الكتاب: فصل المقال المؤلف: أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي الشهير بابن رشد الحفيد (المتوفى: 595هـ) دراسة وتحقيق: محمد عمارة الناشر: دار المعارف الطبعة: الثانية عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- فصل المقال لابن رشد ابن رشد الحفيد الكتاب: فصل المقال المؤلف: أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي الشهير بابن رشد الحفيد (المتوفى: 595هـ) دراسة وتحقيق: محمد عمارة الناشر: دار المعارف الطبعة: الثانية عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم مقدمة - قال الفقيه الأجل الأوحد العلامة، الصدر الكبير، القاضي الأعدل، أبو الوليد محمد بن احمد بن محمد بن احمد بن احمد بن رشد، رضي الله تعالى عنه ورحمه. أما بعد حمد الله بجميع محامده، والصلاة على محمد عبده المطهر، المصطفى ورسوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الفلسفة و المنطق والشريعة هل أوجب الشرع الفلسفة فإن الغرض من، هذا القول أن نفحص، على جهة النظر الشرعي، هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع، أم محظور، أم مأمور به، إما على جهة الندب، وإما على جهة الوجوب. فنقول: أن كأن فع! ل الفلسفة ليس شيئاً أكثر من النظر في الموجودات، واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، أعني من جهة ما هي مصنوعات، فإن الموجودات إنما تدل على الصانع لمعرفة صنعتها. وأنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم، وكأن الشرع قد ندب إلى اعتبار الموجودات، وحث على ذلك. فبين أن ما يدل عليه هذا الاسم أما واجب بالشرع، واما مندوب اليه. فأما أن الشرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل وتطلب معرفتها به، فذلك بين في غير ما آية من كتاب الله، تبارك وتعالى، مثل قوله تعالى " فاعتبروا يا أو لي الأبصار " وهذا نص على وجوب استعمال القياس العقلي، أو العقلي والشرعي معاً. ومثل قوله تعالى " أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء "؟ وهذا نص بالحث على النظر في جميع الموجودات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وأعلم أن ممن خصه الله تعالى بهذا العلم وشرفه به، إبراهيم عليه السلام. فقال تعالى: " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض " الآية. - وقال تعالى: " أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت "؟ وقال، " ويتفكرون في خلق السموات والأرض " إلى غير ذلك من اليبات التي لا تحصى كثيرة. المنطق وإذا تقرر أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات راعتبارها، وكأن الاعتبار ليس شيئاً اكثر من استنباط المجهول من المعلوم، واستخراجه منه، وهذا هو القياس أو بالقياس. فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي. وبين أن هذا النحو من النظر الذي دعا إليه الشرع وحث. عليه، هو أتم أنواع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 مثبتون القياس العقلي، إلا طائفة من الحشوية قليلة، وهم محجوجون بالنصوص. وإذا تقرر أنه يحب بالشرع النظر، في القياس العقلي وأنواعه، كان يجب النظر في القياس الفقهي، فبين أنه أن كأن لم يتقدم احد ممن قبلنا بفحص عن القياس العقلي وأنواعه، أنه يجب علينا أن نبتدىء! بالفحص عنه، وأن يستعين في ذلك المتأخر بالمتقدم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 حتى تكمل المعرفة به. فإنه عسير أو غير ممكن أن يقف واحد من الناس من تلقائه وابتداء على جميع، ما يحتاج إليه كل من ذلك، كما أنه عسير أن يستنبط واحد جميع ما يحتاج إليه من معرفة أنواع القياس الفقهي، بل معرفة القياس العقلي أحرى بذلك، وأن كأن غيرنا قد فحص عن ذلك. فبين أنه يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك، وسواء كأن ذلك الغير مشاركاً لنا أو غير مشارك في الملة. أن الآلة التي تصح بها التذكية ليس يعتبر في صحة التذكية بها كونها آلة لمشارك لنا في الملة أو غير مشارك إذا كانت فيها، شروط الصحة. واعني بغير المشارك من نظر في هذه الأشياء من القدماء قبل ملة الإسلام. - وإذا كأن الأمر هكذا، وكأن كل ما يحتاج إليه من النظر في أمر المقاييس العقلية قد فحص عنه، القدماء أتم فحص، فقد ينبغي أن نضرب بأيدينا إلى كتبهم. فننظر فيما قالوه من ذلك: فإن كأن كله صواباً قبلناه منهم، وأن كأن فيه ما ليس بصواب، نبهنا عليه. فإذا فرغنا من هذا الجنس من النظر وحصلت عندنا الآلات التي بها نقدر على الاعتبار في الموجودات ودلالة الصنعة فيها، فإن من لا يعرف الصنعة لا يعرف المصنوع، ومن لا يعرف المصنوع لا يعرف الصانع، قد يجب أن نشرع في الفحص عن الموجودات على الترتيب والنحو الذي استفدناه من صناعة المعرفة بالمقاييس البرهانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 لا يمكن لفرد واحد إدراك كل العلوم وبين أيضاً أن هذا االغرض إنما يتم لنا في الموجودات بتداول الفحص عنها واحداً بعد واحد، وأن يستعين في ذلك المتأخر بالمتقدم، على مثال ما عرض في علوم التعاليم. فإنه لو فرضنا صناعة الهندسة في وقتنا هذا معدومة، وكذلك صناعة علم الهيئة، ورام أنسأن واحد من تلقاء نفسه أن يدرك مقادير الأجرام السماوية وأشكالها وأبعاد بعضها عن بعض، لما أمكنه ذلك. مثل أن يعرف قدر الشمس من الأرض، وغير ذلك من مقادير الكواكب، ولوكأن أذكى الناس طبعاً إلا بوحي أو شيء يشبه الوحي. بل لو قيل له أن الشمس أعظم من الأرض بنحو، مائة وخمسين ضعفاً، أو ستين، لعد هذا القول جنوناً من قائله. وهذا شيء قد قام عليه البرهان في علم الهيئة قياماً لا يشك فيه من هو من أصحاب ذلك العلم. وأما الذي أحوج في هذا إلى التمثيل بصناعة التعاليم، فهذه صناعة أصول الفقه. والفقه نفسه لم يكمل النظر فيما إلا في زمن طويل. ولو رام أنسأن اليوم من تلقاء نفسه أن يقف على جميع الحجج التي استنبطها النظار من أهل المذاهب في مسائل الخلاف التي وقعت المناظرة فيها بينهم في معظم بلاد الإسلام ما عدا المغرب - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 فكان أهلاً أن يضحك منه، لكون ذلك ممتنعاً في حقه مع وجود ذلك مفروغاً منه. وهذا أمر بين بنفسه، ليس في الصنائع العلمية فقط، بل وفي العملية. فإنه ليس منها صناعة بقدر أن ينشئها واحد بعينه، فكيف بصناعة الصنائع، وهي الحكمة؟ وإذا كأن هذا! هكذا، فقد يجب علينا أن الفينا لمن تقدمنا من المقام السالفة نظراً في الموجودات واعتبار لها بحسب ما اقتضته شرائط البرهان أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم: فما كأن منها موافقاً للحق قبلناه منهم وسررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان منها غبر موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم. الفلسفة ومعرفة الله تعالى فقد تبين من هذا أن النظر في كتب القدماء واجب بالشرع، إذ، كان مغزاهم كتبهم ومقصدهم هو المقصد الذي حثنا الشرع عليه، وأن من نهى عن النظر فيها من كأن أهلاً للنظر فيها، وهو الذي جمع أمرين أحدهما ذكاء الفطرة، والثاني العدالة الشرعية والفضيلة الخلقية - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 فقد صد الناس عن الباب الذي دعا الشرع منه الناس إلى معرفة الله، و!! باب النظر، المؤدي إلى معرفته حق المعرفة. وذلك غاية الجهل والبعد عن الله تعالى. موافقة الشريعة لمناهج الفلسفة وليس يلزم من أنه أن غوى غاو بالنظر فيها، وزل زال، إما من قبل نقص فطرته، وإما من فبل سوء ترتيب نظره فيها، أومن قبل غلبة شهواته عليه، أو أنه لم يجد معلماً يرشده إلى فهم ما فيها، أو من قبل اجتماع هذه الأسباب فيه، أو اكثر من واحد منها، أن نمنعها عن الذي هو أهل للنظر فيها. فإن هذا النحو من الضرر الداخل من قبلها هو شيء لحقها بالعرض لا بالذات. وليس يجب فيما كأن نافعاً بطباعه وذاته أن يترك، لمكان مضرة موجودة فيه بالعرض. ولذلك قال عليه السلام للذي أمره بسقي العسل أخاه لإسهال كأن به، فتزايد الإسهال به لما سقاه العسل، وشكا ذلك إليه: " صدق الله وكذب بطن أخيك "، بل نقول أن مثل من منع النظر في كتب الحكمة من هو أهل لها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 من اجل أن قوماً من أراذل الناس قد يظن بهم أنهم ضلوا من قبل نظرهم فيها، مثل من منع العطشان شرب الماء البارد العذب حتى مات من العطش، لأن قوماً شرقوا به فماتوا. فإن الموت عن الماء بالشرق أمر عارض، وعن العطش أمر ذاتي وضروري. وهذا الذي عرض لهذه الصنعة هو شئ عارض لسائر الصنائع. فكم من فقيه كأن الفقه سبباً لقلة تورعه وخوضه في الدنيا، بل اكثر الفقهاء كذلك نجدهم وصناعهم إنما تقتضي بالذات الفضيلة العملية. فإذاً لا يبعد أن يعرض في الصناعة التي تقتضي الفضيلة العلمية ما عرض في الصناعة التي تقتضي الفضيلة العملية. وإذا تقرر هذا كله وكنا نعتقد معشر المسلمين أن شريعتنا هذه الإلهية حق وأنها التي نبهت على هذه السعادة، ودعت إليها، التي هي المعرفة بالله عز وجل وبمخلوقاته، فإن ذلك متقرر عند كل مسلم من الطريق الذي اقتضته جبلته وطبيعته من التصديق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وذلك أن طباع الناس متفاضلة في التصديق: فمنهم من يصدق بالبرهان، ومنهم من يصدق، بالأقاويل الجدلية تصديق صاحب البرهان بالبرهان، إذ ليس في طباعه اكثر من ذلك، ومنهم يصدق بالأقاويل الخطابية كتصد يق صاحب البرهان بالأقاويل البرهانية. وذلك أنه لما كانت شريعتنا هذه الإلهية قد دعت الناس من هذه الطرق الثلاث عم التصديق بها كل أنسأن، إلا من جحدها كناداً بلسانه، أو لم تتقرر عنده طرق الدعاء فيها إلى الله تعالى لإغفاله ذلك من نفسه. ولذلك خص عليه السلام بالبعث إلى الأحمر والأسود،، اعني لتضمن شريعته طرق الدعاء إلى الله تعالى. وذلك صريح في قوله تعالى:! ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن ". وإذا كانت هذه الشريعة، حقاً وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق فإنا معشر المسلمين، نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهأني إلى مخالفة ما ورد به الشرع. فإن الحق لا يضاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 الحق، بل يوافقه ويشهد له. وإذا كأن هذا هكذا، فإن أدى النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما، فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سكت عنه في الشرع أو عرف به. فإن كأن مما قد سكت عنه فلا تعارض هنالك، هو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام، فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي. وأن كانت الشريعة نطقت به، فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقاً لما أدى إليه البرهان فيه أو مخا لفاً. فإن كأن موافقاً، فلا قول هنالك. وأن كأن مخالفاً، طلب هنالك تأويله. ومعنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازة من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لاحقه " أو مقارنه أو غير ذلك من الأشياء التي عددت، في تعريف أصناف الكلام المجازي،. التوافق بين المعقول والمنقول وإذا كأن الفقيه يفعل هذا في كثير من الأحكام الشرعية، فكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 بالحري أن يفعل ذلك صاحب علم البرهان،؟ فإن الفقيه إنما عند قياس ظني، والعارف عنده قياس، يقيني. ونحن نقطع قطعاً كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي. وهذه القضية لا يشك فيها مسلم، ولا يرتاب بها مؤمن. وما اعظم ازدياد اليقين بها عند من زاول هذا المعنى وجربه، وقصد هذا المقصد من الجمع بين المعقول والمنقول. بل نقول أنه ما من منطوق به في الشرع مخالف بظاهره لما أدى إليه البرهان، إلا إذا اعتبر الشرع وتصفحت سائر أجزائه وجد في ألفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل أو يقارب أن يشهد. ولهذا المعنى اجمع المسلمون على أنه ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها، ولا أن تخرج كلها عن أب، ظاهرها بالتأويل. واختلفوا في المؤول منها من غير المؤول فالأشعريون مثلاً يتأولون آية الاستواء وحديث النزول والحنابلة تحمل ذلك على ظاهره. والسبب في ورود الشرع فيه الظاهر والباطن هو اختلاف فطر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 الناس وتباين قرائحهم في التصديق. والسبب في ورود الظواهر المتعارضة فيه هو تنبيه الراسخين في العلم على التأويل الجامع بينها. والى هذا المعنى وردت الإشارة بقوله تعالى: " هو الذي أنزل عليك الكتاب، منه آيات محكمات " إلى قوله: " والراسخون في العلم. " استحالة الإجماع العام فإن قال قائل أن في الشرع أشياء قد اجمع المسلمون على حملها على ظواهرها وأشياء على تأويلها وأشياء اختلفوا فيها، فهل يجوز أن يؤدي البرهان إلى تأويل ما اجمعوا على ظاهره، أو ظاهر ما اجمعوا على تأويله؟ قلنا: أما لو ثبت الإجماع بطريق يقيني فلم يصح، وأما أن كأن الإجماع فيها ظنياً فقد يصح. ولذلك أبو حامد وأبو المعالي وغيرهما. من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 أئمة النظر أنه لا يقطع بكفر من خرق الإجماع في التأويل في أمثال هذه الأشياء. وقد يدلك على أن الإجماع لا يتقرر في النظريات بطريق يقيني كما يمكن أن يتقرر في العمليات، أنه ليس يمكن أن يتقرر الإجماع في مسألة ما في عصر ما إلا بأن يكون ذلك العصر عندنا محصوراً، وأن يكون جميع العلماء الموجودين في ذلك العصر معلومين عندنا، اعني معلوماً أشخاصهم ومبلغ عددهم، وأن ينقل إلينا في المسألة مذهب كل واحد منهم نقل تواتر، ويكون مع هذا كله قد صح عندنا أن العلماء الموجودين في ذلك الزمان متفقون على أنه ليس في الشرع ظاهر أو باطن، وأن العلم بكل مسألة يجب أن لا يكتم عن أحد، وأن الناس طريقهم واحد في علم الشريعة. وأما كثير من الصدر الأول فقد نقل عنهم أنهم كانوا يرون أن للشرع ظاهراً وباطناً، وأنه ليس يجب أن يعلم بالباطن من ليس من أهل العلم به ولا يقدر على فهمه - مثل ما روى البخاري عن علي رضي الله عنه أنه قال: " حدثوا الناس بما يعرفون. أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ ". ومثل ما روي من ذلك عن جماعة من السلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 فكيف يمكن أن يتصور إجماع منقول إلينا عن مسألة من المسائل النظرية، ونحن نعلم قطعاً أنه لا يخلو عصر من الأعصر من علماء يرون أن في الشرع أشياء لا ينبغي أن يعلم بحقيقتها جميع الناس؟. وذلك بخلاف ما عرض في العمليات: فإن الناس كلهم يرون إفشاؤها لجميع الناس على السواء، ونكتفي في حصول الإجماع فيها بأن تنتشر المسألة، فلا ينقل إلينا فيها خلاف. فإن هذا كاف في حصول الإجماع في العمليات بخلاف الأمر في العلميات. تكفير الغزالي لفلاسفة الإسلام فإن قلت: فإذا لم يجب التكفير بخرق الإجماع في التأويل إذ لا يتصور في ذلك إجماع، فما تقول في الفلاسفة من أهل الإسلام، كأبي نصر وابن سينا؟ فإن أبا حامد قد قطع بتكفيرهما في كتابه المعروف التهافت في ثلاث مسائل: في القول بقدم العالم، وبأنه تعالى لا يعلم الجزئيات تعالى عن ذلك - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وفي تأويل ما جاء في حشر الأجساد وأحوال المعاد. - قلنا: الظاهر من قوله في ذلك أنه ليس تكفيره إياهما في ذلك قطعاً، إذ قد صرح في " كتاب التفرقة أن التكفير بخرق الإجماع فيه احتمال. وقد تبين من قولنا أنه ليس يمكن أن يتقرر إجماع في أمثال هذه المسائل، لما روي عن كثير من السلف الأول، فضلاً عن غيرهم، أن هاهنا تأويلات يجب أن لا يفصح بها إلا لمن هو من أهل التأويل وهم الراسخون في العلم. لأن الاختيار عندنا هو الوقوف على قوله تعالى " والراسخون في العلم "، لأنه إذا لم يكن أهل العلم يعلمون التأويل لم تكن عندهم مزية تصديق توجب لهم من الإيمان به لا يوجد عند غير أهل العلم. وقد وصفهم الله بأنهم المؤمنون به، وهذا إنما يحمل على الإيمان الذي يكون من قبل البرهان، وهذا لا يكون إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 مع العلم بالتأويل. فإن غير أهل العلم من المؤمنين هم أهل الإيمان به لا من قبل البرهان. فإن وكأن هذا الإيمان الذي وصف الله به العلماء خاصاً بهم فيجب أن يكون بالبرهان. أن كأن بالبرهان فلا يكون إلا مع العلم بالتأويل، لأن الله تعالى قد اخبر أن لها تأويلا هو الحقيقة، والبرهان لا يكون إلا على الحقيقة. وإذا كان ذلك كذلك، فلا يمكن أن يتقرر في التأويلات التي خص الله العلماء بها إجماع مستفيض. وهذا بين بنفسه عند من أنصف. هل يعلم الله تعالى الجزئيات ؟ والى هذا كله فقد نرى أن أبا حامد قد غلط على الحكماء المشائين بما نسب إليهم من أنهم يقولون أنه تقدس وتعالى لا يعلم الجزئيات أصلاً. بل يرون أنه تعالى يعلمها بعلم غير مجانس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 لعلمنا بها وذلك أن علمنا بها معلول للمعلوم به فهو محدث بحدوثه ومتغير بتغيره. وعلم الله سبحانه بالوجود على مقابل هذا، فإنه علة للمعلوم الذي هو الموجود. فمن شبه العلمين أحدهما بالآخر فقد جعل ذوات المتقابلات وخواصها واحداً، وذلك غاية الجهل. فاسم العلم إذا قيل على العلم المحدث والقديم فهو مقول باشتراك الاسم المحض، كما يقال كثير من الأسماء على المتقابلات، مثل الجلل المقول على العظيم والصغير، و " الصريم المقول على الضوء والظلمة " ولهذا ليس هاهنا حد يشتمل العلمين جميعاً كما توهمه المتكلمون من أهل زماننا. وقد أفردنا في هذه المسألة! قولاً حركنا إليه بعض أصحابنا. كيف يتوهم على المشائين انهم يقولون أنه سبحانه لا يعلم بالعلم القديم الجزئيات؟ وهم يرون أن الرؤيا الصادقة تتضمن الإنذارات بالجزئيات الحادثة في الزمان المستقبل، وان ذلك العلم المنذر يحصل للإنسان في النوم من قبل العلم الأزلي المدبر للكل والمستولي عليه؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وليس يرون أنه لا يعلم الجزئيات فقط على النحو الذي نعلمه نحن، بل ولا الكليات، فإن الكليات المعلومة عندنا معلولة، أيضاً عن طبيعة الوجود، والأمر في ذلك العلم بالعكس. ولذلك ما قد أدى إليه البرهان أن ذلك العلم منزه عن أن يوصف بكلي أو جزئي فلا معنى للاختلاف في هذه المسألة، أعني في تكفيرهم أو لا تكفيرهم. تقسيم الموجودات ورأي الفلاسفة فيها اختلاف المتكلمين في القدم والحدوث وأما مسألة قدم العالم أو حدوثه، فإن الاختلاف فيها عندي بين المتكلمين من الأشعرية والحكماء المتقدمين يكاد أن يكون راجعاً للاختلاف في التسمية، وبخاصة عند بعض القدماء. وذلك أنهم اتفقوا على أن هاهنا ثلاثة أصناف من الموجودات طرفان وواسطة ببن الطرفين، فاتفقوا في تسمية الطرفين واختلفوا في الواسطة. فأما الطرف الواحد، فهو موجود وجد من شيء، أعني عن سبب فاعل ومن مادة، والزمان متقدم عليه، اعني على وجوده. وهذه هي حال الأجسام التي يدرك تكونها بالحس، مثل تكون الماء والهواء والأرض والحيوان والنبات وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وهذا الصنف من الموجودات اتفق الجميع من القدماء والأشعريين على تسميتها محدثة. وأما الطرف المقابل لهذا، فهو موجود لم يكن من شيء، ولا عن شيء ولا تقدمه زمان. وهذا أيضاً اتفق الجميع من الفرقتين على تسميته " قديماً وهذا الموجود مدرك بالبرهان، وهو الله تبارك وتعالى. هو فاعل الكل وموجده والحافظ له سبحانه وتعالى قدره. وأما الصنف من الموجود الذي بين هذين الطرفين، فهو موجود لم يكن من شيء، ولا تقدمه زمان، ولكنه موجود عن شيء، أعني عن فاعل، وهذا هو العالم بأسره. اختلاف المتكلمين في القدم والحدوث والكل منهم متفق على وجود هذه الصفات الثلاث للعالم. فإن المتكلمين يسلمون أن الزمان غير متقدم عليه، أو يلزمهم ذلك، ان الزمان عندهم شيء مقارن للحركات والأجسام. وهم أيضاً متفقون مع القدماء