراء أبو زكريا الكوفي" - 207 هـ - لمسألة الفواصل عرضاً مباشراً في متابه (معاني القرآن) ولكنه في توجيه الآيات، وترجيحه بين القراءات. يصرح بأن القرآن يراعي الفاصلة: فيقدم أو يؤخر أو يحذف، ويؤثر لفظاً على آخر في معناه، أو يعدل عن صيغة للكلمة إلى صيغة أخرى، رعاية "لمشاكلة المقاطع ورءوس الآيات، وكأنه نزل على ما يستحب العرب من موافقة المقاطع". وعلى كثرة ما عرض "الفراء" للفواصل القرآنية وبخاصة في السور المكية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 لم يذكرها باسم الفواصل وإنما هي عنده رءوس آيات. وقد تحاشى القول "بالسجع" فيها، وإن ثبت على مذهبه في أن النظم القرآني يرعاها قصداً إلى الجرس الصوتي ومشاكلة المقاطع. وحتى القرن الثالث للهجرة، كان التحرج واضحاً من القول بالسجع في القرآن، وكأنما كان الحس المؤمن ينبو عن هذه الكلمة، لكثرة ما أطلقت عن قديم على سجع الكهان. لكن القضية ما لبثت أن دخلت معترك الجدل الكلامي بين الفرق الإسلامية فارتبطت بالإعجاز بالنظم، وبدأت تستقل بمباحث مفردة. قرر "الأشاعرة" نفي السجع عن القرآن، وقالوا إنما هي فواصل. وعقد "الباقلاني" في كتابه (إعجاز القرآن) فصلا في نفي السجع عن القرآن بسط فيه مذهبهم في التفرقة بين السجع والفواصل. وقد بدأه بقوله: "ذهب أصحابنا كلهم إلى نفي السجع عن القرآن. وذكره الشيخ أبو الحسن الأشعري في غير موضع من كتبه. . . وذهب كثير ممن يخالفهم إلى إثبات السجع في القرآن. وزعموا أن ذلك مما يبين به فضل الكلام، وإنه من الأجناس التي يقع فيها التفاضل في البيان والفصاحة، كالتجنيس والالتفات، وما أشبه ذلك من الوجوه التي تعرف بها الفصاحة. . . وأما ما في القرآن من السجع فهو كثير لا يصح أن يتفق كله غير مقصود إليه. "وهذا الذي يزعمونه غير صحيح. ولو كان القرآن سجعاً لكان غير خارج عن أساليب كلامهم ولو كان داخلاً فيها لم يقع بذلك إعجاز. ولو جاز أن يقولوا: سجع معجز. لجاز لهم أن يقولوا: شعر معجز. وكيف والسجع مما كان يألفه الكهان من العرب؟ ونفيه عن القرآن أجدر بأن يكون حجة من نفي الشعر. لأن الكهانة تنافي النبوات وليس كذلك الشعر. وقد روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للذين جاءوه وكلموه في شأن - دِيَةِ - الجنين: كيف نَدِى مَن لا شَرِبَ ولا أكل، ولا صاح فاستهل، أليس دمُه قد يُطَل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 "أسجاعة كسجاعة الجاهلية؟ " وفي بعضها - أي الروايات" "أسجعا كسجع الكهان؟ ". "والذي يقدرونه أنه سجع فهو وهم، لأنه قد يكون في الكلام على مثال السجع وإن لم يكن سجعاً. لأن السجع يتبع المعنى فيه اللفظَ الذي يؤدى السجع، وليس كذلك ما اتفق مما هو في تقدير السجع من القرآن، لأن اللفظ يقع فيه تابعاً للمعنى. وفصلَ بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود إليه، وبين أن يكون المعنى منتظماً دون اللفظ. ومتى انتظم المعنى بنفسه دون السجع كان مستجلبا لتحسين الكلام دون تصحيح المعنى. . . "ثم إن سلَّم لهم مُسلَّم موضعاً أو مواضع معدودة، وزعم أن وقوع ذلك موقع الاستراحة في الخطاب إلى الفواصل لتحسين الكلام بها - وهي الطريقة التي يباين بها القرآن سائر الكلام - وزعم أن الوجه في ذلك أنه من الفواصل، أو زعم أن ذلك وقع غير مقصود إليه، فإن ذلك إذا اعترض الخطاب لم يُعد سجعاً، على ما قد بَيَّنا في القليل من الشعر كالبيت الواحد والمصراه والبيتين من الرجز ونحو ذلك، يعرض فيه فلا يقال إنه شعر، لأنه لا يقع مقصوداً إليه مإنما يقع مغموراً في الخطاب، وكذلك حال السجع الذي يزعمونه ويقدرونه. . . "ويقال لهم: لو كان الذي في القرآن، على ما تقدرونه، سجعاً لكان مذموماً مرذولاً، لأن السجع إذا تفاوتت أوزانه واختلفت طرقه كان قبيحاً من الكلام. وللسجع منهج مرتب محفوظ وطريق مضبوط، متى أخل به المتلكم وقع الخلل في كلامه وُسب إليه الخروج عن الفصاحة، كما أن الشاعر إذا خرج عن الوزن المعهود كان مخطئاً وكان شعره مرذولاً، وربما أخرجه ذلك عن كونه شعراً. "وقد علمنا أن بعض ما يدعونه سجعاً متقارب الفواصل متداني المقاطع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 وبعضها مما يتضاعف طوله وترد الفاصلة على ذلك الوزن الأول بعد كلام كثير، وهذا في السجع غير مُرضٍ ولا محمود. "فإن قيل: متى خرج السجع المعتدل إلى نحو ما ذكرتموه، خرج من أن يكون سجعاً وليس على المتكلم أن يكون كلامه كله سجعاً، بل يأتي به طوراً ثم يعدل عنه إلى غيره، ثم قد يرجع إليه، "قيل: متى وقع أحد مصراعي البيت مخالفاً للآخر كان تخليطاً وخبطاً. وكذلك متى اضطرب أحد مصراعي الكلام المسجّضع وتفاوت، كان خبطاً. وقد عُلم أن فصاحة القرآن غير مذمومة في الأصل، فلا يجوز أن يقع فيها هذا النحو من الاضطراب. "ولو كان الكلام الذي هو في صورة السجع، منه، لما تحيروا فيه، ولكانت الطباع تدعو إلى المعارضة لأن السجع غير ممتنع عليهم" وبعد أن أطنب "الباقلاني" في الاحتجاج لنفي السجع في القرآن، بعجز العرب عن معارضته، قال: "فبَاَنَ بما قلنا أن الحروف التي وقعت في الفواصل متناسبة موقع النظائر التي تقع في الاسجاع، لا يخرجها عن حَدَّها ولا يدخلها في باب السجع. "ولابد لمن جوَّز السجع فيه وسلك ما سلكوه، من أن يُسلم بما ذهب إليه (النظام، وعباد بن سليمان، وهشام القوطي) ويذهب مذهبهم في أنه "ليس في نظم القرآن وتأليفه إعجاز، وأنه يمكن مع معارضته وإنما صُرفوا عنه ضرباً من الصرف" ويتشمن كلامه تسليم الخبط في طريقة النظم، وأنه منتظم من فرق شتى ومن أنواع مختلفة ينقسم إليها خطابهم ولا يخرج عنها، ويستهين ببديع نظمه وعجيب تأليفه الذي وقع التحدي إليه. وكيف يعجزهم الخروج عن السجع والرجوع إليه، وقد علمنا عادتهم في خُطبهم وكلامهم، أنهم كانوا لا يلزمون أبداً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 طريقة السجع والوزن، بل كانوا يتصرفون في أنواع مختلفة؟ فإذا ادعوا على القرآن مثل ذلك، لم يجدوا فاصلة بين نظمى الكلام". ويوشك "الباقلاني" في احتجاجه لنفي السجع في القرآن، أن يسلم بقدر منه فيه مما سماه السجع المعتجل، وهذا القدر لا يكفي عنده لحمله على السجع، كما لا يكفي وجود شطر أو بيت وبيتين من الشعر والرجز في الكلام ليكون شعراً. ولا يبدو لنا قوياًَ واضحاً، وجهُ تفريقه بين الفواصل والسجع، من حيث تفاوتُ المقاطع طولاً وقُصراً. وليس حتماً على من جَوَّز السجع في القرآن، أن يسلم كما قال الباقلاني بمذهب أصحاب الاعتزال في الإعجاز بالصرفة، فالمعتزلة أنفسهم نفوا السجع عن القرآن نفياً باتاً، واحتج منهم "علي بن عيسى الرماني" لهذا النفي بأقوى مما احتج به الأشاعرة، وعدَّ الفواصل القرآنية من وجوه الإعجاز البلاغي للقرآن، مميزاً بينها وبين الأسجاع تمييزاً واضحاً. ففي رسالته (النكت في إعجاز القرآن) عقد باباً خاصاً للفواصل، عرفها فيه بأنها "حروف متشاكلة في المقاطع، توجب إفهام المعاني" ثم استطرد شارحاً: "والفواصل بلاغة والأسجاع عيب. وذلك أن الفواصل تابعة للمعاني، وأما الأسجاع فالمعاني تابعة لها، وهو قلب ما توجبه الحكمة في الدلالة، إذ كان الغرض الذي هو حِكمة، إنما هو الإبانة عن المعاني التي إليها الحاجةُ ماسَّةٌ. فإذا كانت المشاكلة وصلة إليه فهي بلاغة، وإذا كانت المشاكلة على خلاف ذلك فهو عيب ولُكنة. . . "وفواصل القرآن كلها بلاغة وحكمة، لأنه طريق إلى إفهام المعاني التي يحتاج إليها في أحسن صورة يدل بها عليها. وإنما أُخِذَ السجع في الكلام من سجع الحمامة، وذلك أنه ليس فيه إلا الأصوات المتشاكلة، إذ كان المعنى لَمَّا تُكُلَّفَ من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 غير وجه الحاجة إليه والفائدة فيه لم يُعتد به، فصار بمنزلة ما ليس فيه إلا الأصوات المتشاكلة" والفواصل عند "الرماني" علة وجهين: أحدهما على الحروف المتجانسة، كآيات: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} والآخر، على الحروف المتقاربة كالميم والنون في مثل: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} والدال والباء، في مثل: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} فالعبرة عند "الرماني" بالمعنى، وإن لم يمتنع عنده أن يكون للجرس اللفظي وائتلاف الإسقاع حظه من التقدير أو كما قال في ختام الباب: "والفائدة في الفواصل دلالتها على المقاطع، وتحسينها الكلام بالتشاكل، وإبداؤها في الآى بالنظائر". * * * لكن أكثر البلاغيين لم يطمئنوا مع ذلك إلى هذه التفرقة بين الفواصل والأسجاع وإن أجمعوا على الإقرار بإعجاز النظم القرآنر. فابو هلال العسكري - 359 هـ - يصرح في (الصناعتين) بأن جميع ما في القرآن مما يجرى على التسجيع والازدواج، مخالف في تمكين المعنى وصفاء اللفظ وتضمنه الطلاوة والماء، لا يجرى مجراه من كلام الخلق. . . ألا ترى قوله عن اسمه: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} قد بان عن جميع أقسامهم الجارية هذا المجرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 ولهذا ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لرجل قال له: أَنَدِى مَنْ لا شَرِبَ ولا أكل، ولا صاح فاستهلّ! : "أسجعا كسجع الكهان؟ " لأن التكلف في. سجعهم فاش. ولو كرهه عليه الصلاة والسلام لكونه سجعاً لقال: أسجعاً؟ ثم سكت. وكيف يذمه ويكرهه، وإذا سلم من التكلف وبرئ من التعسف لم يكن في جميع صنوف الكلام أحسن منه؟ ". فالقضية عند أبي هلال ليست قضية فواصل واسجاع بل سجع بليغ وآخر متكلف مستكره. وكذلك هي عند عبد القاهر الجرجاني - 471 هـ - في (أسرار البلاغة) لا يقبل من النظم ما جاء "لنصرة السجع وطلب الوزن. . . وعلى الجملة فإنك لا تجد تجنيساًَ مقبولاً ولا سجعاً حسنا حتى يكون المعنى هو الذي طلبه واستدعاه وساق نحوه، وحتى لا تبتغي به بدلاً ولا تدج عنه حِوَلا. . . ". و"أبو هلال" وإن صرح بوجود السجع والازدواج في القرآن، لم يعرض للخرف في القضية عرضاً مباشراً، كما فعل "ابن الخفاجي - 466 هـ" الذي تصدى للرد على من نفوا السجع عن القرآن وفرقوا بينه وبين الفواصل. قلا: ". . . وأما الفواصل التي في القرآن فإنهم سموها فواصل ولم يسموها أسجاعاً. . . وفرقوا فقالوا: إن السجع هو الذي يُقصد في نفسه ثم يُحْمَلُ المعنى عليه، والفواصل التي تتبع المعاني ولا تكون مقصودة في أنفسها. وقال "علي بن عيسى الرماني": إن الفواصل بلاغة والسجع عيب. وعلل ذلك بما ذكرناه من أن السجع تتبعه المعاني والفواصل تتبع المعاني. وهذا غير صحيح. "والذي يجب أن يحرر فذ لك أن يقال: إن الأسجاع حروف متماثلة في مقاطع الفصول. والفواصل على ضربين، ضرب يكون سجعاً وهو ما تماثلت حروفه في المقاطع. وضرب لا يكون سجعاً وهو لمِا تقابلت حروفه في المقاطع ولم تتماثل. ولا يخلو كل واحد من هذين القسمين - التماثل والتقارب - من أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 يكون يأتي طوعاً سهلاً وتابعاً للمعاني، وبالضد من ذلك حتى يكون متكلفاً يتبعه المعنى. فإن كان من القسم الأول فهو المحمود الدال على الفصاحة وحسن البيان، وإن كان من النوع الثاني فهو مذموم مرفوض. "فأما القرآن فلم يرد فيه إلا ما هو من القسم الأول المحمود لعُلوَّه في الفصاحة، وقد وردت فواصل متماثلة" - ذكر منها آيات: طه، والطور، والعاديات، والفجر. ونص على أن الياء حذفت فيها، من: يسر (ى) الواد (ى) طلباً للموافقة في الفواصل. وكذلك الآيات الولى من سورة القمر. ثم قال: "وجميع هذه السورة - القمر - هذا الازدواج. وهذا جائز أن يسمى سجعاً لأن فيه معنى السجع، ولا مانع في الشرع يمنع ذلك" وأما مثال الفواصل المتقاربة فذكر منها، كالرمانى، آيات الفاتحة وأوائل سورة ق، ثم قال: "وهذا لا يسمى سجعاً. لأنا قد بينا أن السجع ما كانت حروفه متماثله. فأما قول الرومانى: "إن السجع عيب والفواصل بلاغة" على الإطلاق، فغلط: لأنه إن أراد بالسجع ما يكون تابعاً للمعنى وكأنه غير مقصود، فذلك بلاغة والفواصل مثله. وإن كان يريد بالسجع ما تقع المعاني تابعة له وهو مقصود متكلف، فذلك عيب والفواصل مثله. وكما يعرض التكلف في السجع عند طلب تماثل الحروف، كذلك يعرض في الفواصل عند تقارب الحروف" ونبه "الخفاجي" إلى ملحظ دقيق من كراهية تسمية الفواصل القرآنية المتماثلة سجعاً فقال: "وأظن أن الذي دعا اصحابنا إلى تسمية كل ما في القرآن فواصل، ولم يسموا ما تماثلت حروفه سجعاً، رغبة في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 بغيره من الكلام المروي عن الكهنة وغيرهم. وهذا غرض في التسمية قريب، فأما الحقيقة فما ذكرناه". وكذلك لم ير "ابن الأثير الضياء أبو الفتح - 637 هـ - في (المثل السائر) وجهاً لذم السجع على الإطلاق، ونفيه عن القرآن جمبة، ولا تكاد تخلو سورة من السور من السجع البليغ. وإنما المنكر أن يأتي الكلام على مثل سجع الكهان. وقد عرض للقضية بتفصيل في مبحث "الصناعة اللفظية" في أول كتابه (المثل السائر قال: "أعلم أن صناعة تأليف الألفاظ إلى ثمانية أنواع هي: السجع، ويختص بالكلام المنثور. والتصريع، ويختص بالكلام المنظوم وهو داخل في باب السجع والتجنيس، وهو يعم الجنسين أيضاً. والموازنة، وتختص بالكلام المنثور، واختلاف صيغ الألفاظ، وهو يعم القسمين جميعاً، وتكرير الحروف، كذلك. "النوع الأول المسجع، وحَدُّه أن يقال: تواطؤ الفواصل في الكلام المنثور على حرف واحد. وقد ذمه بعض أصحابنا من أرباب هذه الصناعة، ولا أرى لذلك وجهاً سوى عجزهم أن يأتوا به، وإلا فلو كان مذموماًَ لما ورد في القرآن الكريم، فإنه قد أتى منه بالكثير حتى إنه ليؤتى بالسورة جميعاً مسحوعة، كسورة الرحمن وسورة القمر وغيرهما. وبالجملة فلم تخل منه سورة من السور. "وقد ورد على هذا الأسلوب من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء كثير أيضاً. . . فإن قيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبعضهم منكراً: "أسجعاً كسجع الجاهلية. أو" كسجع الكهان" ولولا أن السجع مكروه لما أنكره النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالجواب عن ذلك أنا نقول: لو كره النبي - صلى الله عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وسلم - السجع مطلقاً لقال "أسجعاً؟ " ثم سكت.. فلما قال: "أسجعاً كسجع الكهان" صار المهنى معلقاً على أمر وهو إنكار الفعل لم كان على هذا الوجه. فعُلم أنه إنما ذم من السجع ما كان مثل سجع الكهان لا غير، وأنه لم يذم السجع على الإطلاق، وقد ورد في القرآن الكريم. وهو، - صلى الله عليه وسلم -، قد نطق به في كثير من كلامه حتى إنه غيَّر الكلمة عن وجهها إتباعاً لها بأخواتها من أجل السجع، فقال لابن بنته عليهما السلام: "أعيذه من الهامة والسامَّة، وكل عين لأمة". وإنما أراد "ملمة" لأن الأصل فيها من: أَلَّم فهو مُلِمّ. وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "ارجعن مأزورات غير مأجورات" وإنما أراد: موزورات من الوز، فقال: مأزورات، لمكان "مأجورات" طلباً للتوازن والسجع. وهذا مما يدلك على فضيلة السجع. "على أن هذا الحديث النبوي الذي يتضمن إنكار سجع الكهان، عندي فيه نظر، فإن الوهم يسبق إلى إنكاره، يقال: فما سجع الكهان الذي يتعلق الإنكار به ونهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ والجواب عن ذلك: أن النهي لم يكن عن السجع نفسه وإنما النهي عن حكم الكاهن الوارد باللفظ المسجوع. ألا ترى لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دية الجنين بِغرّة: عبد أو أمَة، قال الرجل: أأّدِى من لا شرب ولا أكل، ولا نطق فاستهل، ومثل ذلك يُطَلّ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أسجعاً كسجع الكهان"؟ "فالسجع إذن ليس بمنهي عنه، وإنما المنهي عنه هو الحكم المتبوع في قول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 الكاهن. . . أي: أحُكماً كحكم الكهان. . .؟ وإلا فالسجع الذي أتى الرجلُ لا بأس به، وكلامه حسن من حيث السجع، وليس بمنكر لنفسه وإنما المنكر هو الحكم الذي تضمنه في امتناع الكاهن أن يَدِى الجنين. . . "واعلم أن الأصل في السجع إنما هو الاعتدال في مقاطع الكلام. ومع هذا فليس الوقوف في السجع عند الاعتدال فقط، ولا عند تواطؤ الفواصل على حرف واحد، إذ لو كان في ذلك هو المراد من السجع لكان كل أديب سجَّاعاً، وما من أحد منهم، ولو شدا شيئاً يسيراً من الأدب، إلا ويمكنه أن يؤلف ألفاظاً مسجوعة ويأتي بها في كرمه، بل ينبغي أن تكون الألفاظ المسجوعة حلوة حادة طنانة رنانة، لا غثة ولا باردة. وأعني بقولي: غثة باردة، أن صاحبها يصرف نظره إلى السجع نفسه من غير نظر إلى مفردات الألفاظ المسجوعة وما يشترط لها من الحسن، ولا إلى تركيبها وما يشترط له من الحسن. . . "وهذا مقام تزل عنه الأقدام ولا يستطعيه إلا الواحد من أرباب هذ الفن بعد الواحد. ومن أجل ذلك كان أربابه قليلاً. "فإذ صفى الكلام المسجوع من الغثاثة والبرد، فإن وراء ذلك مطلوباً آخر وهو أن يكون اللفظ فيه تابعاً للمعنى، لا أن يكون المعنى تابعاًُ للفظ فإنه يجئ عند ذلك كظاهر مُمَوَّهٍ على باطن مشوَّه، ويكون مثله كغِمدٍ من ذهب على نصل من خشب. وكذلك يجرى الحكم على الأنواع الباقية، من التجنيس والترضيع وغيرهما" ولخص "ابن الأثير" مذهبه في السجع البليغ فحدد له شرائطاً أربعا: اختيار مفردات الألفاظ، واختيار التركيب، وأن يكون اللفظ تابعاً للمعنى، وأن تكون كل من الفقرتين المسجوعتين دالة على معنى غير الذي دلَّت عليه أختها، فهذه شرائط أربع لابد منه للسجع البليغ. و"ابن أبي الإصبع" البلاغي المصري - ت: 654 هـ - لا يبدو في كتابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 (بديع القرآن) مستقراً على رأي في الموضوع: فهو في باب "ائتلاف الفاصلة مع ما يدل عليه سائر الكلام" - وهذا الباب عنده من مخترعات قدامة بن جعفر، وسماه مَنْ بعده: (التمكين) - يقول ما نصه: "وكل مقاطع آي الكتاب العزيز لا تخلو من أن تكون أحد الأقسام الأربعة - لائتلاف الفاصلة، وهي: التمكين، والتصدير، والتوشيح، والإيغال - ولهذا تسمى مقاطعة فواصل لا سجعاً ولا قوافي، لاختصاص القوافي بالشعر، والسجع بالمنافرة، مأخوذ من سجع الطائر" فتفهم من هذا، أنه مع الذين تفوا وجود السجع في القرآن. لكنه لا يلبث في "باب التسجيع" أن يعده فناً من بديع القرآن، ويستشهد لضَرببيه - المتماثل والمتقارب - بالآيات الأولى من سورة "ق" وسورة "الرحمن" وكأنه تحاشى القول صراحة بالسجع في القرآن، ثم لما وصل إلى باب التسجيع، شق عليه ألا يقدم نماذجه العليا من الفواصل القرآنية، في (بديع القرآن) . و"يحيى بن حمزة العلوي" - ت: 749 هـ - في باب "التسجيع" من كتابه (الطراز، المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز) لم يفرق بين الأسجاع والفواصل، ولا اعتد بقول الذين نفوا السجع في القرآن. والتسجيع عنده: "من علوم البلاغة، كثير التدوار عظيم الاستعمال في ألسنة البلغاء، ويقع في الكلام المنثور. وهو في مقابل التصريع، في الكلام المنظور الموزون في الشعر. ومعناه في ألسنة علماء البيان: اتفاق الفواصل في الكلام المنثور، في الحرف، أو في الوزن، أو في مجموعهما". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وواضح من مسلكه في الاستشهاد لكل ضرب من ضروب التسجيع بىيات قرآنية، أنه على مذهب الذين قالوا بوجود السجع في القرآن، ولا فرق عندهم بينه وبين الفواصل. قال يبين أنواع التسجيع: "فإن اتفقت الأعجاز في الفواصل مع اتفاق الوزن، سُمَّى المتوازي كقوله تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} - سورة الغاشية. وإن اتفقا في الأعجاز من غير وزن، سُمي المُطَرَّق كقوله تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} - سورة نوح وإن اتفقا في الوزن دون الحرف، سُمَّى المتوازن، كقوله تعالى: {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} - سورة الغاشية وفصَّل "ابن حمزة" القول في حكم التسجيع مع الحديث المروي في كراهة سجع الكهان، فقال: "وفيه مذهبان: الأول جوازه وحُسنُه، وهذا هو الذي عول عليه علماء أهل البيان. والحجة على ذلك هي أن كتاب الله تعالى والسنة النبوية وكلام أمير المؤمنين، مملوء منه. فلو كان مستكرهاً لما ورد في هذا الكلام البالغ في الفصاحة كل مبلغ. ولأجل كثرته في ألسنة الفصحاء لا يكاد بليغ من البلغاء يرتجل خطبة ولا يحرر موعظة إلا ويكون أكثره مبنياً على التسجيع في أكثره. وفي هذا دلالة قاطعة على كونه مقبولاً مستعملاً على ألسنة الفصحاء في المقامات المشهورة والمحافل المعهودة. "المذهب الثاني: استكراهه. وهذا شيء حكاه ابن الأثير ولم أعرف قائله ولا وجدته فيما طالعت من كتب البلاغة. ولعل الشبهة لهم في استكراهه ما ورد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لما أوْجَبَ في (دية) الجنين غُرَّةً، عبداً أو أمَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 فقال الذي أوجبها عليه: كيف تِدى من لا شرب ولا أكل، ولا صاح فاستهل ومثلُ ذلك يُطَلُّ؟ "والجواب أنا نقول: إنه لم ينكر السجع مطلقاً، وإنما أنكر سجعاً مخصوصاً وهو سجع الكهان لأن أكثر أخبارهم عن الأمور الكونية والأوهام الظنية، على جهة السجع وتطابق أعجاز الألفاظ. "والمختار: قبولُه. ولو لم يكن جائزاً في البلاغة لما أتى في أفصح كلام وهو التنزيل. ولما جاء في كلام سيد البشر وكلام أمير المؤمنين. لأن هذه هي أعظم الكلام بلاغة وأدخلها في الفصاحة فلا يمكن ترك هذا الأسلوب من الكلام لقصَّة عارضةٍ من جهة الرسول - صلى الله عليه وسلم - يمكن حملُها على وجه لائق كما أشرنا إليه" وفي بيان السجع البليغ المقبول، اشترط مثل ما اشترط "ابن الأثير" - ويمثل عبارته، وعلى نفس الترتيب - من الاعتدال مع شرائط أربع: "أن تكون الألفاظ حلوة المذاق رطبة طنانة، صافية على السماع طيبة رنانة، وجوده التركيب وحسنة، وأن تكون الألفاظ في تركيبها تابعة لمعناها، ولا يكون المعنى فيها تابعاً لألفاظ فيكون ظاهرة التمويه وباطنُه التشويه، ويصير مثاله كمثال عمد من ذهب على نصب من خشب. "وأن تكون كل واحدة من السجعتين دالة على معنى حسن بانفراده، مغاير للمعنى الذي دلت عليه الأخرى. فهذه الشرائط الأربع لابد من اعتبارها في كل كلام مسجوع". * * * وأراني أطلت في عرض أقوال السلف في الفواصل القرآنية والسجع، توطئة لتدبر أسرار التعبير في هذه الظاهرة الأسلوبية اللافتة، من البيان المعجز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وقد رأينا كيف تباعدت بهم السبل بين الطرفين المتقابلين: ففي البيئة الكلامية اختلفت الفرق الإسلامية بين نفي السجع في القآن نفياً باتاً، والقول بوجوده في النظم القرآني، وعَدَّه من وجوه إعجازه. وفي البيئة اللغوية والبلاغية، اتسع الخلاف بين مذهب "الفراء" في أن السجع في القرآن مقصود إليه لذاته، وأنه ربما عدل عن نسق إلى آخر وآثر لفظاً على غيره في معناه، قصداً إلى المشاكلة والتوافق بين رءوس الآيات. وبين من أنكروا، كابن سنان الخفاجي وابن الأثير، أن تكون معاني الفواصل القرآنية تابعة للألفاظ. ورأينا من علماء السلف من فرقوا بين الفواصل والأسجاع، كالقاضي الباقلاني وعلي بن عيسى الرماني. وإن لم ير أكثر البلاغيين فرقاً بين الفواصل والسجع، وعندهم أن الأمر في هذه التفرقة، ليس إلا كراهة القول بالسجع في القرآن، بعد أن شاع إطلاقه على سجع الكهان. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وما نزال نجد جفوة تجاه لفظ السجع، لطول ما ابتذلته الصنعة اللفظية في الزخرف البديعي، في أساليب العصور المتأخرة، بعد أن التزمه الكهان في العصر الجاهلي. ومن ثم نؤثر أن نمضي على تسمية مقاطع الآيات في القرآن بالفواصل، وهو الذي جرى عليه أكثر المفسرين. وبعد الذي سُقناه من خلافهم، يكون من المجدي في القضية، أن نتدبر الفواصل القرآنية، لنرى ما إذا كان البيان الأعلى يتعلق في فاصلة منها بمجرد رعاية شكلية للرونق اللفظي، أو أن فواصله تأتي لمقتضيات معنوية، مع نسق الإيقاع بهذه الفواصل، وائتلاف الجرس لألفاظها التي اقتضها المعاني على نحو تتقاصر دونه بلاغة البلغاء؟ وأختار هنا شواهد من الفواصل التي مال "الفراء" ومن ذهب مذهبه، إلى حملها على قصد المشاكلة اللفظية بين رءوس الآيات، بإيثار نسق على آخر، أو العدول عن لفظ إلى غيره في معناه. دون أن يحتاطوا لدفع وهم الإطلاق، والتعميم، بذكر المقتضى المعنوي للفواصل المرعية. ننظر، مثلاً، في هذه الفواصل القرآنية: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} ذهب "الفراء" إلى أن القرآن جرى فيها على طرح كاف الخطاب من: قلاك، اكتفاء بالكاف الأولى - في: ودعك - ولمشاكلة رءوس الآيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وعدّ "الفخر الرازي" من وجوه حذف الكاف رعاية الفاصلة. ومثله "النيسابورى" في تفسيره لآيات الضحى، ونظائرها. ولو كان البيان القرآني يتعلق بهذا الملحظ اللفظي فحسب، لما عدل عن رعاية الفاصلة في الآيات بعدها: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} وليس في السورة كلها "ثاء" فاصلة. بل لسي فيها حرف ثاء، على الإطلاق. وعلى مذهبهم، كانت الفواصل تُرعى بمثل لفظ: فخَّبْر، لمشاكلة رءوس الآيات بالعدول إلى هذا اللفظ، عن: "فحدثْ" ونرى والله أعلم، أن حذف كاف من: "وما قلى" مع دلالة السياق عليها، تقتضيه حساسية مرهفة بالغة الدقة واللطف، هي ما تحاشى خطابه رسوله المصطفى، في موقف الإيناس، بصريح القول: وما قلاك. لما في القلى من حسَّ الطرد والإبعاد وشدة البغض. وأم التوديع فلا شيء فيه من ذلك، بل لعل الحس اللغوي فيه يؤذن بأنه لا يكون وداع إلا بين الأحباب كما لا يكون توديع إلا مع رجاء العودة وأمل البقاء. وحُذفت كاف الخطاب في الفواصل بعدها، لأن السياق بعد ذلك أغنى عنها. ومتى أعطى السياق الدلالة المرادة مستغنياً عن الكاف، فإن ذكرها يكون من الفضول والحشو المنزة عنهما أعلى بيان. * * * وآيات الفجر: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} صرح "الفراء" في (معاني القرآن) بأن ياء العلة حذفت من: يسرِ (ى) لمشاكلة رءوس الآيات. وكذلك ذهب "ابن سنان الخفاجي" في (سر الفصاحة) إلى حذفعا وحذف باء المنقوص من: بالوادِ (ى) قصداً إلى تماثل الفواصل. لأن القاعدة عندهم، إثبات ياء العلة، في الفعل المضارع المرفوع. إثبات ياء الاسم المنقوص مجروراً ومرفوعاً، إذ اقترن بـ: ال، أو أضيف. ويكفي الرد على من ذهبوا إلى حذف الياءين في آيات الفجر، لرعاية الفاصلة، أن نذكر أن القرآن الكريم لم يقتصر على حذفهما عنا في مقاطع الآيات، ليسلم لهم القولُ بأن الحذف قصد إلى رعاية الفواصل وتماثل رءوس الآيات، وإنما حذفت ياء المصارع المرفوع المعتل الآخر، وواوه أيضاً، وباء امنقوص مضافاً ومعرفاً بأل، في أواسط الجمل ودرج الكلام. وقد عقد الإمام "أبو عمرو الداني" باب في ذكر أصول القراء الأئمة، في الياءات المحذوفة من الرسم ومنها في غير الفواصل: هود 105: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} الإسراء 11: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} القمر 6: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} القمر 8: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} ق 41: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} النازعات 16: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} ومعها: القصص 30، طه 12 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 النمل 18: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُون} الروم 53: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} البقرة 186: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي. . .} الصافات 163: {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} الرحمن 24: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} التكوير 15: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} ولا مجال لقولٍ في هذه الآيات ونظائرها، بحذف ياء المنقوص المضتف أو المعروف بال، وآخر المضارع المرفوع المعتل بالواو أو الياءـ لرعاية الفواصل، ومشاكلة رءوس الآيات, وقد يسبق إلى الظن أن الياء والواو حذفتا فيها للتخلص من التقائهما ساكنتين، بساكن بعدهما، إلا أن نلتفت إلى آيات هود والبقرة والقمر، والحرف فيها غير متلو بحرف ساكن. أفلا يكون القائلون بالحذف لرعاية الفواصل قد تعجلوا بمثل هذا القول في آيات الفجر ونظائرها، محتكمين إلى قواعد اللغويين والنحاة في المعتل الآخر والمنقوص، حين ينبغي أن نعرض قواعدهم على ما يهدي إليه الاستقراء لكل مواضع الحذف والإثبات في الكتاب المحكم؟ * * * وآيتا الأعلى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} والليل: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى} ليست صيغة "الأعلى" معدولاً إليها فيهما عن العلىَّ لمجرد رعاية الفاصلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 ولا أَريدَ بها المفاضلة بين أعلى وعال، على ما وهم بعضهم خضوعاً لأحكام اللغويين في صيغ التفضيل ودلالتها؟ وقد جَرَّ هذا الوهم إلى ما أشار إليه "افخر الرازي" من تعلق الملاحدة في "ربه الأعلى" من اقتضاء أن يكون هناك رب آخر مفضولاً في العلو، على ما يقضى به منطق التفضيل عندهم وقواعده. وذلك من عُقم الحسَّ في من يغيب عنه السر البياني في إطلاق مثل صيغة الأعلى - والعليا - دون قصد إلى مفاضلة أو ترتيب، وإنما القصد إلى المضي بالعلو إلى نهايته القصوى بغير حدود ولا قيود. وهو نفس الملحظ الدلالي لصيغ: الحسنى، واليسرى، والعسرى، والأشقى، والأتقى، في سورة "الليل" دالة على غاية الحسن واليسر والتقوى، وأقصى العسر والشقاء الذي ما بعده من شقاء. ومثلها صيغة الأكرم في آية العَلَق: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} لم يعدل فيها عن الكريم إلى الأكرم، لمجرد رعاية الفاصلة، ولا قُصد بها المفاضلة بين أكرم وكريم، على ما تأوله مفسرون، وساقوا وجوهاً عدة لأكرميته تعالى. واستقراء آياتها، يشهد بأن صيغتى الأفعل والفعلى، تفيدان الإطلاق إلى أقصى المدى، بغير حد أو قيد مفاضلة. إنما تتعين المفاضلة بذكر المفضول، مضافاً إليه أو مجروراً بحرف من، في مثل: أكثر الناس، أكثركم، أكبر من أختها، والفتنة أشد من القتل، ولا أقل من ذلك ولا أكثر. . . ووجه التفضيل في مثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} أنه في سياق الحديث عن مكر المخلوقين: ثمود في آية (النمل 50) والكافرين من بني إسرائيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 (آل عمران 54) والذين كفروا من قريش (الأنفال 30) . وقوله تعالى: {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} بآيات يونس 109، والأعراف 87، ويوسف 80. ومعها {أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} في آيتى هود 45 والتين 8. منظور فيها إلى أن الحكم قد يكون من المخلوقين ومنه في القرآن الكريم مثل آيات: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} . . . وأما قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} فإذ لم يُنظر فيه إلى أن الخلق قد يكون من الناس - و"الراغب" في المفردات يفرق بين الخلق من الله على غير مثال، ومن الناس على مثال - فأقربُ ما يبدو لنا من وجه فيه، أن العربية لا تصوغ أفعل وفعلى، من: خَلَق فهو خالق. إنما تصوغ الأخلق من معنى: خايق. والتقييد بوجه مفاضله، في أفعل التفضيل، إنما يتعين صراحة بالتمييز في مثل: أكبر شهادة، أكثر أموالآً، أكثر جمعاً، أكثر شيء جدلاً، أزكى طعاماً، أعظم درجةً، أهدى سبيلاً. . . وذلك كله غير الإطلاق بصيغتى: الأفعل، والفعلى، إلا أن يصرح في النص بقيد تمييزٍ أو تخصص ومقارنة، كالذي في آيات: الكهف 103: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} آل عمران 139: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} معها: محمد 35 الأنفال 42: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 الإسراء 1: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} فإذا أطلق "الأفعل، والفُعلى" من قيد ومن مفضول، خرج، والله أعلم، عن دلالة المفاضلة وخصوصية القيد، وأفاد الإطلاق غير المحدود، فذلك هو قوله تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} ومثله: {الْآيَةَ الْكُبْرَى} في سورتى النازعات والنجم. و {آيَاتِنَا الْكُبْرَى} في سورة طه. و {الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} في سورة الدخان. و {الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} في سورة النازعات و {النَّارَ الْكُبْرَى} في سورة الأعلى. و {الْمَثَلُ الْأَعْلَى} في سورتى النحل والروم.. * * * وآية الرحمن: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) . . . ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} ليست تثنية جنتين فيها مراداً بها الإفراد وعدل القرآن إليها مراعاة للنظم كما ذعهب "الفراء". وإنما السياق قبلها وبعدها على التثنية. وواضح لنا أن المراد بالآية: ولمن خاف مقام ربه، من الإنس والجان، جنتان. {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} * * * وآية التكاثر: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} تجد الصنعة البلاغية فيها أن المقابر أوثرت على القبور، للمشاكلة اللفظية بينها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وبين التكاثر، ويحس البلاغيون، ونحس معهم، نَسَقَ الإيقاع بها وانسجام الجرس. ولكن وراء هذا الملحظ البلاغي في النسق اللفظي، ملحظاً بيانياً اقتضاه المعنى: فالمقابر جميع مقبرة، وهي مجتمع القبولا. واستعمالها هنا هو الملائم معنوياً لهذا التكاثر، دلالة على مصير ما يتكالب عليه المتكاثرون في حطام الدنيا. . . هناك حيث مجتمع الموتى ومحتشد الرمم على اختلاف الأعمار والأجيال والطبقات. وهذه الدلالة من السعة والعموم والشمول، لا يمكن أن يقوم بها لفظ القبور جمع قبر. فبقدر ما بين قبر ومقبرة من تفاوت، يتجلى البيان القرآني في إيثار المقابر على القبور، حين يتحدث عن غاية ما يتكاثر فيها المتكاثرون على مرَّ العصور والأجيال. . . * * * ومما قالوا فيه برعاية الفاصلة، آياتُ الهمزة: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} على القول بأن الأفئدة في معنى القلوب، وعدل إليها للمشاكلة بين رءوس الآيات. ولا تترادف الأفئدة والقلوب في حس العربية المرهف، ليقال فيهما برعاية الفاصلة. بل يطلق القلب بدلالة عامة على الجهاز العضوي من أجهزة الجسم، وعلى موضع الشعور والأهواء والعقدية والوجدان. وأما الفؤاد فلا يطلق إلا بدلالة خاصة على المعنوي دون العضوي. ونحن نعرف مثلاً جراحة القلب، وأما جراحة الفؤاد فلا تدخل في نطاق الطب البشري. ونحن نأكل القلب كما نأكل الكبد والكلى، وأما الفؤاد فليس مما يؤكل أو يباع. كما نعرف قلوباً للبشر والحيوان الأعجم على اختلاف فصائله، وأما الفؤاد فللإنسان لا غير. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وبهذه الخصوصية في الدلالة المعنوية للفؤاد، جاء اللفظ مفردا وجمعاً ست عشرة مرة في القرآن الكريم، ليس فيها ما يحمل على معنى الجارحة. والقلب، وإن جاء في القرآن في المعنويات كذلك من الاطمئنان والسكينة والرحمة والتآلف والخشوع والوجل والفقه والطهر، ومع الارتياب والتقلب والخوف والاشمئزاز والقسوة والتكبر والجبروت والزيغ والمرض والإثم والغفلة والعمى، إلا أن العربية، لغة القرآن، لا تستعمل غير القلب في الدلالة الأصلية على هذا العضو من الجسم. وإذن يكون لإيثار الأفئدة على القلوب في آية الهُمزَة، مع الملحظ البلاغي من النسق اللفظي والجرس الصوتي، مقتضاه المعنوي البياني، في تخليص الأفئدة من حسِ العضوية التي يحتملها لفظ القلوب فيما ألف العرب من لغتهم. ولا نزال نستعمل القلب بمعناه العضوي في التشريح والطب وأصناف اللحوم، ولا نستعمل الفؤاد بهذه الدلالة على الإطلاق. وكذلك لا تترادف مؤصدة ومغلقة، ليقال باحتمال العدول عن أولهما إلى الآخرى رعاية للفاصلة. بل يتميز الإيصاد بخصوصية الدلالة على إحكام الإغلاق وقوة تحصينة، والعربية استعملت "الوصيد" للبيت الحصين يُتَّخذ من حجارة في الجبال، وتقول: استوصد في الجبل، أي اتخذ فيه حظيرة من حجارة. ويمثل هذا المعنى من الإيصاد المحكم، جاءت آية البلد: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} ولا رعاية فيها لفاصلة لفظية، بل المعنى من إطباق النار على أصحاب المشأمة وإحكام إيصادها، هو ما تعلق البيان الأعلى، والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 وآية الزلزلة: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} . قالوا فيها: "وعدىّ أوحى باللام، وإن كان المشهور تعيدتها بإلى، لمراعاة الفواصل" ونستقرئ مواضع فِعل الإيحاء في القرآن كله فلا نراه يتعدى بـ "إلى" إلا حين يكون الموحى إليه من الأحياء. يطرد ذلك في كل آيات الإيحاء بإلى، وعددها سبع وستون آية. وأما حين يكون الموحي له جماداً، فالفعل يتعدى باللام كآية الزلزلة، أو بحرف في، كما في آية فُصلت: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} ودلالة "اللام" الإيحاء المباشر على وجه النسخير، ودلالة "في" البَثُّ والملابسة. وأما الإيحاء بـ "إلى" فيأخذ دلالته الخاصة في المصطلح الدينى للوحي، إذا كان الموحى إليه من الأنبياء. وإلى غير الأنبياء، بشراً أو حيواناً يكون الإيحاء بمعنى الإلهام. وللجماد بمعنى التسخير، فلا يكون للأرض في آية الزلزة، عدولاً عن: أوحى إليها، لمراعاة الفواصل، بل التعدية باللام هنا متعينة، لأن الموحّى إليه جماد، وقد هدى الاستقراء إلى أن القرآن لا يُعدى الفعل بحرف "إلى" إلا حين يكون الموحي إليه من الأحياء. * * * وفي التقديم والتأخير، قالوا برعاية الفاصلة في مقل آية الليل: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 عدل البيان القرآني فما عما هو مألوف ومتبادر من تقديم الأولى على الآخرة. وليس القصد إلى رعاية الفاصلة، هو وحده الذي اقتضى تقديم الآخرة هنا على الأولى. وإنما اقتضاه المعنى أولاً، في سياق البشري والوعيد، إذ الآخرة خير وأبقى، وعذابها أكبر وأشد وأخزى. . . وبهذا الملحظ البياني قُدمت الآخرة على الأولى في سياق البشري للمصطفى، عليه الصلاة والسلام، بآية الضحى: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} كما قُدمت الآخرة على الأولى في سياق الوعيد لفرعون، بآية النازعات: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} . . . . . . . . . . . . * * * مقتضى الإعجاز أنه ما من فاصلة قرآنية لا يقتضى لفظها في سياقه، دلالة معنوية لا يؤديها لفظ سواه، قد نتدبره فنهتدي إلى سرَّه البياني. وقد يغيب نا فنْقرُّ بالقصور عن إدراكه. ولا يُظَن بي أنني أُهوَّن من قيمة التآلف اللفظي والإيقاع الصوتي لهذا النسق الباهر الذي يجتلي فيه فنيَّة البلاغة، تؤذي المعنى بأرهف لفظ وأروع تعبير وأجمل إيقاع. فالبلاغة من حيث هي فن القول، لا تفصل بين جوهر المعنى وبين أسلوب أدائه، ولا تعتد بمعان جليلة تقصر الألفاظ عن التعبير البليغ عنها، كما لا تعتد بألفاظ حميلة تضيع المعنى أو تجور عليه ليسلم لها زخرف بديعي. وهذا هو الحد الفاصل بين فنية البلاغة كما تجلوها الفواصل القرآنية بدلالتها المعنوية المرهفة ونسقها الفريد في إيقاعها الباهر، وبين ما تقدمه الصنعة البديعية من زخرف لفظي يُكرِه الكلماتِ على أن تجئ في غير مواضعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 فلعل جلال الفواصل القرآنية في نسقها الفريد، يعفينا من لَدَدِ خصومةٍ بين أصحاب اللفظ وأصحاب المعنى، لا يعرفها ذوق العربية المرهف في البيان الأعلى بالكتاب العربي المبين. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 {لَا أُقْسِمُ} ومن الظواهر الأسلوبية اللافتة في البيان القرآني، مجئ فعل القسم بعد "لا النافية" في مثل قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} . والخلاف قديم في تأويل "لا" وتوجيه القسم بعدها. قال "الفراء" يرد على قول كثير من النحويين بأنها صلة: "ولا يُبتَدأ بجحد ثم يُجعَل صلةَّ على نية الطرح فلا يُعرف خبر فيه جحد من خبر لا جحد فيه. ولكن القرآن جاء بالرد على الذين أنكروا البعث والجنة والنار، ومثل لذلك بقولك: لا والله لا أفعل ذاك؛ جعلوا لا وإن رأيتها مبتدأة، رداً لكلام قد كان مضى، ولو ألقيت "لا" مما يُنوَى به الجواب، لم يكن بين اليمين التي تكون جواباً والتي تستأنف فرق. . . " في القرن الثامن، جاء بها "ابن هشام" في باب "لا، الزائدة في الكلام لمجرد تقويته وتأكيده" ولخص أقوالهم فيها: قيل هي نافية. ثم اختلفوا في تأويل المنفي بها: منهم من قال إنها تنفي شيئاً تقدم في سورة أخرى، ففي آية القيامة أنكر المشركون البعث، فقيل لهم: لا، ليس الأمر كذلك. ثم استؤنف القسم: أقسم. ووجه هذ التأويل عندهم، أن القرآن كله كالسورة الواحدة، ولهذا يُذكر الشيء في سورة، وجوابه في سورة أخرى، ونَظَّرا لذلك بقوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} رداً على ما في سورة أخرى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} . . . ورَّده "أبو حيان" بأنه لا يجوز، لأن في لك حذف اسم "لا" وخبرها. وليس جواباً لسائل يسأل فيحتمل ذلك. نحو قولك: لا، لمن سأل: هلى من رجل في الدار؟ (البحر المحيط) . وقيل هي زائدة: توطئة وتمهيداً لنفي الجواب محذوفاً. وتقديره في آية القيامة: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} لا يُتْرّكون سُدَّى. ورُد هذا التأويل بأنه لا وجه لتقدير جواب، والجواب صريح في مثل: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} المعارج. {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} البلد. {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} . الواقعة. وفي قولٍ إنها زيدت لمجرد التأكيد وتقوية الكلام. ونظيره عندهم، آية الحديد: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} . . . ورُدّ بأنها لا تزاد لذلك في صدر الكلام، بل تزاد حشواً. لأن زيادة الشيء تفيد اطراحه، وكونه في أول الكلام يفيد الاعتناء به. وقول ثالث: إنها ليست نافية ولا زائدى، وإنما هي لام الابتداء، أشبِعت فَتحتُها فتولدت عنها ألف، كقول الشاعر: * أعوذ بالله من العقراب *. أشبعت فتحة الراء فيها، فتولَّد عنها ألِفٌ، وإنما هي: العقرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وعلى هذا الوجه قراءة الحسن البصري، إمامها: {فَلَأُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} . وقراءة هشان بن عمار الدمشقي مقرئها الإمام، لآية إبراهيم: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} . بياء بعد الهمزة، تولدت من إشباع كسرتها. ولما كانت لام الابتداء لا تدخل على الفعل، في قواعدهم، قدروا دخولها في الآية على جملة من مبتدأ وخبر: {فلأنا أقسم" ثم حذف المبتدأ. وردّه "الزمخشري" بأن اللام في هذه القراءة لا تصح أن تكون لام القسم لأمرين: أحدهما: أن حقها أم يُقرن بها النون المؤكدة، والإخلال بها ضعيف قبيح. والثاني: أن سياق الآية يرشد إلى أن القسم بمواقع النجوم واقع، ومقتضى جعلها جواباً لقسم محذوف، أن تكون للاستقبال، وفعل القسم يجب أن يكون للحال. * * * وبعذ هذا كله، نرد إلى القرآن ما تنازعوا فيه. فنستبعد بادئ ذي بدء أن تكون "لا" في آيات القسم، رداً على كلام سبق في سورة أخرى، لأن هذا فضلاً عما سبق من رد أبي حيان، يقتضي القراءة على وجوب الفصل بين: لا، أقسم، لكمال الانقطاع، وكل القراءات فيها على الوصل. وتنظيرهم بقوله تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} رداً على ما حكى القرآن من قولهم في سورة الحِجْر: {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} ؛ يرد عليه أن سورة القلم، ثانية السور في ترتيب النزول على المشهور، وسورة الحجر، ترتيبها في النزول الرابعة والخمسون! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وتأويل "لا أقسم" بأنها "لأقسم" أشبعت فتحة اللام فيها فتولدت عنها ألف، إذا لم يبعده رد "الزمخشري" فقد يبعده معه أن هذا الإشباع موضع إلباس بـ: لا النافية. ولا إلباس في قراءة "أفئيدة". ثم نتدبر آيات القسم في الكتاب المحكم، فيهدينا إلى اطراد مجئ آيات "لا أقسم" وضمير المتكلم فيها، لله تعالى: الواقعة 75: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} الحاقة 38: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} المعارج 40: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} . القيامة 1: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} . التكوير 15: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} الانشقاق 16: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} البلد 1: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} . ولو يأت فعل القسم، في القرآن كله، مسنداً إلى الله تعالى. بغير "لا" هذه. كن لم تأت "لا" النافية مع فعل القسم مسنداً إلى غيره تعالى. وإنما جاءت "لا" الناهية في آية النور {لَا تُقْسِمُوا} وليست مما يشغلنا هنا من الظاهرة الأسلوبية "لا أقسم" في القرآن لله وحده، دون غيره من الخلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وهذا الاطراد يُبعد احتمالَ أن تكون "لا" هي لام الابتداء أشبعت فتحتها فتولدت عنها ألف، كما أشبعت فتحة الراء في شاهدهم: * أعوذ بالهه من العقراب * كما يُبعد احتمالَ أن تكون "لا" زائدة، والمعنى: "أقسم" كما اختار أبو حيان. وقد قالوا هم أنفسهم إن زيادة الحرف تفيد اطراحه. كما صرحوا بأن مجئ الحرف في أول الكلام يفيد كونه موضعَ عنايةٍ أعطتْه الصدارة. فهل هي مزيدة للقسم تقوية وتأكيداً له؟ قالوا إن إدخال لا النافية على فعل القسم جاء في كلام العرب وأشعارهم، ومن شواهدهم قول "امرئ القيس": فلا وأبيكِ ابنةَ العامرىَّ. . . لا يدَّعى القومُ أني أفِرْ وقول "غوية بن سلمى": ألا نادتْ أمامةُ باحتمالِ. . . لتحزننى، فى بِكِ ما أُبالى وقول آخر: * فلا وأبي أعدائها لا أخونها * وجعول منه آية الحديد: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} - 29 والآية كما لاجظ "ابن هشام" في سياق لانفي الصريح. وكذلك كل الشواهد الشعرية التي ذكروها، سياقُها النفي الصريح. وليس الأمر كذلك في آيات "لا أقسم" وكلها في سياق الإثبات والتقرير. ونفهم أن تأتي "لا" في سياق النفي فتؤكده. واما أن تأتي لتؤكد الإثبات، فذلك ما يبدو غريباً حقاً على المنطق اللغوي والحس البياني. إذ القسم للتوثيق، وهو أقوى من التأكيد، ولا يسوغ، في الأصول أو المنطق، أن تؤكد التوثيق بنفيه. والنفي نقيضُه التأكيد، فإذا نفيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 القسَم انتقض بنفيك إياه. والجمعُ بينهما أوْلى بأن يُسقطهما كليهما، على القاعدة الأصولية في الدليلين يتعارضان فيتساقطان. * * * أفلا يهيدنا تدبر سياق آيات "لا أقسم" لله تعالى وحده، إلى سر البيان في "لا" تنفي حاجته، جل جلاله، إلى القسم؟. بلى، وإنما نحتاج نحن البشر إلى أن نقسم، دفعاً لمظنة اتهام أو إزاحةً لشكَّ. ومن ثم نلمح سر العربية إذ تستعمل هذا الأسلوب، حيث تنتفي الحاجة إلى القسم، في مواضع الثقة واليقين. وفرقً بعيد أقصى البعد، بين أن تكون "لا" لنفي القسم، كما قال بعضهم. وبين أن تكون لنفي الحاجة إلى القسم، كما يهدي إليه البيان القرآني. ومن نفي الحاجة إلى القسم، يأتي التوثيق والتقرير. لأنه يجعل المقام في غنى بالثقة واليقين عن الإقسام. والسر البياني لهذا الأسلوب، يعتمد في قوة اللفت، على ما يبدو بين النفي والقسم من مفارقة مثيرة لأقصى الانتباه. وما نزال بسليقتنا اللغوية نؤكد الثقة بنفي الحاجة معها إلى القسم، فتقول لمن تثق فيه: لا تقسم، أو: من غير يمين. مقررأ بذلك أنه موضع ثقتك فلست بحاجة إلى أن يقسم لك. كما تقول لصاحبك: لا أوصيك بكذا، تأكيداً للتوصية بنفي الحاجة إليها. * * * وإذ اكتفى بهذا القدر ككا اجتليت من أسرار الإعجاز في البيان القرآني، أرجو ألا يُظن بي أنني أجحد جهود السلف الصالح في خدمة كتاب الإسلام ومحاولاتهم في فهم إعجازه. فالحق أن عطاءهم السخي كان لنا على تتابع الأجيال ذخيرة ومدداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 وأعود فأقرر أن الإعجاز البياني للقرآن، يفوت كل محاولة لتحديده، ويجاوز كل طاقاتنا في لمح أسراره الباهره. قصارى ما اطمأننت إليه في هذه المحاولة لفهم إعجاز البيان القرآني، هو أنه ما من لفظ فيه أو حرف يمكن أن يقوم مقامه غيره، بل ما من حركة أو نبرة لا تأخذ مكانها في ذلك البيان المعجز. وما أزعم، وما ينبغي لي، أنني فيكا اجتليت وأجتلى من أسرار البيان القرآني قد شارفت أفُقه العالى. لكنها محاولة أبتغي بها ثواب المسعى وشرف الوسيلة والقربى. وينفد القول ولا تنفد كلمات ربي: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} صدق الله العظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 الجزء الثاني مسائل نافع بنِ الأزرق * في تراث السلف؛ والدراسات الحديثة * في مخطوطات الظاهرية ودار الكتب المصرية * المسائل: نص ودراسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اللهمَّ يسَّرْ وأَعِنْ في الطبعة الأولى من كتابي هذا، قدمت محاولة تطبيقية في دراسة قرآنية بيانية لمسائل نافع بن الأزرق لعبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -، في نحو مائتى كلمة من غريب القرآن مع شاهد من كلام العرب لتفسير كل مسألة. المسائل معروفة لعلماء اللغة والشعر والقرآن، على خلاف بينهم في طرقهم إليها وأسانيدهم، وفي مساقها وعددها، وربما اختلفوا كذلك في المروي عن ابن عباس في تفسير بعضها وشواهده عليها. ذكرها "المبرد - 285 هـ" جملة في خبر الخوارج من كتابه (الكامل) في سياق الكلام عن نافع بن الأزرق، أبي راشد الذهلي رأس الأزارقة (65 هـ) وما كان من حرصه على طلب العلم وتحريه فبه وغيرته عليه قبل أن يبتلى في الفتنة. وروى المبرد ثلاث مسائل منها، مما حدث به أبو عبيدة معملا بن لامثنى (110 - 210 هـ) عن أسامة بن زيد - الليثي مولاهم، 153 هـ - عن عكرمة ابن عباس (105 هـ) ومعها بضع مسائل دون العشر، "مما حدث به أبو عبيدة وغيره. . . " وعقب المبرد عليها بهذا الخبر: "ويروى عن أبي عبيدة من غير وجه، أن ابن الأزرق أتى ابنَ عباس فجعل يسائله حتى أمَلَّه، جعل ابن عباس يظهر الضجر. وطلع "عمر بن أبي ربيعة" على ابن عباس وعمر يؤمئذ غلام، فسلم وجلس، فقال له لبن عباس: ألا تنشدنا شيئاً من شعرك، فأنشده: أَمِن آلِ نُعْمٍ أنت غادٍ فمُبْكِرُ. . . غداةَ غدٍ أم رائح فمُهَجَّرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 - ونقل المبرد أربعة عشر بيتاً من أول القصيدة إلى قوله: "رأت رجلاً * البيت - حتى أتمها عمر وهي ثمانون بيتاً. فقال ابن الأزرق: لله أنت يا ابن عباس، أنضرب إليك نسألك في الدين فتعرض، ويأتيك غلام من قريش فينشدك سفهاً فتسمعه؟ فقال: تا لله ما سمعت سفهاً. فقال ابن الأزرق: أما أنشدك: رأتْ رجلا أما إذا الشمسُ عارضتْ. . . فيضحى، وأما بالعشىَّ فيخسر فقال: ما هكذا قال، وإنما قال: * فيضحى وأما بالعشى فيخصَرَْ * وبعد أن علق "المبرد" على البيت وشرحه، استأنس له بقوله تعالى: {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} واتجهت عنايته إلى شرح الغريب والاستئهاد له. وسياق المسائل في كتابه، يأخذ صفة الأمالى الأدبية اللغوية، لا الدراسة القرآنية. وسيأتي انفراد المبرد بهذا الخبر عن عمر ورائيته دون سائر الرواة لمسائل ابن الأزرق فيما وصل إلينا. * * * وأخرجها "أبو بكر ابن الأنباري" - ت 328 هـ - في مقدمات كتابه الجليل (إيضاح الوقف والابتداء من كتاب الله - عز وجل -) سماعاً من شيخه بشر بن أنس، قال: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال: حدثنا أبو صالح هدية بن مجاهد، قال: أخبرنا محمد بن شجاع قال: أخبرنا محمد بن زياد البشكرى - الميمونى - عن ميمون بن مهران قال: "دخل نافع بن الأزرق إلى المسجد الحرام فإذا هو بابن عباس جالساً على حوض من حياض السقاية قد دلّضى رجليه في إناء، وإذا الناس قيام عليه يسألونه عن التفسير فإذا هو لا يحبسهم تفسيرَه. فقال نافع: تا للهِ ما رأيت رجلا أجرأ على ما تأتي به منك يا ابن عباس! فقال له ابن عباس: ثكلتْك أمُّك، أوَ لا أدلُّكَ على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 من هو أجرأ مني؟ قال: ومن هو؟ قال: رجل تكلم بغير علم أو كتم علماً عنده. فقال نافع: يا ابن عباس، إني أريد أن أسألك عن أشياء فأخبرني بها: قال: سلْ ما شئت. قال: أخبرني عن قوله تعالى {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} قال: الخيط الأبيض ضوء النهار، والخيط الأسود سواد الليل. قال: فهل كانت العرب تعرف ذلك من قبل أن ينزل القرآن؟ قال نعم، قال أمية بن أبي الصلت: الخيط الآبيض ضوءُ الصبح منبلج. . . والخيط الأسود لونُ الليل مكموم وعلى هذا النسق مضى ابن الأنباري في رواية المسائل وعددها عنده، من طريق محمد بن زياد اليشكري الميموني عن ميمون بن مهران الرقَى الحافظ، خمسون مسألة. معها جملة غيرها مما سئل عنه علماء السلف في غريب القرآن فاستشهدوا لتفسيره بأبيات من الشعر احتجاجاً من ابن الأنباري للشعر وتفسير القرآن به قال: "وهذا كثير من الصحابة والتابعين، إلا أنا نجتزئ بما ذكرنا كراهية لتطويل الكتاب. وإنما دعانا إلى ذكر هذا أن جماعة لا علم لهم بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا معرفة لهم بلغة العرب، أنكروا على النحويين احتجاجهم على القرآن بالشعر.." وأورد أقوالهم، ورد عليها محتجاً في الرد بنصوص من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وعملهم، - رضي الله عنهم -. * * * وأخرجها "الطبراني" (260 - 360 هـ) في معجمه الكبير في سياق مناقب ابن عباس، - رضي الله عنهما -، وما روى من سعة علمه وفضله. تقدمةً لما في المعجم الكبير من حديث ابن عباس رضى عنهما. ومساقها عند الطبراني بهذا الإسناد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي، ثنا إبراهيم بن بشار الرمادي، ثنا أبو عبد الرحمن الحراني - وهو عثمان بن عبد الرحمن - ثنا عبيد الله موسى ابنا يزيد الحرانيان، قالا: ثنا جويبر عن الضحاك بن مزاحم الهلالي قال: "خرج نافع بن الأزرق ونجدة بن عويمر - الحرورى، قتل سنة 69 هـ في نفر من رءوس الخوارج (ينقرون) عن العلم ويطلبونه حتى قدموا مكة، فأذ هم بعبد الله بن عباس قاعداً قريباً من زمزم وعليه رداء له أحمر وقميص، وإذا ناس قيام يسألونه عن التفسير يقولون: يا ابن عباس ما تقول في كذا وكذا؟ فيقول: هو كذا وكذا. فقال له نافع بن الأزرق: ما أجرأك يا ابن عباس على ما (تخير به) منذ اليوم! فقال له ابن عباس: ثكلتك أمك يا نافع، وعَدمَتْك، ألا أخبرك من هو أجرأ مني؟ قال: من هو يا ابن عباس؟ قال: رجل تكلم بما ليس (له) به علم، ورجل كتم علماً عنده. قال: صدقت با ابن عباس، أتيتك لأسالك. وقال: هات يا اين الأزرق، فسلْ.." وساق المسائل والجواب عنها والشواهد عليها، وعددها عنده - من طريق "جويبر - بن سعيد الأزدي، أبي القاسم البلخي"، توفى بعد سنة 140 هـ - عن "الضحاك - بن مزاحم الهلااي، مولاهم، أبي القاسم الخراساني" التابعي المفسر (105 هـ) - إحدى وثلاثون مسألة. وكذلك موضعها وعددها في زوائد الطبراني بمجمع الزوائد للحافظ نور الدين الهيثمي (807 هـ) : في كتاب المناقب، مناقب ابن عباس: باب جامع فيما جاء في علمه وما سئل عنه وفي كتاب التفسير: باب كيف يفسر القرآن. وذكرها "البدر الزركشي" - 794 هـ - مجملة في كتابه (البرهان في علوم القرآن) : النوع الثامن عشر، معرفة غريبه. ومساقها عنده، أن معرفة هذا الفن للمفسر ضروري، وإلا فلا يحل له الإقدام على كتاب الله تعالى. ونقل أقوالاً في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 ذلك، عن الإمام مالك ومجاهد وابن عباس، ثم قال: "ومسائل نافع له عن مواضع من القرآن، واستشهاد ابن عباس في كل جواب ببيت، ذكرها الأنباري في كتاب (الوقف والابتداء) بإسناده، وقلا: "فيه دلالة على بطلان قول من أنكر على النحويين احتجاجهم على القرآن بالشعر وأنهم جعلوا الشعر أصلاً للقرآن، وليس كذلك.." ونقل احتجاج ابن الأنباري للشعر وتفسير القرآن الكريم به، وبعده: "وهذا الباب عظيم الخطر، ومن هنا تهيب كثير من السلف تفسير القرآن وتركوا القول فيد حذراً أن يزلوا فيذهبوا عن المراد، وإن كانوا علماء باللسان فقهاء في الدين. وكان الأصمعي، وهو إمام اللغة، لا يفسر شيئاً من غريب القرآن، وحكى عنه أنه سئل عن قوله تعالى: {شَغَفَهَا حُبًّا} فسكت وقال: هذا في القرآن، ثم ذكر قولاً لبعض العرب في جارية لقوم أرادوا بيعها: أتبيعونها وهي لكم شغاف؟ ولم يزد على هذا. ولهذا حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على تعلم إعراب القرآن وطلبِ معاني العربية" وذكر تحرج أبي بكر وعمر، - رضي الله عنهما - من تفسير كلمة الأبّ في قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} قال: "وما ذاك بجهلٍ منهما معنى الأب، وإنما يحتمل والله أعلم، أن يكون من الألفاظ المشتركة في لغتهما أو في لغات فخشيا إن فسراه بمعنى من معانيه أن يكون المراد غيره. ولهذا اختلف المفسرون في معنى الأبَّ على سبعة أقوال. . . " وذكرها. ولم ينقل الزركشي في هذا السياق مسائل مما في كتاب (الوقف والابتداء) وإن أورد عدداً منها في المسرد الخاص بغريب القرآن. * * * "الجلال السيوطي - 911 هـ - هو الذي جاء بأكبر مجموعة منها في كتابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 (الإتقان في علوم القرآن) . ذكرها أولاً في معرفة غريب القرآن، ثم أفرد لها فصلاًَ منه استهله بقوله: "قال أبو يكر ابن الأنباري: قد جاء عن الصحابة والتابعين كثير من الاحتجاج على غريب القرآن ومشكله بالشعر. وأنكر جماعة لا علم لهم، على النحويين ذلك وقالوا: إذا فعلتم ذلك جعلتم الشعر أصلاً للقرآن. قالوا: وكيف يحوز أن يحتج بالشعر على القرآن، وهو مذموم في القرآن والحديث؟ قال: وليس الأمر كما زعموه من أنا جعلنا الشعر أصلاً للقرآن بل أردنا تبين الحرف الغريب من القرآن بالشعر، لأن الله تعالى قال: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} وقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} وقال ابن عباس: الشعر ديوان العرب. فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب، رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه. ثم أخرج - أبو بكر - من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر. . . " قال السيوطي: "وأوعب ما رويناه عنه (مسائل نافع بن الأزرق) وقد أخرج بعضها ابن الأنباري في (كتاب الوقف) والطبراني في (معجمه الكبير) وقد رأيت أن أسوقها هنا بتمامها لتستفاد: أخبرني ابن هبة الله محمد بن علي الصالحي بقراءتى عليه، عن أبي إسحاق التنوخي، عن القاسم بن عساكر: أنا أبو نصر محمد بن هبة الله الشيرازي أنا أبو المظفر محمد بن أسعد العراقي، أنا أبو علي محمد بن سعيد ابن نبهان الكاتب، أنا أبو علي بن شاذان: حدثنا أبو الحسين عبد الصمد بن علي بن محمد بن مكرم المعروف بابن الطستي، حدثنا أبو سهل السري الجنديسابورى، حدثنا يحيى ابن أبي عبيدة (بحر بن فروخ السلمى) أنا سعيد بن أبي سعيد، أنا عيسى بن دأب عن حميد الأعرج وعبد الله بن أبي بكر بن محمد عن أبيه قال: "بينا عبد الله بن عباس جالس بفناء الكعبة وقد اكتنفه الناس يسألونه عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 تفسير القرآن (والحلال والحرام) فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر: قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن والفتيا بما لا علم له به. فقاما إليه فقالا له: إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتب الله فتفسرها لنا وتأتينا بمصادِقه من كلام العرب، فإن الله إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين. فقال ابن عباس: سلاني عما بدا لكما". وعدد المسائل في (الإتقان) عن طريق "أبي الحسين عبد الصمد بن علي بن محمد بن مكرم الطستي" (266 - 346 هـ) بإسناده عن عيسى ابن دأب، أبي الوليد بن يزيد بن أبي بكر الأخباري، عن حميد الأعرج، أبي صفوان المكي (- 130 هـ) وعبد الله بن أبي بكر بن محمد الأنصاري المدني (- 135 هـ) عن أبيه "أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني، أميرها وقاضيها النابعي الفقيه الحافظ القدوة (- 120 هـ) : مائة وتسعون مسألة قال السيوطي بعد أن ساقها: "هذا آخر مسائل نافع بن الأزرق، وقد حذفت منها يسيراً، نحو بضعة عشر سؤالاً. وهي أسئلة أخرج الأئمة أفراداً منها بأسانيد مختلفة إلى ابن عباس. وأخرج أبو بكر بن الأنباري في (كتاب الوقف والابتداء) قطعة منها هي المعلم عليها بالحمرة وصورة (ك) - وذكر إسناد أبي بكر إلى ابن عباس - وخرج الطبراني في (معجمه الكبير) منه قطعة وهي المعلم عليها بحرف (ط) من طريق جويبر عن الضحاك بن مزاحم، قال: خرج نافع بن الأزرق. . . وذكره". قلت: ولم تصل إلينا النسخة العتيقة المعلم بالحمرة وحرف كُ على المنقول من كتاب الوقف والابتداء، وبحرف (ط) على المنقول من معجم الطبراني الكبير. وقد نبه الشيخ العلامة المحقق "نصر أبو الوفا" الهوريني - في تصحيحه نسخته من الإتقان - على أنه "مما تعسر الوصول إليه أن المؤلف - السيوطي - ذكر في آخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 صفحة 164 من الأول، أنه أشار بصورة ك حمراء على بعض مسائل نافع بن الأزرق. وما وجدت تلك الصورة إلا في نسخة عتيقة أتلف العرق معظم صفحاتها". والذي في طبعتنا من الإتقان - وهي الطبعة المذكورة آنفاً - مما له نظير في (الوقف والابتداء) ست وعشرون مسألة، لا نملك الجزم بأنها المنقولة منه، لاحتمال أن يكون النقل من مصادر أخرى. ويقال مثل ذلك في ثماني عشرة مسألة بالإتقان، لها نظائرى في المعجم الكبير للطبراني، وليس في مطبوعة الإتقان علامة (ط) التي كانت بالحمرة في النسخة العتيقة. * * * وأجوبة ابن عباس، رضي الله عنهما، عن المسائل مبثوثة في كتب التفسير والكتب المفردة في غريب القرآن، ومعاني القرآن، والفصول والأبواب الخاصة بالغريب من الكتب الجامعة لعلوم القرآن. وأوردها، نقلاً من الإتقان، خادم القرآن والسنة "الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي" - رضي الله عنه - في (معجم غريب القرآن) مرتبة على حروف الهجاء لألفاظ الغريب في المسائل بالإتقان. وتأخذ موضعها كذلك، في قضية الإسلام والشعر، وغالباً ما يئول المتأخرون في ذلك إلى "أبي بكر الأنباري" فيما قاله، بعد إيراد المسائل - من احتجاج للشعر - ثم نقله البدر الزركشي في (البرهان) والجلال السيوطي في (الإتقان) على ما ذكرنا آنفاً. ومن طربق السيوطي نقله الفقيه الأديب "أبو العباس السلاوي. أحمد بن خالد" في (زهر الأفنان) شرحاً لقول الشاعر المغربي "أحمد بن محمد الونان" في منظومته الفريدة (الشمقمقية) تنويها بفضل الشعر بعد ذكر مكانته لدى النبي - صلى الله عليه وسلم -: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 لو لم يكن له عند من مضى. . . فضل، على الكعبة لم يُعلَّقِ لو لم يكن فيه بيانُ آيةٍ. . . ما فسَّرت مسائل ابن الأزرق ما هو إلا كالكتابة وما. . . فضلهما إلا كشمس الأفق وإنما نزه عنهما النبي. . . ليُدرَك الإعجاز بالتحقق عقد شارحها "أبو العباس السلاوي" فصلين بعنوان (ذكر مسائل ابن الأزرق وما يتعلق بها، وذكر فضل الشعر والكتابة، وتنزية النبي - صلى الله عليه وسلم - عنهما) وفي أولهما ذكر الشارح ما روى من سؤال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، عن قةله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} - النحل 47 - فسكت القوم إلا شيخاً من هذيل قال: في لغتنا التخوف التنقص. فسأله أمير المؤمنين: فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ فأجاب: نعم، قال شاعرنا أبو كبير الهذلي: تخوف الرجل منها تامكا قَرِداً. . . كما تخوف عودَ النبغة السَّفَنُ وأضاف الشارح ما في إتقان السيوطي من احتجاج أبي بكر الأنباري للشعر في (الوقف والابتداء) ثم نقل من رواية السيوطي للمسائل الثلاث الأولى منها. وختم الفصل بقوله: "ومضى السيوطي يذكرها مسألة مسألة حتى ملأ منها نحو الكراسة، فانظرها في كتابه الإتقان في علوم القرآن، والله الموفق" وكذلك أضافها الزميل الأستاذ الدكتور محمد الراوندي من علماء القرويين، في دراسته الجامعية الجليلة (الصحابة الشعراء، - رضي الله عنهم -) إلى ملف الدراسات المعاصرة لقضية الإسلام والشعر. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 من (إتقان السيوطي) نقلتها في الطبعة الأولى من كتابي هذا، حيث لم تتجه العناية إلى غير الدراية القرآنية لألفاظ الغريب في مسائل ابن الأزرق، دون بيان لطرق أسانيدها رواتها وتحقيق متونها وتخريج شواهدها، فكذلك كان علماء الغريب من سلفنا الصالح، يوجهون العناية إلى معاني الألفاظ، على ما هو واضح في (مفردات القرآن للراغب الأصبهاني) - 502 هـ - وفي (كتاب الغربيين لأبي عبيد الهروي) 401 هـ؛ ذكره "ابن الأثير الجزري، المجد أبو السعادات" في خطبة كتابه (النهاية في غريب الحديث والأثر) فيمن سبقوه إلى التصنيف فيه، قال: "فلما كان زمن أبي عبيد أحمد بن محمد الهروي - 401 هـ صاحب الإمام أبي منصور الأزهري - 370 هـ -. . . صنف كتابه المشهور السائر، في الجمع بين غريبى القرآن العزيز والحديث. ورتبه مُقَفَّى على حروف المعجم، على وضع لم يُسبق في غريب القرآن والحديث إليه، فاستخرج الكلمات اللغوية الغريبة من أماكنها وأثبتها في حروفها وذكر معانيها، إذ كان الغرض والقصد من هذا التصنيف معرفة الكلمات الغريبة لغة وإعراباً ومعنى، لا معرفة متون الأحاديث والآثار وطرق أسانيدها وأسماء رواتها، فإن ذلك علم مستقل بنفسه مشهور بين أهله". وأعددت هذه الطبعة الجديدة وقد أتيح لي الظفر بثلاث نسخ خطية من (مسائل ابن الأزرق) في أجزاء مفردة مستقلة لم تكن بيد يدي أثناء إعداد الطبعة الأولى: - نسخة الظاهرية (ظ) في المجموع لرقم 3849م. الأوراق من (108 وجه - 119 ظهر) من وقف الشيخ موفق الدين - رضي الله عنه - " - ونسختا دار الكتب بالقاهرة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 في المجموع رقم 166 م (132 و - 143 ظ) ورمزها: ك - طلعت، في المجموع رقم 266 م (1 - 33) ورمزها: ط أما نسخة الظاهرية بدمشق فأصل عتيق، من رواية "أبي بكر أحمد بن جعفر ابن محمد بن سَلْم الخُتَّلى" من مخضرمي القرنين الثالث والرابع (278 - 365 هـ) . سماعه من ابن عمار أبي العباس أحمد بن عبيد الله بن محمد بن عمار الثقفى، بإسناده إلى جويبر عن الضحاك بن مزاحم الهلالي، قال: "خرج نافع بن الأزرق ونجدة بن عويمر في نفر من رءوس الخوارج ينقرون عن العلم ويطلبونه حتى قدموا مكة فإذا هم بعبد الله بن عباس قاعداً إاى جنب زمزم عليه رداء له أحمر وقميص أبيض، وإذا الناس قيام يسألونه عن التفسير ويقولون: يا ابن عباس يا ابن عباس، ما تقول في كذا؟ فيقول: كذا وكذا. فقال له نافع ابن الأزرق: ما أجرأك يا ابن عباس على ما تجئ به منذ اليوم؟ فقال له ابن عباس: ثكلتك أمك يا نافع، أفلا أخبرك عمن هو أجرأ مني؟ قال: ومن هو يا ابن عباس؟ قال: هو رجل تكلم بما ليس له به علم، ورجل كتم علماً عنده. قال: صدقت. ثم قال: إني أتيتك لأسألك. قال هات يا ابن الأزرق" وذكر المسائل وعددها في رواية ابن عمار الثقفي من طريق جويبر عن الضحاك، خمسون مسألة (108 ظ - 112 ظ) بعدها (من ص 112 ظ) إسناد آخر من رواية أبي شهاب الحناط عبد ربه بن نافع (171 هـ) عن أبي بكر الهذلي (167 هـ) عن عكرمة مولى ابن عباس (105 هـ) قال: خرج نافع بن الأزرق ونجدة.." فذكر الخبر بنحو ما في رواية أبي بكر الختلي عن ابن عمار الثقفي من طريق جويبر عن الضحاك. ثم في صفحة (115 و) بعنوان مسائل ابن الأزرق، رواية ثالثة لها من طريق عثمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 ابن عبد الرحمن الحراني - لعله الطرائفي ت 203 هـ - أسنده عن جويبر عن الضحاك كذلك، قال: خرج نافع بن الأزرق ونجدة بن عويمر في نفر من رءوس الخوارج ينقرون عن العلم ويطلبونه حتى قدموا مكة فإذا هم بابن عباس قاعدا إلى جنب زمزم عليه قميص أبيض ورداء أحمر والناس قيام يسألونه عن التفسير فيجيبهم. . . " فذكر الخبر والمسائل، وعددها خمسون مسألة كذلك، مع تحويل الإسناد في السؤال عن قوله تعالى: (مكاء وتصديه) إلى الكلبي - 117 ووالنِسخة في هذا الأصل العتيق دقيقة الخط صعبة القراءة، لا يؤمن فيها التباس حرف بآخر، واشتباه اسم وطمس كلمة من قدم وبلى. على أنها في المقروء منها، وهو جملتها، غاية في الضبط والتوثيق. وعلى وجه المخطوط بأعلى الصفحة الأولى توقيعات سماع بخطوط علماء أئمة: - سماع أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي. - والد الشيخ الموفق (- 558 هـ) - مفروغ: أحمد بن محمد بن سلفة الأصبهاني نسخاً وسماعاً - هو الحافظ أبو طاهر السلفي (- 576 هـ) - فرغ منه الساجي سماعاً وانتقاء - هو الحافظ أبو نصر المؤتمن بن أحمد البغدادي (- 507 هـ) وعلى هذه الصفحة ألأولى، تصحيح سماع لطبقات من الأعلام والحفاظ الأئمة، منها سماع الشيخ أبي الحسين المبارك بن عبد الجبار الصيرفي (- 500 هـ) على أبي طاهر محمد بن علي بن محمد بن يوسف العلاف، عن أبي بكر ابن مسلم الختلي عن ابن عمار. ثم توالت تقييدات السماع للجزء كله. على الشيخ الجليل أبي الحسين المبارك، منها: - سمعه عليه الشيخ أبو منصور موهوب بن أحمد الجواليقي (- 540 هـ) بقراءة عبد الخالق بن عبد القادر بن يوسف محدث بغداد (- 548 هـ) وأبو الفضل محمد بن الحسن بن محمد الإسكاف، بقراءة محمد بن ناصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 ابن محمد، أبي الفصل البغدادي محدث العراق (- 550 هـ) وذلك يوم الاثنين الثالث والعشرين من المحرم سنة اثنتين وتسعين وأربع مائة. ثم سماع الآخرين عليه، في شهر رمضان في سنة أربع وتسعين، وفي شهر ربيع الأول من سنة ست وتسعين وأربع ماية (108 و) وعلى الصفحة الأخيرة، تصحيح سماع طبقة قبل هؤلاء، لجميع الجزء، من الشيخ أبي طاهر محمد بن علي بن محمد، بكتابه، عن أبي بكر أحمد بن جعفر ابن مسلم الختلي، بقراءة محمد بن عبد الملك بن علي بن عيسى بن النحوي - أبي سعيد البغدادي - سمعه: أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الله الصورى الحافظ (- 442 هـ) وأبو الحسين المبارك بن عبد الجبار الصيرفي، في آخرين من الطبقة، وذلك في جمادى الآخرة من سنة 438 هـ وتعاقب السامعون للجزء على الشيخ أبس الحسين المبارك. سمعه عليه بقراءة أبي نصر المؤتمن بن أحمد بن علي الساجي (- 507 هـ) : ابن أخيه أبو منصور محمد، والقاضي الأجل أبو نصر محمد بن هبة الله بن مميل الشيرازي، والشيخ الأجل أبو الفضل عبد الملك بن علي بن عبد الملك ابن يوسف، وأبو الفضل ناصر بن محمد بن علي، وأبو منصور موهوب بن أحمد ابن محمد بن الخضر الجواليقى، وأبو طاهر أحمد بن محمد بن سلفة، وأبو العباس أحمد بن محمد بن أبي القاسم، الاصبهانيان، وأبو طالب مهلهل بن علي بن الخضر المعمر الهمدانى، وهزارست بن عوض بن الحسن الهروي. وذلك بتاريخ شهر رمضان من سنة 494 والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله. يليه سماع عدد من الشيوخ لهذا الجزء، على الشيخ الصالح أبي الحسين المبارك ابن عبد الجبار الصيرفي "أيده الله" بقراءة الشيخ أبي البركات عبد الوهاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 ابن المبارك بن أحمد بن الحسن الأنماطي (538 هـ) . في ذي الحجة سنة أربع وتسعين وأربع مائة، 494 هـ. * * * وأما نسختا دار الكتب بالقاهرة بالمجموعتين: 166م، 226 م طلعت، بعنوان (سؤالات نافع بن الأزرق لابن عباس - رضي الله عنه -) فالراجح أنهما منقولتان من أصل واحد من القرن الرابع للهجرة، ويحتمل كذلك أن إحداهما نسخت من الأخرى. فتكون ط هي المنقولة، ترجيحاً، من (ك) لوجود نقص في موضعين من ط، يختل به السياق. والنسختان، كلتلهما، عاريتان على أي حال، من تقييد سماع أو توقيع ناسخ وتاريخ نسخ. ويبدأ المخطوط فيهما بهذا الإسناد: حدثنا أبو الحسين عبد الصمد بن علي بن محمد بن مكرم المعروف بابن الطّستي، قراءة عليه من لفظه في مسجده بدرب زباج يوم الخميس لعشرٍ خلون من ربيع الآخر من سنة أربع وأربعين وثلثماية؛ قال: نا أبو سهل السري بن سهل بن حربان الجنديسابورى بجنديسابور قراءة عليه سنة ثمان وثمانين ومائتين، قال: نا يحيى بن أبي عبيدة المُسْلى - واسم أبي عبيدة بحر بن فروخ - قال: أخبرنا سعيد بن أبي سعيد، قال: أنا عيسى بن دأب عن حميد الأعرج وعبد الله بن أبي بكر بن محمد عن أبيه، قال: بينا عبد الله بن عباس جالس بفناء الكعبة قد أسدل رجله في حوض زمزم إذ الناس قد اكتنفوه من كل ناحية يسألونه عن تفسير القرآن وعن الحلال والحرام، وإذا هو لا يتعايا بشيء مما يسألونه عنه، فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر: قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن والفتيا بما لا علم له به. فقالا: يا ابن عباس، ما يحملك على تفسير القرآن والفتيا بما لا علم لك به؟ أشيئاً سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أم هذا منك تخرصا؟ فإن كل هذا منك تخرصا فهذه والله الجرأةُ على الله - عز وجل -. فقال ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 عباس لنافع بن الأزرق: لا والله، ما هذا مني تخرصا لكنه علم علمنيه الله. ولكني سأدلك على من هو أجرأ مني يا ابن أم الأزرق. قال: دلني عليه؟ قال: رجل تكلم بما لا علم له به، أو رجل كتم الناس علماً علمه الله - عز وجل -. فذاك أجرأ مني يا ابن أم الأزرق. وقال نجدة: فإنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله - عز وجل - فتفسره لنا وتأتينا بمصداقة من كلام العرب، فإن الله - عز وجل -، إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين. قال ابن عباس: سلاني عما بدا لكما تجدا علمه عندي حاضرا إن شاء الله تعالى. . . " وساق المسائل، فبلغت من هذا الطريق في النسختين مائتين وخمسا وخمسين مسألة، ختامها فيهما: (تمت مسائل ابن الأزرق لابن عباس) - رضي الله عنه -، والحمد لله وحده، وصلى الله على من لا نبي بعده) . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 بمقابلة هذه الأجزاء المخطوطة الجامعة لمسائل ابن الأرزق، بعضها على بعض، وعلى ما فيها (كامل المبرد، وإيضاح الوقف والابتداء لابن الأنباري، والمعجم الكبير للطبراني - ومعه مجمع الزوائد للهيثمي - وإتقان السيوطي) تبين لنا: أن "المبرد" انفرد بذكر الخبر عن عمر بن أبي ربيعة وإنشاده رائيته عبدَ الله بن عباس، في الحرم المكي. وأن نسخة الظاهرية (ظ) أصل عتيق، تتفق مع (المعجم الكبير للطبراني) مساقاً ومتنا، وعدد المسائل في كل منهما إحدى وثلاثون. ويلتقي الإسناد فيهما عند عثمان ابن عبد الرحمن الحراني. عن عبيد الله عن جويبر عن الضحاك بن مزاحم الهلالي. وأن نسختى دار الكتب بالقاهرة (ك، ط) تتفقان مع ما في إتقان السيوطي مساقا ومتنا، مع زيادة فيهما. لما صرح السيوطي بأنه اختصره من المسائل. ويلتقي إسناده معهما عند |"أبي الحسين عبد الصمد بن علي بن محمد بن مكرم، ابن الطسني" من طريق عيسى بن دأب، أبي الوليد بن يزيد بن بكر الأخباري، عن حميد الأعرج وعبد الله بن أبي بكر بن محمد، عن أبيه أبي بكر بن محمد بن عمرو ابن جزم الأنصاري، التابعي الفقيه الحافظ. مع إثبات تاريخ السماع ومكانه، عن أبي الحسين ابن الطستي، في النسختين الخطيتين. وبذلك يكون لدينا لرواية أبي القاسم الطبراني في طبعه معجمه الكبير, مرجعان للمقابلة والتصحيح: مخطوطة الظاهرية وزوائد الطبراني في مجمع الزوائد لنور الدين الهيثمي. ولرواية السيوطي في (الإتقان) ما له نظائر في مصدريه اللذين نص عليهما: (الوقف والابتداء، والمعجم الكبير) مع نسختى دار الكتب المصرية (ك، ط) . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 ما اجتمع لي من المسائل من مختلف الطرق في أصولها خطية ومطبوعة، يسعف على ما لم يكن متاحاً لي من قبل، من توثيقها وإخراجها على سعة من الوقت في نص محقق إذا يسر الله تعالى وأعان. وإنما أقتصر هنا على الانتفاع بهذه النسخ في المقابلات والمراجعات، استكمالاً لنقص وترميماً لخرم وضبطا لسياق وتصحيحاً لتصحيف أو تحريف. إذ القصد من إيراد المسائل هنا، كما ذكرتُ من قبل، خدمة قضية الإعجاز البياني، بما روى عن ابن عباس، - رضي الله عنهما -، حبر هذه الأمة وترجمان القرآن، من تفسيرٍ لكلمات قرآنية في مسائل ابن الأزرق، وما يكون لعلماء العربية والقرآن من أقوال في تفسيرها، وعرض هذا التفسير على الدلالة القرآنية التي يهدى إليها التدبر والاستقراء، وصولا إلى إدراك فوتها جهدَ المحاولة لتفسيرها بغير لفظها في البيان المعحز، إلا على وجه الشلرح والتقريب. "وعلى الله قصد السبيل" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 المسائل نص، ودراسة في الكتب المطبوعة (وق) كتاب إيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله - عز وجل -، لأبي بكر ابن الأنباري: ط دمشق 1390 هـ - 1971 م. (ط ب) المعجم الكبير للطبراني: ط وزارة الأوقاف ببغداد (تق) الإتقان في علوم القرآن، للجلال السيوطي. ط الموسوية بالقاهرة 1278 هـ. النسخ الخطية (ظ) الخزانة الظاهرية بدمشق (3849) مجموع. (ك) دار الكتب المصرية (166م) مجاميع. (ط) دار الكتب المصرية: طلعت (266) مجاميع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 1 - {عِزِينَ} قال نافع بن الأزرق لابن عباس: أخبرني عن قوله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} قال ابن عباس : عزين، الحَلَق الرفاق. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول "عبيد بن الأبرص": فجاءوا يهرعون إليه حتى. . . يكونوا حول مِنْبَرِه عِزِينا (تق، ك، ط) = الكلمة من آية المعارج 37، والكلمة وحيدة في القرآن، صيغة ومادة: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} معناها في آية المعارج عن الفراء: والعزون الحلق الجماعات.. واحدها عِزَة، وأصلها عِزْوة، قال أبو عبيدة في مجاز القرآن: جماعات في تفرقة. وفسرها البخاري بمثل قول الفراء. وقال الطبري في تأويل الآية: أي فِرَقاً حول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرغبون في كتاب الله ولا في نبيه. ثم أسند عن قتادة: العزين الحلق المجالس، وعن الضحاك: حلقاً ورفقاء، وفي الحديث المرفوع: "ما لي أراكم حلقاً" - اخرجه مسلم - أسند الطبري عن أبي هريرة: والعزين الحلق المتفرقة. وعن جابر بن سمرة قال: دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن متفرقون فقال: "ما لي أراكم عزين" وفي رواية أنهم كانوا جلوساً فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما لي أراكم عزين حلقاً" نستأنس به لدلالة العزوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 والعزين، على العزو والانتماء. لحظها الراغب فقال: الجماعة المنتسب بعضها إلى بعض (المفردات) . ولعل تأويل "عزين" في المسألة بالحق الرفاق، بملحظ من الدلالة على الجماعة يعتزى بعضها إلى بعض: محاصرة عن اليمين والشمال في الآية، وتأييداً ونجدة ونصره في الشاهد من بيت عبيد، والله أعلم. * * * 2 - {الْوَسِيلَةَ} : قال: أخبرني عن قول الله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} ما الوسيلة؟ قال: القربة، قال فيه عنترة: أن العدو لهم إليكِ وسيلة. . . أن يأخذوكِ تكحَّلى وتخضَّبى (وق) وفي (تق، ك، ط) قال: الوسيلة الحاجة. = الكلمة من آية المائدة 35: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ومعها آية الإسراء 57: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 وليس في القرآن غيرهما من المادة. تأويلها في المسألة بالقربة، في (وق) ، أوْلى من تأويلها في (ك، ط) بالحاجة، ولم أقف عليه فيما قرأت لهم في معنى آية المائدة. قال أبو عبيدة في (مجاز القرآن) : أي القربة، أي أطلبوا واتخذوا ذلك بطاعته، يقال: توسلت إليه، تقربت. قال عنترة: - البيت. وفي تأويل الطبري: اطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه، والوسيلة فعلية من: توسلت إلى فلان بكذا، بعمنى تقربت، ومنه قول عنترة البيت. يعني بالوسيلة القربة. ونحوه في تفسير القرطبي للآية، ولم ينقلا فيها خلافاً بين أهل التأويل في تفسيرها بالقربة. وقال الراغب: الوسلية التوصل إلى الشيء برغبة، وهي أخص من الوصيلة، لتضمنها معنى الرغبة. قال تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} والوسيلة إليه تعالى مراعاة سبيله وهي كالقربة، بالعلم والعبادة وتحرى الشريعة (المفردات) . وفي حديث الآذان: "اللهم آت محمداً الوسيلة" قال ابن الأثير: الوسيلة هي في الأصل ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به. والمراد بها في الحديث القرب من الله تعالى، وقيل هي الشفاعة يوم القيامة، وقيل هي منزلة من منازل الجنة. (النهاية) * * * 3 - {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} قال ابن عباس، أخبرني عن قول الله - عز وجل -: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} قال: الشرعة الدينُ، والمنهاج الطريق. قال: زهل تعرف العرب ذلك" قال: نعم. واستشهد بقول أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب: لقد نطق المأمونُ بالصدقِ والهدى. . . وبينَّ للإسلام ديناً ومنهجاً (ك، ط، تق) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 = الكلمتان من آية المائدة 48 خطاباً للرسول عليه الصلاة والسلام، بعد ذكر التوارة والإنجيل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} ولم تأت صيغة "شرعة" إلا في هذه الآية. وجاء منها الفعل الثلاثي ماضياً في آيتى الشورى (13، 21) و"شريعة من الأمر" في آية الجاثية (18) و"شُرَّعا" في آية الأعراف (163) وأما {مِنْهَاجًاْ} فوحيدة فيه، صيغة ومادة. الشريعة في اللغة، المشرَع والمورد إلى الماء. ويقال: شرعت الباب إلى الطريق وأشرعته، أي فتحته على الشارع: الطريق الواسع، جمعه شوارع. واستعير الشرع والشريعة لما شرعه الله تعالى لعباده. "وأما المنهاج فإن أصله الطريق البينَّ الواضح، يقال عنه: طريق نهج ومنهج، كما قال الراجز: مَنْ يكُ في شك فهذا فلج. . . ماء روى وطريق نهج ثن يستعمل في كل شيء كان بيناً واضحاً" قاله الطبري. تأويلهما في المسألة عن ابن عباس: الشرعة الدين والمنهاج الطريق. والذي أسنده الطبري عن ابن عباس: من عدة طرق، قال: سبيلاً وسنة. وأسند مثله عن قتادة، وقال: والسنن مختلفة: للتوراة شريعة وللإنجيل والإخلاص الذي جاءت به الرسل. ثم أسند عن قتادة: الدين واحد ولاشريعة مختلفة. والشرع من الدين، بصريح قوله تعالى في سورة الشورى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} الآية 13 وقوله - عز وجل -، فيها: {أَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} الآية 21. وتتعدد الشرائع: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} والدين واحد، فليس في القرآن كله لفظ: أديان، جمعاً. * * * 4 - {وَيَنْعِهِ} وسأله عن قوله تعالى: {إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} : قال: نضجه وبلاغه. واستشهد بقول الشاعر: إذا ما مشتْ وسط النساء تأوَّدتّ. . . كما اهتز غصن ناعمُ النْبت يانعُ (تق، ك، ط) = الكلمة من آية الأنعام 99: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَر َ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وحيدة في القرآن، صيغة ومادة. وتفسير الينع بالنضج والبلاغ، قريب منه ما أسنده الطبري عن ابن عباس وغيره من أهل التأويل. ولا يفوتنا معه أن الينع لأوج الأزدهار الطبيعي في النبت والثمر، على حين جاء النضج، لما تنضجه النار في قوله تعالى في سورة النساء 56. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} ولم يأت فيه غيره من المادة. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 5 - {رِيشًا} : وسأله عن قوله تعالى: {وَرِيشًا} قال: المال، واستشهد بقول الشاعر: فَرِشْنَىِ بِخيرٍ طال ما قد بَريَتْنَى. . . وخيرُ الموالى مَن يَرِيشُ ولا يَبْرِى (تق، ك، ط) = الكلمة من آية الأعراف 26: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} وحيدة في القرآن صيغة ومادة. وجاء المال فيه، نكرة ومعرفة، مفرداً وجمعاً، ستاً وثمانين مرة. مما يؤذن بفرق بين مال وريش، في آية الأعراف. وذكر الفراء والطبري قراءة لغير السبعة: "ورياشا" ووجهه عندهما إما أن يكون مصدراً مثل لبس ولباس، أو جمعاً واحدُه ريش كصحْبٍ وصحاب. وأورده أبو عبيدة في مجاز القرآن بلفظ "ورياشاً" قال: الرياش والريش واحد وهو - في الآية - ما ظهر من اللباس والشارة. والرياش أيضاً الخِصب والمعاش. وقال الطبري: الرياش في كلام العرب الأثاث وما ظهر من الثياب والمتاع مما يُلبس أو يُحشى من فراش أو دثار. والريش إنما هو في المتاع والأموال عندهم وربما استعملوه في الثياب والكسوة، دون سائر المال، وقد يستعمل في الخصب ورفاهة العيش. ثم أسند عن ابن عباس وآخرين أنه المال. وعنه أيضاً وآخرين أنه اللباس والعيش الناعم. وفي قولٍ: المعاش، والجمال. وسياق الآية: أقرب في الريش إلى اللباس، مستعار من الريش لأنه كالثياب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 للإنسان على ما قال الراغب. وأما في الشاهد فهو من" راش السهم يريشه إذا ألصق به الريش وسدده، واستعبر للإصلاح. كما أن البَرْى مجاز من بُراية القلم واستعير للعجز والضعف. * * * 6 - {كَبَدٍ} قال: فأخبرني عن قول الله - عز وجل -: {فِي كَبَدٍ} ما الكبد؟ قال: في اعتدال [واستقامة] قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول لبيد بن ربيعة: يا عينُ هلا بكيتِ أربدَ إذ. . . قمنا وقام الخصوم في كبَد (ظ، ك، ط، تق) = الكلمة من آية البلد 4: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} وحيدة في القرآن صيغة ومادة. وفي معاني القرآن صيغة ومادة. وفي معاني القرآن للفراء: منتصباً معتدلاً. ويقال خُلقِ في كبد يكابد أمر الدنيا والآخرة. وهما روايتان عن ابن عباس في الطبري وفتح الباري (8 / 498) ورواية ثالثة عنه في الطبري: في شدة، في معيشته وحَمْلِه وحياته ونبات أ سنا نه. واختار الطبري بعد نقل اختلاف أهل التأويل فيها: في شدة يكابد الأمور، لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب من معاني الكَبَد ومنه قول لبيد الشاهد. وأكثر المفسرين على أنه المكابدة والمشقة وأنشدوا فيه بيت لبيد. وفي شرحه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 للطوسي قال: القيام على الأمر الشديد هو الكبد. وذلك غير معنى الاعتدال في المسألة. ودلالة المشقة أصل في المادة، فالعربية استعملت الكَبد في المعاناة من كبِدٍ مريضة، ثم نقلتها إلى المكابدة المعنوية، على سبيل المجاز، فقيل: وقع في كبَد، في مشقة؛ وتقول للخُصماء: إنهم لفي كبد من أمرهم، وبعضهم يكابد بعضاً، والمسافر يكابد الليلَ، إذا ركب هوله وصعوبته. وأطمئن إلى أنه في الآية الكريمة من المكابدة لتبعات التكليف ومخاطر اقتحام العقبة: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} وكذلك يبدو معنى المشقة في بيت لبيد، أقرب من معنى الاعتدال والاستقامة. * * * 7 - {سَنَا} : وسأل ابن الأزرق عن قوله تعالى: {يَكَاد ُ سَنَا بَرْقِهِ} قال: السنا، الضوء. واستشهد ببيت أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب: يدعو إلى الحقَّ لا يبغي به بدلاً. . . يجلو بضوءِ سنَاه داجىَ الظُّلَمِ (تق، ك، ط) = الكلمة من آية النور 43: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} وحيدة في القرآن صيغة ومادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 ولفظ الضوء - في تفسير المسألة - ليس من مفردات القرآن، والذي فيه من المادة: "ضياء" في آيات: يونس 5، والأنبياء 48، والقصص 31. ومعها الفعل الثلاثي ماضياً في آيتى البقرة: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} ومضارعاً في آية النور: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} وتفسير السنا بالضوء لا يشهد له بيت أبي سفيان بن الحارث، من حيث لا يقال فيه: * يجلو بضوء ضوئه داجى الظلم * فيضاف الشيء إلى مثله. وأقرب منه أن يكون في السنا معنى الساطع المتألق المرتفع من الضوء. وهو في اللغة يستعمل في العلو، فالسناء، بالمد: العلو والرفعة، والسنىُّ: العالي المرتفع. وفي تفسير الطبري للآية، أنه لمعان البرق - ولم يشر إلى خلاف في تأويله - وقال الراغب: السنا: الضوء الساطع. (المفردات) . * * * 8 - {حَفَدَةً} : قال: فأخبرني عن قول الله - عز وجل -: {بَنِينَ وَحَفَدَةً} قال: أما بنوك فإنهم يعاطونك ويكفونك، وأما حفدتك فإنهم خدمك. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت الثقفي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 حَفَدَ الولائدُ حولَهنَّ وألِقيتْ. . . بأكُفَّهنَّ أزِمَّةُ الأجمالِ (ظ، طب) وفي (ك، ط) : ولد الولد وفي (تق) قال: الحفدة ولد الولد وهم الأعوان. = الكلمة من آية النحل 72: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} وحيدة في القرآن صيغة ومادة. والخلاف في تأويلها بالمسألة عن ابن عباس، مثلُه وأكثر منه فيما ذكر الطبري من اختلاف أهل التأويل في المعنيين بحفدة، وأسند عن ابن عباس وغيره أنهم الأنصار، وعن ابن عباس أيضاً أنه سئل عن {بَنِينَ وَحَفَدَةً} فقال: من أعانك فقد خدمك، أما سمعت قول الشاعر: حفد الولائد / البيت، وعن عدد من أهل التأويل أنهم أختانُ الرجل على بناته، وانهم الخدم،. . . وفي (مفردات الراغب) في قوله تعالى {بَنِينَ وَحَفَدَةً} : جمع حافد وهو المتحرك المتبرع بالخدمة أقارب كانوا أو أجانب، وحكى عن المفسرين أنهم الأسباط، وذلك لأن خِدمتَهم أصدق، قال الشاعر: حفد الولائد * وفي الدعاء: إليك نسعى ونحفد. وأصل الحفد عند ألصمعي مداركة الخظو. وعن الخليل قال: الحفدة عند العرب الخدم. قال الزمخشري. ومن المجاز حفدت فلاناً خدمته وخففت إلى طاعته، فهو محفود، مخدوم مطاع. وهم حفدة فلان أي خدمه وأعوانه ومنه قيل لأولاد الابن: حفدة (س) لعل القريب من سياق الآية أن الحفدة أولاد البنين، ومن حيث يكونون أعواناً لأهلهم جوزت العربية استعمال الحفدة للأعوان يخفون لخدمة المحفود وطاعته ولو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 لم يكونوا من أولاد ولده، وهو المفهوم من * حفد الولائد *، الشاهد. ومن حديث الدعاء: "وإليك نسعى ونحفد". والله أعلم. * * * 9 - {حَنَانًا} قال: فأخبرني عن قول الله - عز وجل - {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} ما الحنان؟ قال: الرحمة. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت يقول طرفة بن العبد وهو يقول للنعمان بن المنذر: أبا منذرٍ أفنيت فاستبق بعضَنا. . . حناَنيْكَ بعض الشر أهون من بعضِ (ظ، تق، ك، ط) = الكلمة من آية مريم 13: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا} وحيدة في القرآن صيغة ومادة. وأما الرحمة - في تفسيرها بالمسألة - فكثير الورود في القرآن الكريم، نكرة ومعرفة و"المرحمة" والفعل الثلاثي ماضياً ومضارعاً وأمراً، ورحماء و"أرحم الراحمين" والرحمن والرحيم من الأسكماء الحسنى. ومن المادة جاءت الأرحام اثنتى عشرة مرة، و"أقرب رحماً" في آية الكهف. ومعنى الكلمة بالآية: الرحمة، عند أبي عبيدة والفراء. وفيما نقل الطبري فيها من اختلاف أهل التأويل: القول بأن "حناناً" الرحمة، والتعطف والمحبة، وأسند عن ابن جريح عن عمرو بن دينار، أنه سمع عكرمة عن ابن عباس قال: لا والله ما أدري ما حناناً. وقال الطبري: وللعرب فيها لغتان: حنانك وحنانيك، واختلفوا في حنانيك: هل هو تثنية حنان، أو كقولهم: حواليك؟ واصل الحنان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 من قولهم: حَنّ إلى كذا، ارتاح إليه واشتاق، وتحنن: تعطف عليه ورَقَّ (سورة مريم) . وفي إعراب القرآن لأبي جعفر النحاس وفي جامع القرطبي أنه من حنين الناقة. وأنشدوا في حنانيك بيت طرفة، وفي حنان قول امرئ القيس: * حنانك ذا الحنان * وحكى القرطبي فيها قول جمهرة المفسرين: الحنان الشفقة والرحمة والمحبة، وهو من أفعال القلوب. وفي الرحمة ملحظ من التسامح واللطف والعفو، إذا كانت من الله سبحانه وتعالى: ذي الرحمة، الرحمن الرحيم، أرحم الراحمين، فإذا كانت من الناس فبملحظ من القربى والرحم، والتراحم بين أولى الأرحام، والأخوة في الدين: والوجهان في آية الإسراء 245: في الإحسان بالوالدين: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} صدق الله العظيم. * * * 10 - {يَيْأَسِ} قال: فأخبرني عن قول الله - عز وجل -: {أَفَلَم ْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} قال: أفلم يعلم. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت بقول مالك بن عوف: لقد ييئسُ الأقوامُ أنى أنا ابنُه. . . وإن كنت عن أرض العشيرة نائيَّا (ظ) زاد في (تق، ك، ط) : أفلم يعلم، بلغة بني مالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 = الكلمة من آية الرعد 31: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} وفي القرآن غيرها، الماضي والمضارع من يئس سبع مرات، واستيأس، واستيأسوا، ويئوس ثلاث مرات. تأويل "أفلم ييأس" في المسألة: أفلم يعلم، قاله جمهور أهل التأويل، بلفظه أو بلفظ، أفلم يتبين، مكا في تفسير البخاري. وإن ذكروا اختلاف أهل العلم بكلام العرب، فيه: قال أبو عبيدة، في الآية: أي أفلم يعلم ويتبين. وعن الكلبي أنها لغة النخع، أوحَّى منهم. حكاه الفراء، والجوهري في (ص) وبها فسر الآية. ومعها في الطبري عن القاسم بن معن أنها لغة هوازن، وحكاهما القرطبي وأبو حنان، وابن حجر في فتح الباري عن الطبري. وأنشدوا جميعاً فيها شاهد المسألة، وبيت سحيم: أقول لهم بالشعب إذ يأسروننى. . . ألم تيأسوا أني ابنُ فارسِ زهدم وأوردها ابن قتيبة في باب المقلوب من (تأويل مشكل القرآن) قال: ويئست بمعنى علمت، من قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ} الآية لأن في علمك الشيء وتيقنك له يأسَك من غيره. وأنشد بيت سحيم. وهي عند الزمخشري من المجاز: تقول قد يئست أنك رجل صدق - بمعنى علمت - وأنشد الشاهدين. وذلك أنه مع الطمع القلقُ، ومع انقطاعه السكوتُ والطمأنينة كما مع العلم، ولذلك قيل: اليأس إحدى الراحتين. (س) وهو نحو من توجيه الفراء، مع إنكاره أن يكون ييأس بمعنى يعلم محفوظاً من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 كلام العرب. وردّه الطبري بأن من حفظ حجة على من لم يحفظ. وحكاه عنه ابن حجر في (فتح الباري) وفي القرآن الكريم غير آية الرعد، إحدى عشرة كلمة، والذي أطمئن إليه، والله أعلم، أن اليأس فيها على أصل معناه في القنوط وانقطاع الرجاء، بصريح السياق في آياتها البينات: الطلاق 4: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} المائدة 3: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} الممتحنة 13: {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} ومعها آية العنكبوت 23 يوسف 87: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} يوسف 80: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} يوسف 110: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} هود 9: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} ومعها آيتا الإسراء 83 وفُصلت 49. وى يبعد أن نستأنس بها لفهم اليأس في آية الرعد بمعنى أنه قد آن للذين آمنوا أن يقنطوا من الذين كفروا، ويقطعوا الرجاء فيهم، بما عملوا {أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} نظير قوله - عز وجل -: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} الأنعام 35 {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} يونس 99. وإجماع أهل التأويل على القول بأن معنى "أفلم ييأس" أفلم يعلم أو: أفلم يتبين، هو مقتضى اليأس من الذين كفروا، كما يفهم من توجيه الفراء وابن قتيبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 والزمخشري، وهو صريح قول الراغب: اليأس انتفاء الطمع، يقال: يئس واستيأس، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ} {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} وقيل معناها أفلم يعلموا، ولم يُرد أن اليأس موضوع في كلامهم للعلم، إنما قصد أن يأس الذين آمنوا من ذلك يقتضي العلم، فإذاًَ ثبوت يأسهم مقتضى حصول علمهم". والله أعلم. وأحسب أن الشاهد للمسألة، أقوى بمثل هذا التوجيه، مما لو حُمِل على علم الأقوام بأنه ابنُ أبيه، وإن كان عن أرض العشيرة نائيا. * * * 11 - {مَثْبُورًا} وسأله عن معنى قوله تعالى: {مَثْبُورًا} قال: ملعونا محبوساً من الخير، واستشهد بقول عبد الله بن الزبعرى: [ذ أُبَارِى الشيطان في سنن الغيً. . . ومن مال مَيْلَه مثبورُ] (تق، ك، ط) = الكلمة من آية الإسراء 102 في الآيات التسع لموسى عليه السلام: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} وحيدة الصيغة في القرآن، ومن مادتها جاء "ثُوراً" أربع مرات: ثلاث في آيتى الفرقان: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} 13، 14 والرابعة في آية الانشقاق. {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرً} - 11 وهذا هو كل ما في القرآن من المادة. تأويلها في المسألة باللعنة والحبس عن الخير، أسنده الطبري عن ابن عباس. ونقل "الراغب" في (المفردات) في معنى الكلمة بآية الإسراء: "قال ابن عباس - رضي الله عنه -: يعني ناقص العقل، ونقصان العقل أعظم هُك" وهو ما أسنده الطبري عن ابن زيد وأسند معه عن مجاهد وقتادة: هالكاً. والتفسير على القولين، تقريب لا يفوتنا معه ما في "الثبور" من حس الهلاك الذي لا ينفك ولا يتراخى. وهو ما لم يفت "الراغب" في تفسير الثبور بالهلاك والفساد المثابر على الإتيان. وفي (الأساس) : ثابر على الأمر مثابرة. وثبره الله أهلكه دائماً لا ينتعش منه. ومن ثم يدعو أهل النار ثبوراً. * * * 12 - {فَأَجَاءَهَا} وسأله عن معنى قوله تعالى : {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} فقال ابن عباس: ألجأها. واستشهد بقول حسان بن ثابت: إذْ شدَدْنا شدَّةً صادقةً. . . فأجَأنْاكُم إلى سفحِ الجبَلْ (تق، ك، ط) = الكلمة من آية مريم 23: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 ولو يأت الفعل: أجاء، رباعياً مزيداً بالهمزة، إلا في هذه الآية. وأما الثلاثي منه فكثير، مبنياً للمعلوم وللمجهول. ذهب الفراء إلى أن {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} من: جئت، كما تقول: فجاء بها المخاض إلى جذع النخلة. . . كما تقول: آتيتُكَ زيداً، تريد: أتيتك بزيد. ولغة أخرى لا تصلح في الكتاب وهي تميمية: فأشاءها المخاض. ومن أمثال العرب: شرُّ مَّا ما ألجأك إلىَّ. . . وأهل الحجاز والعالية يقولون: شرُّ ما أجاءك، وتميم تقول: شر ما أشاءك. وحكاه عنه الأزهري في (التهذيب: ج أى) ونحوه عند الطبري. وتأويلها في المسألة بـ: ألجأها، أسنده الطبري عن ابن عباس، وأسند عن قتادة، قال: اضطرها. واختاره الطبري والقرطبي، وأنشدوا بيت زهير: وجارٍ سارَ معتمداً إلينا. . . أجاءتْه المخافة والرجاء وهو شاهد أبي حيان لمعنى: ساقها وفي الإجاءة بها من معنى شدة الموقف وعسر الاضطرار، ما ليس في كلمة "ألجأها" بما تفيد من معنى الملجأ والملاذ، بصريح آياتها الثلاث في الكتاب المحكم: التوبة 57، في المنافقين المتخاذلين: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} التوبة 118، في الصحابة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، لغير نفاق، فتاب الله عليهم: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 الشورى 47: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} . والأمر كذلك في بيت حسان - رضي الله عنه - شاهداً على أن السيطرة على الموقف كانت للمسلمين بعد الجولة الأولى من أُحدٍ، فأجاءوا المشركين إلى سفح الجبل. وتفسير الإجاءة بهم بالإلجاء، يفيد أن المسلمين جعلوا لعدوهم ملجأ، وليس المراد. وإنما يريد حسان تقرير ما كان للمسلمين من سيطرة على الموقف، فكانوا هم الذين أجاءوا عدوهم إلى سفح أُحُد. * * * 13 - {نَدِيًّا} وسأل ابن الأزرق عن معنى قوله تعالى: {وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} فقال ابن عباس: النادى، المجلس واستشهد له بقول الشاعر: يومانِ، يومُ مَقاماتٍ وأنديةٍ. . . ويومُ سيرٍ إلى الأعداءِ تأويب (تق) زاد في (ك، ط) : المجلس والتكأة = الكلمة من آية مريم 73: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} وحيدة الصيغة في القرآن. وجاء النادى مرتين في آيتى: العلق 17: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 والعنكبوت 29، في قوم لوط: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} وسائر ما في القرآن من النداء: فعلاً ومصدراً واسم فاعل. ومن التنادي في آية القلم 21: {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ} . وأما مقام، فيأتي مصدراً نحو {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} ونحوه "يا قوم أن كان كبُر عليكم قيامي وتذكيري بآيات الله" ويأتي اسم زمان {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} واسم مكان {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} {نَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} لا يرادبه منزل إبراهيم ومقعد سليمان عليهما السلام، بل حيث كانا يقومان أو باعتبار قيامهما كما قال الراغب. والسؤال عن قوله تعالى "نديا" والجواب: النادى المجلس. والمعاجم تجمع بين الندى والنادى والمنتدى والندوة، لمجتمع القوم ومجلسهم. وفي تأويل الآية قال البخاري: "نديا" والنادى واحد، مجلسا. وأسنده الطبري عن ابن عباس من عدة طرق، قال: المقام المنزل والندى المجلس. وعنه أيضاً بلفظ: المقام المسكن والندى المجلس والنعمة والبهجة التي كانوا فيها. وعن قتادة: قال: مجلساً، وقرأ {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} . وفي الندى والنادى، دلالة التنادي والتجمع، وهي أصل في المادة. قيده الجزهري باجتماع القوم في المجلس، فإن تفرقوا فليس بندى (ص) وقال الراغب: وعُبَّر عن المجالسة بالنداء حتى قيل للمجلس: النادى والمنتدى والندى. وقيل ذلك للجليس {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} - المفردات. والمقام والندى في الآية وفي الشاهد، في موضع الفخر والمباهاة، فلا يكونان مجرد مسكن ومنزل ومجلس، بل ما هو منهما من العظمة والجاه والكثرة بحيث يُباهَى بهما ويُفاخر، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 14 - {أَثَاثًا وَرِئْيًا} وسأله عن معنى قوله تعالى: {أَثَاثًا وَرِئْيًا} . قال: الأثاث المتاع، والرئى الشراب. واستشهد بقول الشاعر: كأن على الحمول غداةَ ولَّوْا. . . من الرئى الكريم من الأثاث (تق، ك، ط) وفيهما: الرى = الكلمة من آية مريم 74: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} ومعها أثاث في آية النحل 80: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} وأما رئِى، فوحيدة الصيغة في القرآن، على كثرة ما جاء فيه من المادة في الرؤية والرأى والرؤيا، ورثاء والمراءاة والترائي. . . وتفسير الأثاث في المسألة بالمتاع، أخرجه البخاري في كتاب التفسير عن ابن عباس وأسنده الطبري عنه. وقال الفراء في معنى الآية: الأثاث المتاع، لا واحد لهما، وقد يجمعان. وخص الأزهري الأثاث بمتاع البيت. وخصه الهروى في (الغريبين) بما يلبس ويفترش. ويظهر من استقراء الآيات في الكلمتين أن الأثاث يستعمل، أكثر ما يستعمل، في متاع البيت بخاصة، ومع ملحظ الوفرة والكثرة. وقلما استعمل في المعنوي. وأما المتاع، فعامَّ فيما هو من متاع الدنيا، غير مقصور على الأثاث. وتتصرف العربية في المتاع، على سبيل المجاز بمثل قولهم: متع النهار متوعاً، إذا ارتفع غاية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 الارتفاع ما قبل الزوال؛ وشيء ماتع: بالغ في الجودة، ورجل ماتع: كامل في خصال الخير (س) ويَقْوَى هذ الملحظ في الفرق بين خصوص الأثاث وعموم المتاع، بعطف أحدهما على الآخر في آية النحل. مع تدبر آياتٍ في المتاع، لا يقبل سياقها أن تُحمل الكلمة على معنى الأثاث. الحجر 88: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} معها: آية طه 131 البقرة 36: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} معها: الأعراف 24 المائدة 96: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ} الرعد 17: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ} يس 44: {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} البقرة 241: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} معها: البقرة 236 والنساء 24 والأحزاب 49، 28 محمد 12: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} آل عمران 14: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} آل عمران 185: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} معها: الحديد 35 الأنبياء 111: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} واضح أن المتاع فيها، عام لمتع الحياة الدنيا، وليس كذلك "الأثاث" بخصوص دلالته في آيتيه من الكتاب المحكم. وتفسير "رئى" بأنه: من الشراب، كأنه أُخِذ من الرَّىَّ، وليست قراءة الأئمة السبعة، وفيها قال الطبري: وقرأ الجمهور "ورئيا" من رؤية العين، فِعْل بمعنى مفعول كالطِحْنِ والسِقى. ثم أسند عن ابن عباس قال: الرئى المنظر. وفي رواية عنه: المنظر الحسن. والمهموزُ من مادة رأى، لا تنفك عنه دلالة الرؤية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 بالحاسة، أو الرأى بالفكر والعقل، والرؤيا لما يُرى في المنام. فكذلك الرئى، فيه ما يُرى شُهوداً، أو بالوهم والتخييل كقولهم للتابع من الجن: رَئِى. ولا يدبو لي وجهُ تقريبٍ لتفسير الرئى، من الشراب. في {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} بل تظل لة دلالة الرؤية الملحوظة في سائر استعمال العربية للمادة؛ فيقرُب أن يكون: مشهداًَ، ومنظرا يُرى بالعين أو يُتخيل على الوهم والظن والفتنة. كما ر يبدو تخريج الشاهد الشعري على معنى: * من الشراب الكريم من الأثاث * قريباً. وأقرب منه أن نفهمه بمعنى المشهد المرئي والمنظر. * * * 15 - {قَاعًا صَفْصَفًا} وسأله عن معنى قوله تعالى: {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا} فقال: القاع الأملس والصفصف المستوى. سأله نافع: وهلى تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت الشاعر يقول: بِمَلمُومَةٍ شهباءَ لو قذفوا بها. . . شماريخَ من رَضْوَى إذاً عادَ صفصفا (تق، ك، ط) = الكلمتان من آية طه 106 في يوم القيامة: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} القاع، واحدُ القيعان، وحيدة الصيغة في القرآن. واوية، قلبت ياء قيعان، لكسر ما قبلها (ص) ومن المادة جاءت قيعة، في آية النور 39: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 ودلالة الهبوط والانخفاض في القاع أقرب من دلالة الملاسة. وهو في الأصل اللغوي لما انحفض من الأرض وهبط. وصيغة صفصف، وحيدة في القرآن كذلك، وجاء فيه من المادة صفّ، وصافاتِ والصافات، وصواف، ومصفوفة. ومعناهما عند الفراء: القاع، والقيعة: المستنقع، وما نبسط من الأرض ويكون فيه السراب وهماً: والصفصف الأملس الذي لا نبات فيه. وفي تفسير البخاري: قاعاً، يعلوه الماء، والصفصف المستوى من الأرض. وفي تأويل الطبري: قاعاً، أرضاً ملساء. صفصفا: مستويا لا نبات فيه. وأسنده عن ابن عباس وغيره من أهل التأويل. وتفسيره بالمستوى، نُظر فيه إلى الصفَّ. ومعنى الخلاء في الصفصف أقرب. والعربية تقول: صفصَف، إذا سار وحده. ودلالة الاستواء في الصفصف على ما فسرها به ابن عباس وغيره، من حيث لا ترى في القاع الخالي الأجرد علامةً تتميز من غيرها أو تظهر بارزة. وأما الصف، فيأخذ معنى الأستواء فيه، دلالَة النظام والترتيب. ومنه "صافات، وصوافّ، ومصفوفة" والله أعلم. * * * 16 - {تَضْحَى} وسأل ابن الأزرق عن معنى قوله تعالى: {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} فقال ابن عباس: لا [تعرق] فيها من شدة الحر. ولما سأله: وهل تعرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 العرب ذلك؟ أجاب: نعم، أما سمعت الشاعر يقول: رأتْ رجلا أمَّا إذا الشمسُ عارضتْ. . . فيضحَى، وأما بالعَشىَّ فيَخصِرُ (تق، ك، ط) = الكلمة من آية طه 119: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} وحيدة الصيغة في القرآن. وجاء "الضحى" الوقت من النهار في آية الضحى. وجاء نكرة: ضحَّى، في آيتى طه (59) والأعراف (98) وضحاها، ثلاث مرات في آيات النازعات 46، 49 والشمس وضُحاها. وتفسير "لا تضحى" بِ: لا تعرق من شدة الحر إنما يكون على وجه تقريبٍ لا يفوتنا معه أصل دلالة الضحى على الوقت بعينه من النهار فويق ارتفاع الشمس. ومنها يجئ الاستعمال في كل ما وَقَع أو فُعِلَ في هذا الوقت، ومشتقات المادة تدور حول هذا المعنى. وقيل لمن ضربته الشمس: ضَحَا. ولعله أقرب إلى معنى الكلمة في آية طه، من العرق من شدة الحر. قال الفراء في معنى الكلمة: لا تصيبك شكس مؤذية. وذُكر في بعض التفسير: لا تعرق، والأول أشبه بالصواب. قال الشاعر * رأت رجلا * البيت. وفي تأويل الطبري: لا تظهر للشمس فيؤذيك حرها، وأسند نحوه عن ابن عباس وعدد من أهل التأويل. وقد فسره "الراغب" بنحو هذا فقال في (المفردات) : أي لك أن تتصون من حرَّ الشمس. وهو أيضاً ما يُفهَم به الشاهدُ من بيت عمر على ما قال الفراء وقد فسره المبرد في الكامل بقوله: يضحى، يظهر للشمس، ويخصر: في البَرْديَنَ: بَرْدِ العِشىَّ وما بعده. وتلا الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 17 - {خُوَارٌ} : وسأل ابن الأزرق عن معنى قوله تعالى: {لَهُ خُوَارٌ} فقال ابن عباس: صياح. واستشهد بقول الشاعر: كأن بنى معاويةَ بنِ بكرٍِ. . . إلى الإسلام صائحةٌ تخورُ (تق، م ط) = الكلمة من آيتى: الأعراف 148: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} طه 88: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} وليس في القرآن غيرهما من المادة. ولا يبدو قريباً وجه سؤال عن "خوار" والجواب عنه بصياح، فالخوار من المصادر القياسية في العربية، لصوت البقر بخاصة، كالمواء والنباح والعواء لأصوات الهر والكلب والذئب. ولعل السؤال عن خوار عجل جسد، مجوف كما في معاني القرآن للفراء (آية الأعراف) أو مصمت كما في تفسير القرطبي للآية. وفي آية الأعراف: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} . وآية طه متلوه بقوله تعالى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} . وبخوار هذا العجل الجسد الذي لا يكلمهم ولا يرجع لهم قولاً، شغل المفسرون وعلماء القرآن، مع قوله تعالى في ردهم على موسى عليه السلام: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 في معاني الفراء: وجاء في التفسير أنه خار مرة واحدة. وفي تفسير البخاري عن مجاهد: من حليهم: زينة القوم التي استعاروا من آل فرعون. وفي فتح الباري: وصله الفريابى عن مجاهد. وأخرج الحاكم من حديث علي كرم الله وجهه، قال: عمد السامري إلى ما قدر عليه من الحلى فضربه عجلاً ثم ألقى القبضة في جوفه فإذا هو عجل له خوار (8 / 302) . والقصة بتفصيل في كتاب الأنبياء في تفسير البخاري، وفي المطولات من كتب التفسير كالطبري وجامع القرطبي. وفي تأويل المسألة، فجاءت منه صيحة في أخذه العدو (المنافقون) وأخذه الدمار الساحق (هود، والحجر، والعنكبوت) وصيحة البعث ليوم القيامة (يس، ق) . كذلك لا يبدو حمل الخوار على الصياح في الشاهد، قريباً: وإنما الخوار فيه مستعار من خوار البقر. * * * 18 - {وَلَا تَنِيَا} وسأله عن معنى قوله تعالى : {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} قال: لا تضعفا عن أمرى. وشاهده قول الشاعر: إني وجَدَّكَ ما ونيت ولم أزل. . . أبغي الفِكاكَ له بكل سبيلِ (تق، ك، ط) = الكلمة من آية طه 42، خطاباً لموسى وأخية هارون عليهما السلام: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} وحيدة في القرآن صيغة ومادة. وأما الضعف فكثير: الفعل الثلاثي ومصدره، وضِعف وضِعفان وأضعاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 والرباعي من المضاعفة ومصدره، والسداسي من الاستضعاف، وضعيف وضعفاء والمستضعفون. في كتاب الأنبياء من صحيح البخاري عن مجاهد أيضاً: لا تضعفنا. وأسنده الطبري عن ابن عباس وجمهور أهل التأويل بلفظه أو بلفظ لا تبطئا. لم يذكر خلافاً بينهم إلا ما أسنده عن ابن زيد قال: الواني الغافل. والروايتان عن ابن عباس في جامع القرطبي. وفيه عن أبَانَ، قال: لا ينى لا يزال. وبها فسر الآية واستشهد بقول طرفة: كأنَّ القدروّ الراسِيَاتِ أمامهم. . . قدور بَنَوْها لا تَنىِ أبدا تغلى قال القرطبي: والونى الضعف والفتور والكلال والإعياء، وكله مراد في الآية. وفي الوني من دلالة الإبطاء والتقصير وفتور الهمة والعزيمة، ما ليس في الضعف، أكثر ما يكون في العجز وضعف القوة والطاقة، لا عن توان وتقصير بالضرورة. والعربية فرقت بين ما يكون من التواني تراخياً وفتوراً وإبطاء، ومن الأناة حِلما وتمهلاً. ومعنى التقصير والفتور أقرب إلى "ما ونيت" في شاهد المسألة من تفسيره بمطلق الضعف قد يكون عن اضطرار وعجز. * * * 19 - {الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} وسأله عن معنى قوله تعالى: {الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} فقال: القانع الذي يقنع بما أُعطى، والمعرُّ الذي يعترض الأبوابَ. سأله نافع: هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت الشاعر يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 على مُكثِريهم حقُّ مَن يعتريُهمُ. . . وعند المُقِلَّينَ السماحةُ والبذلُ (تق) ووقع في مخطوطتى (ك، ط) : والمعتر الذي يعترض = الكلمتان من آية الحج 36 في الأحكام: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وحيدتان في تالقرآن صيغة. ومن مادة (ق ن ع) جاء اسم الفاعل جمعا من الإقناع في آية إبراهيم 43: {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} ومن مادة (ع رَ رَ) جاءت معرة في آية الفتح 25: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} . ذهب الفراء إلى أن معناهما في الآية: القانع الذي يسألك فما أعطيته من شيء قَبِلَه. والمعتر ساكت يتعرض لك عند الذبيحة ولا يسألك". على أن الأصمعي عدَّ القانع من الأضداد قال: القانع الراضي بما قسم الله ومصدره القناعة. والقانع السائل ومصدره القُنوع. ورأيت أعرابياً يقول في دعائه: "اللهم إني أعوذ بك من القنوع والخنوع والخضوع، وما يغض طرْفَ المرء ويغرى به لئامَ الناس". قال عدى: وما خُنتُ ذا عهد وأبْتُ بِعهدِه. . . ولأم أحْرم المضطر إذ جاء قانعاً فالقانع السائل. والمعتر الذي يأتيك ويتعرض لك ولا يسأله. قال الشماخ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 لَمالُ المرء يصلحه فيغنى. . . مَفَارقه أعفُّ من القنوع أي أعف من المسألة. قال لبيد في القناعة: فمنهم سعيد آخِذ بنصيبه. . . ومنهم شقى بالمعيشة قانعُ ومثله بلفظه وشواهده في الأضداد لابن السكيت. وقريب منه في الأضداد للسجستاني ولابن الأنباري. وفي تأويل الآية، نقل الطبري من اختلاف أهل التأويل في المعنى بالقانع والمعتر، ما لا يسهل التوفيق بين أقوالهم فيهما: فالقانع المستغني بما أعطيته وهو في بيته، والمعتر الذي يتعرض لك أن تطعمه ولا يسأل: عن ابن عباس وآخرين من أهل التأويل بلفظ مقارب. وعنه أيضاً وآخري: القانع والمتعفف والمعتر السائل. وعن غيرهم: القانع هو السائل والمعتر الذي يعتريك ولا يسأل. واختار الطبري قول من قال: عنى بالقانع السائل، والمعتر الذي يأتيك معترا بك لتعطيه وتطعمه. زاد القرطبي، على ما في الطبري من مختلف الأقوال: وقال مالك - رضي الله عنه -: سمعت أن القنه؛ الفقير، والمعتر الزائر. والله أعلم. * * * 20 - {مَشِيدٍ} وسأل ابن الأزرق عن معنى قوله تعالى: {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 فقال ابن عباس: مشيد بالجصِ والآجُرَّ. واستشهد ببيت عدى بن زيد: شاده مَرمراً وكلله كلْـ. . . ـساً فللطيرِ في ذُرَاه وُكورُ (تق، م، ط) = الكلمة من آية الحج 45: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} وحيدة الصيغة في القرآن، اسم مفعول من شاد، الثلاثي. ومعها {مُشَيَّدَةٍ} من الرباعي المضعف العين، في آية النساء 78: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} . قال أبو عبيدة: المُشيَّد المطوَّل والمعمول بالشِيد وهو كل شيء طليت به الحائط من جص أو بلاط. وعن الكسائي: "مشِيد" مخففا للواحد، من قوله تعالى: {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} ومشُيَّد للجمع، من قوله تعالى {فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} . حكاهما الأزهري في (التهذيب) وأنشد بيت عدى. ومثله في (الصحاح) بغير الشاهد. والذي في معاني القرآن للفراء (آية النساء) : يشدَّد ما كان من جمع مثل قولحك ثياب مصبغة وأكبُش مذبحة فجاز التشديد لأن الفعل متفرق في جمع، فإذا أفردت الواحد من ذلك، فإن كان الفعل يتردد في الواحد ويكثر جاز فيه التشديد والتخفيف مثل ثوب ممزق وكبش مذبوح، ولا تقل مُذَبَّح لأن الذبح لا يتردد فيه كتردد التمزق في الثوب. {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} ، يجوز فيه التشديد لأن التشييد بناء فهو يتطاول ويتردد. يقاس على هذا ما ورد (1 / 277) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 في تفسير البخاري: عن مجاهد، مشيد بالقَصَّة، جِصَّ - الضبط من فتح الباري 8 / 308 - وأسنده الطبري عن مجاهد من عدة طرق، وفي راوية منها بالقصة أو الفضة. وعن قتادة: كان أهله شيدوه وحصنوه. ونحوه عن السدى والضحاك: قصر رفيع طويل. واختار الطبري: المجصص، لأن الشيد في كلام العرب الجص. قال: وقد يجوز أن يكون معنياً بالمشيد المرفوع بناؤه. وأنشد بيت عدى بن زيد. ودلالة رفع البنيان أصل في شاد، ونقل مجازاً إلى الإشادة بالذكر أو بالصوت والعورات (الأساس والنهاية) والتشييد يفيد بالتضعيف ملحظَ تقويةٍ وتحصين كما {فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} . ويتعين في الشاهد من قول "عدى" أن القصر مشيد بالمرمر مكلل بالكلس، بصريح لفظه. * * * 21 - {شُوَاظٌ} قال: أخبرني عن قول الله - عز وجل -: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ} ما الشواظ؟ قال: هو اللهب الذي لا دخان له قال: وهل كانت العرب تعلاف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، أما سمعت بقول أمية بن خلف وهو يهجو حسان بن ثابت وهو يقول: ألا من مبلغ حسانً عني. . . مغلغلة تدب إلى عكاظ أليس أبوك فينا كان قينا. . . لدى القينات فَسْلاً في الحفاظ يمانيا يظل يشب كِيراً. . . وينفخ دائبا لهب الشواظ من (ظ) في روايتى الحراني من طريق جويبر عن الضحاك. ومثلها في (ق) وفي رواية الحناط من طريق عكرمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 عن ابن عباس، جاء في (ظ) : فأجابه بمثل الجواب في حديث الحراني، غير أنه قال: الشعر لأمية بن أبي الصلتِ. مثلها في (طب) وكذلك في (تق، ك، ط) مع الاقتصار فيها على البيت الثالث محل الشاهد وصدره فيها: * يظل يشب كيرا بعد كبر * * * * = الكلمة من آية الرحمن 35: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} . وحيدة صيغة ومادة. تأويلها في المسألة باللهب الذي لا دخان فيه، قال الزجاج فيما حكى عنه الأزهري في (التهذيب: شواظ) ومعه عن ابن شميل قال: يقال لدخان النار شواظ، ولحرها شواظ، وحر الشمس شواظ". وفي (معاني القرآن للفراء: آية الرحمن) : والشواظ النار المحضة. وفي (الكشاف) : والشواظ اللهب الخالص. وفي (مفردات الراغب) مثل ما في المسألة. على أن الطبري نقل عن ابن عباس: لهب النار. وعن الضحاك وقتادة: لهب من نار (سورة الرحمن) ولا يبدو قريباً من الشاهد من بيت "أمية بن خلف" حملُه على معنى: وينفخ دائبا لهب اللهب بلا دخان. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 22 - {أَفْلَحَ} وسأل ابن الأزرق عن معنى قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} فقال ابن عباس: فازوا وسعدوا. واستشهد بقول لبيد بن ربيعة: فاعقِلى إنْ كنتِ لَمَّا تعقلي. . . ولقد أفلح مَنْ كان عقَلْ (تق) ك، ط، وزاد فيهما في جواب ابن عباس: يوم القيامة. = الكلمة من آية المؤمنون الأولى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} وفي القرآن منه: أفلح، الماضي من الرباعي، أربع مرات، ومضارعع ثلاثاً وعشرين مرة واسم الفاعل منه، جمع مذكر سالم، مرتين. إثباتاً للفلاح وبشرى: للمؤمنين والمتقين، والصابرين، والمجاهدين، وحزب الله، والذين على هدى من ربهم. ونفياً له عن: الكافرين، والظالمين، والمكذبين، والساحر، والذين يفترون على الله الكذب. وتفسير الإفلاح بالفوز والسعادة قريب. ومن معاني الفلاح في العربيةك النجاحُ وإدراك البغية. وميز "الراغب" بين ضربين منه: الدنيوي وهو الظفر بالسعادات التي تطيب بها الحياة الدنيا من بقاء وغنى وعز. قال: وإياه عَنى الشاعر بقوله: أفلِحْ بما شئتَ فقد يُدرَك بالضـ. . . ـعفِ وقد يُخَدعَ الأرِيبُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 والضرب الآخر: فلاح أخروى: بقاء بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعز بلا ذل، وعلم بلا جهل (المفردات) . وإلى الفوز في الآخرة، وجَّهه الطبري في تأويله للآية، والقرطبي في آية البقرة: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} - 5. وهي الرواية في جواب المسألة في (ك، ط) : فازوا وسعدوا يوم القيامة. وفسره الطبري بمعنى "ظفر بحاجتة وأصاب خيراً". وقج نميل إلى فهم إفلاح المؤمنين، بدلالة إسلامية على التوفيق إلى ما يرضى الله سبحانه ويرضيهم. والله أعلم. وهو في الشاهد من بيت "لبيد" أقرب إلى معنى نجاح المسعى وإدراك الطلب المراد. * * * 23 - {يُؤَيِّدُ} وسأل ابن الأزرق عن معنى قوله تعالى : {يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ} فقال ابن عباس: يُقَوى. واستشهد ببيت حسان بن ثابت: برِجالٍ لستمُ لأمثالَهم. . . أيَّدوا جبريلَ نصراً فَنَزلْ (تق، ك، ط) = الكلمة من آية آل عمران 13: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 وحيدة الصيغة، فعل مضارع، في القرآن الكريم. ومعها الفعلَ الماضي ثماني مرات، و (الأيْدُ) في آية: ص 17: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} . والملحظ الاستقرائي لسياقها، هو أن كل تأييد في القرآن، من الله تعالى. يطرد ذلك في آياته التسع التي جاء الفعل فيها مسنداً إليه سبحانه، مثبتاً غير منفي. وتفسير التأييد بالتقوية قريب، على ألا يفوتنا هذا الملحظُ من الدلالة الإسلامية في اختصاص التأييد في القرآن، بكونه من الله تعالى وحده، فليس إلا لحزبه المؤمنين المتقين المجاهدين. وكذلك "الأيد" لعبده داود فضلاً من الله ومِنَّة. وأما القوة، فقد تأتي بمعنى البأس والجبروت، كالذي في آيات: النمل 32 في الملأ من سبأ: {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} . محمد 13: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} فاطر 44: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} معها آيات: (القصص 78، الروم 9، غافر 21، 82 وفصلت 15) وقد يوصف المخلوق بالقوة، كالذي في آيتى: القصص 78، والروم 54. كما قد تكون القوة من العباد، كالذي في آيتى هود 80 والكهف 95. وليس كذلك التأييد في الكتاب المحكم، مسنداً إلى الله سبحانه ومتعلقاً بالصفوة من عباده، لا بطاغوت الكفر وبأس الجبابرة. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 24 - {نُحَاسٌ} قال: فأخبرني عن قول الله - عز وجل -: {نُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ} ما النحاس؟ قال: هو الدخان الذي لا لهب فيه. قال: وهل كانت العرف تعرف ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت بقول النابغة الجعدي: يضئ كضوء سراج السلـ. . . ـيطِ لم يجعلِ الله فيه نُحاساً من (ظ) في روايتى الحزانى. وفي رواية الحناط: نابغة بنى ذبيان. ومثله في (طب) ولم ينسبه في (تق، ك، ط) . = الكلمة من آية الرحمن 35: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وحيدة في القرآن. ومن المادة جاء نحْس ونَحسات في آيتى القمر 19: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} . فصلت 16: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} في معاني القرآن للفراء (سورة الرحمن) : الشواظ النار المحضة. والنحاس الدخان. وأنشد الشاهد. وروى الطبري بأسانيده، من اختلاف أهل التأويل في معناه: أنه الدخان، عن ابن عباس، وعنه أيضاً: الصفْر يعذبون به. وعن مجاهد وسفيان: يذاب الصفر من فوق رءوسهم. واختار القول بأنه الدخان، وأنشد بيت النابغة. وكذلك نقل القرطبي عن مجاهد وقتادة ورواية عن ابن عباس، أنه الصفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 المذاب يصب على رءوسهم. وعنه أيضاً، وعن سعيد بن جبير: الدخان الذي لا لهب فيه. وهو قول الخليل. وعن ابن مسعود أنه المهل، وعن الضحاك: وهو دردى الزيت المغلي. وعن الكسائي: النار التي لها ريح شديدة. وفي البحر المحيط: الدخان لا لهب فيه وهو معروف من كلام العرب - وأنشد بيت الجعدي - والنار لها ريح شديدة، وقيل الصفر المذاب. قال الراغب: {مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} : فالنحاس اللهيب بلا دخان، وذلك تشبيه في اللون بالنحاس. والنحس ضد السعد {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} وأصل النحس أن يحمر الأفق فيصير كالنحاس أي لهب بلا دخان، فصار ذلك مثلاً للشؤم (المفردات) . والآيات الثلاث، في العذاب والشؤم. وأغنى سياقها من فسروا النحاس بمثل ما في المسألة. عن الاحتراز بأن اللهب بغير دخان قد ينفع في الدفء الاصطلاء، وفي الشي والإنضاج. والله أعلم. * * * 25 - {أَمْشَاجٍ} قال: فأخبرني عن قول الله - عز وجل -: {أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} ما الأمشاج؟ قال: ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا في الرحم كان مشيجا. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال نعم، أما سمعت بقول أبي ذؤيب الهذلى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 كأن النَّصْل والفُوقَينِ منه. . . خلال الريشِ سِيطَ به مَشِيجُ فجالتْ فالتمستُ به حَشَاها. . . فخرَّ كأنه خَوطْ هديج (ظ) واقتصر في (طب، تق، ك، ط) على البيت الأول وفيه محل الشاهد = الكلمة من آية الإنسان 2: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} وحيدة في القرآن صيغة ومادة. فسره الفراء في معاني القرآن، بالأخلاط، ماء الرجل وماء المرأة والدم والعلقة. ويقال للشيء من هذا إذا خلط: مشيج وممشوج كخليط ومخلوط. نقله القرطبي وحكى معه عن المبرد: واحد الأمشاج مشج وهو هنا اختلاط النطفة بالدم. ومثله في (خلق الإنسان) وفيه عن ابن الأعرابي: يكون مشيج من لونين فهو مشج ومشيج. وفي رواية عن ابن عباس عند القرطبي "الأمشاج الحمرة في البياض والبياض في الحمرة" قال: وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة. وفسره البخاري بمثل ما نقلنا عن الفراء. قال ابن حجر في الفتح: هو قول الفراء، قاله في {أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة قال: من الرجل الجلدُ والعظم ومن المرأة الشعرُ والدم. ومن طريق الحسن: من نطفة مُشِجتْ بدم المرأة وهو دم الحيض. ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: مختلفة الألوان: ومن طريق ابن جريح عن مجاهد: أحمر وأسود. وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود قال: الأمشاج العروق. ولا يخرج عن هذه الأقوال ما في التفاسير الموسعة كالطبري والقرطبي وابن كثير والبحر المحيط. والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 26 - {فُومِهَا} وسأله عن قول الله - عز وجل -: {وَفُومِهَا} ما الفوم؟ قال: الحنطة. أما سمعت قول أبي محجن الثقفي: قد كنتُ أحسبني كأغنىَ واحدٍ. . . قدم المدينةَ عن زراعة فوم (ظ، طب، تق) وزاد في (ك، ط) بعد بيت أبي محجن: قال: ومن قرأها على قراءة عبد الله بالثاء فهو هذا المنتن، قال أمية بن أبي الصلت: كانت منازلهم إذا ذاك ظاهرة. . . فيها الفراديس والفُومانُ والبصلُ = الكلمة من آية البقرة 61: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ. . .} وحيدة في القرآن، صيغة ومادة. في مجاز القرآن لأبي عبيدة أنه الحنطة، وقالوا هو الخبز (1 / 4) وقال الفراء إن الفوم فيما ذُكِرَ لغة قديمة وهي الحنطة والخبز جميعاً قد ذُكروا. قال بعضهم: سمعنا العرب من أهل هذه اللغة يقولون: فَوَّموا لنا بالتشديد لا غير. يريدون: اختبزوا. وهي في قراءة عبد الله: "وثومِها" بالثاء، فكأنه أشبه المعنيين بالصواب لأنه مع ما يشاكله من العدس والبصل. والعرب تبدل الفاء ثاء (1 / 41) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 وحكاه الطبري عن بعض أهل العلم بلغات العرب، ولم يسمه - كعادته - وابن حجر في فتح الباري (8 / 783) والقرطبي في الجامع، ونقل في الفوم بمعنى الثوم، أنه قول الكسائي والنضر بن شميل، وقيل: الفوم الحنطة، رُوِىَ عن ابن عباس أيَضاً، وأكثر المفسرين، واختاره النحاس وقال: هو أوْلى. . . وإن كان الكسائي والفراء اختارا القول الأول لإبدال العرب الفاء من الثاء، والإبدال لا يقاس عليه. * * * 27 - {سَامِدُونَ} وسأله عن معنى قوله تعالى - عز وجل - {سَامِدُونَ} ما السمود؟ قال: لا هون. أما سمعت قول هُزَيلة بنت بكر وهي تبكي عاداً: قيل قمْ فانظر إليهم. . . ثم دَعْ عنك السمودا (ظ، طب، تق، ك، ط) = الكلمة من آية النجم 61: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} وحيدة في القرآن صيغة ومادة لم يوردها أبو بكر ابن الأنباري في المسائل بالوقف والابتداء، وأوردها في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 (الأضداد: 17) وقال: السامد في كلام أهل اليمن: اللاهي، وفي كلام طيئ: الحزين. ثم روى المسألة من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، بمثل ما هنا في المسألة، مع بيت هزيلة، وقال: وعن أبي عبيدة: السمودُ اللهو واللعب، وقال بعض أهل اللغة: الحزن والتحير. وبيت هزيلة أنشده أبو حاتم السجستاني في (الأضداد 143) شاهداً على السمود بمعنى السكون. وقال: وهو اللهو في كلام أهل اليمين. وأنشد لأبي زُبيد الطائي: وتخال العزيفَ فينا غناءً. . . لِندامَى من شارب مثمود وعن أبي ثروان: السامد الحزين في كلام طيئ واللاهي في كلام اليمن. ثم قال: وأما الذي في القرآن فلا علم لي به. واختلفوا فيه عن الصحابة وغيرهم. ويُروَى عن عليًّ عليه السلام أنه خرج ليصلي بهم وإذا هم قيام يترددون فقال: "نا لي أراكم سامدين؟ " والله أعلم بذلك. اقتصر الفراء في معنى الكلمة بآية النجم، على: {لا هون} وفي تأويل الطبري: وأنتم لاهون عما فيه من العبر والذكر معرضون عنه، وبنحو ذلك قال أهل التأويل وإن اختلفت ألفاظهم بالعبارة عنه. ومما روى منها عن ابن عباس، قال: هو الغناء وهي لغة أهل اليمن. وعنه أيضاً: لاهون. وعنه: شامخون. ثم أخرج حديث علي - رضي الله عنه -، من عدة طرق، وفيه قال ابن الأثير: كأنه أنكر قيامهم قبل أن يروا إمامهم. والسامد القائم في تحير (النهاية) . واقتصر في الكشاف على أن السمود الغناء في لغة حمير. وتوسع القرطبي فأورد مختلف الأقوال في معناها. وفي الصحاح: سمد سموداً رفع رأسه تكبراً. وقال ابن الأعرابي: سمدت سموداً علوت. والسمود: اللهو، والسامد: اللاهي، والمغني، والقائم، والساكت، والخاشع. وأقول مع أبي حاتم: هذا في اللغة، وأما الذي في القرآن فلا علم لي به، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 وأما بيت هزيلة، فلا يشهد لِلاّضهين كما في المسألة، والأقرب أن يكون بمعنى الهمود أو السكون كما قال أبو حاتم. * * * 28 - {غَوْلٌ} وسأله عن معنى قوله - عز وجل -: {لَا فِيهَا غَوْلٌ} قال: ليس فيها نتن ولا كراهية خمر الدنيا. واستشهد بقول امرئ القيس: رُبَّ كأسٍ شربتُ لا غولَ فيها. . . وسقيتُ النديمّ منها مِزَاجا (تق، ك، ط) = الكلمة من آية الصافات 47 في شراب أهل الجنة: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} وحيدة في القرآن صيغة ومادة في تفسير البخاري عن مجاهد: غول وجع بطن: وفي (فتح الباري) : وصله الفريابي عنه كذلك. وروى فيها الطبري من اختلاف أهل التأويل في معناها: أنه الصداع. عن ابن عباس. وعنه أيضاً وعن مجاهد: وجع بطن، وعن قتادة وغيره: لا وجع فيها ولا صداع رأس. وعن السدى: لا تغول عقولهم. وعن ابن جبير: لا يصيبهم أذى ولا مكروه. وقال آخرون: إثم. واختار القول بأنها تغتال عقولهم. وقد يحتمل أن لا يكون فيها ما يؤذيهم من مكروه. وعن الشعبي والسدى وأبي عبيدة: لا تغتال عقولهم فتذهب بها. حكاه القرطبي وأنشد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 ومازالت الكأس تغتالنا. . . وتذهب بالأوّلِ فالأولِ أي تصرعنا واحدا واحدا. وهذا المعنى أصل في المادة بمختلف صيغها واشتقاقها: الغُول، والغَول، والتغوَّل، والغيلة، والاغتيال، والدواهي وكل ما يغول المرء. قال ابن الأثير: كانت العرب تزعم أن الغُول في الفلاة تتراءى للناس فتتغول تغولا، أي تتلون في صور شتى، وتغولهم أي تضلهم وتهلكهم (النهاية) ويحتمل الغول في الخمر كل هذه الدلالات من اغتيال للعقل وهلاك وضلال وضياع، ومن تلبيس الوهم وأباطيل الخيال. . . * * * 29 - {اتَّسَقَ} وسأله عن معنى قول الله - عز وجل -: {إِذَا اتَّسَقَ} ما اتاقُه؟ قال: اجتماعه. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت "ابن صِرْمة الأنصاري" حيث يقول: إنَّ لنا قلائصا نقانقا. . . مستوسقاتٍ لو يجدن سائقا (ظ، وق، طب، تق، ك، ط) = الكلمة من آية الانشقاق 18: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 وليس في القرآن من المادة غير هذين الفعلين: وسق، اتسق. قال الفراء: واتساقه امتلاؤه، ثلاث عشرة إلى ست عشرة، فيهن اتساقه. وفي تأويل الطبري: إذا تم واستوى. وأسند عن ابن عباس، وآخرين: إذا استوى. وعنه: أذا اجتمع واستوى. وعن مجاهد وابن جبير: إذا امتلأ لثلاث عشرة ليلة، وبلفظ: إذا امتلأ واستدار، عن آخرين. حكى القرطبي هذه الأقوال ثم قال: وهو افتعال من الوسق الذي هو الجمع، يقال وسقته فاتسق كوصلته فاتصل. ويقال: أمر فلان متسق، أي مجتمع على الصلاح منتظم. ويقال: اتسق الشيء إذا تتابع. نحوه في (مفردات الراغب) وقال المبرد في شاهد المسألة: "استوسق القوم إذا اجتمعوا". ولعل محكمات أقرب إلى مستوسقات، من: مجتمعات. وفي الاتساق من اطراد النسق والإحكام والنظام ما يفوت لفظ الاجتماع في تأويل المسألة. ولعل الاجتماع منظور فيه إلى الوسق، فكل شيء وسقته فقد جمعته، ثم جاء الاتساق للإحكام وانتظام النسق واطراده. والله أعلم. * * * 30 - {خَالِدُونَ} : وسأل نافع عن معنى قوله تعالى: {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فقال ابن عباس: باقون لا يخرجون منها أبداً. واستشهد بقول "عدى بن زيد": فهل من خالدٍِ إمَّا هَلكْنا. . . وهل بالموتِ، يالَلنَّاسِ، من عارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 (تق، ك، ط) وزاد في الأخيرتين: وقال لبيد بن ربيعة: كلُّ بَنىِ أمَّ وإن كثُروا. . . يوماً يصيرون إلى واحدِ فالواحد الباقي كمن قد مضى. . . ليس بمتروكٍ ولا خالدِ = الكلمة من آية البقرة 25: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . وتفسير ابن عباس للكلمة، هو من قبيل الشرح، والخلود في العربية نقيض الفناء. واستقراء ما في القرآن من مادة (ح ل د) وقد جاءت فيه بصيغ عدة سبعاً وثمانين مرة، يضيف إلى الدلالة اللغوية ملحظاً هاماً من خصوص الدلالة القرآنية للخلود، فلا خلود في القرآن إلا في الحياة الآخرة: في دار الخلود، أو في عذاب الخلد. وحيث يأتي الخلود متعلقاً بالحياة الدنيا، فعلى وجه الوهم أو الإنكار والنفي كالذي في آيات: الشعراء 129: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} الهمزة 3: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} الأنبياء 34: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} ولا غنى عن هذا الملحظ في فهم الدلالة الإسلامية للكلمة القرآنية. وفي (مفردات الراغب) أن معنى هذا الخلود هو أن يبرأ الخالد من أعراض الفساد. * * * 31 - {الْجَوَابِى} وسأله عن معنى قوله تعالى: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 قال: كالحياض الواسعة. وشاهده قول طرفة بن العبد: كالجوابىِ لاتَنىِ مُترعةً. . . لِقرَى الأضياف أو للمُحْتَضرْ (تق) وبمعناه في (ك، ط) وزاد فيهما بعد الشاهد: تجبرُ المحروبَ فينا مالُه. . . بِقبابٍ وجِفانٍ وخّدَمْ = الكلمة من آية سبأ 13 فيما سُخر لسليمان عليه السلام من الجن: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} وحيدة الصيغة، ومعها آيو الفجر {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} تأتي في المسألة 176، وسائر ما في القرآن من المادة غيرهما، في الإجابة والجواب والاستجابة. في تفسير البخاري: وقال ابن عباسك كالجوابي، كالجوبة من الأرض (سورة سبأ) قال ابن حجر: قيل الجوابي في اللغة جمع جابية، وهو الحوض الذي يُجتبي فيه الشيء أي يجمع، وأما الجوبة فهي الموضع المطمئن، فلا يستقيم تفسير الجوابي بها. وأجيب باحتمال أن يكون فسر الجابية بالجوبة، لم يرد أن اشتقاقهما واحد (فتح الباري) وأسند الطبري عن الضحاك: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} : جمع جابية، الحوض الذي يجُبى فيه الماء. عن ابن عباس: كالجوبة من الأرض، وعنه: كالحياض الواسعة. وحكى القرطبي عن ابن عرفة: الجوابي جمع جابية حُفيرة كالحوض. وعن ابن القاسم عن الإمام مالك: كالجوبة من الأرض. وعن مجاهد: الجوابي جمع جوبة، الحفرة الكبيرة في الجبل فيها ماء المطر. وفي الكشاف: والجوابي الحياض الكبار لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 الماء يجبي إليها أي جمع (سورة سبأ) والجوبة الحفرة، وفجوة ما بين البيوت، أو الفرجة في السحاب والجبال، جمعها جُوَب (ص، ق) وهي الحفرة المستديرة الواسعة في (النهاية) كالغائط من الأرض (المفردات) * * * 32 - {فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} وسأله عن معنى قوله تعالى: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} قال: الفجور والزنا. واستشهد له بقول الأعشى: حافظ للفرج راضٍ بالتقى. . . ليس ممن قلبُهُ فيه مرضْ (تق، ك، ط) = الكلمة من آية الأحزاب 32: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} معها ثلاث وعشرون مرة، في مرض في القلب، ومرض في القلوب - يأتي في المسألة 179 - يكون بالنفاق والارتياب والرجس والكفر والضغن من أفعال القلوب. تأويلها في المسألة بالفجور والزنا، فيه أن الفجور مما يُعَلَن ويُجاهَر به، والزنا اقتراف للفاحشة يوجب الحد. وليس من أفعال القلوب. والأقرب أن يكون طمع شهوة، وإن لم يبلغ حد الفجور المعلن والزنا المقترف. وقد أسند الطبري عن قتادة والسدى، أنه شك ونفاق. وعن عكرمة أنه شهوة. وحكى القرطبي القولين في تأويله بالنفاق، والتشوف لفجور. وقال: وهو أصوب، وليس للتفاق مدخل إلى هذه الآية. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 33 - {لَازِبٍ} وسأله عن معنى قوله تعالى: {مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} قال: اللازب الملتصق: وشاهده قول النابغة: ولا يحسبون الخيرَ لا شرَّ بعده. . . ولا يحسبون الشرَّ ضربةَ لازِب (تق) وفي (ك، ط) قال: الملتزق الجيد، وهو الطين الحر. = الكلمة من آية الصافات 11: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} وحيدة في القرآن، صيغة ومادة. القولان في المسألة، أسندهما الطبري عن ابن عباس بلفظ مقارب: الملتصق، والطين الحر الجيد اللزج. وعن ابن زيد: يلتصق كأنه غراء، ذلك اللازب. . . وقال الطبري في تأويلها: ولاصق، وصفه جل ثناؤه باللزوب لأن التراب إذا خلط بماء صار طيناً لازباً. وعن الضحاك: المنتِن، والعرب تبدل أحياناً هذه الياء ميما نقول طين لازم ومن اللازب قول النابغة / البيت. ومن اللازم قول النجاشي الحارثي: * ضربة لازم * وقيل: اللازق وفي مفردات الراغب: اللازب الثابت الشديد الثبوت: "من طين لازب" قال القرطبي بعد أن حكى الأقوال في تأويلها: وقال الماوردى: والفرق بين اللاصق واللازق، أن اللاصق هو الذي ألصق بعضه ببعض "واللازق الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 يلتزق بما أصابه." ثم قال: والعرب تبدل الباء من الميم فتقول: ضربة لازب، وهو أفصح من لازم. وأنشد بيت النابغة ونحوه في حاشية الشيخ نصر الهوريني على القاموس. * * * 34 - {أَنْدَادًا} وسأله عن معنى قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا} قال: الأشباه والأمثال. وشاهده قول لبيد: أحْمدُ اللهَ فلا نِدَّ له. . . بيديْهِ الخيرُ ما شاء فَعَلْ (تق) وزاد في (ك، ط) : وقال حسان ابن ثابت يرد على أبي سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب: أتهجوه ولستَ له بِنِدَّ. . . فشرُّكما لخيرِكما الفِداءُ = الكلمة من آية فُصَّلت 9: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا. . .} ومعها آيات: البقرة 165: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا. . .} إبراهيم 30: {وَجَعَلُوا لِلَّه ِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} والزمر: 8 سبأ 33: {اإِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا} البقرة 21: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 الآيات الست، على وجه النكير والنهي، وليس في القرآن غيرها من المادة. والكلمة عندهم في كتب الأضداد: النَّدُّ النظير والمِثْل، والند الضد. وحكى ابن الأنباري عن ابن عباس: أنداداً أعدالا، وعن أبي عبيدة: أضدادا. وحكى الأزهري القولين عن ابن السكيت والأخفش. وفي مجاز القرآن: أنداداً واحدها ند، معناها أضداد. قال أبو حاتم السجستاني: اجتمعت العرب على أن نِدَّ الشيء مِثْله وشِبهُه وعِدله، ولا أعلمهم اختلفوا في ذلك. وأنشدوا فيها شاهدى المسألة. وأخرج البخاري في باب (فلا تجعلوا لله أنداداً) حديث عبد الله بن مسعود، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله أنداداً وهو خلقك" قال ابن حجر: جمع نِدّ، وهو النظير. وروى ابن أبي حاتم من طريق أبي العالية قال: النِد العِدْل. ومن طريق الضحاك عن ابن عباس، قال: الأنداد الأشباه والنظائر (فتح الباري) وحكاه القرطبي عن ابن عباس، وغيره، وقال: أنداداً: أكفاء ونظراء. وأنشد الشاهدين (سورة البقرة) وقال الراغب في الند، أنه مشاركة في جوهره وذلك ضرب من المماثلة، فإن المثل يقال في أي مشاركة كانت، وليس كل مِثْلٍ نِدًّا. ووضحه في (مثل) قال: والمماثلة [أعم] الألفاظ الموضوعة للمشابهة، وذلك أن الند يقال فيما يشارك في الجوهر، والشبه فيما يشارك في الكيفية فقط، والمساوي فيما يشارك في الكمية فقط، والشكل فيما يشارك في القدر والمساحة، والمثْل عام في جميع ذلك. (المفردات) وفي الحديث الشريف قال ابن الأثير: الأنداد جمع ندّ، وهو مثل الشيء الذي يضادّه في أموره وينادّه، أي يخالفه وينأى عنه. (النهاية) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 وفي (الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري) بيان للفرق الدقيق بين الند، والمِثْل، والشِِبه، والعِدْل، والنظير، والمساوي، والشكل.. وما يجرى مجراها. وقال في الفرق بين المثل والند: أن لاند هو المثل المنادّ من قولك: نادّ فلان فلاناً إذا عاداه وباعده، ولهذا سمى الضد نِداً. وقال صاحب العين: الند ما كان مثل الشيء يضاده في أموره، والندي. والندودُ الشرود والتنادّ التنافر.. وأصل الباب التشريد.. (الباب التاسع من الفروق) كأن البيان القرآني في عدوله عن الأشباه والأمثال إلى أنداد، لم يُردْ أن يعطيها صفة المشابهة أو المماثلة. والله أعلم. * * * 35 - {شَوْبًا} وسأله عن معنى قوله - عز وجل -: {لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} قال: الخلط بماء الحميم، والحميم الغساق. واستشهد بقول الشاعر: تلك المكارم لا قَعْبَانِ من لينٍ. . . شِيبَا بماءٍ فعادا بعدُ أبوَالا (ك، ط، تق) = الكلمة من آية الصافات 67 في شجرة الزقوم: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} وحيدة في القرآن صيغة ومادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 وتفسير الشوب بالخلط - وإليه ذهب الفراء في (معاني القرآن 2 / 387) "والراغب" كذلك في المفردات - تقريب لا يفوتنا معه ما للشوب من دلالة خاصة على المزج والسوط. واستعماله أصلاً، في الشراب والسوائل، تشاب فلا يتميز منها سائل عن آخر. ويستعار بهذا الملحظ من المزج، لغير السوائل في الاستعمال المجازي. وأما الخلط فتتميز فيه عناشر المخلوط ومواده، كأن تخلط القمح بالشعير. ويستعار للناس يخالط بعضُهم بعضاً دون أن تتماحى الخصائص أو تذوب الفروق بينهم، وقد جاءت مادته في القرآن في خلْطٍ عملٍ صالح بآخر سيئ (البقرة 102) وفيما اختلط من شحوم بعظم (الأنعام 146) ومن ماء المطر بنبات الأرض (يونس 24، والكهف 45) وحاء الفعل المضارع من المخالطة في آية (البقرة 220) والخلطاء يبغي بعضهم على بعض (ص: 24) وتتميز عناصر الخليط واضح في دلالة المادة على اختلاف صيغها واستعمالها، على حين لا يتميز في الشوب سائل أو عنصر عنما شيب به. وهو واضح في آية الصافات المسئول عنها، وواضح كذلك في الشاهد من بيت الشاعر. و"الراغب" وإن فسر الشوب في الآية بالخلط، قال في (خلط) : الخلط هو الجمع بين أجزاء الشيئين فصاعداً، سواء كانا مانعين أو جامدين، أو أحدهما مائع والآخر جامد وهو أعم من المزج (المفردات) . وقال ابن الأثير في "الخلاط" من حديث الزكاة: والمراد به أن يخلط الرجل إبله بإبل غيره، أو بقره وغنمه، ليمنع حق الله فيها أو يبخس المصدقَ فيما يجب له. وفي حديث الشفعة: "الشريك أولى من الخليط، والخليط أولى من الجار" قال ابن الأثير: الشريك المشارك في الشيوع، والخليط المشارك في حقوق الملك كالشرب والطريق (النهاية) . ولعل في هذا كله، ما يوضح تميز عناصر الخليط، فيفترق بذلك عن الشوب بما فيه من معنى النشوب والمزج لا يتميز عنصر من آخر ولا ينفصل عنه. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 36 - {قِطَّ} وسأله عن معنى قول الله - عز وجل -: {عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} قيل: القط: الجزاء. وشاهده قول الأعشى: ولا الملِكُ النعمان يومّ لقيته. . . بأمته يعطى القُطوطَ ويُطلِلقُ (تق) وزاد في (ك، ط) : وهو الحساب أيضاً = الكلمة من آية ص 16 في المشركين: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} وحيدة في القرآن، وأما الجزاء أو الحساب - في تأويل المسألة - فكثير. القطوط، والقططة، جمع القِط، كقرود قردة. والقط في كلام العرب الصحيفة المكتوبة (الفراء) أو الكتاب (أبو عبيدة) ، وصكوك العطاء (الصحاح) . وفي تفسير البخاري للآية: القط الصحيفة، هو ههنا صحيفة الحسنات (سورة ص) فقال ابن حجر: في رواية الكشمهينى - يعنى عن الفربرى عن البخاري - الحساب. وكذلك عند النسفي - عن مسلم - قال أبو عبيدة: القط الكتاب.. وأصله من قط الشيء أي قطعه، والمعنى قطعة من العطية، وأكثر استعماله في الكتاب (فتح البارى) . وكذلك هو الكتاب والصحيفة والصك، أو الحظ والنصيب، عند جمهرة المفسرين، مع رده إلى أصل معناه في القطع (الطبري، والكشاف، والجامع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 والبحر، والمفرادات) وإنما اختلف أهل التأويل في معنى مسألة المشركين ربهم التعجيلَ لهم بكتابهم على وجه الاستهزاء والاستخفاف. قيل هو من قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} . وقيل: سألوه أن يريهم في الدنيا منازل أهل النار وأهل الجنة ليؤمنوا به. وقيل: سألوا أن يعجل لهم بنصيبهم من العذاب، كقوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} الأقزال في تأويلها عند الطبري بأسانيده إليهم. وحكاها القرطبي وأبو حيان. وذكروا معها اختلاف أهل العلم بكلام العرب فبها. وإن ردوها إلى القطع وهو الأصل. ومنه استعمال حرف قط في النفي البات. والمقطع الأول من الكلمة مشترك في ألفاظ عدة تدل على القطع، ثم تتميز بالحرف الثالث فروقُ الدلالات باعتبار الشيء المقطوع، كالقطب والقطف والقطل والقطم. . . وأما "المقطوط" في الشاهد من بيت الأعشى، فلم يختلفوا في أن معناها صكوك الجوائز أو كتب الصلات. وأنظر فيه (مقاييس اللغة لأبن فارس) باب قط 5 / 13. * * * 37 - {حَمَإٍ مَسْنُونٍ} وسأله عن معنى قوله تعالى: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} قال: الحمأ السواد. واستشهد بقول حمزة بن عبد المطلب: أغرّ كأن البدرَ سنةُ وجهِه. . . جلا الغيمَ عنه ضوؤه فتبددا (تق) وزاد في (ك ط) : وهو الشاط أيضاً = الكلمتان من ثلاث آيات من سورة الحجر: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} . 26 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} . 28 {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} . 33. ومعها من كادة حَمَأ، آية الكهف 86: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} وأما مسنون فجاء من مادتها كثير: سُنة الله، وسُنتنا، وسنُة الأولين، وسنُنَ جمعا. وجاءت السَّن في أحكام القصاص: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} اختلف أهل اللغة في حمأ وفي مسنون. عَدّ بعضهم الحمأ من الأضداد: تقول منه حَمَأت الركية حمْأً إذا أخرجتَ منها الحمأة، وأحَمأتُها إحماءً إذا جعلت فيها الحمأة. حكاه ابن الأنباري عن قطرب، وقال: وليس هذا عندي من الأضداد، لأن لفظ حمأتُ، يخالف أحمأت، فكل واحدة منهما لا تقع إلا على معنى واحد، وما كان على هذا السبيل لا يدخل في الأضداد (الأضداد 304 / 396) . وقال ابن السكيت في الأضداد: والحمأ الطين الأسود، وكذلك الحمْأة. تقول منه حَمِئتُ البئر إذا نزعت حمأتها، وأحمأتها ألقيت فيها الحمأة. وحكاه القرطبي في تفسير آية الحجر 26. وفي (مسنون) بالآية، قال أبو عبيدة في المجاز: المسنون المصبوب، وهو من قول العرب: سنت الماء وغيره على الوجه إذا صببته. وحسَّنه النحاس فيما حكاه القرطبي عنه. وقال سيبويه: المسنون المصَورّ. أُخذ من سنة الوجه وهو صورته. وقال الأخفض في المعاني: المسنون المنصوب القائم، من قولهم: وجه مسنون إذا كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 فيه طول. وقال الفراء في معنى الآية: وهو المتغير، وأصله من قولهم: سننت الحجر على الحجر إذا حككته. وما يخرج من الحجرين يقال له السنانة والسنين. ومنه المِسَنُّ. والمعاجم تجمع بين هذه الأقوال، مع شواهدهم لها: (ص، ل، ق، س) . واختلف أهل التأويل كذلك في معناهما في الآية: نقل فيه الطبري قول بعض أهل العلم بلغات العرب من البصريين، ومن الكوفيين، كالذي نقلنا عن سيبويه والفراء - ولم يسمهما - وأسند عن ابن عباس، قال: الحمأ المنتن، وعنه: هو الطين الرطب، وعن مجاهد وقتادة بلفظ: الحمأ المسنون الذي قد تغير وأنتن. وعن ابن عباس أيضاً، قال: خلق الإنسان - آدم - من ثلاثة: من طين لازب، وصلصال، وحمأ مسنون. فالطين اللازب اللازق الجيد، والصلصال المرقق الذي يصنع منه الفخار، والمسنون الطين فيه الحمأة. قال الطبري: والذي هو أوْلى بتأويل الآية: أن يكون الصلصال في هذا الموضع الذي له صوت من الصلصلة وذلك أن الله تعالى شبهه بالفخار {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} ليُيْسِه. وأما قوله {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} فإن الحمَأ جمع حمأة، وهو الطين المتغير إلى السواد. وذكر الراغب في الباي: السَّن واحد الأسنان، وسنَّ الحديدَ بالمِسَنَّ، وسنان الرمح، وسنَنَ الطريق، وسنة الوجه، وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - طريقته، وسنُة الله تعالى قد يقال لطريقة حكمته وطريقة طاعته. وقوله تعالى: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} قيل: متغير. (المفردات) . ولا يخرج عن هذا ما أورده الزمخشري من معاني سن، الأصلية والمجازية (س) وبمزيد تفصيل في جامع القرطبي. والله أعلم. وأما الشاهد من بيت حمزة - رضي الله عنه - في النبي - صلى الله عليه وسلم -، فما أدري وجه الاستشهاد به لتأويل حمأ مسنون في المسألة، بالسواد المصور، أو الشاط كما زاد في (ك، ط) وهو في اللغة الزيت المحروق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 38 - {الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} وسأل ابن الأزرق عن معنى قوله تعالى: {الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} فقال ابن عباس: البائس الذي لا يجد شيئاً من شدة الحال. واستشهد له بقول "طرفة بن العبد": يغشاهمُ البائسُ المُدَفَّعُ والضيـ. . . ـف وجارً مُجاوِرٌ جُنُبُ (تق، ك) = الكلمة من آية (الحج 27) خطاباً لإبراهيم عليه السلام: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} وحيدة الصيغة في القرآن. ومعها {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} في آية الأعراف 165. ومن المادة جاءت "البأساء" مع الضراء في آياتها الأربع: البقرة 177، 214، والأنعام 42، والأعراف 94. وآيتا هود 36 ويوسف 96؛ {فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} {يَعْمَلُونَ} . وجاء الفعل الجامد "بِئس" تسعاً وثلاثين مرة، و"بأس" نكرة ومعرفة، خمساً وعشرين مرة. في تأويل الطبري: "البائس هو الذي أضر به الجوع والزمانة والحاجة. والفقير الذي لا شيء له". يوهم أن الإطعام للبائس وللفقير. والفقير في الآية من صفة البائس كما لحظ القرطبي وقال: وهو الذي ناله البؤس وشده الفقر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وفي البائس صريح الدلالة على البؤس، وكذلك البأساء. والشدة أصل في المعنى؛ وتفرق العربية بين صيغ المادة لملاحظ من فروق الدلالات: فتجعل البأسَ للقوة والسطوة والشدة في الحرب، وفعلُه: بؤس بأساً. حين تجعل البُؤسَ والبؤسىَ، من: بَئِس، لشدة الكرب والحاجة، وتجعل البأساء للمكاره. وقالوا للشجاع القوي: بَئيس، وللأسد: بَيْأس، على وزن ضيغم. وللمحتاج المكروب: بائس. وليس كل بائس فقيراً، ولا كل فقير بائساً، فمع الزهد والتعفف لا يكون بؤس. ومن هنا جمعت الآية بين الصفتين {الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} ولو لم يُلحظ في البائس سوى العوز، لأغنى الفقير عن ذكره، كما في آيات: البقرة 268، 271، وآل عمران 181، والنساء 135، والتوبة 60، وفاطر 15، ومحمد 38. وقول "الراغب" في (المفردات) : "البؤس والبأس والبأساء، الشدة والمكروه. إلا أن البؤس في الفقر والحرب أكثر، والبأس والبأساء في النكاية". يرد عليه أن البأساء جاءت في آياتها الأربع مقترنة بالضراء، فهي إلى المكاره أقرب منها إلى النكاية. كما يرد عل قوله: البؤس في الفقر والحرب أكثر؛ أن القرآن يستعمل الفقر مقابل الغنى بصريح آيات: آل عمران 181: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} النور 32: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فاطر 15: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} محمد 38: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} وكذلك يأتي البأس، لا البؤس، في الحرب والقتال وفي الجبروت والسطوة، بصريح آيات: الأنعام 65: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} النساء 84: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 النمل 33: {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} . ومعها: الفتح 16 الحشر 14: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} . والبائس في الشاهد من قول طرفة. موصوف بالمدفَّع، وهو المهان (ق) ومن المجاز: فلان مدفع، وهو الذي يدفعه كل أحد عن نفسه (س) . وانظر الفرق بين الفقير والبائس، في (الفروق اللغوية: 147) . * * * 39 - {مَاءً غَدَقًا} : وسأله عن معنى قوله تعالى: {مَاءً غَدَقًا} قال: كثيراً جارياًَ. وشاهده قول الشاعر: نُدنِى كراديسَ ملتفًّا حدائقُها. . . كالنْبتِ جادتْ بها أنهارُها غَدَقا (تق، ك) = الكلمة من آية الجن 16: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم ْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} وحيدة، صيغة ومادة. جمهرة المفسرين على أن الماء الغدق الكثير. أو الماء الطاهر الكثير، بلفظ ابن عباس فيما أسنده الطبري عنه. والذين تأولوه منهم بسعة في الرزق ورغد من العيش، فلأن الخير والرزق بالمطر، فأقيم مقامه على سبيل المجاز، ومنه مكان غِدق ومغدق: كثير الماء مخصب، وهم في غدق من العيش: رغد وسعة. وذلك معروف. فلعل وجه السؤال هنا، يتعلق بما اختلف فيه أهل التأويل في "وأن لو استقاموا على الطريقو" فقال بعضهم: على طريق الحق والهدى والطاعة، نظير قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} . وهو اختيار الطبري، وأسند نحوه عن ابن عباس وآخرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 وقال بعضهم: وأن لو استقاموا على الضلالة لأعطيناهم سعة من الرزق لنستدرجهم بها. أسنده الطبري عن الربيع بن أنس بن مالك. وهو قول الفراء في معنى الآية: على طريقة الكفر، ونظَّر لها بقوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} الآية: ليكون فتنة عليهم في الدنيا وزيادة في عذاب الآخرة. والله أعلم. * * * 40 - {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} : وسأل ابن الأزرق عن معنى قوله تعالى: {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} فقال ابن عباس: شعلة من نار يقتبسون منها. واستشهد بقول "طرفة بن العبد": هَمُّ عَرانِى فَبِتُّ أدْفعُهُ. . . دونَ سُهادِى، كَشُعَلَةِ القَبَسِ = الكلمتان من آية النمل 7: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم ْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} وجاء شهاب، مفرداً وجمعاً، في آيات: الحجر 18: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} . ومعها الصافات 10. والجن 8، 9: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} وسياق آياتها، في الجن، غير سياق "شهابٍ قبسٍ" من النار التي آنسها "موسى" في آية النمل. وقد جاء "قَبس" مرة أخرى في السياق نفسه بآية طه 10: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} ومعهما فعل الاقتباس في آية الحديد 13: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} . تفسير الشهاب بشعلة، تقريب يلحظ فيه دلالة السطع والتوهج، والشهب في العربية: الدرارى؛ والشهب، بفتحتين: الجبل علاه الثلج. وقد فسر "الراغب" الشهاب بالشعلة الساطعة من النار الموقدة أو من العارض في الجو.. (المفردات) ويقال: فيه شهبة وشهب، وهو بياض يصدعه خلال سواده (س) فكأنه النور يصدع الظلمة. وقوله تعالى: {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} قرأها الكوفيون: عاصم وحمزة والكسائي: {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} بتنوين شهاب، وقرأها الباقون بغير تنوين. قال الأخفش في (معاني القرآن: آية النمل 7) : {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} إذا جعل القبس بدلاً من الشهاب. نُوَّنَ، وإن أضاف الشهاب إلى القبس لم ينون. وكلَّ حسن. ومن معاني القبس في اللغة: شعلة نار تقتبس من معظم النار، كما في تأويل المسألة. ثم لا يفوتنا حس الكلمة في البيان القرآني، لم تأت في آياتها الثلاث إلا مع الإيناس والهدى والنور، فوجهت كلمة "بشهاب" معها، إلى غير سياقها الرادع الزاجر، في آيات الحجر والصافات والجن. وبهذا الملحظ في القبس، قال ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 الأثير في حديث الإمام عليّ كرم الله وجهه "حتى أورِىَ قبسا لقابس": أي أظهِر نورا من الحق لطالبه. (النهاية) . * * * 41 - {أَلِيمٌ} : وسأله عن معنى قوله تعالى: {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال: الوجيع، واستشهد بقول الشاعر: نام من كان خِليّاً من ألم. . . وبقِيتُ الليلَ طولاً لم أنمْ (تق، ك، ط) وفي (ظ، وق) المسألة عن قوله - عز وجل -: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} ما الألم؟ قال: الوجع. واستشهد في (ظ) بقول الحارث بن حلزة اليشكرى: أَلِمُوا القتلَ حين دارت رَحاهُمْ. . . ورَحانا على عِنان الدماءِ وشاهده في (وق) قول الأعشى: لا نَقِيهم حَدَّ السلاح ولا نأ. . . لم جرحا، ولا نبالي السهاما = الكلمة في الرواية الأولي من آيات: التوبة 61: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَاب ٌ أَلِيمٌ} . وإبراهيم 22، والنور 16، والعنكبوت 223 والشورى 21، 42 ومعها: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . في آيات: البقرة 10، 104، 178، وآل عمران 77، 177، 188، والمائدة 36، والتوبة 79، والنحل 63، 104، 117، والحشر 15، والتغابن 5. . . في ثمان وستين آية، وصف فيها عذاب والعذاب، بعذاب أليم، من عذاب أليما، العذاب الأليم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 وأما الرواية في (ظ، وق) : {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ} . فمن آية النساء 104: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} لم يأت في غيرها، أيُّ فعلٍ من الألم. وأقوال اللغويين والنمفسرين، تأتي في آية البقرة 10: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} . إذ هي المرة الأولى التي جاء فيها "عذاب أليمط في ترتيب المصحف. تأويل الألم في المسألة بالوجع، وأليم بوجيع، يبدو قريباً ظاهر القرب. والجمهرة من المفسرين تأولوه بالوجع، وقال الراغب: الوجع الشديد. وهو معروف من كلام العرب، والشواهد فيه كُثْرٌ، وإن لم يكن الوجع من ألفاظ القرآن. وفي (مجاز القرآن: آية البقرة 10) ، قال أبو عبيدة: "عذاب أليم" أي موجع، من: الألم. وهو في موضع مُفعِل - أي مؤلم - قال ذو الرمة: ونرفع في صدور شمردلاتٍ. . . يصكُّ وجوهَها وَهَجٌ أليمُ الشمردلة: الطويلة. والبيت من شواهد الطبري والقرطبي، لأليم بمعنى وجيع. لكن "ابن عرفة" أنكره فيما جكى عنه الهروى، قال في (الغريبين، باب الهمزة مع اللام) : قوله تعالى: {عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال أبو عبيدة: أي مؤلم. يقال: أَلمِنى الشيءُ وألمِتُ الشيءَ، قال تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} . وقال ابن عرفة: أليم ذو ألم، وسميع ذو سماع، ولا أدري معنى ما قال أبو عبيدة. "ابن عرفة" إبراهيم بن محمد بن عرفة العتكي الأزدى، نفطويه، واسطى سكن بغداد وتوفى بها سنة 323 هـ: نحوى راوية ثبت، محدث صدوق ثقة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 وفقيه ظاهرى حجة. له كتاب في (غريب القرآ ن) ذكره ابن النديم وياقوت والقفطى. ولعله إنما أنكر قول أبي عبيدة من جهة الاشتقاق. وكان ينكره ويحيله وله فيه كتاب، كما قال القفطي في (الإنباه) ويظهر لي أن الوجع أقرب إلى ما يعتري الجسم من مرض أو أذى بدني عارض. وفي (ق) : الأم الوجع، والألم من العذاب الذي يبلغ غاية البلوغ. وغلبة مجئ أليم لعذاب الآخرو. عذاب يوم أليم، وأخْذ الله تعالى الكفار والفاسقين {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} يؤذن - والله أعلم - بأن الأليم أخص وأفدح من وجع يعرض لعامة البشر. وتفسير "ألم" في شاهد المسألة الأول. يقوى بدلالة عذاب من وجد وسهد وأرق، مما لو كان مجرد وجع لعارض من مرض أو جرح كما في الشاهد من قول الأعشى: ولا نألم جرحا *. * * * 42 - {قَفَّيْنَا} : وسأل نافع عن معنى قوله تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ} فقال ابن عباس: أتبعنا على آثار الأنبياء. أي بعثنا. واستشهد بقول عدى ابن زيد: يومَ قَفَّتْ عِيرهُم مِنْ عِيرِنا. . . واحتمال الحىَّ في الصُّبحِ فَلَقْ (تق، ك، ط) السؤال في روايتى (ظ) عن قوله - عز وجل -: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} قال ابن عباس: لا تقل ما ليس لك به علم. وشاهده بيت زهير: إذا ما رأيت المرء يقفو نفسه. . . والمحصَناتِ فما لذاكَ حَوِيرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 = الكلمة من آية المائدة 46، في الأنبياء المرسلين: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} ومعها: آية الحديد 27. وآية البقرة 87: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} وجاء الفعل الثلاثي في آية الإسراء 36: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} . وفيها السؤال في (ظ) . وهذا هو كل ما في القرآن من المادة. وما نُقل عن ابن عباس في تفسيرها، تقريب. وقيدها "الراغب" في (المفردات) بإتباعٍ من خَلْف. راجعاً بها إلى أصل مأخذها من القَفَا، كالإرداف من الردف، والتعقيب من العَقِب، والتذييل من الذيل. وتعلُّق "على آثارهم" بـ: قفيًّنا، يفيد معنى التأييدِ واتباع نهج من مَضى من الرسل عليهم السلام، من حيث يأتي النبي المرَسل، مصدقاً لمن سبقه من الرسل، تقفيةً على آثارهم. والعرب تقول: قفوت أثره، غذا تتبعت خطوه لا أِحيدُ عنه. وأغنت "على آثارهم" في السياق، عن الاحتراز بما يكون من التقفية مطاردةً أو صداً وإدباراً، ومنه في الحديث: "فلما قفى قال" أي ذهب مولياً. قال ابن الأثير: كأنه من القفا، أي أعطاه قفاه وظهره. ومثله الحديث: "أل أخبركم بأشد حرّاً منه يوم القيامة؟ هذينك الرجلين المقفَّفيَيْنِ" أي الموليين. (النهاية) واضح من سياق الكلمة القرآنية في آياتها الثلاث، أن التقفية على آثار الرسل عليهم السلام، إتباعُ تصديقٍ وتأييد. ويرد على الاستئهاد لمعنى الإتباع في الآية، بقول عدى بن زيد: يومَ قفَّت عِيرُهم من عيرنا * أن الفعل فيه تعدى بحرف "من" فأفلاد التولي والإدبار ممن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 احتملوا للرحيل، وهو في الآية متعد بحرف "على" آثارهم، فأفاد تتبعَ النهج والسير على الأثر. والله أعلم. * * * 43 - {تَرَدَّى} وسأل ابن الأزرق عن معنى قوله تعالى: {إِذَا تَرَدَّى} فقال ابن عباس: إذا مات وتردى في النار. ولما سأله: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول "عَدى بن زيد": خطفتْه مَنِيَّةٌ فتردَّى. . . وهو في المُلْكِ يأملُ التعميرا الكلمة من آية الليل 11: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} ومن التردى، المتردية بآية المائدة 3: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ. . .} واضح أن المتردية فيها بيست من الموت والتردى في النار، وإنما هي على أصل دلالتها في الهلاك بالمِرْداة، أي الصخرة. وبه "فسر" الراغب الكلمة في (المفردات) . أو التي تردَّت من جبَلٍ أو في بئر فماتت. كما في (الكشاف) ومنه جاء الردى، بمعنى الموت. ومطلق الهلاك. ويأتي الفعلُ ثلاثياً بمعنى الهلاك الساحق، مع ملحظ سقوطٍ وهبوط، ومنه آية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 طه 16: {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} وفي الحديث: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ترديه" قال ابن الأثير: أي توقعه في مهلكة (النهاية) . وكونه في النار، على تفسير ابن عباس، دلالة إسلامية خاصة لأن ذلك هو المعروف من التردي، كما قال الإمام الطبري في تفسيره لآية الليل. ويؤيده سياق الآية بعدها، في النذير والوعيد: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} ويستفاد من صريح النص في آيتى: الصافًّات 56: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} وفُصَّلتْ 23: {يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ} : {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وأما بيت "عدى بن زيد" فلا يبدو لنا قريباً وجهُ الاستشهاد به على معنى التردى في النار بهذه الدلالة الإسلامية، بل سياقه في العظمة والاعتبار، أقربُ إلى معنى السقوط إلى مَهواةِ الردَى من المنية، بصريح لفظه. * * * 44 - {نَهَرٍ} وسأل نافع عن معنى قوله تعالى: {فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 فقال ابن عباس: النهر السعة، واستشهد بقول "لبيد بن ربيعة". ملكتُ بها كَفَّى فأنهرتُ فَتْقَها. . . يَرى قائمٌ مِنْ دونِها ما وراءها (تق، ك، ط) = الكلمة من آية القمر 54: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} وجاء نَهَر، واحد الأنهار، مفرداً في آيتى البقرة 249 والكهف 33. وأما أنهار، جمعاً، فجاء إحدى وخمسين مرة. ذهب الفراء في آية القمر، أن معنى نهر: أنهار، وهو في مذهبه كقوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} . ونقل فيه عن الكسائي أن معنى نهر الكثير. وقيل: في ضياء وسعة وسمع بعض العرب ينشد *إن تك ليليَّا فإنى نهِر* أي صاحب نهار (معاني القرآن 3 / 111) وهو من شواهد الطبري والقرطبي. وتفسير ابن عباس النهر في آية القمر بالسعة، منظور فيه، كما قال الراغب في (المفردات) إلى التشبيه بنهر الماء. ويقال: أنهر الماء جرى. وأنهرتُه أجريته. ويبقى للنهر مع هذه الدلالة المجازية على السعة، ملحظً من خير ونعمة، في حِسَّ العربية للنهر واحد الأنهار، مياها عذبة. ويضفى عليها القرآن معنى البركة والخير في الجنة {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} وهو الغالب على الاستعمار القرآني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 وحين يذكر الأنهار في الدنيا، فعلى وجه المنَّ بنعمته تعالى على عباده: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} إبراهيم 32 أو على وجه المباهاة بها في الحكاية عن فرعون: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} الزخرف 51 وفيما اقترح المشركون على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يأتيهم به من آيات ليؤمنوا بنبوته: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا} الإسراء 91 والشاهد من بيت "قيس بن الخطيم" يحتمل معنى السعة فحسب. وأما في آية القمر: مع جنات للمتقين، فمعنى الفيض من الخير والبركة والنعيم، أولى بالمقام {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} * * * 45 - {الْأَنَامِ} وسأل نافع عن معنى قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} فقال ابن عباس: الخلق. واستشهد بقول لبيد بن ربيعة: فإنْ تسألينا فيمَ نحن فإننا. . . عصافيرُ من هذا الأنام المُسَحَّرِ (تق، ك، ط) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 = الكلمة من آية الرحمن 10: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وحيدة في القرآن كله. ومعناها عند الفراء كذلك: جميع الخلق (3 / 113) وتفسيرها بالخلق، على ما يبدو من قربه، لا يجيب عن وجه تفردُّها في القرآن، مع كثرة ورود الخلق فبه: فعلاً ماضياً مبنياً للمعلوم 150 مرة وللمجهول سبع مرات، ومضارعاً للمعلوم ثلاثا وعشرين مرة وللمجهول أربع مرات. ومصدراً أو اسماً خمساً وأربعين مرة، واسم فاعل مفرداً ثماني مرات، وجمع مذكر سالم أربع مرات. ومعها "الخلاق" و"مخلقة" مرتين. ومجموعها. مائتان وخمس وأربعون. والدلالة المعجمية تذكر في الأنام: الخلق، أو الجن والإنس، أو جميع ما على الأرض (القاموس) . وفي (الكشاف) : "للأنام: للخلق، وهو كل ما على ظهر الأرض من دابة، وعن الحسن: الإنس والجن فهي كالمهاد لهم يتصرفون فوقها" وآيات الخلق، تؤذن بفرق بينه وبين الأنام. فالخلق عام لكل ما خلق الله في السموات والأرض وما بينهما من ملائكة وإنس وجن، ومن حيوان ونبات وجماد، ما نعلم منها وما لا نعلم: إن ربك هو الخلاق العليم، فتبارك الله أحسن الخالقين، الذي أحسن كلَّ شيء خلقَه، خلق لكم ما في الأرض جميعاً، ويخلق ما لا تعلمون. . . فهل يكون الأنام لمن خلق الله لهم الأرضَ من الأحياء، دون ما في السموات وسائر الكائنات المخلوقة في الأرض وما بينهما؟ أعلم أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 46 - {يَحُورَ} : قال نافع: فأخبرني عن قول الله - عز وجل -: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} قال: لن يرجع. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ فقال: نعم، أما سمعت بقول "لبيد بن ربيعة": وما المرءُ إلاَّ كَالشهابِ وضَوئه. . . يَحُورُ رَمَاداً بَعْدَ إذْ هو سَاطِعُ (ظ، طب) وفي (تق، ك، ط) : لن يرجع بلغة الحبشة. = الكلمة من آية الانشقاق 14: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} وحيدة الصيغة في القرآن. ومن المادة، جاء مضارع الرباعي "يحاوره" في آيتى الكهف 34، 37 والمصدر "تحاوُرَكما" في آية المجادلة. وجاءت "حُورٌ" أربع مرات، و"الحَوارِيُّون" خمس مرات. وقول ابن عباس: "لن يرجع، بلغة الحبشة" يُسوَّغ الترادفَ. وفسرها "الزمخشري" بـ: لن يرجع. دون أن يشير إلى لغة فيها، بل نقل عن ابن عباس: "ما كنت أدري ما معنى يحور، حتى سمعت أعرابية تقول لبنُية لها: حُورى، أي ارجعى" الكشاف. والعربية على أي حال تصرفت في الكلمة، إن صح أنها بلغة الحبشة، فأعطتها دلالة من أقرب مادتها: حير، بمعنى التردد، ثم خصَّت اليائي بالحيرة، والواوىَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 بالرجوع، مع ملحظ دلالى مشترك بينهما: فكان التحاور رجعاً للكلام يتردد بين المتحاورين، والمحور: العود الذي تدور فيه البكرة، والحوارى: النصير يُرجَعُ إليه، والمَحَارة: شِبْهُ حارة يتردد الهواء فيها برجْعِ الصوت. وشبُهت بها الحور لاستدارة الأعين ونصوع البياض فيها حول سواد المقلة. وأما الحيرة، يائيةً، فخالصة للتردد. وفسر الفراء "لن يحور" لن يعود إلينا في الآخرة (3 / 251) وعند القرطبي: لن يرجع مبعوثاً فيحاسب ثم يثاب أو يعاقب (19 / 271) وكذلك فسرها "الراغب" في المفردات بالبعث، وهي دلالة إسلامية متعينة في الآية. وأما الشاهد الشعري، فأقرب إلى أن يفهم بمعنى يَصير كما قال "الطوسى" في شرح البيت من ديوان لبيد. * * * 47 - {أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} وسأل نافع عن معنى قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} فقال ابن عباس: أجدر ألا تميلوا. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر: إنا اتبعنا رسولَ اللهِ واطَّرحوا. . . قولَ النبي وعالوا في الموازين (تق، ك، ط) = الكلمتان من آية النساء 3: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 ويأتي الدنو في (القرآن) فعلاً ماضياً ومُضارعاً، واسم فاعل "دان" "ودانية" ومعنى الجدارة في "أدنى" يأتي من دلالة الدنو على القرب. والكلمات الثلاث: أدنى وأجدر، وأقرب، قرآنية. وهي متقاربة، وإن كان اختلاف ألفاظها يؤذن باختلاف في المعنى. ولعل الأصل في الأقرب أنه يقابل الأبعد، وفي الأدنى أنه مقابل الأنأى، والأجدرُ بمعنى الأوْلى. وأما كلمة "تعولوا" فوحيدة الصيغة في القرآن. وجاء اسم الفاعل في آية الضحى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} والمصدر في آية التوبة 28: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} والواوى واليائى منه متقاربان، لتداخلهما فيما يلحق عينهما من إعلال وإبدال. وقيل: أكثر ما يستعمل الواوىُّ في العِولَ والعالة والعويل. واليائىُّ في العَيْلة، من: عال يعيل عيلا وعيلة إذا افتقر، والاسم العيلة. قاله الفراء، (1 / 255) وشاهد اليائي منه بمعنى الفقر، بيتٌ "أحيحة بن الجلاح": ولا يدري الفقير متى غناه. . . ولا يدري الغني متى يعيل ونحوه في جامع القرطبي، بالشاهد لأحيحة. وهو اشتقاقه في (القاموس) واستدرك عليه مُحَشَّية فنقل على هامشه: في (شرح الشفا) : "والصحيح ورود العيلة بمعنى العيال". وتقول في الواوى: "عالَ اليتامى يعولهم فهو عائل وهم عيال. كما تقول في اليائى: يتيم عائل، أي فقير" وفسره الأخفش في الآية، بالفقر (معاني القرآن 2 / 329) وتفسير العول بالميل، فيما نُقِلَ من قول ابن عباس، على وجه تقريب اشار إليه "الراغب" فقال: ومعنى الجور جاء من ترك النصفة، بأخذ الزيادة: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} - المفردات. وإليه ذهب "أبو عبيدة" قال: أي أقرب ألا تجوروا (مجاز القرآن 1 / 117) واختاره الطبري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 فيُفهم الميل، بمعنى الجور ميلا عن الإنصاف. ولا يفوتنا مع هذا التقريب، ما في دلالة العول من الضيق وثقل العبء على العائل. * * * 48 - {مُلِيمٌ} قال: فأخبرني عن قوله - عز وجل -: {وَهُوَ مُلِيمٌ} قال: وهو مذنب. واستشهد بقول أمية بن أبي الصلت: برئ من الآفات ليس لها بأهلٍ. . . ولكن المسئ هو الُملِيم (ظ، وق، طب) وفي (تق، ك، ظ) : المليم المسئ المذنب = الكلمة من آيتى: الصافات 142، في يونس عليه السلام: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} الذاريات 40 في فرعون: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} وجاء ملوم، مفرداً في آيات (الذرايات 54، الإسراء 29، 39) وجمعاً (ملومين) في آيتى (المعارج 30، المؤمنون 6) والفعل الثلاثي في آيتى يوسف 32، إبراهيم 22، ومضارع التلاوم في آية القلم 30 (يتلاومون) و (لومة لائم) في المائدة 54، و (النفس اللوامة) في آية القيامة: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 فرّق الطبري بين المليم والملوم، بأن المليم من أتى ما يُلام عليه وإن لم يُلَم، فأما الملوم فهو الذي يلام باللسان ويُعذل بالقول. وقال القرطبي في الفرق بينهما: فأما الملوم فهو الذي يلام، استحق ذلك أو لم يستحق، وقيل: المليم المعيب (سورة الصافات) ومعنى مليم عند الفراء: أتى بالائمة، وقد ألام (المعاني 30 / 87) وأسند فيها الطبري عن مجاهد وقتادة وابن زيد، أنه المذنب. وعدول القرآن الكريم في آيتى الصافات والذرايات عن ملوم إلى "مليم" يوجه إلى كونه فاعلاً لموجب اللوم. والله أعلم. * * * 49 - {تَحُسُّونَهُمْ} وسأله عن معنى قوله تعالى: {تَحُسُّونَهُمْ} قال: تقتلونهم بإذنه. واستشهد بقول عتيبة الليثي: نحسُّهُم بالبِيضِ حتى كأنما. . . نُفلّق منهم بالجماجم حنظلا (ظ، طب) وفي (تق) تقتلونهم زاد في (ك، ط) بأمر محمد. والشاهد في الثلاثة قول الشاعر: ومنا الذي لاقى بسيف محمدِ. . . فحَسَّ به الأعداء عرض العساكر = الكلمة من آية آل عمران 152 في يوم أحد: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذ ْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 وحيدة في القرآن، من الفعل الثلاثي: حَسَّ ومن الرباعي آيات: آل عمران 50: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} الأنبياء 12: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} مريم 98: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} ومعها {تَحَسَّسُوا} في آية يوسف 87 و {حَسِيسَهَا} في آية الأنبياء 102 والحِسُّ هو أصل المعنى للمادة، وهو المفهوم من قرب في الاستعمال القرآني للإحساس والتحسس والحسيس، وإلى الحِسَّ رده "الراغب" فقال: نُقل الحَسّ إلى القتل من قولهم: أحُسُّه بحَسىَّ، نحو رُعته وكبدته. ولما كان ذلك قد يتولد منه القتل، عُبَّر به عنه فقيل: حسسته، أي قتلته (المفردات: حس) وقريب منه، في (جامع القرطبي 4 / 235) وقد نقل الطبري في تفسير الكلمة بالقتل في آية آل عمران، ما روى عن ابن عباس وغيره. والقتل كثير الورود في القرآن بصيغ عدة: الفعل الثلاثي ماضياً ومضارعاً وأمرا، ومصدره. والرباعي من القتال ماضياً ومضارعاً وأمرا ومصدراً، ومن التقتيل ماضيا ومضارعا، ومن الاقتتال. فلفت ذلك إلى فرق في الدلالة بين القتل، والحَسَّ وحيدة الصيغة في القرآن الكريم. وتدبر سياق الآيات في القتل، على اختلاف الصيغ، يفيد دلالة العموم فيه، إذ يقع على الفرد وعلى الجمع، بالسلاح أو بغيره كما في قتل الأولاد، خشية إملاق، وأداً. وجاء ماضي الثلاثي مبنيا للمجهول، دعاء عليه، من المجاز كالآيات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 المدثر 20: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} عبس 17: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} الذاريات 10: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} البروج 4: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} والقتل في هذه الآيات، دعاء عليهم. فهل يكون الحسُّ في الآية بدلالة خاصة على استئصال الجمع قتلا؟ في مجاز أبي عبيدة: "إذ تحسونهم، تستأصلونهم قتلا، يقال حسسناهم عن آخرهم أي استأصلناهم، قال رؤبة: إذا شكونا سنة حسوسا. . . تأكل بعد الأخضر اليبيسا (1 / 104) وقال الفراء: الإحساس الوجود، تقول: هل أحسست أحدا، وكذلك "هل تحسة منهم من أحد" ,إذا قلت؛ حسَسْت بغير ألف فهي في معنى الإفناء والقتل (معاني القرآن، آية آل عمران 52) ونقل القرطبي عن أبي عبيد: الحس الاستئصال بالقتل. وأنشد بيت رؤية (الجامع 4 / 235) ومعناه عند الزمخشري: القتل الذريع (س) وقال ابن هشام بعد رواية ابن إسحاق للظروف العصبية التي لابست نزول آية آل عمران: "الحس: الاستئصال. يقال حَسسْتُ الشيءَ أي استأصلته بالسيف أو بغيره، قال جرير: تحَسُّهمُ السيوفُ كما تسامَى. . . حلايقُ النارِ في الأجَمِ الحصيد" ومعنى الاستئصال واضح في الشاهد، لكنه ليس استئصالا لشيء بالسيف أو بغيره، بل هو استئصال للجمع بالسيوف، بصريح النص. وكذلك الشاهدان في تفسير ابن عباس، ليس الحَسُّ فيهما مطلقَ قتل، وإنما هو حَس استئصال للأعداء بالبِيضِ، وبسيفِ محمد، عليه الصلاة والسلام، والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 50 - {أَلْفَيْنَا} وسأل نافع الأزرق عن معنى قوله تعالى: {مَا أَلْفَيْنَا} فقال ابن عباس: يعني، وجدنا. واستشهد بقول نابغة بني ذبيان: فحَسبوه فألفَوْه كما زعمتْ. . . تسعاً وتسعين لم تنقضْ ولم تَزدِ (تق، ك، ط) = الكلمة من آية البقرة 170: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} ومعها آيتا: الصافات 69: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ} ويوسف 25: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} وهذه الثلاث، هي كل ما في القرآن من الكلمة، صيغةَّ ومادة. وتفسير "ألفينا" بـ: وجدنا، قريب. وكذلك فسرها "الراغب" في (المفردات) في آيتى البقرة ويوسف، وأبو عبيدة في آية البقرة (مجاز القرآن 1 / 63) ويؤنس إلى هذا القرب بين ألفى ووجد، أن الفعل (وجد) يأتي في مثل هذا السياق: {وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} بآيات: المائدة 104، والأعراف 28، ويونس 78، ولقمان 21. ومعها: الأنبياء 53، والشعراء 74، والزخرف 22، 23. ولا يفوتنا مع ذلك، أن القرآن لم يستعمل "ألفى" إلا ثلاث مرات، بصيغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 واحدة هي الفعل الماضي، على حين كثر استعماله للفعل "وجد": ماضياً ومضارعاً، للمعلوم، وللمجهول. وفي اللغة، تتصرف العربية في (وجد) فيكون منه الوجد والوجود والوجدان والموجدة، والوجادة في مصطلح الحديث. كما تتصرف فيه مجرداً ومزيداً، مع مشتقاتهما. ولا نعرف لها مثل هذا التصرف في (ألفى) الذي لا يكاد يأتي إلا بمعنى وجد، رباعباً مزيداً، ومعه لَفَاء، كسحاب، مهموزاً، بمعنى التراب وكل خسيس حقير. ولابد أن يكون لهذه الفروق الاستعمالية بين وجد وألفى، في البيان القرآني وفي اللغة، ملحظ من فرق الدلالة لم أهتد إليه، أو لعلهما من اختلاف اللغات وإن لم أجد فيه نصاً، والله أعلم. * * * 51 - {جَنَفًا} قال نافع: يا ابن عباس، أخبرني عن قوله - عز وجل -: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا} قال: الميل والجور في الوصية. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال: نعم أما سمعت "عدى بن زيد" وهو يقول: وأُمُّكَ يا نُعْمانُ في أخواتها. . . يأتين ما يأتينه جَنَفَا (ك، ط، تق) = الكلمة من آية البقرة 182، في الوصية: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوص ٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 وحيدة الصيغة، وليس معها من مادتها في القرآن إلا اسم الفاعل من التجانف في آية المائدة 3، فيما حُرَّم من طعام: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وتفسير الجنف بالميل والجور في الوصية، واضح القرب. وقال "الراغب": أصل الجنف ميل في الحكم، وذكر الكلمتين من آيتى البقرة والمائدة (المفردات) . ومعنى الجنف في الآية: الجور، عند الفراء (1 / 111) والهروى في الغريبين (1 / 410) وهو الجور عن الحق والعدول عنه في مجاز أبي عبيدة (1 / 66) ونقل فيه الطبري: الخطأ والإثم العمد، والجور والعدول عن الحق، والميل (2 / 72) وفي تهذيب الأزهري عن الزجاج: الميل والإثم (11 / 111) وهي معان متقاربة. وقال ابن الأثير: الجنف الميل والجور، يقال: جنف وأجنف إذا مال وجار. . . وقيل: الجانف يختض بالوصية، والمجنف المائل عن الحق. ومنه حديث عمر، وقد أفطر الناس في يوم من رمضان ثم ظهرت الشمي: "نقضيه، ما تجانفنا فيه لإثم" أي لم نمل فيه لارتكاب الإثم. (النهاية) وفي (ق) أجنف مختص بالوصية، وجنف كفرح، في مطلق الميل عن الحق. يرد عليه، أن القرآن استعمل الجنَف، لا الإحناف في الوصية. وفي (س) أن العرب تقول: جَنَف في الوصية، وجنف علينا في الحكم. ويبدو أن الميْلَ أصل في الدلالة، نقلا من قولهم: رجل أجنف، مائل في أحد شقيَّة (خلق الإنسان 242، والمخصص 2 / 19) ثم تخالف العربية بين الألفاظ المشتركة في معنى الميل، لفروق في الدلالات، فتجعل الازورار للإعراض، والصد نقيض الإقبال، والزور للباطل والميل عن الهدى، والجور للميل عن العدل على وجه القهر والغلبة، والجنَف للميل عن الحق الواجب، فيكون منه الجور في الوصية، والميل عن الإنصاف في الحكم. ولاجنف في آية البقرة، متعلق بالوصية بصريح اللفظ. وعطفَ "إثماً" عليه بحرف أو: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} من حيث يميل الموصِى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 عما ينبغي له من إنصاف لأهله، أو يأثم بالميل عن حدود الله في الوصية. على ما هو مبين بتفصيل في تفسير الطبري (2 / 72) * * * 52 - {الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} وسأل نافع عن معنى قوله تعالى: {بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} قال: البأساء الخصب، والضراء الجدب. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت زيد بن عمرو وهو يقول: إن الإله عزيز واسع حَكَمٌ. . . بكفَّه الضرُّ والبأساءُ والنعَمُ (تق، ك، ط) الكلمتان من آيتى: الأنعام 42: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} والأعراف 94: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} ومعما آيتا البقرة: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} 177 {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} 214. وقد نفهم وجه التقريب في تفسير الضراء بالجدب، على أن يكون تخصيصاً من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 عموم: فالجدب ضراء، والضرَّاء تكون من جدب وتكون من غيره، أذى أو محنة وبلاء. وأما تفسير البأساء بالخصب، كما روى عن ابن عباس، فلا ندري ما وجهه. فإن يكن نَظَرَ فيه إلى فتنة الخصب، كما في آيات: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} فإن سياق آيات البأساء الأربع لا يعين عليه، مع الأخذ والتضرع في آيتى الأنعام والأعراف، ومع الصبر الأربع لا يعين عليه، مع الأخذ والتضرع في آيتى الأنعام والأعراف، ومع الصبر والمسَّ في آيتى البقرة. كما لا أجد فيما بين يدىَّ من كتب اللغة، ما يؤنس إلى معنى الخصب في البأساء، على الحقيقة أو المجاز. بل تدور في الاستعمال على الشدة والعذاب والداهية والحزن. ومن مادتها. البؤس والبأس والبؤسى، والابتئاس، وفي (الأساس) وقع في البؤس والبأساء، وفي أمر بئيس: شديد، وابتأس بذلك، إذا اكتأب واستكان من الكآبة: {فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قال الهروى في تفسير آية البقرة بالغريبين: البأساء الشدة. . . وسمعت الأزهري يقول: البأساء في الأموال وهو الفقر، والضراء في الأنفس وهو القتل. قال: والبؤس شدة الفقر. (1 / 118) وقابل على (تهذيب اللغة للأزهري 13 / 108) وبيت "زيد بن عمرو" لا يتعين شاهداً على الخصب، بل يحتمل من قرب أن تكون البأساء فيه مع الضر، ثم قال: *والنعَم* ناظراًَ إلى نقيض الضر والبأساء. وفرّق "أبو هلال" بين البأساء والضراء فقال: "الضراء هي المضرة الظاهرة، والفرق بينهما، أن البأساء ضراء معها خوف، واصلها البأس هو الخوف يقال: لا بأس عليك، أي لاخوف عليك. وسميت الحرب بأساً لما فيها من الخوف". وصريح كلامه، أن البأساء أشد من الضراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 وقد نطمئن إلى أن الشدة اصل في معنى الكلمة، ثم تخالف العربية بين صيغها لملاحظ من فروق الدلالات: فتجعل البأس للقوة وشدة السطوة، والبؤس لشدة الكرب والتعاسة، والبأساء لوطأة المحنة على ما سبقت الإشارة إليه في المسألة رقم 38: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} والله أعلم. * * * 53 - {رَمْزًا} قال: فأخبرني عن قول الله تعالى: {إِلَّا رَمْزًا} ما الرمز؟ قال: الوحي بالحاجب، واستشهد بقول الشاعر: ما في السماء من الرحمن من رَمِزٍ. . . إلا إليه، وما في الأرض من وَزَرِ من (وق) وفي (تق، ك، ط) قال: الرمز، الإشارة باليد، والوحيٌ بالرأس. = الكلمة من آية آل عمران 41، في زكريا عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} وحيدة في القرآن، صيغة ومادة. تفسير الرمز بالإشارة بالحاجب أو الوحي بالرأس، تقريب لا يفوتنا معه أن الإشارة الرمزية تكون باليد وبالحاجب، وبغيرهما. قال "الفراء" في معنى الآية: والرمز يكون بالشفتين والحاجبين والعينين، وأكثره في الشفتين، كل ذلك رمز" (معاني القرآن 2 / 213) . وقال الراغب: الرمز إشارة بالشفة، والصوت الخفي، والغمز بالحاجب، وعُبَّر عن كل كلام كالإشارة بالرمز: {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} وما ارمازَّ أي لم يتكلم. وكتيبة رمَّازة: لا يسمع منها من كثرتها. (المفردات) وفصَّله "الفيروزابادى" فقال: الرمز، ويضم ويُحرك، الإشارة التي ترتمز أي تتحرك وتضطرب من جوانبها، وهذه ناقة ترتمز أي لا تكاد تمشي من ثقلها وسمنها (ق) وكذلك قوله في المسألة: الوحي بالرأس، فيه أن الوحي يغلب استعماله في الإلهام، ملحوظاً فيه أصلُ دلالته على السرعة والخفاء. ويأخذ في القرآن دلالة إسلامية، مما يوحى به الله تعالى إلى رسله الأنبياء، فإذا تعلق بغير الأنبياء فهو من الإلهام كآية القصص 7: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى} أو التسخير كآية النحل 68: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} وكل وحي وإيحاء في القرآن، من الله تعالى، باستثناء آيتى الأنعام 112، 121 فيما يوحِى الشياطين إلى أوليائهم زخرفَ القول غروراً. وكلام زكريا للناس رمزاً، يبدو أقرب إلى الإيماء والإشارة، غير مقيد بحاجب وبيد أو بوحي من رأس، ودون أن يُفهم من الرمز، كلاماً للناس، وحيٌ بمعنى إلهام أو تسخير. والله أعلم. * * * 54 - {فَازَ} وسأل نافع بن الأزرق عن معنى قوله تعالى: {فَقَدْ فَازَ} فقال ابن عباس: سَعِدَ ونجا، واستشهد بقول عبد الله بن رواحه: وعسى أن أفوزَ ثُمَّتَ ألْقى. . . حُجَّةً أتَّقِى بها الفَتَّانا = الكلمة من آيتى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 آل عمران 185: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} والأحزاب 71: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} وجاء معهما الفوز، نكرة ومعرفاً باِل، سبع عشرة مرة، وجمع المذكر السالم أربع مرات، و {مفازاً للمتقين} و {مَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} و {مَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ} وتفسير الفوز بالسعادة والنجاة واضح القرب. مع ملحظٍ من اختصاصه في القرآن بدلالة إسلامية. في الفوز برضى الله ورحمته ورضوانه، ونعيم جنته للمتقين من عباده، فهم الفوز العظيم والمبين. وما جاء من الفوز متعلقاً بالمغانم في آية النساء {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} 73 فعلى سبيل الوهم والغرور. أو كما قال "الراغب": يحرصون على أعراض الدنيا ويعدون ما ينالونه من الغنيمة فوزاً عظيماً (المفردات) والمفاز في القرآن، إنما هو للمتقين؛ والمفازة، من العذاب، لا يمسهم السوء، والشاهد من بيت الشاعر الصحابي "عبد الله بن رواحة الأنصاري" - رضي الله عنه - يأخذ الدلالة الإسلامية كذلك، على الفوز برضوان الله والنجاة من الضلال. على أن الأصمعي عدَّ الفوز من (الأضداد) قال: وسموا المفازة، مفعلة من: فاز يفوز، إذا نجا. وهي مهلكة، قال الله جل ثناؤه {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} أي بمنجاة. وأصل المفازة مهلكة، فتفاءلوا بالسلامة والفوز كقولهم للملدوغ: سليم، والسليم المعافي (38 / 46) . ونحوه في (الأضداد لابن السكيت. (192 / 319) * * * 55 - {سَوَاءٍ} وسأل نافع بن الأزرق عن معنى قوله تعالى : {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 فقال ابن عباس: عدل. واستشهد بقول الشاعر: تَلاقَيْنا فقاضينا سواءٌ. . . ولكنْ جرَّ عن حالٍ بحالِ (تق، ك، ط) = الكلمة من آية آل عمران 64، خطاباً للنبي عليه الصلاة والسلام: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} . وجاءت الكلمة في ست وعشرين آية، سياقها أقربُ إلى معنى المساواة. ومعها من المادة: (الصراط السوىّ) في آيتى طه 35 ومريم 43 و (ثلاث ليالٍ سويّاً) ، في مريم 10 {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} في مريم 17. كما جاء الفعل "سوى" ماضياً عشر مرات، ومضارعاً مرتين. والفعل "استوى" ماضياً خمس عشرة مرة، ومضارعاً عشرين مرة، ومرة واحدة، جاء الفعل "ساوى" في آية الكهف 96: {سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} وتفسير سواءٍ بعدل، في آية آل عمران، قريب، ففي العدل دلالةُ المساواة الأصلية في المادة، لا تنفك عنها في السوىَّ المعتدل المشتقيم، وفي الاستواء بمعنى الاعتدال، أو التعادل إذا كان من طرفين، والوسيط. وإن كان العدلُ قد غلب استعماله في الأحكام وما يجري مجراها، والسوىُّ في الاعتدال والاستقامة، وسواء في التساوي والتعادل والتكافؤ. ويأتي (سواء الجحيم) في المسألة 95. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 59 - {الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} وسأل نافع عن معنى قوله تعالى: {الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} فقال ابن عباس: السفينة الموقرة الممتلئة، واستشهد بقول عبيد بن الأبرص: شَحَنّا أرضَهم بالخيلِ حتى. . . تركناهم أذلَّ من الضَّراطِ (تق، ك، ط) = الكلمتان من آيات: الشعراء 119، في نوح: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} يس 41: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} والصافات 140: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} ومعها الفُلك بمعنى السفينة، في عشرين آية أخرى: في فُلك نوح. وفيما سخر لنا الله من فلك تَجرى في البحر. وجاء فَلَك في آيتى الأنبياء 33 ويس 40 {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وأما مشحون فلم تأت إلا مع الفُلك، في الآيات الثلاث. وتفسير الفُلْكِ بالسفينة هو القريب المتبادر، ويؤنس إليه أن القرآن استعمل "السفينة" في قصة نوح والطوفان بآية العنكبوت 15: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} وإن كنت مع أطيل التدبر في آيات الفُلْك الثلاث والعشرين، وليس في القرآن كلمة السفينة إلا في آية العنكبوت، وآيتى الكهف خبراً عن موسى وصاحبه: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا} {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 فهل يكون الفُلْك ما يربطها بالفَلَكِ في آيات القدرة الإلهية والنظام الكوني، وتكون السفينة لمجرد المركب المائي؟ ذلك ما ألمحه من بعيد. وكذلك تفسير المشحون بالممتلئ، قريب، وإن كنت ألمح في الشحنة حِسَّ الدلالة على أقصى ما تحتمله الفلك من امتلاء. وقد نقول ملأت المكان، لا تريد إلا القدر الذي يتسع له، دون أن تشحنه بنوع من الضغط والحشد، والله أعلم. * * * 57 - {زَنِيمٍ} وسأله نافع عن قوله تعالى: {زَنِيمٍ} فقال ابنُ عباس: ولد الزنا. واستشهد بقول الشاعر. زنيمٌ تداعته الرجالُ زيادةً. . . كما زِيدَ في عرضِ الأديمِ الأكارِعُ من (تق) وفي (ك، ط) : الزنيم كزنمة الشاة وكذلك ولد الزنا. = الكلمة من آية القلم 13: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} وحيدة في القرآن، صيغة ومادة. وتفسيرها بولد الزنى قد يدبو قريباً، فمن معانيها في اللغة: اللئيم المعروف بلؤمه وشره، والدعِىُّ في القوم ليس منهم. وربما كان مأخوذاً لهذا المعنى. من: الزنمة، وهي جزء يقطع من أذن البعير فيترك مُعَلقاً. وقد ذكره "الراغب" في (المفردات) ومعناه في آية القلم عند الفراء: الزنيم الملصق بالقوم وليس منهم وهو المدَّعى (3 / 173) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 في صحيح البخاري عن مجاهد عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: رجل من قريش كانت له زنمة كزنمة الشاة (ك التفسير، سورة ن) وذكر له ابن حجر طرقاً أخرى، منها من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس: يعرف بالشر كما تعف الشاة بزنمتها. وقال أبو عبيدة: الزنيم المعلق في القوم ليس منهم، قال الشاعر: * زنيم ليس يعرف من أبوه * وقال حسان: * وانت زنيم لِيطَ في آلِ هاشم * قال: ويقال للتيس: زنيم، له زنمتان (فتح الباري 8 / 467) ونقل فيه "الطبري"، معنى الفاحش اللئيم، والمصَلق بالقوم وليس منهم، واستشهد بقول حسان بن ثابت، بقول آخر: زنيم ليس يُعرف مَن أبوه. . . بغىُّ الأمَّ ذو حَسَبٍ زنيم وخصه "الزمخشري" في تفسير آية القلم، بالوليد بن المغيرة، قيل: كان دعِياً في قريش، ادعاه أبوه بعد أن بلغ الثامنة عشرة من عمره. نقله "أبو حيان" ومعه: أن الوليد كان له ست أصابع في يده، فكأنها الزنمة. ثم علق قائلاً: "والذي يظهر أن هذه الأوصاف في آيات القلم ليست لمعينَّ، وإنما تصدقُ على عامة من يتصف بها". ونضيف: إن سياق الآية يخرجها من الخصوص إلى العموم المستفاد صراحةً من لفظ "كل" وإذا قيل في أسباب النزول إنها نزلت في الوليد بن المغيرة، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي نزلت فيه الآية، على ما قرره الأصوليون. والملحظ الذي نلتفت إليه في تفسير الزنيم بولد الزنى، على ما يبدو من قربه، هو أن القرآن في مَحْقِه للزنى إنما يقصر اللعنة على الزاني والزانية، لا على أولادهما. من هنا نرجح في الزنيم معنى اللؤم والفحش. والعربية في إطلاقها الزنيم على الدعىَّ الملحق بالقوم ليس منهم، وعلى ولد الزنى، قد لحظت فيه لؤم الأصل وما يغلب عليه من دناءة الطباع. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 85 - {قِدَدًا} وسأل نافع عن قوله تعالى: {طَرَائِقَ قِدَدًا} قال ابن عباس: المتقطعة في كل وجه. وشاهده قول الشاعر: ولقد قلتُ وزيدٌ حاسرً. . . يومَ ولَّتْ خيلُ زيدٍ قِدَدَا (تق) وفي (ك، ط) : من كل وجه. الكلمة من آية الجن 11: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} وحيدة الصيغة في القرآن، وليس معها فيه من مادتها غير الفعل الماضي في آيات يوسف، وامرأة العزيز، (25 - 28) : {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} ، {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} والقد فيها على أصل معناه في التمزيق. وتفسيره {طَرَائِقَ قِدَدًا} بالمتقطعة في كل وجه، لعله عنى به التقطع المجازي في الهدى والضلال، ونظر فيه، والله أعلم، إلى آيات: الأعراف 168: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} ومعها 160 في تقكيع قوم موسى أسباطاً.. والمؤمنون 53: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وآية الأنبياء 93: وإن جاء التقطع والتقطيع كذلك في تقطيع الأرحام (محمد 22) وتقطع القلوب حسرة (التوبة 111) كما جاء على أصل معناه في تقطيع الأيدي في حد السرقة (المائدة 38) والأيدي والأرجل في حد الحرابة (التوبة 33) وتقطيع النسوة أيديهن في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 آيتى (يوسف 31، 50) ووعيد فرعون لمن آمن من السحرة بتقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف (الأعراف 124، طه 71، الشعراء 49) وجاء في النذير بعذاب الكفار في الجحيم: {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} الحج 19 {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} محمد 15 وذهب الفراء في معنى آية الجن إلى: كنا فرقا مختلفة أهواؤنا (3 / 191) ونقل فيها القرطبي عن الضحاك: أدياناً مختلفة. وعن قتادة: أهواء متباينة، وأنشد: القابض الباسط الهادي بطاعته. . . في فتنة الناسِ إذ أهواؤهم قِدَدُ قال: ويقال القوم طرائق، جمع طريقة، أي على مذاهب شتى. والِقدَد نحو منها وهو توكيد لها واحدها قِدَّة، وأصلها من قدَّ السيور وهو قطعها (الجامع 19 / 14) وكذلك فسرها أبو حيان بالسِير المختلفة، وأنشد: * القابض الباسط * البيت، وبيت الكُميت: جمعتَ بالرأي منهم كلَّ رافضة. . . إذ هم طرائق في أهوائها قِدَدُ (البحر 8 / 344) والتفاوت بين الصلاح وما دونه، هو صريح آية الجن. ومعها في سياقها: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} وأما الشاهد في جواب المسألة - وهو للبيد بن ربيعة - فصريح في تشتت الخيل وتقطعها في كل وجه. * * * 59 - {الْفَلَقِ} وسأله عن معنى قوله - عز وجل -: {بِرَبِّ الْفَلَقِ} قال: الصبح. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 بقول "لبيد بن ربيعة" وهو يقول: الفارج الهمَّ مسدولاً عساكره. . . كما يُفرَّج غمَّ الظلمة الفلقُ (ظ، في الروايتين) وفي (طب) : ضوء الصبح وفي (تق، ك، ط) : الصبح إذا انلق من ظلمة الليل. = الكلمة من آية الفلق: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ. . .} ومعها من مادتها اسمُ الفاعل في آيتى الأنعام: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} - 95 {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} - 96 وفَعلَ المطاوعة في آية الشعراء 63: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} تأويل الفلق في المسألة بالصبح أو بضوئه، يبدو قريباً. وقد يؤنس إلى انفلاقة "فالق الإصباح" إلا أنه مختلف فيه: بالصبح فسره البخاري عن مجاهد (ك التفسير، سورة الفلق) ونقل فيه ابن حجر قول الفراء أنه الصبح (الفتح 8 / 524) وهو الصواب عند الطبري، عن ابن عباس وغيره. وإن نقل فيه من اختلاف التأويل، أن الفلق الخّلق، عن ابن عباس. وسِجن في جهنم، عنه أيضاً من طريقين، وقيل اسم من أسمائها، أو جُبُّ فيها عن القرظي والسدَّى (30 / 225) ونقل فيه القرطبي نحو ذلك، وقيل شجرة في النار (الجامع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 20 / 252) . وأصل الفلْق في العربية الشقُّ، والفلوق: الشقوق، والفالق: النخلة المنشقة عن الطلْع، والمطمئن من الأرض بين ربوتين، كأنه شَقٌ بينهما؛ والفُلَّيْق: الخوخ ينفلق عن نواه. وعند الراغب: قيل هو الصبح، وقيل: الأنهار، وقيل: الكلمة التي علَّمها اللهُ موسى فانفلق بها البحر (المفردات) وفي (الصحيحين) أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرى الرؤيا فتأتي "مثل فَلَقِ الصبح" فسره ابن الأثير بضوء الصبح وإنارته، أو هو الصبح نفسه (النهاية) . * * * 60 - {خَلَاقٍ} وسأل ابن الأزرق عن قوله تعالى: {خَلَاقٍ} فقال ابن عباس: نصيب. وشاهده قول أمية بين أبي الصلت: يدعُون بالويلِ [فيها] لا خلاق لها. . . إلا سرايبل من قَطْرٍ وأغلالِ (تق، ك، ط) = الكلمة من آيات: البقرة 102 في السَّحْر: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} والبقرة 200: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} آل عمران: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. . .} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 ومعها آية التوبة 69: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ولم تأت الكلمة بهذه الصيغة، إلا في هذه الآيات الأربع. وجاء "خُلُق" مرتين في آيتى: الشعراء 137 {خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} القلم 4: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} و {اخْتِلَاقٌ} في آية ص 7: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} وجاء في الخَلْقِ نحو مائتين وخمسين مرة، بصيغ: المصدر: والفعل ثلاثياً ماضياً ومضارعاً، واسم فاعله. وخلاَّق (مرتين) ومُخَلَّقة (مرتين) الخَلْق في معجم العربية: التقدير. فإذا أسند إلى الخالق، فهو إبداع الشيء على غير مثالٍ سبق. وخلَق الكلاَم: صنعه: واختلقه: افتراه. والخلاَق النصيب الوافر من الخير (ق) والخُلق: السجية والطبع. وقال "الراغب": الخَلْق التقدير المستقيم، واستعمل في إبداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء. وليس الخَلْق الذي هو الإبداع، إلا الله تعالى. ولا يستعمل في كافة الناس إلا على وجهين: أحدهما في معنى التقدير. . . والثاني الكذب: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} وكل موضع استعمل الخَلْق فيه في وصف الكلام، فالمرادُ به الكذب، ومن هذا الوجه مَنَعَ كثير من الناس إطلاق لفظ الخلق على القرآن. . . والخَلْق يقال في معنى المخلوق، والخَلْق والخُلُق في الأصل واحد، لكن خُص الخَلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 بالهيئات والأشكال والصور، المدركات بالبصر. وختص الخُلق بالقوى المدركة بالبصيرة قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وقرئ: {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} . والخلاَق: ما اكتسب الإنسان من الفضيلة بخُلقه: {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ. . .} (المفردات) ومن الخلق في التقدير والإبداع، جاء الخلق كأنه خِلقة في صاحبة وسجية. فإذا اخترع الكلامَ كذباً فذلك الاختلاق. وتفسير "خلاق" بنصيب، هو معناه في آية البقرة عند الفراء (1 / 122) وأبي عبيدة في آية آل عمران (المجاز 1 / 97) لكنه قيده في آية البقرة بنصيب من خير (1 / 48) ومحوه في (ق) وقيده الراغب بما اكتسب الإنسان من فضيلة. ونقل الطبري من اختلاف أهل التأويل فيه: أنه النصيب، عن مجاهد والسدى وسفيان. والحجّة، عن قتادة، والدين، عن الحسن. وأخرج من طريق ابن جريج عن ابن عباس، قال: ما له من قوام. وأوْلى هذه الأقوال عنده، أنه النصيب، وذلك أنه معناه في كلام العرب. قال: ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليؤيدن الله هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم" يعنى لا نصيب لهم ولا حظ في الإسلام والدين. وأنشد شاهد المسألة. وسياق الكلمة في آياتها الثلاث، صريح في أنه النصيب من الجزاء الأخروى على كسب الأعمال. وقد جاءت كلمة "نصيب" المفسرَّ بها خلاف، في نظير ذلك: غافر 47: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} والشورى 20: {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} لكنها جاءت كذلك في واحد الأنصبة بأحكام المواريث (النساء 7) ونصيب من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 الحرث والأنعام (الأنعام 136) ومن الملك (النساء 53) ومن الدنيا (القصص 77) وفي (الفروق اللغوية) أن الخلاق: النصيب الوافر من الخير خاصة، بالتقدير لصاحبه أن يكون نصيباً له. قد يهدي هذا الاستقراء إلى أن الخلاق إذا فُسَّر بالنصيب بمعنى القَدرْ، فملحوظ فيه خصوص دلالته على جزاء ما يكسب الإنسان بخلقه ومسعاه. ويكون النصيب بدلالة أعم، فيأتي بمعنى القدر من كسب الخُلق والعمل، ويأتي كذلك بمعنى القدر المفروض، والحظ المقسوم. والله أعلم. * * * 61 - {قَانِتُونَ} وسأل نافع عو قوله تعالى: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} فقال: مُقِرُّون. واستشهد بقول عَدىَّ بن زيد: فقال: مُقِرُّون. واستشهد بقول عَدىَّ بن زيد: قَانتاً للهِ يرجو عَفْوَهُ. . . يومَ لاَ يُكفَرُ عَبْدٌ مَا ادَّخرْ (تق، ك، ط) = الكلمة من آيتى: البقرة 116: {سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} والروم 26: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} ومعهما اسم الفاعل، مفرداً، وجمعاً في آيات: الزمر 9: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} النحل 120: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 البقرة 238: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} آل عمران 17: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} النساء 34: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} ومعها آيتا: الأحزاب 35، والتحريم 5 في نساء النبي عليه الصلاة والسلام، وآية التحريم 12 في مريم عليها السلام. وجاء الفعل مرة واحدة في آية الأحزاب 31، خطاباً لنساء النبي: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} وتفسير القنوت بالإقرار لا يكون إلا على وجه تقريب لا يفوتنا فيه أن الإقرار يغلب أن يصدر على وجه الإلزام، وقد يكون عن تَقِيَّة وخوف، ولا يكون القنوت إلا عن خشوع صادق. يؤيد هذا الملحظ أن القرآن لم يستعمل القنوت إلا لله ورسوله، والقانتون والقانتات فيه هم الصفوة المؤمنون العابدون. وجوهر الفرق أن القنوت من أفعال القلوب كالخشوع والتقوى، وليس الإقرار كذلك. وفي القرآن منه، آية البقرة 84 خطاباً لبني إسرائيل فيما نقضوا من ميثاق بعد الإقرار: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وآية آل عمران 81: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ملحظ الإلزام في الإقرار واضح، فاحتاج إلى الإشهاد عليه وكان نقضه بعد إقراره، إثماً وعدواناً وفسقاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 وقول "الراغب": القنوت لزوم الطاعة مع الخضوع، وفُسرَّ بكلَّ زاحد منهما في قوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} قيل: خاضعين، وقيل طائعين، وقيل ساكتين، لم يعن به: عن الكلام، وإنما عنى به ما قال عليه السلام: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين، إنما هي قرآن وتسبيح". (المفردات) يرد عليه أن الخضوع، قد يكون أيضاً عن قسر وخوف أو عن تقية ومداراة. وهذا وجه تخصيصه عند الفراء، فقال في معنى آية البقرة 116: يريد مطيعين، وهذه خاصة لأهل الطاعة، ليس بعامة (1 / 141) ومن معاني القنوت عن ابن الأثير: الطاعة، والخشوع - وهو غير الخضوع - ولاصلاة. والدعاء والعبادة وطول القيام والسكوت (النهاية) ولا يخرج عما في المعاجم. وهي معان متقاربة، وفيها من الخشوع والتواضع لله - عز وجل -، ما ليس في الإقرار الذي قد يكون عن إلزام بالخضوع. * * * 61 - {جَدُّ رَبِّنَا} وسأله عن معنى قوله - عز وجل - {تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} قال عظمة ربنا. واستشهد له بقول أمية بن أبي الصلت: لكَ الحمدُ والنعماءُ والمُلْكُ رَبَّنا. . . فلا شيءَ أعلى منك جَداً وأمجدُ (تق، ك، ط) (ظ، طب) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 = الكلمة من آية الجن 23: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} وحيدة الصيغة. ومن مادتها جاء "جديد" ثماني مرات، كلها صفة لخلق جديد، للبعث والقيامة. و"جُدَد" في آية فاطر 27: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} . ومن معاني الجَد في العربية: العظمة والجلال، ووالد الأب، والحظ والحظوة. والجادة: الطريق المسلوك الممهد، والسوي. والجِِد، بالكسر، الاجتهاد، والجديدان الليل والنهار، لما في تعاقبهما من جديد، أو من تجدد آيتهما. وفي قوله تعالى: {جَدُّ رَبِّنَا} قال ابن قتيبة في تأويل المشكل؛ سورة الجن: يقال: جَدَّ فلان في قومه إذا عظم. وقال أبو عبيدة في (مجاز القرآن) : علا ملك ربنا وسلطانه. وأسند الفراء في معناها عن مجاهد: جلال ربنا. ومما رواه الطبري بإسناده من اختلاف أهل التأويل في معناها: تعالت عظمة ربنا، وأمره وسلطانه، وجلاله، وقدرته: عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة، بألفاظ مقاربة، واختاره. وقيل: غِنىَ ربنا، وقيل: الجد الذي هو أب الأب، من كلام جهلة الجن. وأسنده عن مجاهد. وعن أنس - رضي الله عنه -، قال: كان الرجل منا إذا حفظ البقرة وآل عمران، جَدَّ في أعيننا. ذكره القرطبي. وقال الراغب: "تعالى جد ربنا" أي فيْضه، وقيل: عظمته. وإضافته إليه، سبحانه، على سبيل الاختصاص بملكه. وسمى ما جعل الله من الحظوظ الدنيوية جَداً، وهو البخت (المفردات) سياق الآية يؤنس إلى عظمة ربنا وجلاله وتفرده، بتمام آيته {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} صدق الله العظيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 63 - {حَمِيمٍ آنٍ} : وسأله عن معنى قوله - عز وجل -: {حَمِيمٍ آنٍ} ما الآن؟ قال: الحار الذي اشتد حره. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت بقول النابغة. وتُخضَبُ لحيةٌ غدرتْ وخانت. . . بأحمر من نجيع الجوفِ آنِ (ظ، طب) وفي (تق، ك، ط) قال: الآنى الذي انتهى طبخه وحرُّه. = الكلمة من آية الرحمن 44: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} من أنى يأنى فهو آن. معها آنية في آية الغاشية 5: {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} والفعل المضارع عن آية الحديد 16: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} والمصدر في آية الأحزاب 53: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} وجاءت {آنَاءَ اللَّيْلِ} ثلاث مرات (آل عمران 113، طه 130، الزمر 9) و {آنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ} في آية (الإنسان 15) وأنَّى، في ثمانٍ وعشرين آية. وتفسير {حَمِيمٍ آنٍ} بالذي اشتد حره وانتهى، قال بنحوه الفراء في معنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 الكلمة بالآية: والآنى الذي قد انتهت شدة حره (3 / 118) ونقل فيه ابن الأنباري: وقال بعض الناس، الحميم من الأضداد يقال للحار وللبارد، ولم يذكر شاهداً. (الأضداد 82 / 138) أحسبه عنى الأصمعي. وقد صرح به أبو حاتم السجستاني فقال: وزعموا أن الأصمعي قال: الحميم الماء الحار والماء البارد، ولا أعرفه (الأضداد 152 / 267) وذكر فيه القرطبي ثلاثة أوجه: أنه الذي انتهى حره وحميمه، قال ابن عباس وسعيد بن جبير والسدى. وأنشد بيت النابغة. وقال قتادة منذ خلق الله السمواعت والأرض، وقال كعب القرطبي: واد من أودية جهنم يجتمع فيد صديد أهل النار (الجامع 17 / 175) "الراغب" لحظ فيه أصل دلالة المادة على الزمن، فقال: حان وقته وبلغ إناه في شدة الحر (المفردات) وبه تتقارب الأقوال في تفسير الكلمة بشدة الحر، وانتهائه، ونضجه. والله أعلم. * * * 64 - {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} وسأل نافع عن قوله تعالى: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} فقال ابن عباس: الطعن باللسان. وشاهده قول الأعشى: فيهمُ الخصبُ والسماحةُ والنجـ. . . ـدة فيهم، والخاطبُ المِسلاقُ (تق، ك، ط) = الكلمة من آية الأحزاب 19، في المعوَّقين عن الجهاد: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْف ُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 {سَلَقُوكُمْ} وحيدة في القرآن مادة وصيغة. وأما "حِداد" فوحيدة الصيغة، وجاء من المادة "حديد" ست مرات و"حدود الله" ثلاث عشرة مرة كما جاء الفعل "حادَّ" ماضياً مرة، ومضارعاً مرتين. وملحظ الحِدَّة والعنف واضح في: ألسنة حداد، وفي لجج المحادة ولَدَد الجدل. . . وفي الحديد ظاهرة القوة، وفي حدود الله ما يعطيها قوة الإلزام والحُرمة. والسؤال فيما يبدو، متعلق بكلمة {سَلَقُوكُمْ} وتفسير السلق بالطعن باللسان احتراز يغني عنه التصريح {بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} فيأخذ السلق دلالته على النجريح والطعن، من أصل مادته في سلق الشيء بالماء الحار. وقال الفراء في معنى الآية آذوكم في الأمن (2 / 339) وفي حديث "ليس منا من سلق أو حلق" قال ابن الأثير: أي رفع صوته عند المصيبة، وقيل هو ان تصك المرأة وجهها وتمرشه، والأول أصح. (النهاية) وفي القاموس: سلقه بالكلام أذاه، واللحَم عن العظم: التحاه، وفلاناً: طعنه، والبردُ النباتَ: أحرقه، وفلاناً بالسوط: نزع جلده، وشيئاً بالماء الحار: أذهب شَعره ووبره. والمسلاق في الشاهد من قول الأعشى، أخذ السلقُ فيه كونهَ باللسان، من لفظ * الخاطب * أي الخطيب. وكل هذا من الاستعمال المجازي للمادة، منقولاً إليه من أصل استعماله في السلْق بالماء الحار. والله أعلم. * * * 65 - {أَكْدَى} وسأل نافع عن قوله تعالى: {وَأَكْدَى} فقال ابن عباس: كَدَّرَه بِمَنَّهِ. واستشهد بقول الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 أًعْطَى قليلاً ثم أكدى بِمَنَّه. . . ومَنْ ينشرِ المعروفَ في الناسِ يُحمَدِ = الكلمة من آية النجم 34: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى} والمَنُّ في الشاهد الشعري، لا يؤخذ من قوله: * ثم أكدى * وإنما يؤخذ من صريح قوله * بمنَّه * وقد فسره الراغب في آية النجم، بالمعطى المقل، ويرد عليه أيضاً أن "أكدى" في الآية، معطوفة على: وأعطى قليلاً، فلزم أن يكون هناك فرق بين الإكداء وإعطاء القليل. ومعناه عند الفراء: أمسك بعد عطاء قليل (3 / 101) ومن المجاز: بلغ الناس كُدْيتِه وكُدَاه، إذا أًَمسك بعد عطاء (س) . ولعل الشح أقرب إلى الإكداء. مأخوذاً من الكُدية، وهي في العربية الأرض الغليظة، والصفاة الشديدة. وحفرَ فأكدى: صادفها - ومن هذا المعنى نُقلت الكدية في الاستعمال المجازي، إلى شدة الدهر - ومِسكٌ كَدِىُّ: لا رائحة له. والأقرب أن يكون الإكداء في الآية، البخل والشح بعد عطاء قليل. دون قيده بتكدير المن الذي صرح به الشاعر في الشاهد. * * * 66 - {وَزَرَ} قال: فأخبرني عن قول الله - عز وجل -: {كَلَّا لَا وَزَرَ} ما الوزر؟ قال: الوزر الملجأ. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت بقول طابن الدَّثْنِيَة" وهو يذكر حِمْيَر وما أصابها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 لَعَمْرُكَ ما للفتى من مَفَرْ. . . من الموت يلحقه والكِبَرْ لعمرك ما إنْ له صخرةٌ. . . لعمرك ما إن له من وزر من (ظ في الروايتين، تق، ك، ط) = الكلمة من آية القيامة 11: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} وحيدة الصيغة في القرآن الكريم. ومن المادة الوِزر والأوزار بمعنى الحمل الثقيل في آيتى الشرح، وطه 187، ومعهما آية محمد {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} ووزير في آيتى طه 29 والفرقان 35 وغلب مجئ الوزر في معنى الإثم والذنب فعلاً مضارعاً: ثماني مرات، واسم فاعل "وازرة" خمس مرات، واسماً ومصدراً في آيات: الأنعام 31، 164 وفاطر 18، والزمر 7 والنحل 25 وطه 100 والدلالة المشتركة فيها جميعاً: ثقل العبء، حسياً مادياً في الأحمال والأعباءـ ومعنوياً في الإثم والذنب، وفي الوزير يحمل الهم والعبء. فتفسير الوزَر بالملجأ، ملحوظ فيه هذه الدلالة الأصلية للمادة، في الملاذ لمثقلٍ بعبء مادي أو همَّ نفسي أو نذب وخطيئة. والعربية تسمى الجبلَ وزَرا، بملحظ من مناعته وصلاحيته لأن يكون صحناً وملاذاً، وقد ذكر فيه جمهرة المفسرين واللغويين: الملجأ، والمفر، والمهرب، والحصن، والحرز، والمعقل. وأنشد فيه "ابن السكيت" في باب الاجتماع بالعداوة قول الشاعر الأنصاري: والناسُ أَلْبٌ علينا فيك ليس لنا. . . إلا السيوفَ وأطرافَ القَنا وَزَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 وقد نظَر إليه الراغب فقال: الوزر الملجأ الذي يلجأ إليه من الجبل: {كَلَّا لَا وَزَرَ} . (المفردات) . ونراه اعتبر الدلالة المعجمية، وهو في الآية أقرب إلى المهرب والملاذ من هول القيامة: {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} صدق الله العظيم. * * * 67 - {نَحْبَهُ} وسأل نافع عن قوله تعالى: {قَضَى نَحْبَهُ} فقال ابن عباس: أجله الذي قُدر له. واستشهد بقول لبيد بن ربيعة: ألاَ تسألانِ المرءَ ماذا يحازلُ. . . أنَحْبٌ فيُقضَى أم ضلالٌ وباطلُ (تق، ك، ط) = الكلمة من آية الأحزاب 23: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} وحيدة في القرآن، صيغة ومادة. تفسير النحب بالأجل، اقتصر عليه الفراء في معنى الآية وحكاه "ابن سيده" في (المحكم) عن الزجاج. وفسره البخاري في آية الأحزاب بالعهد (ك التفسير) ونقل فيه ابن حجر عن أبي عبيدة قال: أي نذره. والنحب أيضاً النفس، والخطر العظيم، وقال غيره: النحب في الأصل النذر، ثم استعمل في آخر كل شيء. وأسند عن الحسن في الآية: قضى أجله على الوفاء والتصديق. وتعقبه (فتح الباري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 8 / 366) وقال ابن الأثير: النحب النذر، كأنه ألزم نفسه أن يصدق أعداء الله في الحرب وقيل: النحب الموت. كأنه يلزم نفسه أن يقاتل حتى يموت. (النهاية) ومن معاني النحب، والنحيب: في اللغة، أشد البكاء، وحشرجة السعال، والموت، والأجل (المحكم) والذي في (الأساس) النخب: النذر. . .، ومن المجاز: قضى نحبه: مات، كأن الموت نذر في عنقه." وربما كان أصل النحيب حشرجة السعال، فكان منه حشرجة الموت، والنحيب على الموتى، ومن حتمية قضاء الأجل، جاء استعمال النحب في النذر. والله أعلم. 68 - {مِرَّةٍ} قال: يا ابن عباس، أخبرني عن قول الله - عز وجل -: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} قال ابن عباس: ذو شدة في أمر الله. وهو جبريل عيله السلام. واستشهد له بقول نابغة بني ذبيان: قج كنت أقرِيه إذا ضافنى. . . وهناً قِرَى ذي مرَّة حازم من (ك، ط) بزيادة: وهو جبريل عليه السلام، عما في (تق) = الكلمة من آية النجم 6: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} وحيدة الصيغة في القرآن، وأما مادتها فأكثر ما جاء منها: مِرَّةٍ، في ثلاثة عشر موضعاً، ومثناها في خمسة مواضع، وجمعها في موضع واحد. وجاء الفعل من المرور إحدى عشرة مرة، واسم فاعل "مستمر" مرتين؛ وأفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 التفضيل من المرارة، في آية القمر: {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} وتفسير ذي مِرَّة، بذى شدة في أمر الله، هو من قبيل الشرح والتقريب، ودلالة الشدة جاءت من استعمال العربية لإمرار الحبل، بمعنى كرر فتله فأحكمه. ونُقل إلى الإحكام المجازي في المِرَّة.. كما نُقل الصبر من النبات المر، إلى احتمال المكاره والصبر عليها. * * * 69 - {الْمُعْصِرَاتِ} وسأل نافع عن قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ} فقال: السحاب يعصر بعضها بعضاً فيخرج الماء من بين السحابتين. واستشهد بقول نابغة بني ذبيان: تَجُرُّ بها الأرواحُ من بينِ شمألٍ. . . وبين صَبَاه بِالمعصراتِ الدوَامِس (ص، ط، تق) = الكلمة من آية النبأ 14: {وَأَنْزَلْنَا مِن َ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} وحيدة الصيغة في القرآن. وجاء من مادتها: العَصْر، بمعنى الزمن، في آية العصر. والعَصْر بمعناه اللغوي في عصر الخمر، بآية يوسف 36: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} ومعها آية يوسف 49: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} والإعصار في آية البقرة 266: {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 تفسير المعصرات بالسحاب يعصر بعضها بعضاً فيخرج الماء من بين السحابتين، هو من قيبل الشرح، ولا نرى ضرورة لقيد المعصرات بسحابتين بل تكفي دلالتها على ما تعتصر من مطر وما تجود به من عصارة السحب تُخرج حباً ونباتاً وجنات ألفافاً. و"الراغب" لم يحدد سحابتين، بل فسر المعصرات بالسحائب التي تعتصر بالمطر أي تغص، وقيل: التي تأتي بالإعصار (المفردات) . والعصر في كل صيغة واستعماله، يرجع إلى أصل دلالته على الضغط لاستخلاص العصارة. استعملته العربية حسياً في عصر العنب ونحوه. ومنه {أَعْصِرُ خَمْرًا} على المجاز، والمِعصَرة: آلة العصر، والمَعصَرة: مكانه. والعواصر: ثلاثة أحجار كانوا يعصرون بها العنب. وسميت السحب الممطرة معصرات، لما تعتصر من المطر. وأعصِرَ القوم: أُمطِروا. كما أطلق الإعطار على الريح الشدية تسوق السحب. وتسمية الدهر عصراً، ملحوظ فيه أنه يستخلص عصارة الإنسان بالضغط والابتلاء والمعاناة. وأخذه "الراغب" من نفاية ما يُعصَر. وليس الوجه. وما نقله في المعصرات من قولٍ بأنها تأتي بالإعصار، لا يؤنس إليه سياق الآية في المنَّ بإخراج الحب والنبات وجنات ألفافاً بالمعصرات، مع الاستعمال القرآني لإعصار فيه نار أصاب جنةً من نخيل وأعنبا فاحترقت. كما لا يعين عليه مألوف استعمال العربية للإعصار: الريح العاتية، وللمعصرات: السحب الممطرة. د * * * 70 - {عَضُدَ} وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ} فقال ابن عباس: العضد، المعين الناصر، واستشهد بقول نابغة بني ذبيان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 في ذِمَّةٍ من أبى قابوسَ منقذةٍ. . . للخائفين ومَن ليست له عَضُدُ (تق، ك، ط) = الكلمة من آية القصص 35 خطاباً لموسى عليه السلام: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} ومعها آية الكهف 51، في إبليس وذريته: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} وهما كل ما في القرآن من المادة. وتفسير العضد بالمعين والناصر قريب. وذكر "الراغب" استعارة العضد للمعين، كاليد، وأصله ما بين المرفق إلى الكتف (المفردات) وذلك في الاستعمال المجازي للعضد، في المؤازرة، والتقوية، كأنه أعانه بعضده. كما استعمل الظهير في نحو ذلك، كناية عن التقوية والمؤازرة كأنه أسنده بظهره، والساعد كأنه قواه بساعده. قال القرطبي في تفسير الآية: أي نقويك به وهذا تمثيل، لأن قوة لايد بالعضد، قال طرفه: بَنِى لُبِيْنى لستُمُ بِيَدٍ. . . إلاَّ يَداً ليستْ لها عَضُدَ ويقال في دعاء الخير: شد الله عضدك. وفي ضِده: فتَّ في عضدك. (الجامع 13 / 287) ومن هذا الاستعمال المجازي، جاء التعاضد والتظاهر والمساعدة، في معنى المساندة والتقوية. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 71 - {فِي الْغَابِرِينَ} قال: فأخبرني عن قول الله - عز وجل -: {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} فقال: عجوز من الباقين. واستشهد بقول عبيد بن الأبرص: ذهبوا وخَلَّفنى المخَلَّفُ فيهمُ. . . فكأنني في الغابرين غَرِيبُ (ك، ط، تق) = الكلمة من آيتى الشعراء 171، والصافات 135 في امرأة لوط عليه السلام: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} ومعها {مِنَ الْغَابِرِينَ} في السياق نفسه، من آيات: الأعراف 83، الحجر 60، النمل 57، العنكبوت 32، 33 ويما عدا هذه الصيغة، لم يأت من المادة في القرآن إلا {} في آية عبس: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} وتفسير الغابرين بالباقين، قاله الفراء أيضاً في معنى آية الشعراء وأنشد في معناه بيت الحَارث بن حلزة: لا تكسيعِ الشُولَ بأغْبارِها. . . إنك لا تدري مَنِ الناتجُ (2 / 282) لكن الأصمعي قال في (الأضداد) : الغابر الباقي، والغابر الماضي (58 / 97) قال أبة حاتم السجتاني في أضداده: ومن الأضداد، الغابر: الباقي والماضي، والأكثر على الباقي. ومن شواهده قول العجاج: فما وَنَى محمد مذ أنْ غَفَرْ. . . لهُ الإلهُ ما مضى وما غَبَرْ (153 / 269) ويبدو الفرق بين "الغابرين" والباقين، في أن القرآن لم يستعمل "الغابرين" إلا في سياق هذا الحديث عن امرأة لوط وقومه الفاسقين. وأما البقاء فيأتي في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 القرآن نقيض النفاد والفناء، فيما يبقى عند الله من عمل صالح، وما عند الله خير وأبقى (القصص 60 والشورى 36) ورَزق ربك خيرٌ وأبقى (طه 131) وفيما يخلد. {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} الرحمن 27 {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} الأعلى 17 {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} النحل 96 {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} طه 71 ومعها: 131 {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا} الكهف 46 ومعها مريم 76 وهو 86. {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} الصافات 77 {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} الزخرف 28 {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى} البقرة 248 ولا يقرب أن نفهمها بمعنى: غبر، فهل يحتمل (في الغابرين) أن يكون بمعنى: في الباقين، أو بمعنى في الماضين الدابرين؟ في تفسير القرطبي لآية (الشعراء 171) عن قتادة: غبرتْ في عذاب الله - عز وجل -، أي بقيت. وأبو عيبدة يذهب إلى أن المعنى: من الباقين في الهرم، أي بقيت حتى هرمت. والعربية تستعمل الغابر فيمن بقى وطال عمره، مأخوذاً من الغبرة البقية في الضرع. والغبار ما يبقى من النقع المثار. ويذهب "الرغب" في المفردات، إلى أن الباقي قيل له غابر "تصوراً بتخلف الغبار عن الذي يعدو" وأراه من الغبرة البقية، أوْلى. * * * 72 - {لِكَيْلَا تَأْسَوْا} قال: فأخبرني عن قول الله - عز وجل -: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} قال: يقول، لا تحزنوا. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 قال: نعم، أما سمعت بقول لبيد بن ربيعة حيث يقول: قليل الأسىَ فيما أتى الدهرُ دونه. . . كريم النَثَا حلو الشمائل معجبِ (ظ، في الروايتين، طب) والمسألة في (تق، ك، ط) في: (فلاتأس) قال: لا تحزن، وشاهده بيت امرئ القيس وقوفاً بها صحبى على َّ مَطِيَّهم. . . يقولون لا تهلكْ أسىً وتجملِ = الكلمتان من آية الحديد: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} - 23 وآيتى المائدة: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} 26 {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} - 68 ومعهما ىية الأعراف {فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} - 93 في معنى آية الحديد قال الفراء: أي لا تحزنوا (3 / 136) وفي آية المائدة قال أبو عبيدة في المجاز: أي لا تأسَ ولا تجزع. والأسى الحزن. يقال أسىَ يأسىَ، وأنشد للعجاج: وانحلبت عيناه من فرط الأسى * وللشاعر - طرفه * يقولون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 لا تهلك أسىً وتجلِد * (1 / 171) وبالحزن فسر الطبري آية الحديد عن ابن عباس. وعنه أيضاً قال: الصبر عند المصيبة والشكر عند النعمة (27 / 135) ونحوه ما في الكشاف، وجامع القرطبي وأنشدٍ: * يقولون لا تهلك أسى وتجمل * (17 / 258) وفسر "الراغب" الأسى بالحزن، وقال: وحقيقته اتباع الفائت بالغم. وأصله من الواو لقولهم: رجل أسَوان أي حزين. وتفسير الأسى بالحزن قريب، وفيه مع هذا القرب، أن الأسى يكون على ما فات، والحزن قد يكون على حاضر أو آت: {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} صدق الله العظيم * * * 73 - {يَصْدِفُونَ} قال: يا ابن عباس، أخبرني عن قول الله - عز وجل -: {يَصْدِفُونَ} قال: يعرضون عن الحق، نَزَلت في قريش. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب: عجبتُ لحِلمِ اللهِ عنا وقد بدا. . . له صَدْفُنا عن كلَّ حقًّ مُنَزَّلِ من (ك، ط) مع (تق) = الكلمة من آيتى الأنعام: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} 46 {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِين َ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} - 157 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 ومعها من المادة الصَّدفانِ في آية الكهف 96، في ذي القرنين: {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا} وتفسير "يصدفون" بـ "يعرضون عن الحق" هو من قبيل الشرح للكلمة في سياقها، وإن كان الصدف لمطلق الإعراض، وفيه ملحظ شدة وصلابة في الصَدَّ والنفور، يأتيه من أصل استعماله اللغوي في الصدف: صلابة في خف البعير، يميل به في المشي. والصَّدَفُ بفتحتين جانب الجبل المائل. وغلاف اللؤلؤ يصد عنه الأذى بصلابته. ونقُل إلى الصَدَف مجازاً، في الصدَّّ وشدة النفور. * * * 74 - {تُبْسَلَ} وسأل نافع عن قوله تعالى {أَنْ تُبْسَلَ} فقال ابن عباس: تُحَبس. واستشهد بقول زهير: وفارقَتْكَ بِرَهنٍ لافكاكَ له. . . يومَ الوداع فقلبي مُبسَلٌ غَلِقَا (تق) زاد في (ك، ط) : تحبس بما كسبت، في النار = الكلمة من آية الأنعام 70، خطاباً للنبي عليه الصلاة والسلام: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن ْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} وليس في القرآن من المادة، غير الفعلين في هذه الآية، مبنيين للمجهول. ومعنى {أَنْ تُبْسَلَ} عند الفراء: أي ترتهن قال: والعرب تقول: هذا عليك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 بسل، أي حرام (1 / 339) وهو في الأضداد لابن الأنباري يقال: للحلال والحرام (30 / 63) وفي مجاز أبي عبيدة: {أَنْ تُبْسَلَ} أي ترتهن وتسلم. . . [الآية] : {أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا} (1 / 194) . الأقرب في البسل أن يكون، من حبس ارتهان حرموا به الثواب كما قال الراغب، ومنه قولهم للمحروم والمرتهن مبسل. * * * 75 - {أَفَلَتْ} وسأل ابن الأزرق عن قوله تعالى: {فَلَمَّا أَفَلَتْ} فقال ابن عباس: زالت عن كبد السماء. وضاهده قول كعب بن مالك: فتغيَّر القمرُ المنير لفقدِه. . . والشمسُ قد كُسفَتْ وكادت نأفُلُ = الكلمة من آية الأنعام 78، في إبراهيم عليه السلام: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} وفيما عدا هذه الآيات، لم ترد المادة في القرآن الكريم. وتفسير أفول الشمس بزوالها عن كبد السماء، هو من قبيل الشرح على وجه التقريب، فلا يفوتنا معه لمحُ ما في الأفول من دلالة الغروب. والقرآن لم يستعمله إلا في النيرات: الكوكب والقمر والشمس، إذ يغيب ضوؤها في مغيب الغروب. وفي مجاز القرآن لآبي عبيدة: {فَلَمَّا أَفَلَ} اي غاب (1 / 199) وفي الغريبين للهروى: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} أي التي تغيب، يقال أفلتى النجوم إذا غابت (1 / 59) ولعله منقول من الآفل: المرضع ذهب لبنها. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 76 - {الصَّرِيمِ} قال: فأخبرني عن قول الله - عز وجل -: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} قال: كالليل المظلم. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم أما سمعت بقول النابغة وهو يقول: لا تزجزا مكفهًّرّاً لاكفاء له. . . كالليل يَخْلِطُ أصراماً بأصرام من (ظ، في الروايتين، طب) وفي (تق ك، ط) قال ابن عباس: كالذاهب. واستشهد له بقول الشاعر: غدوت عليه غدوةٌ فوجدته. . . قعوداً لديه بالصريم عواذلُهْ = الكلمة من آية القلم 20: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} تأويل الصريم بالذاهب قد يراد به المصروم. وتأويله في رواية (ظ، طب) مثل ما قاله الفراء في معنى الآية: كاليل الأسود. وقال ابن قتيبة في تأويل المشكل: أي سوداء كالليل لأن الليل ينصرم عن النهار، والنهار ينصرم عن الليل (باب المقلوب) ولعل هذا وجهُ عَدَّه من الأضداد: يقال لليل وللنهار: صريم، لأن كل واحد منهما ينصرم من صاحبه. . . فأصبحت كالصريم. . . معناه كالليل الأسود قال زهير: غدوت عليه * البيت (الأضداد لابن الأنباري) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 وكذلك ذكره الأصمعي في (الأضداد) وقال: ومن الصريم الليل قوله تعالى: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} أي كالليل. وفي (الأضداد لأبي حاتم السجستاني) : والصريم الليل إذا تصرم من النهار، والنهار إذا تصرم من الليل، والصريم أيضاً المصروم، وعن أبي عمرو الشيباني، وأنشد بيت زهير: يريد الليل. وأسند الطبري عن ابن عباس، قال: الليل المظلم. وعنه أيضاً: كالرماد الأسود وعن سفيان: كالزرع المحصود، فالصريم بمعنى المصروم. والراغب فسر الصرْم بالقطيعة. وقال في الآية: قيل: أصبحت كالأشجار الصريمة، أي المصروم حملها. وقيل كالليل، أي صارت سوداء لاحتراقها (المفردات) وكذلك فير ابن الأثير والصرم بالجدع والقطع (النهاية) . ونرى دلالة القطع في الصرم. وفي الهجر والقطيعة، وفي الصرم: البت، والصارم: القاطع، ومعنى الآية يقوى بالقطع، دون الذهاب، من حيث لا يطمئن السياق على تأويل: إذا أقسموا ليذهبن بها. . . فأصبحت كالذاهب. . . والله أعلم. * * * 77 - {تَفْتَأُ} وسأل نافع عن قوله تعالى: {تَفْتَأُ} فقال ابن عباس: لا تزال. وشاهده قول الشاعر: لعمرك ما تفتأ نذكر خالداً. . . وقد غاله ما غال تُبَّعَ من قَبْلُ (تق، ك، ط) = الكلمة من آية يوسف 85 في حديث إخوته لأبيه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} وحيدة في القرآن، صيغة ومادة. وتأتي "حرضا" في المسألة (127) وتفسيرها بمعنى: لا تزال، قاله الفراء كذلك في معاني القرآن (2 / 54) والبخاري في كتاب التفسير (سورة يوسف) وحكاه ابن حجر عن أبي عبيدة. وروى الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد؛ تفتأ، أي لا تفتر عن حبه، وقيل معنى تفتأ تزال، فحذف حرف التفي (فتح الباري) ، (8 / 251) وقال "الراغب": "خي من أخوات "مازال" تلتقي معها في كزنها مع النفي من أفعال الاستمرار". والظاهر أن جمهرة النحاة والمفسرين حملوها على تقدير حرف لا محذوف. صرح بذلك نصر الهوريني في حاشيته على القاموس: قوله: "أي ما تفتأ، كذا في سائر النسخ، والصواب: لا تفتأ، كما قدره جميع النحاة والمفسرين" ولا نقف هنا عند الخلاف في الحرف المحذوف المقدر: ما تفتأ، أو لا تفتأ، وإنما الذي يعنينا هو تقدير حرف نفي محذوف. وفي "ير الخوف" بالمبحث من هذا الكتاب، سبق النظر في هذا الحرف الذي قدروه محذوفاً من آية يوسف. حملاً لفعل "تفتأ": على: لا تزال. وهدى التدبر إلى أن "فتئ" تفيد الاستمرار مستغنية عن حرف النفي، فنقول: فتئ يفعل كذا، أي استمر يفعله. وليس الأمر كذلك مع "زال": تفيد الاستمرار بحرف النفي، فإذا زال عنها النفي كانت تامة، وأفادت معنى الزوال والذهاب. كما في آيات: فاطر 41 وإبراهيم 41، 46 وكقلك برح وانفك، يفيدان الاستمرار مع النفي، فيلحقان بـ: لا زال، فإذا زال عنهما النفي، فهما فعلان تامان على أصل معناهما في البراح والانفكاك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وتظل آية {تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} على وجهها في البيان القرآني مفيدة معنى الاستمرار مستغنية عن تقدير حرف نفي محذوف. والله أعلم. * * * 78 - {إِمْلَاقٍ} وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} فقال ابن عباس: مخافة الفقر. واستشهد بقول الشاعر: وإني على الإملاف ياقوم ماجدٌ. . . أُعِدُّ لأضيافي الشواءَ المصَهبَّا (تق، ك، ظ) = الكلمة من آية الإسراء 31: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَة َ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} ومعها آية الأنعام 151: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} وليس في القرآن غيرهما، من المادة. فسرها البخاري في آية الإسراء بالإنفاق، وقال: يقال: أنفق الرجل أملق، ونفق الشيء ذهب (ك التفسير) قال ابن حجر: كذا ذكره هنا، والذي قاله أبو عبيدة في {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} أي من ذهاب مال. . . وفي قوله تعالى {خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} أي فقر (فتح الباري) 8 / 275. وتفسير الإملاق بالفقر، على ما يبدو من قربه، فيه أن القرآن لم يستعمل الإملاق إلا في هذا الموضع بخاصة، على حين استعمل الفقر والفقير والفقراء اثنتى عشرة مرة، لا يحتمل أن يقوم سياقها بالإملاق، في مثل الصدقات "للفقراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 والمساكين. . . " التوبة 61، البقرة 271، 273 - والفئ {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} الحشر 8. {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} - النور 32. وكذلك في آيات: {بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} - الحج 28. {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} - فاطر 15 {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} محمد 38. والعربية تستعمل الملق في غسل الثوب، ورضاع الصغير أمَّه. والمالَقُ ما يملس به الحارثُ الأرضَ المثارة. ومن التلميس جاء الملق بمعنى التلطف، وان تعطي باللسان ما ليس في القلب. فهل يكون الإملاق بمعنى الإنفاق، يمتص المال كما يملق الصبي أمه؟ "ابن الأثير" يذهب إلى أن الإملاق إنفاقٌ ينفذ به المال، قال: وأصل الإملاق الإنفاق، يقال أملف ما معه إملاقاً، وملقه إذا أخرجه من يده ولم يحبسه، والفقر تابع لذلك، فاستعملوا لفظ السبب في موضع المسبب حتى صار به أشهر. (النهاية) وعلى هذا، يكون وجه التقريب في تفسير الإملاق بالفقر، أنه إنفاق يئول إلى فقر. وقد ألمح معه من بعيد، احتمال أن يكون البيان القرآني في إيثاره لفظ الإملاق في نهي الآباء عن قتل أولادهم خشية إملاق، قد اتجه إلى لمس عاطفة الأبوة فيهم، بالكلمة التي ألفوا في رضاع الولد الصغير أمه. والله أعلم. * * * 79 - {حَدَائِقَ} وسأل نافع عن قوله تعالى: {حَدَائِقَ} فقال ابن عباس: البساتين. واستشهد بقول الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 بلاد سقاها اللهُ أمَّا سهولُها. . . فقَضْبٌ ودُرُّ مُغْدقٌ وحدائقُ (تق) (ك، ط) والسؤال فيهما في قوله تعالى: {حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا} = الكلمة من آيات: النبأ 32: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} عبس 30: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا} النمل 60: {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} وليس في القرآن من المادة، غير هذه الكلمات الثلاث. واضح أن تفسير الحدائق بالبساتين، هو من التفسير بمعرَّبٍ من لغة أخرى. فالبستان فارسي معرب، ولم يستعمله القرآن. والعربية تستعمل الحديقة، فيما يُحدِق به بناء، من شجر أو نخل، ثم شاع إطلاقه على القطعة من النخل توسعاً بملحظٍ من إحداقه بها. وذهب "الراغب" في المفردات، إلى أنها سمُيت حديقة تشبيهاً بحديقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها. * * * 80 - {مُقِيتًا} قال: فأخبرني عن قول الله - عز وجل -: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} قال: قادرا. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت بقول "أحيحة بن الجلاح" حيث يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 وَذِى ضِغنٍ النفس عنه. . . وكنت على مَسَاءتِه مقيتا (ظ، في الروايتين، طب) وفي (وق) : قال قادرا. وفي (تق، ك، ط) قادرا مقتدرا = الكلمة من آية النساء 85: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} وحيدة الصيغة في القرآن الكريم، ومعها من مادتها "أقوات" جمع قوت، في آية فصلت: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} - 10 واللغويون والمفسؤون على أن "مقتا" من قوت، وربطها الفراء في معنى الآية بالقوت، قال: المقيت المقدر والمقتدر، كالذي يعطي كل رجل قوته (1 / 80) وقال أبو ععبيدة في الآية: أي حفيظا محيطا، قال اليهودي في غير هذا الكعنى: ليت شعري وأَشعرنَّ إذا ما. . . قرَّبوها مطويةً ودُعِيتُ ألِىَ الفضلُ أم عليّ إذا حوسـ. . . ـبتُ إني على الحسابِ مُقيت ونقل الطبري من اختلاف أهل التأويل فيه: حفيظاً، عن ابن عباس، شهيداً عن مجاهد، وفي رواية القدير، وذلك فيما ذكروا بلغة قريش وينشد للزبير بن عبد المطلب: * وذي ضغن البيت * قال: وأما المقيت في بيت اليهودي، وأنشد بيتي السموءل، فإن معناه: فإني على الحساب موقوف، وهو من غير هذا المعنى (5 / 118) . وذكر أبو حيان في البحر الأقوال في تأويل الكلمة بآية النساء، وقال: "وهذه أقوال متقاربة" لا ستلزام بعضها بعض و"لأن القوت يمسك النفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 ويحفظها" كما قال الزمخشري والراغب. وابن فارس في (المقاييس: قوت) . ولعل تأويل مقيت بمقتدر، أقرب إلى سياق الآية. وإن لفت إلى فرق بين الكلمتين، أن "مقيتا" وحيدة في القرآن، على حين كثر مجئ قادر: نكرة ومعرفة، مفرداً وجمعاً (14 مرة) وقدير: اسماً لله تعالى وصفة (45 مرة) ومقتدر: مفرداً أربع مرات ومرة بصيغة الجمع {فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} . وهذا الفرق الواضح في الاستعمال، يبُقى لكلمة مقيت دلالة اتصال بمادتها: القوت، منقولة إلى الاقتدار عن طرق هذا المعنى الخاص، كما في معاني الفراء. قال ابن فارس في مادة (قوت) : القاف والواو والتاء أصل صحيح يدل على إمساك وحفظ وقدرة على الشيء من ذلك قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} . وأنشد شاهد المسألة: * وكنت على مساءته مقيتا * غير منسوب. (مقاييس اللغة) * * * 81 - {لَا يَئُودُهُ} وسأل نافع عن قوله تعالى: {وَلَا يَئُودُهُ} فقال ابن عباس: لا يثقله، واستشهد بقول الشاعر: يعطى المئينَ ولا يؤوده حملها. . . محض الضرائب ماجد الأخلاق (تق، ك، ط) = الكلمة من آية الكرسي: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} البقرة 255. وحيدة في القرآن، صيغة ومادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 فسرها الطبري كذلك بـ لا يثقله. ومعه مما روى أهل التأويل: لا يكثر عليه. لا يعز عليه. وقال القرطبي: لا يثقله، عن ابن عباس وغيره. آده الحمل أثقله. وفي (س) من المجاز: آدنى هذا الأمر، بلغ مني المجهود والمشقة. ولا يفوتنا مع ذلك أن القرآن استعمل الثقل نحو أربعين مرة، إما على أصل معناه في الوزن والموازين والمثقال، وإما في الأثقال حسية ومعنوية. ولعل الفرق بين الثقل والأود. أن الوزن أصل في معنى الثقل، وأما الأود ففيه معنى العوج والمشقة، فكأن الإثقال فيه جاء من جهد المشقة، لاحتماله أو لإقامة اعوجاجه. والله أعلم. * * * 82 - {سَرِيًّا} قال: فأخبرني عن قول الله - عز وجل -: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} ما السرى؟ قال: هو النهر الصغير. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت بقول لبيد بن ربيعة؟ وهو يقول: فتوسَّطَا عرضَ السرِىَّ وصَدَّعا. . . مسجورة متجاوراً أقلامها (ظ) في الروايتين. وزاد في الأولى بالإسناد عن ابن عباس، قال: أما سمعت قول القائل: سَلْمٌ تَرى الدالِىَ منه أزْوَرّا. . . إذا يعِجُّ في السرىَّ هرهرا وفي (تق) : السرى النهر الصغير. زاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 في (ك، ط) : وهو الجدول أيضاً وشاهده فيها: سهلُ الخليقة ماجد ذو نائل. . . مثل السرىَّ تمده الأنهار وأورده ابن الأنباري في غير المسائل فأسند عن الحسن - البصري، أبي سعيد - انه تلا الآية وقال: كان والله سريا. يعني عيسى عليه السلام فقال له خالد بن صفوان: يا أبا سعيد، إن العرب تسمى الجدول سريا. قال: صدقت (وق: فقرة 114) . = الكلمة من آية مريم 24: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} وحيدة الصيغة في القرآن. ومعها من مادتها جاء فِعل السُّرى مضارعاً في آية الفجر {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} وفعل الإسراء ماضياً في آية الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} وجاء فعل الأمر منه خمس مرات، كلها من الأمر الإلهي للنبيَّ لوط في آيتى هود 81 والحجر 65، وموسى في آيات طه 77 والشعراء 53 والدخان 23: "ان اسر باهلك": {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} تفسير السرى بالنهر الصغير، والجدول هو المعروف من كلام العرب (معاني القرآن للفراء، في الآية، والوقف والابتداء: 114، وشرح التبريزي للشاهد من معلقة لبيد، ومعاجم اللغة) لكنه في آية مريم عليها السلام، أحد الأقوال في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 تأويلها. ومعه مما روى الطبري من اختلاف أهل التأويل: أنه نهر عيسى، عن ابن عباس. وعنه أيضاً: الذي كان تحت مريم حين ولدته - عليهما السلام. وهو نهر بالسريانية عن مجاهد والضحاك، والجدول الصغير بالقبطية عن سعيد بن جبير. وقيل: هو عيسى نفسه، عن الحسن وغيره. قالوا: لو كان النهر لكان إمما يكون إلى جنبها، لا: من تحتها. والقولان في (مفردات الراغب، وجامع القرطبي والبحر لأبي حيان) ولعلهما من اختلاف القراء الأئمة في قراءة الآية. والشواهد من الشعر، صريحة في معنى النهر أو الجدول. وكون النهر من تحتها، فيه ملحظ الخفاء في استعمال القرآن. والعربية، للسُّرى والإسراء. وقد يؤنس إلى دلالة السرى، بمعنى النهر الصغير والجدول، أن دُلَّت عليه مريمُ عليها السلام، من حيث لم تتوقع، مع سياق الآيات في الأكل من رطب النخلة، والشرب. قال تعالى: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} ولعل ملحظ الخفاء، هو الفرق الدقيق بين سرى، لم تأت غير مرة واحدة، والنهر والأنهار، وقد جاءا في القرآن الكريم خمس مرة. والله أعلم. * * * 83 - {دِهَاقًا} قال: فأخبرني عن قول الله - عز وجل -: {وَكَأْسًا دِهَاقًا} قال ابن عباس: ممتلئة. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت بقول خِداش بن زهير: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 أتانا عامرّ يرجو قِرَانا. . . فأتْرعنا له كأساًَ دِهاقاً (ظ، في الروايتين، وفي (تق) : ملاء وفي (ك، ط) : الكأس الخمر، والدهاق الملآن = الكلمة من آية النبأ 34: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا} وحيدة في القرآن. صيغة ومادة. وتفسير دهاق بممتلئة، كما عند الجمهرة من اللغويين والمفسرين، أو مفعمة كما قال "الراغب" في (المفردات) مترعة كما في (الكشاف) على ما يبدو من قربه، يُلحظ معه أن البيان القرآني خصَّ {كَأْسًا دِهَاقًا} بذلك المقام في نعيم المتقين بدار الخلد، على كثرة استعماله لمادة ملأ: فعلاً سبع مرات، ومصدراً مرة، واسم فاعل للجمع مرتين. ويغلب أن تأتي على اختلاف صيغها في سياق خاصّ، كآية الكهف 18 {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} والوعيد كآية آل عمران 91: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أو النذير بعذاب المجرمين في جهنم، وما يملئون به بطونهم من طلع شجرة الزقوم، بصريح آيات: الأعراف 17: خطاباً لإبليس: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} ومعها آيات: هود 119، السجدة 13، ص 85 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 ق 30: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} الواقعة 53: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} ومعها آية الصافات 66 ثم إن العربية تتصرف في مادة (ملأ) على سعة، خلافا للدهق الذي قلما يستعمل إلا في كأس دهاق، وأدهقت الكأس، والحوض. فلعل بين المادتين فرق عموم وخصوص. والله أعلم. * * * 84 - {كَنُودٌ} قال: فأخبرني عن قول الله - عز وجل -: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} ما الكنود؟ قال: الكفور. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت بقول أبي زُبَيْد الطائي: إنْ تَفُتْنى [فلم] أطِبْ عنك نفساً. . . غيرَ أني أمَتَّى بدَهرٍ كُنَود (ظ) في الروايتين. وفي (تق) كنود للنعم، وهو الذي يأكل وحده ويمنع لافده. زاد في (ك، ط) : ويجيع عبده. وشاهده في الثلاثة، قول الشاعر: شكرتُ له يومَ العكاظِ نوالهَ. . . ولم أكُ للمعروفِ ثَمَّ كَنُودا * * * = الكلمة من آية العاديات 6: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} نقل فيها الفراء في (معاني القرآن) : قال الكلبي، وزعم أنها لغة في كندة وحضرموت: لكنود: لكفور بالنعمة. وقال الحسن: لوام لربه المسيئات وينسى النعم (3 / 285) وتأويلها في المسألة، رواه الطبري، والقرطبي وأبو حيان، عن ابن عباس وغيره، ورووا فيه حديث أبي أمامة الباهلي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: (الكنود هو الذي يأكل وحده ويمنع رفده ويضرب عبده) وعن ابن عباس مرفوعاً بلفظ: (من نزل وحده ومنع رفده وجَلَد عبده) - أخرجهما الحكيم الترمذي في نوادر الأصول. وعن ابن عباس أيضاً أنه قال: الكنود بلسان كندة وحضرموت: العاصي، وبلسان ربيعة ومضر: الكفور: وبلسان كناهنة: " البخيل السيء الملكة (الطبري، والزمخشري، والقرطبي، وأبو حيان) والمعاني متقاربة، وفي (مفردات الراغب) أنه الكفران بنعمة الله. والأرجح أنها ترجع إلى الأرض الكنود: تعصي على الزرع فلا تنبت، فهي عاصية وبخيلة، ثم كثر استعماله في الكافر بالنعمة، لا يؤدى حقها، وذلك أسوأ البخل. وقريب منه: الجحود بمعنى نكران الجميل والمعروف. وأقرب معانيها إلى آية العاديات، أنه الجحود والكفران بنعمته تعالى، والله أعلم. * * * 85 - {يُنْغِضُونَ} وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ} فقال ابن عباس: يحركون رءوسهم استهزاءً. واستشهد بقول الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 أتُنغِضُ لي يَوم الفخارِ وقد ترى. . . خيولاً عليها كالأسود ضواريا (تق) (ك، ط) وفيهما: استهزاءً "برسول الله - صلى الله عليه وسلم - " = الكلمة من آية الإسراء 51: خطاباً للنبي عليه الصلاة والسلام في الظالمين من قومه: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} وحيدة في القرآن صيغة ومادة. وتأويلها في المسألة بتحريك الرأس استهزاء. رواه الطبري بإسناده عن ابن عباس وقتادة. وتأويلها عنده: فسيهزون لك رءوسهم برفع وخفض، وكذلك المنغض في كلام العرب إنما هو حركة ارتفاع ثم انخفاض، أو انخفاض ثم ارتفاع ولذلك سمي الظليم نغضا لأنه إذا عجل المشي ارتفع وانخفض وحرك رأسه. وهو قريب من قول الفراء في معاني القرآن. فالإنغاض بمعنى التحريك، من التقريب الذي لا يفوتنا معه ما لم يفت الفراء والطبري والراغب من ملحظ اضطراب الحركة وارتجافها في النغض والإنغاض، فليس كل تحرُّكٍ إنغاضاً. . . بل الاهتزاز والاضطراب أصل في دلالة النغص (مقاييس اللغة) . ويقوى المعنى إذا فهمنا الآية بهذا الملحظ من الارتجاف والاضطراب حين بصك سمعهم البرهانُ المفحم: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وتخونهم الطمأنينة، فينم عنها إنغاضُ رءوسهم، وإن لجوا في العناد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} صدق الله العظيم 86 - {يُهْرَعُونَ} وسأل نافع عن قوله تعالى: {يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} فقال ابن عباس: يقبلون إليه بالغضب. وشاهده قول الشاعر: أتَوْنا يُهرعُون وهُمْ أسَارَى. . . نَسوقُهمُ على رغمِ الأنوف (تق، ك، ط) = الكلمة من آية هود 78 {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} ومعها آية الصافات 70، في الظالمين الضالين: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} وليس في القرآن غيرهما من المادة. ولعل قيد الغضب في التفسير المروي عن ابن عباس، احتراز من قوله: يقبلون إليه. وفي الإقبال ملحظ قبول. وكذلك قيده اللغويون بالرعدة أو الضعف والخوف، وإن لحظ فيه معنى المشي في سرعة واضطراب. الهراغ كغراب، مشىٌ في اضطراب، وسرعة وأقبل يهرع بالضم. وأُهَرع فهو مُهرَع: قال ابن السكيت في باب الجبن وضعف القلب: "وجاء قومهم يهرعون إليه" إهراعاً وهي الرعدة إذا ذهبت عقولهم (تهذيب الألفاظ 181) . نقل القرطبي في تفسير الآية: قال الكسائي والفراء وغيرهما من أهل اللغة: لا يكون إهراع إلا إسراعاً مع رعدة. وأنشد بيت مهلهل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 والهروع: المجنون يصرع، والمصروع من الجهد (س، ق) وأخذه "الراغب" من السوق بعنف وتخويف، قال: هرَع وأهرَع، ساقه سوقا بعنف وتخويف، قال تعالى: يهرعون إليه - المفردات. وإن كان سياق آية هود في قوم لوط، يفهم أنهم ما جاءوه يهرعون إليه غاضبين أو خائفين، وإنما يهرعون إليه في جنون الشهوة. لفعل السيئات مع ضيفه. كما أن سياق الصافات، أقرب إلى أن يعطي أنهم على آثار آبائهم "يهرعون" تقليداً أهوج ومتابعة حمقاء طائشة. وفي الكلمة حس السرعة مع الاضطراب والعنف وطيش الاندفاع، وبناؤه للمجهول، في آيتى هود والصافات، يعطيه دلالة هذا الاندفاع غير الإرادي كأنهم يساقون بعنف مغلوبين على أمرهم بشهوة فسقهم، أو بتقليدٍ أعمى ومسايرة طائشة على آثار آباء لهم ضالين. وكذلك الشاهد من قول الشاعر: * أتونا يُرعون وهم أسارى * لا يشهد للإقبال بالغضب، وإنما هو اضطراب أسارى مغلوبين على أمرهم يساقون إلى الأسر على رغم الأنوف. * * * 87 - {الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} وسأل نافع عن قوله تعالى: {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} فقال ابن عباس: بئس اللعنة. بعد اللعة. واستشهد بقول نابغة بني ذبيان: لا تقذِفَنَّى بِركُنٍ لاكَفاءَ له. . . وإن تأثَّفَك الأعداءُ بالرفدِ (وق، ك، ط) وفي (تق) : بئس اللعنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 = الكلمتان من آية هود 99، في فرعون وملئه: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} وحيدتان في القرآن، صيغة ومادة. وتأويلها في المسألة، باللعنة بعد اللعنة، مستفاد من التصريح بلعنةٍ أُتبعوها في هذه، ويَومَ القيامة. والرفد في العربية الصلة والعطاء، يقال: رَفَده، وصله وأعطاه، والرفودُ الناقة لا ينقطع لبنها، والرافدان: نهرا دجلة والفرات. والترافد: التعاون، ومنه الرفادة، كانت لقريش في الجاهلية يترافدون فيها لطعام الحاج في الموسم. وملحظ التتابع يفهم في آية هود من لعنة في هذه ويوم القيامة، مع سياق الآية قبلها: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} * * * 88 - {تَتْبِيبٍ} وسأل ابن الأزرق عن قوله: {غَيْرَ تَتْبِيبٍ} فقال ابن عباس: تخسير. واستشهد بقول بشر بن أبي خازم: هُمُ جدَعوا الأنوف فأوْعبوها. . . وهمْ تركوا بني سعدٍ تَبابا (تق، ك، ط) = الكلمة من آية هود 101 بعد الآية في المسألة السابقة: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} . وحيدة الصيغة في القرآن، وجاء في مادتها: الفعل الثلاثي ماضياً في آية البلد المسد 1: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} وتبات في آية غافر 37: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} وهذا كل ما في القرآن من المادة. وتأويل التتبيب بالتخسير، تقريب لا يفوتنا معه أن القرآن لم يستعمله إلا في لعنة الضلال، وأما الخسر فقد يحتمل الخساريةُّ المادة، نقيض الربح، في التجارة ومثلها. ومنه في القرآن ثلاث آيات مع الوزن والكيل (المطففون 3، والرحمن 9، والشعراء 181) ومنه نقل إلى الخسر المجازي في المعنويات، وإلى المعنى الديني فيمن خسروا الدنيا والآخرة، وهو الغالب في الاستعمال القرآني. ومن معاني التَّبَّ في العربية: النقص والخسار، والهلاك. وإليه ذهب ابن الأثير في حديث أبي لهب: "تبًّا لك، ألهذا جمعتنا؟ " قال: التب الهلاك هو منصوب بفعل مضمر مرتوك الإظهار (النهاية) وأورده ابن السكيت في باب الدعاء على الإنسان بالبلاء والأمر العظيم (تهذيب الألفاظ) وتبب على القوم دعا عليهم بالتب (س) . والعربية قلما تستعمل التب إلا في الهلاك، والتبوبُ، كالتنور: المهلكة، وما انطوت عليه الأضلاع من ضغن أو هم. وتقول: تبًّا له أي سُحقاً وهلاكا. ولا أعرف أنها استعملت التَبَّ في الخسارة المادية أو التعامل التجاري. وهذا الملحظ، في الفرق بين الخسر والتب، يجلوه البيان القرآني في استعماله للكلمتين يظن أنهما تترادفان فتفسر إحداهما بالأخرى. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 89 - {هَيْتَ لَكَ} قال: أخبرني عن قول الله تعالى: {هَيْتَ لَكَ} قال: هلم لك، قال فيه أحَيْحَةُ بنُ الجَلاجَ: به أحمى المُضَافَ إذا دعاني. . . إذا ما قيل للأبطال هَيْتَا (وق) وفي (تق) قال ابن عباس: تهيأت لك. زاد في (ك، ط) : قم فاقض حاجتي. = الكلمة من آية يوسف 23 في امرأة العزيز: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} وحيدة في القرآن، صيغة ومادة. وتفسير ابن عباس، كأنه على قراءة من قرأ: هِيْتَ لَكَ، بالكسر أي تهيأت. وفسره الراغب فقال: هيتَ، قريب من هَلُمَّ، وقرئ: هيتُ، أي تهيأت (المفردات) . ولم يذكر الفيروزابادى: هيت، في المهموز، والذي قاله فيه: (الهيئة) الهئْ وإلهِئ الدعاء إلى الطعام والشراب، ودعاء الإبل للشرب. . . وأما كلمة: هيت، فجاء بها في حرف التاء، لا الهمزة. وذكر فيها كسر أوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 قال: وهَيت لك، مثلثة الآخر وقد يكسر أوله، أي هلم. والهيت الغامض من الأرض. على أنهم نقلوا في تفسير آية يوسف عن ابن عباس، والحسن: هيت كلمة سريانية تدعوه إلى نفسها. وقال السدى: معناها بالقبطية: هلم لك. قال أبو عبيد: كان الكسائي يقول: هي لغة لأهل حوران وقعت إلى أهل الحجاز: معناه: تعال. وبه قال عكرمة. وقال مجاهد وغيره: هي لغة عربية تدعوه بها إلى نفسها وهي كلمة حث وإقبال. (جامع القرطبي: سورة يوسف) 9 / 164 * * * 90 - {عَصِيبٌ} وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {يَوْمٌ عَصِيبٌ} فقال ابن عباس: شديد. ولما سأله نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟ أجاب: نعم، أما سمعت قول الشاعر: همُ ضربوا قوانسَ خَيلِ حُجْرٍ. . . بجنبِ الرَّدْهِ في يوم عَصيبِ (تق، ك) = الكلمة من آية هود 77: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} وحيدةالصيغة في القرآن. ومن مادتها، جاءت كلمة "عَصْبة" أربع مرات في آيات: يوسف 8، 14 والنور 11 والقصص 76. وتأويل "عصيب" بشديد في المسألة، هو ما في جمهرة كتب التفسير، وأورده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 ابن السكيت في باب نعوت الأيام في شدتها (ته 422) وكذلك فسره "الراغب" فقال: يوم عصيب، شديد. يصح أن يكون بمعنى فاعل وأن يكون بمعنى مفعول، أي يوم مجموع الأطراف. والعصبة جماعة متعصبة متعاضدة. (المفردات) . نظر في معصوب إلى معنى الجمع في العصبة. وأما شديد، فوجه التقريب فيه واضح، مع ملحظ من شدة وطأته على العصَب بخاصة، فيفترق بذلك عن "شديد" الذي قد يأتي بمعنى قويَّ وحصين محكم، ومنه في القرآن آية الحديد {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} وآية هود 80، في لوط وقومه: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} ولا يحتمل مثل هذا السياق، أن يفسر شديد بعصيب: كما لا يحتمله سياق آيات الشدَّ في التقوية والإحكام، كقوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا} الإنسان 28 ومعها: ص 20، في داود عليه السلام: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} طه 31: في حديث موسى عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} قال القرطبي في تفسير يوم عصيب، أي شديد في الشر. مكروه، مجتمع الشر (9 / 74) . * * * 91 - {مُؤْصَدَةٌ} وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {مُؤْصَدَةٌ} قال ابن عباس: مُطبِقة. واستشهد بقول الشاعر: تحِنُّ إلى أجبال مكةَ نساقتي. . . ومن دونِنا أبوابُ صنعاءَ موصَدَه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 (تق) وفي (ك، ظ) قال ابن عباس: أبواب النار على الكفار مطبقة. وسقط من (ط) . = الكلمة من آيتى: الهمزة في نار الله الموقدة، نذيراً لكل همزةٍ لمزةٍ: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} 7. والبلد 20: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} ولم يأت في القرآن من المادة غي هذه الصيغة في الأيتين. ومعهما (الوصيد) في آية الكهف: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} فسرها بـ: مطبقة كذلك، البخاري وأبو عبيدة والفراء. وقيل فيها أيضاً: مغلقة، وقيل مبهمة لا يدرى ما داخلها (القرطبي) ، يقال: آصدت، وأوصدت إيصاداً، وقيل: يجوز أن تكون قراءة موصدة، من آصدت وسهل الهمزة. وتفسير مؤصدة بمطبقة أولى من مغلفة. ومعنى الإطباق مُستفاد كذلك من لفظ "عليهم" إذ تفيد من الملاصقة والإطباق المباشر ما لا تفيد "فوقهم" لاحتمال أن تكون الفوقية غير كلاصقة ولا مطبقة. وأما الإيصاد فأصل معناه: الإغلاق المحكم. والعربية استعملت الوصيد للبيت الحصين يُتخذ للمال من حجارة في الجبال. واستوصد في الجبل: اتخذ فيه وصيداً. ولا نخطئ دلالة الإيصاد على الإغلاق المحكم في الآيات الثلاث للمادة: نار الله الموقدة، مؤصدة على كل هُمَزَةٍ لمزة، وعلى الذين كفروا أصحاب المشأمة، وكلب أهل الكهف باسط ذراعيه بالوصيد. وقد لمح "الراغب" معنى الإحكام مع الإطباق، فقال في آيتى الهمزة والبلد: يقال أوصدت الباب أي أطبقته وأحكمته. والوصيد المتقارب الأصول (المفردات) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 ولم أدر وجه تقارب الأصول في الوصيد، وإنما يفهم من قربِ بمعنى الباب الموصد بإحكتم. واكتفى "ابن الأثير" بالإغلاق فقال في حديث الغار "فوقع الجبل على باب الكهف فأوصده". أي سده. يقال: أوصدت الباب وأصدته إذا أغلقته. (النهاية) . ولا ترى الإيصاد مجرد إغلاق، وإنما هو السدّ المحكم والإطباق كما يُفهم من نص الحديث: فوقع الجبل على باب الكهف فأوصده" وهو القريب المتبادر أيضاً في الشاهد من قول الشاعر: * ومن دونا أبوابُ صنعاءَ موصده * * * * 92 - {يَسْأَمُونَ} وسأل نافع الأزرق عن قوله تعالى: {لَا يَسْأَمُونَ} فقال ابن عباس: لا يفترون ولا يَملُّون، واستشهد بقول الشاعر: منَ الخوفِ لا ذو سأمةٍ من عبادةٍ. . . ولا هو من طولِ التعبُّد يُجْهَدُ (تق، وبزيادة في (ك، ط) : الملائكة لا يفترون ولا يملون عن العبادة. = الكلمة من آية فصلت 38: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} ومعها آيتا فصلت 49: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} والبقرة 282 في كتابه الدَّيْن: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} وتفسير "لا يسامون" بـ: لايفترون ولا يملون، وجه التقريب فيه أن في السآمة معنى الملل. قال في (القاموس) : سئم الشيء ومنه، كفرح.. ملَّ فهو سئوم. وكذلك فسره "ابن الأثير" بالملل في حديث: "إن الله لا يسأم حتى تسأموا" قال: لا يمل حتى تملوا، وهو الرواية في المشهورة. والسآمة الملالة والضجر (النهاية) على ألا يفوتنا في السآمة، معنى الملل مما يتكرر. وهو ما التفت إليه الراغب فقال إنها: الملالة مما يتكرر ويكثُر لبثُه، فعلاً أو انفعالاً قال تعالى: {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} وقال: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} وقال الشاعر زهير بن أبي سلمى: سئمتُ تكاليفَ الحياةِ ومن يَعِشْ. . . ثمانينَ حَوْلاًَ، لا أبَا لكَ، بَسْأمِ وأما الفتور فيما نُقل عن ابن عباس في تفسير الكلمة، فيأتي نتيجة للسآمة أو مظهراً لها، من حيث يفتر الإنسان عما سئمه وملَّه. * * * 93 - {أَبَابِيلَ} وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {أَبَابِيلَ} فقال ابن عباس: ذاهبة وجائية تنقل الحجارة بمنلقيرها، فتبلبل عليهم رءوسهم. ولما سأله نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟ أجاب: نعم، أما سمعت قول الشاعر: وبالفوارسِ مِن وَرْقاءَ قد عَلِموا. . . أحلاسُ خيلٍ على جردٍ أبابيل (تق) زاد في (ك، ط) بمناقيرها، وأرجلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 = الكلمة من آية الفيل، في أصحابه: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} . وحيدة في القرآن كله. لا واحد لها من لفظها، وقيل في واحدها: ابالة بالتخفيف وأبَّالة بالتشديد، وأبول وأبابيل كعجول وعجاجيل، وإيبالة كدينار ودنانير (الفراء، والأزهري عنه، وثعلب في شرح ديوان لبيد، والهروى في الغريبين) وقيل إبَّيل كسكين وسكاكين، قياسا لا سماعا. وأبُّول (القرطبي) قال أبو عبيدة في مجاز القرآن، وذكر الآية: ولم نر أحداً يجعل لها واحدا (2 / 312) وفسرها البخاري بمتتابعة مجتمعة، عن مجاهد. قال ابن حجر: وصله الفريابي عنه في قوله: شتى متتابعة (فتح الباري 8 / 516) وقال ثغلب في شرح ديوان لبيد: متفرقة تأتي من كل وجه يتبع بعضها بعضاً. والعربية كررت الباء واللام فيما فيه ملحظ اضطراب واختلاط، بلبلة الأسِنَّة، أى اختلاطها. وبَلبلَ القومَ: هيَّجهم. ومنه البلبلة في عجمة اللسان واضطراب مسلكه في النطف من اختلاط الألسنة، والبُلبل: للطائر المعروف؛ ينطق مردداً الصوت والنغم دون وعي أو إبانة. وفارقت العربية بين الحيى في البلبلة، والمعنوي في البلبال، للهم الشديد يضكرب له البال من اختلاط الوساوس وكثرة الهواجس. وكل ذلك مما يعطى كلمة "أبابيل" حس البلبلة والبلبال، ثم تأخذ من سياق الآية، مت في شرح ابن عباس من "بلبلة رءوسهم بما تنقل من حجارة". وإن قصَّرت جملة: تنقل من حجارة عن التعبير القرآني: {رْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} وقصَّر الشرحُ: تبلبل عليهم رءوسهم، عن التدمير الساحق الماحق، في قوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 فضلاً عما لا وجه له من تقييد نقل الحجارة بمناقيرها، والآية أطلقت الرمي من قيدٍ بالمناقير، أو بالأرجل كما في (ك، ط) أو بالمخالب. . . والله أعلم. * * * 94 - {ثَقِفْتُمُوهُمْ} وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {ثَقِفْتُمُوهُمْ} فقال ابن عباس: وجدتموهم. سأله نافع: وهلٍ تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول حسان: فإمَّا تَثْقَفَنَّ بَنى لُؤَىًّ. . . جُذَيْمةَ إنَّ قتلتهمُ دواءُ = الكلمة من آيتى: البقرة 191: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْث ُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} والنساء 91: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} ومعهما الفعل الماضي مبيناً للمجهول في آيتى: آل عمران 112 في الفاسقين من أهل الكتاب {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} والأحزاب 61: في المنافقين والذين في قلوبهم مرض والمرجفين في المدينة {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} وجاء الفعل مضارعاً، في آيتى: الأنفال 57: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} والممتحنة 2: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} . وهذه الكلمات الست، هي كل ما في القرآن من المادة. حرصتُ على نقل آياتها جميعاً، ليتضح سياقها في القتال، والعداوة. فتفسيُرها بـ: وجدتموهم، لا يفوتنا معه ملحظ اختصاص الكلمة بهذا السياق، في كل آياتها بالقرآن، وكذلك في الشاهد الشعري من همزية حسان - رضي الله عنه -. وقد فسرها الطبري - ولم يذكر فيها خلافاً - بـ: اقتلوهم حيث أصبتم مقاتلهم وأمكنكم قتلهم. وهو معنى {حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} ومعنى الثقفة بالأمر الحذق به والبصر. يقال: إنه تقِف لقِف. إذا كان جيد الحذر بصيراً بمواقع القتل. فأما التثقيف فمعنى غير هذا وهو التقويم. فمعنى الآية، اقتلوهم في أي مكان تمكنتم من قتلهم وأبصرتم مقاتلهم (2 / 111 البقرة) ومعنى الكلمة عند الفراء: اسرتهم (1 / 414) وردَّ "الراغب" الكلمة في آيات آل عمران والأنفال والأحزاب، إلى معنى الحِذق والإدراك (المفردات) . وابن الأثير فسرها بالفطنة والذكاء في حديث الهجرة: "وهو غلام لِقنٌ ثقف" وفي حديث أم حكيم بنت عبد المطلب: "إني حصانٌ فما أُكَلَّم، وثقاف فما أعلَّمُ" وأخذه من التثقيف والإصلاح في قول السيدة عائشة أم المومنين تصف أباها: "وأقام أًوْدّها بثقافِه" تعني أنه سوَّى عوج المسلمين، وأما في حديث: "إذا ملك اثنا عشر من بني عمرو بن كعب كان الثقف والثقاف" ففسرهما ابن الأثير بالخصام والجلاد (النهاية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 والعربية تعرف في المادة معنى الفطنة، في الثقافة بمعنى الحذق. وتقول: ثَقِفَ فلاناً، إذا أخذه وظفر به أو أدركه. كما تعرف الثَّقاف بمعنى الخصام والجلاد، مأخوذاً من الثقاف: ما تُسوى به الرماحُ تهيئة للجِلاد (ص، س، ق) وغير بعيد أن نلمح في آيات (ثقف) في القرآن، دلالة فطنة المأخذ وإدراك العدو وجلاده. ويتضح الفرق بينها وبين (وجد) إذا ذكرنا مع ما تقدم من استقراء لمواضع استعمال الكلمة في سياق العداوة والقتال، أن القرآن وإن استعمل (وجد) في السياق نفسه، في آيتى: النساء في المنافقين {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} 89 والتوبة في المشركين: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 5 إلا أن "وجد" تأتي كثيراً في البيان القرآني في غير هذا السياق، أذكر منها آيات الضحى خطاباً للرسول عليه الصلاة والسلام: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} ص 44، في أيوب: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} طه 10: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} يوسف 94: {قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} الكههف 37: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} الجن 22: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} المزمل 20: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} والبقرة 110. مما يؤنس إلى أن (وجد) أعم في الدلالة من (ثقف) التي تأخذ في العربية دلالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 الثقافة والثقاف، وتأتي في البيان القرآني بملحظٍ من فطنة للعدو، وبصرٍ بموضعه ومأخذه. . . والله أعلم. * * * 95 - {نَقْعًا} وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} فقال ابن عباس: النقع ما يسطع من حوافر الخيل. سأله نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول حسان: عَدِمْنَا خَيْلَنا إن لم ترَوها. . . تثير النقعَ، موعدها كدَاءُ (تق، ك، ط) = الكلمة من آية العاديات: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِه ِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} وحيدة في القرآن صيغة ومادة. وتفسير النقع المثار بما يسطع من حوافر الخيل، تقريب أخذ السطوع من الآية قبله: {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} دون أن يكون في النقع نفسه معنى السطوع. فالنقع الغبار، أو التراب كما في تفسير الطبري للآية ولم ينقل فيها خلافاً. وهو ما في معاني القرآن للفراء (3 / 285) وأكثر ما تستعمله العربية بهذا المعنى، فيما يثار من الخيل العاديات، ولعل ملحظ التقريب في شرحه بما يسطع من حوافر الخيل، جاء من كون النقع المثار في الغارة، يسطع فيه من شدة العَدَوِ، ما توريه حوافر الخيل من قدح الشرر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 96 - {سَوَاءِ الْجَحِيمِ} وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} فقال ابن عباس: في وسط الجحيم. سأله ابن الأزرق: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر: رماها بسهمٍ فاستوى في سَوائِها. . . وكان قبولاً للهوادى الطوارقِ (نق، ك، ط) = الكلمة من آية الصافات 55، في عباد الله المخلصين، في الجنة: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} ويأتي معها لفظ سواء في ست وعشرين آية، سياقها في معنى التساوي والتسوية والعدل. وسبقت المسألة (55) في {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} وتفسير الكلمة في آية الصافات بالوسط، قريب من أصل دلالة الكلمة على الموضع الوسَط بين الأطراف. والعربية تستعمل المساواة في المعادلة المعتبر فيها بالموازين والمقادير والمقاييس، ملحوظاً فيها التساوي بين مقدارين، كما تستعمل سواء في المكان المتوسط بين مكانين. وينقل ذاك مجازياً إلى المعنويات، في مثل {كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} أي عدل، و {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} ، أي يستوى الأمران. وفي آية الصافات، ذهب الراغب كذلك إلى أن {سَوَاءِ الْجَحِيمِ} بمعنى وسط الجحيم، وقال: ومكان سوى وسواء، وسط أي يستوي طرفاه. ويستعمل ذلك وصفاً وظرفاً، واصل ذلك مصدر (المفردات) وبالوسط فسرها الفراء في المعاني. والأصمعي وابن السكيت وابن الأنباري، في (الأضداد) لهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 وقال ابن الأثير في (النهاية) : "وسواء الشيء وسطه، لاستواء المسافة إليه من الأطراف" والوسط المكاني هو المعنى القريب، ولعله ليس مراداً، بل هو من الكناية المراد بها: صميم الجحيم. والشاهد من بيت الشاعر يَقوى أيضاً بحمله على الكناية. وكذلك حديث أبي بكر - رضي الله عنه -: "أمكنت من سواء الثغرة" قال ابن الأثير في النهاية: "أي وسط ثغرة البحر" وأطمئن فيه إلى دلالة الكناية فيه، على معنى صميم الثغرة. والله أعلم. * * * 97 - {مَخْضُودٍ} وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {سِدْرٍ مَخْضُودٍ} فقال ابن عباس: الذي ليس به شوك. واستشهد بقول أمية بن أبي الصلت: إن الحدائق في الجنانِ ظليلةٌ. . . فبها الكواعبُ سدرُها مخضود (تق) وفي (ك، ط) قال: الذي ليس بشوك = الكلمة من آية الواقعة 28 في نعيم الآخرة: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْر ٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} وحيدة يف القرآن، صيغة ومادة. وأما كلمة سِدْر، فجاءت في آية سبأ 16: {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 وتفسير سدر مخضود بالذي ليس به شوك، يفهم منه أنه نَبَتَ بغير شوك، وقد يكون كذلك في الجنة والله أعلم. وقد روَى فيه الطبري بإسنادع عن ابن عباس وعكرمة وقتادة: الذي ذهب شوكه فلا شوك له. على أن كلمة مخضود تدل على معنى قطع الشوك منه، من قول العربية الشجرَ فهو مخضود وخضيد، بمعنى مقطوع الشوك. وفيه يفترق مخضود عن مقطوع بأن الخضد يكون للشوك أو لما هو لينَّ منه (ص، س، ق) وأما القطع ففيه معنى الإبانة والبتر والبتّ. وبهذا الملحظ في الفرق بين الخضد والقطع أو الكسر. تحتفظ الكلمة القرآنية بخاصَّ دلالتها على التشذيب والتجريد من الشوك، دون حاجة إلى التصريح بلفظه. على حين لو قلنا: سدر مكسور أو مقطوع، لاقتضى أن نقيدهما بالشوك صراحة، وهو قول الطبري والزمخشري والقرطبي وأبي حيان، في تفسير الآية، وقول "الراغب" في الآية: أي مكسور الشوك. وقول ابن الأثير: أي الذي قطع شوكه. * * * 98 - {هَضِيمٌ} وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {طَلْعُهَا هَضِيمٌ} فقال ابن عباس: منضم بعضه إلى بعض، ولما سأله نافع وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول امرئ القيس: دار لبيضاءِ العوارضِ طفلةٍ. . . مهضومة الكشحين ريَّا المِعْصَمِ (تق) وفي (ك، ط) قال: متصل بعضه إلى بعض = الكلمة من آية الشعراء 148، في ثمود قوم صالح: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} وحيدة الصيغة في القرآن وليس معها فيه من مادتها غير المصدر في آية طه 112: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} تأويل هضيم في المسألة بانضمام، أو اتصال، بعضه ببعض، كأنه نظر فيه إلى * مهضومة الكشحين * في الشاهد الشعري، والهضم فيهما لطف تظام (تهذيب الألفاظ: باب صفات النساء، ومعاجم: (مقاييس اللغة، ص، س: ك ش ح) والطبري روى الآية من اختلاف أهل التأويل بإسناده عن ابن عباس، قال: أينع ونضج فهو هضيم. وعن آخرين: هو المتهشم المتفتت، وقال آخرون: هو من الرطب اللين تهصمه، وقال غيرهم: الراكب بعضه بعضا. وأوْلى الأقوال عنده بالصواب، أن الهضيم هو المتكسر من لينة ورطوبته.. وقال الراغب: الهضم شدخ ما فيه رخاوة {طَلْعُهَا هَضِيمٌ} اي داخل بعضه في بعض كأنه شدخ (المفردات) والعربية تعرف هذه المعاني الثلاثة في المادة، ولعلها ترجع فيها إلى هضم الطعام، والهضوم والهاضوم كل ما هضم طعاماً، وبملحظ منه جاء الهضَم خمص البطن ولطف الكشح وقله انجفار الجنين. وتجوَّزتْ فاستعملته في هضم المال ومنه جاء مطلق الهضم في الإنهاك والجور، ومنه آية طه: {فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} . فلعل كلمة "هضيم" في آية الشعراء، من انضمام طلع النخل، وتراكبه، مع حس دلالته الأصلية على يُسْرِ الهضم ولين الجنى. والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 99 - {سَدِيدًا} وسأل نافع عن قوله تعالى: {قَوْلًا سَدِيدًا} فقال ابن عباس: قولاً عدلاًَ. واستشهد بقول حمزة: أمين على ما استودع اللهُ قلبَه. . . لإإن قال قولا كان فيه مُسددا (تق) وفي (ك، ط) : قولاً عدلاً حقاً = الكلمة من آيتى: النساء 9: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} والأحزاب 70: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} وليس في القرآن من السداد غيرهما. وفيه من المادة سَدّ، مفرداً في آيتى يس 9: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} والكهف 94: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} ومثنى في آية الكهف 92: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} في آية النساء، روى الطبري من اختلاف أهل التأويل، أنه الحق، عن ابن عباس، والعدل والإحسان، والنهي عن الحيف والجور، وقيل هو التعريف بما أباح الله في الوصية، وهذا أولى الأقوال عنده بالصواب، ولا تكاد أقو ال ال مفسرين تخرج عن هذا، وإن بسطوا قول في شرح الاية وسبب نزولها. وتفسير "سديد" بعدل وحق، لا يفوتنا معه ملحظ اختصاص الكلمة بالقول في الآيتين وفي الشاهد من قول حمزة، بن عبد المطلب - رضي الله عنه -. مع التفات إلى ما في السداد من معنى الاستقامة والصواب (الراغب) . وأصل السدَد في العربية ما تُسَدُّ به الثلمة، ومنه السدادة، والسُّدة: واقية من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 المطر. والسدُّ: الحاجز المانع أو الواقي. ونُقل إلى السداد بمعنى الاستقامة، والسداد التوفيق إلى الصواب من القول والعمل والأمر، على حين يغلب اختصاص العدل بالأحكام، نقيض الظلم والجور، ومنه العدل بمعنى المساواة. ويبدو الفقر الدقيق بين سديد وعدل، إذا تدبرنا الاستعمال القرآني للعدل. فيهدينا سياق آياته، إلى معنى المساواة في مثل آيات: الأنعام 1: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} ومعها آية الأنعام 150 النساء 3: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} ومعها آية النساء 129 النساء 135: {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} وقريب منه معنى العِوَض في آيات: البقرة 48، 123، والأنعام 70. وبمعنى العدالة في الحكم وما يجري مجراه كالتحكيم والشهادة، بصريح آيات الأحكام: المائدة 95، 106، والطلاق 2. النساء 58: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} ومعها آية الحجرات 9 البقرة 282: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ. . .} المائدة 8: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ويأتي العدل في البيان القرآني متعلقاً بالكلمة والقول، في سياق الحكم العادل نقيض الظلم والجور، كآيتى الأنعام: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 115 {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 152 فلعل السداد أخص بالقول والرآي، صوابا وإصلاحاً. ودلالة العدل أعم، مع غلبة مجيئها في الأحكام، والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 100 - {الإِلّ} قال: أخبرني عن قول الله تعالى: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} ما الإلُّ؟ قال: الرحِم، قال فيه حسان: لَعمرُكَ إنَّ إلَّكَ من قريش. . . كَإلَ السَّقب من رَأَلِ النعامِ (وق) وفي (تق، ك، ط) قال : الإل القرابة، وشاهده فيها قول الشاعر: جَزى اللهُ إلاَّ كان بيني وبينهم. . . جزاءَ ظلومٍ لا يؤخَّرُ عاجلا = الكلمة من آيتى التوبة 8، 10 في المشركين: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} وحيدة الصيغة والمادة، لم ترد في غير هذا الموضع. ممن فسرها بالقرابة: ابن الأنباري في (الأضداد) والهروى في (الغريبين) والزمخشري في (س) وابن الأثير في حديث أم زرع: "وفيّ الإِلَّ كريم الخِلَّ" (النهاية) . وقال الراغب: الإِلُّ كل حالة ظاهرة من عهِد حلف أو قرابة (المفردات) . ومن معاني الإِلَّ في العربية: العهد والحلف والجار والقرابة. . . وأسند الطبري عن مجاهد من عدة طرق: أن {إِلًّا} في آية التوبة: الله - عز وجل -. قال الطبري: الأوْلى أن يقال إن الإِل على معان ثلاثة: العهد والعقد والحلف والقرابة: وهو أيضاً بمعنى الله، ولم تخص الآية معنى دون آخر، فالصواب أن يعم ذلك (10 / 59) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 101 - {خَامِدُونَ} : وسأل نافع عن قوله تعالى: {خَامِدِينَ} فقال ابن عباس: ميتين. واستشهد له بقول لبيد: خَلُّوا ثيابَهُم على عوراتهم. . . فهُمُ بأفنية البيوتِ خُمودُ (تق) وفي (ك، ط) قال: أصبح قوم صالح في ديارهم ميتين. = الكلمة من آية الأنبياء 15: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} . ومعها آية "يس" في أصحاب القرية: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} 29. لم يأت غيرهما من المادة. والأكثر عند أهل العربية وأهل التأويل، تفسيرها بالهمود كما تخمد النار وتطفأ (البخاري: ك التفسير، سورة الأنبياء. وأبو عبيدة في مجاز القرآن) ولم يذكر الطبري خلافاً في تأويلها بالهمود كما تخمد النار. وأسنده عن ابن عباس بلفظ: خامدين خمود النار إذا طفئت. قال الزمخشري: نار خامدة وقد خمدت، سكن لهبها وذهب حسيسها، وللنار وقدة ثم خمدة. على أنه من المجاز: خمدت الحمى سكنت، وخمد فلان مات أو أغمى عليه {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} (س) ونحوه مفردات الراغب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 فلنذكر معه أن القرآن الكريم لم يستعمل الكلمة إلا في أهل القرية، وقرية كانت ظالمة، وقد استعمل الموت نحو مائة وعشرين مرة، بمختلف الصيغ، الفعل الماضي ثلاثياً ورباعياً، ومضارعهما وأمر الثلاثي، والاسم والمصدر: موت وممات، واسمى المرة والهيئة: موتة وميتة، وميت، وأموات وموتى وميتون. . . واضح من سياقها الموت مقابل الحياة، فهو تعالى الذي يحيي ويميت، خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، وكل نفس ذائقة الموت. وطبيعية الموت المحتوم على كل كائن حي، ليست الملحوظة في الذين حقَّت عليهم، بظلمهم، لعنةُ القصم الماحق لا يبقى ولا يذر، والهلاك المباغت لا مفر منه. ودلالة الأخذ المباغت، صريحة في {صَيْحَةً وَاحِدَةً} بآية يس، وفي "إذا" الفجائية في آية الأنبياء. فالخمود في هذا السياق، والله أعلم، همود يباغت مَن أخذتهم صيحة واحدة، وهم في عنفوان الحياة وغرور الأمل وضجيج التكالب على الدنيا، وهوشلل الحركة فيمن يركضون التماساً لمهرب لما رأوا بأس الله - عز وجل -، حين لا يجدى ركضُهم ولا ينفعهم إقراراهم بظلمهم {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} صدق الله العظيم. * * * 102 - {زُبَرَ الْحَدِيدِ} وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {زُبَرَ الْحَدِيدِ} فقال ابن عباس: قطع الحديد. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سعمت قول كعب بن مالك: تلظَّى عليهم حين أن شَدَّ حَمْيَها. . . بِزُبْرِ الحديدِ والحجارةِ ساجرُ (تق، ك، ط) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 = الكلمة من آية الكهف 96: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} وحيدة الصيغة في القرآن، ومعها زُبُر، بضمتين: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} المؤمنون 53. والزبور، في آية: الأنبياء 105، وزبور، مفرداً في آيتى النساء 162 والإسراء 55. والجمع زُبُر، بآيات: آل عمران 184، والنحل 44، والشعراء 196، وفاطر 25، والقمر 43، 52. ولم يذكر الطبري خلافاً في تأويل زبر الحديد بقطع الحديد عن ابن عباس وغيره. أو فلق الحديد، عن قتادة (سورة الكهف) مع التفات إلى أن القرآن استمعل قطعاً من الليل ثلاث مرات، ومعها قطع في الأرض متجاورات بآية الرعد (4) . ويبدو أن الزُبْرة، واحدة الزبَر، يغلب استعمالها في قِطَع الحديد بوجه خاص، منقولاً إليها بملحظ القوة، من الزبرة بكعنى الكاهل، والشعر المجتمع بين كتفى الأسد. (س) في (مقاييس اللغة) لمادة زبر أصلان: أحدهما يدل على إحكام الشيء، ومنه زُبرة الحديد، القطعة منه، والجمع زُبَر. والآخر يدل على قراءة وكتابة وما أشبه ذلك، ومنه الزبور، جمعة زُبُر. وفي الزبر دلالة القوة والشدة، ويذهبُ "الراغب" إلى أن الزبور كل كتاب غليظ الكتابة، وخص الكتاب المنزل على داود. وقيل بل الزبور كل كتاب صعب الوقوف عليه من الكتب الإلهية: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} - المفردات. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 103 - {سُحْقًا} وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {فَسُحْقًا} فقال ابن عباس: بُعداً. واستشهد بقول حسان: ألاَ مَنْ مُبْلغٌ عَنَّى أُبَيَّا. . . فقد أُلْقِيتَ في سُحْقِ السعيرِ (تق) ورد في (ك، ط) : يهجو أبي بن خلف = الكلمة من آية الملك 11: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} وحيدة الصيغة في القرآن، ومعها سحيق في آية الحج 31: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} سحقاً: بُعَداً، هو تأويل الطبري للكلمة وأسنده بهذا اللفظ عن ابن عباس. والقرآن خَصَّ السحقَ بهذا السياق في نذير الكفار المشركين، على حين استعمل البعد بدلالة أعم، فمنه البعد المكاني في الشقة والأسفار وبعد المشرقين، والبعد الزماني في أمدٍ بعيد، وفي مقابل قريب زمناً، ومنه البعد المجازي في شقاقٍ وضلالٍِ ورجعٍ بعيد، وبعداً للقوم الظالمين، ولعادٍ ولثمودَ ولمدينَ. . . والبعد نقيض القرب، حسياً ومعنويّاً. وأما الحسق ففيه دلالة انسحاق وتفتتُّ، من أصل معناه في تَفتيت المسحوق، ومنه قيل السحق، للثوب البالي. وفي (مقاييس اللغة) لمادة سحق أصلان: أحدهما البعد ومنه {فَسُحْقًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} والآخر إنهاك الشيء حتى يُبلغَ به إلى حال البلى، ومنه السحق الثوب البالي. ودلالة الهلاك في {سُحْقًا} واضحة. ويقرب كذلك أن يفهم "سحيق" في آية الحج، بالهاوية، من نصها {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} كما يفهم قول حسان - رضي الله عنه - * سحق السعير * بغور السعير. * * * 104 - {غُرُورٍ} وسأل نافع عن قوله تعالى: {إِلَّا فِي غُرُورٍ} فقال ابن عباس: في باطل. ولماسأله نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قولّ حسان: تمنَّيكَ الأماني من بعيدٍ. . . وقول الكفرِ يرجعُ في غرورِ (تق) زاد في (ك، ط) : يهجو أبىَّ بنَ خلف = الكلمة من آية الملك 20: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} ومعها آية الأعراف، في الشيطان وآدم وزوجه: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} وآيتا النساء 120، والإسراء 64: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} وفاطر 40: {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 والأنعام 112: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} والأحزاب 12: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} لقمان 33، فاطر 5: {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} ومعها الحديد 14. الحديد 20: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} وآل عمران 185. وسياقها فيمن غرتهم الدنيا، والشيطان والأماني وزخرف القول، وما يعد الظالمون بعضُهم بعضاً، يحتمل التفسير بالباطل عن قرب، مع التفات إلى ما في الغرور من غفلة ظاهره، ينخدع فيها المغرور لا يدري زيفَ ما يغره. ومنه قولهم صبحهم الجيش وهم غارون، أي غافلون (س) وأطلق الراغب: الغرور كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشيطان (المفردات) . * * * 105 - {حَصُورًا} وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {وَحَصُورًا} فقال ابن عباس: الذي لا يأتي النساء. واستشهد بقول الشاعر: وحصور عن الخنا يأمر النا. . . سَ بفعلِ الخيراتِ والتشميرِ (تق، ك، ط) = الكلمة من آية آل عمران 39، خطاباً لزكريا عليه السلام: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} وحيدة الصيغة في القرآن، ومعها من مادتها آيات: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} - النساء 90 {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} - التوبة 5 {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} - البقرة 196 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} - البقرة 273 لم يختلف أهل اللغة في أن أصَل الحصر من الحبس والمنع. ومنه قيل: حَصور لمن يمتنع عن النساء لا يأتيهن (ص، س، ل، ق) . وهو القول في معنى "حصور" عند الفراء (1 / 213) وردَّها أهل التأويل كذلك إلى هذا الأصل، مع تعدد أقوالهم في تأويلها: قبل الذي لا يأتي النساء كأنه ممنوع عنهن، وهو قول الطبري وأسنده عن ابن مسعود. وعنه أيضاً وعن ابن عباس وابن جبير وقتادة وعطاء والحسن والسدى، وغيرهم: أنه الذي يكف نفسه عن النساء ولا يقربهن مع القدرة. وهذا أصح الأقوال عند القرطبي، في مقام المدح والثناء، لأن الثناء لا يكون إلا عن الفعل المكتسب دون الجِبِلَّة. وهو قريب من قول الراغب: فالحصور الذي لا يأتي النساء إما من أنفته وإما من العفة والاجتهاد في إزالة الشهوة. والثاني أظهر في الآية لأنه بذلك يستحق المحمدة (المفردات) وسياق البشرى في الآية يؤنس إليه. وهو متعين في الشاهد: * وحصور عن الخنا * وإلا انصرف إلى الذم والهجاء. * * * 106 - {عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} قال: يا ابن عباس، أخبرني عن قول الله - عز وجل -: {عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} قال: الذي ينقبض وجهه من شدة الوجع، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت الشاعر وهو يقول: ولا يوم الحساب وكان يوماً. . . عبوساً في الشدائد قمطريراً (ك، ط، تق) = الكلمة من آية الإنسان 10، في الأبرار: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 السؤال فيما يبدو عن قمطرير. وحيدة في القرآن كله، صيغة ومادة. وتفسيرها بالذي ينقبض وجهه من شدة الوجع، لا يدبو قريبا في صفة يوم عبوس قمطرير، وقد فسره البخاري في سورة الإنسان: بالشديد. يقال يوم قمطرير ويوم قماطر. والعبوس والقمطرير العصيب، أشد ما يكون من الأيام في البلاء. قال ابن حجر: هو كلام أبي عبيدة بتمامه. وقال الفراء: والقمطرير الشديد، يقال يوم قمطرير وقماطر (فتح الباري 8 / 483 ومعاني القرآن للفراء 3 / 216) وأورده ابن السكيت في باب نعوت الأيام وشدتها من (تهذيب الألفاظ: 422) وفسره الراغب بشديد. وإنما يجئ تقبض الوجه من الشدة والبلاء والضيق كما في (تعذيب الألفاظ) وقاله عبد الرزاق عن معمر عن قتادة (فتح الباري) . * * * 107 - {يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} قال: يا ابن عباس، أخبرني عن قول الله - عز وجل -: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} قال: عن شدة الآخرة. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت الشاعر وهو يقول؛ اسلمْ عصلم إن شرُّ باقْ. . . قبلك سرَّ الناسَ ضربُ الأعناق قد قامت الحرب بنا على ساقْ (ك، ط) واقتصر في (تق) على الشطر. والمسألة في (ظ) : {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} قال: الحرب، قال أبو ذؤيب الهذلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 أخو الحرب إن عضَّتْ به الحرب عضها. . . وإن شمرت عن ساقها الحربُ شمرا = الكلمة في المسألة الأولى، من آية القلم 42: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} ومعها آية النمل 44، والكشف عن الساق فيها على أصل معناه: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} الكشف عن الساق، والتشمير في مثل سياق آية القلم، عند اللغويين: كناية عن شدة الحرب والخوف (مجاز القرآن لأبي عبيدة والأساس: ش م ر" وقال الفراء في معنى آية القلم، عن ابن عباس: يريد القيامة والساعة لشدتها (3 / 177) وفي الطبري: قال جماعة من الصحابة والتابعين من أهل التأويل: يبدو عن أمر شديد، وأسند عن ابن عباس قال: هو يوم حرب وشدة، وأنشد * وقامت الحرب بنا على ساق * وفي القرطبي عنه أيضاً: يكشف عن أمر عظيم، وأنشد بيت الهذلى بلفظ: * فتى الحرب * غير منسوب، وعن مجاهد عنه: هي أشد ساعة يوم القيامة. . . والأقوال فيها متقاربة، كناية عن هول الموقف يوم الحشر، والله أعلم. وأنظر في صحيح البخاري: ك التفسير: باب يوم يكشف عن ساق، وفتح الباري معه. قال في الكشاف: وأصله في الروع. . . ومعنى الآية: يشتد الأمر ويتفاقم هوله، ولا كشف ثو ولا ساق (سورة القلم) . * * * 108 - {إِيَابَهُمْ} قال: يا ابن عباس، أخبرني عن قول الله - عز وجل -: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} قال: الإياب المرجع. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 وكل ذى غيبة يئوب. . . وغائب الموت لا يئوب وقال الأول: فألقتْ عَصاها واستقر بها النوى. . . كما قَرَّ عيناً بالإياب المسافرُ (ك، ط) واقتصر في (تق) على الشاهد الأول = الكلمة من آية الغاشية 25: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} وحيدة الصيغة في القرآن. ومعها من المادة (مآب) تسع مرات، و (أوَّبى) في آية سبأ 10، و (أوَّاب) مفردا خمس مرات، وجمعا في آية الإسراء 25: في تفسير سورة الغاشية بصحيح البخاري قال ابن عباس: إيابهم مرجعهم وتأولها الطبري: إن إلينا رجوع من كفر ومعادهم. لم يذكر فها خلافا. تأويل إيابهم في المسألة بمرجعهم، أوْلى من التأويل برجوعهم، إذ كل إياب ومآب في البيان القرآني إنما هو الله وحده. وكذلك صيغتا المرجع والرجعى. وأما صيغة الرجوع فليست من الألفاظ القرآنية. وكثر مجئ الفعل منها، ماضياً ومضارعاً وأمراً، واسم الفاعلين. . . والرجوع فيها إلى الله تعالى، وإلى غيره: إلى الناس الكفار، وإليهم، إلى قومهم، إلى قومه، إلى طائفة منهم، إلى أبيهم، إلى أمَّك، إلى أنفسهم. . . إلى المدينة، يثرب، إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم. . . إلى الأصنام. ثم إن المحققين من العلماء، لهم في ترداف الأوب والرجوع نظر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 لحظ الراغب أن الأوب ضرب من الرجوع وذلك أن الأوب لا يقال إلا في الحيوان الذي له إرادة، والمآب مصدر منه، والأواب كالتواب، وهو الراجع إلى الله تعالى بترك المعاصي وفعل الطاعات، والتأويب يقال في سير النهار (المفردات) . ونتدبر سياق الآيات فيهما، فيؤنس إلى قريب مما لحظه الراغب، حيث يأتي الإياب والمآب للخلق، وأما الرجوع فيأتي الفعل غالباً مسنداً إليهم، وإن جاء متعلقاً في آية هود 132 {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} وإلى الأمور في آية البقرة 210: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} ومعها آل عمران 109 والأنفال 45 والحج 86 وفاطر 4 والحديد 5. وآية الطارق {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} . في (أوب) حكى ابن فارس عن أبي حاتم السحستاني، قال: كان الأصمعي يفسر الشعر الذي فيه ذكرُ الإياب أنه مع الليل، ويحتج بقوله: * تأوَّبنى داء مع الليلِ متصبُ *. وكذلك يفسر جميع ما في الأشعار. فقلت له: إنما الإياب الرجوع، أىَّ وقتٍ رجع، تقول: قد آب المسافر. فكأنه أراد أن أوضح له فقلت: قول عبيد: وكل ذي غيبة يثوب. . . وغائبُ الموتِ لا يئوبُ أهذا بالعشى؟ فذهب يكلمني فيه، فقلت: فقول الله - عز وجل -: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} أهذا بالعشىَّ؟ فسكت" قال أبو حاتم، مستدركاً: ولكن أكثر ما يجئ على ما قال، رحمنا الله وإياه". (مقاييس اللغة: 1 / 153) وإما (رجع) فعند ابن فارس أن الراء والجيم والعين أصل كبير مطَّرد منقاس يدل على ردًّ وتكرار. تقول: رجع رجوعاً إذا عاد، وراجع امرأتَه ردَّها وهي الرجعة، واسترجع استرد، والترجيع في الصوت ترديده، ومنه رجع الصدى. فأما الرجع فالغيثٌ في قوله - عز وجل -: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} وذلك أنها تغيث وتصٌبّ ثم ترجع فتغيث. . . (المقاييس 2 / 490) . وأبو هلال العسكري، فرّق بين الرجوع والإياب، بأن الإياب هو الرجوع إلى منتهى القصد، ومنه {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} . فلعل هذا الفرق في الدلالة، أحسَّه نافع في سؤاله عن الإياب، وليس مرادفا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 للرجوع، مع دلالة إسلامية للإياب، والمآب والمرجع والرجعى، إلى الله - عز وجل -. وهو سبحانه وتعالى أعلم. * * * 109 - {حُوبًا} وسأله نافع عن قوله تعالى: {إِنَّهُ كَان َ حُوبًا كَبِيرًا} قال: إثماً. واستشهد ببيت الأعشى: فإني وما كلفتموني منَ أمرِكم. . . لَيُعلَم مَنْ أمسىَ أعقَّ وأحْوِبِا (تق، ك، ط) وفي (وق) : قال فيه الأعشى: وإني وما كلفتموني وربكم. . . لأَعلمُ من أمسى أعقَّ وأظلما ولا محل فيه للشاهد. = الكلمة من آية النساء 2: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} وحيدة في القرآن صيغة ومادة. وباتلإثم تأولها أبو عبيدة في (مجاز القرآن) وقال الفراء في (معاني القرآن، آية النساء) الحوب الإثم العظيم، ورأيت بني أسد يقولون: الحائب القاتل. وقد حاب يحوب. ومن الحديث "اللهم اغفر لي حوبتي" وهو يتحوب من القبح يتحرج منه (1 / 253) وفعلت كذا لحوبة فلان، أي لحرمته. وما يأثم الرجل إن لم يفعله (س) وفي الطبري عن ابن عباس: إثماً عظيماً، وعن قتادة: ظلماً كبيراً وهو الإثم كذلك في جامع القرطبي، عن ابن عباس والحسن وغيرهما. قال: وأصله الزجر للإبل فسمي الإثم حوبا لأنه يُزجَر عنه، والحوبة أيضاً. وقال الأخفض هي لغة بني تميم، وعن مقاتل: لغة الحبشة. وفسره الراغب بالإثم كذلك: لكونه مزجوراً عنه. والأصل فيه: حوب، لزجر الإبل؛ وفلان يتحوب من كذا: يتأثم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 وقولهم: ألحق به الحوبة، أي المسكنة والحاجة؛ وحقيقتها هي الحاجة التي تحمل صاحبها على ارتكاب الإثم. . . (المفردات) . والذي في (النهاية لابن الأثير) أن الحوب الإثم، تفتح الحاء وتضم، وقيل: الفتح لغة الحجاز، والضم لغة الحبشة. وذكر الحديث أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - الإذن في الجهاد، قال: "ألك حوبة" قال: نعم. قال ابن الأثير في الحوبة: يعني ما يأثم به إن صنعه. وتحوب من الإثم توقاه وألقى الحوب عن نفسه. وقيل: الحوبة ههنا: الأم والحرم اللائي لا يستغنين عمن يقوم عليهن ويتعهدهن، ولابد في الكلام من حذف مضاف تقديره: ذات حوبة وذات حوبات. والحوبة الحاجة، ومنه حديث الدعاء: "إليك أرفع حوبتي" أي حاجتي. وفي الحديث أن أبا أيوب أراد أن يطلق أم أيوب فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن طلاق أم أيوب لحوب" أي: لوحشة أو إثم (النهاية) . وتجمع الدلالة المعجمية بين هذه المعاني جميعاً، ففيها: الحوب والحوبة الأبوان والأخت والبنت. ولي فيهم حوبة: أي قرابة من الأم، والحوبة: رقة فؤاد الأم: والحوبة أيضاً: الإثم، كالحابة والحاب والحوب، ويُضم، والوجعُ، والجهد والمسكنة، وزجر الإبل. والحوب بالضم: الهلاك والبلاء والمرض والنفس. . . وفي (مقاييس اللغة) أن الحاء والواو والباء "أصل واحد يتشعب إلى: إثم، أو حاجة، أو مسكنة. وكلها متقاربة". والقرآن قد خص الحوب بأكل الأوصياء على اليتامى أموالهم، وأطلق الإثم عاماً في أكل أموال اليتامى، وفي الخطيئة والخيانة والفواحش والكفر. مما يؤنس إلى أن ملحظ القربى في الضعاف من ذوي الأرحام، أصيل في الدلالة. ومت رقة فؤاد الأم، جاء الحوب في الضعف والألم والجهد، ومنه جاء معنى الإثم في ظلم الضعفاء من ذوي القربى بخاصة. والله أعلم. ويؤنس إلى هذا الفهم، حديث "ألك حوبة؟ " يمعنى الأم والحرم اللائي لا يستغنين عمن يقوم عليهن. وهو واضح كذلك في حديث طلاق أم أيوب وفي الشاهد من بيت الأعشى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 110 - {الْعَنَتَ} وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {الْعَنَتَ} فقال ابن عباس: الإثم. ولما سأله نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟ قالك نعم، أما سمعت قول الشاعر: رأيتُك تبتغي عَنَتِى وتسعى. . . مع الساعي علىَّ بِغيرِ ذَخْلِ (تق، ك، ط) = الكلمة من آية النساء 25 في النكاح من الفتيات المؤمنات: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وحيدة الصيغة في القرآن. ومعها من المادة فعل الإعنات ماضياً، في آية البقرة 220: {. . . وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وفعل العنت ماضياً كذلك في آيات: آل عمران 118 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 التوبة 128: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ومعها آية الحجرات: 7 وهذه الكلمات الخمس، هي كل ما في القرآن من المادة. وسبق النظر في استعمال القرآن لكلمة الإثم، في تفسير الحوب في المسألة رقم 109. العنت في اللغة المشقة، وقال أبو عبيدة والزجاج: الهلاك. وقال الزمخشري: وقع فلان في العنت، أي فيما شق عليع. وأكَمَةٌ عنوت: طويلة شاقة المصعد. وعَنِتَ العظم: انكسر بعد الجبر، واعنته: هاضه (س) وهو في آية النساء، الفجور عند الفراء. والزنا في تأويل الطبري، وعن ابن عباس وكثير من أهل التأويل. وقال غيرهم: إنه الحد الذي تخشى منه العقوبة. والصواب من القول عنده: لمن خاف منكم ضررا في دينه وبدنه، فالذين وجهوه إلى الزنا، هو ضرر في الدين، وإلى الحد ضرر في البدن. ونحوه في (مفردات الراغب. والبحر المحيط لأبي حيان والنهاية لابن الأثير) . وملحظ المشقة لا ينفك عن استعمال المادة في العنت والإعنات. والشاهد من قول الأعشى، صريح في الإعنات إلحاحا في التحامل وطلب العثرة. * * * 111 - {فَتِيلًا} قال: فأخبرني عن قول الله تعالى: {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} ما الفتيل: قال: ما في شق النواة، وما فتلت بين أصابعك من الوسخ، قال فيه زيد الفوارس: أعاذلَ بعض لومك لا تِلجَّى. . . فإن اللوم لا يغني فتيلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 (وق) واقتصر في (تق، ك، ط) على: التي تكون في شق النواة وشاهده في الثلاثة قول النابغة: يجمع الجيش ذا الألوف ويغزو. . . ثم لا يرزأ الأعادى فتيلا زاد في (ك، ط) وقال الأول: أعاذلَ بعضَ لومك * البيت = الكلمة في آيات: النساء 49: {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} 77: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} الإسراء 71: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} وليس في القرآن من المادة سواها. وسياقها جميعاً في حساب الله تعالى عباده، لا يظلم أحدٌ فتيلاً. القولان في تأويلهما في المسألة، قالها الفراء في معنى الكلمة بآية النساء (1 / 273) وابن قتيبة في باب الاستعارة من (مشكل اعراب القرآن 1 / 104) وكذلك رواهما الطبري بإسناده عن ابن عباس وغيره من أهل التأويل، والقرطبي في الجامع، والراغب في (المفردات) . وذكر معه: ما تفتله بين أصابعك من خيط أو وسخ. مع التوجيه إلى معناه المجازي: أي أن الله تعالى لا يظلم عباده بأقل الأشياء ولو كان لا خطر له ولا قيمة (الطبري) وكناية عن الحقير والتافه (ابن قتيبة) وعن التحقير والتصغير (القرطبي) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 وكذلك الفتيل في الشاهين، لا يراد بهما حقيقة المفتول أو ما في شق النواة، بل المعنى المجازي من الضآلة والتفاهة هو المراد. * * * 12 - {قِطْمِيرٍ} وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {مِنْ قِطْمِيرٍ} فقال ابن عباس: الجلدة البيضاء التي على النواة. واستشهد بقول أمية ابن أبي الصلت: لم أنل منهم فَسيطاَ ولا رَبـ. . . ـذاً ولا فُوفَةً ولا قطميرا (تق، ك، ط) = الكلمة من آية فاطر 13: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} وحيدة في القرآن، صيغة ومادة. والتفسير تقريب، يقال فيه ما نقلنا في "فتيل" بالمسألة السابقة (111) فهو يرد الكلمة إلى معناها القريب في أصل اللغة، والمراد معناه المجازي، يكني عن القطمير بأهون الأشياء وأخفها، ومثله الشاهد من بيت أمية لا يريد بالقطمير - أصل - معناه في القشرة وسحاة النواة، وإنما يكني بها عن أضال الأشياء وأحقرها. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 113 - {أَرْكَسَهُمْ} وسأل نافع عن الأزرق عن قوله تعالى: {أَرْكَسَهُمْ} فقال ابن عباس: حبسهم، واستشهد بقول أمية بن أبي الصلت: فأُركِسوا في حميم النارِ إنهمُ. . . كانوا عتُاةً تقول الإِفكَ والوزرا (تق) زاد في (ك، ط) : حبسهم في جهنم بما عملوا. = الكلمة من آية النساء 88: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّه ُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} ومعها آية النساء 91 في السياق نفسه: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} ولم يأت من المادة في القرآن الكريم، غير هذا الفعل الرباعي في آيتى النساء. الركس في اللغة النكس وقلب الشيء على رأسه، أو ردّ أوله على آخره، وهو أصل المادة في (مقاييس اللغة: ركس) وشاهده آية النساء، في المسألة والمركوس المنكوس (س، ص) وحكاه القرطبي وأبو حيان عن الكسائي والنضر ابن شميل. وفي معنى آية النساء 88 قال الفراء: ردهم إلى كفرهم (1 / 280) وفي تفسير البخاري لسورة النساء، باب (فما لكم في المنافقين فئتين) الآية: قال ابن عباس: بددهم فئة فئة. ومعه في (فتح الباري) عن ابن عباس أيضاً: أوقعهم، وعنه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 أهلكهم. وهو تفسير باللازم لأن الركس معناه الرجوع (8 / 178) وفي تأويل الطبري: ارتدوا فصاروا مشركين، وفي مفردات الراغب: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ} ردهم إلى كفرهم. ولعل تأويلها في المسألة بالحبس في جهنم، أقرب إلى الشاهد من قول أمية ابن أبي الصلت، منه إلى سياق الكلمة في القرآن الكريم، ومن إركاس في الضلال وفي الفتنة. والله أعلم. * * * 114 - {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} قال: يا ابن عباس، أخبرني عن قول الله - عز وجل -: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} قال: سلطنا عليهم الجبابرة فساموهم سوء العذاب. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت لبيد بن ربيعة يقول: إن يُغْبَطُوا ييسروا وإن أَمِرُوا. . . يوما يصيروا للهُلْكِ والفَقدِ (ك، ط) وفي (تق) قال ابن عباس: سلطنا. = الكلمة من آية الإسراء 16: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَة ً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} تأويل "أمرنا" في المسألة بالتسليط، كأنه على قراءة "أمَّرنا" بالتشديد، كما صرح بذلك الفراء في معنى الآية، قال بعد ذكر القراءات فيها: وفسر بعضهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 "أمرنا" بالطاعة "ففسقوا" أي أن المترف إذا أمِر بالطاعة خلف إلى الفسوق، وقرأ الحسن: آمرنا، وروى عنه: أمِرنا، ولا ندري أنها حُفظت عنه، لأنا لا نعرف معناها ها هنا، ومعنى آمرنا بالمد: كثَرنا. وقرأ أبو العالية الرِياحى: أمَّرنا، وهو موافق لتفسير ابن عباس، وذلك أنه قال: سلطنا رؤساءها ففسقوا فيها (2 / 119) والجمهور على القراءة بالتخفيف: {أَمَرْنَا} وأسند البخاري عن عبد الله، بن مسعود - رضي الله عنه -، قال: كنا نقول للحي إذا كثروا في الجاهلية: أمِروا (ك التفسير) الإسراء، باب {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} الآية ومعه في (فتح الباري) بعد نقل كلام الفراء: واختار الطبري قراءة الجمهور، واختار في تأويلها حملها على الظاهر وقال: المعنى: أمرنا مترفيها بالطاعة ففسقوا، ثم أسنده عن ابن عباس. وقد أنكر الزمخشري هذا التأويل وبالغ كعادته، وعمده إنكاره حذف ما لا دليل عليه، وتُعِقبّ بأن السياق يدل عليه، كقولك: أمرته فعصاني، أي بطاعتي، وكذا: أمرته فامتثل (8 / 275) ومعه تأويل الطبري لآية الإسراء (15 / 42) وأنشد الشاهد من قول لبيد. وقال الراغب: أي أمرناهم بالطاعة، لا يؤخذ من ظاهر النص وإنما على تقدير الطاعة مأموراً بها. . . وفي الآية قراءة بالتشديد "أّمرنا مترفيها" أي جعلناهم أمراء. (المفردات) وبالتخفيف "أمَرْنا" قراءة الأئمة السبعة، وجهها كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح. والله أعلم. * * * 115 - {يَفْتِنَكُمُ} وسأل نافع عن معنى قول الله - عز وجل -: {أَن ْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} قال ابن عباس: أن يضلكم الذين كفروا بالعذاب والجهد. واستشهد بقول الشاعر: كلُّ امرئ من عبادِِ الله مضُطَهِدٍ. . . بِبَطْنِ مَكةَ مقهورٍ ومفتونِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 = الكلمة من آية النساء 101: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} مادة (فتن) أصل يدل على ابتلاء واختبار، ومنه الفتنة الامتحان، فتن الدينار، والمعدن، بالنار. وفتنه الشيطان وفتنته الدنيا، وقيل الشيطان فتان (المقاييس والأساس) قال الفراء: أهل الحجاز يقولون فتنتُ الرجل وربيعة وقسي وأسد وجميع أهل نجد يقولون: أفتنته وفرق بينهما الخليل وسيبويه فقالا: فتنته، جعلته فتنة وأفتنته جعلته مفتَتَنا (جامع القرطبي، في آية النساء) وقال ابن فارس في (المقاييس) يقال: فتنة وأفتنة وأنكر الأصمعي أفتن." اقتصر الطبري في الآية، على ذكر وجه الفتنة، قال: وقتنتهم إياهم فيها، حملُهم عليهم وهم ساجدون حتى يقتلوهم أو يأسروهم فيمنعوهم من إقامتها ويحولوا بينهم وبين عبادة الله وإخلاص التوحيد له." وبينه الراغب، قال: أصل الفتن إدخال الذهب في النار لتظهر جودته من رداءته. . . وجُعلت الفتنة كالبلاء فيما تدفع إليه الإنسان من شدة ورخاء. وهما في الشدة أظهر وأكثر استعمالا. "وهم لا يفتنون، أي لا يختبرون" (المفردات) وقريب منه قول ابن الأثير: وقد كثر استعمالها فيما أخرجه الاختبار، للمكروه. ثم كثر حتى استعمل بمعنى الإثم والكفر والقتال والإحراق والإزالة، والصرف عن الشيء (النهاية) بكل من الامتحان، والبلاء والابتلاء، والفتنة، جاء القرآن ولعل استقراء آياتها جميعاً يهدي إلى ملحظ في سياق الاستعمال لكل منها: الامتحان بمعنى الاختبار، في آيتين، وهو من الله تعالى في آية الحجرات 9 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} ومن الذين آمنوا للمهاجرات في آية الممتحنة 10: {فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} وجاء الابتلاء مرة واحدة في ابتلاء الأوصياء رشد اليتامى (النساء 6) وغلب مجيئه فيما يبتلى به الله تعالى عباده: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ} {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} ونظائرها. ومعها الآيتان في اليوم الآخر، بدلالة السياق: الطارق 9: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} ويونس 30 وأما الفتنة فتكون من الله تعالى في مثل آيتى العنكبوت {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} ونظائرها. وتكون الفتنة من الشيطان (الأعراف 27) والسَّحر (البقرة 102) والمنافقين (الحديد 14) ومن الكفار والمشركين في آية النساء 101 - وفيها المسألة - وآيات (يونس 83، التوبة 47، الإسراء 74، المائدة 49، العنكبوت 10، البروج 10) ومن قتنة الناس بعضهم لبعض (الفرقان 20) وقول الراغب وابن الأثير، إن البلاء والفتنة أظهر في الشدة وأكثر استعمالا، يؤيده الاستقراء. ويقلُّ مجيئها في الابتلاء بالنعمة والخير، ومع اقترانه بالابتلاء بالضيق والشر، كما في آيات: النمل 40 {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} الأنبياء 35 {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} والأعراف 167، والمَلْك 2، والفجر 15. ومنه الحديث: "ابتليتم بفتنة الضراء فصبرتم، وستبتلون بفتنة السراء". * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 116 - {لَمْ يَغْنَوْا} قال: فأخبرني عن قول الله تعالى: {كَأَن ْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} قال: لم يعمروا فيها. قال فيه مهلهل: غَنِيَتْ دارُنا تهامة في الدهـ. . . ـرِ فيها بنو مَعَدَّ حُلَولاَ وقال فيه لبيد: وغنيتُ سبتاً قبل مَجْرى داحسٍ. . . لو كان للنفس اللجوج خلودُ (وق) وفي (تق) كأن لم يكونوا. زاد في (ك، ط) في الدنيا حين عذبوا فيها. والشاهد في الثلاثة بيت لبيد. الكلمة من آيات: الأعراف 92: في كفارِ مَدْيِن: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} هود 68 في ثمود: {لَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ} هود 95 في مدين: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} وفي المعنى نفسه، جاءت في مثل الحياة الدنيا بآية يونس 24 {. . . حَتَّى إِذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} وفيما عدا هذه الآيات الأربع، جاءت المادة في معنى الغني، نقيض الفقر والحاجة. تأويل {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} في (وق) : كأن لم يعمروا، أوْلَى من: كأن لم يكونوا. والشائع في: غِنىَ بالمكان، أنه بمعنى أقام. وإليه دهب ابن الأثير في حديث عليًّ كرم الله وجهه: "ورجل سماه الناس عالماً ولم يغن في العلم يوماً سالماً" قال: أي لم يلبث في العلم يوماً تاماً، من قولك: غنيت بالمكان أغنَى، إذا أقمت (النهاية) وهو لا يفيد معنى التعمير وهو صريح في الشاهدين لمهلهل ولبيد. على أن بين (لم يغنوا) ولم يعمروا أو لم يقيموا، فرقا دقيقا في الدلالة، التفت إليه "الراغب" حين ربط الغنى في المكان بأصل دلالته في نقيض الحاجة والفقر. قال: غنى في المكان بمعنى طال مقامه فيه، مستغنيا به عن غيره (المفردات) ونضيف إليه ملحظاً آخر من دلالة قرآنية خاصة: فالعربية تستعمل غنى بالمكان ولم يغن، إيجاباً ونفياً. ولم تأت الكلمة في القرآن إلا منفية، في خبر ديار ثمود ومدين، وَمَثَل الحياة الدنيا. فكأن القرآن لا يرى مقاماً في الدنيا، يمكن أن يغني أو يستغنى به، وإنما غَرّ ثمودَ ومدينَ مقامهُم بديارهم فأخذتهم الصيحة والرجفة فأصبحوا جاثمين كأن لم يغنوا فيها. وهو السياق في مَثَلِ الحياة الدنيا، {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} وفي هذا السياق لا تؤدي عُمَّر، وأقام، معنى "غنى" بما تفيد من وهم الغنى والاستغناء فيما نظنه مَغنَى، إذ ليس من شأن الدنيا الفانية أن يكون فيها مغني إلا غروراً ووهماً. والله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 117 - {الْهُونِ} وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {عَذَابَ الْهُونِ} ما الهون؟ فقال ابن عباس: عذاب الهوان. واستشهد بقول عبد الله بن الحارث: إنا وجدنا بلاد الله واسعةً. . . تُنْجِى من الذلَّ والمخزاة والهون (وق) وفي (تق، ك، ط) الشاعر وفُسرت في (ك ط) بالعذاب الشديد. الكلمة من آيتى: الأنعام 93: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} الأحقاف 20: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} ومعهما العذابُ الهون في آية فصلت 17: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} وجاء العذاب وعذاب، موصوفين بالمهين ومهين، أربع عشرة مرة. ومعها اسم المفعول في آية الفرقان 69: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} والفعل من الإهانة في آيتى الفجر 16 {فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} والحج 18: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} وفي غير هذا السياق، آية الفرقان 68: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} قال أبو عبيدة "يُجُزَون عذاب الهُون" مضموم وهو الهوان. وإذا فتحوا أوله فهو الرفق واللين (مجاز القرآن) 1 / 200 ونحوه في (س) . ويفرق (الراغب) بين نوعين من الهوان: أحدهما تذلل الإنسان نفسه لما لا يُلحق به غضاضة فيُمدح، نحو {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} وأن يكون من جهة متسلطٍ به فيذم، وعليه قوله تعالى: {عَذَابٌ مُهِينٌ} {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} (المفردات) ثم لا يفوتنا أن تفسير الهوُن بالهوان، على ما يبدو من قربه، فيه أن القرآن لم يستعمل صيغة الهوان. والهوان والهوُن كلاهما من مصادر (هان) لكن العربية حين تخالف بين المصادر فلملحظ من فروق الدلالات. فيكون: الهَون بالفتح، للسهولة واليسر ومنه معنى الدعة واللين، والهوينى: سير على مهل. . . والاستهانة والتهاون للتساهل والتفريط، كأنك تجده هيناً سهلاً، والهوان والمهانة، للاحتقار والازدراء. والهُون، بالضم، للخِزى. * * * 118 - {نَقِيرًا} قال: فأخبرني عن قول الله - عز وجل -: {فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاس َ نَقِيرًا} ما النقير؟ قال: النقير ما في شق النواة، قال فيه الشاعر: لقد رزحتْ كلاب بني زُبيد. . . فما يُعطون سائلهم نقيرا (وق) زاد في (تق) : ومنه تنبت النخل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 وفي (ك، ط) : ما ظهر النواة ومنه تنبت النخلة. وشاهده في الثلاثة قول الشاعر: وليس الناسُ بعدَكَ في نَقِير. . . وليسوا غيرَ أصداءٍ وهَامِ والمسألة فيها: {وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} = الكلمة في (وق) من آية النساء 35: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} وفي (تق، ك، ط) من آية النساء 124: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} ومن المادة: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} بآية المدثر 8. تأويلها في المسألة بما في شق النواة أو ظهرها، أوضح منه قول أبي عبيدة في (مجاز القرآن 1 / 130) والفراء في (معاني القرآن 1 / 273) : النقرة في ظهر النواة. وجهها أهل اللغة وأهل التأويل بمثل ما وجهوا به "فتيلا" و"قطميرا" - في المسألتين: 111، 112 - غير مُرادٍ بها أصل معناها، بل المراد المعنى المجازي كناية عن الضئيل الحقير والتافه لا قيمه له. "وأصل النقير النكتة التي في ظهر النواة". الأساس. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 119 - {فَارِضٌ} وسأل نافع عن قوله تعالى: {لَا فَارِضٌ} فقال ابن عباس: الهرمة. ولما سأله نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر: لَعمرى لقد أعطيت ضيفَك فارِضاً. . . تُساق إليه ما تقومُ على رِجْل (تق) وزاد في (ك، ط) الكبيرة المسنة الكلمة من آية البقرة 68 في قوم موسى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} وحيدة الصيغة والاستعمال في القرآن. وسائر ما فيه من المادة، إنما هو في الفرْضِ، والفريضة، والمفروض. معناها عند الفراء: ليست بهرمة ولا شابة. والفارض قد فرضَتْ وبعضهم يقول فرُضت (1 / 44) . وهي المسنة في شرح شواهد الكشاف. وردها الراغب إلى معنى القطع، قال: ورجل فارض: بصير بحكم الفرائض - الحجج القاطعة - منقولاً إليه من الفارض: بصير بحكم الفرائض - الحجج القاطعة - منقولاً إليه من الفارض، المسنّ من البقر. وقيل إنما سمي فارضاً لكونه فارضاً للأرض أي قاطعاً، أو فارضاً لما يحمل من المشاق. وقيل: بل لأن فريضة البقر اثنتان: تبيعة ومُسِنَّة، فالتبيع يجوز في حال دون حال، فسميت الفارضة لذلك، فعل هذا يكون الفارض اسماً إسلامياً (المفردات) . قال في الكشاف: الفارض المسنة التي انقطعت ولادتها من الكبر وكأنها سميت فارضا لأنها فرضت سنها وانقطعت وأنشد الشاهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 والبكر الفتية، والعوان النصف. وفي تفسير القرطبي عن ابن قتبيبة، أن الفارض التي ولدت. وذهب ابن فارس في (المقاييس / فرض) إلى أن الفارض - في الآية. بمعنى المسنة، مما شذ عن الأصل في الفرض، وهو عنده: الحزّ في الشيء. ولا يبعد عن أصله، أن تكون المسنة قد حز فيها الزمن. * * * 120 - {الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} من {الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} قال: أخبرني عن قول الله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} قال: الخيط الأبيض نور الفجر، والخيط الأسود سواد الليل. قال: فهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل القرآن؟ قال: نعم، قال أمية بن أبي الصلت: الخيط الأبيضُ نور الصبح مُنفِلق. . . والخيط الأسود لون الليل مكمومُ (وق) وفي (تق، ك، ط) قال: بياض النهار من سواد الليل. = الكلمات في آية البقرة 187 في أحكام الصيام: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُم ُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وفي (مجاز القرآن لأبي عبيدة) الخيط الأبيض هو الصبح المعروف، والخيط الأسود هو الليل، والخيط: اللون (1 / 68) واقتصر الفراء في معناها على حديث من سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: هو الليل من النهار (1 / 114) . وأخرج البخاري في (ك التفسير، باب: وكلوا واشربوا) الآية، عن عدى بن حاتم - رضي الله عنه -، من وجهين، أنه أخذ عقالا أبيض، وعقالا أسود فوضعهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 تحت وسادة حتى كان بعض الليل فلم يستبينا فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنك أذاً لعريض القفا، بل هو سواد الليل من بياض النهار" ثم أخرج عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أنه لما نزلت قوله تعالى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} كان رجال إذا أرادوا الصوم ربط احدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله تعالى بعدُ: {مِنَ الْفَجْرِ} فعلموا أنه يعني سواد الليل من بياض النهار. ونقل الطبري اختلاف أهل التأويل فيه على قولين. أنه ضوء النهار بطلوع الفجر من سواد الليل. وقال آخرون: هو ضوء الشمس من سواد الليل. وأوْلاهما بالصواب عنده القول الأول، وقوله تعالى {مِنَ الْفَجْرِ} ، يعني حتى يتبين الخيط الأبيض من الفجر، وليس ذلك هو جميع الفجر، فمن حينئذ فصوموا "ثم أتموا الصيام الليل" والخيط الأبيض إنما يتبين عند ابتداء أوائل الفجر، وقد جعله الله تعال حداً لمن لزمه الصوم. * * * 121 - {شَرَوْا} وسأله نافع عن معنى قوله تعالى: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} قال: باعوا نصيبهم من الآخرة بطمع يسير من الدنيا. . . أما سمعت قول الشاعر: يُعْطَى بها ثمنا فيمنعها. . . ويقول صاحبها ألا تَستِرى (تق) والمسألة في (ك، ط) : {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} وليس الشاهد لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 = الكلمة من آية البقرة 102 في السَّحْر: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} وأما الكلمة في (ك) فمن آية البقرة 90 في بني إسرائيل: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} الكلمتان: شروا، واشتروا في الآيتين، ونظائرهما، بمعنى باعوا عند أهل التأويل. وشرى واشترى عند علماء اللغة في الأضداد: بمعنى باع وبمعنى اشترى: أوردهما الأصكعي في: (باع) للمشتري والبائع، وفي (شراه) : ملَكه بالبيع، وأيضاً باعه (الأضداد) وفي (باع) قال أبو حاتم السجستاني في الأضداد: يقال بعت الشيء وأخذت ثمنه، وبعض العرب يقول: بعت الشيء أي اشتريته.. وقالوا اشتريت الشيء وأعطيت ثمنه، وقد يقال اشتريت الشيء إذا بعته. وبعتهُ أوضح في الوجهين، وفي القرآن {الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} أي يبيعون. و {مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ} يبيعها. ومن شواهده لشرى بمعنى البيع بيت "المسيب ابن علس" وبمعنى الشراء قول "طرفة" - في معلقته: ويأتيك بالأخبار من لم تبع له. . . بتاتا ولم تضرب له وقت موعدِ وأورده ابن الأنباري كذلك في: اشتريت، وفي بعت، وأنشد فيه بيت المسيب (الأضداد) وابنُ السكيت في شرى، وباع، من كتابه (الأضداد.) وقال ابن قتيبة في باب المقلوب من (مشكل إعراب القرآن) : يقال للمشتري شارٍ، وللبائع شارٍ، لأن كل واحد منهما اشترى، فكذلك قولهم لكل واحد منهما: بائع، لأنه باع وأخذ عوضاً مما دفع فهو شارٍ وبائع. وقال الله - عز وجل -: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} وفي مجاز القرآن لأبي عبيدة، آية البقرة 102 أي باعوا به أنفسهم. وقال ابن مفرغ الحميري: وشرَيْت بُرْداً ليتني. . . من بعد برد كنت هامه أي بعُته. وبرد غلام له كان باعه. وفي آية البقرة 90: في معاني تالقرآن للفراء: معناه والله أعلم، بئس ما باعوا به أنفسهم. . . وللعرب في شروا واشتروا مذهبان، فالأكثر منهما أن شروا: باعوا، واشتروا: ابتاعوا. وربما جعلوهما باعوا، وكذلك البيع يقال: بعت الثوب على معنى أخرجته من يدي. وبعته اشتريته، وهذه اللغة في تميم وربيعة، سمعت أبا ثروان - العُكلى - يقول لرجل: بع لي تمرا بدرهم، يريد: اشترلى. وأنشدني بعض ربيعة - لطرفة، من معلقته: ويأتيكَ بالخبار من لم تَبِعْ له. . . بتاتاً، ولم تضرب له وقت موعد على معنى: لم تشتر له بتاتا. قال الفراء: والبتاتُ والزادُ". وكون ذلك من اختلاف اللغات، أقرب من القول بالضدية. على أن "ابن فارس" في (المقاييس) ردَّ (شرى) في الشراء والبيع، إلى أصل "المماثلة: أخذاً وإعطاءً: شريت الشيء واشتريته، إذا أخذته من صاحبه بثمنه. وربما قالوا: شريت، إذا بعت، قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} . والمماثلة ليست متعينة فيما يؤخذ ويعطى، بيعا وشراء، إلا أن يعني بها المبادلة، فيقرب. وذهب الزمخشري إلى أن: من المجاز {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} : استبدلوه {يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} - الأساس والقاعدة في الاستبدال، أن الباء تدخل على المتروك: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 ولم يطرد دخولها على المبيع المتروك، في: شرى، واشترى، كما يتضح بعدُ، بالاستقراء. ولم يفرق "ابن الأثير" بين شرى، واشترى، وباع، قال في حديث الزبير لأبنه عبد الله، - رضي الله عنهما - "والله لا اشرى عملى بشيء من الدنيا": لا أشرى أي لا أبيع. يقال: شرى، بمعنى باع، واشترى (النهاية) . والوجه عند "الراغب" أن: الشراء والبيع يتلازمان، فالمشترى دافع الثمن وآخذ المثُمَّن، والبائع دافع المُثَمَّن وآخذه الثمن، هذا إذا كانت المبايعة والمشاراة بيع سلعة بسلعة فصح أن يتصورَّ كل واحد منهما مشتريا وبائعا. ومن هذا الوجه صار لفظ البيع والشراء يستعمل كل واحد منهما في موضع الآخر. وشَريِتُ بمعنى بِعتُ أكثر، وابتعت بمعنى اشتريت أكثر, قال الله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} أي باعوه، وكذلك قوله {يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} . ويجوز الشراء والاشتراء في كل ما يحصل به شيء - وليس سلعة - نحو {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} . . . وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} فقد ذكر ما اشترى به وهو قوله: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ} الآية. . . ويسمى الخوارج بالشراة متأولين فيه بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} فمعنى يشري، يبيع. (المفردات: شرى) . . . ما أضيفه إلى المسألة، مما هدى إليه الأستقراء، هو أن (شرى) الثلاثي لم تأت في القرآن - ولا في شواهدهم - إلا بمعنى باع، ودخلت الباء على المشتَرَى المطلوب، لا على المبيع المتروك. يطرد ذلك في آياتها الأربع: البقرة 102: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} البقرة 207: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} النساء 74: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} يوسف 20: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} وأما اشترى، فجاءت احدى وعشرين مرة، فعلاً ماضيا ومضارعا، للواحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 وللجماعة، يفيد سياقها في تسعة عشر موضعا أنها بمعنى الشراء، والباء فيها دخلت على المبيع المتروك، مثل: البقرة 16: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} البقرة 86: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} البقرة 175: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ} التوبة 9: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} ونظائرها. وفي آيتين، دخلت الباء على الثمن المبذول المأخوذ، لا على المبيع المتروك المنبوذ، فأفادت اشترى معنى باع: البقرة 90 في الكافرين من أهل الكتاب جاءهم كتاب القرآن من عند الله مصدقاً لما معهم فكفروا به: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي: باعوا انفسهم. والتوبة 111: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} وهم هنا بائعون، باعوا أنفسهم لله تعالى، بصريح نص الآية: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} صدق الله العظيم * * * 122 - {حُسْبَانًا} وسأله عن قوله تعالى : {حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ} فقال: ناراً من السماء. ولما سأله نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟ أجاب: نعم، أما سمعت قول حسان: بقية معشرٍ صُبَّتْ عليهم. . . شآبيبٌ من الحسيانِ شُهْبُ (تق، ك، ط) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 = الكلمة من آية الكهف 40: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} ومعها آية الأنعام 96: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} وآية الرحمن 5: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} وجاء الحساب بدلالة إسلامية على المحاسبة يوم الحساب، باستثناء آيتى يونس 5: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} والإسراء 12. لم يفت "الراغبَ" ربطُ الكلمة في آية الكهف، بأصل معنى الحساب في العدد. قال: الحساب استعمال العدد: {عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} . . . {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ} : ناراً وعذاباً. وإنما هو في الحقيقة ما يُحاسَب عليه فيُجازى به (المفردات) . وحكاه أبو حيان في البحر، عن الزجاج. ودلالة المادة أصلاً على العدد والحساب، لا تنفك عنها في كل صيغها واستعمالها. ومنه جاء "الحساب" بدلالته الإسلامية على حساب الله لعباده على أعمالهم وكفى به حسيباً. ولم يفرق "الراغب" بين الحسبان والحساب، كما ترى فيما نقلتُ من عبارته في (المفردات) . واختلاف الصيغتين يوجب اختلافاً في المعنى وراء دلالتهما المشتركة: الاستعمال في العدد، أصل الدلالة في الحساب. ومنه أُخَذَ الحسبانُ بمعنى التقدير الزمني كما في آيتى الأنعام {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} والرحمن: {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} . واستعماله في العقاب، ملحوظ فيه معنى المحاسبة على العمل، كما هو واضح من سياق آية الكهف: {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ} يحتمل أن يكون ناراً كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 قال ابن عباس، ويحتمل أن يكون مرامى من السماء، قاله الأخفض وأبو عبيدة، أو جراداً كما نُقِلَ عن أبي زياد الكلابي، أو البرد فيما روى عن الضحاك، أو الصواعق والإعصار كما في آية البقرة 266، أو آفة مجتاحة (الطبري، والقرطبي، وأبو حيان) والله أعلم. * * * 123 - {عَنَتِ} وسأل نلفع عو قوله تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ} فقال ابن عباس: استسلمت وخضعت. واستهشد بقول الشاعر: ليِبْكِ عليكَ كلُّ عانٍ بِكُرْبَةٍ. . . وآلُ قُصَىَّ من مُقِلَّ وذي وَفْرِ الكلمة من آية طه 111 {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} وحيدة في القرآن، صيغة ومادة. من: عنا يعنو. واليائي منها: عنىَ، ليس في القرآن كذلك. تفسيرها بالاستسلام والخضوع، في المسألة، قاله الفراء في معناها بآية طه. وقال الطبري: استأسرت وجوه الخلق واستسلمت، وأصل العنو الذل: عنا وجهُه لربَّه يعنو عنوا: خضع له وذل. وكذلك قيل للأسير عانٍ لذلة الأسر. فأما قولهم: أخذت الشيء عنوة، فهو أخذه غلبة، وقد يكون عن تسليم وطاعة. و"الراغب" فسر الكلمة كذلك بالخضوع، مع ربطها بالنصب والعناءـ قال: وعنت الوجوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 للحي القيوم، أي خضعت مستأسرة بعناء. وعنَّيته بكذا: أنصبته. وعُنىَ: نصب واستأسر، ومنه العاني الأسير (المفردات) . والعربية تفرق بين الواوي واليائي من المادة، فتجعل الواوي للعناء والأسر والخضوع. ومنه العاني: الأسير والمعاناة: المكابدة والمقاساة، والعنوة: القهر، والتعني: التجشم. وااليائي للاهتمام والعناية، ومنه الحديث: (من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعينه) أي: ما لا يهمه كما في (النهاية) . * * * 124 - {ضَنْكًا} وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {مَعِيشَةً ضَنْكًا} فقال ابن عباس: الضنك الشديد. واستشهد بقول الشاعر: والخيل قد لحقتْ بها في مأزقٍ. . . ضَنْكٍ نواحيه، شديد المقدمِ (تق، ك) = الكلمة من آية طه 124: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَة ً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} وحيدة في القرآن صيغة ومادة. معناها عند الفراء، الضيقة الشديدة، بالتأنيث، لأن الضيقّ لست كضنك: يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع، والمذكر والمؤنث: عيش ضنك ومعيشة ضنك، وُصِفَ بالمصدر. وهي عند أهل التأويل كذلك الضيق، أو الضيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 الشديد واختلاف أقوالهم فيها إنما هو في وجه هذا الضنك: قيل عذاب القبر، وقيل الكسب الحرام، وقيل الزقوم (الطبري، القرطبي.) والقرآن لم يستعمل ضنكاً إلا في هذا الموضع، نذيراً لمن أعرض عن ذكره تعالى، يحشره سبحانه يوم القيامة أعمى. وأما الضيق، فجاء في ضيق النفس والأرض على الثلاثة الذين خلفوا عن الخروج مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، لغير نفاق: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} التوبة 118 وفي ضيق الصدر بآيات الحجر 97، والشعراء 13، والأنعام 135 ومعها، آيات: النحل 127 {وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} والنمل 71، وهود 12 {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} والخطاب في الآيات الثلاث، للنبي عليه الصلاة والسلام. وآيتا هود 77، والعنكبوت 33 في ضيق لوط عليه السلام بضيفه: {سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} وجاء الضيق في سياق عذاب الآخرة، في آية الفرقان 13: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} يبدو أن الضنك، في البيان القرآني، أشد الضيق وهو في الشاهد للمأزق وضنك السعال يأخذ بالخناق. وأما الضيق، فأعمُّ في الدلالة من الضنك، يكون من عذابٍ كآية الفرقان، ويكون من ضيق الصدر هماً وكربا، كما يكون من ضيق الأرض والمكان. والله أعلم. أو بعبارة موجزة: الضيق نقيض السعة، على الحقيقة أو المجاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 والضنك: أشد الضيق والمأزق. "ويقال: إن المال الحرام ضنك، وإن كثر واتُّسِعَ فيه" الأساس. * * * 125 - {فَجٍّ} وسأل نافع عن قوله تعالى: {مِنْ كُلِّ فَجٍّ} فقال ابن عباس: طريق. واستشهد بقول الشاعر: حازوا العيالَ وسدوُّا الفِجا. . . جَ بأجسادَ عادٍ لها آبدات (تق) وفي (ك) : الشاعر يرثى قوم عاد. = الكلمة من آية الحج 27: خطاباً لإبراهيم عليه السلام: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُل ِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} ومعها، بصيغة الجمع، آيتا: الأنبياء 31: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} نوح 20: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} وهذا كل كا في القرآن من المادة. الفَجُّ واحد الفجاج عند أهل اللغة: كل سعة بين نشازين (تهذيب الألفاظ باب أسماء الطرق) أو هو الطريق الواسع بين جبلين. والفُجَّة، بالضم الفرجة (ق) وفرَّق الراغب بين طريق وفج، فقال: الطريق السبيل الذي يُطرق بالأرجل، ومعه استعير كل مسلك يسلكه الإنسان في فعله، محمود ومذموم. والفج: شقة يكتنفها جبلان، ويستعمل في الطريق الواسع (المفردات) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 وقيده ابن ألثير كذلك بالسعة في حديث الحج: "وكل فجاج مكَة منحر" قال: الفجاج جمع فج، وهو الطريق الواسع (النهاية) . ومما هدى إليه التدبر لآيات القرآن في الفج والطريق: الفج والفجاج في آياتهما الثلاث، على أصل معناها في الطريق الحسي المطروق. وأما الطريق، فيأتي حسياً في آية طه 77 خطاباً لموسى عليه السلام: {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} ومعها المؤمنون 17، في مجرى الأفلاك: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} ويأتي في سائر الأيات بدلالة معنوية مجازية، كآيات: الأحقاف 30: {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} النساء 168: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} وفي المعنوي كذلك، تأتي طريقة وطرائق في آيات: طه 104: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} الجن 11: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} الجن 16: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} ولاختصاص فجاج، بالطرق الحسية، جاءت: {فِجَاجًا سُبُلًا} {سُبُلًا فِجَاجًا} ولم تأت سبل مع طرائق وطريق وطريقة إذ يغلب استعمالها بدلالة مجازية معنوية للمسلك محموداً أو مذموماً، استعارة من الطريق المطروق، كما قال "الراغب" والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 126 - {الْحُبُكِ} قال: فأخبرني عن قول الله - عز وجل -: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} قال: الطرائق. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول زهير ابن أبي سلمى: مُكَلَّلٌ بأصولِ النجم تَنْنسِجُهُ. . . ريحُ الشمال لضاحى مائِه حُبُكُ (ظ في الروايتين، طب) وفي (تق، ك) : ذات طرائق والخَلْق الحسن. وشاهده قول زهير: هم يضربون حَبِيكَ البَيْض إذ لحقوا. . . لا ينكصون إذا ما إذا ما استُلحمِوا وحَموا = الكلمة من آية الذرايات 7: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} وحيدة يف القرآن، مادة وصيغة. الحبك في شرح الديوان، طرائق الماء، الواحد حبيك. وعلى هامشه: والذي في كتب اللغة أن مفرد الحبُك حِبَاك، ككتب وكتاب. والنقل من (ق) . في (معاني القرآن) قال الفراء: وواحد الحبك حِباك وحبيكة أيضاً. وقاله الزمخشري في (س) وأبو حيان في (البحر) والجوهري في (ص) ولفظه: الحبيكة والحباك الطريقة في الرمل. وجمع الحبُك حِباك، وجمع الحبيكة حبيك وحبائك وجبك كسفينة وسفين وسفائن وسفن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 وهي عندهم الطرائق، في الرمل، إذا مرت به الريح الساكنة فتكسر، والماء كذلك وطرائق النجوم، والدرع محبوكة لأن حلقها مطرق طرائق، والمحبوك الشديد الخلق من فرس وغيره والمجعد من خُصل الشعر ومن العُرَى. وسبق النظر في طريق وطرائق، في المسألة 125 {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} وقال الراغب في الحبك: الطرائق فمن الناس من تصور أنها الطرائق المحسوسة بالنجوم والمجرة. ومنهم من اعتبر ذلك بما فيها من الطرائق المعقولة المدركة بالبصيرة. وأصله من قولهم: محبوك العرُى أي محكمُه. والاحتباك شدّ الإزار (المفردات) . فاويلها في المسألة بالطرائق، والخلق الحسن، لا يفيد دلالة الإحكام الملحوظة في الحبْك. * * * 127 - {حَرَضًا} قال: فأخبرني عن قول الله - عز وجل -: {حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا} قال: الحرض البالي. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم أما سمعت طرفة حيث يقول: أمِنْ ذِكْرِ ليلى أنْ نأتْ غربةُ النوَى. . . كأنك حَمَّ للأطباء مُحرَضُ (ظ) في الروايتين وفي (وق) : الفاسد الدنف، وفي (طب) : البالي. والشاهد فيها بيت طرفة. وفي (تق ك) : الحرض الدنف الهالك من شدة الوجع. والشاهد فيهما بيت طرفة، غير منسوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 = الكلمة من آية يوسف 85، في أبيه عليهما السلام، وإخوته: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} وحيدة الصيغة، وليس معها في القرآن من مادتها سوى فعل الأمر "حَرَّضْ" المؤمنين على القتال في آيتى الأنفال 85، والنساء 84. يقال: حَرَضٌ، للمذكر والمؤنث، الواحد والاثنين والجمع، وصف بالمصدر. ويقال حارض وحارضة فيثنى ويجمع. وهو الفاسد في جسمه أو عقله (معاني القرآن للفراء 2 / 54) وعن أبي عبيدة: الحرض الفاسد في الجسم، أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم. وفي (تهذيب الألفاظ) : الحارض: الرذل الفسل الذاهب العقلي، والحرض الذي لا يُرجَى خيره ولا يخاف منه. وفي (س) المنُهك المشفي على المهلاك. ومعه في (ق) الكالّ المعيِى، والمضنىّ مرضاً وسقماً. . . وفي (المقاييس) لمادة حرض أصلان. أحدهما بنت - الأشنان، وإلا حريص العصفر، والآخر دليل التلف والإشراف على الهلاك، ومنه {حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا} . واوله آخرون بالتالف الدنف من المرض وهو دون الموت، عن ابن عباس ومجاهد. وقيل اليابس الجلد على العظم، والذائب من الهم. (الطبري والقرطبي) وهي معان متقاربة، وفي قولٍ: هالكا، وليس السياق. وفسره الراغب بنحو ما نقلناه عن ابن السكيت والزمخشري. تأويله في المسألة بالبالي، لا يفيد دلالة من أذابه الهم وأضناه الأسف والحزن. وتأويله بالهالك، يمنعه سياق الآية {حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} فالأقرب إلى حرض، المشفي على الهلاك. والله أعلم. * * * 128 - {يَدُعُّ} وسأل نافع عن قوله تعالى : {يَدُعُّ الْيَتِيمَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 فقال ابن عباس: يدفعه عن حقه. واستشهد بقول أبي طالب: يُقسَّمُ حقاً لليتيم ولم يكن. . . يَدُعُّ لدى أيسارِهن الأصاغوا (تق، ك، ط) = الكلمة من آية الماعون 2: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} معها في القرآن من مادتها آية الطور 13 {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} في (مقاييس اللغة) : الدال والعين أضل واحد منقاس مطرد، وهو يدل على حركة ودفع واضطراب. ومعنى {يَدُعُّ الْيَتِيمَ} عند الفراء كالذي في المسألة: يدفعه عن حقه ويظلمه، (3 / 264) وهو أحد الأقوال في تأويلها عند الطبري، ومعه: يقهره، ويدفعه. وفسر ابن الأثير الدفع بالطرد. ولعل القهر والدفع بقسوة وجفوة. أولى من تأويلها في المسألة بدفعه عن حقه، ونستأنس لها بآية الطور: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} ولاحق فيها للمكذبين يُدَعُّون عنه ويدفعون، وإنما الدعُّ سَزْقٌ بقهرٍ ونهرٍ وغلظة ودع اليتيم، قد يكون مع عدم دفعه عن حقه وظلمه، وقد يتصور بعض الناس أنهم إذا أدوا لليتيم حقه وماله، فليس عليهم وراء ذلك أن ينهروه ويصدوه في جفاء وقسوة وغلظة. وفي (الأساس) : دع اليتيم دفعه بجفوة. اللهم لا أن يدخل في حقه، على تأويلها بالدفع عنه، ما أمر به الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام من إكرام اليتيم والرفق به والمرحمة، وأنه تعالى جعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 دعَّ اليتيم في الآية تكذيباً بالدين. وفيما مَنَّ به الله تعالى على نبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} صدق الله العظيم. * * * 129 - {مُنْفَطِرٌ} وسأل نافع عن قوله تعالى: {السَّمَاء ُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} فقال ابن عباس: منصدع من خوغ يوم القيامة. واستشهد بقول الشاعر: طبَاهنَّ حتى أعوصّ الليل دونَها. . . أفاطير وَسْمِىَّ رواءٍ جذورهُا (تق، ك، ط) = الكلمة من آية المزمل 18: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا} وحيدة الصيغة في القرآن، ومعها الفعل الماضي في آية الانفطار: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} ومن المادة، جاء الفعل الثلاثي ماضياً ثماني مرات، الإسناد فيخا جميعاً سبحانه الذي "فطر" السموات والأرض، وفطرني وفطرنا وفطركم أول مرة. كما جاء اسن الفاعل ست مرات لله تعالى: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ومعها {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} . و"فُطور" في آية الملك 3: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} و {يَتَفَطَّرْنَ} في آيتى مريم 90، والشورى 5. في معنى آية المزمل، قال الفراء: منفطر به بذلك اليوم. والسماء تذكر وتؤنث، فهي ها هنا على وجه التذكير (3 / 199) . وفي المجاز لأبي عبيدة، قال: جعُلت السماء بدلا من السقف، بمنزلة تذكير سماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 البيت (1 / 15) ونحوه عن أبي عمرو بن العلاء، والكسائي، حكاه أبو حيان والقرطبي في تفسير الآية. مع خلاصة لأقوال علماء اللغة في توجيه التذكير. وجاءت في القرآن على وجه التأنيث، في {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} وفسر البخاري "منفطر به"، بمثقلة به. ذكر ابن حجر تخريجه عن الحسن قال: مثقلة به يوم القيامة، وبلفظ: مثقلة موقرة، كذلك (فتح الباري 8 / 478) . وفي تأويل الطبري: السماء مثقلة بذلك اليوم متصدعة مضققة وأسند عنه ابن عباس قال: يعني تشقق السماء حين ينزل الرحمن - عز وجل - يوم القيامة. وعنه أيضاً: ممتلئة به، بلسان الحبشة. ورده الراغب إلى: أصل الفطر الشق طولاًَ، يقال فطر فلان كذا فكورا وانفطر "من فطور" من اختلال. وذلك على سبيل الفساد. وقد يكون على سبيل الصلاح، قال تعال {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} (المفردات) . وأسند ابن الأنباري، في غير المسائل، من طريق مجاهد عن ابن عباس، قال: ما كنت أدري ما {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} حتى أتاني أعهرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها، أنا ابتدأتها. (الوقف، فقرة 109) . وفي القرآن الكريم، لا يأتي (فطر، وفاطر) إلا بدلالة إسلامية، لله - عز وجل - فاطر السموات والأرض، والفطرة الخلقة الأصلية التي فطر الله الناس عليها. ومن استعمال المادة في العربية: فطر الناب، ورءوس العنب عن تشقق، ومنه: تفطرت قدماه إذا تشققت. والإفطار لوجبة الصباح. تكسر جوعَ الليل، وانتقل إلى إفطار الصائم وزكاة الفطر. والفطور خلل، منظور فيه إلى الأصل في التصدع، وهو واضح في انفطار السماء وتفطر السموات والأرض. والضمير في {مُنْفَطِرٌ بِهِ} الله - عز وجل - عند من تأولوه بذلك، وليوم القيامة على التأويل الأرجح. وإسناد النفطار والتفطر إلى السماء والأرض، هو من الإسناد المجازي الدال على طواعية تلقائية كأنه يستغنى بها عن فاعل، ونظيره في آيات القيامة: {إِذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} وقد مضى النظر فيها في مباحث الإعجاز. * * * 130 - {يُوزَعُونَ} وسأله عن معنى قوله تعالى: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} قال: يحبُس أولهم على آخرهم حتى تنام الطير، وشاهده قول الشاعر: وزَعْتُ رَعِيلَها بِأقَبَّ نَهْدٍ. . . إذا ما القومُ شدُّوا بعد خمسّ (تق، ك، ط) = الكلمة من آيات: النمل 17: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} النمل 83: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} فصلت 19: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} وليس في القرآن من المادة، غير هذا الفعل المضارع مبنياً للمجهولين في الآيات الثلاث. ومعها فعل الأمر في آيتى النمل 19 والأحقاف 15: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} الوزع عند أهل اللغة: الكف والمنع. وأوزعه بالشيء أغراه به، قال الفراء في معنى آية الصافات، والجوهري والزمخشري في (ص، س) "وقال بعض أهل اللغة: أوزعت حرف من الأضداد، يقال أوزعت الرجل إذا أغربته بالشيء، وإذا نهيته وحبسته عنه {فَهُم ْ يُوزَعُونَ} والصحيح عندنا أن يكون أوزعت بمعنى أمرت وأغريت، ووزعت بمعنى حبست. والدليل عليه قوله تعالى: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} (الأضداد 83 / 139) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 قال أبو حاتم السجستاني: وقالوا، زعموا: أوزعني به أولعنى به، وهذا معروف. وقالوا: أوزعته نهيته وكففته، وقال تعالى: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} ، أي يُكفون ويمُنعون. قال أبو حاتم: لا علم لي بهذا، وهو قرآن فلا أقدم عليه. ولكن يقال: وزعته نهيته وكففته. ومنه قيل: يوزعون. ومنه وزَعَةُ السلطانِ الذين يكفون عنه الناس. وفي الحديث "لابد للسلطان من وزَعةُ" وقال الذبياني: على حين عاتبت المشيبَ على الصبا. . . وقلتُ أَلَمَّا تَصْحُ والشيبُ وازعُ (الأضداد: أوزع) . والمعنيان في: وزع، كف ومنع، وأوزعه أغرى. في (ص، س) والنهاية لابن الأثير. وفي (المقاييس) : وزعتُه عن الأمر: كففتُه، قال الله سبحانه: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} اي يُحبس أزلهم على آخرهم. وجمع الوازع وَزَعةَ. تأويلها في المسألة بحبس أولهم على آخرهم حتى تنام الطير، لا يبدو وجه قيد الإيزاع بنوم الطير الذي في معاني القرآن للفراء: وجاء في التفسير يُحبَسُ أوَّلُهم على آخرهم حتى يدخلوا النار، وأسنده الطبري عن ابن عباس، وعنه أيضاً: يجعل على كل صنف من يرد أولاها على أخراها لئلا يتقدموا كما تصنع الملوك. وعن قتادة: يرد أزلهم على آخرهم. واختاره الطبري لأن الوازع في كلام العرب هو الكافّ. يقال منه: وزع فلاناً عن الظلم إذا كفه عنه. وإنما قيل للذين يدفعون الناس عن الأمراء: وزَعة، لكفهم إياهم عنهم. وفسر الر اغب الوزع بالكف. على سبيل القمع في آية النمل 17، وعلى سيبل العقوبة فيمن يُدَعّون إلى جهنم في آيتى النمل 82 وفصلت 19، وقيل الوزع الولوع. ومنه {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} معناه ألهمني. وتحقيقه: أولعني بذلك واجعلني بحيث أزع نفسي عن الكفران (المفردات) . والكلمة المسئول عنها مبنية للمجهولين، مما يؤنس إلى دلالة السوق إلى المحشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 وعلى وجه الدع والقسر والإرغام. والله أعلم. ولعل أصل المعنى في اللغة: الدفع والسَّوق قسراً، فالموزَع مساق بإرادة غيره. ويأخذ الدفعُ صفة الإرغام فيمن يوزعون إلى المحشر، ويأخذ صفة الحمل والتوجيه في الدعاء. ومن ملحظ التشتت والحيرة والبعثرة في سوق الجمع قسرا، جاء معنى التفرق في الأوزاع. * * * 131 - {خَبَتْ} وسأله نافع عن قوله تعالى: {كُلَّمَا خَبَتْ} فقال ابن عباس: الخبوُّ الذي يطفأ مرة ويُسعر أخرى. واستشهد له بقول الشاعر: والنار تخبو عن آذانهم. . . وأضريها إذا ابتردوا سعيرا (تق، ك، ط) = الكلمة من آية الإسراء 97: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} وحيدة في القرآن صيغة ومادة. تأويلها في المسألة بالانطفاء مرة والسعير أخرى. قد يفهم منه أن سياق الخبو فتور حِدة اللهب وانطفاء وهجه، مع القابلية للتسعير المستمر. وهو صريح فيما اسنده الطبري عن ابن عباس، قال: كلما أحرقتهم تسعر بهم حطبا فإذا أحرقتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 فلم تُبق منهم شيئاً صارت جمرات تتوهج. فذلك خبوها. وفسرها "الراغب" بسكون لهبها، كأنه صار عليها خباء من رماد، أي غشاء. وهو قريب من قول الزمخشري في الأساس: "ومن المجاز: وخبا لهبه إذا سكن أوار غضبه. والحب في خبائه، وهو غشاوة من السنبلة. واحترز القرطبي فقال: وسكون التهابها من غير نقصان في آلامهم ولا تخفيف عنهم من عذابهم. * * * 132 - {الْمُهْلِ} وسأل نافع عن قوله تعالى: {كَالْمُهْلِ} فقال ابن عباس: كدُرْدِى الزيت. ولما سأل نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر: تبارى بها العِيسُ السمومَ كأنها. . . تبطنتِ الأقرابَ من عرقٍ مُهْلا (تق،) زاد في (ك، ط) : وسواد العرق من خوف يوم القيامة. = الكلمة من آيات ثلاث: الكهف 29: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} الدخان 45: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} المعارج 8: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 ومن المادة، جاء فعل الأمر من التمهيل والإمهال في آيتى المنزمل 11 والطارق 17. من معاني المُهْلَ في اللغة: القطران الرقسق. وما ذاب من صفر أو حديد، والزيت أو دُردية أو رقيقة، وما يتحاتّ من الرماد، والجمر والسم والقيح وصديد الميت. والمهل، بالفتح، التؤدة والسكينة والرفق. وأمهله ترفق به، ومهَّله: أجَّله. وتمهل اتأد (ص، ق، س) فلعل المهل في الأصل لذوب المعدن المنصهر - ذكره ابن فارس في المقاييس بلفظ: وقالوا هو النحاس الذائب - لحُظ فيه بطءُ الانصهار فجاء المهل بمعنى التؤدة والبطء، والإمهال بمعنى الإرجاء والتأخير، والتمهيل بمعنى الصبر على من تُمهله. وبملحظ من توقد الانصهار قيل للجمر مهل، ونقل إلى كل سائل كريه مؤذ، كدردى الزيت والقيح وصديد الميت. وروى الطبري من اختلاف أهل التأويل في المهل: أنه كل شيء أذيب وانماع. وقيل هو القيح والدم الأسود، عن مجاهد. وعن ابن عباس: أسود كهيئة الزيت. وعنه أيضاً: هو ماء غليظ مثل دردى الزيت. وفسره الراغب كذلك بدردى الزيت. وعند الطبري: "أن هذه الأقوال وإن اختلفت ألفاظ قائليها فمتقاربات المعنى" والله أعلم. * * * 133 - {وَبِيل} وسأل نافع عن قوله تعالى: {أَخْذًا وَبِيلًا} فقال ابن عباس: شديداًَ ليس له ملجأ. واستشهد له بقول الشاعر: أخِزْىُ الحياةِ وخِزْىُ الَممأتِ. . . وكُلاَّ أراه طعاماً وَبِيلاَ = الكلمة من آية المزمل 16: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 وحيدة الصيغة في القرآن. ومن مادتها، جاء {وَبَالَ أَمْرِهِ} في آية المائدة 95، {وَبَالَ أَمْرِهِمْ} في آية الحشر 15، {وَبَالَ أَمْرِهَا} في آية الطلاق 9. وجاء "وابل" ثلاث مرات في آيتى البقرة 264، 265. في تفسير البخاري: قال ابن عباس: وبيلا شديدا. وفي فتح الباري: وقال أبو عبيدة مثله. وحكاه القرطبي كذلك عن ابن عباس. وقال الزجاج: ثقيلا غليطا. وقيل: مهلكا (سورة المزمل) . وردّه "الراغب" إلى معنى الثقل في المطر الوابل والوبل، ولمراعاة الثقل قيل للأمر الذي يُخاف ضرره: وبال، ويقال طعام وبيل وكلأ وبيل، يخاف وباله، قال تعالى: {أَخْذًا وَبِيلًا} (المفردات) وقال ابن الأثير: الوبال في الأصل الثقل والمكروه، وفي حديث "فاستوبَلوا المدينة" أي استوخموها ولم توافق أبدانهم. ويقال أرض وبلة، أي وبئة وخمة. وفي (المقاييس) : الواو والباء واللام أصل يدل على شدة في شيء وتجمع (وبل 6 / 82) . قد نرى أن العربية خالفت بين الصيغ لفروق في الدلالات، فجعلت الوابل للثقل الشديد التدفق والانهمار، وأكثر ما يختص به المطر. وجعلت الوبال للويل وثقل العذاب، وجعلت الوبل للوبئ الوخيم، والوبيل للادح المهلك. * * * 134 - {نَقَّبُوا} وسأل نافع عن قوله تعالى: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ} فقال ابن عباس: هربوا، بلغة اليمن. واستشهد بقول عدى بن زيد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 نقبوا في البلاد من حذر المو. . . ت وجالوا في الأرض أي مجالِ (تق، ك، ط) = الكلمة من آية (ق) 36: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} وحيدة الصيغة في مادتها. وجاء النقب في آية الكهف 97، في خبر ذي القرنين: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} ونقيب في آية المائدة 12: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} القراءة {فَنَقَّبُوا} قراءة الأئمة السبعة. معناها عند الفراء: خرقوا البلاد فساروا فيها فهل كان لهم من الموت محيص؟ (3 / 79) وعن النضر بن شميل: دوّروا. وفي (س) : ساروا. وفي تأويل الطبري: فخربوا في البلاد فساروا فيها فطافوا وتوغلوا إلى الأقاصي منها. وفي تفسير القرطبي: ساروا فيها طلبا للمهرب وقيل: اثروا، عن ابن عباس. وقال مجاهد: ضربوا وطافوا، وقال قتادة طوّفوا، وقال المؤرج - السدوسى - تباعدوا. وقال أبو حيان: أي دخلوا البلاد من أنقابها، والمعنى طافوا في البلاد. وقيل: نقروا وبحثوا. والتنقيب والبحث. وقال الراغب: النقب في الحائط والجلد كالثقب. . . ونقب القوم ساروا (المفردات) . ودلالة البحث والتنقير - بفتح الشيء كما في المقاييس - أصل في المادة وقد يجمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 بين الأقوال المتعددة في تأويل الكلمة أنهم ساروا في البلاد وطافوا بالآفاق وتباعدوا بحثا عن محيص من الموت ومنجي من الهلاك وهيهات. ولحظ أبو حيان أن تنقيبهم في البلاد متسبب عن شدة بطشهم، أقدرتهم على التنقيب وقوّتهم عليه. ونَظَّرَ لها الفراء والطبري بقوله تعالى في سورة محمد عليه الصلاة والسلام: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} صدق الله العظيم. * * * 135 - {هَمْسًا} قال: فأخبرني عن قول الله - عز وجل -: {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} قال: الهمس خفي الأقدام. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت بقول أبي زُبَيد الطائي: فباتوا ساكنين وبات يسرى. . . بصير بالدُّجى هادٍ هموسُ (ظ، في الروايتين) وفي (تق، ك، ط) قلا: الوطء الخفي والكلام الخفي، وشاهده بيت أبي زبيد غير منسوب. = الكلمة من آية طه 108: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} وحيدة في القرآن صيغة ومادة. في معناها عند الفراء: يقال: نقل الأقدام إلى المحشر ويقال إنه الصوت الخفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 وذكر عن ابن عباس أنه تمثل بقول الراجز: * وهن يمشين بنا هميسا * فهذا صوت أخفاف الإبل في سيرها (المعاني: سورة طه) . وبناء (هـ م س) أصله الخفاء كيفما تصرف. ومنه الحروف المهموسة. قال القرطبي. وفي تأويل الطبري أنه وطء الأقدام إلى المحشر، وأصله الصوت الخفي. وأسند عن ابن عباس قال: يعني همس الأقدام وهو الوطء، وعنه: الصوت الخفي. ولا يخرج عن هذين القولين، جمهرة أهل التأويل وهو قول الر اغب: الصوت الخفي وهمس الأقدام أخفى ما يكون من صوتها. وذكر الآية. وقال ابن الأثير في حديث: (فجعل بعضنا يهمس إلى بعض) : اي بالكلام الخفي لا يكاد يسمع. والهموس في الشاهد، من خفى وطء الأقدام. ولعله في الآية. والله أعلم، أقرب إلى أن يكون من همس الأصوات خشوعاً وهيبة، بصريح قوله تعالى: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} صدق الله العظيم. * * * 136 - {مُقْمَحُونَ} وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {مُقْمَحُونَ} فقال ابن عباس: المقمح الشامخ بأنفه المنكس رأسه. ولما سأله ابن الأزرق: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر: ونحنُ علىَ جَوانِبِها قُعُودً. . . نَغضُّ الطَّرفَ كَالإبلِ القِمَاحِ (تق، ك، ط) = الكلمة من آية يس 8: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} وحيدة في القرآن صيغة ومادة. قال الأصمعي: والقوامح التي ترفع رءوسها عن الماء فلا تشرب، قال بشر يذكر سفينة وركبانها: ونحن على جوانبها * البيت. ويقال للشهرين اللذين يشتد فيهما البرد شهرا قماح، لأن الإبل تقامح فيهما، أي تكره شرب الماء من شدة البرد. (الأضداد: قمح) . وخصه ابن فارس أصلاً بصفة تكون عند شرب الماء، وهو أن يرفع رأسه، فهو القامح، من إبلٍ قماح (المقاييس) . وفي (س) : وقمح البعير عن الماء وقامَحَ، إذا رفع رأسه عنه لا يشربه لعيافة أو لبرد الماء أو لبعض العلل. . . ومنه شهراً قماح. قال بشر بن أبي خازم البيت. ومن المجاز: أُمح المغلول فهو مقمح إذا لم يتركه عمودُ الغُل الذي ينخس ذقنه أن يطأطىّ رأسة {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} نقله الشيخ نصر الهوريني في حاشيته على (ق) ونقل معه من قول الأزهري: "وأراد - عز وجل - أن أيديهم لما غُلّت عند أعناقهم رَفعت الأغلالُ أذقانَهم ورءوسهَم صُعُدا كالإبل القماح الرافعة رءوسها" اهـ. والمقمح في تأويل الطبري، هو المقنع، وهو أن يحدر الذقن حتى يصيره في الصدر ثم يرفع رأسه في قول بعض أهل العلم بكلام العرب من البصريين. وفي قول بعض الكوفيين: هو الغاض بصره بعد رفع رأسه.. وقال الراغب: الإقماح من أخذ القمح ورافع رأسه لسفَّه. ثم يقال لرفع الرأس كيفما كان: قمح. قمح البعير رأسه، وأقمحتُ البعيرَ شددت رأسه إلى خلف. وقوله تعالى: {مُقْمَحُونَ} تشبيه بذلك ومَثَلٌ لهم وقصد إلى وصفهم بالتأبي عن الانقياد للحق وعن الإذعان لقبول الرشد. . . وقيل: إشارة إلى حالهم في القيامة إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل (المفردات) . قد نرى أن تأويل المقمح في المسألة بالشامخ لأنفه المنكس رأسه يحتاج شموخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 الأنف فيه إلى قيدِ بالأغلال. أو لعل وجه الاحتراز فيه أنه الشامخ الأنف المنكس رأسه. والله أعلم. * * * 137 - {مَرِيجٍ} وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} فقال ابن عباس: المريج الباطل. ولما سأله ابن الأزرق: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر: فراغَتْ فالتمستُ بها حَشَاها. . . فخَرَّ كأنه خُوطٌ مريج (تق) وفي (ك، ط) : قال: المريج الباطل الفاسد = الكلمة من آية (ق) 5: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} وحيدة الصيغة. ومن مادتها حاء: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} في الفرقان 53، والرحمن 19. {مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} في الرحمن 15. و {الْمَرْجَانُ} مع اللؤلؤ في الرحمن 22، ومع الياقوت في الرحمن 58. تأويلها في المسألة بالباطل، نحو قول الفراء في معناها: في ضلال. وفي تأويل الطبري: فهم في أمر مختلط عليهم ملتبس لا يعرفون حقه من باطله، وقد مرج أمر الناس إذا اختلط وأهمل. ثم أسند عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 {فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} فقال: المريج المنكر، أما سمعت قول الشاعر: * فجالت والتمست به حشاها * البيت. وقال آخرون: بل معناه في أمر مختلف، وقيل في أمر ضلالة، وقيل في أمر ملتبس عليهم. وكلمة الباطل جاءت في القرآن ستا وعشرين مرة نقضياً للحق. كما جاء الفعل منها خمس مرات واسم الفاعل المبطلون خمس مرات كذلك، للضالين المفسدين الخاسرين. وليس في سياقها ما في {مَرِيجٍ} من دلالة يؤنس إليها قوله تعالى في آيتى الفرقان والرحمن: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} بما يفيد المرج من معنى الاختلاط. وقد ذكر "الراغب" الخلط أصلاً لمعنى المرج، وفسر {فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} بمختلط، و {مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} اي لهب مختلط، وأمرجت الجابة في المدعى: أرسلتها فيه (المفردات) . وكذلك فسر ابن الأثير المرج بالخلط، وذكر في {مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} لهبها المختلط بسوادها، والمرج الأرض الواسعة ذات النبات تمرج فيه الدواب، أي تُخلى تسرح مختلطة كيف شاءت (النهاية) . ودلالة الاختلاط والاضطراب أصل في المادة كيفما تصرفت (مقاييس اللغة: مرج 5 / 315) ومنه في المعنوي الالتباس المفضي إلى ضلال. والله أعلم. فإذا كان تفسير ابن عباس لكلمة {مَرِيجٍ} بالباطل، من قبيل التقريب فليس يفوتنا في الكلمة حسُّ الاختلاط والاضطراب من ارتباب الذين اختلط عليه أمر الحق لما جاءهم فكذبوا وضلوا وزغوا عن الحق. والله أعلم. * * * 138 - {حَتْمًا مَقْضِيًّا} وسأل نافع عن قوله تعالى : {حَتْمًا مَقْضِيًّا} ما الحتم؟ فقال ابن عباس: الحتم الواجب، واستشهد بقول أمية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 عبادُك يخطئون وأنا ربُّ. . . بِكَفَّيْكَ المنايا والحتوم (تق، ك، ط) = الكلمة من آية مريم 71: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} وحيدة في القرآن، صيغة ومادة. في تأويل الطبري: قضاء مقضيا. وقيل قسما واجباً. وقال القرطبي: الحتم إيجاب القضاء وفسرها ابن الأثير كذلك، باللازم الواجب الذي لابد من فعله، (النهاية) . وذهب ابن فارس، بأكثر ظنَّ، إلى أن الحتم من إبدال التاء من الكاف، لما فيه من إحكام الشيء (المقاييس 2 / 134) . والأقوال في تأويل الكلمة في الآية، متقاربة. وفي الوجوب، ملحظ من دلالة اللفظ على القطع والحسم، وقد استعملته العربية في القضاء وإيجابه، والحاتم: القاضي، كما استعملته في القضاء المحتوم، وسمَّت غراب البين حاتماً لنذيره بحتم الفراق. ثم لا يبلغ تأويل الكلمة القرآنية بأي قول فيها، ما يعيطه صريح نصها في إيجابه {عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} . والله أعلم. * * * 139 - {أَكْوَابٍ} وسأل نافع عن قوله تعالى: {وَأَكْوَابٍ} قال ابن عباس: القِلال التي لا عُرَا لها. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الهذلى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 فلم ينطق الديكُ حتى ملأتُ. . . كوبَ الدَّنانِ له فاستدارا (تق، ك، ط) = الكلمة جاءت أربع مرات بآيات: الزخرف 71: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} الإنسان 15: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} الغاشية 14: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} الواقعة 18: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} كلها في سياق البيان لنعيم أهل الجنة. واحدُها: كوب. الأقوال فيها متقاربة عند أهل اللغة وأهل التأويل، وإن زاد بعضهم في وصفها فقال الفراء في آية الزخرف: الكوب المستدير الرأس الذي لا أذن له. ونحوه في تأويل الطبري، وأسند عن الضحاك أنها: جرار ليست لها عُرى وهي بالنبطية كوبا. وعن ابن عباس: الجرار من فضة. وفسرها "الراغب" كذلك، بالقدح لا عروة له، وذكر معه الكوبة، الطبل الذي يُلعب به. ومثله في (ق) . ويبدو من شواهدهم لها، أنها أكواب الخمر. واقتصر في (س) على قولهم: "لا يزال معه كوب خمر" ثم لا يفوتنا أن أكوابا لم تأت إلا في آيات نعيم الجنة. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 140 - {يُنْزَفُونَ} وسأل نافع عن قوله تعالى: {وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} فقال ابن عباس: لا يسكرون. أما سمعت قول "عبد الله بن رواحة": ثم لا ينُزَفون عنها ولكنْ. . . يَذهبُ الهمُّ عنهم والغليلُ (نق) زاد في (ك، ط) إذا شربوا الخمر في الجنة. = الكلمة من آية الصافات 47، في خمر الجنة: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} ومعها آية الراقعة 19، في السياق نفسه: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ} {يُنْزِفُونَ} في ىية الصافات، قرأها حمزة حمزة والكسائي بكسر الزاى، والباقون بفتحها، ولا خلاف في ضم الياء. وفي آية الواقعة قرأها عاصم وحمزة والكسائي بكسر الزاى والباقون بفتحها. قال الفراء: وله معنيان: يقال قد أنزف الرجل إذا فنيت خمرُه، وأُنزِف إذا ذهب عقله من سكر، وإذا ذهب دمه وغشي عليه ومات، قيل: منزوف (المعاني في الآيتين) والأصل في المادة (في مقاييس اللغة) : يدل على نفادٍ وانقطاع. نُزف دمُه خرج كله، والسكران نزيف: نزف عقله. والنزف نزح ماء البئر شيئا فشيئا. وأنزفوا انقطاع شرابهم (5 / 416) . قال ابن قتيبة في خطبة (مشكل إعراب القرآن) : وتبين قوله تعالى: {وَلَا يُنْزِفُونَ} في وصف خمر الجنة. كيف نفى عنها بهذين اللفظين جميع عيوب الخمر: عدم العقل وذهاب المال، وفاد الشراب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 والقولان: ذهاب العقل، ونفاد الشراب، عند أهل التأويل في الآيتين، والراغب في (المفردات) بمزيد تفصيل. وتأويلهما بالسكر، في المسألة، مقيد عندهم بنفي نزف العقل وذهابه. وهو صريح النص في الآية: {لَا فِيهَا غَوْلٌ} يغتال العقل ويذهب به. * * * 141 - {كَانَ غَرَامًا} : قال: فأخبرني عن قول الله عز وجل: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} قال: البلاء. . . أما سمعت بقول بشر بن أبي خازم: ويومُ الجِفارِ ويومُ النِسَارِ. . . كانا عذابا وكانا غراما (ظ) في الروايتين وفي (وق) : قال: المولع، قال فيه عبد الله بن عجلان: وما أكلةُ إن نِلْتُها بغنيمةٍ. . . ولا جوعة إن عِفتُها بغرام وفي (تق، ك، ط) قال: ملازما شديدا كلزوم الغريم للغريم. وشاهده بيت بشر. = الكلمة من آية الفرقان 65، في عباد الرحمن. {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} وحيدة الصيغة، وفي القرآن مادتها: اسم الفاعل في آية التوبة 60 {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 واسم المفعول من الرباعي في آية الواقعة 66 {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} . والمصدر الميمي في آيتي: التوبة 98: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} والقلم 46: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} الملازمة والإلحاح أصل في المادة، مطرد، كما في (مقاييس اللغة) ومنه {كَانَ غَرَامًا} 4 / 419. قال الفراء في آية الفرقان: كان مُلِحا دائما، والعرب تقول إن فلانا لَمُغرَم بالنساء إذا كان مولعا بهن، وإني بك لَمُغرَم إذا لم تصبر عن الرجل. وتأويل الطبري لآية الفرقان: كان ملحاً دائماً، لازما غير مفارق، ومنه قولهم: رجل مغرم، من الغرم والدَّين. وقيل للغريم غريم لطلبة حقه وإلحاحه على صاحبه فيه ومنه قيل للمولع بالنساء إنه لمغرم بهن. قال: وبنحو ذلك قال أهل التأويل. ثم أسند عن الحسن البصري، قال: كل غريم مفارق غريمه إلا غريم جهنم. ومحوه في (جامع القرطبي، ومفردات الراغب، والنهاية لابن الأثير) . وقد اختلفت الروايات عن ابن عباس في المسألة. (ظ) البلاء، وفي (تق ك ط) الملازم كلزوم الغريم - والشاهد من بيت بشر قريب منه - وفي (وق) : مولع، ولا يشهد له قول ابن عجلان: * ولا جوعة إن عِفتُها بغرام * بل هو أقرب إلى معنى الغرم في آية الواقعة، ومغرم في آيتى التوبة والقلم. والله أعلم. * * * 142 - {التَّرَائِبِ} وسأل نافع عن قوله تعالى: {التَّرَائِبِ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 فقال ابن عباس: الترائب موضع القِلادة من المرأة. واستشهد بقول الشاعر: والزعفرانُ عَلَى ترائِبها. . . شَرِقاً به اللبَّاتُ والنَّحْرُ (تق، ك، ط) = الكلمة من آية الطارق 7: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} وحيدة الصيغة، وفي القرآن من مادتها: تراب: في سبع عشرة آية. وأتراب: في ثلاث آيات. ومتربة: في آية البلد: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} الترائب واحدتخا التربية. اختلف أهل اللغة في معناها: فهي في باب الصدر من كتاب (خلق الإنسان) وما اكتنف لباب المرأة مما تقع عليه القلائد (معاني الفراء) وعظام الصدر ما بين الترقوة إلى الثندُؤة أي مغرز الثدي أو اللحم الذي حوله (ص) وهي عظام الصدر، أو ما ولى الترقوتين منه، أو بين الثديين والترقوتين، أو أربع أضلاع من يمينه الصدر وأربع من يسرته، أو اليدان والرجلان، أو موضِع القلادة (ق) وقيل: عصارة القلب ومنها يكون الولد. (حكاه أبو حيان) . واختلف أهل التأويل فيها كذلك، فيما قال الطبري. وأسند عن ابن عباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 قال: بين ثدييها. وعنه أيضاً، وعن غيره: الصدر. وعنه أيضاً: اليدان والرجلان والعينان. والصواب عند أبي جعفر أنها مواضع القردة من صدر المرأة، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب، وبه جاءت اشعارهم. ونحوه في الكشاف، وجامع القرطبي، واقتصر أبو حيان في البحر، على ـاويلها بموضع القلادة من الصدر. وذهب الراغب إلى أن الترائب هي ضلوع الصدر، ومنه الكلمة في آية الطارقوالأتراب الِلَّداتُ ينشأن معاًَ، تشبيها في التساوي والتماثل بالترائب التي هي ضلوع الصدر. . . وقيل لأن الترائب في حال الصَّبِي تلعب بالتراب: (المفردات) وهو قريب من مذهب ابن فارس إلى أصلين للمادة: أحدهما التراب وما يشتق منع، وتساوي الشيئين ومنه الترب الخدن، والتريب الصدر عند تساوي رءوس العظام (المقاييس 5 / 200) . وتأويلها في المسألة بموضع القلادة من المرأة، هو ما يقبله الشاهد وسائر شواهدهم لها، وليس العينين أو اليدين والرجلين، والله أعلم. * * * 143 - {بُورًا} وسأل نافع عن قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} فقال ابن عباس: هَلْكى بلغة عُمَان، وهم من اليمن. واستشهد له بقول الشاعر: فلا [تكفروا] ما قد صَنَعْنَا إليكمُ. . . وكافُوا به فالكُفرُ بورٌ لصانعِهْ (تق) = الكلمة من آية الفتح 12 في المخلفين من الأعراب: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} ومعها آية الفرقان 18: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} . وفي القرآن من مادتها، الفعل مضارعاً مرتين في آيتى فاطر: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} - 10 {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} - 29 والبوار في آية إبراهيم 28: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} الهلاك وما يشبهه من تعطل، أصل أول في المادة (المقاييس 1 / 316) . والبوُر في كلام العرب: لا شيء، يقال: أصبحت أعمالهم بورا ودُورهم قبورا (الفراء) ، ومثله في الطبري، حكى أبو عبيدة: امرأة بور، والمثنى والجمع. وقيل يجوز أن يكون جمع بائر كحائل وحول (الطبري وأبو حيان) وفي معناها، أسند الفراء عن ابن عباس، قال: البور في لغة أزد عمان الفاسد {وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} قوماً فاسدين (معاني القرآن) ، آية الفتح. وفي تأويل الطبري: هلكى قد غلب عليهم الشقاء والخذلان. . . ومنه: بارت السوق وبار الطعام إذا خلا من الطالب والمشتري فصار كالشيء الهالك. ورده "الراغب" كذلك إلى فرط الكساد، يؤدي إلى الفساد. فيُعبر بالبوار عن الهلاك. {وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} ، اي هلكى، جمع بائر، وقيل هو مصدر يوصف به الواحد والجمع. وأنشد الشاهد من قول الشاعر: يا رسولَ المليكِ إن لساني. . . راتقٌ ما فتقتُ إذ أنا بُورُ وكل ما في مادة "بور" في القرآن الكريم، هو من الخُسر بالضلال والكفر، وإنه لأفدح الفساد والهلاك، منقولاً إليها من أصل معناها في البوار والكساد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 144 - {نَفَشَتْ} وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {نَفَشَتْ} فقال ابن عباس: النفش الرعى ليلا. واستشهد ببيت لبيد: بُدَّلْنَ بعدَ النفَشِ الوَجِيفَا. . . وبعد طول الجِرَّةِ الصَّرِيفا (تق) = الكلمة من آية الأنبياء 78: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} وحيدة الصيغة. وليس في القرآن من مادتها سوى اسم المفعول في آية القارعة: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} تفسير النفَش بالرعي ليلاً، يُلَحظ معه دلالة المادة اصلاً على التشعت والتفرق. وقد ذكر (القاموس) في النفش الرعي ليلاً، مع تقييده: "بغير راع" وذلك أبلغ في التشعيت والنفَش. وكذلك قيده "الراغب" فقال في المادة: النفش نثر الصوف، قال: {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} ونفش الغنم انتشاره، والنفَش: الغنم المنتشر قال تعالى: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} والإبل النوافض المترددة ليلاً في المرعى بلا راع. وقال ابن الأثير: نفشت السائمة تنفش نفوشاً، إذا رعت ليلاً بلا راع، وهملت إذا رعت بالنهار (النهاية) . ويقرب فهم الآية، بالمعنى المجازي كناية عن الاختلاط والفوضى، يلتبس معها أمر غنم القوم؛ وراء المعنى القريب من أصل استعمال النفش للغنم والإبل، ترعى ليلاً بغير راع، فلا تكاد تتميز أو تُضبط. والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 145 - {أَلَدُّ الْخِصَامِ} وسأله عن قوله تعالى: {أَلَدُّ الْخِصَامِ} فقال: الجدِل المخاصِم في الباطل. واستشهد بقول مهلهل: إن تحت الأحجار حزماً وجوداً. . . وخصيماً ألدَّ ذا مغلاق (تق) زاد في (ك، ط) : في الباطل، من كل وجه. = الكلمة من آية البقرة 204: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} ومعها آية مريم 97: خطاباً للنبي عليه الصلاة والسلام: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} - جمع ألد. قال الفراء: يقال للرجل هو ألدُّ من قوم لُدَّ، والمرأة لدّاء ونسوة لُدّ. إذا غلبت الرجل في الخصومة فقد لددته (المعاني: آية البقرة) . وقال أبو عبيدة: الألد شديد الخصومة، ويقال للفاجر: أبَلَّ وألدّ. . . مصدره اللدَد، والجميع قوم لُدّ (مجاز القرآن: آية البقرة) وأخرج فيه البخاري حديث عائشة - رضي الله عنها -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصِم" (ك التفسير باب وهو ألد الخصام) قال في فتح الباري: ألد، أفعل تفضيل من اللدد، شدة الخصومة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 ويحتمل أن يكون مصدراً. وقيل: أفعل هنا ليست للتفضيل بل بمعنى الفاعل، وهو لديد الخصام أي شديد المخاصمة (8 / 130) والألد. عند الراغب، الخصيم الشديد التأبي لحجته وجمعه لُدَّ، قال تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} وفسره ابن الأثير في حديث عائشة - رضي الله عنها - ترفعه - بالشديد الخصومة (النهاية) والمعاجم تذكر في اللدد: اللديدان جانبا الوادي وصفحتا العنق، ومنه اشتقاق التلدد، أي الالتفاف يميناً وشمالاً. واللدود من الأدوية ما يصب في أحد شِقى الفم، واللدَدُ شدة الخصومة واللجاج (ص، س، ق) والمقاييس (لا) وتأويلها في المسألة بالجدل المخاصم في الباطل، مستفاد من سياق الآية، والله أعلم. * * * 146 - {حَنِيذٍ} وسأله عن معنى قوله تعالى: {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} قال: الحنيذ النضيج مما يُشوى بالحجارة، واستشهد بقول الشاعر: لهم راحٌ وفارُ المِسْكِ فيهم. . . وشاويهم غذا شاءوا حنِيذا (تق، ك، ط) الكلمة من آية هود 69: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} وحيدة، صيغة ومادة. تأويلها في المسألة بالنضيج مما يشوى بالحجارة، هو قول في حنيذ، اسنده الطبري عن ابن عباس فيما روى من اختلاف أهل التأويل فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 وقيل: هو الذي يُحنَذ في الأرض، والذي يقطر ماء وقد شُوِىَ. وحكاه عن بعض أهل العلم بكرم العرب من الكوفيين: كل ما انشوى في الأرض إذا خددت له فدفنته وغممته فهو الحنيذ والمحنوذ. والخيل تحنذ إذا ألقيت عليها الجلال بعضها على بعض لتعرق. وفي (باب اللحم من تهذيب الألفاظ) قال ابن السكيت: والحنيذ الذي تلقى فيه الحجارة المحماة لتنضجه. وقد حُنِذَ الفرس إذا ألقى عليه الجلال ليعرق ونحوه في (مقاييس اللغة: حنذ) . وهذه الأقوال في حنيذ، في المعاجم، وجمهرة كتب التفسير، مفردات الراغب. وقد قال الطبري بعد ذكر الأقوال والمرويات في حنيذ: "وهذه الأقوال عن أهل العربية والتأويل متقاربات المعاني، بعضها من بعض" والله أعلم. * * * 147 - {الْأَجْدَاثِ} وسأل نافع عن قوله تعالى: {مِنَ الْأَجْدَاثِ} فقال ابن عباس: القبور. واستشهد بقول ابن روَاحة: حينا يقولون إذ مروا على جَدَثى. . . أرْشدْه ياربَّ من عانٍ وقد رشدا (تق) (ك، ط) والمسألة فيهما: {فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ} الكلمة جاءت ثلاث مرات، في آيات: القمر 7: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِن َ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} يس 51: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} المعارج 43: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} ويبدو تفسير الأجداث بالقبور قريباً. ومثله في (النهاية لابن الأثير) وفي المعاجم واقتصر "الراغب" في (المفردات) على: الأجداث جمع الجدث، يقال جدث وجدف. وتأويلها في المسألة بالقبور هو ما في المعاجم (ص، س، ق) والشاهد له. ولا يفوتنا مع ما يبدو من قرب تفسير الأجداث بالقبور، أن القرآن قَصَرَ الأجداث، في آياتها الثلاث، على المخرج إلى الحشر يوم القيامة وهذا الملحظ الدلالي، يفرق بين الأجداث وبين القبور التي تأتي فيه بدلالة عامة: في سياق البعث (الحج 7، الانفطار 4، العاديات 9) . كما تأتي في سياق مضجع الموتى، قبل البعث والنشور، في مثل آيات: عبس 21: في الإنسان: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} التوبة 84: في المنافقين: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} فاطر 22: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} الممتحنة 13: {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} ومعها المقابر في آية التكاثر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} يظهر، والله أعلم، أن القرآن خصّ الخروج من الأجداث بالمخرج يوم القيامة، وهو صريح السياق في آياتها الثلاث. * * * 148 - {هَلُوعًا} وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {هَلُوعًا} فقال ابن عباس: ضَجِراً جزوعاً. وشاهده قول بشر بن أبي خازم: لا مانعاً لليتيم نِحلتَهُ. . . ولا مكُبَّا لخلقِه هَلعا (تق، ك، ط) = الكلمة من آية المعارج 19: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِق َ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} وحيدة في القرآن. صيغة ومادة. في معاني القرآن للفراء: الهلوع الضجور، وصفته كما قال تعالى: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} يقال منه هَلعَ يهلَع هَلعا، مثل: جزع يجوع جزعا، وحكى القرطبي عن ثعلب. وخصها المعجميون بأفحش الجزع أو الجزع الشديد. وقيدها بعضهم بالجزع والفزع من الشر، وعدم الصبر على المصائب. والهالع: النعام السريع في مضيه لخفته وسرعة فزعه. والهلواع: الناقة السريعة السير. (س، ص، ق) ونقول مع الفراء، وثعلب: وصفته كما قال تعالى: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} صدق الله العظيم. * * * 149 - {لَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} قال: فأخبرني عن قول الله - عز وجل -: {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} قال: ليس بحين فرار. وشاهده قول الأعشى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 تذكرتَ ليلى حين لاتَ تذكرُ. . . وقد بِنْتَ منها والمناصُ بعيدُ (تق، ك، ط) واقتصر في (ظ) على: أما الأعشى فقد كان يعرفه حيث يقول: تذكرت ليلى وعلقت منها حاجة ليس تبرح = الكلمة من آية ص {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} - 3 وحيدتان في القرآن. تأويلها في المسألة: ليس بحين فرار، هو بلفظه عند الفراء على القول بأن لات في معنى ليس. وقال ابن قتيبة: لات حين لا مهرب. والمناص المنجي في (س) والملجأ والمفر في (ص) والمادة في (المقاييس) أصل يدل على تردد ومجئ وذهاب، والمناص المصدر، والملجأ أيضاً. والأقوال في (مناص) متقاربة كذلك عند أهل التأويل (الطبري) وإنما الاختلاف في: لات، تبعا لاختلاف أهل اللغة فيها. قال الفراء: ومن العرب من يضيف لات فيخفض؛ أنشدوني: * ولات ساعةِ مندمٍ * ولا أحفظ صدره. والكلام أن ينصب بها لأنها في معنى ليس، وأنشدني النفضل: تذكرَ حبَّ ليلى لاتّ حينا. . . وأضحى الشيب قد قطع القرينا وأنشدني بعضهم: طلبوا صلحَنا ولات أوانٍ. . . فأجبْنا أنْ ليس حينَ بقاءُ فهذا خفض: وفي الآية أقف على "لات" بالتاء، والكسائي يقف بالهاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 (المعاني، سورة ص 2 / 397) ونقله عنه في (اللسان، والمفردات) ونقل فيها ابن قتيبة قول سيبويه: لات شبيهة بليس في بعض المواضه ولم تُمكن تمكنها، ولم يستعملوها إلا مضمراً فيها لأنها ليست كليس في المخاطبة والإخبار عن غائب، ألا ترى أنك تقول: ليست وليسوا وعبد الله ليس ذاهباً، ولات لا يكون فيها ذاك؟ قال تعالى: {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} . وقال الرغب بعد أن حكى كلام الفراء: تقديره: لا حين، والتاء زائدة فيه كما زيدت في ثُمت ورُبت. وقال بعض البصريين: معناه ليس. وقال أبو بكر العلاف: أصله ليس، فقلبت الياء ألفا. وأبدل من السين تاء كما قالوا: نات في ناس. وقال بعضهم أصله لا، وزيد فيه تاء التأنيث تنبيها على الساعة والمدة، كأنه قيل: ليست الساعة والمدة حين مناص (المفردات) . وفي النفس شيء من هذه التأويلات، فالقول بأن التاء زائدة كما زيدت في ثمت وربت، قد يمنعه أن هذين الحرفين يبقى لهما معناهما. وأما (لات) فتئول إلى لا. وتأويلها بليس على القلب والابدال، فيه أن لغة نات في ناس، أبدل فيها حرف واحد، وأما لات فلا يبقى منها بعد القلب والإبدال سوى حرف اللام. وعلى التأويلين: نرى أن (لا) و (ليس) كثير مجيئهما في القرآن، فالعدول عنهما إلى (لات) في آية (ص) يفيد فرقا في الدلالة، قد نراه في أن (لا) تجئ اصلاً لنفي الجنس، و (ليس) للنفي نسخا. وأما (لات) فأقرب ما تكون إلى معنى البُعد والاستحالة. ولو تُرك لنا مجالُ اجتهاد في النحو الذي قرروا أنه نضج واحترق، لفكت عقدة (لات) دون تأويل وقلب وإبدال، بحملها على اسم فعلٍ قريب من هيهات، والفرق بينهما أن تكون هيهات لمطلق البعد، و (لات) للبعد مع استحالة، مُقربةً من (ليت) التي تتعلق بالتمني للمستحيل أو ما يقاربه. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 150 - {دُسُرٍ} وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {وَدُسُرٍ} فقال ابن عباس: الدسر الذي تُحرز به السفينة. وشاهده: سفينة نُوتِىَّ قد آحكم صنعها. . . مُنَحَّتة الألواح منسوجةُ الدسْرِ (تق، ك، ط) = الكلمة من آية القمر 13، في فُلْك نوح عليه السلام: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} وحيدة في القرآن، صيغة ومادة. وتفسير الدسر، بالذي تخرز به السفينة يحتاج إلى مزيد إيضاح لا يقدمه الشاهد، لما تخرز السفينة. ومعناها عند الفراء: مسامير السفن وشرُطُها التي تُشد بها. وفي تفسير البخاري، عن مجاهد : دسر، اضلاع السفينة. قال ابن حجر: وصله الفريابي بلفظه من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد، وأسند من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: الألواح ألواح السفينة والدسر معاريضها التي تُشَدّ بها السفينة، وعنه أيضاً: المسامير، وبه جزم أبو عبيدة (فتح الباري 8 / 436) جمع دسار، وهو المسمار في (س، ص) . وعند الراغب كذلك أن الدُسر في الآية، المسامير، الواحد: دِسَار، قال: وأصل الدَّسْرِ الدفع الشديد بقهر، يقال: دسره بالرمح. ورجل مَدْسَر كقولك: مطعن (المفردات) . وكذلك فسرها "ابن الأثير" بالمسامير في حديث "عليّ": "رفعها بغير عمد يدعمها ولا دسار ينتظمها" أي مسمار، جمعه دسر. وبالدفع الشديد في حديث "عمر": "إن أخوف ما أخاف عليكم أن يؤخذ الرجل المسلم، البرئ عند الله، فيدسرَ الجزورُ" أي يدفع ويُكبُّ للقتل كما يفعل بالجزور عند النحر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 وفي حديث "ابن عباس"، وسئل عن زكاة العنبر فقال: "إنما هو شيء دسره البحر" أي دفعه وألقاه في الشط (النهاية) . والمعاجم تذكر في الدير: الطعن والدفع، وإصلاح السفينة بالدسار للمسمار، وإدخال الدسار في شيء بقوة. وتذكر معها: الدسار، خيط من ليف تُشد به ألواحها. جمعه دسر. والدسر السفينة تدسر الماء بصدورها، الواحدة دسراء (ص، ق) . وابن فارس جعل أصلاً في الدفع، الشديد، ومنه أحاديث الباب في (النهاية) ثم أضاف: "ومما شذ عن الباب وهو صحيح: الدسار، خيط من ليف تشد به السفينة، والجمع دُسُر / الآية / ويقال: الدسر: المسامير. والله أعلم. * * * 151 - {رِكْزًا} قال: فأخبرني عن قول الله - عز وجل -: {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} قال: صوتا قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم أما سمعت قول خِداش بن زهير: فإن سمعتم بخيلٍ هابطي سَرِفاً. . . أو بطن مَرًّ فَأخْفُوا الصوتَ واكتتموا (ظ، طب) وفي (تق، ك، ط) قال: حِساً. وشاهده قول الشاعر: وقد توجَّس َ رِكْزا مقفرً ندسٌ. . . بنبأة الصوت ما في سمْعهِ كذبُ = الكلمة من آية مريم 98: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 وحيدة في القرآن، صيغة ومادة. الركز في اللغة: الصوت الخقي. من: ركزتُ كذا دفنته، والرِكاز المال المدفون في الأرض (س، ص، ق) . وفي (المقاييس) لمادة ركز أصلان: أحدهما إثبات شيء في شيء يذهب سُفلا، والآخر صوت (2 / 433) . في تأويل الآية، أسند الطبري عن ابن عباس وغيره، قالوا: صوتا. وعن آخرين: حِساً. قال ابو جعفر: والركز في كلام العرب الصوت الخفي. (سورة مريم) . وهو في الآية الصوت الخفي، في (مفردات الراغب والنهاية لابن الأثير) . وفيهما الركاز، المال المدفون في الأرض. تأويله في المسألة بالصوت، يحتاج إلى قيد بالخفى وأقرب منه: حِساً، في الرواية الأخرى، والله أعلم. * * * 152 - {بَاسِرَةٌ} وسأل ابن الأزرق عن قوله تعالى: {بَاسِرَةٌ} فقال ابن عباس: كالحة، وشاهده قول عبيد بن الأبرص: صَبَحْنَا تميماً غداةَ النسارِ. . . بشبهاءَ ملمومةٍ باسرة (تق، ك، ط) = الكلمة من آية القيامة 29: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذ ٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} ومعها الفعل الماضي في آية المدثر: {ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 وليس في القرآن من المادة غيرهما. وتفسير باسرة بكاللحة قاله الفراء في معناها بآية القمر. وفي تأويل الطبري: متغيرة الألوان مسوَّدة كالحة. بَشرَ وجهُه فهو باسر بَيُنُ البسور. وبنحو ذلك قال أهل التأويل. وتأويلها "الراغب" على وجه آخر، فردها إلى الابتسار بمعنى التعجل قبل الأوان. قال: البسر الاستعجال بالشيء قبل أوانه. ومنه قيل لما لم يدرك من التمر: بُسر. وقوله - عز وجل -: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} أي أظهر العبوس قبل أوانه وفي غير وقته. فإن قيل: فقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} ليس يفعلون ذلك قبل الوقت، قيل: إن ذلك إشارة إلى حالهم قبل الانهتاء بهم إلى النار. فخص لفظ البسر، تنبيهاً إلى أن ذلك مع ما ينالهم يجري مجرى التكلف ومجرى ما يُفعل قبل وقته. وبدل على ذلك قوله - عز وجل -: {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} وفسره "ابن الأثير" بالقطوب في حديث "سعد": "لما أسلمتُ راغمتني أمي فكانت تلقاني مرة بالبشر، ومرة بالبسر" البشر بالمعجمة: الطلاقة، وبالمهملة: القطوب (النهاية) بسر في (المقاييس) اصلان، أحدهما الطراءه ومنه قولهم لكل شيء غض: بُسْر، وأن يكون الشيء قبل إناه، والأصل الآخر وقوف الشيء وجموده. والمعاجم تذكر في البسر: التعجل، والعبوس والقهر. ومنه الابتسار تعجلُ الشيء قبل أوانه، من البسر للتمر قبل نضجه، أو من بَسرَ القرحةَ نكأها قبل النضج. ولعل دلالة العبوس جاءت من ملحظ الغضاضة في بسر التمر، وما يقترن بنكء القرحة قبل نضجها من ضيق وألم وانقباض. والكلمة في الآية الكريمة مقابلة بقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} صدق الله العظيم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 153 - {ضِيزَى} وسأل نافع عن قوله تعالى: {ضِيزَى} فقال ابن عباس: جائزة. وشاهده قول امرئ القيس: ضَازَتْ بنو أسدٍ بحُكْمِهمُ. . . إذْ يَعدِلون الرأسَ بالذنَبِ (تق، ك، ط) = الكلمة من آية النجم 22: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} وحيدة في القرآن، صيغة ومادة. معناها في اللغة: جائزة: ضاز في الحكم، أي جار، وضازة حقه بخسه. وضأزه كذلك، و {قِسْمَة ٌ ضِيزَى} أي جائزة. وللعرب فيها ثلاث لغات: ضَيزَى، وضؤزى، وضِئزى، ولم يقرأ أحد بهذه اللغات. قال الطبري: وعندهم أن ضِسزِى، فُعْلْى، كسروا الفاء لتسلم الياء. قال الفراء: وإنما قضيت على أولها بالضم لأن النعوت للمؤنث تأتي إما بفتح وإما بضم، فالمفتوح سكرى وعَطشى، والمضموم الأنُثى والحُبلى (المعاني، 3 / 98 سورة النجم) وحكاه عنه الطبري بلفظه. والجوهري تضمينا. في تأويل الطبري للآية: يقول جل ثناؤه: قسمتكم هذه قسمة جائزة غير مستوية، ناقصة غير تامة، لأنكم جعلتم لربكم من الولد ما تكلاهون لأنفسكم. وآثرتم ناقصة بما ترضونه. . . وبنحو ما قلناه قال أهل التأويل، وإن اختلفت ألفاظهم بالعبارة عنها: فقال بعضهم: عوجاء، وآخرون: جائزة، وعن ابن عباس جائزة لاحق فيها، وقال آخرون: مخالفة. وفي مفردات الراغب: ناقصة. قلت: تأويلها بالجور والنقصان مملا يحتمله سياق الآية. وهو صريح في شاهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 المسألة، وسائر شواهدهم للمخفف والمهموز. وفي القرآن الكريم كلمة "جائز" من الجور، وفيه "نقص" فعلا ومصدرا. ولا أحقق وجه انفراد آية النجم بكلمة "ضيزى" وقصارى ما ألمحه فيهاظن عن بُعد، حس مادتها فيما يلوك عبدة الأوثان، منقوله من: ضاز التمرة: لاكها. والله أعلم. * * * 154 - {لَمْ يَتَسَنَّهْ} وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} فقال ابن عباس: لم تغيره السنون. ولما سأله ابن الأزرق: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر: طاب منه الطعمُ والريحُ معاً. . . لن تراه تغير من أسَن (تق، ك، ط) = الكلمة من آية البقرة 259: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِك َ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وحيدة في القرآن، صيغة ومادة. وهي صيغة ينفعَّل من (س ن هـ) وفي قول إن اصله من الواو (الفراء، وابن الأنباري) ولم أفهم محل الشاهد في * أسن * وليس المادة. قال أبو عبيدة في الآية: لم تأت عليه السنون فيتغير وليست من الأسن، ولو كانت منها لكانت لم يتأسن (مجاز القرآن 1 / 80) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 في تفسير البخاري: لم يتغير. ومعه في (فتح الباري) : أخرجه ابن أبي حاتم من وجهين عن ابن عباس، وعن السدى مثله، قال: لم يحمض التين والعنب ولم يختمر العصير بل هما حُلوانِ كما كانا. وفي تأويل الطبري: يعني لم تغيره السنون التي أتت عليه، ولم ينتن. وقال الراغب: لم يتغير بمر السنين ولم تذهب طراوته. وتفسير التسنه، بالتغير بمر السنين، من شرح الكلمة في سياقها بعد "مائة عام" ولعل التعفن أقرب إلى التسنه بمر السنين، من التغير وجفاف الطراوة، من حيث يُحتمل حدوثُهما للطعام والشراب دونَ عفَنٍ وفساد. وبالتعفن. يفترق التسنه عن النغير، بدلالته على مطلق التغير من حال إلى حال، وهو المعنى المفهوم من التغير في آيات: الرعد 11: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} الأنفال 53: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} النساء 119: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} * * * 155 - {خَتَّارٍ} وسأل ابن الأزرق عن قوله تعالى: {كُل ُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} فقال: هو الغدار الظلوم الغشوم. وشاهده قول الشاعر: لقد علمتْ واستيقنتْ ذات نفسها. . . بأن لاَ تخافَ الدهرَ صَرْمى ولا خَتْرِى (تق، ك، ط) = الكلمة من آية لقمان 32: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} وحيدة في القرآن، صيغة ومادة. قال الفراء: الختار الغدار. من الختر، الغدر (س، ص) ومن ظاهرِ دِقتها، أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 ابن عباس احتاج في شرحها إلى ذكر ثلاث صفات متتابعات. بصيغ المبالغة: الغدار الظلوم الغشوم. فكان أقرب إلى حِسَّ السياق من قول "الراغب": الختر غدر يختر فيه الإنسان، أي يضعف ويكسر لاجتهاده فيه، قال تعالى: {كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} . ولحظ فيه "ابن الأثير" المبالغة في الغدر. ففي حديث: "ما ختر قوم بالعهد إلا سُلَّط عليهم العدوُّ" قال: الختر الغدر، يقال ختَر بختُر فهو خاتر، وختار للمبالغة (النهاية) . والغدر من معاني الختر في المعاجم، ومعه الخبث والخديعة والغدر. وإنما جاء الفتور والضعف بملحظ من تختر الشارب الثمل، وقد خترت نفسه خبثت وفسدت. فالفتور من ظواهر الختر، والخبث والفساد من اصل معناه. والله أعلم. * * * 156 - {الْقِطْرِ} وسأل نافع عن قوله تعالى: {عَيْنَ الْقِطْرِ} فقال ابن عباس: عين الصُّفْر، وشاهده قول الشاعر: فأُلقِىَ في مراجلَ من حديدٍ. . . قدور القِطْر ليس من البُرامِ (تق، ك، ط) الكلمة من آية سبأ 12: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} ومعها آية الكهف 96 في سَدَّ ذي القرنين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} القِطْر بالكسر: النحاس المذاب (ص، س، ق) وفي الطبري عن ابن عباس: عين النحاس. ومثله في جامع القرطبي. وفسره الراغب في آية الكهف بالنحاس المذاب. والصفر في تفسير ابن عباس للمسألة، وهو النحاس، وصانعه الصفَّار، وأما المذاب، فمستفاد من الإسالة في الآية: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} * * * 157 - {خَمْطٍ} وسأله نافع عن قوله تعالى: {أُكُلٍ خَمْطٍ} فقال ابن عباس: الأراك. واستشهد له بقول الشاعر: ما مُغْزِلٍ فردٍ تراعى بعينها. . . أغنَّ غضيض الطرفِ من خلَلِ الخَمْطِ (تق، ك، ط) = الكلمة من آية سبأ 16: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُل ٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} وحيدة في القرآن، صيغة ومادة. الخمط في اللغة الأراك. أو هو شجر له شوك. والحامض المر، ومنه الخمطة الخمر إذا حمضت. وفسرها الفراء وابن الأنباري والزمخشري، في الآية، بالأراك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 والأكُل ثمرهُ. وبنحوه قال أهل التأويل (الطبري) وقال الراغب: الخمط شجر لا شوك له، قيل هو الأراك. (المفردات) . واختلفوا في توجيه غعرابه على القراءتين فيه. فقال ابن الأنباري: من قرأ بتنوين أكل، جعل الخمط عطف بيان على الأكل، ولا يجوز أن يكون وصفاً لأنه اسم شجرة بعينها، ولا بدلا لأنه ليس هو الأول ولا بعضه. ومَن لم يُنوّن أضاف "أكل" إلى خمط، لأن الأكل هو الثمرة والخمط هو الشجرة (البيان 2 / 278) . والذي في تأويل الطبري: أنه على على قراءة عامة قراء الأمصار بالتنوين، جعلوا الخمط هو الأكب فردوه عليه في إعرابه، وأما على قراءة أبي عمرو، فإنه يصيفها إلى خمط، بمعنى ذواتى ثمر خمط. وذلك ما لم يتضح في تأويل الخمط بالمسألة. * * * 158 - {اشْمَأَزَّتْ} : وسأل نافع عن قوله تعالى: {اشْمَأَزَّتْ} فقال ابن عباس: نفرت، واستشهد له بقول عمرو بن كلثوم: إذا عَضَّ الثقافُ بها اشمأزتْ. . . وَولَّتْهُ عَشَوزَتَةً زَبُونا (تق، ك، ط) الكلمة من آية الزمر 45: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} وحيدة في القرآن صيغة ومادة. فسرها "الراغب" كذلك في الآية بقوله: أي نفرت. وفي حديث: "سَيَليِكم أمراء تقشعر منهم الجلود وتشمئز منهم القلوب" قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 ابن الأثير: أي تتقبض وتجتمع، وهمزته زائدة (النهاية) . يعني أن أصل الكلمة؛ شمز. والشمز في اللغة: نفور النفس مما تكره. والتشمُّز التقبض، واشمأز: انقبض واقشعر، أو ذُعِر. والمشمئز: النافر الكاره، والمذعور. حكاه الأزهري في التهذيب عن عدد من اهل اللغة. ومعه (س، ص، ق) والكلمة في الآية، فيها حِسُّ الكراهة والنفور مع صريح مقابلتها بالاستبشار. فالاشمئزاز نقيض الاستبشار. ولا يشمئز الإنسان إلا مما يكره وينفر منه. * * * 159 - {جُدَدٌ} وسأل نافع عن قوله تعالى: {جُدَدٌ} فقال ابن عباس: طرائق. وشاهده قول الشاعر: قَدْ غادرَ النِسْعُ في صفحاتِها جُدداً. . . كأنها طُرقٌ لاَحَتْ على أكَمِ (تق، ك، ط) الكلمة من آية فاطر 27، 28: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَال ِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} وحيدة الصيغة في القرآن. ومن مادتها، جاء "جديد" عشر مرات، نفيض قديم. ومعها "جَدًّ" في آية الجن: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} . سبقت في المسألة (62) الجُدد، جميع حُدَّة، الطرائق والخطط المسلوكة، ومنه: سَلك الجددَ، ومشى على الجادة (س) وفي تأويل الطبري: الخطط تكون في الجبال كالطرق. قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 وبنحو ذلك قال أهل التأويل. وقال الراغب في الآية: جمع جُدَّة أي طريقة. من قولهم: طريق مجدود، أي مسلوك مقطوع، ومنه جادة الطريق. وإن لم يبد لنا وجه كون الجبال جُدَداً، بمعنى طرائق، في سياق اختلاف ألوانها: بيض وحمر وغرابيب سود. والله أعلم. * * * 160 - {أَغْنَى، وَأَقْنَى} وسأل نافع عن قوله تعالى : {أَغْنَى وَأَقْنَى} فقال ابن عباس: أغنى من الفقر وأقني من الغنى فقنع. واستشهد بقول عنترة العبسي: فاقْنَىْ حياءك لا أبَالكِ واعْلمى. . . أني امرؤ سأموتُ إن لم أُقْتَلِ (تق) وسقط من (ك، ط) = الكلمة من آية النجم 48: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} وحيدة في القرآن، صيغة ومادة. ومن الواوى جاءت {قِنْوَانٌ} في آية الأنعام 99: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ} وفي "أقنى" قال الراغب: اي أعطى منه الغني وما فيه القنية، أي المال المدخر. وقيل: أقني وأرضى. وتحقيق ذلك أنه له قُنية من الرضى والطاعة (المفردات) وفي حديث: "إذا أحب الله عبداً اقتناه فلم يترك له مالاًَ ولا ولداً" قال ابن الأثير: اي اتخذه واصطفاه. ونقل في حديث النهي عن ذبح قِنىَ الغنم، قولَ أبي موسى: "هي التي تُقتنى للدَّارَّ والولد، واحدتها قنوة، بالضم والكسر، وقنية بالياء. قال الزمخشري: القنى والقنية ما اقتنى من شاة أو ناقة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 ودلالة الاقتناء واضحة في المادة بصريح لفظها، ولا يكون إلا لما يُعَزُّ ويُصان ويُدخر، لقيمته ونفعه، المادي أو المعنوي. ويجوز استعماله في مطلق الادخار على أصل معناه، أو في المجاز، ومنه الشاهد من بيت عنترة. * * * 161 - {لَا يَلِتْكُمْ} وسأل نافع عن قوله تعالى: {لَا يَلِتْكُمْ} فقال ابن عباس: لا ينقصكم، بلغة بني عبس. واستشهد له بقول الحطيئة العبسى: أبلغْ سراةّ سعدٍ مغلغلةً. . . جهدَ الرسالة لا ألْتاً ولا كذبا (تق، ك، ط) = الكلمة من آية الحجرات 14. {قَالَتِ الْأَعْر َابُ آ مَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ومعها الفعل الماضي من المهموز في آية الطور 21: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} {لَا يَلِتْكُمْ} قراءة الأئمة، سوى أبي عمرو ابن العلاء فقرأها "يألتكم" بهمزة ساكنة بعد الياء، وإذا خفف أبدلها ألفا: يالتكم. (التيسير) . وهما لغتان: لاته يليته لَيْتا، وألَته يأَلْته أَلْتا، نقصه ومنعه. وفيها لغة ثالثة: ألاته، من الرباعي، حكاها أبو عبيدة والأزهري، والهروى في الغريبين. واقتصر الفراء على اللغتين في القراءة، وكذلك ابن الأنباري وقال: والقراءتان بمعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 واحد: نقصهم وشاهدهم، لقراءة أئمة الحجاز والشام والبصرة، غير مهموز، قول رؤبة: وليلةٍ ذات نَدىَ سريتُ. . . ولم يَلِتْنى عن سُراها ليتُ وللمهموز، قول الحطيئة: أبلغ سراة * البيت، وهو الشاهد في المسألة، فكأن ابن عباس فسرها على قراءة "يألتكم" التي انفرد بها أبو عمرو. واختارها السجستاني كذلك، اعتبارا بقوله تعالى: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} وأنشد بيت الحطيئة. وفي الكشاف: لا ينقصكم ولا يظلمكم يقال ألته السلطان حقه أشد الألت. وهي لغة غطفان - وعبس منهم - ولغة أسد وأهل الحجاز: لاته ليتا. لكنها ليست اختيار أبي عبيدة، والفراء، قال: {لَا يَلِتْكُمْ} لا ينقصكم ولا يظلمكم من أعمالكم شيئاً وهي من: لات يليت، والقراء مجمعون عليها. قد قرأ بعضهم "لا يألتكم" ولست أشتهيها، لأنها بغير ألف كتبت في المصاحف وليس هذا بموضع يجوز فيه سقوط الهمزة. ألا ترى إلى قوله تعالى: {يَأْتُونَ} و {يَأْمُرُونَ} و {يَأْكُلُونَ} لم تُلْقَ الألف في شيء منه لأنها ساكنة، وإنما تلقى الهمزة إذا سُكن ما قبلها، فإذا سكنت هي ثبتت ولم تسقط. وإنما اجترأ على قراءتها "يألتكم" أنه وجد {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} في موضع، فأخذ ذا من ذاك، والقرآن يأتي باللغتين المختلفتين، ألا ترى قوله {تُمْلَى عَلَيْهِ} وفي موضع آخر {فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ} ولم تحمل إحداهما على الأخرى فتتفقا، ولات يليت وألت يألت: لغتان. (معاني القرآن، الحجرات: 3 / 74) . وهو الصواب عند الطبري، وحكاه عن أهل التأويل قال: {لَا يَلِتْكُمْ} لا يظلمكم من أجور أعمالكم شيئاً ولا ينقصكم من ثوابها شيئاً. وبنجو الذي قلناه في ذلك قال أهل التأويل. وقرأت قراء الأمصار {لَا يَلِتْكُمْ} بغير همز ولا ألف، سوى أبي عمرو فإنه قرأ "لا يألتكم" اعتبارا منه بقوله تعالى: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ} وأما الآخرون فإنهم جعلوا ذلك من: لات يليت كما قال رؤبة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 وليلة ذات ندى سريت. . . ولم يلتني عن سراها ليت والصواب عندنا ما عليه قراء المدينة - ومكة والشام - والكوفة {لَا يَلِتْكُمْ} لعلتين: إجماع الحجة من القراء عليها، والثانية أنها في المصحف بغير ألف ولا تسقط الهمزة من مثل هذا الموضع وإنما تسقط إذا سُكن ما قبلها. ولا يحمل حرف في القرآن إذا أتى بلغة على آخر جاء بلغة خلافها إذا كانت اللغتان معروفتين في كلام العرب، وقد ذكرنا أن ألت ولات معروفتان من كلامهم. وجاء بها الراغب في "ليت" عن كذا يليته صرفه عنه ونقصه حقا له {لَا يَلِتْكُمْ} أي لا ينقصكم من أعمالكم شيئاً، وأنشد * ولم يلتني عن هواها ليت * (المفردات) . * * * 162 - {أَبًّا} وسأل نافع عن قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فقال ابن عباس: الأبُّ ما يعتلف منه الدواب. واستشهد بقول الشاعر: ترى به الأبَّ واليقطِينَ مختلطاً. . . على الشريعةِ يجرى تحتَها الغَربُ (تق، ك، ط) الكلمة من آية عبس 31: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} وحيدة في القرآن. وتفسيرها بما يعتلف منه الدواب هو نحو ما في تأويل الطبري: والأب ما تأكله البهائم من العشب والنبات. وبنحوه قال أهل التأويل. وأسنده عن ابن عباس من ثلاث طرق بألفاظ متقاربة: نبت الأرض مما تأكل الدواب ولا يأكله الناس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 ما أنبتت الأرض للنعام، الكلأ والمرعى كله. وهي الألفاظ المتداولة في كتب التفسير، في تأويل الأب. واقتصر أبو حيان في (النهر) على: ما تأكله البهائم من العشب، وفي (البحر المحيط) ذكر معه المرعى. وعن الضحاك: هو التبن خاصة. وذهب "ابن الأثير" إلى أن الأب: المرعى المتهيئ للرعي والقطع، وقيل: الأب من المرعى للدواب، كالفاكهة للإنسان. وذلك في حديث أنس أن عمر بن الخطاب قرأ قوله الله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} وقال: فما الأب؟ ثم قال: ما كُلفنا وما أمرنا بهذا (النهاية) . وذهب "الزمخشري" إلى أن الأب هو المرعى لأنه يُؤَبُّ، أي يُؤَمُّ وينتجع. ثم قال: "وعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه سئل عن الأب فقال: أي سماء تظلني وأي أرض إذا قلت في كتاب الله ما لا علم لي به؟ وعن عمر - رضي الله عنه - أنه قرأ هذه الآية فقال: كل هذا قد عرفنا، فما الأبُّ؟ ثم رفض عصاً كانت بيده وقال: هذا لعمر الله التكلف. وما عليك يا ابن أمَّ عُمَرَ أنْ لا تدري ما الأبُّ؟ ثم قال: اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب، وما لا فّدعُوه". (الكشاف) وذكره البدر الزركشي بلفظ مقارب، ثم قال: وما ذاك بجهل منهما - رضي الله عنهما - لمعنى الأب، وإنما يحتمل والله العظيم، أن يكون من الألفاظ المشتركة في لغتهما أو في لغات، فخشيا إن فسراه بمعنى من معانيه أن يكون المراد غيره (البرهان في علوم القرآن: النوع الثامن عشر، في معرفة الغريب) . * * * وأما الزمخشري فتعلق بجدلٍ كلامي فيما قدَّر أن الموقف يشبه لأن يحتمله: "فإن قلتَ: فهذا يشبه النهي عن تتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته، قلتُ: لم يذهب إلى ذلك، ولكن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة على العمل، وكان التشاغل بشيء من العلم لا يُعملُ به، تكلفاً عندهم. فأراد أن الآية مسوقة في الامتنان على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 الإنسان بمطعمه، واستدعاء شكره. وقد عُلم من فحوى الآية، أن الأبَّ بعض ما أنبته الله للإنسان متاعاً له أو لأنعامه. فعليك بما هو أهم: من النهوض بالشكر لله على ما تبين لك ولم يشكل مما عدَّد من نِعَمِه، ولا تتشاغَلْ عنه بطلب معنى الأبَّ ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له، واكتفِ بالمعرفة الجُمْلِيَّة إلى أن يتبين لك في غير هذا الوجه، ثو وصى الناس بأن يجروا على هذا السنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن" (الكشاف) . ومع ندرة استعمال الكلمة، جاءت المعاجم بعدد من مشتقاتها وصيغها ومعانيها فذكرت في الأب: الكلأ أو المرعى والخضر أو ما أنبتت الأرض. وأبَّ للسير يئب ويؤب أبا وإباباً وأبابة: تهيأ، وإلى وطنه اشتاق. وأب أبَّه: قصد قصدَه. . . والأبَاب: الماء والسراب. وبالضم: معظم السيل والموج. وهي دلالات تبدو متباعدة، وإن أمكن ردها إلى الكلأ، والمرعى قريب منه. وانتقل مجازاً إلى الماء ينبته، وإلى السراب على التخييل. ومن حيث يُنتجع الكلأ، جاءت دلالة القصد والتهيؤ، ومن حيث يُلتمس ويُطلب، جاء استعماله في الحنين إلى الوطن. وسياق الكلمة في الآية، قريب من معنى الكلأ والمرعى. ثم نتأسى بالمروى عن أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -، فنقول: والله أعلم. * * * 163 - {السِرًّ} وسأل نافع عن قوله تعالى: {لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} فقال ابن عباس : السر، الجماع. واستشهد بقول الشاعر: ألا زعمتْ بسباسةُ اليومَ أنني. . . كبرت وأن لا يحسَن السرَّ أمثالي (تق) وفي (ك، ط) قال الأعشى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 ولا تقربَنْ جارةً كان سرُّها. . . عليكَ حراماً فانِكحَنْ أو تأبدا = الكلمة من آية البقرة 235: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} السر في اللغة نقيض العلن، ويقال لكل ما أخفاه المرء وأكنه سر. وهو في الآية مجاز عن الإفضاء بالنكاح عند أبي عبيدة، وكناية عن الجماع في تأويل المشكل لابن قتيبة، وأسند الفراء، في معنى الآية، عن ابن عباس قال: السر في هذا الموضع النكاح، وأنشد بيت امرئ القيس: * ألا زعمت * وهو ما في تأويلها بالمسألة. وقال الطبري: اختلف أهل التأويل في معنى السر المنهي عن مواعدة المعتدات به. وأسند عن ابن عباس وغيره أنه الزنا. وعن آخرين: لا تأخذوا ميثاقهن وعهودهن في عِدَدِهن أن لا ينكحها غيركم، وعن ابن عباس: لا تقل لها إني عاشق وعاهديني أن لا تتزوجي غيري. وعن غيرهم: بل معناه: لا تستبقيني بنفسك أو لا تفوتيني بنفسك، فإني ناكحك، وقيل: لا تنكحوهن في عدتهن سرا حتى إذا حلت أظهرتم النكاح. وأولى الأقوال عنده من قال إن السر في هذا الموضع الزنا، وذلك أن العرب تسمى الجماع سرا، لأن ذلك مما يكون في خفاء، غير مطّلَع عليه. وفي المفردات: كني عن النكاح بالسر من حيث إنه يخفي. ويقصرون بعد هذا كله، عن الاتيان بكلمة تقوم مقام السر. . . * * * 164 - {تُسِيمُونَ} وسأل نافع عن قوله تعالى: {فِيهِ تُسِيمُونَ} ففال ابن عباس: تَرعَون. واستشهد له بقول الأعشى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 ومشى القومُ بالعماد إلى [المر. . . عى] وأعيا المسيمَ أيْنُ المساقِ = الكلمة من آية النحل 10: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} ولم تأت الكلمة في هذا المعنى إلا هنا، وجاء من المادة: يسومهم، يسومونكم، مسوَّمة، مسوَّمين، سيماهم. والسوم في اللغة الرعي، والمساومة المقاولة بين المتبايعين. ومن المجاز: سُمته كذا أردته منه، وعرضته عليه، وسُمته خسفا، وفيه سيما الصلاح وسيماؤهم (ص، ق) ومعناها عند الفراء: ترعون إبلكم، وفي الطبري: ترعون، وأسنده عن أهل التأويل، لم يذكر بينهم فيه خلافا. وعند "الراغب" أن أصل السوم الذهاب في ابتغاء الشيء: وأجرى مجرى الذهاب في قولهم: سام الإبل بمعنى رعاها، ومجرى الابتغاء في "يسومكم سوء العذاب" ومنه قيل: سيم فلان الخسف. ومنه السوم في البيع والمساومة - قصدَ الغبن (المفردات) . وبالرعي فسرها "ابن الأثير" في حديث النهي عن السوم قبل طلوع الشمس، لأنه وقت تذكر الله تعالى، أو لأن الإبل إذا رعت في الندى أصابها منه الوباء وذلك معروف عند العرب. وقال في حديث "السائمةُ جُبِار" يعني أن الدابة المرسلة في مرعاها إذا أصابت أحداً، كانت جنايتها هدراً (النهاية) . والرعي هو المعنى المتبادر للسوم في الآية. وأما انتقاله إلى سوم العذاب، فأقرب مما ذكره "الراغب" فيه من مجرى الابتغاء، أن يكون من: أسام الإبلَ أرعاها، وأرسلها في المرعى. واسام الخيلَ: أرسلها، ومنه قيل: أسام على القوم، أي أرسل خيلهَ وأغار فعاث فيهم. وتتميز فروق الدلالات بما يتعلق به السوم: فهو للماشية رعي، وللخيل غارة، وللإنسان، أذى وتسلط. والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 165 - {لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} وسأل ابن الأزرق عن معنى قوله - عز وجل -: {لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} فقال ابن عباس: لا يخافون لله عظمة. واستشهد بقول أبي ذؤيب: إذا لسعتْه النحلٌ لم يرْجُ لَسعهَا. . . وحالفها في بيت نُوبٍ عوامل (ظ في الروايتين) وفي (تق، ك، ط) قال: لا تخاشون لله عظمة. والكلمة من آية نوح 13، خطاباً لقومه: {مَا لَكُم ْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} الرجاء في (الأضداد: للأصمعي، وأبي حاتم السجستاني،) وابن الأنباري، وابن السكيت) بمعنى الطمع وبمعنى الخوف. وأورده ابن قتيبة في باب المقلوب من تأويل المشكل: رجوت بمعنى خفت، قال الله سبحانه {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} وقيل هي لغة حجازية، وفي لغة كنانة وخزاعة ونصر وهذيل، بمعنى المبالاة (السجستاني وابن الأنباري) وحكاه الأزهري والزمخشري والقرطبي: عن أهل اللغة. والجمهرة من أهل التأويل على أن معناها في آية نوح: لا تخافون لله عظمة، أو: لا تخشون، ولا تبالون. سوى الزمخشري فإنه ذهب إلى أنها بمعنى الأمل. وعلق الوقار بالمخاطبين، والمعنى: ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب. ووجه هذا التأويل عنده تقدُّم لفظ الجلالة {لِلَّهِ وَقَارًا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 فهو بيان له، ولو تأخر - أي: وقارا لله - لكان صلة للوقار (الكشاف) وفيه بُعد من تكلف الصنعة. والفعل من الرجاء يأتي في القرآن الكريم على الوجهين، قال الراغب: {لَا تَرْجُونَ} : لا تخافون - وأنشد بيت أبي ذؤيب - وبالضد قال تعالى: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} - المفردات. قال الفراء في الآية: وقد قال بعض المفسرين أن معناه: تخافون، ولم نجد معنى الخوف يكون رجاء إلا ومعه جحد، والعرب لا تذهب بالرجاء مذهب الخوف إلا مع الجحد. وحكاه عنه الأزهري في تهذيب اللغة. وقال السجستاني: والرجاء يكون طمعاً ويكون خوفاً، وفي القرآن في معنى الطمع {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} قال كعب (بن زهير) : أرجو وآمُل أن تدنو مودتها. . . وما إخال لدينا منك تنويلُ والرجاء في القرآن بمعنى الخوف كثير: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ} {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} {ارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ} وقال أبو ذؤيب: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها. . . وخالفها في بيت نُوبٍ عواملِ (الأضداد، ف 8 / 110) . فهل من ضابط لهذه الضدية، في البيان القرآني؟ قد يشهد لقول الفراء إنها لا تجئ في معنى الخوف إلا جحداً، الاستقراء للكلمة في القرآن الكريم وتدبر سياقها: جاءت وفي مثل سياق آية نوح مع الجحد، في قوله تعالى: {لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} يونس 7، 11، 15، والفرقان 21. {لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} الجاثية 14. {لَا يَرْجُونَ نُشُورًا} الفرقان 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 {إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا} النبأ 27 ومعها آية النور 60 {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا} وأما في غير الجحد، فأكثر ما تجئ بمعنى الطمع والأمل: القصص 86: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} الإسراء 28: {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} البقرة 218: {أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} الإسراء 57: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ. . .} فاطر 29: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} الزمر 9: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} هود 62: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} لكنها أقرب إلى معنى الخوف، في آيات. العنكبوت 5: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} الأحزاب 21: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} ومعها الممتحنة 6. الكهف 110: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا. . .} العنكبوت 36: {فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ} فلعل الوجه في تأويل الرجاء بالخوف أن الراجي غير مستيقن من تحقق رجائه، فالراجي يخاف فوت المرجو وإخلافه "فالرجاء والخوف متلازمان لأن من يرجو الشيء يخاف ألا يكون" كما قال الراغب. والله أعلم. * * * 166 - {مَتْرَبَةٍ} وسأل ابن الأزرق عن قوله تعالى: {ذَا مَتْرَبَةٍ} فقال ابن عباس: ذا حاجة وجهد. واستشهد بقول الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 تَرِبتْ يدً لَكَ ثُمَّ قَلَّ نوالُها. . . وترفعتْ عنها السماءُ سِجالُها (تق، ك، ط) = الكلمة من آية البلد 16: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} وحيدة الصيغة في القرآن. ومن مادتها جاء "تراب" و"التراب" سبع عشرة مرة. والمتربة: الفقر، نقلا من أصل المادة في التراب. ويقال أتربه: عفَّره بالتراب، ويَرب فلان بعد ما أترَب، أي افتقر بعد غنى (س) . والآية ذكرها ابن السكيت في (تهذيب الألفاظ 575) شاهدا على المتربة: الفقر، وفي تفسير البخاري: "ذا متربة الساقط في التراب". ومعه في (فتح الباري) تخريجه عن مجاهد بلفظ: المطروح في التراب ليس له بيت، وعن ابن عباس مثله، وعنه بلفظ: الذي لا يقيه من التراب شيء، أو: الذي ليس بينه وبين التراب شيء. وأسند الفراء في معنى آية البلد، عن ابن عباس، أنه مر بمسكين لاصق بالتراب حاجةًَ، فقال: هذا الذي قال الله تبارك وتعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} وفي مفردات الراغب: اي ذا لصوق بالتراب. وأما الشاهد في المسألة * تربتْ يداك * فكذلك وجهه ابن السكيت والزمخشري إلى الدعاء عليه. ولكن ابن الأثير ذكر فيه وجهاً آخر، وهو الدعاء في حديث: "عليك بذات الدين تربت يداك"، وقال: وهذه الكلمة جارية على ألسنة العرب يريدون بها الدعاء، كقولهم: قاتلة الله. . . ويعضده قوله في حديث خزيمة: "أنعم صباحاً تربت يداك" وكثيراً ما ترد للعرب ألفاظ ظاهرُها الذمُّ وإنما يريدون بها المدح كقولهم: لا أب لك، ولا أم لك، ونحو ذلك. ومنه حديث أنس: "لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبابا ولا فحاشاً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 فكان يقول لأحدنا عند المعاتبة: تَرِبَتْ جبينُه" قيل: أراد به دعاءً له بكثرة السجود (النهاية) . فترى أن الكلمة على أي وجه تأولوها في الآية، متصلة بأصل دلالتها على التراب، وإن كانت الدلالة المجازية هب المرادة في آية البلد، المسألة، كناية عن شدة الفقر وجهد العوز. والله أعلم. * * * 167 - {مُهْطِعِينَ} وسأل نافع عن قوله تعالى : {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} فقال ابن عباس: مُذْعنين خاضعين. واستشهد بقول تُبَّع: تعبَّدَنى نمرُ سعدٍ وقد درى. . . ونمر بن سعد لى مَدِينٌ ومُهطِعُ (تق، ك، ط) الكلمة من آية: القمر 8: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} ومعها آيتا: إبراهيم 43: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} المعارج 36: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} وليس في القرآن من المادة غير هذه الكلمة في الآيات الثلاث. في الوقف والابتداء، في غير المسائل: سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن قوله - عز وجل - {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} قال: المهطع المسرع، واحتج بقول الشاعر: بدجلة دارُهم ولقد أراهم. . . بدجلة مهطعين إلى السماع (فقرة 102 / 67) . من أهطع في سيره مدَّ عنقه وصوب رأسه (ص، س) وأسند الطبري عن ابن عباس، وغيره: يعني بالإهطاع النظر من غير أن يطرف. وعن آخرين: مُديمى النظر. وعن الحسن: وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد. وقال الأخفش في معاني القرآن: كأنه قال: يشخص أبصارهم مهطعين و"الراغب" فهمها من: هطع الرجل ببصره إذا صوَّبه، وبعير مهطع إذا صوب عنقه (المفردات) . وقال "الزمخشري" في مهطعين: أي مسرعين مادَّى أعناقهم إليه وقيل: ناظرين إليه لا يقلعون بأبصارهم قال: * تعبدني نمر * البيت (الكشاف) ونقل أبو حيان في (البحر المحيط) : قال أبو عبيدة: مسرعين. . . وقال قتادة: عامدين. وقال الضحاك: مقبلين، وقال عكرمة: فاتحين آذانهم إلى الصوت. وقال سفيان خاشعين. . . وقيل: خاضعين مادى أعناقهم. والمعاني متقاربة كما قال القرطبي. وعلى أي وجه تأولوا الكلمة، يظل لها ملحظ الذلة والخضوع، في شخوص البصر أو في الإسراع ومد العنق. وقال الجوهري: وأهطع مد عنقه وصوب رأسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 وكمحسن: من ينظر في ذل وخضوع لا يُقلع بصره (ق) . * * * 168 - {سَمِيًّا} وسأل نافع عن قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} فقال ابن عباس: ولداً، واستشهد بقول الشاعر: أما السَّمِىُّ فأنتَ منه مُكثِرُ. . . والمالُ فيه تغتدى وتروحُ (تق، ك، ط) = الكلمة من آية مريم 65: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} ومعها آية مريم 7: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} ومن المادة جاء "اسم" سبعاً وعشرين مرة، وجمعه: أسماء، والأسماء اثنتى عشرة مرة و"تسمية" في آية النجم 23، وفعلها ماضياً ومضارعاً ثماني مرات، واسم المفعول منها "مُسَمَّى" إحدى وعشرين مرة. تأويل الكلمة في المسألة بولد، فيه أن القرآن الكريم جاء فيه ولد وأولاد ستا وأربعين مرة، ولم اقف على تأويل "سميا" بولد، في آيتى مريم، كلتيهما. سَمِيُّكَ في اللغة: مَن اسمُه اسمُك ونظيرك. وساماه باراه، وتساموا تباروا. والسمة العلامة، والاسمُ اللفظ الموضوع على العرض والجوهر، للِعَلَمِيَّة والتمييز. وفي تأويل الطبري لآية مريم 65: هل تعلم يا محمد لربك مثلا أو شبيها: عن ابن عباس، وعن آخرين: لا سمىَّ لله ولا عِدل له، كل خلقه يقر له ويعترف أنه خالقه، لا شريك له ولا مثل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 وأما فى آية مريم فروى بإسناده من اختلاف أهل التأويل: لم تلد العواقر مثله، عن ابن عباس، وقال آخرون: لم نجعل له من قبله مثلا، وقال غيرهم: بل معناه أنه لم يسمَّ باسمه أحد قبله. وهذا القول الأخير، هو أشبه بتأويلها عند الطبرى. وقال الراغب: وقوله تعالى: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) أي نظيرًا له يستحق اسمه، وموصوفا يستحق صفته على التحقيق. وليس المعنى: هل تجد من يتسمى باسمه، إذ كان كثير من أسمائه تعالى قد يطلق على غيره، لكن ليس معناه إذا استعمل فيه سبحانه، كمعناه إذا استعمل فى غيره (المفردات) . قلت: لعله يسْير بذلك إلى مثل: عليّ، وعزيز، ورءوف وكريم. . . وقلما يُسمى بها أحد معرفة بأل، كالأسماء الحسنى. ولعلها اختصار عبد العلي وعبد العزيز وعبد الكريم. وجرى السلف على التلقب -: العلى بالله، والمقتدر بالله، والظاهر بأمر الله. . . ونحوها. *** 169 - (يُصْهَرُ) وسأل نافع عن قوله تعالى: (يُصْهَرُ) ، فقال ابن عباس: يذاب. واستشهد له بقول الشاعر: سخنت صهارته فظل عثانه. . . في سيطل كعب به تتردد (تق، ك، ط) لق (وق) قال: الصهر، الإذابة، قال فيه مَئاس المرادى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 فظللنا بعد ما امتد الضحى. . . بين ذي قِدرٍ ومنا هُصهِر = الكلمة من آية الحج 20: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) . وحيدة فى القرآن، بصيغتها ومعناها. ومعها من المادة: الصهر مع النسب فى آية الفرقان 54: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا) . الصهْر فى اللغة الإذابة للشحم والمعدن، والصهارة ذوبهُما. ومنه المصاهرة بدلالة الاختلاط والانصهار، وفى تأويل الطبرى: يذاب بالحمحيم الذى يصب من فوق رءوسهم، ما فى بطونهم من الشحوم وتشوى جلودهم فتتساقط. وأنشد نحوه عن ابن عباس. وخصه المفسرون كذلك بإذابة الشحوم، وهو ما فى (مفردات الراغب والنهاية لابن الأثير) . *** 170 - (لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ) وسأل نافع عن قوله تعالى: (لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ) . فقال ابن عباس: لَتثقُل. واستثهد بقول امرئ القيس: تمشي فتثقلها عجيزتها. . . مشي الضعيف ينوء بالوسق ، (تق، ك، ط) بِالَوسْقِ = الكلمة من آية القصص 76: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَه ُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 السؤال عن: (تنوء) وحيدة فى القرآن، صيغة ومادة. فى أضداد الأصمعى (ناء) عن أبي عبيدة، يقال: نؤت بالحمل إذا نهضت به مثقلاً، وناءنى الحمل إذا أئقلك وغلبك. . . ومنه (ما إن مفاتحه) الآية. وبلفظه فى الأضداد لابن السكيت (ناء) . وفى الأضداد للسجتانى (ناء) : وقالوا ناء بزيد الحمل إذا ناء زيد بالحمل، وقال تعالى: (مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ) والعصبة تنوء بها. وأبو عبيدة أورد الكلمة فى مجاز ما يُحوَّل الفاعل منه إلى المفعول أو إلى غير المفعول، قال تعالى (مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ) الآية، والعصبة هى التى تنوء بها. ، (مجاز القرآن. 