الكتاب: عجائب المقدور في أخبار تيمور المؤلف: أبو محمد أحمد بن محمد، المعروف بابن عربشاه (المتوفى: 854هـ) الطبعة: طبعة كلكتا سنة 1817 عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- عجائب المقدور في أخبار تيمور ابن عربشاه الكتاب: عجائب المقدور في أخبار تيمور المؤلف: أبو محمد أحمد بن محمد، المعروف بابن عربشاه (المتوفى: 854هـ) الطبعة: طبعة كلكتا سنة 1817 عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف الحمد لله الذي على منوال إرادته تنسج مقاطع الأمور، ومن ينبوع قضائه إلى لجج قدره يجري تيار الأعصار والدهور أذاق بعض بني آدم بأس بعض ليبلوهم أيهم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور، وأرسل عليهم في القرن الثامن من الهجرة بحار فتن أقبلت كقطع الليل المظلم لم يدر أحد ما هي فإذا هي تمور أحمده حمد من كان على شفا جرف من نارها فأنقذه منها، وأشكره شكر من ورطه فيها عدله فأنجته أيادي فضله عنها وأشهد أن لا إله إلا الله الحكم العدل، الذي يقتص للمظلوم من الظالم يوم الفصل وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي أرسله رحمة للعالمين وجعله رسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 الله وخاتم النبيين، فأخبر صلى الله عليه وسلم عن السر المصون، ونبأ بما كان في الأزل وبما يكون إلى يوم يبعثون، واستعاذ من غلبة الدين وقهر الرجال، ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال صلى الله عليه صلاة تذكي المسك الأذفر في صدور الكتب والتواريخ، وتدني لقائلها في يوم الجزاء ثمرات الحسنات من أعلى الشماريخ وعلى آله وصحبه الذين أفاضوا سيول الفتح في الأقاليم فغمروها، وشيدوا أركان الإسلام وأثاروا الأرض بالإيمان، وعمروها بالعدل والإحسان أكثر مما عمروها وسلم تسليماً غزيراً دائماً أبداً كثيراً أما بعد فلما كان في التواريخ عبرة لمن اعتبر، وتنبيه لمن افتكر، وإعلام أن فاطن الدنيا على سفر، وإحضار لصورة حال من مضى وغبر، كيف قدر واقتدر، ونهى وأمر، وبنى وعمر، وختل وختر وغلب وقهر، وكسر وجبر، وجمع وادخر، وتكبر وفجر،، وكيف عبس وبسر، وضحك واستبشر، وتقلب في أطواره من الطفولية إلى الكبر، إلى أن قلبته أيدي العبر، واختطفته وهو آمن ما يكون مخاليب القضاء والقدر، فخالط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 ما صفا من عيشه الكدر، وتنغص حتى ذهب عنه ما حلا ومر إن في ذلك لعبرة لمن اعتبر وتذكرة لمن ادكر وتبصرة لمن استبصر وكان من أعجب القضايا بل من أعظم البلايا، الفتنة التي يحار فيها اللبيب، ويدهش في دجى حندسها الفطن الأريب ويسفه فيها الحليم، ويذل فيها العزيز ويهان الكريم قضية تيمور، رأس الفساق، الأعرج الدجال الذي أقام الفتنة شرقاً وغرباً على ساق أقبلت الدنيا الدنية عليه فتولى وسعى في الأرض فأفسد فيها وأهلك الحرث والنسل وتيمم حين عمته النجاسة الحكمية صعيد الأرض، فغسل بسيف الطغيان كل أغر محجل فتحققت نجاسته بهذا الغسل أردت أن أذكر ما رأيته، وأقص في ذلك ما رويته إذ كانت إحدى الكبر وأم العبر والداهية التي لا يرضى القضاء في وصفها بذا القدر والله أسأل إلهام الصدق وسلوك طريق الحق إنه ولي الإجابة ومسدد سهم المرام إلى غرض الإصابة وهو حسبي ونعم الوكيل فصل في ذكر نسبه وتدريج استيلائه على الممالك وسببه اسمه تيمور بتاء مكسورة مثناة فوق وياء ساكنة مثناة تحت وواو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 ساكنة بين ميم مضمومة وراء مهملة هذه طريقة إملائه وفي التصريف زنة بنائه، لكن كرة الألفاظ الأعجمية إذا تداولها صولجان اللغة العربية خرطها في الدوران على بناء أوزانها، ودحرجها كيف شاء في ميدان لسانها، فقالوا في هذا تارة " تمور " وأخرى " تمرلنك " ولم يجر عليهم في ذلك حرج ولا ضنك وهو بالتركي الحديد ابن ترغاي بن أبغاي ومسقط رأس ذلك الغدار قرية تسمى خواجة إيلغار وهي من أعمال كش فأبعدها الله من حش وكش مدينة من مدن ما وراء النهر عن سمرقند بنحو من ثلث عشر شهر قيل رؤى ليلة ولد كأن شيئاً شبيه الخوذة تراءى طائراً في عنان الجو ثم سقط إلى فناء الدو ثم انبث على الأرض وانتشر وتطاير منه مثل الجمر والشرر، وتراكم حتى ملأ البدو والحضر وقيل لما سقط إلى الأرض ذلك السقيط كانت كفاه مملوءتين من الدم العبيط فسألوا عن أحواله الزواجر والقافة وتفحصوا عن تأويل ذلك من الكهنة وأهل العيافة فقال بعضهم يكون شرطياً وقال بعض ينشأ لصاً حرامياً، وقال قوم بل يكون قصاباً سفاكاً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وقال آخرون بل يصير جلاداً بتاكاً وتظافرت هذه الأقوال، إلى أن آل أمره إلى ما آل، وكان هو وأبوه من الفدادين ومن طائفة أوشاب لا عقل لهم ولا دين، وقيل كان من الحشم الرحالة والأوباش البطالة، وكان ما وراء النهر مأواهم، وتلك الضواحي مشتاهم، وقيل كان أبوه إسكافاً فقيراً جداً، وكان هو شاباً حديداً جلداً، ولكنه لما كان به من القلة يتجرم، وبسببه تلك الأصرام تتضرر وتتضرم ففي بعض الليالي سرق غنمة واحتملها فضربه الراعي في كتفه بسهم فأبطلها، وثنى عليه بأخرى في فخذه فأخطلها، فازداد كسراً على فقره، ولؤماً على شره، ورغبة في الفساد، وحنقاً على العباد والبلاد، وطلب له في ذلك الأضراب والنظراء، وعشا عن ذكر الرحمن فقيض له من الشياطين القرناء، مثل عباس وجاهنشعاه، وقماري وسليمان شاه، وأيدكو تيمور وجاكو وسيف الدين، نحو أربعين لا دنيا لهم ولا دين، وكان مع ضيق يده وقلة عدده وعدده، وضعف بدنه وحاله وعدم ماله ورجاله يذكر لهم أنه طالب الملك ومورد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 ملوك الدنيا موارد الهلك، وهم في ذلك يتناقلون عنه هذا النقل وينسبونه إلى كثرة الحماقة وقلة العقل، ويدنونه منهم ويقبلون إليه ليسخروا منه ويضحكوا عليه إن المقادير إذا ساعدت ... ألحقت العاجز بالحازم فشرع فيما يقصده والقضاء يرشده والقدر ينشده لا يؤيسنك من مجد تباعده ... فإن للمجد تدريجاً وترتيباً إن القناة التي شاهدت رفعتها ... تنمو فتنبت أنبوباً فأنبوبا وكان في بلد كش شيخ يسمى شمس الدين الفاخوري، وهو معتقد تلك البلاد وعليه لكل من قصد شيئاً من أمر الدين والدنيا والاعتماد، فذكر أن تيمور وهو فقير عاجز بين عز موهوم وذل ناجز، لم يكن له سمى ثوب قطن وأنه باعه واشترى بثمنه رأس ماعز وقصد الشيخ المشار إليه وعول فيما قصده عليه، وقد ربط بطرف حبل عنق ذلك العناق وربق عنق نفسه بالطرف الآخر من ذلك الرباق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وجعل يتشحط على عصى من جريد حتى دخل على ذلك الشيخ المفيد فصادفه هو والفقراء مشغولين بالذكر مستغرقين فيما هم فيه من الوجد والفكر، فلا زال قائماً حتى أفاقوا من حالهم وسكتوا عن قالهم فلما وقع نظر الشيخ عليه سارع إلى تقبيل يديه، وأكب على رجليه، فتفكر الشيخ ساعة، ثم رفع رأسه إلى الجماعة وقال كأن هذا الرجل بذل عرضه وعروضه واستمدنا في طلب مالا يساوي عند الله تعالى جناح بعوضة، فنرى أن نمده ولا نحرمه ولا نرده فأمدوه بالدعاء إسعافاً لما طلبه فأشبهت قصته قضية ثعلبة ورجع من عند الشيخ وخرج، وعرج بعدما عرج إلى ما عرج وقيل إنه كان في بعض تجرماته فضل الطريق صورة، كما ضلها معنى وسيرة، وكاد يهلك عطشاً وجوعاً، وسار على ذلك أسبوعاً فوقع في أثناء ذلك على خيل السلطان فتلقاه الجشاري باللطف والإحسان وكان تيمور ممن يعرف خصائص الخيل بسماتها ويفرق بين هجانها وهجينها بمجرد النظر إلى هيآتها، فأطلع الجشاري على ذلك منه وأخذ علم ذلك عنه وزاد فيه رغبة، وطلب منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 دوام الصحبة وجهزه إلى السلطان مع أفراس له طلبها منه وأخبره بفضيلته وما شاهده عنه فأنعم السلطان عليه ووصى به الجشاري ورده إليه، فلم ينشب الجشاري أن مات فتولى تيمور وظيفته ولا يزال يترقى عند السلطان حتى تزوج شقيقته ثم أن غاضبها في بعض مكافحاته ومقاله فعيرته بما كان عليه من أول أمره وحاله فسل السيف ونحاها على أنها تفر من بين يديه فلم تكترث به ولم تلتفت إليه فضربها ضربة أزهق بها نفسها وأسكنها رمسها ثم لم يسعه إلا الخروج والعصيان والتمرد والطغيان إلى أن كان من أمره ما كان وكان السلطان اسمه حسين، وهو من بيت الملك ونافذ الكلمتين، وتخت ملكه مدينة بلخ وهي من أقصى بلاد خراسان، ولكن كانت بحار أوامره جارية في ممالك ما وراء النهر إلى أطراف تركستان وقيل كان أبوه أمير مائة عند السلطان المذكور، وهو بالجلادة والشهامة بين أضرابه مشهور ويمكن الجمع بين هذه الأقاويل باعتبار اختلاف الزمان وتنقل الأحوال والحدثان والأصح أن أباه ترغاي المذكور كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 أحد أركان دولة السلطان ورأيت في ذلك تاريخ فارسي يدعى " المنتخب " وهو من بدء الدنيا إلى زمان تيمور وهو شيء عجب، نسباً يتصل منه تيمور إلى جنكيز خان من جهة النساء حبائل الشيطان ولما استولى تيمور على ما وراء النهر وفاق الأقران، تزوج بنات الملوك فزادوه في ألقابه كوركان، وهو بلغة الموغول الختن لكونه صاهر الملوك وصار له في بيتهم حركة وسكن وكان للسلطان المذكور من الوزراء أربعة عليهم مدار المضرة والمنفعة هم أعيان الممالك، وبرأيهم يقتدي السالك والترك لهم قبائل وشعب، تكاد توازي قبائل العرب، وكل واحد من هؤلاء الوزراء كان من قبيلة لسراج آرائه في بيوت تعميرها فتيلة طويلة، قبيلة أحدهم تسمى ارلات، وقبيلة الثاني تدعى جلائر، وقبيلة الثالث يقال لها قاوجين، وقبيلة الرابع اسمها برلاس، وكان تيمور ابن رابعهم في الناس فنشأ شاباً لبيباً، مصراعاً هماماً حازماً؟ جلداً أريباً، وكان يصاحب نظراءه من أولاد الوزراء ويعاشر أضرابه من فتيان الأمراء، إلى أن قال لهم في بعض الليالي وقد اجتمعوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 في مكان خال وأخذت منهم العشرة والنشاط وارتفعت أستار الأسرار وامتد للبسط بساط أن جدتي فلانة وكانت من ذوي العيافة والكهانة رأت مناماً ما ذاقت منه أحلاماً وعبرته بأنه يظهر لها من الأولاد والأحفاد من يدوخ البلاد ويملك العباد ويكون صاحب القران ويذل له ملوك الزمان، وذاك هو أنا وقد قرب الوقت ودنا، فعاهدوني أن تكونوا لي ظهراً وعضداً وجناحاً ويداً وأن لا تستحيلوا عني أبداً، فأجابوه إلى ما دعاهم إليه وتقاسموا أن يكونوا في السراء والضراء معه لا عليه، ولم يزالوا يتجاذبون أطراف هذا الكلام في كل مقام ويتفاوضون فيض غدير هذا الغدر من غير احتشام واكتتام حتى آنس برقه قاطن كل مصر وشام وخاض في حديثه كل قديم هجره من خاص وعام وشعر به السلطان وعلم أن خلافه في دوح المملكة بان فأراد أن يرد كيده في نحره ويريح الدنيا من شره والعباد والبلاد من عاره وعره ويعمل بموجب ما قيل لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 فأخبره بذلك بعض الناصحين فخرج وهوى إلى حضيض العصيان وهو سالم فعرج ويمكن أنه في بعض هذه الأوقات وأثناء هذه الحالات توجه إلى الشيخ شمس الدين المشار إليه واستمده كما ذكر فيما عول عليه فإنه كان يقول جميع ما نلته من السلطنة وفتحته من مستغلقات الأمكنة، إنما كان بدعوة الشيخ شمس الدين الفاخوري وهمة الشيخ زين الدين الخوافي، وما لقيت بركة إلا بالسيد بركة وسيأتي ذكر زين الدين وبركة ثم قال تيمور ما فتحت أبواب السعادة والدولة علي ولا ضحكت عروس فتوحات الدنيا إلا من سهام سجستان ومن حين أصابني ذلك النقصان أنا في ازدياد إلى هذا الأوان والظاهر أن بدو أمره وخروجه في تلك الفئة كان فيما بين الستين والسبعين والسبعمائة وقال لي شيخي الإمام العالم العامل الكامل المكمل الفاضل فريد الدهر وحيد العصر علامة الورى أستاذ الدنيا علاء الدين شيخ المحققين والمدققين قطب الزمان مرشد الدوران أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد البخاري نزيل دمشق أدام الله تعالى أيام حياته، وأمد الإسلام والمسلمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 ن بميامن بركاته في شهور سنة ست وثلاثين وثمانمائة أن تيمور قتل السلطان حسيناً المذكور في شعبان سنة إحدى وسبعين سبعمائة ومن ذلك الوقت استقل بالملك وكانت وفاته في شعبان سنة سبع وثمانمائة على ما سيأتي فمدة استيلائه مستقلاً ست وثلاثون سنة وذلك خارجاً عن مدة خروجه وتجرمه إلى حين استيلائه ولما خرج صار هو ورفقاؤه، يتجرمون في بلاد ما وراء النهر ويعاملون الناس بالعدوان والقهر فتحرك لدفعهم كل ظاعن وساكن وضيقوا عليهم تلك المغاني والأماكن فقطعوا جيحون وصفر منهم ذلك المكان فاشتغلوا بالتجرم في بلاد خراسان، خصوصاً في ضواحي سجستان ولا تسأل عما أفسد في فدافد خراسان ومفاوز باورد وماخان فذهب بعض الليالي وقد أضر بهم السغب واشتعل فيهم من الجوع اللهب فدخل حائطاً من حوائط سجستان قد أوى إليه بعض رعاء الضأن، فاحتمل منها رأساً وأدبر فشعر به الراعي وأبصر فأتبعه للحين للحين وضربه بسهمين أصاب بأحدهما فخذه وبالآخر كتفه فلله دره ساعدا إذ أبطل بهذا الضرب الموزون نصفه ثم أدركه واحتمله، وإلى سلطان هراة المسمى بملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 حسين أوصله فبعد ضربه أمر بصلبه، وكان للسلطان ابن رأيه غير متين يدعى ملك غياث الدين، فشفع فيه واستوهبه من أبيه فقال له أبوه إنه لم يصدر عنك ما يدل على صلاحك ويسفر عن نجابتك وفلاحك، وهذا جغتائي حرامي مادة الفساد لئن أبقى ليهلكن العباد والبلاد فقال ابنه وما عسى أن يصدر من نصف آدمي وقد أصيب بالدواهي ورمى، ولا شك أن أجله قد اقترب فلا تكونن في موته السبب، فوهبه إياه فوكل به من داواه إلى أن اندمل جرحه وبرئ قرحه، فكان في خدمة ابن سلطان هراة من أعقل الخدم وأضبط الكفاة، فتوفرت عنده حرمته وارتفعت درجته وسمعت كلمته، فعصى من نواب السلطان نائبه المتولي على سجستان، فاستدعى تيمور أن يتوجه إليه فأجابه إلى ذلك وعول عليه وأضاف إليه طائفة من الأعوان، فوصل إلى سجستان وقبض على نائبها المتمادي في العصيان واستخلص أموال تلك البلاد، وأخذ من أطاعه من الأجناد، وتلا آية العصيان بالجهر، وارتحل بمن معه إلى ما وراء النهر وقيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 بل كان في خدمة ابن السلطان إلى أن ودع أبوه الحياة وانتقل، واستقر ولده في الملك واستقل فعند ذلك هرب تيمور إلى ما وراء النهر وقد قوي منه الرأس والظهر وكان إذ ذاك قد اجتمع عليه رفقاؤه وانحاز إليه أصحابه المتجرمون وعشراؤه فأرسل غياث الدين الطلب وراءهم وقصد أن يكفي المسلمين شرهم وعناءهم وهيهات فقد كان سبق العذل السيف وضيع اللبن في الصيف ذكر عبوره جيحون على فترة وما أجرى من عبرات بهذه العبرة فوصل تيمور وجماعته إلى جيحون وكان إذ ذاك مثلهم طاغياً ولم يمكنهم التواني لأن الطلب كان شبيههم باغياً فقال تيمور لأصحابه النجاء النجاء ليتعلق كل منكم بعنان فرسه ومعرفته وليلق نفسه في الماء وتواعدوا إلى مكان، وقال توجهوا من غير توان فمن لم يأت الموعد يعلم أنه قد فقد فتهافتوا هم وخيولهم في ذلك الماء العجاج والتيار الزخار والأمواج تهافت الفراش على السراج ولم يعلم واحد منهم حال الآخر، ولا اطلع من تقدم منهم على أمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 من تأخر، وكابدوا أحوال الموت وشاهدوا أهوال الفوت، فنجوا ولم ينقص منهم واحد، واجتمعوا إلى ذلك الموعد، وذلك بعد أن أمنت منهم البلاد، واطمأن في مسالكها كل رائح وغاد، فجعلوا يتجسسون الأخبار، ويتتبعون الآثار، ويحاربون الله ورسوله، ويؤذون عباده ويقطعون سبيله، ولم يزل على ذلك يجري ويمشي إلى أن وصل مدينة قرشي ذكر ما جرى من خبطه في دخوله إلى قرشي وخلاصه من تلك الورطة فقال يوماً لأصحابه، وقد أضر به الدهر وأضرى به، وأخصب منهم ربع الفساد وأعشب أن بالقرب منا مدينة نخشب مدينة أبي تراب النخشبي رحمة الله عليه، مدينة مصونة، مسورة مكنونة لئن ظفرنا بها لتكونن لنا ظهراً وملاذاً وملجأ ومعاذا، وإن حاكمها موسى لو حصلناه وأخذنا ماله وقتلناه، لتقوينا بما له من خيول وعدة، ولحصل لنا الفرج بعد الشدة، وأنا أعلم لها من ممر الماء درباً هين الوصول واسعاً رحباً فشمروا ذيلهم وتركوا في مكان خيلهم واستعملوا في نيل مرادهم ليلهم ودخلوا حبس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 المدينة وقصدوا بيت الأمير، ورفعوا أيديهم فصادفوا يدهم والحصير وكان الأمير في البستان خارج البلد، فأخذوا ما وجدوا له من أسلحة وعدد وركبوا خيله، وقتلوا من وجدوا من الأكابر غيلة، فاجتمع عليهم أهل البلد وأرسلوا إلى الأمير فأدركهم بالمدد، فتراكم عليهم البلاء باطناً وظاهراً فلم يجدوا لهم سوى الاستسلام ناصرا فقال له أصحابه لقد ألقينا بأنفسنا إلى حقيقة الهلاك من هذا المجاز فقال لا عليكم ففي مثل هذه المواطن يمتحن الرجل ويراز، فأجمعوا كيدكم ثم إئتوا صفاً واندفعوا نحو باب المدينة يداً واحدة زحفاً، حاطمين على العدو، من غير توان ولا هدو، فإني أظن أنه لا يثبت لكم شيء، ولا يقف أمامكم حي، فامتثلوا أمره ورفعوا الصوت، وقصدوا الباب خائضين غمار الموت، وهجموا على العساكر هجوم الليث واندفقوا ولا اندفاق الغيث، ففتح لهم عند فتح الباب، لأمر يريده مسبب الأسباب فلم يلو أمامهم أحد على أحد ولا نفعه ما هو فيه من العدد والعدد ثم انثنوا إلى مكانهم سالمين ولم يزالوا على ذلك عائثين عابثين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 واجتمع عليهم أصحابهم، وانحاز إليهم في الفساد أضرابهم، فصاروا نحو من ثلاثمائة، ولمن يتحيز إليهم من أهل الشر فئة فأرسل السلطان إليهم عسكراً غير مكترث بهم فكسروه، واستولوا على حصن من الحصون فجعلوه معقلاً لكل ما ادخروه قلت لا تحقرن شأن العدو وكيده ... فلربما صرع الأسود الثعلب وقيل إن البعوضة تدمي مقلة الأسد وقيل ولربما قمرت بالبيدق الشاه ذكر من استرقه ذلك الجاف واستعبده من أحرار ملوك الأطراف وأرسل تيمور إلى ولاة بلخشان، وكانت الولاية بها لأخوين وهما بها مستقلان تلقيا ذلك عن أبيهما وكان السلطان نزعها من أيديهما ثم أقرهما فيه على أن يكونا من تحت أمره، واسترهن أولادهما عنده، فصارا أسيري قهره، فلما راسلهما تيمور على طاعته أجاباه ودخلا تحت كلمته ذكر نهوض المغل على السلطان وكيف تضعضعت منه الأركان ثم إن الموغول نهضت من جهة " الشرق " على السلطان حسن فاستعد لهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وقطع جيحون، ووقع الحرب بين الجهتين، فانكسر السلطان فراسلهم أيضاً ذلك الجان واسم حاكمهم قمر الدين خان فأجابوه مراده واقتفوا ما أراده وسلطوه على السلطان ليستخلص من يده البلاد وواعدوه بمصاهرتهم وأمدوه بمظاهرتهم ورجعوا إلى بلادهم وقد أسلموه زمام قيادهم، فقويت بذلك شوكته وسكنت القلوب هيبته فلم يسع السلطان إلى بذل الجهد والامكان في إطفاء ثائرته وقطع دابرته فجعله نصب عينيه وتوجه بنفسه إليه، بعسكر جرار كالبحر الزخار حتى انتهى إلى مكان يسمى قاغلغا وهو صدفان بينهما مضيق هو الجادة العظمى والطريق، يسير المار في ذلك مقدار ساعة وفي وسط الدرب باب إذا أغلق وأحمى فلا شيء مثله في المناعة، وحواليه جبال كل منها عرنينه قد شمخ وقدمه قد غاص ثبوتاً ورسخ فصح أن يقال فيه أنف في السماء واست في الماء فأخذ العسكر فم ذلك الدربند من جهة سمرقند وتيمور على الجانب الآخر وهو كالمضايق والمحاصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 ذكر الحيلة التي صنعها والخديعة التي ابتدعها فقال تيمور لأصحابه إني أعرف هنا جادة خفية مسالكها أبية لا تطؤها الخطا ولا يهتدي إليها القطا، فهلم نسري ليلنا ونقود في المسرى خيلنا فنصبحهم من ورائهم وهم آمنون، فإن أدركناهم ليلاً فنحن الفائزون فأجابوه إلى ذلك وشرعوا في قطع تلك الوعور والمسالك، وساروا ليلهم أجمع وبلغ الفجر المطلع فأدركهم الصباح ولم يدركوا الجيش، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت وتنكد لهم العيش ولم يمكنهم الرجوع وأذنت الشمس بالطلوع، فوصلوا إلى العسكر وقد أخذ في التحميل وعزم على الرحيل فقال أصحابه بئس الرأي فعلنا في قبضة العدو حصلنا، لقد وقعنا في الأشراك وألقينا بأيدينا أنفسنا إلى الهلاك فقال تيمور لا ضرر، توجهوا نحو العسكر وانزلوا بمرأى منهم على خيلكم واتركوها ترعى، واقضوا من ورد النوم والراحة ما فاتكم في ليلكم، فتراموا عن خيلهم كأنهم صرعى وتركوا خيولهم ترعى وإذا السلامة أحرستك عيونها ... نم في المخاوف كلهن أمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 واصطد بها العنقاء فهي حبائل ... واقتد بها الجوزاء فهي عنان فجعل العسكر يمر بهم ويخال أنه منم حزبهم حتى إذا استراحوا ركبوا خيولهم وصاحوا ووضعوا السيف في أعدائهم راكبين أكتافهم من ورائهم، فقتلوهم قتلاً ذريعاً وغادروهم جريحاً وصريعاً، وعم الخطب المدلهم ولم يعلم أحد البلاء كيف دهم واتصل الخبر بالسلطان وقد خرج التلافي عن حيز الإمكان، فهرب إلى بلخ وقد سلخ من المملكة إي سلخ وشرع تيمور في النهب والغارات والسلب ثم ضبط الأثقال وجمع الأموال ولم رعاع الناس والمداره وأطاعوه وهم ما بين راض وكاره واستولى على ممالك ما وراء النهر وتسلط على العباد بالغلبة والقهر، وأخذ في ترتيب الجنود والعساكر واستخلاص الحصون والدساكر وكان نائب سمرقند وأحد الأركان شخصاً يدعى علي شير من جهة السلطان، فكاتبه تيمور على أن تكون الممالك بينهما نصفين ويكون معه على السلطان حسين فرضي علي شير بذلك وقاسمه الولايات والممالك، وتوجه إليه وتمثل بين يديه، فزاد في إكرامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وبالغ في احترامه ذكر توجهه إلى بلخشان واستنصاره بمن فيها على السلطان ثم إنه ترك على شير بعدما ركن إليه وقصد بلخشان، فاستقبله ملكاها وتمثلا بين يديه وأتحفاه بالهدايا والخدم وأمداه بالجيوش والحشم، فسار وهما معه من بلخشان قاصدين بلخ لمحاربة السلطان، فتحصن منهم، فأحاطوا به من كل مكان، فأخرج أولادهما الذين كانوا عنده في الرهان فضرب أعناقهم بمرأى من أبويهم، ولم يرق لهم ولا من عليهم ثم إنه ضعف حاله وقل عنه خيله ورجاله، فنزل مستسلماً للقضاء والقدر راضياً بما ذهب في قضاء الله بما حلا ومر، فقبض عليه تيمور وضبط الأمور ثم رد أميري بلخشان إليها مكرمين وتوجه إلى سمرقند ومعه السلطان حسين وذلك في شعبان سنة إحدى وسبعين، بعدما خلا من الهجرة سبعمائة سنين ووصل إلى سمرقند واتخذها دار ملكه، وشرع في تمهيد قواعد الملك ونظمها في نطام سياسته وسلكه، ثم إنه قتل السلطان وأقام من جهته شخصاً يدعى سيورغاتمش من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 ذرية جنكيز خان وقبيلة جنكيز خان هم المتفردون باسم الخان والسلطان لأنهم قريش الترك، لا يقدر أحد أن يتقدم عليهم ولا تمكن أحد من انتزاع ذلك الشرف من يديهم ولو قدر أحد على ذلك لكان تيمور الذي استخلص الممالك وسلك المسالك فرفع سيورغاتمش دفعاً للمطاعن وقطعاً للسان سنا كل طاعن وإنما لقب تيمور الأمير الكبير، وإن كان في أسره كل آمر منهم ومأمور والخان في أسره كالحمار في الطين وشبيه الخلفاء بالنسبة في هذا الزمان إلى السلاطين واستمر علي شير نائباً في سمرقند فكان يكرمه ويستشيره في أموره ويقدمه ذكر وثوب توقتاميش خان سلطان الدشت وتركستان ثم إن توقتاميش خان سلطان الدشت والتتار لما رأى ما جرى بين تيمور والسلطان حسين فار دم قلبه وغار، وذلك لعله النسب والجوار وهيأ العسكر الجرار والجيش الزخار وتوجه إلى مصاف تيمور من جهة سغناق وانزار، فخرج إليه تيمور من سمرقند، وتلاقيا بأطراف تركستان قريباً من نهر خجند وهو نهر سيحون وسمرقند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 بين نهري سيحون وجيحون فقامت بين العسكرين سوق المحاربة ولم ينفق بينهم سوى معاملات المضاربة، ولا زالت رحى الحرب تدور إلى أن انطحن عسكر تيمور، فبينا عسكره قد فل وعقد جنوده انحل وإذا برجل يقال له السيد بركة قد أقبل فقال له تيمور وهو في غاية الضرر يا سيدي السيد جيشي انكسر، فقال له السيد لا تخف ثم نزل السيد عن فرسه ووقف وأخذ كفا من الحصباء وركب فرسه الشهباء ونفخها في وجه عدوهم المردي وصاح بقوله " ياغي قاجدي " فصرخ بها تيمور تابعاً ذلك الشيخ النجدي وكان عباسي الصوت فكأنه دعى الإبل الظمأى بجوت جوت فعطفت عساكره عطفة البقر على أولادها، وأخذت في المجالدة مع أضدادها وأندادها ولم يبق في عسكره من جذع ولا قارح إلا وهو بقوله " ياغي قاجدي " صائح، ثم إنهم كروا كرة واحدة بهمة متعاقدة ونهمة متعاضدة فرجع جيش توقتاميش منهزمين وولوا على أعقابهم مدبرين، فوضع عسكر تيمور فيهم السيوف وسقوهم بهذا الفتوح كاسات الحتوف وغنموا الأموال والمواشي وأسروا أوساط الرؤوس والحواشي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 ثم رجع تيمور إلى سمرقند وقد ضبط أمور تركستان وبلاد نهر خجند وعظم لديه السيد بركة وحكمه في جميع ما استولى عليه وملكه وهذا السيد اختلف القول فيه فمن قائل إنه كان مغربياً بمصر حجاما فذهب إلى سمرقند وتسيد بها وعلا قدره وتسامى، ومن قائل أنه كان من أهل المدينة الشريفة، ومنهم من يقول إنه من أهل مكة المنيفة، وعلى كل حال فإنه كان من أكبر الأعيان في بلاد ما وراء النهر وخراسان، ولا سيما وقد أمد تيمور بهذه النجدة وخلصه بهذه اللطيفة المصادفة للقضاء والقدر في هذه الشدة، فقال تيمور تمن علي واحتكم لدي، فقال له يا مولانا الأمير إن أوقاف الحرمين الشريفين في الأقاليم كثير ومن جملة ذلك " اندخوى " من ممالك خراسان، وأنا وأولادي من جملة مستحقي ذلك الإحسان وإذا أقيم أصل ذلك وخصمه وعلم قضمه وخضمه وضبطت أوقافه ومصارف ذلك وصرافه، ما كانت حصتي وحصة أولادي أقل من هذه القصبة في هذا الوادي فاقطعني إياها، فأقطعه إياها مع مضافاتها وأعمالها وقراها، وهي إلى الآن في يد أولاده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وأسباطه وأحفاده ذكر علي شير مع تيمور وما وقع بينهما من المخالفة والشرور ثم إن تيمور وقع بينه وبين علي شير مخالفة، وانحاز إلى كل منهما طائفة فاغتاله تيمور وختله، ثم قبض عليه وقتله، فصفت الولايات والممالك لتيمور بعض الصفا، وهرول إلى طاعته من الناس كل وجه ورأس كانافي التأبي وقفا ذكر ما جرى لدعار سمرقند والشطار مع تيمور وكيف أحلهم دار البوار وكان في سمرقند طائفة من الدعار كثيرون وهم أنواع، فمنهم مصارعون ومنافقون وملاكمون ومعالجون، وهم فيها بينهم فرقتان كالقيس واليمن والعداوة والمقاتلة بينهم قائمة على مر الزمن، ولكل طائفة منها رؤس وظهور وأعضا وضروس وكان تيمور مع أبهته يخافهم لما كان يظهر له عنادهم وخلافهم فكان إذا قصد جانبا أقام له في سمرقند نائبا فإذا بعد عن المدينة خرج من تلك الجماعة طائفة فخلعوا النائب أو خرجوا مع النائب وأظهروا المخالفة فما يرجع تيمور إلا وقد انفرط نظامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وتخبطت أموره وتشوش مقامه فيحتاج إلى تجديد تمهيد وتخريب وتشييد فيقتل ويعزل ويعطي ويجزل ثم يتوجه لتمهيد ممالكه وتوطيد مسالكه فيعودون إلى عكرهم ويثوبون إلى خلتهم ومكرهم، وتكررت هذه القضية نحواً من تسع مرار فضاق تيمور ذرعاً بالأشرار والدعار فأعمل الحيلة في اغتيالهم، وكف أذاهم واستئصالهم، فصنع سورا ودعا إليه الخلائق كبيرا وصغيرا وصنف الناس أصنافاً، وجعل كل ذي عمل إلى عامله مضافا وميز أولئك الدعار مع رؤسائهم على حدة، وفعل معهم ما فعله أنوشروان بن كيقباد بالملاحدة، وأرصد له في أحد الأطراف أنصارا وقرر معهم أن كل من أرسله إليهم يولونه دمارا، ويكون إرساله إليهم على قتله شعارا، ثم إنه جعل يدعو رؤس الناس ويسقيهم بيده الكاس ويخلع عليهم أفخر اللباس، وإذا أفضت النوبة من أولئك الدعار إلى أحد سقاه كأسه وخلع عليه وأشار أن يتوجه به إلى نحو الرصد، فإذا وصل إليهم خلعوا عنه خلعته بل وثوب الحياة فهتكوه وسكبوا عسجد قالبه في بوتقة الفناء فسبكوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 إلى أن أتى على آخرهم واستوفى بذلك قطع دابرهم، ومحا آثارهم، وأطفأ نارهم، فصفت له المشارع وخلا ملكه من مجاذب ومنازع ولم يبق له فيما وراء النهر ممانع ولا مدافع فصل في تفصيل ممالك سمرقند وما بين نهري بلخشان وخجند فمن ذلك سمرقند وولاياتها وهي سبعة تومانات واندكان وجهاتها وهي تسعة تومانات والتومان عبارة عما يخرج عشرة آلاف مقاتل وفيما وراء النهر من المدن المشهورة والأماكن المعتبرة المذكورة سمرقند ومسورها قديماً على ما زعموا اثنا عشر فرسخاً وكان ذلك على عهد السلطان جلال الدين قبل جنكيز خان ورأيت حد مسورها من جهة الغرب قصبة بناها تيمور وسماها دمشق ومسافتها عن سمرقند نحو من نصف يوم والناس إلى الآن يحفرون سمرقند العتيقة ويخرجون دراهم وفلوساً سكتها بالخط الكوفي فيسبكون الفلوس ويخرجون منها فضة ومن مدن ما وراء النهر مرغينان وهي التخت التي كانت قديما وبها كان إيلك حان ومنها خرج الشيخ الجليل العلامة برهان الدين المرغيناني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 صاحب الهداية رحمه الله، وخنجند وهي على ساحل سيحون، وترمذ وهي على ساحل جيحون ونخشب وهي قرشي المذكورة، وكش، وبخارى وأندكان وهي أماكن مشهورة وغير ذلك ومن الولايات بلخشان، وممالك خوارزم، وإقليم صغانيان، إلى غير ذلك من الأطراف الواسعة والأكناف الشاسعة وفي عرفهم ما وراء النهر إلى جهة الشرق توران وما كان في هذا الطرف إلى جهة الغرب إيران ولما اقتسم كيكاوس وافراسياب البلاد كانت توران لافراسياب، وإيران لكيكاوس بن كيقباد، وعراق هو معرب إيران فصل في " ذكر ابتداء ما فعله من التسلط بالقهر بعد استصفائه ممالك ما وراء النهر ولما صفت له ممالك ما وراء النهر وذلت لأوامره جوامح الدهر، شرع في استخلاص البلاد واسترقاق العباد وجعل ينسج بأنامل الحيل الأشراك، والأوهاق، ليصطاد بذلك ملوك الأقاليم وسلاطين الآفاق فأول من صاهر المغول وصافاهم وهادنهم وهاداهم وتزوج ببنت قمر الدين ملكهم، وصار آمناً من تبعتهم ودركهم، وهم جيرانه من جهة الشرق ولا تباين بينه وبينهم ولا فرق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 إذ العلة وهي الجنسية والمصاهرة والمجاورة حاصلة للجهتين، والملة هي التوراة الجنكيز خانية ممشاة في كلتا الدولتين، فأمن شرهم وكفي كيدهم وضرهم ذكر تصميمه العزم وقصده جمع الأطراف وأولاً ممالك خوارزم فحين أمن مكرهم وسد بالمصالحة ثغرهم صمم العزم على التوجه إلى ممالك خوارزم وهم مجاوره غرباً بشام ومباينوه بتمشية قواعد الإسلام وتختهم مدينة جرجان وهي من أعظم البلدان وهذه المملكة ذات مدن عظيمة وولايات جسيمة، تختها مجمع الفضلاء ومحط رحال العلماء ومقر الظرفاء والشعراء ومورد الأدباء والكبراء ومعدن جبال الاعتزال وينبوع بحار أهل التحقيق من أرباب الهدى والضلال، نعمها كثيرة وخيراتها غزيرة، ووجوه فضائلها مستنيرة، واسم سلطانها حسين صوفي وهو من الاعتقادات الباطلة قد عوفي، ومدن ما وراء النهر وضع بعضها قريب من بعض لأنها كلها مبنية باللبن والآجر على الأرض وأهل خوارزم كأهل سمرقند في اللطافة وأفضل من أهل سمرقند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 في الحشمة والظرافة يتعانون المشاعرة والأدب، ولهم في فنون الفضل، والمحاسن أشياء عجب، خصوصاً في معرفة الموسيقى والأنغام، ويشترك في ذلك منهم الخاص والعام، ومما هو مشهور عنهم أن الطفل في المهد منهم إذا بكى أو قال آه فإن ذلك يكون في شعبة دوكاه فلما وصل تيمور إلى خوارزم كان حسين صوفي غائباً عنها، فنهب حواليها وما وصلت يده إليه منها ولم يقدر عليها، فلم يكترث بها ولا التفت إليها، ثم لم أطراف حاشيته وعاد إلى مملكته ذكر عوده ثانياً إلى خوارزم ثم إنه شد حزام الحزم وكر ثانياً إلى خوارزم باستعداد تام وجيش طام وكان سلطانها أيضاً غائبا وأقام لجميلة بكرها خاطبا، فحاصرها وضاجرها وشدد على أعناق مسالكها التلابيب وكاد أن يتشبث بأذيالها منه المخاليب فخرج إليه رجل من أعيانها وكان تاجرا وله قدم صدق عند سلطانها يقال له حسن سوريج، والتمس أن يرفع عنهم ذلك الأمر المريج وأن يبذل له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ما طلب في مقابلة ما يريد من أسر وسلب فطلب منه حمل مائتي بغل فضة، ترفع إلى خزائنه نضة فلم يزل يراجعه ويلاطفه ويمانعه حتى صالحه على ربع سؤاله وأقام المصالح بذلك من ماله وصلب حاله، ووزن له ذلك في الحال وأخذ تيمور في الترحال وكف عن الأذى شياطين جنده وعزم على التوجه إلى سمرقنده ذكر مراسلته ملك غياث الدين سلطان هراة الذي خلصه من الصلب وراود فيه أباه ثم إنه راسل سلطان هراة ملك غياث الدين الذي كان مغيثه عملاً بقوله كتب الله على كل نفس خبيثة وطلب منه الدخول في ربقة الطاعة وحمل الخدم والتقادم إليه بحسب الاستطاعة وإلا قصد دياره وبلغه دماره فأرسل ملك غياث الدين يقول صحبة الرسول أما كنت خادماً لي وأحسنت إليك وأسبلت ذيل إحساني ونعمتي عليك؟ فختلت وقتلت وفتكت وفتلت وفعلت فعلتك التي فعلت، وذلك بعد أن نجيتك من الضرب والصلب، فإن لم تكن إنساناً تعرف الإحسان فكن كالكلب فعبر جيحون وتوجه إليه فلم يكن لغياث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الدين قوة الوقوف بين يديه، فأرسل إلى حشمه وسكان قراه فاجتمعوا هم ومواشيهم حول هراة وحفر خندقاً حول البساتين، محيطاً بالرعاع وضعفة المساكين، وحصر نفسه في القلعة، وحسب أن يكون له بذلك منعة، وذلك لركاكة رأيه أولا وآخراً وجمود قريحته وقلة عقله وانعكاس فكره ودولته قلت من لم يصادف سعده تقديره ... يخطفه في تدبيره تدميره فلم يكترث تيمور له بقتال وحصار، ولكن أحاطت به العساكر دائراً ما دار ومكث تيمور في الأمن والدعة، وعدوه في الضيق بعد السعة، فاضطربت الرؤوس والحواشي ومارت الأنعام والمواشي، وغص البلد بالزحام، وهلكت الخواص والعوام، وأضناهم " الوصب وأنضاهم " السغب وعلاهم الصراخ والصخب فأرسل إليه السلطان يطلب منه الأمان وعلم أنه اختنق بسببه وأنه أعانه أولاً فبلي به فذكره سابقة العرفان وما أسداه إليه من إحسان، وطلب منه تأكيد الأمان بالأيمان فحلف له تيمور فحلف له تيمور أنه يحفظ له الذمام القديم وأن لا يراق له دم ولا يمزق له أديم فخرج إليه ودخل عليه وتمثل بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 يديه فدخل تيمور إلى المدينة وصعد إلى قلعتها الحصينة وصحبته السلطان، وقد أحاطت به جنود هراة والأعوان فأشار واحد من أبطال صاحب هراة على السلطان أن يقتل تيمور ويجعل نفسه فداه وقال له ما معناه أنا أفدي المسلمين بنفسي ومالي وأقتل هذا الأعرج ولا أبالي، فلم يجبه إلى إشارته واستسلم لقضاء الله تعالى وإرادته وقال إن لله تعالى تصريفاً في عباده ولا بد أن ينفذ فيهم سهم مراده ولا مفر من القضا ولا محيد عما قدر الله وقضى وإذا أتاك من الأمور مقدر ... وفررت منه فنحوه تتوجه وهذا سر لا بد من ظهوره فلا تبحث عن حقيقة أموره فمن غالب القضاء غلب ومن ناهب الزمان سلب، ومن قاوى تيار المقدور غرق ومن استلذ بالغفلة في مشارب اللهو شرق، وذكر عند ذلك الوقت مقالة أبيه له واطلع على تحقيقه ولكن السهم خرج فما أمكن رده إلى فوقه ذكر اجتماع ذلك الجافي بالشيخ زين الدين أبي بكر الخوافي وكان في بعض قدماته خراسان سمع أن في قصبة خواف رجلاً قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 منحه الله تعالى الألطاف، عالماً عاملا كبيراً، فاضلا ذا كرامات ظاهرة وولايات باهرة وكلمات زاهرة ومقاومات طاهرة ومكاشفات صادقة ومعاملات مع الله تعالى بالصدق ناطقة، يدعى الشيخ زين الدين أبا بكر، الطائر اجتهاده في حظيرة القدس أعلى وكر فقصد تيمور رؤيته وتوجه إليه وجماعته فقالوا للشيخ إن تيمور قادم عليك وواصل إليك يقصد رؤيتك ويرجو بركتك، فلم يفه الشيخ بلفظة ولا رفع لذلك لحظه فوصل تيمور إليه ونزل عن فرسه ودخل عليه، والشيخ مشغول بحاله على عادته، جالس في فكره على سجادته، فلما انتهى إليه قام الشيخ فاحدودب تيمور منكباً على رجليه، فوضع الشيخ على ظهره يديه، قال تيمور لولا أن الشيخ رفع يديه عن ظهري بسرعة لخلته انرض ولقد تصورت أن السماء وقعت على الأرض وأنا بينهما رضضت أشد رض ثم إنه جلس بين يدي ذلك المنتخب على ركبتي الأدب، وقال له بالملاطفة في المحاورة على سبيل الاستفهام لا المناظرة يا سيدي الشيخ لم لا تأمرون ملوككم بالعدل والإنصاف وأن لا يميلوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 إلى الجور والاعتساف؟ فقال له الشيخ أمرناهم وتقدمنا بذلك إليهم فلما يأتمروا فسلطانك عليهم فخرج من فوره من عند الشيخ وقد قامت منه الحدبة وقال ملكت الدنيا ورب الكعبة، وهذا الشيخ هو الموعود بذكره، ثم إن تيمور قبض على ملك هراة واحتاط على ما ملكت يداه وضبط ولاياتها جانبا جانباً، وقرر لكل جانب نائبا وتوجه إلى سمرقند قافلا بما أمكنه، وحبس السلطان في المئذنة وأوصد عليه بابها ووكل بحفظه أصحابها وأضاف إليهم لشدة الحفاظ الزبانية الشداد الغلاظ وذلك لحلفه أن لا يريق دمه وأن يحفظ له ذممه، فلم يرق له دماً ولكنه قتله في الحبس جوعاً وظما ذكر عوده إلى خراسان وتخريبه ولايات سجستان ثم عاد إلى خراسان وقد عزم على الانتقام من سجستان فخرج إليه أهلها طالبين الصلح والصلاح فأجابهم إلى ذلك على أن يمدوه بالسلاح فأخرجوا إليه ما عندهم من عدة ورجوا بذلك الفرج من الشدة فحلفهم وكتب عليهم قسامات بالغة أن مدينتهم غدت من السلاح فارغة، فلما تحقق ذلك منهم وضع السيف فيهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وأضاف بهم جنود المنايا عن بكرة أبيهم ثم خرب المدينة فلم يبق بها شجر ولا مدر ومحاها فلم يبن لها عين ولا أثر، ورحل عنها وليس بها داع ولا مجيب، وما فعل ذلك بهم إلا لأنه أولاً منهم أصيب وذكر لي الشيخ الفقيه زين الدين عبد اللطيف بن محمد بن أبي الفتح الكرماني الحنفي نزيل دمشق بالمدرسة الجقمقية في سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة أن الذين تخلصوا من القتل من أهل سجستان بهزيمة أو غيبة أو بنوع لطيفة من الله تعالى المنان لما تراجعوا إليها بعد رجوع تيمور عنها أرادوا أن يجمعوا بها فأضلوا يوم الجمعة وما اهتدوا إليه، حتى أرسلوا إلى كرمان من دلهم عليه ذكر قصد ذلك الغدار ممالك سبزوار وانقيادها إليه وقدوم واليها عليه ثم لما أثار بسجستان ما أثار قصد بعساكره مدينة سبزوار، وكان واليها يدعى حسن الجوري مستقلاً بالإمارة وهو رافضي، فما أمكنه إلا الإطاعة واستقباله من الهدايا والخدم بما استطاعه، فأقره على ولايته وزاد في رعايته " فصل " - وكان من عادة تيمور وفكره أنه كان في أول أمره إذا نزل بأحد مستضيفاً استنسبه وحفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 اسمه ونسبه، وقال له إذا بلغك أني استوليت وعلى الممالك استقليت، فأتني بعلامة كذا فإني أكافئك إذا، فلما انتشر ذكره وشاع أمره وفشا في الدنيا خبره وخبره هرعت الناس بالعلائم إليه، ووفدت من كل فج عميق عليه وكان ينول كل أحد منزلته ويحله مرتبته ذكر ما جرى لذلك الداعر في سبزوار مع الشريف محمد رأس طائفة الدعار وكان في مدينة سبزوار رجل شريف من الشطار يدعى السيد محمد السربدال، معه جماعة من الرجال كلهم دعار يسمون السربداليه يعني الشطار، وكان هذا السيد رجلاً مشهورا بالمآثر والفضائل مذكورا، فقال تيمور علي به فإني ما جئت إلا بسببه، وقد كنت متشوقاً إليه ومتشوقاً لعلم ما لديه، فدعوه له فدخل عليه فقام إليه واعتنقه وقابله ببشرة منطلقة، وأكرمه وأدناه وقال في جملة فحواه يا سيدي السيد قل لي كيف أستخلص ممالك خراسان وأحويها وأنى أحوزها أقاصيها وأدانيها وماذا أفعل حتى يتم لي هذا الأمر وأرتقي هذا المسلك الصعب الوعر؟ فقال له السيد يا مولانا الأمير أنا رجل فقير وقير، من آل الرسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 من أين أنا وهذا الفضول، وإني وإن قيل لي شريف، رجل عاجز ضعيف لا طاقة لي بموارد الهلك، ومن أنا حتى أتشاوف لمصالح الملك، ومن داخل الملوك أو خارجهم أو عارضهم في أمورهم أو مازحهم كان كالعائم في مجمع البحرين، وكالجاثم في منتطح الكبشين، والخارج عن لغته لحان وشتان ما بين المأمون والطحان، فقال له لا بد أن تدلني على الطريقة وتخبرني عن المجاز إلى هذه الحقيقة ولولا أنني تفرست فيك ذلك وتكهنت أن برأيك تقتدى المسالك، ولولا أنك أهل لهذه المعرفة ما فهت لك ببنت شفة، ولا استغنيت عنك استغناء التفه عن الرفه، فإن فراستي أياسية وقضاياي كلها قياسية فقال ذلك المشير أيها الأمير أو تسمع في هذا مقالتي وتتبع إشارتي؟ فقال ما استشرتك إلا لأتبعك ولا جاربتك إلا لأمشي معك فقال إن أردت أن يصفو لك المشرب وتنال الممالك من غير أن تتعب فعليك بخواجة علي بن المؤيد الطوسي قطب فلك هذه الممالك ومركز دائرة هذه المسالك فإن أقبل عليك بظاهره لم يكن بباطنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 إلا معك وإن ولى عنك بوجهه فلن يفيدك غيره ولن ينفعك فكن على استجلاب خاطره وحضوره إليك أبلغ جاهد فإنه رجل صلب، وظاهره وباطنه واحد، وإن طاعة الناس منوطة بطاعته وأفعال الكل مربوطة بإشارته فما فعل فعلوا فإن حط حطوا وإن رحل رحلوا وكان هذا الرجل أعني خواجه علي المذكور رجلاً شيعياً موالياً عليا يضرب السكة باسم الاثني عشر إماماً ويخطب بأسمائهم، وكان شهماً هماماً ثم قال السيد يا أمير ادع خواجه علي فإن لبى دعوتك وحضر حضرتك فلا تترك من أنواع الاحترام والتوقير، والإكرام والتكبير شيئاً إلا وأوصله إياه، فإنه يحفظ لك ذلك ويرعاه، وأنزله منزلة الملوك العظام في التعظيم والتوقير والاحترام ولا تدع معه شيئاً مما يليق بحشمتك فإن ذلك كله عائد إلى حرمتك وعظمتك ثم خرج السيد من عند تيمور، وجهز قاصده إلى الخواجة علي المذكور يقول له إنه قد مهد له الأمور فإن جاءه قاصده فلا يتوقف عن الطاعة ولا يقعد عن التوجه إليه ولا ساعة، ويكون منشرح البال آمناً سطواته في الحال والمآل فاستعد خواجه علي لقدوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 الوارد وورود القاصد، وهيأ الخدمات والتقادم والحمولات، وضرب باسمه واسم متولاه الدرهم والدينار، وخطب باسمهما في جوامع الأمصار وقعد لأمره منجزاً وأقام للطلب مستوفزا وإذا بقاصد تيمور جاء منه بكتاب فيه من ألطف كلام وألين خطاب يستدعيه مع انشراح الصدر وتوفير التوقير وتكثير البر فنهض من ساعته ملبياً بلسان طاعته ولم يلبث غير مسافة الطريق وقد بأمل فسيح وعهد وثيق، فلما أخبروه بوفوده جهز لاستقباله أساورة جنوده وسر سرورا شديدا وكأنه استأنف ملكاً جديدا، فلما وصل قدم هدايا فاخرة وتحفاً متكاثرة وطرائف ملوكية وذخائر كسروية فعظمه تعظيماً بالغاً وأولاه إنعاماً سائغاً وأسبل على قامة رجائه من خلع إعزازه وإكرامه ذيلا سابغاً واستمر به على ولايته وزاد في بره وكرامته فلم يبق في خراسان أمير مدينة ولا نائب قلعة مكينة ولا من يشار إليه إلا وقصد تيمور وأقبل عليه، فمن أكابرهم أمير محمد حاكم باورد وأمير عبد الله حاكم سرخس، وانتشرت هيبته في الآفاق وبلغت سطوته مازندران الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وكيلان وبلاد الري والعراق، وامتلأت منه القلوب والأسماع وخافه القريب والبعيد وعلى الخصوص شاه شجاع وكل هذا في مدة قصيرة وأيام قلائل يسيرة، نحواً من سنتين بعد قتله السلطان حسين ذكر مراسلة ذلك الشجاع سلطان عراق العجم أبا الفوارس شاه شجاع ولما صفت له بلاد خراسان وأذعن لطاعته كل قاص ودان، راسل شاه شجاع سلطان شيراز وعراق العجم يطلب منه الطاعة والانقياد وإرسال الأموال والخدم ومن جملة كتابه وفحوى خطابه إن الله تعالى سلطني عليكم وعلى ظلمة الحكام والجائرين من ملوك الأنام ورفعني على من باراني ونصرني على من خالفني وعاداني، وقد رأيت وسمعت فإن أجبت وأطعت فبها ونعمت وإلا فاعلم أن في قدومي ثلاثة أشياء، الخراب والقحط والوباء وإثم كل ذلك عائد عليك، ومنسوب إليك فلم يسع شاه شجاع إلا مهادنته ومهاداته ومصاهرته ومصافاته وزوج ابنته بابن تيمور ولم يتم ذلك السرور لحدوث الشرور فانقبضت تلك المباسطة بواسطة إفساد الواسطة وتثريب الخاطبة وتخريب الماشطة قلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 بديها مضمنا إذا انتخبت لأمر عن واسطة ... فاحزر دهاه وكن منه على وجل واعلم بأن طباع الأنس قد جبلت ... من الجفاء ومن مكر ومن دخل فلا تثق أبداً منهم بواسطة ... واشرع بنفسك فيه غير متكل فإنما رجل الدنيا وواحدها ... من لا يعول في الدنيا على رجل ومد عنان الكلام في هذا المقام يخرجنا عن المرام ولكن تمت رياض المحبة زاهرة وأرباض المودة عامرة، وقفول المراسلة والمصادقة بين الطرفين سائرة واستمروا على ذلك من غير نزاع إلى أن توفي شاه شجاع وكان شاه شجاع هذا رجلاً عالماً فاضلاً يقرر الكشاف تقريراً شافياً كاملا وله شعر رائق، وأدب فائق فمن شعره العربي على ما قيل ألا إن عهدي بالغرام يطول ... وأسباب صبري لا تزال تزول أصون هواها كل ما ذر شارق ... ولكن ما بي قد ينم نحول ومن لم يذق صبر الصبابة في الصبا ... علمت يقينا أنه لجهول ومن شعره الفارسي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 أي بكام عاشقان حسنت جميل ... كي كزينم ديكري برتوبديل كر زيادت غافلم عيشم حرام ... ورزجورت دم زنم خونم سبيل هركسي تدبير كاري مكند ... مارها كرديم بانعم الوكيل وهو شاه شجاع بن محمد بن مظفر وأبوه كان من أفراد الناس ومن أهل البر يسكن ضواحي يزد وأبرقوه، ذا بأس شديد يخافه القريب والبعيد ويرجوه وكان قد نبع بين يزد وشيراز حرامي من عرب آل خفاجة سد على سالكي الطريقة حقيقة المجاز يدعى جمال لوك أفقر الغني وأباد الصعلوك، لا يبالي بالرجال قلت أو كثرت ولا يكترث بكواكب النبال إذا الكواكب على رأسه انتثرت، فأباد طائفة من البلاد وأهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد، فكمن له أبو شاه شجاع في بعض وهد أويفاع ثم قابله مواجهة، وكافحه مشافهة ونازله فصرعه وقطع رأسه وانتزعه وقصد برأسه السلطان فقدمه على سائر الأعوان وأقطعه أماكن عدة وقربه وجعله عدة لكل شده وكان له عدة أولاد وأقارب وأحفاد كل منهم رئيس مطاع فمن أولاده شاه مظفر وشاه محمود وشاه شجاع فصار كل منهم ذا كلمة نافذة ويد معطية آخذة ولم يكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 للسلطان ولد ينقر وراءه في أمور الملك أو ينقب فلما أقبل عليه رائد المنية أجابه وولى مدبراً ولم يعقب وكان إذ ذاك وقد ثبتت أوتاد محمد بن مظفر فتقدم في السلطنة ومن سواه تأخر، فصار في ممالك عراق العجم الملك المطاع واستقل من غير تشاق ونزاع وتصرف في الممالك كيف يشاء ورداه الله خلعه " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء " ومات في حياته ولده شاه مظفر المذكور وخلف ولده شاه منصور، ثم جرى بين شاه شجاع وبين أبيه من النزاع والشرور مالا خير فيه وقبض على أبيه وقهره وفجعه بكريمتيه وأعدمه بصره، وتمكن من السلطنة واستقر وكان به مرض جوع البقر بحيث إنه كان لا يقدر على الصوم لا في السفر ولا في الحضر وكان كثيراً ما يدعو الله الغفور ألا يجمع بينه وبين تيمور فلما أدركه الأجل وطوى فراش الموت منه بساط الأمل أحضر ماله من أقارب وأولاد وقسم عليهم الممالك والبلاد فولى ابنه لصلبه زين العابدين شيراز، وهي كرسي الملك ومقصد الوافدين، وأقطع أخاه السلطان أحمد ولايات كرمان وأعطى ابن أخيه شاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 يحيى يزد، وابن أخيه شاه منصور، أصبهان، وأسند وصيته بذلك إلى تيمور وخلد ذلك في رق منشور وأعد على ذلك من حضر مجمعه فكان كمن سلم الريح لزوبعة ولما أدمج الموت ثوب عمر شاه شجاع، انتشرت بين أقاربه شقق الشقاق والنزاع، فقصد شاه منصور زين العابدين وقبض عليه واستولى على شيراز وفجعه بكريمتيه، وخالف عمه ونقض حبل عهده وفعل مع ابنه ما فعله أبوه بجده، وحبل هذه القصة ممدود والاشتغال بنقضه وإبرامه يخرج عن المقصود فانمعض تيمور وامتعص وتجرع الغصص وارتهص، ولكن ارتقب في ذلك انتهاز الفرص ذكر توجه تيمور مرة ثالثة إلى خوارزم بالعساكر العائثة العابثة ثم إن تيمور جدد الحزم وصمم العزم على التوجه إلى خوارزم، فتوجه إلى تلك البلاد من خراسان على طريق استراباد، وكان سلطانها أيضاً غائبا فأراد أن يولي عليهم من جهته نائبا، فخرج إليه حسن المذكور وصالحه واشترى منه الشرور والمقابحة، وقال له يا مولانا الأمير كلنا عندك أسير ولكن سلطاننا غائب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وإذا أقيم علينا من جهتك نائب ثم رجع إلينا السلطان، فلابد أن يقع بينهما شنآن، وإذا كان الأمر كذا فربما يصل إلي منه أذى، فيكون ذلك سبب تأكيد العداوة ويزداد بينكما الجفا والقساوة فيفيض حنقك على المسلمين ويقع فساد والله لا يحب المفسدين، وهب أن حسين صوفي صار نائبك فكل الخلق يجب عليه أن يراعي خدمتك وجانبك، ورأيك أعلى واتباع مرسومك أولى فسمع تيمور كلامه وقبل قوله وقوض للرحيل خيامه، وكان لحسن المذكور ابن غير فالح له عمل غير صالح فكأنه فتك بحظية من حظايا السلطان وذاع ذلك في المكان وفاح ذفره في أنف الزمان، فلم يتقيد بذلك الفعل القبيح حسن، وقال إن لي على السلطان، منناً وأي منن، حيث حميت بلده من كل ظلوم كفار، وبذلت في ذلك مالي ووجاهتي ثلاث مرار، فلابد أن يقابل هذه المصالحة بالعفو عن جريمة ولدي والمسامحة فلما آب السلطان م سفره واطلع على حقيقة الأمر وخبره قبض على حسن وولده وقتلهما وألقاهما بين يدي أسد قهره فأكلهما، وخرب ديارهما ونقل إلى خزائنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 شعارهما ودثارهما ثم لم يلبث حسين صوفي أن توفي، وولي بعده يوسف صوفي، وكان تيمور قبل ذلك قد صاهرهم وناصرهم على مخالفيهم وظاهرهم، وزوج ابناً له يدعى جهانكير عقيلة منهم ذات قدر كبير وأصل خطير ووجه مستنير أحسن من شيرين وأظرف من ولادة، ولكونها من بنات الملوك كانت تدعى خانزاده، فولدت له محمد سلطان وكان في نجابته وإقباله ساطع البرهان، فلما شاهد تيمور في شمائله مخايل السعادة وقد فاق في النجابة أولاده وأحفاده أقبل دون الكل عليه وعهد مع وجود أعمامه إليه، لكن عاند الدهر ذلك الظلوم فتوفي قبله في آق شهر من بلاد الروم وسيأتي ذكر ذلك ذكر توجه ذلك الباقعة إلى خوارزم مرة رابعة فلما سمع تيمور ما جرى على حسن من الشرور تحنق وشد الأزم ووجه ركاب الغضب إلى خوارزم فأخذها وقتل سلطانها وهدم أركانها وخرب بنيانها، وولى على ما بقي منها نائباً من عنده ونقل جميع ما أمكنه نقله منها إلى ممالك سمرقنده، وتاريخ خراب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 خوارزم " عذاب " كما أن تاريخ خراب دمشق " خراب " ذكر ما كان ذلك الجان راسل به شاه ولي أمير ممالك مازندران ثم إنه لما كان توجه إلى خراسان راسل شاه ولي أمير ممالك مازندران، وكاتب الأمراء المستقلين بذلك المكان، فمنهم اسكندر الجلابي وارشيوند وإبراهيم القمي، واستدعاهم إلى حضرته كما هو جاري عادته بالضرورة فأجابه إبراهيم وارشيوند واسكندر، وتأبى عليه شاه ولي ذلك الغضنفر ولم يلتفت إلى خطابه وخشن له في جوابه ذكر مراسلة شاه ولي سلاطين وما وقع في ذلك من الشقاق وعدم الاتفاق ثم أرسل شاه ولي إلى شاه شجاع سلطان عراق العجم وكرمان وإلى السلطان أحمد بن الشيخ أويس متولي عراق العرب وأذربيجان يخبرهما بورود خطابه وصدور جوابه، ثم قال أنا ثغركما وإن انتظم أمري انتظم أمركما، وإن نزل بي منه بائقة فإنها بممالككما لاحقة، فإن ساعدتماني بمدد كفيتكما هذا النكد وإلا فتصيران الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 كما قيل من حلقت لحية جار له ... فليسكب الماء على لحيته فأما شاه شجاع فأطرح قوله ورماه وهادن تيمور كما ذكر وهاداه وأما السلطان أحمد فأجاب بجواب مهمل وقال هذا الأشل الأعرج الجغتائي ما عساه أن يفعل؟ ومن أين ومن أين للأعرج الجغتائي أن يطأ العراقين؟ وإن بينه وبين هذه البلاد لخرط القتاد، ولكم بين مكان ومكان فلا يخل العراق كخراسان ولئن عقدت على التوجه إلى ديارنا نيته، لتحلن به منيته، ولترتحلن عنه أمنيته، فإنا قوم لنا البأس والشدة والعدة والعدة والدولة والنجدة ولنا يصلح التشامخ والتأبي حتى كأنه قال فينا المتنبي نحن قوم ملجن في زي ناس ... فوق طير لها شخوص الجمال فلما علم ذلك منهم شاه ولي وأيقن أن كلا منهما عن شجوه خلا قال أما أنا فوالله لأوافقنه بعزم صادق ونفس مطمئنة فلئن ظفرت به لأنددن بكما في الأمصار، ولأجعلنكما عبرة لأولي الأبصار، وإن ظفر بي فلا علي ما يصل إليكما فلينزلن القضاء الطام والبلاء العام عليكما، ثم استد للقائه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 واستسلم لقدر الله تعالى وقضائه، ولما تراءى الجمعان، واتصلت المراشقة بالضراب والطعان ثبت شاه ولي ساعة لما نابه من شره وهره، ثم ولى الدبر لما حطمه ما رأى من كر وفر وتبع السنة في الفرار مما لا يطاق وتوجه إلى الري إذ ما أمكنه التوجه إلى العراق، وكان بها أمير مستقل يدعى محمد جوكار متصرفاً بحكومته في تلك القرى والأمصار، وكان كريماً شجاعاً وملكاً مطاعاً ومع ذلك فإنه دارى تيمور وراعى منه بعض الأمور وخاف سطوته وبأسه فقتل شاه ولي وأرسل إلى تيمور رأسه ذكر ما جرى لأبي بكر الشاسباني مع ذلك الجاني وكان في بعض ولايات مازندران، رجل يسمى أبا بكر من قرية تدعى شاسبان، وكان في الحروب كالأسد الغضوب وكان قد أباد وأبار الجم الغفير من عساكر التتار، إذا انتمى في المجال لا تثبت له الرجال وإن وضع العمامة، أقام فيهم القيامة، ولا زال يكمن بين الروابي والجبال، ويجندل الجنود والأبطال، حتى صارت تضرب به الأمثال وترعد منه الفرائص ولو في طيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 الخيال، فكان القائل منهم يقول لمركوبه إذا علق عليه أو سقاه فتأخر عن الماء أو جفل من المخلاة كأن أبا بكر الشاسباني في الماء أو بين العليق تراه وقيل لم يتضرر عسكر تيمور في مدة استيلائه، مع كثرة حروبه ومصافاته وإبلائه، إلا من ثلاثة أنفار، أضروا به وبعساكره غاية الإضرار، وأوردوا كثيرا ًمنهم موارد النار أحدهم أبو بكر الشاسباني، ثانيهم سيدي علي الكردي، وثالثهم " أمت " التركماني " فأما أبو بكر هذا فذكروا أنه في بعض مضايق مازندران، تغلبت عليه الجغتاي من كل مكان " وسدوا عليه وجه المخلص وشدوا حبل المقنص فألجأوه إلى جرف مقاله جرف، مقدار ثمانية أذرع ما بين الحرف إلى الحرف، كأن قعره جب النقير، أو واد في قعر السعير فنزل أبو بكر عن جواده المضمر وطفر وطمر من أحد الجرفين إلى الآخر بما عليه من السلاح والمغفر، ولم ينل منهم ضراً ونجا كما نجا تأبط شراً ثم اتصل بحاشيته وأبادهم، ونقل إلى طاحون الفناء منهم من استكمل دياسهم وحصادهم، ثم ما أدري أمره إلى ماذا آل، وكيف تقلبت به الأحوال وأما سيدي علي الكردي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 فإنه كان أميراً في بلاد الكرد، ومعه طائفة من الخيل الجرد، والرجال غير المرد، في جبال عاصيه، وأماكن وعرة متقاصية، فكان يخرج هو وجماعته، ومن شملته طاعته، ويترك على فم المضائق من هو به واثق ثم يشن على عساكر تيمور الغارات، ويدرك فيهم للمسلمين الثارات، ويقتطع من حواشيهم وما يمكنه من مواشيهم، ثم يرجع إلى أوكاره بما قضى من أوطاره ولم يزل على ذلك الثبات في حياة تيمور وبعد أن مات إلى أن أدركته الوفاة ففات وأما أمت التركماني فإنه كان من تراكمة قراباغ وله ابنان قد وضع كل منهما على لقب تيمور أي داغ، وكانت الحروب والنزال بينهم وبين أميران شاه وعساكر الجغتاي لاتزال، وأفنوا من جماعتهم عدداً لا يحصى، وجانباً فات لا يستقصى إلى أن غدر واحد من المنتسبين إليهم، فطلب غرتهم ودل عسكر أميران شاه عليهم، فبيتوهم ليلا وأراقوا من دمائهم سيلا فاستشهد الثلاثة في سبيل الله رحمهم الله قلت وأصعب فتنة تشميت الأعدا ... وأنكى منه تخذيل الموالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وقيل وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند وقيل " إذا كان هذا بالأقارب فعلكم ... فماذا الذي أبقيتم للأباعد " ذكر توجه تيمور إلى عراق العجم وخوض شاه منصور غمار ذلك البحر الخضم ولما توفي شاه شجاع ووقع بين أهله كما مر النزاع، واستقر أمر العراق العجمي على شاه منصور وخلصت ممالك مازندران وولاياتها لتيمور، وكان شاه شجاع قد أوصى إلى تيمور بولد زين العابدين كما ذكر ووكل أمره إليه، وجد تيمور على شاه منصور طريقاً بما فعله مع ابن عمه زين العابدين فاحتج بذلك ومشى عليه، فاستمد شاه منصور أقاربه فكلهم صار محاربه وغدا مجاذبه ومجانبه وأقام كل منهم يحفظ جانبه، فتهيأ لملاقاته وحده، بنحو ألفي فارس كاملي العدة، بعد أن حصن المدينة وحوطها بالأهبة المكينة، ورتب خيلها ورجلها وحرض على التصبر والتربص أهلها، فقال له أكابر أعيانها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 والرؤس من سكانها كأنا بك في المقتحم وسدى الحرب قد التحم، وقد منعناه من الوصول إلينا ودافعناه عن الهجوم علينا، وربما جندنا له رجالا وأبطلنا من عسكره أبطالا، ثم ماذا تصنع أنت بألفي راكب مع هذا الغمام المتراكم المتراكب؟ وربما يحل عقدك أو يفل جندك فلا ترى لنفسك في الهيجاء إلا طلب الخلاص والنجاء وتتركنا لحماً على وضم بعد أن زلت بنا معهم القدم ولا ينفعنا بعد تأكيد العداوة الندم، ولا يجبر منا إذ ذاك هذا الكسر إلا بالقتل أو النهب والأسر فوضع يده على دبوسه شاه منصور وقال هذا الألف في الكاف السادسة من أم من يفر من تيمور، أما أنا فأقاتل وجندي، فإن خذلني جندي قاتلت وحدي، وبذلت في ذلك جدي وجهدي، وعاينت عليه وكدي وكدي، فإن نصرت نلت قصدي وإن قتلت فلا علي ممن بقي بعدي، وكأني أنا كنت الحاضر والخاطر في خاطر الشاعر حين قال إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ... ونكب عن ذكر العواقب جانباً وقيل إن شاه منصور فرق رجاله على قلاعه، وأراد بذلك حفظ مدنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 فضاع في ضياعه، ثم جمع رؤساء شيراز وأجنادها وأفلاذ أكبادها وأولادها وقال إن هذا عدو ثقيل وهو وإن كان خارجياً فهو في بلادنا دخيل، فالرأي أني لا أنحصر معه في مكان ولا أقابله بضراب وطعان بل أتنقل في الجوانب وأتسلط أنا ورعاياي عليه من كل جانب فنصفع أكتافه ونقطع أطرافه ونواظبه بالنهار ونراقبه بالليل ونعد له ما استطعنا من قوة ومن رباط الخيل فكلما وجدنا منه غرة كسرنا منه القفا والغرة فتارة ننطحه وأخرى نرمحه وكرة نجرحه ومرة نجدحه ونسلبه الهجوع ونمنعه الرجوع فتشتد عليه المضايق وتنسد عليه الطرق والطرائق غير أن القصد منكم يا أحرار ويا نمور النفار ونسور النقار أن تحتفظوا بضبط الأسوار ولا تغفلوا عنها آناء الليل وأطراف النهار، فإني ما دمت بعيداً عنكم لا يدنو أحد منهم منكم، وإن حاصروكم ففيكم كفاية وأستودعكم الله وهو نعم الوقاية، وغاية ما تكونون في هذه البؤسى مقدار ما واعد الله نبيه موسى ولله هذا الرأي ما كان أمتنه ووجه هذا القصد ما كان أحسنه ثم إنه خرج ذاهباً، وقصد جانباً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ذكر دقيقة تصدت فجلت ونقضت ما أبرمة شاه منصور من عقد حين حلت فبينا هو عند باب المدينة جائز نطرته سعلاة من مشؤومات العجائز، فبدرته بالملام وآذته بالكلام ونادت بلسان الاعجام انظروا إلى هذا " تركس بحرام " رعى أموالنا وتحكم في دمائنا وفارقنا أحوج ما نحن إليه في مخاليب أعدائنا، جعل الله حمل السلاح عليه حراماً ولا أنجح له قصداً ولا أسعف له مراماً، فقدحت زناده وجرحت فؤاده، وتأججت نيران غضبه، وأحرق أكداس تدبره شواظ لهبه وثارت نفسه الأبية، وأخذته حمية الجاهلية حتى ذهب لب ذلك الرجل الحازم، وغلط فأمسى وهو لغلطه ملازم، فثنى عنان عزمه، وكز أسنان أزمه، وأقسم لا يبرح عن المقاومة، ولا يرجع في مجلس القضاء ملازمة المصادمة، ويجعل ذلك دأبه صباحاً وعشاء، إلى أن يعطي الله النصر لمن يشاء ثم قابل، ورتب أبطاله وقاتل وكان في عسكر شاه منصور أمير خراساني مباطن لتيمور، يدعى محمد بن زين الدين من الفجرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 المعتدين، وجل العساكر كان معه، فسار إلى تيمور، وأكثر الجند تبعه، فلم يبق منهم إلا دون الألف، فما فر واحد منهم من الزحف فثبت شاه منصور، بعد أن تضعضعت منه الأمور، فلم تزل نيران الهيجاء تنتطح، وزناد الحرب تورى إذ تنقدح، وشرار السهام تتطاير، وثمار الرؤوس بمناجل السيوف تقطف فتتناثر، حتى أقبل جيش الليل وشمر للهزيمة جند النهار الذيل، فتراجع كل منهم إلى وكره، وأعمل شاه منصور فكره في مكره ذكر ما نقل عن شاه منصور مما أوقع بعسكر تيمور من الحرب والويل تحت جنح الليل فعمد إلى فرس جفول، من بين الخيول، أجمح من دهر رمح وأرمح من عصر جمح، وأتى بها عسكر العدو وقد أخذ الليل في الهدو، ثم ربط في ذنبها قدراً من النحاس، ملفوفة في قطعة بلاس، وشدها شدة أحكم وثاقها، وصوب رأسها نحو العدو وساقها، فجالت الفرس في المعسكر واضطربت، واختبطت الناس واحتربت وانسابت جداول السيوف في بطون تلك البحار وانسربت، حتى كأن الساعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 اقتربت، مواأو السماء عليهم بالشهب انقلبت، والأرض بهم اهتزت وربت وشاه منصور واقف حواليهم كالبازي المطل عليهم، يقتل من شذ، ويبيد من فذ وصار كما قيل الليل داج والكباش تنتطح ... نطاح جد ما أراها تصطلح فقائم وقاعد ومنبطح ... فمن نجا برأسه فقد ربح قيل أنهم اقتتلوا فيما بينهم حتى فني نحو من عشرة آلاف نفس، فلما قوض الليل خيامه ورفع النهار أعلامه، علموا البلاء كيف دهاهم، وليت الليل لم يكن فارق ذراهم ثم إن شاه منصور أصبح وقد قل ناصره وفل مؤازره، فانتخب من جماعته فئة نحواً من خمسمائة، فجعل يصول بهم صولة الأسد، ويخوض بهم غمار الموت، فلا يلوي أمامهم أحد على أحد، ويميل يسره ويمنه وينتسب ويصيح أنا شاه منصور الصابر المحتسب، فتراهم بين يديه حمرا مستنفرة فرت من قسورة، وقصد مكاناً فيه تيمور فهرب منه ودخل بين النساء واختفى بينهن وغطى بكساء، فبادرنه وقلن نحن حرم وأشرن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 إلى طائفة من العسكر المصطدم وقلن هناك بغيتك وبين أولئك طلبتك، فألوى راجعاً وتركهن مخادعا وقصد حيث أشرن إليه وقد أحاطت به جموع العساكر وحلقت عليه قلت بديهاً وما حز أعناق الرجال سوى النسا ... وأي بلاء مالهن به أبلى وكم نار أحرقت كبد الورى ... ولم يك إلا مكرهن لها أصلا وكان على فرس فاقت خصالا فضرب فيهم بسيفين يميناً وشمالا، وفرسه السبوح كانت تقاتل معه وتصدم وتكدم من يقربها في تلك المعمعة وكأنه ينشد معنى ما قلته في " مرآة الأدب " يد الله قوتني فغلت يداهم ... وهذى يدي فيهم بسيفين تضرب فصار كلما قصد رعلة من تلك الرعال، افترقت أمامه يميناً وشمالا وإن كانوا كلهم من أهل الشمال ولكن إذا لم يكن عون الله للفتى ... فأول ما يجني عليه اجتهاده حتى أنهكته الحرب وكلت يداه من الطعن والضرب، وجندلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 أبطاله وقتلت خيله ورجاله وتغيرت من كل جهة أحواله، وسدت طرائقه وشدت مضايقه وخرست شقاشقه وضرست فيالقه وخمدت بوارقه وهمدت بيادقه وحص جناحه وقص نجاحه وخف مداحه وأثقلت جراحه وسكنت غمغمته، فانفرد عن أصحابه وقد آده الجراح وأودى به ولم يبق معه في ذلك البحر سوى نفرين أحدهما يدعى توكل والآخر مهتر فخر، وأخذه الدهش، وغلب عليه العطش ونشف الرهج والوهج كبده وطلب شربة ماء فما وجده فلو وجد ما يبل له ريقه لما قدر أحد أن يقطع عليه طريقه، فرأى الأولى طرح نفسه بين القتلى، فأطرح بينهم نفسه، ورمى أهبته وسيب فرسه وقتل توكل ونجا فخر الدين، وبه من الجراح نحو من سبعين، وعمر بعد ذلك حتى بلغ تسعين، وكان من الأبطال والمصارعين فتراجع جيش تيمور وتضام، وانتعش بعد أن بلغ موارد الحمام، وذلك بعد أن قتل منهم مالا يعد، وأفنى ليلاً ونهاراً مالا يحصر ولا يحد وطفق تيمور في القلق، والضجر والأرق، لفقد شاه منصور وعدم الوقوف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 على حال ذلك الأسد الهصور، أهو في الأحياء فيخشى فكره، أم انتقل إلى دار الفناء فيؤمن مكره، فأمر بتفتيش الجرحى، والتنقيب عنه بين القتلى والطرحى، إلى أن كادت الشمس تتوارى بالحجاب، ويغمد حسام الضياء من الظلام في قراب، فعندما ضم دينار البيضاء، تحت ذيل ملاءة الضياء، ومد نساج القدرة في جو الفضاء سدى، والليل إذا سجى ونثر على سطح هذا الأديم المسا دراهم كواكبه الزهراء، واتسع الظلام واتسق، عثر واحد من الجغتاي على شاه منصور وبه أدنى رمق، فتشبث شاه منصور بذلك الإنسان، بل الشيطان الخوان، وناداه الأمان الأمان أنا شاه منصور فاكتم عني هذه الأمور وخذ مني هذه الجواهر وخافت في قضيتي ولا تجاهر، ولا رأيتك ولا رأيتني، ولا عرفتك ولا عرفتني، وإن أخفيت مكاني ونقلتني إلى إخواني وأعواني، كنت كمن أعتقني بعدما اشتراني، ومن بعد ما أماتني أحياني، وكنت ترى مكافأتي، وتغنم مصافاتي، ثم أخرج له من الجواهر، ما يكفيه وذريته إلى يوم الآخر فكأن في قصته واستكشاف غصته كالمستغيث بعمرو عند كربته فما عتم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 أن وثب على شاه منصور، وحز رأسه، وأتى به إلى تيمور وحكى له ما جرى بتنجيز المشترى، فما صدقه، ولا في كلامه استوثقه بل أخرج من قبائله وشعوبه من عرفه به فعرفوه بشامة كانت في وجهه علامة، فلما علم أنه شاه منصور بعينه، وتميز له صدق ذلك الرجل من مينه تحنق وتحيف، وتحرق لقتل شاه منصور وتأسف، ثم سأل ذلك الرجل عن محتده، وعن والده وولده، وعن قبيلته وذويه، ومخدومه ومربيه، فلما استوضح أخباره، وعلم نجاره ووجاره أرسل مرسومه إلى متولي تلك الدار فقتل أهله وأولاده وأعوانه وأنصاره وآله وأحفاده وأختانه وأصهاره وقتله شر قتلة ومحا آثاره وصادر مخدومه وقتله وخرب دياره ثم أرسل إلى أطراف ممالكه مطالعات، يذكر فيها صور تلك المصافات والمواقعات، وما شوهد من وثبات شاه منصور وثباته، وغشيانه غمرات الحروب وضرباته، وما حصل في واقعة القتال على الحديد في صف مرسلاته، وكيف زلزلت العاديات ولولت النساء في فتح حجراته بعبارات هائلة وكلمات في ميادين الفصاحة والبلاغة جائلة، وهذه المطالعات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 تقرأ في المحافل والمشاهد، وتتلى في المصادر والموارد ويستمد منها ذوو الأدب، ويعني بحفظها الكتاب والصبيان في الكتاب " رأيت " في أخبار بعض المعتنين، أنه في شوال سنة خمس وتسعين، ورد رسول صاحب بسطام، يؤذن سلطان مصر بالإعلام، أن تيمور قتل شاه منصور واستولى على شيراز وسائر البلاد، وأرسل رأسه إلى حاكم بغداد، وأمره بالطاعة، هو ومن معه من الجماعة، وأرسل إليه خلعة، وأن يضرب السكة باسمه ويخطب بذلك في الجمعة، فلبس خلعته وائتمر ممتثلاً كل ما به أمر وأنه علق رأس شاه منصور، بعدما طافوا به على السور، وما أظن لذلك صحة ذكر ما وقع من الأمور والشرور بعد واقعة شاه منصور فاستولى تيمور على ممالك فارس وأرض عراق العجم وراسل من داناه من أقارب شاه شجاع وملوك الأمم، واستمال الخواطر، وآمن البادي والحاضر، ورحل فجاز مدينة شيراز، وضبط أحوالها، وقرر فيها خيلها ورجالها، ونادى بالأمان، للقاصي والدان فلبت دعوته ملوك البلاد ولم يسعهم معه إلا الإطاعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 والانقياد فوصل إليه سلطان أحمد من كرمان، وشاه يحيى من يزد وعصى سلطان أبو إسحاق في سيرجان فأنعم وخلع على من أطاع وانقاد، ولم يتعرض لمن أظهر العناد، ولم يشق بينه وبين مخالفيه العصا، وأكرم من أطاعه ليوقع بذلك من عصى وطرح على شيراز وسائر البلدان مال الأمان، وأقام في كل بلدة من جهته نائباً وتوجه إلى أصبهان، وأحسن إلى زين العابدين الذي هو وصية من أبيه، ووظف له من الجوامك والادرارات ما يكفيه وذويه ذكر ما صنع الزمان عند حلوله بأصبهان فلما وصل إلى أصبهان، وكانت من أكبر البلدان مملوءة بالأفاضل ومحشوة بالأماثل، وبها شخص من علماء الإسلام، والسادة الأعلام، قد بلغ في العلم الغاية، وفي العمل والاجتهاد النهاية، أفعاله مبرورة، وكراماته مشهورة، ومآثره مذكورة، ومحاسنه على جبهة الأيام مسطورة، وهو معتقد المسلمين، وكان اسمه إمام الدين، وكان أهل أصبهان يذكرون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 له تيمور، ويحذرون من شره أي محذور، فيقول لهم ما دمت فيكم حياً، لا يضركم كيده شيا، فإن وافاني الأجل، فكونوا من أذاه على وجل، اتفق أنه في وصول تيمور، توفي الشيخ المذكور، فأصبحت أصبهان ظلمات بعضها فوق بعض بعد أن كانت نوراً على نور، فتضاعفت حسرتهم، وترادفت كسرتهم، فوقعوا في الحيرة، وصاروا كأبي هريرة رضي الله عنه حيث يقول للناس هم ولي في اليوم همان ... فقد الجراب وقتل الشيخ عثمان فخرجوا إليه وصالحوه على جمل من الأموال، فأرسل فيهم لاستخلاصها الرجال، فوزعوها على الجهات، وفرضوها على الحارات والمحلات، وتفرق فيهم المستخلصون، فكانوا يعيثون فيهم ويعبثون، واستطالوا عليهم فجعلوهم كالخدم، وتوصلوا إلى أن مدوا أيديهم إلى الحرم، فانتكوا منهم أي نكاية، فرفع أهل أصبهان إلى رئيسهم الشكاية، وكثرت منهم الشكية، وهم قوم لهم حمية، وقالوا الموت على هذه الحالة، خير من الحياة مع هذه الاستطالة فقال لهم رئيسهم إذا أقبل المساء، فإني أضرب الطبل لكن لا تحت كساء، فإذا سمعتم الطبل قد دق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 فالقول قد حق، فليقبض كل منكم على نزيله وليحتكم فيه بسمين رأيه وهزيله، فاتفقوا على هذا الرأي المعكوس والأمر المنكوس في الطالع المنحوس، وقصروا مدى أنظارهم السقيمة، عن قصارى هذه الأمور الوخيمة ولما تعرى العنان من ثوب نوره، وأبدل الجو قمامه بسموره، ومضى هزيع من الليل، ضرب الرئيس الطبل فحل بالمستخلصين الويل، فقتلوهم وكانوا نحواً من ستة آلاف، وأصبحوا، وقد غرسوا في دوح العصيان أغصان الخلاف، فأثمر ذلك لهم الحور بعد الكور وبان لهم البوار فأصبحوا بوراً بهذا البور ولما سل الفجر حسامه، وحسر النهار لثامه، بلغ تيمور ذلك الصنع المشئوم فنفخ الشيطان منه في الخيشوم، فارتحل من فوره واستل عضب غضبه ونثل جعبة جوره، وتوجه نحو المدينة مزمجرا متكالباً مستأسداً متنمرا، فوصل إليها، وأخنى عليها، وأمر بالدماء أن تسفك، وبالحرمات أن تهتك، وبالأرواح أن تسلب، وبالأموال أن تنهب، وبالعمارات أن تخرب، وبالزروع أن تحرق، وبالضروع أن تخرق، وبالأطفال أن تطرح، وبالأجساد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 أن تجرح، وبالأعراض أن تثلم، وبالذمم أن تسلم ولا تسلم، وأن يطوى بساط الرحمة، وينشر مسح النقمة، فلا يرحم كبير لكبره، ولا صغير لصغره، ولا يوقر عالم لعلمه، ولا ذو أدب لفضله وحلمه، ولا شريف لنسبه ولا منيف لحسبه، ولا غريب لغربته، ولا قريب لقرابته وقربته، ولا مسلم لإسلامه، ولا ذمي لذمامه، ولا ضعيف لضعفه، ولا جاهل لركاكة رأيه وسخفه وبالجملة فلا يبقى على أحد، ممن هو داخل البلدة فأما أهل المدينة فعلموا أنه ليس للجدال مجال، فضلاً عن ضراب وقتال وأن قبول الاعتذار محال وأنه ليس ينجيهم من ريب المنون مال ولا بنون ولا يقبل منهم في تلك الساعة عدل ولا تنفعهم شفاعة فتحصنوا بحصون الاصطبار، وتدرعوا دروع الاعتبار، وتلقوا سهام القضاء من حنايا المنايا بمجن تسليم المراد، واستقبلوا ضربات القدر من سيوف الحتوف بأعناق التفويض والانقياد، فأطلق في ميادين رقابهم عنان الحسام البتار، وجعل مقابرهم بطون الذئاب والضباع وحواصل الأطيار ولا زالت عواصف الفناء تحتهم من أشجار الوجود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 حتاً، حصروا عدد القتلى فكانوا نحو ست مرات من أمة يونس بن متى، فاستغاث بعض البصراء، بواحد من رؤوس الأمراء، وقال البقية في البقية، والرعاية في الرعية، فقال ذلك الأمير للسائل الفقير اجمعوا بعض الأطفال عند بعض القلل، فلعل أن نلين منه عند رؤيتهم شيئاً ما عسى ولعل، فامتثلوا ما به أمر، ووضعوا شرذمة من الأطفال منه على الممر ثم ركب ذلك الأمير مع تيمور وأخذ به على تلك الأطفال ومر، ثم قال له انظر يا مخدوم نظر الرأفة إلى المرحوم فقال ما هؤلاء الطرحى الأشقياء؟ فقال أطفال معصومون، وأمة مرحومون محرومون، استحر القتل بوالديهم، وحل غضب مولانا الأمير على أكابرهم وذويهم وهؤلاء يسترحمونك بعواطفك الملوكية وصغرهم، ويستشفعون إليك بذلهم وضعفهم ويتمهم وفقرهم وكسرهم، أن ترحم ذلهم، وتبقي على من بقي لهم، فلم يحر جوابا ولا أبدى خطابا، ثم مال بعنان فرسه عليهم، ولم يظهر أنه بصر بهم أو نظر إليهم، ومالت معه تلك الجنود والعساكر، حتى أتى منهم على الأول والآخر، فجعلهم طعمة للسنابك، ودقة تحت أقدام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 أولئك ثم جمع الأموال، وأوثق الأحمال، ومال راجعاً إلى سمرقند بما قد نال وكم بين هذه الأمور والقضايا، من دواه وبلايا، وأخبار وحكايات وتجهيز سرايا، وتولية وعزل، وإبراز هزل في صورة جد وجد في صورة هزل، وبناء وهد، وصد ورد، وتعمير غامر، وتخريب عامر، وتهان وتعاز وانحراف وتواز ومباحثات مع علماء، ومناظرات مع كبراء، ورفع وضعاء ووضع شرفاء، وتمهيد قواعد، وتقريب أباعد، وتبعيد أدان، وبروز مراسيم إلى كل قاص ودان، إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصر، ولا يضبط بديوان ولا دفتر ذكر ضبطه طرف المغل والجتا وما صدر منه في تلك الأماكن وأتى ولما وصل إلى سمرقند أرسل ابن ابنه محمد سلطان بن جهانكير، مع سيف الدين الأمير، إلى أقصى ما تبلغ إليه مملكته، وتنفذ فيه كلمته، وهو وراء سيحون شرقاً سوا، أخذاً في نحور ممالك المغل والجتا والخطا نحواً من مسيرة شهر، عن ممالك ما وراء النهر، فمهدوا هناك الوهد واليفاع وبنوا في جملة من القلاع، وأقصاها بلد يسمى اشبارة فبنوا فيه حصناً حصيناً معداً للنهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 والغارة، وخطب من بنات الملوك ملكة أخرى وكانت الأولى تدعى الملكة الكبرى، والأخرى الملكة الصغرى فأجابهم ملكهم إلى ما سأل، وأناب إلى ما طلبه منه بالإطاعة وبذل، وارتجت منه أقاليم المغل والخطا، وذلك لما بلغهم مما فتك، في كل طرف وبتك، من بلاد الإسلام وسطا وكان السفير في ذلك " الله داد " أخو سيف الدين المذكور، وهو الذي استخلص أموال دمشق ونزل في دار ابن مشكور وأمر تيمور ببناء مدينة على طرف سيحون من ذلك الجانب، وعقد إليها جسراً على متن النهر بالمراسي والمراكب، وسماها شاه رخية وهي في أماكن رخية وسبب تسمية ابنه شاه رخ بهذا الاسم، ووسم هذه المدينة بهذا الوسم، أنه كان على عادته، مشغولاً بلعب الشطرنج مع بعض حاشيته، وقدأمر ببناء هذه المدينة على هذا الساحل، وكانت إحدى حظاياه معه وهي حامل، فرمى على خصمه شاه رخاً، فذبل خصمه لذلك وارتخى، وبينما خصمه قد وقع في الأين وإذا بمبشرين جاءا مخبرين، أحدهما يبشره بولد، والآخر يبشره بتمام عمارة البلد، فسماها بهذين الاسمين، ووسمهما بهذين الوسمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 ذكر عودة ذلك الأفعوان إلى ممالك فارس وخراسان وفتكه بملوك عراق العجم واستصفائه تلك الممالك والأمم ثم عاد، بعد تمهيد البلاد وتوطيد قواعد ممالك تركستان، إلى بلاد خراسان، فاستقبله الملوك والأمراء، والسلاطين والوزراء، وسارعوا إليه من كل جانب، ما بين راجل وراكب، ملبين دعوته، حذرين سطوته مغتنمين خدمته، وسلموه الأنجاد والأغوار، والأطاد والقفار والقرى وسكانها، والذرى وقطانها، والقلاع العاصية، وربطوا بذيل أمره كل ناصية ممتثلين أوامره مجتنبين زواجره، عاقدي نطاق عبوديته بأنامل الإخلاص، تابعي رائد مرضاته على نجائب الولاء والاختصاص، فمنهم جميع من مر ذكره من المطيعين، ومن كانوا في الشواهق ممتنعين منيعين، ومن جملتهم إسكندر الجلابي أحد ملوك مازندران، وأرشيوند الفارسكوهي ذلك الأسد الغضبان، صاحب الجبال والشوامخ العاصية القلال، وإبراهيم القمي صاحب النجدة، والمعد لكل شدة، وأطاعه السلطان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 أبو إسحاق من سيرجان، فاجتمع عنده ملوك عراق العجم سبعة عشر نفراً ما بين سلطان وابن سلطان وابن أخي سلطان، كلهم في ممالكه ملك مطاع، مثل سلطان أحمد أخي شاه شجاع، وشاه يحيى ابن أخي شاه شجاع، سوى ملوك مازندران، وسوى أرشيوند وإبراهيم وملوك خراسان ولما سلك السلطان أبو إسحاق نمط أقاربه في الطاعة وعمل على ذلك الطراز، خلف ببلده سيرجان نائباً يقال له " كودرز " فاتفق في بعض الأيام، أنه اجتمع عند تيمور هؤلاء الملوك العظام، فكانوا عنده في خيمة له وهو بينهم وحده، فأشار واحد منهم هو شاه يحيى، وقد أمكنت الفرصة، أن يقتله ويرفع عن العالم هذه الغصة، فأجابه بعض وامتنع بعض، وقال لمن رضي بذلك منهم ومن لم يرض إن لم تكفوا، وعن هذا المقال تعفوا، أخبرته بهذه المقالة وأطلعته على هذه الحالة، فامتنعوا عن هذا الرأي المتين والفكر الرصين، لاختلافهم ولا يزالون مختلفين، وكأنه طالع أحوالهم أو تفرس أقوالهم، فأسرها في نفسه ولم يبدها لهم ثم مكث أياماً، وجلس للناس جلوساً عاماً، وقد لبس ثياباً حمراً، ودعا هؤلاء الملوك السبعة عشر طراً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 ثم أمر فقتلوا جميعاً في ساعة واحدة صبرا، ثم لما أبادهم، ضبط بلادهم، وجمع طريفهم وتلادهم، وقتل أولادهم وأحفادهم وأقام في ممالكهم أولاده، وأمراءه وأحفاده وأسباطه وأجناده وسبب قتله هؤلاء الملوك وفتكه، وتمزيقه ستر حياتهم وهتكه، أن بلاد العجم كانت لا تخلو عن الملوك الأكابر، ومن ورث الملك والسلطنة كابراً عن كابر، وهي ممالك واسعة، أطرافها شاسعة، مدنها وافرة، وقراها متكاثرة، وأوتاد أوتادها راسخة، وعرانين أطوادها شامخة، ومخدرات قلاعها ناشزة، ومضمرات مكانها ومعادنها غير بارزة، كواسر أكاسرها كاسرة، ونواشر جوارحها للظهور ناشرة، ونمور دعارها طامرة، وببور شطارها طافرة، وثعابين أبطالها في جداول الجدال ظاهرة، وتماسيح أقيالها في بحار الحراب قاهرة فنظر تيمور بعين بصيرته في وذيلة تأمله ومرآة فكرته، فرأى أنه لا يزكو له ورد عارضها من شوكة عارض، ولا يصفو ورد ثغر فائضها من شارب معارض، ولا يثبت له في بنيان ممالكها أساس يحكم، ولا ينبت له في بستان مسالكها غراس تنعم وكان قصده إبقاء مبانيها، وإجراء أموره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 على ما اقتضته التوراة الجنكيز خانية فيها، فلم يمكن عمل فلاحة سلطنته في بسيط أرضها، وسوق أنهار أوامره في جرائب ممالكها طولها وعرضها، إلا بقلع علائق أنساب أكابرها، وكسر قوادم أخشاب أحساب أكاسرها، فسعى في استئصال فرعهم وأصلهم، واجتهد في إهلاك حرثهم ونسلهم، وجعل لا يسمح لهم ببزرة نطفة في أرض رحم إلا قلعها، ولا يشم منهم رائحة زهرة في كم كمين إلا قطعها وقيل إنه كان في مجلس فيه اسكندر الجلابي، وكأنه كان مجلس نشاط ومقام انشراح وانبساط، فسأل اسكندر في ذلك المحضر، وقال إن حكم القضاء بإفساد بنيتي، من تراه يتعرض لأولادي وذريتي؟ فأجابه وهو في حالة الشطح، وقد خلت علية دماغه ووضع سراج العقل منها فوق السطح أول من ينازع أولادك المشائيم، أنا وأرشيوند وإبراهيم، فإن نجا من مخاليبي منهم أحد، فإنه لا يخلص من أنياب إبراهيم الأسد، وإن أفلت منهم من ذلك البند، فإنه لا مخرج له من شرك أرشيوند، وكان أرشينود وابراهيم غائبين فلم يتعرض تيمور لاسكندر بضرر وشين وأراد بالإبقاء عليه، وقوعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 مع صاحبيه، فلما أفاق اسكندر، ليتم ما قال، فقال لا مفر من قضاء الله ولا مجال، ولا عتب في ذلك علي، أنطقني بذلك الله الذي أنطق كل شيء ثم إن اسكندر وإبراهيم هربا، فقبض على أرشيوند وألقاه في النازعات فصار نبأ، وهتك حريم عمره إذ جرعه أول الرعد فأقرأه آخر نوح وسبأ، ثم إن اسكندر لم ير له أثر، ولا سمع عنه إلى يومنا هذا خبر وكان كبير الهامة، طويل القامة، إذا مشى بين الناس كأنه علامة، حتى قيل أن يدي ذلك القصر المشيد كان نحواً من ثلاثة أذرع ونصف بالحديد، وإبراهيم القمي استمر على انكماشه، ثم مات على فراشه، فكان ذلك سبب إيراده الملوك وأبناءهم المهالك " فصل " ثم أن تيمور عصى عليه كودرز في قلعة سيرجان، وقال إن مخدومي شاه منصور موجود إلى الآن، وكان هذا الكلام فاشياً في الخاص والعام، فكان كودرز يتوقع ظهوره، ويزجي على ذلك أعوامه وشهوره فحاصر تيمور قلعة سيرجان، فلم يلح له عليها سلطان، فوجه إليها عساكر شيراز ويزد وأبرقوه وكرمان، وأضاف إليهم عساكر سجستان، وذلك بعد أن شملها العمران، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وكان نائبها يدعى شاه أبا الفتح، فحاصروها نحواً من عشر سنين، وهم ما بين ظاعنين عنها وعليها مقيمين، وهي بكر لا تفتح لطالبها باباً، وعانس لا يملك خاطبها منها خطابا وكان تيمور ولى كرمان، شخصاً يدعى " إيدكو " من إخوان الشيطان فكان هو المشار إليه، ومن العسكر هو المعول عليه ولما تحقق كودرز من شاه منصور وفاته، وخذله الأنصار، وأعجزه الانتصار وفاته، كان أبو الفتح يراسله كل ساعة، ويتكفل له عند تيمور بالشفاعة، أذعن للصلح، واستعمل في ذلك أبا الفتح، ونزل مترامياً عليهم، وسلم الحصن إليهم فحنق إيدكو عليه، لكون عقد الصلح لم ينحل على يديه، فقتله من ساعته، ولم يلتفت إلى أبي الفتح وشفاعته، فأخبر تيمور بذلك وكان في بعض الممالك، فغضب عليه غضباً شديداً، ولكن فات التدارك " فصل " مما يحكى عن إيدكو هذا متولي كرمان أنه كان بها للسلطان، أحمد أخي شاه شجاع ولدان صغيران، أحدهما يدعى سلطان مهدي والآخر سليمان خان، وكان سليمان خان في غاية الحسن واللطافة، حاوياً معني الملاحة والظرافة، معبى بالكمال، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 مربى بالدلال، ألفاظه رائقة، وألحاظه راشقة، والأرواح إليه شائقة، وأرباب الألباب له عاشقة، حركاته في القلوب ساكنة، ولفتاته للخلق فاتنة، كما قيل نسيم عبير في غلالة ماء ... وتمثال نور في أديم هواء وعمره إذ ذاك ستة أعوام ولكن مفتتن به الخاص والعام، فعزم إيدكو على إتلافهما، وإلحاقهما بأسلافهما، ولم يكتف من تلك الدرة بأنها صارت يتيمة، لا رق لأمهما التي خربت ديارها لكونها مخدرة كريمة، ولم يكن لها مدافع ولا عنها ممانع فطلب من الجلادين من يعتمد في ذلك عليه، فلم تطب نفس أحد أن تمتد يده بمكروه إليه، ومضى على ذلك مدة، والخلق بسبب هذه القضية في ضيق وشدة، حتى وجدوا عبداً أسود، كأنه للبلاء مرصد، وكأن الشياطين له عبدة والعفاريت جنود وحفدة، وثوب ليل القهر من سدا سواده انتسج، وأصل الشجرة التي طلعها كأنه رؤوس الشياطين من حبة فؤاده نبتت فنتج، يستلذ عند صدى صوته خوار الثيران، ويستحسن عند خيال صورته مشاهدة الغيلان قلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 زبانية النيران تكره وجهه ... وحين تراه تستعيذ جهنم قد نزع الله من قلبه المرحمة، وجبل فؤاده على المأثمة فأرغبوه أن يختلهما، ويقتلهما، وكانت عين سليمان خان رمدا، وقد سكن في حجر دايته وتهدى فدخل عليه ذلك الظالم من ساعته، واغتاله وهو راقد في حجر دايته، وضربه في جنبه بخنجر، وأنفذه من الجنب الآخر، فارتفع الضجيج والولولة، ووقع العجيج في الناس والزلزلة، وعم المأتم أمه الوالهة وأهلها، وطفق الناس يبكون عليها ولهاً، والظاهر أن هذه الأمور، كانت بإشارة تيمور، وعسكر ذلك الظلوم الكفار، ما كان يخلو عن مثل هذه الشرور والأشرار، ولو كان فاعله من غيرهم، لكن لعلة المصاحبة والمرافقة كان يسير بسيرهم حكاية لما ارتحل من الشام بجنوده الغزيرة، كان مع واحد منهم أسيرة، كشفت أيدي النوائب قناع عصمتها ولطمتها، وعلى يدها بنت لها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 رضيع ففطمتها، فلما قربوا من حماة، جعلت البنت تئن أنين الأواه، ولما بها من المضض المنكى تنكد وتبكي ومعهم جمال من بغداد، منطو على الفساد، محتو على النكاد، مجبول على الغلاظة والقساوة، معمول من الفظاظة والغباوة، ممتلئ من البذا متضلع من الأذى، لم يخلق الله تعالى في قلبه من الرحمة شيئاً فينتزع، ولم يودع لسانه لفظاً من الخير فيستمع، فأخذ تلك البنت من أمها، فدار في وهما أنه إنما أخذها ليخفف عنها من همها، وكانت راكبة على جمل ثم انقطع ساعة عن الثقل ثم وصل ويده خالية وقهقهته عالية، فاستكشفت أمها حالها، فقال مالي ومالها فهوى عقلها ووهى، فطرحت نفسها ونحت نحوها، فأخذتها وانقلبت وأتت بها وركبت، فتناولها منها مرة أخرى، على أن لا يسومها ضراً، ثم غاب عنها ورجع وقد صنع كما صنع، فألقت نفسها ثانية، وعدت إليها ثانية وجاءت وهي عانية، وقطوف حياتها دانية، فركبت وأخذتها، وضعتها على كبدها التي منها فلذتها، فأخذها منها مرة ثالثة، بنية في الفساد عابثة، وحلف لها يميناً حانثة أنه بحملها ينوء، ولا يمسها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 بسوء، فحملها ساعة ثم خرج عن سنة الجماعة، ورمى بها في بعض البطاح وفعل بها ما فعله اليهودي بصاحبه الأوضاح وجاء ويده الدامغة، في الإثم ملأى ومن البنت فارغة، وقد سلبها سلبها، وجلب إلى أمها جلبها، فاطرحت نفسها باكية، ورامت الرجعى جارية، فقال لها لا تتعبي، كفيتك همها فارجعي واركبي، فبكت وصاحت، وأنت وناحت، ووقعت في العناء وإن كانت قد استراحت، والناس على دين ملوكهم، سالكون طرائق سلوكهم سبب دخوله إلى عراق العرب وإن كان إيذاؤه لا يحتاج إلى علة وسبب ولما خلص لتيمور جميع ممالك العجم، ودانت له الملوك والأمم، وانتهت مراسيمه إلى حدود عراق العرب، غضب السلطان أحمد صاحب بغداد واضطرب، فجهز جيشاً عرمرماً، وجعل رئيسهم أميراً مقداماً مقدماً، يدعى سنتاي، فتوجه الجيش نحو الجغتاي، فبلغ تيمور خبر الجيش وخبره، فسر بذلك قلبه وانشرح صدره، فجعل ذلك سبباً لمهاوشته، وذريعة لمحاربة ملك العراق ومناوشته، وأنفذ جيشاً كراراً، بل بحراً زخاراً، فتلاقيا بصدق نية، على مدينة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 سلطانية، فصدق كل منهما صاحبه الضراب، وسدد لنحره ألسنة الأسنة وسهام الحراب، واستمد بحر الجغتاي من أفواج أمواجه واصطدم، فانكسر في قساطله قنيات جند سنتاي فانهزم، ووصل فلهم إلى بغداد، وتشتتوا في البلاد فألبس السلطان أحمد سنتاي المقنعة، وأشهره في بغداد بعد أن ضربه وأوجعه، وكف تيمور عن عناده، وقفل متوجهاً إلى بلاده سكون ذلك الزعزع الثائر وهدوء ذلك البحر المائر لتطمئن منه الأطراف فيحطمها كما يريد ويدير بها الدوائر ثم إن تيمور خرج من سمرقند إلى ضواحيها، وجعل ينتقل في جوانبها ونواحيها، وبنى حواليها قصبات سماهن بأسماء كبار المدن والأمهات، وقد صفت له سمرقند وولاياتها، وممالك ما وراء النهر وجهاتها، وتركستان وما فيها من البلاد ونائبها من جهته يدعى خدايداد وخوارزم التي بها فتك وسطا، وكاشغر وهي في نحر ممالك الخطا، وبلخشان وهي ممالك على حدة عن ممالك سمرقند متباعدة، وأقاليم خراسان وغالب ممالك مازندران، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 ورستمدار وزاولستان وطبرستان والري وغزنة واستراباد، وسلطانية وقزوين وسائر تلك البلاد وجبال الغور المنيعة، وعراق العجم وفارس الشامخة الرفيعة، وكل ذلك من غير منازع، ولا مجاذب ولا ممانع، وله في كل مملكة من هذه الممالك ولد، أو ولد ولد أو نائب معتمد إنموذج مما كان يغور ذلك الظلوم الكفور من عساكره في بحور، ويغوص على أمور، ثم يفور بشرور ومن جملة ذلك غوصه مما وراء النهر وخروجه من بلاد اللور ثم إنه مع اتساع مملكته وانتشار هيبته وصولته وشيوع أراجيفه في الأقطار، وبلوغ تخاويفه تجاويف الأقاليم والأمصار، وثقل أثقاله، وعدم اختفاء توجهه إلى جهة وانتقاله، كان يجري في جسد العالم، مجرى الشيطان من ابن آدم، ويدب في البلاد، دبيب السم في الأجساد قلت يصوب يمنة ويصيب يسرة ... وينوي جبهة والقصد نقره بينا يكون له في المشارق بيارق فيالق، إذ لمع له في الغرب بوارق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 بوائق، وبينما نغمات طبوله وضربات أعواده تقرع في حصار العراق وأصبهان وشيراز، وإذا برنات أوتاره وبوقات أبواقه تسمع في مخالف الروم ومقام الرهاوي وركب الحجاز فمن ذلك أنه مكث في سمرقند مشغولاً بإنشاء البساتين وعمارة القصور، وقد أمنت منه البلاد واطمأنت الثغور، فلما انتهت أموره وبلغ الكمال قصوره، أمر بجمع جنده، إلى سمرقنده، ثم أمرهم أن يصنعوا لهم قلانس ابتدعها، وعلى صورة من التركيب والتضريب اخترعها، فيلبسونها ويسيرون، وما بين إلى أين يصيرون، ليكون ذلك لهم شعاراً، وقد كان أرصد له في كل جهة من مماليكه جشاراً، ثم رحل عن سمرقند، وأشاع أنه قاصد خجند، وبلاد الترك وجند ثم إنه اندمس في دردور عسكره وإنقمس، كأنه في لجة بحر انغمس، ولم يشعر أحد أين عطف، ولا أنى قصد المختطف، ولا زال في تأويب وآساد، وجوب بلاد بعد بلاد، يسر سير الكواكب، ويجري جري المراكب ويطرح ما وقفه وكل من نجائب الجنائب، حتى نبع من بلاد اللور، ولم يكن لأحد به شعور، وهي بلاد عامرة، خيراتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 متكاثرة وفواكهها وافرة، اسم قلعتها بروجرد وحاكمها عز الدين العباسي، وقلعتها وإن كانت في الحضيض لكن كانت تسامي بمناعتها حصون الجبال الرواسي، وهي مجاورة همذان ومتاخمة عراق العرب كأذربيجان، فأحاط بالقلعة وما حواليها وحاصر ملكها المتولي عليها ولما كان صاحبها بلا عدد ولا عدد ولا أهبة ولا مدد، وكان في صورة المتوكل المحتسب وأتاه البلاء من حيث لا يحتسب، لم يسعه إلا طلب الأمان، والانقياد له والإذعان، فنزل إليه وسلمه قياده فقبض عليه وضبط بلاده، ثم أرسله إلى سمرقند وحبسه، وضيق عليه نفسه ونفسه، ثم بعد ذلك بمدة حلفه ورفع عنه ما نابه وصالحه على جمل من الخيل والبغال، ورده إلى بلاده، واستنابه ولما استخلص ذلك الكفور ولايات تلك الكفور، واصل السير إلى همذان، في أقرب زمان، فوصل إليها وأهلها غافلون فجاءها البأس بياتاً أو هم قائلون، فخرج إليه منها رجل شريف يقال له " مجتبى " وكان عند الملوك مصطفى ولديهم مرتضى، فشفع فيهم فشفعه على أن يبذلوا مال الأمان، ويشتروا بأموالهم ما من عليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 من الأرواح والأبدان، فامتثلوا أمره وفعلوا، ووزعوا ذلك فجمعوه، وإلى خزائنه نقلوا، فدعته نفسه الجانية أن طرح عليهم المال ثانية، فخرج إليه ذلك الرجل الجليل، ووقف في مقام الشفاعة مقام البائس الذليل، فقبل شفاعته، ووهبه جماعته، ثم إنه سدك بمكانه وجثم، حتى تلاحق به عسكره والتأم ابتداء تخريب ذلك الخرب أذربيجان وممالك عراق العرب ولما بلغ السلطان أحمد بن الشيخ أويس ما فعله بغنم رعايا جيرانه اللور وهمذان ذلك الأويس، وعلم أنه لابد له من قصد مملكته ودياره، لأنه هو بادأه بالشر وطرح على شراره طائر شراره، وإن عسكره وإن كان كالسيل الهامر فإنه لا مقاومة له ببحره وتياره، وأنه إذا جاء نهر الله بطل نهر عيسى، ولا مقابلة لسحرة فرعون مع عصا موسى قلت السيل يقلع ما يلقاه من شجر ... بين الجبال ومنه الصخر ينفطر حتى يوافى عباب البحر تنظره ... قد اضمحل فلا يبقى له أثر فاستعد للبلاء قبل نزوله، وتأهب له قبل حلوله فتشمر للهزيمة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وعلم أن إيابه سالماً نصف الغنيمة، واقتصر من بسيط فقه المقاتلة والمقابلة على الوجيز، وصمم على الخروج من ممالك بغداد والعراق وتبريز وقال لنفسه النجاء النجاء وجهز ما يخاف عليه صحبة ابنه السلطان طاهر إلى قلعة النجا، وأرسل إلى تيمور الأشعار والهجاء، فمن ذلك ما ترجمته فقلت لئن كانت يدي في الحرب شلا ... فرجلي في الهزيمة غير عرجا ثم قصد البلاد الشامية، وذلك في سنة خمس وتسعين وسبعمائة، في حياة الملك الظاهر أبي سعيد برقوق رحمه الله تعالى فوصل تيمور إلى تبريز ونهب بها الذليل والعزيز، ووجه إلى قلع النجا العساكر لأنه كانت معقل السلطان أحمد وبها ولده وزوجته والذخائر، وتوجه هو إلى بغداد ونهبها ولم يخربها ولكن سلبها سلبها وكان الوالي بالنجا رجلاً شديد البأس يدعى ألتون، عند السلطان أحمد مأمون، وله إليه ركون، ومعه جماعة من أهل النجدة، وأولي البأس والشدة، نحو من ثلاثمائة رجل في العدة وكان ينزل بهم ألتون إذا أخذ الليل في السكون، ويشن الغارة على تلك العساكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 والمكان المسكون، فوهن أمر العسكر فأبلغوا تيمور هذا الخبر فأمدهم بأربعين ألف مقاتل مشهور مع أربعة أمراء كبيرهم يدعى قتلغ تيمور، فوصلوا إلى القلعة ولم يكن إذ ذاك ألتون بها، وكان قد خرج للغارة على من في ضواحيها، فبينا هو راجع وإذا بالنقع ساطع فلما اطلع طلع الخبر قال " أين المفر " فقيل كلا " لاوزر " فعلم أن لا ملجأ من الله إلا إليه، فثبت جأشه وحاشيته وتوكل عليه، وقال إن الرؤوس في مثل هذا المقام إنما يكونون تحت الأعلام، فاحطموا نحو قلب هؤلاء اللئام، فأما أن تبلغوا المرام أو تموتوا على ظهر الخيل وأنتم كرام، إذ لا ينجيكم من هذا الكرب سوى الطعن الصادق والضرب، قلت كريماً مت وإلا مت لئيما ... فما والله بعد الموت موت فتعاضدوا بهمة صادقة، وعزيمة على حصول الخلاص من الله تعالى واثقة، وقد أحاطوا بهم إحاطة الشبكة بالسمكة، وصاروا في وسطهم كالمغزل في الفلكة، وقصدوا الراية وحامليها، ومن يليها وذويها، فساعدهم ساعد سعد لحيان بنصرته، وحل عنهم القبض الداخل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وأنكيس عقلته، فاسالوا على راياتهم ذات البياض من الدماء حمرة، وفتحت لجماعتهم طريق إلى عتبة النصرة، فلاح لهم فلاح وجنح لهم نجاح، فنجوا من الشرور، وحصل لهم السرور، بعد أن قتلوا من العسكر أميرين أحدهما قتلغ تيمور ولما وصل هذا الخبر إليه، اسودت الدنيا في عينيه، بل انقلب الكون والمكان عليه، ثم نهض إليها بنفسه، وربض عليه بحرسه، وأحاط بجوانبها وألقم الحرس أفواه مضاربها صفة قلعة النجا وهذه القلعة أمنع من العقاب، وأرفع من السحاب، يناجي السماك سماكها، ويباهي الأفلاك استمساكها، كأن الشمس في شرفها ترس من الإبريز على بعض شرفها، وكأن الثريا في انتصابها، قنديل معلق على بابها، لا يحوم طائر الوهم عليها، فأنى يصل طائش السهم إليها، ولا يتعلق بخدم خدمتها خلخال خيال وافتكار، فضلاً عن أن يحلق على معصم عصمتها من عساكر الأساورة سوار وكان ألتون قد تربى في ترائب ترابها، وأهل مكة أخبر بشعابها، فصار كلما سجى الليل الساجم، وأرصد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 لسراق الشياطين عيونه الرواجم، هبط من تلك القلال، وسرى سري طيف الخيال ودب دبيب الشحم في اللحم، والماء في العود والنار في الفحم، من درب لم تتوهمه الظنون، بعون من لا تراه العيون، بحيث لا يشعر به الحرس، ولا يبصر به العسس، ولا يزال يتلو عليهم آيات الإغفاء، وينفث بطلسمات الاستخفاء، ويتقرب ويترقب، حتى يلوح له في الحي مضرب، فيقتل ويسلب، وينهب ويهرب، فيكر سالماً ويفر غانماً فلم يزل ذلك دأبهم ودأبه، حتى أعجز تيمور وأصحابه، فلم ير تيمور أوفق من الارتحال، لضيق المجال وعسر المنال، فارتحل عنها بعد أن رتب عليها للحصار اليزك، واستمر الحصار مدة طويلة والقضاء يقول له اصبر فإنها لن تعجزك، قيل إنها مكثت في الحصار اثنتي عشرة سنة وسبب أخذه لها أن ألتون المذكور، كان له أخ بالفسق مشهور، فحصل بينه وبين أم السلطان طاهر، خيانة أوجبت عليها ما يجب على العاهر، فاطلع على ذلك طاهر بن السلطان أحمد، فقبض عليهما، وقتلهما، سالكاً في ذلك الرأي الأحمد وكان إذ ذاك ألتون عن القلعة غائباً، قد خرج منها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وقصد للغارة جانباً، فلما رجع ألتون أغلقوا باب القلعة عليه، ورموا بأخيه من فوق السور إليه، وأخبروه خبره، وعجره وبجره، فقال جزاكم الله أحسن الجزاء، وجعل حظكم من الخيرات أوفر الأجزاء لو كنت عالماً فعله، أو حاضراً قتله، لعاملته بما هو أهله، وفعلت به ما يجب فعله، ولحل به من الزمان دواهيه، وأريتكم العبر فيه، ولأشهرته في خلق الله تعالى وبريته، وناديت عليه هذا جزاء من يخون ولي نعمته ثم طلب الدخول فقطعوه عن الوصول، فقال أما أخي فإنه جنى فذاق ثمرة ما جناه، وأما أنا فقلبي على الوفاء بعهدكم من الأزل وإلى حين وفاتي لم أزل موالي وليكم ومعادي عدوكم فإن طردتموني فإلى أين أذهب، وإن رددتم رغبتي فيكم ففيمن أرغب، فقالوا ربما أدركتك الحمية، ولحقتك العصبية، فتذكرت أخاك، وتفكرت شدتك بعد رخاك فنقمت، وانتقمت، واعوججت بعد أن استقمت، وتكدر منك ما صفا وظهر ما اختفى، ناهيك قصة الأخوين مع ذات الصفا قلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ويمكن وصل الحبل بعد انقطاعه ... ولكنه تبقى به عقدة الربط فأنشأ أيماناً واثقة، أن كلماته وعهوده صادقة، فقالوا له لا تطل الحديث فما حييت مالك عندنا مقيل ولا مبيت، فارجع من حيث جئت، وهذا آخر العهد منك غضبت أم رضيت، فأخذ يذم دهره، ويعض يديه ندامة وحسرة، على أنه أنفذ عمره، في طاعة من لم يعرف قدره، ثم دنى فتدلى، وعبس وتولى، وسيب فرسه وماله، وفرق خيله ورجاله، ولما لم يكن له ملجأ، سوى قلعة النجا وقد خرجت من يده، وألقت النار في كبده، ضرب أخماساً لأسداس، فيمن يقصده من الناس ثم أورى برأيه الزند، أن يقصد مدينة مرند، وكانت تحت حكم تيمور، وفيها أوامره تمور، فسالمها وقصد حاكمها لابساً لبدا، وتاركاً مالاً وولدا، لما اتصل بحاكمها الخبر، أحاط به الجبن والخور، فاضطرب واقشعر، واضطرم واعتكر، وأخذ الحذر ورام المفر، فقيل أنه وحده من غير رجال وعدة، فرجع عقله إليه، ودخل ألتون عليه، فأخذ في التفتيش عن أموره، ثم قطع رأسه وأرسله إلى تيمور، فتحرق لذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وانتكى وتأسف عليه وبكى، وأرسل إلى قاتله فعزله، ثم صادره وقتله ثم أن السلطان طاهر لما أحدث هذا الحدث وتنجس بهذه الخبائث والخبث لم يمكنه الإقامة فأذن بالرحيل، وأم بجماعته قبل التحويل، إذ نشز عنه مخدرات القلعة فعجز عن إحصان تحصينها، وعنن في افتضاض أبكارها وعونها وقل جيشه وفل، فسل متاعه منها وانسل، فذل لتيمور صعابها، وفتح له من غير معالجة بابها، فولى فيها من يثق به من الأعوان، ووصى به لعلة المجاورة الشيخ إبراهيم حاكم شروان، ثم ثنى عنان الفساد، إلى صوب بغداد، فهرب السلطان أحمد كما ذكر إلى الشام في فئة، وذلك في شوال سنة خمس وتسعين وسبعمائة، فوصل إليها حادي عشريه يوم السبت، فكبتها وما حواليها أي كبت، " ثم صدر هو وقبيله عن ولاية بغدان قاصدين ديار بكر وأرزنجان " ذكر أخبار صاحب بغداد وأسماء آبائه والأجداد وكيفية دخوله إلى هذه البلاد وهو السلطان مغيث الدين أحمد بن الشيخ أويس بن الشيخ حسن بن حسين ابن آقبغا بن أيلكان صاحب بغداد وأذربيجان، وما أضيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 إلى ذلك من ولايات وممالك، وأيلكان جده الأعلى ابن القان الكبير النجيد شرف الدين سبط القان أرغون ابن أبي سعيد وكان والده الشيخ أويس من أهل الديانة والكيس، ملكاً عادلاً، وإماماً شجاعاً فاضلاً، مؤيداً منصوراً صارماً مشكورا، قليل الشر كثير البر، صورته كسيرته حسنة، وكانت دولته تسع عشرة سنة، وكان محباً للفقراء، معتقداً للعلماء والكبراء وكان قد أخبر في منامه بوقت موافاة حمامه، فاستعد لحلول فوته، ورصد نزول موته، وخلع من الملك يده، وولاه حسيناً ولده، وهو أكبر بنيه، والأفضل من أهله وذويه، ونبذ أدانيه ودنياه، وأقبل على طاعة مولاه، واستعطفه إلى الرضا، والعفو عما مضى، ولازم صلاته وصيامه، وزكاته وقيامه، ولا زال يصلي ويصوم، حتى أدركه ذلك الوقت المعلوم، فأظهر سره المصون، وتلا " فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " فدرج على هذه الطريقة الحسنة، وقد جاوز نيفاً ثلاثين سنة، ومن مغرب تبريز أفل قمره، وفي سنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 ست وسبعين وسبعمائة وصل إلى الشام خبره واستقر ولد جلال الدين حسين مكانه، وأفاض على رعيته فضله وإحسانه، وكان كريم الشمائل، جسيم الفضائل، وافر الشهامة، ظاهر الكرامة، أراد أن يمشي على سنن والده، ويحيي ما دثر من رسوم آثاره ومعاهده، فخذلته الأقدار، وخالطت صفو مساعيه الأكدار وفي سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة وصل من قصاده إلى الشام فئة، وهم القاضي زين الدين علي بن جلال الدين عبد الله بن نجم الدين سليمان العبايقي الشافعي، قاضي بغداد وتبريز، والصاحب شرف الدين بن الحاج عز الدين الحسين الواسطي وزير السلطان وغيرهما ثم في جمادى الآخرة من هذه السنة وثب السلطان أحمد على أخيه المشار إليه فقتله، وقام لينصر الملك والدين مكانه فخذله فملأ جفن حياته من الفناء سنة، وعمره إذ ذاك نيف وعشرون سنة ولما استولى السلطان على ممالك العراق، مد يد تعديه وضم جناح الشفقة والإرفاق، وشرع يظلم نفسه ورعيته، ويذهب في الجور والفساد يومه وليلته، ثم بالغ في الفسق والفجور، فتجاهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 بالمعاصي وتظاهر بالشرور، واتخذ سفك الدماء إلى سلب الأموال وثلم الأعراض سلما فقبل إن أهل بغداد مجوه، واستغاثوا بتيمور، فأغيثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه، فلم يشعر إلا والتتار قد دهمته، وعساكر الجغتاي خيلاً ورجلاً حطمته، وذلك يوم السبت المذكور، من الشهر المشهور، فاقتحموا بخيلهم دجلة وقصدوا الأسوار، ولم يمنعهم ذلك البحر البتار، ورماهم أهل البلد بالسهام وعلم أحمد أنه لا ينجيه إلا الانهزام، فخرج فيمن يثق به قاصد الشام، فتبعه من الجغتاي قوم لئام، فجعل يكر عليهم ويردعهم، ويفر منهم فيطمعهم، وحصل بينهم قتال شديد، وقتل من الطائفتين عدد عديد، حتى وصل إلى الحلة، فعبر من جسرها نهر دجلة، " ثم قطع الجسر ونجا من ورطة الأسر، واستمرت التتار في عقبه تكاد أنوفها تدخل في ذنبه فوصلوا إلى الجسر ووجدوه مقطوعاً، فتزاموا في الماء وخرجوا من الجانب الآخر ولم يزالوا تابعاً ومتبوعاً ففاتهم ووصل إلى مشهد الإمام وبينه وبين بغداد ثلاثة أيام " ذكر ما افتعله من الخديعة والمكر في بلاد أرزنجان وديار بكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 فوصل إلى ديار بكر واستخلصها، ومن أيدي ولاتها خلصها، فعصت عليه قلعة تكريت فتسلط عليها من عساكره كل عفريت، وذلك يوم الثلاثاء رابع عشر ذي الحجة، وقد ارتجت منه البلاد أشد رجة، فحاصرها وأخذها في صفر بالأمان، ونزل إليه متوليها حسن بن يولتمور متدرع الأكفان، وفي حضنه وعلى عاتقه أطفاله، وقد ودعه أهله وماله، وأسلمته خيله ورجاله، وذلك بعد أن عاهده أن لا يريق دمه، فأرسله إلى حائط فقضه عليه وردمه، وقتل من بها من رجال وسبى النساء وأسر الأطفال، وجعل يعيث ويستأصل، ويقطع في الفساد ويوصل حتى أناخ يوم الجمعة حادي عشرين صفر سنة ست وتسعين على الموصل، فأخربها وكسرها، ثم أتى رأس عين ونهبها وأسرها، ثم إلى الرها تحول، ودخلها يوم الأحد غرة شهر ربيع الأول، فزاد عيثاً وفساداً، وجارى فيما عاند ثموداً وعادا، وخرج من تلك البلد، ثاني عشرين يوم الأحد ثم اختار من نسور قومه طائفة، على ورد الدماء حائمة وعلى قتل المسلمين عاكفة، فأخذهم واندغر وفي ممالك ديار بكر انغمر، ولم يزالوا بها عائثين، ولأذاها قاصدين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وعليها ظالمين، وفيها ماردين، فقصدها بتلك العفاريت المصاليت، وواصل السير إليها فوصلها في خمسة أيام من تكريت، ومسافة ما بينهما للمجد، اثنا عشر يوماً إن لم تزد، وكان سلطانها الملك الظاهر تحقق أنه لا يضر من التجأ إليه، وقدم في ثوب الطاعة عليه، فما وسعه إلا التشبث بذيل ذممه، والانتظام في سلك خدمه ذكر ما جرى لسلطان ماردين عيسى الملك الظاهر من المحنة والبلاء مع ذلك الغادر الماكر لكنه خاف غائلته، فجمع حاشيته وصاغيته، وقال إني ذاهب إلى هذا الرجل، ومظهر له الانقياد، فإن ردني حسبما أريد فهو المراد وإن طالبني بالقلعة، فكونوا أنتم على التأبي والمنعة، وإياكم أن تسلموها إليه، أو تعتمدوا في الكلام عليه، وإن دار الأمر بين تسليم القلعة وبين إتلافي، فاحتفظوا بالقلعة واجعلوا التلافي في تلافي، فإنكم إن تسلموها إليه، خرجتم من باطنكم وظاهركم، وأتى بالهلاك على أولكم وآخركم، وخسرتم شعاركم ودثاركم، وغبنتم أنفسكم ودياركم، وإذا كان كذلك فأنا أجعل نفسي فداكم، وأكفيكم بروحي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 ما داهاكم، وبعض الشر أهون من بعض، وها أنا أجس لكم النبض ثم قصد ذلك الكالح والمفسد الطالح، بعدما استخلف ابن أخيه الملك الصالح شهاب الدين أحمد بن الملك السعيد اسكندر بن الملك الصالح الشهيد، ونزل يوم الأربعاء خامس عشري شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وسبعمائة، واجتمع به في سلخه بمكان يسمى الهلالية، فقابله بشنعة، وقبض عليه بسرعة، وطلب منه تسليم القلعة فقال القلعة عند أربابها وبيد أصحابها وأنا لا أملك إلا نفسي فقدمتها إليك، وقدمت بها عليك، فلا تحملني فوق طاقتي، ولا تكلفني غير استطاعتي فأتى به إلى القلعة وطلبها منهم فأبوا، فقدمه إليهم ليضرب عنقه أو يسلموه فنبوا، فطلب منه في مقابلة الأمان من الدراهم الفضية مائة تومان وكل تومان ستون ألفاً، خارجاً عما يتقرب به إليه زلفى، ثم إنه شد وثاقه، وسد عليه ليذهب عنه ما به من قوة كل باب وطاقه، وشمر للفساد ذيله، وجعل يريح رجله ويسمن خيله، ويتفوق كاسات فساده، ويعربد على عباد الله وبلاده، واستمر على ذلك لا يعي ولا يفيق، ويتردد ما بين الفردوس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 إلى رسمل ونصيبين والموصل العتيق ثم أمر عساكره في جمادى الآخرة أن يمروا قاصدين، ويقصدوا ماردين، فسابقوا الطير ولاحقوا السير، وجازوا بالنهار الأنهار وبالليل السيل، فقطعوا فقار القفار، قطع الهندي وعملوا في تلك الجبال والقلال بما قاله الكندي وهو سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالاً على حال فوصلوا إليها على غفلة، واحتووا عليها من غير مهلة، وذلك يوم الثلاثاء ثاني عشره، وقد سل الصبح حسام فجره، وطار غراب الدجى عن وكره، فصاروا سوار معصم تلك الأسوار، وأحلوا الدمار هاتيك الديار، فعموها رجفاً، وساموها خسفاً، وهدوها زحفاً، ودكوها وجفاً، وتعلقوا بأهداب أرجائها وتسلقوا بالسلالم من أرضها إلى سمائها، وكان متسلقهم على الأسوار، من القبلة رابية اليهود، ومن الغرب التلول، ومن الشرق المنشار، فأخذوا المدينة عنوة وقسراً، وملؤها فسقاً وكفرا، وترفع أهل المدينة إلى القلعة، ولم يكره أحد سواهم علو المنزلة والرفعة، واكوهدوا ملتجئين إلى قوادمها وخوافيها، وذب عنهم من القلعة بالسهام والمكاحل من كان فيها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 فقتلوا من ظفروا به ذكراً أو أنثى صغيراً أو كبيراً، ولم يرتضوا بما فيها نهباً وبمن فيها أسيرا، فجالد بعض الناس وأظهر لهم بعض جلادة وأراد بتثبته لهم أن يضم الجهاد إلى الشهادة، ولا زالت آيات القتال عليهم تتلى، حتى امتلأت المدينة من الجرحى والقتلى، واستمر ذلك من قبل طلوع الشمس، إلى أن صار اليوم الأمس وحين التقى على وجنتي الكون عارضا الليل، واستوفى أولئك المطففون من ظلمهم وتعديهم الميزان والكيل، وبادر نون الظلام يؤنس الشمس بالالتقام، طرأ على تلك الحركات السكون فتراجعوا ونزل العسكر مقابل عربون، وقد قتل من العسكرين ما سبق العدد، وأكثرهم كان من أهل البلد، فباتوا يعدون السلاح ويثقفونه، وينتظرون الصباح ويستبطئونه، إلى أن شق الليل مكتوم جيبه، وأظهر الظلام مكنون غيبه، وأمر الكون وجه النهار أن يضرب على جنبي الآفاق أطراف شيبه، بكروا بكور الغراب وبدروا إلى الحراب والخراب، وعصروا أهل المدينة وحاصروها أشد حصر، وهدموها وأسوارها من الظهر، فمحوا آثارها بعد العصر، ثم باءوا بالآثام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وقد انتشر كظلمهم الظلام إيضاح ما أخفاه من الحيلة وصلود زند تلك الأفكار الوبيلة ولما آب أمله بالخيبة، ولم يمكنه تحصيل القلعة بالهيبة، شحذ فكراً وجدد مكراً، وتاب عن المقابحة، وثاب إلى المصالحة، فردع ذلك الخميس، في نهار الخميس وأرسل إليهم يقول، ضمن كتاب مع رسول علم أهل قلعة ماردين والضعفاء والعجزة المساكين والعطاش أننا قد عفونا عنهم وأعطيناهم الأمان على نفوسهم ودمائهم، فليأمنوا وليضاعفوا لنا الأدعية وهذه الرسالة نقلتها كما وجدتها، فما استب كيده، ولا أنجح قصده، لأن رصدها كانوا غير راقدين، وشياطين حرسها كانوا كهى ماردين، فارتحل ذلك البلية بكرة السبت إلى البشرية، وأرسل إلى آمد الجنود مع أمير يدعى سلطان محمود، فتوجه بجيش طام وحاصرها خمسة أيام وأرسل يستمده عليها، فتوجه بنفسه إليها، وأحلها الهوان، فطلبوا الأمان، فأمن البواب، ففتح له الباب فدخل من باب التل، ووضع السيف في الكل، فأباد الجميع وأبار العاصي والمطيع وأسروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 الصغار، وهتكوا أستار الحرم وحرم الأستار، وأذاقوا الناس لباس البأس، والتجأ بعض الناس إلى الجامع، فقتلوا منهم نحو ألفي ساجد وراكع، ثم حرقوا الجامع، ورحلوا وتركوها بلاقع، فهداه إبليس إلى أخذ قلعة أرجيس ثم بادر بالتحريك وحط على قلعة أونيك وفيها مصر بن قرا محمد أمير التركمان، فحاصرها وأخذها بالأمان، وذلك في سنة ست وتسعين وسبعمائة بعد عيد رمضان، ثم قتل كل من كان بها من الجند، وصير مصر إلى سمرقند " فصل " ثم استصحب الملك الظاهر بسوء نية ورحل سابع ذي القعدة سنة ست وسبعين وسبعمائة، وحبسه في مدينة سلطانية، وحبس عنده من أمرائه الأمير ركن الدين وعز الدين السليماني واسنبوغا وضياء الدين وضيق عليه بأن يقطعوا عن أهله خبره، بحيث لا يدري أحد عجره وبجره، ولما أثخنه وشد الوثائق قصد التوجه إلى دشت قبجاق، فأجرى نحوها ما أقام من الفتنة على قدم وساق، ومكث الملك الظاهر سنة لا يدري أحد خبره في يقظة ولا سنة ثم وفدت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الملكة الكبرى إلى سلطانية وخففت عنه ما به من ضيق وبلية، وفسحت له في مراسلة جماعته، وحرضته على طلب الدخول في رضى تيمور وطاعته، زاعمة أنها ناصحة له وطالبة مصلحته، وكان ذلك من مكايد تيمور وبإشارته ثم رجع تيمور من الدشت في شعبان سنة ثمان وتسعين فمكث بسلطانية ثلاثة عشر يوماً ثم توجه إلى همذان، ومكث بها إلى ثالث عشر شهر رمضان، ثم استدعى من سلطانية الملك الظاهر، بإكرام تام وانشراح صدر وخاطر، ففكوا قيوده وقيود متعلقيه وعظموه غاية التعظيم مع ذويه، وتوجه إليه يوم الخميس خامس عشره ودخل عليه يوم السبت سابع عشره، فتلقاه بالاحترام واعتنقه، وأذهب عنه دهشته وقلقه، وقبله في وجهه مراراً واعتذر إليه مما فعله معه جهاراً، وقال له إنك لله ولي، ورفيع القدر كأبي بكر وعلي، وتحلل منه عما صدر في حقه عنه، وأضافه ستة أيام، وخلع عليه خلع الملوك العظام، وأحله محلا جميلا، وأعطاه عطاء جزيلا، من ذلك مائة فرس وعشرة بغال وستون ألف دينار كبكية وستة جمال، وخلع مزركشه مكلله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وإنعامات وافرة مكملة، ولواء يخفق على رأسه منصوراً وستة وخمسين منشورا، كل منشور بتولية بلد، وأن لا ينازعه فيه أحد، أول ذلك الرها إلى آخر ديار بكر إلى حدود أذربيجان وأرمينية وكل ذلك من الدهاء والمكر وأن جميع حكام تلك البلاد يكونون تحت طاعته معدودين في جملة خدمه وجماعته، يحملون إليه الخراج والخدم، ولا ينقلون إلا عن أمره قدماً عن قدم، بحيث يكون شخص كل منهم من مجاوريه بما أفاء الله عليهم لظله فيئا، ويعفى هو فلا يحمل إلى تيمور ولا غيره شيئاً، وهذا وإن كان في الظاهر كالإكرام، فإنه فيما يؤول إليه وبال عليه وانتقام، وفيه كما ترى ما فيه، وإلقاء العداوة بينه وبين مجاوريه، وينجر ذلك إلى أن يلتجي إليه ويعول في كل أموره عليه، ويدخل لكثرة الأعداء تحت ضبنه، فيصل إذ ذاك منه إلى حصنه ثم إنه شرط عليه أنه كلما طلبه جاء إليه، ثم عانقه وودعه، وأمر أمراءه لتشييعه فخرج من الضيق إلى السعة، لثالث عشر شهر رمضان ليلة الجمعة، سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، فوصل إلى سلطانية، في عيشة رضية، وحالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 هنية ثم عزم على تبريز في جحفل نفيس عزيز واجتمع بأميران شاه فزاد في إكرامه وعطاياه شيعه في أحسن هيئة وأيمن طور فجاء على وسطان بدليس وأرزت إلى الصور ووصل خبره إلى قبائله والعشائر، فابتهج الناس ودقت البشائر، فوصل يوم الجمعة حادي عشري شوال، وخرج أهل المدينة والأكابر للاستقبال، وسبق الناس ولي عهده الملك الصالح، فدخل المدينة بفأل سعيد وأمر ناجح، وتوجه إلى مدرسة حسام الدين، وزار والده وأمواته الماضين، وعزم على ترك التخت المنيف، والتوجه إلى الحجاز الشريف، فلم تتركه الناس خاصة وعامة، وتراموا عليه وقبلوا أقدامه، فصعد إلى محل كرامته، واستقر في كرسي مملكته وسيأتي لهذا الشأن مزيد البيان وما جرى من الأمور عند قدوم تيمور، وحلول عسكره اللئام، ماردين بعد خرابهم ممالك الشام قيل لما استقر الملك الظاهر في مملكته، اجتمع عنده جماعة من أدباء وقدماء حضرته، فاقترح عليهم أن يقولوا في ذلك شيئاً، فقال أولاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 بدر الدين حسن بن طيفور طغى تمر واستأصل الناس ظلمه ... وشاعت له في الخافقين الكبائر لقد زاد بغياً فافرحوا بزواله ... لأن على الباغي تدور الدوائر فقال ركن الدين حسين بن الأصغر أحد الموقعين ثانياً كن من رجال إذا ما الخطب نابهم ... ردوا الأمور إلى الرحمن واغتنموا فسلموا الأمر لما أن رأوا خطرا ... لذي الجلال فلما سلموا سلموا فقال القاضي صدر الدين بن ظهير الدين الحنفي السمرقندي ثالثاً طويل حياة المرء كاليوم في غد ... فخيرته أن لا يزيد على الحد ولا بد من نقص لكل زيادة ... وإن شديد البطش يقتص للعبد ثم قال علاء الدين بن زين الدين الحصني أحد الموقعين رابعاً لا تحزن فالذي قضى الله يكون ... والأمر موكل إلى كن فيكون ما بين تحرك بلحظ وسكون ... الحالة تنقضي وذا الأمر يهون فأعجبه ذلك وأجازه خمسة آلاف درهم وصرفه والله أعلم ذكر رجوعه من ديار بكر والعراق وتوجهه إلى مهامه قبجاق ووصف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ملوكها وممالكها وبيان أوضاعها ومسالكها ثم إنه رجع من عراقي العرب والعجم، وقد ثبتت له في ممالكها أية قدم، وذلك بعد أن قدم عليه الشيخ إبراهيم وسلمه مقاليد ما بيده من أقاليم، وتقلد طوق عبوديته، ووقف في مواقف خدمته، وانتظم في سلك عبده، وأحله محل ولده، وسنذكر كيف تغرب عليه، ومن أي طريق تقرب إليه فقصد دشت قبجاق وجد في الوخد والأعناق وهو ملك فسيح، يحتوي على مهامه فيح، وسلطانها توقتاميش، وهو الذي كان في حرب تيمور أمام السلاطين المخالفين كالجاليش إذ هو أول من بالعداوة بارزه، وفي بلاد تركستان واقفه وناجزه، ونجده في ذلك كما مر السيد بركة وبلاد الدشت تدعى دشت قبجاق ودشت بركة، والدشت باللغة الفارسية اسم للبرية، وبركة المضاف إليه هو أول سلطان أسلم ونشر بها رايات الملة الإسلامية، وإنما كانوا عباد أوثان، وأهل شرك لا يعرفون الإسلام والإيمان، ومنهم بقية يعبدون الأصنام إلى هذا الأوان فتوجه إلى ذلك الإقليم من طريق الدربند الجاري تحت حكم الشيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 إبراهيم، وهو سلطان ممالك شروان، ونسبه متصل بالملك كسرى أنو شروان، وله قاض يدعى أبا يزيد، يفضل على جميع أركان دولته بالقرب إليه ويزيد، وهو دستور مملكته، وقطب سلطنته فاستشار في أمور تيمور وما يفعله، أيطيعه أم يتحصن منه أم يفر أم يقاتله؟ فقال له الفرار في رأيي أصوب، والتحصن في الجبال الشواهق أوثق عندي وأعجب فقال ليس هذا برأي مصيب، أنجو أنا وأترك رعيتي ليوم عصيب، وماذا أجيب يوم القيامة رب البرية، إذا رعيت أمورهم وأضعت الرعية، ولا عزمت أن أقاتله، وبالحرب والضرب أقابله، ولكني أتوجه إليه سريعاً، وأتمثل بين يديه سامعاً لأمره مطيعا، فإن ردني إلى مكانتي، وقررني في ولايتي، فهو قصدي وغايتي، وإن أذاني أو عزلني أو حبسني أو قتلني، فتكفي الرعية مؤنة القتل والنهب والأسار، فيولي إذ ذاك عليهم وعلى البلاد من يختار، ثم أمر بالاقامات فجمعت، وأذن للجيوش فتفرقت وتمنعت، وبمدن الولايات أن تتزين وتتزوق، وبسكانها براً وبحراً أن تأمن فتتعامل وتتأنق، وبالخطب أن تقرأ فوق المنابر باسمه، وبالدنانير والدراهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 أن تضرب بوسمه ورسمه، ثم حمل التقادم والخدم، وتوجه إليه بأطيب جأش وأثبت قدم، ولما وفد عليه، وتمثل بين يديه، قدم الهدايا والتحف، وأنواع الغرائب والطرف وعادة الجغتاي في تقديمهم الخدم أن يقدموا من كل جنس تسعة، لينالوا بذلك عند المهدى إليه الكرامة والرفعة، فقدم الشيخ إبراهيم من كل جنس من أجناس ما قدمه تسعة، ومن المماليك ثمانية، فقال له المتسلمون لذلك وأين تاسع المماليك؟ فقال التاسع نفسي العانية، فأعجب تيمور هذا الكلام، ووقع من قلبه بمكان ومقام، وقال له بل أنت ولدي، وخليفتي في هذه البلاد ومعتمدي، وخلع عليه خلعة سنية ورده إلى مملكته مستبشراً ببلوغ الأمنية ثم فرقت تلك الإقامات، وتوزعت الفواكه والطعامات، ففضل منها أمثال الجبال عن ذلك العسكر الذي هو كالحصى والرمال، ثم تركه وسار إلى بلاد الشمال والتتار وسبب آخر لقصده تلك الممالك وإن كان لايحتاج إلى ذلك، أن الأمير إيدكو كان عند توقتاميشس أحد رؤوس أمراء الميسرة والأعيان المتخذين في النائبات لدفعها وأرباب الرأي والمشورة، وقبيلته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 تدعى قونكرات، وقبائل الترك كقبائل العرب واللغات كاللغات، وكان إيدكو قد أحس من مخدومه، تغير خاطر خاف منه على نفسه وكان توقتاميش شديد البأس فخشي منه حلول بأسه، فلم يزل منه متحرزاً، وللفرار إذا رأى منه ما يقتضي ذلك مستوفزا، وجعل يراقبه ويراقيه، ويداربه ويداريه، ففي بعض ليالي السرور ونجوم الكاسات في أفلاك الطرب تدور، وسلطان الخمرة قد أنفذ في أسير العقل أمره طفح أن قال توقتاميش لإيدكو، ونور البصيرة يخبو ويذكو إن لي ولك يوما، يسومك الخسف سوما، ويوليك عن موائد الحياة صوماً، ويملأ عين بقائك من سنة الفناء نوماً، فغالطه إيدكو وباسطه وقال أعيذ مولانا الخاقان، أن يحقد على عبد ماخان، وأن يذوي غراس هو أنشأه، أو يهوي أساس هو بناه، ثم أظهر التذلل والخشوع، والتمسكن والخنوع، وتحقق ما كان ظنه، وأعمل في وجه الخلاص ذهنه، واستعمل في ذلك الذكاء والفطنة، وعلم أنه إن أهمل أمره أو أمهله، أنه فمكث قليلاً واستغفل السلطان، ثم انسلت من بين الحواشي، والأعوان، وخرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 في لجاجة كأنه يريد قضاء حاجة، وأتى إصطبل توقتاميش، بجأش يجيش ولا يطيش، وعمد إلى فرس مسرجة، منجيه منتجة، أقيمت معدة، لكل شدة، وقال لبعض حاشيته، المؤتمن سره من فاشيته من أراد يوافيني، فعند تيمور يلاقيني، ولا تفشي هذه الأسرار، إلا بعد أن تتحقق أني قطعت القفار ثم تركه وسار، فلم يشعر به إلا وقد سبق وركب طبقاً عن طبق، وقطع على أنوال السير أطول الشقق، فلم يدركوا منه ما أثار ولا لحقوا منه ولا الغبار فوصل إلى تيمور وقبل يديه، وعرض حكاياته وأخباره كما جرت عليه، وقال أنت تطلب البلاد الشاحطة والأماكن الوعرة الساقطة، وتركب في ذلك الأخطار، وتقطع فقار القفار، وتتلو أسفار الأسفار، وهذا المغنم البارد نصب عينيك وتدركه هنيئاً مريئا بهينك ولينك، ففيم التواني والتناعس، وعلام التقاعد والتقاعس، فانهض بعزم صميم، فأنا لك به زعيم، فلا قلعة تمنعك، ولا منعة تقلعك، ولا قاطع يدفعك ولا دافع يقطعك، ولا مقاتل يقابلك، ولا مقابل يقاتلك فما هم إلا أوشاب وأوباش، وأموال تساق وخزائن بأرجلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 مواش ولا زال يحرضه على ذلك ويطالب، ويفتل منه في الذروة والغارب، كما فعل معه عثمان قرايلوك حين جاء إلى تبريز بوسواسه، وحرضه على دخوله الشام بعد قتله السلطان برهان الدين أحمد ومحاصرة سيواسه كما يذكر فتهيأ تيمور بأوفى حركة، إلى استخلاص دشت بركة، وكانت بلاداً بالتتار خاصة، وبأنواع المواشي وقبائل الترك غاصة، محفوظة الأطراف، معمورة الأكتاف، فسيحة الأرجاء، صحيحة الماء والهواء، حشمها رحاله، وجنودها نباله، أفصح الأتراك لهجة، وأزكاهم مهجة، وأجملهم جبهة، وأكملهم بهجة، نساؤهم شموس، ورجالهم بدور، وملوكهم رؤوس، وأعيانهم صدور، لا زور فيهم ولا تلبيس، ولا مكر بينهم ولا تدليس وأبهم الترحال على عجل، مع أمان لا يدانيه وجل، مدنها قليلة، ومراحلها طويلة وحد بلاد الدشت من القبلة بحر القلزم الظلوم الغشوم، وبحر مصر المنقلب إليهم من بلاد الروم، وهذان البحران كادا يلتقيان لولا أن جبل الجركس بينهما برزخ لا يبغيان ومن الشرق تخوم ممالك خوارزم وأترار وسغناق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 إلى غير ذلك من البلاد والآفاق، آخذاً إلى تركستان وبلاد الجتا، متوغلاً إلى حدود الصين من ممالك المغول والخطا، ومن الشمال " إيبير، وسيبير " مواضع وبرار وقفار ورمال كالجبال، وكم بين ذلك من تيه، تحير الطير والوحش فيه، وهو كرضى الخلق غاية لا تدرك، ومهامه لا تسلك، ومن الغرب تخوم بلاد الروس والبلغار، وممالك النصارى الأشرار، ويتصل بتلك التخوم ما هو جار تحت حكم ابن عثمان من ممالك الروم، وكانت القوافل تخرج من خوارزم وتسير بالعجل، وهم آمنون من غير ريب ولا وجل، وإلى قيريم طولاً ومسيرة ذلك نحو من ثلاثة أشهر وأما عرضاً فهو بحر من الرمل أمده منه سبعة أبحر، لا يهتدي فيه الخريت، ولا يقربه من الدعاميص كل عفريت، فكانت القافلة لا تحمل زاداً ولا عليقاً ولا يصحبون معهم رفيقاً، وذلك لكثرة الأمم، ووفور الأمن والمأكل والمشرب من الحشم، فلا يصدرون إلا عن قبيله، ولا ينزلون إلا عند من يكرم نزيله، وكأنه فيهم قيل متكنفى جبلى عكاظ كليهما ... يدعو وليدهم بها عرعار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وأما " في هذا " اليوم فليس بتلك الأماكن من خوارزم وإلى قيريم من تلك الأمم والحشم متحرك ولا ساكن، وليس فيها من أنيس، إلا اليعافير وإلا العيس، وتحت الدشت سراي، وهي مدينة إسلامية البنيان، بديعة الأركان ويأتي وصفها وكان السلطان بركة رحمه الله لما أسلم بناها، واتخذها دار الملك، واصطفاها، وحمل أمم الدشت على الدخول في حمى الإسلام ودعاها، فلذلك كانت محل كل خير وبركة، وأضيفت بعد إضافتها إلى قبجاق وإلى بركة أنشدني لنفسه مولانا وسيدنا الخواجة عصام الدين بن المرحوم مولانا وسيدنا الخواجة عبد الملك وهو من أولاد الشيخ الجليل برهان الدين المرغيناني رحمه الله، في حاجي ترخان من بلاد الدشت بعد مرجعه من الحجاز الشريف سنة أربع عشرة وثمانمائة، وفي يومنا هذا أعني سنة أربعين وثمانمائة، انتهت إليه الرياسة في سمرقند قال، وقد قاسى في درب الدشت أنواع النكال قد كنت أسمع أن الخير يوجد في ... صحراء يعزى إلى سلطانها بركه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 بركت ناقة ترحالي بجانبها ... فما رأيت بها في واحد بركه وأنشدني أيضاً لنفسه معرضاً بمولانا وسيدنا وشيخنا حافظ الدين محمد بن ناصر الدين محمد الكردي البزازي تغمده الله تعالى برحمته في الزمان والمكان المذكورين متى تحفظ الناس في بلدة ... مصالحها في يدي حافظ فحافظها صار سلطانها ... وسلطانها ليس بالحافظ ولما تشرف بركة خان بخلعة الإسلام، ورفع في أطراف الدشت للدين الحنيفي الأعلام، استدعى العلماء من الأطراف، والمشايخ من الآفاق والأكناف، ليوقفوا الناس على معالم دينهم، ويبصروهم طرائق توحيدهم ويقينهم، وبذل في ذلك الرغبات، وأفاض على الوافدين منهم بحار الهبات، وأقام حرمة العلم والعلماء وعظم شعائر الله تعالى وشرائع الأنبياء، فكان عنده في ذلك الزمان وعند أوزبك بعده وجاني بك خان مولانا قطب الدين العلامة الرازي، والشيخ سعد الدين التفتازاني، والسيد جلال الدين شارح الحاجبية، وغيرهم من فضلاء الحنفية والشافعية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 ثم من بعدهم مولانا حافظ الدين البزازي، ومولانا أحمد الجندي، رحمهم الله تعالى فصارت سراي بواسطة هؤلاء السادات مجمع العلم ومعدن السعادات واجتمع فيها من العلماء والفضلاء، والأدباء والظرفاء والنبلاء، ومن كل صاحب فضيلة، وخصلة نبيلة جميلة، في مدة قليلة، ما لم يجتمع في سواها، ولا في جامع مصر ولا في قراها وبين بنيان سراي وخراب ما بها من الأمكنة، ثلاث وستون سنة، وكانت من أعظم المدن وضعاً، وأكثرها للخلق جمعا حكى أن رجلاً من أعيانها هرب له رقيق، وسكن في مكان منحى عن الطريق، وفتح له حانوتاً، يتسبب فيه ويحصل له قوتاً، واستمر ذلك المهين، نحواً من عشر سنين، لم يصادفه فيها مولاه، ولا اجتمع به ولا رآه، وذلك لعظمها وكثرة أممها، وهي على شط نهر متشعب من نهر آثل، الذي أجمع السواحون والمؤرخون وقطاع المناهل، أنه لم يكن في الأنهر الجارية، والمياه العذبة النامية، أكبر منه، وهو يأتي من بلاد الروس، وليس له فائدة سوى اغتيال النفوس، ويصب في بحر القلزم، وكذلك جيحون وسائر أنهار العجم ونهر سيحون، مع أن بحر القلزم محصور، وعليه بعض ممالك العجم تدور، مثل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 كيلان ومازندران، وأستراباذ وشروان، واسم نهر سراي سنكلا، ولا يقطع أيضاً إلا بالمراكب، ولا يثبت عليه قدم لراجل أو راكب، وكم فرق تتفرق من ذلك البحر العريض الطويل، كل فرق أعظم من الفرات والنيل ذكر وصول ذلك الطوفان وجحفه أمم الدشت بعد كسره توقتاميش خان فوصل تيمور إلى تلك الداره، بالعساكر الجرارة، بل بالبحار الزخاره ذوي السهام الطيارة والسيوف البتارة والرماح الخطارة والأسود الهصارة والنمور الكرارة، من كل شان الغارة مدرك في العدو ثاره حام حقيقته وجاره وعرينه ووجاره وفريسته ونجاره وألج من بحر الحرب غماره، مقاوم أمواجه وتياره فأرسل توقتاميش إلى زعماء حشمه، وعظماء أممه وسكان أحقافه وقطان أطرافه ورؤوس أسرته وضروس ميمنته وميسرته، فاستدعاهم وإلى المقابلة والمقاتلة دعاهم، فأتوا في ثوب طاعته يرفلون " وهم من كل حدب ينسلون " واجتمعوا شعوباً وقبائل ما بين فارس وراجل وضارب ونابل ومقبل وقابل وفاتك وقاتل، بمرهف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وذابل وهم قوم نبال النبال وعضال النضال لا يطيشون سهماً، وهم من بني ثعل أرمى، إذا عقدوا الأوتار أصابوا الأوتار وإن قصدوا الأوطار وجدوا المقصد جثم أو طار ثم نهض للمصادمة، واستعد للمقاحمة والمقاومة، بعساكر كالرمال كثرة، وكالجبال كرة وفرة ذكر ما وقع من الخلاف في عساكر توقتاميش وقت المصاف وحين تواقف الصفان، وتثاقف الزحفان، برز من عسكر توقتاميش أحد رؤوس الميمنة، له دم على أحد الأمراء فطلبه منه وفي قتله استأذنه، فقال له لينعم بالك وليجب سؤالك قلت لكن ترى ما قد طرا ... على الورى وما جرى فأمهلنا، حتى إذا انفصلنا وعلى المراد حصلنا، أعطيتك غريمك وناولتك خصيمك، فأدرك منه ثأرك، واقض أوطارك، قال لا ولكن الساعة، وإلا فلا سمع لك ولا طاعة فقال نحن في كرب مهم، هو من مرامك أهم، وخطب مدلهم هو من مصابك أعم، فاصبر ولا تعجل واطمئن ولا توجل، فما يذهب لأحد حق، ولا يضيع مستحق، فلا تلجئ الأعمى إلى الجرف ولا تكن ممن يعبد الله على حرف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 فكأنك بليل الشدة وقد أدبر وبصباح الفلاح وقد أسفر، فالزم مكانك ونازل أقرانك، وتقدم ولا تتأخر، واصدع بما تؤمر فانخذل ذلك الأمير، بجمع كثير، وأتبعه كل باغ وعاق، وقبيلته كلها واسمها آقتاق فانطلق يروم ممالك الروم، فوصل هو وحشمه إلى ضواحي أدرنه، واستوطنوا تلك الأمكنة فاختل لذلك عسكر توقتاميش، وصارت سهام مرامه عن مراميه تطيش، ولم ير بداً من اللقاء، وصدق الملتقى، فثبت جأشه وجيشه، وهزم وقاره طيشه، وقدم من أطلابه الأبطال، ورتب الخيالة والرجال، وقوى القلب والجناح، وسدد النبل والصفاح " فصل " أما جيش تيمور فإنه مستغن عن هذه الأمور، لأن أمره معلوم، ووصفه مفهوم وسطر النصر والتمكين على جبين راياته مرقوم، ثم تدانى الجيشان واصطدما واصطليا بنار الحرب واصطلما والتفت الأقران بالأقران، وامتدت الأعناق للضراب وشرعت النحور للطعان، واكفهرت الوجوه واغبرت وكشرت ذئاب الضراب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 واهرت، وتهارشت نمور الشرور واسبطرت وتعانشت أسود الجنود وازبأرت واكتست بريش النبال الجلود فاقشعرت، وأهوت جباه الجباه ورؤوس الرؤوس في محراب الحرب للسجود فخرت، وثار الغبار وقام القتام، وخاض بحار الدماء كل خاص وعام، وصارت نجوم السهام في ظلام القتام لشياطين الأساطين رجوماً رواشق، ولوامع السيوف في سحاب التراب على الملوك والسلاطين نجوماً صواعق، ولا زالت سلاهب المنايا تجوب وتجول، وضراغم السرايا تصوب وتصول ونقع السنابك إلى الجو راقيا، ونجيع السوافك على الدو جاريا، حتى غدت الأرضون ستاً والسموات كالبحار ثمانيا واستمر هذا اللدد والخصام نحواً من ثلاثة أيام، ثم انجلى الغبار عن انهزام جيش توقتاميش ولى الأدبار وفرت عساكره وانذعرت وانتشرت جنود تيمور في ممالك الدشت واستقرت، واستولى على قبائلها وأتى على ضبط أواخرها وأوائلها، واحتوى على الناطق فمازه وعلى الصامت فحازه، وجمع الغنائم، وفرق المغانم، وأباح النهب والأسر وأذاع القهر والقسر، وأطفأ قبائلهم، وأكفأ مقاولهم، وغير الأوضاع وحمل ما استطاع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 من الأموال والأسرى والمتاع، ووصلت طراشته إلى آزاق، وهدم سراي وسرايجوق وحاجي ترخان وتلك الآفاق، وعظمت منزلة إديكو عنده، ثم قفل قاصداً سمرقنده، وصحب إيدكو معه، ورام منه أن يتبعه ذكر إيدكو وما صنعه وكيف خلب تيمور وخدعه فأرسل إيدكو قاصداً إلى أقاربه وجيرانه، وقبائل الميسرة من أصحابه وأخدانه، من غير أن يكون لتيمور، بذلك شعور، أن يرحلوا عن مكانهم وينشمروا عن أوطانهم، وأن ينحوا جهة عينها وأماكن بينها، صعبة المسالك، كثيرة المهالك، وإن أمكنهم أن لا يقيموا في منزل واحد يومين فليفعلوا ذلك، فإنه إن ظفر بهم تيمور بدد شملهم وأبادهم كلهم، فامتثلوا ما رسم به إيدكو وارتحلوا، ولم يلووا ولما علم إيدكو أن جماعته فوزوا، وحشمه لتيمور أعجزوا، قال له يا مولانا الأمير إن لي من الأقارب والحشم الجم الغفير، وإنهم عضدي وجناحي، وبصلاح معايشهم صلاحي، ولا آمن عليهم إن بقوا بعدي، من توقتاميش الجور والتعدي، بل لا شك أنه يفنيهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 ويبيدهم عن بكرة أبيهم، وحيث يمتنع عليه بجاه جنابك جانبي ينتقم لسوء طويته من حشمي وأقاربي، لأن سدى هذه الملاحم أنا ألحمته، وفي مضايق البلاء ومآزق الانكسار أنا أقحمته، وعلى كل حال فلا يطيب على قلبي أن يساكنوه وكيف يهنأ لي العيش وأصدقائي مجاورون عدوي، فإن اقتضت الآراء المنيرة، إرسال قاصد إلى تلك " الأماكن " والقبائل الكثيرة صحبة مرسوم شريف وأمر عال منيف باستمالة خواطرهم، وتطيب قلوب قبائلهم وعشائرهم والأمر بترحالهم وترقيع حالهم، فنكون جميعاً تحت الظل الشريف في روض عيش وريق وريف ونخلص من هذا الدشت، الخلق الدشت ونقضي ما مضى من الأعمار، ونقضي الباقي في جنات تجري من تحتها الأنهار، فالرأي الشريف أعلى واتباع ما يبديه بالمماليك أولى فقال له تيمور أنت عذيقها المرجب وجذيلها المحكك، ومع وجودك أنت من يسلك هذا المسلك فقال كل الأنام عبيدك وتابع مرادك ومريدك، ومن تراه لشيء أهلاً كان كل حزن عليه سهلاً فقال بل أنت أولى بهذا الأمر فكن ضمينه إذ لا يفتى ومالك في المدينة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 فقال أضف إلي واحداً من الأمراء ليكون لي عليهم وزراء، مع مراسيم شريفة بما تقتضيه الآراء المنيفة فأجابه وقضى مراده وأضاف إليه من أراده، فقضيا مآربهما ونجزا ونحو مطلبهما تجهزا ولما فصل إيدكو تيمور استدرك فارطه، وعلم أن إيدكو خلبه عقله وغالطه، فأنفذ إليه قاصداً أن يكون إليه عائداً لأمر قد سنح ورأي قد جنح، فلما قدم القاصد عليه وبلغ ما أرسل به إليه، قال له وللأمير الذي معه وقد نهى كلاً منهما أن يتبعه اقضيا مأربكما والحقا صاحبكما وقبلا يديه وأبلغاه أن أمد اجتماعنا هذا منتهاه وإني بريء منه إني أخاف الله، ولم يمكنهما مخاشنته ولا وسعهما في تلك الضائقة الشديدة إلا ملاينته، فودعاه وانصرفا، وانحرفا وما وقفا ولما بلغ تيمور ذلك تصرف وتصرم وتبرح وتبرم وحرق عليه الأرم وتندم ولات حين مندم، وكاد يقتل نفسه حنقاً عليه، وتجرع كاسات ويوم يعض الظالم على يديه، ولم يمكنه التقيد به فلم يتحرك له بحركة، وتوجه إلى ممالكه ثم إلى سمرقند وتركه، وكان هذا آخر أمره من دشت بركة قيل إنه لم يخدع تيمور ويدهيه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ويخلبه قولاً وفعلاً ويطغيه سوى إيدكو المار ذكره، أقول وسوى قاضي القضاة ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون المالكي الآتي حكايته وأمره تتمة ما جرى في نواحي الشمال بين توقتاميش وإيدكو من جدال وقتال إلى أن تغير أمر كل منهما وحال ولما انفصل تيمور بما حصل واستقر بمملكته بعدما وصل واتصل إيدكو بحاشيته وابتهج بطاغيته وغاشيته، أخذ في التفتيش عن أمور توقتاميش، وتحفظ منه وتحرز ولمناواته انتصب وتجهز، إذ لم يمكنه رتق ما فتقه ولا رقع ما خرقه، وأيضاً ما أمكنه الاستقلال بادعاء السلطنة، إذ لو أمكن ذلك لادعاه تيمور الذي ملك الممالك، فنصب من جهته سلطانا، وشيد في دار الملك خانا، ودعا رؤوس الميسرة ووجوه قبائلها إليه، فلبوا دعوته وأقبلوا عليه، إذ كانوا أقوى من غيرهم، آمنين من ضرر الجغتاي وضيرهم، فقوى بذلك سلطانه، وعمر بقفول الجنود خانه، وثبت في دار الملك أساسه وعلت أركانه وأما توقتاميش فبعد أن تراجع وهله واستقر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 في دماغه عقله، ورحل عدوه وحصل هدوه جمع عساكره واستنجد قوته وناصره، فلا زالت ضروب الضراب كحراب الحروب بينه وبين إيدكو قائمة وعيون السكون كجفون الزمان المتعامي عن صلحهما نائمة إلى أن بلغ مصافهم خمس عشرة مرة، يدال هذا على ذاك تارة وذاك على هذا كرة، فأخذ أمر قبائل الدشت في التناقص والشتات، وبواسطة قلة المعاقل والحصون وقعوا في الانبثاث والانبتات، لا سيما وقد تناوشهما أسدان، وأطل عليهما نكدان، وقد كان جلهم ذهب مع تيمور، وأمسى وهو في أمره محصور، وفي حصره مأسور فانفلتت منهم طائفة لا تحصى ولا تحصر، ولا يمكن ضبطها بديوان ولا دفتر، وانحازت إلى الروم والروس، وذلك لحظهم المشؤوم وجدهم المعكوس، فصاروا بين مشركين نصارى، ومسلمين أسارى، كما فعله جبلة ببني غسان واسم هذه الطائفة قرابوغدان فبواسطة هذه الأسباب، آل عامر الدشت إلى الخلاء والخراب، والتفرق واليباب، والانفلات والانقلاب، وصارت بحيث لو سلكها أحد من غير دليل ورصد فإنه يهلك على الحقيقة لإضاعته في المجاز طريقه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 أما صيفاً فلأن الرياح للرمال تسفى، فتختفى الطريق على المارة وتعفى، وأما شتاء فلأن الثلج النازل فيها يتراكم عليها فيغطيها، إذ كل أرضها مجاهل ومنازلها مذاهل، ومراحلها مهامه ومناهل، فعلى كل تقدير، سلوكها مهلك عسير فكانت الوقعة الخامسة عشرة على إيدكو فتشتت وتشرد، وتبذر وتبدد، وغرق هو ونحو خمسمائة رجل من أخصائه في بحر الرمل، فلم يشعر به أحد واستبد توقتاميش بالمملكة، وصفا له دشت بركه، وكان مع هذا متشوفاً لأخبار إيدكو وأحواله متشوقاً لمعرفة كيفية هلاكه في رماله، ومر على ذلك نحو من نصف سنة، وانقطع أثره عن الأعين وخبره عن الألسنة وإيدكو كان دعيميص تلك الأعقاص والأحقاف وممن قطع بسير أقدامه أديم تلك النعال والأخفاف، فصار يتربص ويتصبر ويتفكر معنى ما قلته ويتدبر، وهو أرقب القصد وانتظر فرصاً ... وانتهز وقتها إذا ماجا وامزج الصبر بالحجا فبه ... ورق التوت صار ديباجا فلما تيقن أن توقتاميش أيسه، وتحقق أن ليث المنايا افترسه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 شرع يتجسس أخباره ويتتبع، ويستشرف آثاره ويتطلع، إلى أن تحقق من الخبر، أنه في متنزه منفرد عن العسكر، فامتطى جناح الخيل، وارتدى جنوح الليل، ووصل السير بالسرى، واستبدل السهر بالكرى، فارعا إلى الهضاب، فروع الحباب، مفرعا من الربى، إفراع الندى حتى وصل وهو لا يعلم، وانقض عليه كالقضاء المبرم، فلم يفق إلا والبلايا احتوشته، وأسود المنايا انتوشته، وثعابين الرماح وأفاعي السهام نهشته، فحاولهم قليلا، وجاولهم طويلا، ثم انجدل قتيلا، وكانت هذه المرة من الوقعات السادسة عشر، خاتمة التلاق، وحاكمة الفراق فاستقر أمر الدشت على متولي إيدكو، وصار القاصي والداني والكبير والصغير إلى مراسيمه يصفو، وتفرقت أولاد توقتاميش في الآفاق، جلال الدين وكريم بيردي في الروس وكوباك وباقي إخوته في سغناق، واستمر أمر الناس على مراسيم إيدكو يولي السلطنة من شاء، ويعزله منها إذا أساء، ويأمر فلا يخالفه أحد، ويحد فلا يجاوز ذلك الحد فمن ولاه قوتليغ تيمور خان، وأخوه شادي بك خان، ثم فولاد خان بن قوتليغ تيمور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 ثم أخوه تيمور خان، وفي أيامه تخبطت الأمور، فلم يسلم لإيدكو زمامه، وقال لا كيد له ولا كرامة، أنا الكبش المطاع، فأنى أكون مطيعاً، والثور المتبوع فكيف أصير تبيعا فالتحم بينهما الشقاق، ونجم من ذوي الضغينة مخبوء النفاق، وجرت شرور ومحن، وحروب وإحن، وبينا ظلمات الفتن احتبكت، ونجوم الشرور في دياجير الدشت بين الفريقين اشتبكت، وإذا ببدر الدولة الجلالية، من مشارق السلالة التوقتاميشية بزغ متهللا، وفرع من بلاد الروس مقبلا وكانت هذه القضية في شهور سنة أربع عشرة وثمانمائة، فتعاظمت الأمور، وتفاقمت الشرور، وضعف حال إيدكو وقتل تيمور، واستمر النفاق والشقاق، بين ممالك ملوك قبجاق، إلى أن مات إيدكو غريقاً جريحاً، وأخرجوه من نهر سيحون بسرايجوق وألقوه طريحاً، رحمه الله تعالى وله حكايات عجيبة، وأخبار ونوادر غريبة، وسهام دواه في أعدائه مصيبة، وأفكار مكايد، وواقعات مصايد، وله في أصول فقه السياسة نقود وردود، البحث فيها يخرج عن محصول المقصود وكان أسمر شديد السمرة ربعه، مستمسك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 البدن شجاعاً مهابا ذا رفعة، جواداً حسن الابتسامة، ذا رأي مصيب وشهامه، محباً للعلماء والفضلاء، مقرباً للصلحاء والفقراء يداعبهم بألطف عبارة، وأظرف إشارة، وكان صواماً، وبالليل قواما، متعلقاً بأذيال الشريعة، قد جعل الكتاب والسنة وأقوال العلماء بينه وين الله تعالى ذريعة، له نحو من عشرين ولدا كل منهم ملك مطاع، وله ولايات على حدة وجنود وأتباع، وكان في جماعات الدشت إماماً، نحواً من عشرين عاماً، وأيامه في جبين الدهر غرة، وليالي دولته على وجه العصر طرة ما كنا فيه من أمور تيمور ودواهيه ولما وصل تيمور إلى أذربيجان، وانبث عسكره في ممالك سلطانية وهمذان، واستدعى الملك الظاهر سلطان ماردين وأطلقه، وأنعم عليه كما ذكر واستوثقه، وولاه ما بين الشام والعراق، وأحكم تلك الممالك بما وسعه من المكر والنفاق، ولم يمكنه الإقامة بملك العجم، لما معه من الدشت من أمم، وجه عنان قصده، إلى ممالك سمرقند، فنفض فيها أوطابه، وفرغ عما كان ملأ به من الدشت جرابه، ثم خرج من غير توان، وقطع جيحون بالطوفان، ووصل إلى خراسان، وواصل السير إلى أذربيجان، فتوجه إلى طهرتن حاكم أرزنجان، متلقياً طوق مراسيمه بجيد الإطاعة والإذعان، وأهما أمر ماردين وتناساها، ولم يتعرض إلى ما يتعلق بها من مدنها وقراها ابتداء ثوران ذلك القتام فيما يتعلق بممالك الشام ثم أنه قصد الرها، ورام نهبها، فخرج إليه شخص من أعيانها، ورؤساء قطانها، يقال له الحاج عثمان بن الكشك فصالحه واشتراها بجمل من الأموال وحملها إليه وأداها، فعند ذلك أرسل إلى القاضي برهان الدين أبي العباس أحمد الحاكم بقيصرية وتوقات وسيواس، من الرسل عدة، ومن الكتب شدة، يبرق فيها ويرعد، ويرغي في بحرها ويزبد، ويقيم بفحاويها ويقعد ومن جملة فحواه، ومضمون ذلك وما حواه، أن يخطبوا باسم محمود خان، أو سيورغاتمش خان وباسمه، ويضربوا السكة على طرز ذلك ورسمه، كما هو دأبه، ويتحمله رسوله وكتابه، فلم يؤمن له السلطان برسول ولا بكتاب، ولا تقيد له بجواب عن خطاب، بل قطع رؤوس الرؤوس من قصاده، وعلقها في أعناق الباقين، وأشهرهم في بلاده، ثم جعلهم شطرين، وقسمهم نصفين، وأرسلهم إلى جهتين، للسلطان الملك الظاهر أبي سعيد برقوق منهم جزء مقسوم، والجزء الآخر إلى السلطان أبي يزيد بن مراد بن أورخان بن عثمان حاكم ممالك الروم، وأخبرهما بالقضية عن جلية، وما ورد عليه من خطاب تيمور الممقوت، وأنه جعل في ذلك جوابه السكوت، وقتل قاصديه نكاية، ولم يزده على هذه الحكاية، وإنما فعل ذلك برسله وقصاده، استهواناً به واستعظاماً لما فعله بعباد الله تعالى وبلاده ثم قال القاضي اعلموا أني جاركما، ودياري دياركما، وأنا ذرة من غباركما، وقطرة من بحاركما، وما فعلت معه هذا مع ضعف حالي، وقلة مالي ورجالي، وضيق دائرتي وبلادي، ورقة حاشية طريفي وتلادي، إلا اعتماداً على مظاهرتكما، واتكالاً على مناصرتكما، وإقامة لأعلام حرمة دولتكما، ونشر الرايات هيبة صولتكما، فإني جنة ثغركما، ووقاية نحركما، وجاويش جنودكما، وجاليش بنودكما، وربيئة طلائعكما، وطليعة وقائعكما، وإلا فمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 أين لي مقاومته، وأنى يتيسر لي مصادمته؟ وقد سمعتم أحواله، وعرفتم مشاهده وأفعاله، فكم من جيش كسر، وقيل أسر، وملك ملك، وملك أهلك وستر هتك ونفس سفك، وحصن فتح، وفتح منح، ومال نهب، وعز سلب، وصعب أذل، وخطب أحل، وعقل أزل، وفهم أضل، وخيل هزم، وأس هدم، وسؤل قطع، وقصد منع، وطود قلع، وطفل فجع، ورأس شدخ، وظهر فضح، وعقد فسخ، ونار أشب، وريح أهب، وماء أغار، ورهج أثار، وقلب شوى، وكبد كوى، وجيد قصم، وطرف أعمى وسمع أصم فأنى لي ملاطمة سيل العرم، ومصادمة الفيل المغتلم، فإن نجدتماني وجدتماني، وإن خذلتماني بذلتماني، ويكفيكما هيبة وشهرة، وناهيكما أبهة ونصرة، إن من خدمكما قدامكما، من كفاكما ما دهاكما وإن أصابني والعياذ بالله منه ضرر، أو تطاير إلى مملكتي من جمرات شره الشرر، ربما تعدى ذلك الفعل بواسطة الحوادث، إلى مفعول به ثان وثالث قلت والشر كالنار يبدو حين تقدحه ... شرارة فإذا بادرته خمدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وإن توانيت عن إطفائه كسلا ... أورى قبائل تشوي القلب والكبدا فلو تجمع أهل الأرض كلهم ... لما أفادوك في إطفائه أبدا وما أهملت خطابه، وأمهلت جوابه، لترسما فاقتفى، وتأمرا فاكتفى، وتؤسسا فأبني عليه، وتجاوبا فيصل ذلك كذلك مني إليه ذكر ما أجاب به السلطان أبو يزيد بن عثمان القاضي برهان الدين أبا العباس سلطان ممالك سيواس فأما السلطان أبو يزيد بن عثمان، فإن هذا الفعل أعجبه، ونغم هذا القول أطربه، واستحسن هذا الحكم من القاضي واستصوبه، وأرسل إليه يقول إن ارتدع تيمور عنه وانتهى، وإلا فليأتينه بجنود لا قبل له بها، فليقابله بعين قريرة، وليثبت له بحسن البصيرة، وإخلاص السريرة، ولا يجزع من جنوده الغزيرة، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة وإن اقتضت آراؤه السديدة، وأحكامه السعيدة، توجه بنفسه إليه، وقدم بالغزاة والمجاهدين عليه، ليرفع أعلامه، وينفذ أحكامه، ويكون لسيفه يداً، ولجناحه عضدا، ثم أرسل كتابه، وانتظر جوابه وأما الملك الظاهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 فما رأيت له كتاباً، ولا حققت منه له جوابا، والظاهر أن جواب الملك الظاهر أبي سعيد، كان شقيق جواب السلطان الغازي أبي يزيد، إذ أفعالهما وأقوالهما في الباطن والظاهر، كانت من توارد الخاطر، ثم إني رأيت كتاباً يتضمن خطاباً وجوابا، وذكر أن الخطاب من ذلك الغادر، والجواب من الملك الظاهر، وكلاهما سوى آي الكتاب غير زاه ولا زاهر، أما صورة الخطاب فهو " قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون " اعلموا أنا جند الله مخلوقون من سخطه مسلطون على من يحل عليه غضبه، لا نرق لشاك ولا نرحم عبرة باك، قد نزع الله الرحمة من قلوبنا، فالويل كل الويل لمن لم يمتثل أمورنا فإنا خربنا البلاد، وأهلكنا العباد، وأظهرنا في الأرض الفساد، قلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، خيولنا سوابق، ورماحنا خوارق، وملكنا لا يرام، وجارنا لا يضام، فإن أنتم قبلتم شرطنا، وأصلحتم أمرنا، كان لكم ما لنا، وعليكم ما علينا، وإن أنتم خالفتم وأبيتم، وعلى بغيكم تماديتم، فلا تلومن إلا أنفسكم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 فالحصون منا لا تمنع، والعساكر لدينا لا ترد ولا تدفع، ودعاؤكم علينا لا يستجاب ولا يسمع، لأنكم أكلتم الحرام وضيعتم الجمع، فأبشروا بالذلة والجزع، فاليوم تجزون عذاب الهون، وقد زعمتم أننا كفرة، فقد ثبت عندنا أنكم فجرة، قد سلطنا عليكم إله له الأمور مقدرة، والأحكام مدبرة، كثيركم عندنا قليل، وعزيزكم عندنا ذليل، قد ملكنا الأرض شرقاً وغرباً، وأخذنا منها كل سفينة غصباً، وأرسلنا إليكم هذا الكتاب، فأسرعوا في رد الجواب، قبل أن ينكشف الغطاء، ولم يبق لكم باقية، فينادي عليكم منادي الفناء " هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا " وقد أنصفناكم إذ راسلناكم، ونثرنا جواهر هذا الكلام عليكم والسلام وهذه صورة الجواب وقيل هو إنشاء القاضي بدر الدين بن علاء الدين بن فضل الله وما أظن لذلك صحة وهو " بسم الله الرحمن الرحيم " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير " حصل الوقوف على كتاب مجهز من الحضرة الأيلخانية، والسدة العظيمة الكبيرة السلطانية قولكم إنا مخلوقون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 من سخطه، مسلطون على من يحل عليه غضبه، لا نرق لشاك، ولا نرحم عبرة باك، قد نزع الله الرحمة من قلوبكم فهذا من أكبر عيوبكم، وهذا من أقبح ما وصفتم به أنفسكم، ويكفيكم بهذه الشهادة واعظاً إذا اتعظتم " قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون " ففي كل كتاب ذكرتم، وبكل قبيح وصفتم، وزعمتم أنكم كافرون، ألا لعنة الله على الكافرين من تشبه بالأصول، لا يبالي بالفروع نحن المؤمنون لا يصدنا عيب، ولا يداخلنا ريب، القرآن علينا نزل، وهو رحيم بنا ولم يزل، وقد عمنا ببركة تأويله، وقد خصنا بفضل تحريمه وتحليله إنما النار لكم خلقت، ولجلودكم أضرمت " إذا السماء انفطرت " ومن العجب العجاب تهديد الليوث باللتوت، والسباع بالضباع، والكماة بالكراع نحن خيولنا بحرية، وهممنا علية، والقناة شديدة المضارب، ذكرها في المشارق والمغارب، إن قتلناكم نعم البضاعة، وإن قتلتمونا بيننا وبين الجنة ساعة " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون " وقلكم قلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال فالجزار لا يبالي بكثرة الغنم، وكثير من الحطب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 يكفيه قليل من الضرم " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين " لفرار لا من الرزايا، نحن من المنية، في غاية الأمنية، إن عشنا عشنا سعداء، وإن متنا متنا شهداء إلا إن حزب الله هم الغالبون، أبعد أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين، تطلبون منا طاعة؟ لا سمع لكم ولا طاعة وطلبتم أن نوضح لكم أمرنا، فهذا الكلام في نظمه تركيك، وفي سلكه تفكيك، لو كشف لبان، قبل التبيان، أكفراً بعد إيمان، أم اتخذتم رباً ثان؟ " لقد جئتم شيئاً إدا، تكاد السموات يتفطرون منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا " قل لكاتبك الذي رصع رسالته، ووصف مقالته، حصل الوقوف على كتاب كصرير باب، أو طنين ذباب، " وسنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا " ومالكم عندنا إلا السيف بقوة الله تعالى ثم إني وجدت في نسخة محا مر الدهور، بتقادمه مدادها، وبيض كر العصور، على وجه الزمان من شيبها سوادها، صورة هذا الكتاب، وهيئة هذا الخطاب، من إنشاء نصير الدين الطوسي، على لسان هولاكو التتري، مرسلاً ذلك إلى سلطان مصر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وصورة الجواب بعينه إنشاء من كان في ذلك العصر " فصل " ولما بلغ تيمور ما فعله السلطان برهان الدين بقصاده حنق، ورتق بجناحي الغضب وفار دم قلبه ورنق، وغص غضباً فكاد من الغيظ أن يختنق، ولكن علم أن في الزوايا خبايا، وللإسلام جنوداً وسرايا، وفي عرين الدين من ليوث المسلمين بقايا، وأن أمامه أسوداً هواصر، وجوارح كواسر، فتصبر للزمان، ورجع القهقرى وتربص منهم الدوائر ذكر توجه العساكر الشامية لدفع تلك الداهية الدهية مع أن ملك الأمراء هو تنم، خرج بالعساكر إلى أرزنجان ورجع وهو معتنم، ولم يروا في ذلك ضيرا " ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا " وعاد من جيش الإسلام كل أسد هصور، وقد اصطاد من دفركى ما ضاهى صورته وجاء نور على نور ذكر رجوع ذلك الكنود وقصده استخلاص بلاد الهنود ثم إن تيمور بلغه أن سلطان الهند فيروز شاه، انتقل من زحمة الدنيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 إلى رحمة الله، ولم يكن له ولد يكون له خليفة فسعى تيمور لأن يتولى بحكم الوفاة والشغور تلك الوظيفة، ولما فاض صاحب الهند صارت الناس فوضى، ومرج بحر أمر الهند وماج فجعل كل يخوض خوضاً فعز بعض الناس وبعضهم ذلوا، ثم اتفقوا على تولية وزير اسمه ملو، فرأب من أمر الناس ما انصدع، ورفع من استحق الرفع وخفض من بغير استحقاق ارتفع، فعصى عليه إخوة سارنك خان، متولي مدينة ملتان، ووقع بينهم التخالف، وافترق ملأ الهنود فرقاً وطوائف، فكان اختلافهم لتيمور أحسن مساعد، وأقوى عضد وساعد قلت وتشتت الأعداء في آرائهم ... سبب لجمع خواطر الأحباب وحين وصل تيمور إلى ملتان، عصى عليه سارنك خان، فأقام يحاصرها، وقعد يضاجرها، وكانت عساكرها جمة، وليالي كتائبها السود مدلهمة حتى قيل إن من جملة عسكرها الثقيل، كان ثمانمائة فيل، مع أن كل أمير من أطراف الهند، ورئيس من أكناف السند، كان قد كفكف أذياله، ولملم رحاله ورجاله، وضبط لجوائحه أقياله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وربط لحوائجه أفياله، واستمر ذلك اللدد والخصام، نحواً من ثلثي عام، إلى أن استخلصها ومن يده خلصها " فصل " ولما استولى ملو واستقر أمر الهند عليه، وبلغه توجه تيمور إليه، جد واجتهد وأعد العدد والعدد، واستمد الإمداد والمدد، وأهلك مالاً لبدا، وحسب أن لن يقدر عليه أحد، وفرق الأموال، وجمع الخيل والرجال، وأحضر ما في مملكته من الأفيال، ثم حصن مدائنه، ومكن كمائنه، وشيد على الأفيال للمقاتلة أبراجاً، وأحكم في تحرير المناضلة طريقة فقه فيها ذهب ومنهاجا وجد تيمور في السير، حتى كاد يسبق الطير، إذ لم يكن له في ثلاث الأرث من يحجبه، ولا في عساكر سلطان الهند من يقربه فلما بلغ الهنود بالجنود برزت إليه بالجنود الهنود، وقدموا الفيول لتنفير الخيول وقد بنوا على كل فيل من الأتراس برجا، وعبئوا في كل برج من المقاتلين ن يخشى في المضابق ويرجى، بعد ما جعلوها من البركستوانات في حصار، وعلقوا عليها من القلاقل والأجراس الهائلة ما يدعو العفاريت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 إلى الفرار، وشدوا في خراطيمها سيوفاً يصلح أن يقال أنها سيوف الهند، تدعو الرؤوس شعلة لهيبها فتخر لها ساجدة فيحق أن يقال لها نار السند وهذا خارج عما لتلك الفيلة من الأنياب التي هي في الحروب كالحراب إذ هي في أداء ما وجب عليها نصاب كامل وسهامها التي هي مصيبة في نحور من يقابلها تقصم كل نابل وذابل فكانت تلك الأفيال في وصف القتال كأنها غيل بأسودها ماشية أو صياص بجنودها جارية أو أطواد بنمورها عادية أو بحار بأفواج أمواجها رائحة جائية، أو ظلل من الغمام بصواعقها هامية، أو ليالي الفراق بنوائبها السود سارية، وخلفها من الهنود فوارس الحرب، وأبطال الطعن والضرب، سود الأسود، وطلس الذئاب ونمر الفهود بالذابل الخطى، والصارم الهندي والنبل الخلنجي، مع قلب ذكي وجنان جري، وعزم قوي، وضرب رضي ذكر ما فعله ذلك المحتال من الخديعة في إجفال الأفيال وحين اطلع تيمور على هذه الحال وتحقق أن شقة عساكر الهند نسجت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 على هذا المنوال أعمل المكيدة، في قلع هذه المصيدة، ومرق لهم بمرقة قدر طبخها أخثر من العصيدة، فبدأ أولاً في الاحتيال، بدفع مكيدة الأفيال، فاستعمل الفكر الحديد، في اصطناع شوكات من حديد، مثلثة الأطراف، مستبعدة الأوصاف، كأنها في شكلها الخبيث، طرق القائلين بالتثليث، أو وضع أصحاب الأوفاق، أعدادهم المنسوبة إلى الوفاق، فصنعوا له من ذلك الألوف ثم عمد إلى مجال الفيول في الصفوف فنشر ذلك لها ليلاً، وجلب لأهلها حرباً وويلا، ورفم لذلك حدا، ورسم أن فعل ذلك الحد لا يعدى، ثم ركب أطلابه وأبطاله، ورتب أسوده وأشباله، وهذب خيله وشذب رجاله، وأرصد شمالاً ويمينا، من عسكره للعدو كمينا، وحين بث سلطان السيارة في جوانب الآفاق خيله، وضم جيش الظلام رجاله أنجمه وشمر للهزيمة ذيله، مشى عسكره إلى ذلك الحد رويداً حتى وصل إليه، ولما تراءى الجمعان نكص على عقبيه، ثم نكب بالخيول، عن طريق الفيول، فتصوروا أن خيوله جفلت، وشمس نصرته انكشفت، وكواكب جيشه أفلت، فأقلعوا قلاع الفيول، فانهمرت انهمار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 السيول، وساقوها خلف عساكره سوقا، على ذلك الشوك الملقى، وأتبع الفيالة، من الهنود الرجالة والخيالة فلما وصلت سيول الفيول من مطارح الشوك إلى المقاسم، وأخذ ذلك الشوك في تقبيل أيديها وأرجلها وتثبت بتلك المناسم وأحست قوائمها بشوكها، رجعت القهقرى بل وولت الأدبار لعدم عقلها ووجود نوكها فنهنهوها ونهوها عن التولي فلم يفدها النهى والنهنهة، وصارت في التقدم إلى جهة العدو كفيل أبرهة ثم لم يسعها لما أحرها الشوك في تلك الحرار، إلا التولي من الزحف والفرار، فحطمت الفيول، الرجال والخيول، وصارت القتلى كالجبال والدماء في أوديتها سيول وخرج عليهم الكمين من ذات الشمال وذات اليمين، فأبادوا سائرهم، وألحقوا بأولهم آخرهم وقيل أن بلاد الهند ليس فيها أباعر، وأن منظرها يجفل الفيل فيصير أبعد نافر، فأمر تيمور أن يهيأ خمسمائة بعير جفول، وتعبأ رواحلها والحمول، قصباً محشواً بفتائل وقطن بالدهن مبلول، وأن تساق أمام الركبان، إلى أن يتراءى الجمعان، فلما تصافوا ولم يبق إلا القتال، أمر أن تطلق النار في تلك الحشايا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 والأحمال، وتسلق إلى جهة الأفيال، فلما أحست البعران، بحرارة النيران، رغت ورقصت، ونحو الفيول شخصت وصارت كما قيل كأنك من جمال بني أقيش ... يقعقع بين رجليه بشن فلما رأت الفيلة النيران، وسمعت رغاء البعران، ونظرت إلى الإبل كيف خلقت، وشاهدتها وقد غنت ورقصت، وبأجفالها صفقت، أولت على عقبها ناكصة، لسائقها واهصة، ولركابها واقصة فحطمت الخيالة، وهشمت الرجالة، وتلا الكافرون آية النصر على أصحاب الفيل، وأرسلوا عليهم من السهام طيراً أبابيل، فلم ينتفعوا بالأفيال، بل أفنت الأفيال غالب الخيل والرجال، ثم تراجعت عساكر الهنود، وأبطال الخيالة من الجنود وكتبوا الكتائب وبندوا البنود، ثم تراموا وتصافوا وتضاموا وتحافوا، وهم ما بين مجوسي ومسلم، ومبارز منتسب ومناد بالشعار معلم، وكل في سواد اللون والحديد كقطع الليل المظلم، ثم تدانوا مع التتار وتزاحفوا، وبعد المراشقة بالسهام بالرماح تنافقوا، ثم بالسيوف تضاربوا، قم تلاتبوا وتواثبوا، ثم تراموا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 عن ظهور الخيل، واعتكر في ذلك القتام النهار بالليل، ولا زالت تختلف بينهم الضربات وتصول فيهم الحملات، وتحمل منهم الصولات، حتى تلا لسان القضاء والقدر " إن في اختلاف الليل والنهار لآيات " ثم تناهى الاقتحام، وانفرج الازدحام، وأسفرت القضية عن أن برد حامى الهند فانهزم جيش حام، وحل بالهنود الويل، ومحا الله آية الليل ولما تفرقت الهنود وفلوا، وانتهى عقد عملهم في المحاربة فحلوا، وقتلت سرواتهم وهرب سلطانهم ملوا، وثبت تيمور وحكمه في هنده، إلى الآن كما ثبت أوتاده في سمرقنده، فجمع أقيالها، وربط أفيالها، وضبط أحوالها، وما غفل عن ضبط ما عليها وما لها، وسلم أفيالها فيالها ثم توجه نحو تختها وهي مدينة دهلي، مصر عظيم جمع فنون الفضل وأرباب الفخر الجلي، معقل التجار، ومعدن الجواهر والبهار، فتمنعت عليه بالحصار، فأحاط بذلك السواد الأعظم، من عساكره السواد الأعظم، ومن معه من الخلائق والأمم، فقيل إن هذه العساكر والخلائق مع عظمها وكثرتها، لم يقدروا أن يكتنفوها لسعة دائرتها، وأنه أخذها من أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 جوانبها بالمحاصرة، وتم الجانب الآخر ثلاث أيام في المحاربة والمكاشرة لم يدر من في الجانب المحاصر، لبعد المدى وكثرة الأمم ما فعل بالجانب الآخر ذكر وصول ذلك الخبر إلى ذلك العقوق بوفاة الملكين أبي العباس أحمد والملك الظاهر برقوق وبينا هو استولى على كرسي الهند وأمصاره، واحتوى على ممالكه وأقطاره، وبلغت مراسيمه ذرا أنجاده، وأعماق أغواره، وانبث جيشه في ولاياتها سهلاً ووعرا، وظهر فساده في رعاياها براً وبحراً إذ وفد عليه المبشر من جانب الشام، أن القاضي برهان الدين أحمد السيواسي والملك الظاهر أبا سعيد برقوق انتقلا إلى دار السلام، فسر بذلك وانشرح، وكاد أن يطير إلى جهة الشام من الفرح فنجز بسرعة أمور الهند، ونقل إلى مملكته من فيها من العساكر والجند، بما أخذه من الأثقال، ونفائس الأموال، ووزع ذلك الجمهور، وسائر الجند المأسور، على أطراف ما وراء النهر من الحدود والثغور، وأقام في الهند نائباً من غير وجل ثم صدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 عن سمرقند قاصداً إلى الشام على عجل، ومعه من الهند رؤوس أجنادها ووجوه أعيانها، وسلطان أفيالها وأفيال سلطانها، ثم توجه قرير العين بتلك الطوائف الطافية، في أوائل سنة اثنتين وثمانمائة، وانصب بذلك الطوفان، من جيحون إلى خراسان، وكان قد قرر ولده لصلبه أميران شاه بمملكة تبريز وتلك الديار، والسلطان أحمد قد رجع إلى بغداد وهو مستوفز للفرار، وسبب حركته إلى بلاد الشام " وإن كان في إهلاك الحرث والنسل مالكي الالتزام " ما فعله القاضي برهان الدين حاكم سيواس بقصاده الأغتام، لكنه أراد أن يغم مقصده، ويغطي عن الناس مصدره ومورده قلت بديها وأنى يختفي للشمس ضوء ... عن الأبصار في صحو النهار وكيف يسر ذفر المسك يحشى ... خياشم الورى في يوم حار وأنى يختفي للطبل صوت ... عن الأسماع في وقت النفار فإن قصده كان بعيد المدد، طويل الأمد، محتاجاً إلى إعداد أهبة السلوك، ويخسأ أن يضاهي غزوة تبوك وأظهر سبباً أبطن فيه، ما رامه من مكره ودواهيه، وأشاع ذلك وأذاع، فامتلأت منه القلوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 والأسماع معنى كتاب وفد وهو في الهند عليه زعموا أن ولده أميران شاه أرسله إليه وذلك أن ابنه أميران شاه المذكور راسله، وأنهى إليه يقول على ما قيل في بعض ما قاوله وحاوله، إنك قد عجزت لكبر سنك، وشمول الضعف ببدنك ووهنك، عن إقامة شعائر الرياسة، والقيام بأعباء الإيالة والسياسة، والأولى بحالك إن كنت من المتقين، أن تقعد في زاوية مسجد وتعبد ربك حتى يأتيك اليقين، وقد تم في أولادك وأحفادك، من يكفيك أمر رعيتك وأجنادك، ويقوم بحفظ مملكتك وبلادك، وأنى لك بلاد وممالك؟ وأنت عن قريب هالك فإن كان لك عين باصرة، وبصيرة في نقد الأشياء ماهرة، فاترك الدنيا واشتغل بعمل الآخرة، ولو ملكت ملك شداد، ورجع إليك اقتدار العمالقة وعاد، وساعدك النصر والعون، حتى تبلغ مقام هامان وفرعون، ورفع إليك خراج الربع المسكون، حتى تفوق في جمع المال قارون، وحدث في خراب البلاد كبختنصر، الذي طول الله تعالى له فقصر وبالجملة فلو بلغ سلطانك الأقطار، وقضيت من دنياك غاية الأوطار، وصار عمرك فيها أطول الأعمار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وخدامك فيها ملوكها الأغمار، فقصر جندك قيصر وكسر كسرى فانكسر، وتبعك تبع والنجاشي، وأوساط الملوك والأقيال غدوا لك خداماً وحواشي، وغفر لك فغفور بالثناء فاه، وأخنيت على الخان وخاقان فوجه كل رقعة دستك شاه، وأذعن لك فرعون مصر وسلطانها وجبى لك على يد جببو الدين إيران الدنيا وتورانها، وآل أمرك إلى أن دان لك سكان الأقاليم وقطانها، أليس قصارى تطاول قصورك إلى القصور، ونهاية كمالك النقص وحياتك الموت وسكناك القبور؟ قلت فعش ما شئت في الدنيا وأدرك ... بها ما رمت من صيت وصوت فخيط العيش موصول بقطع ... وحبل العمر معقود بموت وقيل قميص من القطن من حلة ... وشربة ماء قراح وقوت ينال به المرء ما يرتجى ... وهذا كثير على من يموت فأين أنت من نوح وطول عمره، ونياحته على قومه وحسن عبوديته وشكره، ولقمان ووعظه وولده، وتربيته لطول الحياة لبده، وداود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 في ملكه الفسيح، مع قيامه بأوامر الله تعالى وكثرة الذكر والتسبيح، وسليمان بعده وحكمه على الإنس والجن والطير والوحش والريح، وذي القرنين الذي ملك المشرقين، وبلغ المغربين، وبنى السد بين الصدفين، ودوخ البلاد وملك العباد وأين محلك من سيد الأنبياء وخاتم الرسل، وصفوة الأصفياء، المرسل رحمة للعالمين، الكائن نبياً وآدم بين الماء والطين، محمد المصطفى، وأحمد المجتبى الذي زويت له مشارق الأرض ومغاربها، وتمثل بين يديه شاهدها وغائبها، وفتحت له خزائنها، وعرض عليه ظاهرها وكامنها، وكانت جنوده الملائكة الكرام، وآمن به الإنس والجن والطير والوحش والهوام، وأيده الله الكريم المتعال بأن أرسل لطاعته ملك الجبال وكان حامل رايات نصره نسيم الصبا باليمين والشمال، فملك الجبابرة بالهيبة والقهر، وكانت الأكاسرة والقياصرة تهابه من مسيرة شهر، وأيده بنصره وبالمؤمنين من المهاجرين والأنصار، وتولى نصره " إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار " وبلغ ركابه الشريف أن الله سبحانه به أسرى، في بعض ليلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وكان مركوبه الشريف البراق، ثم عرج به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 إلى السبع الطباق، وقرن اسمه الكريم مع اسمه، وتعبد عباده بما شرعه إلى يوم القيامة من غير تغيير لحده ورسمه، وخلق لأجله الكائنات، وأنار بوجهه الموجودات، ولم يخلق في الكون أشرف منه ولا أفخر، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأظهر من معجزاته أن أشبع الجم الغفير، من القرص الشعير، وسقى الكثير من الرعال، مما نبع من بين أصابعه من الماء الزلال، وانشق له القمر، وسعت إليه الشجر، وآمن به الضب، وسلم عليه الحجر وهل تحصى معجزاته، أو تحصر كراماته؟ وناهيك بمعجزة المؤيدة، وكرامته المؤبدة، المخلدة على مر الزمان، الباقية من دار الحدثان، الساكنة مع تحرك الملوان، وهو القرآن المجيد الذي " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد " وهذه منازله في الدنيا، غير ما ادخر له في العقبى، وبشره بقوله " وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى " هذا وإن الله تعالى أخذ ميثاق النبيين بالإيمان به وبنصره، فلو أدركوه ما يسعهم إلا اتباعه وامتثال أمره، فهو دعوة إبراهيم الخليل، ومتوسل موسى والعلماء من بني إسرائيل، والمبشر بقدومه على لسان عيسى في الإنجيل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وحامل لواء حمد ربه يوم لقائه، آدم ومن دونه تحت لوائه وهو صاحب الحوض المورود، والمخاطب من ربه في موقف الشفاعة والمقام المحمود، بمعنى ما قلت مفوفا مقتبسا قل يسمع شفع تشفع سل تنله تجد ... تفويف خلعة عز واقتبس نعمى فانظر إلى هؤلاء السادة، معادن الخير ومفاتيح السعادة، هل رغبوا في الدنيا أو اعتمدوا عليها، أو نظروا إلا بعين الاحتقار والاعتبار إليها؟ أو هل كان نظرهم غير التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله؟ وناهيك بالخلفاء الراشدين وأعظم بالعمرين الذين كانا بهذه الأمة بمنزلة القمرين، وهلم جرا بالخلفاء العادلين، والملوك الكاملين، والسلاطين الفاضلين والذين تولوا بالعدل فرعوا حقوق الله تعالى في عباده، وحموا عباد الله عن الظلم في بلاده، وأسسوا قواعد الخير، وساروا في نهج العدل والإنصاف أحسن سير، فمضوا على ذلك وبقيت آثارهم، وأحيت بعد موتهم أيامهم وأخبارهم، فمضى على ذلك مثل الأولين، وبقي لهم لسان صدق في الاخرين، إذ صنعوا بوجب ما سمعوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 فكن حديثاً حسناً ذكره ... فإنما الناس أحاديث وأنت وإن كنت تسلطت على الخلق، فقد عدلت أيضاً ولكن عن الحق، ورعيت ولكن أموالهم وزروعهم، وحميت ولكن بالنار قلوبهم وضلوعهم، وأسست ولكن قواعد الفتن، وسرت ولكن على سنن إماتة السنن، ومع هذا فلو عرجت إلى السبع الشداد، ما بلغت منزلة فرعون وشداد، ولو رفعت قصورك على شوامخ الأطواد، ما ضاهيت " إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد " فانظر إلى من نهى وأمر، ثم مضى وغبر، ولا تكن ممن طغى وفجر، وتولى وكفر، واقنع بهذا الخطاب، عن الجواب، واعط القوس باريها، واترك الدار لبانيها، وتولى الله ورسوله والذين آمنوا وإلا فأنت ممن تولى في الأرض ليفسد فيها، فإني إذ ذاك أمشي عليك، وأضرب على يديك وأمنعك من السعي في الفساد بأن أسوي بين رجليك، مع قلة آداب كثيرة، وعبارات ذنوبها كبيرة فلما وقف تيمور على هذا الكتاب، وجه إلى تبريز عنان الركاب، وكان عند أميران شاه من المعتدين، جماعة سعوا في الأرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 مفسدين، منهم قطب المواصيلي أعجوبة الزمان الدوار، وأستاذ علم الموسيقا والأدوار، إذا استنطق اليراعة أسكت أهل البراعة، وإذا وضع الناي بفيه، سحق عود إسحاق وأبيه، وإن أخذ في الأغاني أغنى عن الغواني، تقول النفس لنفسه الرخيم خفف عني أيني، فتشير براعته بالإصبع وتقول على عيني، ثم ينفخ فيها الروح، فيشفي كل قلب مجروح، ويداوي كل فؤاد مقروح، فإن أقامت قامتها الرشيقة راقصة في سماعها، يحنى الجنك ظهره خاضعاً لطيب استماعها، وإن فتحت فاها لتقرئ أسماع القلوب ألحانه، يميل العود عنقه مصغياً إليها عاركاً بأنامل الأدب آذانه قيل إنه كان يؤدي جميع الأنغام الفروع والمركبات والشعب والأصول، من كل ثقب من أثقب الموصول، وله مصنفات في أدوار المقامات، وجرى بينه وبين الأستاذ عبد القادر المراغي مباحثات، وكان أميران شاه به مغرماً، يعد صحبته والعشرة معه مغنماً وكان تيمور لا يعجبه العجب، ولا يستهويه اللهو والطرب، فقال إن القطب أفسد عقل أميران شاه، كما أفسد عبد القادر أحمد ابن الشيخ أويس وأطغاه، فوصل ذلك الطاغ، سابع عشر شهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ربيع الأول سنة اثنتين وثمانمائة إلى قراباغ، فأناخ بها ركابه، وأراح بها دوابه، وضبط ممالك أذربيجان، وقتل أولئك المفسدين وأهل العدوان، ولم يتعرض لأميران شاه، لأنه ولده وهو أنشأه، وبينهما أمور متشابهات لا يعلم تأويلها إلا الله ثم توجه بذلك الخميس، ثاني جمادى الآخرة يوم الخميس، وأخذ مدينة تفليس وقصد بلاد الكرج، وهدم ما استولى عليه من قلعة وبرج، وقلعهم إلى الصياصي، والقلاع العواصي، وقتل من ظفر به من طائع وعاصي، وجرهم ما بين رؤوس ونواصي، ثم ثنى عنان العناد، وحرش البغاة على بغداد، فهرب السلطان أحمد من ذلك اللجب، إلى قرا يوسف في ثامن عشري شهر رجب فسكن تيمور زعازعه، وطمن ذلك مراقبه ومنازعه، وتمهل في السير، واستعمل في نحوه مع مناظره مباحث سوى وغير، وصار يتحازر ويتحاول وينشد وهو يتغافل أموه عن سعدى بعلوى وأنتم ... مرادي فلا سعدى أريد ولا علوى فتراجع السلطان أحمد وقرا يوسف يوماً إلى مدينة السلام، متصورين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 أنه لم يبرح من بلاد الكرج اللئام فلما تحققا من الخروج، وكانا حققا أنه إذا عرج على شيء فما يعوج، أطار أطايرهما نحو الروم، وتركا ديارهما ينعق فيها الغراب والبوم، فتوجه ذلك القشعمان إلى مصيف التركمان، فأغمد السيف، وكف عن الحيف، وقضى به الصيف ذكر ما وقع من الفتن والبدع وما سل للشرور من حسام بعد موت سلطان سيواس والشام وكان إذ ذاك قد تخبط أمر الناس، وقع الاضطراب ببلاد مصر والشام إلى سيواس أما مصر والشام فلموت سلطانها، وأما سيواس فلقتل برهانها، وكان موتهما متقارب الزمان، كموت قرا يوسف والملك المؤيد أبي النصر شيخ وأبي الفتح غياث الدين محمد بن عثمان، فإن مدى ما بين موت هؤلاء الملوك العظام، كانوا نحواً من نصف عام، وكذا كان ما بين موت ذينك السلطانين ذكر نبذة من أمور القاضي وكيفية استيلائه على سيواس وتلك الأراضي وسبب قتل القاضي برهان الدين، مخالفة وقعت بينه وبين عثمان قرايلوك رأس المعتدين، سيزداد بيانها، إذا أتى مكانها، وهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 السلطان أبوه قاضياً كان، عند السلطان أرتنا حاكم قيصرية وبعض ممالك قرمان، وكان بين الأمراء والوزراء ذا مكانة ومكان، وكان ابنه برهان الدين أحمد المذكور في عنفوان شبابه، من طلبة العلم الشريف وأصحابه، والمجتهدين في تحصيله واكتسابه فتوجه إلى مصر لاقتناء العلوم، وضبطها من طريقي المنطوق والمفهوم، وكان ذا فطنة وقادة، وقريحة نقادة، ومقلة غير رقادة، فحصل من العلوم عدة في أدنى مدة، فبينما هو في مصر يسير، وإذا هو بفقير جالس على الطريق كسير، فناوله شيئاً يسد به خلته، ويجبر به فقره وكسرته، فكاشفه ذلك الفقير بلفظ معلوم، وكشف له عن السر المكتوم، وقال له لا تقعد في هذه الديار فإنك سلطان الروم، فصدع بهذا الكلام قلبه، فأخذ في إعداد الأهبة، وقطع الأعلاق، ودخل الطريق صحبة الرفاق ولما وصل إلى سيواس، ابتهج به والده وأعيان الناس، وشيد له بين الخلق أسد بنيان وأشد أساس، وشرع في إلقاء الدروس، ومصاحبة الأعيان والرؤوس، وكان ذا همة أبية، وراحة سخية، ونفس زكية، وخصائل رضية، وشمائل مرضية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وتحرير شاف، وتقرير واف، يحقق كلام العلماء، ويدقق النظر في مقالات الفضلاء وله مصنفات في المعقول، ولطائف في المنقول، ينظم الشعر الرقيق ويعطى عليه العطاء الجليل، ويعجبه اللفظ الدقيق ويثيب عليه الثواب الجزيل، وهو في ذلك يتزيا بزي الأجناد، ويسلك طريقة الأمراء من الركوب والاصطياد، ويلازم أبواب السلطان، ويتخذ الخدم والأعوان فمات السلطان عن ولد صغير، فأجلسوه على السرير، وكان عنده من أعيان الأمراء، ورؤوس الوزراء، ناس منهم غضنفر بن مظفر، وفريدون، وابن المؤيد، وحاجي كلدي، وحاجي إبراهيم، وغيرهم ومن أكبرهم أبو القاضي برهان الدين فصار هؤلاء الأمراء، والرؤوس من الوزراء والكبراء، يدبرون مصالح الرعية ولا يفصلون إلا بالاتفاق ما يقع من قضية، فمات أبو القاضي برهان الدين وتولى ولده مكانه، وفاق بالعلم وحسن السياسة أباه وأقرانه، ففرق ولايات ذلك الإقليم، على ابن المؤيد وحاجي كلدي وحاجي إبراهيم، فبقي حوالي السلطان محمد فريدون وغضنفر وبرهان الدين أحمد ثم توفى السلطان محمد، من غير ولد، فبقيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الولاية بين الثلاثة، على سبيل الاشتراك وراثة، وقلما اتفق ضرتان على زوج واحد وأتلفتا " ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " ومائة فقير، يلتفون في حصير، وملكان لا يسعهما إقليم كبير فأراد برهان الدين الاستبداد بالملك والاستقلال، فنصب لشريكيه أشراك الاحتيال، إذ الملك عقيم، فرصد لذلك الطالع المستقيم، ونظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم، فرأى شريكاه أن العيادة عباده، فطلبا بعيادته الحسنى ورام هو الزيادة، فعاداه وقد عاداهما، وما راعياه ولكن راعهما وما راعاهما، فدخلا عليه وقد أرصد لهما رصداً، وأعد لهم من الرجال المعدة عددا، وقتلهما وقد حصلا في قبضة الأشراك، وخلص توحيد السلطنة الأحمدية عن الإشراك، فقوى بالتوحيد سلطانه، وأضاء به للدين حجته وبرهانه، ولكن ناوأه أنداده، وعصى عليه من النواب أكفاؤه وأضداده، وأظهر كامن العداوة أعداؤه وحساده، وقالوا هذه مرتبة لم ينلها آباؤه ولا أجداده، ونحن كلنا سواسية إذا انتمينا، فأنى يكون له الملك علينا؟ وحسد الرياسة هو الغل القمل، وتحاسد الأكفاء جرح لا يندمل، فمنهم شيخ نجيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 صاحب توقات القاسية، ومنهم حاجي كلدي وكان نائب أماسية فلما استقل بالملك تلقب بالسلطان، وكان قد استولى إذ ذاك السلطان علاء الدين على ممالك قرمان، فقال السلطان برهان الدين إن رواة التواريخ حدثتنا وأسمعتنا، وكتب السير أنبأتنا وأخبرتنا، أن ما حوالينا من الممالك متعلق بنا، من سلطاننا وإرثنا ثم شرع في استخلاص ما كان متعلقاً بسلطانه، وجعل يشن الغارات على من يتمادى في عصيانه، فقلع قلعة توقات من الشيخ نجيب قسرا، واستصحبه معه طيبة وقهرا، وانحازت تتار الروم إليه وهم الجم الغفير، وعثمان الملقب بقرايلوك قال له أنا تحت أوامرك أمشي وفي قيد طاعتك أسير، فكان قرايلوك من جملة خدمه، وفي حساب تراكمته وحشمه، فكان يرحل هو ومن معه من الناس، شتاء وصيفاً بضواحي سيواس ذكر محو قرايلوك عثمان آثار أنوار برهان الدين السلطان بسبب ما أضمره من العدوان وأظهره حالة العصيان وقبض عليه لما غدر به الدهر وخان ثم إنه وقع بين قرايلوك وبين السلطان منافرة، أدت إلى المشاجرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وانتهت إلى المرامحة والمناقرة، فنقض العهود والذمم، وامتنع من حمل التقادم والخدم، وتمنع في الأماكن العاصية بمن معه من التراكمة والحشم، فلم يكترث به السلطان، لأنه كان أقل الأعوان، وجعل يتوجه إلى أماسية وأخرى إلى أرزنجان، وكان بالقرب من سيواس مصيف منظره طريف، وترابه نظيف، وماؤه خفيف، وهواؤه لطيف، كأن الخلد خلع على أكتاف رياضه سندسه الأخضر والفردوس فجر في خلال أشجاره من نهره الكوثر على حدائقه من روضات الجنات شبه، وفي ربوة جبهته للأبصار دهشات وللبصائر نزه قلت عليه شقيق قد زها فكأنه ... صحون عقيق أترعت بالعنابر فقصده قرايلوك، ورام في طريقته السلوك فمر على سيواس وبها القاضي أبو العباس فجاز بركابه، ولم يعبأ به، فالتهب تموز قيظه، وكاد يتميز من غيظه، وقال بلغ من هذا العوا أن يلج برج الأسد، أو يقدم إقدامه وأنا حل بهذا البلد، ثم أمر جماعته بالركوب، وقصد عليه الوثوب، واستفزه الغضب والطيش، أن ركب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وسبق الجيش، فقال له بعض من معه من الجماعة لو يلبث مولانا السلطان ساعة، حتى يتلاحق العسكر، كان أحزم وأوفق وأجدر، وإن كانت حرمة مولانا السلطان فيها كفاية ولها أيد، لكن قرايلوك تركماني ذو دهاء وكيد، فلم يلتفت السلطان إلى هذا الكلام، ولم يزل هاجماً وراءه حتى هجم الظلام، فكر عليه قرايلوك بجماعته، فقبض عليه باليد من ساعته، ولم يدر بحاله العسكر، وتفرق أمره وجنده شغر بغر ذكر ما كان نواه قرايلوك من الرأي المصيب ورجعه عنه لسوء طويته شيخ نجيب ثم إن قرايلوك عزم أن يجدد معه العهد والميثاق، ويقلع غراس الخلاف ويؤسس بنيان الصداقة والوفاق، ويرده إلى مكانه، ويصير كما كان أولاً من أنصاره وأعوانه، ويعلم بذلك السلطان أنه له ناصح، فلا يسمع في كلام واش وكاشح، وإذا بشيخ نجيب الذي كان متولي قلعة توقات، وحاصره السلطان وضيق عليه مسالك الطرقات، ثم قهره وغلبه، وأخذ قلعته، وبالكراهية استصحبه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وجد فرصة فانتهزها، وكان في قلبه كمائن سخيمة فأبرزها، فجاء إلى قرايلوك، ووقف في خدمته كالمملوك، وقال أعيذ عالم عقلك أن يزل، ودليل فهمك أن يضل، ومصيب رأيك أن يصاب، وجميل فكرك أن يعاب، قد أمكن الله من العدو، وأنى لك مع هذا سكون وهدو؟ قلت ما الدهر إلا ساعة وتنقضي ... والمرء فيها حازم أو نادم فلئن أبقيت عليه لا يبقى عليك، ولئن نظرت إليه بعين الرحمة والله لا ينظر إليك، فإنه رجل غبي، وبأنواع المكر وأصناف الخديعة عبي، عسر القياد وأبيك لا ينجع في الخير وأبي، وهبك والعياذ بالله منه مكانه منك، أكان يرق لك أو يصفح عنك؟ هيهات هذا والله محال، فقد وقع لك والله مجال، فما كل أوان، يسمح بالمراد الزمان، والدهر فرص، وأكثره غصص، فإياك أن تفوت الفرصة، فتقع في غصة وأي غصة، ولا ينفعك الندم إذا زلت بك القدم، وتفكر فيما أقول، واستنبط دليل هذه المسألة من المعقول، واستبق شرفك الرفيع بإراقة دمه، وصن أستار حرمك بابتذال حرمه، وتذكر يا أمير، أمور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 قابوس بن وشمكير، ولا زال ذلك الشيطان، يحسن له الرأي في قتل السلطان ويقول هذا الرأي أنفع لك وعليك أعود كما فعل بسطام أمير الكرد بقرا يوسف لما قبض على السلطان أحمد، فرجع قرايلوك عن رأيه لما خدعه ودهاه، فقتل السلطان من غير إهمال ولا توقف رحمه الله وكان قتل قرا يوسف السلطان أحمد ابن الشيخ أويس في عاشر شهر رجب سنة ثلاث عشرة وثمانمائة والقصة مشهورة وكان السلطان رحمه الله كما ذكر أولاً، عالماً فاضلاً كريماً متفضلاً، محققاً في التقرير، مدققاً في التحرير، قريباً من الناس، مع كونه شديد البأس، رقيق الحاشية أديباً، شاعراً ظريفاً لبيباً أريباً، جواداً مقداماً، قرماً هماماً، نهاب الدنيا وهابها، يهب الألوف ولن يهابها يحب العلماء ويجالسهم، ويدني الفقراء ويكايسهم، قد جعل يوم الاثنين والخميس والجمعة للعلماء وحفاظ القرآن خاصة، لا يدخل عليه معهم غيرهم من تلك الأمم الغاصة وكان قد أقلع قبل وفاته عن جميع ما كان عليه، وتاب إلى الله تعالى ورجع إليه، وله مصنفات منها الترجيح على التلويح وكان عنده نديم للفضل حريز، بغدادي الأصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 يدعى عبد العزيز، وكان أعجوبة الزمان، وفي لطائف الشعر والنظم فارسياً وعربياً أطروفة الدوران، سرقه من بغداد من السلطان أحمد بن الشيخ أويس، فكان عنده رأس ندمائه وعين أهل الفضل والكيس، والقاضي كان يربي الفضلاء، متطلباً من كل جهة الأدباء والشعراء، وكان أهل الفضل والأدب، يفدون عليه من كل فج وحتى صار مقامه كعبة الحاج لا كعبة الحج وصورة سرقته له أنه لما سمع بأوصافه أحبه، فأراد قربه، فالتمسه من مخدومه، فلم تسمح نفس السلطان أحمد بمفارقة نديمه، ثم اختشى من القاضي رغبة وخاف لشدة دهيه هربه، فوصى به وحرج عليه، وأقام له معقبات يحفظونه من خلفه ومن بين يديه، فأرسل القاضي إليه رسولاً ذكياً، فناداه نداء خفياً، وأجزل له العطية، ووعده مواعيد سنية وفرق ما بين السلطانين من الحسن والقبح، كفرق ما بين البحرين العذب والملح، والمبليين المساء والصبح، فلبى دعوته بالقبول، وواعد للخروج، بعض القفول، ثم خرج ولهيب الحر قد وقد، والسلطان أحمد عن الحريم قد رقد، ووضع ثيابه على ساحل دجلة، ووجه إلى داخل النهر في الطين رجله، ثم غاص في الماء ومخر، وخرج من مكان آخر، ولحق برفقائه، واختفى بينهم اختفاء اليربوع في نافقائه، فطلبه السلطان أحمد، ففتشوا عليه فلم يوجد، فبالغوا في طلابه، إلى أن وقفوا على ثيابه، ورأوا آثار رجليه في الطين، فلم يشكوا أن الموج اختطفه، فكان من المغرقين، فكفوا قدم السعي عن طلبه ولم يضيقوا على أحد بسببه ثم بعد أيام يسيرة، أخرج غريق بغداد رأسه بسيواس عند القاضي برهان الدين من تحت الحصيرة، فغرقه في أبحر نواله، وأسبغ عليه ذيل كرمه وأفضاله، فصار عنده مقدماً، ولديه مبجلاً معظماً، ألف له تاريخاً بديعاً، سلك فيه مهيعاً رفيعاً، وانتهج منهجاً منيعاً، ذكر فيه من بدء أمره إلى قرب وفاته، مع مواقفه ووقائعه ومصافاته، وشحه بظريف كناياته، ولطيف استعاراته، وفصيح لغاته، وبليغ كلماته، ورشيق إشاراته، ودقيق عباراته، مد فيه عنان اللسان، وهو موجود في ممالك قرمان، في أربع مجلدات ذكر ذلك لي من غاص بحره، واستخرج دره ووقف على تاريخ العتبى في اليمين، السلطان محمود بن سبكتكين، وأن هذا أحسن من ذلك أسلوباً، وأغزر يعبوبا، وأعذب شؤبوياً مع أني لم أقف عليهما، ولا وصلت لقصر الباع إليهما ثم إن الشيخ عبد العزيز هذا بعد لهيب هذه النائرة، انتقل إلى القاهرة، ولم يبرح على الإبراح، ومعاقرة راح الأتراح، حتى خامرته نشأة الوجد فصاح، وتردى من سطح عال فطاح، ومات منكسراً ميتة صاحب الصحاح، والله أعلم ذكر ما وقع من الفساد في الدنيا والدين بعد قتل قرايلوك السلطان برهان الدين ولما قتل السلطان برهان الدين لم يكن في أولاده من يصلح للرئاسة، وينفذ أحكام السلطنة والسياسة، فرجع قرايلوك إلى سيواس، ودعا إلى نفسه الناس، فلم يجيبوه، ولعنوه وسبوه، فأخذ يحاصرهم ويناكدهم، ويضيق عليهم ويعاندهم، فاستمدوا عليه التتار فأمدوهم، وأتت طائفة منهم فنجدوهم، فكسرهم قرايلوك ففروا، واستنجدوا طوائفهم وكروا، وأقبلوا بالقض والقضيض، وملأوا اليفاع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 والحضيض فلم يكن لقرايلوك في جبة قتالهم طوق، فدخل عليهم من تحت وجاءهم من فوق وتوجه إلى تيمور، وكان بحر جيشه في أذربيجان يمور، فقبل يديه، وانتمى إليه، وجعل يناديه إلى هذه البلاد ويدعو، كما فعل معه الأمير إيدكو، فحك له في الدبرة فأجابه إجابة برصيصا أبا مرة ذكر مشاورة الناس من أهل سيواس أنى يسلكون ومن يملكون ثم إن أهل سيواس، والأعيان من رؤسائها والأكياس، تشاوروا فيمن يملكون قيادهم، وإلى من يسلمون بلادهم، لسلطان مصر أم لابن قرمان، أم السلطان الغازي بايزيد بن عثمان، ثم اتفق رأيهم السديد، على المرحوم يلدريم بايزيد، فأرسلوا إليه قاصداً، واستهضوه إليه وافدا، وأنشدوه، وقد استنجدوه وكم أبصرت من حسن ولكن ... عليك من الورى وقع اختياري فتوجه من ساعته إليهم، وقدم بالعساكر والجنود عليهم، ومهد القواعد والأركان، وولى عليهم أكبر أولاده أمير سلمان، وأضاف إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 خمسة أنفار، من أمرائه الكبار يعقوب بن أورانيس، وحمزة بن بجار، وقوج علي، ومصطفى، وداودار، واستمال خواطر الأعيان، وتوجه إلى أرزنجان فهرب منها طهرتن المذكور وقصد في انهزامه تيمور فاستولى ابن عثمان على مدينة أرزنجان وأخذ أموال طهرتن وذخائره وحرمه، ومكن منهن سواسه وغلمانه وخدمه، ورجع بالأموال وبالحمول واشتغل بمحاصرة استنبول " فصل " فنبه قرايلوك وطهرتن، من تيمور نائم الفتن، وإن كان المتحرك منه في الفساد ما سكن، حتى توجه إلى هذه البلاد، وعم فساده البلاد والعباد، فوصلوا إلى أرزنجان وأردين، ثم ارتحلوا ونزلوا مفسدين ماردين، فعصى عليه الملك الظاهر، لما قاساه أولا من طاعة ذلك الغادر، فندم على إطلاقه أول مرة، كما سيندم يوم القيامة ولم تنفعه الندامة والحسرة، وكان ذلك في سنة اثنتين وثمانمائة، والخلف قد وقع بين العساكر الشامية والمصرية وانحاز إلى كل فئة، وتفرقت آرائهم أيادي سبا، ومال هواء كل منهم إلى دبور وشمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وصبا، وأهملوا أمور الرعايا، وغفلوا عن حلول الرزايا قلت من يهمل الأعدا ويأمن كيدهم ... مثل النئوم وراءه مستيقظ وقلت واللص ليس له دليل سائر ... نحو الذي يبغي كنوم الحارس ثم قتل تنم ملك الأمراء بالشام المحروس، ورؤوس الأمراء وأعيان الأعلام، في شهر رمضان من العام المذكور، وبيان هذه الأمور، في كتب التاريخ مسطور قلت وإذا العرين تصرعت آساده ... عوت الثعالب فيه آمنة الردى ذكر قصد ذلك الغدار سيواس وما يليها من هذه الديار ثم إن تيمور وجه عنان البأس، نحو مدينة سيواس، وبها كما ذكر أمير سليمان بن بايزيد بن مراد بن أورخان بن عثمان، فأرسل يخبر أباه بهذا الأمر المهول، ويستنجده وهو إذ ذاك محاصراً استنبول، فلم يطق أن يمد إليه يداً لاحتياجه إلى المدد ولبعد المدى فاستحضر من جنده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 أهل المنعة، وحصن المدينة والقلعة، واستعد للقتال واستمد للحصار، وفرق رؤوس أمرائه على أبدان الأسوار وجهز تيمور من جيشه العيون، ليتحقق ما هو عنده مظنون، ولما كشفت جيوشه لأمير سلمان رينها، فر لما أن رأى عينها، فعزم على التوجه إلى أبيه، واشترط مع أمرائه وذويه، أنهم يحفظون له البلد، ريثما يجهز لهم العدد والعدد، فلم يسعهم إلا الموافقة، والتخلف وعدم المرافقة، فرام لنفسه الخلاص، وأفلت وله حصاص فوصل إليها تيمور بتلك السيول الهامية، سابع عشر ذي الحجة سنة اثنتين وثمانمائة ولما حلت بسيواس رجله الشومى، قال أنا فاتح هذه المدينة في ثمانية عشر يوماً، ثم أقام في محاصرتها علامات الحشر وفتحها في اليوم الثامن عشر، بعد ما عتا فيها وعاث، وذلك يوم الخميس خامس المحرم سنة ثلاث، وبعد أن حلف للمقاتلة أن لا يريق دمهم، وأنه يرعى ذممهم، ويحفظ حرمهم وحرمهم، ولما فرغت المقاتلة، واستمكن من المقاتلة، ربطهم في الرباق سربا، وحفر لهم في الأرض سربا، وألقاهم أحياء في تلك الأخاديد، كما ألقي في قليب بدر الصناديد، وعدد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 من ألقى في تلك الحفر، كان ثلاثة آلاف نفر، ثم أطلق عنان النهاب، وأتبع النهب الأسر والخراب وكانت هذه المدينة من أطراف الأمصار، في أحسن الأقطار، ذات عمائر مكينة، وأماكن حصينة، ومآثر مشهودة، ومشاهد للخير معهودة، ماؤها رائق، وهواؤها للأمزجة موافق، وسكانها من أحشم الخلائق، يتعانون التوقير والاحتشام، ويتعاطون أسباب التكلف والاحترام، وهي متاخمة ثلاث تخوم الشام وأذربيجان والروم وأما الآن فقد حلت بها الغير، وتفرق أهلها شذر مذر، وانمحت مراسم نقوشها، فهي خاوية على عروشها ذكر انسجام صواعق ذلك البلاء الطام من غمام الغرام على فرق ممالك الشام ولما استنقى سيواس لحماً ونقياً، واستوفاها حصداً ورعياً، فوق سهام الانتقام، إلى نحر ممالك الشام، بجنود إن قيل كالجراد المنتشر، فالجراد من أعوانها، أو كالسيل المنهمر فسيل الدماء جار من فرندها وخرصانها، أو كالفراش المبثوث فالفراش يحترق عند تطاير سهامها، أو كالقطر الهامي فالديم تضمحل عند انعقاد قتامها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 رجال توران، وأبطال إيران، ونمور تركستان، وببور بلخشان، وصقور الدشت والخطا، ونسور المغول وكواسر الجتا، وأفاعي خجند وثعابين أندكان، وهوام خوارزم وجوارح جرجان، وعقبان صغانيان، وضواري حصار شادمان، وفوارس فارس وأسود خراسان، وضباع الجيل وليوث مازندران، وسباع الجبال وتماسيح رستمدار وطالقان، وأصل قبائل خوز وديدان كرمان، وطلس أرباب طيالسة أصبهان، وذئاب الري وغزنى وهمذان، وأفيال الهند والسند ومولتان، وكباش ولايات اللور، وثيران شواهق الغور، وعقارب شهرزور، وجرارات عسكر مكرم وجنديسابور قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا مع ما أضيف إليهم من عشائر الخدم، وفراعل التراكمة والأوباش والحشم، وكلاب النهاب من رعاع العرب وهمج العجم، وحفالة عباد الأوثان وأنجاس مجوس الأمم، مالا يكتنفه ديوان، ولا يحيط به دفتر حسبان وبالجملة فإنه الدجال ومعه يأجوج ومأجوج، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 والرياح العقيمة الهوج فتوجه والنصر قائده، والسعد رائده، والقضاء موافقه، والقدر مساعده، ومشيئة الله تعالى سابقته، وإرادة الله عز وجل في تدبير العباد والبلاد سابقته فبلغ خبره البلاد الشامية، واتصل ذلك بالديار المصرية، فورد مرسوم شريف إلى نائب الشام، وسائر النواب والحكام، وغزاة الدين وكماة الإسلام، أن يتوجهوا إلى حلب، ويقيموا عليه الجلب، ويجتهدوا في دفعه، ويتعاونوا على منعه فتجهز نائب الشام سيد سودون مع النواب والعسكر، ورحلوا إلى حلب سنة ثلاث وثمانمائة في شهر صفر، ووصل تيمور إلى بهسنا، فنهب ضواحيها ولم يبق بها سنا، وحاصر قلعتها ثلاثة وعشرين ليلة، فأخذها ولكن كف عنها للطيفة ربانية ثبوره وويله، ثم أوطأ مطيه مدينة ملطية، فأبادها، ودك أطوادها، ثم حل كعبه المشوم، بقلعة الروم وكان نائبها الناصري، محمد بن موسى بن شهري، وسيذكر ما جرى له معه مشبعا، وكيف اجتهد في مجاهدته وسعى، فأقام بها يوما فلم تنتج له روما، فلم يحتفل لها بحصار وهياج، وقال هي أهون على من تبالة على الحجاج، وذلك أنه لما رآها من بعيد، قال فيها ما قاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 من لم يصل إلى العنقود، والحق أنه لما رآها، قال إن الله لما بناها، ادخرها لنفسه واصطفاها، ثم انجاب ذلك السحاب، إلى عين تاب، وكان نائبها أركماس، رجلاً شديد الباس، فحصنها واستعد وباشر القتال بنفسه واستبد، ثم خرج فهرب إلى حلب، فلم يرسل وراءه الطلب ذكر ما أرسل من كتاب وشنيع خطاب إلى النواب بحلب وهو في عين تاب ثم أرسل إلى النواب، قاصده وهو في عين تاب، وصحبته مرسوم، بأنواع التفخم موسوم، وبأصناف التهويل مرقوم، ومن جملته أن يطيعوا أوامره، ويكفوا عن القتال والمشاجرة، ويخطبوا باسم محمود خان، وباسم الأمير الكبير تيمور كوركان، ويرسلوا إليه أطلاميش الذي كان عنده فخان، أو اقتنصه وأرسله إلى مصر التركمان وأطلاميش هذا زوج بنت أخت تيمور، وكان جاء إلى الشام قبل وقوع هذه الشرور، وفيما بين ذلك أمور، كان لها بطون فصار لها ظهور، وكان أولاً في مصر محبوساً، ونال ضراً وبوساً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 ثم معززاً مكرماً معظماً مقدماً فكان تيمور عليه متطلباً وجعل ذلك حجة للمعاداة وسبباً، ثم شرع يقول، وهو يجول في ميدان هذه الرسالة ويصول إنه هو أولى بسياسة الأنام، وأن من نصبه هو الخليفة والإمام، وأنه ينبغي أن يكون هو المتبوع والمطاع، وما سواه من ملوك الأرض له خدم وأتباع، وأنى لغيره دربة الرياسة؟ وكيف تعرف الجراكسة طرق السياسة؟ مع كثير من التهويل، والحشو والتطويل، وكان يعلم أن إجابتهم سؤاله محال، وأنه طلب منهم ما لا ينال، ولكن قصد بذلك قرع باب الجدال وتركيب الحجة عليهم في فتح حجرات القتال، فلم يجيبوه بالمقال، ولكنهم قضوا مراده بالفعال، ولم يلتفت سيدي سودون لما يقول، وضرب على رؤوس الأشهاد عنق الرسول، واستعدوا للمبارزة، واستمدوا للمناجزة ذكر ما تمالأ عليه النواب وهم في حلب وتيمور في عين تاب ثم إن النواب والأمراء، ورؤوس الأجناد والكبراء، تشاوروا كيف يكافحونه، وفي أي ميدان يناطحونه، فقال بعضهم عندي الرأي الأسد، أن نحصن البلد، ونكون على أسوارها بالرصد، نحرس بروج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 أفلاكها، حراسة السماء بأملاكها، فإن رأينا حواليها من شياطين العدو أحداً، أرسلنا عليهم من رجوم السهام ونجوم المكاحل شهاباً رصداً وقال آخر هذا عين الحصر، وعلامة العجز والكسر، بل نحلق حواليها، ونمنع العدو أن يصل إليها، ويكون ذلك أفسح للمجال، وأشرح للجدال ثم ذكر كل من أولئك، ما عن له في ذلك، وخلطوا غث القول بسمينه، وساقوا هيجان الرأي مع هجينه فقال الملك المؤيد، شيخ الخاصكي وكان ذا رأي مسدد، وهو إذ ذاك نائب طرابلس يا معشر الأصحاب، وأسود الحراب، وفوارس الضراب، اعلموا أن أمركم خطر، وعدوكم داعر عسر، داهية دهياء، ومعضلة عضلاء، جنده ثقيل، وفكره وبيل، ومصابه عريض طويل، فخذوا حذركم، وأعملوا في دفعه بحسن الحيلة فكركم، فإن صائب الأفكار، يفعل ما لا يفعله الصارم البتار، ومشاورة الأذكياء، مقدحة الفكر، ومباحثة العلماء، مقدمة النظر إن هذا لبحر ما يحمله بر، وجيشه عدداً كالقطر والذر، وهو وإن كان كالوابل الصبيب، لكنه أعمى لأنه في بلادنا غريب، فعندي الرأي الصائب، أن نحصن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 المدينة من كل جانب، ونكون خارجها مجتمعين في جانب واحد، وكلنا له مراقب مراصد ثم نحفر حولنا خنادق، ونجعل أسوارها البيارق والبوارق، ونطير إلى الآفاق أجنحة البطائق، إلى الأعراب والأكراد، والتراكمة وعشران البلاد فيتسلطون عليه من الجوانب، ويثب عليه كل راجل وراكب، ويصير ما بين قاتل وناهب، وخاطف وسالب، فإن أقام وأنى له ذلك ففي شر مقام، وإن تقدم إلينا صافحناه بسواعد الأسنة وأكف الدرق وأنامل السهام وإن رجع وهو المرام، رجع بخيبه، وأقيمت لنا عند سلطاننا الحزمة والهيبة، وإن كان لسلطانه علينا عرج، فلنا بحمد الله سلطان وفي سلطاننا فرج، وأقل الأشياء أن نماده ونتحرز من جنده " فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده " وهذا الرأي الأسد، بعينه كان رأي شاه منصور الأسد فقال تمرداش وهو نائب المدينة ما هذه الآراء مكينة، ولا هذه الأفكار رصينة، بل المناضلة خير من المطاولة، والمناجزة في هذه المواطن قبل المحاجزة، ومقام المنازلة لا تجدي فيه المغازلة، ولكل مقام مقال، ولكل مجال جدال، وهذا طير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 في قفص، وصيد مقتنص، فاغتنموا فيه الفرص، وناوشوه بالحرب، وسابقوه بالطعن والضرب، لئلا يتوهم منا الخور، ويستنشق من ركود ريحنا عرف الظفر، فأجمعوا أمركم وأعجلوا، ولا تنازعوا فتفشلوا، وانهضوا وثابروا، واصبروا وصابروا، فأنتم بحمد الله أهل النجدة، وأولوا البأس والشدة، وكل منكم في فقه المناضلة مغن ومختار، وعلمه في إفاضة دماء الأعداء منار، وله في ذلك كفاية وهداية، ونهاية غيره له بداية، وهو لمجمع الإسلام كنز واف وجامع كاف ووقاية تنحو ألسنة سيوفكم إلى تكليم الرؤوس فهي في لفظها كافية شافية، وتصرف أسنتكم أسنانها في مضاعفة كل ذي فعل معتل فهي في تصريف عللها شافية كافية فإن كسرناه فزنا بالمنال " وكفى الله المؤمنين القتال "، وتلك من الله معونة، وقد كفينا عساكر المصريين المؤنة، وكان ذلك أعلى لحرمتنا، وأقوى في ورود النصر لشوكتنا، وأذكى لريح نصرنا وأزكى، وأبكى لعينه السخينة وأنكى وإن كانت والعياذ بالله الأخرى، فلا علينا إذ بذلنا مجهودا وأقمنا عذرا، ومخدومنا يدرك ثارنا، ويحيي آثارنا فتوكلوا على الله العزيز الجبار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 واستعدوا لملاقاة هؤلاء الأشرار، وإذا لقيتموهم زحفاً فلا تولوهم الأدبار ولا زال تمرداش، يحسن لهم هذا الرأي اللاش، حتى أجمعوا عليه، واتفقوا على الخروج إليه، لأنه كان صاحب البلد، وعلى كلامه المعول والمعتمد وكان تمرداش قد خالف الجمهور، ووافق في الباطن تيمور، وهذه كانت عادته، وعلى المراوغة جبلت طينته، فإنه كان كالشاة العابرة، والمرأة الحائرة الغائرة، إذا التقى عسكران فلا يكاد يثبت في أحدهما جبناً منه ومكرا بل يعبر إلى هذا مرة وإلى هذا أخرى، مع أنه كان صورة بلا معنى، ولفظاً بلا فحوى فاعتمد تيمور عليه، وفوض الأمور إليه، وكذلك عساكر الشام، وجنود الإسلام، ثم حصنوا المدينة وأوصدوا أبوابها، وضيقوا شوارعها ورحابها، ووكلوا بكل حارة ومحلة أصحابها، وفتحوا الأبواب التي تقابل ملتقاه، وهي باب النصر وباب الفرج وباب القناة ذكر ما صبه من صواعق البيض واليلب على العساكر الشامية عند وصوله إلى حلب ثم إن تيمور ثقل الركاب، فوصل في سبعة أيام إلى حلب من غير تاب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 فحل بذلك الخميس، تاسع شهر ربيع الأول يوم الخميس، وبرز من ذلك العسكر، طائفة نحواً من ألفي نفر، فتقدم لهم من الأسود الشامية، نحو من ثلاثمائة، ففلوهم بالصفاح، وشلوهم بالرماح، فبددوهم، وطردوهم، وخددوهم وشردوهم، ثم أصحبوا يوم الجمعة، فبرز من عسكره نحو من خمسة آلاف، إلى مصاف النقاف، فتقدم لهم طائفة أخرى، أرسالا وتترى، فالتحم منهم النطاح، واشتبكت بين الطائفتين أنامل الرماح، فزدحموا واقتحموا، واستدوا والتحموا، ولا زالت أقلام الخط في ألواح الصدور تخط، والعضب الصمصام لرؤوس تلك الأقلام بالأعلام تقط، ومشاريط النبال لدماميل الدمال تبط، والأرض من أثقال جبال القتال تئط، حتى سجى ليلا الظلام والقتام وأغطشا، فتراجعوا وقد أعطى الله النصر لمن يشا، وأجرى من دماء العدو مع قويق نهران، وفقد من العساكر الإسلامية نفران ثم أصبحوا يوم السبت حادي عشر، وقد تعبت الجنود الشامية، والعساكر السلطانية، بالعدة البالغة، والأهبة السابغة، والخيول المسومة، والرماح المقومة، والأعلام المعلمة، ولم يعز أولئك الصناديد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 سوى شمة من النصر والتأييد، فنحوا قصده، وقصدوا رده وصده، وأقبلت عساكره، والسعد الميمون طائره، والقضاء مؤازره، والقدر مظاهره، بالجنود المذكورة، والجيوش المعهودة المنصورة، تؤمهم الأفيال، وأقيال القتال وإذا به قد أضمر لهم الويل، وعبى عساكره تحت جنح الليل، وبثهم فيهم وأرسل عليهم عزاليهم وقابلهم بمقدمتهم، وشغلهم بأوائلهم، وأحاط الباقون بهم فأتوهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، فمشى عليهم مشي الموسى على الشعر، وسعى سعي الدبى على الزرع الأخضر، وكان هذا الجولان، على قرية حيلان، ولما اهتمش أمر الناس وهاش، وجاشت الهوشة والامتحاش، وتهارشت الأسود وانتطحت الكباش، فرت الميمنة وكان رأسها تمرداش، فانكسر العسكر وطاش، وأخذ الأبطال من الدهشة الارتعاش، وغلبتهم الحيرة والانبهار، فلم يلبثوا ولا ساعة من نهار، ثم ولوا الدبر، وصارت لأقلام رماحه ظهورهم الزبر، واستمروا أمامهم يتواثبون، وعسكره وراءهم يتخاطبون بمعنى ما قلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 جعلنا ظهور القوم في الحرب أوجها ... رقمنا بها ثغرا وعينا وحاجبا فقصدوا المدينة من الباب المفتوح، وهم بين مهشوم ومجروح، والسيوف تشقهم، والرماح تدقهم، وقد سالت بدمائهم الأباطح، وتمر من أسارير لحمهم كل كاسر وجارح، فوصلوا إلى باب المدينة وانكرسوا، وهجموا فيه يداً واحدة وتكردسوا، ولا زال يدوس بعضهم بعضا، حتى صارت العتبة العليا من الباب أرضا، فانسدت الأبواب بالقتلى، ولم يمكن الدخول منها أصلا، فتشتتوا في البلاد، وتفرقوا في المهامه والأطواد، وكسر باب أنطاكية المماليك الأغتام، وخرجوا منه قاصدين بلاد الشام فوصل فلهم إلى دمشق في أبشع صورة، وحكوا في كيفية هذه الوقعة أشنع سيرة، وصعد النواب إلى قلعة حلب وتحصنوا، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت فاستأمنوا، ونزلوا بواسطة تمرداش إليه، وقد غسل كل منهم من الحياة يديه، ثم إنه مشى على هينته مع وقاره ورزانته وسكينته، ودخل حلب، ونال منها ما طلب، وفاز بالروح والسلب ولما نزل النواب إليه، قبض على سيدي سودون وشيخ الخاصكي وأما تمرداش فخلع عليه، وقبض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 على ألطنبغا العثماني نائب صفد، وعلى عمر بن الطحان نائب غزة جعل الكل في صفد، وشرع في استخلاص الأموال، وضبط الأثقال والأنفال وقد ملأت القلوب هواجس هيبته، وانتشر في الآفاق شرار صولته ثم إنه لم يكتف بما أزهقه من النفوس، حتى بنى الميادين من الرؤوس، وسبب ذلك أن ذا قرابة البريدي الذي أرسله إلى حلب، وضرب نائب الشام عنقه وسلبه السلب، ذكر تيمور بقصته، وأراد القود من أهل حلب لذي قرابته، فأجاب سؤاله فمكنه، فيمن يختار منهم أن يفعل فيه ما استحسنه، فقتل طائفة منهم وبنى من رؤوسهم كذا وكذا مئذنة زيادة إيضاح لهذه المحنة مما نقلته من تاريخ ابن الشحنة قال أخبرني الحافظ الخوارزمي أن من كتب في الديوان من عساكر تيمور ثمانمائة ألف نفس، ومنه أن تيمور قصد قلعة المسلمين، وكان نائبها الناصري محمد ابن موسى بن شهري وأنه عصى عليه وكان يخرج للغارات، ثم قال ما نصه بحروفه وكان قد بدع بجمائع تمرلنك وطراشته مدة إقامته على بهسنا، وقتل منهم جماعة وأرسل رؤوسهم إلى حلب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وكسر تومانا كان جهزه إليه أقبح كسره، حتى رمى غالب جماعته بأنفسهم في الفرات، وجهز تمرلنك كتابه إلى المشار إليه ونصه يقول فيه إني خرجت من أقصى بلاد سمرقند، ولم يقف أحد أمامي، وسائر ملوك البلاد حضروا إلي، وأنت سلطت على جمائعي من يشوش عليهم ويقتل من ظفر به منهم، والآن فقد مشينا عليك بعساكرنا، فإن أشفقت على نفسك ورعيتك، فاحضر إلينا لترى من الرحمة والشفقة ما لا مزيد عليه، وإلا نزلنا عليك وخربنا بلدك، وقد قال الله تعالى " إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون " فاستعد لما يحيط بك إن أبيت الحضور فأمسك المشار إليه الرسول وحبسه ولم يلتفت إلى كلام تمرلنك، فمشى إليه أوائل عسكره فبرز إليهم المشار إليه وقاتلهم وكسرهم وفي اليوم الثاني حضر تمرلنك على قلعة المسلمين فبرز إليه المشار إليه وقاتله قتالاً شديداً وكانت وقعة عظيمة، رأى فيها منه تمرلنك شدة حزم ورجع عن محاربته، وأخذ في مخادعته، وملاطفته، وطلب منه الصلح، وأن يرسل إليه خيلا ومالا لأجل حرمته، فلم ينخدع معه وتنازل معه إلى أن طلب منه جانبا فلم يعطه، وعاد خائباً، وأخذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 المشار إليه في أواخره قتلاً ونهباً وأسراً، كل ذلك وباب قلعته مفتوح لم يغلقه يوماً واحداً وأنشد فيه لسان الحال هذا الأمير الذي صحت مناقبه ... ليث الوغى عمت الدنيا مفاخره ولى تمرلنك مكسوراً أوائله ... منه مرارا ومذعوراً أواخره وكان حصول تلك السعادة للمشار إليه، دون غيره من الملوك وأصحاب الحصون لما كان فيه من العلم والديانة، والإخلاص والصيانة، ولكونه من السلالة الطاهرة العمرية رضي الله عنها ولما كان يوم الخميس تاسع ربيع الأول نازل تمرلنك حلب، وكان نائبها المقر السيفي تمرداش، وقد حضرت إليه عساكر المملكة الشامية وعسكر دمشق مع نائبها سيدي سودون، وعسكر طرابلس مع نائبها المقر السيفي شيخ الخاصكي، وعسكر حماه مع نائبها المقر السيفي دقماق، وعسكر صفد وغيرها، فاختلفت آراؤهم، فمن قائل ادخلوا المدينة وقاتلوا من الأسوار، وقائل اخرجوا ظاهر البلد تلقاء العدو بالخيام فلما رأى المقر السيفي تمرداش اختلافهم، أذن لأهل حلب في إخلائها والتوجه حيث شاءوا وكان نعم الرأي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 فلم يوافقوا على ذلك وضربوا خيامهم ظاهر البلد تلقاء العدو وحضر قاصد تمرلنك فقتله نائب دمشق قبل أن يسمع كلامه، ويوم الجمعة حصل بين الأطراف تناوش يسير، فلما كان يوم السبت حادي عشر شهر ربيع الأول زحف تمرلنك بجيوشه وفيلته، فولى المسلمون نحو المدينة وازدحموا في الأبواب، ومات منهم خلق عظيم، والعدو وراءهم يقتل ويأسر، وأخذ تمرلنك حلب عنوة بالسيف، وصعد نواب المملكة وخواص الناس إلى القلعة، وكان أهل حلب قد جعلوا غالب أموالهم فيها وفي يوم رابع عشر شهر ربيع الأول أخذ القلعة بأمان والأيمان التي ليس معها إيمان، وفي ثاني يوم صعد إليها، وآخر نهار طلب علماءها وقضاتها، فحضرنا إليه فأوقفنا ساعة، ثم أمر بجلوسنا، وطلب من معه من أهل العلم، فقال لأمير عنده وهو المولى عبد الجبار بن العلامة نعمان الدين الحنفي، والده من العلماء المشهورين بسمرقند - قل لهم إني سائلهم عن مسألة سألت عنها علماء سمرقند وبخارى وهراة وسائر البلاد التي افتتحتها فلم يفصحوا عن جواب، فلا تكونوا مثلهم، ولا يجاوبني إلا أعلمكم وأفضلكم، وليعرف ما يتكلم فإني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 خالطت العلماء ولي بهم اختصاص وألفة، ولي في العلم طلب قديم وكان يبلغنا عنه أنه يتعنت العلماء في الأسئلة، ويجعل ذلك سبباً لقتلهم أو تعذيبهم فقال القاضي شرف الدين موسى الأنصاري الشافعي عني هذا شيخنا ومدرس هذه البلاد ومفتيها سلوه وبالله المستعان، فقال لي عبد الجبار، سلطاننا يقول إنه بالأمس قتل منا ومنكم، فمن الشهيد؟ قتيلنا أم قتيلكم؟ فوجم الجميع، وقلنا في أنفسنا هذا الذي بلغنا عنه من التعنت وسكت القوم، ففتح الله علي بجواب سريع بديع، وقلت هذا سؤال سئل عنه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجاب عنه، وأنا مجيب بما أجاب به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لي صاحبي القاضي شرف الدين موسى الأنصاري بعد أن انقضت الحادثة والله العظيم لما قلت هذا السؤال سئل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجاب عنه، وأنا محدث زماني، قلت هذا عالمنا قد اختل عقله وهو معذور، فإن هذا السؤال لا يمكن الجواب عنه في هذا المقام ووقع في نفس عبد الجبار مثل ذلك وألقى تمرلنك إلي سمعه وبصره وقال لعبد الجبار يسخر من كلامي كيف سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا وكيف أجاب؟ قلت " جاء أعرابي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله إن الرجل يقاتل حمية ويقاتل شجاعة ويقاتل ليرى مكانه فأينا في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو الشهيد فقال تمرلنك خوب خوب وقال عبد الجبار ما أحسن ما قلت! وانفتح باب المؤانسة، وقال إني رجل نصف آدمي، وقد أخذت بلاد كذا وكذا، وعدد سائر ممالك العجم والعراق والهند وسائر بلاد التتار فقلت إجعل شكر هذه النعمة عفوك عن هذه الأمة، ولا تقتل أحد، فقال والله إني لا أقتل أحداً قصداً، وإنما أنتم قتلتم أنفسكم في الأبواب، والله لا أقتل أحد منكم وأنتم آمنون على أنفسكم وأموالكم وتكررت الأسئلة منه والأجوبة منا، فطمع كل من الفقهاء الحاضرين، وجعل يبادر إلى الجواب ويظن أنه في المدرسة، والقاضي شرف الدين ينهاهم ويقول لهم بالله اسكتوا ليجاوب هذا الرجل فإنه يعرف ما يقول وكان آخر ما سئل عنه ما تقولون في علي ومعاوية ويزيد فأشرت إلى القاضي شرف الدين وكان إلى جانبي، أن اعرف كيف تجاوبه فإنه شيعي، فلم أفرغ من سماع كلامه إلا وقد قال القاضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 علم الدين القفصي المالكي كلاماً معناه أن الكل مجتهدون فغضب لذلك غضباً شديداً، وقال علي على الحق ومعاوية ظالم ويزيد فاسق وأنتم حلبيون تبع لأهل دمشق، وهم يزيديون قتلوا الحسين فأخذت في ملاطفته والاعتذار عن المالكي بأنه أجاب بشيء وجده في كتاب لا يعرف معناه، فعاد إلى دون ما كان عليه من البسط وأخذ عبد الجبار يسأل عني وعن القاضي شرف الدين فقال عني هذا عالم مليح وعن شرف الدين وهذا رجل فصيح فسألني تمرلنك عن عمري فقلت مولدي في سنة تسع وأربعين وسبع مائة وقد بلغت الآن أربعاً وخمسين سنة فقال للقاضي شرف الدين وأنت كم عمرك؟ فقال أنا أكبر منه بسنة فقال تمرلنك أنتم في عمر أولادي أنا عمري اليوم خمساً وسبعين سنة وحضر صلاة المغرب وأقيمت الصلاة وأمنا عبد الجبار وصلى تمرلنك إلى جانبي قائماً يركع ويسجد ثم تفرقنا وفي اليوم الثاني غدر بكل من في القلعة وأخذ جميع ما كان فيها من الأموال والأقمشة والأمتعة ما لا يحصى أخبرني بعض كتابه أنه لم يكن أخذ من مدينة قط ما أخذ من هذه القلعة، وعوقب غالب المسلمين بأنواع من العقوبة، وحبسوا بالقلعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 ما بين مقيد ومزنجر ومسجون ومرسم عليه ونزل تمرلنك من القلعة وأقام بدار النيابة، وصنع وليمة على زي المغل، ووقف سائر الملوك والنواب في خدمته وأدار عليهم كؤوس الخمر، والمسلمون في عقاب وعذاب وسبي وقتل وأسر، وجوامعهم ومدارسهم وبيوتهم في هدم وحرق وتخريب ونبش إلى آخر شهر ربيع الأول، ثم طلبني ورفيقي شرف الدين وأعاد السؤال عن علي ومعاوية، فقلت له لا شك أن الحق كان مع علي وليس معاوية من الخلفاء، فإنه صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال الخلافة بعدي ثلاثون سنة وقد تمت بعلي، فقال تمرلنك قل علي على حق ومعاوية ظالم، قلت قال صاحب الهداية يجوز تقليد القضاء من ولاة الجور، فإن كثيراً من الصحابة والتابعين تقلدوا القضاء من معاوية، وكان الحق مع علي في نوبته، فانسر لذلك وطلب الأمراء الذين عينهم للإقامة بحلب، وقال إن هذين الرجلين نزول عندكم بحلب، فأحسنوا إليهما وإلى ألزامهما وأصحابهما ومن ينضم إليهما، ولا تمكنوا أحداً من أذيتهما، ورتبوا لهم علوفة، ولا تدعوهما في القلعة بل اجعلوا إقامتهما في المدرسة يعني السلطانية التي تجاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 القلعة ففعلوا ما أوصاهم به إلا أنهم لم ينزلونا من القلعة وقال لنا الذي ولي الحكم منهم بحلب وكان يدعى الأمير موسى بن جاجي طغاي إني أخاف عليكما، والذي فهمته من سياق كلام تمرلنك أنه إذا أمر بسوء فعل بسرعة ولا يحيد عنه، وإذا أمر بخير فالأمر فيه لمن وليه وفي أول يوم من ربيع الآخر برز إلى ظاهر البلد متوجهاً نحو دمشق، وثاني يوم أرسل يطلب علماء البلد فرحنا إليه والمسلمون في أمر مريج وقطع رؤوس فقلنا ما الخبر؟ فقيل أن تمرلنك أرسل يطلب من عسكره رؤوساً من المسلمين على عادته التي كان يفعلها في البلاد التي أخذها، فما وصلنا إليه جاءنا شخص من علمائه يقال له المولى عمر، فسألناه عن طلبنا فقال يريد يستفتيكم في قتل نائب دمشق الذي قتل رسوله فقلت هذه رؤوس المسلمين تقطع وتحضر إليه بغير استفتاء وهو حلف ألا يقتل منا أحداً قصداً، فعاد إليه ونحن ننتظره وبين يديه لحم سليق في طبق يأكل منه فتكلم معه يسيراً، ثم جاء إلينا شخص بشيء من ذلك اللحم، فلم نفرغ من أكله إلا وزعجة قائمة وتمرلنك صوته عال، وساق شخص هكذا أو آخر هكذا، وجاءنا أمير يعتذر ويقول إن سلطاننا لم يأمر بإحضار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 رؤوس المسلمين، وإنما بقطع رؤوس القتلى وأن يجعل منها قبة إقامة لحرمته على جري عادته ففهموا منه غير ما أراد وأنه قد أطلقكم فأمضوا حيث شئتم، وركب تمرلنك من ساعته وتوجه نحو دمشق، فعدنا إلى القلعة ورأينا المصلحة في الإقامة بها، وأخذ الأمير موسى - احسن الله إليه - في الإحسان إلينا، وقبول شفاعتنا، وتفقد أحوالنا مدة إقامته بحلب وقلعتها وتجيئنا الأخبار أن سلطان المسلمين الملك الناصر فرج قد نزل إلى دمشق، وأنه كسر تمرلنك، ومرة تجيء بالعكس إلى أن انجلت القضية عن توجه السلطان إلى مصر بعد أن قاتل مع تمرلنك قتالاً عظيماً، أشرف تمرلنك منه على الكسر والهزيمة، وإنما حصل من بعض أمرائه خيانة كان ذلك سبب توجهه آخذاً بالحزم، ودخل تمرلنك إلى دمشق ونهبها وأحرقها، وفعل فيها فوق ما فعل بحلب، ولم يدخل طرابلس بل أحضر له منها مال، ولا جاوز فلسطين وعاد نحو حلب طالباً بلاده ولما كان سابع عشر شعبان من السنة المذكورة وصل تمرلنك عائداً من الشام إلى الجبول شرقي حلب، ولم يدخلها، بل أمرالمقيمين بها من جهته بتخريبها وإحراق المدينة ففعلوا، وطلبني الأمير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 عز الدين وكان من أكبر أمرائه وقال إن الأمير رسم بإطلاقك وإطلاق من معك، فاطلب من شئت وأكثر لأروح معكم إلى مشهد الحسين وأقيم عندكم حتى لا يبقى من عسكرنا أحد وكان القاضي شرف الدين لا يفارقني، فطلبنا باقي القضاة واجتمع معنا نحو من ألفي مسلم، وتوجهنا إلى مشهد الحسين المشار إليه، وأقمنا ننظر إلى النار وهي تضرم في أرجائها، وبعد ثلاثة أيام لم يبق بها أحد، فنزلنا إليها فلم نر أحدا فاستوحشنا وما قدرنا على الإقامة بها من النتن والوحشة، ولم نقدر على السلوك في الطرقات كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر وكانت نواب بلاد الشام معه مأسورين وانفلتوا أولاً بأول، ومات سودون بالبطن معه في قبة يلبغا، واستقر في نيابة دمشق تغري بردي والله أعلم هذا ما نقلته من كلام ابن الشحنة كما وجدته ذكر ورود هذا الخبر الذي أقلق ووصول أسنبغا الدوادار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وعبد القصار إلى جلق فورد من حلب أسنبغا الدوادار، والفتح الماهر المدعو بعبد القصار، وقالا معاشر المسلمين، الفرار مما لا يطاق، من سنن المرسلين، من يقدر على هذا، فيطلب لنفسه طريق النجا، ومن أطاق أن يشمر ذيله، فلا يبيتن في دمشق ليله، ولا يغالط نفسه بالمداهنة، فليس الخبر كالمعاينة فتفرقت الآراء، واختلفت الأهواء، وماج أمر الناس موجا، وتفرقوا كما هو دأبهم فوجاً فوجاً، فبعض الناس انتصح، وجهز أمره وانتزح وبعضهم كابر وأصر، وكشر أنيابه لأسنبغا وعبد القصار واهر، وأرادوا رجم هذين الناصحين، وأن يسقوهما كأس حين، وقالوا إنما أردتما بذلك تبديد الناس وتشريدهم، وإجلاءهم عن أوطانهم وتجريدهم، وتفريق كلمتهم وتمزيق جلدتهم، وإلا فالأمن حاصل، والسلطان بحمد الله واصل والنواب في حلب كانوا شرذمة قليلة، ولم يتم لهم معه الفكر والحيلة، مع أنه حصل من بعضهم مخامرة، ولم يوجد من الباقين مناصحة ومظاهرة، ولم يكن لهم رأس، فلا تأخذوا في هذه المسألة بالقياس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وأما عساكر مصر فإنهم كاملوا العدة و " سابغو " العدة، وفيهم للمسلمين فرج بعد الشدة، فقالا نحن بعد اللتيا والتي من شره سلمنا، وما شهدنا إلا بما علمنا، وكل منا أفصح عما أدى إليه اجتهاده وأبان، والله إنه في نصيحة المسلمين النذير العريان وقد نصحناكم إن كنتم مفلحين، ولكن لا تحبون الناصحين واستمر أمر الناس في الترديد والتشاغب، والتفرق والتبديل والتشاعب، فبعضهم توجه نحو الأماكن القدسية، وتوجه بعض إلى الديار المصرية، وبعض تشبث بأذيال الحروف العاصية، وتحصن آخرون بالأماكن الغامضة القاصية ذكر خروج السلطان الملك الناصر من القاهرة بجنود الإسلام والعساكر ثم إن السلطان خرج من توان، وتوجه بالعساكر والاستعداد التام إلى جهة بلاد الشام، فلما بلغ الناس ذلك سكن جأشهم، وزال استيحاشهم، ورد غالب من كان نزح منهم، وانفرج الكرب والضيق عنهم، وأما أولو العزم، وذوو الرأي السديد والحزم، فلم يلتفتوا إلى قدوم السلطان، بل طلبوا لنفسهم الأمان، وانتظروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 ما يتولد من حادثات الزمان، وكأن أنامل الدهر الدائر، كتبت لهم على مرآة الخاطر، ما أنشده الشاعر ألا إنما الأيام أبناء واحد ... وهذي الليالي كلها أخوات فلا تطلبن من عند يوم وليلة ... خلاف الذي مرت به السنوات وقلت إن اختفى ما في الزمان الآتي ... فقس على الماضي من الأوقات " فصل " ولما أنجز تيمور أمر حلب، ضبط أثقالها وما أخذ منها من مال وسلب، ووضعه في القلعة، ووكل به بعض أمرائه من ذوي الشجاعة والمنعة، وهو الأمير موسى بن حاجي طغاي، وكان ذا عزم سديد ورأي، وتوجه بذلك البحر الطام، غرة شهر ربيع الآخر جهة الشام، فوصل إلى حماة، ونهب ما حوت يداه، ولم يحتفل بأمر نهب وأسير، ولا بإسراع في مسير، بل سار رويدا، وهو يكيد كيدا، ويكيدون كيدا حكاية رأيت حين توجهت إلى بلاد الروم في أوائل شهر ربيع الأول سنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 تسع وثلاثين وثمانمائة، عند وصولنا إلى حماة بالجامع النوري بها من الجانب الشرقي على حائطه القبلي نقشاً على رخامة بالفارسي ما ترجمته " وسبب تصوير هذا التسطير، هو أن الله تعالى يسر لنا فتح البلاد والممالك حتى انتهى استخلاصنا الممالك إلى العراق وبغداد، فجاورنا سلطان مصر ثم راسلناه وبعثنا إليه قصادنا بأنواع التحف والهدايا، فقتل قصادنا من غير موجب لذلك، وكان قصدنا بذلك أن تنعقد المودة بين الجانبين، وتتأكد الصداقة من الطرفين ثم بعد ذلك بمدة قبض التراكمة على أناس من جهتنا وأرسلهم إلى السلطان مصر برقوق، فسجنهم وضيق عليهم، فلزم من هذا أنا توجهنا لاستخلاص متعلقينا، من أيدي مخالفينا، واتفق لذلك نولنا بحماه في العشرين من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانمائة " " فصل " ثم وصل إلى حمص فلم يتعرض بها بتشتيت وتبديد، ووهبها لسيدي خالد بن الوليد قلت بديها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 ألا لا تجاور سوى الخيرين ... أحيا وكن جارهم في القبور ألم تر حمص وسكانها ... نجوا من بحار بلايا تمور لأنهم جاوروا خالدا ... ومن جاور الأتقيا لا يبور وخرج إليه شخص من آحاد الناس، يدعى عمر بن الرواس، فاستجلب خاطره، وكأنه قدم إليه تقدمة فاخرة، فولاه أمور البلد وركن إليه واعتمد، وولى قضاء تلك البلاد، رئيساً يسمى شمس الدين بن الحداد، ونادى بالأمان، للقاصي والدان، وتبايعوا بها وتشاوروا، وفي استفادة ربح الأمن لم يتماروا ثم إن نائب الشام ضعف معه ومات على قبة يلبغا ونائب طرابلس هرب منه وللخلاص ابتغى، فوصل إلى مدينته، واستقر في ولايته، فاضطرم غضباً، واستشاط لهباً واشتعل قيظ غيظه، وقتل كل من وكله بحفظه، وأسعر بهم سقر، وكانوا ستة عشر وأما تمرداش فإنه داراه ومارى، وهرب منه في قارا، واستمر علاء الدين الطنبغا العثماني نائب صفد، وزين الدين نائب غزة وغيرهما معه في صفد، ثم سار وما ارتبك، حتى نزل على بعلبك، فخرج أهلها ودخلوا عليه، وتراموا طالبين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 الصلح بين يديه، فلم يلتفت إلى هذا المقال، وأرسل فيهم جوارح النهب والاستئصال " وقرب السلطان أيضاً " ثم ارتحل مجرياً ذلك البحر الزخار، والسيل التيار، والطوفان الثرثار، حتى أشرف على دمشق من قبة سيار، ووصلت العساكر المصرية، والجنود الإسلامية، وقد ملأوا الفضاء وأشرق الكون منهم وأضاء، فيالق سهامها لحب قلب من نوى الخلاف فالقة، وصواعق سيوفها في عقاص كل عقص صاعقة، وأسنة رماحها لرتق سماء الأرواح عن أرض الأشباح فاتقة وقد طلبوا الأطلاب وحزبوا الأحزاب، وعبوا الميمنة والميسرة ورتبوا المقدمة والمؤخرة، وسووا القلب والجناح، وملأوا البطاح والبراح وساروا بالمقاتب المكتبة والكتائب المقتبة، والكواكب المركبة، والمراكب المكوكبة، والمراتب المقربة، والمقربات المرتبة، والسلاهب المجنبة، والنجائب التي هي على أكل اللجم مسلهبة، وفي كل كتيبة من الأسود الضراغم، ومن النسور القشاعم قلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 ورب ذي لجب كالطود ذي حنق ... كأنه البحر في أثناه غابات بحران في كل موج منهما أسد ... يلاعب الموت في كفيه حيات كل ترى العين معناه وصورته ... عند النزال وإن ينزل فشطفات إن يسر تلق السما في الأرض دائرة ... أو سار تعقد أرضاً منه غبرات وقد تنكبوا حنايا المنايا، وتقلدوا سيوف الحتوف، واعتقلوا الذوابل النواهل، وثبتوا حيث نبتوا، وكأنهم خلقوا من كواهل الصواهل قلت كأن الجو ثوب لا زوردي ... يزركش نسجه قضب الرماح فإن عقد القتام عليه ليلا ... أرتك صفاحه لمع الصباح كأن نجومه النشاب ترمى ... شياطين الكفاح لدى النطاح ولا زالت أفواج هذه الأمواج على هذا المنهاج متلاطمة، وأثباج هذا البحر العجاج تحت العجاج متصادمة، وكل ينادي بطريق المفهوم " وما منا إلا له مقام معلوم " فوصلت غيلان الوغى إلى قبة يلبغا، يوم الأحد العاشر من شهر ربيع الآخر، عام ثلاثة وثمانمائة من الهجرة، فنزل كل من العساكر يمنة ويسرة، واستقرت العساكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 والأمراء الإسلامية في البيوت والمساكن، ونزلت الجنود التتارية غربي دمشق من داريا وإلى قطنا والحولة وما يلي تلك الأماكن ودخل بعض أثقال السلطان إلى البلد، وتحصنت القلعة والمدينة بالسلاح والعدد، ثم أخذ كل من الجيشين حذره، ونجز للمقابلة والمقاتلة أمره، وحفروا الخنادق، وسد كل على الآخر أفواه المضائق، وشرعوا في المهوشة والمناوشة والمهارشة والمعانشة، ثم أمر السلطان العساكر بالبروز من المدينة إلى الظاهر وجعل يخرج من المدينة رؤساء أعيانها، وتنحاز في المقاتلة إلى سلطانها، والأطفال الصغار، يجأرون إلى الجبار، وينادون بحرقة كل ليلة في الأزقة يا الله يا رحمن، انصر مولانا السلطان والناس في اضطراب وحركات، يستنزلون النصر والبركات، ويستغيثون الليل والنهار، يا مجاهدون الأسوار واستشهد من رؤساء البلد في تلك الأيام قاضي القضاة برهان الدين التادلي المالكي الحاكم بالشام، وشلت يد قاضي القضاة شرف الدين عيسى المالكي بضربة حسام، وجعلوا يأتون بمن يظفرون به من العدو فيقتلونه، ربما غنموا منهم من ناطق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وصامت فيشهرونه ذكر واقعة وقعت ومعركة صدعت لو أنها نفعت ثم في بعض الأيام، تقدم من أولئك الأغتام، نحو من عشرة آلاف، وزحفوا إلى ميدان المصاف، فنهض لهم من العساكر الشامية، نحو من خمسمائة ثم أتبعهم الأمير استنباي في نحو من ثلاثمائة قلت أسود إذا لاقوا ظباء إذا عطوا ... جبال إذا أرسوا بحار إذا سروا شموس إذا لاحوا بدور إذا انجلوا ... رياح إذا هبوا غمام إذا هموا صقور إذا انقضوا نمور إذا سموا ... رعود إذا صاحوا صواعق إن رموا مع كل منهما خطار تسجد قدود الملاح لخطراته، وبتار يتعلم سفك الدماء من لحظاته، وحنية تضاهي حاجبه، وسهام في تشبهها بأجفانه صائبة، وترس لين اللمس، إذا تغطى به رأيت البدر علا الشمس، وعليه خوذة كأنها من لمعات وجنته مأخوذة، أو من بوارق طلعته مفلوذة، إذا نظر الطرف إليها يأخذه الانبهار، يكاد سنا برقها يذهب بالأبصار، ولبوس أشبه لابسه، وصار ملابسه ظاهره حرير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ناعم كبشرته، وباطنه حديد كقلبه في قسوته، وقد امتطوا الفحول من نجائب الخيول، فكأن بدور تلك الجموع، مع الرماح الملتهبة الأسنة عرس تجلى تحت الشموع، وتوجهوا إلى حومة الوغى، وتلاقوا في واد خلف قبة يلبغا " وفتية من كماة الترك ما تركوا ... للرعد أصواتهم حساً ولا حيتا قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة ... حسنا وإن قاتلوا كانوا عفاريتا " " فصل " ولما رأت هذه الأسود تلك الذئاب والكلاب، كانوا كالمؤمنين وقد رأوا الأحزاب، فبان منهم صحيح الضرب وعليله، وقالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله فأحاط أولئك بهؤلاء لكثرة الغلبة، وأداروا لقرضهم على هذه البحور الدائرة المجتلبة، وحين صاروا في خباء هذه الدائرة كالعروض اشتغلوا بالضرب وتقطيع الدائرة بالحرب العضوض، فأول ما أضمروا لهم في ذلك الزحف قطع الرأس وخبل العقل وقطف الكف، فصلموا بالرمح الطويل عقلهم، وثلموا بالرشق المديد شكلهم، وبتروا بالعضب البسيط وافرهم، وشتروا بالسهم السريع كاملهم، فخذوهم وقصموهم، وخزموهم " وخرموهم " وشعثوهم وثرموهم، وجموهم، ووقصوهم، وعصبوهم، وعقصوهم، وخذلوهم، ونقصوهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 فردوا صدورهم على الأعجاز، وسدوا على حقيقة الخلاص منهم المجاز، فانكشفوا عنهم، وهم ما بين مشطور، ومقطوع، ومحذوف، ومجزو، ومنهوك، وموقوف ورجع أسنباي المشار إليه وقد اقتضب بحربه المتدارك حفيفهم، واجتث بضربة المتقارب المتماسك ثقيلهم وخفيفهم، وتسبيغ سوابغهم بالنصر مرفل، وبالتمكين التام مذيل، وبيت دائرتهم المتفقة آمن من الخلل، وعروضه وضربه سالم من الزحاف والعلل ذكر ما افتعله سلطان حسين ابن أخت تيمور من المكر والمين ثم إن سلطان حسين وهو ابن أخت تيمور، أظهر أنه خامر على خاله وجاء إلى السلطان وفي باطنه أمور، وكان شاباً ذا شجاعة، وعنده طيش ورقاعة، فأظهروا بقدومه الفرح، واستشعروا النصر والمرح، وكان في رأسه جمة شعر فأزالوه، وخلعوا عليه وفي زيهم أظهروه " فصل " ثم إن تيمور أشاع أنه خار وتعتع، فرحل قليلاً ورجع القهقرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وتكعكع، كل ذلك من مكايده، وحبائل مصايده، وبيان ذلك أنه بلغه أن الخلاف واقع بين العساكر المصرية وأنهم سيفرون، فيفوتونه إذ ذاك، فأظهر الخؤن، وأشاع أنه راحل ليثبتهم، وعن الفرار يثبطهم، فلما عزموا على الفرار، " لم يبن لهم ثبات ولا قرار " ذكر ما نجم من النفاق بين العساكر الإسلامية وعدم الاتفاق وكان أتابك العساكر، وكافل الملك الناصر، الأمير الكبير يشبك وتحت يده الأكابر والأصاغر، والجند وإن كانوا مدده كثيرا، والجيش وإن تراءى عدده غزيرا، لكن كان كل منهم أميرا، ولم يكن شيء منهم سوى الرأس صغيرا، فتشتت آراؤهم، وتصادمت أهواؤهم، وانتقلت أشعار شعارهم من الدائرة المؤتلفة، إلى الدائرة المختلفة ونقل كل منهم عن وزن بيته إلى عروض، وأخذ في عرض صاحبه بالتقريض، وظهرت في تلك الساعة آيات الرحمن، في اختلاف الألسنة والألوان، وصاروا في رعاية الرعية كالذئب والضبع، وسلطوا على مرعى هزيلها النمر الغضوب والسبع، ولحق في سند هذا الحديث الأصاغر بالأكابر، والأسافل بالأعالي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 والأوائل بالأواخر، وصاروا كما قال الشاعر تفرقت غنمي يوماً فقلت لها ... يا رب صلت عليها الذئب والضبعا وتوجه منهم رؤوس إلى القاهرة، تاركاً كل منهم قوته وناصره، وصدقوا تيمور في نفيه عنهم معرفة السياسة، والدربة في سلوك طرائق الرياسة " فصل " ولما علم الغابرون، ما فعله السائرون، لم يسعهم غير تشمير الذيل، واتباعهم تحت جنح الليل، ومن تخلف عن قوم، أو أخذته سنة أو نوم، وقع في الشرك، وهوى به إلى أسفل الدرك، وكان الناس في الليل والنهار، ملازمين الإقامة على الأسوار، وكل قد فرح وابتهج، وتيقن أنه قد حصل له من سلطانه فرج ففي بعض الليالي صعد الناس إلى مكان عالي، وإذا بأماكن مخيم السلطان، قد ملئت من النيران، ولم يعرف أحد ما الخبر، غير أن الدنيا ملئت بالشر والشرر، وأصبحوا وقد خلت الديار، ولم يبق في قبة يلبغا نافخ نار، فخشعت أصواتهم، وسكنت حركاتهم، فجعلوا يتهاتفون، وفيما بينهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 يتخافتون، وماج الشر واضطرب، وقال الناس السلطان هرب، فانقصم ظهر الناس، وأيقنوا حلول الباس، وتفاقمت الهموم، وتعاظمت الغموم، وتقطعت بهم الأسباب، وشمل الخلائق أنواع العذاب، وضاقت الحيل كالصدور، وتخبطت الأوامر والأمور " فصل " ثم إن تيمور حمد ربه، ورحل من مكانه ونزل القبة، وألقى عصاه، ونام مستريحاً على قفاه، ونادى بمعنى ما قلت الحمد لله نلنا ما نؤمله ... والضد أدبر والمأمول قد حصلا وحفر الخنادق حوله، وبث في الأطراف رجله وخيله، وأرسل الطلب وراء من هرب، وصار كلما أتى بأحد من أجناد الرجال، أمر بإلقائه بين يدي تلك الأفيال، فتفعل معه الأفيال في تلك الفلاة، ما تفعله المواشي يوم القيامة في مانع الزكاة " فصل " فأما السلطان فإنه لم يصبه من أحد ضيم لأنه نشز نشوز الغيم وانساب انسياب الأيم، وتوجه على وادي التيم، فانتشرت شياطين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 تيمور في الأرض، وملأت الطول والعرض، ووصلت طراشتهم إلى أطراف البلاد وضواحيها، وعامة القرى ونواحيها، وجعلوا من كل حدب ينسلون في مشارق الأرض ومغاربها التي بارك الله فيها وتقدموا إلى المدينة، وكانت كما ذكر بالأهبة حصينة، وبأنواع الاستعداد مكينة، مسدولة بالحجاب، مغلقة الأبواب، فتمنع أهلها عليهم، ولم يسلموها إليهم، رجاء أن يشموا من النجدة الأرج، أو يمن الله عليهم بعد هذه الشدة بفرج، فاستمروا على ذلك نحواً من يومين، ثم استيقنوا من رجائهم الخيبة ومن ظنهم المين، فكان قدوم السلطان وذهابه بالعساكر كما قال الشاعر كما أبرقت قوماً عطاشا غمامة ... فلما رأوها أقشعت وتجلت ذكر خروج الأعيان بعد ذهاب السلطان وطلبهم من تيمور الأمان ولما خانتهم الظنون، وعلموا أنه حل بهم ريب المنون، اجتمع من المدينة الكبراء والموجود من الأعيان والرؤساء، وهم قاضي القضاة محي الدين محمود بن العز الحنفي، وولده قاضي القضاة شهاب الدين، وقاضي القضاة تقي الدين إبراهيم ابن مفلح الحنبلي، وقاضي القضاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 شمس الدين محمد الحنبلي النابلسي، والقاضي ناصر الدين محمد بن أبي الطيب كاتب السر، والقاضي شهاب الدين أحمد بن الشهيد الوزير، وكان منصب الوزارة إذ ذاك له أبهة ما في الجملة، والقاضي شهاب الدين الحسباني الشافعي، والقاضي برهان الدين إبراهيم بن القوسه الحنفي نائب الحكم رحمهم الله فأما القاضي الشافعي وهو علاء الدين بن أبي البقاء فإنه هرب مع السلطان، وقاضي القضاة المالكي وهو برهان الدين التادلي فإنه استشهد كما ذكر فخرج هؤلاء الأعيان، وطلبوا منه الأمان، بعد ما وقع المشاورة منهم والاتفاق ونظمت كلمتهم في سلك الوفاق " فصل " ولما أقلع السلطان بفلك عساكره المشحون، وقع في بحر العساكر التيمورية قاضي القضاة ولي الدين بن خلدون، وكان من أعلام الأعيان، وممن قدم مع السلطان، فلما قتل السلطان وفرك كأنه غافلاً فوقع في الشرك، وكان نازلاً في المدرسة العادلية، فتوجه هؤلاء الأعيان إليه في تدبير هذه القضية، فوافق فكره فكرهم، فملكوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 في ذلك أمرهم، وما وسعهم إلا استصحابه معهم، وكان مالكي المذهب والمنظر، أصمعي الرواية والمخبر، فتوجه معهم بعمامة خفيفة، وهيئة ظريفة، وبرنس كهو رقيق الحاشية، يشبه من دامس الليل الناشئة، فقدموه بين أيديهم، ورضوا بأقواله وأفعاله لهم وعليهم وحين دخلوا عليه، وقفوا بين يديه، واستمروا واقفين، وجلين خائفين، حتى سمح بجلوسهم، وتسكين نفوسهم، ثم هش إليهم، ومن ضاحكاً عليهم، وجعل يراقب أحوالهم، ويسبر بمسبار عقله أقوالهم وأفعالهم ولما رأى شكل ابن خلدون لشكلهم مبايناً، قال هذا الرجل ليس من هاهنا، فانفتح للمقال مجال، فبسط لسانه وسيذكر ما قال، ثم طووا بساط الكلام ونشروا سماط الطعام، فكوموا تلالاً من اللحم السليق، ووضعوا أمام كل ما به يليق، فبعض تعفف عن ذلك تنزها، وبعض تشاغل عن الأكل بالحديث ولها، وبعض مد يده وأكل وما جبن في مصاف الالتهام ولا نكل، وإلى الأكل أرشدهم، وناداهم وأنشدهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 كلوا أكل من إن عاش أخبر أهله ... وإن مات يلق الله وهو بطين وكان من جملة الآكلين، قاضي القضاة ولي الدين، ولك ذلك وتيمور يرمقهم، وعينه الخزراء تسرقهم، وكان ابن خلدون أيضاً يصوب نحو تيمور الحدق، فإذا نظر إليه أطرق، وإذا ولى عنه رمق، ثم نادى وقال بصوت عال يا مولانا الأمير، الحمد لله العلي الكبير، لقد شرفت بحضوري ملوك الأنام، وأحييت بتواريخي ما مات لهم من أيام، ورأيت من ملوك الغرب فلاناً وفلانا، وحضرت كذا وكذا سلطاناً، وشهدت مشارق الأرض ومغاربها، وخالطت في كل بقعة أميرها ونائبها، ولكن لله المنة إذا امتد بي زماني، ومن الله علي بأن أحياني، حتى رأيت من هو الملك على الحقيقة، والمسلك شريعة السلطنة على الطريقة، فإن كان طعام الملوك يؤكل لدفع التلف، فطعام مولانا الأمير يؤكل لذلك ولنيل الفخر والشرف فاهتز تيمور عجباً، وكاد يرقص طربا، وأقبل يوجه الخطاب إليه، وعول في ذلك دون الكل عليه، وسأله عن ملوك الغرب وأخبارها، وأيام دولها وآثارها، فقص عليه من ذلك ما خرع عقله وخلبه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وجلب لبه وسلبه، وكان تيمور في سير الملوك والأمم أمة، وأبا التاريخ شرقاً وغربا وأمة، وسيذكر لهذه المعان بديع بيان " فصل " وبينما هم يوماً قاعدون في حضرة ذلك البصير، وإذا بالقاضي صدر الدين المناوي في أيديهم أسير، وكان قد تبع السلطان في الهرب، فأدركه في ميسلون الطلب، فقبضوا عليه، وأحضروه بين يديه، وإذا هو بعمامة كالبرج، وأردان كالخرج، فتخطى الرقاب، وجلس من غير إذن فوق الأصحاب، فاستشاط تيمور وملأ المجلس لهباً وانتفخ سحره، وسجر غيظاً نحره، وشخر ونخر، ومخر بحر حنقه وزخر، وأمر طائفة من المعتدين، بالتنكيل بالقاضي صدر الدين، فسحبوه سحب الكلاب، ومزقوا ما عليه من ثياب، وأوسعوه سباً وشتماً، وأشبعوه ركلاً ولكماً، ثم أمرهم بتشديد أسره، وتجديد كسره، وترادف الإساءة إليه، وتضاعف الكسرات على رغم التصريفين عليه، فأخرج إخراج الظالم، يوم يولي مدبراً ماله من الله من عاصم ثم تراجع تيمور إلى ما كان فيه، من ترتيب غوائله ودواهيه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 فألبس كلاً من هؤلاء الأعيان خلعة، وأقامه عنده في عزة ورفعة، ثم ردهم منشرحي الصدور، في دعة وسرور، وفي خاطره شرور وأمور تمور، فساروا وقد صاروا قلت كالهدى زينه المهدى وعظمه ... وعن قريب لضيف الموت أطعمه وشرط لهم ولذويهم الأمان، على أن يدفعوا إليه أموال السلطان، وماله وللأمراء من أثقال، وتعلقات وأموال، ودواب ومواش، ومماليك وحواش، ففعلوا ما به أمر، ورفعوا إليه ما بطن من ذلك وما ظهر فأما القلعة فإنها استعدت للحصار، وكان نائبها يدعى أزدار، فحصنها، وبالأهبة الكاملة مكنها، وانتظر من السلطان نجدة، أو مانعاً ربانياً يفرج عنه الشدة، فلم يلتفت تيمور في أول الأمر إليها، ولا احتفل بها ولا عرج عليها، بل صرف همه إلى تحصيل الأموال، وتوسيق الأحمال بالأثقال فلما حصل الثقل، وإلى خزائنه انتقل، طرح على المدينة أموال الأمان، واستعان على استخلاصها بهؤلاء الأعيان، وأقام عليهم دواوينه وكتبته، وأهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 الضبط والحرص من مباشريه وحسبته، وفوض ذلك إلى كفاية الله داد، أحد أركان دولته ومن عليه الاعتماد، وهو أخو سيف الدين المار ذكره في أول الكتاب لأمه، وأقام معهم كل جبار عنيد ومن نشأ في حجر الفظاظة ورضع ثدي ظلمه، ونادى بالأمان والاطمئنان، وأن لا يبغي إنسان على إنسان، فمد بعض الجغتاي يده إلى غارة، بعد ما سمعوا هذا النداء واستشهاده فبلغ ذلك تيمور، فأمر بصلبهم في مكان مشهور، فصلبوهم في الحريرين، برأس سوق البزوريين، ففرح الناس بهذه الفعلة، وأملوا خيره وعدله، وفتحوا من أبواب المدينة باب الصغير، وشرعوا يحررون أمر المدينة على النقير والقطمير، فوزعوا هذه الأموال على الحارات، وتنادى أهل الظلم والعدوان من القريب والغريب يا للثارات، وجعلوا دار الذهب مكان المستخلص، وطفقوا يلقون الناس في ذلك المقنص، وتسلط بعض الناس على البعض، واصطاد أرانب الأرض بكلاب الأرض، وكان فصل الخريف كجيش مصر قد فتل، وفصل الشتاء بزمهريره كجند تيمور بنيرانه على العالم قد نزل، فانتقل إلى القصر الأبلق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 ثم إلى بيت الأمير بتخاص وأمر بالقصر أن يهدم ويحرق ودخل إلى المدينة من باب الصغير في جمع كثير، وصلى الجمعة في جامع بني أمية، وقد الحنفية على الشافعية، وخطب به قاضي القضاة محي الدين محمود ابن العز الحنفي المذكور، وجرى ما يطول شرحه من أمور وشرور ووقع بين عبد الجبار بن النعمان الخوارزمي المعتزلي، وبين علماء الشام لا سيما قاضي القضاة تقي الدين إبراهيم بن مفلح الحنبلي، مناظرات ومناقشات، ومباحثات ومراجعات، هو في ذلك كترجمانه، يخاطبهم في جميع ذلك بلسانه، فمنها علي ومعاوية، وما مضى بينهم في تلك القرون الخالية، ومنها أمور يزيد وما يزيد، وقتله الحسين السعيد الشهيد، وإن ذلك ظلم وفسق بلا نكر، ومن استحله فهو واقع في الكفر، ولا شك أن ذلك الفعل الحرام، كان بمظاهرة أهل الشام، فإن كانوا مستحليه فهم كفار، وإن كانوا غير مستحليه فهم عصاة وبغاة وأشرار، وأن الحاضرين على مذهب الغابرين فحصل منهم في ذلك أنواع الأجوبة، فمنها ما رده، ومنها ما أعجبه، إلى أن أجاب كاتب السر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وأجاد، وأصاب فيما قال لو أفاد، أطال الله الكبير، بقاء مولانا الأمير، أما أنا فنسبي متصل بعمر وعثمان، وأن جدي الأعلى كان من أعيان ذلك الزمان، وحضر تلك الوقائع، وخاض هاتيك المعامع، وكان من رجال الحق وأبطال الصدق ومما تواتر من فعله، ووضع الشيء في محله، أنه توصل إلى رأس سيدنا الحسين، ونزهه عما حصل له من ابتذال وشين، ثم نظفه وغسله، وعظمه وقبله، وطيبه وبجله، وواراه في تربة، وعد ذلك عند الله تعالى من أفضل قربة، فلذلك أيها الغام الصيب كنوه بأبي الطيب، وعلى كل تقدير، يا مولانا الأمير، فتلك أمة قد خلت، وهموم وغمام غيومها انجلت، وبما جرعت انقضت، وبما أذاقت مرت أو حلت، وفتن أراحنا الله إذ أزاحنا عنها، ودماء طهر الله سيوفنا منها، وأما الساعة، فاعتقادنا اعتقاد أهل السنة والجماعة فلما سمع هذا الكلام قال يا لله العجب! وما سميتم بأولاد أبي الطيب إلا لهذا السبب، قال نعم، ويشهد لي بذلك القاصي والداني، وأنا محمد بن عمر بن محمد بن أبي القاسم بن عبد المنعم بن محمد بن أبي الطيب العمري العثماني فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 له المعذرة يا طاهر الأسلاف، لولا أني ظاهر العذر لحملتك على عاتقي والأكتاف، ولكن سترى ما أفعله معك ومع أصحابك من التكريم والألطاف، ثم إنه ودعهم، وبالتعظيم والاحترام شيعهم ومنها أنه سألهم كناية، سؤال إضرار ونكاية، فقال ما أعلى الرتب، درجة العلم أو درجة النسب؟ فأدركوا قصده وفهموا، ولكن عن رد الجواب وجموا، وعلم كل منهم أنه قد أبتلي، فابتدر الجواب القاضي شمس الدين النابلسي الحنبلي، وقال درجة العلم أعلى من درجة النسب، ومرتبتها عند الخالق والمخلوق أسنى الرتب، والهجين الفاضل يقدم على الهجان الجاهل، والمقرف المنيف، أولى للإقامة من النسيب الشريف، والدليل في هذا جلي، وهو إجماع الصحابة في تقديم أبي بكر على علي، وقد أجمعوا أن أبا بكر أعلمهم، وأثبتهم قدماً في الإسلام وأقدمهم، وإثبات هذه الدلالة، من قول صاحب الرسالة لا تجتمع أمتي على ضلالة ثم أخذ في نزع ثيابه، مصيخاً لتيمور وما يصدر من جوابه، ففكك أزراره، وقال لنفسه إنما أنت عاره، وكأس الموت لابد من شربها، فسواء ما بين بعدها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وقربها، والموت على الشهادة، من أفضل العبادة، وأحسن أحوالها لمن اعتقد أنه إلى الله صائر، كلمة حق عند سلطان جائر، فسأل ما يفعل، هذا المهمل، فقال يا مولانا الجليل، إن فرق عساكرك كأمم بني إسرائيل، وفيهم من ابتدعوا بدعا وتقطعوا في مذاهبهم قطعا، وفرقوا دينهم وكانوا شيعا، ولا شك أن مجالس حضرتك تنقل، وعقائل مباحثها تحل الصدور فتعقل، وإذا ثبت هذا الكلام عني، ووعاه أحد غير سني، خصوصاً من ادعى موالاة علي، وتسمى في رفضه أبا بكر بالرافضي، وتحقق مني يقيني، وأنه لا ناصر لي يقيني، فإنه يقتلني جهارا، ويريق دمي نهارا، وإذا كان كذلك فأنا أستعد لهذه السعادة، وأختم أحكام القضاء بالشهادة، فقال لله هذا! ما أفصحه! وأجرأه في الكلام وأوقحه، ثم نظر إلى القوم، وقال لا تدخلن هذا علي بعد اليوم " فصل " وهذا الرجل أعني عبد الجبار كان عالم تيمور وإمامه، وممن يخوض في دماء المسلمين أمامه، وكان عالماً فاضلا، فقيهاً كاملا، بحاثاً محققاً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 أصولياً جدلياً مدققاً، وأبوه النعمان في سمرقند كان، وهو في الفروع من أعلم أهل الزمان، حتى كان يقال له النعمان الثان، وكان من القائلين بعدم الرؤية في الأخرى، فأعمى الله تعالى بصره كبصيرته في الدنيا، وأكثر علماء عصره بما وراء النهر قرأ عليه الفروع، ونقل عنه مسائل المشروع، ولا خلاف في الفروع بين أهل السنة وأهل الاعتزال، وإنما اختلافهم في أصول الدين في مسائل معدودة سلكوا فيها سبيل الضلال " فصل " وتصدى لاستخلاص الأموال من أهل الشام، كل غشوم ظلام، وكفور صدام، ومن كان في قلة وفاقه، كصدقة بن الجابي وابن المحدث وعبد الملك ابن التكريتي المنبوذ بسماقة، وغيرهم من نظائرهم، من عواقب الظلم وأبنائهم، مع حضور أكابر المدينة وأعيانها، المار ذكرهم ورؤساء قطانها، فإنه لم يمكنهم في ذلك أن يتخلفوا، ولا يتقاعسوا لحظة ولا يتوقفوا، وبحضور دواوينه وحسابه، وضابطي أمور خزائنه وكتابه، ومنهم خواجه مسعود السمناني، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 ومولانا عمر وتاج الدين السلماني، كل ذلك في دار الذهب وهو مكان مشهور، ونزل الله داد داخل باب الصغير، في دار ابن مشكور، وجعل كل من في قبيلته من أحد ضغينة، أو سخيمة دفينة، أو غل أو حسد أو حقد أو نكد يغمز على إخوته أولئك الظلمة الفظاظ، والزبانية الشداد الغلاظ وجعلوا لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا بل بأدنى إشارة، وأقل عبارة، يبنون على أرض وجود ذلك المسكين من جبال النكال قصور شواهق، وينشئون على حدائق ذاته من سماء العذاب سحاب عقاب ترعد عليه صواعق، وتبرق منه من الدمار والبوار بوارق " فصل " ثم إنه صار في هذه المدة، يحاصر القلعة ويعد لها ما استطاع من عدة، وأمر أن يبني مقابلها بناء يعلوها، ليصعدوا عليها فيهدوها، فجمعوا الأخشاب والأحطاب وعبوها وصبوا فوقها الأحجار والتراب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 ودكوها، وذلك من جهة الشمال والغرب، ثم علوا عليها وناوشوها الطعن والضرب، وفوض أمر الحصار لأمير من أمرائه الكبار، يدعى جهان شاه، فتكفل بذلك وعاناه، ونصب عليه المجانيق، ونقب تحتها وعلقها والتعاليق، وكان فيها من المقاتلة، فئة غير طائلة، أمثلهم شهاب الدين الزردكاش الدمشقي وشهاب الدين أحمد الزردكاش الحلبي، فأبليا في إهلاك عسكره بلاء حسنا، وكان على جيشه كلما فاء إلى فنائهم وباء مصيبة وفنا، فأهلكا من جيشه بالإحراق، وإرعاد المدافع والإبراق، ما فات العد، وتبدد على دائرة الحد ولكنه لما أحاط بها من بحار بحريته سيل عرم سائلها، وأمطر عليها من سهام غمام رماته وصواعق بوارق كماته صيب وابلها، أتاها العذاب من فوقها ومن تحتها وعن أيمانها وعن شمائلها، وكلت عن المجاذبة والمنابذة أيدي مقاتلتها فطلبوا الأمان، ونزلوا إليه من غير توان، وكل هذا الأمر المهول والقضاء العجب، في أواخر شهر ربيع الآخر وجمادين وشهر رجب، لكن ما نال من القلعة روماً، إلا بعد محاصرتها ثلاثة وأربعين يوماً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وصار في هذه المدة يتطلب الأفاضل، وأصحاب الحرف والصنائع وأرباب الفضائل، ونسج الحريريون له قباء بالحرير والذهب، ليس له درز فإذا هو شيء عجب، وبنى في مقابر باب الصغير قبتين متلاصقتين على تربة زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر بجمع العبيد الزنج واعتنى بجمعهم أكثر من غيرهم وقدم ذكر ما صنعه بعض الأكياس من الناس خوفاً من أن يحل بهم الباس ووقى بنفائسه النفوس والأنفاس وكان في صفد، تاجر من أهل البلد، أحد الرؤساء التجار، يدعى علاء الدين وينسب إلى دوادار، كأنه تقدمت له خدمة على السلطان، فولاه حجبة ذلك المكان، فلما توجه النواب إلى حلب، والعادة أن ينوب عن نائب البلدة في غيبته من حجب، ناب عن نائبها ألطنبغا العثماني، وحاجبها علاء الدين الدواداري، فغرق في أسر ذلك الطوفان، كل النواب ومن جملتهم العثماني وابن الطحان، ومات منهم من مات وفر من فر، واستمر في قيد الأسر ألطنبغا وعمر فلما قدم تيمور الشام، وحل بها منه ما يحل من قضاة السوء بأموال الأيتام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 شرع كل متول في بلاد، يفعل ما أدى إليه الاجتهاد، فبعض حصن أماكنه، وبعض مكن كمائنه وطائفة استجزت للنقار، وفرقة استوفزت للفرار، وقوم سالوا وسكنوا، وهادوا وهادنوا ففكر علاء الدين المذكور وقدر، وتأمل في خلاص صاحبه وبلده وتبصر، وكان من أبناء الناس، وعنده ذوق الأكياس، واستشار مصيب عقله في ذلك واستنطقه، فقال داره بما معك من مال واترك سرب الفرار ونفقه، وما كذبه إذ قال له كل مداراة عن العرض ستر له وصدقة، وكان ذا مال ممدود، فقال ما ادخرت الدنانير الصفر والدراهم البيض إلا للأيام السود، فطلب من تيمور الرياضة، وأراد أن يجس أولاً بمجاملته المخاضة، فعالج هذا الأمر علاج النطس المريض، وبادر بالمهادنة حول الجريض دون القريض، وأرسل إلى تيمور أجناساً من ماله الطويل العريض، واستحال خاطره، واستدعى أوامره، ثم أردفها بأضعافها، وأضعف خواصرها بأردافها فشكر تيمور له صنعه، وزاده ذلك عنده منزلة ورفعة، وأرسل إليه مرسوم أمان، وأن يعمل هو وأهل بلده بالمجاملة والإحسان، فليؤمن روعهم، وليسكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 جنسهم ونوعهم، ولتؤنس وحشتهم، ولتذهب دهشتهم، بحيث أنهم يتبايعون ويتشاورون، وإلى معمليهم من عساكره يتجاورون، وإن استطال أحد من أجناده، ولو أنه من إخوته وأولاده، فليقابله بالمنع والإنكار، والضرب والإشهار، وصار يطلب منه ما أراده، فيرسله إليه بزيادة وكلما زاد فيما يقترحه عليه من نقد وجنس طلبا زاد علاء الدين لذلك نشاطا وطربا، ومن جملة ما اقترح عليه في ذلك المقبض، حمل بصل أبيض، بناء على أن ذلك لا يوجد، في الشام بأسرها فضلاً عن صفد، ففي الحال وجد من ذلك ثلاثة أحمال، فأرسلها إليه كما هي، وكان ذلك من الفضل الإلهي، حتى أحبه، وتمنى قربه، وقال فيه بمعنى ما قلت داريت وقتك واحتميت ... ببذل مالك يا بشر لو كان مثلك آخر ... في الشام ما سيمت بشر وتوجه طوائف من العسكر إليهم، وباعوا منهم واشتروا عليهم، واستمرت عقود المصادقة لم تحل، إلى أن قوض خيامه عن دمشق ورحل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 فلما أقشع من الشام ضباب ضيره، وامتد في ميدان الرحيل حبل سيره، أعقب علاء الدين الدواداري، قاصداً إلى ذلك الأسد الضاري، ومعه تحف سنية، ونتف ملوكية، ومطالعة فحاويها رائقة، ومعانيها فائقة، وألفاظها بالخضوع والخشوع ناطقة، فيها من الترقيقات ما تقشعر منه الجلود، ويلين له الحديد والصخر الجلمود، ويجري في طبائع الأبدان اليابسة جري الماء في العود وطلب في أثنائها مراحمه في أمر العثماني وابن الطحان، وجز ناصية عبوديتها بمقراض الإعتاق والامتنان، وأن يجعل العفو عنهما شكر القدره، ويفيض عليهما من بحار مراحمه قطرة، وإنهما أقل من أن ينسبا إلى أسره، إذ ملوك الأرض تود لو كانت أطفالاً تحت حجره، ورأيه الشريف أعلى، وامتثال ما يبديه من المراسيم أولى فلما اطلع تيمور على فحواه، وفهم ما أبداه وما أنهاه، وشاهد تخفه وهداياه، وتفكر في أول أمره ما ألحمه معه من الخدم وما أسداه، والخير له تأثير والبادي أكرم، والشر كله تقصير والبادي أظلم قلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 ترقب جزى الحسنى إذا كنت محسناً ... ولا تخشى من سوء إذا أنت لم تسئ وقيل من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس لأن قلبه وإن كان حديداً، وهان صعبه وقد كان شديداً فدعاهما، وأكرم مثواهما، وأحسن إليهما، وذكر لهم شفاعة علاء الدين فيهما، ثم آمنهما الباس وأعطاهما ثلاثة أفراس، للعثماني اثنتان، وواحدة لعمر بن الطحان، ثم أضاف إليهما من أبلغهما المأمن، فوصل كل منهما إلى دار عزته، وحل ذاك في صفده وهذا في غزته " فصل " ولما تنجز لتيمور أخذ القلعة، جهز أمره ورام الرجعة، وقد استخرج منها ما أراد من نفائس وأموال بأنواع العقاب وأصناف العذاب والنكال ذكر معنى كتاب أرسل إليه على يد بيسق بعدما فروا من بين يديه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وقيل إن السلطان لما هرب، أرسل إليه كتاباً أقام فيه عليه الحرب، فمن معناه، وفحوى ما عناه لا تحسب أننا جزعنا منك، أو فررنا عنك، وإنما بعض مماليكنا قوى أنفاسه، وأخرج عن ربقة الطاعة رأسه، وتصور أن كل من خرج عرج، ولم يعتبر بمن رام للارتقاء سلماً فدرج، وأراد بذلك مثلك القاء الفساد، وهلاك العباد والبلاد، وهيهات فإن دون مرامه خرط القتاد، والكريم إذا بدا بجسمه مرضان داوى الأخطر، ورأيناك أنت أهون الخطبين وأحقر فثنى عزمنا الشريف عنانه، ليعرك من ذلك القليل الأدب آذانه، ويقيم في نظم طاعته ميزانه، وأيم الله لنكرن كرة الأسد الغضبان، ولنوردن منك ومن عسكرك نواهل القنا موارد الأضغان، ولنحصدنكم حصد الهشيم، ولندوسنكم دوس الحطيم، فلتلفظنكم رحى الحرب في كل طريق، لما تعانون من غليظ الطعن وجليل الضرب لفظ الدقيق، ولنضيقن عليكم سبل الخلاص، فلتنادن " ولات حين مناص " أو نحو هذه الترهات، ومثل هذه الخرافات، التي هي كالملح على الجروح، وكالريح عند خروج الروح، ولو كان بدل هذا الكلام الذي لا طائل فيه، والخطاب الهذيان الذي تمجه الآذان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وترميه، ما يستميل خاطره، ويطفئ من لهيب غضبه النائرة، مع شيء من الهدايا والتقادم، وإبراز قضاياهم في صورة المعتذر النادم، ربما كان كسر من غيظه، أو همد من حنقه وبرد من قيظه، وإنما فعلوا تلك المعذرة، بعد حريق دمشق وخراب البصرة، وأرسلوا الخدم والهدايا صحبة النعام والزرافات، وقد أعجز التدارك وفات وصاروا كما قيل ذو الجهل يفعل ما ذو العقل يفعله ... في النائبات ولكن بعدما افتضحا وكما قيل وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل " فصل " ذكر بيسق هذا قال لما مثلت بين يديه، وأديت الرسالة، وقرئ الكتاب عليه، قال لي قل الحق، ما اسمك؟ قلت بيسق، قال ما مدلول هذا اللفظ المزري؟ قلت له يا مولانا لا أدري، فقال أنت لا تعرف مدلول اسمك يا ثعالة، فكيف تصلح لتحمل الرسالة، ولولا أن عادة الملوك أن لا يهيجوا الرسل، وقد مهدوا على ذلك القواعد وسلكوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 السبل، وأنا أولى من يتبع آثار السلاطين، ويحيي سنن الملوك الماضين، لفعلت معك ما يجب فعله، ولأوصلتك ما أنت أهله، وبعد هذا فلا عتب عليك، وإنما اللوم على من تقدم بهذا الأمر إليك، ولا حرج عليه أيضاً لأن ذلك مبلغ علمه، ومدرك عقله وفهمه، وقد ظهر بفعله الوبيل، نتيجة ما قيل تخير إذا ما كنت في الأمر مرسلا ... فمبلغ آراء الرجال رسولها ثم قال لي توجه إلى قلعتكم، ومكان عزتكم ومنعتكم، فذهبت فوجدتها قد دكت دكاً، وسيم حرمها وحريمها خسفاً وهتكاً، ثم أتيته، وذكرت له ما رأيته، فقال إن مرسلك أقل من أن أجامله، وأذل من أن أراسله، ولكن قل له إني واصل إليه على عقبك، وها أنا مشبت مخاليب أسودي بذنبك، فليشمر للقرار أو للفرار الذيل، وليعد لأيهما اختار ما استطاع من قوة ومن رباط الخيل، ثم أمر بي فأخرجت، وما صدقت أن تصوبت! إلى جهة مصر ودحرجت " فصل " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وحين ملأ جراب طمعه من نفائس ردنه، واستدر خلفاتها شيئاً فشيئاً صافياً ورونقاً حتى صفاها بقطنه، أمر بتعذيب هؤلاء الأعيان الكبار، فعذبوهم بالماء والملح وسففوهم الرماد والكلس وكووهم بالنار، واستخرجوا خبء الأموال منهم استخراج الزيت بالمعصار ثم أطلق عنان الإذن لعساكره بالنهب العام، والسبي الطام، والفتك والقتل والإحراق، والتقيد بالأسر على الإطلاق، فهجمت أولئك الكفرة الفجرة على ذلك أشد الهجوم، وانقضوا على الناس بالتعذيب، والتثريب والتخريب، انقضاض النجوم، واهتزوا وربوا، وفتكوا وسبوا، وصالوا على المسلمين وأهل الذمم، صولة الذئاب الضواري على ضواني الغنم، وفعلوا مالا يليق فعله، ولا يجمل ذكره ونقله، وأسروا المخدرات، وكشفوا غطاء المسترات، واستنزلوا شموس الخدور، من أفلاك القصور، وبدور الجمال من سماء الدلال وعذبوا الكبار والأكابر بأنواع العذاب وبدا للخلق ما لم يكن في الحساب، واستخلصوا بإصلاء جواهر الناس النار منهم خلاصات الذهب، وصنفوا في استخراج النفائس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 من النفوس بأصناف العذاب مسائل يقضي منها العجب وفرقوا بين الوالدة وولدها، والروح وجسدها، وذهلت كل مرضعة عما أرضعت، وجازوا كل نفس بما صنعت، وبغير ما صنعت، وفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، وصار لكل منهم يومئذ شأن يغنيه، وذل العزيز والكريم، وهان الخطير والجسيم، وطم البلاء، وعم القضاء، وطاشت الحلوم، وتبلدت الفهوم، وتراكمت غيوم الغموم، فأقسم بالله لقد كانت تلك الأيام، علامة من علامات يوم القيامة، وأسفرت تلك الساعة، عن اشراط الساعة، واستمر هذا النهب العام، نحواً من ثلاثة أيام ذكر إلقائهم النار في البلد لمحو الآثار ثم إنهم لما أنهوا العيث والعبث، وقضوا في حج فسادهم التفث، وأتموه بالفسق والجدال والرفث، وطافوا وسعوا في المنكرات، ورموا في البيوت النار وفي القلوب الجمرات، وأفاضوا ما أراقوا من دماء المسلمين الواقعين في الإحصار، رملوا في أشواط الإحراق فأرسلوا في حرم المدينة شواظاً من نار وكان فيهم من روافض الخراسانية، فأطلقوا النار في جامع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 بني أمية فتشبثت النار بلهيبها، وساعدت الريح بهبوبها، فتساوقا في محو الآثار ريحاً وناراً، واستمر على ذلك بإذن الله تعالى ليلاً ونهارا، فاحترق ما بقي من النفائس النفوس، وانمحى بلسان النار ما سطر على لوح وجود المدينة من الدروس، فأمست تلك المغاني لا يسمع فيها ولا الهمس، وأصبحت " حصيداً كأن لم تغن بالأمس " وذلك بعد أن أظهروا ما أخذوا من أموال وأوسقوا منه الأحمال إقلاع هاتيك الرزايا وإقشاع غمام تلك الدواهي والبلايا عن بلاد الشام بما تحمله من أوزار وخطايا وآثام ثم ارتحل ذلك الفتان، وأقلع صيب بلائه الهتان، يوم السبت ثالث شعبان، وقد أخذوا من نفائس الأموال فوق طاقتهم، وتحملوا من ذلك ما عجزت عنه قوى استطاعتهم، فجعلوا يطرحون ذلك في الدروب والمنازل، ويلقونه شيئاً فشيئاً في أوعار المراحل، وذلك لكثرة الحمل وقلة الحوامل، وأضحت القفار والبراري، والجبال والصحاري، من الأمتعة والأقمشة، كأنها أسواق الدهشة، وكأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 الأرض فتحت خزائنها، وأظهرت من المعادن والفلزات كامنها قلت بديها وصار لسان شرهم ينادي ... على قنن الشواهق والبوادي الأذى شنشنه عرفناها، وعادة فساد الفناها، ومن ملكنا ودينه اقترفناها، نهبنا أموال المسلمين وحفظناها، وما في وجهها صرفناها " ولكنا حملنا أوزار من زينة القوم فقذفناها " ومع ذلك فلو أخذ من نفائس دمشق أضعاف ما أخذ، وفلذ من أكباد ذخائرها آلاف ما فلذ، ما غاض ذلك ما في يمينها، ولا نقص من بحار معينها ولكن النار كانت هي البلاء الداهي، والمصاب المتناهي، لأنها أحرقت غالب من كان داخل البلد، لعدم الغواث، فما ظنك بما يكون من العمائر والأقمشة والأثاث، وضريت الكلاب بأكل لحوم من مات داخل البلد، فما صار يجسر على العبور إلى جامع بني أمية أحد ذكر ما جرى في مصر وسائر الأقطار عند سماعهم هذه الأخبار واستيقانهم هذه الأهوال والأخطار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 فأما مصر فما دونها من البلاد فإنها تخبطت، وانحلت قواها وأيديها تربطت، وعدمت القرار، واستعدت للفرار، فلو رأيت الناس وهم حيارى " سكارى وما هم بسكارى " أبدانهم راجفة، وقلوبهم واجفة، وأصواتهم خافتة، وأبصارهم باهتة، وشفاههم يابسة، وصورهم بائسة، ووجوههم باسرة " تظن أن يفعل بها فاقرة " وقد استوفز كل أهل الأمصار، وسكان الأنجاد والأغوار، وقد أصاخ لما يرد عليه من جلي الأخبار، فبنى على ذلك ما يكون من متعلقات الحركة والسكون، فأخذ تيمور على طريقته العوجا، ورجع على سبيل بغيه التي اتخذها شرعة ونهجا، وقد سدت عساكره الآفاق والأكناف، وعمت هيبته الأرجاء والأطراف ذكر من أصيب من سهام القضاء بالرشق ووقع في مخالب أسره من أعيان دمشق وأخذ من أعيان الشام، ومشاهيرها الأعلام، قاضي القضاة محي الدين بن العز الحنفي بعد أن عاقبوه بأنواع العقاب وكووه، وسقوه الماء والملح وبالكلس والنار شووه، وولده قاضي القضاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 شهاب الدين أبو العباس، فوصلا إلى تبريز ومكثا بها مدة في شدة وبأس، ثم رجعا إلى الشام، وأخذ أمرهما في الانتظام، وقاضي القضاة شمس الدين النابلسي الحنبلي، وقاضي القضاة صدر الدين المناوي الشافعي، فتوفي إلى رحمة الله الوهاب، غريقاً في نهر الزاب، وشهاب الدين أحمد بن الشهيد المعتبر، وكان متحملاً أوزار الوزر بعد أن راموا عذابه، وطلبوا عقابه، وكان قد جهز متعلقيه إلى الأماكن البعيدة، وأقام هو في دمشق في جريده، فذكر لهم حكايته، وبذل لهم في دفع موجوده طاقته، فأخذوا ما أخفاه خفية ولم يعذبوه، ولكنهم بالأهبة والقلة استصحبوه، فوصل إلى سمرقند وقاسى بها من صروف الزمن، أنواعاً من غربة وفقر ومحن، ثم رجع إلى دمشق وتوفي بها رحمه الله تعالى ومن الأمراء الخاص، الأمير الكبير بتخاص، وكان مقيداً معه ومات، عند وصوله إلى الفرات فأما القاضي ناصر الدين ابن أبي الطيب فإنهم عاقبوه بكل بلية، وكان رقيق البدن لطيف المزاج سوداويه فما كان عنده لذلك ثبات، فأعجزهم عما يرومون منه بالموت وفات، فمات واستراح، وشرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 من الشهادة كأس مدام جاءه وراح، فدفنوه عشية، بالمدرسة الكروسية ولما شرع في النهب العام المبرح، استشهد غلطاً قاضي القضاة تقي الدين ابن مفلح، وبرهان الدين بن القوشة، ضعف سبعة عشر يوماً، وانقطع في حارة تل الجبن ولحق بالأموات قوماً، وكانوا قد حرجوا على الأحياء والأموات، وخافوا أن لا يكون لأحد من أيديهم بحجة الوفاة فوات، فضبطوا بيوت المدينة بيتاً بيتاً، وحرجوا أن لا تخرج الأحياء ولا تجهيز الموتى، فلما مات المذكور تعسرت الأمور، فتحيروا في تجهيزه، وتغلبوا في أمره وتنجيزه، ثم بعد جهد بليغ وسعي كثير، دفنوه في الصالحية بعد إخراجه من باب الصغير وخرج مع تيمور بالاختيار من الشام عبد الملك بن التكريتي، فولاه نيابة سيرام، فمكث فيها القليل من الأيام، وهي وراء سيحون، وشخص آخر يدعى بيلبغا المجنون، وكان مقرباً عنده، وسبب ذلك أنه بذل في مناصحته جهده، وأخبره على ما قيل بفداوى، فخلصه بذلك من المهالك والمهاوي، وحصل له بذلك قربة، وزيادة ملازمة وصحبة، فولاه ذلك الجاس، نيابة مدينة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 تدعى ينكي تلاس، وراء نهر خجند، نحو خمسة عشر يوماً عن سمرقند، بينها وبين سيرام، نحو من أربعة أيام وكان اسم ذلك المأبون، أحمد فتقلب يلبغا المجنون وأخذ من دمشق أرباب الفضل وأهل الصنائع، وكل ماهر في فن من الفنون بارع، من النساجين والخياطين، والحجارين والنجارين، والأقباعية والبياطرة والخيمية، والنقاشين والقواسين والبازدارية، وفي الجملة أهل أي فن كان، وجمع كما ذكر السودان وفرق هؤلاء الطوائف على رؤوس الجند، وأمرهم أن يوصلوهم له إلى سمرقند، وأخذ جمال الدين رئيس الطب، وشهاب الدين أحمد الزردكاش، وكان في القلعة كما ذكر، وأباد من عسكره خلقاً لا يحصون، ولا يحصرون كثرة ولا يستقصون، وكان في حدود التسعين وقد احدودب، فلما رآه قابله بالسخط والغضب، وقال له إنك أفنيت صاغيتي، وحصيت غاشيتي، وقصيت حاشيتي، فإن قتلتك مرة واحدة لا يشفى غليلي، ولا يبرد عليلي، ولكن أعذبك على كبر سنك، وأزيدك كسراً على كسرك، ووهناً على وهنك، فقيده بقيد من فوق ركبتيه، زنته سبعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 أرطال ونصف رطل بالدمشقي، وقصد بذلك التشديد عليه، فلم يزل مقيداً، مكتوباً على قيده مخلداً أبدا، حتى مات تيمور، وارتفعت الشرور، وخلص من القيد ذلك المأسور، ثم توفى إلى رحمة الله تعالى وربما يكون أخذ أناساً من الفضلاء، والأعيان والسادات والنبلاء، من لا أعرفه، فكيف أصفه كذلك كل أمير من أمرائه، وزعيم من زعمائه، أخذ من الفقهاء والعلماء، وحفاظ القرآن والفضلاء، وأهل الحرف والصناعات، والعبيد والنساء والصبيان والبنات، مالا يسع الضبط، ولا يحل الربط، وكذلك كل من عسكره كبيراً وصغيراً، آسراً وأسيرا لأنه ما تم حرج على ما نهب شيئاً وعزله، وكل من سبقت يده إلى شيء فهو له، وهذا إذا أطلق عنان الإذن بالنهب العام، تساوى فيه الخواص من عسكره والعوام، ولو كان الناهب أسيراً فيهم، أو دخيلاً عليهم، والسالب من غير طينتهم، ولكن أبيح له ذلك لما سار بسيرتهم، وتخلق بشيمتهم، وأطلق عليه حكمهم، وأجرى عليه شكمهم، فأما قبل الإذن فلو تعدى أحد على أحد، وكان عند تيمور بمنزلة الوالد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 أو الولد، أو استطال بمقدار حبة، أو تلفظ بغارة أو نهبة، فإنه يهدر ماله ودمه، ويهتك حرمته وحرمه، ولا ينجيه استغفاره وندمه، ولا يجديه أهله وخدمه، ولا يقال لعاً لمن زلت به قدمه، وكانت هذه قاعدة لا تخرم، وبنية لا تهدم ذكر ما أباد بعد الجراد ولما فرغ من مستغلات أموال دمشق الحصاد، وقارب الرحيل عنها أعقبه لقاط الجراد، وصار يسير معه حتى بلغ ماردين وبغداد، فأعرى كل شجراء ومردا، وجرد ما على وجه الأرض جردا، فوصل إلى حمص وما نهبها، ولخالد رضي الله عنه كما ذكر وهبها، ولكن نهبوا قراها، وهدموا قواها، ثم إلى حماة فنهبوا نفائسها، واستخرجوا مكامنها، وأسروا عرائسها، واستملكوا كنائنها وفي سابع عشر رمضان، انصب إلى الجبول ذلك الطوفان، وأرسل إلى حلب وأخذ من قلعتها ما استودعها، ثم إلى الفرات وعبرها بالمراكب وغيرها فقطعها، ثم إلى الرها فنهبها واستحلب درها ثم أرسل ذلك الغادر، رسوله إلى ماردين يستدعي الملك الظاهر، وديباجة كتابه الدقل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 على ما نقل سلام عليكم والعهود بحالها ... لقد بلغ الأشواق منا كمالها فأبى أن ينزل إليه، ولا استمع كلامه ولا التفت إليه، لأنه كان آذاه كما ذكر أول مرة، فما احتاج إلى تجربته آخر كرة، فسلك معه بر السلامة وقال من جرب المجرب حلت به الندامة ولكن أرسل إليه قاصداً من بعض الخدم، يدعى الحاج محمد بن خاص بك ومعه التقادم والخدم، واعتذر عن الحضور، بعدة أمور، وعنوان جوابه، موافق لخطابه، وهو فشوقي إليكم زائد الحد وصفه ... ولكن تخاف النفس مما جرى لها فلم يلتفت تيمور إلى هذا الكلام، وأخذ يعنف نفسه بأنواع الملام، كيف خلص من مخاليبه أول مرة بسلام ذكر وروده ماردين بالهيبة وصدوره عنها بعد المحاصرة بالخيبة فوصلوا يوم الاثنين عاشر شهر رمضان واردين ماردين، فنزلوا دنسير، وغدوا للحصار قاصدين، وإذا بأهلها وقد أخلوا المدينة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 وانتقلوا إلى قلعتهم الحصينة صفة هذه القلعة وهذه القلعة عنقاء قلتها تكبر أن تصاد، وعرنين عانسها يأبى أن يدخل لخاطب تحت مقود انقياد، لأنها في قلة من القلل، على ظهر جبل، لم يكن فرق بينه وبين قبة الأفلاك، إلا أن تلك لا ثبات لها وهذا ثابت ليس به حراك، بظهره واد بطنه أوسع من صدر الأحرار، فيه جنات تجري من تحتها الأنهار، وبه مطارح الزروع، ومسارح المواشي والضروع، وحدود جروف لا تصل همم ذوي الكرم إلى أرجائها، وحروف يعجز قارئ التفكير عن تعديد هجائها، وطريقه من القلعة أو على القلعة، والقلعة في غاية المناعة والرفعة، والمدينة مبنية حواليها، متشبثة بذيلها، تأكل من فضلات نعمها، وتشرب من فائض سيلها، فهم بين نعمهم ونقمهم يترددون، وفي السماء رزقهم وما يوعدون فأقام لمحاصرتها على مضائقها، يسترشد إلى طرق المضايقة وطرائقها، ولم يكن حواليها مكان للقتال، ولا لنصب المجانيق مجال، فعول على نقبها بالمعاول والفؤوس، واستعان على ذلك بالمقاول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 والرؤوس، وحاشا درز ذيل حشمتها وعصمتها أن يسام فتقا، لأنها وإن كانت عذراء قد أعجزت الفحول لكونها رتقا، فلازالت المعاول تفل، والفطاطيس تكل، ومناقير القوس تتعقف، وخصور المرازب كهيف القدود تتقصف قلت كأن معولهم في ثقب تربتها ... منقار طير على صلد من الحجر أو عذل ذي حسد صباً به صمم ... أو غمز عين معنى فاقد البصر واستمر على اللدد والخصام، إلى العشرين من شهر الصيام، ولم يحصل على طائل، ولم يظفر بمرام ذكر تركه في المحاصرة، العناد والمكابرة، وتوجهه بمارديه ذوي الفساد عن ماردين إلى بغداد ولما علم أنه منى منها بالداهية الدهيا، وطلاب مالا يستطاع عيا، والمكابرة مع الحق خروج عن المنهج، والبلاغة في غير مقامها عي لجلج، ستر عيبه، وأبقى بعض الحرمة والهيبة، وخرب المدينة وأسوارها، ومحا آثارها، وهدم مآذنها وجوامعها ومنارها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وفك أساسها وأحجارها، ثم انحدر إلى بغداد، بعساكر كالذر والفراش والجراد، وجهز بعض الثقل إلى سمرقند مع الله داد، فوصلوا إلى مدينة صور وليس فيها بيت مشاد، ثم إلى أخلاط وعيد الجوز وهي بلاد الأكراد، آهلة عامرة البنيان، وأول ما هو جار تحت حكمه من ولايات تبريز وأذربيجان فعيد الثقل بعيد الجوز عيد رمضان، ثم دخلوا إلى ولايات تبريز ثم إلى سلطانية ثم إلى ممالك خراسان وكان إذ ذاك وقد خرج فصل الشتاء، وفصل الربيع تزين وأتى، وصفحات الرياض بأنامل صباغ القدرة تلونت، وعروس الروض قد أخذت من صواغ الحكمة زخرفها وازينت، والأطيار في الأزهار، ما بين مائة بلبل وألف هزار، وقد شنفت الأسماع، وأقامت السماع، واستمالت الطباع برخيم صوتها، وأحيت آثار رحمة الله على الأرض بعد موتها، ولا زال الثقل بين تأويب وادلاج، وسير ولا سير الحاج، كل يوم في مرحلة وكل ليلة في مقام، فوصلوا إلى نيسابور ثم إلى جام، ثم قطعوا مفاوز باورد وماخان، ثم إلى اندخوى وانتهوا إلى نهر جيحون، فعبروه بالمراكب، وساروا سير النجم الثاقب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 ولم يزالوا منبعثين على ذلك انبعاثاً، فوصلوا إلى سمرقند ثالث عشر المحرم يوم الثلاثاء، سنة أربع وثمانمائة، وفيهم من أهل الشام فئة، أمثلهم القاضي شهاب الدين أحمد بن الشهيد الوزير، وباقيهم بياطرة، وصباغون ونساجة الحرير، وهذا أول ما تحمله من الشام من أحمال الأثقال، وباكورة ما وصل إلى سمرقند مما جناه من ثمر الأساري والأموال، ثم أرسل الأثقال تترى، بالأنفال وأحمال الأموال والأسرى " فصل " ثم إن تيمور ولى آمد قرايلوك عثمان، وولى عن ماردين يوم الخميس العشرين من شهر رمضان، وكان خامس أيار، وجعل يعيث في تلك الديار، وخرب نصيبين ورعى مستغلاتها، ثم محا من صحف الوجود صور سورها وآياتها، وكانت خالية من سكانها خاوية من عامري عمرانها، ثم وجه إلى الموصل همه، وأخنى عليها بكتائبه المدلهمة، فبعد أن أحلها الحين وهبها لحسين بك بير حسين، ثم جمز بزمجره، ناحية القنطرة، وأشاع أنه كف فساده، وقصد بلاده، ولكن السلطان أحمد كان قد تحقق أنه قاصد بغداده، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وقد أوهم وورى كما له بذلك دأب وعادة ذكر ما فعله السلطان أحمد بن الشيخ أويس، لما بلغه أنه توجه إلى ذلك النحيس فلما بلغ السلطان أحمد أن تيمور بعد أن تدمشق تمرد، ثم عزم على أن يتبغدد، وقال العود أحمد، استعد ولكن للفرار، واستقر رأيه على أن لا قرار، ثم استناب نائباً يدعى فرج، وأوصى إليه وإلى ابن البليقي بأمور وصحبة قرا يوسف إلى الروم خرج، وكان من جملة ما وصى به أن لا يغلق في وجه تيمور باب، ولا يسدل دون ما يرومه حجاب، ولا يشهر في وجهه سيف، ولا يقابل فيما يأمر به بلم وكيف فبلغ تيمور هذه الأمور، فجهز ذلك المخاتل، إلى بغداد عشرين ألف مقاتل، وأمر عليهم من أمرائه، ورؤساء وزرائه، والظلمة المعتدين، أمير زاده رستم وجلال الإسلامي وشيخ نور الدين، وأمر أن يكون المقدم، من الثلاثة الأمير رستم، فإذا تسلموا بغداد، يكون هو حاكم البلاد، وحين غربت عن سماء بغداد شمس السلطان أحمد في غرب الغربة، ومد ظلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 الظلم جناح العساكر التيمورية على آفاقها وأرسل عليه شهبه، أبى فرج المذكور، أن يسلم المدينة طوعاً، واستعد للمقاتلة فجمع ما عنده من أهبة المحاصرة فأوعى، فأطلعوا تيمور على هذا الأمر، وانتظروا ما يكون منه من نهي وأمر، فثنى نحوها عنان الحنق، وأضمر ما تصل إليه يده من غرق وحرق، وأطل عليهم بغمام غم بعدما رعد وبرق، فوصل بتلك الفرق، وأحل بهم البؤس والقلق، وأذاقهم لباس الجوع والغرق، فرجهم أي رج، وحاصرهم في أشهر الحج، فثبتت مقاتلتهم وأكثروا من عساكره القتلى والجرحى، فحنق أشد الحنق، وزحف عليهم برجله وخيله فأخذها عنوة يوم الأضحى، فتقرب على زعمه بأن جعل المسلمين قرابين وعليهم ضحى ثم أمر من هو في دفتر ديوانه محسوب، وإلى يزك عساكره من الجند والجيش منسوب، أن يأتيه من رؤوس أهل بغداد برأسين، فسقوا كل واحد من خمرة سلب الروح والمال كأسين، ثم أتوا بهم فرادى وجملة، وجاروا بسيل دمائهم نهر الدجلة وطرحوا أبدانهم في تلك الميادين، وجمعوا رؤوسهم فبنى بها مآذين، فقتلوا من أهل بغداد نحواً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 من تسعين ألف نفس صبراً، وبعضهم عجز عن تحصيل البغدادين فقطع رؤوس من معه من أهل الشام وغيرها أسرى، وعجز بعض عن رؤوس الرجال، فقطع رؤوس ربات الحجال، وبعض لم يكن معه رقيق، فاصطاد من وجده في طريق، أو اغتال من معه من رفيق، وفدى نفسه بعدو وصديق، ولم يلتفت إلى شفيق وشقيق، إذ لم يمكنهم الخروج عن ربقة الطاعة، ولا يقبل منهم عدل ولا تنفعهم شفاعة وهذا العدد المذكور، سوى من قتل وهو محصور أو قتل في مضيق، أو مات في الدجلة وهو غريق، فقد ذكر أن خلقاً ألقوا أنفسهم في الماء وماتوا غرقى، ومن جملتهم فرج فإنه ركب سفينة وأبق، فاحتوشوه من الجانبين بالسهام فجرحوه وانقلبت السفينة فأدركه الغرق، فبنى من المآذين نحواً من مائة وعشرين، كذا أخبرني القاضي تاج الدين أحمد والنعمان الحنفي الحاكم ببغداد كان، وتوفى غرة المحرم سنة أربع وثلاثين وثمانمائة بدمشق رحمه الله تعالى ثم إن تيمور خرب المدينة، بعد أن أخذ ما بها من أموال خزينة، وأفقر أهلها، وأقفر منازلها، وجعل عاليها سافلها، وصارت بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 أن كانت مدينة السلام، دار السام، وأسروا من بقي من ضعفة أهلها فتمزق، ومزقتهم أيدي الزمان كل ممزق، بعد أن كانوا في ظلال ودلال، ومن مساكنهم في جنتين عن يمين وشمال، فاليوم عشش البوم والغراب أماكنهم، وأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم، وهذه المدينة هي أشهر من أن توصف، وعرف عارفتها وعرفانها أذكى من أن يعرف، ناهيك، أنها كاسمها مدينة السلام، وأنه على ما قيل لم يمت بها إمام ذكر رجوع ذلك الطاغ وإقامته في قراباغ ثم ألوى بتلك الأتراك التي يصح أن يقال لكل منهم أنه في التركية طاغية طاغ وعزم أن يشت في مكان يصلح أن يكون في الترك والعرب كصفاته وذاته قراباغ، وأمسى كالبازي المطل بل كالبوم في الشؤم مراقباً أطراف الآفاق وخصوصاً ممالك الروم ذكر مراسلة ذلك المريد سلطان الروم يلدريم بايزيد فراسل سلطانها بايزيد المجاهد الغاز، وصرح بما يروم من بلاد الروم، من غير كناية وألغاز، وجعل السلطان أحمد وقرا يوسف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 سبباً، وذكر أنهما من سطوات سيوفه هربا، وأنهما مادة الفساد، وبوار البلاد، ودمار العباد، وسنخ الخمول والإدبار، وكفرعون وهامان في العلو والاستكبار، " إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين " وقد صارا بمن معهما في حمى ذراكم، لاطئين، وأينما حلوا حلت التعاسة والشوم، وحاشا أن يكون مثلهما من المفلوكين تحت جناح صاحب الروم، فإياكم أن تأووهم بل أخرجوهم، وخذوهم واحصروهم " واقتلوهم حيث وجدتموهم " وإياكم ومخالفة أمرنا، فتحل عليكم دائرة قهرنا، فقد سمعتم قضايا مخالفينا وأضرابهم، وما نزل بهم منا في حرابهم وضرابهم " وتبين لكم كيف فعلنا بهم " فلا تكثروا بيننا وبينكم القيل والقال، فضلاً عن جدال وقتال، فقد بينا لكم البراهين وضربنا لكم الأمثال، وفي أثناء ذلك أنواع التهديد والتخويف، وأضاف التهويل والأراجيف وكان ابن عثمان عنده رقاعة وشجاعة، ولم يكن عنده صبر ساعة، مع أنه كان من الملوك العادلين، وعنده تقوى وصلابة في الدين، وكان إذا تكلم وهو في صدر مكان، فلا يزال في حركة واضطراب حتى يصل إلى طرف الإيوان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وكان بواسطة عدله ساعده الزمان، وقويت شوكته في المكان، فاستصفى ممالك قرمان، وقتل ملكها السلطان علاء الدين وأسر له عنده ولدان، واستولى على ممالك منتشا وصاروخان، وهرب منه إلى تيمور الأمير يعقوب بن علي شاه حاكم ولايات كرميان، وصفا له من حدود جبل بالقان، من ممالك النصارى إلى ممالك أرزنجان فلما وقف على كتابه، وفهم فحوى خطابه، نهض وربض، وامتعض وارتمض، ورفع صوته وخفض، وكأنه تجرع نقوع الحضض، ثم قال أو يخوفني بهذه الترهات، ويستفزني بهذه الخزعبلات؟ أو يحسب أنني مثل ملوك الأعجام، أو تتار الدشت الأغتام؟ أو في جمع الجنود، كجيش الهنود، أو جندي في الشقاق، كجمع العراق أو ما عندي من غزاة الإسلام، كعساكر الشام، أو أن قفله المجمع كجندي أو ما يعلم أن أخباره عندي؟ وكيف ختل الملوك وختر، وكيف تولى وكفر، وما صدره عنه وعنهم، وكيف كان كل وقت يستضعف طائفة منهم، وأنا أفصل جمل هذه الأمور، وأكشف ما خزنه في التامور أما أول أمره فحرامي سفاك الدم، هتاك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 الحرم، نقاض العهود والذمم، طرف منحرف عن الصواب في الخطا، فصال وجال وجار وصار وسطا، ثم طال واستطال، واتسع له المجال، وغفل عن الرجال، ومن حين نبع، استصبى حتى شاب الشيب بالعيب فأدرك وما بلغ، فالتهبت فتيلته بعد أن كانت شرارة، وانتشرت فروع حبته فصارت غرارة أما ملوك العجم فإنه استنزلهم بدخله وختله، ثم استفزهم بخيله ورجله، وبادر إلى قتلهم بعد أن أمكنتهم فرصة قتله وأما توقتاميش خان، فإن غالب عسكره خان، ومن أين للتار الطغام، الضرب بالبتار الحسام؟ وما لهم سوى رشق السهام، بخلاف ضراغم الأورام وأما جنود الهنود، فإنه ختلهم في أمرهم، ورد كيدهم في نحرهم، فوهت أركانهم، لا سيما وقد مات سلطانهم وأما عساكر الشام فأمرهم مشهور، وما جرى عليهم فظاهر غير مستور، ولما مات سلطانهم، وتضعضعت أركانهم، وانقض أمرهم وانفض، وبغى بعضهم على بعض، فقطعت منهم الرؤوس الكبار، ولم يبق فيهم إلا رؤوس صغار، فنثر الزمان نظامهم، وسام التبدد ملكهم وشامهم، مع أنهم في الصور ربيع وفي المعاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 جمادى، يرمون بواحدة وهي أنهم يبيتون جميعاً ويقومون مثنى وفرادى، لا جرم تفرقت أيادي سبا أحزاب تلك الزمر، فاشتغل جيشه فيها بالمحرم فباض لما خلا له الجو وصفر، ولو كان بينهم اتفاق لفتوه فتاً، وبددوا شمله وبتوه بتاً، ولكنهم " تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى " ومع اتساق نظامهم، وتسديد سهامهم، وقوة نطاحهم، وشدة كفاحهم، وشدة رماحهم، وكونهم ظهر الحاج، وأسود الهياج، أنى لهم نظام عساكرنا، وقوة القيام بتظافرنا وتناصرنا؟ وكم تفرق بين من تكفل بأمر الحفاة العراة، وبين من تحمل إصر الكماة الغزاة، فإن الحرب دأبنا، والضرب طلابنا، والجهاد صنعتنا، وشرعة الغزاة في سبيل الله تعالى شرعتنا، إن قاتل أحد تكالباً على الدنيا، فنحن المقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا، رجالنا باعوا أنفسهم وأموالهم من الله بأن لهم الجنة فكم لضرباتهم في آذان الكفار من طنة، ولسيوفهم في قلانس القوانس من رنة ولنون قسيهم في خياشهم بني الصليب من غنة، لو سمناهم خوض البحار خاضوها، أو كلفناهم إفاضة دماء الكفار أفاضوها، وقد أطلوا من صياصيهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 على قلع قلاع الكفار وأخنوا عليها، وأمسكوا بعنان أفراسهم فكلما سمعوا هيعة طاروا إليها، لا يقولون لملكهم إذا غمرهم في البلاء والابتلاء إنا هاهنا قاعدون فاذهب أنت وربك فقاتلا ومعنا من الغزاة مشاه، أفرس من فوارس الكماة، أطبارهم باترة، وأظفارهم ظافرة، كالأسود الكاسرة، والنمور الجاسرة، والذئاب الهاصرة، قلوبهم بودادنا عامرة، لا تخامر بواطنهم علينا مخامرة، بل وجوههم في الحرب ناضرة " إلى ربها ناظرة " وحاصل الأمر أن كل أشغالنا، وجل أحوالنا وأفعالنا، جم الكفار ولم الأسرى وضم الغنائم، فنحن المجاهدون في سبيل الله الذين لا يخافون لومة لائم وأنا أعلم أن هذا الكلام يبعثك إلى بلادنا انبعاثاً، فإن لم تأت تكن زوجاتك طوالق ثلاثاً، وإن قصدت بلادي وفررت عنك ولم أقاتلك البتة، فزوجاتي إذ ذاك طوالق ثلاثاً بتة، ثم أنهى خطابه، ورد على هذا الطريق جوابه فلما وقف تيمور على جوابه القلق، قال ابن عثمان مجنون حمق، لأنه أطال وأساء، وختم ما قرأه من كتابه بذكر النساء، لأن ذكر النساء عندهم من العيوب، وأكبر الذنوب، حتى أنهم لا يلفظون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 بلفظ امرأة ولا بأنثى، وإنما يعبرون عن كل أنثى بلفظ آخر ويحثون على الاحتراز عنه حثا، ولو ولد لأحدهم بنت يقولون ولد له مخدرة، أو ربات الحجال أو مسترة، ... أو نحو ذلك ذكر طيران ذلك البوم وقصده خراب ممالك الروم فوجد تيمور إلى التوجه على ابن عثمان السبيل، وطلب الرفيق والطريق، ورام الدليل، وعرض جنده فإذا الوحوش حشرت، وانبثوا على وجه الأرض فإذا الكواكب انتثرت، وماج فإذا الجبال سيرت، وهاج فإذا القبور بعثرت، وسار فزلزلت الأرض زلزالها، ومار فأظهرت القيامة أهوالها، وأرسل إلى ولي عهده، ووصيه من بعده، حفيده محمد سلطان بن جهانكير، أن يتوجه إليه من سمرقند صحبة سيف الدين الأمير وركب إلى الروم الطريق، وساعده الاتفاق لا التوفيق، وجرى بذلك البحر المطلخم، والليل المدلهم، فدار وداخ، وعلى قلعة كماخ أناخ، فإذا هي في الوثاقة كيقين موحد، وفي الرصانة والمناعة كاعتقاد متعبد، لا يقطع خندق مناعتها سهم وهم، ولا يهتدي إلى الطريق التوصل إليها صائب فهم، مؤسس أركان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 هضابها معمار القدرة، ومهندس بنيان قبابها نجار الفطرة، ليست بالعالية الشاهقة، ولا بالقصيرة اللاصقة، غير أنها في مناعتها وحصانتها فائقة من إحدى جهاتها نهر الفرات يقبل أقدامها، ومن الجهة الأخرى واد متسع يحفظ أعلامها، لا يمكن للأقدام فيها الثبات، وهو مسيل ماء يصب في نهر الفرات ومن الجهتين الأخريين هضاب، يتلو لسان البصيرة عند وقوع البصر عليها " إن هذا لشيء عجاب " فأخذها من غير كلفة، وولج حرمها من غير طواف بها ولا وقفة، وذلك بعد أن قدم محمد سلطان عليه، ووكل أمر حصارها وقتالها إليه وسبب ذلك أن الوادي الذي وراءها، كان يرد بالخيبة لوعورته من منه جاءها، لكونه مزلة الأقدام، واسع الأفعام بعيد مهوى المرام، لا يثلب لسان السهم له عرض، ولا يثبت له تحت قدم غواص البصر قرار أرض، فبمجرد ما وقع نظره عليها، نظر بعين الفراسة إليها، ثم أمر بقطع الأخشاب، ونقل الأحطاب، فلم يكن إلا كلمح البصر، حتى هدموا البيوت وقطعوا الشجر، ونقلوا جميع ذلك الخشب والأعواد، وطرحوها في قعر ذلك الواد، فساووا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 به الأرض، وملأوا طوله والعرض، وحين شعر أهل القلعة بهذه الفعال، ألقوا النار والبارود على تلك الأخشاب فأخذت في الاشتعال وأما أساس القلعة فلا ينال، لأنه راكب على قلل الجبال، فلم يبدد ذلك من أمره، ولم يشوش من فكره، بل أمر في الحال، كل واحد من الرجال، أن يأتي من تلك القفار، بعدل من الأحجار، فانبثوا كالنمل والجراد، في تلك المهامه والأطواد، والبراري والمهاد، " وجابوا الصخر بالواد " ففي الحال ملأوا تلك الدارة، من الحصباء والحجارة، ثم أمر أن يفعل بتلك الحجارة في ذلك المهوى البعيد، ما يفعل بهم في جهنم يوم يقال لها " هل امتلأت وتقول هل من مزيد " فألقوا في ذلك الوادي بعض ما لموه، من أكداس تلك الحجارة فطموه، وبقي في بيادر ذلك الحجر، أخفاف ما رمى من البصر، ولما امتلأ الوادي من الأحجار، مشوا عليها وقربوا من الأسوار، ونصبوا السلالم وتسلقوا، وبناصية مراميها تعلقوا، فأقلع أهل القلعة عن الكلام، وطلبوا الأمان وقالوا ادخلوها بسلام وكان هذا الحصار والتلجئة، في شوال سنة أربع وثمانمائة، ولما استقر فيها أمر بتلك الأحجار أن تنقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 من واديها، ففي الحال سفوها، وفي مكان أخذوها منه رموها، ثم ولى بها شخصاً يدعى الشمس، وولى عنها كما ولى أمس وهذه القلعة نحو من نصف يوم عن أرزنجان، ومن القلاع المشهورة في الدنيا بالمناعة والعصيان، فلا جرم حين استولى عليها، وأفضى بصارمه الذكر إليها، وفتحها قهراً، ومنحها جبراً، أبرد بهذا المغنم البارد، إلى كل صادر في ممالكه ووارد بكتب ترجم فيها من الأخبار كل سائح وشارد وعنوان هذه الترجمة، بلفظها من غير ترجمة بحد سيوف داميات لدى الوغى ... فتحنا بحمد الله حصن كماخ وذكر فيها ابن عثمان وخطابه إليه، وكيف رد جوابه الحمق عليه، ومن جملته، وبعض ترجمته، إنا ما جفوناه ولا تعدينا عليه، ولكن رققنا له القول وتلطفنا إليه، وقلنا له يخرج من قروح مملكته مادة الفساد، وهي أحمد جلائري وقرا يوسف التركماني اللذان أخربا البلاد، وأهلكا العباد، والرضى بالمعصية معصية، والإقرار على الكفر كفر، والفاسق المحروم البائس، شر من الفاسد الظلوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 الملابس، فصارا في الفساد وزيريه وهو الأمير، وفي العناد صغيرين وهو الكبير، وعاشراه على ذلك ووالياه فلبئس المولى وبئس العشير، فأفسداه وما انصلحا، وخسراه وما ربحا، فكأنه عنى شأنهم، من أظهر قولهم وشأنهم بقوله ولا ينفع الجرباء قرب صحيحه ... إليها ولكن الصحيحة تجرب ولم يزل على طريقته العوجا، فأشبه لما أجارهم مجير أم عامر العرجا، فنهيناه فما انتهى، ونبهناه فما أرعوى، وأريناه العبر في غيره فما اعتبر، وناداه لسان انتقامنا من المخالفين الحذر الحذر، وكنا وضعنا اسمه مع اسمنا، على عادة حشمتنا وأدبنا في المراسلات ورسمنا، فتعدى طوره، وأبدى جوره، وكان في بعض مراسلاته، وما وضعه في مكاتباته، كتب اسمه تحت اسم طهرتن، وهذا هو الواجب عليه والحسن، ولا شك أن طهرتن بالنسبة إلينا، كبعض خدمنا، وأقل حشمنا ثم إنه أعنى بايزيد لما طالع كتابنا، ورد جوابنا، وضع اسمه فوق اسمنا بالذهب، وهذا لما فيه من كثرة الحماقة وقلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 الأدب، ثم ذكر أنه توجه يروم، استخلاص ممالك الروم، وتشدق في هذا الكتاب، وتفيهق في هذا الخطاب فهو أحد دساتير الكتاب والأساطير المستعان بها في الخطاب والجواب ذكر ما عزم ابن عثمان عليه عند انصباب ذلك الطوفان إليه فلما بلغ ابن عثمان ما قصده، وأنه جعل طالعه في سماء الحرب رصده، توجه لقتاله، واستعد لاستقباله، وكان على مدينة استنبول محاصراً آثمها وكفارها، وقد قارب أن يفتحها وتضع الحرب عنها أوزارها، وأن جنده كان عنده، ولكن أمر بطارقة الغزاة، والشواهين من كواسر جيشه والبزاة، وسراة السرايا وكرام كرميان، وأحلاس خيل السواحل وقروم قرمان، وأجناد ولايات منتشا وأساورة صاروخان، وجمع أمراء التومانات والسناجق، وأصحاب الرايات ورءوس الفيالق، ونواب جميع الثغور والأمكنة، مما هو جار تحت تختي بروسا وأدرنة، وكل من دبج البحر الأخضر من بني الأصفر، من رايته البيضاء بالدم الأحمر، وفاق سويداء كل عدو أزرق، بسهامه السود على جواده الأبلق، أن يعملوا مصلحتهم، ويأخذوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 حذرهم وأسلحتهم واستعان في ذلك بكل بطريق وعلج مارجي، داخل في أمان المسلمين على قتال كل باغ وخارجي واستدعى التتار، وهم قوم ذو يمين ويسار، ناس سواذج، لهم مواشي نواتج، ملأوا الأقطار بمواشيهم، وعلوا الشواهق والبوادي برءوسهم وحواشيهم، ربما يكون لواحد منهم عشرة آلاف جمل، ما منها واحد حمل ومثل ذلك أفراس، ما أسرج لها ظهر ولا ألجم رأس، وأما الغنم والبقر فلا يحصى عددها ولا يحصر " وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر " لهم في ممالك الروم وقرمان إلى ضواحي سيواس مشات ومصايف، وللملوك والسلاطين عليهم اعتماد كما لهم في أنواع المبرات وظائف، لو قصدهم فقير أو غريب أو طالب علم أو أديب، جمعوا له من الغنم والبقر، والصوف والشعر، والسمن والأقط والوبر، ما يكفيه وذويه إلى آخر العمر، وكانوا يسعون لكثرتهم وما معهم من الأمم، ثمانية عشر ألف عالم فلبى كل من صدى هؤلاء الجبال مدى صوته بالإجابة، وبادر إلى امتثال أوامره بالإطاعة والإنابة، وانبعث إليه التتار بقضهم وقضيضهم بعثا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وقثت إليه أطواد عساكرها وبحار جنودها قثا، وحث على ملاقاة تيمور عساكر الغزاة والمجاهدين حثاً ذكر ما فعله ذلك الخداع المكار ونمقه في تفخيذه عن ابن عثمان جنود التتار وتلبث تيمور في أمره، واستورى زناد فكره، فأورى زناده ناره، أن يفخذ عن ابن عثمان تتاره، فأرسل إلى زعمائهم، والكبار من أمرائهم ورؤسائهم، وأميرهم يدعى بالفاضل، وكان في المكرمات من الأفاضل، غير أنه مارس الأيام، ولا اطلع إلى مكائد اللئام - إن حسبكم حسبي، ونسبكم متصل بنسبي، وإن بلادنا بلادكم، وأجدادنا أجدادكم، فكلنا فروع نبعه، وأغصان دوحه، وإن آباءنا من سالف العصر وغابر الدهر نشأوا في عش متوحد، ودرجوا في وكر غير متعدد، فأنتم في الحقيقة شعبة من شعبي، وغصن من أغصاني، وجارحة من جوارحي، وخالصتي وخلاني، وأنتم لي شعار، وباقي الناس دثار، وإن كان الناس ملوكاً بالاكتساب، فأنتم ملوك بالاكتساب والانتساب وإن آباءكم في قديم الزمان، كانوا ملوك ممالك توران، فانتقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 منهم طائفة من غير اختبار، إلى هذه الديار، فاستوطنوها وهم على ما هم عليه من الكرامة، وشعار السلطنة وأسباب الزعامة، ولم يزالوا على هذا النشاط والهزة، إلى أن اندرجوا إلى رحمة الله تعالى وهم على هذه العزة وكان المرحوم أرتنا آخر ملوككم، وأكبر مالك في بلاد الروم أصغر مماليككم، وليس بحمد الله في شوكتكم فلة، ولا في كثرتكم قلة، فأنى رضيتم لأنفسكم بهذه الذلة، وإن تصيروا مسخرين حتى كأنكم من المسحرين؟ وبعد أن كنتم أكابر مكبرين، كيف صرتم أصاغر مصغرين؟ ولستم بدار هوان ولا مضيعة، وأرض الله واسعة، ولم صرتم مرقوقي، رجل من أولاد معتوقي علي السلجوقي؟ ولا أدري ما العلة لهذا السبب، ومن أين هذا الإخاء والنسب، سوى عدم الاتفاق، وانتفاء الاتساق، وعلى كل حال فأنا أولى بكم، وأحق بعمل مصالحكم وتهيئة أسبابكم وإن كان لابد من استيطانكم هذه التخوم، وبيع تلك البلاد الفسيحة بمضايق ممالك الروم، فلا أقل من أن تكونوا كأسلافكم حكامها، مالكي نواصي صياصها راقين سنامها، باسطي أياديكم فيها قابضين زمامها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وهذا المهم إنما يتم إذا كفينا هذه المنازلة، وقضينا الأرب من هذه المناضلة، وتمهد لنا الميدان، وارتفع من البين ابن عثمان، فإذا خلا الجو من المنازع، وصفت لي في هذه البلاد المشارع، وظفرت بهذه الممالك، وسلكت فيها الطرق والمسالك، أعطيت القوس باريها، وأنزلت الدار بانيها، ورددت المياه إلى مجاريها، وجعلتكم ملوك قراها وصياصيها، ومدنها وضواحيها، وقررت كل واحد منكم على قدر استحقاقه فيها فإن رأيتم أن لا تعينوا علينا، أو أمكنكم أن تنحازوا إلينا، فاغتنموا فرصتكم، وخذوا من انتهازها حصتكم، فإنكم قريبون منا صورة ومعنى، وأما الآن بظاهركم مع ابن عثمان وبباطنكم معنا، حتى إذا التقينا امتازوا، وإلى عساكرنا انحازوا ولا زال فحل كلامه ينزو على حجر حجرهم ولا يجفر، مزخرفاً بتمويهات تزري فصاحتها بكلام الأسود بن يعفر، غائصاً في دردور أفكارهم ليردها عن أن تتبع ابن عثمان وتقفر " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر " حتى إذا خلبهم بهذا المقال، واستجنحهم إلى معنى ما قال، واستهواهم حب الرياسة الذي طالما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 استرق أحرار الصديقين، واستعبد كبار الأولياء والصالحين، وكبكب في النار على الرءوس، رءوس العلماء العالمين، فوافقوه على الانخزال عند الموافقة للنزال ذكر ما صنعه ابن عثمان من الفكر الوبيل وتوجهه إلى ملاقاة تيمور بطود عسكره الثقيل فأما ابن عثمان فإنه خاف منه الهجوم، على بلاد الروم، لأن الزروع كانت قد استحصدت، وصدور الفواكه والثمار قد استنهدت، وخضروات الأرض قد اسودت، والرعايا في ظل الأمن والرفاهية قد امتدت، فخشي ابن عثمان أن يصيب العباد منه ضرر، أو يتطاير إلى قبائل بلاده من لهيب ناره شرر، فبادر إلى ملاقاته، وساقته سوائق المنون إلى شرب كأسها في مساقاته، وأراد أن يكون مصطدم الباس، خارج بلاده على ضواحي سيواس، فأجرى من عساكره السيول الهامرة، وأخذ بهم على قفار غامرة، حذراً على رعاياه، من مواطئ مطاياه، فإنه كان على الضعيف من رعيته شفيقاً، وبالفقير من حشمه وخدمه رفيقاً يحكى أنه كان في بعض مغازيه، فعطش بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 حاشيه، فأتى في قرية بعض النساء، فطلب منها شربة ماء، وكانت أشأم من البسوس، يضرب بها المثل في اللؤم والبوس، فقالت ما عندي ما تشرب، فخذ طريقك ولا تتعب، وكان العطش قد غلبه، ورأى عندها في بعض القعبة شربة لبن فشربه، فقالت هذا قوت الصبيان، واشتكت عليه لابن عثمان، فطلبه واستفسره، فخاف شدة نقمته فأنكره، فقال للمرأة أنا أبعج قبقبه، وأتبين صدقه وكذبه، فإن ظهر في بطنه اللبن، أعطيتك الثمن، وإن تبينت بالصدق قوله، جعلتك مثلة مثله، فقالت والله إنه شربه، وما فهمت في حقه بكذبه، ولكني فرجت كربته، وأبرأت ذمته فقال لابد من إجراء العدل، وإنهاء هذه الحكومة بالفصل، ثم دعا بالسيف ووسطه، وأجرى على بطنه ما شرطه، فانفجر بطنه وهو منعقر، وجرى اللبن وهو بدمه ممذقر، فأشهره في الوثاق، ونادى عليه هذا جزاء من يتناول في دولة الملك العادل ابن عثمان شيئاً بغير استحقاق، ثم إن ابن عثمان تابع الترحال، وسلك في رمضان السفر صوم الوصال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 ذكر ما فعله ذلك الساقطه مع ابن عثمان وعسكره من المغالطة ولما بلغ تيمور أن ابن عثمان أخذ الطريق الغامرة، نبذه نبذ اليهود كتاب الله وراء ظهورهم وأخذ على الجادة العامرة، فدخل هو وعسكره على ظلال وعيون " وفواكه مما يشتهون " ولسان حالهم الفصيح، ينشد في الآفاق ويصيح ولست أبالي بعد إدراكي العلا ... أكان تراثاً ما تناولت أم كسبا فلم يزالوا في مراح وزروع، ومراع وضروع، بين " سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود، وماء مسكوب " وهواء بالراحة مصبوب، ونعيم بالسلامة مصحوب، في أمن ودعة، وخصب وسعة، آمناً من الوجل، سائراً على غير عجل مستيقناً بالنصر والظفر، مستبشراً بالملك والوزر، مستتبعاً تدبيره القضاء والقدر، لا تبرد حرارة حميته لتسخين عين عدوه وإحراز المغنم البادر فترة، ولا في إكليل كواكب عساكره المنتظمة نثرة، ولا بين أسود جيشه مكاشرة ولا نفرة، ولا في قراهم الأعادي اللهذميات على موائد طعام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 طعانهم جبن ولا كسرة فلم يفق ابن عثمان من رقاده، إلا وتيمور قد دمر على بلاده، فقامت عليه القيامة، وأكل يديه حسرة وندامة، وزأر وزقا، والتهب حنقا، وكاد أن يموت خنقا، وسلب القرار والهجوع، وعزم في الحال على الرجوع، فتلاطمت من بحر عساكر أمواجه، وتصادمت أثباج أطواده وأبراجه، فرجع عوده على بدئه، وأغرى بوصال السير وحجئه، فنهكهم السير بسرعته، والمكان بقفرته، والزمان بهجيره، والسلطان بزئيره، فلم يدركوه إلا وقد ذاب كل منهم وصبا، وتلا لسان حاله " لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا " " فصل " وكان تيمور قد وصل إلى مدينة أنقرة، وخيله ورجله مستريحة موفرة، للقتال منتظرة، وللنزال متشمرة، بل لم يكونوا به مكترثين، ولا به محتفلين وقد سبقوا كصناديد قريش إلى الماء، وتركوا عساكره كمسلمي بدر في جانب الظماء، فهلكوا كرباً وأوما، وذابوا عطشاً بلا ماء، وكأنه إلى ذلك المنزل هو أرشدهم وبلسان حالهم أنشدهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا ... نحن الضيوف وأنت رب المنزل وأنقرة هذه التي ذكرها الأسود بن يعفر في قصيدته الطنانة وهي نزلوا بأنقرة يسيل عليهم ... ماء الفرات يجيء من أطواد فإذا النعيم وكل ما يلهى به ... يوماً يصير إلى بلى ونفاد فلما تدانت الجيوش من الجيوش، وأضريت الوحوش على الوحوش، وامتلأت منهم الصحارى والقفار، وتقابلت اليسار باليمين واليمين باليسار، اندفعت من عساكر ابن عثمان التتار، واتصلت بعسكر تيمور كما رسم أولاً وأشار، وكانوا هم صلب العسكر، والأوفر من عساكر ابن عثمان والأكثر، حتى قيل إن جماعة التتار، كانوا نحواً من ثلثي ذلك العسكر الجرار، بل قيل إن ذلك الجمهور، كانوا محواً من جند تيمور وكان مع ابن عثمان، من أولاده أكبرهم أمير سلمان، فلما رأى ما فعله التتار، علم أن حل بأبيه البوار، فأخذ باقي العسكر، وقهقر عن ميدان المصاف وتأخر، وترك أباه في شدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 البأسا، وانخزل بمن معه إلى جهة بروسا، فلم يبق مع ابن عثمان إلا المشاة ومن داناهم، وبعض الكماة وقليل ما هم، فثبت للمجالدة بمن معه من الرفاق، وخاف إن فر أن يقع عليه الطلاق، وكأنه في تلك المعركة والمعكرة، كان متمثلاً بما قاله عنترة ولقد ذكرتك والرماح نواهل ... مني وبيض الهند تسفك في دمي فوددت تقبيل السيوف لأنها ... لمعت كبارق ثغرك المتبسم فصبر لحادث الدهر وما أزم، وأراد أن يفئ على مذهب الإمام مالك بما به التزم، فأحاطت به أساورة الجنود، إحاطة الأساورة بالزنود، وحين تيقنت الأسرة العثمانية بالكسرة، وعلمت أنها تورطت في جيش العسرة، وثبت المشاة على الكماة، واستعملت الأطبار، وكل صارم بتار، وكانوا في ذلك المصاف، نحواً من خمسة آلاف، فبددوا أندادهم، وأبادوا أعدادهم، وكان كانوا كسافي الرمال بالكربال، أو كائل البحار بالغربال، أو محرر أوزان الجبال بقراريط المثقال، فأمطروا على قلل أولئك الأطواد، وحقول ذوات تلك الأسود، من غمام القتام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 صواعق ديم المدميات وأمطار السهام السود ونادى محرش القدر، وصياد القضاء الكلاب على البقر، فلم يزالوا بين وقيذ وواقذ، ومضروب بحكم سهم ماض في القضاء نافذ، حتى صاروا كالشياهم والقنافذ، واستمرت دروس القتال بين تلك الزمر من الضحى إلى العصر، وانتقلت أحزاب الحديد إلى الفتح فتلت على الروم سورة النصر، ثم لما كلت منهم السواعد، وقل المواصر والمساعد، وتحكم فيهم الأباعد والمباعد، دففوهم بالسيوف والرماح، وملأوا بدمائهم الغدران، وبأشلائهم البطاح، ووقع ابن عثمان في القنص، وصار مقيداً كالطير في القفص، وكانت هذه المعكرة، على نحو ميل من مدينة أنقرة، يوم الأربعاء سابع عشر ذي الحجة، سنة أربع بعد ثمانمائة حجة، وقد قتل غالب العسكر العطش والضمور، لأنه كان ثامن عشري تموز " قصل " ووصل أمير سلمان، إلى بروسا معقل ابن عثمان، فاحتاط على ما فيها من الخزائن والأموال، والحريم والأولاد ونفائس الأثقال، واشتغل بنقل ذلك إلى بر أدرنة، وراء البحر المحيط بكثير من الأمكنة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 المنشعب من بحر مصر الآخذ بعد ما يتدريس إلى بلاد الدشت والكرج الفاصل بينه وبين بحر القلزم جبل الجركس ذكر ما وقع من الخباط بعد وقعة ابن عثمان في كل ثغر ورباط ولما حصل لرأس مملكة الروم هذه الوعكة، واندعكت أجسام عسكرها الجسام أقوى دعكة، وأخنى عليهم الجد المشوم، ونعق في صباحها غراب البين، وزعق في رواحها البوم، وتلاقى محراب أنسها على جماعتها إمام القضاء والقدر " ألم غلبت الروم " خضعت رؤسها ونواصيها، وتزلزلت حصونها وصياصيها، وتزعزع دانيها وقاصيها، وانبهر طائعها وعاصيها، فحاصوا حيصة الحمر، وأيسوا من الأهل والأوطان والمال والعمر، إذ قد ذهب منهم الرأس، ولم يبق فيهم من يقيم البأس فلما سمعوا أن أمير سلمان ضم الناس إلى نحره، وعزم على العبور إلى بر أدرنة بقطع بحره، مالت بهم الأودية والشعاب إليه، وعولوا في خلاصهم من ذلك البلاء الطام عليه، فصالح أهل استنبول ووادهم، وعاهدهم على أن لا يغدر كل منهم بالآخر ومادهم، ثم قصدهم إن يعينوه على الوصول بقطع البحر من ثغري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 كالي بولي واستنبول، إذ ليس لهذين البحرين بين هذين البرين، طريق قريب ومعبر سوى هذين الثغرين، فإن بحر إسكندرية، يأخذ على أنطالية، وعلاية ثم يروم، إلى بلاد الروم، فتحصره الجبال، قبل وصوله بلاد الشمال، فلا يزال في خصره يدق، وشفتا جانبيه ترق، حتى تتراءى حافتاه، ويكاد تنطبق شفتاه ومسيرة هذا الانضمام، نحو من ثلاثة أيام، ثم يأخذ في المد والانبساط، والجريان على وجه النشاط، ثم تدور كتائب أمواجه وتتكردس، وتأخذ نحو بلاد الدشت والكرج حتى يصل كما ذكر إلى بلاد الجركس وما أمكن أحداً من سواحر الحكمة ومهندسي النوافث أن يعزز هذين المعبرين في مدى هذا الانضمام بثالث، فثغر كالي بولي بيد ملاحي المسلمين، وثغر استنبول بيد النصارى أعداء الدين، وهو أعظم الثغرين، وأجسم المعبرين، وكانت النصارى ملاحيه، فصار غالب الناس يقصده وينتحيه، فاستطارت الفرنج فرحاً واستطالت وخاضت في دماء المسلمين وحريمهم وأموالهم وجالت فإن ابن عثمان كان بالحصار قد أنهكها، وأباد قراها وضواحيها وأهلكها، وضيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 على أهلها في مجاري أرواحهم مسلكها، فبينما هم وقد بلغ السيل الزبى، وجاوز الحزام الطبا، وأنشب كل شر فيهم حده، وإذا بتيمور جاءهم بالفرج بعد الشدة، فاندفع عنهم بالضرورة ابن عثمان، وحصل لهم بذلك الفرج والأمان، وزاد ذلك بأن احتاج المسلمون إليهم، وتراموا في طلب الخلاص من العدو عليهم، فبعد أن زالت عنهم الغصص، اغتنموا في درك الثارات من المسلمين الفرص، فجعلوا يوسفون المراكب من الناس والحمول، ويتوجهون بذلك إلى صوب إلى استنبول وإن استنبول وراء ذروة جبل، ومنحرفة خلف قلة من القلل، وهي من أكبر مدن الدنيا، حتى قيل أنها قسطنطينية الكبرى، فكانوا إذا عطفوا وراء تلك الذروة بالمراكب، واستتروا بالهضبة الناتئة عن عين من هو في هذا الجانب، يصيرون كالأموات النازلين إلى الحفائر، الملقين في قعر اللحود والمقابر، لا يدري إلى أين يتوجهون، وإلى ماذا يصيرون، إلى بر السلامة والإسلام، أم إلى دار الحرب وأسر الكفرة الطغام، فيذهب منهم الذاهبون " فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون " فإذا جاءت المراكب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وهي فوارغ، تعلق كل من هذه الخلائق فيها بجهد كامل وجد بالغ، ولم يدر ماذا يجري عليه، وإلى ماذا يصير أمره إليه، وأشبهوا في أبصارهم الكليلة، وخطوبهم الجليلة، مالكاً الحزين والسمك المذكور في كتاب كليلة وحاصل الأمر أنه لم يسلم، من ذلك السواد الأعظم، في كل غراب أدهم، إلا مثل الغراب الأعصم، واستطالت أعداء الدين، كيف شاءت على المسلمين، وقطع أمير سلمان البحر، واستولى على ذلك البر، وضبط ممالكه، وربط مسالكه، وهو أوسع من هذا الجانب وأفسح مرجاً، وأدر ريعاً وأكثر خراجاً وخرجاً، وأعظم حصوناً وأمكنة، وتخته مدينة أدرنة فاجتمع الناس على أمير سلمان، وسهل الأمر في الجملة شيئاً ما وهان ذكر أولاد ابن عثمان، وكيف شتتهم ثم أبادهم الزمان وكان للسلطان بايزيد المذكور، من الأولاد الذكور أمير سلمان هذا وهو أكبرهم، وعيسى ومصطفى ومحمد وموسى وهو أصغرهم، وكل منهم طلب لنفسه مهربا، وانحاز إليه من أبيه طائفة نجبا، فكان منهم محمد وموسى في قلعة أماسية، وهي خرشنة الشاهقة العاصية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 التي قال فيها أبو الطيب المتنبي حتى أقام على أرياض خرشنة ... تشقى به الروم والصلبان والبيع للسبى فانكحوا للأسر ما ولدوا ... للنار ما زرعوا للنهب ما جمعوا وقلة قلعتها شاهقة، كأنها بقبة الفلك عالقة، تعي النازل عنها، في نزوله منها، أكثر مما يعي الصاعد إلى غيرها، يسميها أهلها بغداد الروم، لأن قرار أرضها بنهر كبير من الوسط مقسوم، وبينها وبين توقات مسيرة يوم للمجد وأما عيسى فإنه لجأ إلى بعض الحصون واستكان، إلى أن قتله أخوه أمير سلمان، وموسى فيما بعد قتل أمير سلمان بعيسى ثم إن محمداً قتل بعد الكل موسى، ونسخت الأحكام المحمدية، شرائع الملة الموسوية والعيسوية، إلى أن مات حتف أنفه في أوائل سنة أربع وعشرين وثمانمائة، أو مات بشيء دس إليه على يد قوجقار في الهدايا الملكية المؤيدية، وانتقل الملك من يده إلى يد مراد ولده، وهو في يومنا هذا أعني سنة أربعين وثمانمائة مستقل به، وأما مصطفى فإنه فقد وقتل نحو من ثلاثين مصطفى بسببه عوداً إلى أمور تيمور ودواهيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 ثم إن تيمور لما قبض على ابن عثمان، جرد إلى بروسا طائفة من الجنود والأعوان، وأضافهم إلى شيخ نور الدين، ثم اتبعهم بوقار مكين، وجأش مستكين، فوصل إليها، ونزل القضاء المبرم عليها، وضبط ما وصلت إليه يده من جماعة ابن عثمان وحرمه، وأمواله وخزائنه وحشمه وخدمه، وخلع على أمراء التتار ورءوسهم، واستعطف خواطرهم بتطييب نفوسهم، ووزع أمراءهم على أمرائه، وأضاف كل ظهر منهم إلى رأس من رؤسائه، ووصاهم بهم وعليهم، وبالغ في أن يصلوا ما أمكنهم من البر إليهم، ومشى على سننه القديم، في استخلاص النفائس واقتناص النفوس وسبي الحريم، وجعل يحضر ابن عثمان كل يوم بين يديه، ويلاطفه ويباسطه ويترقق إليه، ويسخر منه ويضحك عليه ذكر ما فعله مع ابن عثمان من نكاية غدت بأوصافه القبيحة على مر الزمان حكاية ثم إنه في بعض الأيام، جلس في مجلس عام، وخفض جناح النشاط للخاص والعام، وطوى بساط النهي والأمر، ومد بساط الخمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 والزمر، وحين غص بالناس المكان، استدعى سريعاً ابن عثمان، فجاء وفؤاده يرجف، وهو في قيوده يرسف، فسكن قلبه، وأزال رعبه، ثم أحسن جلوسه، وأزال بالاهتشاش إليه عبوسه، ثم أمر بأفلاك السرور فدارت، وبشموس الراح أن تسير من مشرق أكواب السقاة إلى مغرب الشفاه فسارت وحين تقشعت عن شموس السقاة سحاب الخدور، ودار في سماء العشرة نجوم يحثها من مراسيمه بروز وبدور، نظر ابن عثمان فإذا السقاة جواريه، وعامتهم حرمه وسراريه، فاسودت الدنيا في عينيه، واستحلى مرارة سكرات حينه، وتصدع قلبه، وتضرم لبه، وتزايد كمده، وتفتت كبده، وتصعدت زفراته، وتضاعفت حسارته، ونكى جرحه، وغذ قرحه، ونثر على جرح مصابه من قصاب الأسى ملحة، وكانت هذه نكاية لابن عثمان بما أسفله، في مكاتباته بذكره النساء وحلفه، لأنه سبق أن ذكر الحرم، عند الجغتاي وقبائل الترك من أكبر الجرم، وأعظم من الخيانة في الحرم، وأيضاً مكافأة لما فعله ابن عثمان، مع حريم طهرين في أرزنجان ومن تمام إساءته لابن عثمان، إحسانه لأولاد ابن قرمان وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 قبل ذلك ابن عثمان، قد استولى على ممالك قرمان، وقتل متوليها السلطان علاء الدين بعد أن حاصره وقبض عليه، ونقل إلى حبس بروسا محمداً وعلياً ولديه، فلم يزالا عنده في ضيق وضنك، حتى أفرج عنهما بالحبس عليه تمرلنك، فأخرجهما وخلع عليهما، وأبرهما وأحسن إليهما، وولاهما مأواهما " وليس ذلك لحب علي كرم الله وجهه ولكن لبغض معاوية " قلت لم يرفض معاوية محب ... عليا بل لأن أورى يزيدا وقيل وليس لحبه يحنو عليه ... ولكن بغض قوم آخرينا وقلت بديهاً أصادق ضد أعدائي وإن لم ... يكن بيني وبينهم ولاء وأبغض من يعادي لي صديقاً ... وإن أثنى علي بما أشاء وذاك لينتكي مني ويهنا ... فتى قد سرني منه الإخاء والأمير محمد هذا هو الذي قبض عليه الأمير ناصر الدين، محمد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 دلغادر أمير التراكمة المفسدين، وقتل ولده مصطفى في البلا، وجهزه إلى الملك المؤيد مكبلا، وذلك في شهر رجب سنة إحدى وعشرين وثمانمائة ذكر وفود اسفنديار عليه ومثوله سامعاً مطيعاً بين يديه ثم إن الأمير اسفنديار بن بايزيد، وهو أحد ملوك الروم له في السلطنة قصر مشيد، ورث الملك عن أبيه وكان مستقلاً بالإمرة، وبينه وبين الملوك العثمانية عداوة موروثة ونفرة، وتحت حكمه بعض مدن وقلاع، ووهد ويفاع منها مدينة سينوب الملقبة بجزيرة العشاق، يضرب بظرافتها المثل في الآفاق، وهي في النحر من البحر في جزيرة كبيرة، سبيل الدخول إليها عسيرة، بها جبل أحسن من أرداف الحور، متصل بمعبر أدق من دقيق الخصور، وهي معقل إسفنديار ومعاذه، وحرز خزائنه وملاذه، أعصى من إبليس، وأوثق من كف بخيل يخاف التفليس ومنها قسطمونية تخت ملكه، وبحر فلكه ومنها سامسون، وهي قلعة على جانب البحر للمسلمين، مقابلتها نظيرتها للنصارى المجرمين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 بينهما دون رمية حجر، وكل منها آخذة من الأخرى الحذر، وغير ذلك من القلاع والقرى، والقصبات في الوهد والذرا لما بلغه ما فعله تيمور الغدار، مع أولاد ابن قرمان والتتار، ومع قرايلوك وطرتهن حاكم أرزنجان، والأمير يعقوب بن علي شاه متولي كرمان، ومن توجه إليه من حكام منتشا وصاروخان، وأنه لا يهيج من أطاعه وتلبس لأوامره بالسمع والطاعة، سارع إلى المثول بين يديه، وتهيأ للوفود عليه، فأقبل بالتحف العالية، والنتف الغالية، فقابله بالبشرى، وعامله بالسرا، وأقره في مكانه، نكاية لابن عثمان، ثم أمره وأولاد قرمان، ومن اتسم له بميسم الطاعة والإذعان، من أمراء تلك الأكناف والأكنان، أن يخطبوا ويضربوا السكة باسم محمود خان، والأمير الكبير تيمور كوركان، فامتثلوا أوامره، وحذروا زواجره، وأمنوا بذلك الغارة والمصادرة " وتوفي إسفنديار المذكور في شهور سنة ثلاث وأربعين وثمانمائة، وهو طاعن في السن، وهو من أواخر الملوك الذين وفدوا على تيمور، واستولى بعده على ممالكه ولده إبراهيم بك ووقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 بينه وبين أخيه قاسم بك مشاجرات، وانحاز قاسم إلى الملك مراد ابن عثمان، ولله الأمر من قبل ومن بعد " " فصل " ثم إن تيمور أخرج مال ابن عثمان وغيره من الذخائر، واستصفى لخزائنه ما كان إرثاً وكسباً لملوك الأروام من النفائس والأخائر، وشتى في ولايات منتشا، وألقى لدروسها مباحث تصريفه كيف شا، وانتهى إلى أقصاها، وحرر البحث في مسائل الخمس والمغانم فاستقصاها، وانبث جنوده في آفاقها، وغاصت في بحار ممالكها من أثباج أطوادها إلى قرار أعماقها، فمن فارع إلى جبال جباهها، وقمم صياصيها، ومن متعلق بآذان مراميها، ومتسلق بأذيال نواصيها، ومن راكب أكتاف أكنافها نازل في سواحلها، دائس بأرجل سعيه خدود روضها الأنف جائس بكاهل أهلها، ومن دامغ دماغها بأهداب رماحه لأجل العين، بالغ من غير حاجب له منها ما رام باليد واليدين، ومن حال على نهد صدرها، تال رءوسها ووجوهها للجبين على ظهرها، ومن ماد أنامل تعديه من غير كف إلى معاصمها ومرافقها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 كاد بأقدام الفساد في بطون مغاربها وأفخاذ مشارقها فجزوا الرؤوس، وحزوا الرقاب " وقطعوا الأعناق " وفتوا الأعضاد، وبتوا الأكتاد، وحرقوا الأكباد، وشوهوا الوجوه، وأسالوا العيون، وأشخصوا الأبصار، وبطوا البطون، وأخرسوا الألسنة، وصكوا المسامع، وأرغموا الأنوف، وأذلوا العرانين، وهشموا الثغور، وحطموا الصدور، وقصموا الظهور، ودقوا الفقر، وشقوا السرر، وأذابوا القلوب، وفطروا المرائر، وأراقوا الدماء، واستحلوا الفروج، وأحروا الأنفاس، وأبادوا النفوس، وسبكوا الأشباح، وسلبوا الأرواح، ولم يخلص من شرهم من رعايا الروم الثلث ولا الربع، وصارت جماعاتهم فيهم ما بين منخنقة وموقوذة ومتردية ونطيحة وما أكل السبع ذكر فتح قلعة أزمير وحتفها ونبذة من عجيب وضعها ووصفها وحاصر قلعة أزمير، وهي حصن في وسط البحر مناله عسير - بهمزة مكسورة وزاي معجمة، وميم مكسورة وياء ساكنة وراء مهملة - قلعة قد أقلعت في البحار، وأضرمت في قلب خاطبها بتمنعها وعصيانها النار، أعصى من قلاع الجبال، وأقصى في المنال أن تنال، بخيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 ورجال، فأعد لها أنواعاً من آلات المحاصرة، وأخذها يوم الأربعاء عاشر جمادى الآخرة، سنة خمس وثمانمائة، سادس كانون الأول من السنين الرومية، فقتل كبارها، وأسر نساءها وصغارها، وبنى من أبدان القتلى جوامع وشيد من رؤوسها منارها، ثم سلب عن القلعة غناها وأفقرها، وأقواها من ذخائرها وأقفرها، وأخلاها وقد استصفى منها أبيضها وأصفرها، وطير بهذه الأمور أجنحة البشائر، وأطار بها على زعمه في الآفاق بأسعد فأل أسرع طائر ذكر ما صنعه من أمر مروم وهو في بلاد الروم من قصده بلاد الخطا واستخلاص ممالك الترك والجتا، وافتكاره وهو في الغرب مشغول في استصفائه سائر ولايات الشرق والمغول، وكيف عانده القضاء المبرم بنازل ألهب فؤاده وأضرم، فصادمه الزمان وعكس غرضه وهذه كالجملة المعترضة ثم إن تيمور كان قد استدعى من سمرقند سبطه، محمد سلطان والأمير سيف الدين ورهطه، كما ذكر أولاً وكان محمد سلطان هذا للفضلاء ملاذاً وللعلماء معاذا، مخايل السعادة في غضون جبهته لائحة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 وبشائر النجابة من أسارير طلعته واضحة في المهد ينطق عن نجابة جده ... أثر السعادة لائح البرهان وسيف الدين هذا هو أحد رفقاء تيمور في مبداه، وأس أركان دولته في منتهاه، وهما اللذان كانا بنيا أشبارة، وأسسا فيها قواعد النهب والغارة، وهي في نحر بلاد المغول والجتا، وأقصى حدود ما ينتهي إليه حكم تيمور ومبدأ بلاد الخطا، ووليا بها أميراً يدعى أرغون شاه، وأمداه بطوائف من العساكر وفي ثغر المغول أرصداه، كل هذه الأمور، بأوامر تيمور ولما شرعا في ذلك، لم يرض المغول بهذا الفعل الحالك، لأنهم كانوا يعلمون أن ذلك الأفعى إذا جاورهم لابد أنه في الفساد يسعى، فلا يأمنون غائلته، ولا يطيقون مجاورته، فتشوشت خواطرهم، وتكدرت ضمائرهم، فاستوفزوا للفرار، وإخلاء الديار، فزاد الجغتاي فيهم طمعاً، ومد كل من الطائفتين إلى الإضرار يد التطاول ورجل الفساد وسعى، وشرب كاسات التجرم فأكل ما حل بيده وما تزهد في تعففه ورعا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 وفرح الجغتاي بذلك، ووقعت العداوة بين الجانبين فسد كل على الآخر طرق المسالك، وجعلوا يرسلون إليهم السرايا، ويحلون بما تصل يدهم إليه من متعلقاتهم البلايا، وجعل المغول أيضاً يفعلون مع الجغتاي ذلك، وتربصوا بتيمور لبعده عنهم ريب المنون وتشبثوا بعشويات المهالك، واتصل الخبر بتيمور، فسر بذلك أشد السرور ثم إنهما حصناها بالأهبة الكاملة، والعدة الشاملة، والرجال المقاتلة، منهم طائفة من عساكر الهنود وملتان، وقوم من جند عراق العرب، وأذربيجان، وفرقة من فوارس فارس وخراسان، وشرذمة من أناس تدعى جانى قربان، وأضافوا هؤلاء الكماة، مع تومان من ياساق الجغتاي إلى الأمير أرغون شاه، ووصلا إلى خجند، وقطعا سيحون وقدما سمرقند، ووليا بها أميراً يدعى خواجه يوسف، فكان في قيد الطاعة والإخلاص يرسف ثم خرجا من سمرقند قاصدين ذلك الغشوم، ثم إنهما ماتا جميعاً سيف الدين في خراسان ومحمد سلطان في بلاد الروم، فوقع تيمور في الأحزان، على حفيده محمد سلطان، ولبس عسكره السواد، وأقاموا شرائط الحداد، لم يكن بهم حاجة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 إلى السواد المعلم، فإنهم كانوا هم السواد الأعظم، ثم جهز عظامه في تابوت، إلى سمرقند مع عظموت وجبروت، ورسم أن يتلقاه أهل المدينة بالنوح والبكاء، ويقيموا عليه شرائط العزاء، وأن لا يبقى أحد من العباد، إلا ويلبس من فرقه إلى قدمه السواد فخرج أهل سمرقند عند موافاته، وقد انغمسوا في السواد لملاقاته، وصار الشريف والوضيع، والدني والرفيع، بالسواد معلما، فكأنما أغشي وجه الكون قطعاً من الليل مظلما، فدفنوه بمدرسته الحصينة المعروفة بإنشائه، داخل المدينة، وذلك في سنة خمس وثمانمائة ولما أهلك الله تعالى جده دفنوه كما سيأتي ذكر ذلك عنده ذكر حلول غضب ذلك الصياد على الله داد ونفيه إياه إلى أقصى البلاد ولما توجه الثقل من ماردين صحبة الله داد، وفارقه تيمور متوجهاً إلى استخلاص بغداد، وكان الله داد، له أنداد، وأكفاء وحساد، وأعداء وأضداد، والحسد في عنق صاحبه غل قمل، وتحاسد الأكفاء جرح لا يندمل وجد أعداؤه للطعن فيه مجالاً، وفي مقام ثلب عرضه مقالا، فانتهزوا فرصة غيبته، وأكلوا بلا ملح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 لحمه، وتنقلوا بغيبته، ووشوا به إلى تيمور، وذكروا ما فعله في الشام من الأمور، وإنه التمس من ذخائرها مالا يحصى، واختلس لنفسه من نفائسها وتعلق به من أعلاقها مالا يستقصى وكان كما قالوا، وما أهملوا أكثر مما نالوا، فبددوا أمره، وأوغروا عليه صدره، لا سيما وقد قص جناحه بموت سيف الدين أخيه، وكان من الأبهة والمهابة بحيث أن تيمور كان يخافه ويرتجيه، وله في ممالك ما وراء النهر مآثر مشهودة، ونتائج فكر باقية معهودة، فما وصل الله داد إلى سمرقند، أعقبه تيمور مرسوماً من عنده، بأن يتوجه إلى أشباره، ويستعد هناك للنهب والغارة، وذلك كالنفي لألله داد، وإلقائه في أقصى البلاد، وطرحه في نحر المخالفين وثغر ذوي العناد وانتقل منها إلى سمرقند أرغون شاه، ولم يزل بها الله داد إلى أن انتقل تيمور إلى لعنة الله، فجعلت المغول تجهز إلى أشبارة الفيالق، وتنهب ما تصل إليه يدها من صامت وناطق، وتغتنم الفرصة لبعد تيمور عنها، وكان الله داد يحترز أشد الاحتراز منها، وهو مع ذلك يجهز لهم التجاريد، ويحفر لهم بالمكر الآبار والأخاديد، ويقتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 ويأسر، ويطحن ويكسر، حتى أقواها بعد تيمور، وسيأتي ذكر هذه الأمور نموذج يدل على عمق ذلك البحر المحيط وما كان يصل إليه غواص فكره النشيط ثم لما كان تيمور المشوم مخيماً ببلاد الروم، أبرد إلى ألله داد مراسلة، فيها أمور مجملة ومفصلة، أمره بامتثالها، وإرسال الجواب بكيفية حالها، منها أن يبين له أوضاع تلك الممالك، ويوضح له كيفية الطرق بها المسالك، ويذكر له مدنها وقراها، ووهدها وذراها، وقلاعها وصياصيها، وأدانيها وأقاصيها، ومفاوزها وأوعارها، وصحاريها وقفارها، وأعلامها ومنارها، ومياهها وأنهارها، وقبائلها وشعابها، ومضايق طرقها ورحابها، ومعالمها ومجاهلها، ومراحلها ومنازلها، وخاليها وآهلها، بحيث يسلك في ذلك الطريق الأطناب الممل، ويتجنب مآخذ الإيجاز وخصوصاً المخل، ويذكر مسافة ما بين كل منزلتين، وكيفية السير بين كل مرحلتين، من حيث ينتهي إليه طاقته، ويصل إليه علمه، ودرايته، من جهة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 الشرق وممالك الخطا وتلك الثغور، وإلى حيث ينتهي إليه من جهة سمرقند علم تيمور وليعلم أن مقام البلاغة في معاني هذا الجواب، هو أن يصرف فيه ما استطاع من حشو وتطويل وإطناب، وليسلك في بيانه الطريق الأوضح من الدلالة، وليعدل عن الطريق الخفي في هذه الرسالة، إلى أن يفوق في وصف الأطلال وحدود الرسوم، وتعريف الدمن مضغة الشيح والقيصوم فامتثل ألله داد ذلك المثال، وصور له ذلك على أحسن هيئة وآنق تمثال، وهو أنه استدعى بعدة أطباق، من نقى الأوراق، وأحكمها بالإلصاق، وجعلها مربعة الأشكال، ووضع عليها ذلك المثال، وصور جميع تلك الأماكن، وما فيها من متحرك وساكن، وأوضح فيها كل الأمور، حسبما رسم به تيمور، شرقاً وغربا، بعدا وقربا، يميناً وشمالاً، مهادا وجبالا، طولاً وعرضاً، سماء وأرضاً، مرداء وشجراء، غبراء وخضراء، منهلاً منهلاً، ومنزلاً منزلاً، وذكر اسم كل مكان ورسمه، وعين طريقه ووسمه، بحيث أنه بين له فضله وعيبه، وأبرز إلى عالم الشهادة غيبه، حتى كأنه مشاهده، ودليله ورائده، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وجهز ذلك إليه، حسبما اقترح عليه، كل ذلك وتيمور في بلاد الروم يمور ذكر ما فعله ذلك المكار عند تنجيزه أمر الروم من الغدر بالتتار ولما صفا لتيمور شرب ممالك الروم من الكدر، وقضى الكون من أفعاله العجب وأهل الروم النحب، وجيشه من الغارة الوطر، وامتلأ من المغانم وادي سيله العرم، وكان فتى الربيع قد أدرك وشيخ الشتاء قد هرم، واندرج إلى رحمة الله المجيد، والسلطان السعيد، الغازي الشهيد يلدريم بايزيد، وكان معه مكبلاً في قفص من حديد، وإنما فعل ذلك تيمور، قصاصاً كما فعله قيصر مع سابور، وكان قد قصد استصحابه إلى ما وراء النهر، فتوفي معه في بلاد الروم في آق شهر، وفي هذا المكان توفي حفيده محمد سلطان وعزم على الرحيل، وحزم أحمال التحميل، ثم جمع رؤس التتار، وقد أضمر لهم الدمار والبوار، وقال قد آن أن أكافئكم بما صنعتم، وأجازيكم بما فعلتم، ولكن قد أضر بنا المقام، ومللنا الإقامة في مضايق الأروام، فهلم نخرج إلى الفضاء الفسيح، ونشرح صدورنا من ضيق الزمان والمكان في المهامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 الفيح، ضواحي سيواس، متنزه الناس، ومثوى الأكياس، فهنالك نضبط أحوال هذا الإقليم الوريف، ونقرر كلا منكم فيه حسبما يقتضيه رأينا الشريف، فإنه لابد من تفصيل جمله، وإمعان النظر في كيفية تدبيره وعمله، وحصر مدنه وقلاعه، وضبط قراه وضياعه، وحسبان توامينه وإقطاعاته، والإحاطة بأفراده وجماعاته فإذا فصل لنا ما أجمل، ووضح عندنا ما منه استشكل، فحصنا عن رؤسكم وجماجمكم، وتوصلنا إلى معرفة أخباركم وتراجمكم، وجمعنا رؤساءكم، وحصرنا زعماءكم، وأحصينا أعدادكم، واستقصينا آباءكم وأجدادكم، واعتبرنا إخوانكم وأولادكم، ونظرنا متعلقيكم وأحفادكم، وتحققنا شعار الروم ودثارهم، أورثناكم أرضهم وديارهم، ثم فرضنا هذه المسألة على أعداد الرؤس، وقسمنا نفائس هذه الممالك على النفوس، ثم رددناكم إليها مكرمين، وكفيناكم وعيالكم العيلة إذ كنتم علينا معولين وعلى كل حال فإنا نفعل مع كل منكم ما يجب فعله، ونبقى عليكم من أفعالنا ما يتخلد في بطون الدفاتر والتواريخ نقله فكل منهم ارتاح لهذا القول، وعول في هذه المسألة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 على موافقة الرد ولم يعلم فيها من العول، فلما توافقوا على هذه الحركة بنفس ساكنة، لم يقع منهم في هذه الموافقة على كثرة عدد رؤسهم المتماثلة مباينة، فسار بالناس، حتى بلغ سيواس " فصل " ولما برق ركام ركابه المتراكم في آفاق سيواس ورعد، وحان له أن يفي لطائفة التتار بما وعد، جلس جلسة عامة، وأقام من زبانية الجند طائفة طامه، ثم دعا من التتار الوجوه والرؤس، والظهور والضروس، ومن تخشى مضرته، وتتقى معرته، والمردة من شياطينهم، والعندة من أساطينهم فاستقبلهم بوجه طلق، ولسان بالحلاوة ذلق، وأجلسهم مكرمين في مكانهم، وزاد في تمكينهم وإمكانهم، ثم قال قد كشفت بلاد الروم ونواحيها، وتبينت جميع قراها وضواحيها، وقد أهلك الله عدوكم فاستخلفكم فيها، وأنا أيضاً أفوض ذلك إليكم، وأذهب عنكم وأستخلف الله عليكم، ولكن بأولاد بايزيد غير تاركيكم، ولا يرضون بأن يكونوا فيها مشاركيكم وأما صلحهم فقد سدت فعالكم مع أبيهم طريقه، فلا مجاز لكم إلى شريعته على الحقيقة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 ولا شك أنهم يرأبون صدعهم، ويندبون جمعهم، ويستوحون عليكم أهل المدر والوبر، ويلبيهم بالإجابة كل من تبلغه دعوتهم لأنكم في زعمهم آل غدر، فيلبسون لكم جلد النمر، ويصلونكم الجمر بكل آمر ومؤتمر، فيقرضونكم من كل جانب، ويختطفونكم من الأطراف والجوانب، لاسيما وبيدهم غالب الحصون والدساكر، وتحت أوامرهم من بقي من طوائف الجنود والعساكر فإن كنتم كما أنتم في الناس فوضى فإنهم يخوضون في دماءكم خوضاً فعوا واسمعوا إن كنتم لم تعقلوا ولم تسمعوا لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا وأما أنا فلست منكم بدان، ولا لي في المدافعة عنكم يدان، فلابد لعقد أمركم من نظام، ولصلاة جماعتكم من شرائط وأركان يجب القيام بها أولاً والسلام وأول شرائط ذلك إمام، يرجع إلى الاقتداء، بأفعاله الخواص والعوام، ثم بعد ذلك ترتيب الجماعة، وتنزيل كل واحد في صف السمع والطاعة، ثم وضع الأشياء في محلها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وزمام المناصب والوظائف في يد أهلها، وإيصال كل مستحق إلى استحقاقه، وجمع الرأي على أمر واحد باتفاقه فإذا اتفقت آراؤكم، وائتلفت أهواؤكم، عظمت أبناؤكم، وكبتت أعداؤكم، وكنتم يداً واحدة على من ناواكم، وانتصرتم على من خالفكم وعادكم، وكان ذلك أحرى أن لا تمتد إليكم بمكروه يد، ولا ينالكم من مخالفيكم كيد ولا كد وهذا إنما يتمم بالنظر في أحوالكم، والتفحص عن أمر خيلكم ورجالكم، وضبط الأهبة والسلاح، فإن ذلك آلة الظفر والفلاح، فليذكر كل منكم ولده وأهله، وليحضر خيله رجله وليأت بعدده وعدده، وجنده وولده، وليعرض ضرورته إن كانت، ولا يستصعبها فقد هانت، فمن كان محتاجاً إلى إكمال شيء أكملناه، ومن كان معتازاً إلى إيصال شيء أوصلناه وأضفنا إلى كل ما تجب إضافته، فيحصل أمنه وتذهب مخافته فأعرضوا أول شيء علينا سلاحكم، حتى نكمله ونعمل صلاحكم، فأحضر كل منهم أهبته، وعرض عليه عدته، وطرحوه في ذلك الجمع النظيم، فتراكم فكان كالطود العظيم، كما فعل أول الزمان، بأهل مدينة سجستان فلما سلب تلك الأسود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 براثنهم وأنيابهم بهذه الأساليب، وخلب أولئك الكواسر الجواسر كل مناقيرهم والمخاليب، وأولج صارم فكره الذكر في أحشاء عقولهم وأنزل، وصار سماك سماء عزهم الرامح وقد نحره سعد الذابح أعزل، أمر كل من عنده أحد من التتار، أن يقبض عليه ويوثقه بقيد الإسار ثم أمر برفع تلك الأسلحة إلى الزردخانة، وقد أشعل قبائل التتار بجمر البوار وأصعد إلى العيوق دخانه، ففت ذلك من أعضادهم، وبث من أكبادهم، وقصم ظهرهم، وأشعل نارهم وأطفأ نورهم، ثم تلا في خواطرهم بالمواعيد الكاذبة، واستعطف قلوبهم بالأماني الخائبة واستصحبهم بالأقوال المموهة، والأفعال المشوهة، وحال بهم الحال، وأمر في الحال، بالمسير والترحال وقيل إن السلطان بايزيد، قال لذلك العنيد إني قد وقعت في مخالبك، وأعلم أني غير ناج من معاطبك، وأنك غير مقيم، في هذا الإقليم، ولي إليك ثلاث نصائح، هن بخير الدارين لوائح أولاهن لا تقتل رجال الأروام، فإنهم ردء الإسلام، وأنت أولى بنصرة الدين، لأنك تزعم أنك من المسلمين، وقد وليت اليوم أمر الناس، وصرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 لبدن الكون بمنزلة الراس، فإن حصل لوفق اتفاقهم من تعدي يدك بسط وتكسير " تكن فتنة في الأرض وفساد كبير " ثانيتهن لا تترك التتار، بهذه الديار، فإنهم مواد للفسق والفساد، فلا تهمل أمرهم، ولا تأمن مكرهم، فخيرهم لا يعدل شرهم، ولا تذر على أرض الروم منهم ديارا، فإنك إن تذرهم يملئوها من قبائلهم نارا، ويجروا من دموع رعاياها ودمائهم بحارا، وهم على المسلمين وبلادهم أضر من النصارى، وأنت حين فخذتهم عني زعمت أنهم أولاد إخوتك، وبنو عمك وذوو قرابتك، والأولى بجماعتك وناسك أن تتبعك، وبكل من أولاد أخيك أن يقول لك عم خذني معك، فاعمل أفكارك المصيبة في إخراجهم، وإذا أدخلتهم حبساً فلا تطعمهم في إفراجهم ثالثهن، لا تمدن يد التخريب إلى قلاع المسلمين وحصونهم، ولا تجلهم عن مواطن حركتهم وسكونهم، فإنها معاقل الدين، وملجأ الغزاة والمجاهدين، وهذه أمانة حملتكها، وولاية قلدتكها فتقبلها منه بأحسن قبول، وحمل هذه الأمانة ذلك الإنسان الظلوم الجهول، واستكثرها على عقل ابن عثمان، ووفى بها بقدر الطاقة والإمكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 ذكر ارتفاع ذلك الغمام بصواعق بلائه عن ممالك الأروام وسار فثار غبار، أخذ عين الشمس معه الانبهار، وفار بحار التتار فكأن البحر أمده الله بسبعة بحار، فمر لا يدخل قرية إلا أفسدها، ولا ينزل على مدينة إلا محاها وبددها، ولا يمر على مكان إلا دمره، ولا ينجذب عن ربقة طاعته جيد إلا كسره، ولا يتمنع عليه شمراخ حصن شامخ إلا هصره فخلع على عثمان قرايلوك حين وصل إلى أرزنجان، وقرره في ولاياته وزاده بعض معان ومغان، ووصاه بشمس الدين الذي ولاه قلعة كماخ، وأن يكون كل منهما للآخر قوة وطباخ ذكر انصباب ذلك العذاب ماء ونارا على ممالك الكرج وبلاد النصارى ثم لم يزل يلتج بذلك البحر اللج، حتى أرسى على بلاد الكرج، وهم قوم يعبدون المسيح، ملكهم غير فسيح، ولكنه مصون، بواسطة قلاع وحصون، ومغائر وكهوف، وجبال وجروف، وقلاع وحروف، كل من ذلك أعصى المنال، من نفس كريم سيم شيم الأنذال ومن مدنهم تفليس، وكان أخذها ذلك إبليس، وطرابزون وأبخاص، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وهي التخت بالاختصاص فتمنعت هذه الأماكن عليه، ولم تسلم قيادها إليه، فأقام يحاصرها، وقعد يناقرها وينافرها، فمن ذلك مغارة بابها في وسط جرف شاهق، آمنة من البوائق سالمة من الطوارق، سقفها آمن من صواعق المجانق، وذيلها أرفع من أن يتشبث به علائق المسالق، مدخلها أخفى من ليلة القدر، وعدم التوصل إليها أجلى من القمر ليلة البدر فأولع بمحاصرتها، والتزم بمضاجرتها، واستعمل من فكره مهندسه، وجعل لا يقر من الأفكار والوسوسة، ثم أنتج رأيه المتين، وفكره الرصين، أن يرسل عليها عذاباً من فوقها، وأن يصطاد تلك الحمامة الصاعدة في الجو بأرجلها من طوقها فأمر أن يصنعوا له توابيت على هيئة الدبابات، كأنهن شياطين النساء للرجل غلابات، وأوثقهن بالسلاسل الحكيمة، وأوسقهن بالرجال ذوي الشكيمة، وأدلاهن من تلك القلال، وأهواهن من شواهق الجبال، فتدلين في الهواء، تدلية مبرم القضاء، فملأن النفانف، وأرجفن من الجبال والرجال الروانف، وصار لسان حال تلك الصقور والشواهين ينادي كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 من رآه " ألم ترى إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله " فحين وازوا باب تلك المغارة، أكبثوهم بالنبال السحارة، وكشفوهم بالمكاحل الطيارة، وهاوشوهم بأنواع الأسلحة، وناوشوهم بالأوهاق والكلاليب المفلطحة فلا زالت الجوارح في الهواء صافات ويقبضن، يقبلن إلى ذلك الوكر حائمات عليه ويعرضن، ينقرن سرة أهله بمناقير المناقيب، وينشبن فيه مخاليب الكلاليب، وبكره الناشز تمانعهم على الولوج، وتستعين في مدافعتهم بمن فيها من العلوج، فلم ينشب أحد أولئك الجوارح، أن أنشب في الباب كلوبه الجارح ثم استعضد الفتح واستنهض الظفر، واعتمد على الله ومن دبابته إلى الوكر طفر، فاحتضنه ساعد المساعدة، واكتنفه عضد المعاضدة، وقبض على رسغه كف السلامة، فنكصت النصارى على عقبهم أمامه، ولم يزل وحده مبيدهم، حتى قتل أوباشهم وصناديدهم، ثم أدخل رفقته فيها، وأخرجوا ما كان في مخابيها، واسم هذا الرجل لهراسب، ستة أحرف ليس فيها غير متحركين اللام مضمومة، والهاء، والراء مفتوحة والألف والسين والباء، واجتماع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 ثلاث سواكن في الفارسي كثير، وفي التركي أيضاً موجود ولكنه عزيز غير غزير ومن جملة هذه القلاع قلعة شاهقة، حروف ذاتها كحروف اسمها بمناعتها ناطقة، لا يعمل في فتحها لارتفاعها لعل وليت، لأن اسمها كما زعموا كل كورقيت، أي تعال انظر وارجع، بمعنى أنه لا ينال الوافد عليها، سوى النظر إليها، ثلاثة أطرافها مبنية على قلل آكام، شمخت على ما حواليها من الهضاب فهي على الإعلام أعلام، وطريقها من الوجه الرابع وهو دقيق في سلوكه عسر، ينتهي بعد أنواع المشقة إلى جرف مقطوع بينه وبين باب ذلك الحصن جسر، إذا ارتفع ذلك الجسر سدت دون الوصول إلى ذلك الحصن الحيل، وأعاذ كل من لاذ يقلته من بنيه فصح أن يقال له معاذ ابن الجبل فلما اطلع على حقيقة أمرها، وانكشف له مستور خبرها، أبى أن يرحل عنها إلا أن يصل إلى غرضه منها، ولم يكن بالقرب منها مكان ينزل فيه، ولا بر يحمل ذلك البحر الطاغي ويحويه، بل إنما كان حواليها جروف وهضاب، غضون جبينها كأنها وجه شوهاء ناشز عن زوج محب عقاب في عقاب، فطمع منها من غير مطمع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 ونصب سرادقة بحيث كأن منها بمرأى ومسمع وصار من عساكره الأسود الخوادر، يتناوبون حصارها ما بين وارد وصادر، وهم يرفعون الجسر بالنهار، فيأمنون مكايد القتال والحصار لأنه قد تقدم أنه لميكن حواليها مكان للقتال، ولا مفحص قطاة يتمكن فيه للنضال، فكانوا يرمونها بالنهار على بعد بسهام الأحداق، ويرضون منها بنظرة من بعيد كقانع العشاق، فإذا أجنهم الليل، شمروا إلى جهة مخيمهم الذيل، لأنه لم يمكنهم حواليها مبيت ولا مقيل، فتضع النصارى الجسر ويرومون إلى حاجاتهم السبيل، فلما لاح له منها أمارات الحرمان، وبان له أن أمل ظنه من فتحها قدمان، كما قلت وأعظم شيء في الوجود تمنعاً ... نتاج مرام من عقيم زمان صمم العزيمة على الرحيل، ولكن خاف العار فطلب لهذه المسألة الدليل والتعليل ذكر سبب أخذه لهذا الحصن المنيع وبيان معاني ما جرى في ذلك من صنع بديع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وكان في عسكره شابان نديدان، أسدان حديدان، يتشابهان في الخلق والخلق، لم يكن بينهما في الرجولية والشجاعة كثير فرق، يتجاريان في كل وقت في ميدان المناقب لإحراز قصب السبق، فكانا كفتي ميزان، وفي مضمارها فرسي رهان فاتفق أن أحدهما صادف علجاً من الكرج، في الجرأة كالأسد وفي الجثة كالبرج، فنازله ثم قتله، وقطع رأسه وإلى تيمور حمله، ففخم شأنه، وأعلى على الأقران مكانه، فأثر ذلك في نديده، فكأنه قطع حبل وريده ثم افتكر في شيء يصنعه، يضع من نديدته ويرفعه، وكان اسمه بير محمد ولقبه قنبر، فلم ير أكبر من مراقبة ذلك الجسر ولا أشهر، فاعتمد على الله سبحانه وحده، واستكمل ماله من أهبة وعدة، ورصد نجمه في بعض الليالي، ولطأ في مكان خالي، ولا زال يترقب النجوم، ويترصد عليهم طوالع الانقضاض والهجوم، ويشير تلك القنن بيديه ويذرع، ويمشي تارة على بطنه وأخرى على أربع إلى أن طرح الضوء نقابه، وسلخ الجو إهابه، ورجع النصارى إلى كسرهم، وتعاونوا على رفع جسرهم، طفر بير محمد إلى الجسر فقطع حباله، وتابع عليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 من حنيته نباله، ولم يمكنهم من رفعه، ولا غير موضوعه عن وضعه، فتراكموا عليه بالنبال والأحجار، وأرسلوا عليه من ذلك السماء المدرار، وهو لا يرد عما هو بصدده ولا يلتفت إلى حينه، ويتلقى ما يصدر من مراسيم نبالهم وأحجارهم بالقبول على رأسه وعينه ولم يزل على المكافحة والمناضحة، والمكاشحة والمكالحة، حتى تعالى النهار، وعض الكون من فعاله أنملة العجب وأخذ عين المكان الانبهار وكان المحاصرون لها كفوا عن القتال، وتيمور قد عزم كما ذكر على الترحال، وكان سرادقه منصوباً بمكان عال، فناداه لسان الفتح، وخاطبه منادي النجح لا تيأسن من مطلب ... قطع الورى أسبابه إن أغلقوا أبوابهم ... فالله يفتح بابه فتراءى على باب القلعة من بعد كأن ناس يتواثبون، وأشباح طائفة يتكالبون ويتضاربون، فقال لقبيله أي أولى النجدة والعون، إني أرى ما لا ترون، فامعنوا معي النظر، ثم أسرعوا نحو المعتكر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وأتوني بحقيقة الخبر فاندفعوا يستشرفون لذلك خبرا، ويستكشفون لسرائره سترا، وهم ما بين عاد من النمر أعدى، وجار من الأسد أجرى، وكل منهم في عدوه وعدوانه تأبط شرا، وما زالوا يتجارون على ذلك أرسالاً وتترى، كأنهم الشياطين نهاض ووثاب وعداء وهلم جرا، حتى أدركت مقدمتهم بير محمد، وهو في غمرات الموت بناره يتوقد، وقد صار لسهامهم غرضا، وكاد جوهره أن يصير عرضا فلما رآهم من بعيد عاش، وحصل له الانتعاش، وزال عنه الارتعاش، وتلاحقت بهم الصناديد، فكعت عنهم تلك الأفسال الرعاديد، وحين عجزوا عن رفع الجسر وولوا الأعقاب، عزموا أن يدخلوا الحصن ويوصدوا الباب، فاختلط بير محمد معهم، ودخل الحصن ومن إيصاده منعهم، فدقوه بالسيوف، ورضوه بأحجار الحتوف، وهو يأبى إلا المدافعة ويجتهد في مراجعة الممانعة، لا يشعر بما يناله من رض الحجر وجراح الحديد، كأنه متأله عراه الفناء في الفناء في التوحيد، إلى أن غشيتهم تلك الليوث، واندفقت عليهم بصواعق الغضب من سماء النجدة سيول الغيوث، فتشبث أسود المنايا بتلابيبهم، وخلصوا بير محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 من مخاليبهم ثم قبضوا على النصارى، وأخرجوا ما لهم فيئاً وحريمهم سبايا وأولادهم أسارى، وحملوا إلى تيمور بير محمد، وأخبروه بما قصده في ذلك وتعمد، وتفقدوا ما به من جراح أدمى، فإذا هي ثمانية عشر جرحاً كل منها يصمى، فشكر له فعله، ووعده مواعيد جزلة، وأحله المحل العزيز، وجهزه إلى تبريز، وأمر بعد الوصية به الأمراء من النواب والرؤساء، أن يجمعوا عليه كل نطيس من الأطباء، وخريت من الأسا، بحيث أن يبذلوا في معالجته جهدهم، ويستوعبوا في أساه كدهم، ويستوفوا في المعالجة قسمي العلم والعمل، فامتثلوا مراسيه وعالجوه بما أمكنهم وأزاحوا العلل، فاندملت جروحه، وبرئت أحسن مما كانت قروحه فلما نصل، وإلى تيمور وصل، جعله أحد قواده، ورئيس طائفة من أجناده، وقدمه على كثيرين بعد أن كان خلف، وصيره أمير مائة مقدم ألف تتمة ما جرى للكرج مع تيمور شيخ العرج وهذه القلعة والمغارة كانتا عيني قلاع الكرج، ونار أعلامهم والبواقي سرج، فحين قلعت من وجوههم عيناهم تيقنوا أن قد نزل بهم عناهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 وأحاط بهم عزاهم، فانحلت قواهم، وانخرمت عراهم، وقعدت بهم الحيلة وقامت عليهم القيامة، وتجهمت بهم إلى جهنم الزبانية وأسلمتهم السلامة وتفاءل تيمور بحصول الفلج، وانثنى عزمه إلى استخلاص ممالك الكرج، وانبثت شياطينه فيها فهزتهم هزا، وقدت ثوب حياتهم قدا وجزتهم جزا، وخاطت لهم أكفان المنايا بالسلاح فأوسعتهم شلا وكفاً ودرزا، وتلا عليهم لسان الانتقام " ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تأزهم أزا " ذكر طلب الكرج الأمان، واستشفاعهم إلى ذلك الجان، بجارهم الشيخ إبراهيم حاكم شروان فاستدركوا تقصيرهم، واستنهضوا تدبيرهم، ورقعوا خرقهم قبل الاتساع، ووصلوا حبل حياتهم قبل الانقطاع، واستغاثوا الأمان الأمان، واستعانوا في خلاصهم بالشيخ إبراهيم حاكم شروان، وألقوا إلى أيادي تدبيره الزمام، ورضوا أن يكون لجماعتهم وإن كان على غبر ملتهم الإمام، وجعلوه خطيب ذلك الخطب، واستحلوا ما تثمر لهم سعايته من يابس ورطب، وكان إذ ذاك وجيوش المصيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 كجمع الكرج قد ولت، وجنود الخريف والشتاء كجيش تيمور قد أطلت، وسلطان الأجرد، قد صقل فرند المياه وجرد، ورفع من الأغصان الأعلام السلطانية، ونصب على قلل الجبال الصيوانات البلارية، وألبس متن الغدير من نسيج نسيم الأصيل الدروع الداودية، فكان ما في الكون من جوامد ونوام، من جملة عساكر تيمور حام له أو محام قلت وإذا أراد الله نصرة عبده ... كانت له أعداؤه أنصارا وإذا أراد خلاصه من هلكة ... أجرى له من نارها أنهارا فترى العقول تقاصرت عن نوكه ... وترى له في شوكه أزهارا فدخل الشيخ إبراهيم عليه، وقبل الأرض بين يديه، وحياه بتحية الأكاسرة من الملوك، ووقف في مقام أصغر مملوك، ثم استأذن في الخطاب، واستلطف في رد الجواب، فأذن له فقال إن عموم شفقة مولانا الأمير، وحسن حنوه على المسكين والفقير، وشمول عاطفته الكريمة ورحمته المنيفة، حملت المملوك على عرض ما عن له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 على الآراء الشريفة، وهو أنه بحمد الله المرام حاصل، والمراد على وفق الاختيار متواصل، والولي مجبور، والعدو مكسور، وهيبة مولانا الأمير في الشرق والغرب، أغنته عن الاستعداد للضرب والحرب، ثم إن العساكر المنصورة أكثر من أن تحصى، وفيهم من الأسرى والمرمق الحال ما فات الإحصا، وخصوصاً جماعات التتار، الذين ولى سعدهم الأدبار، وأحلوا قومهم دار البوار، قد أضر بهم البرد، وتردد نقش حظهم بين العكس والطرد، فإن استمرت الأمور، على هذا الدستور، رق الجليل وهلك الرقيق، ودق العظيم وانطحن الدقيق وهذه البلاد بل وسائر الأقاليم، محال إلا بأمرك أن تستقيم، وإن رؤساءها من الفجرة والفسقة، علموا ما لمولانا الأمير على مملوكه من الحنو والشفقة، فتراموا لعلة المجاورة على المملوك، ورجوا من الصدقات الشريفة ما يرجوه من الغني الكريم المحتاج الصعلوك، ومهما برزت به المراسيم المطاعة، تلقاه بالقبول كل من المملوك وهؤلاء الجماعة، وقابلوا الأوامر الشريفة بالسمع والطاعة، وإن كان المقصود جمع مال، فالمملوك يقوم به على كل حال، وأنى للمملوك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 مال إلا من صدقات مولانا الأمير؟ وما قصد المملوك بذلك إلا رفع الكلفة عن الجانبين وتيسير الأمر العسير، ورعاية لحق الجوار، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه "، والرأي الشريف أعلى، وأحرى، أن لا يخيب رجاء المملوك وأولى، فأجابه إلى سؤاله، وطلب منه مالاً عريضاً سواء كان من مالهم أو من ماله فقال الشيخ إبراهيم أنابه زعيم، وأبلغ ذلك إلى خزنته أتم إبلاغ، ثم رحل وأكمل شتويته في قراباغ، وذلك في سنة ست وثمانمائة ذكر ثني عنانه إلى أوطانه وقصده بلاده بعد استكماله فساده ولما زينت ماشطة الكون عروس المكان، وأقام مزمن الجمادات قوام الزمان، وتهيجت القوى النامية، وتبرجت " مخدرات " الذرا السامية، وشبت الجمرات، ودبت الحشرات، تحرك للرحيل ذلك الأفعى، ونفث على هوام أموات الزمهرير من أحياء عساكره فإذا هي حية تسعى، فدق الكوس، فجاوب صداه الرعد القاصف، ولمعت مرايا اللبوس فانعكس منها إيماض البرق الخاطف، وعرض خيوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 في التروس فأحاط بالأطواد قوس قزح، وسير خيوله في اللبوس، فتجللت كتائب الكثبان بشقق الورد والريحان، خائلة في ذلك البر المنتزح، ومارت الجمال، فمرت الجبال مر السحاب، وسارت الرعال، فصعد العنان من النقع الضباب، وشرعت الذوابل، فإذا رطيب الأغصان متمايل، وهزهزت القواصل، فانساب في القصيل مرهف الجداول، ولضلضت ألسنة الخناجر والنيازك فبرزت عذبات العذبات، ونشرت أعلام الكتائب فانبثت تشاهير الأزاهير على عقبات العقبات وعلى الجملة فإن الربيع حاكى ببروقه بوارقه، وبرعوده صواعقه، وبخمائله وروابيه، زرابيه ونمارقه، وبركامه قتامه، وبشقائقه أعلامه، وبأشجاره المزهرة خيامه، وبأغصانه رماحه، وبعواصف أمره ونهيه رياحه، وبكتائبه السود كثبه الخضر، وبأزهاره الزرق مزارقه الزهر، وبسيوله الجحافه مسير جحافله، وباضطراب بحر فيالقه تموج خمائله، عند هبوب أصائله واستمر بين ذلك العرار والرند، قافلاً بالبال الفارغ إلى سمرقند، فسار والسرور نديمه، والحبور خديمه، والأشر معاقره، والنشاط مسامره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وبين التفريط والإفراط موارد ومصادره، حتى قطع ولايات أذربيجان، وحل ركابه بممالك خراسان، وفي خدمته ملوك الأقاليم وأرباب التيجان ذكر نهوض ملوك الأطراف لاستقباله، ووفودها عليه مهنئة له بحسن مآله ولما تسامعت أقطار البلدان، أنه قفل قاصداً الأوطان، أقبلت إليه الملوك من أطرافها، والمرازية من أكنافها، وسارع إلى استقباله المداره والجحاجح، وتبادر من ما وراء النهر وغيرها السراة والمراجح، وتطاير إليه من الأقاليم أساطينها ومن الولايات والثغور ملوكها وسلاطينها ومن كان مرابطاً في ثغر، أو مواظباً على أكيد أمر، أرسل نائبه أو قاصده، أو حاجبه أو رائده، يتباشرون بقدوم أقدامه، ويهنئونه بما فتح عليه من هنده وعراقه ورومه وكرجه وشامه، ويقدمون التقادم والحمولات، ويهيئون الضيافات والإقامات ثم أردفهم السادات والعلماء، والمشايخ والكبراء، ورؤساء الموابذة، وموابذة الرؤساء، فجعل يسمت لكل واحد منهم سمتا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 ويأمره فيخضع بالسمع والطاعة إجلالا وصمتا، ويمهد له فيما ولاه قواعد ومباني ف " لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً " ثم جهز كلاً منهم بما اقتضاه رأيه وأجازه، ووصل إلى جيحون وقد أعدت له السفن والمراكب فجازه، فخرج أهل المدينة للاستقبال، وكل منهم منشرح البال ملتئم الحال، فدخل سمرقند أوائل سنة سبع وثمانمائة، ومعه من طوائف الأمم الاثنتان والسبعون فرقة، وأكثرهم قدرية ومرجئة، ثم أذن لمن اختاره من العساكر فتفرقت، ولطوائف جند ما وراء النهر فتمزقت ذكر توزيعه التتار أرسالا شرقاً وغرباً ويميناً وشمالاً فلما استقرت به الدار، أخذ في توزيع التتار، وكانوا ذوي عدة وعدة، ونجدة وشدة فحين سلبهم عدتهم، كسر شوكتهم وشدتهم، ولكن أبقى الله عدتهم، فخاف لذلك نجدتهم، فشتت جمعهم، وأقوى من اجتماعهم ريعهم، فبذرهم في فياف وبطاح، ووزعهم في قفار وضواح، وبددهم في أشطار عناء وبراح، ونددهم في أقطار بكاء ونواح، فسدد برؤسهم أفواه الثغور، وأوصد بظهورهم أبواب النحور، فجهز طائفة إلى كاشغر، وهو بين حدي الخطا والهند أحد الثغر، ووجه فرقة إلى دويرة، في وسط بحيرة، تدعى إسي كول، وهي ثغر بين ممالك تيمور والمغول فصادفهم بعض السعد، فانقطعوا عمن أضيفوا إليه كما ينقطع عما يضاف إليه بعد، فانضموا منهزمين ولم يلووا، وأخذوا من صوب الشمال وخرجوا على الدشت إلى إيدكوا، ثم أضاف سائرهم وقبائلهم وعشائرهم من كل حزين أواه إلى أرغون شاه وجهزه بعزم وحزم، إلى ثغور الدشت وحدود خوارزم، وهذا كان هجيره، وما بنى عليه أوامره وأموره، فإنه كان من الشياطين النقالة، وفي المكر واللعب بالناس كدلة المحتالة كلما بنى في قطر قلعة، أو استولى في نحر من نحور المخالفين على " رقعة أو " بقعة، أنزل بها من العساكر، من هو في أقصى جهات تقابلها من الحصون والدساكر، ونقل إليها من بها من الرجال، إن كان في الشمال إلى اليمين وإن كان في الجنوب إلى الشمال، فإنه لما استولى على ملك تبريز، وما والاه، استناب فيه ولده لصلبه أميرانشاه، وأمده من الجغتاي بطائفة غلاظ شداد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 منهم خدايداد أخو ألله داد ونقل إلى أطراف الخطا وتركستان، طوائف من عسكر العراقين والهند وخراسان، وولى سماقة بن التكريتي الذي أخذه من الشام، نيابة مدينة سيرام، وهي عن سمرقند إلى جهة الشرق نحو من عشرة أيام، وولى يلبغا المجنون نيابة ينكي تلاس وراء سيرام بنحو أربعة أيام، وهما كورتان مختصرتان، وراء سيحون من معاملات تركستان وهما كانا أقل من أن يذكرا " فضلاً " أن يصيرا حكاماً وأمراء، وإنما فعل ذلك، لينتشر في أطراف الممالك، أن عنده من رؤساء الشام، جماعة من أعيان الأعلام، وإن في ممالكه من الخدم، ورؤساء الأمم، حكام العرب والعجم، وأن ذلك الطرف جال وسطا، وملك ما بين الشام والخطا " فصل " ثم أخذ يتفقد ما حدث في غيبته، من أمور بلاده ورعيته، ويتفحص عن قضايا الممالك، ويسلك لملوكها المسالك، ويدبر مصالح الأطراف والثغور، والأكناف والنحور، ويراعي أحوال الكبير والصغير، ويتعاطى مصلحة الغني والفقير، ويضع الأشياء " على زعمه " في محلها، وزمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 المناصب والوظائف في يد أهلها، ويبادر بما قال الشاعر لله در أنو شروان من رجل ... ما كان أعرفه بالوغد والسفل نهاهم أن يمسوا عنده قلما ... وأن يذل بنو الأحرار بالعمل وأخذ يربي السادات، ويكرم الأولياء ذوي الكرامات، ويجل العلم وأهله، ويعلي الفضل ويعز محله، ويقلع المفسد ويقمع المارق، ويخنق الزاني ويصلب السارق، حتى استقامت في زعمه أمور السياسة، وتمت على توراة جنكير خان قواعد الرياسة ذكر ما ابتدعه من منكراته وطبع بخاتمة خواتيم سيئاته، ووافى باستيفائه رائد وفاته ثم شرع في تزويج حفيده أولوغ بك بن شاه رخ النبيه، الذي هو في يومنا هذا أعني سنة أربعين وثمانمائة حاكم سمرقند من قبل أبيه، فأمر أهل المدينة أن يشرعوا في الزينة، وأن يرفع عنهم الكلف والمظالم، ويعفوا من الطروحات والمغارم، ويبسط لهم بساط الأمان، ويعامل الكبير والصغير والرفيع والوضيع منهم بالفضل والإحسان، وأن لا يشهر في ممالكه سيف، ولا يجري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 فيها ظلم ولا حيف، وأن يخرجوا زينتهم إلى مكان نحو ميل من ضواحي سمرقند، يدعى كان كل، هواؤه أذكى من المسك وماؤه أحلى من القند، كأنه قطعة من روض الجنان، غفل عنها خازنها رضوان قلت رعى فيه غزال الترك شيحا ... فصار المسك بعض دم الغزال روائح هوائه ألطف من نسيم السحر، ورواشح مائه أعذب من ماء الحياة صفاء بلا كدر، وتغاريد طيوره ألذ في السماع من سار الناي على الوتر قلت بساط زمرد نثرت عليه ... من الياقوت ألوان الفصوص وقلت كأن مدور الأزهار فيه ... وورداً من محاسنه تنضد صحاف من لجين أو عقيق ... ومرجان وياقوت وعسجد فهذي حشوها مسك فتيت ... وهذي ضمنها تبر مبدد أراد الروض يجلوها علينا ... فصاغ لها أكفاً من زبرجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 صباغ القوة الخيالية يتعلم خلط أصباغ النقوش من تشاهير أزاهيره، ومواشط عرائس الجمال تزين عواتق الكمال من تحارير تصاويره قلت كأن رباه سيما وقت هبة ... خضم بأنواع الحلى مرصع أفسح من أمل حريص طامع، في جاه غني كريم نافع، وأنزه للأبصار والبصائر، من غض شباب زاه زاهر، ساعده الدهر بوجه بسيط وأدب كامل، وعمر طويل ومال وافر، وهو أحد الأماكن المذكورة، والمتنزهات التي هي بالنزاهة والرفاهية في الدنيا مشهورة، ومبدأ السغد الذي جهاته بالنعم موقرة موفورة قلت شقائقه خدود ناضرات ... تحشت من سواد المقلتين عساكر تيمور مع أنها البحر المتلاطم فيه، تضاهي بني إسرائيل في قطر من أقطار التيه، ثم أمر الملوك والسلاطين، وأرباب التيجان من الأساطين، أن يخرجوا إليه، وينبثوا عليه، وفرز لكل منهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 في ذلك المرج مقاماً، ورتبه ميمنة وميسرة ووراء وأماماً، وأمر أن يظهر " كل " ما أمكنه من تجمل وتحسين، ويضرب ماله من خيام وقباب متكلفة بأنواع النقوش والتزيين ثم رتب من دونهم من الكبراء والأعيان، ورؤساء الأمراء والأعوان في ذلك الروض الأريض، والمرج الطويل العريض، فأخرج كل منهم ما حواه، وكاثر نظراءه لينظروا ما قدمت يداه، وفاخر ذوي الفخار منهم وباهى، واستقصى في المباهاة والمفاخرة وتناهى، فنشروا مما طوت صحائف أيامهم، على جمعهم إياه سجلات آثامهم، من طرف أطراف الأقاليم والأمصار، وتحف جواهر المعادن والبحار، ونفائس ذخائر نهبوا عليها النفوس وألهبوا الأنفاس، وعرائس أخاير سقوا عليها الكؤس وخرقوا الأكياس، ما أزرى على زهر تلك الروضة الخضراء بالأنجم الزواهر، وأسرى منظره البهيج سرايا المسرات إلى سر السرائر، فزاد حسن حديث ذلك المكان ونما، وعلا قدره بهجة على كل أرض وسما ثم أمر بسرادقاته فجعلت مركز تلك الدارة، ونقطة دائرة تلك الأفلاك المدارة، وهي سور محيط مضروب، على ماله من خيام وقباب منصوب، له باب واسع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 يدخل فيه من دهليز شاسع، على ما به من معان ومغان، وله قرنان شامخان، تنكس لهما الرؤس، وتذهل عند مشاهدتهما النفوس، ولأجل هذين، كان يلقب ذا القرنين ونصبوا له داخل هذا الجناب، عدة من الخيام والأخبية والقباب، ومن جملتها قبة أعلاها وأسفلها بالذهب مزركش، وظاهرها وباطنها بلب الريش مريش، وأخرى كلها بالحرير محبوكة، وبأنواع النقوش وألوان الأصباغ مبنية مشبوكة، وأخرى من فرقها إلى قدمها مكللة باللآلئ الكبار، التي لا يعلم قيمة أحدها إلا عالم الأسرار، وأخرى مرصعة بأنواع الجواهر، على صفائح الذهب مدهشة للأبصار والبصائر، وجعلوا لما بين ذلك " سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون، ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون " وبين ذلك الأوراق المنقشة، ورواقات الأخبية المزركشة والفساطيط والأبنية المدهشة وفيها مراوح الخيش، الجالبات لبرد العيش، والمنافع والمرافق، والمفاتح والمغالق وأظهروا الذخائر الغريبة، وأرخوا على ذلك الستائر العجيبة، ومن جملتها ستارة جوخ كان أخذها من خزانة السلطان بايزيد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 قطعة واحدة عرضها نحو من عشرة أذرع بالذراع الحديد، منقشة بأنواع النقوش، من صور النباتات والبنيان والعروش، وأشكال الهوام والطيور والوحوش، وأشخاص الشيوخ والشبان، والنساء والصبيان، ونقوش الكتابة وعجائب البلدان، والعروق اللاعبة وغرائب الحيوان، بألوان الأصباغ، المبالغ في إحكامها وإجادتها أحسن بلاغ، كأن صورها متحركة تناجيك، وثمارها الدانية لاقتطافها تناديك وهذه الستارة إحدى عجائب الدنيا، وليس المسمع كالمرأى، ونصبوا أمام سرادقاته بمقدار شوط فرس الصيوان، الذي يجتمع المباشرون فيه وأرباب الديوان، وهو جتر عالي الذرا، شامخ في الهوى، له نحو أربعين أسطوانة، وعواميد وسوار شيدوا عليها أركانه، وسددوا بنيانه، يتسلق الفراشون إلى أعلاه كالقردة، كأنه مسترقوا السمع من الشياطين والمردة، ويتعادون على سطحه، حين يرفعونه بعد بطحه " فصل " وأخرج أهل المدينة، ما عبوه من تجمل وزينة، ونصبوه تجاه تلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 السرادقات على مد البصر، وتأنق كل واحد من أهل البلد بما وصلت إليه القوى والقدر، واجتهد كل ذي حرفة بما يتعلق بحرفته، وبالغ كل من أرباب الصنائع فيما يليق بصنعته، حتى أن ناسج القصب أخرج فارساً مكمل الأهبة، واستقصى في إكمال هيئته حتى أظافيره وهدبه، واستوفى دقائق ما يتعلق به من الآلات، كقوسه وسيفه وسائر الاستعدادات، كل ذلك من القصب، ورفع ذلك في مكانه من غير تعب ونصب وصنع القطانون من القطن مئذنة رفيعة، محكمة بديعة، ذات قد رشيق، وصنع وثيق، ومنظر أنيق، ببياض جسم يسمو على الحور، وكمال قوام يعلوا على القصور، ونصبوها فصارت بحسنها تستوقف النظارة، وبعلوا قامتها ترشد في ذلك المهمه المارة، حتى غدت علماً للسيارة، وعلى جوامع تلك الأبنية منارة وكذلك أهل الحرف من الصواغين والحدادين، والخفافين والقواسين، وسائر الطوائف، وأرباب الملاعب واللطائف ولقد كانت سمرقند مجمع الأفاضل، ومحط رحال أهل الفضائل، فرتبت كل طائفة ما أخرجته على حدة في مكانه، أمام سرادقاته وصيوان ديوانه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 ونصبت وراء ذلك كله الأسواق، وضربت بين الناس بوقات الأبواق، وزينت الفيول، وجياد الخيول، بأفخر لباس، وأطلق عنان الرخص والتمتع بأنواع الملاهي والملاذ للناس، فسارع كل طالب إلى مطلوبه، واجتمع كل محب منهم مع محبوبه، من غير أن يتعدى أحد على أحد، أو يستطيل أعلى من يكون على أدنى من يكون من الجند وأهل البلد، أو يجري تعد ما، من شريف ما على وضيع ما " فصل " ولما استتبت الأمور على مراد تسويل قرينته، وأخذت الأرض زخرفها وازينت من جنده وأهل مدينته، توجه إلى ذلك المرج على وقاره وسكينته، وخرج على قومه في زينته، ثم أمر أن تجرى يواقيت الصهبا، على زبرجد ذلك المرج الأحوى، وسبلها لكل ناظر وعام، فسبح في تيارها كل خاص وعام، فدارت في سماء تلك الأرض للسرور أفلاك، وهبطت في أفقها بوحى الذات من أفلاك الملاحة أملاك، فأصبحت تلك الأسود الخوادر، وهي ظباء جوادر، وتنزلوا من جحيم المنازلة، إلى نعيم المغازلة، وتبدلت تلك الغلاظة والكثافة، باللطافة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 والظرافة، وأضحوا بعد جورهم يتجاورون، وبمعنى ما قلته يتحاورون محا الظلم ما بين الورى سيف عدلنا ... فلم يتشبث مستغيث بمعتد سوى قلب صده طرف أحور ... وخصر نحيل آده ردف أغيد فما صار يصول سيف إلا إن كان صارم لحظ وهو مع ذلك مكسور، ولا يجول ذابل إلا إن كان رمح قد وهو مع ذلك بالعناق مهصور، وصرت لا ترى إلا عوداً يحرك أو يحرق، أو قدحاً يروب أو يروق، أو شادياً يغرد، أو شارباً يعربد، أو جارية تسقي، أو ساقية تجري، أو خد ورد ينشق، أو ورد خد يعشق، أو كأس ثغر يرشف، أو غصن خصر للعناق يقصف، أو فرص عيش تغتنم، أو لسان حال ينشد ويترنم في ربيع الوصل لما ... أن وفى الضبي الشرود وسرت بشرى الصبا ... للروض تنبي للورود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 خرت الأنهار والأغصان مالت للسجود واجتمعنا في رياض ... حسنها يسبي الوجود فالسحاب الصب فيها ... بالحشا أمسى يجود نثر الدر علينا ... منه بلور الغمام فوق صحن سندسي ... فيه ملياقوت جام وثغور من عقيق ... زانها حسن ابتسام وعيون من لجين ... ناظرات لا تنام وغصون الدوح حفتنا بأنواع النقود طيرها فيه غنى إذ ... قد علا عوداً وطار وشذاها ضاع فيه المسك لما منه غار والصبا أمسى عليلاً ... في رباها حين سار جنة الفردوس فيها ... وجه بدر حين نار أصبحت جنات عدن ... تشتهي فيها الخلود يا لها من عشرة ... جاءت بأنواع الهنا ليس فيها غير لثيم ... وارتشاف واعتنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وكئوس دائرات ... وغناء وغنى لو رآها زاهد من ... ريحها كان انثنى لم يسعه عندها من ... زهده إلا الجحود قم نديمي عاطني فالد ... هر لا يسوى الحزن كأس عيش ينمحي في ... مزجها صرف الزمن الطلا والماء والخضرة والوجه الحسن لا تطع في ذا عذولا ... إنه خب كمن في حشاه غليان ... لا تقل خل ودود فحصل الأمن والدعة، والفراغة والسعة، ورخص الأسعار، وقضاء الأوطار، واعتدال الزمان، وعدل السلطان، وصحة الأبدان، وصفاء الوقت، وذهاب المقت، وحصول المطلوب، ووصال المحبوب وعند التناهي يقصر المطاول واتفق له في ذلك العرس والأبهة والعظموت، والسطوة والجبروت شيء لم أظنه حصل لأحد من الخلفاء المتقدمين، ولا يقع فيما بعد لأحد من المتأخرين، وإن كان المأمون فرش تحته ليلة عرسه حصير من ذهب، ونثر على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 رأسه اللؤلؤ المنتخب فلم يلتفت إليه ولم يلتقط من ورائه ولا من بين يديه، حتى قال قاتل الله أبا نواس كأنه كان حاضراً حيث قال كأن صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء در على أرض من الذهب لكن تيمور " الجبار " كان في عرسه ذاك بنات الملوك وصائف، وبنوها عبيداً كل منهم في مقام العبودية واقف، واجتمع عنده قصاد الملك الناصر فرج من مصر والشام، ومعهم الحمل والتقادم ومن جملته الزرافى والنعام، ورسل الخطا والهند، والعراق والدشت والسند، وبريدي الفرنج ومن سواهم، وقصادكل الأقاليم أقصاهم وأدناهم، ومن كل مخالف وموافق، ومعاد ومصادق، فأخر الجميع حتى شاهدوا عظمته، وعاينوا جبروته في ذلك العرس وأبهته، فباشر ذلك على تلك الحال، لا يخاف النكال، ولا يخشى الوبال قلت قرير العين لا يرجوا إلهاً ... خلي البال لا يخشى معادا يتناول المحرمات ويبيحها، ويروج عنده مستهجنها وقبيحها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 مهما أمر به جماعته، في ذلك امتثلوه، يتناهون في كل قبيح عملوه، ولا يتناهون عن منكر فعلوه قلت تبدل من سفك وهتك جريمة ... أحل بها ما حرمته الشرائع وجعل يدعو الملوك والأمراء، وسلاطين الآفاق والكبراء، وقواد التوامين، وزعماء الجيوش والمقدمين، ويسقيهم الكاسات بيده، ويحل كل منهم محل أخيه وولده، ويخلع عليهم الخلع السنية، ويجزل لهم المواهب والعطية، ويجلس كل منهم بحبسه ذات اليمين، وأما ذات الشمال فإنها للنساء والخواتين، فإن النساء لا يستترن من الرجال، خصوصاً في مجالس الاجتماع والاحتفال واستمر في ذلك بين جنك وقانون، وعود وأرغنون، وناي مرقص مطرب، وشاد معجب مغرب، وساق فاتن، ودهر موات، وهوى متبع، وأمر مستمع، وشمس تدور، على نجوم وبدور، وكأس تملأ وكيس يفرغ، وأمر يمضي وأمل يبلغ، حتى استخفه الطرب والبطر، واستفزه النشاط والأشر، فضبع إلى من استعضده، ومد للنهوض إليه يده، فتعاضدوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 لمعاونته، وتعاونوا على معاضدته، وحين استوى قالصا، تهادى بشيبته وعرجته راقصا قلت ومن عجب الدنيا أشل مصفق ... وأبكم قوال وأعرج راقص فنثر عليه الملوك والكبراء، ونساء السلاطين والأمراء، الجواهر واللآلئ والفضة والذهب وكل نفيس غال، ولم يزل على ذلك حتى استوفى من اللهو حصته، ودخل العروس منصته، وانقضت تلك الأمنية، وتفرقت هاتيك الجمعية ما كان ذاك العيش إلا سكرة ... لذاتها رحلت وحل خمارها " فصل " ولما بلغ من دنياه المرام، وانتهى أمله إلى الكمال والتمام، وعرج فيما يرومه إلى ما عرج، وصعد في سلم ارتقائه إلى أعلى درج، وقارب بدر عمره الأفول، وشمس حياته أن تزول، رشقه الزمان بسهم أصماه فما أنمى، ونادى بلسان فصيح فرغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 العروس يا بيت الإحما قلت وما الدهر إلا سلم فبقدر ما ... يكون صعود المرء هبوطه وهيهات ما فيه نزول وإنما ... شروط الذي يرقى إليه سقوطه فمن صار أعلى كان أوفى تهشما ... وفاء بما قامت عليه شروطه فأفاق من سكره، وعاد إلى عكره، وارعوى وما ارعوى، وعلم أنه أضل قومه وما هدى، ورأى أنه قد فرط في أمر الرياسة، وحط من جانب الإيالة والسياسة، وأنه سام الملك خسفا، وسائس السلطنة وجد عليه مائة طريق في التقصير وألفى، فأخذ يتدارك ما كان فرط، ويطلب التقصي عما فيه تورط ذكر بعض حوادث متقدمة لمتعلقات ذلك العابث وكان تيمور قد رأى في الهند جامعاً، للبصير مرتعا وللبصر رائعا، عرشه في حشن بناءه ونقشه، من الرخام الأبيض كبساط فرشه، فأعجبه شكله، وأراد أن يبني في سمرقند مثله، ففرز لذلك مكان في فرز، ورسم أن يبني له جامع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 على الطرز، وأن يقطع له أحجار من المرمر الصلد، وفوض أمره إلى رجل يقال محمد جلد، أحد أعوانه ومباشري ديوانه، فاجتهد في بنيانه، وتشييد أركانه، واستقصى جهده في تحسينه، من تأسيسه وتركيبه وترتيبه وتزيينه، وأعلى له أربع مآذن، وباهى في أئمة البنائين والأستاذين، وظن أن لو كان في ذلك أحد غيره، لما قدر أن يصنع صنعه، ويسير سيره، وأن تيمور سيشكر له صنيعه، وينزله عنده بذلك منزلة رفيعة فلما آب من سفرته، وتفقد ما حدث في غيبته، توجه إلى الجامع لينظر إليه فبمجرد ما وقع نظره عليه، أمر بمحمد جلد فألقوه على وجهه وربطوا رجليه، ولا زالوا يجرونه، وعلى وجهه يسحبونه، حتى بضعوه على تلك الحال، واستولى على ماله من أهل وولد ومال وأسباب ذلك متعددة، ومعظمها أن الملكة الكبرى، إمرأة تيمور العظمى، أمرت ببناء مدرسة، واتفق المعمارية وأهل الهندسة أن تكون في مواضع، مقابلة لبناء هذا الجامع، فشيدوا أركانها وسددوا بنيانها، وعلوا على الجامع طباقها وحيطانها، فكانت أرسخ منه تمكينا، وأشمخ منه عرنينا وتيمور كان نمري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 الطبع، أسدي الوضع، ما تكبر عليه رأس إلا شدخه، ولا تجبر عليه ظهر إلا فضحه، وكذلك كل ما أضيف إليه، أو عول في النسبة عليه فلما رأى قامت تلك المدرسة طالت، وعلى قد جامعه الجتر ترفعت واستطالت، نغل صدره غيظاً واشتعل، وفعل مع مباشر ذلك ما فعل، فلم يصادفه فيما أمله سعد، وهذه الحكاية مقدمة لما أذكره بعد نكتة كان هذا الجامع كصاحبه، أحاطت أوزار الأحجار بجوانبه، وتثاقلت على غواربه ومناكبه، ودقت عنقه طاقته عن حملها ورقت، وتلا لسان سقفه " إذا السماء انشقت " وما أمكن تيمور الاشتغال بهدمه ثم إحكامه، ونقض بنائه واستئناف إبرامه، فطوى ثوب عمارته على غرة، واستبقى خشب أخشبه على وهنة وكسره، لكنه أمر خاصته وذويه، أن يجتمعوا ويجمعوا فيه، واستمر ذلك في حياته وبعد وفاته، فكان إذا اجتمع الناس فيه للصلاة يرتقبون من تلك الحجارة ما يهبط من خشية الله، وصار ملك الجبال في تلك المحلة، يتلو " وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة " ففي بعض الأحيان، وقد غص بالناس ذلك المكان، وأخذ كل منهم حذره، سقط من حجارته من أعلاه شذرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 ففر كل من كان جاثماً، وانفضوا إلى الأبواب وتركوا الإمام قائماً، وكان من جملتهم الله داد، أحد الأكفاء والأنداد، فلما اطلعوا على حقيقة الخبر، تراجعوا وزال عنهم الخور فلما قضوا الفرض، وانتشروا في الأرض، قال لي الله داد وكان من الدهاة ذوي الكياد، والأذكياء النقاد، له حوالي كعبة المخازي، مائة شوط وألف طوف - ينبغي أن يلقب هذا الجامع بمسجد الحرام والصلاة فيه صلاة الخوف، وقال لي أيضاً ألله داد، وقد فهم معنى هذا الإنشاد، وينبغي أن ينشد، في شأن هذا المعبد، ويكون رقم طرازه، ونقش صدره ومجازه، قول الشاعر سمعتك تبني مسجداً من جناية ... وأنت بحمد الله غير موفق كمطعمة الأيتام من كد فرجها ... لك الويل لا تزني ولا تتصدقي " فصل " ولما كان تيمور ببلاد الروم يصول، كان استخلاص ممالك الشرق في فكره يجول، وقد ذكر أنه أرسل إلى ألله داد، يستوصفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 أوضاع تلك البلاد، ولما انكشفت له أحوالها، وتبينت له قراها ومضافاتها وأعمالها، حتى شاهدتها عين بصيرته، واستقرت كيفيتها في سر سريرته، جهز لتلك النواحي، رؤس هاتيك الضواحي، ومن جملتهم بيردي بك وتنكري بيردي وسعادات، وإلياس خواجه ودولت تيمور مع زيادات، وأضاف إليهم طوائف من الأجناد، ورسم أن يتوجهوا كلهم إلى الله داد، وأن يجهز ألله داد أمره، ويتوجهوا فيبنوا قلعة تدعى باش خمرة، وهي عن أشبارة نحو من عشرة أيام، ومن متعلقات المغل الطغام، وكانت أمورها اضطربت، ولكونها متنازعة بين مملكتين خربت، فتوجهوا إلى تلك الدارة، بالعساكر الجرارة، واشتغلوا على غير عادتهم بالعمارة وكان توجه هذه الفئة، في أواخر سنة ست وأوائل سنة سبع وثمانمائة، وقصد بذلك أن تكون لهم معقلا، وعند توجههم إلى الخطا وإيابهم ملجأ وموئلا، فلما أحكموا أساسها، وصنفوا أنواع بيوتها وأجناسها، وصفوا من أحجار الأساسات أقدامها، ورفعوا على أعلام الأسوار أعلامها، أرسل إليهم مرسوماً أنهم يرجئون أمرها، ويتناسون ذكرها، ويأمرهم فيه بالرجوع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 والاشتغال بتعليق البلاد بالزروع، بحيث أن فقهاء الدرس والدياس، من أهل القرى والأمصار، والمشتغلين بفقه المزارعة والمساقاة من فلاحي الأنجاد والأغوار، وأهل الرزداقات والأكارة، من حدود سمرقند إلى أشبارة، يتركون مسائل المعاملة والمبايعة، ويكررون البحث قولاً وعملاً في درس المساقاة والمزارعة ويؤذنون في جماعتهم أن يقيم كل منهم في الزرع صلاحه، وإن اضطر أحدهم أن يترك صلاته فالحذر الحذر أن يترك فلاحه، ورام بذلك أن يكون لهم في سفرهم عتادا، وإن نقص لهم في الدرب قضيم وخضيم زادا، فتركوا العمارة، وقصد كل من الأمراء دياره، واشتغلوا باستخراج البقر والبذار، واجتهدوا في إحياء جميع الموات كما رسم وأشار، فما فرغوا من ذلك إلا وقد طوى المصيف بساطه، ونشر رائد الخريف على العالم أعلامه وأنماطه ذكر عزمه كما كان على الخطا ومجيئه سكرة الموت بالحق وكشفه عنه الغطا، ثم انتقاله من سفره إلى سقره فلما أفاق، أخذ فيما كان عليه من التوجه إلى الآفاق، وقصد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 الحواشي والأطراف، واستخلاص الممالك والأكناف، وصرف عنان الذهاب، نحو الخطا على عادته وكان ذلك عين الصواب فأرسل إلى أمم عساكره أن يستوفزوا، ويأخذوا أهبة أربع سنين أو أكثر ويتجهزوا، فلبت كل أمة دعوة رسولها، وشنفت بأقراط مراسيمه أذان قبولها، وحمل كل أسد جوزاء عتاده، وامتطى جدى بغيه، وأعد كل ثور سنبلة زاده ودلو سقيه، ودب كل عقرب منهم دبيب السرطان، وانسابوا انسياب الحوت في بحار العدوان، مجازفين مظالم العباد بلا كيل ولا ميزان فأبرد هلال القوس سهم برده بمرسومه إلى كل صماخ، يخبر أن جند الشتاء على عالم الكون والفساد أناخ، فليستعد له الكفاة، وليحذره العراة والحفاة، ولا يكتفوا في كفه بكافاته فما كل كاف له كفوا، لأنه في هذه المرة آية من آيات الله فلا تتخذوا آيات الله هزوا وأن قصده بقدومه تبريد الأنفاس، وتشويط الأنوف والآذان وإسقاط الأكارع وقلع الرأس، وأن فصل الخريف رائد جنوده، وقائد بنوده، ونموذج طلعته، ومري عين غلته وعنوان مكاتبته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 ومقدمة كتيبته ثم زمجر بعواصف رياحه الباردة، وخيم على العالم بخيام غيومه الصادرة والواردة، فارتعدت الفرائص من زئيره، ولاذ كل من الحشرات بقعر جهنمه خوفاً من زمهريره، وخمدت النيران وجمدت الغدران، وارتجفت الأوراق ساقطة من الأغصان، وخرت على وجهها الأنهار، جارية من الأنجاد إلى الأغوار، وتخيست الأسود في أخياسها، وتكنست الظباء في كناسها، وتعوذ الكون من آفته، واصفر وجه المكان من مخافته، واغبرت خدود الرياض، وذبلت قدود الغياض، وراح ما كان بها من النضرة والارتياح، وأصبح نبات الأرض هشيماً تذروه الرياح فاستسمج تيمور لقطات هذه النسمات، واستبرد نفثات هذه النفحات، وأمر بإعداد لبوس القباب، واستعداد بركستوانات الجباب، واتخذ لصفاح الجمد وسهام البرد، من المبطنات الدرق ومن الفراء الزرد، ثم ضاعف لملاقاة الشتاء مضاعفات اللباس وأفرغها على قامة عزمه الثاقب وأمدها من كافات كفايته بأتراس، ولم يلتفت إلى كلام وملام، واستكفى من الشتاء بما لبسه وأعده من كل كاف ولام، وقال لعسكره لا تكترثوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 بشأن الشتاء فإنما هو برد وسلام وحين اجتمعت عساكره، والتأمت أموره وأوامره، أمر أن يصنع له خمسمائة عجلة، وتضبب بالحديد ليحمل عليها ثقله، فبادر الشتاء خروجه بالدخول، وأورد بانقطاع جراية عمره من ديوان الفناء الوصول، فبرز في شهر رجب، وقد أصبح البرد عجباً وأي عجب، وسار لا يرق لمرق، ولا يرثي لجسد من البرد محترق، فوصل في سياحته إلى سيحون وقد تجمد، وبنى عليه رائق النسيم الصرح الممرد قلت قديما على البحر قد عاينت جسر ممدداً ... بناه إله العرش صرحاً ممردا بكيت فخلت الدمع في جنباته ... رقيق رحيق في زجاج تجمدا فعبره ومر ومضى على ذلك واستمر، وتمادى على لجاجه وأصر فدمر الشتاء عليه بالدمار، وانحط عليه من الجوانب بكل إعصار فيه نار، وحطم جيشه بكل نكباء صرصر، وضرب نبات عسكره بصرة صر طول فيها وما قصر، وهو بذلك الجمع الكثير يسير، لا يحن لأسير ولا يجبر وهن كسير، يسابق البرد ببرده، ويجاري أجرده بجرده ومرده، فجال فيهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 الشتاء بحراجف عواصفه، وبث فيهم حواصب قواصفه، وأقام عليهم نائحات صراصره، وحكم فيهم زعازع صنابره، وحل بناديه، وطفق يناديه مهلاً يا مشوم، ورويداً أيها الظلوم الغشوم فإلى متى تحرق القلوب بنارك، وتلهب الأكباد بأوامك وأوارك، فإن كنت أحد نفسي جهنم فإني ثاني النفسين، ونحن شيخان اقترنا في استئصال البلاد والعباد فأنحس بقران النحسين، وإن كنت بردت النفوس وبردت الأنفاس فنفحات زمهريري منك أبرد، أو كان في جرائدك من جرد المسلمين بالعذاب فأصماهم وأصمهم، ففي أيامي بعون الله ما هو أصم وأجرد، فوالله لا حابيتك، فخذ ما آتيتك، ووالله لا يحميك يا شيخ من برد ريب المنون، لواعج جمر مجمرة ولا واهج لهيب في كانون ثم كال عليه من حواصل الثلوج ما يقطع الحديد ويفك الزرد، وأنزل عليه وعلى عساكره من سماء الزمهرير من جبال فيها من برد، وأرسل عقيبها زوابع سوافيه فحشتها في آذانهم ومآقيهم، ودستها في خياشيمهم فاستقبلت بها نزع أرواحهم إلى تراقيهم، وجعلت تلك الريح العقيم " ما تذر من شيء، أتت عليه إلا جعلته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 كالرميم " وأصبحت مشارق الأرض ومغاربها من الثلوج المنقضة، كأنها بر عرصات القيامة أو بحر صاغه الله من الفضة، فكانت إذا بزغت الصقعاء ولمع الصقيع تراءى شيء عجب، سماء من فيروزج وأرض من بلور ما بينها شذور الذهب، فإن هبت فيما بين ذلك والعياذ بالله نسمة ريح، على نسمة ذي روح، أخمدت نفسه، وجمدته وفرسه، وكذلك الجمل والجمال، حتى أتت على مرق وانتهى الشأن إلى أن طابت النار وردا، وصارت لواردها سلاماً وبردا، وأما الشمس فإنها ارتجفت، وجمدت عينها من البرد ونشفت، وصارت كما قيل يوم تود الشمس من برده ... لو جرت النار إلى قرصها فكان الرجل إذا تنفس جمدت أنفاسه على سباله ولحيته، فيصير كأنه فرعون وقد رصع لحيته بحليته، وإن لفظ من فيه لفظة نخامة عاقدة، لا تصل إلى الأرض مع ما فيها من الحرارة إلا وهي بندقة جامدة، فانكشف ستر الحياة عنهم، وأنشد لسان حال كل منهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 فيا رب إن البرد أصبح كالحاً ... وأنت بحالي عالم لا تعلم فإن كنت يوماً مدخلي في جهنم ... ففي مثل هذا اليوم طابت جهنم فهلك من عساكره الجم الغفير، وأتى الشتاء على كثير من كبير منهم وصغير، وشاط منهم أنوف وآذان وسقط، وانحل عقد نظامهم وانفرط، ولا زال الشتاء يهب ويصب عليهم ريحاً وبحارا، حتى أغرقهم فيها وهم عاجزون حيارى، ونودي عليهم " مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا " وهو مع ذلك لا يلتفت إلى من مات ولا يتأسف على ما فات ذكر مرسوم أرسله إلى ألله داد، بت فيه من الأكباد وفت القلوب والأعضاد، وزاد ما خبله فيه من هموم بأنكاد وكان تيمور حين مخرجه من سمرقند أرسل إلى الله داد بأشباره، مرسوماً أذهب فيه قراره، ونفر طائر نومه عن وكر أجفانه وأطاره، وفهم من فحواه بالإشارة، أنه طالب دماره، ومؤتم أولاده ومخرب دياره شد عليه فيه المضائق، وسد في وجهه الطرق والطرائق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 واقترح عليه فيه بأمور يسهل عندها قطع الجبال ونقل الصخور، ويعذب عند أدناها شرب البحور، من أقلها أن يهيئ له بمفرده، إقامة ليوم قدمه دون غده، خضيماً يأكله ليله، وقضيماً يطعمه خيله، ومن عرض ذلك مائة " ألف " حمل جمل طحيناً خاصه، وهو مخصوص به لليلة واحدة خاصة، وأنه مع عساكره الجرارة، لا يبيت سوى ليلة واحدة بأشباره، إلى غير ذلك فلما اطلع الله داد على هذا الكتاب، وفهم ما تضمنه فحوى هذا الخطاب، علم أنه قد حل به العذاب، فسلب وعيه، وبذل سعيه، وأخذ في إعداد الطحين، واجتهد في إدارة الطواحين، وكانت الطواحين أوقف من حال أديب، في هذا الزمن العجيب، ومجاري مياهها أيبس من كف شحيح، كلف زمن القحط تذرية الدقيق في الريح، ودماء الأنهار في مجاري عروق الجبال ناضبة، ودموع العيون في آماق الغروب غاربة فبذل ما كان أعده لكل نائبة وشدة، وأهان نفائس الأموال واستعان على إجراء الماء بالمال، واستغاث بأولي النجدة من الرجال، واستمد المدد، من كل عد وثمد، واستنهض آراء المشفقين من الأصحاب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 واستدفع بهم ما نزل به من مخلب للبلاءات وناب، وقرع لفتح ما ارتج عليه مما لا طاقة له به كل باب فاستجابوا دعاءه، وأجابوا صداه ونداءه، وتأوهوا لمضضه، واستطبوا لمرضه، وجمعوا من العملة والفعلة الأسود والسراحين فعملوا في سوق الأنهار من الأعمال ما يدير الطواحين، وجعلوا يعاندون البرد، ويقطعون في طريق الماء الجمد، فكانوا كالضارب في حديد بارد، والمكابد بتزويق وعظه تليين قلب الجاحد، حتى سهلت حزونه، ورق لمكابدتهم فدمعت عيونه وصاروا لا يقطعون من الجليد، مقدار ذراع بالحديد، إلا وتهب نسمة يابسة، على تلك الوجوه العابسة، فإذا هب بارد النسيم، قابله الماء بوجه بسيم، فيبرد قلبه عن نارهم، ويصرد لبه عن أوارهم، فيجمد ما فوق ذلك، فتضيق عليهم المسالك، فيرجعون القهقرى، ويمشون كالحبال إلى ورا، والله داد مع ذلك يبذل الأموال، وينادي مستغيثاً يا للماء يا للرجال قلت فكان كل منهم كالحمار ... يخرج ما أمكنه بالمدار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 يوقفه الماء لإجرائه ... وكلما أوقفه البرد دار إلى أن وقع الاتفاق بين الرفاق، أن هذه مسألة تكليف مالا يطاق، وحين تبين له أمرهم، وتعين عنده عذرهم، قارنه الحظ الحالك، وتيقن أنه لا محالة هالك، وأنه قد وقع في البلاء العريض الطويل، وأن مخدومه ما طلب منه في ذلك المحز الدقيق إلا لأمر جليل وكان قد بلغه ما وشاه به أضداده، ونقل إلى تيمور عنه أعداؤه وحساده، وعلم أن خاطره تغير عليه، وفعله مع محمد جلد مشيد جامعه قد نقل إليه، وكيف قتله شر قتلة، ونهب أمواله وأسر أولاده وأهله، وكان متوقعاً من تيمور، أضعاف هذه الشرور، لا يقر له قرار، ولا يسكن له ليل ولا نهار وقد غسل من الحياة يده، وودع حياته وأهله وماله وولده، وقد قرب شهر الصيام، وصار بينه وبين تيمور نحو من عشرة أيام، وقد انقطعت الدروب و " ضعف الطالب والمطلوب " إذا تضايق أمر فانتظر فرجاً ... فأضيق الأمر أدناه إلى الفرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 ذكر سبب انكسار ذلك الجبار وانتقاله إلى دار البوار، واستقراره في الدرك الأسفل من النار وجعل تيمور يواصل التسيار، حتى وصل إلى كورة تدعى أترار، ولما كان بظاهره من البرد آمناً، أراد أن يصنع له ما يرد الأبردة عنه باطناً، فأمر أن يستقطر له من عرق الخمر المعمول فيها الأدوية الحارة، والأفاويه والبهارات النافعة غير الضارة، وأبى الله أن تخرج تلك الروح النجسة، إلا على صفات ما اخترعه من الظلم وأسسه، فجعل يتناول من ذلك العرق ويتفوق أفاويقه من غير فرق لا يسأل أخبار عسكره وأنباءهم ولا يعبأ بهم ولا يسمع دعاءهم، حتى سقته يد المنية كأس " وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم " فإنه لم يزل للقضاء معاندا، وللزمان مجاهداً ولنعم الله تعالى جاحدا، ولا شك أنه جاء ناقصاً وتحمل مظالم فراح زائدا، فأثر ذلك العرق في أمعائه وكبده، فتريخ بنيان جسمه، ورتخ أركان جسده، فطلب الأطباء، وعرض عليهم هذا الداء فعالجوه في ذلك البرد، بأن وضعوا على بطنه وجبينه الجمد، فانقطع ثلاث ليال، وعكم أحمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 الانتقال، إلى دار الخزي والنكال، وتفتت كبده، ولم ينفعه ماله وولده، وصار يتقيأ دماً، ويأكل يديه حسرة وندماً وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع وجرعه ساقي المنية أمر كأس، وآمن حينئذ بما كان جاحده، فلم ينفعه إيمانه لما رأى البأس، فاستغاث فلم يوجد له مغيث، ونودي عليه اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة، ظالمة أثيمة، وابشري بحميم وغساق، ومجاورة الفساق، فلو تراه وهو يغط غطيط البكر المخنوق، ويخمد لونه ويزبد شدقاه كالبعير المشنوق، ولو ترى ملائكة العذاب وقد أظهروا استبشارهم وأخنوا على الظالمين ليخربوا ديارهم ويطفئوا نارهم، ويهدموا منارهم " ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم " ولو ترى نساءه وحاشيته وهم حواليه يجأرون، وأعوانه وجنده وقد ضل عنهم ما كنوا يفترون " ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون " ثم أنهم أحضروا من جهنم المسوح، وسلوا سل السفود من الصوف المبلول تلك الروح، فانتقل إلى لعنة الله وعقابه، واستقر في اليم رجزه، وعذابه وذلك في ليلة الأربعاء سابع عشر شعبان ذي الأنوار سنة سبع وثمانمائة بنواحي أترار ورفع الله تعالى برحمته عن العباد العذاب المهين " فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين " قلت الدهر دولاب يدور ... فيه السرور مع الشرور بينا الفتى فوق السما ... وإذا به تحت الصخور كم من شموس في سما ... فلك العلاء لها يدور لما استوت في عزها ... زالت وأكسفها الفتور وملوك دنيا أضرمت ... من نار عدواها البحور ملكوا البلاد وأهلها ... مضي الأوامر والأمور أغراهم الدهر الخئو ... ن وغر بالله الغرور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 ضحك الزمان بثغره ... لهم وقد ملكوا الثغور فغدوا ذئاباً في الأذى ... وغدوا أسوداً في الشرور غنى لهم فتراقصوا ... مثل الشخوص بلا شعور وحكوا على باباتهم ... طيف الخيال إذا يدور وتوهموا أن الزمان ... مطاوع غير النفور أو أن ما ناله من ... دنيا يفور ولا يغور فتواثبوا وتضاربوا ... وتكالبوا شبه النمور وتلاكزوا وتلاحزوا ... وتناجزوا الضرب الهصور وتناحروا وتدابروا ... وتناقروا نقر النسور هذا وإن يتصالحوا ... يتصافحوا ميناً وزرو فتهافتوا في نارها ... متصورين النار نور بينا هم في عزهم ... والدهر مكار غيور انقض فيهم صرفه ... كالصقر في دقل الطيور أمسوا وكل منهم ... كاللحم يلقى للصقور لا ملك رد يد الردى ... عنهم ولا ملك ودور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 كلا ولا جيش ولا ... ولد ولا مدد نصور ثم انمحت آثارهم ... محو الحيا نقش السطور لم يبق منهم دهرهم ... شيئاً سوى ذكر يدور ناهيك منهم فتنة ... كالأبحر الظلما تمور الأعرج الدجال من ... قصم الجماجم والظهور داخ البلاد ودارها ... ونوائب الدنيا تدور أملى له الله الحليم ... فزاد عدواً في فجور وأمده مستدرجاً ... اباه في شيء يبور ليراه في أمضائه ... حكماً أيعدل أم يجور فاجتاح كل الخلق من ... عرب ومن عجم ولور ومحا الهدى، وغدا الردى ... بحسامه الباغي يمور أفنى الملوك وكل ذي ... شرف وذي علم وقور وسعى على إطفاء نور ... الله والدين الطهور بفروع جنكيز خان ذا ... ك الظالم النحس الكفور فأباح إهراق الدما ... من كل صبار شكور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 وأحل سبي المحصنا ... ت المؤمنات من الخدور ورمى على النار الصغا ... ر كأنهم فيها بخور وأضاف في هذا إلى ... فعل الزنى شرب الخمور طوراً يرى نكث العهو ... د وتارة نقض النذور وعدا على السادات من ... أهل الصيانة والوقور من كل ذئب صائل ... منهم ومن كلب عقور فتكوا وقد بتكوا القلو ... ب وبعدما هتكوا الستور وشووا جباهاً طالما ... سجدت لذي الرب الغفور وكووا جنوباً وقد جفت ... طيب المضاجع والظهور واستخلصوا الأموال من ... أيدي البرايا بالفجور وسقوهم كأس السمو ... م وجرعوا كأس الحرور واستأسروا آل النبي ... المصطفى لطهر الطهور باعوهم من مشركي ... الأتراك في أقصى الكفور وكذاك واحد أمه ... من كل مقلات نذور وجروا على هذي الجرا ... ئم واستمر لهم مرور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 ما بين إيران وتو ... ران البلاد لهم عبور وامتد ذاك من الخطا ... أخذاً إلى أقصى القطور لما انتهى إفساده ... وتكاملت تلك الشرور هجم القضاء لأخذه ... ولكل تكميل قصور حذفته أيدي الموت من ... تلك القصور إلى القبور وتبدلت منه الكرا ... مة بالمذلة والعثور ومضى إلى دار النكا ... ل بما تحمل من وقور وتفرقت تلك الجمو ... ع وهد ما شاد الدثور أبقت عليه فعاله ... لعناً على مر العصور وتخلدت آثار ما ... آذى على كر الدهور فانظر أخي ثم افتكر ... في ذا المساء وذا البكور لا فرق عند الموت بين ... شكور فضل أو كفور أين الذين وجوههم ... كانت تلألأ كالزبور أهل السعادة والحجا ... وذوو السيادة والوقور المطفئو بدر السما ... والمخلجو فيض البحور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 كانوا عظاماً في الصدو ... ر وهم صدور في البدور طحن الردى تلك العظا ... م وفت هاتيك الصدور وسفتهم ريح الفنا ... سفي الرمال يد الدبور أين البنون ومن غدا ... للقلب أفراحاً ونور كانوا إذا رفع الحجا ... ب وزحزحت عنهم ستور تلقى الدنا قد أشرفت ... كالشمس في سجف الخدور من كل ظبي أحور ... أو ظبية تزرى بحور نشر الجمال عليهم ... ثوب الدلال على حبور وفدتهم مهج الورى ... من شر أحداث الدهور كانوا إذا سكنوا مكا ... نا حركوه من السرور كانوا على وجه الدنا ... حدقاً وللأحداق نور وحدائقاً لرياضها ... وعلى حدائقها زهور بينا هم في سكرهم ... قد مازج الدل الغرور والعمر غض والزما ... ن مسلم لهم الأمور وإذا بساقي الموت فا ... جأهم بكاسات الثبور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 فسقى رياض حياتهم ... قدحاً أعاد الكل بور تركوا فسيح قصورهم ... رغماً إلى ضيق القبور وسقوا كئوس فراقهم ... صبراً لكل شج غيور من شق حزناً جيبه ... ولفقدهم دق الصدور لو كان ينفعه الرشا ... أو كان يجديه النذور لفداهم ووقاهم ... ورعاهم رعى الحذور سكنوا الثرى فتغيرت ... تلك المحاسن والشعور ورعاهم دود البلى ... وفراهم فري الجزور أمسوا رميماً في الثرى ... وثووا إلى يوم النشور يسعى المحب مخاطباً ... أجداثهم يوماً يزور ينعي ويندب نائحاً ... قبراً تناوشه الدثور ويمرغ الخدين في ... ترب يراها كالذرور يدعو فليس يجيبه ... إلا صدى صم الصخور بينا تراه زائرا ... وإذا به أمسى مزور هذا بتقدير الإل ... هـ وحكم فعال صبور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 دنياك جسر فاعتبر ... واحرص على زاد العبور واطمح إلى اللب الهني ... فجميع ما فيها قشور لو لم تك الدنيا وما ... فيها هباء خيتعور كلا ولا انقادت لمن ... قد صار مختالاً فخور هذا وغالب من عتا ... في أرضها عرج وعور خلقوا لحق فانثنوا ... عنه إلى مين ورور يا رب ثبتنا على ... ما ترتضيه من الأمور واغفر لنا ما قد علم ... ت من الخطايا يا غفور واختم لنا بسعادة ... نكفي بها شر الغرور وامنن لنا بتجارة ... من باب فضلك لن تبور وأدم سحائب رحمة ... تهمى على بدر البدور خير الأنام محمد ... الشافع الزاكي الطهور والآل والصحب الكرام ... وتابعيهم يا شكور فصل في ذكر ما وقع بعد وفاة تيمور من حوادث وأمور، وما ظهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 من سرور وشرور وكان لألله داد أحد الخلان، يدعى سعادات نائب مدينة أندكان، من ذوي النباهة والشهرة، وهو أحد الأمراء الذين توجهوا لعمارة باش خمرة، فأرسل قاصداً لألله داد، أنه ارتفعت مادة الفساد، وأن تيمور ترك تبعة الممالك وتوجه بتبعاته إلى درك مالك، فوصل القاصد بهذا السرور رابع عشر شهر رمضان من العام المذكور ففرج عن ألله داد همه، وأزاح عنه غمه فكأنه استأنف له الحياة، أو رد راحلته التي عليها طعامه وشرابه بعد أن أضلها في فلاة، وسيأتي حكاية ألله داد وأمره، وما جرى له بعد ذلك إلى آخر عمره ذكر من ساعده البخت واستولى بعد تيمور على التخت فلما قضى تيمور نحبه، وأزال الله عن العالم كربه، لم يكن معه في أجناده من أقاربه وأولاده وأحفاده سوى خليل سلطان بن أميران شاه حفيده، وسوى سلطان حسين ابن أخته الذي هرب إلى السلطان في الشام عند وروده فأرادوا كتم هذه القضية، وأن لا يشعر بها أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 من البرية، فشاعت وراعت، وعلى رغمهم ذاعت، فاضطربوا واضطرموا، واصطدموا واصطلموا، فاطلع الناس كلهم على ذلك وفهموا، وعلموا أنه قطع دابر القوم الذين ظلموا، فجفلت العساكر واحتفلوا، وحملوا عظامه وإلى سمرقند قفلوا وساعد خليل سلطان البخت، وخلا له الجو فاستولى على التخت، وكان أبوه أميران شاه، متولي ملك أذربيجان وما والاه، وعنده ولدان عمر وأبو بكر، وبينهم وبين ما وراء النهر من الأطواد والأشجار مائة سياج وألف سكر، وكان أبو بكر هذا في الجغتاي من الفوارس، والضاربين بالبيض الهام والقوانس يذكر أنه كان يوقف بقرة، أو ينيخ بكرة، ويضربها بالسيف ضربة لا ضربتين، فيجعلها قطعتين مفصولتين وأميران شاه هذا قتله قرا يوسف بعد تيمور واستخلص منه ممالك أذربيجان وولده عمر قتله أخوه أبو بكر وأبو بكر قتله إيدكو متولي كرمان، ومصافاتهم مذكورة، وحكاياتهم مشهورة وشاه رخ كان في هراة وممالك خراسان، وبير عمر كان في ولايات فارس وتلك البلدان، وتيمور كان جعل ولي عهده محمد سلطان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 وهو وإن كان من أحفاده، لكنه قدمه على أولاده، لما لاح له من فلاحه، وظهور رشده وصلاحه، فعانده القضاء فيما يروم، ومات كما ذكر في آق شهر من بلاد الروم وكان له أخ يدعى بير محمد، فجعله تيمور ولي عهده من بعد، فلما هجم عليه رائد الموت، وأهاب بروحه الخبيثة بأزعج صوت، كان مستغرقاً في بحار غفلته، مسترجياً إرجاء مهلته، فذبحه اعتباطا، وسام عسكره اختباطا، وكان إذ ذاك وكل من أولاده وأحفاده بعيد الدار، مستقر القرار، آمناً من البوار، فارغاً من الدمار، وهم كتيمور غافلون وبير محمد في قندهار، وهي بين حدى خراسان والهند وبينه وبين ما وراء النهر سباسب وقفار فلم يكن أقرب إلى دار الملك الذي أنشأه، وهي سمرقند سوى خليل سلطان بن أميران شاه، مع أن قطان الشتاء وندافه، كان قد بسط على فراش الأرض لحافه وندف عليه من أقطان الثلوج ما غطى وجه العالم وأطرافه، وطم ظهره وأكتافه، فلم يقدر أحد من أولئك الحشرات أن يخرج رأسه من اللحاف، أو يضحك ثغر زهرة أنملة في كم كم خوفاً من جاني النسيم أن يبادرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 باختطاف الاقتطاف، فضلاً عن أن يتمطى في فراش أهبة إلى حركة سفر فتمتد يده نحو بطش أو رجله نحو طواف، فاستولى خليل سلطان على ذلك المغنم البارد من غير منازع وعديل، واستبدل الملك بل العالم من جهنم الكوثر السلسبيل، ونادى لسان السلطنة في رقعتها نعم البديل، بدلت عن بغيض بحبيب وعن عدو بخليل وتمكن من العساكر وسائر الأمراء، وخلاصة الجند وأساطين الزعماء، واحتوى على تلك الأمم، وطوائف الرءوس من العرب والعجم، وأدخل عنق الجميع في ربقة المتابعة وفتح لهم في أسواق الصداقة حوانيت الصلاة فعاملوه بعقود المبايعة، ولم يمكن أحداً منهم الخروج عن الدخول في الطاعة، والتخلف عن المبادرة إلى مبايعته في ذلك اليوم ولا ساعة، فأطلق لهم البشرة، وأحسن معهم العشرة، وكان يوسفي الخلق، محمدي الخلق، خليلي الرفق، اسماعيلي الصدق، جمع حروف الملاحة، وحاز صنوف الصباحة، نقش محاسنه كاتب الصنع بقلم الكاف والنون، على أحسن ما يكون من الحركات والسكون، فأول ما مشق على لوح الجمال قد ألف قده القويم، فباء له كل من فاء عن لام عذاره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 متقوساً في خدمته كالدال والجيم، وحسن لكل راء ما فيه من زين، وما شين سين ثغره وميم فمه مذ فاها بخلف ولا مين، فاستقفى بوابله كل قاف واستكفى بنائله كل كاف، وأمطر من غين كفه العين فصاد من الجند كل ذي لام وباء، ودال بذلك كل من باء عن وعده، ورجع عن عهده وفاء، ففدت الواقيات مهجته، ورقت من عين الحوادث بهجته وعوذت منه الأرداف، بالطور والأحقاف، وحمت نون حاجبه وفاه طرفه وطرته وردفه ب " حم عسق " وفتحت له الملوك بالثناء فاها وخفضت لارتفاعه خدودها معوذة له وقالت يس طه ذكر خلاص العساكر من البند وقفولهم مع عظامه إلى سمرقند ولما ذبح قصاب الفناء تيمور ونحره، جزره كالجزور فجعل يخور كالثور وبقره، ثم أراد أن يصليه من نار الجحيم حفره، فاستغاث بخليله فأجاره وأخره، وقال لا تعجل عليه وحمله في محفة بعد العجلة وصبره، وألوى راجعاً إلى سمرقند، وكان قد انحل نهر خجند، وطالب الشتاء قد أدرك ثأره، وبرد قلبه وسكنت الحرارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 قلت ورق للعالم قلب النسيم ... وأقبل الدهر بوجه بسيم ثم هجم جيش الربيع المنصور، فانهزم جند البرد فولى وهو مكسور ذكر ما أضمره وزراء تيمور وأخفاه كل منهم في التامور وكان في أفلاك ذلك العسكر سيارات نجوم بهم سماؤه تزهر، وبآرائهم يقتدى، وبروائهم يستضا قلت من كل منتجب للأمر منتخب ... كالشمس رأياً وكالضرغام إقداما قد هذبتهم الأمور، وشذبتهم بلايا تيمور، واستفتح بهم المغالق، واستوسع بصدماتهم المضايق، وتخلص بحملاتهم من شدة كل مارق، وتوصل بعزمهم إلى نيل المآرب، وتوسل بعزيمتهم إلى كنوز المطالب فكان هو البدر وهم الهالة، وهو الفاعل وهم الآلة، وهو الروح وهم الحواس، وهم الأعضاء وهو الرأس فلما كورت شمس مواكبهم، وانتثرت كنس كواكبهم، ورحل زحلهم، وخاب أملهم، فلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 وعوض الكون الدجى بالضحى ... وبدل المريخ بالمشتري أجال كل منهم قداح فكره، وتدبر في ذلك الحادث وعاقبة أمره، واستصغر خليل سلطان وعلم أن سيأتيه موج المنازعة من كل مكان، وأنه لا يصفو له ورد الملك من مكدر، ولا هواه من مغبر، وأقل الأشياء أن يقول له رسول أكابر أقاربه كبر كبر، فأعد لكل شدة شدة، ولكل غدة عدة، ولكل خزة فزة، ولكل جزة جمزة، ولكل بؤس لبسا، ولكل سهم ترسا، ولكل نائبة نابا، ولكل بائقة بابا، ولكل خطب خطابا، ولكل خطاب جوابا، ولكل حرب حرابا، ولكل أمر أمرا، ولكل غدر عذرا، ولكل أزمة حزمة، ولكل نصب نصبة، ولكل كسرة جزمة ولكن شكيمة البرد كانت ردت جماح كل جموح، وصفيحة الجمد قدت جناح كل سبوح، فما وسع كلاً منهم إلا الإطاعة، والانقياد لأمر خليل سلطان بالسمع والطاعة، واستمروا معه على القفول، مضمرين لخليل ما أضمره للحبيب عبد الله ابن أبي سلول، وكان أحدهم يدعى برندق، فرام إلى التحصن بقلعة المخالفة التسلق، فقال لخليل سلطان إن اقتضت الآراء أن أتقدم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 وأمهد لك الأمور إلى حين تقدم، فأكون رائد دولتك، وقائد سلطنتك، فأشيد القواعد، وأبشر الصادر والوارد، فيكون كل مستعداً للملاقاة ومهيأ أسباب الموافاة، فأذن له، وأمامه أرسله، فوصل إلى سيحون وقد عقد عليه جسر بالمراكب وهيئت أسباب عبوره لكل راجل وراكب، فعبره برندق بجماعته، ثم أمر بقطعه من ساعته، وأعلن العصيان، وقصد سمرقند مجاهراً بالطغيان فكشرت أسوارها ... في وجهه أنيابها وأسبلت عصمتها ... ببابها حجابها وأسدلت على جبين ... منعه نقابها فاستدرك فارطه، وسلك في مسألة منطقه بحث المغالطة، ووصل خليل سلطان إلى الجسر فوجد عقده قد انحل، ونظامه قد اختل، فلم يكترث ببرندق وما فعل، بل عقده مرة ثانية ودخل، وولى وراء سيحون من البلاد، متوليها أولاً وكان يدعى خدايداد، وهو من أكبر أعدائه، ومن رفقاء تيمور ونظرائه، ومنسوباً إلى السلطان حسين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وهو في تلك البلاد بمنزلة الرأس والعين، فلم يسع خليل سلطان إلا مسالمته، وإقراره في بلاده ومهادنته، إذ أموره كانت في أوائلها، ففوض إليه أمرها والقلوب في غوائلها ذكر وصول خليل سلطان بما ناله من سلطان إلى الأوطان ثم توجه إلى سمرقند فاستقبله كبراؤها، وخرج إليه نائبها وزعماؤها، ووفد عليه نواب البلاد، منغمسين في السواد، لابسين أثواب الحداد، وجاء الأكابر والعظام، معظمين هاتيك العظام، ومهنئين خليل سلطان بالسلامة، ونيل سرير الزعامة قلت ووجه كل قد غدا ... مثل الربيع القادم وعين سحب قد بكت ... وثغر زهر باسم وجعلوا يقدمون التقادم السنية، والحمولات البهية، وهو يقابل كل منهم بما يليق بحشمته، وينزله في منزلته، وقال لبرندق لا تثريب، وقابله مقابلة الخليل الحبيب، ومهد لهم بساط المباسطة، وسلم إليه مسألة المغالطة، وحين ثبتت أوتاده اقتلعه، وألقاه على غفلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 في فم أسد المنية فابتلعه، ثم أشلى على دياره كلاب النهاب، وشهاب الالتهاب، فمزق أديمها، وهتك حريمها، ومحا حديثها وقديمها ذكر مواراة ذلك الخبث وإلقائه في قعر الجدث ثم إنه أول ما اشتغل بمواراة جده، وتنجيز أمره وإلقائه في حفرة لحده، فوضعه في تابوت من أبنوس وحمله الرءوس على الرؤوس، ومشى في تشييع جنازته الملوك والجنود، حاسري الرؤوس لابسي الثياب السود، ومعهم طوائف الأمراء والأعيان، وأنزلوه على حفيده محمد سلطان، في مدرسة حفيده المذكور، بالقرب من مكان يسمى روح آباد وهو موضع مشهور فكان هناك على أثاف، في سرداب معلوم غير خاف، وأقام عليه شرائط العزاء، من إقراء الختمات والربعات والدعاء، وتفريق الصدقات، وإطعام الأطعمة والحلاوات، وسنم قبره، ونجز أمره، ونشر على قبره أقمشته، وعلق على الجدران أسلحته وأمتعته، كل ذلك ما بين مكلل ومرصع، ومزركش ومصنع أدنى شيء من ذلك يقوم بخراج إقليم، وحبة من كدس تلك الجواهر تفوت التقويم، وعلق نجوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 قناديل الذهب والفضة في سماء غواشيها، وبسط على مهادها فرش الحرير والديباج إلى أطرافها وحواشيها ومن جملة هذه القناديل قنديل من ذهب زنته أربعة آلاف مثقال، رطل واحد بالسمرقندي وبالدمشقي عشرة أرطال ثم رتب على حفرته القراء والخدمة، وأرصد على المدرسة البوابين والقومة وقدر لهم الإدارات، من المسانهات والمياومات والمشاهرات، ثم نقله بعد ذلك بمدة إلى تابوت من فلاذ، صنعه رجل من شيزار ماهر في صنعته أستاذ، وقبره في مكانه المشهور، تنقل إليه النذور، وتطلب عنده الحاجات، ويبتهل عنده بالدعوات، وتخضع الملوك إذا مرت به إعظاماً، وربما تنزل عن مراكبها إجلالاً له وإكراما فصل في اعتدال الزمان، وأخبار خليل سلطان ولما أخذت تيمور الصيحة بالحق فصار غثا، وقعد خليل سلطان على التخت وقام الشتاء بعد أن كان جثا، مد الشعراء ألسنتهم للزمان بالمدح ولخليل سلطان بالتهنئة ولتيمور بالرثا، فسمع الشتاء وغنى صوته وأجاز، ورفع عن العالم في نهوضه الكلاكل والإعجاز فابتهج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 الكون بورود الربيع، وشكر الروض للساحب ما أسداه إليه من حسن الصنيع، ورفع على الروابي من الشقائق أعلامه، ونصب مما زهره خيام الصنع من أزهار الأشجار خيامه، ونور الحدق بأنوار الحدائق، واستنطق بتسبيح الخالق، من خطباء الأطيار على منابر الأغصان في جوامع الرياض ما استنصت بلغاته كل ناطق، من كل مغرب في ديوان الفصاحة رائق، ومعجب بأسرار البلاغة فائق، فرقصت الأشجار، لغناء الأطيار، وصفقت الأنهار، واعتدل الليل والنهار، واكتسى البسيط الأغبر خلع السندس المزهر، وتبدلت الأغصان من قطنى الثلوج، كل ثوب بأصباغ القدرة مزهر وبدمقس الأزهار منسوج، وكل قباء صار مزهرا في كل دف أغن لكل طائر وفروج، وبسط الكون على المكان لإقدام قدوم خليل سلطان، شقق الورود والريحان " فصل " ولما فرغ خليل سلطان من ذلك شرع في تمهيد الممالك وتسليك المسالك وعلم أنه لا يتقيد به إنسان، إلا بقيد الإحسان، ولا يجتمع له البال، إلا بتفريق المال، فعقد القلب على فك طلسمات الختوم وحل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 الرموز، وصرف الموانع والتوابع عن تلك المطالب والكنوز، وقوى العزيمة على فتح الخبايا وصيد عصافير القلوب ببذر حبات الهبات تحت شباك العطايا، ففرق ما كان شتت جده في جمعه شمل البرايا، وثقل الكواهل بتخفيف ما أثقل ظهر غيره بالمآثم والخطايا، وأوسق أحمال الآمال، وربوع الأطماع بالأموال وأمطر أيادي يمينه بالنوال ففاض الخير من صوب الشمال، وملأ الأفواه والمسامع والمقل من الناس، بما أفرغ من حواصل الكنوز والصناديق على أغتام الجند والأكياس، فنثر أغصان الدوح عند ورود الربيع أصناف أزهاره، فكأنه أنامل كفه المنتظمة في نثار درهمه وديناره، وجاد السحاب بدردره وأمطاره، فضاهى جود جوده الهامي على العالم وأقطاره، فقيد الناس كلهم بهذا القيد، ونحوا صراف بذله معربين له بالإطاعة فترك عمر ويزيد ذكر من أظهر العناد والمراء وتشبث بذيل المخالفة والعصيان من الأمراء والوزراء غير أن بعض تلك القواد، وزعماء الوزراء والأجناد أعلن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 ما كان أسره، ووضع المضمر من العصيان موضع المظهر، فأول من شهر سيف العصيان، وفوق سهام العدوان، وشرع بمخالفة الرديني، خدايداد الحسيني، متولي ما وراء نهر سيحان، وأطراف تركستان فوجد من كان قد عزم على نفض يده من عقد الطاعة، إماماً يقتدى به في البغي ومفارقة الجماعة، لا سيما وقد كان صواغ الربيع قد أذاب بجمراته سبائك الجمد والثلوج، ورصع بما أخرجه من ذلك ديباجه الأرض وروضات الجنات وأرباض المروج، واستمعت أموات الحشرات صيحة الرعود بالحق فقالت ذلك يوم الخروج فاقتفى خدايداد، في العصيان والعناد، شيخ نور الدين، وكان عند نور الدين من المتقدمين، وذوي الآراء والتمكين، فانخزل جهارا، وسار ليلاً ونهارا، فوصل إلى خدايداد، وقوى منه الظهر والأعضاد، وشاركه في التمرد والفساد ثم بعده فرط نظام الطاعة شاه ملك، وأخذ في طريق المخالفة وهو منهمك، وخرج من سمرقند وهو يصرخ، وقطع جيحون ووصل إلى شاه رخ، وكان نظير شيخ نور الدين، وذا رأي مكين، وفكر رصين، فلم يكترث خليل سلطان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 بالعاصي وأكرم من لم يعص، وعمم بتاج إنعامه كل رأس وما خص ذكر أخبار ألله داد صاحب أشباره وإخلائه إياها وقصده دياره، وما صنعه في تدبير الملك وأثاره قولاً وفعلاً وإشارة، إلى أن أدرك في ذلك دماره وبوراه ثم إن ألله داد جمع أخصاءه ليلة ورود الخبر إليه، وشاورهم فيما يصنع وما يبني أموره عليه، فاتفقت كلمتهم واجتمعت مشورتهم على قصد دياره، وإخلائه أشباره فإنهم كانوا في ذلك المكان كالفسيق في شهر رمضان، والزنديق بين قراء القرآن فلما طوى الجو ملاءته المسكية، ونشر على المكان مروطه الكافورية، وألقى ثعبان الفجر من فيه على هذا السقف المرفوع خرزته المضية، حضر إلى خدمة الله داد، أمراء الجيش على عادتهم ورءوس الأجناد، من الترك والخراسانيين والهنود والعراقيين فاختلى بأفاضلهم، ومداره مقاولهم، ونشر لهم من هذه القضية طيها، وطلب من آرائهم فيها رشدها وغيها، واستكتمهم أمرها، لئلا يستنشى المغول نشرها، وأنى لعين الشمس في الصحو الإستتار؟ وكيف يخفى على ذي عينين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 النهار؟ فكل من فوض الأمر إلى مرسومه، وطرح قصة هذه القضية في جيب مكتومه، فاستدعى من أولئك الرفاق، أن يكونوا معه فيما يراه على طبق الوفاق، فأجابوه إلى سؤاله، وربطوا أفعالهم بأقواله، فأكد ذلك بطلب أيمانهم أن إسرارهم في ذلك كإعلانهم، فشرع كل في المحالفة، أنه ليس في موافقته مخالفة، وأنه مهما رآه الله داد امتثله، وما أمر به فعله وحين أمن غائلة مخالفتهم وعصيانهم، وحصل له اليسار بربطه أعناقهم بأيمانهم، قال أي جماعة الخير، وقيتم الضر وكفيتم الضير، أرى أن أكون في صلاة هذا الأمر إمامكم، فأتقدم بجماعتي إلى سمرقند أمامكم فأمهد الأمور لكم، وأرسل إلى بلدكم هذا بدلكم، وأيم الله لا يأخذني قرار ولا هدو، ولا أترككم مضغة لطاغم في ثغر العدو، فإن رأيتم أن تضبطوا بحسن الاتفاق أموركم، وتحموا قريحة ورد قلعتكم من سورة شارب العدو وسؤركم، فلن أمهلكم إلا بقدر ما أقطع نهر خجند، وأصل إلى سمرقند، فأمهلوني ريثما أصل، وبخليل سلطان أتصل فتبعوا مراده، واقتفوا ما أراده، وعاهدوه أن لا يختلفوا من بعده، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 ولا يحلوا بعد ارتحاله من رقابهم حبل عهده، فأمر عليهم رأس جنود العراق، وكان هو أكبر الرفاق بالاتفاق، وفرز كل مسلحة في أسوارها من كل سالح جزءاً مقسوماً، وصار زعيم أولئك السالحين كالنبي في أمته مع أنه كان يدعى معصوماً فصل ثم أمر الله داد بتنجيز الأمور، وخرج سابع عشر رمضان المذكور، ولم يلتفت إلى برد وحر، وكان قد استوطن أشبارة واستقر، ونقل إليها حريمه وأولاده، وبذلك أمر حاشيته وأجناده، فاقتلع الكل معه كبيرا وصغيرا، ولم يدع بها مما يتعلق به فتيلا ولا نقيراً، فساروا تارة دبيباً وحيناً زحفا، وطوراً تسومهم الأرض من ثلجها خسفا، وآونة تسقط السماء عليهم كسفا، فأدركهم العيد المرموق، في مكان يدعى قولا نجوق، من أبرد البلاد، كأنه ينبوع ريح عاد قلت إذا احتاجت جهنم زمهريرا ... تنشق منه أنفاس الهجير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 ذكر ورود مكتوبين إلى ألله داد من خليل سلطان وخدايداد، تخالفت معانيهما وتصادمت فحاويهما فورد عليه مرسوم من خليل سلطان، يذكر فيه ما حصل لجده من حادث الزمان، وأنه استولى على سريره، وأطاعه من الملوك كل كبير القدر وصغيره، وأن الأمور بحمد الله مستقيمة، وقواعد الملك على عادتها القديمة مقيمة، فلا يحدث أمراً، ولا يخرج من بحر مدينته برا، وليسدك بمكانه، وليتثبت بأشبارة مع طوائف جنده وأعوانه، وليطيب خاطر الجزء والكل، فإنه عقب ذلك يرسل إليهم بدل الكل من الكل فتحير الله داد وتفكر، وحاسب نفسه هل يربح في سفره ذلك أو يخسر، ففكر وقدر " فقتل كيف قدر " فبينما هو في أمره يعيد ويبدي، ويلحم في شقة أفكاره ويسدي، وإذا بقاصد خدايداد " الحسيني " ورد عليه، يستحثه على الخروج من أشبارة والوصول سريعاً إليه، فوجد لخروجه من أشبارة عند خليل سلطان مندوحة، وعاش فنام وهو مغمض العينين بعد أن مات وعيناه مفتوحة، فطوى بساط تردده، وتوجه ببسط أمله نحو مقصده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 ولكن كان بينه وبين المراد، خرط القتاد، والموانع التي ذكرها طالب الوصول إلى سعاد، مع زيادة نهر سيحون وخدايداد فواصل التأويب والأساد، حتى وصل إلى خدايداد، فابتهج برؤيته، واستجح مقصوده بطلعته ثم قطعا نهر خجند، وقصدوا ضواحي سمرقند، ووصلا على حين غفلة وفترة إلى مكان يسمى تيزك، وقد شهرا للعدوان الحسام وشرعا للفتك النيزك، فاحتاطا على جشار تيمور فنهباه، وتغلبا على ما وصلا إليه من نقد وجنس فسلباه، وأكثرا هنالك شراً وفسادا، وأشبها في ذلك تسعة رهط ثمودا وعادا وكانت هذه أول شرارة شر وبدعة سقطت من سقط الزند، وبسطت يدها بالفتن بعد قبض تيمور ممالك سمرقند، لأن أهلها كانوا قد أمنوا الشرور، ووقوع الفتن في حياة تيمور، فحين دهمهم أولئك المفترون، أتاهم العذاب من حيث لا يشعرون، وذلك في شوال سنة سبع، وهو العام الذي خلا فيه من تيمور الربع، وما أمكن السلطان خليل، تدارك هذا الخطب الجليل ذكر من خلفه ألله داد بأشبارة من الطوائف وما وقع بعده بينهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 من التناكر والتخالف وأما أمر من خلفه ألله داد، في أشبارة من طوائف الأجناد، فإنهم خافوا من المغول حلول حينهم، فتحزبوا واختلف الأحزاب من بينهم، فمنهم فرقة قال قائلهم أنا على عهدي قوي فلا أخون وأمين، وقد استمسكت يدي بعروة عهد مكين، وارتبطت بحبل حلف فلا أصير من أهل الشمال باليمين، وأدنى ذلك أن نصبر حتى يصل من ألله داد رسول أو كتاب، وننظر ما يبين فيه من سلوك سنة فنميز بصائب نظرنا الخطأ في من ذلك الصواب، فإن وافق ذلك مرادنا امتثلنا ما يقول، واتبعنا في ذلك الكتاب والرسول، وتوجهنا في تلك الساعة، سالكين السنة مع الجماعة، وإن جالحنا في كلامه بخطاب أجلح، عدلنا إلى الاعتزال ومال كل منا في مصلحة نفسه إلى القول بوجوب رعاية الأصلح ومنهم شيعة مالت إلى رفض تلك الدارة، والمبادرة إلى الخروج من أشباره، وانتقلوا من تكرار هذه المجادلة إلى القتال، وقطع رأس أحد رؤوس الخراسانيين في مصاف النزال ومنهم طائفة أهمتهم أنفسهم فلو يلبثوا إلى عشية أو ضحاها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 ثم تحملوا وخرجوا من المدينة وتركوا الدار تنعي من بناها، فلم يسع الباقين إلا اتباعهم في الخروج، لأن مقاماتهم من أول الزمان هناك كانت كبنيان القصور على الثلوج، فتحملوا بقضهم وقضيضهم، وتجهزوا بصحيحهم ومريضهم وتركوا البلد بما فيه من غلات ومستغلات، ونعم وخيرات، وأموال وأقمشة، ونفائس مدهشة، ولم يبق فيه من تلك الأمم المسجونة، سوى ما عجزوا عن حمله من أموال مشحونة، وسوى امرأة واحدة مجنونة، ولحقوا بألله داد، وهو عند خدايداد، فلم يعنف واحداً منهم بما فعل، واعتذر إليهم بأن خدايداد منعه أن يتوجه إلى سمرقند ويجهز لهم البدل، وأمرهم بالإقامة معه مستوفزين، وأن يكونوا لفرصة التوجه إلى سمرقند إذ لاحت منتهزين ذكر ما تم لألله داد مع خدايداد وكيف ختله وخلبه واسترق عقله وسلبه ثم إن خدايداد، تحقق بوقوع هذا الفساد، وتأكد العداوة بين خليل سلطان وألله داد، فركن إليه بعض الركون، وجعل يستشيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 فيما يصير من أمره وما يكون، وكان عند خدايداد طائفة من مماليك الأجناد، وتخلفوا من العساكر في تلك البلاد، وقد ضيق عليهم المسالك، وأراد أن ينقلهم من مالك إلى مالك فلم ينعم له ألله داد بذلك، وقال إن عادة الأكياس استجلاب خواطر الناس خصوصاً في مبادئ الأمور، وحدوث أوائل الشرور، فلا تنفر عنك الخلق وعاملهم أولاً بالإحسان والملق وأي فائدة من قتل هؤلاء وتمزيق أديمهم، سوى نفي الصداقة وتأكد العداوة بيننا وبين مخاديمهم، وربما يكون في خاطر أحد مخاديمهم نفرة من خليل سلطان، ويروم لذلك ظهراً وملجأ يلوذ به من رفيق ومكان، فتلجئه الضرورة إلى أن يقصد ممالك تركستان، فإذا آذيته في متعلقيه أنى يبقى له إليك ركون واطمئنان؟ وأقل ما تفعل مع هؤلاء يا إنسان، إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، ومخاديم هؤلاء لنا رفقاء، ولخليل سلطان أصدقاء، فإن زرعت معهم الجميل، ملكت كل رقيق وجليل، وألقيت العداوة بين من عاداك من صديق وخليل فلما سمع كلامه، ألقى إلى يده من ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 الأمر زمامه، فأشار عليه، بسراحهم وإحسان إليهم في غدوهم ورواحهم، فزاد في نجاحهم، وراش محصوص جناحهم وصرفهم بالعز في طريق مراحهم، فدارت بالسعد أفلاكهم، واجتمعت بهم أملاكهم ملاكهم ذكر ورود كتاب من خليل فيه لفظ رقيق لحل أمر جليل ثم إن وافد خليل سلطان وفد على ألله داد، يطلب منه السعي في لم الشعث فيما وقع بينه وبين خدايداد، وأن يستعطف خاطره إلى الرضا، ويستقبل المودة ويعفو عما مضى، ومهما طلبه يتكفل به، ويعد قربه من أفضل قربه، ويكون هو السفير بينهما، وتقر بالصلح عينهما، فتوجه ألله داد، إلى خدايداد، أبلغه هذه الرسالة، وبين له ما في هذا القول من رقيقة وجلالة وسبب العداوة التي كانت بين خليل سلطان، وخدايداد على ما ذكر أن خليل سلطان، كان في أوائل الزمان، مجاوراً لخدايداد، في تلك البلاد، وكان جده جعله ناظراً عليه، وفوض أمور تربيته إليه، وكان كزاً جافياً، وجلفا جاسياً، فكان يعامله بالفظاظة، ويقابله بالكثافة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 والغلاظة وكان خليل سلطان لطيف الذات، ظريف الصفات، نسيم أخلاقه لا يحمل من خدايداد زعازعه، وبرد مزاجه اللطيف لرقة حاشيته، لا يثبت لمجاذبة المشاقة والمنازعة، فتولد من تلك القساوة بينهما العداوة، وسعت بينهما الوشاة، إلى أن دس له مهلكاً فسقاه فكأنه أحسه، فتدارك نفسه، وتعاطى علاجه، وما يصلح مزاجه، فقضى الزمان أن نصل من تلك الداهية، فنجا منها وليتها كانت القاضية، وبقى فيه من ذلك أرج أورثه العرج، فصارت العداوة الخاصة عامة، وغدت هذه الفعلة لهذا المعلول علة تامة فصل ثم إن ألله داد، حلف لخدايداد، الأيمان الغلاظ الشداد، وأكد هذه الأيمان، بأن استصحب معه القرآن، وأشار إليه، ووضع يده عليه، وزاد تأكيداً بأيمان الطلاق، وبالالتزامات والنذور والعتاق، أنه لا يقبض عن طاعته يدا، ولا يستحيل عليه أبدا، وأنه إن توجه إلى سمرقند يجهد في رأب ما انصدع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 ورد ما انفدع ورتق ما بين الجانبين انفتق، ورفع ما في خواطرهما من الشحناء والعداوة انخرق، وأن يجهز له تومان إحدى نساء تيمور وحاصل الأمر أن تكفل بحسم مواد الشرور، وإصلاح الأمور، وإن عجز عن رفع الشنان، ومحو سطور العدوان، فإنه لا يستحيل عن مصادقة خدايداد في السر والإعلان، وصار يتملق ويترقق، ويتوصل بتمويهات زخارفه إلى مجاري فكره ويتسلق ويشدد أيماناً ترجف القلوب وتصدع، بالله الواحد ويثنى بالطلاق الثلاث من زوجاته الأربع، وكان مخيمهم على ساحل سيحون ممتدا، وهو عن شاه رخية نحو من بريدين بعدا فعبر سهم ختله إلى سويداء قلبه بمكر ودخل، وغربله إذ طحن معه ناعماً ما زرعه بيمينه في ساحله ونخل، إلى أن سمح بإطلاقه، بعد تأكيد عهده وميثاقه، فرجع ألله داد إلى وثاقه، واجتمع بحاشيته ورفاقه، وكانوا في شاه رخية، وأخبرهم بهذه القضية، وكان قد هيأ قبل ذلك أمره، وأخذ من كل جهة أسلحته وحذره، ثم إنه شمر الذيل، وقطع سيحون بالمراكب تحت جنح الليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 ذكر لحوق ألله داد بخليل سلطان وحلوله مكرماً معززاً في الأوطان وحين حصل على هذا الجانب، ولم يبق له في ذلك الجانب حاضر ولا غائب أمر في الحال، بعكم الأحمال، وشد الأثقال، وأخذ الأهبة، قبل النهبة، فأفرغوا عليهم سوابغ السلاح، وأذن بصلاة الرحيل قبل الفلاح وقدم ضعفة أهله والأثقال أمامه، ونقض بهذا الأذان شروط الإقامة، وطير إلى خليل سلطان يخبره بهذه الأخبار، وما جرى بينه وبين خدايداد وكان وصار، ويستمده باستقبال المدد، وإرسال العدد " والعدد " لاحتمال أن خدايداد الأبله، يتفطن لغائلة هذه الفعلة فيخطر بباله ردهم، ويرسل وراءهم من يصدهم ثم ساروا كالسهم الصائب، وصاروا كالنجم الثاقب، فما أصبح لهم الصباح، إلا وقد ظهر لهم من السعد فلاح، وجازوا كل قاتم الأعماق خاوي المخترق، وقطعوا على أنوال المسير مما أسدته مطاياهم من مزهر الرياض ألوان الشفق، فواصلوا بالسير سراهم، فساروا نهارهم أجمع حتى غشيهم مساهم، وحين أخذ منهم اللغوب، وكل الراكب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 والمركوب، وسدلت عليهم عنقاء الظلام الجناح، عدل بهم إلى بعض البطاح، فحط عنه واستراح، ورسم أن " لا " توقد نار، ولا يطمع أحد في طعم النوم بقرار، ولا يشام في جفن طرف سيف ولا سيف طرف، ثم التهموا ما يسد الرمق وصلوا صلاة الخوف، فعبدوا الله على حرف، وأمهلوا ريثما قطعت الدواب العليق، ثم أمر فحملوا وركبوا متن الطريق ذكر تنبه خدايداد، بأن ألله داد خبل عقله بأنكال وأنكاد ثم إن خدايداد تنبه من رقدته، وارعوى من ليلته، وعلم أن ألله داد خلبه نهاره ذلك وسحره، وكشف شمس عقله ولعب به في دست حلفه وقمره، فعض كما يعض الظالم على يديه، وعبى في الحال عسكراً جراراً وأنفذه إليه، فأسرعوا وراءه والتمسوا لقاءه، فلم يروا له عيناً ولا أثر، ولا رووا عنه من أحد حديثاً ولا خبراً، فلم يزالوا في طلبه حائرين دائرين، ثم غلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين ووصل ألله داد إلى مقصده، فوجد وظيفة الوزارة شاغرة فاستولى عليها بمفرده، إذ قبل دخوله كان شيخ نور الدين قد خرج، وشاه ملك وكل من رام العصيان كان قد دب ودرج، فابتهج بقدومه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 خليل سلطان، وقدمه كما كان، على سائر الوزراء والأركان، فتمكن ألله داد كيف شاء، وتصرف في معاني الملك ببديع بيانه إخباراً وإنشاء، وتعاطى في الحال تمهيد الأمور، وتجهيز السرايا وحفظ الثغور، فتراجع أمر الناس وانضبط، وانتظم عقد الملك بعدما انفرط، واستقر حال الناس، وتمكنت القواعد على الأساس وكان هو وبزندق وأرغون شاه وآخر يدعى كجوك يدبرون مصالح المملكة، ويسلكون بكل أحد مسلكه، ولكن ألله داد هو الدستور الأعظم، والمشار إليه المفخم، وعليه مدار القبض والبسط، ونظام عقود الحل والربط، واستمر شيخ نور الدين وخدايداد، يغيران على البلاد، ويزيدان في الشر والفساد، واستوليا على أطراف تركستان، وممالك تلك البلدان، منها سيرام وتاشكند، وأندكان وخجند، وشاه رخية وأترار وسغناق، وغير ذلك مما في تلك الأكناف والآفاق، فكانوا يقطعون سيحون، ويتوجهون إلى ممالك ما وراء النهر ويغيرون، فتارة يتوجه إليهم خليل سلطان، وتارة يجهز لهم طوائف من الجند والأعوان، وعلى كل تقدير فإنهما كانا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 لا يثبتان، وينهزمان، وسيأتي ذكر ذلك كما كان ذكر ما وقع في توران بعد موته من حوادث الزمان وأما المغول، فإنه لما اتصل بهم خبر وفاة ذلك المخذول، وكان بلغهم أنه صوب أحجار كيده إلى هشم تلك الثغور، وفوق نبال قصده إلى خرق تلك البطون والنحور، لم يشكوا في أن ذلك شرك مكيدة، وأحبولة مصيدة، فلم يقر لهم قرار، وتنادوا الفرار الفرار، وتشتتوا في البلاد، وتشبثوا بأذيال القلاع ورؤوس الأطواد، ولجئوا إلى الحصون والجروف، وتماوتوا في قعر المغارات والكهوف، وكذلك كل ذي يمين من أهل الدشت والشمال، وتوزعوا في الأحقاف والرمال، وصار أهل المشرق والخطا وإلى حدود الصين ومن في ذلك الوجه يسرحون " لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلاً لولوا إليه وهم يجمحون " والحق أنه كان في هيبته وعتوه، وقد عرج إلى أن أهلك العالم شرقاً وغرباً بالأرج، وصار كما قيل تكاد قسيه من غير رام ... تمكن في قلوبه النبالا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 تكاد سيوفه من غير سل ... تجد إلى رقابهم استلالا تكاد سوابق حملته تغنى ... عن الأقدار صونا وابتذالا فلما ترادف هذا الخبر، وتكرر سمرقند هذا السكر، واشتهر إسناده حتى ترقى من الآحاد إلى التواتر، وتقرر هذا الحق عند كل أحد فلم يسع فيه جحود ولا تناكر، تراجع فؤاد كل إلى جوفه، وتبدل أمناً من بعد خوفه، وتنادوا يا للثارات، وشرعوا في شن الغارات، وقصد كل مستحق استرجاع حقه وكل مسترق لمسترق استفكاك رقه، فأول من نهض من الشرق المغول، وقصدوا أشبارة وآسي كول، وامتدوا في تلك البلاد، حتى جاوروا خدايداد، فهادنهم وصافاهم، وشرط لهم رد ما أخذه تيمور من مأواهم، وأن يكونوا يداً واحدة على من ناواهم، وأحسن كل منهم مع الآخر الجوار، واطمأنت بواسطة هذا الصلح تلك الديار ذكر نهوض إيدكو بالتتار وقصده ما وراء النهر وتلك الديار ثم نهض من جهة الشمال إيدكو بعساكر كالرمال، وتوجه بحزم وجزم إلى ممالك خوارزم، وكان نائبها يدعى موسيكا، فلما أحس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 بالتتار، وخاف على نفسه البوار، أخذ أهله ومتعلقيه وسار، وذلك بعد أن هجمت التتار الرومية المضافة إلى أرغون شاه، وعبروا جيحون وهو جمد ورجع أرغون شاه إلى مأواه، فوصل إيدكو إلى خوارزم واستولى عليها، واستطرد بخيله بخارى فنهب ما حواليها ثم رجع إلى خوارزم وقد أذكى في الجغتاي اللهيب، وأنكى وولى من جهته في خوارزم وولاياتها شخصاً يدعى آنكا، فتمهدت أيضاً تلك الأماكن، واطمأنت الظواعن والسواكن، بواسطة أن خليل سلطان، قابل كل من أساء إليه بالإحسان، وصار يسترضي كل ساخط، ويستدني بمكارمه كل شاحط، ويصطاد النفوس بالنفائس، ويفترس الأسود بالفوارس، فأحبه الأجانب والأباعد، ورغب فيه كل صادر ووارد، غير أن شيخ نور الدين، وخدايداد، تماديا في الفساد، ولجا في العناد، وخربا ما تجوذب بين الطرفين من البلاد ذكر بير محمد حفيد تيمور ووصيه وما جرى بينه وبين خليله ووليه ثم إن بير محمد ابن عم خليل سلطان، وهو الذي عهد إليه تيمور، كان بعد فوت أخيه محمد سلطان، خرج من قندهار، وقصد سمرقند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 بعسكر جرار وأرسل إلى خليل سلطان، وسائر الأكابر من الوزراء والأعيان، بأنه هو ولي العهد، وخليفة جده تيمور من بعده، والسرير حقه فأنى يغصبه؟ والملك ملكة فكيف يسلبه؟ فكل منهم جاوبه، بما يليق بما خاطبه وأما خليل سلطان فتصدى للمعارضة، وقابل كل مسألة من الخطاب بما ينافيها من المعاكسة والمناقضة، وقال لا تخلو مسألتنا يا فلان، من أن الملك في هذا الزمان، إما أن يكون بالانتساب، أو يظفر به بطريق الاكتساب، فإن كانت الأولى، فثم من هو أحق به مني ومنك وأولى، وذلك أبي أميران شاه، وعمي شاه رخ أعني أخاه، فيكون بينهما بالسوية نصفين، فما لك كلام مع وجود هذين، وأنا أولى أن أكون صاحبه، فأرعى جوانبه، وأسلك مذاهبه، إما بأن يقطع كل منهما عنى المشاغبة، ويترك لي ماله فيه ولاية المطالبة، ويقنع بما هو فيه من مملكته ويحفظ جانبه، وإما بأن يجعلني خليفته في سلطانه فأصون نصيبه ونائبه، وإن كانت الثانية فكلامك لا يستقيم، لأن الملك كما زعموا عقيم، ومن قبلي وقبلك قيل، في الأقاويل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 صونوا جيادكم واجلوا سلاحكم ... وشمروا إنها أيام من غلبا وإن زعمت أن جدك عهد إليك، أو عول في وصيته لك أو عليك، فهو من أين استولى إلا بطريق التغلب، وأنى حصل له ملك وملك إلا بالاغتصاب والتألب؟ وعلى تقدير التسليم وأن أمر وصيته مستقيم، فإنه كان في حياته قسم بلاده، ووزع عليها أولاده وأحفاده، فولى والدي ممالك أذربيجان، وقرر عمي في ولايات خراسان، وابن عمي بير عمر في عراق العجم وتلك الديار، وولاك أنت من جملة ذلك قندهار، وجعلك وصيه كما رسم وأشار، وتحمل هو المظالم وانتقل، فأين نصيبي أنا من هذا النفل فاجعلوا حصتي من ذلك ما استوليت عليه، وليقنع كل منكم بما تقرر فيه وفوض إليه، ومع هذا إن تابعك أبي وعمي تابعتك، أو صادقاك على الوصية وبايعاك بايعتك، وإن سلكنا في ذلك طريق الحق، فالملك صيد والأولى به من حاز فيه قصب السبق، وإن الله أزاح علله إذ شبثني بأسبابه، وأباحه لي مباحاً ومن سبقت يده إلى مباح فهو أولى به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 هذا وإن كلا من مدرسي فقه الملك تابعني، ومن له في عقود السلطنة شركة ترك المضاربة وطاوعني، وعد عقد توليتي مرابحة ولما وقف على سيري ألقى إلي السلم وبايعني وأما الوزراء والأعيان فأجابوه بما لا طائل فيه، سوى ما تمجه أذن مستمعيه، غير أن الخواجه عبد الأول وهو صدر صدور العلماء، والمتصرف في رؤساء ما وراء النهر من السادات والكبراء، والمنفذ سهام أحكامه في جميع الأمراء والزعماء، أجاب فأجاد، وأصاب وأفاد، واختصر واقتصر، وهصر من بير محمد ولخليل سلطان انتصر فقال في جوابه، مجاريه في خطابه نعم أنت ولي العهد، وخليفة الأمير تيمور من بعد، ولكن ما صادف طالعك سعد، ولو ساعدك البخت، كنت قريباً من التخت، فالأولى بحالك أن تقنع بما لك ومالك، وتبقى على خيلك ورجالك، وتضبط ما في يدك من ممالك، وأن أبيت إلا طلب النما، ولم تقنع بما قسم الله لك وقضى، وخرجت من مملكتك إلى هذا الفضاء، فإنك تقع في العناء، وتخرج ولايتك من يدك فتصير مذبذبا، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 ذكر تجهيز خليل سلطان سلطان حسين لمناصرته وخروجه عن الخليل سلطان وقبضه على أمرائه ومخالفته ثم إن خليل سلطان لم يقنع بدقائق هذه الأقوال، وأردفها بحقائق الأفعال، وأمر بتجهيز جند مجند، إلى استقبال بير محمد، وأضافهم إلى ابن عمه والده السلطان حسين، وعين فيهم من أمراء الجغتاي كل رأس وعين، وضم إليه الظهور والأعضاد، ومنهم كجوك وأرغون شاه وألله داد، فساروا سابغي العدة، كاملي العدة وذلك في سنة سبع منتصف ذي القعدة، فعبروا جيحون إلى بلخ وخيموا في ضواحيها، وانبثوا في أقطارها ونواحيها وبينما هم مرفهو الحال، فارغو البال، قريرو العين، تمارض السلطان حسين، ثم إنه دعا الأمراء، ليقرر معهم فيما هو بصدده الآراء، وقد أكمن لهم كميناً، وأرصد لهم الرجال شمالاً ويميناً، وحين ولجوا خيسه، ودخلوا كيسه، وثب عليهم وثوب الليث على الفريسة، وأغرى بهم أسوده فوقعوا فيهم وقوع الجياع على الهريسة، ثم نادى من معه من الرفاق ضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 وكان كما ذكر ذا طيش وشجاعة، وتهور ورقاعة، وصولة وجولة، يسبق فعله قوله، فأهريق في تلك الساعة، دم واحد من تلك الجماعة، يدعى خواجه يوسف وكان في حياة تيمور، نائب الغيبة بسمرقند وهو أمير مشهور، ففي الحال قتل، وإلى الدار الآخرة نقل، ثم استقل لنفسه بدعوى السلطنة، ودعا الخلائق من هاهنا ومن هنه، فدهشت أولئك الرءوس، وعلموا أنه قد حل بهم النقم والبؤس ذكر خداع ألله داد سلطان حسين وتلافيه تلافه بالمكر والمين غير أن الله داد ثبت جأشه المزءود، واستحضر تلك الساعة عقله المفقود فابتدر سلطان حسين منادياً، واستثبته في أمرهم مناجياً، وقال له بعبارة فصيحة إني لي إليك نصيحة، ثم استخلاه وقال أنا كنت مترقباً منك هذا الفعال، ومترصداً منك إظهار ما أنت بصدده، ومن أين لخليل سلطان أن يحتوي على الملك بمفرده غير أن هيبة مولانا كانت باسطة، ولم يكن بينه وبين الملوك واسطة مباسطة، ولو كان عندي من ذلك أدنى شعور، لرتبت المصالح على ما تقتضيه الأوامر الكريمة والأمور، ثم إن الخاطر الكريم يشهد بصدق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 هذا الحديث وإني عبدك من قديم وسل من كان من المماليك والأجناد، الذين كانوا محصورين في أسر خدايداد، من خلصهم من حبائل أسره، وأنقذهم من ضرام ضره، وأطفأ عنهم ما التهب من شرار شره، إذ لولا أنا لكان أبادهم، وأيتم أولادهم، وفجع بهم طريفهم وتلادهم، فإنك إن تسلهم يخبروك، وعلى حقيقة الأمر وجلية الحال يظهروك، وربما أخبروك بذلك لما أتوك، ومع هذا استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك ولا زال يطفئ بماء خزعبلاته شواظ تفرعنه ولهيبه، ويذكي في خياشم رعونته عنبر احتياله متمسكاً بمسكنة وطيبة، ويرمي عن قوس ختله إلى سويداء خيالاته نبال مكر أنفذت فيه نصال القضاء والقدر لأنها كانت مصيبة، فأشرب مكره، وتبع أمره، وجعله ظهره، واستقدح في أموره فكره ثم أنه بعد أن أمتن عليه باستبقائه، استشاره في قتل رفقائه، فقال له لا شك أن خليل سلطان، ملك الناس بالإنعام والإحسان، وهو وإن كان في الشجاعة، قاصر اليد قليل البضاعة، لكن استعبد أبطال الرجال، بحسن الخلق وبذل الأموال، غير أن المال بمعرض الفناء والزوال، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 وأنت بحمد الله مآثرك مشهورة، ومنازل منازلاتك " لإبطال " الأبطال معمورة، ورايات كسرك قرون الأقران على جبين الكباش منشورة، ورءوس مناطحاتك ثيران الوغى على قرون الزمان أبداً منصورة قلت فكم لززت شجاعاً في البراز فمذ ... رأى محياك ولى ضارطاً وجرى " مذ كنت رأساً وعيناً في الحروب أرى ... في رأسك الفتح بل في عينك الظفرا " وأنا أعلم أن عامة الجند سيبتهج بطلعتك، ويرقص فؤاده لحصول سكونه فرحاً بحركتك، فإنهم لابد لهم من رأس يسوسهم، وضابط همام تصان بتدبيره نفائسهم ونفوسهم، وقرم كالليث الخادر والسيل الهامر، بل كالبحر الغامر، منصور إن دعا وإن دعى فناصر، موصوف بما قال الشاعر أضاف إلى التدبير فضل شجاعة ... ولا رأى إلا للشجاع المدبر وبما قال ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 وهل ثم في هذا العصر موصوف بهذه الصفات إلا أنت، وما النجدة والكرم والحسب والنسب إلا راحل حيث ما رحلت، وساكن أينما سكنت، ولو حدث شاه ملك وشيخ نور الدين، أن وراءهما منك الحصن الحصين، لأسندا إليك رواية ذلك السند السديد، ولأويا من جنابك العالي إلى ركن شديد وحاصل الأمر أنك مولى الكل وجميعهم لك عبيد، وإذا كان الأمر كذلك فقد ملكتهم، فسواء عندك أبقيت عليهم أو أبدتهم، ولكن الإبقاء أولى، ولا زالت العبيد تترقب مراحم المولى، فإن اقتضى الرأي السعيد، أن نكون كلنا موثقين في الحديد، مع زيادة قيد أيمان أكيد، فرأيه أعلى، واتباع ما يقتضيه أحرى وأولى، فاقتفى رأيه، واتخذوه علماً لأموره ورأيه، فاستتبعه لحينه، وقال اسلك ورايه ذكر أخذ سلطان حسين على أمراء الميثاق ومشيه على خليل سلطان وهم معه في الإيثاق ثم إنه أحضر الأمراء، وهم في قبضة سطوته أسراء، وقد ناوح كل من متعلقيهم مهب ناحية، وتوجه إلى دار كل المخبرون فقامت عليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 النائحة والناعية، وأوثقهم بقيدي الحديد والأيمان، أن يكونوا معه في السراء والضراء على خليل سلطان، فمد كل منهم إلى القيد رجله وإلى اليمين يده، وعاهده على ما يختار وأن يقدم له نفسه وأهله وماله وولده، فحين استوثق منهم، أزاح بالأماني السوء عنهم، وتركهم موثقين في البند، ونكص قاصداً سمرقند، وأرسل إلى خليل سلطان يخبره بما دب من أمره ودرج، فليستعد لمبارزته فهاهو قد عبر جيحون وخرج، وأنه هو أيضاً طالب من ملك خاله حصته ومنازع خليل سلطان في السرير منصته تبريز خليل من سمرقنده لملاقاة سلطان حسين بطوائف جنده، ورجوع سلطان حسين مما يرومه بخفي حنين فاستعد له خليل سلطان، وخرج من سمرقند لاستقباله في أسرع زمان، ثم إن السلطان حسين أحضر ألله داد، ومن معه من الشياطين المقرنين في الأصفاد، واستأنف عليهم العهود، وأكد عليهم قيود العقود، وأحل كلا من محله، وأجاز عقده وحله، وخلع عليه وأجازه، واحترم حرم حقيقته ومجازه، وبش بأنعامه إلى متعلقيهم وهش، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 وسار بهم حتى وصل إلى مدينة الكش وألله داد كان، قبل ذلك بزمان، أرسل إلى خليل سلطان، يخبره بوقوع هذا الهم، وما جرى عليهم من شرور وما تم، ثم قال له إن فألك سعيد، وأمرك حميد، فانهض برأي رشيد، وعزم سديد، وجنان حديد، فإن ضدك مصيد، والله تعالى ناصرك قريباً غير بعيد، فلا تخف " من كيد مكيد "، وإن كنت طفلاً فإنك فتى شبت القلوب بنسمات محبتك فصرت شيخ السلطنة وكل الأنام لك مريد فوصل خليل سلطان، إلى ذلك المكان، فعبى السلطان حسين جيشه، واستعمل تهوره وطيشه، وجعل ألله داد على الميمنة، ورفيقيه على الميسرة، ولما تراءى الجمعان، وتدانى الزحفان، وحقت الحقائق، وسدت المضايق، وتعادت الأسود والفرانق، بادر كل منهم من مكانه، وقصد كل من ألله داد وأقرانه، عساكر خليل سلطانه، فتخبطت عساكر السلطان حسين، وسلب ثوب عزه فنبذ بالعراء متلحفاً من ظنونه ثوبي خيبة ومين ودهمه من البلاء ما أنساه سلبه فرجع بخفي حنين، ومر على وجهه قاطع الفلاة، حتى وصل ابن خاله شاه رخ صاحب هراة، فلم تطل له عنده مدة، فإما سقاه مهلكاً وإما مات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 حتف أنفه عنده، فكان ذلك آخر العهد بسلطان حسين، ورجع خليل سلطان إلى دار ملكه قرير العين بقية ما جرى لبير محمد مما قصده من فرح وهم وكيف آل ذلك إلى وبال وحزن فنقص وما تم ثم إن بير محمد تمادى في خروجه، واستمر يرتع في روض الطلب ومروجه، وتكررت بينهما دروس المراسلة، وتحررت مسائلهما بعد مطاولة المقاولة، أن ينزلوا منازل المنازلة، ويحلوا بروح المقابلة والمقاتلة، وكان متولي أمور ديوانه، ومشيد قواعد ملكه وسلطانه، شخصاً يدعى بير علي تاز، حامي حقيقة بابا الملك وحارس المجاز، سرة بطحاء مملكته، وقطب سماء دائرته، وقدوة علماء عوالمه، وقوة خوافي عسكره وقوادمه فجرد من عساكر قندهار، كل طود لو مال على الفند هار وتوجه بعزم أمضى من البتار، وحزم أنفذ من الخطار، قائداً ذلك الخضم الهدار والسيل الثرثار، والغمام المدرار، حتى وصل إلى جيحون فوقف منه التيار، ثم أمر البحر العجاج، أن يركب من جيحون الأثباج، ويصادم منه ملاطم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 الأمواج، فمرج الله البحرين " هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج " فمخروا منه بسفنهم النحر، وجاوزوه مجاوزة بني إسرائيل البحر، وسار بذلك الأخشب، حتى أرسى على ضواحي نخشب ذكر مقابلة العساكر الخليلية جنود قندهار بصدق نية، وإلقائهم بهزيمتهم إياهم في شر بلية وكان قبل ذلك خليل سلطان، قد نجز أمره كما كان، ونفث أعطار مندل الإيثار، وقوى العزائم على الملوك بالاستحضار، ليجنوا من أشجار الجرايات وثمار الادرار، ما يستعدون به لملاقاة شياطين قندهار، فلبى دعوته العام والخاص، وكل بناء من عفاريت الجنود وغواصواجتمع من أعيان أولئك الأعوان، كل مطيع مقتطف ثمر إحسان ذلك البستان من إنس وجان، وجاء ذلك البحر أفواج أمواج العساكر من كل مكان، وهم بين رؤس الجغتاي والجتا، كل فرعون من بلاد تركستان قد علا وعتا وفوارس فارس والعراق ورستمدار، وجان قربانية خراسان والهنود والتتار، ومن كان تيمور، أعده لمضايق الأمور، ولم يفارقه في سفر ولا حضر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 وأرصده لكل نائبة من خير وشر فوارس لا يملون المنايا ... إذا دارت رحى الحرب الزبون فاستأنف عليهم فواتح الفتوح، واستنخب منهم لما دهاه كل صديق نصوح، وأسبغ عليهم من دروع عطاياه السابغات، وضاعف على قامة أملهم من خلع أنعامه المضاعفات، ففتحت عليهم الأرض خزائنها، وصبت عليهم من معادنها، وفلزاتها ظاهرها وكامنها، فصار كل راجل منهم وفارس، وقد تجلى فيما تحلى به من تلك النفائس، يزري بحسن هيبته على مخدرات العرائس فساروا ونسمات النصر من أنفسهم فائحة، ولمعات الفتح من بوارق بيارقهم لائحة، والسبع المثاني لأبواب النجح والفتوح في وجوههم فاتحة، ولا زال ذلك الراسي يرسي ويمشي، حتى حط على ضواحي قرشي، هي المدينة المذكورة، فاستقرت تلك العساكر المنصورة، وذلك يوم الأحد مستهل شهر رمضان، سنة ثمانمائة وثمان، فبات كل من ذينك البحرين وقد ضم ذيله، وكف عن التبذر والتبدد سيله، وحفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 من الأغيار رحله وخيله، وأحيا في معتكف المراقبة إلى الصباح ليله قلت إلى أن بدا لمع الضيا في ظلامه ... يلوح كموج الماء من سجف طحلب ولما سل الفجر صارمه الفضي وأبرز إبريز ترسه، ومسح على لوح الجو ما طرسه مسود الليل من دخان نقشه، تهيأ كل من أولئك الأطواد للإصطدام، واشتعلت في قلوب تلك القبائل نار الحمية للاصطلاء والاصطدام، فعبى كل عسكره، ما بين ميمنة وميسرة، ومقدمة ومؤخرة، ثم تدانوا وتكانوا، وتعاونوا وتعانوا وتراجزوا وتغانوا، وتعانقوا وتهانوا، وتناجزوا، وتفانوا، والتقت الرجال بالرجال والخيل بالخيل، وارتفع ظلام القتام على رؤس الأسنة فرأوا في صلاة الظهر نجوم الليل، وجرى في ذلك القسطل من كل قناة عيون السيل ثم عند منتصف النهار، انكشف الغبار، عن طود قندهار هار، وسعد أولئك الكبار بار، وعليهم غبار العثار ثار، وخبرهم بالإنكسار سار، وصيت خليل سلطان إلى الأقطار طار، وإلى الآفاق بالانتصار صار، فولى بير محمد وعلى رأسه بحر الدمار مار، وفي قلبه زناد البوار وار، حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 كأن في قلبه جمر الغضا والغار غار، أو في كبده نار لهيب المرخ والعفار فار، وجندلت رجاله، وأبطلت أبطاله، ونهبت أثقاله، وتحولت أحواله، وسبى حريمه عبيده وسلب طريفه وتليده، وتشبث هو بأذيال الهزيمة، وعلم أن إيابه سالماً نصف الغنيمة، كما قيل إيابك سالماً نصف الغنيمة ... وكل الغنم في النفس السليمة ورجع خليل سلطان، وقد استنار به الكون والمكان، واستقرت دولته، واستطارت صولته، وشكر الله المليك، وأتم صيام رمضان في مكان يسمى جكدليك ذكر خروج عسكر العراق على خليل سلطان ومجاهرتهم بالخروج وقصدهم الأوطان ثم في ليلة غرة شوال، خرج من العراقيين الرءوس والأبطال، ومعهم حريمهم وأتباعهم، وأولادهم، وأشياعهم، وكبيرهم شخص يدعى حاجي باشا، وهم جارون تحت أمره كيفما شا، وكانوا ذوي صولة وجولة، وصحبتهم السلطان علاء الدولة، ابن السلطان أحمد البغدادي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 لصلبه، وكان قد وقع في أسر تيمور فرهنه في سجن محنته وكربه فأفرج عنه خليل سلطان، وجعله عنده ذا مكانة ومكان، فبينا الناس مشغولون بأمور العيد، رفع أيديهم أولئك الصناديد، وكأنه كان تقدم لهم بذلك مواعيد فخرجوا تحت جنح الليل وشمروا نحو عرائس العراق الذيل، وطلقوا مخدرات ما وراء النهر ومالوا عنها كل الميل، لأنهم كانوا قد سمعوا أن دار العراق أنزلت بانيها، ومياه أنهر سلطتها عادت إلى مجاريها، فلم يقف أحد أمامهم ولا مشى خلفهم، ولا قدر على أن يربط عن السير رجلهم وكفهم، فقطعوا جيحون ووصلوا إلى خراسان، فتصدى لهم كل من سمع بهم من كل مكان، فانفرط نظامهم لعدم اتفاقهم، فتقطعوا في البلاد قبل وصولهم إلى عراقهم، وأين إيران من توران، ودجلة من جيحان، فعيد خليل سلطان في ذلك المكان، ثم ألوى راجعاً إلى الأوطان ذكر ما فعله بير محمد بعد انكساره وما صنعه بعد وصوله إلى قندهاره ولما وصل بير محمد إلى قندهار، واستقرت به الدار، وتلملمت أموره، وحامت حول قصوره صقوره، ودارت من سيارات عسكره بدوره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 بدوره، تسعرت سمومه وحروره، وتطاير شراره وشروره، فتأرق وتمرق، وتحرق أسفاً قلبه وتخرق، وتمزق غيظاً أديمه وتفرق، وكان ذا حماقة، وقلة لباقة، فطير أجنحة مراسيمه، إلى سكان أقاليمه، واستنهض على خليل سلطان كل حبيب صحيح الود وكليمه، واستطب لجريح قلبه كل قريح الطعن والضرب وكل لديغ القلب وسليمه فلبوا دعوته بالإطاعة، وأجابوا ندائده بالسمع والطاعة، ثم سالت الأودية والجبال، بالخيل والرجال، وأرسل إلى خليل يقول، ضمن كتاب مع رسول إن أول مصافنا كان فلتة فتمت، وشرارة تسوهل في إطفائها فالتهبت وطمعت، ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت، وتحذرت ما استحقرت، واستكبرت ما استصغرت، لانتصرت وما انكسرت، ولعثرت على مرادي وما عثرت، ولكن أضعت الحزامة، فحرمت السلامة، وتناولت أمرك برءوس الأنامل فأكلت يدي ندامة، مع أن صليبه جندك، وقوة ظهرك وعضدك، ونبال نبالتك وساعد سعدك، وعضب غضبك، ورمح رشدك، وحد صارمك، وصرامة حدك، إنما كان رءوس العراق، وما حصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 لك منهم من الاتفاق، وأما الآن فقد وقع منهم نفاق، واتفق لك منهم عدم اتفاق، وظهر تباعد وشقاق، ففت لذلك كبدك، واختل فكرك وجندك، وهأنا قد جئتك بجد جديد، وبالحد الحديد، فاستعد للقاء، وتيقن عدم البقاء، فإن الحرب كما علمت سجال، وكما أديل لك علينا بالأمس فإن غداً لنا عليك يدال ذكر توجه بير محمد لمقابلة خليل سلطان ثاني كرة، وما حصل عليه في ذلك من كرة وفرة، وتوليته الدبر كما بدا أول مرة ثم توجه بتلك الجنود والأعوان، وقطع جيحون ووصل إلى مكان يسمى حصار شادمان، فتوجه إليه خليل سلطان، ومعه من عساكر الرجال والفرسان، وجراد الجيش وقمله وضفادعه ما يجري من الدم الطوفان، فمر بتلك الأطواد والبحار، وسرى وهو ما بين رأس وسار، حتى وافى جنود قندهار، وكان كما ذكر من قبل، قد قدح في حراق أحشاء العساكر القندهارية من خوف نار الخليل زناد النبل، فكانوا ملسوعين والملسوع يخاف من جر الحبل، فقبل أن يزعق النفير ويضرب الطبل، نفر من كل فرقة منهم طائفة، وتنادوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 " أزفت الآزفة، ليس لها من دون الله كاشفة " فألبس بير محمد خلعة الخلع، ولم يكن له بها طوق فأقلع إلى القلعة القلع، وأوصد الأبواب وأحكم الأسوار، واستعد في حصار شادمان للحصار، فأحاط به من العساكر كل جارح وكاسر، ودار عليه من بني يافث كل سام وحام، وجد في المحاصرة منهم كل طاعن وضارب ورام، فتندم بير محمد على ما قصد في ذلك وتعمد، وتذكر ما قال له أول مرة، الخواجه عبد الأول، ولكنه اعتذر بالقضاء والقدر، فرماه القضاء بسهم جواب، أجاد فيه وأصاب، وقال وعاجز الرأي مضياع لفرصته ... حتى إذا فات أمر عاتب القدر فانعكس منه كل رأي وفال، وتغير عليه كل أمر وحال، وذهب عنه منعطفاً ما بيده من ملك ومال، ونفر عنه كل أسد أصلى للحرب ناراً حامية لما سطا على " كل " حام وصال، ورجع عنه لسوء تدبيره كل ذي قرابة حين لمع له بالأماني الكاذبة كل سراب وآل، وتمزقت شقق تدبيره على منوال تفكيره سدى ولحمه فلم يبق له من دون الله وال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 ذكر ما صنعه بير محمد من حيلة عادت عليه بأفكاره الوبيلة، لأن جدواها كانت قليلة ولما عدم حوله، أخذ في إعمال الحيلة، فاستدعى عدة مضبوطة، من الجلود المحطوطة المجادة الدباغ، المصبوغة بألوان الأصباغ، ثم فصلها لبوسا، لكل بوسى، وسمر عليها المرايا المصقولة، وبعض صفاح معمولة، وموهها وأحكمها بالمسامير، وأحضر من سوقة بلده رءوس الجماهير، واستكثر الرعاع والهمج الجموع، ثم أحضر تلك الدلاص والدروع، ووزع على تلك الرءوس والظهور هاتيك النطوع، فصار كلما صارت الشمس بازغة، أصعد إلى الأسوار، وخارج البلد تلك الأسود وعليهم تلك الدروع السابغة فإذا رآهم الناظر من بعيد، توهمهم رجالاً ولم يعلم أنهم بندق العيد، وإذا تراءى ذلك الهباء، والخيثعور الذي ملأ الفضاء، كان " كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء " واستمر على ذلك مدة يقاسي المعاناة ويعاني الشدة، وكان الذي " تعاطى " هذا المكر الجلي، دستور مملكته أعني بير علي، ومع ذلك كله لم تنفعه هذه الحيلة، وعادت عليه أفكاره الوخيمة، ووساوسه الوبيلة، وانكشف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 سره، وانهتك ستره، فضاق ذرعاً وقصر منه باع المجال، ومد بنقص عدده وعدده وزاده الدهرالنكال ذكر اعتراف بير محمد أنه ظلم وطلبه الصلح وإلقائه السلم فبسط بساط التضرع، وطلب وسائط التشفع، وعلم أنه لا عاصم من أمر الله إلا من رحم، فناشد خليل سلطان الله والرحم، وقال معنى ما قلت يعطي الكريم ولا يمل من العطا ... والعفو شيمته إذا وقع الخطا فأجاب خليل سلطان مقاصده، وتأكدت من الطرفين معاقدة المعاهدة، بأن لا يقصد أحد منهم بلاد صاحبه، وإذا كان الله تعالى رفعه فلا يضع من جانبه، ويسلم إليه ما في يده، ويبقى على الود والصداقة في يومه وغده، ثم تحالفا أن لا يتخالفا، وتواثقا أن يتوافقا، وتصادقا أن يتصادقا، وتفارقا على أن يترافقا، وتوافقا على أن لا يتنافقا، وراقبا الآل والذمة، وراعيا القرابة والحرمة، وانشمر كل عن صاحبه بما معه من فئة وذلك سنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 تسع وثمانمائة ذكر مخالفة ونكد، وقعت بين بير علي وبير محمد أزاحت ثوب الحياة عنهما، وأراحت مخاليفهما منهما ولما وصل بير محمد إلى وطنه، واستقر بين خدمه وسكنه، خرج عليه بير علي تاز، واستقل بدعوى الملك وامتاز، ثم قبض عليه وكبله، ثم إنه خذله وجدله، وشرع يقول، وهو يصول ويجول أمور الدنيا اضطربت، وأشراط الساعة اقتربت، وهذه دولة الدجالين، وأوان تغلب الكذابين والمحتالين، مضى تيمور وهو الدجال الأعرج، وهذا زمان الدجال الأقرع، وسيأتي بعد هذا الدجال الأعور وإن كان أحد يجزع من قرع باب السلطنة فأنا أقرع، فلم يجب أحد من الرءوس والأذناب سؤاله، ولا أنعم له بما أقر عينه وأنعم باله، إذ لم يوجد في تناول هذا الأمر المحظور أمر مبيح، ولم يكن لذلك الوغد في سهام الملك غير المنيح والسفيح، فدعا أرباب ممالكها تضرعاً وخيفة، فكشر كل في وجهه أنيابه وجاذبه هذه الجيفة، فلم يبق له قرار ولا ثبات، فسل يده ومد رجله صوب صاحب هراة، فبمجرد وقوعه عنده في شرك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 الاقتناص، قبض عليه وأجرى عليه أحكام القصاص، وصفت له ممالك قندهار، من غير مضارب ولا مضار، واستراح خليل سلطان أيضاً من الأنكاد والمضار ذكر حوادث الزمان في غيبة خليل سلطان وفي هذه السنة بادرت بالهجوم، تتار الروم، وواصلوا العزم، وقطعوا جيحون بالرجل وههو جمد من خوارزم، وقصدوا بلادهم، فتصدى لهم من كل جانب من شتتهم وأبادهم، وحصل لهم من عدم الاتفاق، ما حصل لعساكر العراق، وأيضاً في غيبة السلطان خليل، واشتغاله بهذا السفر الطويل، اغتنم الفرصة خدايداد وشيخ نور الدين، فتوجهوا إلى سمرقند مطمئنين، وأخنوا عليها، ونهبوا ما حواليها، فتحصنت منهم، وترفعت عنهم، فنهبوا خارجها ورجعوا، ونحو بلادهم انقلعوا ذكر تجريد خليل سلطان الأجناد وتوجهه إلى شيخ نور الدين وخدايداد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 ولما رجع خليل إلى سمرقنده، أراح طوائف عسكره وجنده، ثم دعا أصحابه، ووجه نحوهما ركابه، وهيأ أنصاره وأطلابه، وسار بتلك القبائل المضطرمة، والأسود الحوادر والفحول المغتلمة، واستمر ذلك الطود الركون بين حركة وسكون، حتى وصل إلى سيحون، وحين شرع ذلك الطور، والنار ذات النور، على نهر سيحون في العبور، رأيت البحر المسجور، فأذعن له شاه رخية وخجند، وتحصنت منه تاكشند، فتوجه لحصارها، وعزم على هدم أحجارها، فبعد أن حاصرها مدة، وأذاقها لباس الجوع والشدة، لجأت إلى طلب الأمان، وسلمت إليه قياد الإذعان، فأجاب سؤالها، ورقح بالصلح حالها، ثم قفى آثارهما، طالباً دمارهما ذكر إيقاد شيخ نور الدين وخدايداد، نارا ً للخليل ليحرقاه، فأطفأها الله تعالى ووقاه وكان خدايداد وشيخ نور الدين يحومان حول الحمى، ويترقبان من فرص النهب والسلب معاني عسى ولعلما، فتوجه وراءهما، ورام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 لقاءهما، فجعلا يرحلان بمرأى منه ومسمع، وينزلان بمأمل فيهما ومطمع، وجعل يقتفيهما في كل منزل، فإذا رحلا يتبع قفاهما وينزل، وكان خليل سلطان معتمداً على عسكره، مستيقناً بحلول نصره وظفره فكأنه في بعض الليالي غفل عن التحرس، وكان لهم في جيشه من دأبه التجسس والتحسس، فخيبه الظن وخانه، وحط على مكان يسمى شرابخانه، وكان قد تقدم على الثقل، فطار جاسوسهما إليهما بما فعل، فأقبلا كالسيل، وبيتاه بالليل، فجرح من عسكره جماعة، وكأنما قامت القيامة في تلك الساعة، ثم تركاه وردا، وفرا عنه وندا، وتشتتا في المهامه والموامي، ومن أين للسلطان اقتناص الحرامي؟ فكف عنهما عنان الطلب، وقصد بالسلامة دياره وانقلب ذكر مفارقة شيخ نور الدين خدايداد وتقاسمهما تلك البلاد ولما كانت مودة خدايداد وشيخ نور الدين كالجرة الفخار، وأساس ما بينهما من الصداقة كمن أسس بنيانه على شفا جرف هار، اختلفا وما ائتلفا، وتجاذبا شقة الشقاق، ونفق في تبايعهما بضائع النفاق " ولم يعلم أحد من راق، وظن أنه الفراق " فقهقر شيخ نور الدين نحو سغناق، واستولى على تلك الأطراف والآفاق ذكر رجوع شيخ نور الدين إلى الاعتذار والتنصل عند خليله مما كان منه وصار ثم أرسل شيخ نور الدين إلى خليل سلطان، واعتذر عما صدر منه من العصيان، وطلب منه أن يقابل إساءته بالإحسان، ويرجع إليه عوائد صدقاته كما كان، فأجابه إلى سؤاله وأسبل على سوءه جرمه ذيل النسيان، وأرسل إليه امرأة جده تومان " فصل " ولم يزل على الوفاق، وشق شقة الشقاق، مرتبقاً ربقة الرفاق، حتى وقع خليل سلطان في الرباق، وصفا لشاه رخ " ملك " سمرقند وراق، توجه إليه شاه ملك مظهراً الصلح ومضمراً النفاق، واستنزله بالمكر من قلعة سغناق، بعد أن أحكما العهد والميثاق، ووقع بينهما الاتفاق، أن يتلاقيا ركبانا، ويتباثا الأشواق، بعد السلام والاستلام والعناق وكان في جماعة شاه ملك شخص يدعى أرغوداق، ثم أقبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 شاه ملك بجماعته، ونزل شيخ نور الدين من قلعته، وسار شاه ملك وحده، من غير عدة وعدة، وتعانق هو وذلك المغرور، وبثه ما نابه في غيبته من أمور، وسرور وشرور، فأكد عليه الميثاق والعهد، ووصى كل منهما ما يفعل الآخر من بعد، ثم ودعه وانصرف واتصل بجماعته ووقف، وسارع كل من جماعته بمفرده، إلى مصافحة شيخ نور الدين وتقبيل يده، حتى أفضت النوبة إلى أرغوداق، فتوجه بما أضمره من الخداع والنفاق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 وكان في الشجاعة أسداً، وكالفيل قوة وجسدا، فوصل إليه، وقبل يديه، ثم التزمه عناقا، وأحكمه اعتناقا، فاقتلعه من سرجه، وأهبط نجمه من برجه، وقطع رأسه، وفجع به ناسه ولما سمع بذلك شاه رخ طفق يندب ويصرخ، ولعن شاه ملك ونهره، وضرب أرغوداق وشهره، لكن ما أمكنه وصل ما قطعاه، ولا غرس ما قلعاه، كما قيل وليس لما تطوى المنية ناشر واستمر مدة لا ينظر إليهما، ثم بعد ذلك رضي عليهما، واستمر خدايداد متشبثاً بأذيال العناد، مشركاً بين العتو والفساد، غير مسلم إلى الصلح القياد، إلى أن أباره الدهر وأباد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 وسنذكر كيف جاد بإعدامه وأجاد ذكر مر أمر خليل سلطان ببناء ترمذ التي خربها جنكيز خان، وتجهيزه العساكر لهذا الشأن ثم في شهر صفر سنة عشر وثمانمائة، أرسل خليل سلطان من الجنود فئة، وأضافهم إلى ألله داد، وضم إليهم من رءوس الأجناد إلياس خواجه وابن قماري منصور، وتوكل قرقرا ودولت تيمور، إلى ترمذ مع آخرين، ليعمروها فاستمروا سائرين، حتى وصلوا إلى ترمذ، فجمعوا في الحال احتياجاتهم من الأحجار والأخشاب والقرمد، ثم تقاسمت تلك الرءوس أبدانها، وعلوا عن أن يتسوروا قلة أسوارها وحيطانها، وجعلوا يعملون ولا يلبثون، ويبنون بكل ريع منها آية يعبثون، وتركوا بالنهار أكلاً وبالليل نوماً، فأتموا بنيانها في نحو خمسة عشر يوماً، وحين ميزوا محلاتها وفرزوا دروبها وطرقاتها، ورفعوا أعلام مساجدها ومناراتها وبينوا مواضع أسواقها وأبياتها، أمروا الباقين من ذرية النازحين عنها من أهلها، وكل من رحل من خراب وعرها إلى عمران سهلها، أن يرجعوا إليها، ويخيموا عليها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 وكان أولئك المساكين، قد استوطنوا منها البساتين، وبنوا فيها أسواقهم وبيوتهم، وجمعوا فيها أسباب معايشهم وقوتهم، واستمر ذلك من وقت جنكيز خان، إلى وقت تيمور كوركان، فكانوا في وطنهم آمنين، وعن حركات الانزعاج والتقلقل ساكنين فلم مات تيمور، وحدث شرور وأمور، أراد خليل سلطان أن يصونهم، فأرسل من شيد حصونهم، وكانت الجديدة عن العتيقة نحواً من فرسخ، فصارت العتيقة أحصن من الجديدة وأرسخ، لا سيما وقد علا البانون منارها، ونهر جيحون يصافح أقدام طود حمل أسوارها، بخلاف الجديدة، فإن قصور مساكنها غير مشيدة، وهي عن النهر بعيدة فلما نادوا الناس أن ادخلوا إلى دار قراركم، فكأنهم كتبوا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم، فلم يثقل الله داد عليهم، ولا كرب في ذلك ولا التفت إليهم، ولم يظهر في ذلك عنادا، ولكنه حشر فنادى، أن كل من سبقت يده من أهل البلد، إلى شيء من هذه الأماكن والعمائر الجدد فهو له من غير منازع، ولا ممانع ولا مدافع ثم أمر بانتقال الخبازين والقصابين، والطباخين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 والسمانين، وميز لهم منزلهم ومأواهم، ولم يتعرض لمن سواهم، فجعلوا يبيعون على العساكر ويشترون، ويربحون في ذلك ولا يخسرون، فاختل نظام سائر الجمع، إذ الإنسان مدني بالطبع، فألجأهم الاضطرار، أن يتبعوهم بالاختيار، فتفقد ما يليق به من أحوال كل من كبيرهم وصغيرهم، وقرر على ما اقتضته أوامره قواعد أمورهم، ثم جمع رءوس جنده، وقفل إلى سمرقنده ذكر ما فعله شاه رخ من جهة خراسان في مقابلة ما فعله خليل سلطان ولما سمع شاه رخ بما فعله خليل سلطان، جهز طائفة من عساكر خراسان، وجعل يمد ذلك السحاب المنجاب، من بحر أمر أمير يدعى مرزاب، وهو أخو جهان شاه، الذي كان تيمور على محاصرة قلعة دمشق ولاه، وأمر رءوس تلك الجنود، أن يبنوا قلعة تسمى حصن الهنود، وهي من أقصى بلاد خراسان، يفصل بينها وبين ترمذ نهر جيحان، ففعلت من البناء العساكر الخراسانية، نحو ما أعربت عنه العساكر الخليلية السلطانية، وفي أثناء مدة البناء، تراسل الله داد ومرزاب وتصافيا، وتواصلا بالاحتشام والاحترام وتهاديا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 إشارة إلى ما حدث في أقاليم إيران وما جرى من سيول الدماء عند نضوب ذلك الطوفان ثم إن السلطان أحمد وقرا يوسف رجعا إلى العراق، ووقع بينهما على سياسة الملك الاتفاق، واستقر السلطان أحمد في بغداد، ووثب قرا يوسف على الجغتاي بالعناد، ليستخلص منهم " ما استولوا عليه من " بلاد، وكتب الفتح على راياته آيات نصر من الله، فاستخلص ممالك أذربيجان بعد أن أباد طوائفهم وقتل أميران شاه ومد عنان الكلام، في استيفاء هذا المقام، يخرجنا عما نحن بصدده من المرام " إلى أن وقع بينهما الشقاق، وتخبطت أذربيجان والعراق، ثم قتل قرا يوسف السلطان أحمد بإشارة بسطام، وذلك في شهور سنة ثلاث عشرة وثمانمائة من هجرة النبي عليه السلام " وأما عراق العجم، فإنها كانت أحصن أجم، فاستقل بدعوى الملك متوليها بير عمر، فنهض عليه ذو قرابة له يدعى اسكندر، فقابله وكسره، ثم قبض عليه وهصره، واستقل بدعواه، فتوجه إلى شاه رخ صاحب هراة، فقبض عليه وأباده، وفجع به أهله وأولاده، واستصفى بلاده، فخلصت لشاه رخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 ممالك العجم كلها، وانثال إلى خزائنه من أموالها وابلها وطلها، من غير أن يعاني في ذلك نصبا، أو يقاسي في تحصيله تعباً ووصبا مع أن مملكته كانت أوسط الممالك، فلم يتطرق له أحد بسوء لذلك، وأنه كان حسن الجوار قليل الحركة، وأبوه قد حسم عنه بقتله ملوك العجم مادة " كل " شر وهلكه، فثبت في مكانه بين أسود شمخت ونبت، وكبت ماله من أعداء بما له من أصدقاء وثبت، فاهتزت أراضي دولته بنبات الثبات وربت، وكأن عيون السعد كانت تراقبه، وعرائس الملك تناجيه وتخاطبه، بقوله نزه فؤادك عن سوانا والقنا ... فجنابنا حل لكل منزه والصبر طلسم لكنز وصالنا ... من حل ذا الطلسم فاز بكنزه ذكر خروج الناس من الحصر وطلبهم أوطانهم مما وراء النهر وفي أثناء هذه الحالات، قصد الناس من سمرقند التبدد والشتات، وطلب كل غريب وطنه، وتحرك يبغي سكنه وقطنه، إما بإجازة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 واحتما، وإما بهزيمة واختفا، فأول من استجاز من أهل الشام ورام المسير شهاب الدين أحمد بن الشهيد وزير، ثم تفرقت الطوائف عجماً وعرباً وتبددوا في الآفاق شرقا وغربا، ووقع في سمرقند القحط وغلاء الأسعار، ولم يرخص بين الناس سوى الدرهم والدينار، ثم حصل بعد ذلك الرفاهية، واجتمع للناس الرخاء والأمنية، وطاب الزمان، وحصل الأمان، وذهب المقت، وصفا الوقت وعند صفو الليالي يحدث الكدر ذكر ما أثار الزمان الغدار من دمار وبوار، ألقى به الخليل في النار وكان خليل سلطان، تزوج بشاد ملك زوج سيف الدين الأمير، وملكه سلطان هواها فكان فيه كالأسير، فمال بكل جوانحه إليها، بحيث أنه قصر نظره عليها، وصارت محبته كل يوم تزداد، وأنست قصته قضية قيس وليلى وشيرين وفرهاد، فكان كما قيل أعانقها والنفس بعد مشوقة ... إليها وهل بعد العناق تدان وألثم فاهاكي تزول صبابتي ... فيشتد ما ألقى من الهيمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 كأن فؤادي ليس يهدا الذي به ... إلى أن يرى الروحين يجتمعان واستمر ذلك إلى أن ران هواها على قلبه، وأخذ بمجامع لبه، وربط جوارحه، وحل جوانحه، وفصل قميصاً واسعاً فكانا يلبسانه، واتحدا فصار ينطق بلسانها وتنطق بلسانه، وصارا ينشدان، وإلى حالهما يرشدان أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا بل كانت القضية بالعكس قلت إنما كان بروح نفخت ... مذ براها ربها في بدنين فكان لا يصدر أمراً إلا عن رأيها، ولا يستضيء في سياسة الملك إلا بآرائها فسلمها قياده، واتبع مرادها مراده وهذا من غاية البله والعته، وكيف يفلح من ملك قياده امرأة وكان لها خادم قديم، ليس من بني الأحرار ولا بكريم، بل كان من أطراف الناس، يبيع في أول أمره البز والكرباس، يدعى بابا ترمش، بطرف معمش، ووجه منمش، وصورة قبيحة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 وسيرة غير مليحة، وكان يتقاضى حوائجها ويدخل عليها، قبل وصول خليل سلطان إليها فلما وصلت مخدومته إلى ما وصلت، وحصلت لها المرتبة التي لغيرها ما حصلت، ارتفعت درجت خدمها، وزادت حشمة حشمها، فاستفاد بابا ترمش من إضافة إليها التعظيم، وبحسب كرامة المخدوم يحصل للخادم التكريم، فصار يرأس جماعتها ويسوسهم، وبمجالستها تحلى بخلعة " هم القوم لا يشقى جليسهم " ثم ترقى حتى صار عليه مدار أمرها، ثم تخطت قدمه إلى التكلم في أسباب الملك وغيرها، ثم تدرج إلى فصل المحاكمات الديوانية، وإجراء القضايا السلطانية، ثم ترفع إلى التولية والعزل، وتعاطي ذلك على سبيل الجد لا الهزل، وانتهى في ذلك، فصار دستور الممالك، ولم يقدر أحد على رد كلمته، لحدة شوكته بقوة مخدومته، فبسط يده ولسانه كما اختار، وامتثل كل أحد ما أمر به وأشار، واستطال على ألله داد وأرغون شاه، فصار يبرم ما ينقضانه وينقض ما أبرماه، وبلغ في قلة الأدب إلى أن كان يمد رجله بحضرتهما، ولا يقوم بذرة من واجب حرمتهما، ثم حجر أن لا تفصل قضية إلا بمشورته، وإن كان غائباً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 فينتظر حضوره أو يتوجه إلى حضرته ومن حين نبغ، إلى أن بلغ ما بلغ، كان نحواً من ثلاث سنين، وعفاريت الجغتاي وجهنم لابثون " معه " في العذاب المهين، فحصل لألله داد وأرغون شاه من هذا التدرج، غاية التضرر ونهاية التحرج، وبلغا الغية في الإهانة والنكاية، وأعضل داؤهما، وأعجز دواؤهما، واستلذا ذهاب العيش وزواله، على البقاء في هذه الحالة ذكر ما افتكره ألله داد، ودبره في مراسلة خدايداد ثم إن ألله داد استعمل فكره، ولكن أخطأت استه الحفرة، فطبخ قدراً فانقلبت عليه، ونسج كدود القز شبكة حتفه بيديه قلت إذا انعكس الزمان على لبيب ... يحسن رأيه ما كان قبحا يعاني كل أمر ليس يعني ... ويفسد ما رآه الناس صلحا فلم يجدا لتبريد الأكباد، إلا مراسلة خدايداد، فجليا عليه صورة هذه البلية، وأخبراه بها عن وضوح وجلية، وأشار عليه بأن يتوجه بأمل فسيح، ويقصد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 بعساكره سمرقند وخاطره مستريح، فنهض من ساعته، وتوجه بجيشه وجماعته، ودب دبيب الدبى، فوصل إلى مكان يدعى أورتابا، فلما سمع بذلك خليل سلطان، أرسل إلى الجنود والأعوان، وتعجب من وقاحته، وتعوذ من كلاحته، وجهز ألله داد وأرغون شاه، مع العساكر الجرارة للملاقاة فسارا حتى دانياه، فقابلاه وما قاتلاه، ثم أرسلا إلى خليل سلطان، يستدعيان المدد ويقولان إن هذا الرجل بلغ من ملاحاته، وشدة دعارته وقلة مبالاته، أنه لم يتزعزع من مناخه، ولا دخل ريح هيبتنا من صماخه، فأمدهما بباقي العسكر، وجعل يتشوف لما يكون من الخبر، فأرسلا أيضاً أن هذا، قد آذى، وزاد فسادا، وجارى في عدوانه ثمودا وعادا، فأمدنا بنفسك، وأدركنا بحدسك وحسك، فإن هيبتك أقوى، وطلعتك أضوى، وما ارتكب هذه الجرأة، ولا أقدم على هذه الجيئة، إلا وقد أضمر شراً كبيراً، وطوى في باطنه قاراً وقيراً، فأدركنا بباقي المقاتلة، فإن هذه المرة تكون الفاصلة فخرج خليل سلطان بقلب مطمئن، وخاطر عن حلول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 الحوادث مستكن، وأمل فسح، وصدر منشرح، معجباً بشبابه، مغرماً بأصحابه، متمايلاً بين أحبابه، متهادياً بين أترابه، في شرذمة قليلة، وطائفة نبيلة، أبعد ما عنده نزول هم، وأشرد ما لديه حلول نكد وغم، يفديه الكمال، ويناديه لسان الجمال بقوله ته دلالاً فأنت أهل لذاكا ... وتحكم فالحسن قد أعطاكا فوصل بتلك العصابة السلطانية، إلى قصبة تسمى سلطانية، فأرسل ألله داد، إلى خدايداد أن الركاب السلطاني، خرج من سمرقند في اليوم الفلاني، وفي الساعة الفلانية، يحل كورة سلطانية ذكر ما قصده خدايداد من الكيد ووقوع خليل سلطان في قنص الصيد فقصد خدايداد المخاتلة، وترك ثقله مقابل المقاتلة، ونبذ العساكر وراء ظهره، وتأبط شر شرارة، وهراوة هره، واستصحب من أبطال القتال، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 ورجال النضال والنزال، طائفة، جاسرة غير خائفة رزان إذا لاقوا خفاف إذا دعوا ... كثير إذا شدوا قليل إذا عدوا والتحف ذيل الليل، ولطأ بظهر الخيل، واستطرق إلى مطلوبه طريقاً عوجاً، واستقود إلى مقصوده قواد الدجى، كما قيل لا تلق إلا بليل من تواصله ... فالشمس نمامه والليل قواد حتى وصل إلى سلطانية، وهي قصبة أنشأها تيمور، ولم يكن لأحد به شعور، فلم يفجأ خليل سلطان، إلا وقد جاءه موج البلاء من كل مكان، فنهض كل من معه من الأصحاب، وأخذوا في الحرب والطعن والضراب، وقاتلوا قتال الموت، وأيقنوا حلول الفوت، فعضت عليهم الحرب العضوض، وطرحتهم ما بين مهشوم وموقوذ ومرضوض، فقتل حقيرهم وجليلهم، ووقع في نار عدوهم حبيبهم وخليلهم، ثم رجع خدايداد إلى معسكره، فائزاً بنجحه مستبشراً بظفره " فصل " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 ثم إن خدايداد حلف لخليل سلطان، بأشد ما يكون وأبلغ من أنواع الأيمان أنه لا يقصده بأذى، ولا يرمي في عين معيشته بخيال قذى، ولا يؤذيه بقول ولا عمل، ولا يسلط عليه من يؤذيه بمكر ودخل، وسيرى نتيجة ما حلف، وأن الله تعالى عفا عما سلف " فصل " ثم التمس منه أن يرسل إلى ألله داد، فمن دونه من الأجناد، أن يستسلموا لخدايداد، وأرسل خدايداد أيضاً إلى الناس، بأني قد استوليت منكم على الراس، فإن أطعتموني أطعته، وإن لم تصلوني قطعته ولما وقع خليل سلطان بهذا الكرب، تصور أن هذا سهم غرب، ثم ظهر له مكان ذلك المكمن، وتحقق كيف أخذ من المأمن، وعلم من أين صب ذلك البلاء عليه، وأنى أخذ من ذلك الجانب الذي يأمن إليه، فقال بلسان الحال جزى الله عنا الخير من ليس بيننا ... ولا بينه ود ولا نتعارف فما سامنا خسفاً ولا شفنا أذى ... من الناس إلا من نود ونألف ثم أرسل إلى سائر الأمراء، ورؤساء الجيش والوزراء، أن يستسلموا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 لخدايداد ولا ينازعوه، ولا يدافعوه فيما يريد ولا يمانعوه، فاستسلم الكل إليه، واستقبل ذراه وسلم عليه، فاستولى على تلك الجنود المجندة، وتحصن من غوائل المخاتلة بالرماح المسددة والسيوف المهندة، وقدم جنود جند وخجند، وأغتام تركستان وطغام أوزجند، وآخر من سوى أولئك وتقدم إلى سمرقند، ولم يلتفت إلى ألله داد فمن دونه، وتحقق ألله داد أن صفقته في ذلك مغبونة، فسلخ الزمان عنه ما كان ألبسه من ثوب عز وسلب، وفر من بين يديه ما كان فيه من جاه ومال وذهب، وكان قيام ذلك الحشر، في سنة ثمانمائة واثنتي عشر ذكر ما جرى من الفساد بسمرقند عند قدوم خدايداد فوصل خدايداد إلى سمرقند ودخل، فتغيرت تلك الرسوم والدول، وكأنه ظهر اختلاف الملل والنحل، وكان له ابن عم يدعى ألله داد، فدعاه بالسلطان على رءوس الأشهاد، وتفحص عن مكامن الخزائن، ونقب في أطوادها عن الفلزات والمعادن، ونقر عن مضمرات الضمار وبحث عن الخبايا والدفائن، وتغيرت الأوضاع، وتبدلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 بالفظاظة رقاق الطباع، وصاروا كما قيل أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها وتنكرت الصفات حتى كأنما تحولت الذوات، أو بدلت الأرض غير الأرض والسموات وتنكرت أرض الغوير فلم يكن ... ذاك الغوير ولا النقا ذاك النقا ذكر بلوغ هذه الأمور شاه رخ بن تيمور وتلافيه تلك الحوادث وحسمه مادة هذه العوابث ولما اتصل بشاه رخ هذا الخبر عبس وبسر، وتضجر وزمجر، وازور " وازبأر، وكشر " واكفهر، وتغير وجهه وتمعر واستغاث وتقلق، وولول واسترجع وحولق، وتحرق وتنكد وتأوه وأنشد لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى سامها كل مفلس ثم طير بطائق مراسيمه كل مطير، إلى أطراف ممالكه بجمع العسكر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 وأمر شاه ملك، أن يسير غير مرتبك، ويستديم السير، ويسابق بعتاقه عتاق الطير، فيتدارك ما انفرط من النظام، ويطارد عن ورد المملكة الأغتام الطغام، فلا يدع رائدهم أن يحل ويعاجل مستعجل قدرهم أن يمل فسار شاه ملك في الحال، بعساكره في المدد كالجبال، وفي العدد كالرمال، ثم اتبعه شاه رخ بسائر الأساورة، وكواسر الأكاسرة، سار لا يلوي على أحد، ولا يسكن في حركته إلى طالع ولا رصد، فحين وصلوا جيحون وعبروه، غطوا وجهه وستروه، فانبسط ذلك السيل على وجه الماء، فكأن البحر غطى بالغمام المتراكب وغرق في بحر الحياء " فصل " ولما قطع البحر تلك الأطواد، واتصل الخبر بخدايداد، تيقن أنه لا طاقة لدبابه وقروده، بذئاب جنود شاه رخ وأسوده، وأن جل عساكره يفر عنه ويسلمه، أو يقبض عليه ولشاه رخ يسلمه، فأسرع في تنجيز مآربه، وبادر إلى تجهيز مطالبه، وأخذ ما وصلت يده إليه من أموال، وأوسق ما بلغت طاقته من نفائس وأحمال، واستصحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 خليل سلطان، وتوجه إلى أندكان، وأودع ألله داد وأرغون شاه بابا ترمش في القلعة، وأنف أن يستصحب أحداً منهم معه، وترك شاد ملك أيضاً في المدينة، بفراق خليلها رهينة، ويسلب ما كان فيه من العز مهينة ذكر ما جرى بسمرقند بعد خروج الجنود الجندية وقبل وصول الشواهين الشاه رخية ثم لما رحل خدايداد وانفصل، ولم يكن أحد من جهة شاه رخ وصل، وما كان للناس، ظهر ولا رأس، أراد ألله داد وأرغون شاه، أن يتوجها إلى شاه رخ ويستقبلاه، فرفع خواجة عبد الأول عليهما يده، وأقام لمنعهما عن الخروج من القلعة رصده، واستعان بشطار المدينة، وكان ألله داد قبل ذلك أنكاه نكاية أورثته ضغينة من يزرع الشوك لا يحصد به عنباً فلم يختلف في رياسته اثنان، ولا انتطح فيما يأمرهم به عنزان، وصارت إشارته الآمرة الناهية، وجداول مراسيمه فيما بين الناس جارية، وأوامره المطاعة في تلك الأيام الخالية والعلم يرفع كل من لم يرفع ولم يزل خواجه عبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 الأول يسوس الرعية، ويوصي على ألله داد ورفيقه ومن معهم ويشدد مضايق القضية، إلى أن طلعت طلائع شاه ملك وأعقبها العساكر الشاه رخية ذكر بدور " بدور " الدولة الشاه رخية في سماء ممالك ما وراء النهر بعد غروب شمس النوبة الخليلية فخرج أهل المدينة لاستقباله، مستبشرين برؤية جبين هلاله، فنزل كل أحد في منزلته، ووضع كل من الناس في مرتبته، ثم قبض على ألله داد ورفيقيه وعاقبهم بأنواع العقاب، وصنف في تعذيبهم واستخلاص الأموال منهم أنواع العذاب، ثم قتلهم صبراً ونقلهم من الدنيا إلى الأخرى، إلا بابا ترمش فإنهم عاقبوه، وبأنواع العذاب ألهبوه، ففي بعض الأيام، وقد أنكت فيه من العذاب الآلام، أخذ الموكلين عليه ليطلعهم على قضية، أو يذهب بهم إلى خبية، فمروا به وهو في قيد وثيق، على حوض ماء عريض عميق، فاستل من قراب أيديهم عضب يده الدلق، ورمى بنفسه " وزج " في ذلك الماء على غفلة فغرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 " فصل " ثم إن شاه رخ زار أباه، وأقام شرائط عزاه، وجدد ترتيب القراء على تربته والقومة، واستأنف معاليم المرتبين في ذلك والخدمة، ونقل إلى خزائنه جل ما كان على حفرته، من أقمشته وأمتعته وأسحلته، وعفر بيادر الخزائن، وحفر تخوم تلك الكمائن، وشرع في تمهيد القواعد، وترتيب مراتب الأقارب والأباعد " فصل " وقبضوا على شاد ملك وأهانوها، وشانوها ابتذالاً لمن صانوها، وعصبوها بالعذاب عصب السلمة، وهزوها لاستخراج الأموال منها هزات أعوان الظلمة، ثم بعد ذلك الابتذال، واستخلاصهم منها أنواع الأموال، حزموها وشددوا منها الوثاق، وشهروها منادين عليها في الأسواق، واستقرت على شاه رخ الأمور، وارتفعت صدور وانقصمت ظهور، وعلا إنسان وانحط إنسان، فسبحان من هو كل يوم في شان، عز شأنه، وتعالى سلطانه، يغير الدول، ويقلب الأحوال، ولا يعتري سلطانه تغير ولا انتقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 ذكر ما قصده خدايداد من إتمام النكد والفساد وكيف آل ذلك إلى النكال إلى أن جرى عليه الوبال وأما خدايداد فحين حل في مكانه، وخلا بخليل سلطانه في أندكانه، جدد معه عهوده ومواثقه، أنه آمنه مكره وبوائقه، وذكر أن ذلك النكال والنكاد، إنما فعله معه أرغون شاه وألله داد، مع إحسانه إليهم، وإسبال ذيل إنعامه عليهم، وأنهم كافئوه مكافأة التمساح، وقابلوا بإفساده منهم الإصلاح ثم قال اذكر صنيعك معي أولاً وظاهراً وانظر ما أفعله معك باطناً وآخراً، وسأفعل معك ما يتحقق به خلوص الطوية، وصدق النية، بحيث يذهب الكدر ويبقى الصفا، وينمحي الجفا ويثبت الوفا، ونعيش باقي عمرنا متصافين، وفي رياض الهنا متوافيين متكافئين " فنمحوا بما نكتب في ألواح صدورنا من المحبة والشفقة مساطير الأساطير المكتتبة في باب الحمامة المطوقة " وسأردك إن شاء الله تعالى إلى دار عزتك، وأجتهد في تحصيل ما يعيدك إلى نشاطك وهزتك، ثم خطب باسمه في أندكان، وأمر بذلك في أطراف تركستان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 تتمة ما جرى من خليل وخدايداد من المعاقدات، وتأكيد العهود والمودات، إلى أن أدركهما هادم اللذات ثم تأكدت بينهما وثائق الأيمان، وذهب خدايداد يستمد المغول لخليل سلطان، وترك خليل سلطان بأندكان، وكان المغول، لما بلغهم موت تيمور المخذول، سلبوا قرارهم، وأخلوا ديارهم، ولجأوا إلى الحصون، وتشبثوا بأذيال كل كهف مصون، كما ذكر أولاً، فلما تحققوا موته، واستثبتوا فوته، تنادوا بالأمن والأمان، وجاوروا خدايداد في ذلك المكان، وأرسلوا يهنئون خليل سلطان، وبعثوا إليه هدايا سنية، وتحفاً فاخرة ملوكية، من جملتها كرسي من ذهب، أفرغه صائغه في قالب العجب، فأكرم خليل سلطان رسلهم، وأعظم نزلهم، وأجمل معهم جواراً وأجراً، وجازاهم بكل حسنة عشراً الخير أبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد ولا زالت خلعة المودة بينهم تنتسج، ووجوه المكارمة والمحاشمة يوماً فيوماً تبتهج حتى عرى له ما عرى، وجرى عليه من بحر القضاء والقدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 ما جرى، فساعة وصول خدايداد إليهم قبضوا عليه وأرسلوا إلى خليل سلطان ينهون صورة الحال إليه وقالوا تعلم ما بيننا وبينك من خالص الوداد، وإنا عالمون بما وقع بينك وبين خدايداد، وأنه كان السبب في تبددك، وخروج ملكك من يدك وقد جاء يستمدنا لك، فارسم لنا ما بدا لك، فإن رسمت قتلناه وإن أشرت أمددناه، وفي الجملة مهما أمرتنا به امتثلناه فأرسل يقول قد علمتم كيف آذاني، ومزق عرضي وأخزاني، وأخرجني من ملكي وسلطاني، وغربني عن أهلي وإخواني، وأذلني إذ رأسني بمفارقة حبي وأوطاني، والآن فقد جعلني ترساً، يتقي بي الحوادث والبأسا، وقد عرفتم كيف يريد أن يتصرف، وعلى كل حال فالعارف لا يعرف، ومع هذا مهما رأيتم في ذلك من المصلحة فافعلوه، ففي الحال قطعوا رأسه وإليه أرسلوه ذكر عود خليل سلطان من ممالك أندكان وقصده عمه شاه رخ، ولعبه بالنفس مع ذلك البرخ واستمر خليل سلطان، في ذلك المكان، وأطراف تركستان، يرسل بالفارسي الأشعار الفراقية، وينشئ في حبيبته ما ينسي القصائد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 الزيدونية، ويذكر ما هو فيه من الغربة، وما جرى عليه من الفراق والكربة، فيصدع بذلك القلوب ويفتت الأكباد، إلى أن مل المقام في تلك البلاد، فنفض منها ذيله وضم رجله وخيله، وقصد عمه، وركب الطريق وأمه، فأكرم عمه مثواه، ولم يذكر له أخبار ما أنشاه، وضم إليه حبيبته، ولم إلى خليل خليلته، وقرر قاعدة ذلك الإقليم وشيده، وولى فيه أولوغ بك ولده وقفل إلى خراسان، مستصحباً معه خليل سلطان، ثم ولاه ممالك الري، فلم يقم بها إلا أدنى شيء، وانتقل إلى رحمة الله، وكأن عمه دس له شيئاً فسقاه، فدفن بمدينة الري، وطوى نشر ذلك الحاتم أي طي، وحين وقعت شاد ملك في هذا الخطب الجليل، واشتعلت أحشاؤها بنار الخليل، قالت لا ذقت فقدك ولا عشت بعدك، وأنت ورنت، وأنشدت وغنت كنت السواد لمقلتي ... فبكى عليك الناظر من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 ثم أخذت خنجراً فوضعته في لبتها، واتكأت عليه بقوتها، فنفذ من قفاها، وأحرقت بنارها كل من رآها، فدفنا في قبر واحد، وأمسى لسان حالهما ينشد أجارتنا إنا غريبان هاهنا ... وكل غريب للغريب نسيب وصفا لشاه رخ ممالك ما وراء النهر وخراسان، وخوارزم وجرجان، وعراق العجم ومازندران، وقندهار والهند وكرمان، وجميع بلاد العجم إلى حدود أذربيجان، وإلى يومنا هذا أعني سنة أربعين وثمانمائة، ونسأل الله تعالى حسن العاقبة بمنه ولطفه والحمد لله رب العالمين، " وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم " " فصل " في صفات تيمور البديعة وما جبل عليه من سجية وطبيعة وكان تيمور طويل النجاد، رفيع العماد، ذا قامة شاهقة، كأنه من بقايا العمالقة، عظيم الجبهة والرأس، شديد القوة والبأس، عجيب الكون، أبيض اللون، مشروباً بحمرة، غير مشوب بسمرة، فخيم الأطراف، عريض الأكتاف، غليظ الأصابع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 سميك الأكارع، مستكمل البنية، مسترسل اللحية، أشل، أعرج اليمناوين، عيناه كشمعتين غير زهراوين، جهير الصوت، لا يهاب الموت، قد ناهز الثمانين، وهو مع ذلك بجأش مكين، وبدن مستمسك متين، صلباً شهما، كأنه صخرة صما لا يحب المزاح والكذب، ولا يستميله اللهو واللعب، يعجبه الصدق، ولو كان فيه ما يسوءه، ولا يأسى على ما فات ولا يفرح بما يجيئه، وكان نقش خاتمه " راستي رستي "، يعني صدقت نجوت، وميسم دوابه وسرة سكته على الدرهم والدينار ثلاث حلق هكذا لا يجري غالباً في مجلسه شيء من الكلام الفاحش ولا سفك دم، ولا من سبي ونهب وغارة وهتك حرم، مقداماً شجاعاً مهيباً مطاعا، يحب الشجعان والأبطال، ويستفتح بهم أقفال الأهوال، ويفترس بهم أسود الرجال، ويستهدم بهم وبصدماتهم قلل الجبال، ذا أفكار مصيبة، وفراسات عجيبة، وسعد فائق، وجد موافق، وعزم بالثبات ناطق، ولدى الخطوب صادق قلت فكم قدحت آراؤه زند فتنة ... حمته لدى البأسا وأورت قبائلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 محجاجاً دراكا للمحة " واللمزة "، مرتاضاً مستيقظاً للرمزة، لا يخفى عليه تلبيس ملبس، ولا يتمشى عليه تدليس مدلس، يفرق بين المحق والمبطل بفراسته، ويدرك الناصح والغاش بدربة درايته، يكاد يهدي بأفكاره النجم الثاقب، ويستتبع بآراء فراسته سهم كل كوكب صائب قلت يشاهد أعقاب الأمور بعقله ... كما شاهد المحسوس بالعين ناظر إذا أمر بأمر أو أشار بشيء لا يرد عنه، ولا يثنى عنان عزيمته عن شيء منه، لئلا ينسب إلى قلة الثبات، وركاكة الرأي والحركات قلت إذا قال قولاً أو أشار إشارة ... ترى أمره في النص قاطعاً وكان يقال له في ألقابه صاحب قران الأقاليم السبعة وقهرمان الماء والطين، وقاهر الملوك والسلاطين يحكى أن قاضي القضاة ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون المالكي قاضي القضاة بمصر كان صاحب التاريخ العجيب، والسالك فيه الأسلوب الغريب، على من ذكر لي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 من رآه، واطلع على لفظه ومعناه، من الأذكياء المهرة، والأدباء البررة، مع أني لم أره، وكان قد قدم الشام، مع عساكر الإسلام، وحين ولت العساكر الأدبار، أنشبته في مخالب تيمور الأقدار، قال له في بعض مجالسه، وقد أنس بتوانسه بالله يا مولانا الأمير ناولني يدك وهي مفتاح فتوح الدنيا حتى أتشرف بتقبيلها وقال له أيضاً لما أراد أن يستصحبه معه، وقد سرد عليه شيئاً من تواريخ ملوك الغرب وكان تيمور مغرماً باقراء التواريخ واستماعها، فأعجبه ذلك غاية الإعجاب، " ورغب منه في الاستصحاب " يا مولانا الأمير مصر خرجت عن أن يتولى فيها نائب غيرك، أو أن يجري فيها غير أمرك، ولي فيك عوض عن طريفي وتلادي، وأهلي وأولادي ووطني وبلادي، وأصحابي وأخداني، وأقاربي وخلاني، وملوك الناس، وعن كل ظهر ورأس، بل وعن كل الورى، إذ كل الصيد في جوف الفرا، وما أتأسف ولا أتلهف، إلا على ما مضى من عمري، وانقضى من عصري، كيف تقضى ذلك في غير خدمتك، ولم تكتحل عيني بنور طلعتك؟ ولكن القضاء جاز، وسأستبدل الحقيقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 بالمجاز، وما أولاني أن أكرر على لساني، قوله جزاك الله عن ذا السعي خيراً ... ولكن جئت في الزمن الأخير فلأستأنفن في ذراك عمراً ثانياً، ولأعدن الزمان بإبعادي عن عدوتك عادياً، ولأتداركن ما مضى من عمري، بصرف ما بقي في خدمتك، والتشبث بغرزك، ولأحسبن ذلك أعز أوقاتي، وأعلى مقاماتي، وأشرف حالاتي ولكن ما يقصم ظهري، إلا كتبي التي أفنيت فيها عمري، وصرفت جواهر علومي في تصنيفها، وأظمأت نهاري وأسهرت ليلي في ترصيفها، وذكرت فيها تاريخ الدنيا من بدئها، وسير الملوك شرقيها وغربيها، ولأن ظفرت بها لأجعلنك واسطة عقدهم، وخلاصة نقدهم، ولأطرزن بسيرك خلع دهرهم، ولأصيرن دولتك هلال جبين عصرهم " إذ أنت أبو المقاحم، والبازغ بدر نصره في شرق الغرب من دياجير الملاحم، والمكاشف به على لسان كل ولي، والمشار إليه في الزوايج والجفر المنسوب إلى أمير المؤمنين علي، وصاحب القرآن المنتظر في آخر الزمان " وهي في القاهرة فلو حصلت عليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 ما فارقت ركابك، ولا هجرت أتعابك، والحمد لله الذي رزقني من يعرف قيمتي، ويحرز خدمتي، ولا يضيع حرمتي مع كلام فصيح صادع، بديع بليغ خالب خادع " فاهتزت فرحاً أعطافه، وتراقصت مرحاً أطرافه " وأعجبه ذلك وأغراه ميله إلى كتب التواريخ والسير، واستهواه حبه معرفة أحوال الملوك الذي ذكر، حتى شده عما خلبه، بسحر هذا البيان البديع وسلبه ثم إنه استوصفه بلاد الغرب وممالكها، واستوضحه أوضاعها ومسالكها، وقراها ودروبها، وقبائلها وشعوبها، كما هو دأبه وشأنه، والقصد في ذلك امتحانه، لأنه لم يكن محتاجاً ذلك، إذ في خزائن تصوره " صور " جميع الممالك، وإنما أراد بذلك معرفة مقدار علمه، وكيفية إبداء نصحه له وكتمه، فأملى كل ذلك من طرف لسانه، كأنه يشاهده وهو جالس في مكانه، وشرح تلك الأمور، كما في خاطر تيمور ثم قال له كيف تذكرني وبختنصر مع الملوك الأكابر؟ ولم ننل في النسب تلك المفاخر، وما نحن من يعاسيب النحل فأنى تعبينا مع الفحل؟ فقال أفعالكما البديعة أوصلتكما إلى تلك المنزلة الرفيعة فأعجبه هذا الكلام، وقال لجماعته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 اقتدوا به فإنه إمام ثم أخذ تيمور يخبر القاضي بما وقع في بلاده، وما جرى بين ملوك الغرب وأجناده، ولا زال يذكر له أخبار الناس حتى سرد عليه أخبار متعلقيه وأولاده، حتى تحير القاضي من إملائه، وقال إن الشيطان ليوحي إلى أوليائه ثم إن تيمور عاهد القاضي أن يتوجه إلى القاهرة، ويأخذ أهله وأولاده وكتبه الزاهرة، ولا يلبث أكثر من مسافة الطريق، ويرجع إليه بأمل فسيح وعهد نبيل الأماني وثيق، فتجهز إلى صفد، واستراح من ذلك النكد " فصل " وكان تيمور محباً للعلماء، مقرباً للسادات والشرفاء، يعز العلماء والفضلاء إعزازاً تاماً، ويقدمهم على كل أحد تقديماً عاماً، وينزل كلاً منهم منزلته، ويعرف له إكرامه وحرمته، وينبسط إليهم انبساطاً ممزوجاً بهيبته، ويبحث معهم بحثاً مندرجاً فيه الإنصاف والحشمة، لطفه مندمج في قهره، وعنفه مندرج في بره متفرق الطعمين مجتمع القوى ... فكأنه السراء والضراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 وقيل مر المذاق على أعدائه بشع ... حلو الفكاهة للأصحاب كالعسل وكان مغرماً بأرباب الصناعات والحرف، أي صناعة كانت إذا كان لها خطر وشرف، يبغض بطبعه المضحكين والشعراء، ويقرب المنجمين والأطباء، ويأخذ بقولهم، ويصغي إلى كلامهم، ملازماً للعب بالشطرنج لكونه منقحاً للفكر، وكانت علت همته عن الشطرنج الصغير، فكان يلاعب بالشطرنج الكبير، ورقعته عشرة في إحدى عشرة، وفيه من الزوائد جملان وزرافتان وطليعتان ودبابتان ووزير، وأشياء غير هذه وسيأتي وضعه والشطرنج الصغير بالنسبة إلى الكبير كلا شيء، مواظباً لإقراء التواريخ وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وسير الملوك وأخبار من مضى من الأنام، سفراً وحضراً، كل ذلك بالفارسي، ومما تكررت قراءتها عليه، وطنت نغماتها على أذنيه، قبض ذمام ذلك وملكه، حتى صارت له ملكة، بحيث أن قارئ ذلك إذا خبط، رده إلى الصواب من الغلط، وذلك لأن التكرار، يفقه الحمار وكان أمياً لا يقرأ شيئاً ولا يكتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 ولا يعرف شيئاً من العربية، ويعرف من اللغات، الفارسية والتركية والمغولية، حسب لا غير وكان معتقداً للقواعد الجنكيزخانية، وهي كفروع الفقه من الملة الإسلامية، وممشياً لها على الطريقة المحمدية، وكذلك كل الجغتاي وأهل الدشت والخطا وتركستان وأولئك الطغام، كلهم يمشون قواعد الملعون جنكيزخان على قواعد الإسلام ومن هذه الجهة أفتى كل من مولانا وشيخنا حافظ الدين محمد البزازي رحمه الله، ومولانا وسيدنا وشيخنا علاء الدين محمد البخاري أبقاه الله، وغيرهما من العلماء الأعلام، وأئمة الإسلام، بكفر تيمور وبكفر من يقدم القواعد الجنكيزخانية على الشريعة الإسلامية، ومن جهات أخرى أيضاً وقيل أن شاه رخ أبطل التوراة والقواعد الجنكيزخانية، وأمر أن تجري سياستهم على جداول الشريعة الإسلامية، وما أظن لذلك صحة فإن ذلك عندهم قد صار كاطلة الصريحة، والاعتقادات الصحيحة، ولو اتفق أنه يجمع مرازبه وموابذه في دسكرة، ويغلق أبوابها ويطلع عليهم من منظرة، ويفتح عليهم شيئاً من هذا الباب لحاصوا حيصة الحمر إلى الأبواب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 " فصل " وكان فريد الطور، بعيد الغور، لا يدرك لبحر تفكيره قعر، ولا يسلك في طود تدبيره سهل ولا وعر، وقد أقعد في ممالكه نواميسه، وأقام في سائر الممالك جواسيسه، وهم ما بين أمير كأطلاميش أحد أعوانه، وفقيه فقير كمسعود الكمججاني عين أصحاب ديوانه، وكان ذلك في القاهرة المعزية، وهذا بدمشق أحد الصوفية بالسميساطية، وما بين متسبب وتاجر، ومصارع شرير وبهلوان فاجر، ومكد وصنائعي، ومنجم وطبائعي، وقلندري قوال، وحيدري جوال، وبحري سباح، وبري سياح، وسقاء ظريف، وحذاء لطيف، وسعلاة دلالة، وشيخة محتالة، كدلة المحتالة، ومن مرت به التجارب، وضرب أكباد الإبل مشارق ومغارب، وبلغ فيما هو بصدده من المكر والاحتيال، منزلة الكمال، وألف بلطيف ختله ودهاءه بين الماء والنار والهدى والضلال، وجاوز في الحيل والكيد ساسان وأبازيد وألزم في حكمته وجدله ابن سينا وأسكت في منطقه اليونانيين إذ عكس عليهم القضايا، فجمع بين المتنافيين، وألف بين المتعاديين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 قلت فاق من قاد للعدا كل جيش ... بكلام ثنى البعيد قريبا مزج النقل في القياد بعقل ... فهدى عاشقاً وأهدى حبيبا فكانوا ينهون إليه حوادث الأطراف وأخبارهم، ويكتبون إليه ما قدموا وآثارهم، ويذكرون " لديه " أوزانهم وأسعارهم، ويصفون منازلهم وأمصارهم، ويصورون سهولهم وأوعارهم، ويخطون بيوتهم وديارهم، وبينون مدى ذلك بعدا وقربا، وما في ذلك ضيقاً ورحبا، وجهات وأقطاراً شرقاً وغرباً، وأسامي الأمصار والقرى، وألقاب المنازل والذرا، وأهل كل مكان ورؤساءه، وأمراءه وكبراءه، وفضلاءه وشرفاءه، وأغنياءه وفقراءه، واسم كل ولقبه، وشهرته ونسبه، وحرفته وسببه، فكان يطالع بفكره ذلك، ويتصرف بتفكيره في سائر الممالك وكان إذا حل ببلد، واجتمع به من أعيانها أحد، شرع يسأله عن فلان، وفلان، وما جرى لفلان في الوقت الفلاني مما زانه من أمر وشأن، وإلام آلت تلك الواقعة، وكيف فعل فلان وفلان فيما كان بينهما من المنازعة، فيبهت ذلك الرجل ناظراً، ويظن أن تيمور كان في تلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 الحالة حاضراَ وكان كثيراً ما يطرح عليهم أغاليط المسائل، ويحكي صور مباحثات جرت لهم ورسائل، فيتصورون أن له في ذلك العم قدمه، أو كان منه للعلماء خدمة، ولذلك تصور بعض الناس، أن ذلك الوسواس الخناس، كان مقيماً بالسلاوية، وبعض بالغ حتى قال إنه رآه في فقراء السميساطية " فصل " ومما يحكى عن فراسته، أنه لما نزل على سيواس، وقد حصنها منه أولوا النجدة والباس، قال لعسكره اعملوا الحيلة، إنا فاتحوا هذه في ثماني عشرة ليلة، فكان كذلك فلا شك أن ذلك الأعرج، كان ملهماً أو مستدرج، وكان ذا مغالطات، وحركات لها مغاورات، إذا دهمه أمر يتعاطى دفعه وهو مظهر أنه راغب فيه، وربما يظهر الرغبة عن شيء وهو مريد حصوله ومشتهيه، وقد مر نظائر هذا كله فمن مغالطاته أنه إذا كان له في مكان روم، أو أراد أن ينزل بساحة قوم، قصد الإخفاء والتعمية، وطلب الإيهام والتورية، وبحر عسكره لا يخلو من تمساح متجسس، أو سرطان متحسس، ولو لم يكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 لأحد في عسكره عين، فإن بزوغ العين، لا يخفى على ذي عين، فإنه يجمع أركان دولته، وأعيان مملكته، وذوي آرائه ومشورته، بحيث أنه لا يتخلف منهم أحد، ولا يجزي مولود عن والد ولا والد عن ولد، ثم يظهر لهم خفية أموره، ويطلب منهم المشورة في جهة مسيره، ويطلق لهم عنان الكلام، ويقول لا تثريب على من خاض في ذلك خاص الأنام، ناظر في أعقاب الأمور ما بين يوم وعام، فليتكلم كل ولا حرج، فسواء هوى إلى حضيض الخطأ أو إلى أوج الصواب عرج فإن أخطأ فلا نقصان، وإن أصاب فله أجران فيبذل كل جهده ويعاني في ذلك وكده وكده، ويبدي في ذلك ما أدى إليه اجتهاده، ويتصور أن ذلك يوافقه مراده، فتتفق الآراء، على ناحية من الأنحاء، ثم يفض ذلك المجلس، ويجتمع بأخصائه ويجلس، كسليمان شاه وقماري وسيف الدين، وألله داد وشاه ملك وشيخ نور الدين، ويمخضون القضية مخضاً غير ذلك، ويبحثون فيها بحثاً دقيق المسالك، فيقع آخر الأمر الاتفاق، على التوجه إلى بعض الآفاق ثم يدعو رائدهم، وسائقهم في ذلك وقائدهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 ويأمرهم بالتوجه إليه، فيتصدعون على ما عول في ذلك عليه، وحين يقوض الظلام خيامه، وينشر رائد الصبح أعلامه، ويضرب الكوس للرحيل، ويأخذ الناس في التحميل، ويتوجه الناس إلى الجهة التي أمرهم بالمسير إليها، ووقع الاتفاق عليها دعا حاشيته بعد ما حملوا وأخذوا في المسرى، وأمرهم أن يمتازوا ويرحلوا إلى جهة أخرى، ولم يكن أبداها لأحد من الجماعة، إلا في تلك الساعة، ولولا الضرورة لما أفشاها، ولا أعاد سريرتها لأحد ولا أبداها، فيضرب الناس ضرباً ويضرب ضربا، ويأخذ العساكر شرقاً ويأخذ غربا، فتضطرب تلك الأطواد وتختبط، وتنفرط عقود نظامهم فلا تكاد تنضبط، وتنحل قوائم مواشيها عن المسير وترتبط، ويموج بعض الناس في بعض، وينعكسون سماء في أرض وطولاً في عرض، ويتوله كل أحد ويتدله، ولا يدري إلى أين يتوجه، فإن كان في عسكره ربيئة، أو من يراقب ذهابه ومجيئه فبمجرد ما رأى تحميلهم، وشاهد تحويلهم ورحيلهم، طار إلى مخدومه، وأظهر له ما في معلومه، من توجه العساكر إلى الجهة التي اتفقوا عليها، وأنه شاهدهم بعينه وقد توجهوا إليها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 فيأخذ حذره أهل ذلك الجانب، وتطمئن سائر الجوانب من النوائب، فلم يشعر إلا وقد دمر على الجانب الذي قصده وحطمه، ونبذه من نار العذاب الموقدة في السعير والحطمة وكما كان له من دهاء، وفكر خفي وذكاء، ومن جملة ذلك أنه لما كان بالشام، وقد قابلته العساكر الإسلام، أشاع أن سوار أساورته تخلخل، وتأخر قليلاً إلى وراء وتحلحل، وأذاع أنه أعوز خيله ورجله الزاد، وأنه صائب صوب بغداد، ثم أسفرت القضية، عن أن انهزمت العساكر المصرية، وكان قصده بذلك تثبيت جأشهم، واستقرار رؤسائهم وأوباشهم، وأن يكز كل منهم على أزم، فيربض في مكانه ولا ينهزم، فيحيط بالكل كيده، ويصير المجموع صيده ومما يحكى من شدة عزمه، وثباته على ما يقصده وحزمه، وحلول نقمته ممن يعارضه، ويعاكسه فيما يرسم ويناقضه، أنه لما توجه بالجنود، إلى بلاد الهنود، بلغ إلى قلعة شاهقة، أقراط الدراري بآذان مراميها عالقة، ورجوم النجوم الخارقة، تتعلم الإصابة من رشاقة سهامها الراشقة، كأن بهرام في مهواه أحد سواطيرها، وكيوان في مسراه خادم نواطيرها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 والشمس في استوائها غرة جبينها، وقطرات السحاب في الانسكاب تترشح من قعر معينها، وشقة الشفق الحمراء، على آذان مراميها، وأنوف أبدانها سرادق، وكريات نجوم القبة الخضراء لعيون مكاحلها وأفواه مدافعها طابات وبنادق فيها من الهنود طائفة، ثابتة الجنان غير خائفة، جهزت أهلها وما تخاف عليه إلى الأماكن المعجزة، وثبتت هي في تلك القلعة حافظة لها متحرزة، مع أنها شرذمة قليلة، وطائفة ذليلة، لا خير عندهم ولا مير، ولا فائدة سوى الضرر والضير، ولا للقتال عليها سبيل، ولا حواليها لأحد مبيت ولا مقيل، بل هي مطلة على المقاتلة مستمكنة من المقاتلة، فأبى أن يجاوزها، دون أن يناحرها بالحصار ويناجزها " واللبيب العاقل، ما يترك لخصمه وراءه معاقل " فجعلت المقاتلة تناوشها من بعيد، ويصب كل من أهلها عليهم من أسباب المنايا ما يريد كما يريد فكان كل يوم يقتل من عسكره مالا يحصى والقلعة تزداد بذلك إباء واستعصا، وهو يأبى الرحيل عنها، إلا أن يصل إلى غرضه منها ففي بعض أيام المحاصرة مطروا، وبواسطة المطر انحصروا، وصار يحثهم على القتال، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 وركب لينظر ماذا يصنعون في تلك الحال، فلم يرتض أفعالهم لما عكست أوحالهم أحوالهم فدعا منهم رءوس الأمراء، وزعماء العسكر والكبراء، وأخذ يمزق أديم عصمتم بشفار شتمه، ويشقق ستر حرمتهم بمخاليب لعنه وذمه، ونفخ الشيطان في خيشومه، فألهب فيهم نيران غضبه وشومه، وقال يا لئام، وأكلة الحرام، تنقلبون في نعمائي، وتتوانون عن أعدائي، جعل الله نعمتي عليكم وبالاً، وألبسكم بكفرانها خيبة ونكالاً يا فاجري الذمم، وكافري النعم، وساقطي الهمم، ومستوجبي النقم، ألم تطئوا أعناق الملوك بأقدام إقدامي، وتطيروا إلى آفاق الدنيا بأجنحة إحساني وإكرامي، وتفتحوا مغلقات الفتوح بحسام صولتي، وتسرحوا في منتزهات الأقاليم سوائم تحكمكم بترعية دولتي؟ بي ملكتم مشارق الأرض ومغاربها، وأذبتم جامدها وأجمدتم ذائبها ألم أك ناراً يصطليها عدوكم ... وحرزاً لما ألجأتم من ورائيا وباسط خير فيكم بيمينه ... وقابض شر عنكم بشماليا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 ولا زال يهمهم ويغمغم، ويهذرم ويبرطم، وهم مطرقون ولا يحيرون جواباً ولا يملكون منه خطابا، ثم ازداد حنقاً، وكاد أن يموت خنقاً، فاخترط السيف بيده اليسرى، وهمز به على قمم أولئك الأسرى، وهم أن يجعل رقابهم قرابة، ويسقي من دمائهم فرنده وذبابه، وهم على تلك الحال في الخزي والإذلال، باذلوا نفوسهم، ناكسوا رؤوسهم ثم تراجع وتماسك، وملك نفسه قليلاً أو تمالك، فأغمد على تشريقهم حسامه، ولم يلق لأمره قبلة ولا دبرة فغلف غربه وشامه، ثم نزل عن مركبه واستدعى الشطرنج الكبير ليلعب به، وكان عنده شخص يدعى محمد قاوجين، هو لديه ذو مكان مكين، ومقام أمين، مقدم على الوزراء، ومبجل دون سائر الأمراء، مسموع القول، مقبول الرأي، ميمون النقيبة، محبوب الشكل، فتشفعوا إليه، وعولوا في حل هذا الإشكال عليه، وقالوا ساعدنا ولو بلفظة وراقبنا ولو بلحظة، واعمل معنا، بهذا المعنى قلت ساعد بجاهك من يغشاك مفتقراً ... فالجود بالجاه فوق الجود بالمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 وبما قيل وأهون ما يعطي الصديق صديقه ... من الهين الميسور أن يتكلما وبما قيل وإن امرءاً قد ضن عني بمنطق ... يسد به من خلتي لضنين فأجابهم والتزم، أن يرده عما تازم به وأزم، وراقب مجال المقال، وراعى فرص المجال، وأخذت أفكار تيمور، تفور في أمور القلعة وتغور، وجعل يستوضي أضواءهم، ويستوري آراءهم، ولا يسع كلاً منهم إلا القبول لما يستصوبه رأيه ويقول ففي بعض الأحايين، اتفق أن قال محمد قاوجين، وقد زل به القضاء، وأحاطت به نوازل البلاء أطال الله بقاء مولانا الأمير، وفتح بمفاتيح آرائه وراياته حصن كل أمر عسير هب أن فتحنا هذه القلعة، بعد أن أصيب منا جانب من أهل النجدة والمنعة، هل يفي هذا بذا، أو يوازن هذا النفع بهذا الأذى، فما احتفل بخطابه، ولا اشتغل بجوابه، بل استدعى شخصاً من المرقدارية فظاً قبيح المنظر ذا حالة زرية، يدعى هراملك، ذا عرق سهك، ووجه بالسواد سدك، أوسخ من في المطبخ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 وأسنخ من في المسلخ، لعاب الكلب طهور عند عرقه، وعصارة القير حليب بالنسبة إلى مرقه فعندما حضر لديه، ووقع نظره عليه، أمر بثياب محمد قاوجين فنزعت وبخلقان هراملك فخلعت، ثم ألبس كلاً ثياب صاحبه، وشد وسطه بحياصته، ودعا دواوين محمد ومباشريه، وضابطي ناطقه وصامته وكاتبيه، ثم نظر ما له من ناطق وصامت، وذائب وجامد، وملك وعقار، وأهل وديار، وحشم وخدم، من عرب وعجم، وأوقاف وإقطاع، وبساتين وضياع، ومماليك وأتباع، وخيل وجمال، وأحمال وأثقال، حتى زوجاته وسراريه، وعبيده وجواريه، فأنعم بذلك على ذلك الوسخ، وأمسى نهار وجود محمد قاوحين وهو من ليل تلك النعمة منسلخ ثم قال تيمور أقسم بالله وآياته، وكلماته وصفاته، وأرضه وسمواته، وكل نبي ومعجزاته، وولي وكراماته، وبرأس نفسه وذاته، لئن آكل محمداً قاوجين أحد أو شاربه، أو ماشاه " أو صاحبه " أو صادقه أو صافاه، أو آوى إليه أو آواه، أو راجعني في أمره، أو شفع عندي فيه أو اشتغل بعذره، لأجعلنه مثله، ولأصيرنه مثله، ثم طرده وأخرجه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 وقد سلبه نعمته وأحرجه فصار مسلوب النعم، قد حلت به نوائب النقم، وسحبوه بالولق، ورأى نعمته على أقل الخلق، واتصل غيره بالحلق وقطع منه الحلق، ففلقت حبة قلبه أي فلق، واستمر على ذلك في عيش مر وعمر حالك، وحاش أن تشبه قصته قضيه كعب بن مالك فكان يستحلي مرارة الموت، ويستبطئ إشارة الفوت، وكل لحظة من هذا الحيف، أشد عليه من ألف ضربة بالسيف، فلما مات تيمور أحياه، ورد عليه خليل سلطان ما سلبه جده إياه " فصل " وكان من أبهته وعظمته، وشدة شكيمته، وعتوه وحرمته، أن ملوك الأطراف، وسلاطين الأكناف، مع استقلالهم بالخطبة، واستبدادهم بالسكة وانفرادهم بالزعامة والرياسة، وقيامهم بأمور الإيالة والسياسة كالشيخ إبراهيم ملك ممالك شروان، وخواجه علي بن المؤيد الطوسي سلطان ولايات خراسان، واسفنديار الرومي وابن قرمان " ويعقوب بن علي شاه حاكم كرمان وحاكم منتشا وطهرتن أمير أرزنجان " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 وسلاطين فارس وأذربيجان، وملوك الدشت والخطا وتركستان، ومرازبة بلخشان ومراجيح مازندران وعلى الجملة فالمطيع من الملوك إيران وتوران كانوا إذا قدموا عليه، وتقدموا بالهدايا والتقادم إليه، يجلسون على أعتاب العبودية والخدمة، نحواً من مد البصر من سرادقاته قائمين بشرائط الأدب والحرمة، فإذا أراد منهم واحداً، أرسل إليه من الفراشين أو نحوهم قاصداً، فيهيب ذلك القاصد وهو يعدو كالبريد، وينادي ذلك الواحد باسمه يا فلان من مكان بعيد، فينهض في الحال من مجثاه، مجيباً بلبيك لبيك دعواه، ويعدوا نحوه متعثراً في أذياله، متلقياً ما برزت به مراسيمه بقبوله وإقباله، مطرقاً رأس التذلل والخضوع، مصغياً بآذان الخنوع والخشوع مفتخراً على أضرابه، لكونه أهله ودعاه واعتنى به وقيل كان أناس من جماعته يلعبون بالنرد فافترقوا فرقتين، واختلفوا في نقش الكعبتين، فقال أحد اللاعبين ورأس الأمير تيمور كذا وكذا كان نقش الكعبتين، فرفع يده خصمه ولطمه، وسبه ولعنه وشتمه، كأنه ذبح يحيى أو زكريا نشر، أو كفر بمحمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 أو قدم موسى على أبي البشر، وقال يا ابن الفاعلة، والغاسل ابن الغاسلة، بلغ من انتهاكك الحرم، أن تذكر الأمير تيمور بشفة وفم، وأنى لك أن تجعل خدك مواطئ مداسه؟ فضلاً على أن تحلف برأسه، إنه لأجل من أن يتفوه مثلي ومثلك باسمه، أو يتلفظ بشيء من حدوده ورسمه، وإنه لأعظم من كيخسرو وكيكاوس وكيقباد، الذين ملكوا المشارق والمغارب وأفخم من بختنصر وشداد وقيل إنه قصد في بعض الأوقات الاصطياد، وأرسل يمنة ويسرة على العادة طوائف الجيش والأجناد، ورسم أن يخرج مشاة تلك الرقاع، ورجالة هاتيك القرى والبقاع، فيمتدوا في الوهد واليفاع، وحين تلتئم على الوحوش حلقة الكيد، ويصح أن يتنازع فعلا رمى وأصمى كلا من عمرو وزيد، لا يشير أحد بضربة ولا طعنة ولا رمية إلى صيد، بيد أنهم يردون أوابد بتلك البيداء إلى بهرة ذلك البيد، فامتثل كل ما به أمر، وحين صار كالبنيان المرصوص وصف تلك الأحزاب والزمر، وأحاطت صافات تلك الكواسر بالوحوش إحاطة النجوم بالقمر، ماجت بحار الوحوش في ذلك البر، ولم تجد لها من دردور تلك السيول الهامرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 من مخرج ولا معبر، فدارت ومارت، وحارت وخارت، وثارت وبارت، واستجارت بعدما جأرت، واستكانت بعدما زأرت، وانطوت أرضها التي طالما عليها انتشرت، وطرزت خلع أعلامها بأعلام " وإذا الوحوش حشرت " فينما هي على تلك الحال، في أشد ما يكون من الأهوال، أمر بأن تضرب الطبول من كل الجهات، وينفخ في صور المزامير والبوقات، فدق الكوس وزعق النفير، وامتلأت الدنيا من الشهيق والزفير، ورجت الأرض رجا، ومارت الأقطار هرجاً ومرجاً، وحين سمعت السباع صوت الطبول، ورأت الوحوش هذا الأمر المهول، سقطت قواها، وتقطعت كلاها، وجثت وما انبعثت، ثم تقاربت وتلامت، وتقارنت وتضامت، وتصورت أن القيامة قد قامت، فأخذ بعضها بعنق بعض ونامت، فعانق الثور منها اللبوة، وضاجع الأسد فيها الظبية، واختفى سرحان، بين الغزلان، واستجار الثعلب، ببنات الأرنب، ولاذ بالأروى النعام والأرنب بالعقاب، وعاذ الضب بالنون واليربوع بالغراب فعند ذلك أمر الأطفال من أولاده، وأولاد الأمراء وأحفاده، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 أن يرموا ويصموا، ويفنوا مهما أرادوا ولا يطنوا، وجعل ينظر إليهم، ويتفرج عليهم، ويزهره لأفعالهم، ويقهقه على أحوالهم، ويجرئهم على الإقدام والنضال، ويشجعهم بذلك على صيد الأبطال، وجعلت حواشي الجيش تنجز على ما أصموا، وتجهز على ما أنموا، وصار ذلك المفسد يترنم وينشد صيد الملوك أرانب وثعالب ... فإذا ركبت فصيدى الأبطال " فصل " وكان يحمل إليه البلخش من بلخشان، والفيروزج من نيسابور، وكارون معادن خراسان، والياقوت من الهند، والماس منها ومن السند، واللؤلؤ من هرمز والقطيف والحسا، واليشم والمسك وغيره من الخطا، ومن سائر الأقطار، خالص الفضة ومصفى النضار " فصل " وأنشأ في سمرقند بساتين عديدة، وقصوراً شوامخ مشيدة، كله له ترتيب غريب، ووضع أنيق عجيب، أحكم أساسها، وطعم بأفخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 الفواكه غراسها، سمة أحدها بستان إرم والآخر زينة الدنيا، والآخر جنة الفردوس والآخر بستان الشمال والآخر الجنة العليا، ثم إنه هدم مصرا، وبنى في كل بستان منها قصرا، وصور في بعض هذه القصور مجالسه وأشكال صورته تارة ضاحكة وأخرى عابسة، وهيئات مواقعاته، وصور محاضراته، ومجالس صحبته مع الملوك والأمراء، والسادات والعلماء والكبراء، ومثول السلاطين بين يديه، ووفودها بالخدمات من سائر الأقطار إليه وحلق مصايده وكمائن مكايده ووقائع الهند والدشت والعجم، وصورة انتصاره وكيف انكسر عدوه وانهزم، وصورة أولاده وأحفاده، وأمرائه وأجناده، ومجالس عشرته، وكاسات خمرته، وسقاة كأسه، ومطربي إيناسه، وتغزلات مقاماته، ومقامات تغزلاته، وحظايا حضرته، وخواتين عصمته إلى غير ذلك، مما وقع له من صورة حادثة في الممالك، مدى عمره المتقارب المتدارك، كل ذلك كما وقع ووجد، ولم ينقص من ذلك شيئاً ولم يزد، وقصد بذلك الإفادة، لمن كان في عالم الغيب عن أحواله بالشهادة، فكان إذا توجه إلى مكان، وخلت سمرقند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 من الظلمة وأعوان الشيطان، تخلوا تلك البساتين، فيتوجه إليها أهل المدينة الأغنياء والمساكين، فلا يوجد أعجب متنزهاً منها ولا أحسن، ولا أوفق مرتفقاً ولا آمن وأما ثمارها الطيبة فإنها مسبلة، بحيث إنه لا يباع منها قنطار بخردلة، وأنشأ في ضواحي سمرقند ومعاملاتها قصبات، سماهن بأسماء كبار البلدان والأمهات، كمصر ودمشق وبغداد، وسلطانية وشيزار عرائس البلاد، وأنشأ بستاناً في ضواحي سمرقند على طريق الكشف، وبنى به قصراً سماه تخت قراجا، يحكى أن بعض مشيدي عمارته ضاع له فرس واستمرت ترعى في البستان ستة أشهر حتى وجدوها فصل نساؤه الملكة الكبرى وهي أقدم وأكمل، والملكة الصغرى وهي أحسن وأجمل، وهما من بنات ملوك الخطا، وتومان بنت الأمير موسى أمير نخشب المار ذكره في أول الكتاب، وجلبان كانت كالبدر عند الكمال، وكالشمس قبل الزوال، قتلها في حياته لشيء بلغه عنها، وكان غير واقع، وإنما فعل ذلك معها لأنه قيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 إن صدقاً وإن كذباً، وأظنها كانت من الحظايا وأما السراري " والحظايا " فأكثر من أن يحصين فالملكتان، المذكورتان سمتهما شاد ملك خوفاً منها على خليلها، وتومان أرسل خليل سلطان إلى شيخ نور الدين بسغناق كما مر، وبعده جاءت إلى سمرقند، وسمعت أنها عزمت في يومنا هذا أعني سنة أربعين وثمانمائة على الحج، والله أعلم فصل " أولاده لصلبه " المتخلفون من بعده أميران شاه قتله قرا يوسف كما ذكر، وشاه رخ وهو المتملك في يومنا هذا، وبنت تدعى سلطان بخت سليمان شاه، كانت مترجلة لا تحب الرجال، وذلك لما أفسدها النساء البغداديات لما قدمن سمرقند، ولها تواريخ سوء " أحفاده " أغلبهم انقرض، إلا أولاد شاه رخ، وأمثلهم أولوغ بك حاكم سمرقند، وإبراهيم سلطان حاكم شيراز، وباي سنقر حاكم كرمان، ماتا كلاهما في سنة ثمان وثلاثين وثمانمائة، وجوكي وهو الذي مشى على اسكندر بن قرا يوسف وشتت شمله بعد موت قرايلوك، وذلك في شهور سنة تسع وثلاثين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 وثمانمائة، ثم مات في أواخرها فصل أمراؤه ووزراؤه لا يحصون، وأشهرهم من ذكر في هذا الكتاب " وما مات إلا عن الطبقة الثالثة ممن أنشأه من الأمراء والوزراء، كذا أخبرني شيخي علاء الدين البخاري رحمه الله تعالى " دواوينه الخواجه محمود بن الشهاب الهروي، ومسعود السمناني، ومحمد الساغرجي، وتاج الدين السلماني، وعلاء الدولة، وأحمد الطوسي، وغيرهم منشئ ديوانه وهو عبارة عن كاتب السر مولانا شمس الدين قاضي زمانه، وفاضل إبانه، فارسياً وعربياً، صرف أخبار الإنشاء كيف شاء، كان قلمه في فتح أقاليمه، أنفذ من سنان مخدومه، ولما مات تيمور احتجب، وطوى بساط الأدب، فقيل له ضحكت البشرى ألا تباشر، وصفت العشرة فهلا تعاشر؟ فقال ذهب الذي كان يعرف قيمتي، فأنا لا أذهب في خدمة الأحداث حرمتي إمامه عبد الجبار بن النعمان المعتزلي صدور مملكته مولانا قطب الدين، والخواجه عبد الملك، وابن عمه " الخواجه " عبد الأول، وغيرهم قارئ قصصه وتواريخه مولانا عبيد أطباؤه فضل الله، وجمال الدين رئيس الطب بالشام كان، وغيرهما، وكان دائماً يستعمل معاجين الأحجار، وفي سنه تلك يجتني باكورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 الأبكار منجموه لا يحضرني أسماؤهم فصل حصل في أيام استيلائه بسمرقند من الفقهاء مولانا عبد الملك، وهو من أولاد صاحب الهداية، كان يلقي الدرس ويعلم الشطرنج والنرد وينظم الشعر في حالة واحدة، ونعمان الدين الخوارزمي أبو عبد الجبار المذكور، كان يقال له النعمان الثاني، وكان أعمى، والخواجه عبد الأول ابن عم مولانا عبد الملك، انتهت إليه الرياسة في ما وراء النهر بعد ابن عمه، ومولانا عصام الدين بن عبد الملك انتهت إليه الرياسة في يومنا هذا بعد ابن عمه عبد الأول ومن المحققين سعد الدين التفتازاني، توفي في المحرم سنة إحدى وتسعين وسبعمائة بسمرقند، والسيد الشريف محمد الجرجاني توفي بشيراز ومن المحدثين الشيخ شمس الدين محمد بن الجزري، كان أخذه من الروم وكان قد هرب إليها من مصر بعد توجهه من بلاده الشام قبل الفتنة، توفي بشيراز والخواجه الكبير المفسر الحافظ المحدث محمد الزاهد البخاري، فسر القرآن الكريم في مائة مجلد، توفي بمدينة النبي صلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 الله عليه وسلم سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة ومن القراء هما ومولانا فخر الدين ومن حفاظ القرآن المجودين قراءة وصوتا عبد اللطيف الدامغاني، ومولانا أسد " الدين "، والشريف الحافظ الحسيني، ومحمود المحرق الخوارزمي، وجمال الدين أحمد الخوارزمي، وعبد القادر المراغي الأستاذ في علم الأدوار ومن الوعاظ والمتكلمين مولانا أحمد بن شمس الأئمة السرائي، كان يقال له ملك الكلام عربياً وفارسياً وتركياً، وكان أعجوبة الزمان، ومولانا أحمد الترمذي، ومولانا منصور القاغاني ومن الكتاب المجودين السيد الخطاط ابن بندكير، وعبد القادر المذكور، وتاج الدين السلماني، وغيرهم ومن المنجمين أناس برعوا، لا أعرف من أسمائهم غير مولانا أحمد الطبيب النحاس المستخرج، قال لي استخرجت من زايجة الطالع إلى مائتي سنة، وكان هذا الكلام في سنة ثمان وثمانمائة ومن الصواغين الحاج علي الشيرازي، والحاج محمد الحافظ الشيرازي، وغيرهما ومن الحكاكين طائفة جمة، وأمثلهم ألتون، وكان آية في فنه ينقش الفصوص ويحفر اليشم والعقيق، بخط أحسن من ياقوت ومن الشطرنجيين محمد بن عقيل الخيمي، وزين اليزدي، وغيرهما، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 وعلامة ذلك علاء الدين التبريزي الفقيه المحدث، كان يحط لزين اليزدي بيدقاً ويغلبه، ولابن عقيل فرساً ويركبه ولقد دوخ تيمور الأقاليم شرقاً وغربا، وقمر في دست مصافاته كل سلطان وكل شاه مات عنده جداً أو لعبا وكان يقول له أنت في ملك الشطرنج فريد، كما أني في سياسة الملك وحيد، وكل مني ومن مولانا علي شيخ في فنه ذو كرامات لم يوجد له نديد، " ولي " وله في لعب الشطرنج وعلم مناصيبه شرح، وما كان أحد يقدر أن ينتج ولاد فكره في لعبه معه من غير طرح، وكان فقيهاً شافعياً، محدثاً أريحيا، حسن البهجة، صادق اللهجة حكى لي أنه رأى أمير المؤمنين علياً كرم الله وجهه في المنام، وأنه ناوله الشطرنج في كيس فلم يغلبه بعد ذلك أحد من الأنام، ومن أوصافه في لعبه أنه كان لا يتفكر، وبمجرد ما يلعب خصمه بعد التفكر والتأمل الطويل ينقل من غير أن يتدبر، وكان يلعب على الغائب مع خصمين، ويعلم مع الطرح لمن هو في جهته على الجهتين، وكان يلعب هو والأمير بالشطرنج الكبير ورأيت عنده شطرنجاً مدوراً وشطرنجاً طويلا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 والشطرنج الكبير فيه من الزوائد ما مر ذكره، وهذه صورته وطريقة تعلمه بالفعل أقوى، وليس في شرحه بالقول كثير جدوى ومن المطربين عبد القادر المراغي المذكور، وولده صفي الدين، وختنه نسرين، وقطب المواصيلي، وأردشير الجنكي وغيرهم ومن النقاشين كثير، وأعلاهم عبد الحي البغدادي، وكان ماهراً في فنه ومن البحرية شهاب الدين أحمد الزردكاش ومن نقاشي الزجاج والنحاس وغيرهم مالا يحصى، وهؤلاء كل منهم كان علامة دهره وأعجوبة عصره، ولو رصعت حلي الألفاظ بجواهر أوصاف هؤلاء الأعيان، لملأت الأكوان من فرائد الجمان وقلائد العقيان، وهؤلاء من حضرني ذكره ممن أعرفه، وأما من لا أعرفه أو أعرفه ولا يحضرني ذكره فأكثر من أن يحصى، وأغزر من أن يستقصى وحاصل الأمر أن تيمور كان جنى على كل حي، وجبى إلى سمرقند ثمرات كل شيء، فكان بها من أهل كل فن عجيب، وأسلوب من الصنائع غريب، من هو على جبين الفضل شامة، وبرز على أقرانه فصار في فنه علامة فصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 وكان في سمرقند إنسان، يسمى الشيخ العريان، فقير أدهمي، بشكل بهي وعزم سمي، قيل إن عمره على ما هو فيهم شائع، وبين أكابرهم وكبرائهم ذائع، ثلاثمائة وخمسون سنة، مع أن قامته مستوية وهيئته حسنة، كان المشايخ الهرمون، والأكابر المعمرون، يقولون لقد كنا ونحن أطفال، نرى هذا الرجل على هذا الحال، وكذلك نروي عن آبائنا الأكرمين، ومشايخنا الأقدمين، ناقلين ذلك كذلك عن آبائهم والمعمرين من كبرائهم، وكان أطلس وله قوة ناهضة وحده، من رآه يتصور أنه لم يبلغ أشده، لم يكن للكبر، بوجهه تجعيد ولا أثر وكان الأمراء والكبراء، والأعيان والصلحاء، والفضلاء والرؤساء، يترددون إلى زاويته، ويتبركون بطلعته، ويلتمسون بركة دعوته، وفي سمرقند مسجد يسمى مسجد الرباط، يهب لمن يدخله الانشراح والانبساط والروح والنشاط " قيل إن " أحد فعلته كان ولياً، يسمى الشيخ زكريا، هو معتقد تلك البلاد، ومزاره في كل مكان مشهور على " رأس " طود من الأطواد، وقبره يستجاب عنده الدعا، وهو عن سمرقند نحو يوم في المدى، وهو بالكرامات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 موصوف، وفي كرخ هذه المقامات معروف، وهو في ربوة ذات قرار، فيها جنات تجري من تحتها الأنهار، محفوف باليمن والأنس، كأنه اقتطع من حظيرة القدس يحكى أنه لما كان، فاعلاً في ذلك البنيان، وقع في جبهته نقطة من الطين، فرأى ذلك أحد من المباشرين، واستمر ذلك الطين على هذه الحال، نحواً من ثلاث ليال، فلما أرادوا وضع المحراب، وقع الاختلاف في الخطأ والصواب، وكثر في ذلك الصخب والاضطراب، فقال الشيخ زكريا ضعوا المحراب على هذه الفقرة ولا تعدلوا عنها يمنة ولا يسرة فقال ذلك المباشر، لمن في ذلك المكان حاضر، يا للعجيبة، والقضية الغريبة، رجل لم يغسل وجهه ثلاثة أيام " يرشد الناس إلى معالم الإسلام فقال ذلك العابد الزاهد أو رجل هو من يتم ثلاثة أيام " بوضوء واحد، ولكن تعال أيها الجاحد، قف مكانك، وثبت جنانك، ولا تكن ممن أنكر وتولى، وانظر إلى عروس الكعبة كيف تجلى، فنظر ذلك الذي أنكر، فإذا الكعبة أمامه تتبختر، ثم التفتوا إلى الشيخ ففقدوه، وطلبوه أرضاً وسماء فلم يجدوه وهذا المسجد فيه شيء عجب، عدة اسطوانات من خشب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 من جملتها سارية شمخت ارتفاعاً، نحو من خمسة عشر ذراعا، وغلظ جسمها وبدنها، فلا يقدر الرجل " على أن " يحتضنها، وباقي السواري بها قد حطن، قيل إنها شجرة قطن، ولها خاصية عجيبة ظريفة غريبة من كان به وجع الضرس يضع عليه مقدار حبة من خشب ذلك البرس، فإنه ينفعه، ويسكن في الحال وجعه، جربته فصح، ويسأل من يدعي رؤية سمرقند عما رأى فيها من العجائب، وشاهده من علامات الطرائف والغرائب، فإن أخبر برؤية هذه السارية الفائقة، كانت رؤياه صادقة، واعتد له بصدق الكلام، وإلا كانت رؤيته أضغاث أحلام فصل سمرقند ليس فيها كيل ولا صاع يصان، ولا يجري على جنس المكيلات فيها بالكيل حسبان، وإنما معرفة حساب ذلك عندهم بالميزان، ورطل سمرقند أربعون أوقية، كل أوقية بالمثاقيل مائة، فيكون رطلهم أربعة آلاف مثقال، كل مثقال درهم ونصف من غير زيادة ولا إخلال، فعلى هذا رطلهم بالدمشقي عشرة أرطال حكى لي مولانا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 محمود الحافظ المحرق الخوارزمي، ولقب بالمحرق لأن سهام ترجيعاته كانت تصيب حبات الحشاشات إذ ترمى، ويفوق رنات أوتارها نحو آذان القلوب فتصمى ولا تنمى، فإن صدعت من القلوب حجراً، تطاير من اقتداحها في الأرواح شررا، فيحرق برناته الأرواح، ويشعل بنغماته الأشباح قال استصحبني تيمور في بعض أسفاره، فكنت ملازم خدمته في ليله ونهاره، فنزلت عساكره على حصن تحاصره، وضرب خيمته على مكان عال، ليشرف منه على القتال، ويتفرج في صنع الرجال، ففي بعض الزمان، حضرت عنده أنا ورجلان، وكان قد حصل له حمى، أورثته كرباً وغما، وكانت سماء النزال ذات حبك واحتباك، ورماح القتال في التواء واشتباك فأراد أن يطالع أحوالهم، ويشاهد أفعالهم، وأفرطت شهوته في ذلك إلى العيمة فقال احملوني إلى باب الخيمة، فدخل ذلك الرجلان تحت إبطيه، وأوقفاه بباب الخيمة وأنا بين يديه، فجعل يشاهد حربهم، ويتميز طعنهم وضربهم، ثم أراد أن يأمرهم بشيء، فقال لي يا محمود إلي فأسرعت إلى يده، ودخلت تحت عضده، فأرسل أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 الرجلين إلى عسكره يأمرهم بما عن " له " من عجره وبجره فكأنه لم يبر عليلا، ولم يرو غليلا، فقال لنا دعاني، وعلى الأرض ضعاني، فوضعاه فسقط كأنه رمة بالية، أو لحمة على بارية، ثم أرسل ذلك الرجل الآخر إليهم، وأمرهم بما اقتضته آراؤه، وأكد عليهم، فبقيت أنا وهو وحدنا، ولم يبق أحد عندنا، فقال لي يا مولانا محمود، انظر إلى ضعف بنيتي، وقلة حيلتي، لا يد لي تقبض، ولا رجل تركض، لو رماني الناس هلكت، ولو تركوني وحالي ارتبكت، لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً، ولا أجلب خيراً ولا أدفع شراً ثم تأمل كيف سخر الله تعالى لي العباد، ويسر لي فتح مغلقات البلاد، وملأ برعبي الخافقين، وأطار هيبتي في المغربين والمشرقين، وأذل لي الملوك والجبابرة، وأهان بين يدي كل الأكاسرة والقياصرة، وهل هذه الأفعال إلا أفعاله، وهذه الأعمال إلا أعماله؟ ومن هو أنا غير سطيح ذي فاقة، لا باب لي في الدخول إلى هذه الأفعال ولا طاقة، ثم بكى وأبكاني، حتى ملأت بالدموع أرداني، فانظر إلى هذا الوبر كيف سلك بهذا القول مسلك القائلين بالجبر، وأنشدوا فيه " بالفارسي بيتين وهما " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 ينم تنى ملك جهانرا كرفت ... حشم كشا قدرت يزدان ببين باي نه وتخت بزير قدم ... دست نه وملك بزير نكين ترجمته فقلت دوبيت قد أظهر قدرة بخافي حكمه ... من ملك شقى الدنا في قسمه لا كف له والملك في خاتمه ... لا رجل له والتخت موطئ قدمه فصل وأما عساكره وطرائق سلوكهم، فإنهم على دين ملوكهم، كانوا استدرجوا من حيث لا يعلمون، ورزقوا من حيث لا يحتسبون، مسخراً لهم خفيات الدفائن، مفتوحاً عليهم خبيات الخزائن، ميسراً لهم مكامن المطالب والمعادن، كل طرف منهم قد جال وسطا، وصار بطرق اللوم أهدى من القطا، قد دربوا الأمور، وجربوا أحوال الدهور، وقاسوا معاصر العصور، وكابدوا المكايد، وعالجوا الشدائد، ومارسوا الأشياء، وذاقوا الناس والدنيا، وعرفوا مداخل كل مأزق ومخارجه، وأدركوا مداركه ومعارجه، لا يدهيهم داهية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 ولا يطغيهم طاغية، ربما يمرون بقفراء ويجيزون بمهمه صحراء لا يفزع الأرنب أهوالها ... ولا ترى الضب بها ينجحر فيقف بعضهم ثم تراه، ينظر إلى أرض ذلك المكان وثراه، ثم يقول ليس هذا الثرى من هذا البرى، ثم ينزل عن دابته، ويأخذ من ذلك التراب ويشمه، ثم يلتفت إلى جهاته الأربع فيقصد منها جانباً ويؤمه، ثم لا يزال يسير بمن معه من الأعوان، حتى يصلوا إلى مكان، فيحفروه ويخرجوا كمين الدفائن، وما في ذلك " المكان " من المغلات والخزائن وكذلك إذا وصلوا إلى عمائر، أو مروا على مقابر، يتوجهون إلى الخبء كأنهم وضعوه بأيديهم، أو أوحت شياطينهم ذلك إليهم، وربما يجيئون إلى مقام، مر على ساكنه فيه أيام، ومضى عليه فيه شهور وأعوام " وفيه شيء مطمور، لم يكن لصاحبه وساكنه به شعور " فبمجرد دخولهم إليه، يفتح ذلك إليهم ويطلعون عليه، وحين يطلع ساكنه على ذلك يأكل ندامة وحسرة يديه وكان لهم درايات في دهرهم عجيبة، وسهام آراء في عمرهم مصيبة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 وكانوا يحملون البقر ويركبونها، ويسرجون الحمر ويلجمونها، ويسابقون على ذلك أصحاب الخيل العراب إلى " إحراز " قصبات المغانم فيسبقونها ويطعمون الجمل، لحم الكلب والحمل، ويعتاضون عن شعير الفرس، بالقمح والأرز والدخن والزبيب والعدس، وربما أعوزهم ذلك في السفر، فأطعموا دوابهم لحاء الشجر حكى " لي " القاضي برهان الدين إبراهيم بن القوشة الحنفي المذكور رحمه الله تعالى، أن قازان والتتار، لما قدموا هذه الديار، خرج من له قوة الفرار فاراً من الشرور، كما فعلوا في قضية تيمور، ومن جملتها تاجر بالصالحية، كان في عيشة رخية، وله أموال وافرة وفية، جمع ماله من صامت المال، ووضعه في قدرة فوال، ثم عمد إلى بركة ماء فحفرها، ووضع تلك القدرة تحتها وطمرها، ثم ردها إلى مبانيها وأعاد مياهها إلى مجاريها، وحين استتب الوثوب، وقدمت الدواب للركوب، قالت له امرأته نسينا قرطي، وأخاف أن يحدث عليهما في الطريق شيء، فانظر لهما مكانا، وحصل لنا بذلك أمانا، فقال أما الآن فلا مكان، ثم أخذهما ووضعهما في سقف سقيفة، على خشبة لطيفة ثم ركبا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 وتركا الديار وذهبا، فلما حل بدمشق التتار، نزل منهم فرقة في تلك الدار، فجعلوا يأكلون ويشربون، وهم في خوضهم يلعبون، فبينا هم بعض الأيام في النشاط، قرض الفأر أحد تلك الأقراط، فتدحرجت لؤلؤته وسقطت على البلاط، فتبادرت الجماعة إليها جارية، كأنهم يتسابقون إلى قرطي مارية، فسبقت الجماعة، ودخلت البلاعة، فكشفوا عن وجه الأرض ستر خدرها، فوجدوا الأموال كما هي في قدرها، فأخذوها واللؤلؤة وأخرجوها وقصدوا باقي القرطين واقتسموها وجماعة تيمور أيضاً كذا كانت، وكل معضلة من القضايا إذا وصلت إليهم هانت، وكل منهم كان على دين ملكه في فنه إلى غايته عرج، فإن كنت محدثاً عن أحوالهم وأخبارهم فحدث عن البحر ولا حرج فصل يحكى أن واحداً منهم من أهل الذكاء والكيد، أراد في فصل الشتاء التنزه فقصد الصيد، فأخرج مركوبه وهو بقرة، فشد عليها سرجه وهو خشبة مكسرة، غرزه قضيب مدور، وحزامه حبل مبتر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 وتجمل بلباسه وهو جلد فروة منهوش، وبتاجه وهو طرطور من لبد منقوش، وشد كنانته وهي جلود ممزقة، مشدودة بحبل وعليها خروق ملزقة، سهامها قد التوت، وحنيتها قد استوت، ومعه بازي قد نتف القرناص ريشه، وقلع على حقل بدنه زرع خوافيه وحشيشه ثم ركب جواده، وحمل بازيه وقصد اصطياده، فرأى جماعة من البط، على ساحل غدير حط، فرفع يده بالبازي ساعة، حتى عاين تلك الجماعة، ثم وضع يده بخفض، وأرسل البازي على الأرض، فصار يحجل رويدا، وقد أضمر للبط كيدا، إذ لم يكن له قوة الطيران، ولا جناح به يستعان، فوصل إلى الطير بسكون، وهي آمن ما تكون، لأنها ما تتوقع البلاء، إلا من جهة السماء، فدخل بينها فما نفرت منه، ولا هربت عنه، فلم تشعر إلا وقد وثب على واحدة وفلذها، فأدركه صاحبه وأخذها ولما رحلوا عن دمشق، وقد مشقوا أوراق نعمها من أغصان وجودها أي مشق، كان مع بعضهم بقرة نهبها وحملها ما أخذه من الأموال التي سلبها، وأركبها أسيرة، وسار بها مدة يسيرة، فبعد سيرها يومين أو ثلاثة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 قلقت، ونادت بلسان حالها أنها ما لهذا خلقت، فلما لم تجد مشكياً مما شكت توكلت على الله وبركت، فأنزلوا الراكبة عنها وصاحوا عليها فلم تقم، فحلوا أحمالها وضربوها فلم تتحرك، فأوجعوها ضرباً، وأشبعوها لعنا وسبا، وتلك المباركة باركة، فأدموها وهم يضربونها، إلى أن كادوا يهلكونها، فمن شاحط بمقدمها، ومن جاذب بمؤخرها، ومن متعلق بقرنها، ومن متشبث بأذنها، وهي جاثمة مشبهة فيل أبرهة، فعجزوا عنها، وأيسوا منها فبينا هم على ذلك، وقد ضاقت عليهم المسالك، وإذا بشيخ كوسج، كأنه شجرة عوسج، قد سلك المشارق والمغارب، ومرت به أنواع التجارب، وقاسى برد الأمور وحرها، وذاق حلوها ومرها، وعرف خيرها وشرها، مر بهم وهم في كربهم، فلما رآهم أسارى، عاجزين حيارى، سكارى وما هم بسكارى، قال تنحوا عنها أي جنة، ثم دنا منها دنو الراقي من ذي جنة، وأخذ كفا من تراب أنعم من عيش الشباب، ثم قبض على قرنها، وصبه في أذنها، ثم هز رأسها في مناخها، حتى وصل التراب إلى صماخها، فوثبت قائمة، وهي من ذلك الرغام راغمة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 وجعلت تنفض رأسها، وزادت اضطرابها وشماسها، وطلبت المسير، وكادت تطير، فأعادوا عليها أحمالها، وزادوا أثقالها، فصارت تلك البليها تعدو ولا يقدر عليها فصل وكان في عسكره من الترك عبدة الأصنام، وعباد النار من المجوس الأعجام، وكهنة وسحرة، وظلمة وكفرة، فالمشركون يحملون أصنامهم، والكهان يسجعون كلامهم، ويأكلون الميتة والدم المسفوح، ولا يفرقون بين مخنوق ومذبوح، وناس حزاءون، وزواجر خراضون، ينظرون في ألواح الضان، ويحكمون بما يرون فيها على أحوال كل مكان، وما حدث في كل بقعة، من الأقاليم السبعة، من الأمان والخوف، والعدل والحيف، والرخص والغلاء، والسقم والشفاء، وسائر ما يكون، فلا يكادون يخطئون ولهم أيام وشهور وأعوام، كل عام منسوب إلى حيوان، يحسبون ما مضى من السنين، فلا يتأتى فيها زيادة ولا نقصان وفي الخطا لهم خط يسمى دلبرجين، رأيت حروفه أحداً وأربعين، وسبب زيادته أنهم يعدون التفاخيم والأمالات حروفاً، وكذلك البين بينات، فتتولد الزوائد، وكل حرف زائد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 وأما الجغتاي فلهم قلم يسمى أويغور، وهو بالقلم المغولي مشهور، وعدته أربعة عشر حرفاً وهذه مقطعاته وسبب نقصانه وانحصاره في هذا العدد، أن حروف الحلق يكتبونها على هيئة واحدة، وكذلك تلفظهم بها، ومثل هذه الحروف المتقاربة في المخرج مثل الباء والفاء، ومثل الزاي والسين والصاد، ومثل التاء والدال والطاء، وبهذا الخط يكتبون تواقيعهم ومراسيمهم، ومناشيرهم ومكاتيبهم، ودفاترهم ومخاتيمهم، وتواريخهم وأشعارهم، وقصصهم وأخبارهم، وسجلاتهم وأسفارهم، وجميع ما يتعلق بالأمور الديوانية، والتوراة الجنكيزخانية، والماهر في هذا الخط لا يبور بينهم، لأنه مفتاح الرزق عندهم فصل وكما كان فيهم من جبل على الفظاظة، والقسوة والغلاظة، ومن هو قليل الرحمة بل وعديم الإسلام، كفرة فجرة أوغاد أنذال طغام أغتام، قد اتخذوه من دون الله هادياً ونصيرا، واستكبروا به في أنفسهم وعتوا عتواًكبيراً، استجرهم كفرهم وحبهم إياه، إلى أنه لو ادعى النبوة أو الإلهية لصدقوه في دعواه، كل منهم يتقرب إلى الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 ببره، ينذر له إذا وقع في شدة ويفي بنذره، واستمر على اعتقاده الباطل وكفره، مدة حياته وبعد موته، ينقل النذور ويقرب القربان إلى قبره، وكان قد ترقى معه في المصاحبة، حتى وصل إلى مقام المراقبة قيل إنه كان في سفر، فرأى واحداً من العسكر، كأن الكرى عطف رقبته، أو السرى أمال شقته، أو على حال لا يتوجه عليه فيها لوم ولا عتب، فضلاً عن أن يترتب عليه ضرب أو سب، فقال تيمور ترى ما ثم أحد قاطع، يقطع رأس هذا الفاعل الصانع؟ ولم يزد على هذا الكلام، فسمعه واحد من أولئك الكفرة اللئام، اسمه دولت تيمور، وهو أمير كبير مشهور، قد ألبسه الله ثوب النقمة، ولم يشمه شيئاً من روائح الرحمة، ففي الحال سل رأسه من بين كتفيه، وحمله إلى تيمور ووضعه بين يديه، فقال تيمور ويلك، ما هذا الأمر الأفظع؟ فقال هذا الرأس الذي أشرت أن يقطع، فأعجبته هذه العبارة، وابتهج بأن أمره يمتثل بأدنى إشارة كان فيهم الظرفاء والأدباء، والأذكياء والشعراء، ومنهم في الفضل أعلام وعلماء، وفيهم المحقق، والباحث في العلوم والمدقق، ومن شارك في كل العلوم وبحث فيها بحثاً شافياً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 من طريقي المنطوق والمفهوم، ويقرر مذهب الصوفية وإحياء العلوم ومع هذا فبعضهم يمضي على مقتضى ما علمه، وكان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة، وبعضهم كان مع رقة الحاشية، واللطافة الفاشية، والعلم الوافي، والظرف الشافي، والجمال الفائق، والكمال الشائق، والكلام الرائق، قلبه أقسى من الحجر، وفعله أنكى من ضرب الصارم " الذكر "، يقولون من قول خير البرية، ويمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وإذا وقع مسلم في مخالبهم، أو ابتلى غريب بتعذيبهم، صنف ذلك العالم المحقق، والحبر المدقق، في استخراج المال " منه " أنواع العذاب، وأصناف العقاب، واستحضر في فنون تعذيبه كتباً ومسائل، وسرد في علوم تثريبه خطباً ورسائل، فيصير ذلك المسكين يتكوى، ويستغيث ويتلوى، ويستجير بالله وآياته، ويستشفع بكل ما في أرضه وسمواته، من ملك ونبي، وصديق وولي، وذلك المليح يضحك ويتظارف، ويتمايل ويتلاطف، وينشد لطائف الأشعار، ويتمثل بطرائف النوادر والأخبار، وربما تحرق وبكى، وتأوه لما يفعل بذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 من التعذيب وانتكى، وصار كبعض قضاة الإسلام، المستولي على مال الأيتام، يخطب ويبكي، وفعله في قلوب المسلمين ينكي ولما كانوا في دمشق دخلوا على بيت واحد من الأعيان بزقاق العجم، وإذا هو مملوء من النفائس والخيرات والنعم قصر عليه تحية وسلام ... خلعت عليه جمالها الأيام فقبضوا على صاحب ذلك المنزل وربطوه، وبأنواع العذاب والعقاب عذبوه، ثم أحكموا رجليه شداً وعلقوه، واستخرجوا النفائس، واستجلبوا من حسانها العرائس، وأحضروا لذيذات المطاعم والمشارب، وقضوا من التفكه والتنعم ما لهم من مآرب، وجعلوا يأكلون ويشربون، ويلهون ويطربون، وإذا تحرك في واحد منهم الخبث أو ثمل وأخذه في سكره العبث، عمد إلى ذلك المسكين، وهو في شدة النكاد، فسقاه الماء والملح، وسففه الكلس والرماد، وكان فيهم عالم متقشف، عن تناول المسكرات متعفف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 كما قيل عجبت من شيخي ومن زهده ... وذكره النار وأهوالها يكره أن يشرب من فضة ... ويسرق الفضة إن نالها فكانوا إذا أرادوا القدح المزعفر، أحضروا له السكر المكرر، ووضعوه له في صيني الخوافق، وصبوا عليه الماء الرائق، فيسكرون هم بالأقداح القوادح، ويسكر ذلك الفاسق المحروم من الروائح، ثم يتوجه إلى صاحب المنزل، ويضحك عليه وهو في أشد ما يكون من العذاب ويسخر منه ويهزل، ثم يتمايل على صوت المثاني والمثالث، ويتناول من تلك المآكل والمشارب، ويقول بشر مال البخيل بحادث أو وارث وكان في عسكره كثير من النساء يلجن معامع الهيجاء، ووقائع البأساء، ويقابلن الرجال، ويقاتلن أشد القتال، ويصنعن أبلغ ما يصنع الفحول من الرجال في النزال، من طعن بالرمح وضرب بالسيف ورشق بالنبال، وإذا كانت إحداهن حاملاً وأخذها وهم سائرون الطلق، تنحت عن الطريق واعتزلت الخلق، ونزلت عن دابتها ووضعت حملها، ولفته وركبت دابتها وأخذته ولحقت أهلها وكان في عسكره ناس ولدوا في السفر، وبلغوا وتزوجوا وجاءهم الأولاد ولم يسكنوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 الحضر وكان في عسكره ناس صلحاء عباد، ورعون زهاد، أجواد أمجاد، لهم في الخيرات أوراد، وفي وردها إصدار وإيراد، دأبهم خلاص مأسور، أو جبر مكسور، أو إطفاء حريق، أو إنقاذ غريق، أو اصطناع معروف، أو إغاثة ملهوف مهما أمكنهم، ووصلت إليه يدهم، إما بقوة وأيد، وإما بنوع خديعة وكيد، وإما باستيهاب واستشفاع أو تعويض وابتداع، وكانوا سائرين معه بالاضطرار، أو دائرين معه لهذه المعاني بالاختيار حكى لي مولانا جمال الدين أحمد الخوارزمي أحد القراء المشهورين المجودين، وكان إمام محمد سلطان في حياته، وإمام مدرسته بعد وفاته، ثم خطيب بروسا وبها أدركته المنية، سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة، رحمه الله تعالى قال كنت في سمرقند في مدرسة محمد سلطان، أعلم مماليكه وأولاد الأمراء القرآن، فأرسل إليه جده الظلوم، وهو متوجه إلى بلاد الروم، أن يتوجه إليه، ويفد هو والأمير سيف الدين عليه، فامتثل ما به أمر، وأخذ في إعداد أهبة السفر، وقال لي هيئ مرافقك، واقطع علائقك، وخذ أهبة سفرك، واعمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 مصلحة رهطك ونفرك، ووافقنا في المرافقة، فإن من حسن المرافقة الموافقة، فاستعفيته من الذهاب، وفتحت له في سد خوخة السفر كل باب، وقلت له يا مولاي أنا رجل من أهل القرآن والفاقة، ما لي بفتح باب السفر من طاقة، لأني ضعيف البنيان، رخو الأركان لا جلد لي على الحركة، وإن كان في صحبة مولانا الأمير كل خير وبركة، خصوصاً على هذا السفر البعيد الشقة الكثير المشقة، ومع كوني ليس لي على ذلك من طاقة، لا جمل لي في مناخ السفر ولا ناقة وأما أنتم فالسفر عليكم حتم لازم، وحق ملازم، لا يسعكم فيه التخلف، ولا يفسح لكم فيه المطل والتسوف، فلم يعفني، وتعلل لي بعلل عللني فيها ولم يشفني، فلم أر بداً من الاستعداد، وتحصيل الرفيق والزاد ثم سرنا حتى وافينا جده، وقد ركب في الجادة جده، وجده، ورأينا من تلك العساكر، بحاراً لا أول لها ولا آخر، إن انفرط أحد من سلك جماعته، أو ضل معتزلاً عن سنن سنته، لا يصل إليهم بالسرج والشمع، " ولا " يهتدي إلى سنة جماعته إلا إن كان يوم الجمع فبينا أنا معهم أسير، وقد وهن مني العظم الكسير، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 وأثر في التعب، وأخذ مني النصب والوصب، ومللت السرى، وعدمت الكرى، نفضت يدي من الرفيق، وأخذت على فجوة من الطريق، فلما خلوت، هينمت بالقرآن العظيم وتلوت، ثم استهواني الذوق والشوق، فحلقت بمراشيق حلقي إلى فوق، وكان صوته أطيب من رقيق المقطوع على رخيم الموصول، وألذ من جمع شمول، على كأس شمول، بنسيم الشمال معلول، وبرضاب الحبيب مشمول قال وإذا برجلين ضعيفين، كالعود البالي نحيفين، أشعثين أصفرين، ذوي طمرين أغبرين، بصرا بي عن جنب، وعلقا بي علوق الوتد بالطنب، فجعلا يراقبان أحوالي، ويستمعان أقوالي، فلما زممت زمزمتي، وكففت هينمتي، وكتمت في خزانة صدري جواهر كلماتي، وختمت بطابع دعائي زواهر آياتي، بكيا لمناجاتي وأمنا على دعواتي، ثم أقبلا نحوي وسلما، واهتزا لما سمعاه من تلاوتي وترنما، وقالا أحيا الله قلبك كما أحييت قلوبنا ومحوت بما سطرت في ألواح صدورنا، بحسن تلاوتك ذنوبنا ثم إنهما آنساني بالخطاب، وجارياني بالسؤال والجواب، وإذا هما من صميم الجغتاي، وخالص عسكر تيمور، ومن ضئضئ التتار وسنخ الفتن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 والشرور، ثم سألاني عن نجاري ووجاري، وعن رفيقي في هذا السفر وجاري، فأخبرتهما عن مولدي ومحتدي، ومسقط رأسي من بلدي، وأني من أهل القرآن، وأني مع محمد سلطان فقالا لي يا سيدنا الشيخ إنما جئنا إليك لتحسن إلينا، وإنا سائلوك عن شيء فلا تجد فيه علينا، فقلت " قولا " وطولا، فلن تجداني ملولا، فقالا يا مولانا هذا شيء يعنينا، وإن كان قد عنانا، وكل من اشتغل بما لا يعنيه، فقد ترك ما يعنيه، ووقع فيما يعنيه، ومن لم يعرف الخير من الشر وقع فيه فبالله يا سيدنا قل من أين تأكل؟ فقلت على خوان محمد سلطان، فقالا مأكول هذا العسكر حلال، أم حرام ووبال؟ فقلت الغالب عليه الحرام، بل كله والله مظالم وآثام، لأنه من الثارات والنهب، والغارات والغصب، والاختلاسات والسلب فقالا والله يا إمام، لقد أسأنا الأدب إذ واجهناك بهذا الكلام، ولكن أنتم أهل العلم، شيمتكم العفو عن الجاني والحلم وأنتم أولى بجبر الكسير وفك الأسير، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 وتيسير العسير، فقابل منا هذا الفحص بالصفح ولا تعامل هذا الإلحاف باللفح فقلت سلا ولا تسلسلا، فقالا نسألك بالله الذي اصطفاك لخزن كلامه، الذي تعبد به عباده وبين لهم فيه معالم حلاله وحرامه، لا تؤاخذنا بما تهجمنا عليك به، فإن الشيخ المرشد كالوالد الشفوق لا يؤاخذ ولده بقلة أدبه، فقلت كلا سلا ما شئتما، وسلسلا مهما أردتما فقالا يا سيدنا أما كان لك مندوحة عن مرافقة هؤلاء اللئام، والتعفف بالحلال استغناء عن الحرام؟ فقلت إني دخلت فيهم وأنا مضطر، وخرجت معهم أنا كاره مجبر، وأكرهني محمد سلطان، وحاياني بما حباني من إحسان، فصحبتهم وعين ذاتي من كحل الراحة مرها، وحملتني فرسي في سفري كرها ووضعتني كرها، فقالا أرأيتك لو امتنعت عن الخروج أكانوا يريقون دمك ويأسرون أولادك ويسبون حرمك؟ فقلت لا والله، وحاشا لله، فقالا أكانوا يحبسونك، ويضربونك وفي مقام المصادرة يجلسونك؟ فقلت أنا أمنع جنابا، من أن يسوموني خسفاً وعذابا، لأني حافظ القرآن، والقرآن حافظي من هذا الخسران، قالا فغاية فعلهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 معك، إذا رأوا تعززك وتمنعك، أنهم كانوا يشتمونك، ويعمدون إلى معلومك فيقطعونك، ويسخطون عليك، ويمنعون برهم الواصل إليك، فقلت ولا كانوا أيضاَ يفعلون كذا، وتعززي وتمنعي ما يحط من مكانتي عندهم إلى هذا الأذى، ولكنهم حايوني فاستحيت، وخادعوني فانخدعت وليتني أبيت فقالا لا يصلح هذا لك عذراً وحجة، ولا يسلك بك إلى صحة الاعتذار بين يدي الله تعالى سوى المحجة، فهلا جلست في مكانك واشتغلت بتلاوة قرآنك، ومطالعة علمك ومباحثة إخوانك، وفرغت بدنك عن الكلال، وملأت بطنك من الحلال، واحتميت في حمى دينك عن هؤلاء اللئام، واسترحت من الاضطرار إلى تناول الحرام، مع أنا سمعنا من أمثالكم، ما قد ضرب في أمثالكم " أهل القرآن وقاصته، أهل الله وخاصته " وأنهم عتقاؤه بين خلقه، وببركاتهم أدر سحاب رزقه وإن السلاطين ملوك الناس أجمعين، وإنكم أنتم ملوك الملوك والسلاطين وإذا أعتقكم الله أعفاكم الناس، وصرتم لإنسان العالم بمنزلة القلب والكبد والرأس، ولم يبق لأحد عليكم سلطة، ثم ألقيتم أنتم أنفسكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 بأيديكم إلى هذه الورطة، وتهافتم على التهالك تهافت الفراش على النار، وتشبثتم مع كونكم قادرين على الخلاص بأذيال القسر والاضطرار، فكيف يصح هذا الاعتذار؟ وأنى ينجيكم هذا العذر من عذاب الملك الجبار؟ وهل صرتم إلا كما قيل معاشر القراء يا ملح البلد ... ما يصلح الملح إذا الملح فسد فقلت أما إذا حررتما القضية، فكلنا في هذه المصيبة سوية " بي مثل ما بك يا حمامة فاندبي " وقيل بي مثل ما بك يا حمام البان ... أنا بالقدود وأنت بالأغصان فبكيا وانتحبا، وتأوها والتهبا، وتنفسا الصعدا، وقالا أين ما بين قصتنا وقصتك في المدى؟ فورب الخافقين، إن بين القصتين لبعد المشرقين، ولكن ما للمقال مجال، وما كل ما يعلم يقال، وأين السر من الإعلان؟ وإن الحيطان لها آذان فقلت هذا أيضاً ليس بحجة، فلا تعدلا عن سواء المحجة فقالا نحن المضطرون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 جبراً، المأخوذون قهراً وقسراً، وإنا مكتوبون في الديوان، مضافون إلى واحد من أعيان الأعوان، إذا ورد علينا مرسوم بالبروز، في يوم عيد مثلاً أو نوروز، ويكون الخروج وقت الظهر، وتأخر منا واحد إلى وقت العصر، لم يكن له جزاء فيما ارتكبه، إلا الصلب أو ضرب الرقبة، فضلاً عن ضرب وشتم وشناعة، أو زفع عدل أو تقديم شفاعة، وأين أنت عن قعود ما أو تخلف، أو استتار بذيل توار أو توقف؟ فنحن مدى الدهر لمثل هذا مستوفزون، وعن مثل ما جرى على أضرابنا من هذا البلاء متحرزون، مصيخون أبداً لما أشار وما أمر، عاملون بمقتضى " رحم الله من رأى العبرة في غيره فاعتبر " " و " يا ليتنا أمكننا التحويل عن مملكته، والرحيل عن إقليم ولايته وسلطنته، وكيف لنا بذلك وهي مسقط رأسنا ومحل أناسنا، ومحط إيناسنا، وإيلاف رحلتنا، ومزدرعات معيشتنا، ومدرج آبائنا، ومخرج أبنائنا، ومقام قبائلنا وعشائرنا، ومثابة قاطننا وغابرنا، ولو غاب من هوام قبائلنا جدجد فضلاً عن بلبل أو هدهد، لجحف الباقين سيل الظلم والحيف، ولتحكم في رقاب سائرنا صائل الموت بالسيف وأما إذا برزنا، وعزمنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 على المسير معه وتجهزنا، فنسأل كم سنة يغيب، وأي جهة يريد ذلك المريد المريب، فنأخذ أهبتنا لذلك المقدار، وكل منا ابن عم للآخر وجار، وله جرابه فيه سويقه، ومعه كلفة نفسه وفرسه وعليقه، يصوم مدى الدهر ويفطر على ما يسد الرمق، ويلبس ما يستر العورة من رث الثياب والخلق، كل ذلك من زرع أيدينا وكدنا، وما بذلنا فيه من عرق جبيننا، والحلال غاية جهدنا، لا نتعرض لمال أحد ولا لعرضه، ولا نقف في طريق إبرامه ولا نقضه، ولا لأحد عندنا نشب، ولا بيننا وبين أحد علاقة ولا سبب، ولكن يا مولانا البلاء الطام، والمصاب العام ثم رقصا رءوسهما يميناً وشمالاً، وارتعدت فرائصهما هيبة وجلالاً، وابيضت شفاههما، واسودت جباههما، وأخذا في البكاء والعويل، وانتحبا الانتحاب العريض الطويل، فوالله لقد ذابت نفسي لديهما، واستصغرت كبار المشايخ بالنسبة إليهما، وتفكرت فيما هما فيه من شدة الأمر، وعلمت أنهما القابضان بكفيهما على الجمر، ثم تأوهت آهاً بعد آه، وقلت بالله يا إخوتاه، وما هذا البلاء الطام والمصاب العام الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 ذكرتماه؟ قالا خيولنا ومواشينا، وحوامل مهادنا وغواشينا، نرفق بها في التحميل، وما نركبها إلا وقت الإعياء في الرحيل، وأمر قضيمها قصم ظهرنا، وأعجز أمرنا، واضطررنا إلى الخض في دماء المسلمين وأموالهم، وألجأنا إلى رعي زرعهم وتحمل وبالهم وما ندري كيف المخلص، وأنى ننجو من ذلك المقنص؟ فبالله يا سيدنا الشيخ هل تجد لنا في هذا الأمر الغالي رخصة؟ أو هل من قطرة برود تطفئ هذه الحرارة وتسكن شرق هذه الغصة؟ فقلت لا والله إلا عناية الله، وأيم الله لقد أشبعتماني شراً، وجرعتماني صبراً ومقراً، وأسقيتماني نكداً وضرا، وكان هموم ما بي، من نصبي وعذابي، تكفيني، إلى يوم تكفيني، فقد زدتماني بلاء على بلائي، وعناء على عنائي، فبالله من أنتما، وما أسماؤكما، وفي أي قطر أرضكما وسماؤكما، ومع من أنتما؟ فحييتما ما حييتما، فخبراني ولا تحيراني، لأجيء كل وقت إليكما، وأفوز بالسلام عليكما فقالا يا مولانا، الحمد لله الذي برؤيتك حبانا، إن معرفتنا لا تجديك شيئاً ولا تبرك، وعدم المعرفة بنا لا يؤذيك ولا يضرك، والغالب على ظننا يا مولانا، أنك بعد اليوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 لن ترانا، وإن قدر اجتماع فنحن نسعى على رؤوسنا إليك، وخليفتنا الله والسلام عليك ثم ودعاني وما وقفا، وأودعاني أليم الفراق وانصرفا وهذا من البحر قطرة، ومن الطود ذرة، ونسأل الله تعالى أن يصون عن الزلل أقوالنا، وعن الخطل والخلل أفعالنا وأحوالنا بمنه ويمنه آخره، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497