على أن الزمان المستقبل غير متناه، وكذلك الوجود المستقبل. وإنما يختلفون في الزمان الماضي، والوجود الماضي: فالمتكلمون يرون أنه متناه، وهذا هو مذهب أفلاطون وشيعته. وأرسطو وفرقته يرون أنه غير متناه كالحال في المستقبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 فهذا الوجود الآخر الأمر فيه بين أنه قد آخذ شبهاً من الوجود الكائن الحقيقي ومن الوجود القديم. فمن غلب عليه ما فيه من شبه القديم على ما فيه من شبه المحدث وسماه قديماً ومن غلب عليه ما فيه من شبه المحدث، سماه محدثاً وهو في الحقيقة ليس محدثاً حقيقياً، ولا قديماً حقيقياً. فإن المحدث الحقيقي فاسد ضرورة، القديم الحقيقي ليس له علة. ومنهم من سماه محدثاً أزلياً، وهو أفلاطون وشيعته، لكون الزمان متناهياً ب عندهم من الماضي. فالمذاهب في العالم ليست تتباعد، كل التباعد حتى يكفر بعضها ولا يكفر. فإن الآراء التي شأنها هذا يجب أن تكون في الغاية من، التباعد، اعني أن تكون متقابلة، كما ظن المتكلمون في هذه المسألة، اعني أن اسم! القدم والحدوث في العالم بأسره هو من المتقابلة.، قد تبين من قولنا أن الأمر ليس كذلك. تأويل بعض الآيات ويدل ظاهرها على وجود قبل وجود العالم وهذا كله مع أن هذه الآراء في العالم ليست على ظاهر الشرع. فإن ظاهر الشرع إذا تصفح ظهر من الآيات الواردة في الأنباء عن إيجاد العالم أن صورته محدثة بالحقيقة، وأن نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين، أعني غير منقطع. وذلك أن قوله تعالى: وهو الذي خلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 السماوات والأرض ني ستة أيام وكان عرشه على الماء " يقتضي بظاهره أن وجوداً قبل هذا الوجود، وهو العرش والماء، وزماناً قبل هذا الزمان، أعنى المقترن بصورة هذا الوجود، الذي هو عدد حركة الفلك. - وقوله تعالى: يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات يقتضي ايضاً بظاهره أن وجوداً ثانياً، بعد هذا الوجود. وقوله تعالى: ثم أستوى إلى السماء وهي دخان " يقتضي بظاهره أن اسموات خلقت من شيء فالمتكلمون ليسوا في قولهم ايضاً في العالم على ظاهر الشرع، بل متأولون. فإنه ليس في الشرع أن الله كان موجوداً مع العدم المحض، ولا يوجد هذا فيه نصاً ابداً. فكيف بتصور في تأويل المتكلمين في هذه الآيات أن الاجماع انعقد عليه. والظاهر الذي قلناه من الشرع في وجود العالم قد قال به فرقة من الحكماء. خطأ الحاكم وخطأ العالم أي خطأ معذور ويشبه أن يكون المختلفون في تأويل هذه المسائل العويصة أما مصيبين مأجوري، واما مخطئين معذورين. فإن التصديق بالشيء من قبل الدليل القائم في النفس، هو شيء اضطراري لا اختياري، اعني أنه ليس لنا أن لا نصدق أو نصدق، كما لنا أن نقوم أو لا نقوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وإذا كان من شرط التكليف الاختيار، فالمصدق بالخطأ من قبل شبهة عرضت له إذا كان من اهل العلم معذور. ولذلك قال عليه السلام: " إذ اأجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا، أخطأ فله أجر ". وأي حاكم أعظم من الذي يحكم على الوجود بأنه، كذا أو ليس بكذا. وهؤلاء الحكام هم العلماء الذين خصهم الله بالتأويل. وهذا الخطأ المصفوح عنه في الشرع، إنما هو الخطأ الذي يقع، من العلماء إذا نظروا في الأشياء العويصة التي كلفهم الشرع النظر فيها. وأما، الخطأ الذي يقع من غير هذا الصنف من الناس فهو اثم محض، وسواء كأن الخطأ في الأمور النظرية أو العملية،. فكما، أن الحاكم الجاهل بالسنة إذا اخطأ في الحاكم لم يكن معذوراً، كذلك الحاكم! الموجودات إذا لم توجد فيه شروط الحاكم " فليس بمعذور، بل هو إما آثم وإما كافر. وإذا كأن يشترط في الحاكم في الحلال والحرام أن تجتمع، له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 اسباب الاجتهاد - وهو معرفة الأصول ومعرفة الاستنباط من تلك الأصول بالقياس - فكم والحري أن يشترط ذلك في الحاكم على الموجودات، اعني أن يعرف الأوائل العقلية ووجه الاستنباط منها. وبالجملة فالخطأ في الشرع على ضربين: إما خطأ يعذر فيه من هو من أهل النظر في ذلك الشيء الذي وقع فيه الخطأ - كا يعذر الطبيب الماهر إذا اخطأ في صناعة الطب، والحاكم الماهر إذا اخطأ في الحكم. ولا يعذر فيه من ليس من اهل ذلك الشأن. واما خطأ ليس يعذر فيه احد من الناس، بل أن وقع في مبادىء الشريعة فهو كفروان وقع فيما بعد المبادئ فهو بدعة. الأصول الثلاثة للشرع والإيمان بها وهذا الخطأ هو الخطأ الذي يكون في الأشياء التي تفضي، جميع اصناف طرق الدلائل إلى معرفتها، فتكون معرفة ذلك الشيء بهذه الجهة ممكنة للجميع. وهذا هو مثل الاقرار بالله تبارك وتعالى، وبالنبوات، وبالسعادة، الأخروية، والشقاء الأخروي. وذلك أن هذه الأصول الثلاثة تؤدي اليها اصناف الدلائل، الثلاثة التي لا يعرى احد من الناس عن وقوع التصديق له من قبلها بالذي كلف معرفته، اعني الدلائل الخطابية والجدلية والبرهانية. فالجاحد لا مثال هذه الأشياء إذا كانت اصلاً من اصول الشرع كافر معاند بلسانه دون قلبه أو بغفلته عن التعرض إلى معرفة دليلها. لأنه أن كان من اهل البرهان فقد جعل له سبيل إلى التصديق بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 بالبرهان، وأن كان من اهل الجدل فبالجدل، وأن كأن من اهل الموعظة فبالموعظة. ولذلك قال عليه السلام: " أمرت أن أقايل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويؤمنوا بى " - يريد بأي طريق أنفق لهم من طرق الإيمان الثلاث. تأويل ظاهر الآيات والأحاديث أهل البرهان وأهل القياس وأما الأشياء التي لخفائها لا تعلم الا بالبرهان فقد تلطف الله فيها لعباده، الذين لا سبيل لهم إلى البرهان، اما من قبل فطرهم، واما من قبل عادتهم، واما من قبل عدمهم اسباب التعلم، بأن ضرب لهم امثالها وأشباهها ودعاهم إلى التصديق بتلث الأمثال، اذ كانت تلك الأمثال يمكن أن يقع التصديق بها بالأدلة المشتركة للجميع، اعني الجدلية والخطابية. وهذا هو السبب في أن أنقسم، الشرع إلى ظاهر وباطن. فإن الضاهر هو تلك الأمثال المضروبة لتلك المعاني، والباطن هو تلك المعاني التي لا تنجلي إلا لأهل البرهان. وهذه هي اصناف تلك الموجودات الأربعة أو الخمسة التي ذكرها ابو حامد في " كتاب، التفرقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 واذا اتفق كا قلنا أن نعلم الشيء بنفسه بالطرق الثلاث، لم نحتج أن نضرب له امثالاً،، وكان على ظاهره لا يتطرق اليه تأويل. وهذا النحو من الظاهر أن كان في الأصول فالمتأول له كافر، مثل من يعتقد أنه لا سعادة أخروية ههنا ولا شقاء، وأنه إنما