1 / 21) وهو فى باب المقلوب فى تأويل المشكل لابن قتيبة: (لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ) أي تنهض بها مثقلة. نقله ابن الأنبارى فى (الأضداد: 8 / 144) ونقل معه قول الفراء - فى معاني القرآن، آية القصص: معناه ما إن مفاتحه لتنىِء العصبة، أي تثقلهم وتميلهم فلماانفتحت التاء سقطت الباء، كما يقولون هو يذهب ببصر فلان، وهو يذهِب بصر فلان. وقال الجوهرى: ناء ينوء نوءًا، نهض بجهد ومشقة وناء: سقط. وهو من الأضداد (ص: ن وأ) . وفى (س: ن وأ) نؤت بالحمل نهفت به، وناء بي الحمل: مال بى إلى السقوط. والمرأة تنوء بعجيزتها. وقال تعالى: (مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ) والكلمة فى (مقاييس اللغة) من مهموز مادة نوى. ودلالتها لمحض النهوض مع ملحظ ثقل. قال ابن فارس فى مادة نوى: وبالهمز: كلمة تدل على النهوض، ناء ينوء نوءا: نهض. وكل ناهض بثقل فقد ناء. والمرأة تنوء بها عجيزتها وهى تنوء بها، فالأولى: تثقل بها، والثانية تنهض. . والمناوأة المناهضة (5 / 366) . فى تأويل الكلمة، أسند الطبرى عن ابن عباس وغيره من أهل التأويل: (لَتَنُوءُ) لتثقل. ثم قال: وكيف تنوء المفاتح بالعصبة، وإنما العصبة هى التى تنوء بها، ونقل اختلاف أهل العلم بالعربية فى معناها: فقال بعض البصريين مجاز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 ذلك نحو: تنوء بها عجيزتها، وإنما توء هى بهاكما ينوء البعير بحمله. وبعض الكوفيين ينكره. . وقالوا: نوؤها بالعصبة أن تثقلهم، كما قال تعالى: (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) أي آتوني بقطر. . وهذا القول الآخر أوْلَى بالصواب، وإذا وُجه: ما إن العصبة لتنهض بمفاتحه لم يكن فيه دلالة على كثرة كنوزه، على نحوما إذا وُجه إلى أن معناه إذ مفاتحه تُثقل العصبة وتميلها لأنه قد تنهض العصبة بالقليل وبالكثير وإنما قصد جل ثناؤه الخبرَ عن كثرة ذلك. وإذا أريد به الخبر عن كثرته كان قول من قال: لتنوء العصبة بمفاتحه، لا معنى له. هذا مع خلافه تأويل السلف. وقال القرطبى: أحسن ما قيل فيه: إن المعنى لتنىَء العصبة أي تميلهم بثقلها، فلما انفتحت التاء دخلت الباء كما قالوا: هو يذهب بالبؤس ويذهب البؤسَ ". وهو قول الفراء. وفى البحر المحيط لأبي حيان: قال أبو زيد: نؤت بالحمل إذا نهضت به. . ويقال: ناء ينوء إذا نهض بثقل. وقال أبوعبيدة: هو مقلوب، وأصله: لتنوء بها العصبة. والقلب بابُه الشعرُ، والصحيح أن الباء للتعدية، أي لتنىء العصبةَ، كما تقول: ذهبت به وأذهبته. . ونقل هذا عن الخليل وسيبويه والفراء، واختاره النحاس، ورُوِىَ معناه عن ابن عباس وأبى صالح والسدى. ورده الراغب إلى النوء: سقوط النجم وميله للغروب وقالوا: ناء به الحمل أثقله وأماله، وناء فلان أثقل فسقط. (المفردت) . والذى يظهر لنا من إمعان النظر فى أقوالهم، أن: ناء بالحمل بمعنى نهض به مثقلا، وناء به الحمل أثقله وأعياه وأماله. فكان وجه العدول فى البيان القرآني عن لتنوء بها العصبة، إلى (لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) تقرير لكونها من الكثرة بحيث يعييهم النهوضً بها. والله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 171 - (كُلَّ بَنَانٍ) : وسأل ابن الأزرق عن قوله تعالى: (كُلَّ بَنَانٍ) . فقال ابن عباس: أطراف الأصابع. وشاهده قول عنترة العبسى: فنعم فوارس الهيجاء قومي. . . إذا علق الأعنة بالبنان (تق، ك، ط) = الكلمة من آية الأنفال 12: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) . ومعها آية القيامة 4: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) . وليس القرآن غيرهما من المادة. البَنان واحدته بنانة، وهى الأصابع أو أطرافها (ق) يقال: ما زاد عليه بنانة، أى (صبعا واحدة (س) . وفى تاويلها بآية الأنفال: أنها أطراف أصابع اليدين والرجلين، وقيل: هى الأطراف، وقيل: كل مفصل (الطبرى) . حكاها أبوحيان وقال: والمختار أنها الأصابع (البحر / آية الأنفال) . وفسرها الراغب كذلك بالأصابع، خصها الله تعالى بالذكر لأجل أنهم بها يقاتلون ويدافعون. (المفردات) وفى حديث جابر، بن عبد الله بن عمرو الأنصارى، وذكر استشهاد أبيه رضى الله عنهما يوم أحد قال: " ماعرفته إلا ببنَانِه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 قال ابن الأثير: البنان الأصابع، وقيل أطرافها، واحدتها بنانة (النهاية) . والزمخشرى فى آية القيامة: ذكر الأطراف على أنها أصابع الإنسان التى هي أطرافه وأخر ما يتم من خلقه، أو: بلى قادرين علىْ أن نسوى بنانه ونضم سلامياته على صغرها ولطافتها بعضها إلى بعض، كما كانت أولا من غير نقصان ولا تفاوت. وقيل معناه، بلى نجمعها - عظام الإنسان - ونحن قادرون على أن نسوى أصابع يديه ورجليه، أي نجعلها مستوية شيثا واحدًا كخُف البعير وحافر الحمار، ولا فرق بينهما، فلا يمكن أن يعمل بها شيئاً مما يعمل بأصابعه المفرقة ذات المفاصل والأنامل، من فنون الأعمال والبسْطِ والقبْض والتأتى لما يريد من الحوائج (الكشاف) . ورأى أبو حيان فى قول الزمخشرى تكلفا وتنميق ألفاظ، قال: أي نحن قادرون على أن نسوى، بنانه، وهى الأصابع، أكثر العظام تفرفا وأدقها أجزاء، وهي العظام التى فى الأنامل ومفاصلها. وهذا عند البعث. وقال ابن عباس والجمهور: نجعلها فى حياته هذه بضعة أو عظما واحدا، فتقل منفعته بها، وهذا القول فيه توعد. والمعنى الأول هو الظاهر والمقصود من رصف الكلام. وذكر الزمخشرى هذين القولين بألفاظ منمقة على عادته فى حكاية أقوال المتقدمين. (البحر العحيط) . *** 172 - (إِعْصَارٌ) وسأل نافع عن قرله تعالى : (إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ) . فقال ابن عباس: الريح الشديدة. واستشهد له بقول الشاعر: فلَهُ في آثارِهنَّ خوارٌ. . . وحفيفٌ كأنَّه إعصارُ (تق) ، زاد في (ك، ط) : التى تجرى بالعذاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 = الكلمة من آية البقرة 266: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) . وحيدة الصيغة، ومعها فى القرآن من مادتها: الفعل من العصر فى آيتى يوسف: (إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا) . (فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) . والمعصرات فى آية النبأ 14، والعصر بمعنى الدهر والزمن فى آية العصر. وتفسير الإعصار بالريح الشديدة، قريب، مع ملحظ دلالة مادته على الاعتصار. بالضغط لاستخلاص العصارة (أَعْصِرُ خَمْرًا) وسميت السحب الممطرة بالمعصرات لما تعتصرمن المطر. كما أطلق الإعصار على الريح الشديدة أو هو " الغبار الذى يسطع مستديرا. . . ويقال فى غبار العَجاجة أيضا إعصار" ومنه الآية (مقاييس اللغة) . وقال الجوهرى: والإعصار ريح تهب تثير الغبار فيرتفع فى السماء كأنه عمود (إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ) ويقال: هى ريح تثير سحابْا ذات رعد وبرق (ص) وهو بلفظه تأويل الطبرى للكلمة، ثم أسند عن ابن عباس، قال: ريح فيها سموم شديدة. وعنه أيضا: هى السموم الحارة. وعند الراغب: الإعصار ريح تثير الغبار (المفرات) . *** 173 - (مُرَاغَمًا) : وسأل نافع عن قوله تعالى: (مُرَاغَمًا) . فقال ابن عباس: منفسحْا، بلغة هذيل. واستشهد له بقول الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 وأتركُ أرضَ جهرة إن عندى. . . رجاء فى المراغَمِ والتعادى (تق، ك، ط) = الكلمة من آية النساء 100: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) . وحيدة فى القرآن صيغة ومادة. وليس الانفساح من معانيها القريبة إلا أن يستفاد من "مُرَاغَمًا" "وَسَعَةً" وأصل استعمالها لغة الرغام التراب، ومنه قولهم: أَنفه فى الرغام، كناية عن المذلة والانكسار. واستعمل فى القسر والإرغام، ونقل إلى المنأى والمهرب، كما نُقل المفزع لما يُلَاذ به عند الفزع (الأساس، وانظر معه مقاييس اللغة: رغم) (2 / 413) - قال الفراء: مراغمًا ومراغمة مصدران فالمراغم المضطرب والمذهب فى الأرض. ومثله تأويل الطبرى للكلمة، ثم أسند عن ابن عباس، قال: المراغم المتجول من الأرض إلى الأرض، وعن الضحاك: متحولا. وعن آخرين: متزحزحًا، وقال الراغب: أي مذهبا يذهب إليه إذا رأى منكرًا يلزمه أن يغضب منه. كقولك: غضبت إلى فلان من كذا ورغمت إليه (المفردات) . . فلعل "مراغما" ملحوظ فيها، مع سعة فى الأرض، إرغام الاضطرار إلى الهجرة. والله أعلم. *** 174 - (صَلْد) : وسأل نافع عن قوله تعالى: (صَلْدًا) . فقال ابن عباس: أملس، واستشهد بقول أبي طالب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 وإني لقرم وابن قرمٍ لهاشم. . . لآباء صدق مجدهم معقل صلد ، تق) ، زاد فى (ك، ط) : أملس لا شيء عليه. = الكلمة من آية البقرة 264: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) . وحيدة فى القرآن صيغة ومادة. تأويلها بالملامسة يحتاج إلى قيد بالصلابة والجدب، فليس كل أملس صلدا. وأكثر ما يستعمل فى الحجر وفى الأرض الصلداء الغليظة الصلبة، ونقل إلى الشحِّ والضنِّ، فقيل للبخيل: أصلد. وصلد الزنذ لم يور، والصلود الناقة ضنت بلبنها. (مقاييس اللغة: صلد 3 / 303) قال الطبرى: والصلد من الحجارة: الصلب الذى لا شيء عليه من نبات ولا غيره. وهو من الأرضين ما لا ينبت في شىء، وبنحو الذى قلنا فى ذلك قال أهل التأويل. (سورة البقرة) *** 175 - (مَمْنُون) : وسأل نافع عن قوله تعالى: (لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ) . فقال ابن عباس: غير منقوص. ولما سأله ابن الأزرق: وهل تعرف العرب ذلك، قال: نعم، أما سمعت قول زهير بن أي سلمى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 فَضْلَ الجوادِ على الخيلِ البِطاءِ فلا. . . يُعْطِي بذلك مَمْنُوْناً ولا نَزِقا (تق، ك، ط) = الكلمة من آية القلم، خطابا للمصطفى عليه الصلاة والسلام. (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) . ومعها (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) فى آيات. فصلت 8، الانشقاق 25، والتين 6. ومن مادتها جاء: المَن 16 مرة. و (رَيْبَ الْمَنُونِ) فى آية الطور فسَّره الطبرى كذلك، بغير منقوص ولامقطوع، من قولهم: حبل مَنِين. وفي معنى الكلمة عند الفراء: غير مقطوع، والعربُ تقول ضعفت منتى عن السفر. ويقال للضعيف: المنين. وهذا من ذاك، والله أعلم (المعاني - 3 / 172) . وعن مجاهد: غير محسوب. وعن الحسن: غير مكدرٍ بالمن، وقيل: غير مقدر. وهو التفضل لأن الجزاء مقدر والفضل غير مقدر. ذكره الماوردى (جامع القرطبى) . ومما قاله الزمخشري فيها:. غير ممنون به عليك، لأنه ثواب تستوجبه على عملك وليس بتفضل ابتداء وإنما تُمَنُّ الفواضل، لا الأجور على الأعمال (الكشاف) . أنكره أبو حيان ورأى فيها دسيسة اعتزال " - البحر المحيط. وكذلك أنكره ناصر الدين ابن المنير الإسكندرى المالكى قاضى القضاة قال: ". . ما كان النبى - صلى الله عليه وسلم - يرضى من الزمخشري بفسير الآية هكذا، وهو - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا يدخل أحدكم الجنة بعمله) قيل: ولا أنت يارسول الله، قال: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة " لقد بلغ الزمخشري سوء الأدب إلى حدٍّ يوجب الحدَّ! وحاصل قوله أن الله لا منة له على أحد ولا فضل فى دخول الجنة لأنه قام بواجب عليه، نعوذ باللْه من الجرأة عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 ويهدينا تدبر ما فى القرآن من آيات المن، إلى أن للهِ تعالى أن يمن على عباده تفضلًا، وتذكيرا بنعمه. وإنَّما يكره المن من البشر حين يكون على وجه الحساب والعدّ والتفضل، وأصل المن فى اللغة القطع. قاله ابن السكيت فى (تهذيب الألفاظ) . ومعه: اصطناع الخير، أصلا ثانيا فى (مقاييس اللغة: 5 / 267) ومن معاني المن ما يوزن به، والممنون الموزون. ومنه جاءت المِنة بمعنى النعمة ذات الوزن والقيمة. وبملحظ من الوزن جاء الممنون بمعنى المحسوب المعدود من متفضل يعد مِتنه على من نالته. وقال الراغب: وذلك مستقبح من الناس وفيه قالوا: المنة تهدم الصنيعة، لأنها تقطع الشكر وتنقص النعمة. والمنون: المنية تنقص العدد وتقطع المدد (المفردات) . *** 176 - (جَابُوا) : سأل نافع عن قوله تعالى : (جَابُوا الصَّخْرَ) . فقال ابن عباس: نقبوا الحجارة والجبال فاتخذوها بيوتًا. وشاهده قول أمية! وشق أبصارنا كيما نعيش بها. . . وجاب للسمع أصماخاً وآذاناً (تق، ك، ط) = الكلمة من آية الفجر 9: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) . السؤال عن: جَابُوا، وحيدة فى القرآن بصيغتها واستعمالها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 ومعها الجوابى فى آية سبأ: (وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ) سبقت فى المَسالة (31) . والذى فى القرآن من المادة غيرهما، يأتى فى معنى الإجابة والاستجابة والجواب. وما قاله ابن عباس فى (جَابُوا الصَّخْرَ) هو نحو ما فى تأويل الطبرى: خرقوا الصخر ونحتوه ونقبوه، واتخذوه بيوتا. ونظر له بقوله تعالى: (وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ) . ونحوه فى الغريبين للهروى: باب الجيم مع الواو. وقيل: معناه قطعوا الوادى. وقيل: بل معناه أنهم شقوا الصخر واتخذوه واديًا يخزنون فيه الماء لمنافعهم، ولا يفعل ذلك إِلا أهل القوة والفهم من الأمم. والجوب، بمعنى القطع، أصل فى الدلالة: جاب الثوب قطعه، والجوب: درع يُقطع للمرأة. والجُوبة الحفرة وفجوة بين أرضين: يقال منه: جاب الوادى يجوبه جوبًا، بمعنى قطعه، لا يعنون به القطع بمعنى النقب والحفر، وإنما هو مجاز من قبيل قولهم: جوَّاب آفاق وجواب ليل (الأساس. ومعه مقاييس اللغة، جوب - 1 / 491) . ومن الباب: الجواب عن السؤال. ويذهب الراغب إلى أنه قطع الفجوة بين فم المجيب إلى أذن السامع (المفردات) وليس قريبا. والأولى عندنا أن يكون قطعًا مجازيا بما يلتمس فيه من إجابة. وعلى ما يبدو من قرب تفسير (جَابُوا الصَّخْرَ) بنقبه أو قطعه، نلتفت إلى أن القرآن استعمل النقب فى آية (ق) : (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ) واستعمل القَطْع: فعلًا ماضيا من الثلاثى ومضارعًا وأمرا واسم فاعل: قاطعة، واسم مفعول: مقطوع، ومقطوعة. وقطع. وجاء الفعل من التقطيع والتقطع. والجَوْبَ فى آية الفجر: (جَابُوا الصَّخْرَ) . وسبق من تدبر النقب فى السؤال عن: (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ) أن فى التنقيب دلالة الفحص والبحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 وفى القطع دلالة الحسم والنفاذ. وأما (جَابُوا الصَّخْرَ) ففى سياق ماكان لثمود من قوة ومنعة، ولعل فيها خصوص الدلالة على المجاوبة فى القطع بمعنى أن الصخر، على صلابته، طاع لهم واستجاب حين جابوه بالوادى، وقد كانت لهم فيه ديارهم ومساكنهم المشيدة المأهولة، قبل أن تأخذهم الصيحة (فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) صدق الله العظيم. *** 177 - (جَمًّا) : وسأل نافع عن قوله تعالى: (حُبًّا جَمًّا) . فقال ابن عباس: كثيرًا، واستشهد له بقول أمية. إن تغفر اللهم تغفر ْ جمَّا وأيُّ عبدٍ لك ما ألَمَّا (تق، ك، ط) = الكلمة من آية الفجر 20: كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) . وحيدة فى القرآن، صيغة ومادة: والعربية تستعمل الجمَّ فى الكثرة مع التجمع يقال: جمَّ الكيل، إذا بلغ به رأس المكيال. وجمَّ الماء: كثر واجتمع. والجمَّة مجتمع شعر الرأس، وجفنة جماء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 ملأى. وجاءوا الجماءَ الغفير، أي بأجمعهم. وتولهم: فلان جُمجمة قومه، أي مجتمع عِزِّهم، منقول من الجمجمة التى هى مجتمع عظم الدماغ. ولعل الاستجمام ملحوظ فيه، أخذ الراحة لجمع القوى. وتأويلها بالكثير، قاله ابن فارس فى (المقاييس: جم) ، ومثله عند الراغب مع ربطه باستعماله فى جمة الماء، أي معظمه ومجتمعه الذى جُم فيه عن السيلان. (المفردات) . وقريب منه قول " ابن الأثير فى الجم الغفير: وأصل الكلمة من الجموم والجمة وهو الاجتماع والكثرة. والغفير من النفر وهو التغطية والستر، فجعلت الكلمتان فى موضع الشمول والإحاطة - ولم تقل العرب: جمَّاء إلا موصوفا، وهو منصوب على المصدر كقاطبة وطرًّا، فإنها أسماء وضعت للمصدر (النهاية) . وفى تأويل الطبرى: وتحبون جمع المال واقتناءه حبا شديدا، من قولهم: جمَّ الماء فى الحوض إذا اجتمع - وبنحو الذى قلنا، قال، هل التأويل - وقال الزمخشري: حبا كثيرًا شديدا مع الحرص والشره ومنع الحقوق (الكشاف) وقيده القرطبى بحلاله وحرامه (الجامع) وسياق الآية يؤنس إليه، مع الآية بعدها (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا) لا يتميز فيه حلال من حرام. والله أعلم. *** 178 - (غَاسِقٍ) : وسأل نافع عن قوله تعالى: (غَاسِقٍ) فقال ابن عباس: الغسق الظلمة، وامتئ@هد بقول زهير بن أبي سلمى: ظلَّت تجوب يداها وهي لاهيةٌ. . . حتى إذا جنح الإِظلامُ والغسقُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 والمسألة فى (ظ، وق) عن (إلى غسق الليل) قال فى (ظ) : إذا أظلم، وفى (وقب) : دخول الليل بظلمته. والشاهد بيت زهير، ظلت وفى (ظ) بيت النابغة: وكأنَّ ما قالوا وما وعدوا. . . إلٌّ تضمنَه من دامس غسقُ = الكلمة من آية الفلق 3: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) . وحيدة الصيغة، ومعها من مادتها: غسق، فى آية الإسراء 78: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) . وغساق فى آيتى: (ص) 57: (هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) . والنبأ 25: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) . وهذه الكلمات الأربع هى كل ما فى القران من المادة. قال ابن السكيت فى باب صفة الليل: وغسَق الليل دخول أوله حين اختلط: غسق يغسق غَسْقا، وغَسَقا، وأتيته فى غسق الليل، أي فى اختلاطه ودخوله. (تهذيب الألفاظ) . والغسق أول ظلمة الليل، وقد غسق يغسق أي أظلم، والغاسق الليل إذا غاب فى الشفق (ص) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 وهو دخول الليل حين يختلط الظلام: وقد غسق الليل غسْقا وغسوقا، وبنو تميم على، أغسق، نحو: دَجَى وأدجى. وغسق القمر أظلم بالخسوف (س) وعن الزجاج: قيل لليل غاسق لأنه أبرد من النهار، والغاسق البارد، ولأن فى الليل تخرج السباع من آجامها والهوام من أماكنها، وينبعث أهل الشر والفساد. حكاه القرطبى. وفي الأضداد لابن الأنبارى: والغساق البارد يُحرق كما يحرق الحار، ويقال: البارد المنتن بلسان أهل الترك، ويقال: ما يغسق من صديد أهل النار، أى ما يسيل. وفي معى آية الفلق، قال الأخفش: تقول: غسق الليل يغسق غسوقا، وهى الظلمة. ووَقت يَقب وقوبا وهو الدخول فى الشيء (معاني القرآن 2 / 549) قال الفراء: والغاسق الليل، إذا وقب " إذا دخل فى كل شىء وأظلم. ويقال: غسَقَ وأغسق (معاني القرآن. 3 / 301) . فى تفسير البخارى: وغاسق، الليل، إذا وقب: غروب الشمس (ك التفسير، الفلق) قال ابن حجر: وصله الطبرى من طريق مجاهد بلفظ: غاسق إذا وقب، الليل إذا دخل. . وجاء فى حديث مرفوع: الغاسق القمر. أخرجه الترمذى والحاكم من طريق أبى سلمة، عبد الرحمن بن عوف الزهزى، عن عائشة، رضى الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى القمر فقال: "ياعاثشة، استعيذى بالله من شر هذا " قال: هذا الغاسق إذا وقب! إسناده حسن (فتح البارى. 8 / 524) . وفى تأويل الطبرى للآية: ومن شر مظلم إذا دخل علينا بظلامه. واختلف أهل التأويل فى المظلم المستعاذ منه. وأسند عن مجاهد أنه القمر، وروى فيه حديث عاثشة رضى الله عنها. وعن ابن عباس وآخرين أنه الليل. واختاره الطبرى. وعند الراغب: الغاسق الليل المظلم (مِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) وذلك عبارة عن النائبة. وابن الأثير الغاسق فى حديثه - عائشة رضى الله عنها: بأنه من: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 غسق غسوقا فهو غاسق، إذ! أظلم. وأغسق مثله. وإنما سماه غاسقا لأنه إذا خُسف أو أخذ فى المغيب، أظلم (النهاية) . قد نستخلص من هذا العرض لأقوال أهل اللغة وأهل التأويل أن الغسق ظلمة الليل إذا غاب فى الشفق، والغاسق الطارق فيه من شر يخاف ويستعاذ منه. وعلى تفسيره بالقمر، فإنه مقيدٌ فى الآية وفى الحديث ب: (إذا وقب) ، أي دخل فى الخسوف وأظلم. وأما الغساق فبدلالة إسلامية على ما يسيل من صديد أهل النار، منقولا إليها من الغساق، ما يسيل من صديد الجرح المنتن. والله أعلم. *** 179 - (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : وقال نافع عن قوله تعالى: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) فقال ابن عباس: النفاق. واستشهد بقول الشاعر: أجامِل أقوامًا حياءً. . . وقد أرى صدورَهم تغْلِي عليَّ مراضُها (تق، ك، ط) = الكلمة من 7 ية البقرة 10: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) . ومعها آيات: الأنفال 49 الأحزاب 12، 60، المائدة 50، التوبة 125 الحج 53، محمد 20، 29، المدثر 21. وسبقت المسألة (132) عن قوله تعالى. (فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) . وقد جاء الفعل منه مرة واحدة فى آية الشعراء: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 والمرض فيها على أصل معناه، بصريح قوله (فَهُوَ يَشْفِينِ) وكثر مجىء مرض ومريض والمريض، ومرضى. والمرض يكون من علة فى البدن، أو فساد فى القلب. قال ابن فارس فى (مرض) : الميم والراء والضاد: أصل صحيح يدل على ما يخرج به الإنسان عن حد الصحة فى أي شىء كان (المقاييس. 5 / 311) . وأما ضابط الدلالتين فى القرآن الكريم، فحيثما جاء المرض فى آيات الأحكام فهو من علة فى البدن. وكذلك (مريض، المريض) ومرضى، وكلها فى آيات أحكام. وحيثما جاء مرض فى القلب، أو فى القلوب، انصرف عن أصل معناه إلى الدلالة المجازية. وتأويله فى المسألة - فى آية البقرة - بالنفاق، مستفاد من صريح سياقها وفى (مجاز القرآن لأبى عبيدة) أنه فى هذا الموضع: شك ونفاق. وهو النفاق فى (مقاييس اللغة) . ثم لا يكون مرض فى القلب والقلوب، هو النفاق على إطلاق. وقد عُطف على المنافقين فى آيات: الأنفال 49 (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ) . الأحزاب 12 (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) . الأحزاب 60: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) . فشهد بدلالة أعم لمرض فى قلوبهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 وقد عمَّ الراغب مرض القلب فى الرذائل الخلقية كالجهل والجبن والبخل والنفاق (المفردات) . وفيه نظر، إذ ليس عموم الجهل والجبن والبخل بمرض فى القلب يقتضي النذير بعقابٍ والوعيدَ بعذاب. إنما يتعلق مرض فى القلب بما هو من أفعال القلوب: يكون نفاقا كما فى آية البقرة وفى نظائرها (المائدة 52، والنور 50، محمد 20) وجاء مع الرجس والكفر فى: براءة 125: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) . المدثر 31: (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) . ومع الارتياب فى النور 50: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا) . وهو الأضغان فى آية: محمد 29 (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) . وفتنة الشيطان فى آية: الحج 53 (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) . وخُبث الشهوة فى آية: الأ حزاب 32 (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 تأويلها فى المسألة (132) بالفجور والزنا وليس الأوْلى. والله أعلم. والملحظ الاستقرائي لجميع الآيات فى هذا المرض. أنه يأتي دائمًا: (فىِ قلوبهم مرض، فىِ قلبه مرض) . فهل يكون مرض فى القلب ملحظ دلالةٍ مجازية ليست فى مرض القلب، على الإضافة، بما يحتمل أن يكون عضويا للجارحة، وليس مرادًا؟ المسألة فى حاجة إلى استقراء للنظائر، والله ولي التوفيق. *** 180 - (يَعْمَهُونَ) : وسأل ابن الأزرق عن قوله تعالى: (فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) . فقال: يلعبون ويترددون. وشاهده قول الأعشى: أراني قد عمهتُ وشاب رأسي. . . وهذا اللعب شينٌ بالكبير (تق، ك، ط) = الكلمة من آية البقرة 15: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) . ومعها (فِي طُغْيَانِهِم ْ يَعْمَهُونَ) بآيات: الأنعام 110، الأعراف 186، يونس 11، المؤمنون 75. وآيتا: الحجر 72، فى الفاسقين من آل لوط: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) . والنمل 4 فى الكافرين: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 وليس فى القرآن من المادة غير هذا الفعل المضارع فى الآيات السبع. والعمَة فيها ضلال وطنغيان، وغفلة سكر وعمى بصيرة، كأنه ق ريب من العمى. والأرض العمهاء فى العربية، التى لا أعلام فيها. وقالواْ ذهبتْ إبلُه العُمَّهْى، حين لا يدرى أين ذهبت. (المقاييس: عمه) وحكاه عن الخليل ويعقوب. وفسر بها (يعمهون) والتفت "ابن الأثير " إلى صلة بين العمه والعمى، قال: العمه فى البصيرة كالعمى فى البصر، وقد تكرر فى الحديث (النهاية) . وفي تأويل آية البقرة 15، قال أبو عبيدة فى (مجاز القرآن) : يقال: رجل عَمِهٌ وعامِهٌ، أي جائر عن الحق. قال رؤية: ومهمه أطرافه في مهمه. . . أعمى الهدى بالجاهلين العمّه وفى تأويل ابن قتيبة (بكتاب القرطين. 1 / 23) : (يعمهون) ، يركبون رءوسهم فلا يبصرون، ومثلة: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) . ونقل قول أبي عبيدة، وشاهده من رجز رؤية، فتأويلها فى المسألة بالتردد واللعب، يُقبل فى آل لوط (فى سكرتهم يعمهون) لكنه فى سائر الآيات من الضلال وعمى البصيرة، أو كما فى تأويل الطبرى: والعمَة نفسه: الضلال، يقال منه: عمِهَ عمها وعمهانا وعموها إذا ضل. والعُمهُ جمع عامهٍ - وأنشد رجز رؤية - فمعنى: (فى طغيانهم يعمهون) : فى ضلالهم وكفرهم الذى غمرهم دنسُه وعلاهم رجسه، يتردون حيارى ضلالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا. وبنحو الذى قلناه جاء تأويل المتأولين. *** 181 - (إِلَى بَارِئِكُمْ) : وسأله ابن الأزرق عن معنى قوله عز وجل: (إِلَى بَارِئِكُمْ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 قال: إلى خالقكم. واستشهد بقول تُبَّع: شهِدت على أحمدٍ أنه. . . رسول عن الله بارى النَّسَمْ (تق، ك، ط) = الكلمة جاءت مرتين، فى آية البقرة 54: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) . وجاء البارئ اسما من أسماء الله تعالى الحسنى فى آية الحشر 24: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) . كما جاء منه الفعل المضارع فى آية الحديد 22: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) . ومن غير المهموز، جاءت (البرِية) مرتين نى آيتى البينة: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) . وفى غير معنى الخلق جاءت المادة فى البراءة والتبرؤوالتبرئة ومادة (برأ) فى مقاييس اللغة أصلان إليهما ترجع فروع الباب: أحدهما الخلق يقال برأ الله الخلق، والباري جل ثناؤه. والآخر التباعد من الشيء ومزايلته (المقاييس. 1 / 236) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 وتفسير البارئ فى المسألة، بالخالق يبدو قريبا. وقاله الطبرى فى تأويله: أي إلى خالقكم. وهو من برأ الله الخلق يبرؤه فهو بارئ، والبرية الخلق فعيلة بمعنى مفعولة غير أنها لا تهمز. . لولا أن آية الحشر جمعت بين (الخالق البارئ المصور) ثم إن فعل الخلق يجىء فى القرآن مسندًا إلى الله تعالى فى أكثر من مائة وستين موضعا، ومعها (خَلْقُ اللَّهِ) و (خَلْقِ الرَّحْمَنِ) ، سبحانه (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) ، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) (بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) فهل من فرق دلالة بين الخالق البارئ؟ ذكر الراغب أن " البارئ: خُصَّ بوصفه تعالى. والزمخشرى فسر "الخالق البارئ" فى آية الحشر فقال: الخالق، المقدر لما يوجده، البارئ: المميز بعضه عن بعض بالأشكال المختلفة. ومثله فى (البحر المحيط) لأبي حيان. ذهب ابن الأثير إلى وجه آخر فى الفرق بين الخالق والبارئ، قال: فى أسماء الله تعالى البارئ. وهو الذى خلق الخلق لاعن مثال. ولهذه اللفظة من الاختصاص بخلق الحيوان، ما ليس لها بغيره من المخلوقات، وقلَّما تستعمل فى غير الحيوان، فيقال: برأ الله النسمة، وخلق السماوات والأرض (النهاية) . وهذا الوجه الدقيق من التمييز بين الخالق والبارئ هو ما يؤنس إليه استقراء ما فى القرآن من آياتهما، وتدبر سياقها: فالخلق شامل لكل شيء، سبحانه خلق السمواتِ والأرض وما بينهما. وكلمة " بارئكم " الخطاب فيها لقوم موسى، و" البرية " فى آيتيها بسورة البينة، متعلقة بالكفار والمؤمنين: شر البرية وخير البرية. لكن آية الحديد، يتعلق فيها الفعل " نبرأها " بـ (ما أصاب من مصيبة فى الأرض ولا فى أنفسكم) ، أعنى أنها فى غير الحيوان. ولعل ابن الأثير نظر إليها فاحترز من التعميم والإطلاق فى (برأ) بقوله: وقلَّما تستعمل فى غير الحيوان. والله أعلم. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 182 - (رَيْبٍ) : وسأل ابن الأزرق عن قوله تعالى: (لا ريب فيه) . فقال ابن عباس: لا شك فيه. وشاهده قول عبد الله بن الزبَعْرى: ليس فى الحق يا أمامة رَيْب. . . إنما الريبُ ما يقول الكذوبُ - (تق، ك، ط) = الكلمة جاءت فى (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ) بآيات البقرة والسجدة. وفي (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ) بآيات: آل عمران 9، 25 والنساء87، والأنعام 12، والشورى 7، والجاثية 26. (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ) . و (السَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا) بآيات: الكهف 21 والحج 7، وغافر 59 والجاثية وجاء (رَيْب) غير منفى، فى آيات: البقرة 23: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) . الحج 5: (في ريب من البعث) . الطور 30: (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) . ومعها: (فى ريبهم يترددون) بآية التوبة 45، (ريبة فى قلوبهم) بالتوبة ومن المادة جاء الفعل من الارتياب تسع مرات، واسم الفاعل (مسرف مرتاب) بآية غافر، و (مُريب) سبع مرات. وقد يبدو تفسير الريب بالشك قريبا، لولا أن البيان القرآني أتى بالريب وصفا لشك فى (شك مريب) ست مرات، فلفت ذلك إلى فرق بين اللفظين لا يترادفان، لأن الشيء لا يوصف بنفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 وفى تأويل الطبرى لقوله تعالى، (إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) : مريب موجب لصاحبه ما يريبه من مكروه، من قولهم أراب الرجل أتى ريبةً وركب فاحشة، كما قال الراجز: يا قوم مالى وأبا ذؤيبِ. . . كنتُ إذا أتيته من غيب يشم عطفي ويبز ثوبي. . . كأنما أريبه بريب وذكر الراغب فى الريب معنى التوهم كما ذكر التشكك. قال: الريب أن تتوهم بالشيء أمرا فينكشف عما تتوهمه، ولذا قال تعالى: (لا ريب فيه) والإرابة إن تتوهم (إن كنتم فى ريب من البعث) وقوله: (ريب المنون) لا أنه مشكك فى كونه، بل من حيث تشككَ فى وقت حصوله. فالإنسان أبدا فى ريب المنون من جهة وقته لا من جهة كونه. والارتياب يجري مجرى الإرابة. وريب الدهر صرفه، لما يُتوهم فيه من المكر، والريبة اسم من الريب، أي تدل على دغل وقلة يقين (المفرات) . وقال القرطبى: (لا ريب فيه) ، نفى عام ولذلك نصب الريب - وفى الريب ثلاثة معان: أحدها الشك ومنه قول ابن الزبعرى لم البيت. وثانيهما التهمة ومنه قول جميل: بثينةُ قالت يا جميل أربتني. . . فقلت كلانا يا بثينَ مريبُ وثالثها الحاجة، قال كعب بن مالك الأنصارى: قضينا من تهامة كل ريب، فى (مقاييس اللغة، ريب: أصل يدل على شك، أو شك وخوف. . تقول: رابنى هذا الأمر، إذا أدخل عليك شكا وخوفا. . . وريب الدهر صروفه، والقياس واحد. وقال " ابن الأثير" فى الريب: هو بمعنى الشك. وقيل هو الشك مع التهمة، يقال: رابنى الشيء وأرابنى بمعنى شككنى. وقيل أرابنى كذا، أي شككنى وأوهمنى الريبة، فإذا استيقنت - يعنى من الاتهام - قلت: رابنى، بغير ألف (النهاية) وعند أبى هلال العسكرى فى الفرق بين الارتياب والشك: أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 الارتياب شك مع تهمة، وعُوفَ الشك بأنه استواء الطرفين (الفروق اللغوية) . *** 183 - (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) وسأل ابن الأزرق عن قوله تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) . فقال ابن عباس: طبع عليها، واستشهد بقول الأعشى: وصهباء طاف يهود بها. . . فابرزها وعليها ختم (تق، ك، ط) = الكلمة من آية البقرة 7، فى الذين كفروا: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) . ومعها آيتا: الآنعام 46: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) . والجاثية 23: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) . ومن المادة جاء الفعل الثلاثى مضارعا فى آيتى: يس 6 (نختم على أفواههم) والشورى 24: (يختم على قلبك) . و (رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) فى الأحزاب 40. ومختوم وختام فى آيتى المطففين فى نعيم أصحاب الجنة (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 وتأويلها فى المسألة: طبع على قلوبهم، نحو ما قاله الطبرى فى تأويله. وعلى ما يبدو من وضوحه وقربه، فيه أن البيان القرآني استعمل الطبع على القلب والقلوب، فى إحدى عشرة آية، سياقها جميعا فيما يطبع الله على قلوب الكفار والمنافقين والمعتدين، وكل متكبر جبار. ولا يبعد عنه سياق آيات الختم على القلب والقلوب، لكن الكلمة جاءت على أصل معناها القريب في (رحيق مختوم. ختامه مسك) وفى (خاتم النبيين) فلعل فى الختم على القلوب دلالة الإغلاق وغاية الإقفال، منقولا إليها من قولهم: ختمَ الكتاب أنهاه، والأمور بخواتيمها، والله أعلم. وواضح أن الختم على القلوب، لا يراد به أصل معناه، وإنَّما هو كناية عن رسوخ الغفلة والضلال، وراء معناه القريب فى الختم. وكذلك الطبع على القلوب كناية عن الدمغ. ونقل الراغب، قول من ذهبوا فيه إلى أن المعنى القريب من الختم هو المراد أى: جعل الله ختما على قلوب الكفار، ليكون دلالة للملائكة على كفرهم. ثم رده، بقوله: وليس ذلك بشيء، فإن هذه الكناية إن كانت محسوسة، فمن حقها أن يدركها أصحابُ التشريح، وإن كانت معقولة غير محسوسة، فالملائكة باطلاعها على اعتقاداتهم مستغنية عن الاستدلال (المفردات) . يعني: الاستدلال على كفر الكافرين بعلامة حسية، ختما على قلوبهم. *** 184 - (صَفْوَان) : وسأله ابن الأزرق عن قوله تعالى: (صَفْوَان) . فقال: الحجر الأملس. واستشهد بقول. أوس بن حجر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 على ظهر صفوان كأن متونه. . . عللن بدهن يزلق المتنزلا (تق، ك، ط) = الكلمة من آية البقرة 264: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) . وحيدة الصيغة فى القرآن. والصفوان قيل واحدة صفوانة، وقيل هو واحد الصفِىّ. وقد جاء من مادته فى القرآن الكريم، الفعل "أصفاكم" مرتين، وفعل الاصطفاء ماضيا ومضارعًا اثني عشرة مرة، واسم المفعولين "المصطفين الأخيار" و (عسل مصفَّى" و (الصفا والمروة) . وسبق فى المسألة (129) تأويل قرله تعالى: (صلْدا) بالحجر الأملس، - فكان تأويل الآية عنده: كمثل حجبر أملس أصابه طل فتركه حجرا أملس. ولا يبدو قريبا. وذهب الراغب فى صفا، إلى أن أصل الصفاء خلوص الشيء من الشوب. ومنه الصفا للحجارة الصافية. ثم قال: والصفوان كالصفا، الواحدة صفوانة، قال تعالى -: (صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ) ويقال: يوم صفوان، صافى الشمس شديد البرد. (المفردات) . وتذكر المعاجم فى صفوانٍ: الحجر الصلد الضخم لا ينبت وقالوا: أصفت الدجاجة إذا انقطع بيضها، وأصفى الرجل من كذا: خلا، وأصفى الشاعر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 انقطع لم يقل شعرا، والصوافى الأراضى جلا عنها أهلها فخلت من مالك، والضياع يستخلصها السلطان لخاصته. ومنه جاء الصفو والصفاء لما خلا من شائبة تكدره، والاصطفاء لمن تتخذه صفيا، والصفوة: الخلاصة النقيه. وفى تأويل الآية قال ابن قتية: يريد سبحانه أنه مَحق كسبهم فلم يقدروا عليه حين حاجتهم إليه، كما أذهب المطر التراب عن الصفا ولم يوافق فى الصفا منبتا. وقال الطبرى بعد ذكر اشتقاق الكلمة والصفوان هو الصفا وهى الحجارة المُلْس، والصلد من الحجارة الصلب والذى لا ينبت شيئا من نبات ولا غيره، وهو من الأرض ما لا ينبت فيه شىء. . " وانظر (المقاييس: صفو) *** 185 - (صِرٌّ) : وسأله ابن الأزرق عن قوله تعالى: (رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ) . فقال: برد، واستشهد بقول نابغة بنى ذبيان: لا يبردون إذا ما الأرض جللها. . . صِرُّ الشتاء من الإمحال كالأدم. (تق، ك، ط) = الكلمة من آية آل عمران 117، فى الذين كفروا: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) . وحيدة الصيغة. ومعها المضاعف، صرصر، ثلاث مرات، صفة للريح التى أهلكت عاداً فى: الحاقة (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 فُصلت 16: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) . القمر 19: (كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) . و (صَرَّةٍ) فى آية الذاريات، فى قصة إبراهيم: (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) . ومن المادة، جاء الفعل من الإصرار أربع مرات. تأويله فى المسألة بالبرد، فيه أن القرآن استعمل (بردا) فى آيتى: الأنبياء 69: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) . والنبأ 24: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) . واسم الفاعل منه فى ص 42: (هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) . والواقعة 44: (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) . واضح أن البرد فيها نقيض الحر. فهل يكون الصِّرُّ نقيض الحرِّ، كالبرد؟ فى تأويل الطبرى: وأما الصُّر فإنه شدة البرد، وذلك بعصوف من الشمال. وبنحوه قال أهل التأويل، ثم أسند عن ابن عباس وقتادة أنه برد شديد زمهرير. وعن ابن عباس أيضا وغيره: البرد. . . يبدو أن الشدة ملحوظة فى الصرِّ، كما هي ملحوظة فى الإصرار أي التشدد فى التمسك بالشيء، والصرة الشدة من الكرب والحرب، والصيحة من شدة الألم والكرب، والصرير عزيف الريح وأشد الصياح. ولعل أصل استعماله - فى الصِّرَار: الرباط يُشدْ على ضرع الناقة ليحبس لبنها فيجمع، وفى الصرة تشد على الدراهم وشبهها. وحس الانكماش والتقبض، ملازم لشدة البرد. وقولهم: صرورة، للرجل لا يحج ولا يتزوج، فيه دلالة العسر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 والشدة. وانظر فيه (مقاييس اللغة: صر. 3 / 282) . وقد ردَّ الراغب المادة إلى الشدة، وذكره ابن الأثير" فيه الحبس والمنع والجمع والشد، قال فى حديث " لا صرورة فى الإسلام ": التبتل وترك النكاح كالرهبان، وهو أيضا الذى لم يحج. وأصله من الحبس والمنع. وأصل الصر: الجمع والشد، من الصرار رباط ضرع الناقة كى يحبس لبنها فيتجمع (النهاية) . وعند القرطبي أن أصله الصرير الذى هو الصوت فهو صوت الريح الشديدة. *** 186 - (تُبَوِّئُ) : وقال نافع عن قوله تعالى : (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ) . فقال: توطن المؤمنين. واستشهد بقول الأعشى: وما بوّأ الرحمن بيتك منزلاً. . . بأجياد غربي الفنا والمحرم = الكلمة من آية آل عمران 121، والخطاب فيها للرسول عليه الصلاة والسلام: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) . ومعها آيات: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) . ومعها آية العنكبوت 58 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 الزمر 74 (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ) ويونس 93: (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) . والحج والأعراف 74. ويوسف 56: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ) . يونس 87: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتً) . الحشر 9: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ) ومن الثلاثى (باء) جاء الفعل ماضيا خمس مرات، ومضارعْا (تبوء) تسعًا وعشرين. مرة، كلها فى المعنوى من البوء برضوان الله، أو بسخطه وغضبه، والبوء بالإثم. تأويله في المسألة: توطن. وليس فى القرآن منه سوى آية براءة (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ) . وفي اللغة: تبوأ المكانَ حلَّه وأقام، والمباءة المنزل كالبيئة، وبيت النحل فى الجبل، ومتبوأ الولد من الرحم. وهم بواء أي سواء أكفاء. وباء بالذنب وبالدم أقر به والتزمه (ص، ل، ق) وبوأك الله مبَوأ صدق. وتبوأ فلان منزلا طيبا، وأباء الله عليك نَعَما لا يسعها المراح. وبوأت الرمح سددته (س) . وفى تأويل (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ) قال أبو عبيدة فى المجاز: متخذا لهم مضاف، ونحوه فى تفسير القرطبى وأبى حيان. وفي تفسير البخارى باب (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ) أخرج عن عمر رضى الله عنه، قال: " وأوصِى الخليفة بالمهاجرين الأولين أن يقر لهم حقهم. وأوصى الخليفة بالأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل أن يهاجر النبى - صلى الله عليه وسلم -، أن يقبل من محسنهم ويعفو عن مسيئهم ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 وفى الغريبين للهروى (باب الباء مع الواو) والمبوأ المنزل الملزوم، وأرض مبَاءة منزولة مألوفة. . وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ) أي أقروها مسكنا وقوله: (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ) أي نتخذ منها منازل. . وقوله: (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ) أي تنزلهم مراكزهم ومصافهم للحرب: الميمنة والميسرة والقلب والطلائع والكمين (1 / 215) . يبدو أن التمكن من المنزل الملائم والموقع المنيع، ملحوظ فى الدلالة من حيث ينزل النبى - صلى الله عليه وسلم - أصحابه المؤمنين رضى الله عنهم، فى منازلهم التى يراها آمن لهم وأمنع، ويراهم كفئا لها بواء، والله اعلم. *** 187 (رِبِّيُّونَ) : وسأل نافع ابن الأزرق عن قوله تعالى: (رِبِّيُّونَ) . فقال ابن عباس، جموع كثيرة. ولما سأله ابن الأزرق: وهل تعرف الحرب ذلك، قال: نعم أما سمعت قول حسان: وإذا معشر تجافوا القص. . . د حملنا عليهم ربيّا (تق، ك، ط) = الكلمة من آية آل عمران 146: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) . (رِبًيون) جمع رِبِّىْ، ذكرها ابن فارس فى مادة (رب) وأول أصولها: (صلاح الشيء والقيام عليه، ومنه الرب، والربي: العارف بالرب، والربيبة والربيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 والرأبّ. . . ثم ذكر للمادة أصلين آخرين ملازمين للأصل الأول، وقال: ومتى أُمعِنَ النظر كان الباب كله قياسا واحدًا (المقاييس. 2 / 381) . وتأويلها فى المسألة بجموع كثيرة، قاله أبوعبيدة فى (مجاز القرآن) . والراجح أن: كثيرة، مأخوذة من (ربيون كثير) . وقال الفراء فى معنى الكلمة بآية آل عمران: الربيون الألوف. وعن الزجاج أنهم الأتقياء الصُّبُر، وروى عن الحسن البصرى. وقيل هم أتباع الأنبياء - الخاصة منهم - وقيل: وزراؤهم. واحدهم رِبِّي. وقول حسان فى الشاهد: حملنا عليهم ربيّا، أي حملة رجل واحد. وفى تأويل الطبرى، بعد ذكر القراءات فيها قال: وأما الربيون، فإن أهل العربية اختلفوا فى معناه فقال بعض نحوى البصرة: هم الذين يعبدون الرب، واحدهم رِبِّي، وقال بعض الكوفيينٍ: لوكانوا كذلك لكانوا (رَبيون) ، ولكنهم العلماء والجماعة - الكثيرة، واحدهم رِبِّي. واختلف أهل التأويل كذلك فى معناه، فقال بعضهم ما ذُكر، وأسند عن ابن عباس وغيره: علماء كثير، وقيل الأتباع. وقيل الربانيون الولاة والربيون الرعية. وحكى القرطبى عن الخليل، قال: الربي الواحد من العباد الذين صبروا مع الأنبياء، وهم الربايون نسبوا إلى التأله ومعرفة الربوبية لله تعالى. والله أعلم. والربيون فى الآية مع الأنبياء قبل خاتمهم عليهم السلام على وجه الاختصاص فلعله تمييز لهم عن الربائب لعامة من يربيهم كافلوهم ومنه فى القرآن، (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) مع ملحظ مشترك من أصل الدلالة فهم أشبه بالصحابة - فى المصطلح الإسلامى. والله أعلم. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 188 - (مَخْمَصَةٌ) : وسأله ابن الأزرق عن قوله تعالى: (مَخْمَصَةٌ) :. فقال: مجاعة. وشاهده قول الأعشى: تَبيتون في المَشْتى مِلاءً بطونُكم. . . وجارتُكم غَرْثَى يَبِتْنَ خمائصا (تق، ك، ط) وفي (وق) قال: الجوع، قال فيه الأعشى / البيت = الكلمة من آيتي: المائدة 3: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) . والتوبة 120: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 وحيدة الصيغة وليس فى القرآن من مادتها، غيرها فى الآيتين. الرواية فى ثتأويلها فى المسألة بالمجاعة، وفى الرواية الأخرى بالجوع. وقد ورد الجوع معرفة ونكرة فى غير حكم الإباحة للمضطر فى مخمصة، أومعاناة مخمصة فى سبيل الله (آيات البقرة 155، النحل 112، الغاشية 7، قريش 4) ومعها الفعل المضارع فى آية طه 118 خطابا لآدم عليه السلام فى الجنة: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) . والخمص فى اللغة ضمور البطن، ونقل إلى ضمورها من فرط السغب والهزال. وأما الجوع فالمسلم يجوع فى الصيام ولا يُبطِل صيامَه بطعام حلال. وأئمة الفقه وعلماء الأحكام وإن اختلفوا فى حكم الضرورة لِمخمَصة، فالإباحة عند الاضطرار، كأنْ يتعين أن تمسك رمق المسلم، ومقدار الضرورة عندهم مقيد بعدم القوت لمن أشفى على الموت، إلى حالة وجود قوتٍ حلال، ما كان، ولو من خشاش الأرض. وفى تأويل الطبرى لآية المائدة: هو من خص البطون، أي اضطماره، وأظنه هو فى هذا الموضع، معنىّ به اضطماره من الجوع وثمدة السغب، وقد يكون فى غير هذا الموضع خلقه لا من جوع وسغب. وشاهده فى معنى الآية، قول الأعشى، تَبيتون في المَشْتى / البيت. وفى آية براءة، التفت إلى قيدها فى الآية بمخمصة فى سبيل الله، يعنى فى إقامة دين الله ونصرته. فليست مجاعة عامة يعز فيها القوت على المجاهدين والقاعدين، وعلى الكافرين. . ثم إن المجاعة أقرب إلى أن تفهم بدلالة العموم، كان يصيب الناس قحط عام. والذى فى آية المائدة، ليس من مجاعة عامة، وإنما هو مما يبلغ بالمؤمن جهدَ المخمصة حين لا يجد طعامًا غير ما حرم عليه أكله. فنفهم ضِمنْا أن الطعام قد يكون ميسورًا، لمن لا يتحرجون من أكل الجة والدم ولحم الحنزير، إلى آخر ماعدَّت الآية من الطعام المحرم على المؤمن، لا لمجاعة يعز فيها أي طعام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 وكذلك الأمر فيما يحتمله المجاهدون من أذى ومخصمة فى سبيل الله، وليس مما يصيبهم ويصيب سائر الناس، وفيهم القاعدون والكافرون، من وطأة قحط ومجاعة عامة. من ثم يبقى لكلمة مخمصة، فى الآيتين، دلالتها أصلا على ضمور البطن، يخشى منه الهلاك، وعلى مكابدة المسغبة فى سبيل الله عز وجل، والله أعلم. *** 189 - (يقترف) : وسأله ابن الأزرق عن قوله تعالى: (وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ) . فقال: ليكسبوا ماهم مكتسبون. وشاهده قول لبيدت وإنِّي لآتٍ مَا أتَيْتُ وَإنِّنِي. . . لِمَا اقْتَرَفَت نَفْسِي عَلَيَّ لَرَاهِبُ (تق، ك، ط) = الكلمة من آية الأنعام 113: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) . ومعها الفعل الماضى فى آية التوبة 24: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 والفعل المضاؤع فى آيتى الشودى (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) . والأنعام 120: (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) . تأويلها فى المسألة بالكسب والاكتساب، قال نحوه الفراء فى معنى الكلمة: الاقتراف الكسب، تقول العرب: خرج فلان يقترف لأهله (معاني القرآن، سورة الأنعام) . وأسنده الطبرى مع الأقوال فى تأويل آية الأنعام، عن ابن عباس وغيره: فليكتسحبوا ما هم مكتسبون. وبهذا التأويل، عن ابن عباس، بدأ القرطبى الأقوال فى تأويل الآية. والكسب من معاني القرف، فى المعاجم. وذكر "أبومسحل الأعرابي، فى (نوادره: 1 / 11) ، يقرف ويقترف، فى ست كلمات أخريات، بمعنى يكسب. والكسب فى القرآن في جاء منه الفعل الثلائى ماضيا ومضارعا، ثلاثا وستين مرة، بدلالة إسلامية على كسب الأعمال، أو ما يقرب أن يكون منها بسبب فى آية البقرة 267 خطابا للذين آمنوا: (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) وآية (المسد) فى أبي لهب: (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) ومعها الفعل الماضى من الخماسى، خمس مرات، اثنتان منهما فى آيات المواريث: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) والثلاث الأخرى فيما (اكتسب، اكتسبت، اكتسبوا) من الأعمال. فهل يترادف الاقتراف والاكتساب؟ الذى فى (مجاز القرآن، لأبي عبيدة، آية الأنعام) : مجاز الاقتراف القرفة والتهمة والادعاء. ويقال: بئسما اقترفت لنفسك، قال رؤية: أعيا اقتراف الكذب المقروف. . . تقوى التقيِّ وعفة العفيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 وهو من شواهد الطبرى والقرطبي، لقول من قال إن الاقتراف التهمة والادعاء. وأدخل ابن السكيت القرف، فى (باب التهمة، من تهذيب الألفاظ، قال: فلان قِرتي، أي تُهمتى وقارَف شيئاً من الأمر، واقعه. وكذلك مال " أيوحيان " فى (البحر المجط) إلى تقييد الاقتراف، فى آية الأنعام، بالآثام، على أن ابن فارس " فى (مقاييس اللغة) قال فى "ك س ب: أصل صحيح يدل على ابتغاء وطلب وإصابة. فالكسبُ من ذلك. ويقال: كسبَ أهله خيرًا، وكسبتُ الرجلَ مالاً فكسب. وهذا مما جاء على: فعلتُه ففَعَلَ. وقال فى " ق ر ف ": أصل صحيح يدل على مخالطة الشىء والالتباس به وادراعِه. وأصل ذلك القَرفُ وهو كل قَشْرٍ. لأنه لباس ما عليه. ومن الباب: اقترت الشيء اكتسبه. وكأنه لابسَه وادرعه. وُيقرَف بكذا، يُرمَى به. ويقال للذى يُتًهم بالأمر: القرفَة. يقول الرجل إذا ضاع له شيء: فلان قِرفتى. أي الذى أتًهمه. . . وقارف فلان الخطيئة: خالطها. . والقَرف الوبأ يكون بالبلد، كأنه شىء يصير مرضا لأهله كاللباس. وفى الحديث: أن قوما شكوا وبَأ أرضهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (تحولوا، فإن من القرَف التلف) . ونحوه، ما فى أساس الزمخشري (قرف) . وتوجيه القرف والاقتراف عند " الراغب " أن الاقتراف بمعنى الاكتساب، إنما هو من قبيل الاستعارة. قال: "أصل القرْف والاقتراف: قشر اللحاء عن الشجر، والجلدة عن الجرح، وما يؤخذ منه: قرف، واستعير الاقتراف للاكتساب حسنا كان أو سوءا. قال تعالى: {سيجزون بما كانونا يقترفون} [الأنعام / 120] ، {وليقترفوا ما هم مقترفون} [الأنعام / 113] ، {وأموال اقترفتموها} [التوبة / 24] . والاقتراف في الإساءة أكثر استعمالا، ولهذا يقال: الاعتراف يزيل الاقتراف، وقرفت فلانا بكذا: إذا عبته به أو اتهمته، وقد حمل على ذلك قوله: {وليقترفوا ما هم مقترفون} [الأنعام / 113] ، وفلان قرفني، ورجل مقرف: هجين، وقارف فلان أمرا: إذا تعاطى ما يعاب به. (المفردات) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 وعلماء غريب الحديث، يذكرون المقارفة بمعنى المداناة والملابسة فى حديث الإفك: (إن كنت قارفت ذنبا) والقَرَف بمعنى الوبأ، فى حديث الشكوى من قرف أرض وَبئة: " فإن القرَف من التلف " (مشارق الأنوار، والنهاية) . بهذا كله نستأنس لفهم فروق الدلالات بين الاقترات والاكتساب. الأصل فى القَرْت القَشر، ومنه: القِرفة، لحاء شجر معروف. وقرْف القرحة قَشْرها. والقرف بالتحريك مداناة المرض وملابسته، ومنه الملابسة والمخالطة، وقارَفَ الذب واقَعَه، والأمرَ لابَسَه. فيُنقل إلى الاكتساب. والكسب فى أصل استعماله، للتجارة. ومنها نقل إلى الدلالة الإسلامية، فى كسب الأعمال. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 خاتمة وبعد فلعلى بهذه المحاولة فى خدمة الإعجاز البياني ودراسة مسائل ابن الأزرق، قد أجبت عن سؤال لعدد من أبنائى طلاب الدراسات القرآنية العليا بجامعة القرويين: فيم كان إنكار ابن الأزرق على عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، مجلسه فى حرم الكعبة يفسِّر ما يُسأل عنه فى القرآن الكريم، وابن عباس حَبْرُ هذه الأمَّةِ ومن أعلم الصحابة بتفسير القرآن وأحفظهم لديوان العرب،. من شعر الفصحى أخذ علماء اللغة شواهدهم لألفاظها وصيغها ومعانيها الحسية والمجازية، وما هو من تعدد لغات القبائل العربية، أومن الأضداد. ويها استأنس أهل التأويل فى فهمهم لمعاني القرآن، مع التنبه لما يحتمل الشعر من ضرورات، وما يجوز عليه من آفات النقل. ومع التقدير لما جاء به القرآن الكريم من دلالات إسلامية لم تكن معروفة للعرب قبل نزوله. ثم تبقى الكلمة القرآن فوق ذلك كله، متفردة بجلالها وإعجازها يعيى الفصحاء والعلماء أن يأتوا بكلمة من مثلها، تقوم مقامها فى موضعها وسياقها. من ثم كان تحرج صحابة كبار، كأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - وهما من أفصح قريش وأجل الصحابة باتفاق - من تأويل المتشابه والغريب من مفردات القرآن. وقد مر بنا فى المسألة عن قوله تعالى: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) أن أبا بكر سئل فيها فقال: أي سماء تظلنى وأيُّ أرض تقلنى إن أنا قلت فى كتاب الله بما لا أعلم، وقرأ عمر الآية وقال: هذه الفاكهة عرفناها، فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف، (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) . معتبرا بقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 من علماء العربية من تحرجوا كذلك من تأويل المتشابه والغريب والأضداد. "كان الأصمعي وهو إمام، لا يفسر شيئا من غريب القرآن. وحُكى عنه أنه سئل عن معنى (قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا) فسكت وقال: هذا فى القرآن، ثم ذكر قول بعض العرب لقوم أرادوا بيع جارية لهم: "أتبيعونها وهى لكم شغاف، (البرهان فى علوم القرآن: معرفة غريبه) . وأبو حاتم السجستاني، من أعلام البصريين علماء اللغة والقرآن - توفى حوالى سنة 250 هـ - كان شديد التحرج من تأويل ما يكون من الأضداد فى القرآن، والضيق بمن تجاسروا على تأويلها بما عندهم من علم بالعربية. من ذلك على سبيل المثال، من كتابه (الأضداد) : (خاف) : كان أبو عبيدة يقول: خاف من الخوف، ومن اليقين، وكان يقول فى قوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) : يريد أيقنتم. ولا علم لى بهذا لأنه قرآن وإنما نحكيه عن رب العالمين، ولا ندرى لعله ليس كماي ظن أبو عبيدة. (عسعس) : قال أيو عبيدة (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) : أقبل ويقال: أدبر. وأشد لعِلقمة بن قرط التيمى، فجعله إقبالا: مُدرَّعاتُ الليل لما عسعسا. . . وادَّرعتْ منه بهيماً حندسا قال: زعموا أن ابن عباس رحمه الله، قال: (عَسْعَسَ) ، أدبر. وقال الزبرقان فى الإدبار: وماءٍ قديم عهدُه ما يرى به. . . سوى الطيرُ قد باكرتْ ورد المغلسِ وردتُ بأفراس عِتَاقٍ وفية. . . فوارط فى أعجاز ليل معسعس قال أبو حاتم: قد تقلد أبو عبيدة أمرا عظيما، ولا أظن ها هنا معنى أكثر من الاسوداد، (عَسْعَسَ) : أظلم واسود، فى جميع ماذكر، وكل شيء من ذا الباب فى القرآن فتفسيره يُتَّقَى. ومالم يكن فى القرآن فهو أيسر خطأً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 (أوزع) : وقالوا، زعموا: أوزعنى به: أوْلني به. وهذا معروف، وقالوا: أوزعته نهيته وكففته، قال طرَفة فى معنى الكف والمنع من: وزعته أزعه: نَزَعُ الجاهلَ فى مجلسنا. . . فترى المجلِس فينا كالحرَمْ ومنه قيل: يوزَعون. ومنه وزعة السلطان الذين يكفون عنه الناس. وفى الحديث " لا بدَّ للسلطان من وزَعة ". وقال الذبياني: على حين عاتبتُ المشيب على الصًبا. . . وقلت أئا تَصْحُ والشيبُ وازعُ (الأضداد لأبي حاتم السجستاني) وقد رأينا إنه ما من كلمة قرآنية فى (مسائل نافع بن الأزرق) إلا احتشد لها اللغويون والمفسرون وتعددت أقوالهم فى تأويلها، وبقيت على تفردها وإعجازها، يعييهم مجتمعين أن يأتوا بكلمة من مثلها تقوم مقامها. قصارى ما يملكه أفقهَ علماء القرآن بالعربية، لغة الكتاب العربي المبين، هو جهد المحاولة للمح سرِّ الدلالة للحرف القرآني، أو الكلمة والأسلوب على الوجه الذى جاء به فى البيان المعجز. فإن يكن تفسير فعَلى وجه الشرح والتقريب. (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) . صدق الله العظيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603