قصد بهذا القول أن يسلم، الناس بعضهم من بعض في ابدانهم وحواسهم، وانها حيلة، وأنه لا غاية للانسان الا وجوده المحسوس فقط. واذا تقرر، هذا، فقد ظهر لك من قولنا أن ههنا ظاهراً من الشرع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 لا يجوز تأويله. فإنا كان نأويله في المبادئ فهو كفر، وأن كان فيما بعد المبادىء فهو بدعة. وههنا ايضاً ظاهره يجب على اهل البرهان تأويله، علهم اياه على ظاهره كفر. وتأويل غير اهل البرهان له واخراجه عن ظاهره كفر في حقهم أو بدعة. ومن هذا الصنف آية الاستواء وحديث النزول. ولذلك قال عليه السلام في السوداء اذ اخبرته أن الله في السماء " اعتقها فإنها مؤمنة " اذ كانت ليست من اهل البرهان. والسبب في ذلك أن الصنف من الناس الذين لا يقع لهم التصديق الا من قبل التخيل - اعني أنهم لا يصدقون بالشيء الا من جهة ما يتخيلونه - يعسر وقوع التصديق لهم بموجود ليس منسوباً إلى شيء متخيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 ويدخل ايضاً على من لا يفهم من هذه النسبه الا المكان، وهم الذين شدوا على رتبة الصنف الأول قليلاً في النظر بانكار اعتقاد الجسمية. ولذلك كان الجواب لهؤلاء في امثال هذه أنها من المتشابهات، وأن الوقف في قوله تعالى: " وما يعلم تأويله الإ الله ". واهل البرهان مع أنهم مجمعون في هذا الصنف أنه من المؤول فقد يختلفون في تأويله، وذلك بحسب مرتبة كل واحد من معرفة البرهان. وههنا صنف ثالث من الشرع متردد بين هذين الصنفين يقع فيه شك، فيلحقه قوم ممن يتعاطى النظر بالظاهر الذي لا يجوز تأويله، ويلحقه آخرون بالباطن الذى لا يجوز حمله على الظاهر للعلماء، وذلك لعواصة هذا الصنف واشثباهه. والمخطىء. في هذا معذور - اعني من العلماء. اختلاف العلماء في أحوال المعاد فإن قيل " فإذا تبين أن الشرع في هذا على ثلاث مراتب، فمن اي هذه المراتب الثلاث هو عندم ما جاء في صفات المعاد وأحواله "؟ فنقول: أن هذه المسألة الأمر فيها بين انها من الصنف المختلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 فيه. وذلك انا. نرى قوماً ينسبون أنفسهم إلى البرهان يقولون أن الواجب حملها على ظاهرها، اذ كأن ليس ههنا برهان يؤدي إلى استحالة الظاهر فيها. وهذه طريقة الأشعرية، وقوم آخرون ايضاً ممن يتعاطى البرهان، يتأولونها. وهؤلاء يختلفون في تأويلها اختلافاً كثيراً. وفي هذا الصنف ابو حامد معدود وكثير من المتصوفة. ومنهم من يجمع فيها التأويلين، كما يفعل ذلك ابو حامد في بعض كتبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ويشبه أن يكون المخطىء في هذه المسألة من العلماء معذوراً والمصيب مشكوراً أو مأجوراً، وذلك إذا اعترف بالوجود وتأول فيها نحواً من انحاء التأويل، اعنى في صفة المعاد لا في وجوده، إذا كان التأويل لا يؤدي إلى نفي الوجود. وإنما كان جحد الوجود في هذه كفراً لأنه في اصل من اصول الشريعة، وهو مما يقع التصديق به بالطرق الثلاث المشتركة للأحمر والأسود وأما من كان من غير اهل العلم، فالواجب عليه حملها على ظاهرها وتأويلها في حقه كفر، لأنه يؤدي إلى الكفر. ولذلك ما نرى أن من كان من الناس فرضه الايمان بالظاهر فالتأويل في حقه كفر، لأنه يؤدي إلى الكفر. فمن افشاه له من اهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 التأويل فقد دعاه إلى الكفر، والداعي إلى الكفر كافر. ولهذا بجب أن لا تثبت التأويلات الا في كتب البراهين لأنها إذا كانت في كتب البراهين لم يصل اليها الا من هو من اهل البرهان. واما إذا أثبتت في غير كتب البرهان واستعمل فيها الطرق الشعرية والخطابية أو الجدلية، كما يصنعه ابو حامد، فخطأ على الشرع وعلى الحكمة، وأن كان الرجل إنما قصد خيراً، وذلك أنه رام أن يكثر اهل العلم بذلك، ولكن كثر بذلك اهل الفساد بدون كثرة اهل العلم. وتطرق بذلك قوم إلى ثلب الحكمة، وقوم إلى ثلب الشريعة، وقوم إلى الجمع بينهما. ويشبه أن يكون هذا احد، مقاصده بكتبه. والدليل على أنه رام بذلك تنبيه الفطر، أنه لم يلزم مذهباً في كتبه، بل هو مع الأشعرية، اشعري، ومع الصوفية، صوفي، ومع الفلاسفة فيلسوف، حتى أنه كما قيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 يوماً يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وأن لقيت معدياً فعدنان، أحكام التأويل في الشريعة للعارفين الذي يجب على ائمة المسلمين ان ينهوا عن كتبه التي تتضمن العلم، الآ من كان من اهل العم، كا يجب عليهم، ان ينهوا عن كتب البرهان من ليس اهلاً لها. وان كان الضرر الداخل على الناس من كتب البرهان " ب "، اخف، لأنه لا يقف على كتب البرهان في الأكثر، إلا اهل الفطر، الفاثقة، وإنما يؤتى هذا الصنف من عدم الفضيلة العملبتة والقراءة على غير ترتيب وأخذها من غير معلم. ولكن منعها بالجملة صاد لما دعا اليه الشرع، لأنه ظلم لأفضل اصناف الناس ولأفضل اصناف الموجودات، اذ كان العدل في أفضل أصناف الموجودات أن يعرفها على كنهها من كان معداً لمعرفتها على كنهها، وهم أفضل أصناف الناس. فإنه على قدر عظم الجور في حقه للذي هو الجهل به. ولذلك قال تعالى: " إن الشرك لتظلم عظيم ". هذا ما رأينا ان نثبته في هذا الجنس من النظر، اعني التكلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 بين الشريعة والحكمة، وأحكام التأويل في الشريعة. ولولا شهرة ذلك عند الناس، وشهرة هذه المساثل التي ذكرناها، لما استجزنا ان نكتب في ذلك حرفاً، ولا أن نعتذر " د "، في ذلك لأهل التأويل بعذر، لأن شأن هذه المسائل أن تذكر في كتب البرهان. والله الهادي الموفق للصواب. أقسام العلوم الدنيوية والأخروية وينبغي أن تعلم أن مقصود الشرع إنما هو تعليم العلم الحق والعمل الحق. والعلم الحق هو معرفة الله تبارك وتعالى وسائر الموجودات على ما هي عليه، وبخاصة الشريفة منها، ومعرفة السعادة الأخروية والشقاء الأخروي. والعمل الحق هو امتثال الأفعال التي تفيد السعادة، وتجنب الأفعال التي تفيد الشقاء. والمعرفة بهذه الأفعال هي التي تسمى العلم العملي. وهذه تنقسم قسمين: احدهما أفعال ظاهرة بدنية، والعلم بهذه هو الذي يسمى الفقه، والقسم الثاني أفعال نفسانية، مثل الشكر والصبر، وغير ذلك من الأخلاق التي دعا إليها الشرع أو نهى عنها. والعلم بهذه هو الذي يسمى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 الزهد وعلوم الآخرة. وإلى هذا نحا أبو حامد في كتابه. ولما كان الناس قد اضربوا عن هذا الجنس وخاضوا في الجنس الثاني، وكان هذا الجنس املك بالتقوى التي هي سبب السعادة، سمى كتابه " احياء علوم الدين ". وقد خرجنا عما كنا بسبيله، فنرجع. فنقول: لما كان مقصود الشرع تعليم العلم الحق والعمل الحق، وكان التعليم صنفين: تصوراً وتصديقاً، كما بيق ذلك اهل العلم بالكلام، وكانت طرق التصديق، الموجودة للناس ثلاثاً: البرهانية، والجدلية، والخطابية، وطرق التصور اثنين: إما الشيء نفسه وإما، مثاله، وكان الناس كلهم ليس في طباعهم أن يقبلوا البراهين ولا الأقاويل الجدلية، فضلاً عن البرهاينة، مع ما في تعلم الأقاويل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 البرهانية من العسر والحاجة في ذلك إلى طول الزمان لمن هو أهل لتعله وكان الشرع إنما مقصودة تعليم الجميع، وجب أن يكون الشرع يشتمل على جميع أنحاء طرق التصديق وانحاء طرق التصور. تقسيم المنطق والبرهان ولما كانت طرق التصديق منها ما هي عامة لأكثر الناس اعني وقوع التصديق من قبلها وهي الخطابية، والخطابية، أعم من الجدلية. ومنها ما هي خاصة لأقل الناس وهي البرهانية، وكان الشرع كل مقصوده الأول العناية بالأكثر من غير اغفال تنبيه الخواص، كانت أكثر الطرق المصرح بها في الشريعة هي الطرق المشتركة للأكثر في وقوع التصور والتصديق. هذه الطرق هي في الشريعة على أربعة أصناف: احدها أن تكون مع أنها مشتركة خاصة في الأمرين جميعاً، اعني أن تكون في التصور والتصديق يقينية، مع أنها خطابية أو جدلية. وهذه المقاييس هي المقاييس التي عرض لمقدماتها، مع كونها مشهورة أو مظنونة، أن تكون يقينية، وعرض لنتائجها أن أخذت أنفسها دون مثالاتها. وهذا، هو الصنف من الأقاويل الشرعية ليس له تأويل والجاحد له أو المتأول كافر. والصف الثاني أن تكون المقدمات، مع كونها مشهورة أو مظنونة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 يقينية، وتكون النتائج مثالات للأمور التي قصد انتاجها. وهذا يتطرق إليه التأويل، اعني لنتائجه. والثالث عكس كل هذا، وهو أن تكون النتائج هي الأمر التي قصد انتاجها نفسها، وتكون المقدمات مشهورة أو مظنونة من غير أن يعرض لها ان تكون يقينية. وهذا أيضاً لا يتطرق إليه تأويل، اعني لنتائجه، وقد يتطرق لمقدماته. والرابع أن تكون مقدماته مشهورة أو مظنونة من غير أن يعرض لها أن تكون يقينية، وتكون نتائجه مثالات لما قصد انتاجه. هذه فرض الخواص فيها تأويل، وفرض الجمهور اقرارها امرارها على ظاهرها. وبالجملة، فكل ما يتطرق له من هذه تأويل لا يدرك إلا بالبرهان، ففرض الخواص فيه هو ذلك التأويل، وفرض الجمهور هوحملها على ظاهرها في الوجهين جميعاً، اعني في التصور والتصديق، اذ كان ليس في طباعم أكثر من ذلك. وقد يعرض للنظار في الشريعة تأويلات من قبل تفاضل الطرق المشتركة بعضها على بعض في التصديق، اعني إذا كان دليل التأويل اتم اقناعاً من دليل الظاهر. وامثال هذه التأويلات هي جمهورية. ويمكن أن يكون فرض من بلغت قواهم النظرية إلى القوة الجدلية، وفي هذا الجنس يدخل بعض تأويلات الأشعرية والمعتزلة، وإن كانت المعتزلة في الأكثر أوثق أقوالاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وأما الجمهور الذين لا يقدرون على أكثر من الأقاويل الخطابية، ففرضهم امرارها على ظاهرها، ولا يجوز أن يعلموا ذلك التأويل اصلاً. لا يجوز أن يكتب للعامة ما لا يدركونه من أباح التأويل للجمهور فقد أفسده فاذا الناس في الشريعة على ثلاثة اصناف: صنف، ليس هو من اهل التأويل اصلاً، وهم الخطابيون الذين هم الجمهور الغالب. وذلك انه ليس يوجد احد سليم العقل يعرى من هذا النوع من التصديق. وصنف هو من اهل التأويل الجدلي، وهؤلاء هم الجدليون بالطبع فقط، أو بالطبع والعادة. وصنف هو من اهل التأويل اليقيني، وهؤلاء هم البرهانيون بالطبع والصناعة، اعني صناعة الحكمة. وهذا التأويل ليس ينبغي أن يصرح به لأهل الجدل فضلاً عن الجمهور. ومتى صرح بشيء من هذه التأويلات لمن، هو من غير اهلها، وبخاصة التأويلات البرهانية لبعدها عن المعارف المشتركة، افضى ذلك بالمصرح له والمصرح إلى الكفر. والسبب في ذلك أن مقصوده ابطال الظاهر واثبات المؤول، فاذا بطل الظاهر عند من هو من اهل الظاهر، ولم يثبت المؤول عنده، اداه ذلك إلى الكفر، أن كان في اصول الشريعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 فالتأويلات ليس ينبغي أن يصرح بها للجمهور ولا أن تثبت في الكتب الخطابية أو الجدلية - اعني الكتب التي الأقاويل الموضوعة فيها من هذين الصنفين، كما صنع ذلك ابو حامد. ولهذا، يجب أن يصرح ويقال في الظاهر الذي الأشكال في كونه ظاهراً بنفسه للجميع وكون معرفة تأويله غير ممكن فيهم، انه متشابه لا يعلمه الا الله، وان الوقف يجب ههنا في قوله تعالى: " وما يعلم تأويله إلا الله ". وبمثل هذا يأتي الجواب ايضاً في السؤال عن الأمور الغامضة التي لا سبيل للجمهور، إلى فهمها، مثل قوله تعالى: " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم الا قليلاً ". وأما المصرح بهذه التأويلات لغير اهلها فكافر لمكان دعائه الناس إلى الكفر. وهو ضد دعوى الشارع وبخاصة متى كانت تأويلات فاسدة في اصول الشريعة، كما عرض ذلك لقوم من أهل زماننا. فانا قد شهدنا منهم اقواماً ظنوا انهم د، تفلسفوا وانهم قد ادكوا بحكمتهم العبجيبة اشياء مخالفة للشرع من جميع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 الوجوه، اعني لا تقبل تأويلاً، وان الواجب هو التصريح بهذه الأشياء للجمهور. فصاروا بتصريحهم للجمهور بتلك الاعتقادات الفاسدة سبباً لهلاك الجمهور وهلاكهم في الدنيا والآخرة. ومثال مقصد، هؤلاء مع مقصد الشارع مثال من قصد إلى طبيب ماهر قصد إلى حفظ صحة جميع الناس وازالة الأمراض عنهم بأن وضع لهم اقاويل مشتركة التصديق في وجوب استعمال الأشياء التي تحفظ صحتهم وتزيل امراضهم وتجنب اضدادها، اذ لم يمكنه فيهم أن يصير جميعهم اطباء، لأن الذي يعلم الأشياء الحافظة للصحة والمزيلة للمرض بالطرق البرهانية هو الطبيب. فتصدى هذا إلى الناس وقال لهم: أن هذه الطرق التي وضعها لكم هذا الطبيب ليست بحق، وشرع في ابطالها حتى بطلت عندهم. أو قال: أن لها تأويلات، فلم يفهموها ولا وقع لهم من قبلها تصديق في العمل. أفترى الناس الذين حالهم هذه الحال يفعلون شيئاً من الأشياء النافعة في حفظ الصحة وازالة المرض؟ أو يقدر هو لا على استعمالها معهم ولا هم يستعملونها، فيشملهم الهلاك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 هذا أن صرح لهم بتأويلات صحيحة في تلك الأشياء لكونهم لا يفهمون ذلك التأويل، فضلاً أن صرح لهم بتأويلات فاسدة. لأنه لا يؤول بهم الأمر إلى أن لا يروا أن ههنا صحة يجب ان تحفظ ولا مرضاً يجب أن يزال، فضلاً عن أن يروا أن ههنا اشياء تحفظ الصحة وتزيل المرض. وهذه هي حال من يصرح بالتأويل للجمهور ولمن ليس هو بأهل له مع الشرع. ولذلك هو مفسد له وصاد عنه. والصاد عن الشرع كافر. الشرع يصلح النفوس والطب يصلح الابدان وإنما كان هذا التمثيل يقينياً وليس بشعري، كما للقائل، أن يقول، لأنه صحيح التناسب. وذلك أن نسبة الطبيب إلى صحة الأبدان نسبة الشارع إلى صحة الأنفس: اعني أن الطبيب هو الذي يطلب أن يحفظ صحة الأبدان إذا وجدت، ويستردها إذا عدمت، والشارع هو الذي يبتغي، هذا في صحه الأنفس. وهذه الصحة هي المسماة تقوى. وقد صرح الكتاب العزيز بطلبها بالأفعال الشرعية في غير ما آية. فقال تعالى: " كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ". وقال تعالى: " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ". وقال: " أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر " إلى غير ذلك من الآيات التي تضمنها الكتاب العزيز من هذا المعنى. فالشارع إنما يطلب بالعلم الشرعي هذه الصحة. وهذه الصحة هي التي تترتب عليها السعادة الأخروية وعلى ضدها الشقاء الأخروي. فقد تبين لك من هذا انه ليس يجب أن تثبت التأويلات الصحيحة في الكتب الجمهورية فضلاً عن الفاسدة. والتأويل الصحيح هي الأمانة التي حمالها الانسان فأبى أن يحملها وأشفق منها جميع الموجودات، اعني المذكورة في قوله تعالى: " انا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال " الاية. ومن قبل التأويلات والظن بأنها مما يجب أن يصرح بها في الشرع للجميع، نشأت فرق الإسلام حتى كفر بعضهم بعضاً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وبخاصةً الفاسدة منها. فأولت المتعزلة آيات كثيرة وأحاديث كثيرة وصرحوا بتأويلهم للجمهور، وكذلك فعلت الأشعرية، وان كانت اقل تأويلاً. فأوقعوا الناس من قبل ذلك في شنآن وتباغض وحروب، ومزقوا الشرع وفرقوا الناس كل التفريق. ما أخطأ فيه الأشعريون وزائداً إلى هذا كله أن طرقهم التي سلكوها في اثبات تأويلاتهم ليسوا فيها لا مع الجمهور ولا مع الخواص، أما مع الجمهور فلكونها أغمض من الطرق المشتركة للأكثر، واما مع الخواص فلكنوها إذا تؤملت وجدت ناقصة عن شرائط البرهان، وذلك يقف عليه بأدنى تأمل من عرف شرائط البرهان. بل كثير من الأصول التي بنت عليها الأشعرية معارفها هي سوفسطائية، فانها تجحد كثيراً من الضروريات، مثل ثبوت الأعراض وتأثير الأشياء بعضها في بعض، ووجود الأسباب الضرورية للمسببات والصور الجوهرية والوسائط. ولقد بلغ تعدي نظارهم في هذا المعنى على المسلمين أن فرقة من الأشعرية كفرت من ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 يعرف وجود البارىء سبحانه بالطرق التي وضعوها لمعرفته في كتبهم، وهم الكافرون والضالون بالحقيقة. ومن هنا اختلفوا: فقال قوم اول الواجبات النظر، وقال قوم الايمان، اعني من قبل انهم لم يعرفوا اي الطرق هي الطرق المشتركة للجميع التي دعا الشرع من ابوابها جميع الناس، وظنوا أن ذلك طريق واحد. فأخطأوا، مقصد الشارع، وضلوا وأضلوا. عصمة الصدر الأول عن التأويل فان قيل: فاذا لم تكن هذه الطرق التي سلكتها، الأشعرية ولا غيرهم من اهل النظر هي الطرق المشتركة التي قصد الشارع تعليم الجمهور بها وهي التي لايمكن تعليمهم بغيرها، فأي الطرق هي هذه الطرق في شريعتنا هذه؟ قلنا: هي الطرق التي ثبتت في الكتاب العزيز فقط، فان الكتاب العزيز إذا تؤمل وجدت فيه الطرق الثلاث الموجودة لجميع الناس وهذه هي الطرق المشتركة لتعليم أكثر الناس والخاصة. واذا تؤمل الأمر ظهر انه ليس يلقى طرق مشتركة لتعليم أكثر الناس والخاصة. وإذا تؤل الأمر ظهر انه ليس يلقى طرق مشتركة لتعليم الجمهور أفضل من الطرق المذكورة فيه. فمن حرفها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 بتأويل لايكون ظاهراً بنفسه، أو اظهر منها للجميع وذلك شيء غير موجود فقد ابطل حكمتها وابطل فعلها المقصود في افادة السعادة الانسانية. وذلك ظاهر جداً من حال الصدر الأول، وحال من اتى بعدهم فأن الصدر الأول إنما صار إلى الفضيلة الكاملة والتقوى باستعمال هذه الأقاويل دون تأويلات فيها ومن كان منهم وقف على تأويل لم ير أن يصرح به. واما من اتى بعدهم فانهم لما استعملوا التأويل قل تقواهم وكثر اختلافهم وارتفعت محبتهم وتفرقوا فرقاً. كيفية التوفيق بين الحكمة والشريعة فيجب على من اراد أن يرفع هذه البدعة عن الشريعة أن يعمد إلى الكتاب العزيز فيلتقط منه الاستدلالات الموجودة في شيء شيء مما كلفنا اعتقاده، واجتهد في نظره ظاهراً ما امكنه من غير أن يتأول من ذلك شيئاً الا إذا كان التأويل ظاهراً بنفسه اعني ظهوراً مشتركاً للجميع. فان الأقاويل الموضوعة في الشرع لتعليم الناس إذا تؤملت، يشبه أن يبلغ من نصرتها إلى حد لا يخرج عن ظاهرها ما هو منها ليس على ظاهره الا من كان من اهل البرهان. وهذه الخاصة ليست توجد لغيرها من الأقاويل. فان الأقاويل الشرعية المصرح بها في الكتاب العزيز للجميع لها ثلاث خواص دلت على الاعجاز: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 احداها انه لا يوجد اتم اقناعاً وتصديقاً للجميع منها، والثانية انها تقبل النصرة بطبعها إلى أن تنتهى إلى حد لا يقف على التأويل فيها - أن كانت مما فيها تأويل - الا أهل البرهان، والثالئة انها تتضمن التنبيه لأهل الحق على التأويل الحق. وهذا ليس يوجد لا في مذاهب الأشعرية ولا في مذاهب المعتزلة: اعني أن تأويلهم لا يقبل النصرة ولا يتضمن التنبيه على الحق ولا هو حق ولذلك كثرت البدع. وبودنا لو تفرغنا لهذا المقصد وقدرنا عليه، وان انسأ الله في العمر فسنثبت فيه قدر ما تيسر لنا منه، فعسى أن يكون ذلك مبدأ لمن يأتي بعد. فان النفس مما تخلل هذه الشريعة من الأهواء الفاسدة والاعتقادات المرفة في غاية الحزن والتألم، وبخاصة ما عرض لها من ذلك من قبل من ينسب نفسه إلى الحكمة. فان الاذاية من الصديق هي اشد من الاذاية من العدو، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 اعني أن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة، فالاذاية ممن ينسب اليها اشد االاذاية مع ما يقع بينهما من العداوة والبغضاء والمشاجرة، وهما المصطحبتان بالطبع المتحابان بالجوهر والغريزة. وقد آذاها ايضاً كثير من الأصدقاء الجهال ممن ينسبون انفسهم إليها، وهي الفرق الموجودة فيها. والله يسدد الكل ويوفق الجميع لمحبته ويجمع قلوبهم على تقواه ويرفع عنهم البغض والشنآن بفضله وبرحمته. وقد رفع الله كثيراً من هذه الشرور والجهالات والمسالك المضلات بهذا الأمر الغالب. وطرق به إلى كثير من الخيرات وبخاصة على الصنف الذين سلكوا مسلك النظر ورغبوا في معرفة الحق. وذلك إنه دعا الجمهور من معرفة الله سبحانه إلى طريق وسط ارتفع عن حضيض المقلدين وانحط عن تشغيب المتلكمين، ونبه الخواص على وجوب النظر التام في اصل الشريعة. والله الموفق والهادي بفضله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 المسألة التي ذكرها الشيخ أبو الوليد في فضل المقال رضي الله عنه أدام الله عزتكم، وأبقى بركتكم، وحجب عيون النوائب عنكم. لما فقتم بجودة ذهنكم وكريم طبعكم كثيراً ممن يتعاطى هذه العلوم، وانتهى نظركم السديد إلى ان وقفتم على الشك العارض في علم القديم سبحانه، مع كونه متعلقاً بالأشياء المحدثة عنه، وجب علينا لمكان الحق ولمكان ازالة هذه الشبهة عنكم ان نحل هذا الشك بعد ان نقول في تقريره. فان من لم يعرف الربط لم يقدر على الحل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 والشك يلزم هكذا: ان كانت هذه كلها في علم الله سبحانه قبل أن تكون، فهل هي في حال كونها في علمه كما كانت فيه قبل كونها؟ ام هي في علمه في حال وجودها على غير ما كانت عليه في علمه قبل أن توجد؟ فان قلنا انها في علم الله في حال وجودها على غير ما كانت عليه في علمه قبل أن توجد، لزم ان يكون العلم القديم متغيرا، وان يكون إذا خرجت من العدم إلى الوجود قد حدث هنالك علم زائد. وذلك مستحيل على العلم القديم. وان قلنا في العلم بها واحد في الحالتين، قيل فهل هي في نفسها - اعني الموجودات الحادثة - قبل ان توجد كما هي حين ما وجدت؟ فسيجب ان يقال ليست في نفسها قبل أن توجد كما هي حين ما وجدت، والا كان الموجود والمعدوم واحداً. فاذا سلم الخصم هذا، قيل له: أفليس العلم الحقيقي هو معرفو الوجود على ما هو عليه؟ فاذا قال: نعم، قيل: فيجب على هذا إذا اختلف الشيء في نفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 ان يكون العلم به ويختلف، والا فقد علم على غير ما هو عليه. فاذاً يجب احد امرين: اما أن يختلف العلم القديم في نفسه، أو تكون الحادثات غير معلومة له، وكلا الأمرين مستحيل عليه سبحانه. ويؤكد هذا الشك ما يظهر من حال الانسان، اعني من تعلق علمه بالأشياء المعدومة على تقدير الوجود وتعلق علمه بها إذا وجدت. فانه من البين بنفسه أن العلمين متغايران، والا كان جاهلاً بوجودها في الوقت الذي وجدت فيه. وليس ينجي من هذا ما جرت به عادة المتكلمين في الجواب عن هذا، بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها على ما تكون عليه في حين كونها من زمان ومكان وغير ذلك من الصفات المختصة بموجود موجود. فانه يقال لهم: فاذا وجدت، فهل حدث هنالك تغير أو لم يحدث؟ وهو خروج الشيء من العدم إلى الوجود. فان قالوا: لم يحدث فقد كابروا. وان قالوا: حدث هناك تغير، قيل لهم: فهل حدوث هذا التغير معلوم للعلم القديم ام لا؟ فيلزم الشك المتقدم. وبالجملة فيعسر أن يتصور أن العلم بالشيء قبل أن يوجد والعلم به بعد أن وجد علم واحد بعينه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 فهذا هو تقرير هذا الشك على ابلغ ما يمكن ان يقرر به، على ما فاوضناكم فيه. وحل هذا الشك يستدعي كلاماً طويلاً، الا انا ههنا نقصد للنكتة التي بها ينحل. وقد رام ابو حامد حل هذا الشك في كتابه الموسوم التهافت بشيء ليس فيه مقنع، وذلك انه قال قولاً معناه هذا: وهو انه زعم أن العلم والمعلوم من المضاف، وكما انه قد يتغير احد المضافين ولا يتغير المضاف الآخر في نفسه، كذلك يشبه أن يعرض للأشياء في علم الله سبحانه، اعني أن تتغير في انفسها ولا يتغير علمه سبحانه بها. ومثال ذلك في المضاف انه قد تكون الاسطوانة الواحدة يمنة زيد ثم تعود يسرته وزيد بعد لم يتغير في نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وليس بصادق. فان الاضافة قد تغيرت في نفسها، وذلك أن الاضافة التي كانت يمنة قد عادت يسرة، وإنما الذي لن يتغير هو موضوع الاضافة، اعني الحامل لها الذي هو زيد. واذا كان ذلك كذلك، وكان العلم هو نفس الاضافة، فقد يجب أن يتغير عند تغير المعلوم، كما تتغير الاسطوانة إلى زيد عند تغيرها، وذلك إذا عادت يسرة بعد أن كانت يمنة. والذي ينحل به هذا الشك عندنا هو أن يعرف أن الحال ني العلم القديم مع الموجود خلاف الحال في العلم المحدث مع الموجود، وذلك أن وجود الموجود هو علة وسبب لعلمنا، والعلم القديم هو علة وسبب للموجود. فلو كان، إذا وجد الموجود بعد أن لم يوجد، حدث في العلم القديم علم زائد كما يحدث ذلك في العلم المحدث، للزم ام يكون العلم القديم معلولاً للموجود لاعلة له. فاذاً واجب أن لا يحدث هنالك تغير كا يحدث في العلم المحدث. وإنما اتى هذا الغلط من قياس العلم القديم على العلم المحدث، وهو قياس الغائب على الشاهد. وقد عرف فساد هذا القياس. وكما انه لا يحدث في الفاعل تغير عند وجود مفعوله، اعني تغيراً لم يكن قبل ذلك، كذلك لا يحدث في العلم القديم سبحانه تغير عند حدوث معلومه، عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 فاذاً قد انحل الشك، ولم يلزمنا انه. إذا لم يحدث هنالك تغير اعني في العلم القديم فليس يعلم الموجود في حين حدوثه على ما هو عليه، وإنما لزم الا يعلمه بعلم محدث الا بعلم قديم، لأن حدوث التغير في العلم عند تغير الموجود إنما هو شرط في العلم المعلول عن الموجود، وهو العلم المحدث. فإذاً العلم القديم إنما يتعلق بالموجودات على صفة غير الصفة التي يتعلق بها العلم المحدث، لا انه غير متعلق أصلاً كما حكي عن الفلاسفة انهم يقولون لموضع هذا الشك انه سبحانه لا يعلم الجزئيات. وليس الأمر كما توهم عليهم، بل يرون انه لا يعلم الجزئيات بالعلم المحدث الذي من شرطه الحدوث بحدوثها، إذ كان علة لها لا معلولا عنها كالحال في العلم المحدث. وهذا هو غاية التنزيه الذي يجب أن يعترف به. فانه قد اضطر البرهان إلى انه عالم بالأشياء لأن صدورها عنه إنما هو من جهه انه عالم، لا من جهة انه موجود فقط أو موجود بصفة كذا، بل من جهة انه عالم، كما قال تعالى: " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " وقد اضطر البرهان إلى انه غير عالم بها بعلم هو على صفة العلم المحدت. فواجب أن يكون هنالك للموجودات علم آخر لا يكيف، وهو العلم القديم سبحانه. وكيف يمكن أن يتصور أن المشائين من الحكماء يرون أن العلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 القديم لا يحيط بالجزئيات، وهم يرون انه سبب الإنذار في المنامات والوحي وغير ذلك من أنواع الإلهامات؟ فهذا ما ظهر لنا في وجه حل هذا الشك، وهو أمر لا مرية فيه ولا شك. والله الموفق للصواب والمرشد للحق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77