الكتاب: الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية المؤلف: محمد بن علي بن طباطبا المعروف بابن الطقطقي (المتوفى: 709هـ) المحقق: عبد القادر محمد مايو الناشر: دار القلم العربي، بيروت الطبعة: الأولى، 1418 هـ - 1997 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية ابن الطقطقي الكتاب: الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية المؤلف: محمد بن علي بن طباطبا المعروف بابن الطقطقي (المتوفى: 709هـ) المحقق: عبد القادر محمد مايو الناشر: دار القلم العربي، بيروت الطبعة: الأولى، 1418 هـ - 1997 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] مقدمة المحقق الحمد للَّه رب العالمين بالغ الفضل والإحسان، والصلاة والسلام على نبيّه الأمين محمد بن عبد الله خيرة الأخيار من بني عدنان، المرسل رحمة للعالمين، وبعد فقد من الله تعالى على عبده الفقير إلى كرمه وعفوه صاحب التحقيق فهداه إلى كتاب «الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية» ليخرج به من ظلمات القدم والغمرة إلى أنوار الحداثة والشهرة وهو من مقتتيات مكتبتي المتواضعة مذ كنت طالبا من طلاب كلية الآداب بالجامعة السورية بدمشق عام/ 1955/ م، وظلّ غائبا عن النظر حاضرا في الوجدان والفكر إلى أن برز لي فجأة كالصديق الموافي في ساعة الشدّة وأنا مشغول بالتصنيفات العديدة التي أصدرتها دار القلم العربيّ بحلب، واقترحت على صاحب الدار أن ننفض عن هذا المؤلف الجليل غبار الزمن فوافق في الحال لدى رؤية النسخة التي أملكها من الكتاب وتقع في مائتين وتسع وسبعين صفحة وليس بها من تاريخ ولا دليل على المحقّق سوى عبارة ذيّلت الغلاف بعد العنوان، وتقول العبارة التي هدفها التجارة: [يطلب من مكتب عزّ للتوريدات- مكتبة قومسيون- ميدان الأزهر بمصر] . وقد بادرت منذ اضطلاعي بعبء تحقيق الكتاب إلى التماس طبعاته المختلفة في كلّ ما يقع تحت يدي ولكنني آثرت مؤخرا النموذج الّذي توفر بحوزتي لأنه قديم ولأنه بخلوه من الضبط والتشكيل والفهرسة والهوامش المضيئة، يسمح لي بالمزيد من التدخّل والاجتهاد في ترجيح وجوه الكلام بعضها على بعض فيكون لي دور المحقّق وإن لم أعتمد على الأصل المخطوط. وقد كان لي بتوفيق من الله وبإخلاص النية فضل ضبط النص التاريخي بالشكل وشرح غريب مفرداته بالإضافة إلى ترجمة الأعلام ترجمة موجزة كافية وبذلك المجهود ألحقت النص التاريخي بالنص الأدبي فائدة وأثرا متداولا. وما يهمني أن يعرفه القارئ لهذا الكتاب أن اعتمادي كان على أربع طبعات من طبعات الفخري بالرموز والتواريخ الآتية: أوّلا: (عزّ) وهي المتوفّرة لدى المحقّق بلا تاريخ. ثانيا: (ألما) وهي الطبعة الأولى بألمانيا عام/ 1858/ م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 ثالثا: (رحما) وهي الصادرة عن المطبعة الرحمانية بمصر/ 1340/ هـ و/ 1921/ م. رابعا: (بيروت) وهي الصادرة عن دار بيروت للطباعة والنشر/ 1385/ هـ و/ 1966/ م. تقع طبعة (عزّ) كما ذكرنا في (279) صفحة من القطع المتوسط بورق أصفر. وتقع طبعة (ألما) في (390) صفحة من القطع المتوسط، يقابلها تقديم ودراسة باللغة الألمانية بقلم المستشرق W.Ahlwardt. وتقع طبعة (رحما) في (253) صفحة من القطع فوق المتوسط مع مقدمة قصيرة للناشر محمود توفيق الكتبي. وتقع طبعة بيروت في (340) صفحة عدا الفهارس بورق أبيض صقيل وهي الطبعة الأكثر حداثة وإتقانا. وقبل استعراض الأوراق المذكورة يهمنا الإلمام بترجمة لحياة المؤلف: ابن طباطبا مع ملمح كلّي وموجز جدّا لكتاب الفخري ليكون ذلك عونا للقارئ في قطع المسافة بين أول الكتاب وآخره في ألفة ومحبّة للمادّة التاريخيّة وهي الغنيّة غنى غزيرا بالحكايا والطرائف. أمّا المؤلّف فهو: محمّد بن عليّ بن محمّد بن طباطبا العلويّ. كنيته أبو جعفر، وشهرته بابن الطّقطقيّ [1] على خلاف في ضبطها، وختامها بالياء أو الألف المقصورة. كان أبوه نقيب الأشراف العلويّة بالحلّة والنجف وكربلاء، وقد خلف أباه في تلك   [1] هكذا ضبطت في كتاب الأعلام للزركلي. انظر المجلد السادس ص 283. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 الرتبة. تزوج بامرأة فارسية من خراسان وأقام بالموصل، وتقرّب إلى واليها فخر الدين عيسى بن إبراهيم بإهدائه كتاب «الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية» الّذي فرغ من تأليفه عام/ 701/ هـ، وجعل نسبته إليه باسم «الفخريّ» . وقد عقد جلال الدين السيوطي في كتابه «تاريخ الخلفاء» فصلا في دولة بني طباطبا العلويّة الحسنيّة فقال: «وقام منهم بالخلافة أبو عبد الله محمد بن إبراهيم طباطبا في جمادى الأولى سنة تسع وتسعين ومائة [1] » . ويبدو أن المذكور هو الجدّ الّذي نسب إليه ابن طباطبا المؤرّخ، وله خبر مفصّل في كتاب الأعلام للزركلي ج 5 ص 293. ولم تمدّنا المراجع بتفصيلات عن حياة صاحب الفخري سوى أنه تزوج من فارسية وزار مراغة بأذربيجان واستقر بالموصل وتوفي فيها عام/ 709/ هـ. وقد أبدى انحيازا للمغول وتهيبا لسلطانهم ولمن حكموا تحت رايتهم بالإضافة إلى علوّيته. أما كتاب «الفخري» فقد حوى جزأين هامّين: الأوّل، موضوعة الآداب العامة للسلاطين ومعاشريهم، وثانيهما التأريخ لثلاث من الدول: هي: دولة الخلفاء الراشدين، ودولة بني أميّة، والدولة العبّاسية، وقد تعرّض بذكر وجيز للدول العارضة على الكيان العبّاسي كالدولة العلوية المعروفة بالفاطمية مثلا. وكانت خطته أن يذكر الخلفاء والسلاطين وأعمالهم ثم يثنّي بذكر من استوزره من الوزراء، ملمّا بطرائف الوقائع من الحكايات على وجه الاستطراد لدفع الملل عن القارئ.. وهذا ما يجعل كتاب «الفخري» أهلا للمطالعة من جهتين، جهة التاريخ، وجهة الطرائف والحكايات العجيبة. فهو كتاب تاريخ وكتاب أدب ومسامرة في آن معا، وقد تقلّد بقلادة الأشعار في كثير من صفحاته، وكأنّ الناثر العربيّ سواء أكان مؤرخا أو عالما أم فيلسوفا، لا يستغني عن الاغتراف من معين الشعر   [1] انظر تاريخ الخلفاء، طبعة دار القلم العربيّ بحلب ص 467. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 الّذي هو ديوان العرب. ويذكر الأستاذ عبد الوهاب الصابوني في كتابه «عيون المؤلفات» أنّ عنده من كتاب «الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية» طبعتين الأولى تامّة ولكنها غير محققة طبعت في مصر/ 1927/ م، والثانية منقحة مصححة تاريخها/ 1938/ م وقد راجعها ونقّحها محمد عوض إبراهيم بك وعليّ الجارم بك، ولولا أنني قد اطلعت على هذه الحقيقة بعد فراغي من تحقيق طبعة (عزّ) المتوفرة لديّ لنظرت بشكل أو بآخر في هاتين الطبعتين. على أنني كنت قد بيّنت حرصي على الانفراد بالجهد في الطبعة غير المنقحة ليكون لي فضل الجدّة والابتكار في إخراج العمل شكلا ومضمونا. ومهما يكن، فللقارئ العربيّ أن يغتنم في كتاب «الفخري» مرجعا مختصرا ومفيدا بين المراجع التاريخية الأخرى المستفيضة مثل «تاريخ الأمم والملوك» لمحمد بن جرير الطبري، أو «الكامل في التاريخ» لعليّ بن محمد المعروف بابن الأثير الجزري وغيرهما.. ورغم انحياز صاحب الفخري إلى علويّته وحملته على عديد من خلفاء الدولتين الأموية والعباسية يجد القارئ في الكتاب مرجعا هامّا في تاريخ العرب والإسلام وها هو الآن نصّ محقق من نصوص الأدب والطرائف.. اسأل الله تعالى أن يجعل لي فيه ذخرا ليوم الدين، وأن يجعل فيه مددا لطلاب المعرفة والعبرة التاريخية، وهو على كل شيء قدير وبالإجابة جدير. حلب 10/ 2/ 1418 هـ 16/ 6/ 1997 م عبد القادر محمد مايو الحلبي القسطلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 [ مقدمة المؤلف ] بسم الله الرّحمن الرّحيم 1 الحمد للَّه مسبّب الأسباب، ومفتّح الأبواب. مقدّر الأمور، ومدبّر الدهور. واجب الوجود، وخالق الأخلاق والجود. مفيض العقل. وواهب الكلّ. أقرّ أنه المالك وأنّ الوجود مملوك لعظمته. وأشهد أنه الفاطر. وأن الغيب غير مستور لحكمته. وأعوذ بجلال عزّه من ذلّ الحجاب، وبفضل جوده من نقاش الحساب، وبخافي علمه ممّا في الكتاب من العذاب، وأصلي على النّفوس العلويّة المطهّرة من الأدناس، وعلى الأجسام الأرضيّة المنزّهة عن الأرجاس. وأخصّ من بينهم بأفضل الصلوات الزاكيات، وأكمل التحيّات الناميات، من نادى والألسن حداد، وأرشد والأكباد غلاظ والقلوب جلاد- محمّدا النبيّ الأميّ ذا التأييدات الإلهيّة، والتأكيدات الجلاليّة، وآله الطيّبين وأصحابه الصالحين، الذين كانوا صدّقوه وقد أرسل، ونصروه وقد خذل، ما سمح جواد ووري زناد. وبعد، فإن أفضل ما نظر فيه خواصّ الملوك، وسلكوا إليه أفضل السّلوك بعد نظرهم في أمر الأمّة، وقيامهم فيما استودعوه بالحجّة، هو النظر في العلوم، والإقبال على الكتب التي صدرت عن شرائف الفهوم، فأمّا فضيلة العلم فظاهرة ظهور الشمس عريّة من الشّكّ واللّبس، فمما جاء من ذلك في التنزيل قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ 39: 9 [1] ، وممّا جاء في الحديث- صلوات الله وسلامه على من نسب إليه-: «إن الملائكة لتضع [2] أجنحتها لطالب العلم» . وأما فضيلة الكتب فقد قالوا: إن الكتاب هو الجليس الّذي لا ينافق، ولا يملّ ولا يعاتبك إذا جفوته، ولا يفشي سرّك. وقال المهلّب [3] لبنيه: يا بنيّ: إذا   [1] سورة الزّمر، الآية/ 9/. [2] تضع: تخفض، وتضع أجنحتها: كناية عن التواضع إكراما لطالب العلم. [3] هو المهلّب بن أبي صفرة كان أميرا على البصرة لمصعب بن الزبير. حارب الخوارج. تولّى على خراسان لعبد الملك كان حكيما ورجل قيادة وسياسة وفضل. توفي 83 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وقفتم في الأسواق فلا تقفوا إلا على من يبيع السلاح، أو يبيع الكتب. وكان الفتح بن خاقان [1] إذا كان جالسا في حضرة المتوكّل، وأراد أن يقوم إلى المتوضّأ، أخرج من ساق موزته كتابا لطيفا، فلا يزال يطالعه في ممرّه وعوده فإذا وصل إلى الحضرة أعاده إلى ساق موزته. أرسل بعض الخلفاء في طلب بعض العلماء ليسامره، فلما جاء الخادم إليه وجده جالسا وحواليه كتب، وهو يطالع فيها: فقال له: إن أمير المؤمنين يستدعيك قال: قل له: عندي قوم من الحكماء أحادثهم، فإذا فرغت منهم حضرت. فلمّا عاد الخادم إلى الخليفة وأخبره بذلك، قال له: ويحك! من هؤلاء الحكماء الذين كانوا عنده؟ قال: والله يا أمير المؤمنين ما كان عنده أحد! قال: فأحضره الساعة كيف كان. فلما حضر ذلك العالم، قال له الخليفة: من هؤلاء الحكماء الذين كانوا عندك؟ قال: يا أمير المؤمنين: لنا جلساء ما نملّ حديثهم ... أمينون مأمونون غيبا ومشهدا يفيدوننا من علمهم علم ما مضى ... ورأيا وتأديبا ومجدا وسؤددا فإن قلت: أموات. فلم تعد أمرهم ... وإن قلت: أحياء. فلست مفندا (طويل) فعلم الخليفة أنه يشير بذلك إلى الكتب، ولم ينكر عليه تأخره. وقال الجاحظ: دخلت على محمّد بن إسحاق [2] أمير بغداد، في أيام ولايته وهو جالس في الديوان، والناس مثول بين يديه كأن على رءوسهم الطير، ثم دخلت إليه بعد مدّة وهو معزول، وهو جالس في خزانة كتبه، وحواليه الكتب والدفاتر والمحابر والمساطر. فما رأيته أهيب منه في تلك الحال!. وقال المتنبي: أعزّ مكان في الدّنا سرج سابح ... وخير جليس في الزّمان كتاب (طويل)   [1] أديب وشاعر كان صاحبا ونديما ووزيرا للخليفة المتوكّل، وقتل معه 247 هـ. [2] هو محمد بن إسحاق الصيمريّ نديم الخليفة المتوكّل، كان أديبا وشاعرا ظريفا، توفّي 275 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 والعلم يزيّن الملوك أكثر ممّا يزين السّوقة، وإذا كان الملك عالما صار العالم ملكا وأصلح ما نظر فيه الملوك ما اشتمل على الآداب السلطانيّة، والسّير التاريخية المطويّة على ظرائف الأخبار، وعجائب الآثار، على أنّ الوزراء كانوا قديما يكرهون أنّ الملوك يقفون على شيء من السّير والتواريخ، خوفا أن يتفطّن الملوك إلى أشياء لا يحبّ الوزراء أن يتفطّن لها الملوك. طلب المكتفي [1] من وزيره كتبا يلهو بها؟ ويقطع بمطالعتها زمانه، فتقدم الوزير إلى النوّاب بتحصيل ذلك، وعرضه عليه قبل حمله إلى الخليفة، فحصلوا شيئا من كتب التاريخ، وفيها شيء مما جرى في الأيام السالفة من وقائع الملوك، وأخبار الوزراء ومعرفة التحيّل في استخراج الأموال، فلمّا رآه الوزير، قال لنوّابه والله إنكم أشدّ الناس عداوة لي، أنا قلت لكم: حصّلوا له كتبا يلهو بها، ويشتغل بها عنّي وعن غيري فقد حصّلتم له ما يعرّفه مصارع الوزراء، ويوجده الطريق إلى استخراج المال، ويعرّفه خراب البلاد من عمارتها! ردّوها، وحصّلوا له كتبا فيها حكايات تلهيه، وأشعار تطربه. وكانوا يكرهون أيضا أن يكون في الخلفاء والملوك فطانة ومعرفة بالأمور ولما مات المكتفي، عزم وزيره على مبايعة عبد الله بن المعتزّ [2] ، وكان عبد الله فاضلا لبيبا محصلا، فخلا به بعض عقلاء الكتاب وقال له: أيّهذا الوزير: هذا الرأي الّذي قد رأيته في مبايعة ابن المعتز ليس بصواب، قال الوزير: كيف ذلك؟ قال: أيّ حاجة لك أن تجلس على سرير الخلافة من يعرف الذّراع والميزان والأسعار، ويفهم الأمور، ويعرف القبيح من الحسن، ويعرف دارك وبستانك وضيعتك؟ الرأي أن تجلس صبيّا صغيرا فيكون اسم الخلافة له، ومعناها لك، فتربّيه إلى أن يكبر، فإذا كبر عرف لك حقّ التربية، وتكون أنت قد قضيت أوطارك   [1] هو علي أبو محمّد بن المعتضد، الخليفة السابع عشر من خلفاء بني العبّاس، بويع بالخلافة سنة/ 289/ هـ. [2] عبد الله بن المعتزّ: أمير عباسيّ شاعر وأديب صاحب كتاب «البديع» ولي الخلافة يوما وليلة ومات خنقا سنة/ 296/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 مدّة صغره، فشكره الوزير على ذلك، وعدل عن عبد الله بن المعتزّ إلى المقتدر، وعمره يومئذ ثلاث عشرة سنة. وكان بدر الدين لؤلؤ [1] صاحب الموصل- رحمه الله- أكثر ما يجري في مجلس أنسه إيراد الأشعار المطربة، والحكايات الملهية، فإذا دخل شهر رمضان أحضرت له كتب التواريخ والسّير، وجلس الزّين الكاتب وعزّ الدين المحدّث يقرءان عليه أحوال العالم. وهذا التقرير يستدعي شرح حال: وذلك أنّي حين أحلّني حكم القضاء بالموصل الحدباء، حللتها غير متعرض لوبلها أو طلّها، ودخلتها كما قال عزّ من قائل: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ من أَهْلِها 28: 15 [2] ، وكنت بنيت عزمي على المقام فيها بقدر ما ينكسر البرد، ثم التوجّه بعد ذلك إلى تبريز، فحين استقررت بالموصل، بلغني من عدّة جهات مختلفة، ومن ذوي آراء غير مؤتلفة، غزارة فضل صاحبها الأعظم المولى المخدوم الملك المعظّم، أفضل الملوك وأعظمهم، وأكرم الحكماء وأحلمهم، فخر الملّة والدين، الممنوح بخصائص لو كانت للدهر لما شكا صرفه حر ولما مسّ أحدا منه ضرّ، ولو كانت للبحر لما كان ماؤه ملحا أجاجا، ولا خاف راكبه منه أمواجا، ولو ظفرت بها الأقمار، لما لحقها السّرار، عيسى [3] الّذي أحيا ميت الفضائل، ونشر طيّ الفواضل، وأقام سوق المكارم في عصر كسدت فيه سوقها وأنهض مقعدات المحاسن بعد ما عجزت عن حمل أجسامها سوقها، وذبّ عن الأحرار في زمان هم فيه أقلّ من القليل، وملأ أيديهم من عطائه بأياد واضحة الغرّة والتّحجيل وأفاء عليهم ظلّ رأفة لا ينتقل، وخفض لهم جناح رحمة فما بيني يتفضّل عليهم ويتطوّل، كلّما ازداد دولة وتمكينا   [1] بدر الدين لؤلؤ: أتابك الموصل زمن المستعصم قبل واليها عيسى بن إبراهيم، الّذي لازمه ابن طباطبا. [2] سورة القصص، الآية 15. [3] عيسى بن إبراهيم والي الموصل، قدّم إليه ابن طباطبا كتابه هذا، «الفخري في الآداب السلطانية» الّذي فرغ منه عام/ 701/ هـ. وسرار الشهر: آخر ليلة فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 زاد تواضعا ولينا، وكلّما بلغ من الملك غاية، رفع للكرم راية ابن إبراهيم أعزّ الله نصره، وأنفذ نهيه وأمره، الّذي أنسى ذكر الأجواد، ورزانة الأطواد وشجاعة الآساد: للشّمس فيه وللرّياح وللسحاب ... وللبحار وللأسود شمائل (كامل) الّذي هو في جبهة هذا الدهر غرّة، وفي قلادته درّة لا تدانيها في الدنيا درّة الّذي صدّق أخبار الماضين، وحقق ما نسخ من مآثر الأوّلين. وقد قال ابن الرومي: أظنّ بأنّ الدهر ما زال هكذا ... وأنّ حديث الجود ليس له أصل وهب أنّه كان الكرام كما حكوا ... أما كان فيهم واحد وله نسل؟! (طويل) فلو شاهد لصدّق ما سمع من أخبار أهل الكرم، ولما اختلجت بين جنبيه عوارض التّهم، الحاكم الّذي إذا سلّط ذهنه الشريف، وفكره اللطيف، على القضايا الديوانيّة، والأمور السلطانية ذلّت له الصعاب، ولانت له الصّم الصّلاب، وظهرت له الخفايا، وتعذّر أن يقال: في الزوايا خبايا. أما قوّة العدل عنده فسليمة، قواعدها لديه قويمة، فلا تجزعنّك هيبته المرهوبة فإنّ وراءها رأفة بالضعيف، ورقة على الفقير، وجبرا للكسير. وله من الصّفح الجميل عوائد ... أسر الطليق بها، وفكّ العاني [1] (كامل) ولقد حضرت يوما مجلسه الرفيع وكان يوم غيث، وقد تقدم بصيانة الباب فلما كثر الغيث، قال للحجّاب: من حضر الباب وله حاجة فعرّفونا بها، ثم قال: إن أحدا لا يحضر في مثل هذا الوقت إلّا لضرورة، ولا يجوز أن يردّ خائبا، فباللَّه هل يأتي في هذا الكتاب الّذي يريد أن يكون مشتملا على محاسن الآثار، إلا ما هو   [1] العاني: الأسير المعنّى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 من جنس هذه الحكاية؟. وأما قوة السّياسة عنده فعظيمة، لم تعترضها هضيمة [1] ، فلا تغرنكم رقته وابتسامه، فإنّ وراء ذلك صرامة يخضع لها الأسود، وشهامة يحذرها السيّد والمسود. هو البحر غص فيه إذا كان ساكنا ... على الدّرّ، واحذره إذا كان مزبدا (طويل) وأما قوّة الذكاء والتيقّظ فهو فيها كما قال المتنبّي: تعرف في عينه حقيقته ... كأنه بالذكاء مكتحل أشفق عند اتقاد فكرته ... عليه منها، أخاف يشتعل (منسرح) وأمّا قوّة العقل الغزير، والتمييز الصحيح، فإنّي لأظنّ أنّ عقلاء الملوك الماضين لو عاشوا وشاهدوه لتعلّموا منه كيف يساس الجمهور، وكيف تدبّر الأمور وأما قوّة الكرم الّذي تجاوز الحدّ وخرج، فحدّث عن البحر ولا حرج، فلو عاش الكرام الذين ضربت بهم الأمثال وعدمت لهم النظراء والأمثال، لتعلّموا منه غوامض الكرم ولتلقّفوا منه محاسن الشيم، ولو أنصفت لتركت وصف هذه القوّة من قواه عجزا عن الإحاطة بكنه وصفها، وقصورا عن القيام بواجب وصفها، ولكنّي أقول بحسب الجهد والطاقة: إن احتقاره للدنيا احتقار الأولياء، واستصغاره لها استصغار الزّهاد: فلو جاد بالدنيا وثنّى بضعفها ... لظنّ من استصغاره أنّه ضنّا (طويل) يعطي عطاء من يبقى الذّكر ويحييه، وينفد المال ويفنيه. أعاذل، إنّ الجود ليس بمهلكي ... ولا يخلد النفس الشحيحة لومها [2] وتذكر أخلاق الفتى، وعظامه ... مغيّبة في التّرب بال رميمها (طويل)   [1] الهضيمة: المظلمة. [2] اللّوم: اللّؤم، بتليين الهمزة جوازا، وهو ضدّ الكرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 بهمة نالت السماء، وجاوزت الجوزاء، ومن هناك حصل له الأنس بعلم النجوم فإنه أخذ علمها بالارتقاء إليها والاقتراب، لا بالحساب والأصطرلاب [1] ، بلغ السماء علوّا فشافهته بأسرارها كواكبها، وفرع [2] الأفلاك سموّا فحدثته بأخبارها، مشارقها ومغاربها: له همم لا منتهى لكبارها ... وهمّته الصّغرى أجلّ من الدّهر (طويل) لا تستقرّ في خزائنه نفائس أمواله، وليس لها بيت يحفظها سوى بيوت سؤّاله [3] : إنا إذا اجتمعت يوما دراهمنا ... ظلّت إلى طرق العلياء تستبق لا يألف الدّرهم المنقوش صرّتنا ... لكن يمرّ عليها وهو منطلق (بسيط) لا يفعل السّكر في كرمه إلا كما يفعل الصّحو في إمطار ديمه [4] يعيد عطايا سكره عند صحوه ... ليعلم أنّ الجود منه على علم ويسلم في الإحسان من قول قائل ... تكرّم لمّا خامرته [5] ابنة الكرم (طويل) ومن أسرار كرمه أنّه منزّه عن التّبذير، وإن كان أكثر من الكثير لأنه موضوع في أجلّ مواضعه، وواقع في أفضل مواقعة، فمتى تعرّض آمل أو عنّ سائل [6] ، بادر إلى إرفاده (7) مبادرة السيل إلى وهاده.   [1] الأصطرلاب: آلة فلكية اخترعها العرب لرصد النجوم والأفلاك. [2] فرع الأفلاك: صعد إليها وارتقاها. [3] السؤال: جمع سائل، وهو طالب المعروف والإحسان. [4] الدّيم: جمع ديمة، وهي السحابة الماطرة. [5] خامرته: خالطت عقله، ابنة الكرم: كناية عن الخمرة. [6] عنّ سائل: طرق محتاج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 عشق المكارم فاستهام بذكرها ... والمكرمات قليلة العشّاق وأقام سوقا للثناء، ولم تكن ... سوق الثناء تعدّ في الأسواق فاذكر صنائعه فلسن صنائعا ... لكنهنّ قلائد الأعناق والثم أنامله فلسن أناملا ... لكنّهن مفاتح الأرزاق (كامل) وكأني بك أيها الناظر في هذا الكتاب قد استعظمت ما سمعت، فإن عرض لك الشّكّ فانظر أعيان هذا العصر، تجدهم يناقشون على الذرّة [1] ، وتجده لا يلتفت إلى الدّرّة، وتجدهم يحرصون على اقتناء الذّخائر، وتجده لا يحرص إلّا على الذكر السّائر والصيّت الطائر، وتجدهم قد شغفتهم محبّة الأولاد، وتجده قد شغفته محبّة السؤّال والقصّاد، وتجدهم يهربون من المغارم [2] وتجده يعدّها من أفضل المغانم ثمّ ارجع البصر تجد المدائح عندهم كاسدة، وتجدها عنده نافقة، وتأمّل تبصر المكارم لديهم جامدة وتبصرها لديه دافقة، وانظر بابه تجده عامرا بوفود الثناء غاصّا بالأدباء والشّعراء والفضلاء والفصحاء. يسقط الطير حيث يلتقط الحبّ ... وتغشى منازل الكرماء [3] (خفيف) وتاللَّه ما الدنيا إلا دنياه، ولا العيش إلا عيشه الّذي أعطاه الله. ما العيش أنّ يمسي الفتى ... متشبّعا ضخم الجزاره العيش أنّ يشجي الفتى ... أعداءه، ويعزّ جاره حتى يخاض [4] ويرتجى ... ويرى له نشب وإ ويروح إمّا للكتابة ... سعيه، أو للإماره   [1] يناقشون على الذّرة: كناية عن البخل حتّى بالقليل كالذرّة. [2] المغارم: التكاليف والخسائر. وهنا: الإنفاق. [3] البيت لبشّار بن برد في مدح عقبة بن سلم بن قتيبة، ورواية الديوان: يسقط الطير حيث ينتشر الحبس ... ب وتغشى منازل الكرماء [4] يخاض: يؤتى إليه ويقصد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 رجعنا إلى حكاية الحال، وإتمام المقال: فلفقت المقادير أن جرى ذكري بين يديه وعرض شيء من أمري عليه فلمح بذكاء قلبه، وصحّة حدسه من تلك الأنباء حقيقة حالي قبل اللّقاء، وتقدّم بالحضور في خدمته، فلما حضرت راعني ما شاهدت من كمال هيئته وراقني ما عاينت من جمال صورته، وشريف سيرته فكان أوّل ما أنشدته قول المتنبي: وما زلت حتى قادني الشوق نحوه ... يسايرني في كلّ ركب له ذكر وأستعظم الأخبار قبل لقائه ... فلما التقينا صغّر الخبر الخبر [1] (طويل) ثمّ تابع من ألطافه ما غرس به ودّا، وجنى منه ثناء وحمدا، فرأيت أن أخدم حضرته بتأليف هذا الكتاب، ليكون تذكرة له، وتذكرة لي عنده، يذكرني به إذا غبت عن عالي جنابه، وانفصلت عن فسيح رحابه. وهذا كتاب تكلّمت فيه على أحوال الدّول وأمور الملك، وذكرت فيه ما استظرفته من أحوال الملوك الفضلاء، واستقريته من سير الخلفاء والوزراء وبنيته على فصلين [2] : فالفصل الأول تكلّمت فيه على الأمور السلطانية والسّياسات الملكيّة وخواص الملك التي يتميّز بها عن السّوقة [3] ، والتي تجب أن تكون موجودة أو معدومة فيه وما يجب له على رعيته وما يجب لهم عليه، ورصعت الكلام فيه بالآيات القرآنية والأحاديث النبويّة، والحكايات المستطرفة والأشعار المستحسنة. والفصل الثاني: تكلّمت فيه على دولة من مشاهير الدول التي كانت طاعتها عامّة، ومحاسنها تامّة، ابتدأت فيه بدولة الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان   [1] صغر الخبر الخبر: كذّب الواقع ما يروى من الكلام، والتجربة أصدق. [2] بعض الطبعات لم تلتزم بتقسيم المؤلف كتابه إلى فصلين، ومنها هذه الطبعة التي اعتمدنا عليها في تحقيق الكتاب وسنحاول التزام خطّة المؤلّف وتسمية أجزاء الفصل الثاني بأسماء الدّول التي تناولها المؤلّف بالتأريخ. ع. م م. [3] السّوقة: عوامّ الناس وأخلاطهم، ونقيضهم الملوك والأمراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وعليّ- رضي الله عنهم- على الترتيب الّذي وقع، ثمّ بالدولة التي تسلّمت الملك منها وهي الدولة الأمويّة، ثم بالدولة التي تسلّمت الملك منها وهي الدولة الأموية، ثم بالدولة التي تسلمت الملك منها، وهي الدولة العبّاسيّة ثمّ بالدول التي وقعت في أثناء الدّول الكبار، كدولة بني بويه، وكدولة بني سلجوق وكدولة الفاطميين بمصر على وجه الإيجاز، فإنّها دول وقعت في أثناء دولة بني العبّاس ولكنها لم تكن طاعتها عامة، فأتكلّم على دولة دولة بمجموع ما حصل في ذهني من الهيئة الاجتماعية التي أفادتنيها مطالعة السّير والتواريخ، فأذكر كيف كان ابتداؤها وانتهاؤها، وطرفا ممتعا من محاسن ملوكها، وأخبار سلاطينها، فإن شذّ شيء من أحوالها عن ذهني، واحتجت إلى إثباته: من حكاية ظريفة، أو بيت شعر نادر، أو آية أو حديث نبوي، أخذته من مظانّه، ثم إذا ذكرت دولة فدولة تكلّمت على كلّيات أمورها، ثم ذكرت واحدا واحدا من ملوكها، وما جرى في أيّامه من الوقائع المشهورة والحوادث المأثورة، فإذا انقضت أيّام ذلك الملك، ذكرت وزراءه واحدا واحدا وظرائف ما جرى لهم، فإذا انقضت أيام الملك ووزرائه ابتدأت بالملك الّذي بعده وبما جرى في أيّامه، وبسير وزرائه كذلك، إلى آخر الدّولة العبّاسية. والتزمت فيه أمرين: أحدهما: ألّا أميل فيه إلّا مع الحقّ، ولا أنطق فيه إلّا بالعدل، وأن أعزل سلطان الهوى، وأخرج من حكم المنشأ والمربى، وأفرض نفسي غريبا منهم، وأجنبيّا بينهم. وثانيهما: أن أعبّر عن المعاني بعبارات واضحة تقرب من الأفهام لينتفع بها كلّ أحد، عادلا عن العبارات المستصعبة التي يقصد فيها إظهار الفصاحة، وإثبات البلاغة، فطالما رأيت مصنّفي الكتب قد اعترضتهم محبّة إظهار الفصاحة والبلاغة فخفيت أغراضهم، واعتاصت معانيهم، فقلّت الفائدة بمصنّفاتهم من ذلك كتاب القانون في الطبّ لأبي عليّ الحسين [1] بن سينا البخاريّ، فإنّه حشاه بالعبارات الغامضة، والتّراكيب المستغلقة، فبطل غرضه من   [1] هو الحسين بن عبد الله أبو علي بن سينا، نشأ وتعلّم في بخارى وإليها نسب، له حوالي مائة تصنيف أشهرها القانون في الطبّ، وهو عالم وفيلسوف وطبيب وشاعر متعدّد الجوانب. توفي/ 429/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الانتفاع بكتابه، ولذلك ترى عامّة الأطباء قد عدلوا عن كتابه إلى «الملكي» السّهل العبارة، المفهم الإشارة. وهذا كتاب يحتاج إليه من يسوس الجمهور، ويدبّر الأمور، وإن أنصفه النّاس أخذوا أولادهم بتحفظه، وتدبّر معانيه، بعد أن يتدبّروه هم، فما الصغير بأحوج إليه من الكبير، ولا الملك العامّ الطاعة، بأحوج إليه من ملك مدينة ولا ذوو الملك بأحوج إليه من ذوي الأدب، فإنّ من ينصّب نفسه لمفاوضة الملوك، ومجالستهم ومذاكرتهم، يحتاج إلى أكثر ممّا في هذا الكتاب، فعلى أقلّ الأقسام لا يسعه تركه. وهذا الكتاب إن نظر بعين الإنصاف رئي أنفع من «الحماسة» التي لهج الناس بها، وأخذوا أولادهم بحفظها فإنّ «الحماسة» [1] لا يستفاد منها أكثر من الترغيب في الشّجاعة والضّيافة وشيء يسير من الأخلاق في الباب المسمّى بباب الأدب، والتأنّس بالمذاهب الشّعرية. وهذا الكتاب يستفاد منه هذه الخصال المذكورة ويستفاد منه قواعد السياسة، وأدوات الرّئاسة. فهذا فيه ما في «الحماسة» ، وليس في الحماسة، ما فيه. وإنّه ليفيد العقل قوّة، والذّهن حدّة، والبصيرة نورا، وهو للخاطر الذكيّ بمنزلة المسنّ الجيّد للفولاذ، وهو أيضا أنفع من «المقامات» [2] التي الناس فيها معتقدون، وفي تحفّظها راغبون، إذ «المقامات» لا يستفاد منها سوى التمرّن على الإنشاء، والوقوف على مذاهب النظم والنثر. نعم، وفيها حكم وحيل وتجارب، إلّا أنّ ذلك ممّا يصغّر الهمّة، إذ هو مبنيّ على السّؤال والاستجداء والتحيّل القبيح على النّزر الطفيف، فإن نفعت من جانب، ضرت من جانب وبعض الناس تنبهوا على هذا من المقامات الحريرية والبديعيّة، فعدل ناس إلى «نهج البلاغة» من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- عليه السلام-   [1] كتاب «الحماسة» لأبي تمّام الطائي الشاعر العبّاسي المشهور المتوفى ترجيحا/ 231/ هـ، قيل عنه: إنّه في حماسته أشعر منه في شعره، إذ كان جيّد الاختيار من أشعار العرب. [2] المقامات: شكل قديم من أشكال الأدب له شهرته، ومخترعه الأوّل بديع الزمان الهمذاني واسمه أحمد بن الحسين وكنيته أبو الفضل. توفي عام/ 398/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 فإنه الكتاب الّذي يتعلّم منه الحكم والمواعظ، والخطب والتوحيد والشجاعة والزهد وعلوّ الهمّة، وأدنى فوائده الفصاحة والبلاغة، وعدل الناس إلى «اليمني» للعتبي [1] ، وهو كتاب صنفه مؤلفه ليمين الدولة محمود بن سبكتكين [2] يشتمل على سير جماعة من الملوك بالبلاد الشرقية، عبر فيه بعبارات حظها من الفصاحة وافر وصاحبها إن لم يكن ساحرا فهو كاتب ماهر، والعجم مشغوفون به مجدّون في طلبه وهو لعمري كتاب يشتمل على ظرائف حكم، وبدائع سير، مع ما فيه من فنون البلاغة، وأنواع الفصاحة، ولعلّ قائلا أن يقول: لقد بالغ في وصف كتابه، وحشا ما شاء في جرابه، والمرء مفتون بابنه وشعره، فإن اعتراه ريب فليتأمّل الكتب المصنّفة في هذا الفنّ، فلعله لا يرى فيها كتابا أجمع للمعنى الّذي قصد به من هذا الكتاب. وهو أعزّ الله نصره [3] ، وسر بدوام السعادة سرّه، قد أغناه الله بالذّهن القاهر والفضل الباهر، عن هذا الكتاب وعن أمثاله، ولكنّ مهامّه الشّريفة ربّما أضجرته وأنسته، فإذا روّح فكره الشريف بالنظر فيه دفع به الملال، وتذكّر به ما أنسته الأشغال. ومن ألطاف الله تعالى أسأل ألّا يخلي هذا الكتاب من فائدتين، إحداهما تخصّني: وهي أن يقع عنده بموقع الاستصواب، فأبرأ من عهدة الخجل، والأخرى تخصّه: وهي ألا يعدمه الانتفاع به في القول والعمل، إنه ولي كلّ نعمة ومسدي [4] كلّ عارفة.   [1] أبو نصر العتبيّ: مؤرخ عاش في خراسان له كتاب (اليمنيّ) في تاريخ محمود بن سبكتكين الغزنويّ. توفي/ 1036/ م. [2] محمود بن سبكتكين الغزنويّ لقبه يمين الدولة هو ثالث ملوك الغزنويين وأشهرهم، كتب سيرته المؤرخ العتبي المذكور آنفا، توفي/ 1030/ م. [3] المقصود بالدعاء عيسى بن إبراهيم أمير الموصل الّذي قدّم إليه المؤلف ابن طباطبا كتابه «الفخري في الآداب السلطانيّة» عام/ 701/ هـ. [4] أسدى العارفة أو المعروف: قدّم المعروف إلى غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الفصل الأول في الأمور السّلطانيّة والسّياسات الملكيّة أمّا الكلام على أصل الملك وحقيقته، وانقسامه إلى رياسات دينية ودنيوية، من خلافة وسلطنة، وإمارة وولاية، وما كان من ذلك على وجه الشرع وما لم يكن ومذاهب أصحاب الآراء في الإمامة، فليس هذا الكتاب موضوعا للبحث عنه، وإنّما هو موضوع للسّياسات والآداب التي ينتفع بها في الحوادث الواقعة، والوقائع الحادثة، وفي سياسة الرعيّة وتحصين المملكة، وفي إصلاح الأخلاق والسّيرة. فأوّل ما يقال: إن الملك الفاضل هو الّذي اجتمعت فيه خصال وعدمت فيه خصال، فأمّا الخصال التي يستحبّ أن توجد فيه: فمنها العقل: وهو أصلها وأفضلها وبه تساس الدّول بالملك، وفي هذا الوصف كفاية. ومنها العدل: وهو الّذي تستغزر به الأموال، وتعمر به الأعمال، وتستصلح به الرّجال: ولما فتح السّلطان «هولاكو» [1] بغداد في سنة ستّ وخمسين وستّمائة، أمر أن يستفتي العلماء، أيّهما أفضل، السلطان الكافر العادل، أم السلطان المسلم الجائر؟ ثمّ جمع العلماء بالمستنصريّة [2] لذلك، فلما وقفوا على الفتيا أحجموا عن الجواب، وكان رضيّ الدين عليّ بن طاووس [3] حاضرا هذا المجلس، وكان مقدّما، فلما رأى إحجامهم تناول الفتيا، ووضع خطّه فيها بتفضيل العادل الكافر على المسلم الجائر فوضع الناس خطوطهم بعده. ومنها العلم: وهو ثمرة العقل، وبه يستبصر الملك فيما يأتيه ويذره ويأمن الزلل في قضاياه وأحكامه، وبه يتزيّن الملك في عيون العامّة ويصير به معدودا في خواص الملوك.   [1] هولاكو: فاتح مغولي، حفيد جنكيزخان، قضى على الخلافة العباسيّة في بغداد سنة/ 656/ هـ. كسر وأباد جيشه المماليك في عين جالوت سنة/ 658/ هـ. مات عام/ 663/ هـ. [2] المستنصريّة: ضاحية معمورة أنشأها الخليفة المستنصر، واحتلها هولاكو سنة/ 656/ هـ. [3] عليّ بن طاووس: من فقهاء بغداد في عهد المستعصم العباسي ولم نعثر له على ترجمة وافية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 قال بعض الحكماء: الملك إذا كان خلوا من العلم كان كالفيل الهائج، لا يمرّ بشيء إلا خبطه، ليس له زاجر من عقل، ولا رادع من علم. واعلم أنّه ليس المراد بالعلم في الملوك هو تصوّر المسائل المشكلة، والتبحّر في غوامض العلوم، والإغراق في طلبها، قال معاوية: ما أقبح بالملك أن يبالغ في تحصيل علم من العلوم! وإنّما المراد من العلوم في الملك، هو ألا يكون له أنس بها إلا بحيث يمكنه أن يفاوض أربابها فيها، مفاوضة يندفع بها الحال الحاضر ولا ضرورة في ذلك إلى التدقيق. كان مؤيّد الدين محمّد بن العلقميّ وزير المستعصم [1]- وهو آخر وزراء الدّولة العبّاسية- يفاوض كلّ من يدخل عليه من العلماء مفاوضة عاقل لبيب محصّل ولم يكن له بالعلوم ملكة، ولا كان مرتاضا بها رياضة طائلة. كان بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، لكثرة مجالسة الأفاضل وخوضه في الأشعار والحكايات، يستنبط المعاني الحسنة على النّكت اللطيفة، مع أنه كان أمّيا لا يكتب ولا يقرأ. وكان عزّ الدين عبد العزيز بن جعفر النّيسابوريّ [2]- رضي الله عنه- لمجالسة أهل الفضل، ولكثرة معاشرتهم له، يتنبّه على معان حسنة، ويحلّ الألغاز المشكلة أسرع منهم، ولم يكن له حظّ من علم، وما كان يظهر للناس إلا أنّه رجل فاضل وخفي ذلك حتّى على الصّاحب علاء الدين، فإن ابن الكبّوش الشاعر البصري عمل بيتين في الصاحب ونسبهما إلى عبد العزيز وهما: عطا ملك عطاؤك ملك مصر ... وبعض عبيد دولتك العزيز تجازي كلّ ذي ذنب بعفو ... ومثلك من يجازي أو يجيز (وافر)   [1] هو محمّد بن أحمد بن العلقميّ، لقبه مؤيّد الدّين، وزير أديب أريب فاضل لآخر خلفاء العباسيين المستعصم. وثق به هولاكو بعد قتل الخليفة. توفي بعد شهور من سقوط بغداد عام/ 656/ هـ. [2] عزّ الدين عبد العزيز بن جعفر النيسابورىّ، والصاحب علاء الدين، وابن الكبّوش ممّن لم تترجم لهم كتب الأعلام ويبدو أنهم من معارف المؤلف والمعاصرين له أو الملازمين لذاكرته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 فأنشدهما عبد العزيز بحضرة الصاحب وادّعاهما، وخفي الأمر على الصّاحب وما أدري من أيّهما أعجب؟! أمن الصّاحب كيف خفي عنه حال عبد العزيز مع أنه السنين الطويلة يعاشره في سفر وحضر، وجدّ وهزل؟ أم من عبد العزيز كيف رضي لنفسه مثل هذه الرّذيلة، وأقدم على مثل هذا مع الصاحب وما خاف من تنبّه الصاحب واسترذاله لفعله. وتختلف علوم الملوك باختلاف آرائهم، فأمّا ملوك الفرس: فكانت علومهم حكما ووصايا، وآدابا وتواريخ، وهندسة وما أشبه ذلك. وأما علوم ملوك الإسلام فكانت علوم اللسان، كالنّحو واللّغة، والشّعر والتواريخ، حتّى إنّ اللحن كان عندهم من أفحش عيوب الملك، وكانت منزلة الإنسان تعلو عندهم بالحكاية الواحدة وبالبيت الواحد من الشّعر، بل باللفظة الواحدة من اللغة. وأما في الدولة المغوليّة: فرفضت تلك العلوم كلّها، ونفقت فيها علوم أخر: وهي علم السياقة والحساب لضبط المملكة وحصر الدّخل والخرج، والطّب لحفظ الأبدان والأمزجة، والنجوم لاختيار الأوقات وما عدا ذلك من العلوم والآداب فكاسد عندهم، وما رأيته نافقا إلا بالموصل في أيام ملكها المشار إليه، مدّ الله ظلّه ونشر فضله. ومنها الخوف من الله تعالى، وهذه الخصلة هي أصل كلّ بركة، فإن الملك متى خاف الله أمنه عباد الله روي أن عليّا أمير المؤمنين- عليه السلام- استدعى بصوته بعض عبيده فلم يجبه، فدعاه مرارا فلم يجبه، فدخل عليه رجل، وقال: يا أمير المؤمنين إنّه بالباب واقف، وهو يسمع صوتك ولا يكلّمك! فلمّا حضر العبد عنده، قال: أما سمعت صوتي؟ قال: بلى، قال: فما منعك من إجابتي؟ قال: أمنت عقوبتك، قال عليّ عليه السّلام: الحمد للَّه الّذي خلقني ممّن يأمنه خلقه. وما أحسن قول أبي نواس [1] لهارون الرشيد:   [1] أبو نواس: الحسن بن هانئ الشاعر العبّاسي الأشهر ونديم الخليفة الرشيد. توفّي عام/ 195/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 قد كنت خفتك ثم آمنني ... من أن أخافك خوفك الله (كامل) ولم يكن الرّشيد يخاف الله، وأفعاله بأعيان آل عليّ، وهم أولاد بنت نبيّه لغير جرم، تدلّ على عدم خوفه من الله تعالى، ولكنّ أبا نواس جرى في قوله على عادة الشّعراء. ومنها العفو. عن الذنوب، وحسن الصفح عن الهفوات: وهذه أكبر خصال الخير وبها تستمال القلوب، وتصلح النيات، فمما جاء في التنزيل من الحثّ على ذلك قوله تعالى شأنه: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ الله لَكُمْ 24: 22 [1] ، وكان المأمون حليما حسن الصّفح معروفا بذلك، هجاه دعبل الشاعر بأشعار كثيرة من جملتها: إنّي من القوم الذين سيوفهم ... قتلت أخاك وشرّفتك بمقعد شادوا بذكرك بعد طول خموله ... واستنقذوك من الحضيض الأوهد فلما بلغه هذا القول لم يزد على أن قال: قاتله الله ما أشدّ بهتانه، متى كنت خاملا وفي حجر الخلافة نشأت وبدرّها أرضعت؟! ولمّا بلغه أن دعبلا قد هجاه قال من أقدم على هجاء وزيري أبي عباد [2] ، كيف لا يقدم على هجائي؟! وهذا الكلام ظاهره غير مستقيم، وهو يحتاج إلى تأويل، فإنّه عكس المعهود، قد كان ينبغي أن يقول الوزير: من أقدم على هجاء الخليفة كيف لا يقدم على هجائي ومعنى قول المأمون: أنّ من أقدم على هجاء أبي عباد مع حدّته وهوجه وتسرّعه- وكان أبو عباد كذلك- كيف لا يقدم عليّ في حلمي وصفحي؟!. ولولا خوف الإطالة لذكرت جماعة من حلماء الملوك في هذا الموضع، ولكن ليس هذا الفصل موضوعا للسّمر وسيرد من ذلك ما يمنع- إن شاء الله- في الفصل الثاني.   [1] سورة النور، الآية/ 22/. [2] أبو عباد: ثابت بن يحيى بن يسار الرازيّ، هو الوزير الخامس ممّن استوزرهم الخليفة المأمون، وسوف تأتي سيرته مع وزراء المأمون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 ومنهم من يرى أنّ الحقد خصلة محمودة في الملك، قال بزرجمهر [1] : يجب أن يكون الملك أحقد من جمل، وأنا أناظره في هذا القول فأقول: كيف يقال كذلك والملك متى كان حقودا فسدت نيته لرعيّته فمقتهم، وقلّل الالتفات إليهم بالشفقة عليهم ومتى أحسّوا بذلك تغيّرت نياتهم له، وفسدت بواطنهم، وهل يتمكّن الملك مما يريده من مهمّات مملكته، وبلوغ أغراضه كما في نفسه، إلّا بصفاء قلوب رعيّته؟ وأيّ حكمة في ذلك؟ وهل فيه سوى تنغيص عيش الملك وتبغيض رعيّته إليه، وإيحاشهم منه؟ قال شاعر العرب [2] : ولا أحمل الحقد القديم عليهم ... وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا (طويل) خصوصا والناس مركّبون على الخطأ، ومجبولون على تشمير الطباع، فما أكثر ما تصدر منهم موجبات الحقد! فلا يزال الملك طول دهره يعاني من الغيظ والحقد عليهم، ما ينغّص عليه لذّته، ويشغله عن كثير من مهام مملكته، وما أكثر ما رأينا الرعيّة أو الجند قد وثبوا على ملوكهم، فسلبوهم رداء المملكة بل رداء الحياة! فابتدئ من عمر بن الخطاب، وقد وثب عليه لؤلؤة [3] عبد المغيرة بن شعبة فقتله، ثم ثنّ بعثمان بن عفان- رضي الله عنه- وانظر كيف اجتمع عليه رعيّته من كلّ جانب، فحاصروه في داره أيّاما ثم دخلوا عليه فقتلوه، والمصحف في حجره حتى قطرت قطرات من دمه على المصحف، ثم ثلث بعليّ بن أبي طالب- عليه السلام- وقد ضربه عبد الرحمن بن ملجم- لعنه الله- بسيفه على أمّ رأسه   [1] بزرجمهر: ابن البختكان، وزير حكيم فارسيّ له قصة تاريخ انتساخ كتاب «كليلة ودمنة» وله حكم منثورة في كتاب «عيون الأخبار» لابن قتيبة. [2] شاعر العرب: عنى به هنا المقنع الكندي، وقد اشتهر بقصيدته الفخرية الداليّة التي منها هذا البيت. اسمه محمد بن عميرة وهو من شعراء العصر الأموي توفي نحو/ 70/ هـ. [3] هو أبو لؤلؤة المجوسيّ الفارسيّ. انظر حدث الاغتيال في «تاريخ الخلفاء» لجلال الدين السيوطي. طبع دار القلم العربيّ بحلب ص 142. وستلي أخبار مصارع الخلفاء الراشدين في صفحات لاحقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 بالكوفة فقتله، وكان ابن ملجم من الخوارج، هذا في الصدر الأول والناس ناس والدين دين، ثم تنقّل دولة فدولة، وأياما، فأياما، إلى أواسط دولة بني العبّاس، فانظر منذ عهد المتوكل إلى عهد المقتفي ما جرى على واحد واحد من الخلفاء من القتل والخلع والنهب، بسبب تغيّر نيات جنده ورعيّته. فهذا سمل [1] ، وذاك قتل، والآخر عزل. ثم اسرح طرفك في الدولتين البويهية والسلجوقية تر من هذا الباب عجبا. ثم ارجع البصر إلى أونكخان ملك الترك، كيف لما تنكّرت نيّته على جنكزخان [2] ، وحقد عليه أشياء عرضها عليه عنده حساده، وأراد الوقيعة به وأعلمه بذلك الصبيان فرحل من ليلته، ثم حشد وجمع ووثب على أونكخان فقتله وملك ممالكه- تعلم أن الحقد من أضرّ الأشياء للملك، وأن أوفق الأشياء له الصفح والعفو والغفران والتناسبي. وما أحسن قول القائل: اقبل من الناس ما تيسّر ... ودع من الناس ما تعسر فإنّما النّاس من زجاج ... إن لم ترفق به تكسّر (منسرح) وقد مدح بعض الشعراء الحقد، ولم يسمع بمن مدح الحقد غير هذا، فقال: وما الحقد إلا توأم الشّكر في الفتى ... وبعض السجايا ينتسبن إلى بعض فحيث ترى حقدا على ذي إساءة ... فثمّ ترى شكرا على سالف الفرض إذا الأرض أدّت ريع ما أنت زارع ... من البذر فهي ناهيك من أرض (طويل) هذا قول لا يعرج عليه. وإن عرّج عليه أحد فليعرّج عليه غير الملك، فإنّ الملك أحوج الخلق إلى استصلاح النيّات، واستصفاء القلوب. ومن الخصال التي يستحبّ أن تكون في الملك، الكرم: وهو الأصل في استمالة القلوب، وتحصيل النصائح من العالم، واستخدام الأشراف. قال الشاعر:   [1] سمل: قلعت عينه. [2] جنكيزخان: مؤسس الإمبراطورية المغولية، من سلالته هولاكو وتيمور لنك. مات/ 625/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 إذا ملك لم يكن ذا هبه [1] ... فدعه فدولته ذاهبه (متقارب) ومما جاء في الحديث النبوي- صلوات الله على صاحبه- «تجاوزوا عن ذنب السخيّ، فإنّ الله آخذ بيده كلّما عثر، وفاتح عليه كلّما افتقر» . وقال عليّ- عليه السلام- «: الجود حارس الأعراض» . واعلم أنه لم تتضمّن سيرة من حكايات الجود مثل ما نقل عن قان العادل (وهو أوكتاي بن جنكزخان) ، فإنه غبّر [2] في وجوه جميع كرام الملوك. مناقب تفتق ما رقعتم ... من جود كعب [3] وسماح حاتم (رجز) ومن الاتفاقات الحسنة، وجوده في عصر المستنصر باللَّه. وكان المستنصر أكرم من الريح، ولكن أين يقع جوده من جودقان؟ ومن أين للمستنصر [4] مال يفي بعطايا قان؟. ومنها الهيبة: وبها يحفظ نظام المملكة، ويحرس من أطماع الرعيّة. وقد كان الملوك يبالغون في إقامة الهيبة والناموس، حتى بارتباط الأسود والفيلة والنمور، وبضرب البوقات الكبار كبوق النفير، والدّباب [5] والقصع، ورفع السّناجق [6] وخفق الألوية على رءوسهم. كلّ ذلك لإثبات الهيبة في صدور الرعية، ولإقامة ناموس المملكة. كان عضد الدولة إذا جلس على سريره أحضرت الأسود والفيلة والنمور في السلاسل، وجعلت في حواشي مجلسه، تهويلا بذلك على الناس، وترويعا لهم.   [1] ذا هبة: صاحب عطاء. وفي البيت جناس بديعي واضح. [2] غبر في وجوههم: فاقهم وغلبهم، وهنا الغلبة في مجال الكرم. [3] كعب: هو كعب بن مامة من أشهر أجواد العرب بعد حاتم الطائي. [4] المستنصر: الخليفة العبّاسي قبل الأخير من خلفاء بغداد، عاصر أوكتاي بن جنكيزخان. توفي/ 640/. هـ. [5] الدّبادب: الطّبول. [6] السّناجق: الألوية والرايات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ومنها السّياسة: وهي رأس مال الملك، وعليها التّعويل في حقن الدماء، وحفظ الأموال، ومنع الشّرور، وقمع الدعّار [1] والمفسدين، والمنع من التظالم المؤدّي إلى الفتنة والاضطراب. ومنها الوفاء بالعهد: قال تعالى سلطانه: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا 17: 34 [2] . وهو الأصل في تسكين القلوب، وطمأنينة النفوس، ووثوق الرعيّة بالملك إذا طلب الأمان منه خائف، أو أراد المعاهدة منه معاهد. ومنها الاطّلاع على غوامض أحوال المملكة ودقائق أمور الرعيّة، ومجازاة المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته. كان أردشير [3] الملك يقول لمن شاء من أشراف رعيّته وأوضاعهم: كان البارحة من حالك كيت وكيت حتّى صار يقال إنّ أردشير يأتيه ملك من السّماء يخبره بالأمور. وما ذاك إلا لتيقظه وتصفّحه. فهذه عشر خصال من خصال الخير، من كنّ فيه استحقّ الرئاسة الكبرى. ولو نظر أصحاب الآراء والمذاهب حقّ النظر، وتركوا الهوى، لكانت هذه الشرائط هي المعتبرة في استحقاق الإمامة، وما عداها فغير طائل. وقال بزرجمهر [4] . ينبغي أن يكون الملك كالأرض في كتمان سرّه وصبره، وكالنار على أهل الفساد وكالماء في لينه لمن لاينه، وينبغي أن يكون أسمع من فرس، وأبصر من عقاب، وأهدى من قطاة، وأشدّ حذرا من غراب، وأعظم إقداما من الأسد، وأقوى وأسرع وثوبا من الفهد وينبغي للملك ألا يستبدّ برأيه وأن يشاور في الملمّات خواصّ الناس وعقلاءهم ومن يتفرّس فيه الذكاء والعقل وجودة الرّأي، وصحّة التمييز ومعرفة الأمور. ولا ينبغي أن تمنعه عزّة الملك من إيناس المستشار به وبسطه، واستمالة قلبه حتى يمحضه النّصيحة فإن أحدا لا ينصح بالقسر ولا يعطي نصيحته إلا بالرّغبة، وما أحسن قول الشاعر في هذا المعنى:   [1] الدّعّار: جمع داعر، وهو الفاسق المجاهر. [2] سورة الإسراء، الآية/ 34/.. [3] أردشير: مؤسس المملكة الساسانية من الفرس. ولعلّ الكلمة تعني مطلق الملك بالفارسية. [4] بزرجمهر: وزير وحكيم فارسي، سبقت ترجمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 أهان وأقصى ثم يستنصحونني ... ومن ذا الّذي يعطي نصيحته قسرا؟! (طويل) قال الله تعالى: وَشاوِرْهُمْ في الْأَمْرِ 3: 159 وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه دائما. لمّا كانت وقعة بدر [1] خرج- صلّى الله عليه وسلّم- من المدينة في جماعة من المسلمين، فلما وصلوا بدرا نزلوا على غير ماء، فقام إليه رجل [2] من أصحابه وقال: يا رسول الله: نزولك ها هنا شيء أمرك الله به أو هو من عند نفسك قال: بل هو من عند نفسي، قال يا رسول الله: إن الصّواب أن ترحل وتنزل على الماء فيكون الماء عندنا، فلا نخاف العطش، وإذا جاء المشركون لا يجدون ماء، فيكون ذلك معينا لنا عليهم، قال رسول الله، صدقت، ثم أمر بالرحيل، ونزل على الماء، واختلف المتكلّمون في كون الله تعالى أمر رسوله بالاستشارة، مع أنه أيّده ووفّقه، وفي ذلك أربعة وجوه: أحدها: أنّه- عليه السلام- أمر بمشاورة الصحابة استمالة لقلوبهم وتطييبا لنفوسهم. والثاني: أنه أمر بمشاورتهم في الحرب ليستقرّ له الرأي الصحيح فيعمل عليه. والثالث: أنه أمر بمشاورتهم لما فيها من النفع والمصلحة. والرابع: أنه إنما أمر بمشاورتهم ليقتدي به الناس، وهذا عندي أحسن الوجوه وأصلحها. قالوا: الخطأ مع المشورة، أصلح من الصواب مع الانفراد والاستبداد، وقال صاحب كليلة ودمنة [3] : لا بدّ لملك من مستشار مأمور يفضي إليه بسرّه، ويعاونه على رأيه، فإن المستشير- وإن كان أفضل من المستشار وأكمل عقلا وأصحّ رأيا- قد يزداد برأي المشير رأيا، كما تزداد النار بالدّهن ضوءا ونورا، قال الشاعر:   [1] انظر خبر موقعة بدر في سيرة ابن هشام أو مختصر السيرة بإعداد محمد عفيف الزعبي ص/ 122/. [2] هو الحباب بن المنذر. انظر مختصر السيرة ص/ 122/. [3] لعلّه قصد بزرجمهر الوزير الحكيم الفارسيّ، أو عبد الله بن المقفع المترجم لكليلة ودمنة عن الفارسيّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 إذا أعوز الرأي المشورة فاستشر ... برأي نصيح أو مشورة حازم [1] (طويل) واعلم أنّ للملك أمورا تخصّه يتميز بها عن السوقة، فمنها: أنه إذا أحبّ شيئا أحبه الناس، وإذا أبغض شيئا أبغضه الناس، وإذا لهج بشيء لهج به الناس إمّا طبعا أو تطبّعا، ليتقربوا بذلك إلى قلبه، ولذلك قيل: الناس على دين ملوكهم فانظر كيف كان زيّ الناس في زمن الخلفاء، فلما ملكت هذه الدولة- أسبغ الله إحسانها وأعلى شأنها- غيّر الناس زيّهم في جميع الأشياء، ودخلوا في زيّ ملوكهم بالنطق واللباس، والآلات والرّسوم والآداب، من غير أن يكلّفوهم ذلك أو يأمروهم به أو ينهوهم عنه، ولكنهم علموا أن زيّهم الأوّل مستهجن في نظرهم، مناف لاختيارهم فتقرّبوا إليهم بزيّهم وما زال الملوك في كلّ زمان يختارون زيّا وفنّا، فيميل الناس إليه ويلهجون به، وهذا من خواصّ الدولة وأسرار الملك. ومن خواصّ الملك: أن صحبته تورث التيه والكبر، وتقوّي القلب وتكبّر النفس وليس صحبة غير الملك تفعل ذلك، ومن خواصّه: أنه إذا أعرض عن إنسان وجد ذلك الإنسان في نفسه ضعفا، وإن لم ينله بمكروه، وإذا أقبل على إنسان وجد ذلك الإنسان في نفسه قوّة، وإن لم يصبه منه خير، بل مجرّد الإعراض، والإقبال يفعل ذلك، وليس أحد من الناس بهذه المنزلة غير السّلطان. وأما الخصال التي يستحبّ أن تكون معدومة فيه: فقد ذكرها ابن المقفع في كلام له قال: ليس للملك أن يغضب، لأنّ القدرة من وراء حاجته، وليس له أن يكذب لأنه لا يقدر أحد على إلزامه بغير ما يريد، وليس له أن يبخل، لأنه أقل الناس عذرا في خوف الفقر، وليس له أن يكون حقودا، لأن قدره قد عظم عن المجازاة لأحد على إساءة صدرت منه، وليس له أن يحلف إذا حدّث، لأن الّذي يحمل الإنسان على اليمين في حديثه خلال: إمّا مهانة يجدها في نفسه واحتياج إلى   [1] البيت للشاعر العباسي بشّار بن برد. والشائع في روايته: إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي نصيح أو نصيحة حازم وهو من قصيدة طويلة كانت في مدح إبراهيم بن عبد الله بن الحسن العلويّ، فلمّا قتل، جعلها بشّار في أبي جعفر المنصور، الخليفة العبّاسي الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 أن يصدّقه الناس، وإمّا عيّ وحصر وعجز عن الكلام، فيريد أن يجعل اليمين تتمة لكلامه أو حشوا فيه، وإما أن يكون قد عرف أنه مشهور عند الناس بالكذب، فهو يجعل نفسه بمنزلة من لا يصدّق ولا يقبل قوله إلّا باليمين، وحينئذ كلّما ازداد إيمانا ازداد الناس له تكذيبا، والملك بمعزل عن هذه الدنايا كلّها، وقدره أكبر من ذلك. ومن الخصال التي يستحبّ أن تكون معدومة في الملك: الحدّة، فإنّها ربّما أصدرت عنه فعلا يندم عليه حين لا ينفع الندم، وأكثر ما ترى الحداد من الرّجال سريعي الرّجوع، ولذلك قال- عليه الصلاة والسلام-: «خير أمّتي حدادها» . ومن الخصال التي يستحب عدمها في الملك: الضّجر والسّأم والملل، فذلك من أضرّ الأمور وأفسدها لحاله. واعلم أنّ للملك على رعيّته حقوقا، وأنّ لهم عليه حقوقا، فأمّا الحقوق التي تجب للملك على رعيّته، فمنها الطاعة: وهي الأصل الّذي ينتظم به صلاح أمور الجمهور، ويتمكن به الملك من الإنصاف للضعيف من القويّ، والقسمة بالحقّ، وممّا جاء في التنزيل من الحثّ على ذلك- وهي الآية المشهورة في هذا المعنى- قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ 4: 59 [1] . ومن أمثالهم: «لا إمرة لمن لا يطاع» [2] . ولم ينقل في تاريخ ولا تضمّنت سيرة من السير، أنّ دولة من الدول رزقت من طاعة جندها ورعاياها، ما رزقته هذه الدولة القاهرة المغوليّة [3] ، فإنّ طاعة جندها ورعاياها لها، طاعة لم ترزقها دولة من الدّول. فأما الدّولة الكسرويّة [4] : فإنّها على عظمها وفخامتها، لم تبلغ ذلك، وقد   [1] سورة النساء، الآية/ 59/. [2] نسب القول إلى الإمام علي بن أبي طالب بعبارة: لا رأي لمن لا يطاع. [3] الدولة المغوليّة: عنى بها الدولة التي أسّسها جنكيزخان وامتدّت على يدي سلالته إلى بغداد وغربيّ آسيا، وحدّت توسّعها معركة عين جالوت عام/ 658/ هـ. [4] الدولة الكسرويّة: عنى بها الفارسية التي سمّي كلّ من ملوكها بكسرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 كان النّعمان بن المنذر [1] ملك الحيرة نائبا لكسرى على العرب، وبين الحيرة والمدائن التي كانت سرير ملك الأكاسرة فراسخ معدودة والنّعمان في كل أيّامه قد عصا على كسرى وإذا حضر مجلسه تبسّط وتجرّأ على مجاوبته، وكان متى أراد خلع طاعته دخل البرية فأمن شرّه. وأمّا الدّول الإسلاميّة: فلا نسبة لها إلى هذه الدولة حتّى تذكر معها، فأمّا خلافة الأربعة الأوّل: وهم أبو بكر الصدّيق، وعمر بن الخطّاب، وعثمان بن عفّان- رضي الله عنهم- وعليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- فإنّها كانت أشبه بالرّتب الدينية من الرّتب الدنيوية في جميع الأشياء، كان أحدهم يلبس الثّوب من الكرباس الغليظ، وفي رجله نعلان من ليف، وحمائل سيفه ليف، ويمشي في الأسواق كبعض الرعيّة، وإذا كلّم أدنى الرعيّة أسمعه أغلظ من كلامه، وكانوا يعدّون هذا من الدين الّذي بعث به النبيّ صلوات الله عليه وسلامه، قيل إنّ عمر ابن الخطّاب جاءته برود من اليمن ففرّقها على المسلمين فكان نصيب كلّ رجل من المسلمين بردا واحدا، وكان نصيب عمر كنصيب واحد من المسلمين، قيل: ففصّله عمر ثم لبسه، وصعد المنبر فأمر الناس بالجهاد فقام إليه رجل من المسلمين وقال: لا سمعا وطاعة، قال لم ذلك؟ قال: لأنّك استأثرت علينا، قال عمر: بأيّ شيء استأثرت؟ قال: إن الأبراد اليمنيّة لما فرّقتها حصل لكلّ واحد من المسلمين برد منها، وكذلك حصل لك، والبرد الواحد لا يكفيك ثوبا، وتراك قد فصّلته قميصا تامّا، وأنت رجل طويل، فلو لم تكن قد أخذت أكثر منه لما جاءك منه قميص فالتفت عمر إلى ابنه عبد الله وقال: يا عبد الله أجبه عن كلامه، فقام عبد الله ابن عمر وقال: إنّ أمير المؤمنين عمر لمّا أراد تفصيل برده لم يكفه، فناولته من بردي لأتمّمه له، فقال الرّجل: أمّا الآن فالسّمع والطاعة [2] . وهذه السّير ليست من طرز ملوك الدنيا، وهي بالنّبوّات والأمور الأخرويّة أشبه.   [1] النعمان بن المنذر أشهر ملوك الحيرة وآخرهم من العرب. كنيته أبو قابوس. مدحه النابغة الذبيانيّ. مات في سجن كسرى سنة/ 602/ م. [2] السمع والطاعة: لك علينا السمع والطاعة، ونصبهما وارد على تقدير آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وأما خلافة بني أميّة: فكانت قد عظمت وتفخّم أمرها، وعرضت مملكتها [1] ولكنّ طاعتهم لم تكن كطاعة هؤلاء، وكان بنو أميّة في الشام، وكان بنو هاشم بالمدينة لا يلتفتون إليهم، وإذا دخل الرجل الهاشميّ على الخليفة من بني أمية أسمعه غليظ الكلام وقال له كلّ قول صعب. وأما الدّولة العباسية: فلم تبلغ طاعة الناس لها ما بلغت هذه الدولة [2] ، مع أن مدّتها طالت حتّى تجاوزت خمسمائة سنة، ومملكتها عرضت حتّى إنّ بعضهم جبى معظم الدنيا. وستقع الإشارة إلى ذلك عند الكلام على دولة بني العبّاس. وحاصل الدنيا في أيّام الرشيد، في حسبة جامعة تشتمل عليها كتب التواريخ- يدل على ذلك. فأما أوائلهم: فجبوا شطرا صالحا من الدنيا. وقويت شوكتهم. كالمنصور والمهديّ والرشيد والمأمون والمعتصم والمعتضد والمتوكل. ومع ذلك لم تكن دولتهم تخلو من ضعف ووهن من عدة جهات: منها امتناع الروم عليهم، وقيام الحرب بينهم وبين ملوكها النّصارى في كلّ سنة على ساق. ومع ذلك كانت جبايتها تستصعب عليهم وملوكها لا يزالون على الامتناع منهم، وقد كان من أمر المعتصم وعمّورية ما بلغك ولعلّ طرفا منه يبلغك في هذا الكتاب: عند الكلام في الدّولة العباسية. ومن أسباب الوهن الواقع في دولتهم خروج الخوارج في كلّ وقت. فأمّا المنصور: فلم يشرب ريقا حلوا من ذلك، وخرج عليه النّفس الزكية محمّد بن عبد الله بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب- عليهم السّلام- بالحجاز فجرت بينه وبينه حروب أفضت إلى إرسال عيسى بن موسى بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس إلى الحجاز لمحاربة النّفس الزكيّة، فقتله بموضع قريب من المدينة يقال له أحجار الزّيت. وذلك في سنة كذا [3] ، ولذلك سمّي النفس الزكيّة قتيل أحجار الزّيت   [1] عرضت المملكة: اتّسعت عرضا. [2] هذه الدولة: عنى بها الدولة المغوليّة بعد فتح هولاكو لبغداد 656 هـ. [3] سنة/ 145/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وخرج عليه أخو النّفس الزكيّة. وهو إبراهيم بن عبد الله بالبصرة فقلق المنصور لذلك غاية القلق وقام وقعد حتّى توجّه إليه عيسى بن موسى فقتله بقرية قريبة من الكوفة يقال لها باخمرى [1]- رضي الله عنه- ومن هاهنا حقد المنصور على العلويّين وفعل بهم تلك الأفاعيل. ولعل طرفا منها يبلغك في هذا الكتاب إذا انتهيت من الكلام إلى الدولة العبّاسيّة. وكذلك جرى أمر الخوارج مع خليفة خليفة، حتى كان الرعيّة لا ينامون في بيوتهم آمنين ولا يزالون يتوقّعون الفتنة والحرب، كما كان حال أهل قزوين في مجاورة قلاع الملاحدة. حدّثني الملك إمام الدين يحيى بن الافتخاريّ- رضي الله عنه- قال: أذكر ونحن بقزوين إذا جاء الليل جعلنا جميع مالنا من أثاث وقماش ورحل في سراديب لنا في دورنا غامضة خفية، ولا نترك على وجه الأرض شيئا، خوفا من كبسات الملاحدة. فإذا أصبحنا أخرجنا أقمشتنا، فإذا جاء الليل فعلنا كذلك. ولأجل ذلك كثر حمل القزاونة للسكاكين وكثر حملهم للسلاح. وما زال الملاحدة على ذلك حتى كان من أمر شمس الدين قاضي قزوين، وتوجّهه إلى قان وإحضار العسكر وتخريب قلاع الملاحدة ما كان. وليس هذا الموضع موضع استيفاء الكلام في هذا، فإنه اعترض وليس بمقصود. وكما جرى للموفّق بن المتوكّل في مرابطة الزّنج أربع عشرة سنة [2] : ما زال يصابرهم من البصرة وواسط طول هذه المدة حتّى أفناهم، وكان لطول المدة قد ابتنى الزّنج هناك مدائن، ثم خربت وآثارها الآن باقية. وأما أواخرهم: - أعني أواخر خلفاء بني العبّاسي- فضعفوا غاية الضعف حتى عصت تكريت عليهم، وفي ذلك يقول شاعرهم: في العسكر المنصور نحن عصابة ... من دولة أخسس بنا من معشر   [1] وكان مقتل إبراهيم بن عبد الله وهو أخو النفس الزكيّة، في (باخمرى) بالقرب من الكوفة عام 145 هـ، أيضا. [2] وقعت ثورة الزنج في عهد المعتمد واستمرت في البصرة وما حولها مدة أربع عشرة سنة/ 256- 270/ هـ إلى أن أخضعها الموفق أخو المعتمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 خذ عقلنا من عقدنا فيما ترى ... من خسّة ورقاعة وتهوّر تكريت [1] تعجزنا ونحن بعقلنا ... نمضي لنأخذ ترمذا [2] من سنجر [3] (كامل) وكانوا- أعنى المتأخّرين من خلفاء بني العبّاس- قد اقتصروا في آخر الأمر على مملكة العراق فحسب، حتى إن ((إربل [4] ، لم تكن في حكمهم. وما زالت خارجة عن حكمهم إلى أن مات مظفر الدين بن زين الدين عليّ كوجك صاحب إربل وذلك في أيام المستنصر [5] ، فعيّن عليّ شرف الدين إقبال الشّرابي، وكان مقدّم الجيوش ليتوجه إلى إربل ليفتحها، وجهزه بالعساكر فتوجّه الشرابي اليها وأقام عليها أياما محاصرا ثم فتحها فضربت البشائر ببغداد يوم وصول الطائر بفتحها. فانظر الى دولة تضرب البشائر على أبواب صاحبها، ويزيّن البلد لأجل فتح قلعة إربل، التي هي اليوم في هذه الدولة من أحقر الأعمار وأصغرها وأهونها بلى قد كان ملوك الأطراف، مثل ملوك الشام ومصر وصاحب الموصل، يحملون إليهم في كل سنة شيئا على سبيل الهديّة والمصانعة ويطلبون منهم تقليدا بولاية بلادهم، بحيث يتسلّطون بذلك على رعيتهم، ويوجبون عليهم طاعتهم بذلك السبب ولعل الخلفاء قد كانوا يعوّضون ملوك الأطراف عن هداياهم بما يناسبها، أو يفضل عنها كلّ ذلك لحفظ الناموس الظاهر، وليكون لهم في البلاد والأطراف السكّة والخطبة، حتى صار يضرب مثلا لمن له ظاهر الأمر وليس له من باطنه شيء أن يقال قنع فلان من الأمر الفلاني بالسكّة والخطبة، يعنى قنع منه بالاسم دون الحقيقة فهذه جمل من أحوال الدولة العباسية.   [1] تكريت: مدينة على نهر دجلة شمالي سامرّاء، وكنّى بها الشاعر عن قرب المسافة. [2] ترمذ: مدينة في أوزبكستان على حدود أفغانستان، كنّى بها عن بعد المسافة عن بغداد. [3] سنجر: آخر سلاطين السلاجقة الكبار. كانت نهايته على أيدي قبائل الغزّ، وبذا انحطت السلطنة السلجوقية. وكنى به الشاعر عن الصولة والسلطان. [4] إربل: مدينة تاريخية في شمال العراق، تعرف اليوم بأربيل. [5] المستنصر، بويع بالخلافة 623 هـ ومات/ 640/ هـ وهو الخليفة قبل الأخير من خلفاء الدولة العباسية. وكان كريما متلافا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وأما الدولتان البويهية [1] والسلجوقية [2] : فلم تعرض مملكتهما مع قوة شوكة ملوكهما كعضد الدولة في بني بويه، وطغرلبك في بني سلجوق، ولم تعمّ طاعتهما ولم يشمل ملكهما. وأما الدولة الخوارزمشاهية: - مع أن جريدة السلطان جلال الدين اشتملت على أربعمائة ألف مقاتل- فلم يعرض ملكها أيضا، ولا تجاوزت النواحي القريبة منها، بل جلال الدين غزا أطراف الهند. ومن الحقوق الواجبة للملك على الرعيّة التّعظيم والتّفخيم لشأنه في الباطن والظاهر وتعويد النفس ذلك ورياضتها بحيث تصير ملكة مستقرة، وتربية الأولاد على ذلك وتأديبهم به ليتربى هذا المعنى معهم. وها هنا موضع حكاية: وهي أنّ سلطان هذا العصر- ثبّت الله قواعد دولته وبسط في الخافقين ظلّ معدلته- لما ورد إلى بغداد في سنة ثمان وتسعين وستمائة دخل المستنصرية [3] لمشاهدتها والتفرج فيها. وكانت قبل وروده إليها قد زينت وجلس المدرسون على سددهم، والفقهاء بين أيديهم، في أيديهم أجزاء القرآن وهم يقرءون منها، فاتفق أن الرّكاب السلطاني بدأ بالاجتياز على طائفة الشافعيّة، ومدرّسها الشيخ جمال الدين عبد الله بن العاقوليّ، وهو رئيس الشافعيّة ببغداد، فلما نظروا إليه قاموا قياما فقال للمدرّس المذكور: كيف جاز أن تقوموا لي وتتركوا كلام الله؟ فأجاب المدرّس بجواب لم يقع بموقع الاستصواب في الحضرة السّلطانية- أعلى الله في الدنيا كلمتها وفي الآخرة درجتها- ثم بعد ذلك حكي لي المدرس المذكور صورة السؤال والجواب فأما السؤال: فهو ما حكيته، وأمّا جوابه فلم   [1] الدولة البويهية: أسسها أبو شجاع بويه، وأولاده الثلاثة، عماد الدولة وركن الدولة ومعزّ الدولة، حكمت في أصفهان وشيراز وكرمان وبغداد. من أقوى ملوكها عضد الدولة. قضى عليها طغرل بك السلجوقي/ 447/ هـ. [2] الدولة السلجوقية: أحلّت نفوذ السلاجقة في بغداد، وهم من أسرة تركمانية جدّها سلجوق، قضت على نفوذ البويهيين وقضى عليها جنكيزخان وخلفاؤه ومنهم هولاكو. [3] المستنصرية: ضاحية معمورة من ضواحي بغداد، شيّدها الخليفة المستنصر/ 623- 640/ هـ. وفيها قصور وقنطرة وخان حربي لارتباط الخيل والفرسان. وقد سبق ذكرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 أضبطه، وقلت له: قد كان يمكن أن يقال في جواب هذا السؤال: إنّ تركنا للمصحف إن كان في أيدينا، واشتغالنا بغيره لم يحرّم علينا في شريعتنا، ولا جعل علينا في ذلك حرج، ثم إنّ هذا المصحف الّذي تركناه وقمنا بين يدي السّلطان، قد أمرنا فيه بتعظيم سلاطيننا. ومن الحقوق الواجبة للملك على رعيته: النصيحة، فمما جاء في الحديث- صلوات الله وسلامه على من نسب إليه- قوله صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة» ، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: «للَّه ولرسوله ولجماعة المسلمين» . ومنها ترك اغتياب الملك في ظهر الغيب، قال صلى الله عليه وسلم: «لا تسبّوا الولاة، فإنّهم إن أحسنوا، كان لهم الأجر وعليكم الشكر، وإن أساءوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر، وإنّما هم نقمة ينتقم الله بها ممّن يشاء، فلا تستقبلوا نقمة الله بالحميّة والغضب، واستقبلوها بالاستكانة والتضرّع» . وأما الحقوق الواجبة للرعيّة على الملك فمنها: حماية البيضة [1] ، وسدّ الثّغور وتحصين الأطراف، وأمن السّوابل، وقمع الدعّار [2] ، فهذه حقوق تلزم السلطان تجري مجرى الفروض الواجبة، وبهذه الأمور تجب طاعته على رعيّته وبنحو من هذا احتجّ الخوارج على أمير المؤمنين عليّ- عليه السّلام- عقيب انقضاء حرب صفّين قالوا له: أنت فرّطت في حفظ هذا الثغر- يعني ثغر الشأم- بتحكيمك الحكمين، فأنت مخطئ مفرّط، فليس لك علينا طاعة: فإن اعترفت بهذا الخطأ واستغفرت رجعنا إلى طاعتك، وقاتلنا معك العدوّ. فعرّفهم- عليه السلام- أنه غلب رأيه في قضية التحكيم وأن التحكيم لم يكن رأيه فأصرّوا على قولهم ولم يقبلوا ونابذوه وقاتلوه، حتى كانت الوقعة المشهورة بالنّهروان.   [1] البيضة: في الأصل، الخوذة. وحماية البيضة: كناية عن حماية شرف الأمّة وعزّتها. [2] الدعار: مرتكبو الفواحش، والدّعارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ومن الحقوق الواجبة للرعية على الملك: الرّفق بهم، والصّبر على صادرات هفواتهم، قال صلوات الله عليه وسلامه: «ما كان الرّفق في شيء إلا زانه ولا كان الخرق [1] في شيء إلا شانه» وقد روي عنه- صلوات الله عليه وسلامه: «من الرّفق أشياء لا تليق إلا بمنصب النبوّة» كان صلاح الدين يوسف ابن أيوب صاحب مصر والشأم، كثير الرّفق موصوفا به. دخل مرّة الحمام عقيب مرضة طويلة أضعفته وانتهكت قوته فأدخل الحمّام وهو في غاية من الضّعف، فطلب من مملوك كان واقفا على رأسه ماء حارا فأحضر له في طاسة ماء شديد الحرارة، فلما قرب منه اضطربت يد المملوك فوقعت الطاسة عليه فأحرق الماء جسده، فلم يؤاخذه ولا بكلام. ثم طلب منه بعد ذلك بساعة ماء باردا. فأحضر له في تلك الطاسة ماء شديد البرد، فحين قرب منه اتفق له ما اتفق في المرّة الأولى، من اضطراب يده ووقوع الطاسة عليه، بذلك المساء الشديد البرد فغشي عليه وكاد يموت، فلما أفاق قال للملوك إن كنت تريد قتلي فعرّفني. ولم يزد على هذه الكلمة (رضي الله عنه) . قيل: تقدّم رجل أبخر [2] إلى بعض الرؤساء يشاوره فقال له تنحّ عنّي فقد آذيتني. قال الرجل: لا كرامة لا عزازة. ما رأسناك وقمنا بين يديك إلا حتى تحتمل منا ما هو أشدّ من هذا وتصبر منّا على ما هو أعظم منه. وممّا يجب للرعيّة على الملك: ردع قويّهم عن ضعيفهم، وإنصاف ذليلهم من عزيزهم وإقامة الحدود [3] فيهم، وإقرار حقوقهم مقارها، وإغاثة ملهوفهم، وإجابة مستصرخهم، والتسوية في حكمه بين الأبعد منهم والأقرب، والأذلّ والأعزّ. قال عمر بن الخطّاب لرجل: إني لا أحبك قال: فتنقصني من حقّي شيئا؟ قال عمر: لا. قال الرجل: فما يفرح بالحبّ بعد هذا إلا النساء!. ويجب للملك أن يعرف نعمة الله عليه بأن اصطفاه لهذه المرتبة العلية دون سائر الخلق، وبأن جعله يفزع منه كلّ أحد ولم يجعله يفزع من أحد، فلا يزال لها   [1] الخرق: ضدّ الرّفق، الغلظة والطيش. [2] الأبخر: كريه رائحة الفم، أو النّفس. [3] إقامة الحدود: إيقاع العقوبات الشرعيّة على المذنبين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ذاكرا شاكرا. فأمّا الذكر: فلامتثال قوله تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ 93: 11 [1] . وأما الشكر: فلطلب المزيد لقوله تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ 14: 7 [2] . ويجب أن يكون بينه وبين ربه معاملة سريّة لا يعلم بها إلا الله، فتلك المعاملة تقي مصارع السوء، وهذه العبارة مقبولة عند جميع أصحاب الملل، وعند الحكماء أيضا هي مقبولة، ويمكن تأويلها على هذا المطلوب بحسب اعتقادهم. ويجب أن يكون له دعوات يناجي بها ربّه، وهي دعوات تليق بالملوك ولا تصلح للعوامّ، ولا بأس ان أثبت في هذا الموضع فصلا من الدعاء الملكي. وهذا مما اقترحته أنا ولم أعلم أن أحدا تنبّه عليه.   [1] سورة الضحى، الآية/ 11/. [2] سورة إبراهيم، الآية/ 7/. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 فصل من الدّعاء مختصر اللَّهمّ إني أبرأ إليك من حولي وقوتي، وألجأ إلى حولك وقوّتك، أحمدك على أن أوجدتني من العدم، وفضّلتني على كثير من الأمم، وجعلت في يدي زمام خلقك واستخلفتني على أرضك. اللَّهمّ فخذ بيدي في المضايق واكشف لي وجوه الحقائق ووفقني لما تحب، واعصمني من الزلل، ولا تسلب عني ستر إحسانك وقني مصارع السوء واكفني كيد الحساد وشماتة الأضداد، والطف بي في سائر متصرفاتي، واكفني من جميع جهاتي. يا أرحم الراحمين!! ويحسن بالملك الفاضل إكرام فضلاء رعيّته واختصاصهم بالبرّ. قال بعض الحكماء: لا يجوز أن يكون الفاضل من الرجال إلّا مع الملوك مكرّما، أو مع النسّاك متبتّلا [1] ، كالفيل لا يحسن أن يرى إلّا في موضعين: إما في البرّية وحشيا وإما للملوك مركبا. كما قال الشاعر: كمثل الفيل إمّا عند ملك ... وإمّا في مراتعه منيعا (وافر) ومما يكره للملك: مخالطة الأنذال والسوقة والجهال فإنّ سماع ألفاظهم الساقطة ومعانيهم المرذولة، وعباراتهم الدنية، مما يحط الهمّة ويضع المنزلة، ويصدئ القلب ويزري [2] بالملك. ومخالطة الأشراف ومعاشرة أفاضل الرّجال، مما يعلي الهمّة ويذكي القلب، ويفتق الذهن ويبسط اللسان. وتلك قاعدة مطّردة للملوك، ما زالوا يدخلون إليهم عوام الرعيّة ويعاشرونهم ويستخدمونهم، ولم يخل أحد من الخلفاء من مثل هذا وكأن لسان حالهم يقول: نحن نخلّي الكبار كبارا، فإذا اختصصنا عاميا نوّهنا بذكره وقدّمناه حتى يصير من الخواص. كما أننا إذا أعرضنا [3] عن أحد من الخواص أرذلناه حتى يصير من أراذل العوام.   [1] متبتّلا: ممعنا في العبادة والإخلاص للخالق. منقطعا للعبادة والتّسبيح. [2] يزري: يحط بالمقدار. [3] أعرضنا: تركنا وأهملنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وكذلك هو، فإنّ هذه خاصيّة من خواصّ الملك، وقد سبق ذكرها وكل هذا مأخوذ من الخواصّ الإلهية، فإنّ العناية الإلهية إذا صدرت ذرّة منها إلى النفوس، صار ذلك الإنسان نبيّا أو إماما أو ملكا. وإذا صدرت في حقّ الزمان صار ذاك اليوم يوم العيد الكبير، وليلة القدر، وأيّام الحج، وأيّام المواسم والزيارات لسائر الأمم، وإذا صدرت تلك الذرّة في حقّ المكان، صار بيت مكّة، والبيت المقدّس والمشاهد والجوامع والزيارات والمتعبّدات، ومواضع التقرّبات. وها هنا موضع حكاية: كان ببغداد حمّال يقال له: عبد الغني بن الدّرنوس فتوصّل في أيام المستنصر [1] حتى صار برّاجا [2] في بعض أبراج دار الخليفة، فما زال يحسن التوصّل إلى ولد المستنصر وهو المستعصم آخر الخلفاء، وكان في زمن أبيه محبوسا فما زال هذا البرّاج يتعهده بالخدمة طول مدة الأيام المستنصرية إلى أن توفي المستنصر وجلس على سرير الخلافة ولده أبو أحمد عبد الله المستعصم، فعرف لهذا البرّاج حقّ الخدمة، ورتبة متقدم البرّاجين، وفي آخر الأمر استحبّه في باطن داره، واختصّه وقدّمه حتى بلغ إلى أنه صار إذا دخل إلى الوزير ينهض له، ويخلي المجلس من جميع الناس، إذا كان ابن الدرنوس حاضرا وسبب إخلاء المجلس الوزيريّ عند حضور ابن الدّرنوس أنه يمكن أن يكون قد جاء في مشافهة من عند الخليفة. ولقّب: نجم الدين الخاص، وصار من أخصّ الناس بالخليفة. وبلغ من منزلته أنه كان يتعصّب لصاحب الديوان يعرض مطالعاته ومهامّه على يد نجم الدين الخاصّ، وكان يمدّه في كلّ سنة بمال طائل حتى يحفظ غيبه، ويزكّيه في الحضرة الخليفية. وجرى بيني وبين جمال الدين علي بن محمد الدّستجرداني- رحمه الله- كلام في معنى هذا ابن الدّرنوس، فصوّبت أنا رأي المستعصم في الإحسان إليه، وقلت: إنّه خدمه وأثبت عليه حقا، وقد كافأه فلا عيب في هذا. وقال جمال الدين- رحمه الله- ما معناه: إن تسليطه لمثل ذلك   [1] المستنصر: الخليفة العباسي قبل الأخير من خلفاء بغداد. وهو أبو المستعصم. كانت خلافته/ 623- 640/ هـ. [2] البرّاج: آمر برج الحراسة في القصر الخلافي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الأحمق على أعراض الناس وأموالهم، وإدخاله في المملكة حتى كاد أن يوّلي الوزراء ويعزلهم، قبيح من المستعصم ودليل على جهله، وإلّا فإن كان مراده الإحسان إليه مكافأة له على سابق خدمته، فقد كان يحب أن يكون ذلك بمال يعطاه أو برفع منزلة لا يختلّ بسببها أمر في المملكة ولا يتطرّق بها قدح في عقل الخليفة، وكان نظر جمال الدين في هذا المعنى أدقّ من نظري، والحقّ في جانبه- رحمه الله- وكانت هذه المفاوضة بيني وبينه في كتاب كتبته فيه اقتضى الحال ذكر هذه القضية وكتب هو الجواب عنه، وأعاد كتابي إليّ لأني التمست منه إعادة كتابي، والكتابان هما في هذا التاريخ عندي بخطّي وخطّه رحمه الله. وممّا يليق بالملك ويكمل فضله: أن يكون عالي الهمّة رحيب الصّدر محبّا للرئاسة معدا لها أسبابها، طامح البصر إليها معملا فكره في توسيع مملكته وعلوّ درجته، غير مخلد إلى التنعّم ولا جانح إلى الترف، ولا منهمك في اللّذات. قال بعض حكماء الفرس: همم النّاس صغار، وهمم الملوك كبار. وألباب الملوك مشغولة بكلّ شيء عظيم وألباب السّوقة [1] مشغولة بأيسر الأشياء. وليعلم الملك أن الرئاسة عروس مهورها الأنفس. نظر معاوية إلى عسكر أمير المؤمنين علي- عليه السلام- في صفّين [2] فالتفت إلى عمرو بن العاص وقال: من يطلب عظيما يخاطر بعظيم. وإني نظرت فيما أحاول فإذا الموت في طلب العزّ، أحسن عاقبة من الحياة مع الذلّ، قال بعض الشعراء: هي النفس إن ماتت فقد مات قبلها ... كرام وإن تسلم فللحدثان إذا النّفس لم تشره إلى طلب العلا ... فتلك من الأموات في الحيوان (طويل) ومن الغاية في المعنى قول امرئ القيس: ولو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني- ولم أطلب- قليل من المال ولكنّما أسعى لمجد مؤثّل ... وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي   [1] السّوقة: عوّام الناس، نقيض الملوك والخواصّ. [2] صفّين: موقع وشريعة ماء جرت فيه المعركة المشهورة بين أنصار عليّ بن أبي طالب، وأنصار معاوية بن أبي سفيان وانتهت المعركة إلى التحكيم عام/ 37/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ومما يكمل فضيلة الملك: أن تكون قوّة الاختيار عنده سليمة لم تعترضها آفة فيكون يختار الرجال اختيارا فاضلا، كان الناصر [1] آية الدنيا في اختيار الرجال فكان من توصّلاته إلى معرفة الرّجل إن أشكل عليه، أن يشيع بين الناس أنّه يريد أن يوليه المنصب الفلانيّ، ثم يتمادى في إبرام ذلك أيّاما، فيمتلئ البلد بالأراجيف، لذلك الرجل فيفترق فيه الناس: فقوم يصوّبون ذلك الرأي ويصفون فضائل الرجل، وقوم يغلّطون الخليفة ويذكرون عيوب الرجل، وللخليفة عيون وأصحاب أخبار لا يؤبه لهم، يخالطون أصناف الناس، فيكتب أصحاب الأخبار إليه بما الناس فيه من الغليان في ذلك، فيعرف بصحّة نظره وتمييزه أيّ القولين أرجح وأصوب، فإن رجح في نظره تفضيل الرجل، ولّاه وخلع عليه، وإن ترجّح عنده قول الطاعنين عليه وتبيّن له نقصه، تركه وأعرض عنه وفي الجملة فحسن الاختيار أصل عظيم، قال الشاعر: من كان راعيه ذئبا في حلوبته [2] ... فهو الّذي نفسه في أمره ظلما يرجو كفايته والغدر عادته ... ومن يرد خائنا يستشعر النّدما (بسيط) ومما يكره للملوك: المبالغة في الميل إلى النساء، والانهماك في محبّتهنّ، فأمّا مشاورتهنّ في الأمور: فمجلبة للعجز، ومدعاة إلى الفساد، ومنبهة [3] على ضعف الرّأي اللَّهمّ إلا أن تكون مشاورتهن يراد بها مخالفتهن، كما قال- عليه السلام-: «شاوروهنّ وخالفوهن» وفي هذا الحديث سؤال وجواب. إن قال قائل: إذا كان المراد مخالفتهن في آرائهن فأي فائدة في الأمر بمشاورتهن وقد كان يكفي في هذا أن يقال خالفوهن فيما يشرن به؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أن الأمر الأول للإباحة، والأمر الثاني للوجوب. يعني إذا شاورتموهن فخالفوهن. والآخر: أن الصواب لا يزال في خلاف آرائهن، فإذا أشكل   [1] الناصر: أبو العباس أحمد بن المستضيء. تولى الخلافة العباسية في بغداد/ 575- 622/. [2] الحلوبة: الأغنام والأنعام التي تحلب، وقد استعارها الشاعر للرعايا من البشر. [3] منبهة: دليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 عليكم الصّواب فشاوروهنّ فإذا ملن إلى شيء فاعلموا أن الصواب في خلافه. وفي هذا تظهر فائدة الأمر بمشاورتهن يعني بها يستدلّ على الصّواب. وحدث أن عضد الدولة [1] فنا خسرو بن بويه شغفته امرأة من جواريه حبّا، فاشتغل بها عن تدبير المملكة، حتّى ظهر الخلل في مملكته، فخلا به وزيره وقال له: أيها الملك: انّ هذه الجارية قد شغلتك عن مصالح دولتك حتّى لقد تطرق النّقص عليها من عدّة جهات، وما سبب ذلك الا اشتغالك عن إصلاح دولتك بهذه الأمة، والصّواب أن تتركها وتلتفت إلى إصلاح ما قد فسد من مملكتك قال: فبعد أيام جلس عضد الدولة على مشترف له على دجلة، ثم استدعى الجارية فحضرت، فشاغلها ساعة حتى غفلت عن نفسها، ثم دفعها إلى دجلة فغرقت وتفرغ خاطره من حبها، واشتغل بإصلاح أمور دولته، فاستعظم النّاس هذا الفعل من عضد الدولة، ونسبوه فيه إلى قوّة النفس، حين قويت نفسه على قتل محبوبته. وأنا أستدلّ بهذا الفعل على ضعف نفس عضد الدولة لا على قوّتها، فإنه لو لم يحس من نفسه بالانفعال العظيم لحبّها، لما توصّل إلى إعدامها، ولو تركها حيّة ثم أعرض عنها لكان ذلك هو الدليل على قوّة نفسه. ولكلّ صنف من الرعية صنف من السياسة فالأفاضل يساسون بمكارم الأخلاق والإرشاد اللطيف، والأوساط يساسون بالرّغبة الممزوجة بالرهبة، والعوامّ يساسون بالرّهبة، وإلزامهم الجدد [2] المستقيم، وقسرهم [3] على الحقّ الصّريح. واعلم أن الملك لرعيته كالطبيب للمريض: إن كان مزاجه لطيفا لطّف له التدبير ودسّ له الأدوية المكروهة في الأشياء الطيّبة، وتحيّل عليه بكلّ ممكن حتى يبلغ غرضه من برئه، وإن كان مزاجه غليظا عالجه بمرّ العلاج وصريحه وشديدة. ولذلك لا ينبغي للملك أن يتهدّد من يكفى في تأديبه الإعراض والتقطيب،   [1] عضد الدولة: اسمه فنّا خسرو، أعظم ملوك بني بويه المتنفذين في بغداد، مدحه الشاعر المتنبي واستوزر الصاحب ابن عبّاد. توفي 372 هـ. [2] الجدد: الجادّة المستقيمة. [3] القسر: الإرغام والإجبار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وكذلك لا ينبغي أن يحبس من يكفي في تأديبه التّهديد، كما أنه لا ينبغي أن يضرب من يكفي في تأديبه الحبس، ولا أن يقتل بالسيف من يكفي في تأديبه ضرب العصا وتمييز هذه الحالات، بعضها من بعض أعني معرفة المزاج الّذي يكفي فيه التهديد ولا يحتاج إلى الحبس. أو يكفي فيه الحبس ولا يحتاج إلى الضّرب- يحتاج إلى لطف حدس وصحّة تمييز وصفاء خاطر ويقظة تامّة وفطانة كاملة. فما أشدّ ما تتشابه الأخلاق. وتلتبس الأمزجة والطّباع. ويجب على الملك أن ينظر في أمر القتل وإزهاق النفس، فيعلم أنّه الحادث الّذي لا حياة للحيوان بعده في الدنيا، وأنه لو اجتهد أهل الأرض كلّهم على إعادته إلى الحياة لم يقدروا على ذلك. وبحسب هذا الحال، يجب أن يكون تثبّته في إزهاق النّفس وهدم الصّورة وتأنيّه وتروّيه، حتى تقوم الأدلّة على وجوب القتل، فإذا وجب استعمله على الوضع المعهود، من غير تأنّق فيه وتنوّع غريب، وتمثيل بالمقتول. ورد عن سيد البشر- صلوات الله عليه وسلامه-: «إياكم والمثلة [1] ولو بالكلب العقور [2] » . لما ضرب ابن ملجم- لعنه الله- عليّ بن أبي طالب بالسيف قبض ابن ملجم وحبس حتّى ينظر ما يكون من أمر عليّ- عليه السلام- فجمع عليّ ولده وخاصّته وقال: يا بني عبد المطّلب- لا تجتمعوا من كلّ صوب تقولون قتل أمير المؤمنين لا تمثّلوا [3] بالرجل، فإنّي سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ينهى عن المثلة ولو بالكلب العقور. وانظروا إذا أنا متّ من ضربي، فاضربوا الرجل ضربة بضربة [4] . ومن فوائد التأني والتثبّت في القتل. الأمن من النّدم حين لا يجدي النّدم.   [1] المثلة: القتل مع التنكيل وتشويه الجثّة. [2] الكلب العقور: الهائج للعضّ. [3] لا تمثّلوا بالرّجل: لا تقتلوه قتلة المتشفّي مع التنكيل. [4] ذكر واقعة اغتيال الإمام عليّ وارد في موضع لاحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 كان أفاضل الملوك والخلفاء يستعملون هذه الخصلة كثيرا، فلا يسرعون إلى قتل رجل معروف مشهور، خوفا أن يحتاجوا إليه بعد ذلك، فيتعذر عليهم بل كانوا يحبسونه في غوامض دورهم، ويقيمون له كلّ ما يحتاج إليه من أطعمة شهيّة، وفواكه وثلج وأشربة وفرش وثير، ويحملون إليه كتبا يلهو بها ويقطعون خبره عن الناس، حتى يثبت في نفوس أهله وأصحابه أنّه قد هلك، ثمّ تستصفى أمواله وأموال أصحابه، وتستخرج ذخائره وودائعه، ويصير في عداد الموتى. فلا يزال كذلك، حتّى تدعوهم الحاجة إليه فيخرجوه مكرما وقد تأدب وتهذّب. من لم يؤدّبه والداه ... أدّبه الليل والنّهار (منسرح) وهاهنا مزلّة ربما وقع فيها أفاضل الملوك، وهي أن بعض الملوك ربّما كان معجبا بنفسه، محبّا لأن ينتشر عنه حديث صرامة وشهامة، وسياسة قاهرة. فيستهين بالقتل ويسهّل أمره ويبادر إليه. وغرضه إثبات الهيبة وإقامة السياسة، من غير التفات إلى ما في طيّ ذلك من إزهاق النفس، التي حرّمت إلا بالحق. وهذا من أخطر الأمور على الملك والصّواب ألا يزال في نفسه كارها للقتل، صادفا عنه مهما أمكن، حتّى تدعو إليه ضرورة ليس فيها حيلة، فحينئذ يقدم عليه بنفس قوية وجنان ثابت. فإنّ قتل واحد أصلح من تركه حتى يحتاج إلى قتل خمسة، وقتل خمسة خير من تركهم حتى يدبّ فسادهم حتى تبلغ الحاجة إلى قتل مائة، ومن أجل ذلك قال الله تعالى: وَلَكُمْ في الْقِصاصِ حَياةٌ 2: 179 [1] وقيل: القتل أنفى للقتل. قال الشاعر: بسفك الدما يا جارتي تحقن الدّما ... حتى يراق على جوانبه الدم [2] (طويل)   [1] سورة البقرة، الآية/ 179/. [2] صواب البيت. بسفك الدّما يا جارتي تحقن الدّما وبالقتل تنجو كلّ نفس من القتل انظر طبعة بيروت ص 43، ورحما ص 3. وألما ص 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وقال المتنبي: لا يسلم الشّرف الرفيع من الأذى ... حتّى يراق على جوانبه الدّم (كامل) أوصى بعض الحكماء بعض الملوك قال: أيّها الملك، إنّما هو سيفك ودرهمك فازرع بهذا من شكرك، واحصد بهذا من كفرك. جاء رجل الى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقال له يا رسول الله خذ الحدّ مني. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم والتفت إلى يمينه، فدار الرجل حتى حاذاه وأعاد القول فأعرض- عليه السلام- عنه مرة أخرى، فعاود القول والتمس أخذ الحدّ منه فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم إزهاق نفسه، والتفت إلى أهل الرجل وأصحابه كمن يعلّمهم الاعتذار عنه، وقال: كأنه متغير في عقله- قالوا يا رسول الله ما نعرفه إلّا عاقلا. فحينئذ لم يبق للنبيّ صلى الله عليه وسلم- حيلة، فأمر باستيفاء الحدّ منه. والمطامير الغامضة التخليد فيها يقوم مقام القتل، مع الأمن من النّدم المخشيّ فيه. وأما أصناف العقوبات. فيجب على الملك الكامل أن ينعم النّظر فيها أيضا. فكم من عقوبة قد أتت على مهجة المعاقب، من غير أن يراد إزهاق نفسه. وأصعب ما فيها التعذيب بالنار وهي عقوبة غير مباركة، لأن العقوبة بالنار مختصّة باللَّه- عزّ وجل- فلا يجوز للعبد أن يشاركه فيها. والنّظر في أصناف العقوبات موكل إلى نظر الملك الفاضل، وبحسب ما يقتضيه الحال الحاضر، ولكنّ الأصل الكلّي فيه، أن يكون الملك في نفسه كارها لذلك غير متحلّ به، لا يبادر إليه ولا يقدم عليه، إلا إذا دعت إليه ضرورة ماسة لا يقضى فيها حقّ نفسه، ولا يشقى بها غيظ صدره. وهذا مقام صعب لا يرتقي إليه أحد، إلا من أخذ التوفيق بيده- قيل- إنّ عليا عليه السلام- صرع في بعض حروبه رجلا، ثم قعد على صدره ليحتزّ رأسه، فبصق ذلك الرّجل في وجهه، فقام علي- عليه السلام- وتركه. فلما سئل عن سبب قيامه وتركه قتل الرجل، بعد التمكن منه، قال: إنه لما بصق في وجهي اغتظت منه فخفت إن قتلته أن يكون للغضب والغيظ نصيب في قتله. وما كنت أن أقتله إلا خالصا لوجه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 قال أبرويز [1] : الملوك يشتمون بالأفعال لا بالأقوال، ويسفّهون بالأيدي لا بالألسن. وقد نظم هذا المعنى شاعر العرب [2] فقال: وتجهل أيدينا ويحلم رأينا ... ونشتم بالأفعال لا بالتكلّم (طويل) ومما يكره للملك- الانهماك في اللّذات وسماع الأغاني، وقطع الزّمان بذلك قال الشاعر أبو الفتح البستي:. إذا غدا ملك باللهو مشتغلا ... فاحكم على ملكه بالويل والحرب أما ترى الشّمس في الميزان هابطة ... لمّا غدا وهو برج اللهو والطّرب (بسيط) وما دخل الخذلان على ملك من طريق اللهو واللعب، كما دخل على جلال الدين [3] بن خوارزم شاه- فإنّه لما هرب من المغول تبعوه، فكان إذا رحل عن بلدة نزلوها بعده، وإذا أصبح في مكان أمسوا هم في المكان يريدون قصده. وهو مع ذلك مواصل لشرب الخمر، عاكف على الدفّ والزّمر، لا ينام ألّا سكران، ولا يصبح إلّا مخمورا نشوان. وعسكره في كلّ يوم يقلّ، وأمره كلّ يوم يزيد اضطرابا، ورأيه في كلّ لحظة يفيل، وحدّه يفلّ، وهو لا يشعر بذلك ولا يلتفت إليه، حتى قال شاعره يخاطبه: شاها ز مى گواه چهـ بر خواهد، خاست ... وز مستى هر زمان چهـ بر خواهد خاست   [1] أبرويز: هو كسرى أبرويز، ملك ساسانيّ احتلّ أورشليم/ 614/ م وتغلّب عليه هرقل. اغتيل في السّجن عام/ 628/ م. [2] شاعر العرب: لقب من لم يحضر في ذاكرة المؤلف من الشعراء. [3] جلال الدين خوارزم شاه: آخر ملوك الدولة الخوارزمية التي أسسها خوارزم شاه في بلاد ما وراء النهر ومن مدنها بخارى وسمرقند واجتاحها المغول بقيادة جنكيزخان وتيمور لنك وقضى عليها/ 1431/ م، حوالي/ 645/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 شه مست وجهان خراب ودشمن پس و پيش ... پيداست كزين ميان چهـ بر خواهد خاست [1] (دو بيت) وممن دخل عليه النقص من الملوك بسبب اللهو واللعب- محمّد بن زبيدة الأمين كان كثير اللهو واللعب منهمكا في اللذات. قيل- إنه لعب يوما هو ووزيره الفضل بن الرّبيع بالنّرد، فتراهنا في خاتميهما، فغلب الأمين فأخذ الخاتم، وأرسل في الحال وأحضر صائغا. وكان على خاتمه مكتوبا «الفضل بن الربيع» ، فقال للصائغ- اكتب تحته (يصفع) ، فنقش الصائغ ذلك في الحال، ثم أعاد الخاتم إلى الفضل بن الربيع وهو لا يعلم ما نقش عليه، ثم مضت على ذلك مدة، فبعد أيام دخل الفضل بن الربيع عليه. وهو لا يعلم ما نقش عليه فقال له- ما على خاتمك مكتوب؟ قال اسمي واسم أبي فتناوله الأمين ثم قال له- ما هذا المكتوب تحت اسمك فلمّا قرأه الفضل بن الربيع فهم القضية، وقال: لا حول ولا قوة إلا باللَّه العليّ العظيم، وهذا والله هو الخذلان المبين! أنا وزيرك ولي اليوم كذا وكذا يوما أختم الكتب بهذا إلى الأطراف، وهو على هذه الصفة هذا والله آخر الدولة ودمارها والله لا أفلحت ولا أفلحنا معك! فكانت الفتنة بعد ذلك بيسير. وكان المستعصم آخر الخلفاء شديد الكلف باللهو واللّعب، وسماع الأغاني، لا يكاد مجلسه يخلو من ذلك ساعة واحدة، وكان ندماؤه وحاشيته جميعهم منهمكين معه على التنغّم واللذّات، لا يراعون له صلاحا، وفي بعض الأمثال (الحائن لا يسمع صياحا) [2] وكتبت له الرّقاع [3] من العوامّ، وفيها أنواع التحذير، وألقيت وفيها الأشعار في أبواب دار الخلافة، فمن ذلك: قل للخليفة مهلا ... أتاك ما لا تحبّ   [1] هذا الشعر نظم على طريقة الدوبيت وقد نقله ابن طباطبا بالفارسيّة وقد حذف من طبعة بيروت ص 45، وأثبت مع الشكل في ألما ص 55. وترجمته أيها الشّاه، ماذا يستفاد من معاقرة الخمرة، ومن معاقرة الخمرة على الدوام ماذا يستفاد؟!. الشاه في سكر والعالم من حوله خراب، والأعداء محيطون بكل جانب، والعاقبة لا تخفى. [2] الحائن: من حان قدره فلا ينفع فيه التحذير من المصيبة. [3] الرّقاع: جمع رقعة وهي القطعة المكتوبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ها قد دهتك فنون ... من المصائب غرب [1] فانهض بعزم وإلّا ... غشاك ويل وحرب كسر وهتك [2] وأسر ... ضرب ونهب وسلب (مجتثّ) وفي ذلك يقول بعض شعراء الدولة المستعصميّة، من قصيدة أوّلها: يا سائلي ولمحض الحقّ يرتاد ... أصخ فعندي نشدان وإنشاد وا ضيعة الناس والدّين الحنيف وما ... تلقاه من حادثات الدّهر بغداد هتك وقتل وأحداث يشيب بها ... رأس الوليد وتعذيب وأصفاد [3] (بسيط) كلّ ذلك وهو عاكف على سماع الأغاني، واستماع المثالث والمثاني [4] وملكه قد أصبح واهي المباني. ومما اشتهر عنه: أنه كتب إلى بدر الدين لؤلؤ [5] صاحب الموصل، يطلب منه جماعة من ذوي الطّرب، وفي تلك الحال وصل رسول السلطان هولاكو إليه، يطلب منه منجنيقات وآلات الحصار، فقال بدر الدين: انظروا إلى المطلوبين، وابكوا على الإسلام وأهله! وبلغني أن الوزير مؤيّد الدين محمّد بن العلقميّ [6] ، كان في أواخر الدولة المستعصمية ينشد دائما: كيف يرجى الصلاح من أمر قوم ... ضيّعوا الحزم فيه أيّ ضياع فمطاع المقال غير سديد ... وسديد المقال غير مطاع (خفيف)   [1] غرب: هنا، كثيرة دافقة. [2] الهتك: فضح الأعراض والأستار. [3] الأصفاد: القيود والسلاسل. [4] المثالث والمثاني: من مجالس الغناء أو منظوماتها المغنّاة. [5] بدر الدين لؤلؤ: أتابك الموصل في زمان المستعصم آخر خلفاء بني العباس في بغداد. [6] هو وزير المستعصم، استبقاه هولاكو بعد فتح بغداد، وكان حكيما أريبا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 قالوا: ولا ينبغي للرجل الكامل إلا أن يكون في الغاية القصوى من طلب الرّئاسة أو في الغاية القصوى من تركها: إذا ما لم تكن ملكا مطاعا ... فكن عبدا لخالقه مطيعا وإن لم تملك الدنيا جميعا ... كما تهواه فأتركها جميعا (وافر) ها هنا موضع حكاية تشتمل على أدوات الرئاسة: قيل: ورد أبو طالب الجارحيّ الكاتب- ولم يكن في عصره أكتب ولا أفضل منه- إلى (الرّيّ) [1] قاصدا حضرة ابن العميد [2] ، فلم يجد عنده قبولا، ولا رأى عنده ما يحب، ففارقه وقصد أذربيجان وسار إلى ملكها، وكان فاضلا لبيبا، اختبره وعرف فضله، فلما سأله المقام عنده وأفضل عليه، فأقام لديه على أفضل حال، فكتب إلى ابن العميد يوبّخه على جهل حقّه وتضييعه لمثله، فمن جملة الكتاب: حدّثني: بأيّ شيء تحتجّ إذا قيل لك، لم سمّيت الرئيس؟ وإذا قيل لك ما الرّئاسة؟ أتدري ما الرّئاسة؟ الرّئاسة، أن يكون باب الرئيس مصونا في وقت الصّون ومفتوحا في وقت الفتح، وأن يكون مجلسه عامرا بأفاضل النّاس، وخيره واصلا إلى كلّ أحد، وإحسانه فائضا، ووجهه مبسوطا، وخادمه مؤدّبا، وحاجبه كريما طلقا وبوّابه لطيفا، ودرهمه مبذولا، وطعامه مأكولا، وجاهه معرّضا، وتذكرته مسوّدة بالصلات والجوائز والصدقات، وأنت!! فبابك لا يزال مقفلا، ومجلسك خاليا وخيرك مقنوطا منه، وإحسانك غير مرجوّ، وخادمك مذموما، وحاجبك هرّارا [3] وبوّابك شرس الأخلاق، ودرهمك في العيّوق [4] ، وتذكرتك محشوّة بالقبض على فلان واستئصال [5] فلان، ونفي فلان، فباللَّه عليك هل عندك   [1] الرّيّ: مدينة كانت مزدهرة في العهد البويهي، خرّبها الفتح المغولي حوالي/ 617/ هـ. [2] ابن العميد: أبو الفضل محمّد ولي الوزارة لركن الدولة البويهي. أديب وشاعر. مات سجينا/ 366/ هـ. [3] هرّارا: عبوسا في وجه القادمين، يهرّ كالكلب. [4] العيّوق: أقصى البعد. نجم كالثريّا. [5] استئصال فلان: قتله واغتياله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 غير هذا؟ ولولا أن أكون قد دست بساطك، وأكلت من طعامك، لأشعت هذه الرقعة، ولكنّي أرعى لك حقّ ما ذكرت، فلا يعلم بها، إلا الله وأنت، وو الله ثمّ والله ثمّ والله، ما لها عندي نسخة ولا رآها مخلوق غيري، ولا علم بها فأبطلها أنت إذا وقفت عليها وأعدمها، والسّلام على من اتّبع الهدى. ويجب أن يكون الملك مجازيا على الإحسان بمثله، وعلى الإساءة بمثلها لتكون رعيّته دائما راجين لبرّه، خائفين من سطوته. وما أحسن قول النابغة للنعمان بن المنذر في هذا الباب!! وهو: ومن أطاعك فانفعه بطاعته ... كما أطاعك، وادلله على الرّشد ومن عصاك فعاقبه معاقبة ... تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد [1] (بسيط) وقالت الفرس: فساد المملكة واستجراء الرعيّة وخراب البلاد، بإبطال الوعد والوعيد. ولا يليق بالملك الفاضل أن يكون افتخاره بزخارف الملك، ممّا حوته واشتملت عليه خزائنه من نفائس الذخائر، وطرائف المقتنيات فإنّ تلك ترّهات لا حقائق لها، ولا معرّج لفاضل عليها، وكذلك لا ينبغي له أن يكون فخره بالآباء والأجداد، وإنما ينبغي أن يكون فخره بالفضائل التي حصّلها، والأخلاق التي كمّلها، والآداب التي استفادها، والأدوات التي استجادها. افتخر بعض الأغنياء عند بعض الحكماء بالآباء والأجداد، وبزخارف المال المستفاد، فقال له ذلك الحكيم: إن كان في هذه الأشباه فخر، فينبغي أن يكون الفخر لها لا لك، وإن كان آباؤك كما ذكرت أشرافا، فالفخر لهم لا لك. قال العسجدي: كان بعض الحكماء إذا وصف عنده إنسان يقول: هو عصامي أم عظاميّ؟ فإن قيل له: هو عصاميّ نبل في عينه. وإن قيل: هو عظامي لم يكترث به وقوله عصاميّ إشارة إلى قول القائل: نفس عصام سوّدت عصاما ... وعلّمته الكرّ والإقداما   [1] الضّمد: الظّلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وصيّرته ملكا هماما [1] (رجز) يعني أنه بعقله وبنفسه صار رئيسا، وقوله عظاميّ يعني أنه يفتخر بالآباء والأجداد والعظام النّخرة. قال العسجديّ [2] لبعض أصحاب ابن العميد [3] ذي الكفايتين: كيف رأيت الوزير؟ فقال: رأيته يابس العود، ذميم العهود، سيّئ الظنّ بالمعبود. فقال العسجديّ: أما رأيت تلك الأبّهة والصّيت، والموكب والتجمّل الظاهر والدار الجليلة والفرش السنيّ، والحاشية الجميلة؟ فقال ذلك الرجل: الدولة غير السؤدد والسلطنة غير الكرم، والحظّ غير المجد. أين الزوّار والمنتجعون؟ وأين الآملون والشاكرون؟ وأين الواصفون الصادقون؟ وأين المنصرفون الرّاضون وأين الهبات وأين التفضلات؟ وأين الخلع والتشريفات؟ وأين الهدايا وأين الضّيافات هيهات هيهات لا تجيء الرئاسة بالتّرهات، ولا يحصل الشرف بالخزعبلات! أما سمعت قول الشاعر: أبا جعفر ليس فضل الفتى ... إذا راح، في فرط إعجابه ولا في فراهة برذونه [4] ... ولا في ملاحة أثوابه ولكنّه في الفعال الجميل ... والكرم الأشرف النّابه (متقارب) ولمؤلّف هذا الكتاب- أصلح الله شأنه، وصانه عمّا شأنه- في هذا المعنى ليس فضل الفتى على النّاس في ثوب ... ودار وبغلة ولجام إنّما الفضل في تفقّد جار ... ونسيب وصاحب وغلام (خفيف)   [1] عصام: حاجب الملك النعمان، والبيت المذكور من أمثال العرب للفتى الّذي يسمو بجدّه وكدّه معتمدا على نفسه وحدها. [2] العسجديّ: لم نعثر له على ترجمة في المراجع القريبة. ويبدو أنه متأدب في مجالس الأمراء والوزراء كابن العميد. [3] ابن العميد: أبو الفضل، محمّد وزير وشاعر وأديب. توفي 366 هـ. [4] البرذون: البغل. الدابّة من الخيول التركيّة. فراهة البرذون: نشاطه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 قالوا- السّياسات خمسة أنواع- سياسة المنزل، والقرية، والمدينة، والجيش والملك. فمن حسنت سياسته في منزله، حسنت سياسته في قريته. ومن حسنت سياسته في قريته، حسنت سياسته في مدينته، ومن حسنت سياسته في مدينته حسنت سياسته للجيش، ومن حسنت سياسته للجيش، حسنت سياسته للملك. وأنا لا أرى هذا لازما: فكم من عامّي حسن السّياسة لمنزله، ليس له قوة سياسة الأمور الكبار. وكم من ملك حسن السياسة لمملكته، ليس يحسن سياسة منزله والمملكة تحرس بالسيف وتدبّر بالقلم. واختلفوا في السيف والقلم أيهما أفضل وأولى بالتقديم: فقوم يرون أن يكون القلم غالبا للسيف، واحتجوا على مذهبهم لأن السيف يحفظ القلم فهو يجري معه مجرى الحارس والخادم، وقوم يرون أن يكون السّيف هو الغالب، واحتجّوا بأن القلم يخدم السيف لأنه يحصّل لأصحاب السيوف أرزاقهم فهو كالخادم له. وقوم قالوا: هما سواء ولا غنى لأحدهما عن الآخر. قالوا المملكة تخصب بالسّخاء، وتعمر بالعدل وتثبت بالعقل، وتحرس بالشجاعة، وتساس بالرّياسة. وقالوا: الشّجاعة لصاحب الدولة. ومن وصايا الحكماء: اجعل قتال عدوّك آخر حيلتك، وانتهز الفرصة وقت إمكانها، وكل [1] الأمور إلى أكفائها. ومن ركب ظهر العجلة لم يأمن الكبوة ومن عادى من لا طاقة له به فالرأي له مداراته وملاطفته، والتضرّع إليه حتّى يخلص من شره ببعض وجوه الخلاص. قالوا: وينبغي للملك ملاطفة أعدائه وإخوان أعدائه فبدوام الإحسان اليهم تزول عداوتهم. وإن أصرّوا على عدوانه بعد إحسانه، كانوا قد بغوا عليه، ومن بغي عليه فلينصرنّه الله. وعظ بعض الحكماء بعض أفاضل الملوك فقال: الدّنيا دول فما كان فيها لك أتاك على ضعفك، وما كان فيها عليك لم تدفعه بقوّتك. والشرّ مخوف، ولا يخافه إلا العاقل والخير مرجو يطلبه كلّ أحد وطالما تأتّى الخير من ناحية الشرّ، وتأتّى الشرّ من جهة الخير، وهذا مأخوذ من قوله عزّ وجلّ: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَالله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ 2: 216 [2]   [1] كل: فعل أمر من وكل: بمعنى أسند المنصب أو المسئوليّة. [2] سورة البقرة، الآية/ 216/. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وها هنا موضع حكاية. تقدم نور الدين [1] صاحب الشأم إلى أسد الدين شيركوه [2] عمّ صلاح الدين يوسف بن أيّوب بالتوجّه إلى مصر لأمر ندبه إليه فقال أسد الدين شيركوه: يا مولانا. ما أتمكن من هذا دون أن يجيء صحبتي يوسف ابن أخي- يعني صلاح الدين- قال فتقدّم نور الدين إلى صلاح الدين بالتوجّه صحبة عمّه أسد الذين شيركوه، فاستعفاه صلاح الدين من التوجّه وقال: ليس لي استعداد. فتقدم نور الدين بإزاحة علله، وجزم عليه في التوجّه قال صلاح الدين فخرجت مع عمّي كارها وأنا كمن يقاد إلى المذبح، فلمّا وصلنا مصر وأقمنا بها مدّة، كان منّي ما كان من تملّك مصر، ثم ملكها صلاح الدين وعرضت مملكتها، وتملّك الشأم [3] وسيأتيك نبأ هذا مفصّلا مشروحا عند الكلام على الدولة الصلاحيّة إن شاء الله تعالى ووفق ما قالوا: العدوّ عدوّان، عدوّ ظلمك، وعدوّ ظلمته. فأما العدوّ الّذي ظلمته، فلا تثق إليه واحترز منه مهما أمكنك، وأما العدو الّذي ظلمك، فلا تخفه كلّ الخوف، فإنه ربما استحيا من ظلمك وندم، فرجع لك إلى ما تحبّ منه وإن أصرّ على ظلمك انتصف لك منه من إليه يلجأ المظلومون. وربّما نفع العدوّ وضرّ الصديق! قال الإسكندر [4] : انتفعت بأعدائي أكثر مما انتفعت بأصدقائي، لأن أعدائي كانوا يعيّرونني ويكشفون لي عيوبي، وينبهونني بذلك على الخطأ فأستدركه. وكان أصدقائي يزيّنون لي الخطأ ويشجّعونني عليه وقال الشاعر: وما ساءني إلا الذين عرفتهم ... جزى الله خيرا كلّ من لست أعرف (طويل) وقيل للإسكندر: بم نلت هذه المملكة العظيمة على حداثة السنّ؟ قال: باستمالة الأعداء وتصييرهم بالبرّ والإحسان أصدقاء. وتعاهد الأصدقاء أعظم الإحسان وأبلغ الإكرام.   [1] نور الدين: هو ابن عماد الدين زنكي. حاكم حلب بعد اغتيال أبيه. ملك الشام ومصر وحارب الصليبيين وانتزع منهم الرّها وبانياس وضمّ إليه الموصل. توفي ودفن في دمشق، سنة/ 569/ هـ. [2] أسد الدين شيركوه بن شاذي، أضحى وزير العاضد الفاطمي في مصر بعد خدمته لنور الدين توفي/ 564/ هـ. [3] الشأم: لغة في الشّام، مثل الشام، وهي مشهورة جدّا في البلاد. [4] الإسكندر: هو الإسكندر المقدوني أو الكبير، من أشهر الغزاة الفاتحين لقبه ذو القرنين هزم داريوس ملك الفرس واحتلّ مصر وأسّس الإسكندرية. مات في بابل عام/ 323/ قبل الميلاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 قال بعض الحكماء: لا يردّ بأس العدوّ القاهر مثل التذلّل والخضوع كما أن النبات الرّطب يسلم من الريح العاصفة بلينه، لأنه يميل معها كيف مالت. وما لهج [1] الملوك بشيء أشدّ من لهجهم بالصّيد والقنص، وهو الشيء الّذي طالما اتّفقت فيه النكت العجيبة، والطّرف الغريبة، وكان المعتصم ألهج الناس به: بنى في أرض دجيل [2] حائطا طوله فراسخ كثيرة، وكان إذا ضرب حلقة يضايقونها ولا يزالون يحدّون الصيد حتى يدخلوه وراء ذلك الحائط، فيصير بين الحائط وبين دجلة، فلا يكون للصيد مجال فإذا انحصر في ذلك الموضع دخل هو وولده وأقاربه وخواصّ حاشيته، وتأنّقوا في القتل وتفرجوا فقتلوا ما قتلوا وأطلقوا الباقي. وقيل: إنّ المعتصم دوّغ [3] عدّة من حمر الوحوش وأطلقها، لأنّه بلغه أنّ أعمارها طويلة وها هنا موضع حكاية طريفة عجيبة: حدّثني صفيّ الدين عبد المؤمن بن فاخر الأرمويّ، قال: حدثني مجاهد الدين أيبك الدّويدار [4] الصغير. قال: خرجنا مرة في خدمة الخليفة المستعصم إلى الصيد، وضربنا حلقة حلقة قريبا من الجلهمة- وهي قرية بين بغداد والحلّة- ثم تضايقت الحلقة حتى صار الفارس منّا يصيد الحيوان بيده، فخرج في جملة حمر الوحش حمار كبير الجثة، عليه وسم، فقرأناه وإذا هو وسم المعتصم. قال: فلما رآه المستعصم وسمه بوسمه وأطلقه. وكان بين المعتصم والمستعصم حدود خمسمائة [5] سنة! ومن طريف ما سمعت من امر الصّيد، ما حدّثني به رجل من أهل الأدب ببغداد قال: حدثني محمّد بن صالح البازياريّ [6] قال: تصيدنا بين يدي السلطان (أباقا) [7] يوما، فطار- ونحن بين يديه- ثلاثة كراكي [8] على سمت مستقيم   [1] لهج بالشيء: تحدّث عنه. [2] دجيل: ناحية في الأهواز فيها نهر بهذا الاسم. [3] دوّغ: أنهك بالمطاردة. [4] الدويدار: كلمة فارسية بمعنى كاتب الملك أو حامل الدّواة. [5] هنا يشير إلى مدى تعمير حمار الوحش. [6] البازياريّ: محترف تدريب الباز أو الصقر على الصيد. [7] السلطان أباقا: ابن هولاكو المغوليّ، حالف الصليبيين وانهزم جيشه في الأناضول أمام بيبرس، وتغلب عليه قلاوون قرب حمص. مات/ 680/ هـ. [8] الكراكيّ: جمع كركي وهو طائر بريّ طويل الساقين والمنقار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 فأطلقنا شاهينا فعلا وانحطّ على الأعلى من الكراكيّ فلطمه، فوقع على الثاني فكسره، ثم وقعا كلاهما على الثالث فكسراه، ووقعت الثلاثة بين يدي السّلطان، قال: فتعجّب من ذلك غاية العجب، وخلع علينا جميعنا. وقال الصاحب علاء الدين في جهان كشاي: إن حلقة جنكزخان كان أمدها مسير ثلاثة شهور. وما أرى هذا إلا مستبعدا. وما لهج الملوك بالصيد هذا اللهج الشّديد. ولا كلفوا به هذا الكلف العظيم. وأطلقوا للبازياريّة الأموال الجليلة، وأقطعوهم الإقطاعات السنيّة، وسهّلوا عليهم حجابهم، وقطعوا معظم زمانهم فيه باطلا ولا عبثا. فإنّ القنص يشتمل على فوائد كثيرة جليلة النّفع. منها- وهو الغرض الأشرف منه- تمرين العساكر على الرّكض والكرّ والعطف، وتعويدهم الفروسيّة، وإدمانهم للرمي بالنشّاب، والضرب بالسّيف والدبّوس، واعتياد القتل والسّفك، وتقليل المبالاة بإراقة الدّماء وغصب النفوس. ومنها اختبار الخيول، ومعرفة سبقها وصبرها على دوام الركض ومنها أن حركة الصيد حركة رياضية تعين على الهضم وتحفظ صحّة المزاج ومنها: فضل لحم الصيد على باقي اللحوم، لأنه بقلقه من الجوارح تثور حرارته الغريزيّة، فتزيد في حرارة الإنسان. قال بعض الحكماء- وخير اللحم ما أقلقه الجارح إقلاقا. ومنها- الطّرف العجيبة التي تتّفق فيه، وقد تقدم ذكر شيء منها. وكان يزيد بن معاوية أشدّ الناس كلفا بالصّيد، لا يزال لاهيا به، وكان يلبس كلاب الصيد الأساور من الذّهب، والجلال المنسوجة منه، ويهب لكلّ كلب عبدا يخدمه. قيل: إن عبيد الله بن زياد أخذ من بعض أهل الكوفة أربعمائة ألف دينار جباية وجعلها في خزن بيت المال. فرحل ذلك الرجل من الكوفة وقصد دمشق ليشكو حاله إلى يزيد- وكانت دمشق في تلك الأيام فيها سرير الملك- فلما وصل الرجل إلى ظاهر دمشق، سأل عن يزيد فعرفوه أنه في الصيد، فكره أن يدخل دمشق وليس يزيد حاضرا فيها. فضرب مخيّمه ظاهر المدينة وأقام به ينتظر عود يزيد من الصيد. فبينما هو في بعض الأيام جالس في خيمته، لم يشعر إلا بكلبة قد دخلت عليه الخيمة، وفي قوائمها الأساور الذّهب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وعليها جلّ [1] يساوي مبلغا كثيرا، وقد بلغ منها العطش والتعب، وقد كادت تموت تعبا وعطشا، فعلم أنها ليزيد، وأنها قد شذّت منه. فقام إليها وقدّم لها ماء، وتعهّدها بنفسه. فما شعر إلا بشاب حسن الصورة على فرس جميل، وعليه زيّ الملوك، وقد علته غبرة فقام إليه وسلّم عليه، فقال له- أرأيت كلبة عابرة بهذا الموضع؟ فقال- نعم يا مولانا، ها هي في الخيمة قد شربت ماء واستراحت، وقد كانت لما جاءت إلى ها هنا، جاءت على غاية من العطش والتّعب. فلما سمع يزيد كلامه، نزل ودخل الخيمة، ونظر إلى الكلبة وقد استراحت، فجذب بجلّها ليخرج بها فشكا الرّجل إليه حاله، وعرّفه ما أخذ منه عبيد الله بن زياد. فطلب دواة وكتب له بردّ ماله وخلعة سنيّة، وأخذ الكلبة وخرج. فردّ الرّجل [2] من ساعته إلى الكوفة ولم يدخل دمشق. وكان السلطان مسعود [3] يبالغ أيضا في ذلك، ويلبس الكلاب الجلال الأطلس الموشاة، ويسوّرها بالأساور. وكان يقلل في بعض الوقت الالتفات إلى أمين الدولة ابن التلميذ [4] الطبيب النصرانيّ، وكان فاضلا ظريفا فقال: من كان يلبس كلبه ... وشيا ويقنع لي بجلدي فالكلب خير عنده ... مني، وخير منه عندي (كامل) وحدّثني الأمير فخر الدين بغدي بن قشتمر قال- ضرب جدّي الملك قشتمر حلقة للصّيد، فوقع فيها إنسان قصير جدّا، كصغير يكون عمره خمس سنين، وقد طالت أظفاره وشعر بدنه طولا مفرطا. قال: فامسكوه وأحضروه بين يدي   [1] الجلّ: ثوب تصان به الدابّة أو الحيوان وجمعها جلال وأجلال. [2] ردّ إلى الكوفة: رجع إليها. [3] مسعود: هو مسعود بن محمّد السلجوقي. خلع المسترشد وأقام المكتفي من خلفاء بغداد. توفي/ 547/ هـ. [4] ابن التّلميذ: طبيب نسطوري، له شعر طريف وملح. مات/ 561/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الناصر [1] فاستنطقوه فلم ينطق، فأحضروا له الطعام فلم يأكل والماء فلم يشرب، فاجتهدوا معه بكل ممكن على أن يتكلّم، وهو صامت لا ينطق ببنت شفة. فقال له بعض الحاضرين: فأيّ شيء تريد؟ فلم يتكلّم. فقال له: تريد نطلقك؟ فحرّك رأسه يعني نعم. قال: فتقدّم الناصر بإطلاقه. فلما أطلق عدا أشدّ من عدو الغزال ثم دخل البريّة. سئل بزرجمهر [2] عن أردشير [3] فقال: أحيا الليل للحكمة، وفرّغ النهار للسّياسة وقيل له: لأيّ حال عمّ كسرى بمعروفه جميع رعيّته قال: خوفا أن يفوته المستحقّ قيل له: فكيف يمكن أن يعمّ بمعروفه جميع رعيّته؟ قال: نعم كان ينوي لهم الخير، فإذا نوى لهم الخير فقد عمّهم بمعروفه. روي عن عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- أنه قال: يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن. قالوا: لأن الناس يخافون من عواجل العقوبة أشدّ مما يخافون من آجلها. ومما لا يليق بالملك الكامل- الإفاضة في مجلسه في وصف الطّعام والنّساء لئلا يشارك بذلك العامّة. لأن العامّة قد قنعوا من عيشهم باليسير واقتصروا عليه، وتركوا الأمور الكبار. فإذا أرادوا أن يفيضوا في حديث، لم يكن لهم إلا وصف أنواع الأطعمة ووصف أصناف النّساء. وقال الأحنف بن قيس [4] : جنّبوا مجالسنا ذكر الطّعام والنساء. قال أبرويز لابنه: لا توسّعنّ جندك فيستغنوا عنك، ولا تضيّق عليهم فيضجروا منك، وأعطهم عطاء قصدا، وأمنعهم منعا جميلا، ووسّع عليهم في الرّجاء ولا توسّع عليهم في العطاء. ولما سمع المنصور هذا الكلام صادف منه موضعا قابلا للشّحّ الغالب عليه، فقال: هذا هو رأي. وهذا معنى قول القائل: أجع كلبك يتبعك. فقام إليه بعض القوّاد وقال: يا أمير المؤمنين أخاف أن يلوح له غيرك برغيف فيدعك ويتبعه! قالوا: سياسة الرّئاسة،   [1] الناصر: هو الخليفة أبو العبّاس أحمد بن المستضيء بأمر الله. امتدّ حكمه/ 575- 622/ [2] بزرجمهر: ابن البختكان، وزير وحكيم فارسي. روى قصة انتساخ كليلة ودمنة. [3] أردشير: مؤسس المملكة الساسانية الفارسية، اشتهر بحكمته. [4] الأحنف بن قيس: سيّد بني تميم في البصرة، ضرب المثل بحلمه وحكمته. توفي/ 74/ هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 أشد من الرئاسة. كما أن سياسة الخدمة أشدّ من الخدمة. وكما أن التوقّي بعد شرب الدواء أشدّ من الدواء. كذلك ربّ الصنيعة، أشدّ من الصنيعة، وعلى الرئيس أن يصبر على مضض الرئاسة. قال بعض حكماء الترك، ينبغي أن يكون في قائد الجيش عشر خصال من أخلاق الحيوان- جرأة الأسد، وحملة الخنزير [1] ، وروغان الثعلب، وصبر الكلب على الجراح، وغارة الذّئب، وحراسة الكركي، وسخاء الدّيك وشفقة الدّجاجة على الفراريج، وحذر الغراب، وسمن تعرو، (وهي دابة تكون بخراسان تسمن على السّفر والكمد) . قالوا: والفاضل من طلاب الرئاسة هو الّذي يكون مطبوعا على المعرفة، مخلوقا فيه صحة التمييز مكتسبا للعلم بما جرى في الدنيا من تصاريف الدهور، وتنقّل الدّول عارفا بمداراة الأعداء كتوما لشرّه، إذا كان قطب السياسة عليه يدور. وأن يستمدّ لعقله من عقول العقلاء، فإنّ العقل الفرد لا يقوم بنفسه. وينبغي أن يكون ذا رويّة عند اشتباه الآراء، وعزيمة عند اختلاف الأهواء، حتى يكشف. وأما الحزم فهو الأصل الّذي يبني عليه في تحصين المملكة. وقد كان يجب تقديمه وذكره في أوّل الكتاب عند أخواته من الخصال المحمودة، ولكن العقل يشتمل عليه ويستلزمه، فأكتفي بذكره عنه. ولا بأس بذكر نبذة في هذا الموضع منه. قالوا: أحزم الملوك من ملك جدّه هزله، وقهر رأيه هواه، وعبّر عن ضميره فعله، ولم يختدعه رضاه عن حظّه، ولا غضبه عن كيده. وكان يقال: الحازم من الملوك من يبعث العيون [2] على نفسه ويتفقدها، حتى لا يكون الناس بعيبه أعلم منه بعيب نفسه. وقالوا: أحزم الملوك من حمل رعيّته على التخلّق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، بالرفق والتوصّل الحسن والتأنّي اللطيف. وخطر لي في هذا المعنى سرّ لطيف وهو أنّ الرعيّة إذا تدرّجوا إلى التخلّق بأخلاق الملك والتأدّب بآدابه، صاروا مستحسنين لصادرات أحواله وأفعاله لأنّهم هم يفعلونها ويعتمدونها   [1] الحملة: الهجمة الشرسة. [2] العيون: قصد بها الجواسيس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 فلا يصير أحد منهم يذمّ سيرته، ولا يزري عليه، ومتى كانت طباعهم منافية لطباعه، وأخلاقهم مضادّة لأخلاقه، أغروا بالإزراء عليه، والذمّ لأفعاله، وهذا سرّ لطيف منطو في قولهم! وقالوا: أحزم الملوك من تقدّم بإحكام الأمر قبل نزول حاجته. وتدارك المهمّ قبل وقوعه. قيل للإسكندر [1] : ما علامة دوام الملك؟ قال: الاقتداء بالحزم والجدّ في كل الأمور. قيل: فما علامة زواله؟ قال الهزل فيه. وقال أنوشروان [2] : الحزم حفظ ما ولّيت وترك ما كفيت. وقال آخر أحزم الملوك من ملك أمره، ودبّر خصاله، وقمع شهوته وقهر نوازعه. قالوا: ينبغي أن يكون أول أمر الملك الحزم، فإذا وقع الأمر فينبغي أن يكون حينئذ الجدّ والاجتهاد. قيل لبعض فضلاء الملوك: نراك إذا وفد عليك وافد أطلت مجالسته، وربما لا يكون أهلا لذلك. قال: إنّ حقيقة حال الرجل لا تبين في مجلس أو مجلسين، فأنا أطاول عشرته وأختبره في عدة مجالس، فإن كان فاضلا اصطفيته، وإن كان ناقصا تركته. وقال آخر: لا ينبغي لأحد أن يدع الحزم لظفر ناله عاجز، ولا يرغب في تضييعه لنكبة دخلت على حازم. قالوا: من لم يقدّمه الحزم أخّره العجز. وقيل لعبد الملك [3] بن مروان: ما الحزم؟ قال: اختداع الناس بالمال واستمالتهم به، فإنّهم أتباعه، أين كان كانوا، وكيف مال مالوا. وقال بعض الملوك لبعض الحكماء: متى تكون الثّقة بالعدوّ حزما؟ قال: إذا شاورته في أمر هو لك وله. وقال مسلمة بن عبد الملك [4] : ما فرحت بظفر ابتدأته بعجز، ولا ندمت على مكروه ابتدأته بحزم.   [1] الإسكندر: الفاتح المشهور، اشتهر بحكمته وقيادته للجيوش. انتصر على داريوس ملك الفرس، وبنى الإسكندرية في مصر توفي/ 323/ ق م. [2] أنوشروان: ملك ساساني حارب الروم البيزنطيين واستولى على اليمن. اشتهر بعدله وإصلاحاته. مات/ 579/ م. [3] عبد الملك بن مروان: خامس الخلفاء الأمويين. كان فصيحا حكيما، وطد دعائم الدولة. توفي/ 86/ هـ. [4] مسلمة بن عبد الملك: أمير أموي، وقائد جيش قضى على ثورة يزيد بن المهلب عامل خراسان. توفي/ 120/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ومما يجب على الملك الفاضل: إمعان النظر في أمر الأسرار، وصونها وتحصينها وحراستها من الإفشاء والذّياع، وهذا باب يحتاج فيه إلى التّأني التامّ، فكم من مملكة خربت وكم من نفس تلفت بسبب ظهور سر واحد! وحفظ السرّ وكتمانه من أفضل ما اعتنى به الإنسان، فمما جاء في ذلك في الحديث «من كتم سرّه ملك أمره» وقال علي- عليه السلام- «الرأي تحصين السرّ» . أسرّ بعض الناس إلى رجل حديثا وأمره بكتمانه، فلما انقضى الحديث قال له: فهمت؟ قال: نسيت. وقال عمرو بن العاص [1] : إذا أفشيت سرّي إلى صديقي فأذاعه كان اللوم لي لا له. قيل له: وكيف ذلك؟ قال: لأنّي أنا كنت أولى بصيانته منه. ومن أناشيد هذا الباب: إذا ضاق صدر المرء عن سرّ نفسه ... فصدر الّذي يستودع السرّ أضيق (طويل) قالوا: لا ينبغي أن يكون سرّ الملك إلا عند واحد، فإنه إذا كان عند واحد كان أحرى ألا يظهر، إما رغبة وإما رهبة، لأنه إن ظهر تحقّق الملك أن ظهوره قد كان من جهة ذلك الرجل، ومتى كان السرّ عند جماعة ثم ظهر، أحال كلّ واحد منهم على الآخر، فإن عاقبهم الملك جميعا كان قد ظلمهم إلا واحدا، وإن ترك معاقبتهم طمعوا وتطرّفوا على إفشاء أسراره. قال الشاعر: وسرّك ما كان عند امرئ ... وسرّ الثلاثة غير الخفي (متقارب) فإن احتاج الملك إلى إظهار سرّه لجماعة فأصلح ماله أن يفضي به إلى كلّ واحد منهم على سبيل الانفراد، ويوصيه بالكتمان ويوهمه أنّه ما أفضى إلى غيره به، فذلك أجدر لأن ينكتم السر. شاور بعض ملوك الفرس وزراءه في أمر، فقال واحد منهم: لا ينبغي للملك أن يستشير بأحدنا إلا خاليا به، فإنه أكتم للسرّ   [1] عمرو بن العاص: قائد عربي شهير، فتح مصر وبنى فيها مدينة الفسطاط في عهد عمر بن الخطاب. نصر معاوية بدهائه. توفي عام/ 43/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وأحزم في الرأي، وأجدر بالسلامة، وأعفى لبعضنا من غائلة [1] بعض. وما اعتنت دولة بتحصين الأسرار والمبالغة في حفظها كالدولة العبّاسيّة، فإنّ لها من هذا الباب عجائب، وكم من نعمة أزالوها عن أربابها، ونفس أزهقوها بسبب كلمة منقولة، أو حكاية مقولة. جرى في أيام الناصر [2] قضية ظريفة لا بأس بذكرها ها هنا. كان للناصر ولدان هما ولدا ولده، وكان قد أقطعهما بلاد خوزستان [3] وتوجّها إليها وأقاما بها ففي بعض الليالي أفكر الناصر في أمرهما واشتاقهما، وخاف عليهما من حادث يحدث بتلك الناحية، فأرسل في الحال إلى وزيره القمّي [4] وقال له: أرسل في هذه الساعة إليهما من يأمرهما بالوصول إلى بغداد، ولا تشعر بهذا مخلوقا. فأحضر الوزير نجّابا في ذلك الحال. وكان جماعة من النّجابين يبيتون في كلّ ليلة بباب الديوان، يبيت أحدهم وتحت رأسه راحلته وزاده ونفقته، وقد ودّع أهله، فإن عرض في الليل مهمّ توجّه فيه فلما حضر النّجاب بين يديّ الوزير شافهه بالمراسلة، وقال له تخرج في هذه الساعة، وإياك أن يعلم هذا أحد فيكون عوضه نفسك. ثم تقدّم الوزير يحمل مفتاح باب من أبواب السّور له، فلما مضى ليخرج اجتاز ببعض الدروب وامرأتان في منظرتين متقابلتين تتحدثان، فقالت إحداهما للأخرى: ترى هذا النّجاب إلى أين يمشي في هذا الوقت؟ فقالت لها الأخرى يمشي إلى دستر لإحضار أولاد الخليفة فإنه قد خاف عليهما وقد اشتاقهما لأن جدتهما هناك قد طالت. فلما سمع النّجاب ذلك ترجّع من ساعته إلى الديوان، واستأذن على الوزير. فلما علم الوزير برجوعه انزعج لذلك وأحضره، وسأله عن سبب عوده، فقال له: يا مولانا جرى الساعة في الدرب الفلاني كيت وكيت، وخفت أن أتوجّه   [1] الغائلة: الشرّ والبطش. [2] الناصر: هو الخليفة العباسي الرابع والثلاثون ولي الخلافة/ 575/ هـ وتوفي/ 622/ هـ. واسمه أحمد بن المستضيء بأمر الله، وسبقت ترجمته. [3] خوزستان: إقليم في غربي إيران من مدنه: عبادان وتستر وخرّم شهر. [4] القمّي: هو محمّد بن عبد الكريم أصله من قم ونشأته في بغداد. استوزره الخليفة العباسيّ الناصر. توفي/ 629/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وينتشر هذا الحديث، فما تشكّون في أنني أنا الّذي أظهرته فيكون ذلك سبب هلاكي، فقال الوزير: قد عرفنا ذلك اخرج وتوجّه في أمان الله تعالى فإن الشياطين تنقل عظائم الأخبار. ومما يجري هذا المجرى، ما حدّثني به بعض أهل بغداد. قال: حدّثني صديق لي قال: كنّا نتمشى في دولاب بستان البقل، وقد أمعنّا في الدخول إلى أقصاه، فسمعنا صوت قائل يقول: مات أباقا [1] ، قال: فنظرنا فلم نبصر أحدا. ثم إنّنا أرحنا اليوم، فلما فشا الخبر كان كما قال. قيل: إن صاحب الموصل- وأظنه بدر الدين [2]- قال لمجد الدين بن الأثير الجزري [3] : أريد أن تعين لي في هذه الساعة على رجل دين أمين يكون موضعا للسرّ أحمّله مشافهة سريّة إلى الخليفة، ويتوجّه في هذه الساعة فأفكر ابن الأثير ساعة ثم قال يا مولانا: ما أعرف أحدا بهذه الصفة إلا أخي [4] . قال: فقم وعرّفه ذلك. وأرسله إلى داره، وحكى لأخيه ما جرى عند السلطان، وقال له يا أخي والله ما شهدت لك إلا بما أعرفه منك، فتوجّه إلى خدمة السلطان، وامتثل ما يشير به. فحضر ابن الأثير عند السّلطان وشافهه بالمراسلة، وقال له: تتوجّه في هذه الساعة. فحضر ابن الأثير إلى داره ليودّع أخاه فوجده قائما في الدهليز ينتظره، فقال له: شافهك السّلطان بالحديث. قال: نعم، قال: فما هو؟ قال: يا أخي الساعة شهدت لي عنده بالدين والأمانة وحفظ السرّ، فيجوز أن أكذّبك في الحال؟ قال لي شيئا ما أقوله إلا لمن أمرني أن أقوله له. قال فبكى مجد الدين أخوه ودعا له. ومن الأشعار المقولة في ذلك قول الحماسيّ:   [1] أباقا: سلطان مغولي خلف أباه هولاكو. سبقت ترجمته. [2] بدر الدين: هو بدر الدين لؤلؤ، عامل المستعصم على الموصل سبقت ترجمته. [3] مجد الدين: أبو السعادات المبارك بن محمد الشيبانيّ. صاحب كتاب (جامع الأصول في أحاديث الرسول) توفي/ 606/ هـ. [4] لمجد الدين بن الأثير هذا، أخوان آخران، هما عزّ الدين أبو الحسن المؤرّخ، وضياء الدين أبو الفتح الكاتب صاحب كتاب «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر» ولم يحدّد في روايته أيهما المقصود بحكاية الأمانة على السرّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وفتيان صدق لست مطلع بعضهم ... على سرّ بعض غير أنّي جماعها [1] لكلّ امرئ شعب من القلب فارغ ... وموضع نجوى لا يرام اطّلاعها يظلّون شتّى في البلاد وسرّهم ... إلى صخرة أعيا الرجال انصداعها (طويل) ومن جيّد ما قيل في ذلك: لا تسألي القوم: ما مالي وكثرته ... وسائلي القوم: ما مجدي وما خلقي هل أطعن الطعنة النجلاء عن عرض ... وأكتم السّرّ فيه ضربة العنق (بسيط) ومن جيّده قول الصابئ: فقل لصديقي كن على السّرّ آمنا ... إذا لم يكن بيني وبينك ثالث (طويل) وقال الآخر: وإنك كلّما استودعت سرّا ... أنمّ من النّسيم على الرّياض [2] (وافر) ولمؤلّف هذا الكتاب في ذلك من جملة أبيات: وما احتفر الأصحاب للسرّ حفرة ... كصدري ولو جار الشّراب على عقلي (طويل) وقوله في ذلك أيضا: وإن يكن الزجاج ينمّ طبعا ... فسيّدنا أنمّ من الزّجاج (وافر) ومن الأمور التي يجب تدقيق الفكر فيها، والتثبّت التامّ والتأني في تأمّلها: حديث السّعايات والنمائم. فكم من نمّام أو ساع قد شفى غيظه بإيقاع مسكين بين يدي ملك قاهر، في تهمة هو بريء منها، ثم اشتبه الأمر على الحاكم فأهلك الرجل البريء بغير ذنب، ثم لمّا علم ندم حين لا ينفع الندم، فعمّ الضرر بذلك الساعي   [1] جماعها: جامعها وكاتمها. [2] قوله «أنم من النسيم على الرياض» كناية عن البوح بالسرّ وإفشائه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 والمسعيّ إليه، لأنهما أهلكا دينهما بما فعلاه. والمسعى به لتعجّله العقوبة. فعمّ الضرر الثلاثة، ومما جاء في ذلك في التنزيل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ 49: 6 [1] ومما جاء في الحديث: «من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فلا يرفعن إلينا عورة [2] أخيه المسلم» . رفع إنسان إلى يحيى بن خالد [3] بن برمك قصّة يقول فيها: إنه قد مات رجل تاجر غريب، وقد خلّف جارية حسناء وولدا رضيعا، ومالا كثيرا، والوزير أحقّ بهذا. فكتب يحيى بن خالد على رأس القصّة: أما الرّجل فرحمه الله. وأما الجارية: فصانها الله، وأما الطّفل: فرعاه الله. وأما المال: فثمّره الله. وأما الساعي إلينا بذلك: فلعنه الله. قيل: لما تولى عبد العزيز بن مروان [4] دمشق- ولم يكن في بني أمية ألبّ منه وكان حدث السنّ- طمع فيه أهل دمشق، وقالوا: صبيّ لا علم له بالأمور، وسيسمع كلّ ما نقول له فقام إليه رجل وقال: أصلح الله الأمير. نصيحة!! فقال: ليت شعري ما هذه النصيحة، التي قد ابتدأتني بها من غير يد سبقت مني إليك؟ هات نصيحتك. قال: لي جار وهو عاص خالع للطاعة- وذكر له عيوبا- فقال له عبد العزيز: إنّك أيها الرجل ما اتّقيت الله تعالى، ولا أكرمت أميرك ولا حفظت جوارك! إن شئت نظرنا فيما تقول، فإن كنت صادقا لم ينفعك ذلك عندنا، وإن كنت كاذبا عاقبناك وإن استقلتنا أقلناك. فقال: بل أقلني أيها الأمير، قال: اذهب حيث شئت، لا صحبك الله، إنّي أراك شرّ رجل!.   [1] سورة الحجرات، الآية/ 6/. [2] العورة: هنا، ما يكره المرء الاطّلاع عليه من قبل غيره. [3] يحيى بن خالد بن برمك: أبو الفضل وجعفر، وقد كان مربّيا وكاتبا للرشيد ثم استوزره ومن بعده ولداه حتى كانت نكبة البرامكة المشهورة. مات سجينا في الرقّة سنة/ 190/ هـ. [4] عبد العزيز بن مروان: المعروف أنه ولي مصر لأبيه مروان بن الحكم الأموي واستمرّ إلى أن توفي عام/ 85/ هـ وهو والد الخليفة عمر بن عبد العزيز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 كان الوزير عليّ بن محمد بن الفرات وزير المقتدر يبغض السّعاة. فكان إذا رفع أحد إليه قصة فيها سعاية بأحد، يخرج حاجبه إلى الباب، والناس على طبقاتهم وقوف فيقول: أين صاحب هذه السعاية؟ قد قال لك الوزير: كذا وكذا فيفتضح ذلك الرجل في ذلك الجمع، فترك الناس السعايات في أيامه. قال عبد الرحمن بن عوف [1]- رضي الله عنه-: «من عرف فاحشة فأفشاها كان هو الّذي أتاها» كتب قباذ [2] الملك لابنه كسرى عهدا، فمن جملته «يا بنيّ: لا تدخل في مشورتك بخيلا فإنه يقصّر بك عن غاية الفضل، ولا جبانا فإنّه يضيّق عليك الأمور عند انتهاز الفرصة. يا بني: ليكن أبغض رعيّتك إليك أكثرهم تكشيفا لمعايب الناس، فإن في الناس عيوبا أنت أحقّ من سترها وكره ما تكشف من غائبها فإنّما إليك الحكم على ما ظهر، والله يحكم فيم غاب. فاذكره للرعيّة ما تكره لنفسك واستر العورة يستر الله عليك ما تحبّ ستره. ولا تعجل إلى صديق ساع، فإنّ الساعي غاشّ وإن قال قول النّصيح. وأعط الناس من عفوك مثل ما تحبّ أن يعطيك من فوقك» . ومن مليح ما قيل في ذلك قول مهيار [3] يخاطب بعض الوزراء: يا سيف نصري والمهند تابعي ... وربيع دهري والزّمان مصاف [4]   [1] عبد الرحمن بن عوف: صحابيّ سابق إلى الإسلام، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة. شهد المعارك وجرح يوم أحد. كان جوادا سخيّا. توفي في المدينة المنورة/ 32/ هـ. [2] قباذ: والد كسرى أنوشروان الملك الساسانيّ المشهور. وقد سبقت ترجمة كسرى. [3] مهيار: هو مهيار الدّيلميّ تلميذ للشريف الرضيّ. اعتدّ بأصله الفارسيّ في شعره. وله ديوان. توفي/ 428/ هـ. [4] مصاف: محترّ بحر الصيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 ومعيد أيّامي عليّ بدائنا [1] ... سمنا وهنّ على الأنام عجاف أخلاقك الغرّ السّجايا مالها ... حملت قذى الواشين وهي سلاف؟ [2] والإفك [3] في مرآة رأيك ما له ... يخفى وأنت الجوهر الشفّاف؟ (كامل) ومن مليح قول القائل: سعى إليك بني الواشي فلم ترني ... أهلا لتكذيب ما ألقى من الخبر ولو سعى بك عندي في الذّكرى ... طيف الخيال لبعت النوم بالسّهر (بسيط) اختلفوا في الملك القاهر العسوف، والملك المقتصد الضّعفى: ففضلوا القاهر العسوف واحتجّوا بأن القويّ العسوف يكفّ الأطماع عن رعيته، ويحميهم من غيره بقوّته. وله أنفة تعصمهم من شرّ غيره، فتكون رعيّته بمثابة من كفي شرّ جميع الناس وابتلي بشرّ واحد. وأما المقتصد الضعيف: فيهمل رعيّته فيسلّط عليهم كلّ أحد ويدوسهم كلّ حافر، فيكونون بمثابة من كفي شرّ واحد وابتلي بشرّ جميع الناس، وبين الحالين بون بعيد. وقال بعض الحكماء. سلطان يخافه الرعية، خير من سلطان يخافها. قال أنوشروان: عندي لمن عرّض دمه سفكه، ولمن جاوز حدّه تقويمه، ولمن تعدّى طوره قمعه. قال بعض الحكماء: أمران جليلان لا يصلح أحدهما إلا بالانفراد. فالملك متى وقع فيه الاشتراك فسد. وأما الّذي لا يصلح إلا بالاشتراك- فالرأي، متى وقع فيه الاشتراك وثق فيه بالصّواب. ولا يجوز لملك أن يصغر في نفسه أمر عدوه، وإن كان صغيرا في نفس الأمر. ولا يجوز لجلساء الملك أن يصغّروا أمر عدوّه، فإنّهم إن صغّروه حتى ظفر به العدوّ كان وهنا له، إذ قد غلبه عدوّ صغير وإن ظفر هو بالعدوّ لم يكن قد صنع طائلا. لمّا رجع رسول الله- صلى الله عليه   [1] البدائن: سمان الإبل والأنعام، والعجاف: المهزولات. [2] السّلاف: الخمرة. [3] الإفك: الكذب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وسلم- من وقعة بدر ومعه الأسرى والغنائم، وقد قتل الله رءوس المشركين، تلقّاه الناس من ظاهر المدينة عن أميال فجعلوا يهنئونه بالفتح، وجعل الناس يسأل بعضهم بعضا عمن هلك وسلم، فقال بعض الصحابة: والله ما قتلنا إلا عجائز صلعا. فأقبل عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- باللوم ولم يزل كالمعرض عنه، ثم قال له: أولئك يا ابن أخي الملأ. ومن مليح ما رأيت في هذا المعنى، قول حكيم الهند لبعض ملوكهم: لا تحقرنّ أمر الأعداء وإن صغروا، فإن الزبير [1] إذا جمع جعل منه حبل يشدّ به الفيل. وإغباب [2] الرأي من الأمور المهمّة. وأجود الرأي ما وقع فيه التأني والتثبّت، وبذلك يؤمن زلل الرّأي. قال الأحنف بن قيس [3] لأصحاب عليّ- عليه السلام- أغبّوا [4] الرأي فإنّ إغبابه يكشف لكم عن محضبه. واستشير بعض العقلاء في أمر فسكت، فقيل له: لم لا تتكلم؟ فقال: ما أحبّ الخبز إلا بائتا [5] ، ولما عزم الخوارج على مبايعة عبد الله بن وهب [6] فرغوا من البيعة قال: اتركوا الرأي يغبّ- أي يأتي عليه يوم وليلة- وكان يستعيذ باللَّه من الرأي الفطير. [7] قالوا: مرّ الحارث بن زيد بالأحنف بن قيس، فقال له: لولا أنّك عجلان لشاورتك   [1] الزّئبر: ما يظهر من درز الثوب. وهو أو هي الخيوط أو نتافتها. وبلغة العوام، الزّغبر. [2] إغباب الرأي: تأجيل إنفاذه، والتمهّل فيه. [3] الأحنف بن قيس: أبو بحر التميميّ- داهية وفصيح وحليم وصاحب رأي ومشورة. توفي في الكوفة/ 72/ هـ. [4] أغبّوا الرأي: بينوه. تريثوا في إصداره. [5] الخبز البائت: هنا، استعارة للرأي المبيّت، بلا استعجال في إنفاذه. [6] عبد الله بن وهب الراسبيّ: زعيم الخوارج من الأزد، قتل في معركة النهروان في حربه مع عليّ/ 38/ هـ. [7] الفطير: ضدّ الناضج، الفجّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وهذا دليل على كراهيتهم للرأي الفطير. وكانوا لا يشاورون الجائع حتى يشبع، ولا الأسير حتى يطلق، ولا الطالب حتى يببلغ حاجته، ولا العطشان حتى يروى، ولا الضالّ حتى يهتدي. وقال بعض الشعراء يصف عاقلا: عليم بأعقاب الأمور كأنّما ... يخاطبه من كلّ أمر عواقبه وما أعرف أحسن من قول ابن الروميّ [1] في تفصيل الرأي المختمر على الرأي الفطير: نار الرّويّة نار جدّ منضجة ... وللبديهة نار ذات تلويح وقد يفضّلها قوم لعاجلها ... لكنّه عاجل يمضي مع الرّيح (بسيط) ومما يوجبه العقل الصحيح، أنّ الإنسان لا يدخل في أمر يعسر الخروج منه، قال الشاعر: ما من الحزم أن تقارب أمرا ... تطلب البعد منه بعد قليل فإذا ما هممت بالشيء فانظر ... كيف منه الخروج بعد الدّخول (خفيف) قالوا: وأفضل من ذلك أن الإنسان لا يدخل نفسه في أمر يحتاج في الخروج منه إلى فكر، قال معاوية بن العاص- رضي الله عنهما- ما بلغ من دهائك؟ قال: ما دخلت في أمر إلا وأحسنت الخروج منه، فقال معاوية: لكني أنا ما دخلت في أمر أحتاج في الخروج منه إلى فكر. ومن الأمور المهمّة للملك، حسن نظره في إرسال الرّسل، فبالرسول يستدل على حال المرسل. قال بعض الحكماء: إذا غاب عنكم حال الرجل، ولم تعلموا مقدار عقله، فانظروا إلى كتابه ورسوله، فهما شاهدان لا يكذبان. ويجب أن يكون في الرّسول خصال- منها العقل، ليميّز به الأمر المستقيم من المعوجّ.   [1] ابن الروميّ: عليّ بن العبّاس، شاعر عباسي مشهور، عرف بتشاؤمه، توفي/ 283/ هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 والأمانة والعفاف لئلا يخون مرسلة، فكم من رسول برقت له بارقة طمع من جهة من أرسل إليه، فحفظ جانبه وترك جانب مرسلة. أرسل معاوية- رضي الله عنه إلى ملك الروم رسولا من أقاربه كان يعتمد عليه لتقرير أمر الهدنة، واشترط معاوية شروطا غليظة، فلما حضر الرّسول عند ملك الروم، اجتهد به على تخفيف تلك الشروط فلم يقبل. فخلا به وقال له: بلغني أنّك فقير، وأنك إذا أردت الركوب إلى معاوية تستعير الدوابّ. قال: كذلك هو. قال: فما أراك تعمل لنفسك شيئا، وهذا المال الّذي عندنا كثير، فخذ منه ما يغنيك إلى الأبد ودع معاوية. وأحضر له عشرين ألف دينار فأخذها وخفف له الشروط وأمضى الهدنة، ثم رجع إلى معاوية. فلما نظر معاوية في الكتاب علم بالحال فقال له: ما أراك عملت إلا له! وعزم على مؤاخذته، فقال له: يا أمير المؤمنين، أقلني [1] قال: قد أقلتك، وأعرض عنه [2] . وفيما فعل كمال الدين محمّد بن الشّهرزوري [3] حين أرسله أتابك زنكي صاحب الموصل إلى بغداد لتقرير أمر الرّاشد [4]- منبهة على وجوب تدقيق النظر في اختيار الرسل- وذلك أنه لمّا خلع الراشد ببغداد فارقها وحضر إلى الموصل مستعينا بأتابك زنكي، وخلا به ووعده ومنّاه أنه إن عاد إلى الخلافة أن يفعل معه ويصنع فتهوّس أتابك زنكي بذلك وضمن له صلاح الحال مع السلطان مسعود، ثم إن أتابك زنكي عزم على مراسلة الديوان ببغداد في هذا المعنى فاختار للرسالة كمال الدين بن الشهرزوريّ قاضي الموصل، فأرسله ووصّاه بالاحتجاج والمبالغة في تقرير أمر الراشد ونقض ما   [1] أقلني: نحّ عني العقوبة والمسئوليّة. اعف عنّي. [2] أعرض عنه: انصرف عنه وقاطعه. هجره. [3] كمال الدين الشهرزوريّ: قاضي الموصل عند أتابك زنكي وكانت للمؤرّخ ابن الأثير به معرفة على ما يبدو من الرواية. [4] الراشد: الخليفة العباسي الثلاثون. أزاحه السلطان مسعود السلجوقي، ولجأ إلى الموصل ثم فرّ إلى أصفهان حيث قتل عام/ 532/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 أبرموه من خلافة المقتفى [1] فتوجّه كمال الدين إلى بغداد، قال ابن الأثير صاحب التاريخ [2]- حكى لي كمال الدين المذكور، قال: لما حضرت بالديوان قيل لي: تبايع أمير المؤمنين؟ فقلت أمير المؤمنين عندنا بالموصل وله في أعناق الخلق بيعة متقدمة قال- وطال الحديث في ذلك، وعدت إلى منزلي فلما جاء الليل جاءتني عجوز سرّا واجتمعت بي وأبلغتني رسالة من المقتفى، مضمونها المعاتبة لي على ما قلت واستنزالي عنه، فقلت: غدا أخدم خدمة يظهر أثرها، فلما كان الغد، حضرت بالديوان وقيل لي في معنى البيعة، فقلت: أنا رجل فقيه قاض، ولا يجوز لي أن أبايع إلا بعد أن يثبت عندي خلع المتقدّم. فأحضروا الشهود فشهدوا عندي بفسق الرّاشد فقلت: هذا ثابت لا كلام فيه، ولكن لا بدّ لنا في هذه الدعوى من نصيب، لأن أمير المؤمنين المقتفى حصلت له خلافة الله في أرضه والسلطان فقد استراح ممن كان يقصده فنحن بأيّ شيء نرجع؟ فرفع الأمر إلى المقتفى، فأمر أن يعطى أتابك [3] زنكي [4] صريفين ودرب هارون وحربي ملكا، فبايعت المقتفي وعدت، وقد حصل لي مال صالح وتحف وهدايا. وما أدري والله من أيّ حاليه أعجب؟! من فعله هذا وخيانته لمرسله وتسويد وجهه مع من استجار به، فإنه لم يكن الفائدة من إرسال كمال الدين إلا تقوية أمر المقتفى وتأكيد خلع الراشد، أم من حكايته عن نفسه مثل هذه الفعلة؟!. وكذلك ما جرى لعميد الملك الكندري وزير السلطان طغرلبك: أرسله السلطان طغرلبك ليخطب له امرأة، فمضى الكندري وخطبها لنفسه وتزوجها   [1] المقتفى: خليفة عباسي أجلسه السلطان مسعود على سدّة الخلافة بعد الراشد. توفي/ 555/ هـ. [2] هو المؤرّخ من أبناء الأثير الإخوة الجزريّين الثلاثة. [3] أتابك: لقب تركي أطلقه السلاجقة على بعض رجال البلاط والوزراء والقادة، وقد تمكن بعضهم من السيطرة وإنشاء دول كدولة زنكي في الموصل. [4] جدّ الأتابكة المتنفذ في الموصل وقد امتد حكم أسرة الأتابكة إلى الجزيرة والشام، بدءا من عماد الدين زنكي إلى بدر الدين لؤلؤ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وعصى على طغرلبك. فلما ظفر به طغرلبك [1] لم يقتله، واستبقاه في خدمته احتياجا إلى كفايته. ومن الأشعار المقولة في ذلك قول القائل: إذا كنت في حاجة مرسلا ... فأرسل حكيما ولا توصه (متقارب) وأجود من هذا المعنى وأكمل قول الآخر: إذا أرسلت في أمر رسولا ... فأفهمه وأرسله أديبا فإن ضيّعت ذاك فلا تلمه ... على أن لم يكن علم الغيوبا (وافر) ومما يزين الملك، اصطناع العوارف إلى أشراف رعيّته، فبذلك تميل أعناقهم إليه ويدخلون بذلك في زمرة خدمه وحاشيته. وما زال أفاضل الملوك يلحظون هذا المعنى فيفضلون دائما على أشراف رعيتهم أنواع الإفضال ليسترقّوهم بذلك. كان معاوية- رضي الله عنه- أشدّ الملوك لهجا بهذا المعنى. كان يعطي عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن العباس- رضي الله عنهما- في كلّ سنة جملا طائلة من المال. وكفاك من ذلك، أن عقيل بن أبي طالب- رضي الله عنه- فارق أخاه عليّ بن أبي طالب- عليه السلام- وقصد معاوية مستميحا وما ذاك لشحّ عند أمير المؤمنين- عليه السلام- فإنّه كان- صلوات الله عليه وسلامه- يباري الريح جودا وكرما، وكان جميع ما يدخل له من أملاكه يخرجه في الصدقات والمبرات، ولكن عقيلا كان يريد من مال المسلمين أكثر من حقّه، وما كان دين أمير المؤمنين- عليه السلام- يقتضي ذلك وكان معاوية- رضي الله عنه- يعطي لأجل مصلحة الدنيا، ولا يفكر فيما كان يفكر فيه أمير المؤمنين- عليه السلام- وانظر إلى كمال الدين حيدرة [2] ابن عبيد الله الحسيني الموصلي وكان شيخ أهله ومقدّمهم سنّا وزهدا وفضلا وورعا كيف استماله صاحب الموصل   [1] طغرل بك: مؤسّس سلالة السلاجقة. قضى على البويهيين في بغداد/ 447/ هـ. وخلع عليه الخليفة العباسيّ القائم لقب السلطان وملك المشرق والمغرب. [2] حيدرة بن عبيد الله: ترجم له المؤلف من خلال رأيه فيه، ولم تذكره المراجع من كتب الأعلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 بدر الدين [1] بما أسداه إليه من الإنعام حتى مدحه، وانخرط في زمرة شعرائه، فمن شعره فيه: هنيئا بجدّ ساعدتك سعوده ... وتمّ له يوم التفاخر عيده وبشرى بإقبال أهلّ بشيره ... كما وفدت عند الهناء وفوده وأنّى لبدر الدين ذي الفخر والعلا ... نديد، وكلا، أن يصاب نديده (طويل) ومع أنّه صار من شعرائه، وانخرط في زمرة مدّاحه، كان بدر الدين، بعد موت كمال الدين حيدرة إذا اجتاز على ترتبه- وهي تربة مفردة ظاهر الموصل جنوبية قبلية- يترك العسكر ويدخل إليه يزوره، ويدعو لنفسه عند ضريحه. (رحمهما الله تعالى)   [1] بدر الدين: لعلّه بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل الأتابك من آل زنكي. توفي/ 656/ هـ، وقد مرّت ترجمته غير مرّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 الفصل الثاني في الكلام على دولة دولة وفيه: الدولة الأولى: دولة الأربعة الراشدين الدولة الثانية: الدولة الأميّة الدولة الثالثة: الدولة العبّاسيّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 لقد تم الكلام على الأمور السلطانية والسياسات الملكية، وعلم بذلك سيرة الملك الفاضل المستحق للرئاسة، وخواص الملك التي يتميز بها عن الرعايا، والحقوق الواجبة لذلك على رعيته، والحقوق الواجبة لهم عليه واندرج في أثناء ذلك الكلام على كليات أحوال الدول على سبيل الإجمال. وكل ما مضى في هذه الأوراق من اللطائف والمحاسن فقد وفر الله تعالى منه حظّ المولى الملك الفاضل، حاطه الله تعالى بأنواع ألطافه، وبلّغه أقصى الغايات من إسعاده وإسعافه، لأن الله تعالى هداه بسابق عنايته إلى محاسن الشّيم، وفضّله بخافي لطفه على كثير من الأمم. وهذا أوان الشروع في الكلام على دولة دولة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الدولة الأولى: دولة الأربعة وهم المعروفون بالخلفاء الراشدين قال محمد بن عليّ بن طباطبا مؤلّف هذا الكتاب المعروف بالفخري في الآداب السلطانيّة والدول الإسلاميّة: أما الدولة الأولى، وهي دولة الأربعة فإن ابتداءها كان منذ قبض رسول الله- صلوات الله عليه وسلامه- وبويع أبو بكر بن قحافة- رضي الله عنه- وذلك في سنة اثنتي عشرة من الهجرة وانتهاؤها حين قتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- عليه السلام- وذلك في سنة أربعين من الهجرة واعلم أنها دولة لم تكن من طرز دول الدنيا، وهي بالأمور النبويّة والأحوال الأخروية أشبه. والحق في هذا أن زيّها قد كان زيّ الأنبياء وهديها هدي الأولياء. وفتوحها فتوح الملوك الكبار. فأما زيّها: فهو الخشونة في العيش، والتقلل في المطعم والملبس، كان أحدهم يمشي في الأسواق راجلا وعليه القميص الخلق المرقوع إلى نصف ساقه، وفي رجله تاسومة [1] وفي يده درّة [2] فمن وجب عليه حد استوفاه منه. وكان طعامهم من أدنى أطعمة فقرائهم، ضرب أمير المؤمنين عليه السلام، المثل بالعسل والخبز النقي فقال في بعض كلامه. ولو شئت لاهتديت إلى مصفى هذا العسل بلباب هذا البرّ. واعلم أنهم لم يتقللوا في أطعمتهم وملبوسهم فقرا ولا عجزا عن أفضل لباس وأشهى مطعم، ولكنّهم كانوا يفعلون ذلك مواساة لفقراء رعيّتهم، وكسرا للنفس عن شهواتها، ورياضة لها لتعتاد أفضل حالاتها. وإلا فكل واحد منهم كان صاحب ثروة ضخمة، ونخل وحدائق وغير ذلك من الأسباب ولكنّ أكثر خرجهم كان في وجوه البرّ والقرب كان لأمير المؤمنين علي ارتفاع طائل من أملاكه يخرجه جميعه على الفقراء والضعفاء ويقتنع هو وعياله بالثوب الغليظ من الكرباس [3] ، وبالقرص من خبز الشعير. وأما فتوحها وحروبها فإن خيلها بلغت إفريقية وأقصى.   [1] التاسومة: حذوة القدم الخفيفة. [2] الدرّة: السّوط، يضرب به المؤدّب. [3] الكرباس: القماش الخشن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 خراسان وعبرت النهر، فإن عبيد الله بن عبّاس تولى إمارة سمرقند [1] وبها مات وفيها قبره فأوّل حروبها قتال أهل الرّدة. شرح كيفية الحال في ذلك على سبيل الاختصار لما قبض رسول الله صلوات الله عليه وسلامه، ارتدّ ناس من الأعراب عن الإسلام، وامتنعوا عن أداء الزكاة، وقالوا لو كان محمّد نبيّا لما مات. فوعظهم ذوو اللب والعقل، وقالوا لهم أخبرونا عن الأنبياء- عليهم السلام- هل تقرّون بنبوتهم؟ قالوا: نعم، قالوا: فهل ماتوا؟ قالوا: نعم. قالوا: فما الّذي تنكرونه من نبوّة محمد- عليه السلام-؟ فلم ينجع القول فيهم. فجهّز أبو بكر- رضي الله عنه- إلى طائفة منهم جيشا، فتوجّهت الجيوش إليهم وقاتلتهم، وكانت الغلبة للجيوش الإسلامية فأبادتهم قتلا وأسرا، ورجع من تبقى منهم إلى الإسلام وأدّى الزكاة ومن فتوحها الكبار فتح الشأم. شرح كيفية ذلك لما كانت سنة ثلاث عشرة من الهجرة، وهي السنة التي توفي فيها أبو بكر ورجع أبو بكر- رضي الله عنه- من الحجّ- شرع في تجهيز الجيوش إلى الشأم فبعث عسكرا كثيفا جعل على كل قطعة منه أميرا، وسمّى لكلّ أمير بلدا إن فتحه واستولى عليه كان له ثم أمدّهم بخالد بن الوليد- رضي الله عنه- في عشرة آلاف فتكمّل بالشأم ستة وأربعون ألف مقاتل، وجرت بينهم وقائع وحروب امتدّت إلى أن مات أبو بكر، وبويع عمر بن الخطاب- رضي الله عنهما- فعزل عمر خالد بن الوليد- رضي الله عنهما- عن إمارة الجيش، وكان قد أمّر، ثمّ أمّر على الناس   [1] سمرقند: مدينة من أقصى ما بلغه الفتح الإسلامي وتقع شرقيّ بخارى، خرّبها جنكيزخان وأضحت فيما بعد عاصمة لتيمور لنك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 أبا عبيدة بن الجراح- رضي الله عنه- فورد رسول عمر إلى الجيش بالشأم بكتاب عمر إلى أبي عبيدة بتوليته وعزل خالد. واتفق وصول الرسول وهم مشغولون بالحرب فجعل الناس يسألون الرسول عن سبب قدومه، فأخبرهم بالسلامة ووعدهم أنّ وراءه مددا لهم، وكتم عنهم موت أبي بكر ثم وصل إلى أبي عبيدة بن الجراح فأخبره سرّا بموت أبي بكر، وناوله كتاب عمر بتوليته وعزل خالد. فاستحيا أبو عبيدة من خالد وكره أن يعلمه بالعزل، وهو قد بذل جهده في القتال فكتم أبو عبيدة الخبر عن خالد وصبر حتى تمّ الفتح وكتب الكتاب باسم خالد، ثم أعلمه بموت أبي بكر، وبعزله فسلّم إليه الجيش. وكان فتح دمشق في سنة أربع عشرة من الهجرة، في خلافة عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وفي الدولة المذكورة كان فتح العراق، وأخذ الملك من الأكاسرة. شرح مبدإ الحال في انتقال الملك من الأكاسرة إلى العرب إنّ الله تعالى بسابق علمه وبالغ حكمته وعزّة قدرته، إذا أراد أمرا هيّأ أسبابه وقد وصف نفسه عزّ وجل بقوله قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ من تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ من تَشاءُ وَتُذِلُّ من تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 3: 26 [1] ولما أراد- جلّ شأنه، وعزّ سلطانه- نقل الملك عن فارس إلى العرب أصدر من المنذرات بذلك ما ملأ به قلوبهم وقلوب أوليائهم رعبا. فأوّل ذلك: ارتجاس [2] الإيوان [3] وسقوط الشرفات منه، وذلك عند ميلاد الرسول- عليه أفضل الصلوات- وخمود نار فارس ولم تكن خمدت قبل ذلك بألف عام، وذلك في عهد أنوشروان العادل. فلما رأى أنوشروان سقوط الشّرفات وانشقاق الإيوان غمّه ذلك ولبس تاجه وجلس على سريره، وأحضر وزراءه وشاورهم في   [1] سورة آل عمران، الآية/ 26/. [2] ارتجاس: اهتزاز. [3] الإيوان: قصر كسرى أنوشروان ملك الفرس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 ذلك. ففي تلك الحال وصل كتاب من فارس بخمود النار، فازداد كسرى غمّا إلى غمّه وفي تلك الحال قام الموبذان [1] وقص الرؤيا التي رآها، قال: رأيت- أصلح الله الملك- كأنّ إبلا ضعافا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها فقال له كسرى: فأيّ شيء يكون تأويل هذا؟ قال أصلح الله الملك، حادث يحدث من جهة العرب وفشا الحديث بذلك بين العجم وتحدّث به الناس فسكن الرّعب قلوبهم وثبتت هيبة العرب في نفوسهم. ثم تتابعت أمثال هذه المنذرات الخواذل إلى آخر الأمر: فإنّ رستم لما خرج لمحاربة سعد بن أبي وقّاص رأى في منامه كان ملكا قد نزل من السماء، وجمع قسيّ الفرس وختم عليها وصعد بها إلى السماء، ثم انضمّ إلى ذلك ما كانوا يشاهدونه من سداد منطق العرب، وطمأنينة نفوسهم، وشدّة صبرهم على الشدائد ثم ما جرى في آخر الأمر من اختلاف كلمتهم بعد موت شهريار وجلوس يزدجرد على سرير المملكة وهو صبيّ حدث ضعيف الرأي. ثم الطّامّة الكبرى وهي انعكاس الريح عليهم في حرب القادسيّة، حتى أعمتهم بالغبار وعمّتهم بالدمار، وفيها قتل رستم [2] وانفلّ جيشهم. فانظر إلى هذه الخواذل، واعلم أن للَّه أمرا هو بالغه. شرح الحال في تحيّز الجيش إلى العراق واستخلاص الملك من الفرس كان ثغر [3] فارس من أثقل الثّغور على العرب، وأعظمها في نفوسهم وأكثرها هيبة. وكانوا يكرهون غزوة ويجنبون عنه استعظاما لشأن الأكاسرة، ولما هو مشهور من تدويخهم الأمم، حتى كان آخر أيام أبي بكر- رضي الله عنه- فقام رجل من الصحابة يقال له: المثنّى [4] بن حارثة- رضي الله عنه- وندب   [1] الموبذان: حكيم الحكماء باللغة الفارسيّة. [2] رستم: آخر قوّاد الفرس، هزمه سعد بن أبي وقّاص في القادسيّة. [3] الثّغر: مصطلح قديم لمنطقة الحدود والتناحر مع الأعداء. [4] المثنّى بن حارثة: صحابيّ وقائد، نسبه إلى بني شيبان. غزا بلاد فارس في أيّام أبي بكر، وأمدّه بخالد بن الوليد لفتح العراق وفارس. توفي متأثرا بجراحة عام/ 14/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الناس إلى قتال فارس وهوّن عليهم الأمر، وشجّعهم على ذلك، فانتدب معه جماعة وتذكر الناس ما كان رسول الله- صلوات الله عليه- يعدهم به من تملّك كنوز الأكاسرة. ولم يتمّ في ذلك أمر في خلافة أبي بكر، حتّى كانت أيام عمر بن الخطاب- رضي الله عنهما- وكتب إليه المثنّى بن حارثة يخبره باضطراب أمور الفرس وبجلوس يزدجرد بن شهريار [1] على سرير الملك وبصغر سنّه وكان قد جلس على السرير وعمره إحدى وعشرون سنة- فقوي حينئذ طمع العرب في غزو الفرس. فخرج عمر- رضي الله عنه- وعسكر ظاهر المدينة، والناس لا يعلمون أين يريد، وكانوا لا يتجاسرون على سؤاله عن شيء حتى إنّ بعضهم سأله مرة عن وقت الرحيل فزجره ولم يعلمه، فكانوا إذا أعضل عليهم أمر، وكان لا بد لهم من استعلامه منه استعانوا عليه بعثمان بن عفان أو بعبد الرحمن بن عوف- رضي الله عنهما- وإذا اشتدّ الأمر عليهم ثلّثوا بالعبّاس- رضي الله عنه فقال عثمان لعمر: يا أمير المؤمنين ما بلغك وما الّذي تريد؟ فنادى عمر رضي الله عنه- الصلاة جامعة. فاجتمع الناس إليه فأخبرهم الخبر ووعظهم وندبهم إلى غزو الفرس وهوّن عليهم الأمر. فأجابوا جميعا بالطاعة، ثم سألوه أن يسير معهم فقال: أفعل ذلك إلا أن يجيء رأي هو خير من هذا. ثم بعث إلى أصحاب الرأي وأعيان الصحابة وعقلائهم فأحضرهم واستشارهم، فأشاروا عليه بأن يقيم ويبعث رجلا من كبار الصحابة ويكون هو من ورائه يمدّه بالأمداد. فإن كان فتح فهو المطلوب، وإن هلك الرجل أرسل رجلا آخر. فلما انعقد إجماعهم على هذا الرأي صعد عمر المنبر- وكانوا إذا أرادوا يكلّمون الناس كلاما عامّا صعد أحدهم المنبر وخاطب الناس بما يريد- فلمّا صعد عمر قال: «أيّها الناس إنّي كنت عازما على الخروج معكم، وإن ذوي اللبّ والرأي منكم قد صرفوني عن هذا الرأي، وأشاروا   [1] يزدجرد بن شهريار: آخر ملوك الساسانيين. هزمه العرب في القادسيّة وفي نهاوند. مات اغتيالا وانقرضت بمقتله دولة الفرس الساسانيين عام/ 31/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 «بأن أقيم وأبعث رجلا من الصحابة يتولى أمر الحرب» ثم استشارهم فيمن يبعث، وفي تلك الحال وصل إليه كتاب من سعد بن أبي وقّاص وكان غائبا في بعض الأعمال، فأشاروا على عمر بسعد رضي الله عنهما- وقالوا: إنّه الأسد عاديا. ووافق ذلك حسن رأي من عمر بن الخطّاب رضي الله عنه في سعد بن أبي وقّاص، فاستحضره وولاه حرب العراق وسلّم الجيش إليه- فسار سعد بالناس، وسار عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- معهم فراسخ [1] ، ثم وعظهم وحثهم على الجهاد وودعهم، وانصرف إلى المدينة، وتوجّه سعد، فجعل ينتقل في البريّة التي بين الحجاز والكوفة يستعلم الأخبار، ورسل عمر تأتيه وكتبه يشير عليه فيها بالرأي بعد الرأي، ويمدّه بالجنود بعد الجنود، حتّى استقر رأيه على قصد القادسيّة وهي كانت باب مملكة الفرس. فلما نزل سعد بالقادسية احتاج هو ومن معه إلى الأقوات فبعث ناسا وأمرهم بتحصيل شيء من الغنم والبقر، وقد أجفل أهل السواد قدّامهم، فوجدوا رجلا فسألوه عن الغنم والبقر فقال: لا علم لي بذلك وإذا هو الراعي، وقد أدخل الدوابّ في أجمة هناك. قالوا: فصاح ثور منها: كذب الراعي ها نحن في هذه الأجمة. فدخلوا إليها واستاقوا منها عدّة، وأحضروها إلى سعد فاستبشروا بذلك وعدّوها نصرة من الله تعالى. والثور إن لم يكن قد تلفظ بحروف يكذّب بها الراعي فإنّ صياحه في تلك الساعة حتى يستدلّ بصياحه على الدوابّ عند شدة الحاجة إليها تكذيب صريح للراعي. وهو من الاتّفاقات العظيمة الدّالّة على النصر والدولة والاستبشار به واجب. وحين ورد الخبر إلى العجم بوصول سعد بالجيش، ندبوا له رستم [2] في ثلاثين ألف مقاتل، وكان جيش العرب من سبعة آلاف إلى ثمانية آلاف. ثم اجتمع إليهم بعد ذلك ناس فالتقوا، فكان العجم يضحكون من نبل العرب ويشبّهونها بالمغازل. وها هنا موضع حكاية تناسب ذلك، لا بأس بإيرادها: حدّثني فلك الدين   [1] فراسخ: جمع فرسخ وهو مقياس قديم للمسافات.. يبلغ/ 8000/ مترا. [2] رستم: قائد الجيش الفارسيّ في القادسية، انتهت المعركة بمصرعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 محمد [1] بن أيدمر قال: كنت في عسكر الدّويدار الصّغير لما خرج إلى لقاء التتر بالجانب الغربيّ من مدينة السّلام، في واقعتها العظمى سنة ستّ وخمسين وستّمائة قال: فالتقينا بنهر بشير من أعمال دجيل، فكان الفارس منّا يخرج إلى المبارزة، وتحته، فرس عربيّ وعليه سلاح تامّ كأنّه وفرسه الجبل العظيم، ثم يخرج إليه من المغول فارس تحته فرس كأنه حمار، وفي يده رمح كأنه المغزل، وليس عليه كسوة ولا سلاح فيضحك منه كلّ من رآه. ثم ما تمّ النهار حتّى كانت لهم الكرّة [2] فكسرونا كسرة عظيمة كانت مفتاح الشرّ ثم كان من الأمر ما كان. ثم تردّدت الرسل بين رستم وسعد، فكان البدويّ يأتي إلى باب رستم وهو جالس على سرير الذهب، وقد طرحت له الوسائد المنسوجة بالذّهب، وفرش له الفرش المنسوج بالذهب وقد لبس العجم التيجان وأظهروا زينتهم وأقاموا الفيلة في حواشي المجلس. فيجيء البدويّ، وفي يده رمحه، وهو متقلّد سيفه متنكّب قوسه فيربط فرسه قريبا من سرير رستم، فيصيح العجم عليه ويهمّون بمنعه فيمنعهم رستم ثم يستدنيه [3] فيمشي إليه متكئا على رمحه يطأ به ذلك الفراش وتلك الوسائد فيخرّقها بزج رمحه وهم ينظرون. فإذا وصل إلى رستم راجعه الحديث، فكان رستم لا يزال يسمع منهم حكما وأجوبة تروعه وتهوله. فمن ذلك أنّ سعدا- رضي الله عنه- كان يبعث في كلّ مرّة رسولا. فقال رستم لبعض من أرسل إليه: لم لم يبعثوا إلينا صاحبنا بالأمس؟ قال: لأنّ أميرنا يعدل بيننا في الشدّة والرّخاء. وقال يوما لآخر: ما هذا المغزل الّذي في يدك؟ يعني رمحه فقال: إنّ الجمرة لا يضرّها قصرها، وقال مرّة أخرى لآخر: ما بال سيفك أراه رثّا؟ فقال: إنه خلق المغمد حديد المضرب. فراع رستم ما رأى من أمثال هذا وقال لأصحابه: انظروا فإن هؤلاء لا يخلو أمرهم من أن يكون صدقا أو   [1] فلك الدين محمّد بن أيدمر: من معارف ابن طباطبا ومعاصريه، ولم تترجم له المراجع المعروفة. [2] كانت لهم الكرّة: كناية عن الانتصار. [3] يستدنيه: يدعوه ليدنو منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 كذبا، فإن كانوا كاذبين فإن قوما يحفظون أسرارهم هذا الحفظ، ولا يختلفون في شيء. وقد تعاهدوا على كتمان سرّهم هذا التعاقد، بحيث لا يظهر أحد سرّهم- لقوم في غاية الشدّة والقوة وإن كانوا صادقين فهؤلاء لا يقف حذاءهم أحد. فصاحوا حوله، وقالوا: الله الله أن تترك ما أنت عليه لشيء رأيته من هؤلاء الكلاب، بل صمّم على حربهم. فقال رستم: هو ما أقول لكم. ولكنني معكم على ما تريدون. ثم اقتتلوا أياما كان في آخرها انعكاس الريح عليهم حتّى أعماهم الغبار، فقتل رستم، وانفلّ [1] الجيش، وغنمت أموالهم وأجفل [2] الفرس يطلبون مخاضات دجلة ليقعوا في الجانب الشرقيّ وقد تبعهم سعد عبر المخاضات، وقتل منهم مقتلة عظيمة أخرى بجلولاء [3] ، وغنم أموالهم وأسر بنتا لكسرى ثم كتب سعد إلى عمر- رضي الله عنهما- بالفتح، وقد كان عمر في تلك الأيّام شديد التطلّع إلى أمر الجيش، فكان كلّ يوم يخرج إلى ظاهر المدينة راجلا يتنسم الأخبار، لعلّ أحدا يصل فيخبره بما كان منهم، فوصل البشير من عند سعد بالفتح فرآه عمر فقال له: من أين جئت؟ قال: من العراق، قال: فما فعل سعد والجيش؟ قال: فتح الله عليهم. كلّ ذلك والرّجل سائر على ناقته وعمر يمشي في ركابه، وهو لا يعلم أنه عمر. فلمّا اجتمع الناس وسلّموا على عمر بإمرة المؤمنين عرفه البدويّ فقال: هلا أعلمتني- رحمك الله- أنّك أمير المؤمنين؟ قال: لا بأس عليك يا أخي. ثمّ كتب عمر إلى سعد: قف مكانك ولا تتبعهم، واقتنع بهذا، واتّخذ للمسلمين دار هجرة ومدينة يسكنونها، ولا تجعل بيني وبينهم بحرا، فاتّخذ لهم سعد الكوفة، واختطّ بها المسجد الجامع، واختط الناس المنازل ومصرّها [4] سعد، ثم حكم في المدائن، وملك الكنوز والذّخائر.   [1] انفلّ الجيش: هزم وتفرّق فلولا. [2] أجفل: خاف وفزع. [3] جلولاء: موقع بين العراق وبلاد فارس فيه انتصر المسلمون على يزدجرد الثالث آخر الملوك الساسانيّين. [4] مصرها: جعلها مصرا أي مدينة للإقامة بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 ذكر طرف مستملحة وقعت حينئذ منها: أنّ بعض العرب ظفر بجراب فيه كافور [1] ، فأحضره إلى أصحابه فظنّوه ملحا فطبخوا طعاما ووضعوا فيه كافورا، فلم يروا له طعما ولم يعلموا ما هو، فرآه رجل فعرف ما فيه، فاشتراه منهم بقميص خلق [2] يساوي درهمين. ومنها: أن بدويا ظفر بحجر من الياقوت كبير يساوي مبلغا عظيما فلم يدر قيمته، فرآه بعض من يعرف قيمته فاشتراه منه بألف درهم، فبعد ذلك عرف البدويّ قيمته ولامه أصحابه وقالوا له: هلا طلبت فيه أكثر من ذلك؟ قال: لو علمت أنّ وراء الألف عددا أكثر من الألف لطلبته. ومنها: أن بعضهم كان يأخذ في يده الذّهب الأحمر ويقول: من يأخذ الصّفراء ويعطيني البيضاء؟ يرى أن الفضّة خير من الذّهب!. ذكر ما آلت إليه حال يزدجرد ثمّ إنّ يزدجرد [3] هرب إلى خراسان، وما زال أمره يضعف حتّى قتل في سنة إحدى وثلاثين من الهجرة بخراسان، وهو آخر ملوك الأكاسرة [4] ، وفي الدولة المذكورة دوّنت الدواوين، وفرض العطاء للمسلمين، ولم يكونوا قبل ذلك يعرفون ما الديوان. شرح كيفيّة تدوين الدّواوين كان المسلمون هم الجند، وكان قتالهم لأجل الدين لا لأجل الدّنيا. وكان لا يزال فيهم دائما من يبذل شطرا صالحا من ماله في وجوه البرّ والقرب، وكانوا لا   [1] الكافور: ضرب من الطّيب لونه أبيض كالملح، وهو نفيس وغال. [2] الخلق: الممزّق. البالي. [3] يزدجرد: هو يزدجرد الثالث الساسانيّ وقد مرّ ذكره مرارا كان مصرعه اغتيالا عام/ 31/ هـ. [4] الأكاسرة: جمع كسرى وهو الملك من الفرس أو العجم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 يريدون على إسلامهم ونصرهم لنبيّهم- صلوات الله عليه وسلامه- جزاء إلا من عند الله تعالى ولم يفرض النبيّ- صلوات الله عليه وسلامه- ولا أبو بكر رضي الله عنه لهم عطاء مقرّرا ولكن كانوا إذا غزوا وغنموا أخذوا نصيبا من الغنائم قرّرته الشريعة لهم. وإذا ورد إلى المدينة مال من بعض البلاد، أحضر إلى مسجد الرسول- صلوات الله عليه وسلامه- وفرّق فيهم على حسب ما يراه (صلى الله عليه وسلم) وجرى الأمر على ذلك مدّة خلافة أبي بكر (رضي الله عنه) فلمّا كانت سنة خمس عشرة من الهجرة،- وهي خلافة عمر رضي الله عنه- رأى أن الفتوح قد توالت، وأن كنوز الأكاسرة قد ملكت، وأن الحمول من الذّهب والجواهر النفيسة، والثياب الفاخرة قد تتابعت فرأى التوسيع على المسلمين وتفريق تلك الأموال فيهم. ولم يكن يعرف كيف يصنع، وكيف يضبط ذلك. وكان بالمدينة بعض مرازبة [1] الفرس. فلما رأى حيرة عمر قال له: يا أمير المؤمنين: إن للأكاسرة شيئا يسمّونه ديوانا، جميع دخلهم وخرجهم مضبوط فيه لا يشذّ منه شيء. وأهل العطاء مرتبّون فيه مراتب لا يتطرق عليها خلل. فتنبّه عمر- رضي الله عنه- وقال: صفه لي فوصفه المرزبان، ففطن عمر لذلك ودوّن الدواوين وفرض العطاء فجعل لكلّ واحد من المسلمين نوعا مقرّرا، وفرضوا لزوجات الرسول- صلوات الله عليه وسلامه- ولسراريه وأقاربه حتّى استنفد الحاصل ولم يدّخر في بيت المال شيئا. قالوا، فقام إليه رجل وقال: يا أمير المؤمنين: لو تركت في بيوت الأموال شيئا يكون عدّة لحادث إن حدث: فزجره عمر وقال: كلمة ألقاها الشيطان على فيك وقاني الله شرّها، وهي فتنة لمن بعدي. إني لا أعدّ للحادث الّذي يحدث سوى طاعة الله ورسوله، فهي عدّتنا التي بها [2] بلغنا ما بلغناه ثمّ إنّ عمر رأى أن يجعل العطاء على حسب السّبق إلى الإسلام، وإلى نصرة الرسول- عليه الصلاة والسلام- في مواطن حروبه. ثمّ استخدم الكتّاب في   [1] المرازبة: جمع مرزبان: قائد جيش باللغة الفارسيّة أو هو الرجل الخطير الشأن. [2] كذا في طبعة بيروت ص/ 84/، وفي رحما ص/ 60/، وفي ألما ص/ 102/. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 الدواوين وأمرهم بترتيب الطّبقات وضبط العطاء. فقالوا: بمن نبدأ يا أمير المؤمنين؟ فأشار ناس من الصّحابة عليه بأن يبدأ بنفسه، وقالوا: أنت أمير المؤمنين، وتقديمك واجب. فكره عمر ذلك وقال: ابدءوا بالعبّاس عمّ رسول الله- صلوات الله عليه- وببني هاشم، ثمّ بمن بعدهم طبقة طبقة وضعوا آل الخطّاب حيث وضعهم الله عزّ وجلّ. فاعتمد ما أشار به، وجرى الأمر على ذلك مدّة خلافته وخلافة عثمان، رضي الله عنهما. ثم في آخر خلافته خطر له تغيير هذا الرأي، وأن يفرض لكل واحد من المسلمين أربعة آلاف وقال ألف يجعلها لعياله إذا خرج إلى الحرب، وألف يتجهّز بها، وألف يصحبها معه، وألف يرتفق [1] بها. فمات عمر- رضي الله عنه- قبل إتمام هذا الرأي ومن وقائعها المشهورة وقعة الجمل. شرح مبدإ وقعة الجمل وكيفية الحال في ذلك لما قتل عثمان بن عفّان- رضي الله عنه- اجتمع الناس وقصدوا منزل أمير المؤمنين عليّ- عليه السلام- وسألوه تولّي أمرهم، فأبى عليهم. وقال: لا حاجة لي في أمركم. فألحّوا عليه إلحاحا شديدا، واجتمعوا إليه من كلّ صوب، يسألونه ذلك حتّى أجاب، فبايعه الناس فسار فيهم بسيرة الحقّ، لا تأخذه في الله لومة لائم، وكانت حركاته وسكناته- عليه السلام- جميعها للَّه، وفي الله، لا يقضي بها حقّ أحد. وكان لا يأخذ ولا يعطي إلا بالحقّ والعدل، حتّى إنّ أخاه عقيلا وهو ابن أبيه وأمّه طلب من بيت المال شيئا لم يكن له بحقّ، فمنعه عليه السلام وقال: يا أخي: ليس لك في هذا المال غير ما أعطيتك، ولكن اصبر حتّى يجيء مالي وأعطيك منه ما تريد. فلم يرض عقيل هذا الجواب وفارقه وقصد معاوية- رضي الله عنه- بالشأم، وكان لا يعطي ولديه الحسن والحسين- عليهما السلام- أكثر من حقّهما فانظر إلى رجل حمله ورعه [2] على هذا الصّنيع بولديه، وبأخيه من   [1] يرتفق بها: ينفقها على نفسه ولمنفعته [2] الورع: التشدّد في الدين وطاعة الله، خوفا لمعصية والإثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 أبويه. فلمّا سار فيهم هذه السيرة، ثقل على بعض الناس فعله، وكرهوا مكانه. فخرج الزّبير وطلحة- رضي الله عنهما- بعد ما بايعاه إلى مكة، وكانت عائشة زوجة الرسول- صلوات الله عليه وسلامه- بمكّة. قد خرجت إليها ليالي حوصر عثمان بن عفّان- رضي الله عنه- فاتّفقا معها على عدم الرّضا بإمارة عليّ، وعلى الطّلب بدم عثمان، ونسبوا عليّا- عليه السلام- إلى أنّه ألّب [1] الناس على عثمان وجرّأهم على قتله وما زال عليّ عليه السلام من أكبر المساعدين لعثمان الذّابين عنه، وما زال عثمان يلجأ إليه في دفع الناس عنه فيقوم- عليه السلام- في دفعهم عنه القيام المحمود- وفي آخر الأمر لمّا حوصر عثمان، أرسل عليّ- عليه السلام- ابنه الحسن- عليه السلام- لنصرة عثمان رضي الله عنه. فقيل: إن الحسن عليه السلام استقتل مع عثمان، وكان عثمان يسأله أن يكفّ فيقسم عليه وهو يبذل نفسه في نصرته. وأمّا طلحة- رضي الله عنه- فإنه كان من أكبر المساعدين على عثمان. وهذا ما تشهد به جميع التواريخ. وأمّا عائشة- رضي الله عنها- فإنّها كانت قد خرجت من المدينة إلى مكّة ليالي حوصر عثمان بن عفّان، ثم رجعت من مكّة إلى المدينة، فلقيها في الطريق بعض أخوالها فقالت له: ما وراءك؟ قال: قتل عثمان، قالت: فما صنع الناس بعده؟ قال: بايعوا عليّا، قالت: ليت هذه [2] انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لصاحبك!! ثمّ رجعت إلى مكّة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوما، والله لأطلبنّ بدمه. فقال لها الرجل: لم؟ والله إنّ أوّل من أمال حروفه [3] لأنت، والله لقد كنت تقولين: اقتلوا (نعثلا) فقد كفر- وكان ذلك لقبا لعثمان- فقالت: إنّهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا وقولي الأخير خير من قولي الأوّل. ولمّا رجعت إلى مكّة اتّفقت مع الزّبير وطلحة على ما ذكرناه، من الطّلب بدم عثمان،   [1] ألب: حرّض. [2] ليت هذه: قصدت انطباق السّماء على الأرض لهول الحدث. [3] أمال حروفه: عاب اسمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وسخط إمارة علي، واتّفق معهم مروان بن الحكم- وهو ابن عمّ عثمان- وقالوا للناس: إنّ الغوغاء [1] من أهل الأمصار وعبيد أهل المدينة، اجتمعوا على هذا الرجل المسكين- يعني عثمان- فقتلوه ظلما وعدوانا، فسفكوا الدّم الحرام في البلد الحرام في الشّهر الحرام. ثمّ استمالوا أناسا وعزموا على قصد البصرة واستمالة أهلها والتقوا بها على قتال عليّ- عليه السّلام- فلمّا انتهى ذلك إلى أمير المؤمنين قام فخطب النّاس وأعلمهم الحال، وقال: إنّها فتنة وسأمسك الأمر ما استمسك بيدي. ثمّ بلغه ما هم فيه من الجموع والتّصميم على الحرب فنهد إليهم في جيش من المهاجرين والأنصار. وقد كانت عائشة- رضي الله عنها- في توجّهها إلى البصرة اجتازت بماء يقال له: الحوأب، فنبحتها كلابه. فقالت للدليل: ما اسم هذا الموضع؟ قال: الحوأب فصرحت بأعلى صوتها وقالت: ردّوني إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156 سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول عند نسائه: «أيتكنّ تنبحها كلاب الحوأب؟» ثم عزمت على الرّجوع، فقالوا لها: إن الدّليل كذب ولم يعرف الموضع. وقالوا لها: إن لم تسيري من هذا الموضع وإلا أدرككم [2] عليّ بن أبي طالب فيه فهلكتم فسارت وسار عليّ- عليه السّلام- فالتقى الجمعان بظاهر البصرة، وجرت خطوب وحروب، ففي بعضها التقى- عليه السّلام- وطلحة والزّبير، فقال عليّ- عليه السّلام- لطلحة: يا طلحة: تطلب بدم عثمان؟ فلعن الله قتلة عثمان، يا طلحة: أجئت بعرس [3] رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- تقاتل بها وخبّأت عرسك في البيت؟ أما بايعتني؟ قال: بايعتك والسّيف على عنقي. فقال عليّ- عليه السّلام- للزّبير: يا زبير: ما أخرجك؟ قال: أنت، ولا أراك أهلا لهذا الأمر ولا أولى به منّا. فقال عليّ- عليه السّلام-: لقد كنّا نعدّك من بني   [1] الغوغاء: سفلة السّوقة والعوّام. السّفهاء من الجمهور. [2] كذا في ألما ص/ 106/ وفي رحما ص/ 62/، وفي طبعة بيروت ص/ 86/. [3] العرس: الزّوجة أو الزّوج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 المطّلب حتّى بلغ ابنك ابن السّوء ففرّق بيننا عبد الله بن الزّبير. وذكره على أشياء وقال له: أتذكر لمّا قال رسول الله- صلوات الله عليه وسلامه- لتقاتلنّه وأنت ظالم له؟ قال: اللَّهمّ نعم، ولو ذكرت لما سرت مسيري هذا، وو الله لا أقاتلك أبدا؟ فانصرف أمير المؤمنين- عليه السّلام- إلى أصحابه وقال: أما الزّبير: فقد أعطى الله عهدا ألا يقاتلكم ثمّ إنّ الزبير عزم على ترك الحرب فخدعه ابنه عبد الله، وما برح به حتى كفّر [1] عن يمينه وقاتل، ولما تراءى الجمعان كان عسكر عائشة وطلحة والزّبير- رضي الله عنهم- ثلاثين ألفا، وعسكر عليّ- عليه السّلام- عشرين ألفا، فقبل أن تتشب الحرب وعظهم أمير المؤمنين- عليه السّلام- وندبهم إلى الصّلح، وبذل لهم كلّ ما ليس عليه فيه غضاضة من جهة الدين. فمالوا شيئا إلى الصلح، وباتوا على ذلك ثمّ في الغداة نشب القتال بين القبيلين وجرت مناوشات وحروب، أفضت إلى نصرة جيش أمير المؤمنين- عليه السّلام-. فأمّا الزّبير لمّا رأى النّصرة عليهم ردّ رأس فرسه ومرّ فتبعه رجل من عرب البصرة فتبعه عمير بن جرموز فقتله بوادي السباع، وأتى إلى عليّ- عليه السّلام- بسيفه فقال للحاجب: استأذن لقاتل الزّبير، فقال عليّ- عليه السّلام-: بشّر قاتل ابن صفيّة بالنار (وصفيّة أمّ الزبير وهي عمّة أمير المؤمنين- عليه السّلام) ولمّا رأى سيفه قال: سيف طالما جلا الكروب عن وجه رسول الله صلوات الله عليه!!. وأمّا طلحة: فجاءه سهم في رجله فأعطبه، فدخل البصرة رديفا لغلامه وقد امتلأ خفّه دما، وهو يقول: اللَّهمّ خذ لعثمان مني حتى ترضى. فمات بدار خربة من دور البصرة، وقبره اليوم بالبصرة في مشهد محترم عندهم، إذا اعتصم به خائف أو طريد، لا يجسر أحد كائنا من كان على إخراجه منه. ولأهل البصرة في طلحة اعتقاد عظيم إلى يومنا، وقيل: إنّ الّذي قتل طلحة مروان بن الحكم.   [1] كفّر عن يمينه: أدّى لوجه الله ما فرض على الحانث بيمينه، كالصوم أو عتق الرقاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وأمّا عائشة- رضي الله عنها-: فإنّها كانت على جمل في هودج، وقد ألبس هودجها الدّروع والنّسائج الحديد، فلما اشتدّ القتال وانفلّت جموعها عرقب [1] الجمل فوقع، ورفع هودجها حملا ووضع في مكان بعيد عن النّاس وكان أخوها محمّد بن أبي بكر من أصحاب عليّ- عليه السّلام- وابن زوجته أسماء بنت عميس [2]- رضي الله عنها- فأمره عليّ- عليه السّلام- أن يمضي إلى أخته وينظر أهي سليمة أم أصابها شيء من جراح؟ فمضى فرآها سليمة، ثم أدخلها ليلا إلى البصرة، ثم إنّ أمير المؤمنين- عليه السّلام- أذن للنّاس في دفن القتلى، وكانوا عشرة آلاف من القبيلين ثم أمر عليه السلام- بجمع الأسلاب، وأدخلها إلى المسجد الجامع بالبصرة، ونادى في الناس من عرف من قماشه فليأخذه ثم إن أمير المؤمنين- عليه السّلام- أحسن إلى عائشة غاية الإحسان، وجهّزها بكلّ ما ينبغي لمثلها، وأذن لها في الرجوع إلى المدينة وبعث معها كلّ من نجا ممّن خرج معها إلا من أحبّ المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات لأجل مؤانستها في الطريق، وسيّرها في صحبة أخيها محمّد بن أبي بكر مكرّمة محترمة. فلما كان يوم رحيلها حضر عليّ- وحضر الناس فقالت عائشة- رضي الله عنها-: يا بنيّ (وإنما قالت ذلك لأن نساء النبيّ عليه السلام هنّ أمهات المؤمنين كذلك قال الله تعالى ورسوله صلوات الله عليه) : «لا يعتب بعض على بعض إنّه والله ما كان بيني وبين عليّ في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها [3] وإنه على معتبتي [4] لمن الأخيار» وقال عليّ- عليه السّلام-: «صدقت والله، ما كان بيني وبينها إلا ذاك، وإنّها لزوجة نبيّكم في الدنيا والآخرة»   [1] عرقب الجمل: أصيب في عرقوبه. والعرقوب. عصب غليظ فوق العقب. [2] أسماء بنت عميس: زوجة جعفر بن أبي طالب تزوّجها أبو بكر الصدّيق بعد قتل زوجها في وقعة مؤتة فولدت له محمّدا. ولمّا مات أبو بكر تزوجها عليّ توفيت نحو سنة/ 40/ هـ. انظر الأعلام ج 1 ص/ 306/. [3] الأحماء: مفردها الحمو، وهو الواحد من أهل الزوج أو الزوجة. [4] المعتبة: العتب والمؤاخذة أو استرضاء العاتب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 ثم سارت وشيّعها عليه السلام أميالا، وأرسل بنيه معها مسيرة يوم، وتوجّهت إلى مكّة وأقامت بها إلى أيّام الحجّ، ثم حجّت وانصرفت إلى المدينة، وكانت وقعة الجمل في سنة ستّ وثلاثين من الهجرة. ومن وقائعها المشهورة وقعة صفّين: شرح كيفيّة الحال في ذلك لما انصرف أمير المؤمنين- عليه السّلام- من وقعة الجمل، أرسل إلى معاوية- رضي الله عنه- يعرّفه اجتماع الناس على بيعته، ويعلمه ما كان من وقعة الجمل ويأمره بالدخول فيما دخل فيه المهاجرون والأنصار. وكان معاوية- رضي الله عنه- أميرا بالشأم من قبل عثمان- رضي الله عنه- وكان ابن عمّه [1] فلمّا ورد إلى معاوية- رضي الله عنه- رسول أمير المؤمنين عليّ- عليه السّلام- خاف معاوية- رضي الله عنه- من عليّ- عليه السّلام- وعلم أنّه متى استتبّ الأمر عزله ولم يستعمله. وقد كان ابن عبّاس [2] والمغيرة [3] بن شعبة- رضي الله عنهما- أشارا على أمير المؤمنين- عليه السّلام- أن يقرّ معاوية- رضي الله عنه- بالشأم مدّة حتى يبايع الناس ويتمكّن ثم يعزله بعد ذلك. فلم يطعهما عليه السّلام، وقال: إني إن أقررته على إمارته ولو يوما واحدا، كنت عاصيا في ذلك اليوم الله تعالى. ولم تكن الخدع والحيل من مذهب عليّ- عليه السّلام- ولم يكن عنده غير مرّ الحقّ. فحين ورد الرسول إلى معاوية- رضي الله عنه- طاوله، ثم استشار بعمرو بن العاص- رضي الله عنه- وكان أحد الدّهاة، وكان معاوية- رضي الله عنه- قد تألّفه واستماله ليتقوّى برأيه ودهائه   [1] قوله: (كان ابن عمّه: قصد أنّ معاوية كان ابن عمّ لعثمان بن عفّان من جهة جدّهما أبي العاص بن أميّة ومعاوية هو ابن أبي سفيان بن حرب بن أميّة. [2] ابن عبّاس: هو عبد الله بن عباس بن عبد المطّلب الصحابي المحدّث العالم، توفي/ 68/ هـ. [3] المغيرة بن شعبة: صحابي من دهاة العرب كان واليا على البصرة لعمر ثم لعثمان، توفي/ 50/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 فأشار عمرو بن العاص على معاوية- رضي الله عنهما- أن يظهر قميص الدم الّذي قتل فيه عثمان بن عفّان وأصابع زوجته- رضي الله عنهما- ويعلّق ذلك على المنبر، ثمّ يجمع الناس ويبكي عليه ويلصق قتل عثمان بعليّ- رضي الله عنهم- ويطالبه بدمه ليميل إليه أهل الشأم ويقاتلوا معه. فأخرج معاوية- رضي الله عنه- القميص والأصابع وعلّقه على المنبر وبكى واستبكى الناس، وذكّرهم بمصاب عثمان- رضي الله عنه- فانتدب أهل الشأم من كلّ جانب، وبذلوا له الطّلب بدم عثمان رضي الله عنه والقتال معه على كل من آوى قتلته ثم كتب معاوية- رضي الله عنه إلى أمير المؤمنين- عليه السّلام- كتابا يذكر فيه ذلك فحينئذ تجهّز عليّ- عليه السّلام- للقتال وكاتب الناس ليجتمعوا معه، وكذلك صنع معاوية- رضي الله عنه- ثم التقوا بصفّين [1] من أرض الشأم فجرت بينهم مناوشات وحروب كان أوّلها: أنّ معاوية وأصحابه- رضي الله عنهم- سبقوا إلى شريعة [2] الماء فملكوها. ومنعوا أصحاب أمير المؤمنين- عليه السّلام- من الماء، ولم يكن هناك شريعة غيرها. فلمّا أخبر عليّ- عليه السّلام- بذلك أرسل إلى معاوية- رضي الله عنه- يقول له: إنّ مذهبنا ألا نبدأكم بقتال حتى نحتجّ عليكم، وننظر فيما جئنا له وتنظرون. وقد منع أصحابك الناس من الماء، فابعث حتى يخلّوا سبيل الماء، وإن شئتم أن نترك ما جئنا له وتكون مقاتلتنا على الماء، فيكون الغالب هو الشارب، فعلنا ذلك. فقال معاوية- رضي الله عنه- لأصحابه ما تشيرون؟ قال قوم من بني أميّة: نرى أن تمنعه الماء حتى يموتوا عطشا أو يرجعوا لطلب الماء فتكون هزيمة، فقال عمرو بن العاص- رضي الله عنه- «أرى أن نخلّي لهم سبيل الماء، فإنّ القوم لا يعطشون وأنت ريّان» فأخر معاوية- رضي الله عنه- الجواب وقال: سأنظر، فاقتتل الناس على الماء، وأمدّ عليّ- عليه السّلام- أصحابه وأمدّ معاوية- رضي الله عنه- أصحابه، ونشبت الحرب   [1] صفّين: موقع على نهر الفرات غربيّ الرقّة. [2] الشّريعة: مورد الماء ومستقاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 والتحم القتال، فملك أصحاب عليّ- عليه السّلام- الشّريعة، فأرادوا منع أصحاب معاوية- رضي الله عنه- فأرسل إليهم عليّ- عليه السّلام- وقال خذوا حاجتكم من الماء ولا تمنعوهم منه. ودام على ذلك مدّة حتى كاد عسكر عليّ- عليه السّلام- أن يغلبوا، وظهرت أمارات الفتح، فخاف عمرو بن العاص- رضي الله عنه- من الهلاك، فأشار على معاوية- رضي الله عنه- برفع المصاحف على الرّماح، والدعاء إلى ما فيها من أمر الله عزّ وجلّ. فلما رفعت المصاحف فتر أكثر الناس عن الحرب، وجاءوا إلى أمير المؤمنين- عليه السّلام- وقالوا: يا عليّ أجب إلى كتاب الله- عزّ وجل- فو الله إن لم تفعل لنحملنّك كارها إلى معاوية- رضي الله عنه- أو لنفعلنّ بك كما فعلنا بابن عفّان- رضي الله عنه- فقال لهم عليّ- عليه السّلام- يا قوم إنّها خدعة منهم، وإنّهم ليس فيهم من يعمل بهذه المصاحف. أو لستم على بينة من ربكم، فامضوا لشأنكم وقاتلوا عدوّكم. فلم يفعلوا وغلبوه، فأجاب إلى ترك القتال، ثم أرسل إلى معاوية- رضي الله عنه- رسولا يقول له: ما الّذي تريد برفع هذه المصاحف؟ قال: نحكّم منّا رجلا ومنكم رجلا، ونقسم على الرجلين أن ينصحا الأمّة ويعملا بما في كتاب الله- عزّ وجلّ- وما لم يجداه في كتاب الله حملاه على السّنّة والجماعة، فأيّ شيء حكما به قبلناه. فتراضى الناس جميعا بذلك إلا أمير المؤمنين- عليه السّلام- فإنه رضي كارها مغلوبا. ونفر يسير من بطائنه كالأشتر [1] وابن عبّاس [2]- رضي الله عنهم- وغيرهما. وانعقد الإجماع على تحكيم رجلين. فأما أهل الشأم: فاتفقوا على أن يكون الحكم من جهتهم عمرو ابن العاص- رضي الله عنه- داهية العرب. وأمّا أهل العراق: فطلبوا أبا موسى   [1] الأشتر: هو مالك بن الحارث النّخعيّ، أمير وقائد شجاع من أنصار علي بن أبي طالب. توفي/ 37/ هـ. [2] ابن عبّاس: هو عبد الله بن عبّاس بن عبد المطلب. ابن عم الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم-، وملازمه كان محدّثا فقيها. شهد مع عليّ موقعتي الجمل وصفّين. توفي/ 68/ هـ. انظر تفصيل ترجمته في الأعلام للزركلي المجلّد الرابع ص/ 95/. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 [1] الأشعريّ- رضي الله عنه- وكان شيخا مغفّلا فلم يستصلحه أمير المؤمنين- عليه السّلام- للتحكيم، وقال: إن كان ولا بد من التحكيم، فدعوني أرسل عبد الله ابن عبّاس. فقالوا: لا والله هو أنت وأنت هو، قال: فالأشتر. قالوا: فهل سعّر الأرض غير الأشتر؟ قال: فقد أبيتم إلا أبا موسى. قالوا: نعم. قال: فافعلوا ما شئتم فاتّفق الناس على أبي موسى وعمرو بن العاص- رضي الله عنهما- وتواعدوا إلى شهور، وسكنت الحرب، وانصرف الناس إلى أمصارهم، ورجع معاوية- رضي الله عنه- إلى الشأم وأمير المؤمنين- عليه السّلام- إلى العراق ثمّ بعد شهور سار الحكمان ليجتمعا بدومة الجندل [2] وكانت ميعاد الحكمين، وسار ناس من الصّحابة ليشهدوا ذلك المقام. وكان أمير المؤمنين عليه السّلام- قد أرسل صحبة أصحابه عبد الله بن العبّاس- رضي الله عنه- فلما اجتمع الحكمان قال عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعري: يا أبا موسى: ألست تعلم أنّ عثمان قتل مظلوما؟ قال: أشهد. قال: ألست تعلم أنّ معاوية وآل معاوية أولياؤه؟ قال: بلى. قال: فما منعك منه وبيته في قريش كما قد علمت؟ فإن خفت أن يقول الناس ليست له سابقة، فقل: وجدته وليّ عثمان الخليفة المظلوم، والطّالب بدمه، الحسن السياسة والتّدبير، وهو أخو أمّ حبيبة [3] زوج النبيّ- صلوات الله عليه- وكاتبه وقد صحبه وعرّض عمرو لأبي موسى بولاية، ووعده عن معاوية بأشياء، فأبى موسى وقال معاذ الله أن أولّي لمعاوية وأن أقبل في حكم الله رشوة! فقال له عمرو: فما تقول في ابني عبد الله؟ وكان لعمرو ابن العاص ابن اسمه عبد الله [4] من خيار الصحابة، رضي الله عنهم، فأباه أبو موسى وقال لعمرو: إنّك   [1] أبو موسى الأشعريّ: عبد الله بن قيس القحطاني. صحابي ولاه عمر بن الخطاب على البصرة عام/ 17/ هـ فافتتح الأهواز وأصبهان. ولي الكوفة لعثمان ثم لعليّ واختاره أنصار عليّ حكما بينه وبين معاوية فخدعه عمرو بن العاص الممثّل لجانب معاوية. توفّي في الكوفة سنة/ 44/ هـ. انظر الأعلام ج 4 ص/ 114/. [2] دومة الجندل: واحة مشهورة من شبه الجزيرة العربية. اجتمع فيها حكما عليّ ومعاوية ثم عقدا التحكيم في أذرح بين معّان وسلع من وادي الأردن. [3] أمّ حبيبة: رملة بنت أبي سفيان أخت معاوية. صحابيّة. ومن زوجات الرسول. توفيت/ 44/ هـ. [4] عبد الله بن عمرو بن العاص: صحابي عابد ناسك كتب الحديث النبوي ورواه، توفي سنة/ 65/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 غمسته معك في هذه الفتنة، ولكن هل لك في إحياء اسم عمر بن الخطاب؟ وندبه إلى عبد الله بن عمر فأباه عمرو. فلما لم يتفقا قال له عمرو: يا أبا موسى فأي شيء هو رأيك؟ قال أبو موسى: رأيي أن نخلع عليّا ومعاوية- رضي الله عنهما- من هذا الأمر ونريح الناس من هذه الفتنة، وندع أمر الناس شورى فيختار المسلمون لأمرهم من يجمعون عليه. قال عمرو- رضي الله عنه- نعم ما رأيت وأنا معك على ذلك. ولاح لعمرو وجه الحيلة. وكان قد عوّد أبا موسى الأشعريّ أن يتقدّمه في الكلام، يقول له: أنت صاحب رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- وأكبر سنّا. فتعوّد أبو موسى أن يتكلّم قبل عمرو فتقدم أبو موسى وقال: إني وعمرا قد اتفقنا على أمر نرجو فيه صلاح المسلمين. فتقدم عمرو وقال: صدق وبرّ، تقدّم يا أبا موسى: وأعلم الناس بما اتفقنا عليه فقام ابن عباس وقال لأبي موسى ويحك إني لأظنّه قد خدعك، وقد أوهمك أنه اتّفق معك على ما تريد، ثمّ قدّمك لتعترف به، فإذا اعترفت أنكره، فإنّه رجل غادر. فإن كنتما قد اتفقتما على شيء فقدّمه ليقوله قبلك: فقال أبو موسى: إنّا قد اتفقنا، ثم قال إننا قد اتّفقنا على أن نخلع عليّا ومعاوية وندع أمر المسلمين شورى، يختارون من أجمعوا عليه. وإني قد خلعت عليّا ومعاوية من الخلافة كما يخلع الخاتم من الإصبع. فتقدّم عمرو بن العاص- رضي الله عنه- وقال أيّها الناس قد سمعتم ما قال، وأنّه قد خلع صاحبه، وأنا أيضا قد خلعته معه وأثبتّ صاحبي معاوية، فأنكر أبو موسى وقال: إنّه غدر وكذب، وما على هذا اتّفقنا. فلم يستمع إليه، وتفرّق الناس، ومضى عمرو بن العاص وأهل الشام إلى معاوية وسلّموا عليه بالخلافة، ومضى ابن عبّاس وأصحاب عليّ- عليه السّلام- إلى أمير المؤمنين وأخبروه بما جرى وأمّا أبو موسى: فإن أهل الشأم تطلّبوه فهرب إلى مكّة، وعلى ذلك انفصل أمر صفّين وكان ابتداؤه في سنة ست وثلاثين وانقضاؤها [1] في سنة سبع وثلاثين   [1] صحيحه وانقضاؤه. كذا في طبعة بيروت ص/ 93/، وفي رحما ص/ 68/. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 حديث الخوارج وما كان منهم وما آلت بهم الحال إليه لما جرى أمر التحكيم على الوجه المشروح، عاد الذين أشاروا بالتّحكيم وألزموا أمير المؤمنين- عليه السّلام- الرّضا به فندموا عليه ونفروا وأتوا عليّا- عليه السّلام- وقالوا: لا حكم إلا للَّه. قال عليّ- عليه السّلام-: لا حكم إلا للَّه. قالوا: فما لك حكّمت الرّجال؟ قال: إنّي لم أرض بقضيّة التّحكيم، وأنتم الذين رضيتموها. وإنّي أعلمتكم أنّها مكيدة من أهل الشأم وأمرتكم بقتال عدوّكم منهم فأبيتم إلا التّحكيم وغلبتموني على رأيي. فلما لم يبق بد من التحكيم، استوثقت وشرطت على الحكمين أن يعملا بكتاب الله عزّ وجلّ، وأن يحييا ما أحيا الكتاب، ويميتا ما أمات. فاختلفا وخالفا كتاب الله وعملا بالهوى. فنحن على الرأي الأوّل في قتالهم. قال الخوارج: أمّا نحن فلا ريب أنّا رضينا بالتحكيم أوّل الأمر، لكننا ندمنا عليه وعلمنا أنّا كنّا مخطئين فأنت إن أقررت على نفسك بالكفر واستغفرت الله من خطيئتك وتضييعك وتحكيمك الرّجال رجعنا معك إلى قتال عدوّك وعدوّنا، وإلا فها نحن قد نابذناك. فوعظهم بكلّ قول، وبصّرهم بكلّ وجه فلم يرجعوا. واجتمعوا أمما من أهل البصرة والكوفة وغيرهم وقصدوا النّهروان [1] . وكان رأيهم أن يأتوا بعض المدن الحصينة فيتحصّنوا بها ويقاتلوا فيها. وصدرت منهم أمور متناقضة تدلّ على أنهم يخبطون خبط عشواء: منها أن رطبة سقطت من نخلة فتناولها رجل ووضعها في فيه فقالوا له: أكلتها غصبا وأخذتها بلا ثمن فألقاها. ومنها: أنّ خنزيرا لبعض أهل القرى مرّ بهم فضربه أحدهم بسيفه فعقره فقالوا هذا فساد في الأرض، فمضى الرّجل إلى صاحب الخنزير وأرضاه ومنها: أنهم كانوا يقتلون النفس التي حرّمت إلا بالحق [2] : قتلوا عبد الله بن خباب- رضي الله عنه- وكان خباب من كبار الصّحابة. وقتلوا عدّة نساء وسبوا وفعلوا أفاعيل من   [1] النّهروان: موقع في العراق بين بغداد وواسط تحصّن فيه الخوارج وهاجمهم فيه عليّ فأباد معظمهم وشتّت شملهم في واقعة شهيرة بهذا الاسم عام/ 37/ هـ. وقد ضبطت الكلمة في ألما النّهروان، انظر ص/ 115/. [2] قصد المؤلف إلى أنّهم مجرمون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 هذا القبيل. فلما بلغ عليّا- عليه السّلام- أمرهم وقد كان خطب الناس في الكوفة وندبهم إلى قتال أهل الشّأم وإعادة الحرب جذعة قالوا: يا أمير المؤمنين: أين نمضي وندع هؤلاء الخوارج يخلفوننا في عيالنا وأموالنا؟ سر بنا إليهم فإذا فرغنا من قتالهم رجعنا إلى قتال أعدائنا من أهل الشأم: فسار- عليه السّلام- بالنّاس إلى الخوارج فلقيهم على النّهروان وأبادهم. فكأنما قيل لهم موتوا فماتوا. كرامة لأمير المؤمنين عليّ صلوات الله عليه لما التقى الخوارج بالنّهروان أجفلوا قدّامه إلى ناحية الجسر. فظنّ الناس أنّهم قد عبروا الجسر، فقالوا لعليّ- عليه السّلام-: يا أمير المؤمنين: إنّهم قد عبروا الجسر فالقهم قبل أن يبعدوا. فقال أمير المؤمنين- عليه السّلام-: ما عبروا، وإنّ مصارعهم دون الجسر، وو الله لا يقتل منكم عشرة ولا يبقى منهم عشرة فشكّ الناس في قوله فلما أشرفوا على الجسر رأوهم لم يعبروا فكرّ أصحاب أمير المؤمنين- عليه السّلام- وقالوا له: هو كما قلت يا أمير المؤمنين. قال: نعم والله ما كذبت ولا كذبت. فلمّا انفصلت الوقعة وسكنت الحرب اعتبر القتلى من أصحاب عليّ- عليه السّلام- فكانوا سبعة. وأما الخوارج: فذهبت طائفة منهم قبل أن تنشب الحرب وقالوا: والله ما ندري على أيّ شيء نقاتل عليّ- بن أبي طالب؟ سنأخذ ناحية حتى ننظر إلى ماذا يؤول الأمر. وأما الباقون: فثبتوا وقاتلوا فهلكوا جميعهم. ثم إنّ أمير المؤمنين- عليه السّلام- لما انقضى أمر الخوارج رجع إلى الكوفة، وندب [1] الناس إلى قتال أهل الشّام فتثاقلوا. فأعاد القول عليهم ووعظهم وحثّهم على الجهاد فقالوا: يا أمير المؤمنين: كلّت سيوفنا وفنيت نبالنا، ومللنا من الحرب فأمهلنا نصلح أمورنا ونتوجّه- وكان قد عسكر ظاهر الكوفة- فأمهلهم وأمرهم أن يوطّنوا نفوسهم على الحرب، ونهاهم عن غشيان [2] أهاليهم حتى يرجعوا من الشأم. فصاروا يتسلّلون ويدخلون الكوفة حتى خلا المعسكر منهم.   [1] ندب الناس: دعاهم. [2] غشيان أهاليهم: زيارة أهاليهم ومعاشرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 فبطل رأيه- عليه السّلام- وكان ذلك في سنة ثمان وثلاثين. وفاة الأربعة وفاة أبي بكر- رضي الله عنه- أوّل من مات منهم أبو بكر. مات بالمدينة حتف أنفه في سنة ثلاث عشرة. وكان مرضه انتقاض [1] لسعة الحيّة التي لسعته ليلة الغار [2] ودفن عند النبيّ- صلوات الله عليه وسلامه- في بيت عائشة ابنته- رضي الله عنها- زوج الرّسول. وكان الرّسول- صلوات الله عليه- لما قبض في بيتها. فدفن أبو بكر عنده، وعهد إلى عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- واستخلفه على الأمّة بعده. مقتل عمر بن الخطّاب رضي الله عنه لما وضع عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- الخراج اغتاظ من ذلك أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة. لأنه كان قد وضع الخراج على مولاه. وكان عمر ابن الخطّاب لقي أبا لؤلؤة فقال له: اصنع لي رحى فقال أبو لؤلؤة: لأصنعنّ لك رحى تدور مع الدهر. فقال عمر: يهدّدني العبد فطعنه وهو في الصلاة فبقي ثلاثة أيام ومات ودفن في تربة النبيّ- عليه السّلام- وذلك في سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وأمّا أبو لؤلؤة: فاجتمع الناس عليه فقتل منهم جماعة، ثم أخذ وقتل. ذكر الشّورى وصفة الحال في ذلك (قال محمّد بن عليّ بن طباطبا) : لمّا طعن عمر اجتمع إليه الناس وسألوه عمّن يتولى بعده، فجعل الأمر شورى- والشّورى في اللغة: هي المشاورة- ومعنى هذا: أنّ عمر لمّا أحسّ بالموت نظر فيمن يعهد إليه ويوليه أمر الأمّة، فلم   [1] انتقاض لسعة الحيّة: نكسة اللسعة المسمومة بعد شفائها. [2] ليلة الغار: ليلة الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث لجأ إلى الغار المشهور بغار ثور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 يصحّ رأيه في رجل واحد. فجعلها في ستّة من أكابر الصّحابة، وهم أصحاب الشورى أمير المؤمنين عليّ- عليه السّلام- وعثمان بن عفّان، وطلحة، والزّبير وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقّاص- رضي الله عنهم- وقال: كلّ من هؤلاء صالح للأمر بعدي. وأمرهم أن يتشاوروا ثلاثة أيّام، ثم يجمعوا على واحد من هؤلاء الستة. وكان طلحة- رضي الله عنه- غائبا، فقال عمر: إن قدم طلحة قبل الأيام الثلاثة وإلا فأمضوا أمركم. وأقام عليهم رجلا من الأنصار وقال: إنّ الله أعزّ بكم الإسلام فاختر خمسين رجلا من الأنصار، واستحثّ هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا. وقال: إن اجتمعوا خمسة ورضوا واحدا منهم وأبى واحد فاشدخ [1] رأسه بالسّيف. وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان فاضرب رأسيهما، وإن رضي ثلاثة منهم رجلا فحكّموا عبد الله بن عمر- يعني ابنه- فبأيّ الفريقين. حكم فليختاروا رجلا منهم- وكان قد أمر بحضور ابنه في ذلك المقام مشيرا ولم يجعل له من الأمر شيئا- فإن لم تختاروا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس» فلم يجر ممّا قال شيء، بل لمّا مات بويع عثمان بن عفّان وكان من الأمر ما كان. مقتل عثمان بن عفّان (قال ابن طباطبا) : وسببه أنّ ناسا من المسلمين نقموا عليه تجاوزه لطريقة صاحبيه أبي بكر وعمر- رضي الله عنهما- من التقلّل والكفّ عن اموال المسلمين وكان هو قد فرّق جملة منها على أقاربه ووسّع على عياله وأهله. فمن جملة ما فعل: أنّه أعطى عبد الله بن خالد [2] بن أسيد خمسين ألف درهم، وأعطى   [1] شدخ الرأس: كسره. [2] عبد الله بن خالد: من أبناء التابعين من الأنصار، قبيلته الأوس، وجدّه أسيد ممّن شهدوا بيعة العقبة الثانية مع سبعين من الأنصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 مروان بن الحكم [1] خمسة عشر ألفا، ولم يكن المسلمون اعتادوا مثل هذا التبذير، وعهدهم قريب بضبط أبي بكر وعمر- رضي الله عنهما- فنفروا من ذلك، وجرت بينهم وبينه معاتبات ومقاولات. فاعتذر إليهم بأن أبا بكر وعمر- رضي الله عنهما- منعا أنفسهما وأهلهما احتسابا للَّه، وتركا حقّ نفوسهما، وأنا صاحب عيال مددت يدي فوسّعت عليّ وعلى أهلي بشيء من هذا المال، فإن سخطتم هذا فأمري لأمركم تبع. فقالوا أحسنت وأنصفت إذ أعطيت عبد الله بن خالد خمسين ألفا، ومروان خمسة عشر ألفا؟ قال: فإنّي أستعيد ذلك منهما. واستعاد ما أعطاهما. وكان إذا عاتبوه على صادرات أموره التي يحمله عليها ويحسّنها له مروان بن الحكم، يعتذر مرّة، ويلتزم لهم ما يشيرون به عليه، ويحتجّ مرّة. وفشا الأمر فاجتمع ناس من أهل الأمصار على حربه فجاء أهل مصر وناس من كلّ صقع وعزموا على قتله. فخرج ليلا وجاء إلى أمير المؤمنين- عليه السّلام- وقال له: يا ابن عمّ لي عليك حقّ وقد قصدتك، ولك عند هؤلاء القوم منزلة وهم يقبلون قولك، وقد ترى جرأتهم عليّ، فاخرج إليهم وردّهم عنّي، فركب عليّ- عليه السّلام- وردّ الناس عنه وضمن لهم حسن السيرة فرجعوا ثم أعضل [2] الخطب وزيّن له مروان بن الحكم أمورا نقمها الناس، فاجتمعوا عليه من كلّ صوب وأحاطوا به وحصروه في داره، فأرسل إلى عليّ- عليه السّلام- يستنصره فأرسل إليه ابنه الحسن- عليه السّلام- فقاتل عنه قتالا شديدا، حتى كان يستكفّه [3] وهو يقاتل عنه ويبذل نفسه دونه. وتكاثر الناس عليه فدخلوا عليه الدّار وخبطوه بالسّيوف، وهو صائم والمصحف في حجره، وهو يقرأ فيه فوقع المصحف   [1] مروان بن الحكم: هو ابن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس. كان من المقرّبين إلى عثمان ابن عفّان واتّخذه كاتبا له. فلمّا قتل عثمان كان مروان من المطالبين بدمه في موقعة الجمل. ولكنه اضطر إلى مبايعة عليّ والإقامة بالمدينة مكرها حتى ولي الخلافة الأموية بعد معاوية بن يزيد. توفي عام/ 65/ هـ وخلفه ولده عبد الملك. انظر الأعلام ص/ 207/. [2] أعضل الخطب: اشتدّ الخطر وأشكل الحلّ. [3] يستكفّه: يقول له اكفف أو مهلا. كناية عن شدّة استبسال الحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 بين يديه وسال الدّم عليه فقامت زوجته «نائلة» [1] لتتلقى عنه الضّرب بيدها، فأصاب السّيف أصابعها فأبانها- وهي الأصابع التي كان يعلقها معاوية رضي الله عنه على منبر الشام مع قميص عثمان ليرقّق الناس- فولّت المرأة دهشة. ثمّ قتل عثمان رضي الله عنه واحتزّوا رأسه، فوقع نساؤه عليه وصحن وبكين. فقال بعضهم: دعوه فتركوه. ثم داس رجل من أهل الكوفة يقال له عمير [2] بن ضابىء البرجميّ أضلاعه فكسرها ثم نهبت داره حتى أخذ ما على النّساء. ثمّ حمل في تابوت بعد أيّام ليدفن، فقعد جماعة على الطّريق يريدون رجمه. فأرسل أمير المؤمنين عليّ- عليه السّلام- إليهم فردّهم عن ذلك، ودفن قريبا من البقيع. ثمّ بعد ذلك اشترى معاوية- رضي الله عنه- ما حول قبره ومزجه بمقابر المسلمين وأباح للناس الدفن حوله وكان ذلك سنة خمس وثلاثين من الهجرة، وسمّي يوم قتله يوم الدار. لأنّهم هجموا عليه في داره وقتلوه بها. مقتل أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام (قال محمّد بن عليّ بن طباطبا صاحب الفخري) : نقل من عدّة جهات، أنّ أمير المؤمنين عليّ- بن أبي طالب- عليه السّلام- كان يقول دائما: ما يمنع أشقاكم أن يخضب هذه من هذا؟ يعني لحيته بدم رأسه! وكان إذا رأى عبد الرحمن [3] ابن ملجم- لعنه الله- ينشد:   [1] نائلة: بنت الفرافصة الكلبيّة كانت خطيبة وشاعرة وذات رأي. تزوّجها الخليفة عثمان بن عفان وأقامت معه في المدينة، ودافعت عنه سيوف قاتليه حتى قطع بعض من أصابع كفّها. رفضت الزواج من معاوية الّذي خطبها بعد عثمان ولم تعرف سنة وفاتها على وجه التحديد. [2] عمير بن ضابىء: شاعر من أهل الكوفة. اقتصّ لأبيه الّذي مات في سجن عثمان فمثّل بجثته حين قتل في داره. أدرك أمره الحجّاج فقتله وأنهب ماله عام/ 75/ هـ. [3] عبد الرحمن بن ملجم: المراديّ الحميري التدؤلي، كان من شيعة عليّ بن أبي طالب. ثم انقلب عليه واتفق مع اثنين هما «البرك» و «عمرو بن بكر» على قتل عليّ ومعاوية وعمرو بن العاص ليلة/ 17/ من رمضان سنة/ 40/ هـ. تمكّن ابن ملجم من جرح عليّ في جبهته ومات متأثرا بجرحه فقتل ابن ملجم قصاصا ومثّل به على غير وصية عليّ رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 أريد حباءه [1] فيريد قتلي ... عذيرك [2] من خليلك من مراد (وافر) وكان يقال له إذا جرى على لفظه مثل هذا: يا أمير المؤمنين: فلم لا تقتله؟ فيقول: كيف أقتل قاتلي؟ وهذا يدلّ على أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم- أعلمه بذلك في جملة ما أعلمه به. وممّا يؤكّد هذا ما روي عن أنس بن مالك [3]- رضي الله عنه- قال: مرض عليّ- عليه السّلام- فدخلت عليه أعوده وعنده أبو بكر وعمر- رضي الله عنهما- فجلسنا عنده ساعة، فأتى رسول الله- صلوات الله عليه- فنظر في وجهه، فقال له أبو بكر- رضي الله عنه- يا نبيّ الله: إنّا نراه مائتا فقال: «لن يموت هذا الآن، ولن يموت حتّى يملأ غيظا ولن يموت إلا مقتولا» . وكان عليّ- عليه السّلام- دائما يحسن إلى ابن ملجم لعنه الله. قالوا: فلما دخل شهر رمضان من سنة أربعين، كان عليّ- عليه السّلام- يفطر ليلة عند الحسن وليلة عند الحسين، وليلة عند ابن أخيه عبد الله بن جعفر الطيّار عليهم السّلام، فإذا أكل لا يزيد على ثلاث لقم ويقول: إنّما هي ليلة أو ليلتان، ويأتي أمر الله وأنا خميص. فلم يمض إلا ليال قلائل حتّى قتل عليه السّلام. وقيل: إنّه قتل في شهر ربيع الآخر. والأوّل أصحّ وهو المعوّل عليه. وأما كيفيّة قتله- عليه السّلام-: فهي أنه خرج من داره بالكوفة أوّل الفجر فجعل ينادي: الصلاة يرحمكم الله فضربه ابن ملجم- لعنه الله- بالسيف على أمّ رأسه وقال: الحكم للَّه لا لك يا عليّ، وصاح الناس وهرب ابن ملجم، فقال أمير المؤمنين. لا يفوتكم الرجل، فشد الناس عليه فأخذوه، واستناب عليّ- عليه السّلام- في صلاة الصبح بعض أصحابه وأدخل داره فقال: أحضروا الرّجل   [1] حباءه: مراعاته وإكرامه. [2] عذيرك: بلغت عذرك. [3] أنس بن مالك: الخزرجي الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخادمه. روى عنه الكثير من أحاديثه. لازم صحبة رسول الله إلى أن قبض فرحل إلى دمشق ثمّ إلى البصرة ومات فيها حوالي/ 93/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 عندي، فلما حضر عنده قال له: يا عدوّ الله، ألم أحسن إليك؟ قال: بلى، قال فما حملك على هذا؟ قال: شحذته أربعين صباحا، وسألت الله أن يقتل به شرّ خلقه، فقال أمير المؤمنين «لا أراك إلا مقتولا به، ولا أراك إلا من شرّ خلق الله» ثم قال عليه السّلام: «النّفس بالنّفس إن هلكت فاقتلوه كما قتلني، وإن بقيت رأيت فيه رأيي. يا بني عبد المطّلب: لا تجمّعوا من كل صوب تقولون: قتل أمير المؤمنين. ألا لا يقتلن بي إلا قاتلي» ثم التفت إلى ابنه الحسن- عليه السّلام وقال: «انظر يا حسن إذا أنا متّ من ضربتي هذه فاضربه ضربة بضربة، ولا تمثّلن بالرّجل، فإنّي سمعت رسول الله- صلوات الله عليه- يقول: «إياكم والمثلة [1] ولو بالكلب العقور [2] » . ثمّ وصّى بنيه بتقوى الله تعالى وبإقامة الصلاة لوقتها. وإيتاء الزكاة عند محلّها، وحسن الوضوء، وغفر الذنب وكظم الغيظ، وصلة الرحم، والحلم عن الجاهل، والتفقّه في الدين، والتثبّت للأمر والتعاهد للقرآن، وحسن الجوار، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجتناب الفواحش. ثم كتب وصيّته ولم ينطق إلا بلا إله إلا الله حتّى قبض- صلوات الله عليه وسلامه- فلما قبض بعث الحسن- عليه السّلام- إلى ابن ملجم فأحضره، فقال للحسن: هل لك في أمر؟ إنّي والله قد أعطيت الله عهدا ألا أعاهد عهدا إلا وفيت به. وإني عاهدت الله عند الحطيم [3] أن أقتل عليّا ومعاوية أو أموت دونهما. فخلّ بيني وبين معاوية حتّى أمضي وأقتله ولك عهد الله على أنّي إن لم أقتله أو قتلته وسلمت، أن أجيء إليك حتّى أضع يدي في يدك» فقال الحسن: لا والله حتّى تذوق النار. ثم قدّمه فقتله، وأخذه الناس فأدرجوه [4] في بواري [5] وأحرقوه بالنار.   [1] المثلة: التنكيل والتعذيب في إنفاذ القتل. [2] العقور: صفة للكلب الهائج المؤذي، العضّاض. [3] الحطيم: موقع بجوار الكعبة. [4] أدرجوه: لفّوه. [5] البوارئ: الأستار، قد تكون من عيدان وقصب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وأما مدفن أمير المؤمنين عليه السّلام: فإنه دفن ليلا بالغريّ [1] ، ثم عفا قبره إلى أن ظهر حيث مشهده الآن (صلوات الله عليه وسلامه) . وأمّا السّبب الّذي حمل ابن ملجم- لعنه الله- على قتله، فهو أن ابن ملجم كان أحد الخوارج، فاجتمع برجلين من الخوارج، وتذاكروا من قتل أمير المؤمنين (عليه السّلام) منهم بالنّهروان. وقالوا: ما في الحياة بعد أصحابنا نفع، وتواعدوا على أن يقتل كلّ واحد منهم واحدا من ثلاثة: عليّ بن أبي طالب، ومعاوية وعمرو ابن العاص (رضي الله عنهم) فقال ابن ملجم: أنا أكفيكم عليّا، وقال الآخر: أنا أكفيكم معاوية وقال الآخر: أنا أكفيكم عمرا. فأما ابن ملجم لعنه الله: فإنّه رأى امرأة جميلة من بنات الخوارج فهويها فخطبها فقالت له: أريد كذا وكذا، وأريد أن تقتل عليّ بن أبي طالب، فقال لها: ما جئت إلا لقتله، والتزم لها أن يقتله، ثم قتله وقتل بعده. وأما الآخر فإنّه مضى إلى معاوية فقعد له حتّى خرج فضربه بالسيف على فخذه فلم يصنع طائلا. وتطبّب لها معاوية فبرئ وقتل الرجل، وقيل، لم يقتله. وأما الآخر فمضى إلى مصر لقتل عمرو بن العاص فقعد له، فاتفق أنّ عمرا انحرف مزاجه في تلك الليلة، فلم يخرج في صبيحتها إلى الصلاة واستناب بعض أصحابه فلما طلع أعتقده الرجل عمرا فضربه فقتله، فقبضوه وأحضروه إلى عمرو، فلما رأى الناس يسلّمون عليه بالإمارة قال من هذا؟ قالوا: الأمير عمرو ابن العاص، قال: فمن قتلت، قالوا: نائبة. وكان اسمه خارجة فقال الرجل لعمرو ابن العاص: أما والله يا فاسق ما أردت غيرك! فقال عمرو: أردتني وأراد الله خارجة. ثم قدّمه عمرو فقتله. ولما بلغ عائشة (رضي الله عنها) قتل عليّ عليه السّلام قالت: فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر [2] (طويل)   [1] الغريّ: موقع قريب من الحيرة بظاهر الكوفة. [2] أرادت عائشة (رضي الله عنها) أن تقول: إنه استراح بالموت كما يستريح المسافر بوصوله إلى حيث يستقر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 الدولة الثانية: الدولة الأموية وهي التي تسلّمت الملك من الدولة الأولى لما قتل أمير المؤمنين- صلوات الله عليه- بايع الناس الحسن بن عليّ- عليهما السلام- فمكث شهورا حتى اجتمع هو ومعاوية، فتصالحا للمصلحة الحاضرة التي كان الحسن- عليه السلام- أعلم بها، وسلّم الخلافة إليه وتوّجه نحو المدينة. وبويع معاوية- رضي الله عنه- بالخلافة العامّة، ودعي بأمير المؤمنين، وذلك في سنة أربعين من الهجرة. ذكر شيء من سيرة معاوية، ووصف طرف من حاله هو معاوية بن أبي سفيان، صخر بن حرب بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف كان أبوه أبو سفيان أحد أشياخ مكّة، أسلم في السنة التي فتح الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم- فيها مكّة. وأسلم معاوية وكتب الوحي في جملة من كتبه بين يدي الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم- وكانت أمّه هند بنت عتبة شريفة في قريش أسلمت عام الفتح، وكانت في وقعة أحد. لما صرع حمزة بن عبد المطّلب- رضي الله عنه- عمّ رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- من طعنة الحربة التي طعنها. جاءت هند فمثّلت بحمزة، وأخذت قطعة من كبده فمضغتها حنقا عليه، لأنّه كان قد قتل رجالا من أقاربها. فلذلك يقال لمعاوية ابن آكلة الأكباد. ولمّا فتح النبيّ- صلى الله عليه وآله وسلم- مكّة، حضرت إليه متنكّرة في جملة نساء من نساء مكّة أتين لمبايعته. فلما تقدّمت هند لمبايعته اشترط- صلوات الله عليه وآله- شروط الإسلام عليها، وهو لا يعلم أنّها هند فأجابته بأجوبة قوية على خوفها منه، فلما قال لها وقالت، قال لها- صلوات الله عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وآله وسلم-: «تبايعنني على ألا تقتلن أولادكن؟» وكانوا في الجاهلية يقتلون الأولاد- فقالت هند: «أمّا نحن فقد ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا يوم بدر» فقال: «وعلى ألا تعصينني في معروف؟» قالت: «ما جلسنا هذا المجلس وفي عزمنا أن نعصيك» قال: «وعلى ألا تسرقن؟» قالت: «والله ما سرقت عمري شيئا، اللَّهمّ إلا أنني كنت آخذ من مال أبي سفيان شيئا في بعض الوقت» وكان أبو سفيان زوجها حاضرا، فحينئذ علم رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- أنّها هند، فقال هند؟ قالت: نعم، يا رسول الله! فلم يقل شيئا لأن الإسلام جبّ [1] ما قبله. وأما معاوية- رضي الله عنه- فكان عاقلا في دنياه، لبيبا عالما حليما، ملكا قويّا، جيّد السياسة حسن التّدبير لأمور الدنيا، عاقلا حكيما فصيحا، بليغا يحلم في موضع الحلم، ويشتد في موضع الشدة، إلا أن الحلم كان أغلب عليه. وكان كريما باذلا للمال، محبّا للرئاسة مشغولا بها. كان يفضل على أشراف رعيته كثيرا. فلا يزال أشراف قريش مثل عبد الله بن العبّاس، وعبد الله ابن الزبير، وعبد الله بن جعفر الطيّار وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وأبان بن عثمان بن عفّان، وناس من آل أبي طالب- رضي الله عنهم- يفدون عليه بدمشق فيكرم مثواهم، ويحسن قراهم، ويقضي حوائجهم ولا يزالون يحدّثونه أغلظ الحديث ويجبهونه أقبح الجبه [2] ، وهو يداعبهم تارة، ويتغافل عنهم أخرى، ولا يعيدهم إلا بالجوائز السنيّة، والصّلات الجمّة، قال يوما لقيس بن (سعد بن عبادة) [3]- رضي الله عنه- وهو رجل من الأنصار: «يا قيس والله كنت أودّ أن تنكشف الحروب التي كانت بيني وبين عليّ- عليه السّلام- وأنت حيّ» فقال قيس: (والله إني كنت أكره أن تنكشف تلك الحروب وأنت أمير المؤمنين)   [1] جبّ ما قبله: أزاله وأجلاه. [2] الجبه: المواجهة بالجبهة، الاستقبال وجها لوجه. [3] سعد بن عبادة: سيّد قبيلة الخزرج. أسلم وشهد غزوات العقبة وأحد والخندق. أقام بالشام مهاجرا ومات بحوران. وقيس بن سعد هو ولده، وكان ذا دالّة على الأمويين بشرف نسبه الأنصاريّ الخزرجي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 فلم يقل له شيئا. وهذا من أجل ما كانوا يخاطبونه به!. وبعث إلى رجل من الأنصار بخمسمائة دينار فاستقلها الأنصاريّ، وقال لابنه: خذها وامض إلى معاوية، فاضرب بها وجهه، وردّها عليه. وأقسم على ابنه أن يفعل ذلك. فجاء ابنه إلى معاوية ومعه الدراهم، قال: يا أمير المؤمنين: إن أبي فيه حدّة وسرعة. وقد أمرني بكيت وكيت، وأقسم عليّ، وما أقدر على مخالفته. فوضع معاوية يده على وجهه وقال: افعل ما أمرك أبوك وارفق بعمّك. فاستحيا الصبيّ ورمى بالدراهم، فضاعفها معاوية وحملها إلى الأنصاري. وبلغ الخبر يزيد ابنه، فدخل على معاوية غضبان وقال: «لقد أفرطت في الحلم حتى خفت أن يعدّ ذلك منك ضعفا وجبنا» فقال معاوية: «أي بنيّ: إنه لا يكون مع الحلم ندامة ولا مذمّة، فامض لشأنك، ودعني ورأيي» وبمثل هذه السيرة صار خليفة العالم وخضع له من أبناء المهاجرين والأنصار، كلّ من يعتقد أنه أولى منه بالخلافة. وكان معاوية- رضي الله عنه- من أدهى الدهاة: روي أنّ عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- قال لجلسائه: تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما، وعندكم معاوية؟! ومن دهائه ما اعتهده من استمالة عمرو بن العاص. وكان عمرو بن العاص أحد الدهاة، وكان أوّل ما نشبت الفتنة بين أمير المؤمنين عليّ- عليه السّلام- ومعاوية معتزلا للفريقين، فرأى معاوية أن يستميله ويتقوّى برأيه، ودهائه ومكره فاستماله ووصل حبله بحبله [1] وولاه مصر ودخل معه في تلك المداخل، وفعل في صفين تلك الأفاعيل. ولم يكن بينهما مع ذلك مودّة قلبيّة، وكانا يتباغضان سرّا، وربّما ظهر ذلك على صفحات وجوههما. وفلتات ألسنتهما: طلب أمير المؤمنين- عليه السّلام- في صفّين [2] من معاوية أن يخرج إلى مبارزته فقال له عمرو بن العاص- رضي الله عنه-: قد أنصفك ولا يحسن بك النكول عن مبارزته فقال له معاوية: غششتني وأحببت قتلي. ألست تعلم أن ابن   [1] وصل حبله بحبله: كناية عن العلاقة والاتّصال. [2] صفّين: معركة سبق ذكرها، وقعت بين عليّ وأنصاره من جهة وبين معاوية وأنصاره من جهة أخرى. وأعقبها قبول عليّ للتحكيم مكرها. وكان ذلك عام/ 37/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 أبي طالب لا يبرز له أحد إلا قتله؟!. وقال معاوية يوما لجلسائه: ما أعجب الأشياء؟ فقال يزيد: أعجب الأشياء هذا السّحاب الراكد بين السماء والأرض، لا يدعمه شيء من تحته، ولا هو منوط بشيء من فوقه. وقال أخر: أعجب الأشياء حظّ يناله جاهل، وحرمان يناله عاقل. وقال آخر: أعجب الأشياء ما لم ير مثله. وقال عمرو بن العاص: أعجب الأشياء أن المبطل يغلب المحقّ (يعرّض بعليّ عليه السلام ومعاوية) فقال معاوية بل أعجب الأشياء أن يعطى الإنسان ما لا يستحقّ إذا كان لا يخاف. (يعرض بعمرو ومصر) فنفث كلّ منهما بما في صدره من الآخر!. واعلم أنّ معاوية كان مربّي دول، وسائس أمم، وراعي ممالك. ابتكر في الدولة أشياء لم يسبقه أحد إليها، منها: أنّه أوّل من وضع الحشم للملوك، ورفع الحراب بين أيديهم، ووضع المقصورة التي يصلّي الملك أو الخليفة بها في الجامع منفردا من الناس. وذلك لخوفه ممّا جرى لأمير المؤمنين- عليه السّلام- فصار يصلّي منفردا في مقصورة، فإذا سجد قام الحرس على رأسه بالسيوف. وهو أوّل من وضع البريد لوصول الأخبار بسرعة. كلام في معنى البريد البريد: أن يجعل خيل مضمرات في عدّة أماكن، فإذا وصل صاحب الخبر المسرع إلى مكان منها، وقد تعب فرسه، ركب غيره فرسا مستريحا. وكذلك يفعل في المكان الآخر حتّى يصل بسرعة. وأمّا معناه اللغويّ: فالبريد هو اثنا عشر ميلا. وأظنّ أن الغاية التي كانوا قدّروها بين بريد وبريد، هي هذا القدر. وقال الصاحب علاء الدين عطا ملك في جهان كشاي: «ومن جملة الأشياء وضعهم البريد بكلّ مكان طلبا لحفظ الأموال، وسرعة وصول الأخبار ومتجدّدات الأحوال» وما أرى للبريد فائدة سوى سرعة وصول الأخبار فأمّا حفظ الأموال: فأيّ تعلّق له بذلك؟!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وممّا اخترع معاوية- رضي الله عنه- من أمور الملك: ديوان الخاتم. وهذا ديوان معتبر من أكبر الدواوين، ولم تزل السنّة جارية به إلى أواسط دولة بني العبّاس فأسقط، ومعناه: أن يكون ديوان، وبه نوّاب فإذا صدر توقيع من الخليفة بأمر من الأمور، أحضر التوقيع إلى ذلك الديوان، وأثبتت نسخته فيه، وحزم بخيط وختم بشمع- كما يفعل في هذا الزمان بكتب القضاة- وختم بخاتم صاحب ذلك الديوان. وكان الّذي حمل معاوية- رضي الله عنه- على اختراع هذا الديوان، أنّه أحال رجلا على زياد بن أبيه أمير العراق بمائة ألف درهم، فمضى ذلك الرجل وقرأ الكتاب (وكانت تواقيعهم تصدر غير مختومة فجعل المائة مائتين) فلما رفع زياد حسابه إلى معاوية- رضي الله عنه- أنكر معاوية ذلك، وقال: ما أحلته إلا بمائة ألف، ثم استعادها منه ووضع ديوان الخاتم، فصارت التواقيع تصدر منه مختومة، لا يدري أحد ما فيها، ولا يتمكّن أحد من تغييرها. وكان معاوية- رضي الله عنه- مصروف الهمّة إلى تدبير أمر الدنيا، يهون عليه كلّ شيء إذا انتظم أمر الملك. فانظر إلى وصف عبد الملك بن مروان له، فإنه لحظ فيه هذا المعنى. قالوا: إنّ عبد الملك بن مروان مرّ بقبر معاوية- رضي الله عنه فترحّم عليه، فقال له رجل: قبر من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: «قبر رجل كان والله فيما علمته ينطق عن علم، ويسكت عن حلم. كان إذا أعطى أغنى وإذا حارب أفنى» ووصفه أيضا عبد الله بن العباس- وكان من النقّاد- فقال: «ما رأيت أليق من أعطاف [1] معاوية بالرّياسة والملك» . وقال له بعض بني أمية: «والله لو قدرت أن تستكثر [2] بالزّنج لاستكثرت بهم لينتظم لك أمر الملك» . وكان معاوية- رضي الله عنه- نهما شحيحا عند الطّعام، على كرمه وسماحته. فأمّا نهمّه. فقالوا: إنه كان يأكل في كلّ يوم خمس أكلات أخرهنّ   [1] الأعطاف: الأكتاف، وهي أبرز مواضع الثوب من البدن. [2] تستكثر: تكثّر أعوانك وجندك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 أغلظهنّ [1] ، ثمّ يقول: يا غلام: ارفع فو الله ما شبعت، ولكن مللت. وروي أنه أصلح له عجل مشويّ فأكل معه دستا [2] من الخبز السّميذ [3] ، وأربع فراني [4] وجديا حارا، وآخر باردا سوى الألوان ووضع بين يديه مائة رطل من الباقلى [5] الرّطب فأتى عليه وأما شحّه على الأكل: فإنّ ابن أبي بكرة دخل عليه ومعه ابنه، فجعل ابنه يأكل أكلا مفرطا، ومعاوية يلحظه وفطن ابن أبي بكرة لحنق معاوية- رضي الله عنه- ففي الغد حضر الأب وليس معه ابنه، فقال له معاوية: ما فعل ابنك؟ قال: يا أمير المؤمنين: انحرف مزاجه. قال: قد علمت أنّ تلك الأكلة ما كانت تتركه حتى تهيضه وها هنا موضع حكاية حسنة، تدلّ على كرم ومروءة ونبل: كان بعض الوزراء مشغوفا بالأكل، ويحب كلّ من يأكل معه وكلّ من كان أكثر أكلا كان أقرب إلى قلبه فاتّفق أنه قصده بعض الأكابر من العلويّين وكل عليه [6] وجوها من خراج وضمان وغير ذلك، وطلبه بها، فوكل عليه في نفس داره أعني دار الوزير. ففي بعض الأيّام مدّ السّماط بين يدي الوزير، فقال العلويّ للموكلين به: إنّي جائع، فهل تأذنون أن أخرج إلى السّماط وأنتم معي، فآكل وأعود إلى هذا الموضع؟ وكان العلويّ قد فطن لطبع الوزير في ذلك، فاستحيوا منه، وأذنوا له في ذلك فخرج، وجلس في أخريات السّماط وجعل يأكل بينهم فلحظه الوزير وهو مقبل على الأكل، فاستدناه ورفعه إلى صدر المجلس وقدّم له من أطائب ذلك الطعام. ولما بالغ في الأكل زادت بشاشة الوزير وطلاقته. فلمّا رفع الطعام استدعى الوزير كانونا فيه نار، وأحضر الحساب الّذي رفع على الرجل به، وقال: أيّها السيّد: قد أراحك الله من هذا المال، وأنت في   [1] أغلظ الأكلات: أدسمها وأثقلها على المعدة. [2] دستا: مجموعة، والكلمة فارسية آلت إلى دستة في الاستعمال الدارج. [3] السّميذ: الدقيق الأبيض. [4] الفرانيّ: أقراص الخبز السّميك المستدير. [5] الباقلّى: القول. [6] وكل عليه: فرض عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 حلّ منه وو الله وحقّ جدّك- صلوات الله عليه- ليس عندي بهذا الحساب ولا في الديوان به غير هذه النّسخة. ثم ألقاها في الكانون فاحترقت وأفرج عنه وأذن له في الرّواح إلى منزله. وكانت وفاة معاوية رضي الله عنه في سنة ستّين من الهجرة. ولما أدركته الوفاة أوصى إلى ابنه يزيد وصيّة تدلّ على عقله ولبّه، وخبرته بالأمور ومعرفته بالرّجال فلم يعمل يزيد بشيء منها وقد أثبتها ها هنا لحسنها وسدادها. قالوا: لمّا مرض معاوية- رضي الله عنه- مرضه الّذي مات فيه، دعا ابنه يزيد فقال له: «يا بنيّ! إنّي كفيتك الشدّ والترحال، ووطّأت لك الأمور، وذلّلت لك الأعداء، وأخضعت لك رقاب العرب، وجمعت لك ما لم يجمعه أحد. فانظر أهل الحجاز فإنّهم أصلك، فأكرم من قدم عليك منهم وتعهّد من غاب، وانظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل كلّ يوم عاملا فافعل، فإنّ عزل عامل أيسر من أن يشهر مائة ألف سيف. وانظر أهل الشام، وليكونوا بطانتك، فإن رابك من عدوّك شيء فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم، فإنّهم إن أقاموا بها تغيّرت أخلاقهم وإنّي لست أخاف عليك أن ينازعك في هذا الأمر إلا أربعة من قريش: الحسين بن عليّ وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر- رضي الله عنهم- فأما ابن عمر: فرجل قد وقذته [1] العبادة، وإذا لم يبق أحد غيره بايعك. وأمّا الحسين بن عليّ: فهو رجل خفيف، ولن يتركه أهل العراق حتى يخرجوه. فإن خرج وظفرت به فاصفح عنه فإن له رحما ماسّة، وحقّا عظيما، وقرابة من محمّد صلوات الله عليه وسلامه. وأمّا ابن أبي بكر، فإن رأى أصحابه صنعوا شيئا صنع مثله. ليست له همّة إلا في النّساء واللهو. وأما الّذي يجثم لك جثوم الأسد ويراوغك مراوغة الثعلب، فإن أمكنته فرصة وثب فذاك ابن الزّبير. فإن هو وثب عليك فظفرت به فقطّعه إربا إربا واحقن دماء [2] قومك ما استطعت.   [1] وقذته العبادة: أضنت جسده. غلبته وتركته عليلا. [2] حقن الدماء: وفّرها ولم يرقها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وفي هذه الوصيّة دليل على ما سبق من وفور رغبته في تدبير الملك، وشدّة كلفه بالرّياسة. ثمّ ملك بعده ابنه يزيد كان موفّر الرغبة في اللهو والقنص، والخمر والنّساء والشّعر، وكان فصيحا كريما شاعرا مفلقا [1] . قالوا: بدئ الشّعر بملك، وختم بملك. إشارة إلى امرئ القيس وإليه، فمن شعره: جاءت بوجه كأنّ البدر برقعة [2] ... نورا على مائس [3] كالغصن معتدل إحدى يديها تعاطيني [4] مشعشعة [5] ... كخدّها عصفرته [6] صبغة الخجل ثمّ استبدّت وقالت، وهي عالمة ... بما تقول وشمس الراح لم تفل [7] لا ترحلنّ فما أبقيت من جلدي ... ما أستطيع به توديع مرتحل ولا من النّوم ما ألقى الخيال به ... ولا من الدّمع ما أبكي على الطلل كانت ولايته على أصحّ القولين ثلاث سنين وستّة أشهر. ففي السنة الأولى قتل الحسين بن عليّ عليهما السلام، وفي السنة الثانية نهب المدينة وأباحها ثلاثة أيّام وفي السنة الثالثة غزا الكعبة. فنبدأ بشرح قتل الحسين عليه السّلام. شرح كيفيّة الحال في ذلك على وجه الاختصار هذه قضيّة لا أحبّ بسط القول فيها استعظاما لها واستفظاعا، فإنّها قضيّة لم يجر في الإسلام أعظم فحشا منها. ولعمري إنّ قتل أمير المؤمنين- عليه السّلام- هو الطامّة الكبرى، ولكنّ هذه القضيّة جرى فيها من القتل الشنيع والسيء، أو   [1] الشاعر المفلق: الحاذق في نظمه وصنعته. [2] برقعة: جعل له برقعا. غطّاه. [3] المائس: الميّال الغض، وقصد به القدّ. [4] تعاطيني: تناولني الشراب أو الكأس. [5] المشعشعة: الممزوجة. [6] عصفرته: صبغته بلون العصفر. والعصفر: صبغ أصفر اللون ومورّد. [7] لم تفل: لم تأفل، لم تغب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 التمثيل ما تقشعرّ له الجلود. واكتفيت أيضا عن بسط القول فيها بشهرتها، فإنّها أشهر الطامّات. فلعن الله كلّ من باشرها وأمر بها، ورضي بشيء منها ولا تقبّل الله منه صرفا ولا عدلا وجعله من الأخسرين أَعْمالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً 18: 103- 104 [1] . وجملة ما جرى في ذلك: أن يزيد- لعنه الله- لمّا بويع لم يكن له همّ إلا تحصيل بيعة الحسين- رضي الله عنه- والنّفر الّذي حذّره أبوه منهم. فأرسل إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وهو يومئذ أمير المدينة، يأمره بأخذ البيعة عليهم. فاستدعاهم فحضر الحسين- عليه السّلام- عنده، فأخبره بموت معاوية- رضي الله عنه- ودعاه إلى البيعة. فقال له الحسين- عليه السّلام- «مثلي لا يبايع سرّا، ولكن إذا اجتمع الناس، نظرنا ونظرت» ثم خرج الحسين- عليه السّلام- من عنده وجمع أصحابه، وخرج من المدينة قاصدا مكّة متأبيا من بيعة يزيد، آنفا من الانخراط في زمرة رعيّته. فلمّا استقرّ بمكّة اتّصل [2] بأهل الكوفة تأبيه من بيعة يزيد وكانوا يكرهون بني أميّة، خصوصا يزيد، لقبح سيرته ومجاهرته بالمعاصي، واشتهاره بالقبائح. فراسلوا الحسين- عليه السّلام- وكتبوا إليه، يدعونه إلى قدوم الكوفة ويبذلون له النّصرة على بني أميّة. واجتمعوا وتحالفوا على ذلك، وتابعوا الكتب إليه في هذا المعنى. فأرسل إليهم ابن عمّه مسلم [3] بن عقيل بن أبي طالب- رضي الله عنه- فلمّا وصل إلى الكوفة فشا الخبر إلى عبيد الله بن زياد [4]- لعنه الله وأحلّه دار الخزي- وكان يزيد قد أمّره على الكوفة، حين بلغه مراسلة أهلها الحسين- عليه السّلام- وكان مسلم قد التجأ إلى دار هانئ بن عروة [5]- رضي الله عنه-   [1] سورة الكهف، الآية/ 104/. [2] اتّصل بهم تأبيه: أي بلغهم امتناعه ورفضه لبيعة يزيد بن معاوية. [3] مسلم بن عقيل: تابعيّ ذو رأي وشجاعة انتدبه الحسين بن علي للذهاب إلى الكوفة حين راسله أهلها بالبيعة بالخلافة. شعر به عبد الملك بن زياد أمير الكوفة الموالي ليزيد بن معاوية فطلبه حتى قتله عام/ 60/ هـ. [4] عبيد الله بن زياد: هو ابن زياد بن أبيه الّذي نماه معاوية إلى أبي سفيان فآخاه. [5] هانئ بن عروة: أحد سادات الكوفة وأشرافها من خواص عليّ بن أبي طالب، خالف معاوية في بعض أمره، ولكنّه قتل على يد عبيد الله بن زياد لإيوائه مسلم بن عقيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وكان من أشرف أهل الكوفة، فاستدعاه عبيد الله بن زياد، فطلبه منه فأبى، فضرب وجهه بالقضيب فهشّمه، ثمّ أحضر مسلم بن عقيل- رضي الله عنهما- فضربت عنقه فوق القصر فهوى رأسه، وأتبع جثته رأسه. وأمّا هانئ: فأخرج إلى السوق فضربت عنقه. وفي ذلك يقول الفرزدق [1] : وإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري ... إلى هانئ في السّوق وابن عقيل إلى بطل قد هشّم السّيف وجهه ... وآخر يهوي من طمار [2] قتيل ثمّ إنّ الحسين- عليه السّلام- خرج من مكّة متوجّها إلى الكوفة، وهو لا يعلم بحال مسلم فلمّا قرب من الكوفة علم بالحال، ولقيه ناس فأخبروه الخبر وحذّروه فلم يرجع، وصمّم على الوصول إلى الكوفة لأمر هو أعلم به من النّاس. فأرسل ابن زياد إليه عسكرا أميره عمر بن سعد بن أبي وقّاص، فقاتل الحسين- عليه السّلام- وأصحابه حين التقى الجمعان، قتالا لم يشاهد أحد مثله، حتى فني أصحابه، وبقي هو عليه السّلام وخاصّته، فقاتلوا أشدّ قتال رآه الناس. ثم قتل الحسين- عليه السّلام- قتلة شنيعة. ولقد ظهر منه- عليه السّلام- من الصّبر والاحتساب والشّجاعة والورع والخبرة التامّة بآداب الحرب والبلاغة، ومن أهله وأصحابه- رضي الله عنهم- من النّصر له، والمواساة بالنّفس، وكراهية الحياة بعده، والمقاتلة بين يديه عن بصيرة- ما لم يشاهد مثله. ووقع النهب والسّبي في عسكره وذراريه- عليه السّلام- ثم حمل النّساء ورأسه- صلوات الله عليه- إلى يزيد بن معاوية بدمشق، فجعل ينكت ثنايا [3] الحسين- عليه السّلام- بالقضيب، ثم ردّ نساءه إلى المدينة. وكان قتل الحسين- عليه السّلام- في يوم عاشوراء [4] ، من سنة إحدى وستين.   [1] ونسب البيتان إلى شاعر آخر هو عبد الله بن الزّبير الأسدي. انظر الأعلام ج 8 ص/ 68/. [2] طمار قتيل: علوّ قامة القتيل. [3] الثنايا: مقدّمة الأسنان في الفم. [4] عاشوراء: العاشر من المحرّم، وهو الشهر الأوّل من شهور السنة القمريّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 شرح كيفية وقعة الحرّة ثم ثنّى بقتال أهل مدينة رسول الله صلوات الله عليه وسلامه، وهي وقعة الحرّة (بالحاء المفتوحة غير معجمة) : ومبدأ الأمر فيها: أنّ أهل المدينة كرهوا خلافة يزيد وخلعوه، وحصروا من كان بها من بني أمية وأخافوهم، فأرسل بنو أميّة رسولا إلى يزيد يعلمه حالهم. فلمّا وصل الرسول إلى يزيد وأخبره بذلك تمثّل لقد بدّلوا الحلم الّذي في سجيّتي ... فبدّلت قومي غلظة بليان (طويل) ثمّ ندب إليها عمر بن سعيد، فأحجم عنها، وأرسل يقول له: إنّي قد ضبطت لك الأمور والبلاد، وأمّا الآن إذا صارت دماء قريش تهراق بالصّعيد، فلا أحبّ أن أتولّى ذلك. فندب عبيد الله بن زياد لذلك، فاعتذر وقال: والله لا جمعتهما للفاسق: أقتل ابن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- وأغزو مدينته والكعبة فندب إليها مسلم بن عقبة المرّيّ، وكان شيخا كبيرا مريضا، إلا أنّه كان أحد جبابرة العرب وشياطينهم، وقيل: إنّ أباه [1] قال له: إن خالفك أهل المدينة فارمهم بمسلم بن عقبة. فتوجّه إليها مسلم بن عقبة وهو مريض، فحاصرها من جهة الحرّة (وهو موضع بظاهر المدينة) فنصب لمسلم بن عقبة كرسيّ بين الصّفّين، وجلس يحرّض أصحابه على القتال حتّى فتحها. وقتل في تلك الوقعة جماعة من أعيانها، فيقال: إنّ أبا سعيد الخدريّ [2]- رضي الله عنه- صاحب رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- خاف، فأخذ سيفه وخرج إلى كهف هناك ليدخل إليه ويعتصم به فتبعه بعض أهل الشأم، فخافه أبو سعيد وسل سيفه عليه ليروّعه، فسلّ الآخر سيفه. فلما وصل إلى أبي سعيد قال له: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ 5: 28 [3] فقال له الشأمي: من أنت؟ قال: أنا أبو سعيد. قال: صاحب رسول الله؟ قال: نعم، فمضى وتركه ثم أباح مسلم بن عقبة   [1] قصد أبا يزيد، وهو معاوية بن أبي سفيان. [2] أبو سعيد الخدريّ: ينتهي نسبه إلى بني خدرة من الخزرج صحابي جليل وراو للحديث. [3] سورة المائدة، الآية/ 28/. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 المدينة ثلاثا، فقتل ونهب وسبى [1] وسمّي مسلم بن عقبة مسرفا. شرح كيفيّة غزو الكعبة ثمّ ثلّث يزيد بغزو الكعبة، فأمر مسلم بن عقبة بقصدها وغزوها بعد فراغه من أمر المدينة. فتوجّه مسلم إليها وكان عبد الله بن الزبير بها، وقد دعا إلى نفسه وتبعه أهل مكّة، فمات مسلم في الطريق واستخلف على الجيش رجلا كان يزيد أوصاه بتأميره إن هلك. فمضى بالجيش إلى مكّة وحصرها، وبرز ابن الزبير إليه في أهل مكّة ونشبت الحرب، وقال راجز أهل الشأم: خطّارة مثل الفنيق المزبد ... يرمى بها أعواد هذا المسجد (رجز) وهم في ذلك إذ ورد نعي يزيد فرجعوا. ثم ملك بعده ابنه معاوية بن يزيد بن معاوية كان صبيّا ضعيفا، ملك أربعين يوما، وقيل ثلاثة أشهر. ثم قال للنّاس: إنّي ضعفت عن أمركم فالتمست لكم مثل عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- فلم أجد، فالتمست ستة مثل أهل الشّورى فلم أجد، فأنتم أولى بأمركم فاختاروا له من أحببتم، فما كنت لأتزوّدها ميتا، وما استمتعت بها حيّا ثم دخل داره وتغيّب أيّاما ومات، وقيل مات مسموما، وليس له من الأخبار ما يؤثر ثمّ ملك بعده مروان بن الحكم: هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف. ولمّا مات معاوية بن يزيد بن معاوية، ماج الناس: فأراد أهل الشأم بني أميّة وأراد غيرهم عبد الله بن الزّبير، ثمّ غلب من رأيه في بني أميّة. لكنّهم اختلفوا فيمن يولّونه. فمال ناس منهم إلى خالد بن معاوية، وكان فصيحا بليغا،   [1] سقطت من الطبعة (عز) عبارة: «فقيل إنّ الرجل من أهل المدينة- بعد ذلك- كان إذا زوّج ابنته لا يضمن بكارتها، ويقول لعلّها افتضّت في وقعة الحرّة وسمّي..» انظر رحما ص/ 86/، وألما ص/ 132/ وطبعة بيروت ص/ 116/. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وقيل إنه أصاب عمل الكيمياء، وكان صبيّا. ومال ناس إلى مروان بن الحكم لسنّه وشيخوخته، ولأنه قاد الجنود وفتح مصر، وكرهوا خالدا لصبوته، ثمّ بايعوا مروان وكان يقال له: ابن الطّريد وذلك لأن أباه الحكم طرده رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- عن المدينة فلمّا ولي عثمان بن عفّان- رضي الله عنه ردّه إليها، وأنكر المسلمون ذلك منه فاحتجّ بأنّ رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- وعده بردّه، ورويت أحاديث وأخبار في لعنة من في صلبه وضعّفها قوم. وكان مروان حين بويع قد تزوّج أمّ خالد زوجة يزيد بن معاوية ليصغّر بذلك من شأن خالد فيسقط عن درجة الخلافة، فدخل خالد يوما على مروان فشتمه مروان ونسبه إلى الحمق، ليصغّر أمره عند أهل الشام فخجل خالد ودخل على أمّه وأخبرها بما قال له مروان، فقالت: لا يعلمنّ أحد أنّك أعلمتني وأنا أكفيك. ثمّ إنّ مروان نام عندها ليلة، فوضعت على وجهه وسادة ولم ترفعها حتى مات. وأراد ابنه عبد الملك أن يقتلها فقيل له: يتحدّث الناس أن أباك قتلته امرأة فتركها. وكانت ولاية مروان تسعة أشهر وبعض شهر، ذلك تأويل قول أمير المؤمنين: إنّ له امرأة [1] كلعقة الكلب أنفه. وفي تلك الأيام أخذت الشّيعة بثأر الحسين- عليه السّلام-. شرح كيفية ذلك على وجه الاختصار لمّا هدأت الفتنة بعد قتل الحسين- عليه السّلام- وهلك يزيد بن معاوية اجتمع ناس من أهل الكوفة وندموا على خذلانهم الحسين- عليه السّلام- ومقاتلتهم له ونصرهم لقتلته بعد إرسالهم إليه، واستدعائهم منه، القدوم عليهم وبذلهم له النّصر وتابوا من ذلك، فسمّوا: التّوابين. ثم إنّهم تحالفوا على بذل نفوسهم وأموالهم في الطّلب بثأره، ومقاتلة قتلته وإقرار الحقّ مقرّه في رجل من آل بيت نبيّهم- صلوات الله عليه وسلامه- وأمّروا عليهم رجلا منهم يقال له: سليمان بن   [1] لعلها إمرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 صرد [1]- رضي الله عنه- فكاتب الشيعة بالأمصار يندبهم إلى ذلك فأجابوه الموافقة والمسارعة. ثمّ ظهر في تلك الأيّام المختار بن أبي عبيد الثقفي [2] ، وكان رجلا شريفا في نفسه، عالي الهمّة كريما: فدعا محمّد بن عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- وهو المعروف بابن الحنفيّة وكانت تلك الأيّام أيام فتن وذلك أنّ مروان كان خليفة بالشأم ومصر، مبايعا على سرير الملك، وعبد الله بن الزّبير خليفة بالحجاز والبصرة، مبايع معه الجنود والسّلاح والمختار بن أبي عبيد بالكوفة ومعه الناس والجنود والسّلاح، وقد أخرج أمير الكوفة عنها، وصار وهو أميرها يدعو إلى محمّد بن الحنفيّة. ثم إنّ المختار قويت شوكته ففتك بقتلة الحسين، فضرب عنق عمر بن سعد [3] وابنه، وقال: هذا بالحسين وابنه عليّ، وو الله لو قتلت به ثلثي قريش ما وفوا بأنملة من أنامله. ثم إنّ مروان أرسل عبيد الله بن زياد [4] في جيش كثيف، فأرسل إليه المختار إبراهيم ابن مالك الأشتر فقتله بنواحي الموصل، وأرسل برأسه إلى المختار فألقي في القصر. فيقال إنّ حيّة دقيقة تخطّت رءوس القتلى، ودخلت في فم عبيد الله فخرجت من منخره ثم دخلت في منخره فخرجت من فيه. فعلت   [1] سليمان بن صرد: أبو مطرّف السّلوليّ الخزاعيّ. صحابيّ، شهد الجمل وصفّين مع عليّ بن أبي طالب. ندم على تخلّفه عن نصرة الحسين، وخرج مطالبا بدمه فترأس جماعة «التوّابين» ولكنه قتل في معركة مع عبيد الله بن زياد عام/ 65/ هـ. [2] المختار بن أبي عبيد الثّقفي: أصله من الطائف. أظهر موافقته لبيعة عبد الله بن الزبير ومضى باسمه إلى الكوفة ولكنّه منذ مقتل الحسين بن علي أعلن بيعة محمّد بن الحنفية بن علي بن أبي طالب وتتبع قتلة الحسين بالثأر فقتل قاتله وعظم شأنه حتى قتله مصعب بن الزبير عام/ 67/ هـ. انظر ترجمته الوافية في الأعلام للزركلي، المجلد السابع ص/ 192/. [3] عمر بن سعد بن أبي وقّاص: قائد الجيش الأموي في مواجهة الحسين بن عليّ. [4] عبيد الله بن زياد بن أبيه: فاتح ومقاتل من أنصار بني أميّة، قتله إبراهيم بن مالك الأشتر قائد جيش المختار بن أبي عبيد، بنواحي الموصل عام/ 67/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 ذلك مرارا ثم إن عبد الله بن الزبير أرسل أخاه مصعبا وكان شجاعا، إلى المختار فقتله ومات مروان بن الحكم في سنة خمس وستين وبويع ابنه عبد الملك ثمّ ملك ابنه عبد الملك بن مروان كان عبد الملك لبيبا عاقلا، عالما ملكا جبّارا قويّ الهيبة شديد السّياسة، حسن التدبير للدنيا. في أيّامه نقل الديوان من الفارسيّة إلى العربية، واخترعت سياقة المستعربين. وهو أول من نهى الرعيّة عن كثرة الحديث بحضرة الخلفاء ومراجعتهم، وكانوا يتجرءون عليهم. (وقد تقدم شرح ذلك) وهو الّذي سلّط الحجّاج بن يوسف على الناس، وغزا الكعبة، وقتل عبد الله بن الزبير وأخاه مصعبا من قبله. ومن طريف ما وقع في ذلك: أنّ عبد الملك لما أرسل يزيد بن معاوية الجيش لقتال أهل المدينة وغزو الكعبة، امتعض عبد الملك من ذلك غاية الامتعاض وقال: ليت السّماء انطبقت على الأرض! فلما صار خليفة فعل ذلك وأشدّ منه: فإنّه أرسل الحجّاج [1] لحصار ابن الزّبير وغزو مكّة، وكان عبد الملك قبل الخلافة أحد فقهاء المدينة، وكان يسمّى: حمامة المسجد، لمداومته تلاوة القرآن. فلمّا مات أبوه وبشّر بالخلافة أطبق المصحف، وقال: هذا فراق بيني وبينك. وتصدّى لأمور الدّنيا. وقيل: إنّه قال يوما لسعيد بن المسيّب [2] : يا سعيد: قد صرت أفعل الخير فلا أسرّ به، وأصنع الشرّ فلا أساء به: فقال له سعيد بن المسيّب الآن تكامل فيك موت القلب. وفي أيّامه قتل عبد الله بن الزّبير وأخوه مصعب أمير العراق. فأمّا عبد الله بن الزبير: فإنه كان قد اعتصم بمكّة، وبايعه أهل الحجاز   [1] الحجّاج: هو الحجّاج بن يوسف بن الحكم الثّقفي. نشأ في الطائف ودخل في جند عبد الملك بن مروان في الشأم. وثق به عبد الملك فولاه مقاتلة ابن الزبير في الحجاز فحاصر الكعبة وقضى عليه. ثم ولاه العراق فأعمل فيها البطش حتى أخضعها لخلافة عبد الملك وثبتت له إمارة العراق عشرين سنة. توفي عام/ 95/ هـ. انظر جوانب أخرى من حياة الحجاج في الأعلام للزركلي، المجلّد الثاني ص/ 168/. [2] سعيد بن المسيّب: المخزوميّ القرشيّ. تابعيّ من أبرز فقهاء المدينة. أعجب بابن الخطّاب وروى أحاديثه. توفي في المدينة المنوّرة عام/ 94/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 وأهل العراق. وكان عظيم الشّحّ، فلذلك لم يتمّ أمره. فأرسل الحجّاج إليه فحاصره بمكّة ورمى الكعبة بالمنجنيق، وحاربه وخذله أهله وأصحابه، فدخل على أمّه وقال لها: «يا أمّت، قد خذلني النّاس حتى ولدي وأهلي، ولم يبق معي غير نفر يسير ومن ليس عنده أكثر من صبر ساعة. والقوم يعطونني ما أردت من الدّنيا فما رأيك؟» فقالت له: «أنت أعلم بنفسك. إن كنت تعلم أنّك على حقّ فامض لشأنك ولا تمكّن من رقبتك غلمان بني أميّة، وإن كنت إنّما أردت الدّنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن معك، وكم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن» فقال: يا أمّت «إنّي أخاف إن قتلوني أن يمثّلوا بي» قالت: «يا بنيّ، إنّ الشاة لا يضرّها سلخها بعد ذبحها» وما زالت تحرّضه بهذا وأشباهه حتى خرج، فصمّم على المناجزة فقتل. وأرسل الحجّاج بالبشارة إلى عبد الملك، وكان ذلك سنة ثلاث وسبعين. وأمّا أخوه مصعب بن الزّبير أمير العراق: فكان شجاعا جميلا، جليل القدر ممدوحا. تزوّج سكينة بنت الحسين- عليه السّلام- وعائشة بنت طلحة، وجمعهما في داره. وكانتا من أعظم النّساء قدرا ومالا وجمالا، فقال عبد الملك يوما لجلسائه، من أشجع النّاس؟ قالوا: أنت. قال: لا لكنّ أشجع الناس من جمع في داره بين عائشة بنت طلحة، وسكينة بنت الحسين. يعني مصعبا. ثم تجهّز عبد الملك لقتال مصعب وودّع زوجته عاتكة بنت يزيد بن معاوية، فلمّا ودّعها بكت فبكى جواريها لبكائها، فقال عبد الملك: قاتل للَّه كثير عزّة [1] ، كأنّه شاهد هذا حين قال: إذا ما أراد الغزو لم يثن همّه ... حصان عليها نظم درّ يزينها   [1] كثيّر عزّة: هو كثيّر بن عبد الرحمن الخزاعيّ. بدأ حياته راعيا في وادي القرى بجوار المدينة المنوّرة وتشيّع في أوّل أمره لآل عليّ بن أبي طالب ثم مال إلى الأمويّين ومدحهم ولا سيّما عبد العزيز بن مروان. وعبد الملك بن مروان. جاء كثير من شعره في الغزل بعزّة. توفي عام/ 105/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 نهته فلمّا لم تر النّهي نافعا ... بكت فبكى ممّا شجاها قطينها [1] (الطويل) ثم سار إلى حرب مصعب، فالتقيا بأرض دجيل، فاقتتلوا قتالا شديدا وقتل مصعب وذلك في سنة إحدى وسبعين. وكان عبد الملك أديبا ذكيّا فاضلا، قال الشعبيّ [2] ، ما ذاكرت أحدا إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك بن مروان، فإنّي ما ذاكرته حديثا إلا زادني فيه ولا شعرا إلا زادني فيه. وقيل لعبد الملك: لقد أسرع إليك الشّيب، قال: «شيّبني صعود المنابر والخوف من اللّحن» (وكان اللحن عندهم في غاية القبح) ومن آرائه ما أشار به وهو صبيّ على مسلم بن عقبة المريّ، حين أرسله يزيد بن معاوية لقتال أهل المدينة فوصلها وبنو أميّة محاصرون بها ثم أخرجوا، فلما لقيهم مسلم بن عقبة استشار بعبد الملك بن مروان وكان حدثا، فقال له: الرأي أن تسير بمن معك، فإذا انتهيت إلى أدنى نخلها نزلت، فاستظلّ الناس في ظلّه وأكلوا من صفوه. فإذا أصبحت مضيت وتركت المدينة على اليسار، ثمّ درت بها حتّى تأتيهم من قبل الحرّة مشرّقا، ثم تستقبل القوم. فإذا استقبلتهم وقد طلعت الشّمس عليهم، طلعت بين أكتاف أصحابك فلا تؤذيهم، بل يصيب أهل المدينة أذاها ويرون من ائتلاف بيضكم وأسنّة رماحكم وسيوفكم ودروعكم ما لا ترونه أنتم ما داموا مغرّبين. ثم قاتلهم واستعن باللَّه. وقال عبد الملك يوما لجلسائه: ما تقولون في قول القائل: أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... فوا حربا ممّن يهيم بها بعدي (طويل)   [1] انظر الخبر في ترجمة كثيّر في مقدمة ديوانه بشرح قدري مايو، طبعة دار الجيل ببيروت ص/ 13/. [2] الشّعبيّ: عامر بن شراحيل محدّث وحافظ من التابعين، قرّبه عبد الملك بن مروان وكان رسوله إلى ملك الروم. توفي عام/ 103/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 قالوا: معنى حسن. قال: هذا ميت كثير الفضول، ليس هذا معنى جيّدا. قالوا: صدقت، قال: فكيف كان ينبغي أن يقول؟ فقال رجل منهم: كان ينبغي أن يقول: أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... أوكّل بدعد من يهيم بها بعدي (طويل) قال عبد الملك: ما أحسنت. قالوا فكيف ينبغي أن يكون؟ قال: ينبغي أن يقول: أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... فلا صلحت دعد لذي خلّة بعدي (طويل) قالوا: أنت يا أمير المؤمنين أشعر الثّلاثة. ولما اشتدّ مرضه قال: أصعدوني على شرف، فأصعدوه إلى موضع عال، فجعل يتنسّم الهواء ثم قال: يا دنيا: ما أطيبك؟ إن طويلك لقصير، وإن كثيرك لحقير وإن كنّا منك لفي غرور. وتمثّل بهذين البيتين: إن تناقش يكن نقاشك يا ... رب عذابا، لا طوق لي بالعذاب أو تجاوز فأنت ربّ صفوح ... عن مسيء ذنوبه كالتّراب (خفيف) ولما مات صلّى عليه ابنه الوليد فتمثّل هشام ابنه الآخر: فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنّه بنيان قوم تهدّما (طويل) فقال له الوليد: اسكت، فأنت تتكلم بلسان شيطان. ألا قلت كما قال الآخر إذا سيّد منّا مضى قام سيّد قئول لما قال الكرام فعول (طويل) وأوصى عبد الملك بن مروان أخاه عبد العزيز حين مضى إلى مصر أميرا عليها فقال له: «ابسط بشرك، وألن كنفك، وآثر الرّفق في الأمور، فإنّه» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 «أبلغ بك» [1] وانظر حاجبك فليكن من خير أهلك فإنّه وجهك ولسانك. ولا يقفنّ أحد ببابك إلا أعلمك مكانه، لتكون أنت الّذي تأذن له أو تردّه. وإذا خرجت إلى مجلسك فابدأ بالسّلام يأنسوا بك، وتثبت في قلوبهم محبّتك. وإذا انتهى إليك مشكل فاستظهر عليه بالمشاورة، فإنّها تفتح مغاليق الأمور، وإذا سخطت على أحد فأخّر عقوبته، فإنك على العقوبة بعد التوقف عنه، أقدر منك على ردّها بعد إمضائها» وكانت وفاته في سنة ستّ وثمانين. ثمّ ملك ابنه الوليد كان الوليد من أفضل خلفائهم سيرة عند أهل الشأم، بنى الجوامع، جامع دمشق، وجامع المدينة (على ساكنها أفضل السّلام) والمسجد الأقصى. وأعطى المجذمين، ومنعهم من سؤال النّاس. وأعطى كلّ مقعد خادما، وكلّ ضرير قائدا وفتح في خلافته فتوحا عظاما، منها الأندلس وكاشغر، والهند، وكان شديد التكلّف بالعمارات والأبنية، واتّخاذ المصانع والضّياع، وكان الناس يلتقون في زمانه فيسأل بعضهم بعضا عن الأبنية والعمارات، وكان أخوه سليمان يحبّ الطّعام، فكان الناس في خلافته إذا التقوا، سأل بعضهم بعضا عن الطّعام. وكان عمر بن عبد العزيز صاحب عبادة وتلاوة، فكان الناس إذا تلاقوا في أيّامه سأل بعضهم بعضا ما وردك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ وكم تقوم من الشّهر؟ وهذا من خواصّ الملك التي تقدّم شرحها وكان لحّانا لا يحسن النّحو وعاتبه أبوه عبد الملك على اللّحن. وقال له: إنّه لا يلي العرب إلا من يحسن كلامهم، فدخل الوليد بيتا، وأخذ معه جماعة من علماء النحو وأقام مدّة يشتغل فيه، فخرج أجهل ممّا كان يوم دخوله. فلما بلغ ذلك عبد الملك قال: قد أعذر!.   [1] ابسط بشرك: كن طليق الوجه مبشّرا بالخير. ألن كنفك: كن ليّن الجانب حسن المعاملة. آثر الرّفق: فضّل اللطف على الغلاظة والشدّة أو القسوة. أبلغ بك: أكثر إيصالا إلى ما تريد من سياسة البلد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ثمّ ملك بعده أخوه سليمان بن عبد الملك كانت أيّامه ذات فتوح متوالية، وكان غيورا شديد الغيرة، وكان نهما فيقال إنّ الطّبّاخ كان يأتيه بالشّواء فلا يصبر حتى يبرد، فيأخذه بكمّه، وكان فصيحا بليغا وها هنا موضع حكاية: قال الأصمعيّ [1] : كنت مرّة أفاوض هارون الرّشيد، فجرى حديث أصحاب النّهم، فقلت: كان سليمان بن عبد الملك شديد النّهم، وكان إذا أتاه الطّبّاخ بشواء تلقّاه فأخذه بأكمامه، فقال الرشيد: ما أعلمك يا أصمعيّ بأخبار النّاس لقد اعترضت منذ أيّام جباب سليمان فوجدت أثر الدّهن في أكمامها فظننته طيبا. قال الأصمعيّ: ثمّ أمر لي بجبّة منها. وقيل: إنّ سليمان لبس يوما حلّة خضراء وعمامة خضراء ونظر في المرآة فقال: أنا الملك الفتى؟ ثمّ نظرت إليه جارية من جواريه فقال ما تنظرين؟ قالت: أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ... على أن لا بقاء للإنسان ليس فيما علمته فيك عيب ... كان في الناس، غير أنك فاني (خفيف) فلم تمض إلا جمعة واحدة حتّى مات. وكانت وفاته في سنة تسع وتسعين. ثمّ ملك بعده عمر بن عبد العزيز بن مروان لمّا مرض سليمان بن عبد الملك مرضته التي مات فيها، عزم على أن يبايع لبعض أولاده، فنهاه بعض أصحابه، أو قال له: يا أمير المؤمنين: إنّه مما يحفظ الخليفة في قبره أن يستحفظ على الناس رجلا صالحا. فقال سليمان: أستخير الله وأفعل. ثمّ استشاره في عمر بن عبد العزيز، فأشار عليه به وأثنى عليه خيرا فكتب سليمان عهده إلى عمر ابن عبد العزيز وختمه، ودعا أهل بيته وقال: بايعوا لمن عهدت إليه في هذا الكتاب ولم يعلمهم به فبايعوا، ثمّ لمّا مات جمعهم ذلك   [1] الأصمعي: عبد الملك بن قريب، أبو سعيد الأصمعيّ. من أشهر رواة العرب، وأعلمهم باللغة والشعر والبلدان. نشأ بالبصرة وطاف بالبوادي يجمع العلم والأخبار، وصحب الخليفة العباسيّ هارون الرشيد ونادمه. توفي بالبصرة عام/ 216/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 الرّجل الّذي أشار إليه بعمر بن عبد العزيز وقد كتم موت سليمان عنهم، وقال لهم: بايعوا مرّة أخرى، فبايعوا، فلمّا رأى أنّه قد أحكم الأمر، أعلمهم بموت سليمان. وكان عمر بن عبد العزيز من خيار الخلفاء، عالما زاهدا، عابدا تقيّا ورعا. سار سيرة مرضيّة، ومضى حميدا. وهو الّذي قطع السبّ عن أمير المؤمنين- صلوات الله عليه وسلامه- وكان بنو أميّة يسبّونه على المنابر. قال عمر بن عبد العزيز: كان أبي عبد العزيز بن مروان يمرّ في خطبته يهدّها هدّا، حتّى إذا وصل إلى ذكر أمير المؤمنين عليّ- عليه السّلام- تتعتع، قال: فقلت له ذلك فقال: يا بنيّ: أدركت هذا منّي؟ قلت: نعم قال: يا بنيّ: اعلم أنّ العوامّ لو عرفوا من عليّ بن أبي طالب ما نعرفه نحن، لتفرّقوا عنّا إلى ولده، فلمّا ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة قطع السبّ وجعل مكانه قوله تعالى: إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ 16: 90 [1] ومدحه الشعراء على ذلك: فممن مدحه على ذلك كثير عزّة [2] بقوله وليت فلم تشتم عليّا، ولم تخف ... بريّا، ولم تتبع مقالة مجرم وقلت فصدّقت الّذي قلت بالذي ... فعلت، فأضحى راضيا كلّ مسلم وقد لبست لبس الهلوك [3] ثيابها ... وأبدت لك الدّنيا بخدّ ومعصم وتومض أحيانا بعين مريضة ... وتبسم عن مثل الجمان المنظّم فأعرضت عنها مشتمئزا كأنّما ... سقتك مدوفا [4] من سمام وعلقم وقد كنت منها في جبال أرومها [5] ... ومن بحرها في زاخر السّيل مفعم [6] (طويل)   [1] سورة النحل، الآية/ 90/. [2] كثيّر عزة: كثيّر بن عبد الرحمن الخزاعي. شاعر غزل ومدّاح، تشيع لآل عليّ ثم انحاز إلى بني أمية يمدحهم وينال عطاياهم. وكانت وفاته/ 105/ هـ. [3] الهلوك: البغيّ الفاجرة، من صفات الدنيا. [4] المدوف: الممزوج. [5] الأروم: الجذور. [6] وردت الأبيات مع بعض الاختلاف، انظر شرحها في ديوان كثيّر بشرح قدري مايو طبعة دار الجيل ص/ 342/. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 ورثاه الشّريف الرضيّ الموسويّ [1] بقوله: يا ابن عبد العزيز لو بكت العين ... فتى من أميّة لبكيتك أنت أنقذتنا من السبّ والشّتم ... فلو أمكن الجزاء جزيتك غير أني أقول: إنك قد طبت ... وإن لم يطب ولم يزك بيتك دير سمعان لا عدتك الغوادي [2] ... خير ميت من آل مروان ميتك (خفيف) وإليه الإشارة بقولهم: الأشجّ والنّاقص [3] أعدلا بني مروان. وسيجيء ذكر النّاقص فيما بعد إن شاء الله تعالى وكانت وفاته بدير سمعان في سنة إحدى ومائة. ثمّ ملك بعده يزيد بن عبد الملك كان خليع بني أميّة، شغف بجاريتين: اسم إحداهما «سلامة» واسم الأخرى «حبّابة» فقطع معهما زمانه. قالوا فغنّت يوما حبّابة: بين التّراقي [4] واللهاة [5] حرارة ... ما تطمئن ولا تسوغ [6] فتبرد (كامل) فأهوى يزيد بن عبد الملك ليطير، فقالت: يا أمير المؤمنين: لنا فيك حاجة فقال: والله لأطيرنّ، قالت: فعلى من تدع الأمّة؟ قال: عليك: وقبل يدها،   [1] الشّريف الرضيّ: محمّد بن الحسين بن موسى العلويّ. نقيب الأشراف الطالبيين في بغداد، جمع نهج البلاغة من كلام علي بن أبي طالب، وكان من أشعر أهل زمانه. توفي عام/ 406/ [2] لا عدتك الغوادي: لا جاوزتك الأمطار، دعاء للقبر بالسّقيا. دير سمعان: موضع موت عمر بن عبد العزيز ودفنه في شمال غربي حلب. [3] الأشجّ: لقب عمر بن عبد العزيز عرف به لأنه شجّ يوما بسقوطه من على ظهر بغلته، والناقص: هو الخليفة الأموي يزيد بن الوليد بن عبد الملك عرف به لإنقاصه العطايا. [4] التراقي: عظام أعلى الصدر. [5] اللهاة: لحيمة معترضة في الحلق. [6] تسوغ: تقبل وتحتمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 فخرج بعض خدمه وهو يقول: سخنت عينك فما أسخفك! فانظر إلى هذا وإلى أبيه عبد الملك حين خرج إلى قتال مصعب بن الزبير، وصدّته عاتكة بنت يزيد بن معاوية فلم يلتفت إليها، واستشهد بذينك البيتين! وقد سبق شرح ذلك في ترجمة عبد الملك بن مروان. ولم تكن دولة يزيد طائلة، ولا وقع فيها من الفتوح والوقائع ما تحسن حكايته. وكانت وفاته في سنة خمس ومائة عشقا وصبابة. ثمّ ملك بعده أخوه هشام بن عبد الملك كان هشام بخيلا شديد البخل، إلا أنّه كان غزير العقل حليما عفيفا. امتدّت أيّامه وجرى فيها وقائع. فمن وقائعها الشهيرة: قتل زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام. شرح مقتل زيد بن عليّ بن الحسين إمام الزيديّة رضي الله عنه كان زيد من عظماء أهل البيت- عليهم السّلام- علما وزهدا وورعا وشجاعة ودينا وكرما. وكان دائما يحدّث نفسه بالخلافة، ويرى أنّه أهل لذلك. وما زال هذا المعنى يتردّد في نفسه، ويظهر على صفحات وجهه وفلتات لسانه، حتّى كانت أيّام هشام بن عبد الملك، فاتّهمه بوديعة لخالد بن عبد الله القسريّ أمير الكوفة، فحمله إلى يوسف بن عمر أميرها في ذلك العصر، فاستخلفه أن ما لخالد عنده مال، وخلّى سبيله فخرج ليتوجّه إلى المدينة فتبعه أهل الكوفة وقالوا له: أين تذهب- يرحمك الله- ومعك مائة ألف سيف نضرب بها دونك، وليس عندنا من بني أميّة إلا نفر قليل؟ لو أنّ قبيلة واحدة منّا صمدت لهم لكفتهم بإذن الله، ورغّبوه بهذا، وأمثاله، فقال لهم: يا قوم إنّي أخاف غدركم، فإنّكم فعلتم بجدّي الحسين- عليه السّلام- ما فعلتم، وأبى عليهم. فقالوا: نناشدك الله إلا ما رجعت، ونحن نبذل أنفسنا دونك، ونعطيك من الأيمان والعهود والمواثيق ما تثق به، فإنّا نرجو أن تكون المنصور. وأن يكون هذا الزمان الّذي يهلك فيه بنو أميّة. فلم يزالوا به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 حتّى ردّوه. فلمّا رجع إلى الكوفة أقبلت الشّيعة تختلف [1] إليه يبايعونه، حتّى أحصى ديوانه خمسة عشر ألفا من أهل الكوفة، سوى أهل المدائن والبصرة، وواسط والموصل [2] . وأهل خراسان والريّ وجرجان والجزيرة وأقاموا بالكوفة شهورا ثم تمّ الأمر لزيد وخفقت الألوية على رأسه. قال: الحمد للَّه الّذي أكمل لي ديني، والله إنّي كنت أستحيي من رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- أن أرد عليه الحوض [3] غدا، ولم آمر في أمّته بمعروف، ولم أنه عن منكر فلما اجتمع الناس مع زيد أظهر أمره، ونابذ من خالفه فجمع له يوسف [4] بن عمر جموعا وبرز إليه وعبّأ كلّ منهما أصحابه والتقى الفريقان، وجرى بينهم قتال شديد فتفرّق أصحاب زيد عنه وخذلوه، فبقي في شرذمة يسيرة فأبلى هو- رضي الله عنه- بلاء حسنا، وقاتل قتالا شديدا فجاءه سهم فأصاب جبينه فطلب حدّادا فنزع السّهم من جبينه فكانت فيه نفسه فمات- رضي الله عنه- من ساعته، فحفر له أصحابه قبرا في ساقية ودفنوه فيه وأجروا الماء على قبره خوفا أن يمثّلوا به، فلما استظهر يوسف بن عمر أمير الكوفة تطلّب قبر زيد فلم يعرفه، فدلّه عليه بعض العبيد فنبشه وأخرجه فصلبه، فبقي مدّة مصلوبا، ثمّ أحرق وذرى رماده في الفرات (رضي الله عنه وسلّم عليه، ولعن ظالميه وغاصبيه حقّه، فلقد مضى شهيدا مظلوما) . وفي أيّامه انبثّت دعاة بني العبّاس في البلاد الشرقيّة، وتحرّكت الشيعة خفية وغزت جنود هشام التّرك بما وراء النّهر، وكانت لجنوده الغلبة، ثمّ بعد ذلك قتل خاقان.   [1] تختلف إليه: ترد على منزله جيئة وذهابا. [2] المدائن والبصرة وواسط والموصل: من مدن العراق، والأولى كانت عاصمة الفرس. [3] الحوض: مورد الماء العذب الموعود به بالجنّة. [4] يوسف بن عمر: أبو يعقوب الثّقفيّ، ولي اليمن ثمّ العراق لهشام بن عبد الملك فقتل سلفه في الإمارة خالد بن عبد الله القسريّ. كان بطّاشا كالحجّاج. حبسه الخليفة يزيد بن الوليد وقتل في سجنه عام/ 127/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ثمّ ملك بعده الوليد بن يزيد بن عبد الملك كان من فتيان بني أميّة وظرفائهم، وشجعانهم وأجوادهم وأشدائهم، منهمكا في اللهو والشرب وسماع الغناء، وكان شاعرا محسنا، له أشعار حسنة في العتاب والغزل ووصف الخمر. فمن جيّد شعره ما كتبه إلى هشام بن عبد الملك وقد عزم على خلفه- وكان هشام لمّا رأى استهتار الوليد بالمعاصي وعكوفه على اللذّات، طمع في الخلافة لابنه، وأراده على أن يخلع نفسه- وتناوله بلسانه وتهدّده- فكتب إليه الوليد بن يزيد: كفرت يدا [1] من منعم لو شكرتها ... جزاك بها الرحمن ذو الفضل والمنّ رأيتك تبني جاهدا في قطيعتي ... ولو كنت ذا حزم لهدّمت ما تبني أراك على الباقين تجني ضغينة ... فيا ويحهم إن مت من شرّ ما تجني كأنّي بهم يوما وأكثر قولهم: ... ألا ليت أنّا! حين «يا ليت» لا يغني (طويل) وقد سرق الناس معانيه وأودعوها أشعارهم. فممّن سرق معانيه أبو نواس أخذ معانيه في وصفه الخمر. وممّا يحكى عن الوليد بن يزيد: أنّه استفتح فألا في المصحف فخرج وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ 14: 15 فألقاه ورماه بسهام وقال: تهدّدني بجبّار عنيد ... نعم، أنا ذاك جبّار عنيد إذا ما جئت ربّك يوم بعث ... فقل: يا ربّ خرقني الوليد (وافر) فلم يلبث بعد هذا إلا يسيرا [2] حتى قتل. وكان السّبب في قتله: أنّه كان قبل الخلافة على ما وصفنا من اللهو والشرب، وانتهاك حرمات الله (عزّ وجلّ) فلمّا أفضت إليه الخلافة لم يزد إلا انهماكا في اللذات، واستهتارا بالمعاصي، وضمّ   [1] اليد: هنا، الإنعام والمعروف. [2] يسيرا: أمدا قليلا، مدّة قصيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 إلى ذلك ما ارتكبه من إغضاب أكابر أهله، والإساءة إليهم وتنفيرهم. فاجتمعوا عليه مع أعيان رعيّته وهجموا عليه وقتلوه وكان المتولّي لذلك يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وذلك في سنة ستّ وعشرين ومائة. ثمّ ملك بعده يزيد بن الوليد بن عبد الملك كان يظهر التنسّك، وكان يقال: إنّه قدريّ. وسمّي: «النّاقص» لأنه نقص من أعطيات أهل الحجاز ما كان قد زادهم الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فسمّي الناقص لهذا السبب، ولما بويع بالخلافة خطب الناس، وقال لهم كلاما حسنا أنا مثبته ها هنا لحسنه. خطبهم وذكر الوليد بن يزيد وإلحاده، وقال: سيرته كانت خبيثة كان منتهكا لحرمات الله فقتلته. ثم قال: أيّها الناس: إنّ لكم عليّ ألا أضع حجرا على حجر، ولا لبنة، على لبنة، ولا أكري [1] نهرا، ولا أكنز مالا، ولا أنقل مالا من بلد إلى بلد حتى أسدّ ثغرة وخصاصة [2] أهله منه بما يغنيهم. فما فضل [3] منه نقلته إلى البلد الآخر الّذي يليه، ولا أغلق بابي دونكم، ولكم أعطياتكم في كلّ سنة، وأرزاقكم كلّ شهر حتّى يكون أقصاكم كأدناكم. فإن وفيت لكم بما قلت فعليكم بالسّمع والطاعة وحسن المؤازرة. وإن لم أحرف [4] ، فلكم أن تخلعوني إلا أن أتوب. وإن كنتم تعلمون أنّ أحدا ممن يعرف بالصلاح يعطيكم من نفسه ما قد بذلت لكم وأردتم أن تبايعوه فأنا أوّل من يبايعه معكم. إنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» . أقول: إنّ هذا الكلام حسن بالنسبة إلى ذلك الزمان وإلى اصطلاح أهله، فإنّ هذه الشّرائط هي التي كانت معتبرة عندهم في استحقاق الرئاسة. فأمّا في هذا العصر فلو افتخر ملك من الملوك بأنّه لا يكري نهرا ولا يضع حجرا على حجر،   [1] كرى النهر: حفر فيه حفرة جديدة. [2] الثغرة: الثّلمة والنقص، والخصاصة: الفقر والحاجة. [3] فضل: زاد. [4] أحرف الرّجل: كدّ على عياله وسعى لخيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 أو ندب رعيّته إلى تمليك غيره لعدّ سفيها، ولكان جديرا في اصطلاحهم بأن يملك غيره. وفي تلك الأيّام شرع حبل بني أميّة يضطرب، وشرعت الدولة العبّاسيّة تنبع [1] وانبعثت الدعاة في الأمصار. وكانت وفاته في سنة ستّ وعشرين ومائة. ثمّ ملك بعده أخوه إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان كانت تلك الأيام أيام فتن، وكان حبل بني أميّة قد اضطرب. فلمّا مات يزيد ابن الوليد بن عبد الملك بويع أخوه إبراهيم بيعة لم تكن بطائل [2] . فكان ناس يسلّمون عليه بالخلافة، وناس بالإمارة، وناس ربّما يسلّمون عليه بواحدة منهما. واضطرب أمره فمكث سبعين يوما، وسار إليه مروان بن محمّد بن مروان فخلعه، وبويع له بالخلافة وجلس على سرير المملكة، وذلك بعد حروب وفتن ووقائع يشيب منها الولدان. ثمّ ملك بعده مروان بن محمّد بن مروان هو آخر خلفاء بني أميّة، وعنه انتقلت الدولة إلى بني العبّاس، ويقال له: الجعديّ، ويقال له: الحمار. وإنّما لقّب بالحمار، قالوا لصبره في الحرب، وكان شجاعا صاحب دهاء ومكر. وكانت أيّامه أيّام فتن وهرج ومرج. ولم تطل أيّامه حتّى هزمته الجيوش العبّاسيّة وتبعته إلى بلاد مصر، فقتل بقرية اسمها «بوصير» من قرى الصّعيد وذلك سنة اثنتين وثلاثين ومائة. وفي أيّامه خرج عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.   [1] تنبع: تظهر. [2] الطائل: الجدوى والفائدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 شرح كيفيّة الحال في ذلك على سبيل الاختصار لما اضطرب حبل بني أميّة وبويع مروان ثارت الفتن بين النّاس، واختلفت كلمتهم، فكلّ يرى رأيا ويذهب مذهبا. وكان بالكوفة رجل من ولد جعفر الطيّار- عليه السّلام- اسمه عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وكان فاضلا شاعرا فحدثته نفسه بالأمر. ورأى أهل الكوفة اختلاف الأمور بدمشق واضطراب حبل بني أميّة، فحضروا إلى هذا عبد الله وبايعوه، واجتمعوا حوله خلائق: فبرز إليهم أمير الكوفة يومئذ فقاتلهم بمن معه، وتصابر [1] الفريقان مدّة ففي آخر الأمر طلب أهل الكوفة لأنفسهم ولعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر الأمان من أمير الكوفة، ليتوجّهوا أين شاءوا من بلاد الله. وكان أمير الكوفة ومن معه قد ملّوا القتال فأعطاهم الأمان، فتوجّه عبد الله إلى المدائن [2] وعبر دجلة، وغلب على حلوان [3] وما قاربها- ثم توجّه إلى بلاد العجم فغلب على تلك الجبال وهمذان وأصفهان والرّيّ والتحق به قوم من بني هاشم وبقي على ذلك مدّة. وكان أبو مسلم الخراسانيّ قد قويت شوكته، فسار إلى هذا عبد الله فقتله. ثمّ أظهر الدولة العبّاسيّة، ثمّ ظهرت الدولة العبّاسيّة واشتهرت دعوتها.   [1] تصابر الفريقان: صمد كلّ منهما للآخر. [2] المدائن: كانت عاصمة الفرس، فتحها العرب بعد معركة القادسيّة، وتخلّفت عنها آثار منها إيوان كسرى. وموقعها جنوبيّ بغداد. [3] حلوان: يبدو أنها بليدة في العراق غير تلك التي في مصر وتقع جنوبي القاهرة، والدليل اجتيازها إلى مدن فارس المذكورة من همذان وأصفهان والرّيّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 [ الكلام على الدولة العباسية ] ذكر انتقال الملك من بني أميّة إلى بني العبّاس لا بدّ قبل الخوض في ذلك من مقدّمة، يشرح فيها ابتداء أمر أبى مسلم الخراساني فإنّه رجل الدّولة وصاحب الدّعوة، وعلى يده كان الفتح. شرح ابتداء أمر أبي مسلم الخراسانيّ ونسبه أمّا نسبه: ففيه اختلاف كثير لا فائدة في استقصاء القول فيه، فقيل: هو حرّ من ولد بزرجمهر، وإنّه ولد بأصفهان ونشأ بالكوفة، فاتّصل بإبراهيم الإمام ابن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس، فغيّر اسمه وكنّاه بأبي مسلم وثقّفه وفقّهه حتى كان منه ما كان. وقيل: هو عبد، تنقّل في الرقّ حتّى إبراهيم الإمام، فلما رآه أعجبه سمته وعقله، فابتاعه من مولاه وثقّفه وفهّمه، وصار يرسله إلى شيعته وأصحاب دعوته بخراسان وما زال على ذلك حتى كان من الأمر ما كان. وأمّا هو: فإنه لمّا قويت شوكته، ادّعى أنّه ابن سليط بن عبد الله بن العبّاس ثم ترسّل أبو مسلم لإبراهيم الإمام إلى خراسان ودعا إليه سرّا. وما زال على ذلك حتّى ظهرت الدعوة وتمّ الأمر. مقدّمة أخرى قبل الخوض فيها قال الله تعالى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ 3: 140 [1] . وعزّى بعض الحكماء بعض الملوك عن مملكة خرجت عنه فقال: لو بقيت لغيرك لما وصلت إليك. واعلم- علمت الخير- أنّ هذه دولة من كبار الدّول، ساست العالم سياسة ممزوجة بالدّين والملك، فكان أخيار الناس وصلحاؤهم يطيعونها تدينا، والباقون يطيعونها رهبة أو رغبة، ثمّ مكثت فيها الخلافة والملك حدود ستمائة سنة، ثم   [1] سورة آل عمران، الآية/ 140/. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 طرأت عليها دول كدولة بني بويه [1] ، وكانت عظمتها كما علمت، وفيها كبشهم وفحلهم عضد الدولة فناخسرو وكدولة بني سلجوق [2] وفيها مثل طغرلبك. وكالدّولة الخوارزمشاهية [3] وفيها مثل علاء الدين، وجريدة عسكره مشتملة على أربعمائة ألف مقاتل. وكدولة الفاطميّين بمصر، وقد وجّهوا عسكرا صحبة عبد من عبيدهم اسمه جوهر [4] لم ير عسكر أكثف منه، حتّى قال فيه شاعرهم وهو محمّد بن هانئ [5] المغربيّ: فلا عسكر من قبل عسكر جوهر ... تخبّ المطايا فيه عشرا وتوضع (طويل) وكخوارج خرجوا في أثنائها بجموع كثيرة، وحشود عظيمة. كلّ ذلك ولم يزل مملكهم، ولم تقو دولة على إزالة ملكهم ومحو أثرهم، بل كان الملك من هؤلاء المذكورين يجمع ويحتشد ويجرّ العساكر العظيمة، حتى يصل إلى بغداد، فإذا وصل التمس الحضور بين يدي الخليفة، فإذا حضر قبّل الأرض بين يديه، وكان قصارى ما يتمنّاه أن يوليه الخليفة ويعقد له لواء ويخلع عليه. فإذا فعل   [1] بنو بويه: أسرة فارسية حكمت في أصفهان وشيراز وكرمان وبغداد. أسّسها أبو شجاع بويه وأولاده الثلاثة عماد الدولة وركن الدولة ومعزّ الدولة الّذي دخل بغداد في عهد الخليفة المستكفي وخلعه سنة/ 334/ هـ. قضى على دولتهم طغرلبك السلجوقي عام/ 447/ هـ. [2] دولة بني سلجوق: هي الدولة التي قضت على البويهيين وخلفتهم في التنفّذ في بغداد/ 447- 656/ هـ حين قضى عليها جنكيزخان وخلفاؤه ومنهم هوركو. تفرعت أسرة السلاجقة ما بين سورة والعراق ورومية وخلفها الأتابكة. [3] الخوارزمشاهيّة: دولة تنفذت على بخارى وسمرقند إلى أن غزاها جنكيزخان وتيمور لنك، وتقع أراضيها اليوم في أوزبكستان من دويلات الاتحاد السوفياتي السابق. كان استمرارها/ 1097- 1231/ م. [4] جوهر: هو المعروف بجوهر الصقليّ فتح مصر للمعزّ الفاطمي، وأنشأ مدينة القاهرة وبنى الأزهر عام/ 359/ هـ توفي عام/ 381/ هـ. [5] محمّد بن هانئ المغربيّ: أصله من الأندلس ولد بإشبيليّة. لقب بمتنبي المغرب، مدح المعزّ الفاطمي، ومات مقتولا في برقة عام/ 362/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 الخليفة ذلك قبل الملك الأرض بين يديه، ومشى في ركابه راجلا، والغاشية [1] تحت إبطه، كما فعل مسعود السّلطان مع المسترشد فإنّ المسترشد وقعت بينه وبين مسعود منابذة أدّت إلى محاربة، فخرج المسترشد بعسكر كثيف وصحبته جميع أرباب الدّولة، فالتقى هو والسلطان مسعود [2] بظاهر مراغة فاقتتلوا ساعة، ثمّ انكشف الغبار وقد انهزم أصحاب المسترشد، واستولى عسكر مسعود، فانجلى الغبار والخليفة ثابت على ظهر فرسه، وفي يده المصحف وحواليه القرّاء والقضاة والوزراء لم ينهزم أحد منهم، وإنّما انهزم المقاتلون. فلما نظر السّلطان مسعود إليهم، أرسل من قاد دابّة الخليفة وأدخله إلى خيمة قد نصبت له وأخذ أرباب دولته فحبسهم في قلعة قريبة من تلك النواحي، ثم غنموا جميع ما كان في عسكر الخليفة. وبعد أيّام اجتمع السلطان بالخليفة وعاتبه على فعله، ثم تقرّر بينهم أمر الصلح فاصطلحا، وركب الخليفة إلى مخيم عظيم ضربه لأجله السّلطان. فلما ركب الخليفة أخذ السّلطان مسعود الغاشية ومشى في ركابه، ثم جرى من قتل المسترشد ما نذكره بعد هذا. فهذه الدول جميعها طرأت على دولة بني العبّاس، ولم تقو نفس أحد على إزالة ملكهم ومحو آثارهم. وكانت لهم في نفوس الناس منزلة لا تدانيها منزلة أحد آخر من العالم، حتى إنّ السلطان «هولاكو» لما فتح بغداد، وأراد قتل الخليفة أبي أحمد عبد الله المستعصم- ألقوا إلى سمعه أنه متى قتل الخليفة اختلّ نظام العالم واحتجبت الشّمس وامتنع القطر والنبات. فاستشعر لذلك، ثمّ سأل بعض العلماء في حقيقة الحال عن ذلك فذكر ذلك العالم له الحقّ في هذا، وقال: إنّ عليّ ابن أبي طالب كان خيرا من هذا الخليفة بإجماع العالم، ثم قتل ولم تجر هذه المحذورات، وكذلك الحسين. وكذلك أجداد هذا الخليفة، قتلوا وجرى عليهم كلّ مكروه، وما احتجبت الشمس ولا امتنع القطر فحين سمع زال ما كان قد حصل في   [1] الغاشية: الزوّار والحاشية. [2] مسعود: هو مسعود بن محمد السلجوقي خلع الخليفة العباسي المسترشد/ 529/ هـ وعبث بالحكم في بغداد حتى تولى المقتفي/ 530/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 خاطره، واعتذر ذلك العالم عن هذا القول بأن هيبة السّلطان كانت عظيمة وسطوته مرهوبة، فما تجاسرت أن أقول بين يديه غير الحقّ. فهذا كان اعتقاد النّاس في بني العبّاس. وما قويت دولة من الدول على إزالة مملكتهم ومحو أثرهم سوى هذه الدولة القاهرة. نشر الله إحسانها وأعلى شأنها. فإن السلطان هولاكو لما فتح بغداد وقتل الخليفة، محا أثر بني العبّاس كلّ المحو، وغيّر جميع قواعدهم. حتّى إن الّذي كان يتلفّظ باسم بني العبّاس كان على خطر من ذلك. وها هنا موضع حكاية حدّثني نصر المليسيّ الحبشيّ أحد خدّام السّلطان- مدّ الله معدلته [1] ، وأعلى في الدارين درجته- وكان قبل ذلك للخليفة المستعصم قال: لما ملكت بغداد أخرجوني وأنا صغير في جملة الخدم، فلازمنا خدمة الدّركاه [2] أيّاما. فلمّا بعدنا من بغداد أحضرنا السّلطان هولاكو يوما بين يديه، وكان علينا زيّ الخلافة، فقال: أنتم كنتم قبل هذا للخليفة، وأنتم اليوم لي. فينبغي أن تخدموني خدمة جيدة بنصيحة وتزيلوا من قلوبكم اسم الخليفة، فذاك شيء كان ومضى. وإن آثرتم تغيير هذا الزّي، والدّخول في زيّنا كان أصلح. قال: قلنا: السّمع والطاعة. ثم غيّرنا زينا ودخلنا زيّهم. شرح ابتداء الدولة العباسيّة روي أنّ الرسول- صلوات الله عليه- كان يجري على لفظه الشريف ما معناه البشارة بدولة هاشميّة. فزعم ناس أنه قال: تكون لرجل من ولدي. وزعم ناس أنه- عليه الصلاة والسّلام- قال لعمّه العبّاس- رضي الله عنه وسلّم-: إنّها تكون في ولدك، وأنه حين أتاه بابنه عبد الله أذّن في أذنه وتفل في فيه، وقال   [1] معدلته: سلطان عدله. [2] الدّركاه: القصر أو السّدّة السلطانية باللغة الفارسية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 «اللَّهمّ فقّهه في الدين وعلّمه التأويل» ثمّ دفعه إلى أبيه وقال له: خذ إليك أبا الأملاك. فمن زعم هذا الزعم قال: إن الدولة العباسيّة هي الدولة المبشّر بها، وكانت دولة بني أميّة مكروهة عند الناس ملعونة مذمومة، ثقيلة الوطأة مستهترة بالمعاصي والقبائح فكان الناس من أهل الأمصار ينتظرون هذه الدولة صباح مساء، وكان محمّد بن عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- وهو المعروف بابن الحنفيّة، قد اعتقد فيه أنّه صاحب الدّولة بعد قتل أخيه الحسين- عليه السّلام- ما عدا الإماميّة، فإنّ اعتقادهم إمامة عليّ بن الحسين زين العابدين- عليه السّلام- وإمامة بنيه واحدا بعد واحد إلى القائم محمّد بن الحسن (عليه السّلام) . فلما مات محمّد بن الحنفية [1]- عليه السّلام- أوصى إلى ابنه أبي هاشم عبد الله. وكان أبو هاشم من رجال أهل البيت- عليهم السّلام- فاتّفق أنّه قصد دمشق وافدا على هشام بن عبد الملك، فبرّه هشام ووصله، ثمّ رأى من فصاحته ورياسته وعلمه ما حسده عليه وخاف منه، فبعث إليه وقد رجع إلى المدينة من سمّه في لبن. فلمّا علم بذلك عدل إلى محمّد بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس، وكان نازلا بالحميمة من أرض الشأم، فأعلمه أنّه ميّت وأوصى إليه، وكان صحبته جماعة من الشّيعة فسلّمهم إليه وأوصاه فيهم ثمّ مات- رضي الله عنه- فتهوّس محمّد بن عبد الله بالخلافة منذ يومئذ، وشرع في بثّ الدّعوة سرّا، وما زال الأمر على ذلك حتّى مات وخلّف أولاده. وهم جماعة: منهم إبراهيم الإمام، والسفّاح والمنصور، فقام إبراهيم الإمام بالأمر بعد أبيه، واستكثر من إرسال الدّعاة إلى الأطراف، خصوصا إلى خراسان فإنّهم كانوا أشدّ وثوقا بأهل خراسان من غيرهم من أهل الأمصار.   [1] محمّد بن الحنفيّة: ابن علي بن أبي طالب وأخو الحسن والحسين ولكن أمّه غير فاطمة الزهراء، بل هي خولة بنت جعفر الحنفيّة وإليها ينسب. كان أسود اللون، تقيّا ورعا. دعا المختار الثقفيّ إلى إمامته. حبسه عبد الله بن الزبير ليكرهه على بيعته. توفي بالطائف/ 81/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 أمّا أهل الحجاز. فقليلون. وأما أهل الكوفة والبصرة، فكان أهل البيت مذعورين لما جرى منهم على أمير المؤمنين- عليه السّلام- والحسن والحسين- عليهما السّلام- من الخذلان والغدر، وسفك الدّم. وأمّا أهل الشام ومصر- فهواهم في بني أميّة، وحبّ بني أميّة رسخ في قلوبهم. فلم يبق لهم من يسكنون إليه من أهل الأمصار إلا أهل خراسان. وكان يقال- إنّ الرايات السّود الناصرة لأهل البيت تخرج من خراسان. فأرسل إبراهيم الإمام جماعة من الدّعاة إلى خراسان، وكاتب مشايخها ودهاقينها فأجابوه ودعوا إليه سرّا. وأرسل في آخر الأمر أبا مسلم، فمضى إلى هناك وجمع الجموع. كلّ ذلك والأمر سرّ، والدّعوة مخفية لم تظهر بعد. فلمّا كانت أيام مروان الحمار بن محمّد بن مروان- آخر خلفاء بني أميّة- كثر الهرج والمرج، ونما الشّرّ وثارت الفتن، واضطرب حبل بني أميّة، واختلفت كلمتهم وقتل بعضهم بعضا- أظهر أبو مسلم دعوة بني العباس، واجتمع إليه كلّ من له في ذلك رأي من أهل خراسان، وجرّ عسكرا كثيفا ليقاتل به أمير خراسان وهو نصر بن سيّار [1] . فلمّا بلغ نصرا حال أبي مسلم وجموعه، راعه ذلك فكتب إلى مروان الحمار: أرى بين الرّماد وميض نار ... ويوشك أن يكون لها ضرام فإن لم يطفها عقلاء قوم ... يكون وقودها جثث وهام فإنّ النار بالعودين تذكى ... وإنّ الحرب أوّلها كلام فقلت من التعجّب ليت شعري ... أأيقاظ أميّة أم نيام؟ فكتب إليه مروان: إنّ الحاضر يرى ما لا يرى الغائب، فاحسم أنت هذا الداء الّذي قد ظهر عندك. فقال نصر بن سيّار لأصحابه: أما صاحبكم فقد أعلمكم أنه لا نصر عنده. وتواترت الأخبار إلى مروان بهذا الأمر، وحبله كلما جاء خبر   [1] نصر بن سيّار: أمير داهية شجاع ولّي على خراسان عام/ 120/ هـ من قبل هشام بن عبد الملك فغزا وفتح وأقام بمرو، وحين قويت الدعوة العبّاسيّة حذّر مروان بن محمّد وأخذ يتنقّل في طلب النجدة ضدّ أبي مسلم قائد الدعوة العباسية. مات بساوة/ 131/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 يضطرب، وأمره في كلّ يوم يضعف. ثم بلغه أن الّذي تدعو الدعاة إليه هو إبراهيم بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس أخو السفّاح والمنصور، فأرسل إليه وقبض عليه، وأحضره إلى حرّان فحبسه فيها، ثمّ سمّه في الحبس فمات. ثمّ جرت بين أبي مسلم وبين نصر بن سيّار وغيره من أمراء خراسان حروب ووقائع، كانت الغلبة فيها للمسوّدة وهم عسكر أبي مسلم، وإنّما سمّوا- المسودة لأنّ الزّي الّذي اختاروه لبني العبّاس هو لون السّواد. فانظر إلى قدرة الله تعالى وأنه إذا أراد أمرا هيّأ أسبابه، وإذا أراد أمرا فلا مردّ لأمره. لما قدّر الله انتقال الملك إلى بني العبّاس هيّأ جميع الأسباب- فكان إبراهيم الإمام ابن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس بالحجاز أو بالشام جالسا على مصلاه مشغولا بنفسه وعبادته ومصالح عياله، ليس عنده من الدّنيا طائل، وأهل خراسان يقاتلون عنه ويبذلون نفوسهم وأموالهم دونه، وأكثرهم لا يعرفه ولا يفرّق بين اسمه وشخصه. وانظر إلى إبراهيم الإمام، هو بتلك الحالة من الانقطاع بداره واعتزال الدّنيا وهو بالحجاز أو بالشام، وله مثل هذا العسكر العظيم في خراسان يبذلون نفوسهم دونه، لا ينفق عليهم مالا، ولا يعطي أحدهم دابّة ولا سلاحا. بل هم يجبون إليه الأموال ويحملون إليه الخراج في كلّ سنة. ولما قدّر الله تعالى خذلان مروان، وانقراض ملك بني أميّة، وكان مروان خليفة مبايعا، ومعه الجنود والأموال والسّلاح، والدّنيا بأجمعها عنده، والنّاس يتفرّقون عنه وأمره يضعف، وحبله يضطرب، فما زال يضمحلّ حتّى هزم وقتل، فتعالى الله!!. ولمّا غلب أبو مسلم على خراسان واستولى على كورها [1] وقويت شوكته سار إلى العراق بالجنود. وكان لمّا قبض مروان على إبراهيم الإمام وحبسه بحرّان [2] وكان لهم بها شيعة- منهم أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال. وكان من كبار   [1] كورها: قراها المسكونة، جمع كورة: وهي البقعة المأهولة أو القرية. [2] حرّان: مدينة قديمة تقع ما بين النهرين في تركيا اليوم، نقل إليها مروان بن محمّد الأموي مقرّ إدارته في أواخر أيّام الدولة الأمويّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 الشّيعة بالكوفة وصار بعد ذلك وزيرا للسفّاح، ثم قتله السفّاح، وسيرد ذكره عند ذكر الوزراء. فأخلى لهم أبو سلمة الخلال دارا بالكوفة، وأمر لهم بها، وتولّى خدمتهم بنفسه، وكتم أمرهم، واجتمعت الشّيعة إليه، وقويت شوكتهم. فوصل أبو مسلم بالجنود من خراسان إلى الكوفة. فدخل على بني العبّاس وقال: أيكم ابن الحارثية؟ فقال له المنصور: هذا- وأشار إلى السفّاح وكانت أمّه حارثيّة- فسلّم أبو مسلم عليه بالخلافة [1] بين يديه إلى الجامع، فصلّى وصعد المنبر وأظهر الدّعوة وخطب الناس وبويع بالخلافة. وذلك في سنة مائة واثنتين وثلاثين، وهذا أوّل دولة بني العبّاس، وآخر دولة بني أميّة. ثم عسكر السفّاح ظاهر الكوفة، ووفد عليه الناس من الأمصار يبايعونه. فلمّا اجتمع عنده النّاس وقويت شوكته، ندب رجلا من أقاربه لقتال مروان الحمار، فانتدب لذلك عمّه عبد الله بن عليّ وكان من رجال بني العبّاس، فتوجّه عبد الله بن عليّ إلى مروان فلقيه بالزّاب [2] ، ومع مروان مائة وعشرون ألف مقاتل ولا يكون مع عبد الله بن عليّ إلا الأقلّ من ذلك فصنع الله تعالى لعبد الله بن عليّ أنواع الصّنع، وخذل مروان كلّ الخذلان، فانظر واعتبر!. شرح كيفيّة الوقعة بالزّاب وخذلان مروان وانهزامه لما التقى على الزّاب مروان الحمار وعبد الله بن عليّ، قال مروان لبعض أصحابه إن غابت شمس هذا النهار ولم يقاتلون [3] فالخلافة فينا، ونحن نسلّمها في آخر الزمان إلى المسيح عليه السّلام، وأمر أصحابه بالكفّ عن القتال، وقصد أن ينقضي النّهار ولا يقع قتال. ثم أرسل إلى عبد الله بن عليّ يسأله الموادعة، فقال   [1] فسلّم أبو مسلم عليه بالخلافة: تمام العبارة بعدها [وخرج السفّاح ومعه إخوته وعمومته وأقاربه وأكابر الشيعة وأبو مسلم بين يديه إلى الجامع، فصلّى..] . انظر طبعة بيروت ص 146، وألما ص 172، ورحما ص 105. [2] الزّاب: اسم لرافدين من روافد نهر دجلة. وقد جرت الموقعة بين مروان بن محمّد وعبد الله بن عليّ على الزاب الكبير ويلتقي بدجلة جنوب الموصل. [3] يقاتلون: الصواب فيها: يقاتلونا. انظر طبعة بيروت ص 146، وألما ص 173 ورحما ص 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 عبد الله: كذب لا تزول الشمس حتى أوطئه الخيل إن شاء الله تعالى. فكان من الاتّفاقات الطريفة، أنّ صهر مروان حمل على قطعة من عسكر عبد الله بن عليّ فردّه مروان وشتمه فلم يقبل، ونشب القتال. فأمر عبد الله بن عليّ أصحابه بالمناجزة [1] فجثوا على الركب وأشرعوا الرّماح. ونادى عبد الله بن عليّ: يا ربّ حتى متى نقتل فيك؟ ونادى: يا أهل خراسان، يا لثارات إبراهيم الإمام! واشتدّ القتال، فصار مروان إذا أمر طائفة من العسكر بشيء قالوا: قل للطائفة الأخرى وبلغ من أمره أنه قال لصاحب شرطته: انزل إلى الأرض، فقال: لا والله، لا ألقي نفسي في التهلكة. فقال له مروان: لأفعلنّ بك، وتهدّده. فقال: وددت أنك تقدر على ذلك. ثم رأى مروان فترة أصحابه ومناجزة أصحاب عبد الله ابن عليّ فوضع مروان ذهبا كثيرا قدّام الناس، وقال: أيّها الناس: قاتلوا وهذا المال لكم فصار الناس يمدّون أيديهم إلى المال، ويتناولون منه شيئا شيئا، فقال بعض الناس لمروان، إنّ الناس قدّموا أيديهم إلى المال، ولا نأمن أنهم يذهبون به فأمر ابنه أن يسير في أواخر العسكر، فمن وجد معه شيئا من المال قتله. فرجع ابنه برايته ليتعهّد ما قال فرأى الناس الراية راجعة، فنادوا: الهزيمة الهزيمة. فانهزم الناس ومروان أيضا، وعبروا دجلة، فكان من غرق أكثر ممن قتل وتلا عبد الله بن عليّ: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ 2: 50 [2] ثم انتقل إلى عسكر مروان، وغنم ما فيه، وأقام به سبعة أيام. شرح مقتل مروان الحمار [3] ثمّ إنّ مروان مضى منهزما حتى وصل الموصل، فقطع أهلها الجسر ومنعوه من العبور، فنادى أصحابه، يا أهل الموصل، هذا أمير المؤمنين يريد العبور. فناداهم أهل الموصل، كذبتم، أمير المؤمنين لا يفرّ. وسبّه أهل الموصل   [1] المناجزة: الهجوم بالقتال. المقاتلة. [2] سورة البقرة، الآية:/ 50/. [3] انظر «تاريخ الخلفاء» لجلال الدين السيوطي. ص 244 طبعة دار القلم العربيّ للاطلاع على سبب تلقيب مروان بالجعديّ، وبالحمار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وقالوا له: الحمد للَّه الّذي أزال سلطانكم وذهب بدولتكم. الحمد للَّه الّذي أتانا بأهل بيت نبيّنا. فلمّا سمع ذلك سار إلى بلد وعبر دجلة وأتى حرّان، ثمّ منها إلى دمشق ثمّ منها إلى مصر وتبعه عبد الله بن عليّ، ثم أرسل خلفه بعض أصحابه فرآه بقرية من قرى الصّعيد اسمها «بوصير» فخرج إليهم ليلا مروان وقاتلهم، فقال لجند بني العباس أميرهم: إن أصبحنا ورأوا قلّتنا أهلكونا ولم ينج منا أحد، فناجزوا القوم. وكسر جفن [1] سيفه، وفعل أصحابه مثله، وحملوا عليهم فانهزموا. وحمل رجل على مروان فطعنه وهو لا يعرفه فصرعه، وصاح صائح، صرع أمير المؤمنين! فابتدروه، فسبق إليه رجل من أهل الكوفة فاحتزّ رأسه، ثم نفض الرّأس وقطع لسانه فأكلته هرة كانت هناك. ثم حمل الرّأس إلى السفاح فوصل إليه وهو بالكوفة، فلما رآه سجد، ثم رفع رأسه وقال: الحمد للَّه الّذي أظهرني [2] عليك، وأظفرني بك، ولم يبق ثأري قبلك وتمثل [3] : لو يشربون دمي لم يرو شاربهم ... ولا دماؤهم للغيظ ترويني [4] (بسيط) ثم صفا الملك للسفّاح. وهي التي تسلمت الملك من الدولة الأموية واعلم أنّ الدولة العباسية كانت دولة ذات خدع ودهاء وغدر، وكان قسم التحيّل والمخادعة فيها أوفر من قسم القوة والشدّة، خصوصا في أواخرها. فإنّ المتأخّرين منهم بطلوا قوّة الشدّة والنّجدة، وركنوا إلى الحيل والخدع وفي مثل ذلك يقول كشاجم [5] مشيرا إلى موادعة أصحاب السّيوف، وعداوة أصحاب الأقلام ومقاتلة بعضهم لبعض:   [1] جفن السيف: قرابه أو غمده. وكسر الجفن كناية عن الاستمرار في القتال والمناجزة. [2] أظهرني: نصرني. [3] تمثّل: قال شعرا في المناسبة. [4] معنى البيت: إنّ أعدائي من بني أميّة لم يكن ليشفيهم من حقدهم عليّ شاف حتى لو شربوا دمي، كما أنّني لا أشتفي بدمائهم، لشدّة غيظي منهم، وحقدي عليهم. [5] كشاجم: أبو الفتح محمود بن الحسين، كاتب وشاعر وأديب مبدع ومتفنن فارسيّ الأصل ولد في العراق وأقام في حلب ومدح الحمدانيين. توفي/ 350/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 هنيئا لأصحاب السّيوف بطالة ... تقضى بها أوقاتهم في التنعم فكم فيهم من وادع العيش لم يهج ... لحرب ولم ينهد لقرن [1] مصمّم يروح ويغدو عاقدا في نجاده ... حساما سليم الحدّ لم يتثلم ولكن ذوو الأقلام في كلّ ساعة ... سيوفهم ليست تجفّ من الدم (طويل) وفيها يقول بعض الشعراء، حين قتل المتوكل وزيره محمد بن عبد الملك الزيات: يكاد القلب من جزع يطير ... إذا ما قيل: قد قتل الوزير أمير المؤمنين قتلت شخصا ... عليه رحاكم كانت تدور [2] فمهلا يا بني العبّاس مهلا ... لقد كويت بغدركم الصّدور (وافر) إلا أنّها كانت دولة كثيرة المحاسن جمّة والمكارم. أسواق العلوم فيها قائمة وبضائع الآداب فيها نافقة، وشعائر الدين فيها معظّمة، والخيرات فيها دارّة [3] ، والدّنيا عامرة، والحرمات مرعيّة، والثغور محصّنة، وما زالت على ذلك حتى كانت أواخرها فانتشر الجبر [4] واضطرب الأمر، وانتقلت الدولة. وسيرد ذلك في موضعه مشروحا إن شاء الله تعالى. وهذا أوان الشروع في ذكر خليفة خليفة. أول خليفة ملك منهم: السفّاح هو أبو العبّاس عبد الله بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بويع في سنة مائة واثنتين وثلاثين.   [1] القرن: النّدّ المماثل. ينهد: يبرز متصدّيا. [2] رحاكم كانت تدور: كناية عن خدمة الوزير للخليفة وإخلاصه في مهمّته. [3] دارّة: كثيرة الدّرّ أي الفوائد، استعارة من درّ الضرع باللبن. [4] الجبر: الإكراه والتعسّف، الظّلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 كان كريما حليما وقورا عاقلا كاملا، كثير الحياء حسن الأخلاق. ولما بويع واستوسق [1] له الأمر تتبّع بقايا بني أمية ورجالهم، فوضع السّيف فيهم. وفي بعض أيّامه كان جالسا في مجلس الخلافة، وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك وقد أكرمه السفاح، فدخل عليه سديف الشاعر فأنشده: لا يغرنك ما ترى من رجال ... إنّ تحت الضّلوع داء دويّا [2] فضع السّيف وارفع السّوط حتّى ... لا ترى فوق ظهرها أمويا (خفيف) فالتفت سليمان وقال: قتلتني يا شيخ! ودخل السفّاح وأخذ سليمان فقتل. ودخل عليه شاعر آخر وقد قدّم الطعام، وعنده نحو سبعين رجلا من بني أميّة. فأنشده: أصبح الملك ثابت الآساس ... بالبهاليل [3] من بني العبّاس طلبوا وتر [4] هاشم فشفوها ... بعد ميل من الزّمان وياس لا تقيلنّ عبد شمس عثارا ... واقطعن كلّ رقلة [5] وغراس ذلّها أظهر التودّد منها ... وبها منكم كحزّ المواسي [6] ولقد غاظني وغاظ سوائي [7] ... قربهم من نمارق وكراسي أنزلوها بحيث أنزلها الله ... بدار الهوان والإنعاس واذكروا مصرع الحسين وزيد ... وقتيلا بجانب المهراس والقتيل الّذي بحرّان أضحى ... ثاويا بين غربة وتناس (خفيف)   [1] استوسق: اجتمع وانقاد. [2] الداء الدويّ: الوبيل، المعلّ للصحّة. [3] البهاليل: جمع بهلول، وهو السيّد الجامع لكلّ خير. [4] الوتر: الثأر. [5] الرّقلة: النخلة الطويلة. [6] المواسي: جمع موسى وهو ما يحزّ به ويجرح. [7] سوائي: غيري، وأصلها: سواي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 فالتفت أحدهم إلى من بجانبه وقال: قتلنا العبد! ثمّ أمر بهم السفّاح فضربوا بالسيوف حتى قتلوا، وبسط النّطوع عليهم وجلس فوقهم فأكل الطعام، وهو يسمع أنين بعضهم، حتى ماتوا جميعا. وبالغ بنو العبّاس في استئصال شأفة بني أميّة [1] ، حتى نبشوا قبورهم بدمشق: فنبشوا قبر معاوية بن أبي سفيان- رضي الله عنه- فلم يجدوا فيه إلا خيطا مثل الهباء ونبشوا قبر يزيد. فوجدوا فيه حطاما كأنّه الرّماد. ولمّا قتل رجالهم واستصفى أموالهم قال: بني أمية قد أفنيت جمعكم ... فكيف لي منكم بالأوّل الماضي يطبّب النفس أنّ النار تجمعكم ... عوّضتم من لظاها شرّ معتاض منيتم- لا أقال الله عثرتكم- ... بليث غاب إلى الأعداء نهّاض إن كان غيظي لفوت منكم فلقد ... رضيت منكم بما ربّي به راض (بسيط) ثمّ لم تطل مدة السفّاح حتى مات بالأنبار [2] ، في سنة مائة وست وثلاثين. شرح حال الوزارة في أيّامه لا بدّ قبل الخوض في ذلك من تقديم كلمات في هذا المعنى، فأقول: الوزير وسيط بين الملك ورعيته، فيجب أن يكون في طبعه شطر يناسب طباع الملوك، وشطر يناسب طباع العوامّ، ليعامل كلّا من الفريقين بما يوجب له القبول والمحبّة. والأمانة والصدق رأس ماله. قيل: إذا خان السفير بطل التّدبير. وقيل: ليس لمكذوب رأي. والكفاءة والشهامة من مهمّاته، والفطنة والتيقّظ والدّهاء والحزم من ضروريّاته. ولا يستغني أن يكون مفضالا مطعاما، ليستميل بذلك الأعناق، وليكون مشكورا بكلّ لسان. والرّفق والأناة والتّثبت في الأمور، والحلم والوقار والتمكّن ونفاذ القول، ممّا لا بدّ له منه.   [1] استئصال الشأفة: الإزالة من الأصل حتّى الفروع. [2] الأنبار: جنوب غرب العراق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 لما استوزر الناصر وزيره مؤيد الدين محمّد بن برز القمّي خلع عليه خلع الوزارة ثمّ جلس القمّي في منصب الوزارة والناس جميعا بين يديه فبرز من حضرة الخليفة مكتوب لطيف في قدر الخنصر بخط يد الناصر، فقرئ على الجمع فكان فيه. «بسم الله الرحمن الرحيم. محمّد بن برز القمّي نائبنا في البلاد والعباد، فمن أطاعه فقد أطاعنا، ومن أطاعنا فقد أطاع الله، ومن أطاع الله أدخله الجنّة ومن عصاه فقد عصانا، ومن عصانا فقد عصى الله، ومن عصى الله أدخله النّار» . فنبل [1] القمّي بهذا التوقيع في عيون الناس، وجلّت مكانته، وقامت له الهيبة في الصّدور. والوزارة لم تمتهد قواعدها وتتقرّر قوانينها، إلا في دولة بني عبّاس. فأما قبل ذلك، فلم تكن مقنّنة القواعد، ولا مقرّرة القوانين بل كان لكل واحد من الملوك أتباع وحاشية، فإذا حدث أمر استشار بذوي الحجا [2] والآراء الصّائبة، فكلّ منهم يجرى مجرى وزير. فلما ملك بنو العبّاس تقرّرت قوانين الوزارة وسمّي الوزير وزيرا، وكان قبل ذلك يسمّى كاتبا أو مشيرا. قال أهل اللغة: الوزير: الملجأ والمعتصم. والوزير. الثّقل فالوزير إما مأخوذ من الوزر فيكون معناه أن يحمل الثّقل، أو يكون مأخوذا من الوزر، فيكون المعنى أنه يرجع ويلجأ إلى رأيه وتدبيره. وكيف تقلّبت لفظة «وزر» كانت دالة على الملجأ والثّقل. أوّل وزير وزر لأوّل خليفة عباسيّ، حفص بن سليمان أبو سلمة الخلال. كان مولى لبني الحارث بن كعب. قيل في تلقيبه بالخلال ثلاثة أوجه: أحدها أنّ منزله بالكوفة كان قريبا من محلّة الخلالين [3] . وكان يجالسهم فنسب إليهم، كما   [1] نبل: بدا نبيلا. [2] الحجا: العقل. [3] الخلالين: صانعي الخلّ وبائعيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 نسب الغزّالي إلى الغزّالين، وكان يجالسهم كثيرا. ورأيت في تسمية الغزّاليّ وجها آخر: قيل: كان من رأيه الصّدقة على النساء العجائز اللواتي يحضرن إلى دار الغزل ليبعن غزلهنّ، فيرى ضعفهن وفقرهنّ ونزارة [1] مكسبهنّ، فيرقّ لهنّ فيتصدّق عليهنّ كثيرا، ويأمر بالصّدقة عليهنّ فنسب إلى ذلك. وثانيها، أنه كان له حوانيت يعمل فيها الخلّ فنسب إلى ذلك وثالثها أنها نسبة إلى خلل السّيوف، وهي أغمادها. كان أبو سلمة من مياسير [2] أهل الكوفة، وكان ينفق ماله على رجال الدعوة وكان سبب وصلته إلى بني العبّاس أنه كان صهرا لبكير بن ماهان، وكان بكير بن ماهان كاتبا خصيصا بإبراهيم الإمام فلمّا أدركته الوفاة قال لإبراهيم الإمام إن لي صهرا بالكوفة يقال له أبو سلمة الخلال. قد جعلته عوضي في القيام بأمر دعوتكم. ثم مات فكتب إبراهيم الإمام إلى أبي سلمة يعلمه بذلك ويأمره بما يريد من أمر الدعوة وقام أبو سلمة بأمر دعوتهم قياما عظيما فلما سبر [3] أحوال بني العبّاس عزم على العدول عنهم إلى بني عليّ- عليه السّلام- فكاتب ثلاثة من أعيانهم: جعفر بن محمّد الصادق- عليهما السّلام- وعبد الله المحض بن حسن بن حسن ابن عليّ بن أبي طالب- عليهم السّلام- وعمر الأشرف بن زين العابدين- عليه السّلام- وأرسل الكتب مع رجل من مواليهم، وقال له: اقصد أوّلا جعفر بن محمّد الصادق، فإن أجاب فأبطل الكتابين الآخرين، وإن لم يجب فالق عبد الله المحض، فإن أجاب فأبطل كتاب عمر، وإن لم يجب فالق عمر، فذهب الرسول إلى جعفر ابن محمّد- عليه السّلام- أوّلا، ودفع إليه كتاب أبي سلمة فقال ما لي ولأبي سلمة وهو شيعة [4] لغيري؟ فقال له الرسول: اقرأ الكتاب فقال الصادق- عليه السّلام- لخادمه: أدن السّراج مني، فأدناه، فوضع الكتاب على النار حتّى احترق فقال   [1] النّزارة: القلّة، النّزر: القليل. [2] مياسير: جمع ميسور وهو ذو الثراء واليسر، الغنيّ. [3] سبر: اختبر. قاس بالمسبار. المسبار: مقياس الطبيب لعمق الجرح. [4] الشّيعة: التابع الموالي. المؤيّد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 الرسول: ألا تجيبه؟ قال: قد رأيت الجواب. ثم مضى الرسول إلى عبد الله المحض ودفع إليه الكتاب فقرأه وقبله وركب في الحال إلى الصادق- عليه السّلام- وقال: هذا كتاب أبي سلمة يدعوني فيه إلى الخلافة، قد وصل على يد بعض شيعتنا من أهل خراسان فقال له الصادق- عليه السّلام-: ومتى صار أهل خراسان شيعتك؟ أنت وجّهت إليهم أبا مسلم؟ هل تعرف أحدا منهم باسمه أو بصوته؟ فكيف يكونون شيعتك وأنت لا تعرفهم وهم لا يعرفونك؟ فقال عبد الله: كان هذا الكلام منك لشيء، فقال الصادق قد علم الله أني أوجب النّصح على نفسي لكلّ مسلم فكيف أدّخره عنك؟ فلا تمنّ نفسك الأباطيل، فإن هذه الدولة ستتمّ لهؤلاء وقد جاءني مثل الكتاب الّذي جاءك. فانصرف عبد الله غير راض. وأما عمر بن زين العابدين، فإنه ردّ الكتاب وقال: أنا لا أعرف صاحبه، فأجيبه، ثم غلب أبو سلمة على رأيه وعملت الدعوة عملها وبويع السفّاح ونمّ [1] الخبر إليه فحقدها على أبي سلمة وقتله. ذكر شيء من سيرته ومقتله كان أبو سلمة سمحا كريما مطعاما كثيرا، مشغوفا بالتنوّق [2] في السّلاح والدوابّ، فصيحا عالما بالأخبار والأشعار والسّير والجدل والتفسير، حاضر الحجّة ذا يسار ومروءة ظاهرة فلما بويع السفّاح استوزره وفوّض الأمور إليه وسلّم إليه الدّواوين ولقّب وزير آل محمّد، وفي النفس أشياء. وخاف السفّاح إن هو قتل وزيره أبا سلمة أن يستشعر أبو مسلم ويتنمّر، فتلطف لذلك، وكتب إلى أبي مسلم كتابا يعلمه فيه بما عزم عليه أبو سلمة من نقل الدولة عنهم، ويقول له: إنّني قد وهبت جرمه لك- وباطن الكتاب يقتضي تصويب الرأي في قتل أبي سلمة- وأرسل الكتاب مع أخيه المنصور. فلمّا قرأ أبو مسلم الكتاب فطن لغرض السفّاح. فأرسل قوما من أهل خراسان قتلوا أبا سلمة، فقال الشاعر:   [1] نمّ: ظهر. [2] التنوّق: إجادة الاختيار، التأنّق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 إنّ الوزير وزير آل محمد ... أودى [1] ، فمن يشناك [2] كان وزيرا إنّ السلامة قد تبين وربما ... كان السرور بما كرهت جديرا (كامل) واختلفوا فيمن وزر للسفّاح بعده. فقيل: أبو الجهم. وقيل: عبد الرحمن. فأما أبو الجهم فوزر للسفاح مدّة، فلما أفضت الخلافة إلى المنصور كان في نفسه منه أمور فسمّه في سويق [3] اللّوز فلما أحسّ بالسمّ قام ليذهب، فقال له المنصور: إلى أين؟ قال: إلى حيث بعثتني يا أمير المؤمنين. وأمّا الصّولي [4] فقال: إنّ السفّاح استوزر بعد أبي سلمة خالد بن برمك. ذكر وزارة خالد بن برمك وشيء من سيرته هذا خالد هو جدّ البرامكة. وفي تلك الأيام نبغت الدولة البرمكيّة وامتدت إلى أن انقضت في أيام الرّشيد. وكان خالد بن برمك من رجال الدولة العبّاسيّة فاضلا جليلا كريما، حازما يقظا استوزره السفّاح وخفّ على قلبه، وكان يسمّى وزيرا. وقيل: إنّ كلّ من استوزره بعد أبي سلمة كان يتجنب أن يسمّى: وزيرا، تطيّرا ممّا جرى على أبي سلمة ولقول من قال: إنّ الوزير وزير آل محمّد ... أودى فمن يشناك كان وزيرا (كامل) قالوا: فكان خالد بن برمك يعمل عمل الوزراء ولا يسمّى وزيرا.   [1] أودى: هلك. [2] يشناك: يبغضك. [3] السّويق: الدّقيق المسحوق سحقا. [4] الصّولي: شاعر وأديب ومؤرّخ له كتاب «الأوراق» في أخبار آل عباس وأشعارهم. نادم عددا من خلفاء بني العباس كانت وفاته عام/ 334/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 كان خالد عظيم المنزلة عند الخلفاء قيل: إنّ السفّاح قال له يوما: يا خالد ما رضيت حتى استخدمتني! ففزع خالد وقال: كيف يا أمير المؤمنين وأنا عبدك وخادمك؟ فضحك وقال: إن «ريطة» ابنتي تنام مع ابنتك في مكان واحد، فأقوم بالليل فأجدهما قد سرح [1] الغطاء عنهما، فأردّه عليهما فقبّل خالد يده وقال: مولى يكتسب الأجر في عبده وأمته [2] . وكثر الوافدون على باب خالد بن برمك، ومدحه الشّعراء، وانتجعه [3] الناس وكان الوافدون قبل ذلك يسمّون سؤّالا، فقال خالد: إنّي أستقبح هذا الاسم لمثل هؤلاء وفيهم الأشراف والأكابر. فسمّاهم، الزوّار. وكان خالد أوّل من سمّاهم بذلك. فقال له بعضهم: والله ما ندري أيّ أياديك عندنا أجلّ أصلتنا أم تسميتنا؟ إن أول من فعل ذلك المساور بن النعمان، في دولة بني أميّة. ولما بنى المنصور مدينة بغداد. «بغداد» عظمت النفقة عليه، فأشار عليه أبو أيّوب الموريانيّ بهدم إيوان كسرى [4] واستعمال أنقاضه. فاستشار المنصور خالد بن برمك في ذلك فقال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإنه آية الإسلام. فإذا رآه الناس علموا أنّ مثل هذا البناء لا يزيله إلا أمر سماويّ. وهو مع ذلك مصلّى عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- والمؤنة في نقضه أكثر من نفعه. فقال له المنصور: أبيت يا خالد إلا ميلا إلى العجميّة! ثم أمر المنصور بهدمه فهدمت منه ثلمة [5] ، فبلغت النفقة عليها أكثر ممّا حصل منها. فأمسك المنصور عن هدمه وقال: يا خالد: قد صرنا إلى رأيك وتركنا هدم الإيوان، قال يا أمير المؤمنين: أنا الآن أشير بهدمه، لئلا يتحدث الناس أنّك عجزت عن هدم ما بناه غيرك. فأعرض عنه وأمسك عن هدمه- كتب بعض الشّعراء إلى خالد بن برمك في يوم   [1] سرح: زال، انكشف. [2] الأمة: الجارية المملوكة. [3] انتجعه الناس: قصدوه. [4] إيوان كسرى: قصر كسرى بالمدائن، وكانت عاصمة الفرس. [5] الثلمة: الخلل في الحائط. الفتحة في الجدار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 نوروز [1]- وقد أهدى الناس إلى خالد هدايا فيها جامات [2] من فضّة وذهب ليت شعري أما لنا منك حظّ ... يا هدايا الوزير في النّوروز ما على خالد بن برمك في الجو ... د نوال ينيله بعزيز ليت لي جام فضّة من هداياه ... ، سوى ما به الأمير مجيزي (خفيف) فأمر له بجميع ما كان حاضرا بين يديه من الجامات والأواني الفضيّة والذهبيّة فبلغت مالا جليلا. ولما تولى المنصور الخلافة أقرّه على وزارته، وأكرمه واستشاره. انقضت وزارة السفّاح، وبانقضائها انقضى الكلام على دولته. ثمّ ملك بعد أخوه أبو جعفر المنصور بويع في سنة مائة وستّ وثلاثين. ذكر شيء من سيرته، وما وقع في أيّامه من الحوادث والوقائع. كان المنصور من عظماء الملوك وحزمائهم وعقلائهم وعلمائهم، وذوي الآراء الصائبة منهم والتدبيرات السديدة، وقورا شديد الوقار، حسن الخلق في الخلوة، من أشدّ الناس احتمالا لما يكون من عبث أو مزاح، فإذا لبس ثيابه وخرج إلى المجلس العامّ، تغير لونه واحمرّت عيناه، وانقلبت جميع أوصافه. قال يوما لبنيه: يا بنيّ: إذا رأيتموني قد لبست ثيابي وخرجت إلى المجلس، فلا يدنونّ أحد منّي مخافة أن أعرّه [3] بشيء. قالوا: وكان المنصور يلبس الخشن وربّما رقع قميصه. وقيل ذلك لجعفر بن محمّد الصادق- عليهما السّلام- فقال: الحمد للَّه الّذي ابتلاه بفقر نفسه في ملكه. قالوا: ولم يكن يرى في دار المنصور لهو ولعب أو ما يشبه اللهو واللّعب.   [1] يوم النّوروز أو النّيروز: أشهر أعياد الفرس في أول الربيع. [2] الجامات: جمع جام، وهو الكأس أو شبهه. [3] عرّه: ساءه. آذاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 حدّث بعض مواليه قال: كنت مرة واقفا على رأسه فسمع صوتا عاليا، فقال: انظر ما الصّوت؟ قال: فنظرت فإذا هو بعض خدمه يلعب بالطّنبور [1] ، وحوله جماعة من جواريه يضحكن منه. قال: فأخبرته الخبر، فتنمّر وقال: وأيّ شيء يكون الطّنبور؟ قال: فوصفته له، فقال: وأنت ما يدريك بالطّنبور؟ قلت: يا أمير المؤمنين رأيته بخراسان. فقام المنصور حتّى جاء إلى الخادم، فلما بصر به الجواري تفرّقن فأمر فضرب رأس الخادم بالطّنبور حتّى تكسّر الطّنبور، ثمّ أخرجه فباعه. وكان المنصور من أشدّ الناس شغفا بابنه المهديّ، فكان إذا جنى أحد جناية أو أخذ من أحد مالا، جعله في بيت المال مفردا وكتب عليه اسم صاحبه، فلما أدركته الوفاة قال لابنه المهديّ: يا بنيّ إنّي قد أفردت كلّ شيء أخذته من النّاس على وجه الجناية والمصادرة، وكتبت عليه أسماء أصحابه. فإذا وليت أنت فأعده على أربابه ليدعو لك النّاس ويحبّوك. قال يزيد بن عمر بن هبيرة [2] : ما رأيت رجلا في حرب أو سلم أمكر ولا أنكر ولا أشدّ تيقظا من المنصور. لقد حاصرني تسعة شهور ومعي فرسان العرب، فجهدنا كلّ الجهد حتّى ننال من عسكره شيئا فما قدرنا لشدّة ضبطه لعسكره وكثرة تيقّظه. ولقد حصرني وما في رأسي شعرة بيضاء، ثم انقضى ذلك وما في رأسي شعرة سوداء. واعلم أنّ المنصور هو الّذي أصّل الدّولة، وضبط المملكة، ورتّب القواعد وأقام النّاموس، واخترع أشياء. فمن جملة ما اخترع: فرس النّوبة، ولم يكن الملوك قبله يعرفون ذلك، وسبب ذلك يأتي فيما بعد. ومن جملة ما اخترع: عمل الخيش الكتّان في الصّيف، ولم يكن الناس قبله يعرفون ذلك. وكان الأكاسرة يطيّنون كلّ يوم من أيّام الصّيف بيتا يسكنونه، ثمّ في الغد يطيّن بيت آخر.   [1] الطّنبور: آلة طرب ذات عنق طويل، تشبه العود المعروف. [2] يزيد بن عمر بن هبيرة: كان واليا على العراق لمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية قتله السفّاح بواسط عام/ 132/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وكان المنصور مبخّلا يضرب بشحّه الأمثال. وقيل كان كريما: وإنه لمّا حجّ أفضل على أهل الحجاز، فكان يسمّون عامه عام الخصب. والصّحيح أنّه كان رجلا حازما يعطي في موضع العطاء، ويمنع في موضع المنع. وكان المنع عليه أغلب. وجرى في أيامه شيء طريف: وهو أنّ قوما من أهل خراسان يقال لهم: الراونديّة كانوا يقولون بتناسخ الأرواح، ويزعمون أنّ روح آدم انتقلت إلى فلان- رجل من كبارهم- وأنّ ربّهم الّذي يطعمهم ويسقيهم هو المنصور وأنّ جبرائيل هو فلان- عن رجل آخر- فلمّا ظهروا أتوا قصر المنصور فطافوا حوله، وقالوا: هذا قصر ربّنا. فأخذ المنصور رؤساءهم فحبس منهم مائتي رجل، فغضب الباقون واجتمعوا. وفتحوا السّجون وأخرجوا أصحابهم منها، وقصدوا المنصور وحاربوه. فخرج المنصور إليهم ماشيا، ولم يكن في بابه في ذلك الوقت دابّة، فصار بعد ذلك اليوم تربط له دابّة في باب القصر لا تزال واقفة، وصارت تلك سنّة للخلفاء بعده وللملوك. فلما خرج المنصور أتي بدابّة فركبها وهو يريدهم حتّى تكاثروا عليه، وكادوا يقتلونه. وجاء معن بن زائدة [1] وكان مستخفيا من المنصور، جاء متلثما، ووقف بين يدي المنصور والمنصور لا يعرفه فقاتل بين يديه قتالا شديدا وأبلى بلاء حسنا. وكان المنصور راكبا على بغلة ولجامها بيد حاجبه الرّبيع، فأتى معن وقال: تنحّ فأنا أحقّ منك بهذا اللجام في هذا الوقت. فقال المنصور: صدق، ادفع اللجام إليه فلم يزل يقاتل حتّى انكشفت الحال وظفر بالراونديّة، فقال له المنصور: من أنت؟ قال: طلبتك [2] يا أمير المؤمنين معن بن زائدة. فقال قد آمنك الله على نفسك وأهلك ومالك، ومثلك يصطنع [3] . وأحسن إليه وولاه اليمن. والمنصور هو الّذي بنى مدينة بغداد.   [1] معن بن زائدة: قائد شجاع كريم مشهور، كان ولاؤه للأمويين فلما ظهر العبّاسيّون طلبوه وظلّ متخفيا حتى نصر المنصور العباسي في حربه مع الراوندية. ولي على اليمن ثم على سجستان حتى مقتله حوالي عام/ 150/ هـ. [2] طلبتك: مطلوبك للقبض عليه. [3] يصطنع: يقرّب ويحسن إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 شرح كيفيّة الحال في بناء بغداد كان المنصور قد بنى في أوائل دولتهم مدينة بنواحي الكوفة وسمّاها- «الهاشميّة» - ووقعت واقعة الرّاونديّة فيها، فكره سكناها لذلك، ولمجاورة أهل الكوفة فإنّه كان لا يأمنهم على نفسه، وكانوا قد أفسدوا جنده. فخرج بنفسه يرتاد بغداد كما بناها أبو جعفر المنصور، نقلا عن مذكرات جامعية للمحقق عام/ 1955/ م، ممّا رسمه الدكتور شاكر مصطفى لطلابه على سبورة قائمة المحاضرات في كلية الآداب في الجامعة السورية بدمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 له موضعا يسكنه ويبني فيه مدينة له ولعياله، ولأهله ولجنده. فانحدر إلى جرجرايا [1] وأصعد إلى الموصل، ثمّ أرسل جماعة من الحكماء ذوي اللبّ والعقل وأمرهم بارتياد موضع، فاختاروا له مدينته التي تسمّى: مدينة المنصور. وهي بالجانب الغربيّ قريبة من مشهد موسى والجواد- عليهما السّلام- فحضر إلى هناك واعتبر [2] المكان ليلا ونهارا فاستطابه، وبنى به المدينة. ومن طريف ما اتّفق من ذلك، أنّ راهبا من رهبان الدير المعروف بدير الرّوم سأل بعض أصحاب المنصور: من يريد أن يبني في هذا الموضع مدينة؟ فقال له ذلك الرجل: أمير المؤمنين المنصور خليفة الناس. قال: ما اسمه؟ قال: عبد الله. قال: فهل له اسم غير هذا؟ قال: اللَّهمّ لا، إلا أن كنيته أبو جعفر، ولقبه المنصور. قال الراهب: فاذهب إليه وقل له: لا يتعب نفسه في بناء هذه المدينة، فإنّا نجد في كتبنا أن رجلا اسمه مقلاص يبني ها هنا مدينة ويكون لها شأن من الشأن، وأنّ غيره لا يتمكّن من ذلك. فجاء ذلك الرّجل إلى المنصور وأخبره بما قال الرّاهب فنزل المنصور عن دابّته وسجد طويلا ثمّ قال: أما والله كان اسمي مقلاصا وكان هذا اللقب قد غلب عليّ ثمّ ذهب عنّي. وذاك أنّ لصّا كان في صباي يسمّى مقلاصا وكان تضرب به الأمثال، وكانت لنا عجوز تربيني، فاتّفق أنّ صبيان المكتب جاءوا يوما إليّ وقالوا لي: نحن اليوم أضيافك. ولم يكن معي ما أنفقه عليهم. وكان للعجوز غزل فأخذته وبعته بما أنفقته عليهم، فلمّا علمت أني سرقت غزلها سمّتني مقلاصا. وغلب هذا اللقب عليّ ثمّ ذهب عنّي. والآن عرفت أني أبني هذه المدينة. ونبّهه بعض عقلاء النّصارى على فضيلة مكانها فقال: يا أمير المؤمنين تكون على الصّراة بين دجلة مع الفرات، فإذا حاربك أحد كانت دجلة والفرات خنادق لمدينتك ثمّ إنّ الميرة [3] تأتيك في دجلة من ديار بكر [4] تارة، ومن البحر   [1] جرجرايا: موقع جنوبي بغداد على دجلة. [2] اعتبر: فحص وتحرّى. [3] الميرة: الطّعام والمئونة المدّخرة. [4] ديار بكر: بلاد شرقيّ الأناضول وشماليّ دجلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 والهند والصّين والبصرة، وفي الفرات من الرقّة والشأم، وتجيئك الميرة أيضا من خراسان وبلاد العجم في شطّ تامرّا. وأنت يا أمير المؤمنين: بين أنهار، لا يصل عدوّك إليك إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطعت الجسر أو أخربت القنطرة، لم يصل إليك عدوّك. وأنت متوسّط للبصرة والكوفة، وواسط والموصل والسّواد. وأنت قريب من البرّ والبحر والجبل. فازداد المنصور جدّا وحرصا على بنائها، وكاتب الأطراف بإنفاذ [1] الصنّاع والفعلة وأمر باختيار قوم من ذوي العدالة والعقل والعلم والأمانة والمعرفة بالهندسة ليتولّوا قسمة المدينة وعملها، وشرع فيها سنة خمس وأربعين ومائة. وكان أبو حنيفة [2]- رضي الله عنه- صاحب المذهب يعدّ اللّبن والآجرّ وهو الّذي اخترع عدّه بالقصب اختصارا وجعل المنصور عرض السّور من أساسه خمسين ذراعا، ومن أعلاه عشرين ذراعا، ووضع بيده أوّل لبنة وقال: بسم الله والحمد للَّه إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها من يَشاءُ من عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.. 7: 128 [3] ثمّ قال: ابنوا فابتدأ بها سنة خمس وأربعين ومائة، وتمّمها في سنة ستّ وأربعين ومائة، وجعلها مدوّرة وجعل قصره في وسطها لئلا يكون أحد أقرب إليه من الآخر. وبلغ الخرج عليها أربعة ألف ألف وثمانمائة وثلاثة وثلاثين درهما. ولما فرغت حاسب القوّاد بما كان حوّل عليهم لعمارتها، فألزمهم بالبواقي حتّى استوفى من بعضهم ما اقتضاه الحساب خمسة عشر درهما. أسماؤها: يقال: بغداد، وكان هناك موضع يسمى: بغداد فسمّيت المدينة باسمه ويقال: بغداذ بالذال المعجمة، ويقال بغدان بالنون، ويقال: الزّوراء وكان موضعها يسمّى الزوراء قديما، وقيل: لأن قبلتها غير مستقيمة، ويحتاج المصلّى في مسجدها الجامع أن ينحرف إلى جهة اليسار قليلا. ويقال: مدينة المنصور.   [1] إنفاذ: إرسال. [2] أبو حنيفة: نعمان بن ثابت، إمام المذهب الحنفي. كانت ولادته بالكوفة وقد درّس فيها وأفتى. استدعاه المنصور لتولي القضاء في بغداد فأبى فحبسه حتى مات عام/ 150/ هـ. [3] الآية 128 من سورة الأعراف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 ويقال: دار السّلام. وقيل: إنّها مدينة مباركة مسعودة، لم يمت فيها خليفة قطّ. فمدينة المنصور هي بغداد القديمة، وهذه بغداد التي هي بالجانب الشرقيّ، استجدّت بعد ذلك. وهو الّذي فعل ببني الحسن ما فعل- أخذ مشايخ السادات منهم- وهم عبد الله المحض بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب- عليهم السلام- وكان شيخ الطالبيّين في عصره، وبنيه وإخوته سادات بني الحسن- عليهم السلام- فحبسهم عنده وماتوا في حبسه. روي أنه خرج حاجبه فقال: من كان على الباب من بني الحسين فليدخل فدخل مشايخ بني الحسين عليهم السلام ثمّ خرج فقال: من كان بالباب من بني الحسن فليدخل. فدخل مشايخ بني الحسن عليهم السلام فعدل بهم إلى مقصورة ثم أدخل الحدّادين من باب آخر فقيّدهم وحملهم إلى العراق فحبسهم حتّى ماتوا في حبسه من الكوفة، لا جزاه الله خيرا عن فعله. ومن طريف ما وقع في ذلك، أنّ رجلا من بني الحسن- عليه السلام- جاء حتّى وقف على المنصور، فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت حتّى تحبسني عند أهلي فإنّي لا أريد الدّنيا بعدهم، فحبسه معهم. وكان ذلك الرجل عليّ بن حسن بن حسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب. وكان منهم محمّد بن إبراهيم بن الحسن ابن الحسن بن عليّ بن أبي طالب.- عليهم السلام- وكان من أحسن الناس صورة، وكان يسمّى الديباج الأصفر لحسنه وجماله فأحضره المنصور وقال له: أنت الدّيباج الأصفر؟ قال: كذا يقولون. قال: لأقتلنّك قتلة لم أقتلها أحدا، ثمّ أمر به فبنى عليه أسطوانة وهو حيّ، فمات فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 ذكر السّبب في فعل المنصور ما فعل ببني الحسن عليهم السلام كان بنو هاشم الطالبيّون والعبّاسيّون قد اجتمعوا في ذيل [1] دولة بني أميّة وتذكروا حالهم وما هم عليه من الاضطهاد، وما قد آل إليه أمر بني أميّة من الاضطراب وميل الناس إليهم ومحبتهم لأن تكون لهم دعوة ثم قالوا لا بدّ لنا من رئيس نبايعه. واتّفقوا على أن يدعوا الناس سرا ثم قالوا: لا بدّ لنا من رئيس نبايعه فاتفقوا على مبايعة «النفس الزكيّة» محمّد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب- عليهم السلام- وكان من سادات بني هاشم ورجالهم، فضلا وشرفا وعلما. وكان هذا المجلس قد حضره أعيان بني هاشم علويّهم وعباسيّهم، فحضره من أعيان الطالبيّين- الصّادق جعفر بن محمد- عليهما السّلام- وعبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، وابناه محمّد «النفس الزكيّة» وإبراهيم قتيل باخمرى [2] ، وجماعة من الطالبيّين. ومن أعيان العبّاسيّين- السفّاح والمنصور، وغيرهما من آل العبّاس فاتّفق الجميع على مبايعة «النفس الزكية» إلا الإمام جعفر بن محمّد الصادق، فإنه قال لأبيه عبد الله المحض: إنّ ابنك لا ينالها- يعني الخلافة- ولن ينالها إلا صاحب القباء [3] الأصفر- يعني المنصور وكان على المنصور حينئذ قباء أصفر. قال المنصور فرتّبت العمال في نفسي من تلك السّاعة. ثمّ اتّفقوا على مبايعة النفس الزكيّة فبايعوه ثم ضرب الدّهر ضربه، وانتقل الملك إلى بني العبّاس كما تقدّم شرحه، ثم انتقل من السفّاح إلى المنصور فلم يكن له همّة سوى طلب «النفس الزكية» ليقتله أو ليخلعه. وأغراه بذلك أنّ الناس كانوا شديدي الميل إلى النفس الزكيّة، وكانوا يعتقدون فيه الفضل والشّرف والرّئاسة فطلبه المنصور من أبيه عبد الله المحض- وكان عبد الله المحض من رجال بني هاشم وساداتهم- فألزمه المنصور بإحضار ابنيه محمّد النفس الزكيّة   [1] ذيل الدولة: أواخر أيّامها. [2] باخمرى: قرية قريبة من الكوفة، قتل فيها إبراهيم بن عبد الله بن الحسن الطالبيّ. [3] القباء: الثوب يرتدى فوق غيره من الثياب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وإبراهيم، فقال لا علم لي بهما. وكانا قد تغيّبا خوفا منه. فلمّا طوّل القول لأبيهما عبد الله قال: كم تطول!! والله لو كانا تحت قدميّ لما رفعتهما عنهما. سبحان الله! آتيك بولدي لتقتلهما! فقبض عليه وعلى أهله من بني الحسن، وكان من أمرهم ما تقدّم شرحه- رضي الله عنهم وسلّم عليهم. شرح خروج النّفس الزكيّة هو محمّد بن عبد الله المحض بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب (عليهم السلام) . كان النفس الزكيّة من سادات بني هاشم ورجالهم فضلا وشرفا ودينا وعلما وشجاعة، وفصاحة ورياسة وكرامة ونبلا. وكان في ابتداء الأمر قد شيع بين الناس أنّه «المهديّ» الّذي بشّر به، وأثبت أبوه هذا في نفوس طوائف من الناس وكان يروى أنّ الرسول- صلوات الله عليه وسلامه- قال: «لو بقي من الدّنيا يوم لطوّل الله ذلك اليوم، حتّى يبعث فيه مهديّنا أو قائمنا، اسمه كاسمي واسم أبيه كاسم أبي» فأمّا الإماميّة: فيروون هذا الحديث خاليا «من اسم أبيه كاسم أبي» . فكان عبد الله المحض يقول للناس عن ابنه محمّد: هذا هو المهديّ الّذي بشّر به. هذا محمّد بن عبد الله. ثم ألقى الله محبّته على الناس فمالوا إليه كافّة، ثمّ عضد ذلك أنّ أشراف بني هاشم بايعوه ورشّحوه للأمر، فقدّموه على نفوسهم فزادت رغبته في طلب الأمر. وزادت رغبة الناس فيه، وما زال متغرّبا منذ أفضت الدولة إلى بني العبّاس خوفا منهم على نفسه. فلمّا علم بما جرى لوالده ولقومه ظهر بالمدينة وأظهر أمره، وتبعه أعيان المدينة، ولم يتخلف عنه إلا نفر يسير، ثم غلب على المدينة وعزل عنها أميرها من قبل المنصور، ورتّب عليها عاملا وقاضيا، وكسر أبواب السّجون وأخرج من بها، واستولى على المدينة. ومنذ خرج محمّد بن عبد الله وفعل ما فعل بالمدينة توجّه رجل يقال له: «أوس العامريّ» من المدينة إلى المنصور في تسعة أيّام وقدم ليلا، فوقف على أبواب المدينة فصاح حتّى علموا به فأدخلوه فقال الربيع الحاجب: ما حاجتك في هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 الساعة وأمير المؤمنين نائم؟ قال لا بدّ لي منه. فدخل الربيع وأخبر المنصور خبره وأدخله إليه، فقال: يا أمير المؤمنين، خرج محمد بن عبد الله بالمدينة وفعل وصنع. قال: أنت رأيته؟ قال: نعم وعاينته على منبر رسول الله- صلوات الله عليه وسلامه- وخاطبته. فأدخله المنصور بيتا. ثمّ تواترت الأخبار عليه بذلك فأخرجه وقال له: سوف أفعل معك وأصنع وأغنيك. في كم ليلة وصلت من المدينة قال: في تسع ليال، فأعطاه تسعة آلاف درهم. ثمّ قام المنصور وقعد، وتراخت المدّة حتى تكاتبا وتراسلا. فكتب كلّ واحد منهما إلى صاحبه كتابا نادرا معدودا من محاسن الكتب، احتجّ فيه وذهب في الاحتجاج كلّ مذهب. وفي آخر الأمر ندب ابن أخيه عيسى بن موسى لقتاله، فتوجّه إليه عيسى بن موسى في عسكر كثيف، فالتقوا في موضع قريب من المدينة، فكانت الغلبة لعسكر المنصور، فقتل محمد بن عبد الله وحمل رأسه إلى المنصور، وذلك في سنة خمس وأربعين ومائة، ثم خرج أخوه إبراهيم بن عبد الله قتيل «باخمرى» بالبصرة. شرح كيفيّة الحال في ذلك على سبيل الاختصار كان إبراهيم بن عبد الله في حال تغيّبه يحضر إلى عسكر المنصور متخفّيا وربّما جلس على السّماط، وكان المنصور شديد الطلب له. فخرج من مدينة المنصور ومضى إلى البصرة وأظهر أمره ودعا إلى نفسه، فتبعه جماعة وكثرت جموعه. فأرسل المنصور ابن أخيه عيسى بن موسى بعد رجوعه من قتل النفس الزكيّة، فتوجّه عيسى بن موسى إليه بخمسة عشر ألف مقاتل، فالتقوا بقرية يقال لها: «باخمرى» قريبة من الكوفة فكانت الغلبة لعسكر المنصور، وقتل إبراهيم في المعركة، وذلك في سنة خمس وأربعين ومائة (رحمه الله تعالى) . وكانت أيّام المنصور ذات فتوق [1] وأحداث، فممّن خرج عليه، عمّه عبد الله بن عليّ وكان السفّاح أرسله إلى قتال مروان الحمار كما تقدّم شرحه، ثمّ مات   [1] الفتوق: هنا، المشاكل، وأحدها الفتق، وهو العصيان السياسيّ والخروج على طاعة الخليفة أو الأمير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 السفّاح وتولّى المنصور الخلافة وعبد الله بن عليّ بالشأم، فطمع في الخلافة وخطب الناس وقال إنّ السفّاح ندب بني العبّاس لقتال مروان فلم ينتدب غيري، وإنّه قال لي: إن ظهرت عليه وكانت الغلبة لك، فأنت وليّ العهد بعدي، وشهد له جماعة بذلك، فبايعه الناس. ولما اتّصل الخبر بالمنصور أقامه ذلك وأقعده، فقال له أبو مسلم الخراسانيّ: إن شئت جمعت ثيابي في منطقتي وخدمتك، وإن شئت أتيت خراسان، وأمددتك بالجنود وإن شئت سرت إلى حرب عبد الله بن عليّ، فأمره بالمسير إلى حرب عبد الله، فسار أبو مسلم بعسكر كثيف فتطاول الأمد بينهما شهورا. كانت في آخرها الغلبة لعسكر أبي مسلم، فهرب عبد الله بن عليّ إلى البصرة ونزل على أخيه سليمان بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس، فشفع سليمان فيه إلى المنصور، وطلب له الأمان فآمنه المنصور، وكتب له كتابا بليغا التزم فيه بكلّ شيء. فلما جاء إليه حبسه ومات في حبسه، فقيل: إنّه بنى له بيتا وجعل أساساته ملحا، ثمّ أجرى الماء فيه فسقط البيت عليه فمات، والمنصور هو الّذي قتل أبا مسلم الخراسانيّ. شرح الحال في ذلك كان في نفس المنصور قديما حزازات [1] من أبي مسلم، وكان بينهما تباغض. وقد كان المنصور أشار على أخيه السفّاح بقتله فامتنع السفّاح وقال: كيف يكون ذلك مع حسن بلائه في دولتنا، فلما ولي المنصور الخلافة أرسل أبا مسلم إلى الشأم لحرب عمّه عبد الله بن عليّ بن العبّاس كما تقدّم شرحه، فلمّا ظفر أبو مسلم وغنم جميع ما كان في عسكر عبد الله بن عليّ، وانهزم عبد الله إلى البصرة، أرسل المنصور بعض خدمه ليحتاط على ما في العسكر من الأموال فغضب أبو مسلم وقال: أمين على الدّماء خائن في الأموال! وشتم المنصور، وكتب بعض أصحاب الأخبار بذلك إلى المنصور وعزم أبو مسلم على الخلاف وأن يتوجّه   [1] الحزازات: الأحقاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 إلى خراسان ولا يحضر عند المنصور، فخاف المنصور أن يتوجّه أبو مسلم إلى خراسان بهذه الصّفة فتفسد عليه الأمور هناك. وكان أبو مسلم رجلا مهيبا داهية شجاعا لبيبا جريئا على الأمور، فطنا عالما قد سمع الحديث [1] وعلم أن من كل شيء. فكتب إليه المنصور يطيّب نفسه ويسكّنه ويعده الجميل، ويستدعي منه الحضور. فأجاب بأنّي على الطاعة، وأنّي متوجّه إلى خراسان فإن أصلحت نفسك كنت سامعا مطيعا، وإن أبيت إلا أن تعطي نفسك سؤلها كنت قد نظرت لنفسي بالحال التي تقارنها السّلامة! فاشتدّ خوف المنصور منه وحنقه عليه، وكتب إليه كتابا معناه: إنّك لست في نظرنا بهذه الصّفة التي قد وسمت بها نفسك، وإنّ حسن بلائك في دولتنا يغنيك عن هذا القول. واستدعى منه الحضور وقال لوجوه بني هاشم: اكتبوا أنتم أيضا إليه فكتبوا إليه يقبّحون عليه خلاف المنصور ومشاقّته ويحسّنون له الحضور عنده والاعتذار إليه، وأرسل المنصور الكتب على يد رجل عاقل من أصحابه، وقال له: امض إليه وحدّثه ألين حديث تحدّثه أحدا، فإن رجع فارجع به حتى تقدم به عليّ، وإن أصرّ على المشاقّة [2] وصمّم على التوجّه، وأيست منه ولم يبق لك حيلة، فقل له: يقول لك فلان: لست من العباس وبرئت من محمد إن مضيت على هذه الحال، ولم تعد أن يتولّى حربك غيري، وعليّ كذا وكذا إن لم أتولّ أنا ذلك بنفسي. فمضى الرسول إليه وناوله الكتب فقرأها، والتفت إلى صديق له يقال له: مالك بن الهيثم وقال له: ما الرأي؟ قال: الرأي ألا ترجع إليه، فإنك إن رجعت إليه قتلك، وإن مضيت على طريقك حتى تصل إلى الرّيّ [3] وهم جندك فتقيم وتنظر في أمرك. فإن حدث لك حادث، كانت خراسان من ورائك. فعزم أبو مسلم على ذلك وقال للرسول: قل لصاحبك: إنّه ليس من رأيي الحضور عندك، وأنا متوجّه إلى   [1] قد سمع الحديث: والصواب فيما بعدها: [وعلم من كلّ شيء] انظر طبعة بيروت ص 169، وألما ص 199 ورحما ص 123. [2] المشاقّة: المخالفة والخصومة. [3] الرّيّ: مقاطعة جنوبي بحر قزوين وفيها مدينة باسمها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 خراسان. فقال له الرسول: يا أبا مسلم: أنت ما زلت أمين آل محمّد، فأنشدك الله ألا تسم نفسك بسمة العصيان والشّقاق. والرأي أن تحضر عند أمير المؤمنين وتعتذر إليه فلن ترى عنده إلا ما تحبّ. فقال له أبو مسلم: متى كنت تخاطبني بمثل هذا الخطاب؟ فقال الرجل: سبحان الله! أنت دعوتنا إلى ولاية هؤلاء القوم ونصرهم، وقلت لنا من خالفهم فاقتلوه. فلمّا دخلنا معك فيما ندبتنا إليه [1] ، رجعت عنه وأنكرته علينا! فقال أبو مسلم: هو ما قلت لك، ولست أرجع. فقال له: فليس عندك غير هذا؟ قال: نعم. فخلا به وأبلغه ما قال المنصور، فوجم وأطرق ساعة ثمّ قال: أرجع وأعتذر إليه. ورجع. ثم سلّم عسكره إلى بعض أصحابه وقال له: إن جاءك كتابي، وهو مختوم بنصف خاتمي فهو كتابي: وإن كان مختوما بكلّ الخاتم فاعلم أنه ليس ختمي. وأوصاه بما أراد. ثمّ سار إلى المنصور فلقيه بالمدائن. فلما علم المنصور بوصوله أمر الناس جميعا بتلقّيه، فلما دخل عليه قبّل يده فأدناه منه وأكرمه، ثمّ أمره بأن يعود إلى خيمته ويستريح، ويدخل الحمّام ويعود من الغد. فمضى فلمّا أصبح أتاه رسول المنصور يستدعيه، وقد أعدّ المنصور جماعة من أصحابه خلف السّتور بأيديهم السّلاح فأوصاهم أنّه إذا ضرب بإحدى يديه على الأخرى يخرجون فيقتلون أبا مسلم. فلمّا دخل أبو مسلم عليه قال له: أخبرني عن سيفين وجدتهما في عسكر عبد الله بن عليّ فقال أبو مسلم: هذا أحدهما- وكان في يده سيف- فأخذه المنصور ووضعه تحت مصلاه، ثمّ شرع في توبيخه وتقريعه على ذنب ذنب، وأبو مسلم يعتذر عن كلّ واحد بعذر. فعدّد عليه عدّة ذنوب، فقال أبو مسلم: يا أمير المؤمنين مثلي لا يقال له هذا ولا تعدّد عليه مثل هذه الذنوب بعد ما فعلت فاغتاظ المنصور وقال أنت فعلت! والله لو كانت مكانك أمة سوداء [2] لفعلت ما فعلت، وهل نلت ما نلت إلا بنا وبدولتنا؟ فقال أبو مسلم: دع هذا فقد أصبحت لا أخشى غير الله، فضرب المنصور بيده على   [1] ندبتنا إليه: دعوتنا إليه. [2] أمة سوداء: جارية سوداء. كناية عن احتقاره لشأنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الأخرى فخرج أولئك النّفر وخبطوه بالسّيوف، فصاح: استبقني يا أمير المؤمنين لعدوّك، فقال المنصور: وأيّ عدوّ لي أعدى منك؟ ثمّ أمر به فلفّ في بساط. ودخل عيسى بن موسى فقال: أين أبو مسلم يا أمير المؤمنين، فقال المنصور: هو ذاك في البساط، فقال: قتلته؟ قال: نعم قال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156، بعد بلائه وفعله وأمانه! وكان المنصور قد آمنه وكفّل عيسى بن موسى على ذلك، فقال له المنصور: خلع الله قلبك! والله ليس لك على وجه الأرض عدوّ أعدى منه وهل كان لكم ملك في حياته؟ ثمّ أمر المنصور بمال لجنده فتفرّقوا، وتصرّف المنصور في خراسان. وذلك في سنة سبع وثلاثين ومائة. وفي عقب قتل أبي مسلم خرج رجل اسمه سنباذ بخراسان يطلب بثأر أبي مسلم الخراسانيّ. شرح كيفيّة الحال في ذلك على سبيل الاختصار كان هذا سنباذ رجلا مجوسيّا من بعض قرى نيسابور [1] ، وكان من أصحاب أبي مسلم وصنائعه. فظهر غضبا لقتل أبي مسلم، وكثر أشياعه، وأطاعه أكثر أهل الجبال، وغلب على كثير من بلاد خراسان. فلمّا بلغ المنصور خبره أرسل إليه عشرة آلاف فارس، فالتقوا بين همذان والريّ، وكان هذا سنباذ قد أفسد في البلاد التي غلب عليها فسادا كثيرا وسبى الذّراريّ، وأظهر أنّه يريد أن يمضي إلى الحجاز ويهدم الكعبة فلما التقى هو وعسكر المنصور، كان سنباذ قد أخذ معه عدّة من النّساء المسلمات اللواتي قد سباهنّ وهنّ على جمال، فأمر سنباذ بإخراج النساء المسبيّات قدّام عسكره فخرج النّساء حواسر [2] على الجمال، وصحن صيحة واحدة وا محمّداه! فنفرت الجمال وكرّت راجعة على عسكر سنباذ ففرّقتهم، فتبعها   [1] نيسابور: بلدة غربي خراسان وجنوبي مرو، وغربيّها مدينتا همذان والرّيّ. [2] حواسر: ظاهرات الوجوه بلا حجاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 عسكر المنصور ودخلوا خلف الجمال فوضعوا فيهم السّيوف وأبادوهم قتلا. وكان عدّة القتلى نحوا من ستين ألفا. وقد دلّ الاستقراء على أنّ من اخترع دولة وأحدثها لم يستمتع بها في أغلب الأحوال. قال صلوات الله عليه: «لا تتمنّوا الدّول فتحرموها» وكأنّ المخترع للدولة يكون عنده من الدالّة [1] والتبسّط ما تأنف من احتماله نفوس الملوك. فكلما زاد تبسّطه زادت الأنفة عندهم حتّى يوقعوا به. والمنصور خلع ابن أخيه عيسى بن موسى من ولاية العهد وجعلها في ابنه محمّد المهديّ. شرح كيفيّة الحال في ذلك هو عيسى بن موسى بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس أمير الكوفة وهو ابن أخي المنصور. كان عيسى بن موسى قد جعله إبراهيم الإمام وليّ عهد بعد المنصور، وأخذ له البيعة على الناس وحلّفهم له، فلما كبر المهديّ بن المنصور شغف المنصور به شغفا شديدا، فأحبّ أن يبايع له بالخلافة، فخلع عيسى بن موسى وأشهد عليه بالخلع، وبايع للمهديّ وجعل عيسى بن موسى بعده. شرح كيفيّة خلع عيسى بن موسى قد اختلف أرباب السّير في كيفيّة خلعه. فقيل: إنّ المنصور التمس منه ذلك وكان يكرمه ويجلسه عن يمينه، ويجلس المهديّ عن يساره. فلمّا فاوضه المنصور في خلع نفسه قال: يا أمير المؤمنين: كيف أصنع بالأيمان [2] التي في رقبتي في رقاب الناس بالعتاق والطلاق؟ والحجّ والصّدقة؟ ليس إلى الخلع سبيل. فتغيّر   [1] الدالّة: إظهار المكانة. التعالي. [2] الأيمان: جمع يمين وهو القسم والعهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 المنصور عليه وباعده بعض المباعدة، وصار يأذن للمهديّ قبله ويجلسه دون المهديّ، وصار يتقصّد أذاه فكان يكون عيسى بن موسى جالسا فيحفر الحائط الّذي يليه وينثر التّراب على رأسه فيقول لبنيه: تنحّوا، ثم يقوم هو فيصلّي، والتّراب ينثر عليه ثمّ يؤذن له فيدخل على المنصور والتّراب عليه لا ينفضه فيقول له المنصور: يا عيسى ما يدخل أحد عليّ بمثل ما تدخل أنت به من الغبار والتّراب، أفكلّ هذا من الشارع فيقول عيسى: أحسب ذلك يا أمير المؤمنين. ولا يشكو!. وقيل: بل وضع المنصور الجند فصاروا يشتمون عيسى بن موسى إذا رأوه وينالون منه، فلمّا شكا ذلك إلى المنصور قال له يا ابن أخي: إنّي والله أخافهم عليك وعلى نفسي، فإنّهم قد أشربت قلوبهم حبّ هذا الفتى- يعني المهديّ- فلو قدّمته بين يديك! فخلع عيسى نفسه وبايع المهديّ. ولما رآه بعض أهل الكوفة وقد جعل المهديّ قدّامه في الخلافة، وصار هو بعده قال: هذا الّذي كان غدا فصار بعد غد وقيل بل اشتراها المنصور منه بمال مبلغه أحد عشر ألف ألف درهم. وقيل بل أرسل إليه خالد بن برمك فأخذ معه جماعة من أهل المنصور نحو ثلاثين رجلا، ومضى إلى عيسى فخاطبه في أن يخلع نفسه فأبى. فلمّا أبى قال خالد للجماعة، نشهد عليه أنّه قد خلع نفسه ونحقن بذلك دمه، ونسكّن الفتنة. فشهدوا عليه بذلك فقامت البيّنة به، وأنكر عيسى فلم يلتفت إليه، وتمّ خلعه وبويع للمهديّ. والله أعلم أيّ ذلك كان، والمنصور هو الّذي بنى الرّصافة لابنه المهديّ. شرح السّبب في بنائها كان الجند قد شغبوا على المنصور، فقال المنصور لقثم بن العبّاس بن عبيد الله ابن العبّاس ما ترى التياث [1] الجند؟ وإني خائف أن تجتمع كلمتهم! فقال له يا أمير المؤمنين الرّأي أن تعبّر ابنك إلى الجانب الشرقيّ وتعبّر معه قطعة من العسكر وتبني له مدينة فيصير هو في مدينة وعسكر بالجانب الشرقيّ، وأنت في مدينة وعسكر بالغربيّ. فإن رأيك حدث من أحد الجانبين استعنت عليه بالجانب الآخر،   [1] التياث الجند: شغبهم واحتجاجهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 فقبل قوله وبنى الرّصافة. وتمّت الرّصافة وصار الخلفاء بعد ذلك يدفنون موتاهم بها وبنوا بها التّرب الجليلة وحملوا إليها من الفرش العظيم والآلات الجليلة ما يتجاوز الحصر ووقفوا عليها من النّواحي والأقرحة [1] والعقارات جملة كثيرة وكانت في أيّامهم حرما إذا لجأ إليها الخائف أمن. ومات المنصور محرما بمكة سنة ثمان وخمسين ومائة؟ فكتم الرّبيع [2] أمره لأجل البيعة للمهديّ. فيقال إنه أجلسه وسنده وجعل على وجهه كلّة خفيفة، يرى وجهه منها ولا يفهم أمره. وأذن لوجوه بني هاشم، فلمّا دخلوا ووقفوا بين يديه وهم يحسبون أنّه حيّ تقدّم الربيع إليه كأنه يشاوره ثمّ عاد إليهم، وقال: أمير المؤمنين يأمركم بتجديد البيعة للمهديّ، فبايع الناس طرّا [3] . وقيل: إنّ المهديّ لما بلغه ذلك استخفّ بالرّبيع وقال: ما منعتك هيبة أمير المؤمنين من هذا الفعل به. شرح حال الوزارة في أيّامه لم تكن الوزارة في أيّامه طائلة، لاستبداده واستغنائه برأيه وكفاءته، مع أنّه كان يشاور في الأمر دائما. وإنّما كانت هيبته تصغر لها هيبة الوزارة، وكانوا لا يزالون على وجل منه وخوف، فلا يظهر لهم أبّهة ولا رونق. وزارة أبي أيّوب الموريانيّ للمنصور موريان قرية من قرى الأهواز [4] . كان المنصور قد اشتراه صبيّا قبل   [1] الأقرحة: الآبار. [2] الربيع: هو أبو الفضل الربيع بن يونس بن محمّد. وزر للمنصور حتى وفاته وقتله الخليفة الهادي بالسمّ عام/ 170/ هـ. [3] طرّا: جميعا. [4] الأهواز: مقاطعة جنوب غرب إيران، وشمال الخليج العربيّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 الخلافة وثقّفه فاتفق أنّه أرسله مرّة إلى أخيه السفّاح وهو خليفة، وأرسل معه هديّة، فلمّا رآه السفّاح أعجبته هيئته وفصاحته وصباحته، فقال له: يا غلام، لمن أنت قال: لأخي أمير المؤمنين، قال: بل أنت لي، واحتبسه عنده. وكتب إلى المنصور يعلمه أنّه قد أخذه وأعتقه. واختصّ بالسفّاح مدّة خلافته، ثم نمت حاله وتزايدت نعم الله عنده حتى قلّده المنصور وزارته. وكان لبيبا بصيرا بالأمور عاقلا فطنا، ذكيّا فاضلا، كريما غزير المروءة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 مكرمة حدّث ابن شبرمة [1] قال: زوّجت ابني على صداق مبلغه ألفا درهم، فجعلت أفكّر فيمن أستعين به على ذلك، فأتيت أبا أيوب الموريانيّ وزير المنصور فذكرت له ذلك، فقال: قد أمرنا لك بهذا القدر. فجزيته خيرا وقمت لأخرج فقال: لا تعجلن. اجلس. ثم قال: إذا دفعت المهر فما يحتاج ابنك إلى نفقة؟ ثم قال: أعطوه ألفي درهم للنفقة. وذهبت لأقوم، فقال: لا تعجل، أفلا يحتاج إلى خادم أعطوه ألفي درهم لخادم، فما زال يأمر لي في كلّ مرة بألفين، حتّى تكمّل ما أمر لي به خمسين ألف درهم. ذكر القبض على أبي أيّوب سليمان الموريانيّ كان أبو أيّوب يحبّ جمع المال ليتقرب به إلى المنصور إذا خافه، فقال له المنصور يوما: ما ترى حال صالح ابني؟ ليس له ضيعة! فقال أبو أيّوب: يا أمير المؤمنين: بالأهواز مزارع عاطلة تحتاج إلى ثلاثمائة ألف درهم، تعمر بها ويقوم منها حاصل جيّد. فأطلق له ثلاثمائة ألف درهم، وأمره بعمارتها لابنه صالح فأخذ أبو أيوب المال ولم يعمل في الضيعة شيئا، وصار في رأس كلّ سنة يحمل عشرين ألف درهم ويقول: هذه حاصل الضّيعة المستجدة. فانكتّم الحال عن المنصور مدّة، ثم إنّ أعداء أبي أيّوب وجدوا هذا طريقا إلى السّعاية به، فأعلموا المنصور الحال، فانحدر بنفسه إلى هناك، فأمر أبو أيّوب أن تبنى بيوت على جانب الشطّ ويغرس فيها كرم ويخضر حواليها. فلما فعل ذلك اجتاز المنصور بها   [1] ابن شبرمة: الشّبرمة: واحدة الشّبرم وهو نبات مخدّر. ولم نعثر على ترجمة لابن شبرمة هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 فقال له أبو أيوب: هذه هي الضّيعة. فرأى المنصور العمارة والخضرة فكاد الأمر يشتبه عليه، فأعلمه أعداء أبي أيوب صورة الحال، فركب بنفسه وأخذ الأدلاء معه وطاف الضّيعة فوجدها عاطلة لا عمارة فيها، فعرف القصّة وتنبّه على خيانة أبي أيوب فنكبه وقتله، وقتل أقاربه واستصفى أموالهم. وقال ابن حبيبات الشاعر الكوفيّ في ذلك: قد وجدنا الملوك تحمد من ... أعطته طوعا أزمّة التّدبير فإذا ما رأوا له النّهي والأمر ... أتوه من بأسهم بنكير شرب الكأس بعد حفص سليمان ... ودارت عليه كفّ المدير ونجا خالد بن برمك منها ... إذ دعوه من بعدها بالأمير أسوأ العالمين حالا لديهم ... من تسمّى بكاتب أو وزير (خفيف) وزارة الربيع بن يونس للمنصور هو أبو الفضل الربيع بن يونس بن محمّد بن كيسان، هو أبو فروة مولى عثمان ابن عفّان. كان يقال: إن الربيع لقيط، ولذلك قال يوما لرجل كرّر الترحّم على أبيه في حضرة المنصور. كم تكرّر ذكر أبيك وتترحّم عليه؟ فقال له الرجل: إنّك معذور في ذلك لأنّك لم تذق حلاوة الآباء. قالوا: والصّحيح أنّه ابن يونس بن محمّد بن أبي فروة [1] ، وبلغني أنّ علاء الدين عطا ملك بن الجويني [2] صاحب   [1] بدءا من قوله أبي فروة، وقع تصرّف وإسقاط من النص حتى قوله: كان الربيع جليلا نبيلا.. قارن النص مع ألما ص 209، ورحما ص 129، وطبعة بيروت ص 177 المحقق. [2] الجويني: هو علاء الدين عطا ملك. مؤرّخ فارسي، ولاه هولاكو العراق وخوزستان. اهتمّ بالزراعة والإعمار وشجّع الأدباء والعلماء. وهو من معاصري محمد بن علي بن طباطبا، مؤلف كتاب الفخري هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 الديوان كان ينتسب إلى الفضل بن الربيع. ولقد عجبت من الصّاحب علاء الدين- مع نبله واطّلاعه على السّير والتواريخ- كيف رضي أن ينتسب إلى الفضل بن الربيع! فإن كان قد انتحل هذا النسب، ففضيحة ظاهرة، وإن كان حقّا فلقد كان العقل الصحيح يقتضي ستره، فإنه نسب لا يوجد أرذل منه. فإن أبا فروة كان ساقطا، وكان عبدا للحارث حفّار القبور بمكّة، والحارث مولى عثمان بن عفّان، فأبو فروة عبد عبد عثمان، وفي ذلك يقول الشاعر: وإنّ ولا [1] كيسان للحارث الّذي ... ولى زمنا حفر القبور بيثرب [2] (طويل) وأبو فروة خرج على عثمان يوم الدّار [3] ، وكفاه بذلك عارا! فانظر هل ترى نسبا أسقط أو أرذل من هذا؟ وأعجب من رأي الصاحب علاء الدين في هذا خلوّ حضرته ممن يعرف هذا القدر، فينبّهه عليه. كان الرّبيع جليلا نبيلا منفّذا للأمور، مهيبا فصيحا، كافيا حازما، عاقلا فطنا خبيرا بالحساب والأعمال، حاذقا بأمور الملك، بصيرا بما يأتي ويذر محبا لفعل الخير. روي أنّ المنصور أحضر يوما إنسانا ذكر له أنّه وثب على عامله ببعض النّواحي فقال المنصور ويحك! أنت المتوثّب على فلان العامل؟ والله لأنثرنّ من لحمك أكثر ممّا يبقى منه على عظمك، وكان شيخا كبيرا، فأنشد بصوت ضعيف. أتروض عرسك [4] بعد ما هرمت ... ومن العناء رياضة الهرم (كامل) فقال المنصور: يا ربيع. ما يقول؟ فقال: يقول: العبد عبدكم والأمر أمركم ... فهل عذابك عنّي اليوم مصروف؟   [1] ولا: ولاء:، والولاء هو الطاعة والالتحاق. [2] يثرب: المدينة المنورّة. [3] يوم الدار: يوم حصار عثمان بن عفّان في داره حيث قتل عام/ 35/ هـ. [4] عرسك: زوجتك. العرس: الزّوج من ذكر أو أنثى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 فقال: قد عفونا عنه، فلينصرف. ورأى المنصور يوما في بستانه شجيرة من شجر الخلاف [1] فلم يدر ما هي، فقال: يا ربيع ما هذه الشجرة؟ فقال الربيع: إجماع ووفاق، وكره أن يقال: خلاف، فاستعقله المنصور واستحسن قوله. ولم يزل الربيع وزيرا للمنصور إلى أن مات المنصور، وقام الربيع بأخذ البيعة للمهديّ على ما تقدّم وصفه، وهو آخر وزراء المنصور، وقتله الهادي، وكان سبب قتله أنّه أهدى جارية حسناء إلى المهديّ بن المنصور، فوهبها المهديّ لابنه موسى الهادي فغلب حبّها عليه وأولدها أولاده فلما صار الهادي خليفة، سعى إليه أعداء الربيع فناوله الهادي قدحا فيه عسل مسموم. فشربه فمات ليومه، وذلك في سنة سبعين ومائة. انقضت أيام المنصور ووزرائه. ثمّ ملك بعده ابنه محمّد المهديّ هو أبو عبد الله محمّد المهديّ بن أبي جعفر المنصور، وقد مرّ نسبه. بويع له بالخلافة بمكة، في سنة ثمان وخمسين ومائة. كان المهديّ شهما فطنا كريما شديدا على أهل الإلحاد والزّندقة. لا تأخذه في إهلاكهم لومة لائم، وكانت أيّامه شبيهة بأيّام أبيه في الفتوق والحوادث والخوارج وكان يجلس في كلّ وقت لردّ المظالم. روي عنه: أنه كان إذا جلس للمظالم قال: أدخلوا عليّ القضاة، فلو لم يكن ردّي للمظالم إلا للحياء منهم لكفى!. وحدّث عنه: أنّه خرج متنزّها ومعه رجل من خواصّه اسمه عمرو، فانقطعا في الصّيد عن العسكر فجاع المهديّ، فقال: هل من شيء يؤكل؟ فقال له   [1] الخلاف: شجر يشبه الصّفصاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 عمرو: أرى كوخا، فقصدوه فإذا فيه نبطيّ [1] وعنده مبقلة [2] ، فسلّموا عليه فردّ السّلام، فقالوا: هل من طعام؟ فقال: عندي ربيثاء [3] ، وهو نوع من الصحناء- وعندي خبز شعير فقال المهديّ: إن كان عندك زيت فقد أكملت الضيافة، قال: نعم، وكرّاث [4] فأتاهما بذلك فأكلا حتّى شبعا، فقال المهديّ لعمرو: قل في هذا شعرا فقال: إنّ من يطعم الرييثاء بالزّيت ... وخبز الشّعير بالكرّاث لجدير بصفعة أو بثنتين ... لسوء الصنيع، أو بثلاث (خفيف) فقال المهديّ: بئس ما قلت. إنّما كان ينبغي أن تقول: لجدير ببدرة [5] أو بثنتين ... لحسن الصّنيع أو بثلاث قال: ووافاهم العسكر والخزائن والخدم، فأمر للنبطيّ بثلاث بدر وانصرف وفي أيّامه ظهر المقنّع بخراسان. شرح كيفيّة الحال في ذلك كان هذا المقنّع رجلا أعور قصيرا من أهل مرو، وكان قد عمل وجها من ذهب وركّبه، على وجهه لئلا يرى وجهه، وادّعى الإلهية، وكان يقول: إن الله خلق آدم فتحوّل في صورته، ثمّ في صورة نوح، وهكذا هلمّ جرّا إلى أبي مسلم الخراسانيّ وسمّى نفسه هاشما، وكان يقول بالتناسخ. وبايعه خلق من ضلال الناس وكانوا يسجدون إلى ناحيته أين كانوا من البلاد، وكانوا يقولون في الحرب: يا هاشم أعنّا واجتمع إليه خلق كثير.   [1] النّبطيّ: رجل من العجم يزرع الأرض. [2] المبقلة: مزرعة البقول وهي الخضار. [3] ربيثاء: ضرب من صغار السّمك المملّح، ومثله الصّحناء. [4] الكرّاث: نبت نافذ الرائحة يشبه الثوم والبصل، يؤكل بين المقبّلات. [5] البدرة: صرّة المال. الهدية الثمينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 فأرسل المهديّ إليه جيشا فاعتصم منهم بقلعة هناك، وطاولوه فضجر وضجر أصحابه. فطلب أكثرهم الأمان وبقي معه نفر يسير وهو في القلعة محاصر فأضرم نارا عظيمة وأحرق جميع ما بالقلعة من دابّة وثوب ومتاع، ثمّ جميع نسائه [1] وأولاده وقال لأصحابه: من أحبّ منكم الارتفاع معي إلى السماء فليلق نفسه في هذه النار، ثم ألقى فيها نفسه وأولاده ونساءه، خوفا أن يظفر بجثته أو بحرمة. فلما احترقوا فتحت أبواب القلعة، فدخلها عسكر المهديّ فوجدوها خالية خاوية. ولمّا ولي المهديّ الخلافة جدّد الكلام في خلع عيسى بن موسى والبيعة لولديه: موسى الهادي، وهارون الرّشيد. وقد تقدّم شرح كيفيّة خلعه في أيّام المنصور، وأنه قدّم المهديّ عليه. فلمّا ولي المهديّ أراد لبنيه ما أراد المنصور له فطلب من عيسى بن موسى أن يخلع نفسه فأبى، فأرهبه وأرغبه حتّى أجاب، وأشهد عليه بالخلع، وبايع لولديه الهادي والرّشيد. وكان المهديّ ينظر في الدّقائق من الأمور، وكذلك كان أبوه فتقدّم المهديّ حين ولي بردّ نسب آل زياد [2] بن أبيه إلى عبيد الثّقفي، وإسقاطهم، من ديوان قريش. وبردّ نسب آل أبي بكرة إلى ولاء رسول الله- صلوات الله عليه وسلامه- وكتب الكتب بذلك، فاعتمد ما رسم به، ثم بعد ذلك ارتشى العمّال من بني زياد وأعادوهم إلى ديوان قريش. وغزا المهديّ الروم عدّة دفعات وكانت له الغلبة. ومات المهدي بماسبذان، واختلف في سبب موته. فقيل: إنّه طرد ظبيا في بعض متصيّداته فدخل الظبي إلى باب خربة، فدخل فرس المهديّ خلفه فدقّه باب الخربة، فقطع ظهره فمات من ساعته. وقيل: إنّ بعض جواريه جعلت سمّا في بعض المآكل لجارية أخرى، فأكل المهديّ منه   [1] ثم جميع نسائه: الصواب: [ثم جمع نساءه] انظر طبعة بيروت ص 180. [2] زياد بن أبيه: كان من أنصار عليّ بن أبي طالب ثم تحوّل إلى نصرة معاوية فولاه الكوفة والبصرة. وقد ألحقه معاوية بنسبه فادعاه لأبيه أبي سفيان ترغيبا له، وظلّ مغمور النسب. توفي عام/ 53/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وهو لا يعلم فمات. وذلك في سنة تسع وستين ومائة. وقال أبو العتاهية يصف جواريه وقد برزن بعد موته وعليهنّ المسوح: رحن في الوشي وأقبلن عليهنّ المسوح [1] ... كلّ نطّاح من الدّهر له يوم نطوح لست بالباقي ولو عمّرت ما عمّر نوح ... فعلى نفسك نح إن كنت لا بدّ تنوح (رمل) شرح حال الوزارة في أيّامه في أيّامه ظهرت أبّهة الوزارة بسبب كفاءة وزيره أبي عبيد الله معاوية بن يسار فإنّه جمع له حاصل المملكة، ورتّب الديوان، وقرّر القواعد. وكان كاتب الدنيا وأوحد النّاس حذقا وعلما وخبرة. وهذا شرح طرف من حاله. وزارة أبي عبيد الله معاوية بن يسار للمهدي ّ هو من موالي الأشعريّين [2] . كان كاتب المهديّ ونائبة قبل الخلافة، ضمّه المنصور إليه، وكان قد عزم أن يستوزره، لكنه آثر به ابنه المهديّ، فكان غالبا على أمور المهديّ لا يعصي له قولا، وكان المنصور لا يزال يوصيه فيه ويأمره بامتثال [3] ما يشير به، فلمّا مات المنصور وجلس المهديّ على سرير الخلافة، فوّض إليه تدبير المملكة وسلّم إليه الدواوين. وكان مقدّما في صناعته فاخترع أمورا: منها أنه نقل الخراج إلى المقاسمة- وكان السّلطان يأخذ عن الغلات خراجا   [1] المسوح: جمع مسح. وهو كساء من شعر خشن يلبس في حال الحزن أو التزهّد. [2] الأشعريّون: موالي أبي موسى الأشعري الصّحابيّ وهو أحد الحكمين بين عليّ ومعاوية. [3] الامتثال: الطاعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 فوّض إليه تدبير المملكة وسلّم إليه الدواوين. وكان مقدّما في صناعته فاخترع أمورا: منها أنه نقل الخراج إلى المقاسمة- وكان السّلطان يأخذ عن الغلات خراجا مقرّرا ولا يقاسم- فلمّا ولي أبو عبيد الله الوزارة قرّر أمر المقاسمة، وجعل الخراج على النّخل والشّجر، واستمرّ الحال في ذلك إلى يومنا، وصنّف كتابا في الخراج، وذكر فيه أحكامه الشرعيّة ودقائقه وقواعده، وهو أول من صنّف كتابا في الخراج، وتبعه الناس بعد ذلك فصنّفوا كتب الخراج، وكان شديد التكبّر والتجبّر. روي أنّ الرّبيع لمّا قدم من مكّة بعد موت المنصور، وأخذ البيعة للمهديّ حضر من ساعة وصوله إلى باب أبي عبيد الله، فقال له ابنه الفضل: يا أبي، نبدأ به قبل أمير المؤمنين، وقبل منزلنا؟ قال: نعم يا بنيّ، هو صاحب الرجل والغالب على أمره. قال: فوصل الربيع إلى باب أبي عبيد الله الوزير فوقف ساعة حتّى خرج الحاجب ثم دخل فاستأذن له فأذن له. فلمّا دخل عليه لم يقم له، ثمّ سأله عن مسيره وحاله فأخبره وشرع الربيع يحدّثه بما جرى في مكّة من موت المنصور واجتهاده في أخذ البيعة للمهديّ، فسكّته وقال: قد بلغني الخبر فلا حاجة إلى إعادته فاغتاظ الربيع ثم قام فخرج، وقال لابنه الفضل: عليّ كذا وكذا إن لم أبذل مالي وجاهي في مكروهة وإزالة نعمته. ومضى الربيع إلى المهديّ فاستحجبه [1] واختصّ به كما كان مع أبيه فشرع في إفساد حال أبي عبيد الله الوزير بكلّ وجه، فلم يتّفق له ذلك. فخلا ببعض أعدائه وقال له: قد ترى ما فعل معك أبو عبيد الله- وكان قد أساء إليه- وما فعل معي أيضا فهل عندك تدبير في أمره؟ قال الرجل لا والله ما عندي حيلة تنفذ عليه فإنّه أعفّ الناس يدا ولسانا، ومذهبه مذهب مستقيم وحذقه في صناعته ما عليه مزيد وعقله وكفاءته كما علمت. ولكنّ ابنه رديء الطريقة مذموم السّيرة، والقول يسرع إليه. فإن تهيّأ حيلة من جهة ابنه فعسى ذلك فقبّله الربيع بين عينيه، ولاح له وجه الحيلة عليه، فسعى بابنه [2] إلى المهديّ   [1] استحجبه: جعله حاجبه. [2] سعى به: وشى به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 أنواعا من السّعايات وأخذ يرميه بالزّندقة [1] . وكان المهديّ شديدا على أهل الإلحاد والزّندقة، لا يزال يتطلع عليهم ويفتك بهم. فلمّا رسخ في ذهن المهديّ زندقة ابن الوزير استدعى به، فسأله عن شيء من القرآن العزيز فلم يعرف فقال لأبيه وكان حاضرا: ألم تخبرني أنّ ابنك يحفظ القرآن؟ قال بلى يا أمير المؤمنين ولكن فارقني مذ مدّة فنسيه. فقال له: قم فتقرّب إلى الله بدمه. فقام أبو عبيد الله فعثر ووقع وارتعد، فقال له العبّاس بن محمّد عمّ المهديّ: يا أمير المؤمنين، إن رأيت أن تعفي الشيخ من قتل ولده، ويتولّى ذلك غيره. فأمر المهديّ بعض من كان حاضرا بقتله فضربت عنقه. واستمرّ أبوه على حاله من الخدمة إلا أنه ظهر عليه الانكسار وتنمّر قلبه [2] ، وتنمّر قلب المهديّ منه. فدخل بعض الأيّام على المهديّ ليعرض عليه كتبا قد وردت من بعض الأطراف، فتقدّم المهديّ بإخلاء المجلس فخرج كلّ من به إلا الرّبيع، فلم يعرض أبو عبيد الله شيئا من الكتب، وطلب أن يخرج الربيع فقال له المهديّ: يا ربيع اخرج. فتنحى الربيع قليلا، فقال المهديّ: ألم آمرك بالخروج؟ قال: يا أمير المؤمنين، كيف أخرج وأنت وحدك وليس معك سلاح؟ وعندك رجل من أهل الشّأم اسمه معاوية، وقد قتلت بالأمس ولده، وأوغرت صدره- على هذه الحال وأخرج؟! فثبت هذا المعنى في نفس المهديّ إلا أنه قال: يا ربيع، إنّي فكيف أدعك معه أثق بأبي عبيد الله في كلّ حال. وقال لأبي عبيد الله الوزير: اعرض ما تريد فليس دون الرّبيع سرّ. ثم قال بعد ذلك المهديّ للربيع: إني أستحي من أبي عبيد الله بسبب قتل ولده فأحجبه عنّي. فحجب عنه، وانقطع بداره، واضمحلّ أمره، وتهيّأ للربيع ما أراده من إزالة نعمته ومات أبو عبيد الله معاوية بن يسار في سنة سبعين ومائة.   [1] الزندقة: الخروج على الدين. [2] تنمّر قلبه: شحن بالحذر والكراهية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وزارة أبي عبيد الله يعقوب بن داود للمهدي ّ هو من الموالي. قال الصّولي [1] : كان داود أبوه وإخوته كتّابا لنصر بن سيّار أمير خراسان. كان يعقوب بن داود يتشيّع، وكان في ابتداء أمره مائلا إلى بني عبد الله بن الحسن، وجرت له خطوب في ذلك. ثمّ إنّ المهديّ خاف من بني الحسن أن يحدثوا أمرا لا يتدارك، فطلب رجلا ممّن له أنس ببني الحسن ليستعين به على أمرهم، فدلّه الربيع على يعقوب بن داود لصداقة كانت بين الربيع وبينه، وليتّفقا على إزالة دولة أبي عبيد الله معاوية الوزير. فاستحضره المهديّ وخاطبه، فرأى أكمل الناس عقلا وأفضلهم سيرة فشغف به واستخلصه لنفسه. ثم استوزره وفوّض الأمور إليه. وقيل إنّ السبب في وزارته غير هذا. وهو أنّ يعقوب بن داود قرّر للربيع مائة ألف دينار إن حصلت له الوزارة، فجعل الربيع يثني عليه في الخلوات عند المهديّ فطلب المهديّ أن يراه. فلمّا حضر بين يديه رأى أكمل الناس خلقا وفضلا ثم قال له: يا أمير المؤمنين، ها هنا أمور لا تنتهي إلى علمك، فإن ولّيتني عرضها عليك بذلت جهدي في نصيحتك فقرّبه وأدناه فصار يعرض عليه من المصالح والمهمّات والنصائح الجليلة ما لم يكن يعرض عليه من قبل فاستخصّه وكتب كتابا بأنه أخوه في الله تعالى، واستوزره وفوض إليه الأمور كلّها وسلّم إليه الدواوين، وقدّمه على جميع الناس حتّى قال بشّار [2] يهجوه: بني أميّة هبّوا طال نومكم ... إنّ الخليفة يعقوب بن داود ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا ... خلافة الله بين الناي والعود [3]   [1] الصّوليّ: صاحب «الأوراق» في التأريخ للعباسيين، وقد سبقت ترجمته. [2] بشّار: هو بشار بن برد، أبو معاذ، شاعر فارسي الأصل. كان كفيف البصر غزلا وهجّاء وشى به الوزير يعقوب بن داود إلى المهديّ، فقتله بتهمة الزندقة ضربا بالسياط. عام/ 168/ هـ. [3] وفي معظم الروايات: «خليفة الله بين الزقّ والعود» . الزقّ: وعاء الخمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وذلك لأنّ المهديّ اشتغل باللهو واللعب وسماع الأغاني، وفوّض الأمور إلى يعقوب بن داود. وكان أصحاب المهديّ يشربون عنده النبيذ، وقيل: ما كان هو يشرب معه، فنهاه يعقوب بن داود عن ذلك ووعظه. وقال أبعد الصّلوات في المسجد تفعل هذا؟ فلم يلتفت إليه. وفي ذلك يقول الشاعر للمهديّ: فدع عنك يعقوب بن داود جانبا ... وأقبل على صهباء [1] طيبة النّشر [2] (طويل) ثمّ إن السّعاة ما زالوا يسعون بيعقوب بن داود إلى المهديّ حتى نكبه، وجعله في «المطبق» وهو حبس التّخليد [3] . فلم يزل على ذلك مدّة أيّام المهديّ حتّى أخرجه الرّشيد. شرح السّبب في القبض عليه وكيفيّة ما جرى حدّث يعقوب بن داود قال استدعاني المهديّ يوما فدخلت عليه، وهو في مجلس في وسط بستان، ورءوس الشجر مع أرض ذلك المجلس، وقد امتلأت رءوس الشّجر من الأزهار المتنوعة، وقد فرش المجلس بفرش مورّدة، وبين يديه جارية حسناء لم أر أحسن وجها منها، فقال لي: يعقوب. كيف ترى هذا المجلس قلت: في غاية الحسن، فهنّأ الله أمير المؤمنين قال: فهو لك وجميع ما فيه ومائة ألف درهم وهذه الجارية ليتمّ سرورك. فدعوت له قال: ولي إليك حاجة أريد أن تضمن لي قضاءها قلت: يا أمير المؤمنين، أنا عبدك الطائع لجميع ما تأمر به، فدفع إليّ رجلا علويّا وقال: أحبّ أن تكفيني أمره، فإنّي خائف أن يخرج عليّ. قال: فقلت: السّمع والطاعة قال: تحلف لي؟ فحلفت له باللَّه أن أفعل ما يريد.   [1] الصهباء: من ألقاب الخمرة، لونها أصهب مائل إلى الحمرة. [2] النّشر: الرائحة المنتشرة. [3] حبس التخليد: السجن المؤبّد، مدى الحياة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 ثمّ نقل جميع ما كان في المجلس إلى منزلي، والجارية أيضا فمن شدّة سروري بالجارية جعلتها في موضع قريب من مجلسي وليس بيني وبينها سوى ستر رقيق. قال: وأدخلت العلويّ إليّ وخاطبته، فرأيت أتمّ الناس عقلا، فقال لي يا يعقوب تلقى الله بدمي، وأنا ابن عليّ بن أبي طالب وابن فاطمة- رضي الله عنهما- وليس لي إليك ذنب؟ قال فقلت: لا والله، خذ هذا المال وأنج بنفسك. قال: والجارية تسمع كلّ ذلك فأرسلت إلى المهديّ دسيسا [1] أعلمه بالقصّة، فأرسل المهديّ، وشحن [2] الدّروب بالرّجال حتى حصّل العلويّ وجعله في بيت قريب من مجلسه، ثمّ استدعاني فحضرت، فقال: يا يعقوب، ما فعلت بالعلويّ؟ قلت: قد أراح الله منه أمير المؤمنين، قال: مات؟ قلت: نعم، قال: باللَّه؟ قلت، إي والله، قال: فضع يدك على رأسي واحلف به، قال يعقوب: فوضعت يدي على رأسه وحلفت به، فقال لبعض الخدم. أخرج إلينا من في هذا البيت قال: فأخرج العلويّ. فلما رأيته امتنع الكلام عليّ وتحيّرت في أمري، فقال المهديّ: يا يعقوب قد حلّ لي دمك، احملوه إلى «المطبق» قال يعقوب فدلّيت بحبل في بئر مظلمة لا أرى فيها الضوء، وكان يأتيني في كلّ يوم ما أتقوّت به، فمكثت مدّة لا أدري كم هي، وذهب بصري ففي بعض الأيّام دلّي لي حبل وقيل: اصعد، قد جاء الفرج. فصعدت وقد طال شعري وأظافيري، فأدخلت الحمّام وأصلحوا شأني وألبسوني ثيابا، ثمّ قادوني إلى مجلس فقيل لي سلم على أمير المؤمنين. فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين، وقيل لي: على أيّ أمراء المسلمين سلّمت؟ قلت: على أمير المؤمنين المهديّ، فسمعت قائلا من صدر المجلس يقول: رحم الله المهديّ: ثم قيل لي: سلّم على أمير المؤمنين، فقلت السّلام عليك يا أمير المؤمنين فقيل لي: على أيّ أمراء المؤمنين سلّمت؟ فقلت: على أمير المؤمنين الهادي، فسمعت قائلا يقول من صدر المجلس: رحم الله الهادي. ثمّ قيل لي سلّم، فسلّمت   [1] دسيسا: جاسوسا، مخبرا سرّيا. [2] شحن: ملأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 فقيل لي: على من سلّمت؟ قلت: على أمير المؤمنين هارون الرّشيد، فقال: وعليك السّلام يا يعقوب ورحمة الله وبركاته، أعزز عليّ بما نالك فجعلت المهديّ في حلّ ودعوت للرّشيد وشكرته على خلاصي. ثمّ قال: ماذا تريد يا يعقوب؟ قلت يا أمير المؤمنين، ما بقي في مستمع ولا بلاغ، وأريد المجاورة بمكّة، فأمر لي بما يصلحني. ثم توجّه يعقوب إلى مكّة وجاور بها، ولم تطل أيّامه حتّى مات هناك سنة ستّ وثمانين ومائة. وزارة الفيض بن أبي صالح للمهدي ّ هو من أهل نيسابور، وكانوا نصارى، فانتقلوا إلى بني العبّاس وأسلموا. وتربّى الفيض في الدولة العبّاسيّة وتأدّب وبرع، وكان سخيّا مفضالا متخرّقا في ماله جوادا عزيز النّفس، كبير الهمّة كثير الكبر والتّيه، حتّى قال فيه بعض الشّعراء: أبا جعفر جئناك نسأل نائلا [1] ... فأعوزنا من دون نائلك البشر فما برقت بالوعد منك غمامة ... يرجّى بها من سيب نائلك القطر فلو كنت تعطينا المنى وزيادة ... لنغصّها منك التجبّر والكبر (طويل) قالوا: كان يحيى بن خالد بن برمك إذا استعظم أحد كرمه وجوده قال: لو رأيتم الفيض لصغر عندكم أمري. وفي الفيض يقول أبو الأسود الحماني الشاعر يمدحه: ولائمة لأمتك يا فيض في النّدى ... فقلت لها: لن يقدح اللّوم في البحر أرادت لتثني [2] الفيض عن سنن النّدى [3] ... ومن ذا الّذي يثني السّحاب عن القطر؟   [1] نائلا: عطاء. [2] تثني: تمنع وتكفّ. [3] سنن النّدى: طرائق الكرم ومناهجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 مواقع جود الفيض في كلّ بلدة ... مواقع ماء المزن [1] في البلد القفر كأنّ وفود الفيض لمّا تحمّلوا ... إلى الفيض وافوا عنده ليلة القدر (طويل) قالوا: كان الفيض بن أبي صالح متوجّها في بعض الأيّام إلى بعض أغراضه فصادفه صديق له، فسأله الفيض إلى أين يذهب، فقال: إنّ وكيل السيدة أمّ جعفر زبيدة قد حبس فلانا على بقيّة ضمان، مبلغها مائة ألف دينار، وفلان- يعني المحبوس- صديقي وصديقك أيضا وأنا متوجّه إلى الوكيل المذكور لأشفع فيه فهل لك أن تصل جناحي وتساعدني على هذه المكرمة؟ فقال الفيض: إي والله. ثمّ مضى معه فحضر عند وكيل أمّ زبيدة. وشفعا في الرّجل المحبوس، فقال الوكيل: الأمر في هذا إليها، وما أستطيع أن أفرج عنه إلا بقولها، ولكنّي أخاطبها وأحسن لها الإفراج عنه. ثمّ كتب إليها شيئا، فخرج الجواب أنّه لا بدّ من استيفاء هذا المال، ولا سبيل إلى قبول شفاعة في هذا الباب فاعتذر الوكيل إليهما وأراهما الخطّ، فقال الرجل للفيض: قم حتّى نمضي فقد فعلنا ما يجب علينا، فقال الفيض: لا والله، ما فعلنا ما يجب علينا، فكأنّنا ما جئنا هنا إلا لنؤكّد حبس صاحبنا. قال الرجل فما تصنع؟ قال الفيض: حيث قد تعذر علينا خلاصه من هذه الجهة، نؤدّي عنه هذا المال من خاصّنا ونخرجه أنت نصفه، وأنا نصفه. فأجاب الرّجل إلى ذلك فقالا للوكيل: كم لك عليه؟ قال: مائة ألف دينار قالا: هي علينا وهذا خطنا بها، فادفع إلينا صاحبنا، قال: هذا أيضا لا أقدر أن أفعله، حتى أعلمها بالحال، قالا: فأعلمها. فكتب إليها الوكيل يخبرها بما قال الفيض وبصورة الحال، فخرج الخادم وقال: لا يكون الفيض أكرم منّا، قد وهبناه المائة الألف فادفع إليهم صاحبهم، فأخذاه وخرجا. وكان الفيض قد وصف للمهديّ لمّا عزم على القبض على يعقوب   [1] المزن: السّحاب الممطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 ابن داود، فلما قبض عليه أحضر الفيض واستوزره وفوّض الأمور إليه. ومات المهديّ وهو وزيره، فلمّا ولي الهادي لم يستوزره. وبقي الفيض إلى أوّل أيّام الرّشيد، ثمّ مات، وذلك في سنة ثلاث وسبعين ومائة. انقضت أيّام المهديّ ووزرائه ثمّ ملك بعده ابنه موسى الهادي بويع له بالخلافة في سنة تسع وستّين ومائة. كان الهادي متيقّظا غيورا، كريما شهما أيّدا، شديد البطش جريء القلب مجتمع الحسّ، ذا إقدام وعزم وحزم. حدّث عبد الله بن مالك- وكان يتولّى شرطة المهديّ- قال: كان المهديّ يأمرني بضرب ندماء الهادي ومغنّيه وحبسهم صيانة له عنهم، فكنت أفعل ما يأمرني به المهديّ. وكان الهادي يرسل إليّ في التخفيف عنهم فلا أفعل، فلمّا مات المهديّ وولي الهادي، أيقنت بالتلف، فاستحضرني يوما، فدخلت عليه وهو جالس على كرسيّ- والسّيف والنّطع بين يديه، فسلّمت، فقال: لا سلّم الله عليك، أتذكر يوم بعثت إليك في أمر الحرّاني وضربه فلم تقبل قولي؟ وكذلك فعلت في فلان- وعدّد ندماءه فلم تلتفت إلى قولي قلت: نعم، أفتأذن في ذكر الحجّة؟ قال: نعم، قلت: ناشدتك الله، لو أنّك قلّدتني ما قلّدني المهديّ، وأمرتني بما أمر، فبعث إليّ بعض بنيك بما يخالف أمرك فاتّبعت قوله وتركت قولك، أكان يسرّك ذلك؟ قال: لا، قلت: فكذلك أنا لك، وكذلك كنت لأبيك. فاستدناني فقبّلت يده، ثمّ: أمر لي: بالخلع، وقال: وليتك ما كنت تتولاه، فامض راشدا. فمضيت مفكّرا في أمري وأمره، وقلت: حدث يشرب، والقوم الذين عصيته في أمرهم ندماؤه ووزراؤه وكتّابه وكأني بهم حين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 يغلب الشراب عليه يغلبون على رأيه ويحسّنون له هلاكي؟ قال: فإنّي لجالس وعندي بنيّة لي، والكانون بين يديّ، وقدّامي رقاق وكامخ [1] ، وأنا أشطره بالكامخ وأسخّنه بالنار وآكل وأطعم الصّغيرة- وإذا بوقع حوافر الخيل، فظننت أنّ الدّنيا قد زلزلت، فقلت: هذا ما كنت أخافه وإذا الباب قد فتح، وإذا الخدم قد دخلوا والهادي في وسطهم على دابّة، فلما رأيته وثبت فقبّلت يده ورجله وحافر فرسه فقال لي: يا عبد الله: إني فكّرت في أمرك فقلت: ربّما سبق إلى ذهنك أني إذا شربت وحولي أعداؤك، أزالوا حسن رأيي فيك فيقلقك ذلك فصرت إلى منزلك لأؤنّسك وأعلمك أن ما كان عندي من الحقد عليك قد زال جميعه. فهات وأطعمني ممّا كنت تأكل، لتعلم أني قد تحرّمت بطعامك، فيزول خوفك. فأدنيت إليه من ذلك الرقاق والكامخ فأكل، ثمّ قال: هاتوا ما صحبناه لعبد الله فدخل أربعمائة بغل موقرة دراهم وغيرها. فقال: هذه لك، فاستعن بها على أمرك واحفظ هذه البغال عندك لعلّي أحتاج إليها لبعض أسفاري- ثمّ انصرف. ومن كلامه ما قاله لإبراهيم ابن مسلم بن قتيبة، وقد مات له ولد فجاء الهادي يعزّيه وكان عنده بمنزلة عظيمة، فقال له: «يا إبراهيم، سرّك ابنك وهو عدوّ وفتنة، وحزنك وهو صلاة ورحمة؟» فقال إبراهيم يا أمير المؤمنين: ما بقي منّي جزء فيه حزن إلا وقد امتلأ عزاء. وفي أيّامه خرج صاحب فخّ [2] ، وهو الحسين بن عليّ بن الحسن ابن الحسن بن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) . شرح كيفيّة الوقعة بفخّ كان الحسين بن عليّ من رجال بني هاشم وسادتهم وفضلائهم، وكان قد عزم على الخروج، واتّفق معه جماعة من أعيان أهل بيته، ثمّ وقع من عامل المدينة تهضّم [3] لبعض آل عليّ (عليه السلام) . فثار آل أبي طالب بسبب ذلك،   [1] الرّقاق: الخبز المنبسط الرقيق، والواحدة منه الرّقاقة. الكامخ: إدام يؤتدم به أو هو المخلّل، [2] فخّ: موقع بين مكّة والمدينة. [3] التهضّم: الظلم والجور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 واجتمع إليهم ناس كثيرون، وقصدوا دار الإمارة فتحصّن منهم عاملها، فكسروا السّجون وأخرجوا من بها. وبويع الحسين بن عليّ- عليه السّلام- ثمّ نما أمرهم، فأرسل إليهم محمّد بن سليمان- وقالوا: سليمان بن المنصور- في عسكر فالتقوا بموضع يقال له فخّ بين مكّة والمدينة، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثمّ قتل الحسين بن عليّ- رضي الله عنه- وحمل رأسه إلى موسى الهادي، فلمّا وضع الرأس بين يديه قال لمن أحضره: كأنكم قد جئتم برأس طاغوت من الطواغيت! إنّ أقلّ ما أجزيكم به حرمانكم. ولم يطلق لهم شيئا. وكان الحسين بن عليّ- رضي الله عنه- صاحب فخّ شجاعا كريما. قدم على المهديّ فأعطاه أربعين ألف دينار، ففرّقها في الناس ببغداد والكوفة، وخرج من الكوفة لا يملك ما يلبسه إلا فروا ما تحته قميص (رضي الله عنه وسلّم عليه) . ولم تطل مدّة الهادي، فيقال: إن أمّه الخيزران أمرت جواريها بقتله، فجلسوا على وجهه حتّى مات. وسبب ذلك قد اختلف فيه، فقيل. إنّ الخيزران كانت متبسّطة [1] في دولة المهديّ تأمر وتنهى، وتشفع وتبرم وتنقض، والمواكب تروح وتغدو إلى بابها. فلمّا ولي الهادي وكان شديد الغيرة كره ذلك، وقال لها: ما هذه المواكب التي يبلغني أنها تغدو وتروح إلى بابك؟ أما لك مغزل يشغلك، أو مصحف يذكّرك، أو بيت يصونك؟ والله- وإلا أنا نفي من قرابة رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد قوّادي وخاصّتي لأضربنّ عنقه ولأقبضنّ ماله. ثمّ قال لأصحابه: أيّما خير، أنا وأمّي أم أنتم وأمّهاتكم؟ قالوا: بل أنت وأمّك، قال: فأيّكم يحبّ أن يتحدّث الرّجال بخبر أمّه فيقال: فعلت   [1] متبسّطة: متسلّطة، متحكّمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 أمّ فلان وصنعت أمّ فلان؟ قالوا: لا نحبّ ذلك، قال: فما بالكم تأتون أمّي فتتحدّثون بحديثها؟ فلمّا سمعوا ذلك انقطعوا عنها. ثمّ بعث لها طعاما مسموما فلم تأكل منه، ثمّ قتلته. وقيل: بل السّبب أنّ الهادي عزم على خلع أخيه هارون الرّشيد وأخذ البيعة لابنه جعفر، فخافت الخيزران على هارون- وكانت تحبّه- ففعلت بالهادي ما فعلت ومات الهادي في سنة سبعين ومائة، والليلة التي مات فيها هي ليلة مات فيها خليفة وجلس خليفة، وولد خليفة، وقد كانوا يحدّثون أنّه سيكون ليلة كذلك. فالخليفة الّذي مات فيها هو الهادي، والّذي جلس فيها على سرير الخلافة هو الرّشيد والّذي ولد فيها هو المأمون. شرح حال الوزارة في أيّامه لما بويع بالخلافة استوزر الرّبيع بن يونس. وقد سبق شرح طرف من سيرته ونسبه. ثمّ استوزر بعده إبراهيم بن ذكوان الحرّاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وزارة إبراهيم بن ذكوان الحرّانيّ للهادي كان إبراهيم قد اتّصل بالهادي في أيّام حداثته [1] ، كان يدخل إليه مع معلّم كان يعلم الهادي، فخفّ إبراهيم على قلب الهادي وصار لا يصبر عنه، ثمّ سعى به إلى المهديّ فكره لابنه صحبته، فنهاه عنه فما انتهى، فتهدّده بالقتل، والهادي لا يباعده فاشتدّت به السّعايات إلى المهديّ، فأرسل إلى ابنه الهادي أن أرسل إليّ إبراهيم الحرّانيّ وإلا خلعتك من الخلافة، فأرسله إليه صحبة بعض خدمه مرفّها، فوصل إليه والمهديّ يريد الركوب إلى الصّيد، فلمّا رآه قال: يا إبراهيم، والله لأقتلنّك، والله لأقتلنّك والله لأقتلنّك. ثم قال: احفظوه حتّى أعود من الصّيد. فأقبل على الدّعاء والتضرّع فاتّفق أنّ المهديّ أكل الطّعام المسموم كما تقدّم شرحه فمات من ساعته، وتخلّص الحرّانيّ وجلس الهادي على سرير الخلافة. ثم بعد ذلك بمديدة [2] استوزر الحرّانيّ، ولم تطل الأيّام حتى مات الهادي. انقضت أيّام الهادي ووزرائه. ثمّ ملك بعده أخوه هارون الرّشيد. خلافة هارون الرّشيد بويع بالخلافة في سنة سبعين ومائة. كان الرشيد من أفاضل الخلفاء وفصحائهم، وعلمائهم وكرمائهم. كان يحجّ سنة ويغزو سنة، كذلك مدّة خلافته إلا سنين قليلة. قالوا: وكان يصلّي في كلّ يوم مائة ركعة، وحجّ ماشيا، ولم يحجّ خليفة ماشيا غيره. وكان إذا حجّ حجّ معه مائة   [1] أيام حداثته: أيّام صباه. [2] مديدة: مدّة قصيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 من الفقهاء وأبناؤهم، وإذا لم يحجّ أحجّ ثلاثمائة رجل بالنفقة السابغة والكسوة الظاهرة. وكان يتشبّه في أفعاله بالمنصور إلا في بذل المال، فإنه خليفة أسمح منه بالمال وكان لا يضيع عنده إحسان محسن ولا يؤخّر. وكان يحبّ الشّعر والشّعراء ويميل إلى أهل الأدب والفقه، ويكره المراء في الدين، وكان يحبّ المديح، ولا سيّما من شاعر فصيح ويجزل العطاء عليه. قال الأصمعيّ: صنع الرّشيد طعاما: وزخرف [1] مجالسه وأحضر أبا العتاهية [2] وقال له: صف لنا ما نحن فيه من نعيم هذه الدّنيا. فقال أبو العتاهية: عش ما بدا لك سالما ... في ظلّ شاهقة القصور فقال الرشيد: أحسنت، ثمّ ماذا؟ فقال: يسعى عليك بما اشتهيت ... لدى الرّواح أو البكور فقال: حسن، ثم ماذا؟ فقال: فإذا النّفوس تقعقعت [3] ... في ظلّ حشرجة [4] الصّدور فهناك تعلم موقنا ... ما كنت إلا في غرور (كامل) فبكى الرّشيد، فقال الفضل بن يحيى: بعث إليك أمير المؤمنين لتسره فحزّنته! فقال الرشيد: دعه فإنه رآنا في عمى فكره أن يزيدنا منه. وكان الرشيد يتواضع للعلماء، قال أبو معاوية الضّرير وكان من علماء الناس: أكلت مع الرّشيد يوما فصبّ على يديّ الماء رجل، فقال لي: يا أبا معاوية   [1] زخرف: زيّن. [2] أبو العتاهية: هو إسماعيل بن القاسم. نشأ بالكوفة. كنى بأبي العتاهية لميله إلى المجون والتعتّه وتزهد في آخر عمره. اتصل بالمهديّ والهادي والرشيد. كانت وفاته عام/ 211/ هـ [3] تقعقعت: اضطربت. [4] الحشرجة: صوت خروج الروح عند النزع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 أتدري من صبّ الماء على يدك؟ فقلت: لا يا أمير المؤمنين، قال: أنا، فقلت: يا أمير المؤمنين أنت تفعل هذا إجلالا للعلم؟ قال: نعم. في أيّامه خرج يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن. شرح كيفيّة الحال في خروج يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن عليّ- بن أبي طالب عليه السّلام كان يحيى بن عبد الله قد خاف مما جرى على أخويه: النّفس الزكيّة وإبراهيم قتيل باخمرى. فمضى إلى الدّيلم [1] فاعتقدوا فيه استحقاق الإمامة وبايعوه واجتمع إليه الناس من الأمصار وقويت شوكته. فاغتمّ الرشيد لذلك وندب إليه الفضل بن يحيى في خمسين ألفا، وولاه جرجان وطبرستان والرّيّ وغير ذلك. فتوجّه ابن يحيى بالجنود فلطف بيحيى بن عبد الله وحذّره وخوّفه ورغّبه، فمال يحيى إلى الصّلح وطلب أمانا بخطّ الرّشيد، وأن يشهد عليه فيه القضاة والفقهاء، وجلة بني هاشم، فأجابه الرشيد إلى ذلك وسرّ به، وكتب له أمانا بليغا بخطّه، وشهد عليه فيه القضاة والفقهاء ومشايخ بني هاشم، وسيّر الأمان مع هدايا وتحف، فقدم يحيى مع الفضل فلقيه الرشيد في أوّل الأمر بكلّ ما أحبّ، ثم حبسه عنده، واستفتى الفقهاء في نقض اليمين، فمنهم من أفتى بصحته فحاجّه. ومنهم من أفتى ببطلانه فأبطله، ثم قتله بعد ظهور آية له عظيمة.   [1] الدّيلم: أعاجم منطقة الريّ جنوب بحر قزوين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 شرح الآية التي ظهرت في قضيّة يحيى بن عبد الله حضر رجل من آل الزبير بن العوّام عند الرشيد، وسعى بيحيى، وقال: إنه بعد الأمان فعل وصنع ودعا الناس إلى نفسه. فأحضره الرشيد من محبسه، وجمع بينه وبين الزّبيريّ، وسأله عن ذلك، فأنكر واقعة الزبيريّ، فقال له يحيى إن كنت صادقا فاحلف فقال الزبيريّ: والله الطالب الغالب- وأراد أن يتمّم اليمين- فقال له يحيى: دع هذه اليمين، فإن الله تعالى إذا مجّده العبد لم يعجّل عقوبته ولكن احلف له بيمين البراءة وهي يمين عظمي، صورتها أن يقول عن نفسه: بريء من حول الله وقوّته، ودخل في حول نفسه وقوّتها إن كان كذا وكذا. فلما سمع الزّبيريّ هذه اليمين ارتاع لها وقال: ما هذه اليمين الغريبة؟ وامتنع من الحلف بها. فقال له الرشيد: ما معنى امتناعك؟ إنّ كنت صادقا فيما تقول فما خوفك من هذه اليمين؟ فحلف بها، فما خرج من المجلس حتى ضرب برجله ومات وقيل ما انقضى النهار حتّى مات، فحملوه إلى القبر وحطّوه فيه وأرادوا أن يطمّوا القبر بالتّراب، فكانوا كلّما جعلوا التّراب فيه ذهب التراب ولا ينطمّ القبر فعلموا أنّها آية سماويّة، فسقفوا القبر وراحوا. وإلى ذلك أشار أبو فراس بن حمدان [1] في ميميّته بقوله: يا جاهدا في مساويهم يكتّمها ... غدر الرّشيد بيحيى كيف ينكتم؟ ذاق الزّبيريّ [2] غبّ الحنث وانكشفت ... عن ابن فاطمة [3] الأقوال والتّهم   [1] أبو فراس بن حمدان: هو الحارث بن سعيد، ابن عمّ سيف الدولة صاحب حلب. شاعر فارس أسره الرّوم مرّتين فجاد بقصائده المشهورة بالرّوميّات. قتل عام/ 357/ هـ قرب حمص [2] قوله ذاق الزبيريّ: إشارة إلى معجزة مصرع الزبيري لدى يمينه الكاذب. [3] ابن فاطمة: هو يحيى بن عبد الله بن حسن العلويّ الّذي خرج على الرّشيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ومع ظهور مثل هذه الآية العظيمة قتل يحيى في الحبس شرّ قتلة. وكانت دولة الرشيد من أحسن الدول، وأكثرها وقارا ورونقا وخيرا وأوسعها رقعة مملكة. جبى الرّشيد معظم الدنيا، وكان أحد عمّاله صاحب مصر ولم يجتمع على باب خليفة من العلماء والشّعراء والفقهاء، والقرّاء والقضاة والكتّاب والندماء ما اجتمع على باب الرشيد. وكان يصل كلّ واحد منهم أجزل صلة، ويرفعه إلى أعلى درجة. وكان فاضلا شاعرا، راوية للأخبار والآثار والأشعار صحيح الذوق والتمييز، مهيبا عند الخاصّة والعامّة. قبض على موسى بن جعفر- عليهما السّلام- وأحضره في قبّة إلى بغداد فحبسه بدار السنديّ [1] بن شاهك، ثم قتل وأظهر أنه مات حتف أنفه [2] .   [1] السنديّ بن شاهك: أحد موالي الخلافة من الفرس. [2] مات حتف أنفه: مات في أجله، ولم يقتل قتلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 شرح كيفيّة الحال في ذلك كان بعض حسّاد موسى بن جعفر من أقاربه قد وشى به إلى الرشيد، وقال له: إنّ الناس يحملون إلى موسى خمس أموالهم، ويعتقدون إمامته، وإنه على عزم الخروج عليك، وكثّر في القول، فوقع ذلك عند الرشيد بموقع أهمّه وأقلقه، ثمّ أعطى الواشي مالا أحاله به على البلاد، فلم يستمتع به، وما وصل المال من البلاد إلا وقد مرض مرضة شديدة ومات فيها. وأمّا الرشيد: فإنه حجّ في تلك السنة، فلمّا ورد المدينة قبض على موسى ابن جعفر- عليهما السّلام- وحمله في قبّة إلى بغداد، فحبسه عند السّنديّ بن شاهك وكان الرشيد بالرقّة فأمر بقتله فقتل قتلا خفيا، ثم أدخلوا عليه جماعة من العدول [1] بالكوخ ليشاهدوه، إظهارا أنه مات حتف أنفه (صلوات الله عليه وسلامه) . ومات الرّشيد بطوس [2] ، وكان خرج إلى خراسان لمحاربة رافع بن اللّيث ابن نصر بن سيّار [3] ، وكان هذا رافع قد خرج وخلع الطاعة، وتغلّب على سمرقند [4] وقتل عاملها، وملكها وقويت شوكته، فخرج الرشيد بنفسه إليه، فمات بطوس في سنة ثلاث وتسعين ومائة. شرح حال الوزارة في أيّامه لما بويع بالخلافة استوزر كاتبه قبل الخلافة يحيى بن خالد بن برمك، وظهرت دولة بني برمك مذ حينئذ.؟   [1] العدول: المشهود بعدلهم ونزاهتهم. [2] طوس: بلدة بخراسان بين مرو ونيسابور. [3] رافع بن الليث: حفيد نصر بن سيّار آخر ولاة الأمويين على خراسان. خرج على طاعة الرشيد وتغلب على سمرقند وقتل عاملها. ولم يستمرّ أمره فقتل عام/ 195/ هـ. [4] سمرقند: مدينة في أقصى الخلافة العبّاسية في بلاد ما وراء النهر. شرقيّ بخارى. وبها قبر تيمور لنك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 شرح أحوال الدّولة البرمكيّة وذكر مبدئها ومآلها كانوا قديما على دين المجوس، ثمّ أسلم من أسلم منهم وحسن إسلامهم، وقد ذكرنا وزارة جدّهم خالد بن برمك في أيام المنصور، ونذكر ها هنا وزارة الباقين وقبل الخوض في ذلك، فهذه كلمات تعرف منها نبذة من أحوال هذه الدولة. اعلم أنّ هذه الدولة كانت غرّة في جبهة الدّهر، وتاجا على مفرق العصر ضربت بمكارمها الأمثال، ومنحتها أوفر إسعادها، فكان يحيى وبنوه كالنّجوم زاهرة والبحور زاخرة، والسّيول دافعة، والغيوث ماطرة، أسواق الآداب عندهم نافقة ومراتب ذوي الحرمات عندهم عالية والدنيا في أيامهم عامرة وأبهة المملكة ظاهرة، وهم ملجأ اللهف [1] ، ومعتصم الطّريد [2] ولهم يقول أبو نواس: سلام على الدنيا إذا ما فقدتم ... بني برمك من رائحين وغاد (طويل) ذكر وزارة يحيى بن خالد للرّشيد لما جلس الرشيد على سرير المملكة، استوزر يحيى بن خالد بن برمك، وكان كاتبه ونائبة ووزيره قبل الخلافة، فنهض يحيى بن خالد بأعباء الدولة أتمّ نهوض، وسدّ الثغور وتدارك الخلل، وجبى الأموال وعمّر الأطراف، وأظهر رونق الخلافة، وتصدّى لمهمّات المملكة، وكان كاتبا بليغا، لبيبا أديبا سديدا، صائب الآراء حسن التدبير ضابطا لما تحت يده قويّا على الأمور، جوادا يباري الريح كرما وجودا، ممدّحا بكلّ لسان، حليما عفيفا وقورا مهيبا، وله يقول القائل: لا تراني مصافحا كفّ يحيى ... إنّني إن فعلت ضيّعت مالي لو يمسّ البخيل راحة يحيى ... لسخت نفسه ببذل النّوال ومن آراء يحيى السّديدة، ما قاله للهادي وقد عزم على أن يخلع أخاه هارون من الخلافة ويبايع لابنه جعفر بن الهادي- وكان يحيى كاتب الرشيد وهو يترجّى أن يتولّى هارون الخلافة فيصير هو وزير الدولة- فخلا الهادي بيحيى   [1] اللهف: الملهوف، المضطر إلى العون والمساعدة. [2] الطّريد: الملاحق الخائف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 ووهب له عشرين ألف دينار وحادثة في خلع هارون أخيه والمبايعة لجعفر ابنه، فقال له يحيى: «يا أمير المؤمنين، إن فعلت حملت الناس على نكث الأيمان [1] ونقض العهود، وتجرّأ الناس على مثل ذلك ولو تركت أخاك هارون على ولاية العهد، ثمّ بايعت لجعفر بعده، كان ذلك أوكد في بيعته، فترك الهادي الأمر مدة ثم غلب عليه حبّ الولد، فأحضر يحيى مرّة ثانية وفاوضه في ذلك، فقال له يحيى: يا أمير المؤمنين، لو حدث بك حادث الموت، وقد خلعت أخاك وبايعت لابنك جعفر وهو صغير دون البلوغ- أفترى كانت خلافته تصحّ، وكان مشايخ بني هاشم يرضون ذلك ويسلّمون الخلافة إليه؟ قال: لا، قال يحيى: فدع هذا الأمر حتى يأتيه عفوا، ولو لم يكن المهديّ بايع لهارون لوجب أن تبايع أنت له لئلا تخرج الخلافة من بني أبيك، فصوّب الهادي رأيه، وكان الرشيد بعد ذلك يرى هذه من أعظم أيادي يحيى بن خالد عنده. ومن مكارمه: قيل: إنّ الرشيد لمّا نكب البرامكة واستأصل شأفتهم، حرّم على الشعراء أن يرثوهم، وأمر بالمؤاخذة على ذلك، فاجتاز بعض الحرّاس ببعض الخربات فرأى إنسانا واقفا، وفي يده رقعة فيها شعر يتضمّن رثاء البرامكة، وهو ينشد ويبكي فأخذه الحرس فأتي به إلى الرّشيد وقصّ عليه الصّورة، فاستحضره الرشيد وسأله عن ذلك فاعترف به، فقال له الرشيد، أما سمعت تحريمي لرثائهم؟ لأفعلنّ بك ولأصنعنّ فقال: يا أمير المؤمنين، إن أذنت لي في حكاية حالي حكيتها، ثمّ بعد ذلك أنت ورأيك قال: قل، قال: إنّي كنت من أصغر كتّاب يحيى بن خالد وأرقّهم حالا، فقال لي يوما: أريد أن تضيفني في دارك يوما، فقلت: يا مولانا أنا دون ذلك، وداري لا تصلح لهذا، قال: لا بدّ من ذلك، قلت: فإن كان لا بدّ فأمهلني مدة حتّى أصلح شأني ومنزلي، ثمّ بعد ذلك أنت ورأيك، قال: كم أمهلك؟ قلت: سنة، قال: كثير قلت فشهورا، قال: نعم فمضيت وشرعت في إصلاح المنزل وتهيئة أسباب الدعوة فلما تهيأت الأسباب أعلمت الوزير بذلك، فقال: نحن   [1] نكث الأيمان: نقض البيعة، وإخلاف اليمين والعهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 غدا عندك، فمضيت وتهيّأت في الطعام والشراب وما يحتاج إليه فحضر الوزير في غد ومعه ابناه جعفر والفضل وعدّة يسيرة من خواصّ أتباعه، فنزل عن دابّته ونزل ولداه جعفر والفضل، وقال: يا فلان أنا جائع فعجّل لي بشيء، فقال لي الفضل ابنه: الوزير يحبّ الفراريج المشويّة فعجّل منها ما حضر، فدخلت وأحضرت منها شيئا فأكل الوزير ومن معه، ثم قام يتمشّى في الدار وقال: يا فلان فرّجنا في دارك، فقلت يا مولانا هذه هي داري ليس لي غيرها، قال: بل لك غيرها قلت والله ما أملك سواها، فقال: هاتوا بنّاء، فلما حضر قال له: افتح في هذا الحائط بابا، فمضى ليفتح، فقلت: يا مولانا، كيف يجوز أن يفتح باب إلى بيوت الجيران، والله أوصى بحفظ الجار؟ قال: لا بأس في ذلك، ثمّ فتح الباب، فقام الوزير وأبناؤه فدخلوا فيه وأنا معهم، فخرجوا منه إلى بستان حسن كثير الأشجار، والماء يتدفّق فيه، وبه من المقاصير والمساكن ما يروق كلّ ناظر، وفيه من الآلات والفرش والخدم والجواري كلّ جميل بديع، فقال: هذا المنزل وجميع ما فيه لك، فقبّلت يده ودعوت له وتحقّقت القصّة، فإذا هو من يوم حادثني في معنى الدعوة قد أرسل واشترى الأملاك المجاورة لي وعمرها دارا حسنة، ونقل إليها من كلّ شيء وأنا لا أعلم، وكنت أرى العمارة فأحسبها لبعض الجيران، فقال لابنه جعفر: يا بنيّ، هذا منزل وعيال، فالمادّة من أين تكون له؟ قال جعفر: قد أعطيته الضّيعة الفلانيّة بما فيها وسأكتب له بذلك كتابا، فالتفت إلى ابنه الفضل، وقال له: يا بني، فمن الآن إلى أن يدخل دخل هذه الضيعة ما الّذي ينفق؟ فقال الفضل: عليّ عشرة آلاف دينار أحملها إليه، فقال: فعجّلا له ما قلتما، فكتب لي جعفر بالضّيعة وحمل الفضل إليّ المال فأثريت وارتفعت حالي، وكسبت بعد ذلك معه مالا طائلا، أنا أتقلب فيه إلى اليوم فو الله يا أمير المؤمنين ما أجد فرصة أتمكّن فيها الثناء عليهم والدّعاء لهم إلا انتهزتها مكافأة لهم على إحسانهم ولن أقدر على مكافأتهم! فان كنت قاتلي على ذلك فافعل ما بدا لك. فرقّ الرشيد لذلك وأطلقه، وأذن لجميع الناس في رثائهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 قيل: إنّ هارون حجّ ومعه يحيى بن خالد بن برمك، ومعه ولداه الفضل وجعفر فلمّا وصلوا إلى مدينة الرّسول- صلوات الله عليه- جلس الرشيد ومعه يحيى فأعطيا الناس، وجلس الأمين ومعه الفضل بن يحيى فأعطيا الناس، وجلس المأمون ومعه جعفر فأعطيا الناس، فأعطوا في تلك السنة ثلاث أعطيات ضربت بكثرتها الأمثال، وكانوا يسمونه عام الأعطيات الثلاث، وأثرى الناس بسبب ذلك. وفي ذلك يقول الشّاعر: أتانا بنو الآمال من آل برمك ... فيا طيب أخبار ويا حسن منظر لهم رحلة في كلّ عام إلى العدا ... وأخرى إلى البيت العتيق المستّر إذا نزلوا بطحاء مكّة أشرقت ... بيحيى وبالفضل بن يحيى وجعفر فتظلم بغداد وتجلو لنا الدجى ... بمكة ما تمحو ثلاثة أقمر فما خلقت إلّا لجود أكفّهم ... وأقدامهم إلّا لأعواد منبر إذا راض يحيى الأمر ذلّت صعابه ... وناهيك من راع له ومدبّر (طويل) كان يحيى يقول: ما خاطبني أحد إلا هبته حتّى يتكلم فإذا تكلم كان بين اثنتين إما أن تزيد هيبته، أو تضمحلّ. وكان يقول: المواعيد شباك الكرام يصيدون بها محامد الأحرار. كان يحيى إذا ركب يعدّ صررا في كلّ صرّة مائتا درهم يدفعها إلى المتعرّضين له. سيرة ولده الفضل بن يحيى كان الفضل من كرام الدنيا وأجواد أهل عصره. وكان قد أرضعته أمّ هارون الرشيد، وأرضعت أمّه الرّشيد، وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة: [1]   [1] مروان بن أبي حفصة: شاعر عباسي فحل، مجوّد لشعره، مدح الرشيد ومن قبله من الخلفاء العباسيين، واشتهر مدحه لمعن بن زائدة الشيبانيّ. توفي عام/ 181/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 كفى لك فخرا أنّ أكرم حرّة ... غذتك بثدي والخليفة واحد لقد زنت يحيى في المشاهد كلّها ... كما زان يحيى خالدا في المشاهد (طويل) ولّاه الرشيد خراسان فخرج إليه أبو الهول الشاعر مادحا. معتذرا من شعر كان هجاه به، فأنشده: سرى نحوه من غضبة الفضل عارض ... له لجة فيها البوارق والرّعد وكيف ينام الليل ملق فراشه ... على مدرج يعتاده الأسد الورد وما لي إلى الفضل بن يحيى بن خالد ... من الجرم ما يخشى على مثله الحقد فجد بالرّضا لا أبتغي منك غيره ... ورأيك فيما كنت عوّدتني بعد (طويل) فقال له الفضل: لا أحتمل تفريقك بين رضاي وإحساني، وهما مقرونان فإن أردتهما معا وإلّا فدعهما معا، ثم وصله ورضي عنه. حدّث إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال: كنت قد ربّيت جارية حسنة الوجه وثقفتها وعلّمتها حتّى برعت، ثم أهديتها إلى الفضل بن يحيى، فقال لي: يا إسحاق إن رسول صاحب مصر قد ورد إليّ يسألني حاجة أقترحها عليه، فدع هذه الجارية عندك فإنّني سأطلبها وأعلمه أني أريدها، فإنّه سوف يحضر إليك يساومك فيها، فلا تأخذ فيها أقلّ من خمسين ألف دينار، قال إسحاق: فمضيت بالجارية إلى منزلي، فجاء إليّ رسول صاحب مصر وسألني عن الجارية، فأخرجتها إليه، فبذل فيها عشرة آلاف دينار فامتنعت، فصعد إلى عشرين ألف دينار، فامتنعت، فصعد إلى ثلاثين ألفا، فما ملكت نفسي حتى قلت له: بعتك، وسلّمت الجارية إليه وقبضت منه المال، ثم إنني أتيت من الغد إلى الفضل بن يحيى، فقال لي: يا إسحاق: بكم بعت الجارية؟ قلت بثلاثين ألف دينار، قال: ألم أقل لك لا تأخذ منه أقلّ من خمسين ألفا؟ قلت: فداك أبي وأمي والله ما ملكت نفسي منذ سمعت لفظة ثلاثين ألفا! فتبسّم ثمّ قال: إنّ رسول صاحب الروم قد سألني أيضا حاجة، وسأقترح عليه هذه الجارية وأدلّه عليك، فخذ جاريتك وانصرف إلى منزلك، فإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 ساومك فيها فلا تأخذ منه أقلّ من خمسين ألف دينار فأخذت الجارية وانصرفت إلى منزلي، فأتاني رسول صاحب الروم وساومني في الجارية فطلبت خمسين ألفا، فقال: هذا كثير ولكن تأخذ منّي ثلاثين ألفا، فو الله ما ملكت نفسي منذ سمعت لفظة ثلاثين ألفا حتى قلت له: قد بعتك! ثم قبضت المال منه وسلّمت الجارية إليه، ومضيت من الغد إلى الفضل بن يحيى، فقال: ما صنعت؟ وبكم بعت الجارية يا إسحاق؟ قلت: بثلاثين ألفا، قال: سبحان الله! ما أوصيتك ألا تأخذ فيها أقلّ من خمسين ألفا، قلت: جعلت فداك! والله إنّي لما سمعت قوله: ثلاثين ألفا استرخت جميع أعضائي! فضحك وقال: خذ جاريتك واذهب إلى منزلك، ففي غد يجيء إليك رسول صاحب خراسان فقوّ نفسك، ولا تأخذ منه أقلّ من خمسين ألفا قال إسحاق. فأخذت الجارية ومضيت إلى منزلي، فجاءني رسول صاحب خراسان وساومني فيها، فطلبت خمسين ألفا، فقال لي: هذا كثير، ولكن تأخذ ثلاثين ألفا فقويت نفسي وامتنعت فصعد معي إلى أربعين ألف دينار فكاد عقلي يذهب من الفرح ولم أتمالك أن قلت له: بعتك. فأحضر المال وأقبضنيه وسلّمت الجارية إليه ومضيت من الغد إلى الفضل. فقال لي: يا إسحاق، بكم بعت الجارية؟ قلت بأربعين ألفا، والله لما سمعتها منه كاد عقلي يذهب، وقد حصل عندي- جعلت فداك- مائة ألف دينار ولم يبق لي أمل، فأحسن الله جزاءك، فأمر بالجارية فأخرجت إليّ، وقال: يا إسحاق: خذ جاريتك وانصرف. قال إسحاق: فقلت: هذه الجارية والله أعظم الناس بركة فأعتقتها وتزوّجتها فولدت لي أولادي. قيل: إنّ محمّد بن إبراهيم الإمام بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس، حضر يوما عند الفضل بن يحيى ومعه سفط فيه جوهر، وقال له: إنّ حاصلي قد قصّر عمّا أحتاج إليه، وقد علاني دين مبلغه ألف درهم، وإني أستحي أن أعلم أحدا بذلك وآنف أن أسأل أحدا من التجار أن يقرضني ذلك، وإن كان معي رهن يفي بالقيمة وأنت- أبقاك الله- لك تجار يعاملونك، وأنا أسألك أن تقترض لي من أحدهم هذا المبلغ وتعطيه هذا الرهن، فقال له الفضل: السّمع والطاعة، ولكنّ نجح هذه الحاجة أن تقيم عندي هذا اليوم، فأقام ثمّ إن الفضل أخذ السّفط منه وهو مختوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 بختمه، وأرسل معه ألف ألف درهم، ونفّذ الدراهم والسّفط إلى منزله، وأخذ خطّ وكيله بقبضه، وأقام محمّد في دار الفضل إلى آخر النهار، ثم انصرف إلى داره، فوجد السفط ومعه ألف ألف درهم فسرّ بذلك سرورا عظيما، فلمّا كان الغد بكّر إلى الفضل ليشكره على ذلك فوجده قد بكّر إلى دار الرّشيد فمضى محمّد إلى الرشيد، فلمّا علم الفضل به خرج من باب آخر ومضى إلى دار أبيه فمضى محمّد إليه وشكره على فعله، وقال له: إنّي بكرت إليك لأشكرك على إحسانك، فقال له الفضل: إنّي فكّرت في أمرك فرأيت أنّ هذه الألف ألف التي حملتها أمس إليك لتقضي بها دينك ثم تحتاج فتقترض، فبعد قليل يعلوك مثلها، فبكرت اليوم إلى أمير المؤمنين وعرضت عليه حالك، وأخذت لك مائة ألف ألف درهم أخرى، ولمّا حضرت إلى أمير المؤمنين خرجت أنا بباب آخر، وكذلك فعلت لما حضرت إلى باب أبي، لأني ما كنت أوثر أن ألقاك حتّى يحمل المال إلى منزلك، وقد حمل. فقال له محمّد: بأيّ شيء أجازيك على هذا الإحسان؟ ما عندي شيء أجازيك به إلّا أني ألتزم بالأيمان المؤكدة وبالطلاق والعتاق والحجّ، أنّي ما أقف على باب غيرك ولا أسأل سواك. قالوا وحلف محمد أيمانا مؤكدة وكتب بها خطّه، وأشهد بها عليه أنه لا يقف بباب غير باب الفضل بن يحيى، فلما ذهبت دولة البرامكة وتولّى الفضل بن الربيع، فلم يفعل والتزم باليمين، فلم يركب إلى أحد، ولم يقف على باب أحد حتّى مات. سيرة جعفر بن يحيى البرمكي ّ كان جعفر بن يحيى فصيحا لبيبا ذكيّا فطنا، كريما حليما، وكان الرشيد يأنس به أكثر من أنسه بأخيه الفضل! لسهولة أخلاق جعفر، وشراسة أخلاق الفضل. وقال الرشيد يوما ليحيى: يا أبي ما بال الناس يسمّون الفضل الوزير الصغير ولا يسمون جعفرا بذلك؟ فقال يحيى: إنّ خدمتك ومنادمتك يشغلانه عن ذلك. فجعل إليه أمر دار الرشيد: فسمّي بالوزير الصّغير أيضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 قال الرشيد يوما ليحيى: قد أحببت أن أنقل ديوان الخاتم من الفضل إلى جعفر وقد استحييت من مكاتبته في هذا المعنى، فاكتب أنت إليه، فكتب يحيى إلى الفضل: «قد أمر أمير المؤمنين- أعلى الله أمره- أن تحوّل الخاتم من يمينك إلى شمالك، فأجابه الفضل: «قد سمعت لما أمر أمير المؤمنين في أخي، وما انتقلت عني نعمة صارت إليه ولا غربت عني رتبة طلعت عليه!» فقال جعفر: للَّه درّ أخي، ما أكيس نفسه وأظهر دلائل الفضل عليه، وأقوى منّة العقل عنده، وأوسع في البلاغة ذرعه!. قيل: إنّ جعفر بن يحيى البرمكيّ جلس يوما للشرب، وأحبّ الخلوة، فأحضر ندماءه الذين يأنس بهم وجلس معهم، وقد هيّئ المجلس ولبسوا الثياب المصبّغة. (وكانوا إذا جلسوا في مجلس الشراب واللهو، لبسوا الثياب الحمر والصّفر والخضر) ثم أن جعفر بن يحيى تقدّم إلى الحاجب ألّا يأذن لأحد من خلق الله تعالى سوى رجل من النّدماء كان قد تأخّر عنهم، اسمه: عبد الملك بن صالح [1] ، ثم جلسوا يشربون ودارت الكاسات وخفقت العيدان، وكان رجل من أقارب الخليفة يقال له: عبد الملك بن صالح ابن عليّ بن العباس، كان شديد الوقار والدين والحشمة، وكان الرشيد قد التمس منه أن ينادمه ويشرب معه، وبذل له على ذلك أموالا جليلة فلم يفعل، فاتّفق أنّ هذا عبد الملك بن صالح حضر إلى باب جعفر بن يحيى ليخاطبه في حوائج له، فظنّ الحاجب أنّه عبد الملك بن صالح الّذي تقدّم جعفر ابن يحيى بالإذن له، وألا يدخل غيره، فأذن الحاجب له، فدخل عبد الملك بن صالح العبّاسي على جعفر بن يحيى، فلما رآه جعفر كاد عقله يذهب من الحياء، وفطن أن القضية قد اشتبهت على الحاجب بطريق اشتباه الاسم، وفطن عبد الملك بن صالح أيضا للقصّة، وظهر له الخجل في وجه جعفر بن يحيى فانبسط عبد الملك وقال: لا بأس عليكم، أحضروا لنا من هذه الثياب المصبغة شيئا وأحضر له.   [1] عبد الملك بن صالح: اسم لشاعر ماجن عاصر الرشيد وعاشره ومدحه ونادمه، واسم لأحد أبناء عمّ السفاح والمنصور العباسيين. كان خطيبا فصيحا، ولّاه الهادي إمرة الموصل. ثم ولاه الرشيد المدينة فمصر فدمشق، ثم سجنه حتى أطلقه الأمين. توفي بالرقة عام/ 198/. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 قميص مصبوغ، فلبسه وجلس يباسط جعفر بن يحيى ويمازحه، وقال: اسقونا من شرابكم فسقوه رطلا، وقال: ارفقوا بنا فليس لنا عادة بهذا ثمّ باسطهم ومازحهم، وما زال حتّى انبسط جعفر بن يحيى وزال انقباضه وحياؤه، ففرح جعفر بذلك فرحا شديدا، وقال له: ما حاجتك؟ قال: جئت- أصلحك الله- في ثلاث حوائج، أريد أن تخاطب الخليفة فيها: أوّلها: أنّ عليّ دينا مبلغه ألف درهم أريد قضاءه وثانيها؟: أريد ولاية لابني يشرف بها قدره، وثالثها: أن تزوّج ولدي بابنة الخليفة فإنّها بنت عمه، وهو كفء لها، فقال له جعفر بن يحيى- قد قضى الله هذه الحوائج الثلاث، أما المال، ففي هذه الساعة يحمل إلى منزلك، وأما الولاية، فقد ولّيت ابنك مصر، وأمّا الزّواج، فقد زوجته فلانة ابنة مولانا أمير المؤمنين على صداق مبلغه كذا وكذا، فانصرف في أمان الله، فراح عبد الملك إلى منزله فرأى المال قد سبقه، ولمّا كان من الغد حضر جعفر عند الرشيد وعرّفه ما جرى وأنه قد ولى ابنه مصر وزوّجه ابنته فعجب الرشيد من ذلك وأمضى العقد والولاية، فما خرج جعفر من دار الرّشيد حتى كتب له التقليد بمصر وأحضر القضاة والشهود وعقد العقد. وقيل: إنّ جعفر بن يحيى كان بينه وبين صاحب مصر عداوة ووحشة، وكان كلّ منهما مجانبا للآخر، فزوّر بعض الناس كتابا عن لسان جعفر بن يحيى إلى صاحب مصر، مضمونه: أنّ حامل هذا الكتاب من أخصّ أصحابنا، وقد آثر التفرّج في الديار المصريّة، فأريد أن تحسن الالتفات إليه، وبالغ في الوصيّة، ثم أخذ الكتاب ومضى إلى مصر وعرضه على صاحبها، فلما وقف عليه تعجّب منه وفرح به، إلا أنه حصل عنده ارتياب وشكّ في هذا الكتاب، فأكرم الرّجل وأنزله في دار حسنة، وأقام له ما يحتاج إليه، وأخذ الكتاب منه وأرسله إلى وكيله ببغداد وقال له: قد وصل شخص من أصحاب الوزير بهذا الكتاب، وقد ارتبت به، فأريد أن تتفحّص لي عن حقيقة الحال في ذلك، وهل هذا خطّ الوزير أم لا؟ وأرسل كتاب الوزير صحبة مكتوبة إلى وكيله فجاء الوكيل إلى وكيل الوزير وحدّثه بالقصّة وأراه الكتاب، فأخذه وكيل الوزير ودخل إلى الوزير وعرّفه الحال، فلما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وقف جعفر بن يحيى على الكتاب علم أنه مزوّر عليه وكان عنده جماعة من ندمائه ونوّابه فرمى الكتاب عليهم، وقال لهم: أهذا خطّي؟ فتأمّلوه وأنكروه كلّهم وقالوا هذا مزوّر، فعرّفهم صورة الحال وأنّ الّذي زوّر هذا الكتاب موجود بمصر عند صاحبها، وأنه ينتظر عود الجواب بتحقيق حاله، وقال لهم: ما ترون، وكيف ينبغي أن نفعل في هذا؟ فقال بعضهم: ينبغي أن يقتل هذا الرّجل حتى تنحسم هذه المادّة، ولا يرجع أحد يتجرّأ على مثل هذا الفعل، وقال آخر: ينبغي أن تقطع يمينه التي زوّر بها هذا الخطّ، وقال آخر: ينبغي أن يوجع ضربا ويطلق حال سبيله وكان أحسنهم محضرا من قال: ينبغي أن تكون عقوبته على هذا الفعل حرمانه، وأن يعرف صاحب مصر بحاله ليحرمه فيكفيه من العقوبة أن قطع هذه المسافة البعيدة من بغداد إلى مصر ثم يرجع خائبا، فلما فرغوا من حديثهم قال جعفر: سبحان الله! أليس فيكم رجل رشيد؟ قد علمتم ما كان بيني وبين صاحب مصر من العداوة والمجانبة، وأنّ كلّ واحد منّا كانت تمنعه عزّة النفس أن يفتح باب الصّلح، فقد قيّض الله لنا رجلا فتح بيننا باب المصالحة والمكاتبة، وأزال بيننا تلك العداوة، فكيف يكون جزاؤه ما ذكرتم من الإساءة؟ ثمّ أخذ القلم وكتب على ظاهر الكتاب إلى صاحب مصر: سبحان الله! كيف حصل لك الشّكّ في خطّي؟ هذا خطّ يدي، والرّجل من أعزّ أصحابي، وأريد أن تحسن إليه وتعيده إليّ سريعا، فإنّي مشتاق إليه محتاج إلى حضوره، فلمّا وصل الكتاب وفي ظاهره خطّ الوزير إلى صاحب مصر كاد يطير من الفرح، وأحسن إلى الرجل غاية الإحسان ووصله بمال كبير، وتحف جميلة، ثم إنّ الرجل رجع إلى بغداد وهو أحسن الناس حالا، فحضر إلى مجلس جعفر بن يحيى، فلما دخل سلم عليه ووقع يقبّل الأرض ويبكي، فقال له جعفر: من أنت يا أخي؟ قال: يا مولانا أنا عبدك وصنيعتك المزوّر الكذّاب فعرفه جعفر وبشّ له وأجلسه بين يديه وسأله عن حاله وقال له: كم وصل إليك منه فقال مائة ألف دينار، فاستقلّها جعفر وقال: لازمنا حتّى نضاعفها لك، فلازمه مدّة فكسب معه مثلها، وما زالت دولة البرامكة في علوّ وارتفاع وتزايد، حتى انحرفت عنهم الدّنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 أمارة تدلّ على انحراف دولتهم حدّث بختيشوع [1] الطبيب قال: دخلت يوما على الرشيد وهو جالس في قصر الخلد من مدينة السّلام، وكان البرامكة يسكنون بحذائه من الجانب الآخر، وبينهم وبينه عرض دجلة، قال: فنظر الرّشيد فرأى اعتراك الخيول وازدحام الناس على باب يحيى بن خالد، فقال: جزى الله يحيى خيرا! تصدّى للأمور وأراحني من الكدّ، ووفّر أوقاتي على اللّذة، ثم دخلت إليه بعد أوقات وقد شرع يتغيّر عليهم، فنظر فرأى الخيول كما رآها تلك المرة فقال: استبدّ يحيى بالأمور دوني، فالخلافة على الحقيقة له وليس لي منها إلّا اسمها؟ قال: فعلمت أنّه سينكبهم ثمّ نكبهم عقيب ذلك. شرح السّبب في نكبة البرامكة وكيفيّة الحال في ذلك اختلف أصحاب السّير والتواريخ في السّبب في ذلك، فقيل: إنّ الرشيد ما كان يصبر عن أخته عبّاسة ولا عن جعفر بن يحيى، فقال له: أزوّجكها حتّى يحلّ لك النظر إليها، فكانا يجتمعان وهما شابّان، ثم يقوم الرّشيد عنهما ويخلوان بأنفسهما، حتّى علم الرّشيد فكان ذلك سبب نكبة البرامكة. وقيل: كان سبب ذلك أن الرشيد كلّف جعفر بن يحيى قتل رجل من آل أبي طالب، فتحرّج جعفر من ذلك وأطلق الطالبيّ، وسعي إلى الرشيد بجعفر، فقال له ما فعل الطالبيّ؟ قال: هو في الحبس، قال الرشيد: بحياتي؟! ففطن جعفر فقال لا وحياتك، ولكن أطلقته لأني علمت أنه ليس عنده مكروه، فقال الرشيد: نعم ما فعلت! فلما قام جعفر قال الرّشيد: قتلني الله إن لم أقتلك! ثمّ نكبهم.   [1] بختيشوع: جبرائيل بختيشوع طبيب سريانيّ للرشيد والأمين. اشتهر عدد من أسرته وأولاده وأحفاده بالطبّ والمنطق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وقيل إنّ أعداء البرامكة، مثل الفضل بن الربيع، ما زالوا يسعون بهم إلى الرّشيد ويذكرون استبدادهم بالملك، واحتجانهم [1] للأموال، حتّى أوغروا صدره فأوقع بهم. وقيل: إنّ جعفرا والفضل ابني يحيى بن خالد، ظهر منهما من الإدلال ما لا تحتمله نفوس الملوك، فنكبهم لذلك. وقيل: إن يحيى بن خالد رئي وهو بمكّة يطوف حول البيت ويقول: اللَّهمّ إن كان رضاك في أن تسلبني نعمتك عندي، وتسلبني أهلي ومالي وولدي، فاسلبني إلا الفضل ولدي، ثمّ ولّى، فلما مشى قليلا عاد وقال: يا ربّ إنّه سمج بمثلي أن يستثني عليك اللَّهمّ والفضل، فنكبهم الرشيد بعد قليل. شرح مقتل جعفر بن يحيى والقبض على أهله كان الرشيد قد حجّ، فلمّا عاد من الحجّ سار من الحيرة إلى الأنبار في السّفن وركب جعفر بن يحيى إلى الصّيد، وجعل يشرب تارة ويلهو أخرى وتحف الرشيد وهداياه تأتيه، وعنده بختيشوع الطبيب، وأبو زكّار الأعمى يغنّيه، فلمّا أظلّ المساء دعا الرشيد مسرورا الخادم- وكان مبغضا لجعفر- وقال: اذهب فجئني برأس جعفر ولا تراجعني، فوافاه مسرور بغير إذن وهجم عليه وأبو زكّار يغنّيه: فلا تبعد فكلّ فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادي (وافر) فلما دخل مسرور قال له جعفر بن يحيى: لقد سررتني بمجيئك، وسؤتني بدخولك عليّ بغير إذن! فقال: الّذي جئت له أعظم! أجب أمير المؤمنين إلى ما يريد بك، فوقع على رجليه فقبّلهما، وقال له: عاود أمير المؤمنين فإنّ الشراب قد حمله على ذلك، وقال: دعني أدخل داري فأوصي، فقال الدّخول لا سبيل إليه   [1] احتجانهم للأموال: إحرازهم لها من دون غيرهم، احتكارهم للثروة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وأما الوصيّة: فأوص بما بدا لك. فأوصى، ثمّ حمله إلى منزل الرّشيد وعدل به إلى قبّة وضرب عنقه وأتى برأسه على ترس إلى الرشيد وببدنه في نطع، ووجّه الرشيد فقبض على أبيه وإخوته وأهله وأصحابه، وحبسهم بالرقة واستأصل شأفتهم ومن طريف ما وقع في ذلك، ما رواه العمرانيّ المؤرّخ قال: حدّث فلان قال: دخلت الديوان فنظرت في بعض تذاكر النّواب، فرأيت فيها أربعمائة ألف دينار ثم خلعة لجعفر بن يحيى الوزير، ثمّ دخلت بعد أيّام فرأيت تحت ذلك عشرة قراريط ثمن نفط وبواري لإحراق جثّة جعفر بن يحيى فعجبت من ذلك. ثم استوزر الرّشيد بعد البرامكة الفضل بن الرّبيع وكان حاجبه. وزارة أبي العبّاس الفضل بن الرّبيع قد مضى ذكر أبيه، وأمّا الفضل فكان حاجبا للمنصور والمهديّ والهادي والرشيد، فلما نكب الرشيد البرامكة استوزره بعدهم. كان الفضل بن الربيع شهما خبيرا بأحوال الملوك وآدابهم، ولمّا ولي الوزارة تهوّس بالأدب، وجمع إليه أهل العلم، فحصل منه ما أراد في مدّة يسيرة، وكان أبو نواس [1] من شعرائه المنقطعين إليه، فمن شعره في آل الربيع: عبّاس عبّاس إذا اضطرم الوغى ... والفضل فضل والربيع ربيع (كامل) وما زال الفضل بن الربيع على وزارته إلى أن مات الرشيد بطوس، فجمع الفضل العسكر وما فيه، ورجع إلى بغداد، وسيرد باقي سيرته في أيّام الأمين. انفضت أيّام الرّشيد.   [1] أبو نواس: هو الحسن بن هانئ. اشتهر بشعر المجون والخمريّات. نادم الخلفاء العباسيين ووزراءهم في عصره ويقال إنّه ارتجع وتزهّد في آخر عمره. توفي عام/ 195/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 ثمّ ملك الأمين: محمّد بن زبيدة أمّه أمّ جعفر، زبيدة بنت جعفر بن المنصور، وليس في خلفاء بني العبّاس من أمّه وأبوه هاشميّان سواه، كان الأمين كثير اللهو واللّعب، منقطعا إلى ذلك مشتغلا به عن تدبير مملكته، قال ابن الأثير المؤرخ الجزري: لم نجد للأمين شيئا من سيرته نستحسنه فنذكره، وقال غيره: كان الأمين فصيحا بليغا كريما وفيه يقول بعض الشعراء يمدحه، ويعرّض بهجو المأمون أخيه: لم تلده أمة ... تعرف في السّوق التّجارا لا ولا، حدّ ولا خان ... ولا في الخزي جارا (رمل) يعرّض بالمأمون، لأن الرشيد كان قد حدّه في خمر. كان الرّشيد قد بايع للأمين بولاية العهد وللمأمون بعده، وكتب الكتب بذلك وأشهد فيها الشّهود، وأرسل نسخها إلى الأمصار، فعلّقت نسخة من تلك النّسخ على الكعبة وأكّد ذلك بكلّ ما إليه السّبيل، فلما مات بطوس كان المأمون في خراسان، ومعه جماعة من أكابر القوّاد، ووزيره الفضل بن سهل وكان الأمين ببغداد، وكان الفضل بن الربيع وزير الرشيد مع الرّشيد بطوس، فلما مات الرشيد جمع الفضل جميع ما في العسكر- وكان الرشيد قد أوصى به للمأمون- وتوجّه الفضل إلى بغداد فاستوزره الأمين، ثم اشتغل باللهو واللعب ومعاشرة المجّان، فأشار الفضل بن سهل وزير المأمون على المأمون بإظهار الورع والدّين وحسن السّيرة، فأظهر المأمون حسن السيرة واستمال القوّاد وأهل خراسان، وكان كلّما اعتمد الأمين حركة ناقصة، اعتمد المأمون حركة سديدة، ثم نشأت العداوة بينهما، وحسّن الفضل بن الرّبيع وغيره له أن يخلع أخاه المأمون من ولاية العهد، ويبايع لابنه موسى، فخلعه وبايع موسى، وسمّاه الناطق بالحقّ وبسبب ذلك كانت الفتنة ببغداد بين الأمين والمأمون، وكان في آخرها قتل الأمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 شرح الفتنة بين الأمين والمأمون كان الفضل بن الرّبيع وزير الأمين قد خلف المأمون لما فعله عند موت الرّشيد بطوس، من إحضار جميع ما كان في عسكره إلى الأمين بعد أن كان الرشيد قد أشهد به للمأمون، فخاف الفضل بن الربيع من المأمون أنه إن ولي الخلافة كافأه على فعله فحسّن للأمين خلع المأمون والبيعة لابنه موسى، واتّفق مع الفضل جماعة على ذلك، فمال الأمين إلى أقوالهم، ثمّ إنّه استشار عقلاء أصحابه فنهوه عن ذلك، وحذّروه عاقبة البغي ونكث العهود والمواثيق، وقالوا له: لا تجرّئ القوّاد على النكث للأيمان وعلى الخلع فيخلعوك فلم يلتفت إليهم، ومال إلى رأي الفضل بن الربيع، وشرع في خدع المأمون باستدعائه إلى بغداد فلم ينخدع، وكتب يعتذر، وترددت المراسلات والمكاتبات بينهما حتى رقّ المأمون، وعزم الإجابة إلى خلع نفسه، ومبايعة موسى بن الأمين، فخلا به وزيره الفضل بن سهل وشجّعه على الامتناع وضمن له الخلافة، وقال: هي في عهدتي فامتنع المأمون، ونهض الفضل بن سهل بأمر المأمون واستمال له الناس وضبط له الثغور والأمور، واشتدّت العداوة بين الأخوين: الأمين والمأمون، وقطعت الدروب بينهما من بغداد إلى خراسان، وفتّشت الكتب وصعب الأمر، وقطع الأمين خطبة المأمون في بغداد وقبض على وكلائه، وكذا فعل المأمون بخراسان، ونما الشرّ بينهما وكان بقدر ما عند المأمون من التيقّظ والضّبط، عند الأمين من الإهمال والتفريط [1] والغفول فممّا يحكى من تفريط الأمين وجهله، أنه كان قد أرسل إلى حرب أخيه رجلا من أصحاب أبيه يقال له عليّ بن عيسى بن ماهان، وأرسل معه خمسين ألفا، فيقال: إنه ما رئي قبل ذلك ببغداد عسكر أكثف منه، وحمل السّلاح الكثير والأموال الوافرة وخرج معه مشيعا مودعا، وكان أوّل بعث بعثه إلى أخيه فمضى عليّ بن عيسى بن ماهان في ذلك العسكر الكثيف، وكان شيخا من شيوخ الدولة جليلا مهيبا، فالتقى بطاهر بن الحسين ظاهر الرّيّ [2] ، وعسكر طاهر حدود أربعة ألف فارس،   [1] التفريط: التضييع للمصلحة. [2] الرّيّ: مدينة وإمارة جنوبي طبرستان وبحر قزوين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 فاقتتلوا قتالا شديدا، كانت الغلبة فيه لطاهر، وقتل عليّ بن عيسى وجيء برأسه إلى طاهر فكتب طاهر إلى المأمون كتابا نسخته: «أمّا بعد فهذا كتابي إلى أمير المؤمنين- أطال الله بقاءه- ورأس عليّ ابن عيسى بين يدي، وخاتمه في يدي، وجنده تحت أمري، والسّلام» . وأرسل الكتاب على البريد، فوصل إلى المأمون في ثلاثة أيام، وبينهما مسيرة مائتين وخمسين فرسخا [1] ، ثم إنّ نعي عليّ بن عيسى ورد إلى الأمين وهو يصطاد السّمك، فقال للذي أخبره بذلك: دعني، فإن كوثرا قد اصطاد سمكتين، وأنا إلى الآن ما اصطدت شيئا- وكان كوثر خادما له وكان يحبّه- ولقد كانت أمّه زبيدة أسدّ رأيا منه فإنّ عليّ بن عيسى لما أرسله الأمين إلى خراسان بالجيش حضر إلى باب زبيدة ليودّعها فقالت له: يا عليّ، إنّ أمير المؤمنين- وإن كان ولدي وإليه انتهت شفقتي- فإنّي على عبد الله- تعني المأمون- منعطفة مشفقة لما يحدث عليه من مكروه وأذى وإنّما ولدي ملك نافس أخاه في سلطانه، فاعرف لعبد الله حقّ ولادته وأخوّته، ولا تجبهه بالكلام فإنّك لست نظيرا له ولا تقتسره اقتسار العبيد، ولا توهنه بقيد أو غلّ ولا تمنع عنه جارية أو خادما، ولا تعنف عليه في السّير، ولا تساوه في المسير، ولا تركب قبله وخذ بركابه إذا ركب، وإن شتمك فاحتمل منه، ثمّ دفعت إليه قيدا من فضّة وقالت: إذا صار إليك فقيّده بهذا القيد. فقال لها سأفعل ما أمرت به، وكان الناس يجزمون بنصرة عليّ بن عيسى استعظاما له ولعسكره، واستصغارا لمن يلتقيه من جند المأمون فقدّر الله خلاف ما جزموا به، وكان من الأمر ما كان. وكانت تلك الأيام أيّام فتن وحروب، فممّا جرى من ذلك: أن الحسين بن عليّ بن عيسى بن ماهان وكان أحد الأمراء شغب على الأمين، وخلعه وحبسه وبايع للمأمون وتبعه ناس من العسكر فاجتمع ناس آخرون وقالوا: إن كان الحسين ابن علي بن عيسى يريد أن يأخذ وجها عند المأمون بما فعل، فلنأخذنّ نحن وجها   [1] الفرسخ: مقياس فارسي للمسافة تقديره ثمانية آلاف متر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 عند خليفتنا الأمين بفكّه وتخليصه، وإجلاسه على السّرير فاقتتل الفريقان فغلب أصحاب الأمين فدخلوا عليه محبسه وأخرجوه وأجلسوه على سرير الخلافة، وقاتلوا حسينا وغلبوا عليه وأحضروه أسيرا إلى الأمين، فعاتبه فاعتذر إليه وعفا عنه، ثم خلع عليه وولاه العسكر وأمره بمحاربة المأمون، فخرج وهرب فأرسل الأمين الجند خلفه فلحقوا به وقتلوه وحملوا رأسه إلى الأمين، فما زال الشر ينمي والاختلاف يزيد، حتى أرسل المأمون هرثمة وطاهر بن الحسين- وهما من أعيان أمرائه- بعسكر كثيف، لمحاصرة بغداد ومحاربة الأمين، فحاصرا بغداد مدّة، وقاتلا بعساكرهما قتالا شديدا، وجرت بين القبيلين وقائع كثيرة كان في آخرها الغلبة لعسكر المأمون وقتل الأمين وحمل رأسه إلى أخيه المأمون بخراسان، وذلك في سنة ثمان وتسعين ومائة. وأمّا حال الوزارة في أيّامه، فإنّه لم يستوزر غير الفضل بن الرّبيع وزير أبيه وقد سبق شرح طرف من سيرته عند ذكر وزارته للرّشيد. انقضت أيّام الأمين. ثمّ ملك بعده أخوه عبد الله المأمون بويع له البيعة العامة ببغداد في سنة ثمان وتسعين ومائة وكان المأمون من أفضل خلفائهم وعلمائهم، وحكمائهم وحلمائهم وكان فطنا شديدا كريما. حدّث عنه، أنّه لما كان بدمشق أضاق إضاقة شديدة وقلّ المال عنده فشكا ذلك إلى أخيه المعتصم- وكان له بيده أعمال- فقال المعتصم: يا أمير المؤمنين، كأنك بالمال قد وافاك بعد أسبوع، فوصل في تلك الأيام من الأعمال التي كان المعتصم يتولاها ثلاثون ألف ألف ألف درهم (الألف مكررة ثلاث مرات) فقال ليحيى بن أكثم: اخرج بنا لننظر إلى هذا المال، فخرج وخرج الناس وكان قد زيّن الحمل وزخرف فنظر المأمون منه إلى شيء حسن كثير، فاستعظم الناس ذلك واستبشروا به، فقال المأمون: إنّ انصرافنا إلى منازلنا بهذا المال وانصراف الناس خائبين لؤم فأمر كاتبه أن يوقّع لهذا بألف ألف، ولذاك بمثلها، ولآخر بأكثر منها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 حتّى فرّق أربعة وعشرين ألف ألف ألف درهم (والألف مكررة ثلاث مرّات) ورجله في الرّكاب، ثمّ حوّل الباقي على عارض الجيش برسم مصالح الجند، واعلم أنّ المأمون كان من عظماء الخلفاء، ومن عقلاء الرّجال، وله اختراعات كثيرة في مملكته. منها: أنّه هو أوّل من فحص منهم عن علوم الحكمة، وحصّل كتبها وأمر بنقلها إلى العربيّة وشهرها، وحلّ إقليدس [1] ، ونظر في علوم الأوائل، وتكلّم في الطّبّ وقرّب أهل الحكمة. ومن اختراعاته: مقاسمة أهل السّواد [2] بالخمسين، وكانت المقاسمة المعهودة النّصف. ومن اختراعاته: إلزام الناس أن يقولوا بخلق القرآن، وفي أيّامه نشأت هذه المقالة ونوظر [3] فيها أحمد بن حنبل [4] وغيره، ولما مات المأمون أوصى أخاه المعتصم بها، فلما ولي المعتصم تكلّم فيها وضرب أحمد بن حنبل، وسيرد خبر ذلك في موضعه. ومن اختراعاته: نقل الدولة من بني العبّاس إلى بني عليّ- عليه السّلام- وتغيير الناس السّواد بلباس الخضرة، وقالوا: هو لباس أهل الجنّة. شرح الحال في ذلك كان المأمون قد فكّر في حال الخلافة بعده، وأراد أن يجعلها في رجل يصلح لها لتبرأ ذمّته- كذا زعم- فذكر أنّه اعتبر أحوال أعيان البيتين: البيت   [1] إقليدس: عالم رياضيات وهندسة، يوناني شهير، عاش في القرن الثالث قبل الميلاد، وعلّم في الإسكندرية. ترجمت كتبه في عهد المأمون. [2] السّواد: الريف العراقي ما بين النّهرين. [3] نوظر: جودل ونوقش من المجادلة والمناقشة. [4] أحمد بن حنبل: أبو عبد الله، أحمد بن محمد بن حنبل الشيبانيّ. ولد ببغداد عالم جليل ومحدّث له المسند في الحديث النبوي. دعي إلى القول بخلق القرآن فلم يجب فأضطهد وحبس حتى زمن المتوكّل. كانت وفاته عام/ 241/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 العبّاسيّ، والبيت العلويّ، فلم ير فيهما أصلح ولا أفضل، ولا أورع ولا أدين، من عليّ بن موسى الرّضا- عليهما السّلام- فعهد إليه، وكتب بذلك كتابا بخطّه، وألزم الرّضا- عليه السّلام- بذلك، فامتنع ثمّ أجاب، ووضع خطّه في ظاهر كتاب المأمون بما معناه: إني قد أجبت امتثالا للأمر، وإن كان الجفر والجامعة يدلان على ضدّ ذلك، وشهد عليهما بذلك الشّهود. وكان الفضل بن سهل وزير المأمون هو القائم بهذا الأمر والمحسّن له، فبايع الناس لعلي بن موسى من بعد المأمون، وسمّي الرّضا من آل محمّد (صلوات الله عليه) . وأمر المأمون الناس بخلع لباس السّواد ولبس الخضرة، وكان هذا في خراسان فلمّا سمع العبّاسيّون ببغداد فعل المأمون، من نقل الخلافة عن البيت العبّاسي إلى البيت العلويّ، وتغيير لباس آبائه وأجداده بلباس الخضرة- أنكروا ذلك وخلعوا المأمون من الخلافة غضبا من فعله، وبايعوا عمّه إبراهيم بن المهديّ وكان فاضلا شاعرا، فصيحا أديبا، مغنيا حاذقا، وإليه أشار أبو فراس بن حمدان في ميميّته بقوله: منكم عليّة أم منهم وكان لكم ... شيخ المغنّين إبراهيم أم لهم؟ [1] (بسيط) وكانت تلك الأيام أيام فتن وحروب، فلمّا بلغ المأمون ذلك قام وقعد، فقتل الفضل بن سهل، ومات بعده عليّ بن موسى من أكل عنب، فقيل: إنّ المأمون لما   [1] البيت من قصيدة يرثي بها أبو فراس لعذابات بني عليّ بن أبي طالب واضطهادهم على أيدي العباسيين، ويعيّر العبّاسيين بالتفاتهم إلى العبث والغناء واللهو، ويذكر اسم علية بنت المهدي وإبراهيم بن المهديّ على سبيل التعيير. وقد ورد البيت في ديوان أبي فراس بقوله: منكم عليّة أم منهم؟ وكان لهم ... شيخ المغنّين إبراهيم أم لكم أمّا عليّة فهي أخت إبراهيم بن المهديّ وكانت أديبة شاعرة تحسن صناعة الغناء ولقبها العبّاسة، وهي أخت الرشيد. توفيت عام/ 210/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 رأى إنكار الناس ببغداد لما فعله، من نقل الخلافة إلى بني علي، وأنهم نسبوا ذلك إلى الفضل بن سهل، ورأى الفتنة قائمة- دسّ جماعة على الفضل بن سهل فقتلوه في الحمام، ثم أخذهم وقدّمهم ليضرب أعناقهم، فقالوا له: أنت أمرتنا بذلك ثمّ تقتلنا! فقال لهم: أنا أقتلكم بإقراركم، وأما ما ادّعيتموه عليّ من أنّي أمرتكم بذلك فدعوى ليس لها بيّنة. ثم ضرب أعناقهم وحمل رءوسهم إلى الحسن بن سهل، وكتب يعزّيه ويوليه مكانه وانضمّ إلى ذلك أمور أخرى سنذكرها عند ذكر وزارة الفضل. ثمّ دسّ إلى عليّ بن موسى الرّضا- عليه السّلام- سمّا في عنب- وكان يحبّ العنب- فأكل منه واستكثر فمات من ساعته، ثم كتب إلى بني العبّاس ببغداد يقول لهم: إنّ الّذي أنكرتموه من أمر عليّ بن موسى قد زال، وإنّ الرجل مات، فأجابوه أغلظ جواب، وكان الفضل بن سهل قد استولى على المأمون، ومتّ أمتانا [1] كثيرة بقيامه في أمره، واجتهاده في أخذ الخلافة له، فكان قد قطع الأخبار عنه ومتى علم أنّ أحدا قد دخل عليه أو أعلمه بخبر سعى في مكروهة، فامتنع الناس من كلام المأمون فانطوت الأخبار عنه، فلما ثارت الفتنة ببغداد وخلع المأمون، وبويع إبراهيم بن المهديّ وأنكر العباسيّون على المأمون فعله كتم الفضل بن سهل عن المأمون مدّة، فدخل عليه عليّ بن موسى الرّضا- عليهما السّلام- وقال له: يا أمير المؤمنين: إنّ الناس ببغداد قد أنكروا عليك مبايعتي بولاية العهد، وتغيير لباس السّواد، وقد خلعوك، وبايعوا عمّك إبراهيم بن المهديّ، وأحضر إليه جماعة من القوّاد ليخبروه بذلك، فلما سألهم المأمون أمسكوا وقالوا: نخاف من الفضل، فإن كنت تؤمننا من شرّه أخبرناك، فأمّنهم وكتب لهم خطّه، فأخبروه بصورة الحال وعرّفوه خيانة الفضل وتعمية الأمور عليه، وستره الأخبار عنه، وقالوا له: الرأي أن تسير بنفسك إلى بغداد وتستدرك أمرك، وإلا خرجت الخلافة من يدك، فكان بعد هذا بقليل قتل الفضل، وموت الرّضا على ما تقدّم شرحه.   [1] متّ أمتانا: قطع برأيه وتصرّف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 ثمّ جدّ المأمون في المسير إلى بغداد، فوصلها وقد هرب إبراهيم بن المهديّ والفضل بن الربيع، فلمّا دخل البلد تلقّاه العبّاسيون وكلّموه في ترك لباس الخضرة والعود إلى السّواد واجتمعت به زينب بنت سليمان بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس- وكانت في طبقة المنصور، وكان بنو العبّاس يعظّمونها، وإليها ينسب الزينبيّون- فقالت له: يا أمير المؤمنين: ما الّذي دعاك إلى نقل الخلافة من بيتك إلى بيت عليّ قال: يا عمّة: إني رأيت عليّا حين ولي الخلافة أحسن إلى بني العبّاس، فولّى عبد الله البصرة، وعبيد الله اليمن، وقثم سمرقند [1] ، وما رأيت أحدا من أهل بيتي حين افضى الأمر إليهم، كافئوه على فعله في ولده، فأحببت أن أكافئه على إحسانه فقالت له: يا أمير المؤمنين: إنّك على برّ بني عليّ والأمر فيك، أقدر منك على برّهم والأمر فيهم، ثمّ سألته تغيير لباس الخضرة فأجابها إلى ذلك، وأمر الناس بتغييره والعود إلى لباس السّواد، ثمّ إنّ المأمون عفا عن عمّه إبراهيم بن المهدي، ولم يؤاخذه، وأحسن إليه وصار من ندمائه، وكذلك فعل مع الفضل بن الرّبيع، وكان حليما، كان يقول: لو عرف الناس حبّي للعفو لتقرّبوا إليّ بالذّنوب. في أيامه خرج محمّد بن جعفر الصادق عليهما السّلام بمكّة، وبويع بالخلافة وسمّوه أمير المؤمنين، وكان بعض أهله قد حسّن له ذلك حين رأى كثرة الاختلاف ببغداد، وما بها من الفتن، وخروج الخوارج، وكان محمّد بن جعفر شيخا من شيوخ آل أبي طالب يقرأ عليه العلم، وكان روى عن أبيه عليه السّلام علما جمّا، فمكث بمكّة مدّة، وكان الغالب على أمره ابنه وبعض بني عمه فلم تحمد سيرتهما، وأرسل المأمون إليهم عسكرا فكانت الغلبة له، وظفر به المأمون وعفا عنه. وفي أيّامه خرج أبو السّرايا وقويت شوكته، ودعا إلى بعض أهل البيت، فقاتله الحسن بن سهل فكانت الغلبة للجيش المأمونيّ وقتل أبو السّرايا، ثمّ صفا الملك بعد ذلك للمأمون وسكنت الفتّن، وقام المأمون بأعباء الخلافة وتدبير المملكة   [1] قثم: هو ابن العبّاس بن عبد المطّلب ولّاه علي بن أبي طالب على المدينة واستمر فيها إلى أن قتل عليّ فخرج إلى سمرقند واستشهد بها عام/ 57/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 قيام حزماء الملوك وفضلائهم، وفي آخرها خرج إلى الثّغر بطرسوس [1] فمات به وذلك في سنة ثماني عشرة ومائتين، وفيه يقول بعض الشّعراء: ما رأينا النّجوم أغنت عن المأمون ... في ظلّ ملكه المحروس غادروه بعرصتي طرسوس ... مثلما غادروا أباه بطوس (خفيف) شرح حال الوزارة في أيامه أوّل وزرائه بنو سهل، وكانت دولتهم في جبهة الدّهر غرّة، وفي مفرق العصر درّة، وكانت مختصرة الدولة البرمكيّة، وهم صنائع البرامكة [2] ، فالوزير الأوّل للمأمون منهم الفضل بن سهل. وزارة ذي الرّئاستين الفضل بن سهل للمأمون سمّي ذا الرّئاستين لجمعه بين السّيف والقلم، قالوا: كان الفضل بن سهل من أولاد ملوك الفرس المجوس، وكان قهرمانا ليحيى بن خالد، وكان أبوه سهل مجوسيّا فأسلم في أيّام الرّشيد، قالوا: لمّا رأى الفضل بن سهل نجابة المأمون في صباه ونظر في طالعة وكان خبيرا بعلم النّجوم فدلّته النجوم على أنه يصير خليفة لزم ناحيته وخدمه ودبّر أموره، حتّى أفضت الخلافة إليه فاستوزره. كان الفضل سخيّا كريما، يجاري البرامكة في جوده، شديد العقوبة سهل الانعطاف، حليما بليغا عالما بآداب الملوك، بصيرا بالحيل جيّد الحدس محصّلا للأموال وكان يقال له الوزير الأمير. كان مسلم بن الوليد [3] الشاعر نديما للفضل بن سهل قبل وزارته، وكان قد   [1] طرسوس: بلدة كانت من ثغور الروم، وموقعها اليوم في تركيا شمال غربي أنطاكية، فتحها المأمون وفيها دفن عام/ 218/ هـ. [2] صنائع البرامكة: تابعوهم المقرّبون منهم. [3] مسلم بن الوليد: ولد بالكوفة ولقّب بصريع الغواني، مدّح هارون الرشيد والبرامكة ولزم الفضل بن سهل ونادمه وحين آلت إليه الوزارة، ولّاه بريد جرجان، توفي مسلم عام/ 208/ هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 أنشده قوله: وقائل ليست له همّة ... كلّا، ولكن ليس لي مال لا جدة ينهض عزمي بها ... والنّاس سؤّال وبخّال فاصبر على الدّهر إلى دولة ... يرفع فيها حالك الحال (سريع) فلمّا علت حال الفضل وتولّى الوزارة، قصده مسلم بن الوليد، فلمّا رآه سرّ به قال له: هذه الدولة التي يرفع فيها حالك الحال، وأمر له بثلاثين ألف درهم، وولّاه بريد جرجان، فاستفاد من ثمّ مالا طائلا، قالوا: كانت همّة ذي الرّئاستين عالية جدّا من قبل أن يعظم أمره، قال له مؤدّب المأمون يوما في أيّام الرّشيد: إنّ المأمون لجميل الرأي فيك، وإنّي لا أستبعد أن يحصل لك من جهته ألف ألف درهم فاعتاظ الفضل من ذلك وقال له: ألك عليّ حقد؟ ألي إليك إساءة؟ فقال له المؤدّب لا والله، ما قلت هذا إلا محبّة لك، فقال: أتقول لي إنّك تحصّل معه ألف ألف درهم؟ والله ما صحبته لأكتسب منه مالا قلّ أو جلّ [1] ، ولكن صحبته ليمضي حكم خاتمي هذا في الشرق والغرب، قال: فو الله ما طالت المدّة حتّى بلغ ما أمّل وقتل الفضل بن سهل على الصّورة التي تقدّم شرحها، وذلك في سنة اثنتين ومائتين وفيه يقول الشّاعر: لفضل بن سهل يد ... يقصّر عنها المثل فباطنها للنّدى ... وظاهرها للقبل وبسطتها للغنى ... وسطوتها للأجل [2] (متقارب)   [1] جلّ: هنا، كثر، ضد قلّ. [2] الأجل: هنا، الموت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وزارة أخيه الحسن بن سهل للمأمون استوزره المأمون بعد أخيه الفضل ومال إليه، وتلافاه جبرا لمصابه بقتل أخيه وتزوّج ابنته بوران، وانحدر في أهله وأصحابه وعساكره وأمرائه إلى فم الصلح بواسط [1] فقام الحسن بن سهل في إنزالهم قياما عظيما، وبذل من الأموال ونثر من الدّرر ما يفوت حدّ الكثرة، حتّى إنّه عمل بطاطيخ من عنبر وجعل في وسط كلّ واحدة منها رقعة بضيعة من ضياعه ونثرها، فمن وقعت في يده بطيخة منها فتحها وتسلّم الضيعة التي فيها وكانت دعوة عظيمة تتجاوز حدّ التجمل والكثرة حتّى إنّ المأمون نسبه إلى ذلك إلى السّرف، وقالوا جملة ما أخرج على دعوة فم الصّلح خمسون ألف ألف درهم. كان الحسن بن سهل قد فرش للمأمون حصيرا منسوجا من الذّهب ونثر عليه ألف لؤلؤة من كبار اللؤلؤ، فلمّا رآه المأمون قال: قاتل الله أبا نواس! كأنه شاهد مجلسنا هذا حيث يقول: كأنّ صغرى وكبرى من فقاقعها ... حصباء درّ على أرض من الذّهب (بسيط) قالوا: قدم رجل إلى باب الحسن بن سهل يلتمس صلته وعارفته [2] فاشتغل عنه مديدة فكتب إليه: المال والعقل ممّا يستعان به ... على المقام بأبواب السّلاطين وأنت تعلم أني منهما عطل [3] ... إذا تأمّلتني يا ابن الدّهاقين [4] أما تدلّك أثوابي على عدمي [5] ... والوجه أني رئيس في المجانين والله يعلم ما للملك من رجل ... سواك يصلح للدّنيا وللدّين (بسيط)   [1] واسط: مدينة بناها الحجاج بن يوسف الثقفي جنوبيّ الكوفة وشمالي البصرة، أضحت من قواعد العراق قبل أن تبنى بغداد على يد المنصور. [2] عارفته: عطاءه وإحسانه، العارفة: المعروف. [3] عطل: خال. [4] الدهاقين: جمع دهقان وهو المختار أو الزعيم أو العمدة باللغة الفارسية. [5] العدم: الفقر والإفلاس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 فأمر له بعشرة آلاف درهم ووقع في رقعته: أعجلتنا فأتاك عاجل برّنا ... قلّا ولو أنظرتنا لم يقلل فخذ القليل وكن كأنّك لم تسل ... ونكون نحن كأننا لم نسأل (كامل) وكان الحسن بن سهل أعظم الناس منزلة عند المأمون، وكان المأمون شديد المحبة لمفاوضته، فكان إذا حضر عنده طاوله في الحديث، وكلّما أراد الانصراف منعه فانقطع زمان الحسن بذلك وثقلت الملازمة، فصار يتراخى عن الحضور بمجلس المأمون ويستخلف أحد كتّابه كأحمد بن أبي خالد وأحمد بن أبي يوسف وغيرهما، ثم عرضت له سوداء [1] كان أصلها جزعه على أخيه، فانقطع بداره ليتطبّب واحتجب عن الناس إلا أنّه بقي أعلى الخلق مكانة، واستوزر المأمون أحمد ابن أبي خالد، فكان أحمد في كلّ وقت يقصد خدمة الحسن بن سهل، وإذا حضر الحسن دار المأمون كان أعلى الناس مكانة، ولما انقطع الحسن بن سهل بمنزله هجاه بعض الشّعراء بقوله: تولّت [2] دولة الحسن بن سهل ... ولم أبلل [3] لهاني من نداها فلا تجزع على ما فات منها ... وأبكى الله عيني من بكاها (وافر) ومات الحسن بن سهل في سنة ستّ وثلاثين ومائتين في أيّام المتوكّل. وزارة أحمد بن أبي خالد الأحول للمأمون هو من الموالي، كان أحمد جليل القدر من عقلاء الرجال، وكان كاتبا سديدا فصيحا لبيبا، بصيرا بالأمور، قال له المأمون: إن الحسن بن سهل قد لزم منزله، وإنّني أريد أن أستوزرك، فتنصّل [4] أحمد من الوزارة، وقال: يا أمير   [1] السّوداء: هنا، الحزن والكآبة الملازمان كمرض. [2] تولّت: ذهبت. [3] لم أبلل لهاتي: لم أرطّب حلقي، كناية عن عدم الفائدة. [4] تنصّل: استعفى وحاول الخلاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 المؤمنين، أعفني من التسمّي بالوزارة، وطالبني بالواجب فيها، واجعل بيني وبين العامّة منزلة يرجوني لها صديقي، ويخافني لها عدوّي، فما بعد الغايات إلا الآفات فاستحسن المأمون جوابه وقال لا بدّ من ذلك، واستوزره. كان المأمون لما ولّى طاهر بن الحسين خراسان، استشار فيه أحمد بن أبي خالد فصوّب أحمد الرأي في تولية طاهر، فقال المأمون لأحمد: إنّي أخاف أن يغدر ويخلع ويفارق الطاعة، فقال أحمد: الدّرك في ذلك عليّ، فولّاه المأمون، فلمّا كان بعد مدة أنكر المأمون عليه أمورا، وكتب إليه يتهدّده فيه، فكتب طاهر جوابا أغلظ فيه للمأمون ثمّ قطع اسمه من الخطبة ثلاث جمع، فبلغ ذلك المأمون، فقال لأحمد بن أبي خالد، أنت الّذي أشار بتولية طاهر وضمنت ما يصدر منه، وقد ترى ما صدر منه من قطع الخطبة ومفارقة الطاعة، فو الله لئن لم تتلطف لهذا الأمر وتصلحه كما أفسدته، ضربت عنقك! فقال أحمد: يا أمير المؤمنين طب نفسا فبعد أيّام يأتيك البريد بهلاكه، ثمّ إنّ أحمد بن خالد أهدى لطاهر هدايا فيها كوامخ مسمومة، وكان طاهر يحبّ الكامخ [1] ، فأكل منها فمات من ساعته، وقيل: إن أحمد بن أبي خالد لما تولّى طاهر خراسان حسب هذا الحساب، فوهبه خادما وناوله سمّا، وقال له: متى قطع خطبة المأمون فاجعل له هذا السمّ في بعض ما يحبّ من المآكل، فلما قطع طاهر خطبة المأمون جعل الخادم له السمّ في كامخ، فأكل منه فمات في ساعته، ووصل الخبر على البريد بموته إلى المأمون بعد أيام فكان ذلك مما عظم به أمر أحمد بن أبي خالد. ومات أحمد حتف أنفه سنة عشر ومائتين.   [1] الكامخ: هو المخلّل المشهّي للطعام، أو هو دقيق وملح ولبن ينشّف في الشمس كإدام يؤتدم به وتسمية العامّة: شنكليش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وزارة أحمد بن يوسف بن القاسم للمأمون كان من الموالي، وكان كاتبا فاضلا، أديبا شاعرا، فطنا بصيرا بأدوات الملك وآداب السّلاطين، قالوا لما مات أحمد بن أبي خالد استشار المأمون الحسن ابن سهل فيمن يولّيه الوزارة، فأشار عليه بأحمد بن يوسف، وأبي عباد بن يحيى، وقال: هما أعرف الناس بطبع أمير المؤمنين، فقال له: اختر أحدهما، فاختار له أحمد بن يوسف ففوّض المأمون إليه وزارته، استشار المأمون أحمد بن يوسف في رجل، فوصفه أحمد بن يوسف وذكر محاسنه، فقال له المأمون يا أحمد، لقد مدحته على سوء رأيك فيه ومعاداته لك! فقال أحمد: لأنّي لك كما قال الشّاعر: كفى ثمنا بما أسديت [1] أنّي ... صدقتك في الصّديق وفي عدائي وأني حين تندبني [2] لأمر ... يكون هواك أغلب من هوائي [3] (وافر) وله أشعار حسنة فمنها: قلبي يحبّك يا منى ... قلبي ويبغض من يحبّك لأكون فردا في هواك ... فليت شعري كيف قلبك؟! (كامل) وأهدى يوم نوروز إلى المأمون هديّة قيمتها ألف ألف درهم، وكتب معها: على العبد حقّ فهو لا بدّ فاعله ... وإن عظم المولى وجلّت فواضله ألم ترنا نهدي إلى الله ماله ... وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله (طويل) فقال المأمون: عاقل أهدى حسنا، وكان سبب موته أنه دخل يوما إلى المأمون والمأمون يتبخّر، فأخرج المأمون المجمرة من تحته وقال: اجعلوها تحت أحمد- تكرمة له- فنقل أعداؤه إلى المأمون أنه قال: ما هذا البخل بالبخور؟ هلّا   [1] أسديت: قدّمت من فضل. [2] تندبني للأمر: تختارني له وتكلّفني به. [3] هوائي: المقصود هنا رغبتي واختياري، عاطفتي، والأصل فيها: الهوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 أمر لي ببخور مستأنف [1] ؟ فاغتاظ المأمون لذلك، وقال: ينسبني إلى البخل وقد علم أنّ نفقتي في كلّ يوم ستة آلاف دينار! وإنّما أردت إكرامه بما كان تحت ثيابي ثم دخل عليه وهو يتبخّر مرة أخرى فقال المأمون، اجعلوا تحته في مجمرة قطع عنبر وضمّوا عليه شيئا يمنع البخار أن يخرج، ففعلوا ذلك به، فصبر عليه حتى غلبه الأمر فصاح: الموت الموت، فكشفوا عنه وقد غشي عليه فانصرف إلى منزله، فمكث فيه شهورا عليلا من ضيق النّفس حتّى مات بهذه العلّة، وقيل: بل مات كمدا لبادرة بدرت منه، فاطّرحه [2] المأمون لأجلها. وزارة أبي عباد ثابت بن يحيى بن يسار الرازيّ للمأمون كان أبو عباد كاتبا حاذقا بالحساب، سريع الحركات أهوج محمّقا، قالوا: كان المأمون ينشد إذا رآه مقبلا قول دعبل [3] فيه: وكأنّه من دير هرقل مفلت ... حرب يجرّ سلاسل الأقياد (كامل) قيل للمأمون: إنّ دعبلا الشاعر هجاك، فقال: من أقدم على هجاء أبي عباد كيف لا يهجوني؟ ومعنى هذا الكلام: من أقدم على هجاء أبي عباد مع هوجه وجنونه وحدّته، كيف لا يقدم على هجائي مع حلمي ومحبّتي للصّفح؟!. وكان أبو عباد شديد الحدّة سريع الغضب، ربّما اغتاظ من بعض من يكون بين يديه، فرماه بدواته أو شتمه فأفحش، فدخل إليه الغالبيّ الشاعر وأنشده: لمّا أنخنا بالوزير ركابنا ... مستعصمين بجوده أعطانا ثبتت رحى ملك الإمام [4] بثابت ... وأفاض فينا العدل والإحسانا يقري [5] الوفود طلاقة وسماحة ... والناكثين [6] مهنّدا وسنانا   [1] مستأنف: جديد ومضاف. [2] اطّرحه: نبذه وأقصاه. [3] دعبل: ولد بالكوفة وأقام ببغداد، كان هجّاء خبيث اللسان، تعصب للعلويّين فأغضب عليه الخلفاء والأمراء فعاش حياته شريدا طريدا توفي عام/ 246/ هـ. [4] ثبت رحى الملك: استقرّ الحكم. [5] يقري: يقدّم القرى، وهو طعام الضيف. [6] الناكثين: الغادرين، غير الأوفياء بالعهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 من لم يزل للناس غيثا ممرّعا ... متخرقا [1] في جوده معوانا (كامل) فلمّا وصل إلى قوله: في جوده، وقف وارتج عليه، وصار يكرّر، في جوده في جوده، مرارا حتى ضجر أبو عباد، وغلبت عليه السّوداء فقال: يا شيخ. فقل صفعانا وخلّصنا، فضحك جميع من كان بالمجلس، وذهب غيظه هو أيضا فضحك مع الناس وأتمّ الغالبيّ قافيته بقوله معوانا، ثمّ وصله. وزارة أبي عبد الله محمّد يزداد بن سويد للمأمون وهو آخر وزرائه هم من خراسان، كانوا مجوسا ثم أسلموا، واتّصلوا بالخلفاء، وسويد أول من أسلم منهم، وكان قد مات أبوه وهو صغير، فأسلمته أمّه إلى بعض كتّاب العجم فنفذ نفاذا محمودا، وتعلّم آدابا كثيرة من آداب الفرس، ثم واظب على ملازمة الديوان بمرو [2] ، وحضر صاحب الديوان في يوم مطير، وتخلف جميع الكتّاب والنّواب عن الحضور، وكان سويد جدّ محمّد حاضرا، فاحتاج صاحب الديوان إلى عمل حسبة فلم يكن عنده بالديوان أحد، فتولّى هو عملها بنفسه، وشرع فيها فكتب بعضها، ثم غلبه نعاس، وحانت منه التفاتة فرأى سويدا فسلّم الحسبة إليه، وقال له: احتفظ بها حتى أنتبه، ثم نام صاحب الديوان فتصفّح سويد الحسبة وتمّمها وبيّضها في نسخة حسنة بخط مليح وضبط صحيح، وانتبه صاحب الديوان وطلب منه الحسبة فدفعها إليه فوجدها مفروغا منها على أتمّ قاعدة وأحسن وجه، فقال: يا صبيّ: من عمل هذه الحسبة؟ قال: أنا. قال: أفتحسن الكتابة؟ قال: نعم. فأمره بلزوم سدّته [3] التي كان فيها حسابه وأصول أعماله، وما يحبّ أن يحتفظ به وقرّر له معيشة، وتنقّل في الخدمات حتى حصل أموالا جليلة وارتفع قدره، ثم   [1] المتخرّق: المبالغ في العطاء. السخيّ جدّا. [2] مرو: عاصمة خراسان ومن أشهر مدنها. حولها واحة غنيّة. احتلّها أبو مسلم الخراساني في دعوته للعباسيّين. [3] أمره بلزوم سدّته: استبقاه في خدمته. والسدّة: كرسيّ الحكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 تأدّب محمّد وبرع في كلّ شيء فاستوزره المأمون وفوّض إليه جميع الأمور، كان محمّد شاعرا فصيحا، فمن شعره: لقد فتنت بمقلتها فتون ... وخانت في الهوى من لا يخون وتزعم أنّني أهوى سواها ... فكيف وما تخطّتها العيون أيا من حبّها في القلب منّي ... مكان الروح مستتر كمين ويا من تدّعي أني خؤون ... وهذا في هواها لا يكون خذي عهدي على عيني وطرفي ... وحسبك ضامنا أني أمين (وافر) ومات المأمون وهو وزيره. انقضت أيام المأمون ووزرائه. ثمّ ملك بعده أخوه المعتصم أبو إسحاق محمّد بويع يوم وفاة المأمون، وقد تقدّم ذكر السّنة، كان المعتصم سديد الرأي شديد المنّة، يحمل ألف رطل ويمشي بها خطوات، وكان موصوفا بالشجاعة، وسمّي: المثمّن من أحد عشر وجها: هو الولد الثامن من العبّاس، والثامن من الخلفاء، وتولّى الخلافة وعمره ثماني عشرة سنة [1] ، وكانت خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر، وتوفّي وله ثمان وأربعون سنة، وولد في شعبان وهو الشّهر الثامن وخلّف ثمانية ذكور، وثماني بنات وغزا ثماني غزوات، وخلّف ثمانية آلاف ألف درهم. كانت أيام المعتصم أيّام فتوح وحروب، وهو الّذي فتح عمّورية.   [1] قوله وعمره ثماني عشرة سنة: زعم غير صحيح. ويردّه أن خلافة المعتصم استمرّت ثماني سنوات وثمانية أشهر وقد توفّي عن عمر ثماني وأربعين سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 شرح الحال في ذلك كان السبب في غزو المعتصم عمّورية، أن ملك الروم خرج إلى بلاد المسلمين فنهب حصنا من حصونهم يقال له زبطرة، وقتل من به من الرجال وسبى الذريّة والنساء فيقال: إنه كان في جملة السّبي امرأة هاشميّة، فسمعت وهي تقول: وا معتصماه! فبلغ المعتصم ما فعله ملك الروم بالمسلمين فاستعظمه وكثر عليه، وبلغه ما قالت الهاشميّة فقال وهو في مجلسه: لبّيك لبيك! ونهض من ساعته وصاح في قصره: الرّحيل الرحيل! ثم ركب دابّته وسمط [1] خلفه شكالا [2] وسكّة حديد وحقيبة بها زاده، ثمّ برز وأمر العساكر بالتبريز، وتجهّز تجهّزا لم يتجهّز بمثله خليفة، فلما اجتمعت عساكره وفرغ من تجهيزه وعزم على المسير، أحضر القضاة والشّهود، فأشهدهم أنه وقف أملاكه وأمواله على ثلاثة أثلاث، ثلث للَّه تعالى وثلث لولده وأقاربه، وثلث لمواليه، ثمّ سار فظفر ببعض أهل الروم فسأله عن أحصن مدنهم وأعظمها وأعزّها عندهم، فقال له الرّومي: إن عمّورية هي عين بلادهم، فتوجّه المعتصم إليها، وجمع عساكره عليها، وحاصرها ثم فتحها ودخل إليها وقتّل فيها وفي بلادهم، وسبى وأسر وبالغ في ذلك حتى هدم عمّورية وعفّى آثارها، وأخذ بابا من أبوابها- وهو باب حديد عظيم الحجم- فأحضره إلى بغداد وهو الآن على أحد أبواب الخلافة يسمّى باب العامّة، وكان قد صحبه أبو تمّام الطائيّ [3] فمدحه بقصيدته البائيّة التي أولها: السّيف أصدق أنباء من الكتب ... في حدّه الحدّ بين الجدّ واللّعب (بسيط) وفيها يقول للمعتصم:   [1] سمط خلفه: ضمّ إليه. [2] شكالا: حبلا. [3] أبو تمّام الطائي: هو حبيب بن أوس الطائي من أشهر شعراء العصر العباسيّ، ولد بقرية جاسم من أعمال حوران وكثرت أسفاره حتى قرّبه المعتصم ولزمه ومدحه بأشهر قصائده وهي البائية. له كتاب «الحماسة» وهو مجموعة أشعار اختارها. توفي عام/ 231/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 خليفة الله جازى الله سعيك عن ... جرثومة الدين والإسلام والحسب بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها ... تنال إلا على جسر من التّعب ومن جملتها ما يشير به إلى مبالغة المعتصم في قتالهم واستئصاله إيّاهم: لم تطلع الشّمس منهم يوم ذاك على ... بان بأهل ولم تغرب على عزب ومن جملتها ما يدلّ على شدة ما كان عنده من الحقد عليهم وهو قوله: ما ربع ميّة معمورا يطيف به ... غيلان أبهى ربا من ربعك الخرب [1] ولا الخدود وإن أدمين من خجل ... أشهى إلى ناظري من خدّك التّرب [2] وكانت وقعة عمّورية في سنة ثلاث وعشرين ومائتين. والمعتصم هو الّذي بنى سرّ من رأى. شرح السّبب في بناء سامرّا وكيفيّة الحال في ذلك كانت بغداد دار الملك، بها سرير الخلافة من بعد المنصور، إلا أن هارون الرّشيد أحبّ الرقّة بالشأم فأقام بها، ومع ذلك فكانت الرقّة كالمتنزّه، وقصوره وخزائنه ونساؤه وأولاده ببغداد بقصر الخلد، ومن ولي بعده من الخلفاء كان سرير ملكهم ببغداد. فلمّا كانت أيام المعتصم خاف من بها من العسكر ولم يثق بهم، فقال: اطلبوا لي موضعا أخرج إليه وأبني فيه مدينة وأعسكر به، فإن رابني من عساكر بغداد حادث كنت بنجوة، وكنت قادرا على أن آتيهم في البرّ وفي الماء، فوقع اختياره على سامرّا فبناها وخرج إليها. وقيل: إنّ المعتصم استكثر من المماليك، فضاقت بهم بغداد وتأذّى بهم النّاس وزاحموهم في دورهم، وتعرّضوا للنّساء، فكان في كلّ يوم ربما قتل منهم   [1] قوله ما ربع ميّة: ميّة اسم محبوبة الشاعر غيلان، وغيلان هو الشاعر ذو الرمّة، عاصر جريرا والفرزدق وأكثر من ذكر مية في شعره، كان تردده على الكوفة والبصرة، توفي حوالي/ 117/ هـ. [2] التّرب: المعفّر بالتراب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 جماعة فركب المعتصم يوما فلقيه رجل شيخ، فقال للمعتصم: يا أبا إسحاق: فأراد الجند ضربه فمنعهم المعتصم، وقال له ما لك يا شيخ؟ فقال: لا جزاك الله خيرا عن الجوار! جاورتنا مدّة فرأيناك شرّ جار، جئتنا بهؤلاء العلوج [1] من غلمانك الأتراك فأسكنتهم بيننا فأيتمت بهم صبياننا، وأرملت نساءنا، والله لنقاتلنّك بسهام السّحر- يعني الدّعاء- والمعتصم يسمع ذلك، فدخل منزله ولم ير راكبا إلا في يوم مثل ذلك اليوم، فركب وصلّى بالناس العيد، وسار إلى موضع سامرّا فبناها، وكان ذلك في سنة إحدى وعشرين ومائتين. ولمّا مرض المعتصم مرضته التي مات فيها نزل في سفينة ومعه زنام الزّامر [2] وكان أوحد وقته فجعل يجتاز على قصوره وبساتينه بشاطئ دجلة ويقول لزنام: ازمر: يا منزلا لم تبل أطلاله ... حاشا لأطلالك أن تبلى لم أبك أطلالك لكنّني ... بكيت عيشي فيك إذ ولّى والعيش أحلى ما بكاه الفتى ... لا بدّ للمحزون أن يسلى (سريع) ولما احتضر جعل يقول: ذهبت الحيل: ليست حيلة! ثمّ مات. وذلك في سنة سبع وعشرين ومائتين.   [1] العلوج: الأغراب، مطعونو النسب. [2] زنام الزامر: أوّل من اشتهر باستعمال الناي، كان مطرب الرشيد والمعتصم والواثق، توفي حوالي عام/ 235/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 شرح حال الوزارة في أيّامه أوّل وزرائه كاتبه قبل الخلافة الفضل بن مروان، كان من البردان [1] ، وكان عاميّا لا علم عنده ولا معرفة، وكان رديء السّيرة جهولا بالأمور، وفيه يقول بعض شعراء عصره: تفرعنت [2] يا فضل بن مروان فاعتبر ... فقبلك كان الفضل والفضل والفضل ثلاثة أملاك [3] مضوا لسبيلهم ... أبادهم التقييد والأسر والقتل (طويل) والثلاثة هم الفضل بن يحيى بن خالد، والفضل بن سهل، والفضل بن الربيع وكان الفضل بن مروان قد تمكّن من المعتصم وحسده الناس على منزلته عنده، ثم نكبه وأخذ جميع أمواله وعفّ عن نفسه، فبقي مدّة ينتقل في الخدمات حتّى مات في أيّام المستعين. وزارة أحمد بن عمّار بن شاذي للمعتصم ثمّ وزر له أحمد بن عمّار، كان رجلا موسرا من أهل المذار فانتقل إلى البصرة واشترى بها أملاكا وكثر ماله، وكان طحّانا، ثم أصعد إلى بغداد واتّسع بها حاله فقالوا كان يخرج في الصّدقة كلّ يوم مائة دينار، وكان الفضل بن مروان قد وصفه بالأمانة عند المعتصم، فلما نكب الفضل لم يقع نظر المعتصم على غير أحمد بن عمّار فاستوزره، وكان جاهلا بآداب الوزارة، وفيه يقول بعض شعراء عصره: سبحان ربّي الخالق الباري ... صرت وزيرا يا ابن عمّار وكنت طحّانا على بغلة ... بغير دكّان ولا دار   [1] البردان: قرية شمالي بغداد على الشاطئ الشرقيّ من دجلة، ينقل إليها السّبي، وهي دار النخاسة بالفارسيّة. [2] تفرعنت: تشبّهت بفرعون مصر في كفره وظلمه. [3] الأملاك: هنا، الملوك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 كفرت بالمقدار [1] إن لم تكن ... قد جزت في ذا كلّ مقدار (سريع) فمكث مدّة في وزارة المعتصم، حتّى ورد كتاب من بعض العمّال يذكر فيه خصب الناحية وكثرة الكلإ، فسأل المعتصم أحمد بن عمّار عن الكلإ فلم يدر ما يقول فدعا محمّد بن عبد الملك الزيّات، وكان أحد خواصّه وأتباعه فسأله عن الكلإ، فقال: أوّل النبات يسمّى بقلا، فإذا طال قليلا فهو كالكلإ، فإذا يبس وجفّ فهو الحشيش فقال المعتصم لأحمد بن عمّار: انظر أنت الدّواوين وهذا يعرض عليّ الكتب، ثم استوزره، وصرف ابن عمّار صرفا جميلا. وزارة محمّد بن عبد الملك الزيّات للمعتصم كان أبوه تاجرا في أيّام المأمون موسرا، ونشأ محمّد فتأدّب وقرأ وفهم، وكان ذكيّا فبرع في كلّ شيء حتّى صار نادرة وقته عقلا وفهما، وذكاء وكتابة، وشعرا وأدبا وخبرة بآداب الرّئاسة، وقواعد الملوك، حتّى كانت أيّام المعتصم فاستوزره على ما تقدّم شرحه، فنهض بأعباء الوزارة نهوضا لم يكن لمن تقدّمه من أضرابه، وكان جبّارا متكبّرا، فظّا غليظ القلب، خشن الجانب مبغضا إلى الخلق، ومات المعتصم وهو وزيره وكان المعتصم قد أمر لابنه الواثق بمال، وأحال به على ابن الزيّات فمنعه، وأشار على المعتصم ألا يعطيه شيئا، فقبل المعتصم قوله ورجع فيما كان أمر به للواثق من ذلك فكتب بخطه كتابا بالحجّ والعتق والصّدقة أنه إن ولي الخلافة ليقتلنّ ابن الزيّات شرّ قتلة. فلمّا مات المعتصم وجلس الواثق على سرير الخلافة ذكر حديث ابن الزيات فأراد أن يعاجله فخاف ألّا يجد مثله، فقال للحاجب: أدخل إليّ عشرة من الكتّاب فلما دخلوا عليه اختبرهم فما كان فيهم من أرضاه، فقال للحاجب: أدخل من الملك   [1] المقدار الأولى: عنى بها القضاء والقدر. المقدار الثانية: المنزلة والمكانة كالوظيفة والمركز الرسميّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 محتاج إليه، محمّد بن الزيات، فأدخله، فوقف بين يديه خائفا، فقال للخادم: أحضر إليّ المكتوب الفلانيّ، فأحضر له الكتاب الّذي كان كتب وحلف فيه ليقتلنّ ابن الزيات فدفعه إلى ابن الزيّات وقال: اقرأه، فلما قرأه، قال: يا أمير المؤمني أنا عبد إن عاقبته فأنت حاكم فيه، وإن كفّرت عن يمينك واستبقيته كان أشبه بك. فقال الواثق: والله ما أبقيتك إلّا خوفا من خلوّ الدولة من مثلك! وسأكفّر عن يميني، فإنّي أجد عن المال عوضا ولا أجد عن مثلك عوضا، ثم كفّر عن يمينه واستوزره وفوّض الأمور إليه، وكان ابن الزيّات شاعرا مجيدا فمن شعره يرثي المعتصم ويمدح الواثق: قد قلت إذ غيّبوك واصطفقت ... عليك أيد بالماء والطّين اذهب فنعم المعين أنت على ... الدّنيا ونعم المعين للدين لا يجبر الله أمّة فقدت ... مثلك إلّا بمثل هارون [1] (منسرح) ثم إنّ محمّد بن عبد الملك الزيّات مكث في وزارة الواثق مدّة خلافته، لم يستوزر غيره حتّى مات الواثق، وولي أخوه المتوكّل فقبض عليه وقتله. قيل: إنّ ابن الزيّات عمل تنورا من حديد ومساميره إلى داخل، ليعذّب به من يريد عذابه، فكان هو أوّل من جعل فيه، وقيل له: ذق ما كنت تريد أن تذيق الناس!. انقضت أيّام المعتصم ووزرائه. ثمّ ملك بعده هارون الواثق بويع سنة سبع وعشرين ومائتين كان الواثق من أفاضل خلفائهم، وكان فاضلا لبيبا، فطنا فصيحا شاعرا وكان يتشبّه بالمأمون في حركاته وسكناته، ولما ولي الخلافة أحسن إلى بني عمّه الطالبيّين [2] وبرّهم ولم يقع في أيّامه من الفتوح الكبار والحوادث المشهورة ما يؤثر   [1] هارون: هو الخليفة الواثق، بويع بعد وفاة المعتصم/ 227/ هـ. [2] الطالبيّين: عنى بهم آل عليّ بن أبي طالب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 ومات الواثق في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين. شرح حال الوزارة في أيّامه لم يستوزر الواثق سوى محمّد بن عبد الملك الزيّات وزير أبيه، وقد سبق طرف من حاله ومات الواثق وهو وزيره. انقضت أيّام الواثق. ثمّ ملك بعده أخوه جعفر المتوكّل كان المتوكّل شديد الانحراف عن آل عليّ- عليه السّلام- وفعل من حرث قبر الحسين- عليه السّلام- ما فعل، وأبى الله إلّا أن يتمّ نوره، وقال من يعتذر له: إنه كان كأخيه وكالمأمون في الميل إلى بني عليّ- عليه السّلام- وإنّما كان حوله جماعة منحرفون عن أهل البيت- عليهم السّلام- فكانوا دائما يحملونه على الوقيعة فيهم والأوّل أصحّ، ولا ريب أنه كان شديد الانحراف عن هذه الطائفة، ولذلك قتله ابنه غيرة وحميّة. شرح مقتله على سبيل الاختصار كانت بينه وبين ابنه المنتصر مباينة، وكان كلّ منهما يكره الآخر ويؤذيه، فاتّفق المنتصر مع جماعة من الأمراء على قتله وقتل الفتح بن خاقان [1] ، وكان أكبر أمرائه وأفضلهم، فهجموا عليه وهو يشرب، فخبطوه بالسّيف فقتلوه وقتلوا الفتح معه وأشاعوا أن الفتح قتله فقتلناه به، وجلس ابنه على السّرير بعده. وذلك في سنة سبع وأربعين ومائتين.   [1] الفتح بن خاقان: أبو محمّد، جدّه أحمد بن غرطوج فارسي الأصل. أديب وشاعر فصيح، آخاه الخليفة المتوكل، وقتل في مجلسه عام/ 247/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 شرح حال الوزارة في أيّامه لما بويع بالخلافة استوزر محمّد بن عبد الملك الزيّات أيّاما، ثمّ نكبه وقبض عليه وقتله كما تقدّم شرحه، ثم استكتب [1] رجلا من كتّابه يقال له: أبو الوزير، من غير أن يسمّيه بالوزارة فكتب له مديدة يسيرة، ثم نكبه وأخذ منه مائتي ألف دينار، واستوزر الجرجرائي. وزارة أبي جعفر محمّد بن الفضل الجرجرائي للمتوكّل كان شيخا ظريفا، حسن الأدب، عالما بالغناء مشتهرا به، فخفّ على قلب المتوكّل فاستوزره مديدة، ثم كثرت السّعايات به، فعزله المتوكّل، وقال: قد ضجرت من المشايخ، أريد حدثا أستوزره، فأشير عليه بعبيد الله بن يحيى بن خاقان. وزارة عبيد الله بن يحيى بن خاقان كان عبيد الله حسن الخطّ، وله معرفة بالحساب والاستيفاء [2] ، إلا أنّه كان مخلّطا [3] ، وكان مجدودا [4] ، فكانت سعادته تغطي عيوبه، وكان كريما حسن الأخلاق. وكان كرمه أيضا يستر كثيرا من عيوبه، وكان فيه تعفّف، قيل: إنّ صاحب مصر حمل إليه مائتي ألف دينار وثلاثين سفطا من الثّياب المصريّة، فلمّا أحضرت بين يديه، قال لوكيل صاحب مصر: لا والله! لا أقبلها ولا أثقل عليه   [1] استكتبه: اتّخذه كاتبا، جعله كاتبا عنده. [2] الاستيفاء: الجباية وجمع الأموال. [3] المخلّط: شبه المجنون أو الأحمق. [4] المجدود: صاحب الجدّ أو الحظّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 بذلك، ثمّ فتح الأسفاط وأخذ منها منديلا لطيفا وضعه تحت فخذه، وأمر بالمال فحمل إلى خزانة الديوان وصحّح بها، وأخذ به دورا لصاحب مصر. وكانت سيرة عبيد الله هيّنة، والجند يحبّونه، فلمّا جرت مفتنة عند قتل المتوكّل خاف عبيد الله فاجتمع الجند على بابه وقالوا له: أنت أحسنت إلينا في حال وزارتك وأقلّ ما يجب لك علينا أن نحتفظ بك ونحرسك في مثل هذه الفتنة. انقضت أيّام المتوكّل ووزرائه. ثمّ ملك بعده ابنه محمّد المنتصر بويع في صبيحة الليلة التي قتل أبوه بها، كان المنتصر شهما فاتكا سفّاكا للدّم ولمّا قتل أباه تحدّث الناس بأنه لا يطول له العمر بعده، وشبهوه بشيرويه [1] بن كسرى حين قتل أباه، ولم يستمتع بالملك بعده، قالوا لما قتل المنتصر أباه وبويع له بالخلافة جلس على بساط لم ير النّاس مثله، وعليه كتابة عجيبة بالفارسيّة، فنظر إليها المنتصر واستحسنها، وقال لمن حضر: هل تعرفون معناها؟ فأحجموا وقالوا لا نعرف فاستحضر رجلا عجميّا غريبا وأمره بقراءتها، فأحجم الرّجل، فقال له المنتصر: قل وما عليك بأس، فليس لك ذنب، فقال الرجل: على هذه البساط مكتوب، أنا شيرويه بن كسرى، قتلت أبي فلم أتمتّع بالملك بعده إلا ستة أشهر فتطير المنتصر من ذلك، ونهض من مجلسه مغضبا، فلم تتمّ ستة أشهر حتّى مات، وذلك في سنة ثمان وأربعين ومائتين. شرح حال الوزارة في أيّامه لما بويع بالخلافة استوزر كاتبه أحمد بن الخصيب.   [1] شيرويه: هو ابن كسرى أبرويز: ملك فارسيّ حبس أباه واغتاله واعتلى العرش مكانه، ومات بالطاعون بعد ستة أشهر عام/ 628/ م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وزارة أحمد بن الخصيب للمنتصر كان أحمد مقصّرا في صناعته، مطعونا عليه في عقله، وكانت فيه مروءة وحدّة [1] وطيش، فمن احتمله بلغ منه ما أراد، فعرض له رجل من أرباب الحوائج وألحّ عليه حتّى ضايقه، وضغط رجله بالرّكاب، فاحتدّ أحمد وأخرج رجله من الرّكاب وركله بها في صدره، فقال فيه بعض الشّعراء: قل للخليفة يا ابن عمّ محمّد ... أشكل وزيرك إنه ركال [2] قد نال من أعراضنا بلسانه ... ولرجله عند الصّدور مجال (كامل) ومات المنتصر وأحمد بن الخصيب وزيره. انقضت أيّام المنتصر. ثمّ ملك بعده المستعين وهو أحمد بن المعتصم لما مات المنتصر اجتمع الأمراء وأكابر المماليك، وقالوا: متى ولّينا أحدا من ولد المتوكل طالبنا بدمه وأهلكنا، فأجمعوا على مبايعة المستعين وقالوا هو ابن مولانا المعتصم فإذا ما بايعناه لم تخرج الخلافة من ولد المعتصم، فبايعوه في سنة ثمان وأربعين ومائتين وكانت تلك أيّام فتن وحروب وخروج خوارج، فممّن خرج فيها قتيل شاهي أبو الحسين يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليهم السّلام) . شرح الحال في ذلك كان يحيى بن عمر قتيل شاهي [3] ، قدم من خراسان في أيّام المتوكّل، وهو في ضائقة وعليه دين، فكلّم بعض أكابر أصحاب المتوكّل في ذلك، فأغلظ له   [1] الجدّة: في الطبع، شدّة العصبيّة والنزق. [2] أشكل: أربط بالشّكال، أي بالحبل، ركّال: رفّاس. [3] شاهي: قرية قريبة من الكوفة كما ذكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وحبسه بسامرّا، ثمّ كفله أهله فأطلق، وانحدر إلى بغداد فأقام بها مدّة على حال غير مرضية من الفقر، وكان- رضي الله عنه- دينا خيّرا أعمالا حسن السّيرة، فرجع إلى سامرّا مرّة ثانية، وكلّم بعض أمراء المتوكّل في حاله، فأغلظ له وقال، لأيّ حال يعطى مثلك؟ فرجع إلى بغداد وانحدر منها إلى الكوفة، ودعا الناس إلى الرضا من آل محمد، فتبعه ناس من أهل الكوفة من ذوي البصائر في التشيّع، وناس من الأعراب ووثب في الكوفة وأخذ ما في بيت المال ففرّقه على أصحابه، وأخرج من في السّجون، وطرد عن الكوفة عاملها وكثرت جموعه فأرسل إليه أمير بغداد- وهو محمّد بن عبد الله بن طاهر- عسكرا فالتقوا بشاهي وهي قرية قريبة من الكوفة- وكانت الغلبة لعسكر ابن طاهر، وانكشف الغبار ويحيى بن عمر قتيل فحمل رأسه إلى محمّد بن عبد الله بن طاهر ببغداد، فجلس محمّد بن عبد الله بن طاهر للهناء بذلك، فدخل عليه الناس أفواجا يهنئونه، وفي جملتهم رجل من ولد جعفر بن أبي طالب- عليهم السلام- فقال له أيّها الأمير: إنّك لتهنّأ بقتل رجل لو كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حيّا لعزّي به، فأطرق محمّد بن عبد الله ساعة، ثم نهض وصرف الناس، ورثاه الشّعراء، فممّن رثاه ابن الروميّ [1] بجيميّته التي أوّلها: أمامك فانظر أيّ نهجيك تنهج ... طريقان شتّى: مستقيم وأعوج ومنها: سلام وريحان وروح ورحمة ... عليك وممدود من الظلّ سجسج [2] ولا برح القاع الّذي أنت جاره ... يرفّ عليه الأقحوان المفلّج [3]   [1] ابن الروميّ: أبو الحسن، عليّ بن العبّاس بن جريج، ولد ونشأ وتخرّج ببغداد، أبدع في شعره وأفحش في هجائه كان قليل النّقلة والسفر، كثير التشاؤم، دسّ له السمّ القاسم بن عبيد الله وزير المعتضد فتوفي عام/ 283/ هـ. [2] سجسج: مبسوط، رحب. [3] المفلّج: المتباعد في تويجاته كالأسنان المتباعدة، وصف به الأقحوان وهو زهر بريّ أبيض مفلّج التّويجات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وهي قصيدة شاعرة، تناول فيها بني العبّاس بأشياء تركناها تحرّجا، وكانت وقعة شاهي في سنة خمسين ومائتين، وخرج عليه غيره من الطالبيّين، فكانت الغلبة في جميع تلك الحروب له. واعلم أنّ المستعين كان مستضعفا في رأيه وعقله، وكانت أيّامه كثيرة الفتن ودولته شديدة الاضطراب، ولم يكن فيه من الخصال المحمودة إلّا أنّه كان كريما وهوبا وخلع في سنة اثنتين وخمسين ومائتين، ثمّ قتل بعد ذلك. شرح حال الوزارة في أيّامه لما ولي المستعين أقرّ أحمد بن الخصيب على وزارته شهرين، ثمّ استوزر بعده أبا صالح عبد الله بن محمّد بن يزداد. وزارة أبي صالح بن محمّد بن يزداد كان عنده أدب وفضل، وكانت توقيعاته وأجوبته من أحسن التوقيعات والأجوبة. ومن توقيعاته إلى رجل: «ليس عليك بأس ما لم يكن منك بأس» . قالوا: ولمّا تولّى أبو صالح بن يزداد الوزارة للمستعين، ضبط الأموال، فصعب ذلك على أمراء الدولة- وكان قد ضيّق عليهم- فتهدّدوه بالقتل فهرب، ثم اختلفت الأحوال، واستكتب المستعين تارة محمّد بن الفضل الجرجرائي، وشجاع ابن القاسم لكن لم يتسمّ أحد منهم بالوزارة، ولم تطل تلك الأيام، وكانت ذات فتن وحروب واختلاف كثير. انقضت أيّام المستعين ووزرائه. ثمّ ملك بعده المعتزّ باللَّه هو أبو عبد الله بن محمّد بن المتوكّل، بويع بالخلافة سنة اثنتين وخمسين ومائتين عقيب خلع المستعين، وكان المعتزّ جميل الشّخص حسن الصّورة، ولم يكن بسيرته ورأيه وعقله بأس، إلّا أنّ الأتراك كانوا قد استولوا منذ قتل المتوكّل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 على المملكة واستضعفوا الخلفاء، فكان الخليفة في يدهم كالأسير، إن شاءوا أبقوه وإن شاءوا خلعوه، وإن شاءوا قتلوه. لمّا جلس المعتزّ على سرير الخلافة، قعد خواصّه وأحضروا المنجّمين، وقالوا لهم انظروا كم يعيش؟ وكم يبقى في الخلافة؟ وكان بالمجلس بعض الظّرفاء فقال: أنا أعرف من هؤلاء بمقدار عمره وخلافته، فقالوا له: فكم تقول إنّه يعيش وكم يملك؟ قال: مهما أراد الأتراك، فلم يبق في المجلس إلّا من ضحك. وفي أيّام المعتزّ ظهر يعقوب بن الليث الصفّار [1] ، واستولى على فارس، وجمع جموعا كثيرة، ولم يقدر المعتزّ على مقاومته، ثمّ إن الأتراك ثاروا بالمعتزّ وطلبوا منه مالا فاعتذر إليهم، وقال: ليس في الخزائن شيء، فاتّفقوا على خلعه وقتله، فحضروا إلى بابه وأرسلوا إليه وقالوا له: اخرج إلينا، فاعتذر بأنه شرب دواء، فهجموا عليه وضربوه بالدّبابيس، وخرقوا قميصه وأقاموه في الشّمس، فكان يرفع رجلا ويضع أخرى لشدّة الحرّ، وكان بعضهم يلطمه وهو يتقّي بيده، ثمّ جعلوه في بيت، وسدّوا بابه حتّى مات بعد أن أشهدوا عليه أنه خلع نفسه، وذاك في سنة خمس وخمسين ومائتين. شرح حال الوزارة في أيامه أوّل وزرائه أبو الفضل جعفر بن محمود الإسكافي. وزارة الإسكافيّ للمعتزّ لم يكن له علم ولا أدب، لكنّه كان يستميل القلوب بالمواهب والعطايا، وكان المعتزّ يكرهه، وكانوا ينسبونه إلى التشيّع، ومال إليه بعض الأتراك وكرهه البعض الآخر وثارت بسببه فتنة، فعزله المعتزّ.   [1] يعقوب بن الليث الصّفّار: أبو يوسف، لقّب بالصفّار لأنه كان يعمل بالصّفر (النحاس) ، تطوّع بادئ الأمر لقتال الشّراة، فانتصر عليهم، وغلب على سجستان واستولى على فارس، واقتحم نيسابور في خراسان، طمع ببغداد فزحف إليها بجيشه في خلافة المعتمد، ودارت حرب طاحنة لم يظفر فيها بطائل وعاد إلى سجستان وتوفي فيها عام/ 265/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وزارة أبي موسى عيسى بن فرخان شاه للمعتز ّ كان كريما، قيل عنه: إنّه كان قبل الوزارة يتولّى بعض الدواوين فعزل عنه وله به استحقاق مبلغه ألف دينار، فتلطّف بالذي تولّى بعده حتّى كتب له وأحاله بذلك على بعض النوّاب، فلمّا حصل المال كتب ذلك النائب إلى عيسى بن فرخان شاه يعلمه أن المال قد حصل، ويستأذنه في حمله إليه- وكان صديقا له- فكتب إليه، إنّ فلانا الشاعر لازمني مدّة، وما حصل له من جهتي شيء، فادفع هذا المال إليه، فدفع المال إلى الشاعر فأخذه وانصرف، وجرت بسببه أيضا فتنة بين الأتراك فعزله المعتزّ. وزارة أبي جعفر أحمد بن إسرائيل الأنباريّ للمعتزّ كان أحد الكتّاب الحذّاق الأذكياء، قالوا: كان يحفظ وجوه المال جميعها دخلا وخرجا على ذهنه، وقالوا: إنّه ضاعت مرّة حسبة من الدّيوان فأوردها من خاطره فلمّا وجدت الحسبة كانت كما قال من غير زيادة ولا نقيصة، ثم إنّ الأتراك وثبوا على أحمد بن إسرائيل فأخذوه وضربوه واستصفوا أمواله، وشفع فيه المعتزّ وأمّه إلى متقدم الأتراك- وهو صالح بن وصيف- فلم يلتفت إليهما وحبسه، وضربه بعد ذلك في أيام المهتدي حتّى مات. ولمّا فعل صالح بن وصيف بأحمد بن إسرائيل ما فعل، استحضر جعفر بن محمود الإسكافي واستوزره ثانية- وقد سبق ذكره- ولمّا تولى الوزارة في المرّة الثانية قال بعض الشّعراء: يا نفس لا تولعي بتفنيد [1] ... وعلّلي القلب بالمواعيد وانتظري قد رأيت ما ساقه ... الله إلى جعفر بن محمود (منسرح) انقضت أيّام المعتزّ ووزرائه.   [1] التفنيد: التكذيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 ثمّ ملك بعده المهتدي باللَّه هو أبو عبد الله محمّد بن الواثق، كان المهتدي من أحسن الخلفاء مذهبا وأجملهم طريقة وسيرة، وأظهرهم ورعا، وأكثرهم عبادة، كان يتشبّه بعمر بن عبد العزيز، ويقول: إنّي أستحي أن يكون في بني أميّة مثله، ولا يكون مثله في بني العبّاس، وكان يجلس للمظالم فيحكم حكما يرتضيه الناس، وكان يتقلّل في مأكوله وملبوسه. حدّث بعض الهاشميّين قال: كنت عند المهتدي في بعض ليالي رمضان، فقمت لأنصرف، فأمرني بالجلوس فجلست، حتّى صلّى المهتدي بنا المغرب، ثمّ أمر بإحضار الطّعام فأحضر طبق خلاف [1] وعليه رغفان، وفي إناء ملح، وفي إناء خل، فأكل وأكلت أكلا مقصرا ظنّا منّي أنه يحضر طعام أجود من ذلك، فلمّا رأى أكلي كذلك قال: أما كنت صائما؟ قلت: بلى، قال: أفلست تريد الصوم غدا قلت: وكيف لا وهو شهر رمضان! فقال: كل واستوف عشاءك فليس ها هنا غير ما ترى، فعجبت وقلت: لم يا أمير المؤمنين، وقد أسبغ الله عليك نعمه ووسع رزقه؟ فقال: إنّ الأمر كما تقول والحمد للَّه، ولكني كرهت أن يكون في بني أميّة مثل عمر بن عبد العزيز وألا يكون في بني العبّاس مثله. وكان المهتدي قد اطّرح [2] الملاهي وحرّم الغناء والشراب، ومنع أصحابه من الظلم والتعدّي. في أيّام المهتدي خرج صاحب الزّنج، وسيرد خبره في أيّام المعتمد إن شاء الله تعالى. كان المهتدي قتل بعض الموالي، فشغب عليه الأتراك وهاجوا، وأخذوه أسيرا وعذبوه ليخلع نفسه فلم يفعل، فخلعوه هم ومات، وذلك في سنة ست وخمسين ومائتين.   [1] الخلاف: صنف من الصّفصاف، ولعلّه أراد القشّ. [2] اطّرح: ترك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 شرح حال الوزارة في أيّامه لمّا بويع بالخلافة أقرّ جعفر بن محمود الإسكافيّ على وزارته، ثم عزله واستوزر سليمان بن وهب. وزارة سليمان بن وهب بن سعيد للمهتدي هم من قرية من أعمال واسط، وكانت لهم كفاية، وكانوا نصارى ثمّ أسلموا وخدموا في الدّواوين حتّى آلت بهم الحال إلى ما آلت. كان أبو أيّوب سليمان بن وهب أحد كتّاب الدّنيا ورؤسائها فضلا وأدبا وكتابة في الدّرج والدّستور، وأحد عقلاء العالم وذوي الرأي منهم. حدّث ابنه عبيد الله قال: حدّثني أبي قال: كان مبدأ سعادتي أنّي كنت وأنا صبيّ بين يدي محمّد بن يزداد وزير المأمون، وكنّا جماعة من الصّبيان بين يديه، إذا راح في الليل إلى داره وبات واحد منّا في دار المأمون بالنّوبة، لمهم عساه يعرض في الليل قال: فكانت ليلة نوبتي، فخرج خادم وقال: ها هنا أحد من نوّاب محمّد بن يزداد؟ فقال الحاجب له: نعم، ها هو ذا، فأدخلني إلى المأمون، فقال لي: اعمل نسخة في المعنى الفلاني، ووسع بين سطورها وأحضرها لأصلح منها ما أريد إصلاحه، قال: فخرجت سريعا وكتبت الكتاب بغير نسخة، وبيّضته وأحضرته إليه، فلما رآني قال: كتبت النّسخة؟ قلت: بل كتبت الكتاب، فقال: بيّضته؟ قلت: نعم، فزاد في نظره إليّ كالمتعجّب مني، فلمّا قرأه تبيّنت الاستحسان على وجهه، ورفع رأسه إليّ وقال: ما أحسن ما كتبت يا صبيّ! ولكن أريد أن تقدّم هذا السطر وتؤخّر هذا السطر، وخطّ عليهما بقلمه، فأخذت الكتاب وخرجت وجلست ناحية ثم محوت السّطرين وعملت ما أراد، وجئته بالكتاب، وكان قد ظنّ أنّي أبطله وأكتب غيره، فلما قرأه لم يعرف موضع المحو فاستحسنه وقال: يا صبيّ: لا أدري من أيّ شيء أعجب-! أمن جودة محوك أم من سرعة فهمك، أم من حسن خطّك، أم من سرعتك! بارك الله فيك! فقبّلت يده وخرجت، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وكان ذلك أوّل علوّ منزلتي، وصار المأمون لا يجري مهمّ إلا قال: هاتوا سليمان ابن وهب، ولما جرت له هذه القضيّة كتب إليه بعض الشّعراء: أبوك كلّفك الشّأو البعيد كما ... قدما تكلّفه وهب أبو حسن فلست تحمد إن أدركت غايته ... ولست تعذر مسبوقا فلا تهن (بسيط) حدّث أحمد بن المدبر قال: كنّا في حبس الواثق أنا وسليمان بن وهب وأحمد بن إسرائيل، مطالبين بالأموال، فقال لنا سليمان بن وهب يوما: قد رأيت في المنام كأنّ قائلا يقول لي: يموت الواثق بعد شهر، فاستغاث أحمد بن إسرائيل وقال له: والله لا تزال حتّى تسفك دماؤنا! وخاف أشدّ خوف أن يشيع هذا الحديث عنّا، قال ابن المدبر: فعددت من ذلك اليوم ثلاثين يوما، فلمّا كان يوم ثلاثين قال لي أحمد بن إسرائيل: أين مصداق القول وصحّة المنام؟ وكان قد حصر التاريخ وحسب ونحن لا نعلم، فقال له سليمان بن وهب: الرؤيا تصدق وتكذب، فلما كانت العشاء الآخرة إذ طرق علينا الباب طرقا شديدا وصائح يصيح: البشارة البشارة، مات الواثق، فاخرجوا أين شئتم، فضحك أحمد بن إسرائيل وقال: قوموا فقد تحقّقت الرؤيا وجاء الفرج فقال سليمان بن وهب: كيف نقدر أن نمشي مشاة ومنازلنا بعيدة، ولكن نبعث فنحضر دوابّ نركبها، فاغتاظ أحمد بن إسرائيل وقويت السوداء عليه، وكان شكس الأخلاق وقال له: ويحك يا سليمان! تنتظر مجيء فرسك حتّى يتولّى خليفة آخر فيقال له: في الحبس جماعة من الكتّاب، فيقول: يتركون على حالهم حتى ننظر في أمورهم، فنلبث في الحبوس زيادة على هذا، ويكون سبب ذلك توجّهك راكبا إلى منزلك يا فاعل يا صانع! فضحكنا وخرجنا مشاة في الليل، واجمع رأينا على أن نستتر عند بعض أصحابنا حتّى تتحقّق الأخبار فو الله لقد رأينا في طريقنا رجلين يقول أحدهما للآخر: إنّ هذا الخليفة الجديد قد عرف أحوال المحبّسين من الكتّاب وأصحاب الجرائم فقال: لا يفرج عن أحد حتّى انظر في حاله، فتخفّينا إلى أن أمّننا الله تعالى في أسرع وقت وله الحمد، ومن شعره: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 نوائب الدّهر أدبتني ... وإنّما يوعظ الأديب قد ذقت حلوا وذقت مرّا ... كذاك عيش الفتى ضروب [1] ما مرّ بؤس ولا نعيم ... إلّا ولي منهما نصيب (منسرح) وكانت بنو وهب من رؤساء النّاس وحذّاقهم، وفضلائهم وكرمائهم، وكانت دولتهم ناضرة، وأيّامهم مشرقة، والأدب في أيّامهم قائم المواسم، والكرم واضح المعالم وخلع المهتدي ووزيره. انقضت أيام المهتدي باللَّه ووزرائه. ثمّ ملك بعده المعتمد على الله هو أبو العبّاس أحمد بن المتوكّل، بويع سنة ستّ وخمسين ومائتين، كان المعتمد مستضعفا، وكان أخوه الموفّق طلحة النّاصر هو الغالب على أموره، وكانت دولة المعتمد دولة عجيبة الوضع: كان هو وأخوه الموفّق طلحة كالشريكين في الخلافة للمعتمد الخطبة والسكّة [2] والتسمّي بإمرة المؤمنين، ولأخيه طلحة الأمر والنهي، وقود العساكر ومحاربة الأعداء، ومرابطة الثّغور، وترتيب الوزراء والأمراء، وكان المعتمد مشغولا عن ذلك بلذّاته، وفي تلك الأيّام كانت وقائع صاحب الزّنج. شرح حال صاحب الزنج ونسبه وما آل أمره عليه ظهر في تلك الأيام رجل يقال له: عليّ بن محمّد بن عيسى بن زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليهم السلام) . فأمّا نسبه: فليس عند النّسابين بصحيح، وهم يعدّونه من الأدعياء. وأمّا حاله: فإنّه كان رجلا فاضلا   [1] ضروب: أشكال وأنواع. [2] السّكّة: ضرب العملة كالدرهم والدينار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 فصيحا بليغا لبيبا، استمال قلوب العبيد من الزّنج بالبصرة ونواحيها، فاجتمع إليه منهم خلق كثيرون وناس آخرون من غيرهم، وعظم شأنه وقويت شوكته وكان في مبدإ حاله فقيرا لا يملك سوى ثلاثة أسياف، حتّى إنّه أهدي له فرس فلم يكن له لجام ولا سرج يركبه بهما فركبه بحبل. فاتفقت له حروب وغزوات نصر فيها فأثرى [1] بسببها وعظم حاله ونهبه وانبثّ عسكر السّودان في البلاد العراقية والبحرين وهجر، ونهد [2] إليه الموفّق طلحة بعساكر كثيفة، فالتقيا بين البصرة وواسط ودامت الحرب بينهما سنين كثيرة وبنوا مدائن هناك وأقام كلّ من الفريقين يرابط للفريق الآخر، وفي آخر الأمر كانت الغلبة للجيش العبّاسي، فأبادوهم قتلا وأسرا، وقتل صاحب الزّنج وانتهت مدينته، وكان قد بناها وسمّاها «المختارة» وحمل رأسه إلى بغداد، وكان يوما مشهودا. وقيل: إنّ عدد القتلى في تلك الوقائع كان ألفي ألف وخمسمائة ألف إنسان ومات المعتمد سنة تسع وسبعين ومائتين. شرح حال الوزارة في أيّامه قد تقدّم أنّ أخاه الموفّق كان هو المستولي على الخلافة، فكان يعزل الوزراء ويولّيهم. وزارة أبي الحسن عبيد الله بن يحيى بن خاقان للمعتمد لما ولي الخلافة المعتمد اتّفقت الآراء على عبيد الله بن خاقان، فأحضر واستوزر على كره شديد منه، وتقصّ وتنصّل، وكان عبيد الله خبيرا بأحوال الرّعايا، والأعمال ضابطا للأموال، وقد تقدّم ذكره في خلافة المتوكّل.   [1] أثرى: آل إلى الثراء والغنى. اغتنى. [2] نهد إليه: برز وتصدّى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وزارة الحسن بن مخلد للمعتمد وزر له لمّا مات عبيد الله بن يحيى، استوزر المعتمد الحسن بن مخلد [1] ، وكان كاتبا لأخيه الموفّق، فاجتمعت له وزارة المعتمد، وكتابة الموفّق، كان الحسن بن مخلد من دير قنّى، ويقال: إنّ أباه كان معبرانيا، فخرج من ابنه ما خرج، وكان الحسن أحد كتّاب الدّنيا، قالوا: كان له دفتر صغير يعمله بيده، فيه أصول أموال الممالك ومحمولاتها بتواريخها، فلا ينام كلّ ليلة حتّى يقرأه، ويتحقّق ما فيه، بحيث لو سئل الغد عن شيء كان منه، أجاب من خاطره بغير توقف ولا مراجعة دستور، قال الحسن بن مخلد: كنت مرّة واقفا بين يدي الموفّق بن المتوكّل فرأيته يلمس ثوبه بيده، وقال لي: يا حسن، قد أعجبني هذا الثوب، كم عندنا في الخزائن منه. فأخرجت في الحال من خفّي دستورا فيه جمل ما في الخزائن من الأمتعة والثياب مفصّلة، فوجدت فيها من جنس ذلك الثوب ستّة آلاف ثوب، فقال لي: يا حسن، نحن عراة، اكتب إلى البلاد في استعمال ثلاثين ألف ثوب من جنسه وحملها في أسرع مدّة. ثمّ عزله المعتمد واستوزر سليمان بن وهب، وقد سبق وصف طرف من حاله وشرعت من تلك الأيام دولة بني وهب نتبع. وزارة أبي الصّقر إسماعيل بن بلبل استوزره الموفّق لأخيه المعتمد. وكان أبو الصّفر كريما مطعاما متجمّلا، بلغ من الوزارة مبلغا عظيما، وجمع له السيف والقلم، فنظر في أمر العساكر أيضا وسمّي الوزير الشّكور، كان في صباه على طريقة غير مرضية، فبلغ ما بلغ، ومدحه الشّعراء كالبحتريّ، وابن الروميّ، وغيرهما، وهجوه، وكان أبو الصّقر ينتسب إلى بني شيبان ورأيت نسبه مرفوعا إلى شيبان بخطّ بعض النسّاب، وقوم   [1] الحسن بن مخلد: جاء في الأعلام للزركلي ما خلاصته أنه وزير من الكتّاب، له علم بالأدب استوزره المعتمد سنة/ 263/ هـ ثم عزله وأعاده وعزله سنة/ 265/ هـ. طلبه أحمد بن طولون إلى مصر فحمل إليه فحبسه بأنطاكيّة فمات فيها/ 269/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 غمزوه وقالوا: هو دعيّ وكان ابن الروميّ قد مدحه بقصيدة نونيّة طويلة أوّلها: أجنت لك الوصل أغصان وكثبان ... فيهنّ نوعان: تفّاح ورمّان غصون بان عليها الدّهر فاكهة ... وما الفواكه ممّا يحمل البان (بسيط) فسمّى الناس هذه القصيدة: دار البطّيخ لكثرة ما فيها من ذكر الفواكه. وكان الموضع الّذي تباع فيه الفواكه يسمّى: دار البطّيخ، ومن جملة هذه القصيدة: قالوا: أبو الصّقر من شيبان قلت لهم ... كلّا لعمري ولكن منه شيبان كم من أب قد علا بابن له شرفا ... كما علا برسول الله عدنان فلمّا سمع أبو الصّقر قوله، «قالوا: أبو الصقر من شيبان، قلت لهم: كلّا» ظنّ أنّ ابن الروميّ قد هجاه بها باطلا، وأنّه عرّض بأنه دعيّ، واشتبه على أبي صقر الأمر فاستكتم ظنّه وأعرض عنه، وتوصّل ابن الرومي إلى إفهامه صورة الحال، فلم يقبل في ذلك قول قائل. وقيل له: يا سبحان الله-! فانظر إلى البيت الثاني وحسن معناه، فإنّه معنى مخترع، ما مدح أحد بمثله قبلك، فلم يصغ وجزم بأنّ ابن الروميّ هجاه وأفحش في هجائه، فممّا هجاه به قوله: عجب النّاس من أبي الصّقر إذ ... ولّي بعد الإجارة الدّيوانا إنّ للحظ كيمياء إذا ما ... مسّ كلبا أصاره إنسانا (خفيف) وقوله: مهلا أبا الصّقر فكم طائر ... خرّ صريعا بعد تحليق زوّجت نعمى لم تكن كفأها ... فصانها الله بتطليق لا قدّست نعمى تسربلتها ... كم حجّة فيها لزنديق (سريع) ما بال فرخ أبوه بلبل ربح [1] ... يكنى أبا الصّقر يا أهل الدواوين عرّوه من كنية ليست تليق به ... يدعى أبا الصّقر من كان ابن شاهين (بسيط)   [1] الرّبح: الفرخ الصغير، أو الصغير من كلّ دابّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وقبض عليه المعتمد وحبسه وعاقبه، ثمّ قتله في محبسه واصطفى أمواله. واعلم أنّ هؤلاء وزراء المعتمد كالحسن بن مخلّد، وسليمان بن وهب، وأبي الصّقر بن بلبل، تولّوا الوزارة وعزلوا مرارا مرّتين وثلاثة. وزارة أحمد بن صالح بن شيرزاد القطربّلي للمعتمد استوزره الموفّق لأخيه المعتمد، وكان أحمد كاتبا بليغا، فاضلا عارفا بما يلزم مثله معرفته، مجيدا في النّظم والنثر، وصف أحمد امرأة كاتبة، فقال: كأن خطّها حسن صورتها، وكأنّ مدادها سواد شعرها، وكأن قرطاسها أديم وجهها، وكأنّ قلمها بعض أناملها، ومكث أحمد بن شيرزاد في وزارته نحوا من شهر، ثم مرض ومات وذلك في سنة ستّ وستّين ومائتين. وزارة عبيد الله بن سليمان بن وهب للمعتمد كان عبيد الله بن سليمان من كبار الوزراء ومشايخ الكتّاب، وكان بارعا في صناعته، حاذقا ماهرا، لبيبا جليلا، ماتت للمعتضد جارية كان يحبّها فجزع عليها فقال له عبيد الله بن سليمان: مثلك يا أمير المؤمنين تهون المصائب عليه، لأنك تجد من كلّ مفقود عوضا، ولا يجد أحد منك عوضا، وكأن الشّاعر عناك بقوله: يبكى علينا ولا نبكي على أحد ... لنحن أغلظ أكبادا من الإبل (بسيط) وفي عبيد الله بن سليمان يقول الشّاعر: إذا أبو قاسم جادت يداه لنا ... لم يحمد الأجودان: البحر والمطر وإن مضى رأيه أو حدّ عزمته ... تأخّر الماضيان: السّيف والقدر وإن أضاءت لنا أضواء غرّته ... تضاءل النيّران: الشّمس والقمر من لم يبت حذرا من حد صولته [1] ... لم يدر ما المزعجان: الخوف والحذر   [1] من صولته: سقطت من الطبعة عزّ كلمة (حدّ) . انظر الشطر في طبعة بيروت ص/ 255/ وفي ألما ص/ 301/ وفي رحما ص/ 188/. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 ينال بالظنّ ما يعيا العيان له ... والشّاهدان عليه: العين والأثر (بسيط) ومات عبيد الله في سنة ثمان وثمانين ومائتين. انقضت أيّام المعتمد ووزرائه. ثمّ ملك بعده المعتضد ابن أخيه هو أبو العبّاس أحمد بن الموفّق طلحة بن المتوكّل، بويع سنة تسع وسبعين ومائتين، كان المعتضد شهما عاقلا فاضلا، حمدت سيرته، ولي والدّنيا خراب والثغور مهملة، فقام قياما مرضيا حتّى عمرت مملكته، وكثرت الأموال، وضبطت الثّغور، وكان قويّ السياسة شديدا على أهل الفساد حاسما لمواد أطماع عساكره عن أذى الرعيّة، محسنا إلى بني عمّه من آل أبي طالب، وكانت أيّامه أيّام فتوق وخوارج كثيرين، منهم عمرو بن الليث الصفّار، كان قد عظم شأنه وفخم، واستولى على أكثر بلاد العجم، وكان يقول: لو شئت أن أعقد على نهر بلخ جسرا من ذهب لفعلت وكان مطبخه يحمل على ستّمائة جمل، فآلت عاقبته إلى القيد والأسر والذلّ، فقام المعتضد في إصلاح المتشعّب من مملكته، والعدل في رعيّته، حتّى مات وفي الخزائن بضعة عشر ألف ألف دينار (الألف مكرّرة مرتين) ومات سنة تسع وثمانين ومائتين. شرح حال الوزارة في أيامه أقرّ عبيد الله بن سليمان على وزارته، وقد مضى نبذة من أخباره، فلمّا مات عبيد الله عزم المعتضد على أن يستأصل شأفة أولاده ويستصفي أموالهم، فحضر القاسم بن عبيد الله واستعان بيدر المعتضديّ، وكتب خطّا بألفي ألف دينار فاستوزره المعتضد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وزارة القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب كان القاسم بن عبيد الله من دهاة العالم ومن أفاضل الوزراء، وكان شهما فاضلا لبيبا محصّلا، كريما مهيبا جبّارا، وكان يطعن في دينه، وهو الّذي قتل ابن الروميّ بالسمّ، وكان ابن الروميّ منقطعا إليهم يمدحهم، وكانوا يقصّرون في حقّه في بعض الأوقات فهجاهم، وكان هجّاء، وفي بني وهب يقول ابن المعتزّ: لآل سليمان بن وهب صنائع ... لديّ ومعروف إليّ تقدّما هم ذلّلوا لي الدّهر بعد شماسه ... وهم غسلوا من ثوب والدي الدّما (طويل) ومات المعتضد وهو وزيره. انقضت أيّام المعتضد ووزرائه. ثمّ ملك بعده ابنه المكتفي باللَّه هو أبو محمّد عليّ بن المعتضد، بويع في سنة تسع وثمانين ومائتين. كان المكتفي من أفاضل الخلفاء، هو الّذي بنى المسجد الجامع بالرّحبة ببغداد وفي أيّام المكتفي ظهر القرامطة، وهم قوم من الخوارج، خرجوا وقطعوا الدّرب على الحاجّ واستأصلوا شأفتهم، وقتلوا فيهم مقتلة عظيمة، وسرّح المكتفي إليهم جيوشا كثيرة فأوقع بهم، وقتل بعض زعمائهم. والمكتفي هو الّذي بنى التّاج بالدّار الشاطئيّة ببغداد، وكانت وفاة المكتفي سنة خمس وتسعين ومائتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 شرح حال الوزارة في أيّامه لما مات المعتضد كان المكتفي بالرقّة، فقام الوزير القاسم بن عبيد الله بأخذ البيعة للمكتفي القيام المرضي، وكتب إليه يعلمه ذلك، ووجّه إليه بالبردة والقضيب [1] فجاء المكتفي إلى بغداد وأقرّه على الوزارة ولقّبه ألقابا، وجلّ أمر القاسم في أيّام المكتفي وعظم شأنه، فلمّا أدركته الوفاة أشار على المكتفي بالعبّاس بن الحسن فاستوزره.   [1] البردة والقضيب: زيّ الخلافة المتوارث من أوّل عهدها. ويقال إن البردة هي كساء أهداه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى كعب بن زهير حصل عليه الخلفاء وتوارثوه إلى آخر عهد الخلافة، وآل أخيرا إلى متاحف إستانبول. والقضيب: عصا ترمز إلى السلطة توارثها الخلفاء كشأن البردة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وزارة العبّاس بن الحسن قال الصّوليّ [1] : من أعجب ما شاهدت من تقلّب الدّنيا وتصاريف الأمور أنّني رأيت العبّاس بن الحسن في أول الأربعاء قبل أن يموت الوزير القاسم بن عبيد الله وقد حضر إلى داره وقبّل يد ولده، ثمّ في آخر اليوم المذكور مات القاسم وخلع المكتفي على العباس بن الحسن واستوزره، فجاء ولد الوزير القاسم بن عبيد فقبّل يده. كان العبّاس بن الحسن ذا دهاء ومكر وأدب وافر. وكان ضعيفا في الحساب ولم تكن سيرته محمودة. وكان عاكفا على لذّاته والأمور مهملة، وكان يقول لنوّابه بالأعمال: أنا أوقّع إليكم وأنتم افعلوا ما فيه المصلحة. ولم تزل الأمور تضطرب في أيّامه حتّى وثب عليه الحصين بن حمدان وجماعة من الجند فقتلوه، وذلك في أيّام المقتدر. انقضت أيام المكتفي ووزرائه. ثمّ ملك بعده المقتدر باللَّه هو أبو الفضل جعفر بن المعتضد، بويع له بالخلافة في سنة خمس وتسعين ومائتين وعمره ثلاث عشرة سنة. وكان المقتدر سمحا كثير الإنفاق، ردّ رسوم الخلافة من التجمّل وسعة الإدارات والمعاش، وكثرة الخلع والصّلات. كان في داره أحد عشر ألف خادم من الرّوم والسّودان، وكانت خزانة الجوهر في أيّامه مترعة بالجواهر النفيسة، فمن جملتها: الفصّ الياقوت الّذي اشتراه الرّشيد بثلاثمائة ألف دينار، والدرّة اليتيمة التي كان وزنها ثلاثة مثاقيل، إلى غير ذلك من الجواهر النفيسة، ففرّقه جميعه وأتلفه في أيسر مدّة وفي أيّامه قتل الحلاج.   [1] الصّولي: أبو بكر الصوليّ له كتاب «الأوراق» في أخبار آل عباس وأشعارهم، وقد استعان بأقواله ابن طباطبا مرارا وسبقت ترجمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 شرح الحال في ذلك كان الحلاج- واسمه الحسين بن منصور، ويكنى: أبا الغيث- أصله مجوسيّ من أهل فارس. ونشأ بواسط [1] وقيل: بتستر [2] ، وخالط الصوفيّة وتتلمذ لسهل التّستري، ثمّ قدم بغداد ولقي أبا القاسم الجنيد [3] وكان الحلاج يلبس الصوف والمسوح [4] تارة، والثّياب المصبّغة تارة، والعمامة الكبيرة والدرّاعة تارة والقباء وزيّ الجند تارة. وطاف بالبلاد ثمّ قدم في آخر الأمر بغداد وبنى بها دارا واختلفت آراء الناس واعتقاداتهم فيه، وظهر منه تخليط، وتنقّل من مذهب إلى مذهب، واستغوى العامّة بمخاريق [5] كان يعتملها، منها: أنه كان يحفر في بعض قوارع الطّرقات موضعا ويضع فيه زقّا [6] فيه ماء، ثمّ يحفر في موضع آخر ويضع فيه طعاما، ثم يمرّ بذلك الموضع ومعه أصحابه فيحتاجون هناك إلى ماء يشربونه ويتوضّئون به، فيأتي هو إلى ذلك الموضع الّذي قد حفره وينبش فيه بعكاز، فيخرج الماء فيشربون ويتوضّئون ثم يفعل كذلك في الموضع الآخر عند جوعهم فيخرج الطّعام من بطن الأرض، يوهمهم أنّ ذلك من كرامات الأولياء. وكذلك كان يصنع بالفواكه، يدّخرها ويحفظها، ويخرجها في غير وقتها. فشغف الناس به، وتكلّم بكلام الصوفيّة، وكان يخلطه بما لا يجوز ذكره من الحلول [7] المحض، وله أشعار، فمنها:   [1] واسط: مدينة بين الكوفة والبصرة، بناها الحجاج بن يوسف الثّقفي وغدت من حواضر العراق. [2] تستر: مدينة في خوزستان شمالي الأهواز. اسمها بالإيرانية شوشتر. [3] أبو القاسم الجنيد: هو الجنيد بن محمد بن الجنيد البغدادي، صوفي عالم بالدين، ضبط التصوف بالقرآن والسنّة، له «دواء الأرواح» وجملة مواعظ. توفي/ 297/ هـ. [4] المسوح: أخشن الملابس من ثياب الرهبان والزهّاد. [5] المخاريق: هنا، خوارق الأفعال. [6] الزّق: وعاء من جلد للماء أو الخمرة. [7] الحلول: معتقد لبعض الصوفيّة يقول بحلول الخالق في ذات المخلوق أو بحلول الروح ذاتها في جسد بعد جسد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 حبيبي غير منسوب ... إلى شيء من الحيف [1] سقاني مثلما يشر ... ب فعل الضّيف بالضّيف فلمّا دارت الكاس ... دعا بالنّطع [2] والسّيف كذا من يشرب الراح ... مع التنين في الصّيف (هزج) وكثر شغف الناس به وميلهم إليه. وكان يقول لأصحابه: أنتم موسى وعيسى ومحمد وآدم، انتقلت أرواحهم إليكم. فلما نما هذا الفساد منه تقدّم المقتدر إلى وزيره حامد بن العبّاس بإحضاره ومناظرته، فأحضره الوزير وجمع له القضاة والأئمة، ونوظر فاعترف بأشياء أوجبت قتله، فضرب ألف سوط على أن يموت فما مات، فقطعت يداه ورجلاه وحزّ رأسه وأحرقت جثّته، وقال لأصحابه عند قتله لا يهولنكم هذا فإنّي أعود إليكم بعد شهر، قالوا: وأنشد قبل قتله: طلبت المستقرّ بكلّ أرض ... فلم أر لي بأرض مستقرّا أطعت مطامعي فاستعبدتني ... ولو أني قنعت لكنت حرّا (وافر) وذلك في سنة تسع وثلاثمائة، وقبره ببغداد بالجانب الغربيّ قريب من مشهد معروف الكرخيّ [3] (رضي الله عنه) . وفي تلك الأيّام اقتلع القرامطة الحجر الأسود، ومكث في أيديهم أكثر من عشرين سنة، حتى ردّ على يد الشّريف يحيى بن الحسين بن أحمد بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليهم السلام) .   [1] الحيف: الظلم والجور. [2] النّطع: بساط من جلد تلفّ به جثة المقتول بالسّيف. [3] معروف الكرخيّ: هو معروف بن فيروز الكرخي ولد ونشأ في الكرخ من بغداد، اشتهر بالصلاح وقصده الناس للتّبرّك به وفي جملتهم أحمد بن حنبل. توفي سنة/ 200/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 واعلم أنّ دولة المقتدر كانت دولة ذات تخليط كثير، لصغر سنّه ولاستيلاء أمّه ونسائه وخدمه عليه. فكانت دولته تدور أمورها على تدبير النساء والخدم وهو مشغول بلذّته، فخربت الدّنيا في أيّامه. وخلت بيوت الأموال. واختلفت الكلمة. فخلع ثمّ أعيد. ثم قتل. وفي تلك الأيّام نبعت الدّولة الفاطميّة بالمغرب. شرح حال الدّولة العلويّة وابتدائها وانتهائها على سبيل الاختصار هذه دولة اتسعت أكناف مملكتها وطالت مدّتها، فكان ابتداؤها حين ظهر المهديّ بالمغرب في سنة ستّ وتسعين ومائتين. وانتهاؤها في سنة سبع وستين وخمسمائة وكادت هذه الدولة أن تملك ملكا عامّا، وأن تدين الأمم لها. وإليها أشار الرّضيّ الموسوي [1]- قدّس الله روحه- بقوله: ما مقامي على الهوان وعندي ... مقول قاطع وأنف حميّ وإباء محلّق بي عن الضّيم ... كما زاغ طائر وحشيّ أحمل الضّيم في بلاد الأعادي ... وبمصر الخليفة العلويّ من أبوه أبي، ومولاه مولاي ... إذا ضامني البعيد القصيّ لفّ عرقي بعرقه سيّدا الناس ... جميعا: محمد وعليّ إنّ ذلي بذلك الجو عزّ ... وأوامي [2] بذلك الرّبع ريّ (خفيف)   [1] الرضي الموسوي: هو الشاعر المعروف بالشريف الرضيّ. أبو الحسن محمّد بن الحسن ينتهي نسبه إلى علي بن أبي طالب. شعره كثير وجيّد. وينسب إليه جمع كلام علي بن أبي طالب في كتاب عنوانه «نهج البلاغة» . تولى نقابة الطالبيين عن أبيه وكانت وفاته/ 406/ هـ. [2] الأوام: شدّة الظمأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 شرح ابتداء هذه الدّولة أوّل خلفائهم المهديّ باللَّه، وهو أبو محمّد عبيد الله بن أحمد بن إسماعيل الثالث ابن أحمد بن إسماعيل الثاني، بن محمّد بن إسماعيل الأعرج بن جعفر الصّادق (عليهم السلام) ، وقد روي نسبهم على صورة أخرى، وفيه اختلاف كثير، والصحيح أنهم علويّون إسماعيليّون صحيحو الاتصال، وهذه الصورة التي أوردتها ها هنا هي المعوّل عليها وبها خطوط مشايخ النسّابين. وكان المهديّ من رجال بني هاشم في عصره، قيل: إنه ولد ببغداد سنة ستين ومائتين، وقيل: ولد بسلميّة [1] ، ثمّ وصل إلى مصر في زيّ التجّار، وأظهر أمره بالمغرب ودعا النّاس إلى نفسه، فمالوا إليه وتبعه خلق كثيرون، وسلّموا عليه بالخلافة وقويت شوكته وعظم حاله، ثم انفصل إلى أرض القيروان [2] وبنى مدينة سمّاها المهديّة واستقر بها، وملك إفريقية وبلاد المغرب وتلك النواحي جميعها، ثمّ ملك الإسكندرية وجبى خراجها وخراج بعض الصّعيد، وتوفّي سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، ثم تسلّم الخلافة منه واحد بعد واحد، حتّى انتهت النّوبة إلى العاضد آخر خلفائهم، وهو أبو محمّد عبد الله بن الأمير يوسف بن الحافظ لدين الله. شرح انتهائها بويع العاضد في سنة خمس وخمسين وخمسمائة وهو طفل، فقام بأمر دولته الأمراء والوزراء، حتّى توجّه أسد الدين شيركوه عمّ صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى مصر لما ظهر من اختلال أحوال الدولة لصغر الخليفة، واختلاف آراء وزرائه وأمرائه وسار صلاح الدين مع عمّه أسد الدين شيركوه كارها، فلم تطل مدّة أسد الدين شيركوه فمات [3] ، فاستولى صلاح الدين على المملكة، واستوزره   [1] السّلميّة: بلدة قرب حماة في سوريّة. إليها ينتسب عبيد الله مؤسس السلالة الفاطمية. [2] القيروان: مدينة في تونس أنشأها الفاتح الإسلامي عقبة بن نافع سنة/ 50/ هـ. [3] كانت وفاة شيركوه عام/ 564/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 العاضد وخلع عليه خلع الوزارة في سنة أربع وستين وخمسمائة وتمكن صلاح الدين من الدولة وقدم عليه أهله، فأقطعهم الإقطاعات السنية، وأزال أيدي أصحاب العاضد وتفرّد بالحكم. ومرض العاضد وتطاولت أمراضه، ثم مات في سنة سبع وستين وخمسمائة. وأحجم الناس [1] فيمن يدعى له بالخلافة على المنابر، فلما كان يوم الجمعة صعد رجل أعجميّ إلى المنبر وخطب وذكر الخليفة المستضيء [2] فلم ينكر أحد عليه واستمرّ الحال في مصر بالخطبة للعباسيّين، وانقرضت دولة الفاطميّين منها، واستقل صلاح الدين يوسف بن أيّوب بملك مصر من غير منازع، وحبس من كان تخلّف من أقارب العاضد، وقبض على الخزائن والأموال، ومن جملتها الجبل الياقوت، وزنه ستّة عشر مثقالا. قال ابن الأثير المؤرّخ: أنا رأيته ووزنته ومن جملتها نصاب زمرد طوله أربع أصابع، في عرض عقد، ووجدوا طبلا بالقرب من موضع العاضد، فظنّوه عمل للعب، فسخروا من العاضد، فألقاه أحدهم من يده فكسره وإذا الطبل قد عمل لأجل القولنج [3] فندموا على كسره وكان ذلك في أيام الخليفة المستضيء من بني العبّاس فوردت البشائر إليه بفتح مصر وبإقامة الخطبة له بها، فأظهر السّرور ببغداد وهنّأه الشّعراء وأرسل المستضيء تقليد السّلطنة إلى صلاح الدّين بالتّفويض والتّحكيم. فسبحان من يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممّن يشاء!. رجعنا إلى تتمة خلافة المقتدر وخلع المقتدر، وبويع عبد الله بن المعتزّ فمكث يوما واحدا في الخلافة، ثم استظهر المقتدر عليه فأخذه وقتله ولم يعدّ عبد الله بن المعتزّ في الخلفاء لقصر الزمان الّذي تولّى فيه، وجرت بين المقتدر وبين مؤنس المظفّر أمير الجيوش منافرة أدّت إلى حرب قتل فيها المقتدر وقطع رأسه، وحمل إلى ما بين يدي مؤنس المظفّر ومكثت جثّته مرميّة على قارعة الطّريق، وذلك في سنة عشرين وثلاثمائة.   [1] أحجم الناس: تردّدوا وامتنعوا. [2] المستضيء: الخليفة العباسي، امتدت خلافته من/ 555/ هـ إلى/ 556/. [3] القولنج: مرض المفاصل كما عرف في ذلك الزمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 شرح حال الوزارة في أيّامه لما جلس المقتدر على سرير الخلافة أقرّ العباس بن الحسن وزير أخيه المكتفي على وزارته، فلمّا قتل العبّاس بن الحسين وجرت الفتنة بين المقتدر وبين عبد الله بن المعتزّ واستظهر المقتدر، أحضر ابن الفرات واستوزره. وزارة ابن الفرات قال الصوليّ [1] : هم من «صريفين» من أعمال دجيل [2] ، قال: وبنو الفرات من أجلّ الناس فضلا وكرما، ونبلا ووفاء ومروءة. وكان هذا أبو الحسن عليّ بن الفرات من أجلّ الناس وأعظمهم كرما وجودا. وكانت أيّامه مواسم للناس وكان المقتدر لمّا جرت له الفتنة وخلع، وبويع ابن المعتزّ ثمّ استظهر المقتدر عليه واستقرّت الخلافة للمقتدر، وأرسل إلى أبي الحسن عليّ بن الفرات فأحضره واستوزره وخلع عله. فنهض بتسكين الفتنة أحسن نهض ودبّر الدّولة في يوم واحد وقرّر القواعد، واستمال الناس، ولم يبت تلك الليلة إلا والأمور مستقيمة للمقتدر، وأحوال دولته قد تمهّدت وفي ذلك يقول بعض شعراء الدّولة المقتدريّة: ودبّرت في ساعة دولة ... تميل بغيرك في أشهر (متقارب) وتولى ابن الفرات الوزارة ثلاث دفعات للمقتدر، قالوا: كان إذا ولي ابن الفرات الوزارة يغلو الشّمع والثّلج والكاغد، لكثرة استعماله لذلك، لأنّه ما كان يشرب أحد كائنا من كان في داره في الفصول الثلاثة إلا الماء المثلوج، ولا كان أحد يخرج من عنده بعد المغرب إلا وبين يديه شمعة كبيرة نقيّة. صغيرا كان أو كبيرا. وكان في داره حجرة معروفة بحجرة الكاغد، كلّ من دخل واحتاج إلى شيء من الكاغد أخذ حاجته منها.   [1] الصّوليّ: مؤرخ صاحب كتاب «الأوراق» في أخبار آل عباس وأشعارهم. وسبقت الترجمة له. [2] دجيل: منطقة في الأهواز باسمها نهر دجيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 حدّث عنه أنّه قال: ما رأيت أحدا من أرباب الحوائج إلا كان اهتمامي بالإحسان إليه أشدّ من اهتمامه قال: وكان قبل الوزارة يجعل لجلسائه وندمائه مخادّ [1] يتكئون عليها، فلما ولي الوزارة لم يحضر الفراشون للندماء والجلساء تلك المخادّ، فأنكر ذلك عليهم وأمر بإحضار المخادّ، وقال: لا يراني الله يرتفع شأني بحطّ منزلة أصحابي. ولمّا جرت فتنة ابن المعتزّ واستظهر المقتدر واستوزر أبا الحسن بن الفرات أحضرت إلى ابن الفرات [2] رقاع من جماعة أرباب الدولة تنطق بميلهم إلى ابن المعتزّ وانحرافهم عن المقتدر، فأشار عليه بعض الحاضرين بأن يفتحها ويطالعها، ليعرف بها العدوّ من الصديق، فأمر ابن الفرات بإحضار الكانون وفيه نار، فلما أحضر جعل تلك الرقاع فيه بمحضر من النّاس، ولم يقف على شيء منها، وقال للحاضرين: هذه رقاع أرباب الدّولة، فلو وقفنا عليها تغيرت نياتنا لهم ونياتهم لنا فإن عاقبناهم أهلكنا رجال الدولة، وكان في ذلك أتمّ الوهن على المملكة، وإن تركناهم كنا قد تركناهم ونياتهم متغيّرة، وكذلك نياتنا فلا ننتفع. وما زال ابن الفرات ينتقل في الوزارة إلى المرّة الثالثة فقبض عليه وقتل وذلك في سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة. وزارة الخاقاني ّ هو أبو عليّ محمّد بن عبيد الله بن يحيى خاقان لمّا قبض المقتدر على ابن الفرات في المرّة الأولى أحضره- وكان خائفا من ابن الفرات- فطيّب قلبه واستوزره وخلع عليه خلع الوزارة. كان الخاقانيّ سيّئ السيرة والتّدبير، كثير التّولية والعزل. قيل: إنّه ولّى في يوم واحد تسعة عشر ناظرا للكوفة، وأخذ من كلّ واحد رشوة فانحدر واحد واحد حتّى اجتمعوا جميعهم في بعض الطريق، فقالوا كيف نصنع؟ فقال أحدهم: إن أردتم النّصفة [3] فينبغي أن ينحدر إلى الكوفة آخرنا عهدا بالوزير فهو الّذي   [1] مخادّ: جمع مخدّة، وهي الحشيّة المعروفة للاتّكاء. [2] رقاع: جمع رقعة، وهي الورقة المكتوبة أو شبهها. [3] النّصفة: العدل والإنصاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 ولايته صحيحة لأنّه لم يأت بعده أحد. فاتّفقوا على ذلك، فتوجه الرّجل الّذي جاء في الآخر نحو الكوفة، وعاد الباقون إلى الوزير ففرّقهم في عدّة أعمال. وهجاه الشعراء فمما قيل فيه: للدواوين مذ وليت عويل ... ولمال الخراج سقم طويل يتلقى الخطوب حين ألمّت ... منك رأي غثّ وعقل ضئيل إن سمنتم من الخيانة والجور ... فللإرتفاع جسم نحيل (خفيف) ومما قيل فيه: وزير لا يملّ من الرّقاعه ... يولّي ثمّ يعزل بعد ساعة ويدني من تعجّل منه مال ... ويبعد من توسّل بالشّفاعة (وافر) وقبض المقتدر عليه وحبسه، واستوزر عليّ بن عيسى بن الجرّاح. وزارة عليّ بن عيسى للمقتدر كان عليّ بن عيسى شيخا من شيوخ الكتاب، فاضلا ديّنا، ورعا متزهّدا متورّعا قال الصّوليّ: ولا أعلم أنّه وزر لبني العبّاس وزير يشبه عليّ بن عيسى، في زهده وعفّته وحفظه للقرآن وعلمه بمعانيه، وكتابته وحسابه، وصدقاته ومبراته قالوا كان دخل عليّ بن عيسى من ضياعه في كلّ سنة نيفا وثمانين ألف دينار، ينفق نصفها على الفقراء والضعفاء. ونصفها على نفسه وعلى عياله وأصحابه ونهض بأمور الوزارة وضبط الدواوين والأعمال، وقرّر القواعد، وكانت أيامه أحسن أيام وزير. قالوا: ما كان يعاب على ابن عيسى بشيء أكثر من قولهم: إنّه كان ينظر كثيرا في جزئيات الأمور، فربّما شغلته عن الكليّات. ولمّا ولي الوزارة فشت صدقاته ومبرّاته، ووقف وقوفا كثيرة من ضياع السّلطان وأفرد لها ديوانا سمّاه ديوان البرّ [1] ، جعل حاصله لإصلاح الثّغور [2] وللحرمين الشّريفين: وكان   [1] البرّ: الصدقة أو الإحسان والعون. [2] الثّغور: جمع ثغر، وهو موطن المواجهة مع العدوّ على حدود الدولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 يجلس لردّ المظالم من الفجر إلى العصر واقتصر على أقلّ الطّعام وأخشن الملبوس وولي الوزارة للمقتدر مرارا، كان هو وأبو الحسن عليّ بن الفرات يتناوبان الوزارة مرّة هذا ومرّة ذاك. وزارة حامد بن العبّاس كان حامد يتولّى دائما أعمال السّواد، ولم يكن له خبرة بأعمال الحضرة. وكان كريما مفضالا، جميل الحاشية رئيسا في نفسه، غزير المروءة، قاسي القلب في استخراج المال. قليل التثبّت، سريع الطّيش والحدّة، إلا أنّ كرمه كان يغطّي على ذلك. حدّث عنه أنّه دخل مرّة إلى دار المقتدر. فطلب منه بعض خواصّ الخليفة شعيرا لدوابّه، فأخذ الدواة ووقّع له بمائة كرّ [1] فقال له آخر من الخواصّ: أنا أيضا محتاج إلى عليق لدوابي، فوقّع بمائة كرّ، وما زال يطلب منه واحد واحد من خواصّ الخليفة وهو يوقّع، حتّى فرّق ألف كرّ في ساعة واحدة. ولمّا عرف المقتدر قلّة فهم حامد وقلّة خبرته بأمور الوزارة، أخرج عليه عليّ بن عيسى بن الجرّاح من الحبس، وضمّه إليه وجعله كالنائب له، فكان عليّ بن عيسى لخبرته هو الأصل، فكلّ ما يعقده ينعقد، وكلّ ما يحلّه ينحلّ. وكان اسم الوزارة لحامد وحقيقتها لعليّ بن عيسى، حتّى قال بعض الشّعراء: قل لابن عيسى قولة ... يرضى بها ابن مجاهد أنت الوزير وإنّما ... سخروا بلحية حامد جعلوه عندك سترة ... لصلاح أمر فاسد مهما شككت فقل له: ... كم واحدا في واحد؟ (كامل)   [1] الكرّ: من المكاييل التي كانت معروفة، يساوي أربعين إردبا، والإردب أربعة وعشرون صاعا، والصّاع بمقدار كأس كبيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وكان حامد يلبس السّواد ويجلس في دست الوزارة [1] وعليّ بن عيسى يجلس بين يديه كالنائب، وليس عليه سواد ولا شيء من زيّ الوزارة، إلا أنّه هو الوزير على الحقيقة فقال بعض الشّعراء: أعجب من كلّ ما رأينا ... أنّ وزيرين في بلاد هذا سواد [2] بلا وزير ... وذا وزير بلا سواد (منسرح) ثم عزل حامد، واستوزر المقتدر بعده عليّ بن الفرات، وسلمه إليه فقتله سرا. وزارة أبي القاسم عبيد الله بن محمّد بن عبيد الله ابن يحيى بن خاقان لم تطل أيّامه، ولم تكن له سيرة تؤثر وتسطر، واختلّت الأمور عليه فصودر وعزل. ثم توفّي في سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة. وزارة أبي العبّاس أحمد بن عبيد الله بن أحمد ابن الخصيب للمقتدر كان صالح الأدب جيّد العقل مليح الخطّ بليغا، يذاكر بجميل الأخبار والأشعار كان السّبب في ولايته أمرا عجيبا. وهو أنّ أبا العبّاس المذكور كان   [1] الدّست: صدر المجلس أو الديوان، والكلمة فارسيّة. [2] السّواد: هو الزيّ الرسمي لذوي المناصب العباسيين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 يلاطف أصحاب المقتدر ويتودّد إليهم ويهاديهم، وكان يحبّونه ويتعصّبون له دائما ويصفونه عند المقتدر فاتّفق أن حصل فتق [1] من الفتوق ببعض الجهات فجهّز المقتدر جيشا وأرسله صحبة بعض أمرائه إلى تلك الجهة، ثمّ كان المقتدر شديد التطلّع إلى أخبار هذا الجيش، فأرسل ابن الخصيب طيورا صحبة بعض ثقاته مع الجيش، وقال لصاحبه: سرّح كلّ يوم طيورا وعليها الأخبار ساعة فساعة، فكانت ترد الأخبار على الطّيور إلى أحمد بن عبيد الله بن الخصيب فيعرضها على المقتدر ساعة بعد ساعة حتى إن المقتدر لم يفته من أمر الجيش شيء فتعجب المقتدر من ذلك وقال: من أين يعلم أحمد بن الخصيب أخبار هذا الجيش؟ فعرف الصّورة وقيل له: من تسمو همّته إلى مثل هذا وليس له تعلّق بهذه القضيّة، فكيف يكون جدّه واجتهاده إذا صار وزيرا؟ فاستوزره. قالوا: وكان أبو العبّاس أحمد بن عبيد الله بن الخصيب عفيفا متورّعا من مال السّلطان والرعيّة، مجانبا للخيانة، محافظا على الأمانة. ثمّ ضعف أمره وانحرفت عنه السيّدة أمّ المقتدر- وكان كاتبها قبل الوزارة- فعزل وقبضت أمواله [2] وذلك في سنة أربع عشرة وثلاثمائة. وزارة أبي عليّ محمّد بن عليّ بن مقلة للمقتدر هو صاحب الخطّ الحسن المشهور، الّذي تضرب بحسنة الأمثال. وهو أوّل من استخرج هذا الخطّ ونقله من الوضع الكوفيّ إلى هذا الوضع، وتبعه بعده ابن البوّاب [3] . كان في ابتداء أمره يخدم في بعض الدّواوين في كلّ شهر بستّة دنانير ثمّ إنّه تعلق بأبي الحسن بن الفرات الوزير واختصّ به، وكان ابن الفرات كالبحر سماحا وجودا، فرفع من قدره وأعلى من شأنه، فمكث بين يديه يعرض عليه رقاعا في مهمات الناس، وينتفع بسبب ذلك، وكان ابن الفرات يأمر بالتحصيل   [1] الفتق: هنا، العصيان والخروج على الطاعة. التمرّد. [2] قبضت أمواله: صودرت مصادرة. [3] ابن البواب: عليّ بن هلال البغداديّ، أبدع في الخطّ العربيّ بعد ابن مقلة وكان من ابتداعه الخط الريحانيّ والمحقّق. توفي حوالي/ 422/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 من هذه الجهة إيثارا لنفعه، فما زال على ذلك حتى علت حاله وكثر ماله، ولمّا ولي ابن الفرات الوزارة الثانية تمكن ابن مقلة في دولته، ونبعت حاله وعرض جاهه، ثم إنّ الشيطان نزع بينه وبين أبي الحسن عليّ بن الفرات فاستوحش كلّ منهما من صاحبه، فكفر ابن مقلة إحسان ابن الفرات، ودخل في جملة أعدائه والسّعاة عليه، حتّى جرت النكبة على ابن الفرات، فلمّا رجع ابن الفرات إلى الوزارة قبض عليه وصادره على مائة ألف دينار أدّتها عنه زوجته، وكانت ذات مال طائل، وكانت لابن مقلة يد طولى في الكتابة والإنشاء، وكانت توقيعاته غير مذمومة في فنّها، وله شعر فمنه: جرّبني الدّهر على صرفه [1] ... فلم أخر [2] عند التّصاريف ألفت يوميه [3] ويا ربّما ... يؤلف شيء غير مألوف (سريع) حدّث أبو عبد الله أحمد بن إسماعيل المعروف بزنجيّ كاتب ابن الفرات قال لما نكب ابن مقلة وحبس لم أدخل إليه في محبسه، ولا كاتبته ولا توجعت له، على ما بيني وبينه من المودة والصّداقة، خوفا من ابن الفرات. فلمّا طالت به المحنة كتب إليّ رقعة فيها: ترى حرمت [4] كتب الأخلاء بينهم ... أبن لي، أم القرطاس [5] أصبح غاليا؟ فما كان لو ساءلتنا كيف حالنا ... وقد دهمتنا نكبة هي ما هيا؟ صديقك من راعاك في كلّ شدّة ... وكلّ تراه في الرّخاء مراعيا فهبك عدوّي لا صديقي فإنني ... رأيت الأعادي يرحمون الأعاديا (طويل)   [1] صرف الدّهر وصروفه وتصاريفه: أحداثه ومصائبه. [2] لم أخر: لم أخيّر بل أجبرت إجبارا. [3] يوميه: قصد بها يوم البؤس ويوم النعيم. [4] حرمت: أصبحت من المحرّمات. [5] القرطاس: ورق الكتابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 ومن شعره ما كتب به إلى ولده وقد مرض: لقّاك ربّك صحّة وسلامة ... ووقاك بي من طارق الأدواء ذكرت شكاتك لي وكأسي في يدي ... فمزجتها دمعي مكان الماء (كامل) ومن شعره: لست ذا ذلّة إذا عضّني الدّهر ... ولا شامخا إذا واتاني أنا نار في مرتقى نفس الحاسد ... ، ماء جار مع الإخوان (خفيف) استوزره المقتدر وخلع عليه خلع الوزارة في سنة ستّ عشرة، واستقلّ بأعباء الوزارة أمرا ونهيا، وبذل فيها ما مبلغه خمسمائة ألف دينار، ثمّ عزل وقبض عليه ثم أعيد. وما زال تتقلّب به الأحوال حتى استوزره الرّاضي، ثمّ جرت خطوب أوجبت أنّ الرّاضي حبسه بداره وضيّق عليه، وسعى به أعداؤه إلى الرّاضي، وخوفوه من غائلته فقطع يده اليمنى ومكث في الحبس مدّة مقطوع اليد، وكان ينوح على يده ويقول: يد كتبت بها كذا وكذا مصحفا، وكذا وكذا حديثا من أحاديث الرّسول- صلى الله عليه وآله وسلّم ووقّعت إلى شرق الأرض وغربها تقطع كما تقطع أيدي اللّصوص؟. ومن شعره يشير إلى قطع يده. ما مللت الحياة لكن توثّقت ... بأيمانهم فبانت يميني ثمّ أحسنت ما استطعت بجهدي ... حفظ أرواحهم فما حفظوني ليس بعد اليمين لذّة عيش ... يا حياتي بانت يميني [1] فبيني وفي ذلك يقول بعض الشّعراء: (خفيف) لئن قطعوا إحدى يديه مخافة ... لأقلامه لا للسّيوف الصّوارم فما قطعوا رأيا إذا ما أجاله ... رأيت الرّدى بين اللها [2] والغلاصم [3] (طويل)   [1] بانت يمينه: قطعت يده اليمنى. بان: اغترب وبعد. [2] اللها: جمع لهاة، وهي لحيمة معترضة في الحلق تعرف بلسان المزمار. [3] الغلاصم: ما بين الرأس والعنق من لحم الرقبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ولما قطع الراضي يد ابن مقلة كتب باليسار مثلما كان يكتب باليمين، ثم شدّ على يده المقطوعة قلما وكتب بها، فلم يفرّق بين خطّه قبل قطعها وبعده. ومن الاتفاقات العجيبة أنّه تولى الوزارة ثلاث دفعات، وسافر ثلاث دفعات ودفن ثلاث دفعات: دفن بدار الخليفة لما قتل، بها وذلك بعد قطع يده بمديدة [1] ثم سأل أهله تسليمه إليهم فدفنوه، ثم طلبته زوجته فنبشته ودفنته بدارها. وزارة أبي القاسم سليمان بن الحسن بن مخلد للمقتدر لم يكن له سيرة تؤثر وتروى، ولم يكن من ذوي اللبّ، وإنما نال ما نال بالجدّ والبخت. قيل: إنه دخل مرّة على القاسم بن عبيد الله وزير المعتضد والمكتفي، فرحّب به الوزير، وأقبل عليه بوجهه وأكرمه إكراما خارجا عن العادة لأمثاله، فسئل الوزير عن سبب ذلك فقال: رأيت في منامي كأنّ على رأسي قلنسوة وقد أخذها هذا وجعلها على رأسه، ولا بدّ أن هذا الفتى يلي الوزارة، فكان كما قال: ولم تحمد سيرته في وزارته. وكان المقتدر لمّا عزل ابن مقلة استشار عليّ بن عيسى بن الجرّاح فيمن يستوزره فأشار عليه بهذا، فاستوزره في سنة ثماني عشرة وثلاثمائة، ثم قبض عليه واستوزر الكلوذاني. وزارة أبي القاسم عبيد الله بن محمّد الكلوذانيّ للمقتدر لم تطل أيّامه، ولم يتمكّن ممّا أراد، وكثرت المصادرات في أيّامه، وشغب الجند عليه وشتموه ورجموه وهو في السّفينة، فحلف أنه لا يدخل بعد ذلك في الوزارة وانقطع بداره وأغلق بابه، فكانت وزارته مدّة شهرين.   [1] مديدة: مدّة قصيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وزارة الحسين بن القاسم بن عبيد الله ابن سليمان بن وهب للمقتدر كان يقال له أبو الجمال، قيل: إنه أعرق الناس في الوزارة، وهو وزير المقتدر وأبوه القاسم وزير المعتضد والمكتفي، وجدّه عبيد الله وزير المعتضد، وأبو جدّه سليمان بن وهب وزير المهتدي، وفي ذلك يقول الشاعر له: يا وزير ابن وزير ... ابن وزير ابن وزير نسقا كالدّر إذ ... نظّم في عقد النّحور (رمل) لم يكن الحسين بن القاسم بارعا في صناعته، ولا شكرت سيرته في وزارته ولم تطل له المدّة حتّى عجز واختلّت الأحوال عليه. مدحه عبيد الله بن عبيد الله بن طاهر بقوله: إن أكن مهديا لك الشّعر إنّي ... لابن بيت تهدى له الأشعار غير أنّي أراك من أهل بيت ... ما على المرء أن يسودوه عار (خفيف) وهجاه جحظة بقوله: إذا كان الوزير أبا الجمال ... ومحتسب البلاد الدّانيالي فعدّ عن البلاد فعن قليل ... ترى الأيّام في صور الليالي تقضّت بهجة الدنيا وولّت ... وآذن كلّ شيء بارتحال (وافر) ولما ظهر للمقتدر نقصه وعجزه قبض عليه وصادره. ثم بقي إلى أيّام الراضي وأبعد عن العراق، فلمّا تولّى ابن مقلة الوزارة تقدّم بقتله، وأرسل إليه من قطع رأسه وحمل رأسه إلى دار الخلافة في سفط، فجعل السّفط في الخزانة، وكانت لهم عادة بمثل ذلك. فحدث أنه لمّا وقعت الفتنة ببغداد في أيّام المتّقي أخرج من الخزانة سقط فيه يد مقطوعة ورأس مقطوع، وعلى اليد رقعة ملصقة عليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 مكتوب: هذه اليد يد أبي عليّ بن مقلة، وهذا الرأس رأس الحسين بن القاسم وهذه اليد هي التي وقّعت بقطع هذا الرأس، فعجب الناس من ذلك. وزارة أبي الفضل جعفر بن الفرات لم تطل أيّامه، ولم تكن له سيرة مأثورة وقتل المقتدر وهو وزيره، فاستتتر. انقضت أيّام المقتدر ووزرائه. ثمّ ملك بعده أخوه القاهر هو أبو منصور محمّد المعتضد، بويع سنة عشرين وثلاثمائة. وكان مهيبا مقداما على سفك الدّماء، أهوج محبا لجمع الأموال، رديء السياسة صادر جماعة من أمّهات أولاد المقتدر، وصادر أمّ المقتدر فعلّقها برجل واحدة منكّسة الرّأس، وعذّبها بصنوف عظيمة من الضّرب والإهانة، واستخرج منها مائة وثلاثين ألف دينار، وبقيت بعد ذلك أياما قليلة، وماتت حزنا على ولدها وممّا جرى عليها من العذاب. وفي سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة خلع القاهر. وكان سبب ذلك: أنّ وزيره ابن مقلة كان قد استتر خوفا منه فكان يفسد عليه قلوب الجند ويحذّرهم منه وحسن لهم أن هجموا عليه وخلعوه وسملوه حتّى سالت عيناه على خدّيه، ثم حبس في دار السّلطنة، ومكث في الحبس مدة ثم أخرج منه عند تقلّب الأحوال، وكان مرّة يحبس ومرة يفرج عنه، فخرج يوما ووقف بجامع المنصور يطلب الصّدقة من الناس، وقصد بذلك التّشنيع [1] على المستكفي، فرآه بعض الهاشميين فمنعه من ذلك وأعطاه خمسمائة درهم. ولم يجر في أيّامه من الحوادث المشهورة ما يؤثر.   [1] التّشنيع: الإساءة والذمّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 شرح حال الوزارة في أيّامه استوزر ابن مقلة وزير أخيه، وهي الوزارة الثانية، وقد تقدّم شرح طرف من سيرته فلا حاجة إلى إعادته. ثم استوزر محمّد بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب، ولم يتمكن من الوزارة ولا طالت أيّامه، ثم قبض عليه ونكبه، واتفق أن عرض له قولنج فمات بعقب ذلك. انقضت أيام القاهر ووزرائه. في تلك الأيام نبعت الدّولة البويهيّة. شرح حال دولة آل بويه وابتدائها وانتهائها أمّا نسبهم فيرتفع من بويه إلى واحد واحد من ملوك الفرس حتّى يتّصل بيهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل- عليه السلام- وكذلك إلى آدم أبي البشر، وليسوا من الدّيلم، وإنّما سمّوا بالدّيلم، لأنهم سكنوا بلاد الدّيلم [1] . أما ابتداؤها: فإنّها دولة نبعت بما لم يكن في حساب الناس، ولم يخطر بعضه ببال أحد، فدوّخت الأمم وأذلّت العالم واستولت على الخلافة، فعزلت الخلفاء وولّتهم، واستوزرت الوزراء وصرفتهم، وانقادت لأحكامها أمور بلاد العجم وأمور العراق، وأطاعتهم رجال الدولة بالاتّفاق. هذا بعد الضّيق والفقر، والذلّ والمسكنة ومعاناة الحاجة والاضطهاد، فإنّ جدّهم أبا شجاع بويه وأباه وجدّه، كانوا كآحاد الرعيّة الفقراء ببلاد الدّيلم، وكان بويه صيّاد السّمك، وقد كان معزّ الدولة بعد تملكه البلاد يعترف بنعمة الله تعالى، ويقول: كنت أحتطب الحطب على رأسي. فكان من مبدإ دولتهم ما حدّث به شهريار بن رستم الدّيلميّ قال: كان أبو شجاع بويه في مبدإ أمره صديقا لي، فدخلت عليه يوما وقد ماتت زوجته أمّ أولاده الثلاثة الذين تملكوا البلاد، وهم: عماد الدولة أبو الحسن عليّ، وركن الدولة أبو عليّ الحسن ومعزّ الدولة أبو الحسين أحمد- وقد اشتدّ حزن أبي شجاع بويه على زوجته فعزيته وسكّنت قلقه، ونقلته إلى منزلي وأحضرت له طعاما وجمعت إليه   [1] الدّيلم: منطقة جبليّة في إقليم جيلان جنوبيّ بحر قزوين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 أولاده الثلاثة فبينما هم عندي إذ مرّ بالباب شخص يقول: المنجّم المعزّم مفسّر المنامات، كاتب الرّقى [1] والطّلسمات.. فاستدعاه أبو شجاع بويه وقال له: قد رأيت البارحة رؤيا ففسّرها لي، ثم قصّ عليه الرؤيا، فقال المنجّم، هذا منام عظيم لا أفسّره إلا بخلعة وفرس، فقال له بويه: والله ما أملك إلا الثياب التي على جسدي، وإن أعطيتك إياها بقيت عريانا، قال المنجّم: فعشرة دنانير، فقال له بويه: والله ما أملك دينارين فكيف عشرة؟ ثم إنّه أعطاه شيئا يسيرا، فقال المنجّم: اعلم أنه يكون لك ثلاثة أولاد يملكون الأرض ومن عليها ويعلو ذكرهم في الآفاق، ويولد لهم جماعة ملوك، فقال له بويه: أما تستحي؟ أتسخر بنا؟ أنا رجل فقير مضطر، وأولادي هؤلاء فقراء مساكين فمن أين هم والملك؟ فقال له المنجّم: فأخبرني عن وقت ولادة واحد واحد من أولادك فأخبره بويه بذلك، فجعل ينظر في اصطرلابه [2] وتقاويمه، ثمّ نهض المنجّم وقبّل يد عماد الدّولة أبي الحسن عليّ وقال: هذا والله الّذي يملك البلاد، ثمّ يملك هذا من بعده وقبض على يد أخيه أبي عليّ الحسن، فاغتاظ منه أبو شجاع بويه وقال لأولاده: اصفعوه فقد أفرط بالسخرية بنا، فصفعوه ونحن نضحك منه، فقال المنجّم: لا بأس بهذا إذا ذكرتم لي هذا الحال عند ولايتكم، فأعطاه أبو شجاع عشرة دراهم وانصرف. وأما ترقي أولاد أبي شجاع بويه: فإنّهم دخلوا في زيّ الأجناد وانضافوا إلى العساكر، وما زالوا ينتقلون في خدمة ملوك العجم من واحد إلى واحد، ومن حال إلى حال، حتّى ارتفع حال عماد الدّولة وتولّى الكرخ [3]- ولاه إياه مرداويج [4]- ثمّ تنقل منها إلى غيرها، حتّى تملك قطعة من أعمال فارس، ثمّ عرضت مملكته حتى كتب إلى الراضي الخليفة يسأله أن يقاطعه على أعمال فارس في كلّ سنة بعد النفقات والإطلاقات بما يحمله إلى دار الخلافة، وهو ثمانمائة ألف ألف   [1] الرّقى: التعاويذ والمسطورات يتقى بها من حسد أو مرض، ومثلها الطلسمات لأنها مما لا يفهم [2] الأصطرلاب: آلة فلكيّة قديمة لقياس ارتفاع الكواكب. [3] الكرخ: حي قديم في ظاهر بغداد، والصواب هنا: الكرج وهو من أقاليم القفقاس على البحر الأسود وحدود ما بين تركيا وروسيا اليوم، منطقة جورجيا. [4] مداويج: هو مرداويج بن زيار مؤسّس دولة حكمت طبرستان ما بين قزوين والرّيّ وجرجان خلعه أخوه وشمكير ثم قابوس بن وشمكير، وتبعت دولتهم الغزنويين حتى قضى عليها ملك شاه السلجوقي. اغتيل مرداويج عام/ 323/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 درهم، على أن يبعث الخليفة إليه بخلعة السلطنة والمنشور. فبعث الراضي إليه بذلك على يد رسول أرسله إليه وأوصاه ألا يسلّم الخلعة [1] والمنشور إليه حتى يقبض منه المال، فلمّا وصل الرسول إليه غالطه وأخذ الخلعة منه فلبسها، والمنشور فقرأه على رءوس الأشهاد، وقويت نفسه بذلك ووعد الرّسول بالمال ودافعه مدّة، فمات الرسول عنده، وتقلبت الأحوال بالخلافة فكسر المال واستبدّ بالأمر. وكان عماد الدولة أوّل ملوكهم، ثمّ ملك منهم واحد بعد واحد حتى انقضت دولتهم. وأما انتهاؤها ففي آخر أمرها ضعف حالها، وما زال يتزايد ضعفها حتى انتهت نوبة الملك إلى عزّ الدولة بن جلال الدولة أبي طاهر، فجرى بينه وبين كاليجار حروب أفضت إلى أنّه هرب منه وأقام بشيراز ومات في سنة إحدى وأربعين وأربعمائة وعليه انقرض ملكهم. ثمّ ملك بعد القاهر ابن أخيه الراضي باللَّه هو أبو العبّاس محمّد بن المقتدر بن المعتضد. بويع في سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة. كان شاعرا فصيحا لبيبا ختم الخلفاء في أشياء، منها: أنّه آخر خليفة دوّن له شعر، وآخر خليفة انفرد بتدبير الملك، وآخر خليفة خطب على منبر يوم الجمعة وآخر خليفة جالس الندماء ووصل إليه العلماء، وآخر خليفة كانت مراتبه وجوائزه وخدمه وحجّابه تجري على قواعد الخلفاء المتقدّمين. وفي أيّامه سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة عظم أمر مرداويج بأصبهان، وهو رجل خرج بتلك النواحي، وقيل: إنه يريد أن يأخذ بغداد وينقل الدولة إلى الفرس ويبطل دولة العرب، فورد الخبر في أيّام الراضي بأن غلمان مرداويج اتّفقوا عليه فقتلوه.   [1] الخلعة: بكسر الخاء، الثوب. وبضمّ الخاء، الهديّة من المال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وفي أيّام الراضي ارتفع أمر أبي الحسن عليّ بن بويه. وفي أيّام الراضي ضعف أمر الخلافة العبّاسيّة، فكانت فارس في يد عليّ ابن بويه والريّ وأصفهان والجبل في يد أخيه الحسن بن بويه، والموصل وديار بكر وديار ربيعة ومضر في أيدي بني حمدان، ومصر والشام في يد محمّد بن طغج، ثمّ أيدي الفاطميّين والأندلس في يد عبد الرحمن بن محمّد الأمويّ، وخراسان والبلاد الشرقية في يد نصر بن أحمد الساماني. وكانت وفاة الراضي في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. شرح حال الوزارة في أيّامه أوّل وزرائه عليّ بن مقلة، وهي الوزارة الثالثة من وزارات ابن مقلة، بذل فيها خمسمائة ألف دينار حتّى استوزره الراضي، ثمّ شغب الجند وجرت فتنة أوجبت عزله فعزله الراضي واستوزر عبد الرحمن بن عيسى بن داود بن الجراح، وقد مضى من أخبار ابن مقلة ما فيه كفاية. وزارة عبد الرحمن بن عيسى بن الجرّاح لما قبض الراضي على ابن مقلة أحضر عليّ بن عيسى بن الجرّاح وأراده على الوزارة، فأبى وامتنع وأظهر العجز، فاستشاره فيمن يوليه فأشار بأخيه عبد الرحمن بن عيسى فأحضره، وقلّده الوزارة وركب الموكب بين يديه، ثمّ لم تطل أيّامه، واختلت الأمور عليه، فاستعفى من الوزارة. فقبض عليه، ولم يكن له سيرة تؤثر. وزارة أبي جعفر بن محمّد بن القاسم الكرخيّ للرّاضي باللَّه لمّا قبض الراضي على عبد الرحمن بن عيسى، استوزر أبا جعفر محمّد ابن القاسم الكرخيّ، وكان قصيرا جدّا في غاية القصر، فاحتاجوا أنّهم قطعوا من قوائم سرير الخلافة أربع أصابع حتّى يتمكّن الكرخيّ الوزير من مسارّة الخليفة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 وتطيّر [1] الناس من ذلك وقالوا: هذا مؤذن [2] بنقض [3] الدولة. فكان الأمر كما قالوا، واختلفت الأحوال عليه، واضطربت الأمور لديه، فاستتر، قالوا: لما أراد الاستتار قلع رأس مزمّلة [4] وجلس فيها وأخرجت المزمّلة على أنها مزملة، وهو في وسطها وما زال مستترا حتّى ظهر وصودر ثم خلص [5] . وزارة سليمان بن الحسن بن مخلد للراضي باللَّه لما عجز الكرخيّ عن النّهوض بأعباء الوزارة واستتر، أحضر الرّاضي باللَّه سليمان بن الحسن بن مخلد واستوزره وخلع عليه خلع الوزارة. ثمّ إنّه عجز عن تدبير الأمور لتغلّب أصحاب السّيوف على المملكة. فلمّا رأى الخليفة الراضي عجز وزيره سليمان بن الحسن بن مخلد أرسل إلى ابن رائق [6]- وهو أكبر الأمراء- فاستماله وسلّم الأمور إليه ورتّبه أمير الأمراء، وكلّفه تدبير المملكة فانضمّ إليه أمراء العسكر وصاروا حزبا واحدا، وحضروا بين يدي الخليفة، فأجلسهم فوق الوزير واستبدّ ابن رائق أمير الأمراء بالأمور، وولّى النّظار والعمال ورفعت المطالعات إليه، وردّ الحكم في جميع الأمور إلى نظره، ولم يبق للوزير سوى الاسم من غير حكم ولا تدبير. ومن تلك الأيام اضطهدت الخلافة العبّاسيّة، وخرجت الأمور منها، واستولى الأعجام والأمراء وأرباب السيوف على الدولة، وجبوا الأموال وكفّوا يد الخليفة وقرّروا له شيئا يسيرا وبلغة قاصرة، ووهن من يومئذ أمر الخلافة.   [1] تطيّر: تشاءم وتوقع شرّا. [2] مؤذن: منذر. [3] نقض الدولة: تهدّمها وزوالها. [4] المزمّلة: الجرّة أو الخابية. [5] خلص: خلا من المال. [6] ابن رائق: محمد بن رائق، قائد جيوش الراضي وأمير الأمراء، قتله ناصر الدين الحمدانيّ عام/ 330/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وزارة أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات للراضي باللَّه لما استولى أمير الأمراء ابن رائق على الأمور أشار على الراضي باللَّه بأن يولّي الوزارة للفضل بن الفرات، ظنّا منه أنّه يجنذب له الأموال، فأحضره الراضي وقلّده الوزارة. حدّث أبو الحسن بن ثابت بن سنان، عن أبي الحسن عليّ بن هشام قال: لما تقلّد الفضل بن جعفر بن الفرات الوزارة لقيت ابن مقلة وكان معزولا مستترا فقلت له: يقبح بك يا سيّدنا أن تتأخّر عن لقاء هذا الوزير وتهنئته بوزارته، فقال: ما آمنه ولا لي حاجة إلى الاجتماع به، فقلت: ينبغي أن تكتب إليه رقعة تعتذر فيها عن تأخّرك وتهنّئه تهنئة تقوم مقام حضورك، فقال: أخاف أن يجيبني بما يستدعي حضوري وأنشدني لنفسه: وقائلة: قد أضعت الصّواب ... بتركك هذا الوزير الجديدا فقلت لها: لا عداك السّرور ... ولا كان قولك إلا سديدا أمثلي تطاوعه نفسه ... على أن يرى خاضعا مستزيدا (متقارب) كان رجلا متهوّرا وسيع الصّدر شريف النّفس عالي الهمّة، تنقّل في الخدمات وتقلّبت به الأحوال من عسر ويسر، ومصادرة وعزل، حتّى أدّى به سعة صدره وقوّة نفسه وكبر همّته إلى جمع العساكر وركوب الأخطار. ثم تغلّب على أعمال خوزستان والبصرة، فاستوزره الراضي، ثمّ عزله وقلّد الوزارة سليمان بن الحسن بن مخلد، وقد مرّ ذكره فلا حاجة إلى إعادته، وهو آخر وزرائه. انقضت أيام الراضي باللَّه بن المقتدر ووزرائه. ثمّ ملك بعده أخوه المتّقي باللَّه أبو إسحاق إبراهيم بن المقتدر باللَّه بويع له سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، ولم يكن له من السّيرة ما يؤثر واضطربت عليه الأمور، واستولى عليه رجل من أمراء الدّيلم يقال له: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 «توزون [1] » فهرب المتّقي ومعه ابنه وأهله إلى الموصل خوفا على نفسه من حرب ببغداد. وجرت في تلك الأيّام حروب وفتن، ونهبت دار الخلافة وأخذ ما كان بها. ثمّ إنّ توزون كتب إلى المتّقي يستميله، وحلف له أيمانا غليظة أنّه لا يناله مكروه من جهته فاغترّ المتقي بذلك، وانحدر من الموصل إلى بغداد، ووصل إلى السنديّة من نهر عيسى فخرج توزون إلى تلقّيه والناس كافّة، فلما رآه توزون قبل الأرض وكان قد أوصى جماعة من أصحابه سرّا أن يحتاطوا به، فاحتاطوا به، وأدخلوه إلى خيمته، ثمّ قبض عليه وسمل عينيه، وخلعه وبايع المستكفي، ومات المتّقي في سنة خمسين وثلاثمائة. شرح حال الوزارة في أيامه أقرّ سليمان بن الحسن بن مخلد على وزارته أربعة أشهر، ثمّ استوزر أبا الخير أحمد بن محمّد بن ميمون، ولم يكن له سوى الاسم من الوزارة، ولم يكن له سيرة تؤثر. ثمّ أمور أدّت إلى القبض عليه وإلى عزله. وزارة أبي عبد الله البريديّ للمتّقي قد سبق حال تغلّبه وقوّة نفسه وجمعه للعساكر، ثمّ إنّه في أيّام المتّقي وصل إلى بغداد ومعه جموع كثيرة، فأظهر المتقي السّرور به، ثم استوزره وهو كاره لذلك. وجرت بينه وبين المتّقي مراسلات أدّت إلى أنّه أرهبه وأفزعه، فحمل إليه خمسمائة ألف دينار ووقعت حروب بين البريديّ وأمراء العسكر فنهبوا داره وانهزم إلى واسط، فكان وقوع اسم الوزارة عليه دون شهر [2] .   [1] توزون: أمير الأمراء من الدّيلم، جاء بعد ناصر الدولة الحمداني، وقتل الخليفة المتّقي. مات/ 334/ هـ. [2] دون شهر: أقلّ من شهر من الزمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 وزارة أبي إسحاق محمّد بن إبراهيم الإسكافيّ المعروف بالقراريطي للمتّقي لم تطل أيّامه، فلبث في الوزارة حدود أربعين يوما. سبب وزارته أنه حضر يوما مجلس أمير الأمراء وهو يصادر قوما من الكتّاب ويعسفهم، وهم يلطّون [1] عليه فخلا القراريطيّ ببعض أصحاب أمير الأمراء وقال له: إن استوزرني الأمير نهضت له بأضعاف هذا وجمعت له الأموال، وما أحوجه إلى هذا الصّداع؟ فاستوزره توزون بعد يومين، ثمّ بعد يومين قبض عليه واستوزر الكرخيّ، فلم تطل أيّامه أيضا، ولبث فيها نحو خمسين يوما. وزارة البريديّ مرّة ثانية استوزره المتّقي وكاتبه بالإصعاد [2] إلى بغداد، فأصعد من واسط فاستوزر. ومكث في الوزارة دون شهر، ولم يستتبّ له أمر، وجرت بينه وبين المتّقي حروب وكانت تلك الأيّام أيّام فتن. ولما تولّى أبو عبيد الله البريديّ الوزارة هجاه أبو الفرج الأصفهانيّ مصنّف كتاب الأغاني بقصيدة طويلة أوّلها: يا سماء اسقطي ويا أرض ميدي [3] ... قد تولّى الوزارة ابن البريديّ (خفيف) (منها) يا لقومي لحرّ صدري وعولي [4] ... وغليلي وقلبي المعمود [5] حين سار الخميس [6] يوم خميس ... بالبريديّ في ثياب سود [7]   [1] يلطّون عليه: يتستّرون ويكتمون. [2] الإصعاد إلى بغداد: الانتقال إلى بغداد من واسط. تقع واسط جنوبي بغداد. [3] مادت الأرض: تزلزلت. [4] العول: الظّلم والنقيصة. [5] المعمود: المصاب. المبتلى. [6] الخميس: الجيش. [7] الثياب السود: الزيّ الرسمي العبّاسيّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 قد حباه بها الإمام اصطفاء ... واعتمادا منه لغير عميد [1] خلع [2] تخلع العلا ولواء ... عقده حلّ عقدة المعقود وزارة أبي العبّاس أحمد بن عبيد الله الأصفهانيّ للمتقي مكث في الوزارة حدود خمسين يوما، ولم يكن له علم ولا نظر في الأمور وضعف أمر الوزارة والوزراء في تلك الأيّام ضعفا كثيرا. وزارة أبي الحسن عليّ بن أبي عليّ بن مقلة للمتّقي استوزره المتّقي ولم تطل أيّامه وخلع المتّقي وهو وزيره. انقضت أيّام المتّقي ووزرائه. ثمّ ملك بعده أبو القاسم عبد الله المستكفي ابن المكتفي بن المعتضد بويع له سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. ورد الخبر إليه بوصول معزّ الدّولة ابن بويه فخاف خوفا شديدا، واضطرب الناس، وأهدى المستكفي إلى معزّ الدولة ألطافا وفاكهة ووصل معزّ الدولة إلى حضرة المستكفي فردّ إليه إمارة الأمراء وأعطاه الطّوق والسّوار وآلة السّلطنة، وعقد له لواء. وهو أوّل ملوك بني بويه في الحضرة الخليفيّة، وهو الّذي لقّبه معزّ الدّولة، ولقّب أخاه الآخر عماد الدّولة، وأمر أن تضرب ألقابهم على الدّينار والدّرهم، ونزلت الدّيلم دور الناس ببغداد، ولم يكن يعرف ذلك من قبل. ثم إنّ معزّ الدولة ركب يوما إلى دار الخلافة وسلم على المستكفي وقبّل الأرض بين يديه، وأمر المستكفي فطرح كرسيّ فجلس عليه معزّ الدّولة، ثم تقدّم إلى المستكفي رجلان من الدّيلم بمواطأة معزّ الدّولة فمدّا أيديهما نحوه، فظنّ المستكفي أنّهما يريدان تقبيل يده، فمدّ يده فجذباها ونكساه من السرير ووضعا عمامته في عنقه وسحباه، ونهض معزّ الدّولة وضربت البوقات والطّبول، واختلط الناس ودخل الدّيلم إلى حرم الخليفة، وحمل المستكفي إلى دار معزّ الدولة   [1] العميد: ما يعتمد عليه. [2] الخلع: الهدايا والهبات وتقاليد المنصب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 فاعتقل بها، وخلع من الخلافة ونهبت داره وسملت عيناه. ولم يزل في دار السّلطنة معتقلا حتّى توفي في سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة. شرح حال الوزارة في أيّامه أوّل وزرائه السامريّ أبو الفرج محمّد بن عليّ. لم يكن له حكم ولا استبداد ولم تطل أيّامه وقبض عليه، وهجاه بعض الشّعراء بقوله: الآن إن كفر المقتّر رزقه [1] ... قالوا: كفرت فخف عقاب النّار أأكون رجلي مركبي [2] وجنيبتي [3] ... خفّي [4] ، على ذلّ بذاك وعار و (السرّمن رائيّ [5] في إصطبله ... مائتا عتيق فاره مختار كلب حمار بالخيول، وكاتب ... فطن يضيق به كراء [6] حمار أنا قد دهشت فعرّفوني أنتم ... هذا من الإنصاف في الأقدار؟ (كامل) ثم اضطربت أحوال الخلافة، ولم يبق لها رونق ولا وزارة، وتملّك البويهيّون وصارت الوزارة من جهتهم والأعمال إليهم، وقرّر للخلفاء شيء طفيف برسم إخراجاتهم. انقضت أيّام المستكفي ووزرائه. ثمّ ملك بعده المطيع للَّه أبو القاسم الفضل بن المقتدر بويع سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وكان أمره ضعيفا في أيّامه ردّ الحجر الأسود إلى مكانه وكانت القرامطة الخوارج قد أخذوه ثم ردّوه وقالوا: قد أخذناه بأمر ورددناه بأمر. وقوي الفالج على المطيع وثقل لسانه فدخل عليه سبكتكين   [1] المقتّر رزقه: قليل الرزق. [2] رجله مركبه: كناية عن السير على الأقدام بلا دابّة. [3] الجنيبة: الدابّة تمشي إلى جنب صاحبها. [4] الخفّ: النعل. [5] السرّمن رائيّ: المنسوب إلى سرّ من رأى وهي سامرّاء، مدينة المعتصم وقصد به الوزير [6] كراء الحمار: أجرة استخدامه وركوبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 حاجب معزّ الدولة فدعاه إلى خلع نفسه ومبايعة ولده الطّائع، ففعل ذلك وعقد الأمر لولده وخلع نفسه. ومات في سنة أربع وستين وثلاثمائة. ثمّ ملك بعده ابنه عبد الكريم أبو بكر الطّائع لأمر الله بويع له سنة ثلاث وستين وثلاثمائة. كان الطّائع شديد المنّة وكان قد استفحل عنده في البستان كبش جبليّ، ما جسر أحد أن يدنو منه. فخرج الطّائع إليه فحمل الكبش عليه فثبت له حتّى مكّن يديه من قرنيه، ثم استدعى نجارا وأمره بقطع قرنيه بالمنشار، فقطعهما النجّار وهما في يد الطّائع. وفي أيامه قويت شوكة آل بويه، ووصل عضد الدولة إلى بغداد. وانتشر حكم البويهيّين. ثم قبض البويهيون على الطّائع في سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة. وبويع بعده للقادر: انقضت أيام الطّائع للَّه. ثمّ ملك بعده القادر أبو العبّاس أحمد ابن إسحاق بن المقتدر بويع له سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة. كان القادر من أفاضل خلفائهم، حسن الطريقة والسّمت. كثير الخير والدّين والمعروف والعبادة. تزوّج بنت بهاء الدولة بن عضد الدولة على صداق مبلغه مائة ألف دينار. وفي أيامه تراجع وقار الدولة العبّاسيّة ونما رونقها، وأخذت أمورها في القوّة. ومكث القادر في الخلافة مدّة طويلة، ومات في سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 ثمّ ملك بعده ابنه أبو جعفر عبد الله القائم بأمر الله بويع في سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة. كان القائم من أفاضل خلفائهم وصلحائهم. وطالت مدّته في الخلافة وزاد به وقار الدّولة ونمت قوّتها. وفي أيّامه انقرضت دولة بني بويه، وظهرت دولة بني سلجوق. شرح حال الدّولة السلجوقيّة وابتدائها وانتهائها هذه دولة قويّة قويت شوكتها. وعرضت مملكتها ونفذت تقدماتها في الحضرة الخليفية. واستولت على الخلافة. وخطب لها على المنابر. وضربت أسماء ملوكها على الدّرهم والدّينار. ذكر ابتداء حالهم هم قوم أصلهم من التّرك الخزر. وكانوا يخدمون مع ملوك التّرك. ونشأ جدّهم سلجوق وكانت أمارات النّجابة لائحة عليه، ودلائل السعادة ظاهرة على حركاته فقرّبه ملك التّرك واختصّ به ولقّبه «شباشي» ، ومعناه في لغتهم: قائم الجيش. فنبغ سلجوق بعلوّ همّته، واستمال قلوب الرجال بكرمه وعقله، وانقادت الأكابر إليه. فيقول: إنّ زوجة ملك التّرك قالت لزوجها: إنّي أتوسم في سلجوق تغلّبا عليك والرأي عندي أن تقتله فقد كثر ميل الناس إليه. فقال لها: سوف أبصر ما أصنع في أمره ثم أحسّ سلجوق بشيء من ذلك العزم، وظهر له التّغيّر فجمع عشيرته ومن تبعه وحالفهم، واستجلب من أطاعه، وصار قائدا معظّما للغزّ [1] ونفر بهم من بلاد التّرك إلى بلاد المسلمين، فلمّا دخلها أظهر الإسلام ليكون   [1] الغزّ: بضم العين أو كسرها، قبيلة قديمة من الأتراك دانت لسلجوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 المسلمون عونا له وليمكّنوه من المراعي والمساكن، فنزل بالجند وشرع في غزو من قاربه من أصناف التّرك وكان لملك التّرك إتاوة [1] على تلك البلاد المتاخمة له فقطعها سلجوق وطرد نوّابه ومات سلجوق وعمره مائة سنة. ثمّ نشأ أولاده في القوّة والنّعمة والدّولة، واستولوا على كلّ موضع استضعفوه من بلاد العجم، وما زال أمرهم ينمى حتى ملك طغرلبك (وهو أوّل سلاطينهم) طائفة من بلاد العجم، وما زال أمره يقوى حتّى تغلّب البساسيري على بغداد ونهبها وقتل من بها. وأخرج الخليفة القائم فحبسه بقلعة الحديثة وكانت فتنة البساسيري فتنة عظيمة، فحينئذ كتب القائم إلى طغرلبك السّلطان يستدعيه إلى بغداد لينصره على البساسيري، فسار طغرلبك بعساكره إلى بغداد فلمّا سمع البساسيريّ بذلك انتفض عليه أمره وفارق بغداد، دخل طغرلبك إلى بغداد، وأعاد رونق الدولة الخليفيّة وخطب له بالسّلطنة على منابر بغداد، وكان ذلك أوّل سلطنتهم بالحضرة وأمّا انتهاؤها: فإنّها ما زالت أمورها تضعف حتّى انقرضت بالكليّة في أيّام النّاصر، وذلك في سنة تسعين وخمسمائة فتعالى الله! ومات القائم في سنة سبع وستين وأربعمائة. شرح حال الوزارة في أيامه وزر له فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير.   [1] الإتاوة: الضريبة تجنى للسّلطة تكليفا وعنوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وزارة ابن جهير كان فخر الدولة من عقلاء الرّجال ودهاتهم، كان في ابتداء أمره فقيرا مدقعا وترامت به الأسباب، فمن مبادئها: أنّه كان جالسا بالكوخ يوما، فعبر عليه غسّال ممّن يغسل بالخربات ومعه فصوص عتق قد استحالت ألوانها، فاشتراها منه بثلاثة دنانير وجلا بعضها، فخرج أحدها ياقوتا أحمر، وخرج الآخر فيروزجا جيّدا فصاغ لكلّ واحد منهما خاتما من ذهب. ثم إنه تقلّبت به الأمور حتى مضى في رسالة إلى ملك الرّوم فأهدى إليه الخاتمين، فأعطاه عشرين ألف دينار، فكانت أصل غناه ونعمته، ثم تنقّل في الخدمات حتى اتّصل بابن مروان صاحب ديار بكر [1] فخدمه مدّة وأثرى [2] عنده ثروة ضخمة، فسمت همّته إلى وزارة الخليفة، فأرسل سرّا إلى القائم، وعرض عليه نفسه، وبذل له ثلاثين ألف دينار، فأرسل القائم بعض خواصّه في رسالة إلى ابن مروان، وكان غرضه من إرسال ذلك الرّسول أن يجتمع بفخر الدولة سرّا، وقرّر معه ما أراد، ثمّ لمّا أراد الرسول الرجوع إلى بغداد خرج فخر الدولة كأنه يودّعه، فانحدر معه إلى بغداد، وكان قبل ذلك قد فرّق أمواله بالبلاد وأنفذ منها شيئا إلى بغداد. فلمّا وصل الرّسول إلى بغداد، وصحبته فخر الدولة، أرسل القائم إليه أصحابه يتلقونه، ثم خلع عليه خلع الوزارة، ونهض فخر الدولة بأمور الوزارة أحسن نهوض. وكانت الأطراف المتاخمة للعراق عاصية على الخليفة، وكان ملوكها أصدقاء فخر الدّولة، فكاتبهم وراسلهم، واستمالهم فدخلوا في طاعة الخليفة ثمّ عزل فخر الدولة عن الوزارة، بسبب كدر جرى بينه وبين نظام الملك وزير السّلطان ثم أعيد فخر الدّولة إلى الوزارة، ولمّا أعيد إلى منصبه قال ابن الفضل الشاعر يمدحه:   [1] ديار بكر: بلاد أقصى شرق الأناضول. [2] أثرى: زاد ماله واغتنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 قد رجع الحقّ إلى نصابه ... وأنت من دون الورى أولى به ما كنت إلا السّيف سلّته يد ... ثمّ أعادته إلى قرابه [1] (رجز) ولما عاد إلى الوزارة فرح النّاس به فرحا شديدا، فيقال: إنّ سقّاء ذبح ثورا له لم يكن يملك غيره وتصدّق بلحمه، فأعطاه الوزير بغلا بآلته، وأعطاه معه شيئا من الذّهب. وزارة رئيس الرّؤساء عليّ بن الحسين بن أحمد ابن محمّد عمر بن المسلمة كان وزير القائم قبل ابن جهير. ومن أجله وقعت فتنة البساسيري، وكان قبل الوزارة أحد المعدّلين [2] ببغداد، وممّن له معرفة بالفقه. وأنس بالعلم ورواية الحديث وجلّ أمره، وعظمت منزلته، ووقع بينه شرّ وبين البساسيري أبي الحارث التّركيّ وكان أحد الأمراء فاقتضى الحال أنّ البساسيريّ هرب، ثمّ جمع الجموع وورد إلى بغداد واستولى عليها، ثم ظفر بابن المسلمة رئيس الرّؤساء فمثّل به. فمن جملة ما فعل به، أنّه حبسه ثمّ أخرجه مقيّدا وعليه جبة صوف وطرطور [3] من لبد أحمر، وفي رقبته مخنقة فيها جلود مقطّعة شبيهة بالتّعاويذ، وأركب حمارا وطيف به في المحال ووراءه من يضربه بجلد وينادي عليه، ورئيس الرّؤساء يقرأ: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ من تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ 3: 26 [4] وشهّره في البلد. فلمّا اجتاز بالكرخ نثر عليه أهل الكرخ المداسات الخلّع وبصقوا في وجهه ووقف بإزاء دار الخلافة من الجانب الغربيّ، ثمّ أعيد وقد نصبت له خشبة في   [1] قراب السّيف: غمده. [2] المعدّلين: المشهود لهم بالعدل. [3] الطرطور: قلنسوة طويلة دقيقة الرأس، واللّبد: الصوف المتلبّد. [4] سورة آل عمران، الآية 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 باب خراسان، فأنزل عن الحمار، وخيط عليه جلد ثور قد سلخ في الحال وجعلت قرونه على رأسه، علّق بكلاب في حلقه، واستبقي في الخشبة إلى أن مات من يومه. انقضت أيام القائم بأمر الله ووزرائه. ثمّ ملك بعده ابن ابنه المقتدي بأمر الله وهو أبو القاسم عبد الله بن الذّخيرة بن القائم، بويع في سنة سبع وستين وأربعمائة. كان المقتدي عالي الهمّة خبيرا بالأمور من أفاضل خلفائهم، واتّفق له مع السّلطان ملك شاه واقعة عجيبة: كان السّلطان ملك شاه قد قصد بغداد فوصلها في سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وقد تغيّرت نيته مع المقتدي، فأرسل ملك شاه إلى المقتدي يقول له: تخرج من بغداد وتسكن أيّ بلد شئت، فانزعج المقتدي من ذلك وطلب منه أن يمهله شهرا، فقال ملك شاه: ولا ساعة واحدة. وتردّدت الرّسل بينهما، ثم استقرّت الحال بواسطة تاج الملك أبي الغنائم وزير ملك شاه أن يؤخّره عشرة أيّام، فقال ملك شاه: يجوز، ففي عيد الفطر صلّى السّلطان وخرج إلى الصّيد فحمّ وافتصد [1] فتوفّي في نصف شوّال، وضبطت زوجته زبيدة خاتون العسكر بعد موته، واستقرّ مع المقتدي ترتيب ابنها محمود في السّلطنة، وعمره يومئذ ستّ سنين فخطب له وخلع [2] المقتدي عليه، وخرج العسكر وخاتون وابنها محمود بن ملك شاه إلى أصفهان، وكفى الله شرّ ملك شاه المقتدي، وتوفّي المقتدي فجأة في سنة سبع وثمانين وأربعمائة.   [1] افتصد: أجري عليه الفصد، وهو شق العرق للاستطباب. [2] خلع عليه: أهداه الخلعة وهي لباس السلطنة أو الوزارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 شرح حال الوزارة في أيّامه لمّا بويع المقتدي بالخلافة أقرّ فخر الدّولة بن جهير وزير أبيه على وزارته وقد مضى من سيرته ما يغني عن ذكر شيء آخر. وزارة ابنه عميد الدّولة محمّد بن محمّد ابن محمّد بن جهير للمقتدي كان القائم والمقتدي يرسلانه في رسائل إلى السلاطين فتنجح على يده، وكان فاضلا حصيفا [1] ، فاستحلاه نظام الملك وزير السّلطان، وكان يعجب منه ويقول: وددت أني ولدت مثله، ثم زوّجه ابنته. واستوزره المقتدي، وفوّض الأمور إليه، ثمّ عزله فشفع له نظام الملك فأعيد إلى الوزارة. ثمّ وقع بين عميد الدّولة وبين سلاطين العجم وقعة، فطلبوا من الخليفة عزله وأشار أصحاب الخليفة بذلك فعزله، وحبس بباطن دار الخلافة، ثمّ أخرج ميتا فدفن وكان يقول الشّعر، فمن شعره: إلى متى أنت في حلّ وترحال ... تبغي العلا والمعالي مهرها غالي يا طالب المجد دون المجد ملحمة ... في طيّها خطر بالنّفس والمال ولليالي صروف [2] قلّما انجذبت ... إلى مراد امرئ يسعى بلا مال (بسيط) وزارة أبي شجاع ظهير الدين محمّد بن الحسين الهمذانيّ للمقتدي كان رجلا ديّنا، خيّرا كثير الخير والبرّ والصّدقة. وقف له على ثبت [3] خرج على وجوه البرّ والصّدقات خاصّة بما قدره مائة وعشرون ألف دينار، وكان   [1] حصيفا: عاقلا، جيّد الرأي. [2] صروف: أحداث ومصائب. [3] الثّبت: الحجّة والبرهان. ما كتب على وجه التثبت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 الّذي أورد هذا الثّبت كاتبا من جملة عشرة كتبة يكتبون صدقاته خاصّة. ولمّا ولي ظهير الدين المذكور كتب إليه ابن الحريري صاحب المقامات: هنيئا لك الفخر فافخر هنيئا ... كما قد رزقت مكانا عليّا وبت كآبائك الأكرمين ... لدست [1] الوزارة كفؤا رضيّا تحمّلت أعباءها يافعا ... كما أوتي الحكم [2] يحيى صبيّا (متقارب) كان يصلّي الظّهر ويحضر لكشف المظالم إلى وقت العصر، وكان الحجّاب ينادون في الناس: من كانت له حاجة فليعرضها. ومن مناقبه: أنّه لما وقعت الفتن بين السنيّة والشّيعة بالكرخ وباب البصرة من مدينة السلام، تغاضى عن إراقة الدماء غاية التغاضي، حتى قال له المقتدي: إن الأمور لا تمشي بهذا اللين الّذي تستعمله، وقد أطمعت النّاس بحلمك وتجاوزك، ولا بدّ من نقض دور عشرة من كبار أهل المحال حتّى تقوم السّياسة وتسكن هذه الفتن. فأرسل الوزير إلى المحتسب وقال له: قد تقدّم الخليفة بنقض دور عشرة من كبار أهل المحالّ ولا تمكنني المراجعة فيهم، وما آمن أن يكون فيهم أحد غير مستحقّ للمؤاخذة، أو أن يكون الملك ليس له، فأريد أن تبعث ثقاتك إلى هذه المحالّ وتشتري أملاك هؤلاء المتّهمين فإذا صارت الأملاك لي نقضتها وأسلم بذلك من الإثم ومن سخط الخليفة. ونقده الثّمن في الحال، ففعل المحتسب ذلك، ثمّ بعد ذلك أرسل ونقضها. وحجّ بيت الله تعالى. ولم يؤرّخ عن وزير أنّه حجّ في أيّام وزارته إلا هذا، فإنّ الوزارء قبله كانوا يحجّون بعد خلوّهم من الوزارة، إلا البرامكة فإنّهم حجّوا في حال وزارتهم. وطلب السّلطان جلال الدولة ملك شاه من المقتدي عزل هذا الوزير، فخرج توقيع المقتدي بعزله على حالة جميلة لم يصرف بمثلها وزير، وانصرف إلى داره وهو ينشد:   [1] دست الوزارة: صدرها ومنصبها، وكلمة دست فارسيّة. [2] قوله كما أوتي الحكم يحيى صبيّا: إشارة واقتباس من القرآن الكريم يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا 19: 12 سورة مريم، الآية/ 12/. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 تولاها وليس له عدوّ ... وفارقها وليس له صديق (وافر) ثم اعتزل وتزهّد ولبس ثياب القطن وتوجّه إلى الحجّ، وأقام بمدينة الرّسول- صلوات الله عليه وسلامه- فكان يكنس المسجد النبويّ ويفرش الحصر ويشعل المصابيح وعليه ثوب من غليظ الخام، وبدأ يحفظ القرآن وختمه هناك. وله شعر لا بأس به فمنه قوله: إنّ من شتّت الجميع من الشّمل ... قدير بأن يجمع أهلا لست مستيئسا وإن طال هجر ... ربّ هجر يكون عقباه وصلا وإذا أعقب الوصال فراق ... كان ذاك الوصال في القلب أحلى (خفيف) ومات- رضي الله عنه- في سنة ثلاث عشرة وخمسمائة. انقضت أيّام المقتدي بأمر الله ووزرائه. ثمّ ملك بعده ابنه المستظهر باللَّه أبو العبّاس أحمد بويع له بالخلافة في سنة سبع وثمانين وأربعمائة. كان المستظهر كريما وصولا، حسن الأخلاق كبير الهمّة سهل العريكة مهذّب الخلال، محبّا للخير مبغضا للظلم. في أيّامه تفاقم حال الباطنيّة [1] واستولوا على المعاقل والحصون بخراسان. وكان أصل دعوتهم بخراسان الحسن بن صباح [2] وهو رجل أصله من مرو، وسافر إلى مصر وأخذ من دعاة آل أبي طالب بها المذاهب، وكان رجلا ذا دهاء وصاحب حيل، ثمّ إنّه رجع من مصر إلى خراسان وصار داعيا لآل أبي طالب وتوصّل بأنواع التوصّلات حتّى ملك قلعة من بلاد الدّيلم   [1] الباطنيّة: فرقة من القرامطة تعتقد للقرآن معنى ظاهرا ومعنى باطنا، وكان على رأسها إلى حين الحسن بن الصباح. [2] الحسن بن الصّباح: داع فاطميّ من أنصار نزار في خلافه مع أخيه المستعلي. فرّ من مصر إلى قلعة ألموت بعد مقتل نزار، وأسس فرقة الإسماعيليّة ودولتها في المشرق. قضى على دولته هولاكو/ 654/ هـ. مات الحسن عام/ 518/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 تعرف بالرّوذبار فلمّا ملكها قوي أمره واستغوى طوائف من النّاس، وفشا مذهب الباطنيّة ونما، وأعتقده خلق من الأكابر في باطن الأمر. وما زال يستفحل أمرهم إلى أن قصدت العساكر المغوليّة قلاعهم وفعلت بها ما فعلت. ومات المستظهر في سنة اثنتي عشرة وخمسمائة. شرح حال الوزارة في أيّامه لم يكن للوزارة في أيّامه كبير أبّهة. فمن وزرائه زعيم الرّؤساء أبو القاسم عليّ بن فخر الدّولة بن جهير، لم تطل أيّامه. ولم يكن له من السّير ما يؤثر، وبعد يسير من وزارته عزل وقبض عليه. وزارة أبي المعالي هبة الله بن محمّد ابن المطّلب للمستظهر كان رجلا كافيا من كفاة الدّولة العبّاسيّة، واستوزره المستظهر بعد زعيم الرّؤساء ابن جهير، وكان قبل الوزارة يتولّى ديوان الزّمام. فحدّث عنه بعض أصحابه قال: دخلت يوما الوزارة وهو صاحب ديوان. فرأيته مفكّرا مضطرب الخاطر، فسألته عن السّبب فقال: كنت قد أنهيت إلى المستظهر في السّنة الخالية اجتهادي في عمارة البلاد وضبطي وتثميري للحاصل، وقلت قد حصل في هذه السنة اثنا عشر ألف كرّ وفي السّنة المستقبلة يحصل عشرون ألف كرّ، فخرج جوابه يشكرني ويثني عليّ وشرّفني بشيء من ثيابه، فسررت وقلت: هذه ثمرة الاجتهاد. ثمّ جرّدت همّتي للعمارة وانبعثت بجهدي وطاقتي في عمارة المستقبل، فاتّفق أن انفجر بثق [1] فتلف من الارتفاع شيء كثير، وجرت أحوال أخر اقتضت خفوق الارتفاع بحيث نقص عن ارتفاع السّنة الخالية فكتبت مطالعة إلى الخليفة أعرّفه فيها بخفوق الارتفاع، وذكرت له كميّة الحاصل ولم أشرح له السّبب في   [1] البثق أو البثق: موضع الكسر من الشّطر، يتدفق منه الماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 نقيصة الارتفاع، وقلت في نفسي: إن سالني عن السّبب شرحته له، فخرج جوابه إليّ يشكرني ويثني عليّ وشرّفني بشيء من ثيابه كما فعل في السّنة الخالية، فقلت في نفسي: وا ويلاه! هذا حالي معه في حالة الاجتهاد والتقصير، وقد شكرني على الحالتين المتناقضتين، وهذا يدلّ على أنّه لا يفكّر فيما يقوله ويفعله، فما يؤمنني أنّ بعض من هو قريب إليه من أعدائي يعرض عليه في أمري ما يكون سببا لهلاكي فلا يتأمّل القضيّة بل يتقدّم بما يوافق غرض العدوّ؟ قال الحاكي: فقلت له يعيذك الله ويقيك ممّا تحذر، وما برحت حتّى سلّيته وأزلت غمّه. وكان هذا أبو المعالي بن المطّلب من علماء الوزراء وأفاضلهم وأخيارهم. انقضت أيام المستظهر باللَّه ووزرائه. ثمّ ملك بعده ابنه المسترشد أبو منصور الفضل بن المستظهر باللَّه بويع في سنة اثنتي عشرة وخمسمائة. كان المسترشد رجلا فاضلا، ولما بويع بالخلافة هرب أخوه الأمير أبو الحسن وأخفى نفسه، ومضى إلى الحلّة [1] مستجيرا بدبيس [2] بن صدقة صاحب الحلّة وكان دبيس بن صدقة أحد أجواد الدّنيا، وكان صاحب الدار والجار، والحمى والذّمار وكانت أيامه أعيادا، وكانت الحلّة في زمانه محطّ الرّحال، وملجأ بني الآمال، ومأوى الطّريد، ومعتصم الخائف الشّريد. فأكرمه دبيس إكراما زائدا عن الحدّ، وأفرد له دارا وأكرمه إكراما كثيرا، ومكث عنده مدّة على أحسن حال. فلما علم أخوه المسترشد باللَّه أنه عند دبيس قلق لذلك، وخاف من أمر يحدث من ناحيته فبعث نقيب النّقباء عليّ بن طراد الزّينيّ إلى الحلّة بخاتمه وأمانه، وأمره أن يأخذ   [1] الحلّة: مدينة على الفرات في العراق، جنوبي بغداد، في منطقة بابل. [2] دبيس بن صدقة: أمير الحلة، وبادية العراق. فارس مقاتل ضد الصليبيين. ورد ذكره في مقامات الحريري. اتّهم باغتيال الخليفة المسترشد واغتيل في بغداد بتدبير مسعود السلجوقي عام/ 529 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 البيعة على دبيس ويطلب منه أن يسلم إليه الأمير أبا الحسن فقال دبيس: أمّا البيعة فالسّمع والطّاعة لأمر أمير المؤمنين، وبايع، وأما تسليم جاري فلا والله لا أسلّمه إليكم وهو جاري ونزيلي ولو قتلت دونه. إلا إن اختار. فأبى الأمير أبو الحسن التوجّه صحبة النقيب إلى أخيه فمضى النقيب وحده. ثمّ بعد ذلك ظفر به المسترشد فسجنه في بعض دوره في حالة جميلة. وجرت بين الخليفة المسترشد وبين السّلطان مسعود وحشة، وتفاقم الأمر فيها وأفضى الحال إلى الحرب، فتوجّه الخليفة المسترشد وصحبته العسكر وأرباب الدّولة وتجهّز مسعود للقائهم فلما التقوا والتحم القتال انكسر عسكر المسترشد، واستظهر السّلطان مسعود عليهم ونهب عسكره من العسكر الخليفيّ أموالا عظيمة، فيقال: إنّ صناديق المال كانت على مائة وسبعين بغلا، وهي أربعة آلاف ألف دينار، وكان الرّحل على خمسمائة جمل وكان معه عشرة آلاف عمامة، وعشرة آلاف جبّة، وعشرة آلاف قباء [1] ، كلّ ذلك من فاخر الثّياب، كان قد أعدّها للتشريفات إن ظفر، فيقال إن جملة ما نهب عشرة ألف ألف دينار، ونهى مسعود عن إراقة الدّماء، وقبض على أصحاب الخليفة وحملهم إلى القلعة وأمّا الخليفة فأفرد له خيمة ووكّل به جماعة، وسار مسعود والخليفة معه إلى مراغة [2] ، فوصل كتاب السّلطان سنجر [3] إلى مسعود يأمره بالإحسان إلى الخليفة وإعادته إلى بغداد مكرّما معزّزا، وأن يردّ عليه أمواله وأن يجعل له من الحشم والبرك والأسباب أعظم وأجمل ممّا ذهب منه ويعيده إلى بغداد على أتمّ حال فامتثل مسعود جميع ذلك، وصنع له من البرك والأسرّة والخيم والحمول أشياء جميلة ووقع العزم على العود إلى بغداد واتّفقت غفلة عن مسعود   [1] القباء: ثوب يرتدى فوق غيره من الثياب. [2] مراغة: كبرى مدن أذربيجان كانت عاصمة هولاكو قديما، شرقي بحيرة أرمية في إيران اليوم. [3] السلطان سنجر: هو أحمد سنجر بن ملك شاه آخر سلاجقة الفرس، خسر بلاد ما وراء النهر وأسرته قبائل الغزّ فكانت نهاية عهده بداية الانحطاط السلجوقي فيما وراء النهر. مات حوالي/ 552/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 والعسكر، فهجم جماعة من الباطنيّة على المسترشد فضربوه بالسّكاكين في مخيّمه بقرية بينها وبين مراغة فرسخ واحد وقتلوا معه جماعة من أصحابه وحين علم مسعود بذلك ركب منزعجا مظهرا للجزع وأخذ القوم فقتلهم، ثمّ نقل المسترشد على رءوس العلماء والأمراء إلى مراغة فدفن بها وقبره الآن بها معروف تحت قبّة حسنة، رأيتها عند وصولي إلى مراغة في سنة سبع وتسعين وستمائة. واختلف الناس عند قتل المسترشد في سبب قتله، فقال قوم: إن مسعودا لم يعلم بذلك ولا رضي به. وقال قوم: بل مسعود هو الّذي واطأ الباطنيّة على قتله وأمرهم بذلك، لأنه خافه حيث قويت نفسه على جمع الجموع وجرّ الجيوش، ولم يمكنه قتله ظاهرا، ففعل ما فعل من الإحسان إليه ظاهرا ثمّ إنّه أخرج جماعة من أهل الجرائم فقتلهم وأوهم الناس أنّه قد قتل قتلته، ثم أطلقهم سرّا، وذلك في سنة تسع وعشرين وخمسمائة. شرح حال الوزارة في أيّامه من أفاضل وزرائه أبو عليّ الحسن بن عليّ بن صدقة، كان فاضلا نحريرا عالما بقوانين الرّئاسة خيّرا، استوزره المسترشد سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، ولقّبه بجلال الدين سيّد الوزراء صدر الشرق والغرب ظهير أمير المؤمنين، كانت له معرفة بالحساب وأعمال السّواد، غير أنه لا ينسب إليه شيء من الكرم. ثم إنّ المسترشد قبض عليه وعزله عن الوزارة، ولم يكن ذلك عن إرادة من المسترشد، وإنّما دعته الضرورة إلى القبض عليه، لأنّ وزير السّلطان كان يتعصّب عليه. ثمّ بعد ذلك بمديدة زال المانع، فأعاده المسترشد إلى وزارته، وخلع عليه خلع الوزارة وتقدّم إلى أرباب الدولة بالسّعي بين يديه إلى الديوان، وهو أوّل وزير مشى أرباب الدولة بين يديه رجّالة [1] .   [1] رجّالة: ماشين على أرجلهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 كان الوزير ابن صدقة جالسا يوما في دست الوزارة فدخل عليه سديد الدّولة ابن الأنباريّ كاتب الإنشاء، وفي كمّه أبيات قد هجاه فيها الوزير، فسقطت الرّقعة من كمّه، فمدّ الوزير يده سريعا وتناولها، فكان فيها من جملة أبيات: أنت الّذي كونه فساد ... في عالم الكون والفساد (بسيط) فلما رآها سديد الدولة في يد الوزير سقطت قوّته خوفا وخجلا، فلمّا قرأها الوزير فطن للقصّة وصرف الهجو عن نفسه إلى سديد الدّولة، وقال: أعرف هذه الأبيات ومن جملتها: ولقّبوه السّديد جهلا ... وهو بريء من السّداد ونظم الوزير هذا البيت في الحال، فاستحيا السّديد بن الأنباري وأمسك عن الجواب. ولمّا عزم السّلطان سنجر على الوصول إلى بغداد وتوعّد الخليفة كتب إليه الوزير ابن صدقة- «والله لئن تحركت لأقطعنّ جميع ما وراءك عنك وأقطعك عنه ولئن سرت فرسخا لأسيرنّ فرسخين» . ومرض الوزير أبو عليّ بن صدقة في آخر أيّامه فعاده المسترشد وأنشده: دفعنا بك الآفات حتّى إذا أتت ... تريدك لم نسطع لها عنك مدفعا (طويل) ولم يزل أمره يضمحلّ حتى توفّي في سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة. وزارة الشريف أبي القاسم عليّ بن طراد الزّينبيّ هو أبو القاسم عليّ بن طراد بن محمّد نقيب النقباء بن الحسن بن محمّد بن عبد الوهّاب بن سليمان بن عبد الله بن محمّد بن إبراهيم الإمام بن محمّد بن عليّ ابن عبد الله ابن عبّاس. وإنّما عرفوا بالزينبيّين لأن أمّهم زينب بنت سليمان بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس، عرفوا بها. كان متروّيا من المعرفة بقوانين الوزارة وأسباب الرّئاسة وهو الّذي جمع النّاس على خلع الرّاشد، وقام في خلعه وأخذ البيعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 للمقتفي القيام العظيم واتّفق مع السّلطان مسعود على ذلك، ووزر لخليفتين المسترشد والمقتفي. ولما استوزره المسترشد وشافهه بالولاية قال له: كلّ من ردّت إليه الوزارة شرف بها إلا أنت فإنّ الوزارة شرفت بك. وحمل إليه الدّست الكامل من دار الخليفة، وتقدّم إلى أرباب المناصب بالسّعي بين يديه إلى الديوان، ومكث على ذلك مديدة، ثمّ قبض عليه المسترشد وعزله، ثمّ أعاده إلى أجمل ما كان عليه. فلمّا خرج المسترشد إلى حرب مسعود كما تقدّم شرحه، خرج الوزير معه، فلمّا جرى على المسترشد ما جرى حظي الوزير عند السلطان مسعود وقرّبه وأعلى محلّه واستصحبه إلى بغداد، وقام الوزير بين يديه في خلع الراشد وإجلاس المقتفي القيام الّذي عرفه له مسعود وشكره عليه. وباقي أخباره ترد عند ذكر وزارته للمقتفي. وزارة الوزير أبي نصر أحمد بن الوزير نظام الملك للمسترشد كان كريما جميل الصّورة وزر للمسترشد باللَّه فشكرت سيرته، ولمّا عزم المسترشد على عمارة سور بغداد قسّط على الناس خمسة عشر ألف دينار، فقام الوزير أبو نصر بها وأدّاها عن الناس من ماله، ولم تطل أيّامه، فتوفّي في سنة أربع وأربعين وخمسمائة [1] . وزارة أنوشروان خالد بن محمّد القاشانيّ للمسترشد كان رجلا من أفاضل الناس، وأعيانهم وأخيارهم، تولّى الوزارة للسّلاطين وللخلفاء، وكان يستقيل من الوزارة فيجاب إلى ذلك، ثم يخطب لها فيجيب كارها هو الّذي صنّف له ابن الحريري المقامات الحريريّة، وإليه أشار في أوّلها بقوله: «فأشار من إشارته حكم وطاعته غنم» .   [1] تكرر هذا التاريخ لوفاة الوزير أبي نصر في جميع طبعات الفخري. ولعلّ صوابه (سنة أربع وعشرين وخمسمائة) ما دام مقتل المسترشد قد وقع عام/ 529/ هـ. المحقّق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 طلب الأرّجاني الشاعر من الوزير أنوشروان خيمة، فأرسل إليه بدنانير كثيرة وقال له- اشتر بها خيمة، فقال الأرّجاني في ذلك. للَّه درّ ابن خالد رجلا ... أحيا لنا الجود بعد ما ذهبا سألته خيمة ألوذ بها ... فجاد لي ملء خيمة ذهبا (منسرح) وكان أنوشروان بن خالد كثير التّواضع مشهورا بذلك، يقوم لكلّ من يدخل عليه، فهجاه ابن الهبّاريّة الشاعر بقوله: هذا تواضعك المشهور عن ضعة ... تبدو فمن أجلها بالكبر تتّهم قعدت عن صلة الراجي وقمت له ... فذا وثوب على الطّلاب لا لهم وفيه يقول أيضا يشير إلى كثرة قيامه: (بسيط) رأيت مشروبه يعبى ... مزاودا في يد الغلام فما به حاجة إليه ... فإنّه دائم القيام (بسيط) وكان بين أنوشروان بن خالد وبين الوزير الزينبيّ عداوة وتباغض وتنافس على الوزارة، فعزل الوزير الزينبيّ وتولى أنوشروان بن خالد، فتقرّب الناس إليه بثلب الزينبيّ فدخل الحيص بيص [1] الشاعر عليه وأنشده قصيدة أوّلها: شكرا لدهري بالضّمير وبالفم ... لمّا أعاض بمنعم عن منعم (كامل) يشير إلى أنوشروان وإلى الزّينبيّ، فاستحسن النّاس منه ذلك واستدلّوا به على وفاته وحرّيته ثمّ إنّ أنوشروان بن خالد مات، وأعيد الزينبيّ إلى الوزارة، فتقرّب الناس إليه بمسبّة أنوشروان، فدخل عليه الحيص بيص وأنشده: بقيت ولا زلت بك النّعل إنّني ... فقدت اصطباري يوم فقد ابن خالد (طويل) ومات أنوشروان في سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة. انقضت أيّام المسترشد باللَّه ووزرائه.   [1] الحيص بيص: سعد بن محمّد التميميّ. شاعر بغداديّ مشهور. نشأ فقيها، وغلب عليه الأدب والشعر، عمّر اثنين وثمانين عاما، وكانت وفاته/ 574/ هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 ثمّ ملك بعده ابنه الرّاشد باللَّه أبو جعفر منصور بن المسترشد بويع له بالخلافة عقيب وصول الخبر بقتل أبيه سنة تسع وعشرين وخمسمائة وجهّز الرّاشد عسكرا كثيفا وتوجّه لمحاربة مسعود، نحو العراق طالبا لتملّكه، فوصل إلى بغداد في خمسة آلاف فارس ودخلها، فكفّ الرّاشد عن حربه وخرج منها متوجّها إلى الموصل، ودخل السّلطان مسعود بغداد واستبدّ بتدبير الأمور فيها، وأظهر العدل ومنع الجند من الأذى، وجمع القضاة والشّهود وأخذ خطوطهم بالقدح في الرّاشد وكتب محضرا بخلع الرّاشد وأثبته على القضاة وتولّى ذلك له الوزير الزّينبيّ، وكان مسعود قد استشار الزّينبيّ فيمن يولّيه الخلافة فقال له يا مولانا، هناك رجل يصلح لها فسأله عن اسمه فقال له: يا مولانا إن سمّيته أخاف أن يقتل ولكن إذا دخلنا بغداد سمّيته لك. فلمّا احتاجوا إلى إجلاس خليفة سمّى الزّينبيّ له أبا عبد الله محمّدا المقتفي عمّ الراشد، فبايع له وأجلسه على سرير الخلافة. ثمّ إنّ الرّاشد لم يتمّ له بالموصل أمر فسار عنها إلى أصفهان، فوثب عليه جماعة من الملاحدة فقتلوه على باب أصفهان. ذلك في سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة وقبره هناك معروف. شرح حال الوزارة في أيّامه لمّا أفضت الخلافة إليه استوزر جلال الدين أبا الرّضا محمّد بن صدقة، ولم تطل أيّامه، وخاف مما جرى، فالتجأ إلى زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل [1] فأجاره وأصلح أمره. ثمّ لمّا خرج الراشد من بغداد استخدم هذا أبو الرّضا في بعض الخدمات غير الوزارة، ومات في سنة ستّ وخمسين وخمسمائة، ولم يكن له من السيرة ما يؤثر. انقضت أيّام الراشد، ووزرائه.   [1] زنكي بن آقسنقر: عماد الدين، أولاده غازي ومودود ومحمود. كان شجاعا وهو أوّل ملوك الدولة الأتابكيّة بالموصل. وهو الّذي قاد ميمنة الجيش في حرب الخليفة المسترشد باللَّه مع دبيس ابن صدقة، وقد توسّعت مملكته إلى حلب ودمشق وحارب الفرنجة الصليبيين واستعاد منهم الرّها قتل غيلة عام/ 541/ هـ. انظر تفصيلات أكثر في كتاب الأعلام للزركلي ج 3 ص 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 ثمّ ملك بعده عمّه المقتفي لأمر الله أبو عبد الله محمّد بن المستظهر بويع له بالخلافة سنة ثلاثين وخمسمائة. كان المقتفي من أفاضل الخلفاء، ولمّا أجلسه مسعود وبايع له، وكان قد أخذ جميع ما بدار الخلافة من ذهب أو أثاث ورحل وغير ذلك، وتصرّف نوّابه في جميع جميع أعمال العراق- أرسل إلى المقتفي يقول له: اذكر ما تحتاج إليه أنت وكلّ من يتعلّق بك حتّى أعيّن لك به إقطاعات، فأرسل إليه المقتفي يقول: عندنا بالدار ثمانون بغلا تنقل الماء من دجلة ليشربه عيالنا، فانظر أنت كم يحتاج إليه من يشرب في كلّ يوم ماء يحمله ثمانون بغلا؟ فقال مسعود: لقد أجلسنا في الخلافة رجلا عظيما، فاللَّه تعالى يكفينا شرّه. وجرت في أيّامه فتن وحروب بينه وبين سلاطين العجم كانت الغلبة فيها له. وثار في أيّامه العيّارون والمفسدون، فنهض بقمعهم أتمّ نهوض. وتوفي المقتفي في سنة خمس وخمسين وخمسمائة. شرح حال الوزارة في أيّامه أوّل وزرائه الزّينبيّ أبو القاسم عليّ بن طراد العبّاسيّ وزير أخيه المسترشد استوزره حين بويع، لأنّه هو الّذي قام في بيعته وأشار على مسعود به، ومكث مدّة في وزارة المقتفي، ثمّ جرت بينه وبينه وحشة خاف فيها منه، فاستجار بدار السلطان وأقام بها مدّة معتصما من المقتفي، إلى أن روسل الخليفة من جهة السّلطان في معناه فأذن في عوده إلى داره مكرّما، فانصرف إلى داره وأقام بها على قدم البطالة واضمحلّ أمره ورقّ حاله، ولقي شقاء عظيما وضائقة شديدة، حتّى إنه مرض فاشتهت نفسه شيئا من المشموم فلم يقدر على ثمنه، وقد كان أنفق أكثر ماله لما كان مستجيرا بدار السّلطان على خواتينه [1] وأتباعه وأرباب دولته، وكانت مواهبه دارّة على أكثر أرباب الدّولة وغيرهم من العلماء والوافدين والطالبين   [1] الخواتين: جمع خاتون وهي المرأة الشريفة من نساء الملوك. والكلمة أعجميّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 ولما مرض مرضته التي مات فيها كتب إليه المقتفي رقعة يستميله فيها ويعده بكلّ جميل فتمثّل الوزير: أتت وحياض الموت بيني وبينها ... وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل (طويل) وقال: وصيّتي حفظ حرمي وأطفالي، فلما توفّي قام المقتفي بجميع ما يحتاج إليه أولاده وصغاره، وأجرى عليهم الجرايات [1] الكثيرة. وزارة نظام الدّين أبي نصر المظفّر بن محمّد ابن جهير البغداديّ للمقتفي كان له أنس بالعلوم وخاصّة بالحديث النبويّ- صلوات الله على صاحبه- ولم تطل أيّامه، ولم يكن له من السّيرة ما يؤثر. وزارة مؤتمن الدّولة أبي القاسم عليّ ابن صدقة للمقتفي بيته بيت مشهور بالوزارة معروف بالرّياسة، وكان مؤتمن الدّولة حسن الصّورة والخلق، لكن لا علم عنده بقوانين الوزارة، وكان كثير التعبّد والصّدقة، استوزره الخليفة المقتفي لأمر الله، قالوا: كان هذا مؤتمن الدولة الوزير قليل الاشتغال بالعلم وكان ضعيف القراءة في الكتب، وكان قد أدمن في قراءة جزء واحد من أجزاء القرآن وفي كتاب واحد من كتب الأدب، فكان لا يزال الجزء المذكور والكتاب بين يديه يقرأ فيهما قراءة جيّدة، فخفي على الناس حاله مدّة وزارته فلمّا مات ظهر ذلك عنه، ولم يكن له من السّيرة ما يؤثر.   [1] الجرايات: العطاءات والمرتّبات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وزارة عون الدّين أبي المظفّر يحيى بن هبيرة للمقتفي أوّل منشئه من قرية تعرف بالدّور من أعمال دجيل [1] ، تعرف اليوم بدور الوزير نسبة إلى ابن هبيرة، وكان أبوه أكّارا [2] بالقرية المذكورة، وكان يحثّ ولده على تحصيل الأدب وإدراك الفوائد، وكان يردّده صغيرا إلى بغداد ويحضره إلى مجالس الصّدور وصدور المجالس، وكان هو كما قيل: ولها من نفسها طرب ومات أبوه وهو صبيّ، فتفرّد بالاشتغال، وتقلّبت به تصاريف الأمور، ومرّت عليه شدائد، وكابد من الفقر أهوالا، وتنقل في الخدمات، فكان لا ينتقل من خدمة إلا إلى أكبر منها، وما زال ينتقل من خدمة إلى أخرى أرفع منها حتّى تقلّد الوزارة للمقتفي فمكث فيها مدّة، ومشاهرته في كلّ سنة مائة ألف دينار، وكان كريما جوادا سمحا لا يخرج من السّنة وفي خزانته منها درهم واحد، وكان المقتفي والمستنجد يقولان: ما وزر لبني العبّاس كيحيى بن هبيرة في جميع أحواله، وكانت له في قمع الدّولة السّلجوقية يد قويّة وحيل مرضية، وكان وقورا حليما متواضعا، لمّا تولّى الوزارة دخل الديوان وعليه الخلع، فرأى غلاما من غلمان الديوان واقفا عن بعد فاستدناه وتبسّم في وجهه، وأمر له بذهب وكسوة، ثم قال: لا إله إلا الله أذكر مرّة، وقد دخلت هذا الديوان وجلست في بعض المجالس، فجاء هذا الغلام وجذبني بيدي وقال: قم فليس هذا مكانك، وقد رأيته الساعة واقفا، وأثر الخوف ظاهر عليه، فأحببت أن أؤانسه وأزيل رعبه، ورأى يوما في الديوان جنديّا فقال لحاجبه: أعط هذا الجندي عشرين دينارا وكرّ [3] حنطة، وقل له: لا يدخل الديوان ولا يرينا وجهه، فتغامز الناس وتشوّفوا إلى معرفة السبب في ذلك وفطن الوزير لذلك، فقال لهم: كان هذا الجنديّ شحنة في قريتنا، فقتل شخص من أهل   [1] دجيل: إقليم بالأهواز فيه نهر بهذا الاسم. [2] الأكّار: الحرّاث أو الفلّاح. [3] الكرّ: مكيال يعادل أربعين إردبا. والإردب أربعة وعشرون صاعا أو كأسا كبيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 القرية فجاء هذا الشّحنة [1] وأخذ جماعة من أهل القرية وأخذني معهم مكتوفا في عرض الفرس، وبالغ في أذاي وضربي، ثمّ أخذ من كلّ واحد منهم شيئا وأطلقهم وبقيت أنا معه، فقال لي: أعطني شيئا أخلصك، فقلت: والله ما أملك شيئا، فأعاد عليّ الضرب والإهانة، ثمّ قال لي: اذهب إلى لعنة الله، ثم أطلقني، فأنا لا أحبّ أن أرى صورة وجهه. ومن أفكاره اللطيفة، أنّ الوزراء كانوا قبله يلقّبون ألقابا من جملتها: سيّد الوزراء، فتقدّم هو إلى الكتّاب ألا يكتبوا هذا اللقب في ألقابه، وقال إنّني افتكرت في هذا فرأيت الله تعالى قد سمّى هارون وزيرا، حتّى قال (عزّ من قائل) حكاية عن موسى- عليه السّلام-: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً من أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ به أَزْرِي [2] 20: 29- 31 وسمعت عن (النبيّ عليه السّلام) أنه قال: «لي وزيران من أهل السّماء: جبرائيل ومكيائيل، ووزيران من أهل الأرض: أبو بكر وعمر» وقال عليه السّلام: «إنّ الله تعالى اختار لي أصحابا فجعلهم وزراء وأنصارا» وحدّث عنه بعض مجالسيه قال: كنّا يوما عنده فدخل الحاجب وقال: يا مولانا بالباب رجل سواديّ، يذكر أنّه فلان بن فلان، ومعه شملة مكوّرة، وهو يطلب الحضور بين يديك فعرفه الوزير وقال له: أدخله، وقال: فدخل شيخ طويل من أهل السّواد عليه ثياب غليظة من القطن وعمامة فوط ملونة، وفي رجله جمجمان [3] فسلّم على الوزير وقال: يا سيّدي أم الصّغيرات- يعني زوجته- لمّا علمت أني أجيء إلى بغداد قالت لي: سلّم على الشّيخ يحيى بن هبيرة واستوحش له [4] ، وقد خبزت لك هذا الخبز على اسمك، فتبسّم الوزير وهش به وقال: جزاها الله خيرا وحلّ تلك الشّملة فإذا فيها خبز شعير مشطور بكامخ التوت، فأخذ الوزير منه رغيفين وقال: هذا نصيبي من هذه الهديّة، وفرّق الباقي على   [1] الشّحنة: هنا، ضابط الأمن في البلد، ما يعرف لدى عوام اليوم بالبوليس. [2] سورة طه، الآيات/ 29- 30- 31/. [3] جمجمان: نعلان خشبيّان. [4] استوحش له: أظهر اشتياقك ووحشتك لبعده عنك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 الصّدور [1] الحاضرين، وسأل الرّجل عن حوائجه وحوائج زوجته فقضاها، وقال للحاضرين: هذا كان جاري في قريتي وشريكي في زريع [2] وأعرف منه الأمانة. ومن حيله أنّه كان ببعض بلاد العجم رجل كلّما أقيمت الخطبة يوم الجمعة في الجامع يقوم ويذمّ الخليفة، ويدعو للسّلطان، فاتّصل ذلك بالوزير ابن هبيرة، فأحضر شخصا من أهل بغداد وأمره أن يسافر إلى تلك البلدة، وأعطاه عشرة دنانير ذهبا وقارورة [3] فيها خطر [4] ، وقال له: إذا دخلت ذلك البلد، وحضرت يوم الجمعة في الجامع، ورأيت الرّجل الّذي يسبّ الخليفة فانهض إليه، وأنت على زيّ التّجار وأمن على كلامه، وأظهر البكاء عند مسبّة الخليفة، وقل: إي والله، فعل الله به وصنع وهل غرّبني عن عيالي ووطني وأفقرني غيره، ثمّ افعل في الجمعة الثانية كذلك، وقل له: قد حلفت أني أملأ فمك دنانير، وضع هذه الدنانير حشو فمه وأخرج عنه وبادر إلى استعمال هذا الخطر على وجهك ولحيتك، فإنه يحدث في الوجه سمرة، وفي شيب للحية سوادا، وغيّر زيّك حتّى لا تعرف فتهلك، ففعل الرّجل ذلك، وكانت الدّنانير مسمومة، فلما راح ذلك الرّجل إلى بيته ما زال يتقلقل حتّى مات من يومه، واستعمل الرّجل المنفّذ الصّبغ، فأخفى نفسه ورجع إلى بغداد ومن حيله أنّه كان يكتب إلى ملوك الأطراف ملطفات [5] صغارا في رقّ خفيف ويشقّ في جلد ساق الرّكابي بمقدار ما يدخلها فيه ثم يتركه حتى يلتحم ويسيّره إلى حيث أراد، ومن قوّة جأشه وثباته، أنه كان يوما جالسا بالديوان وبين يديه الأمراء والصّدور والأكابر، فسقطت من السقف حيّة كبيرة، فوقعت على كتف الوزير وسرحت من كتفه إلى حجره، فنفر كلّ من كان هناك من أرباب الدولة عن مستقرّه وانزعجوا عن مراتبهم، والوزير جالس لم يتحرّك عن مكانه ولا تغيّر عن   [1] الصّدور: هنا، السادة والأعيان. الحشم. [2] الزّريع: الزرع المسقي بالمطر. [3] القارورة: إناء يجعل فيه العطر أو الشراب كالقنّينة. [4] الخطر: نبت يختضب به. الخضاب أو الصّبغ. [5] ملطفات: ملصقات رقيقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 دسته [1] ، ما كأنّ وقع عليه شيء، ثمّ أمر المماليك بقتلها فقتلت بين يديه. وفي الجملة، فكان ابن هبيرة من أفاضل الوزراء وأعيانهم وأجدّهم، له في تدبير الدولة وضبط المملكة اليد الطّولى، وله في العلوم والتصانيف التبريز [2] على أهل عصره وله أشعار كثيرة، فمنها: يقين الفتى يزري [3] بحالة حرصه ... فقوّة ذا عن ضعف ذا تتحصّل إذا قلّ مال المرء قلّ صديقه ... وقبّح منه كلّ ما كان يجمل (طويل) وفي آخر أيامه عرض له تزايد البلغم فمات وهو ساجد، وذلك في سنة ستين وخمسمائة. انقضت أيام المقتفي لأمر الله ووزرائه. ثمّ ملك بعده المستنجد باللَّه المظفّر يوسف بويع عقب موت أبيه في سنة خمس وخمسين وخمسمائة. كان المستنجد شهما عارفا بالأمور، لما ولي الخلافة أزال المكوس والمظالم، إلا أنّه فعل قبيحة: حلّ المقاطعات وأعادها إلى الخراج، فشقّ ذلك على العلويّين بالكوفة والمشاهد مشقة عظيمة، ونسبوا هذا الفعل إلى ابن هبيرة ولعنوه بالمشاهد. وفي أيّامه ابتدأ فتح مصر وضعفت دولة الفاطميين بها، وفي أيّام ولده المستضيء تكامل فتحها على يد صلاح الدين يوسف بن أيّوب. ومات المستنجد مخنوقا في الحمّام، وخنقه أكابر دولته عقيب مرضة صعبة كانت قد عرضت له لأنّهم خافوه على أنفسهم، وذلك في سنة ستّ وستين وخمسمائة.   [1] الدّست: صدر المجلس. [2] التّبريز: التّفوّق. [3] يزري: يحطّ به وتنقص قيمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 شرح حال الوزارة في أيّامه لمّا بويع بالخلافة أقرّ ابن هبيرة وزير أبيه على وزارته، وزاد في رفع منزلته، وقد مضى من سيرة ابن هبيرة ما يغني عن الإعادة. وزارة ولده محمّد بن يحيى بن هبيرة لقبه عزّ الدين، ناب عن الوزارة بعد وفاة والده، وكان فاضلا رئيسا عبقا بالسّيادة، شاعرا رشيق المعاني، خبيرا بالأدب والحديث النّبويّ، وحبس بعد موت أبيه ولم يعلم خبره بعد الحبس، وروي عنه هذان البيتان، أنهما له. كم منحت الأحداث صبرا جميلا ... ولكم خلت صابها سلسبيلا ولكم قلت للّذي ظلّ يلحاني ... على الوجد والأسى سل سبيلا (خفيف) وزارة شرف الدّين أبي جعفر محمّد بن أبي الفتح بن البلديّ للمستنجد باللَّه كان قبل الوزارة ناظرا بواسط، فأبان في مدّة ولايته عليها عن قوّة وجلادة وارتفاعات نامية وحلوم دارّة، فعظمت منزلته عند المستنجد، وكوتب عن الخليفة إلى واسط بما يقضي أن يكون وزيره، وتأكّد الحال في ذلك، فحكم حكم الوزراء وهو بواسط، ووقّع وكاتب ملوك الأطراف وهو بواسط، ثمّ أصعد إلى بغداد فخرج الموكب لتلقيه، وفيه جميع أعيان الدّولة، وكان عضد الدين أبو الفرج محمّد بن رئيس الرّؤساء أستاذ الدّار بينه وبين ابن البلديّ كدر، فكره عضد الدين الخروج إلى تلقّيه، وقد كان الخليفة تقدّم إليه بالخروج، فبذل خمسة آلاف دينار على أن يعفى من الخروج إليه، فقال الخليفة: إن عجّلها نقدا أعفيته من الخروج، فوزنت في الحال وحملت، فلمّا صارت في الخزن تقدّم الخليفة إليه بالخروج لتلقي الوزير، وقيل له: هذا المال جناية عن كونك تكره ما نؤثر، وتراجع في التقدمات الشّريفة، فذهب المال منه وخرج عابرا إلى الجانب الغربيّ صحبة الموكب، ومضى النّاس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 كلّهم إلى صرصر فتلقوه هناك، فلمّا وقعت عين عضد الدين أستاذ الدار على الوزير أراد عضد الدين أن يترجّل، فصاح به الوزير: والله لئن ترجّلت ترجّلت أنا أيضا، فتقدّمه [1] ، ثمّ اعتنقا على ظهور الدّوابّ، وسار بين يديه ووصل الوزير إلى محاذاة التاج [2] ، وعبر في سفينة وحضر بين يدي الخليفة فشافهه بالوزارة، وخلعت عليه خلع الوزارة، وأكّد عليه النهوض بالمهام الدّيوانيّة فنهض بأعباء الوزارة، وما زال أمره على السّداد إلى أن جرى للمستنجد ما جرى، من تغلب عضد الدين أستاذ الدّار وأكابر الأمراء عليه وإدخاله الحمّام وهو مريض حتّى مات من الحرارة، ثم إنّ عضد الدين أستاذ الدّار أخرج ولده المستضيء وبايعه، وشرط عليه شروطا وأحلفه عليها أيمانا مؤكّدة، منها أن يكون هو وزيرا، وأن يكون ولده أستاذ الدار، وفلان أمير العسكر، وفلان كذا وكذا، فالتزم المستضيء لهم بذلك وحلف أيمانا غليظة، ثمّ بويع المستضيء في باطن الدّار البيعة الخاصّة، واستدعي الوزير ابن البلديّ ليبايع فلما حضر الدار عدل به إلى مكان وضربت عنقه، وأخرج فرمي على مزبلة بباب المراتب، ثمّ سحب وألقي في دجلة، وكان حسن الطّريقة مشكور الأخلاق. انقضت أيّام المستنجد ووزرائه. ثمّ ملك بعده ولده المستضيء أبو محمّد الحسن بن المستنجد باللَّه بويع في سنة ستّ وستين وخمسمائة، ولم يكن بسيرته بأس، وفي أيّامه وردت البشائر إلى بغداد بفتح مصر وانقراض الدّولة الفاطميّة.   [1] في الأصل (فخدمه) ، ولعلّ الصواب (فتقدّمه) كما يقتضي المعنى. المحقق. [2] التاج: قصر الخلافة في بغداد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 ولما جلس على سرير الخلافة تقدّم بقتل ابن البلديّ وزير أبيه، وتوفّي في سنة خمس وسبعين وخمسمائة. شرح حال الوزارة في أيّامه أوّل وزرائه عضد الدين أبو الفرج محمّد بن أبي الفتوح عبد الله بن رئيس الرّؤساء الّذي كان قبل ذلك أستاذ الدّار. كان عضد الدّين من أفاضل الناس وأعيانهم، وكان أستاذ الدار في أيّام المستنجد فلمّا جرى للمستنجد ما جرى استولى عضد الدين، ونهض في إخراج المستضيء من الحبس ومبايعته وإحلافه فاستوزره المستضيء، ونهض عضد الدين بأعباء الوزارة نهوضا مرضيا وفرّق في يوم جلوسه في دست الوزارة ذهبا كثيرا وحنطة على المقيمين بالمشاهد والجوامع والمدارس والرّبط، وتلطّف بالأمور تلطفا لم يكن في حساب النّاس وبيته مشهور بالرّياسة، يعرفون ببيت الرفيل وكان ابن التّعاويذي [1] الشاعر البغدادي شاعرهم ومنقطعا إليهم وأنفق جلّ عمره معهم، ولهم يخاطب بقوله: قضيت شطر العمر في مدحكم ... ظنّا بكم أنّكم أهله وعدت أفنيه هجاء لكم ... فضاع فيكم عمري كلّه (سريع) وله فيهم مدائح كثيرة فمن جملتها: وما زلت في آل الرّفيل بمعزل ... عن الجور مبذولا لي الأمن والخصب فإن أقترف ذنبا بمدح سواهم ... فإنّ خماص [2] الطّير يقنصها الحبّ   [1] ابن التعاويذي: محمّد بن عبيد الله أبو الفتح التّعاويذي، شاعر جزل الألفاظ رقيق المعاني، كان كاتبا بديوان المقاطعات ببغداد وعمي في آخر عمره. جمع ديوانه بنفسه، وكانت وفاته عام/ 584/ هـ. [2] الخماص: الشديدة الجوع، المهزولة، والأخمص من الطير والحيوان: المهزول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 وإن عاد لي عطف الوزير محمّد ... فقد أكثب [1] النائي ولان لي الصّعب وزير إذا اعتلّ الزّمان فرأيه ... هناء [2] به تطلى خلائقه الجرب (طويل) وما زال أمر عضد الدّين يجري على السّداد حتّى عزله المستضيء وقبض عليه وصورة عزله: كان يوما جالسا في الدّست فهجم عليه خادم من خدم الخليفة فقال له: قد استغني عنك، ثمّ أطبق دواته ودخل الأتراك والجند إلى دوره فنهبوا ما بها ودخل العوامّ أيضا، وكسرت الصناديق الآبنوس [3] والعاج بالدّبابيس [4] وأخذ جميع ما كان بها، فخرج عضد الدين وهو يتشاهد ويقول للأتراك: أما تستحيون منّي؟ أما دخلتم داري؟ أما أكلتم زادي؟ فلم ينفعه ذلك، فلم يمض إلا ساعة واحدة حتّى صارت داره بلاقع [5] ، ثمّ حمل إلى الحريم ووكل به هناك مدّة ثم أعاده المستضيء إلى الوزارة وحكّمه وبسطه، فصفت له الدّنيا وعظم شأنه وكثرت خيراته وهباته وأحبّه الناس، وكان سخيّا وهوبا شريف النّفس، قيل إنّه ما اشترى لداره قطّ سكّرا بأقلّ من ألف دينار. حدّث عنه بعض مماليكه قال: احتاج مرّة إلى ألف دينار، فأنفت نفسه أن يقترضها من أولاده أو من غيرهم، وكان يأنس بي فقال: يا ولدي، قد احتجت إلى ألف دينار أعيدها عليك بعد أيّام، فقلت: السّمع والطاعة يا مولاي، ثمّ مضيت وأحضرت له خمسة آلاف دينار، وقلت: يا مولاي، هذه والله اكتسبتها منك فخذ منها ما شئت، فأطرق ساعة ثمّ قال: والله لا أخذت منها حبّة واحدة، خذها وانصرف، ثمّ أنشد: والصّاحب المتبوع يقبح أن يرى ... متتبّعا ما في يدي أتباعه   [1] أكثب: دنا وقرب. [2] الهناء: القطران يطلى به الأجرب. [3] الآبنوس: ضرب ثمين من الخشب الصّلب الأسود. [4] الدّبابيس: العصيّ الطويلة المحدّدة الرءوس يقمع بها ويضرب. [5] بلاقع: قفار خاوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 ولم يزل أمره في الوزارة الثانية جاريا على السّداد حتّى كان آخر مدّته، فطلب من الخليفة الأذن له في الحج فأذن له، فتجهّز تجهّزا لم ير مثله، ثم عبر إلى الجانب الغربيّ من مدينة السّلام ليتوجّه إلى الحلّة والكوفة، ومنها إلى مكّة، وبين يديه جميع أرباب الدّولة، فلقيه رجل عند محلّة هناك تعرف بقطفتا، فقال: يا مولانا مظلوم مظلوم وناوله قصة، فتناولها الوزير منه، فوثب عليه وثبة عالية وضربه بسكّين في ترقوته [1] ووثب عليه آخر من الجانب الآخر فضربه في خاصرته، ووثب آخر وبيده سكين مسلولة فلم يصل إليه، وتكاثرت النّاس على الثلاثة فقتلوهم، ثمّ مات الوزير وصلّي عليه ودفن في تربتهم، وقيل: إنّ الثلاثة الذين قتلوه كانوا من الباطنيّة من جبل السّماق. وحكى بعض أهل قطفتا قال: دخلت قبل قتل الوزير بساعتين إلى مسجد هناك فرأيت به ثلاثة رجال وقد قدّموا واحدا منهم إلى المحراب وأناموه ثم صلّى الرّجلان الآخران عليه صلاة الميت، ثمّ قام ونام آخر وصلّى الآخران عليه، حتّى صلّى كلّ واحد منهم على الآخر، وأنا أراهم وهم لا يرونني فعجبت ممّا فعلوا، ثمّ لمّا قتل الوزير وقتل الثلاثة، تأمّلت وجوههم فإذا هم هم. وزارة ظهير الدّين أبي بكر منصور بن أبي القاسم نصر بن العطّار كان تاجرا في ابتداء أمره، ثمّ مازج المتصرّفين ونفق على المستضيء فاستوزره وكان ثقيل الوطأة على الرعيّة، وكانت العامّة تبغضه، فبقي إلى أن مات المستضيء وولي الناصر، وهو آخر وزراء المستضيء. انقضت أيّام المستضيء ووزرائه.   [1] التّرقوة: العظم الّذي في أعلى الصدر بين ثغرة النّحر والعاتق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 ثمّ ملك بعده ابنه الإمام الناصر لدين الله أبو العبّاس أحمد بن المستضيء بأمر الله بويع بالخلافة في سنة خمس وسبعين وخمسمائة. كان الناصر من أفاضل الخلفاء وأعيانهم، بصيرا بالأمور مجرّبا سائسا، مهيبا مقداما، عارفا شجاعا، متأيّدا حادّ الخاطر والنادرة، متوقّد الذكاء والفطنة، بليغا غير مدافع عن فضيلة علم، ولا نادرة فهم، يفاوض العلماء مفاوضة خبير، ويمارس الأمور السّلطانيّة ممارسة بصير، وكان يرى رأي الإماميّة [1] ، طالت مدّته، وصفا له الملك وأحبّ مباشرة أحوال الرعيّة بنفسه، حتّى كان يتمشّى في الليل في دروب بغداد ليعرف أخبار الرعيّة وما يدور بينهم، وكان كلّ أحد من أرباب المناصب والرّعايا يخافه ويحاذره بحيث كأنه يطلع عليه في داره، وكثرت جواسيسه وأصحاب أخباره عند السّلاطين وفي أطراف البلاد، وله في مثل هذه قصص غريبة، وصنّف كتبا، وسمع الحديث النبويّ- صلوات الله على صاحبه- وأسمعه، ولبس لباس الفتوة وألبسه وتفتّى له خلق كثيرون من شرق الأرض وغربها ورمى بالبندق [2] ورمى له ناس كثيرون، وكان باقعة زمانه ورجل عصره في أيامه انقرضت دولة آل سلجوق بالكلّية وكان للناصر من المبارّ والوقوف ما يفوت الحصر وبنى من دور الضيافات والمساجد والرّبط [3] ما يتجاوز حدّ الكثرة، وكان مع ذلك يبخّل، وكان وقته مصروفا إلى تدبير أمور المملكة وإلى التولية والعزل والمصادرة وتحصيل الأمور، يقال عنه: إنه ملأ بركة من الذّهب فرآها يوما وقد بقي يعوزها حتى تملأ وتفيض شيء يسير، فقال: ترى أعيش حتّى أملأها، فمات قبل ذلك، ويقال إنّ المستنصر شاهد هذه البركة فقال: ترى أعيش حتّى أفنيها! وكذلك فعل، مات الناصر في سنة اثنتين وعشرين وستّمائة.   [1] الإماميّة: فرقة من الشّيعة. [2] البندق: كرات من الرّصاص، ومنها البندقيّة التي اخترعت فيما بعد لرمي الرصاص أو البندق. [3] الرّبط: النّزل تربط بها الخيول للاستراحة والمبيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 شرح حال الوزارة في أيّامه لما بويع الناصر بالخلافة أقرّ ابن العطّار وزير أبيه على قاعدته أيّاما يسيرة [1] ثمّ نكبه وقبض عليه وحبسه في باطن دار الخلافة، ثم أخرج بعد أيّام ميتا، فسلّم إلى أخته لتجّهزه وتدفنه، فغسلته وأخرجته في تابوت على رأس حمّال لتدفنه، فغمز به بعض الناس فرجموه، فرمى الحمال بالتابوت وهرب، فأخذه العوامّ وأخرجوه من التابوت ومثّلوا به، وشدّوا في رجله حبلا وسحبوه، ووضعوا في يده خشبة، ونادوا به: يا مولانا ظهير الدين، وقّع لنا!. ومن طريف ما وقع في ذلك: أنّ بعض الأتراك عمّر حمّاما وجعل مجراته تجوز على دار بعض الجيران، فتأذّى الجار بتلك المجراة، فشكا ذلك إلى الوزير فزبره [2] ولم يأخذ بيده وقال له: إن لم تسكت وإلا جعلت رأسك في المجراة، فيقال: إنّ ابن العطّار لما سحبه العوامّ ومثّلوا به اجتازوا به على باب الحمّام المذكور، فاتّفق أنه وقع في المجراة فسحبوه فيها خطوات، فتعجّب الناس من ذلك وزارة جلال الدين أبي المظفّر عبيد الله كان في ابتداء أمره أحد الشّهود المعدّلين، ثم تقلّبت به الأحوال حتّى بلغ الوزارة وأرسله الناصر صحبة عسكر كثيف إلى محاربة السّلطان طغرل بن أرسلان بن طغرل السلجوقيّ، فالتقيا، فكانت الغلبة لعسكر السّلطان، وانهزم عسكر الخليفة وثبت الوزير فأسر، ومكث مدّة في الأسر، ثم أطلق فوصل إلى بغداد متخفّيا، ولم تطل مدّته بعد ذلك. وزارة معزّ الدين سعيد بن عليّ بن جديدة الأنصاريّ كان رجلا فاضلا متصوّنا، موسرا كثير المال، روي أنّ نقيب البصرة أبا جعفر محمّد بن أبي طالب الشاعر، أصعد [3] إلى بغداد متظلّما إلى هذا الوزير من   [1] أيّاما يسيرة: أيّاما قليلة. [2] زبره: نهره موبّخا. [3] أصعد: مضى صعودا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 ناظر البصرة وأنشده قصيدة من جملتها: وقبائل الأنصار غير قليلة ... لكن بنو عمّ هم الأخيار منهم أبو أيوب [1] حلّ محمّد ... في داره واختاره المختار [2] أنا منه في النّسب الصّريح وأنت من ... ذاك القبيل فلي بذاك جوار ولقد نزلت عليك مثل نزوله ... في دار جدّك والنّزيل يجار فعلام أظلم والنبيّ محمّد ... أنمى [3] إليه وقومك الأنصار (كامل) قالوا فلما سمعها الوزير رقّ له وبكى، وخلع عليه [4] وقضى حوائجه وأنصفه من ناظر البصرة وعزله، ومات الوزير المذكور معزولا في سنة ستّ عشرة وستّمائة. وزارة مؤيّد الدين أبي المظفّر محمّد ابن أحمد بن القصّاب هو أعجميّ الأصل، كان أبوه يبيع اللحم عن رأس درب البصريّين ببغداد ونشأ هو مشتغلا بالعلوم والآداب، وبرع في علوم المتصرّفين، كالحساب ومعرفة الكروث والمساحات والمقاسات، ثم تبصّر بأسباب الوزارة، وكانت نفسه قوية وهمّته عالية قاد العساكر وفتح الفتوح، وجمع بين رياستي السيف والقلم، ومضى إلى بلاد خوزستان وفتحها وقرّر أمورها وقواعدها، ثمّ مضى إلى بلاد العجم وصحبته العساكر فملك أكثرها، ثمّ أدركه أجله فمات هناك.   [1] أبو أيوب: هو أبو أيّوب الأنصاري، مستضيف الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ليلة وصوله إلى المدينة المنورة مهاجرا من مكّة. [2] المختار: من ألقاب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وهو الّذي اختاره الله للدعوة لدينه الحنيف. [3] أنمى إليه: أنسب إليه. [4] خلع عليه: أهداه الثياب والمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 وزارة السيّد نصير الدين ناصر بن مهديّ العلويّ الرازيّ للناصر هو مازندرانيّ [1] المولد والأصل، رازيّ [2] المنشأ، بغداديّ التدير والوفاة كان من كفاة الرّجال وفضلائهم وأعيانهم وذوي الميزة منهم، اشتغل بالآداب في صباه فحصّل منها طرفا صالحا، ثم تبصّر بأمور الدواوين ففاق فيها. كان في ابتداء أمره ينوب عن النّقيب عزّ الدين المرتضى القمّي نقيب بلاد العجم كلّها، ومنه استفاد قوانين الرئاسة، وكان عزّ الدين النقيب من أماجد العالم وعظماء السادات، فلمّا قتل النقيب عزّ الدين- قتله علاء الدين خوارزم شاه- هرب ولده النقيب شرف الدين محمّد وقصد مدينة السّلام مستجيرا بالخليفة الناصر، وصحبته نائبة نصير الدين بن المهديّ، وكان من عقلاء الرجال، فاختبره الناصر فرآه عاقلا لبيبا سديدا فصار يستشير به سرّا فيما يتعلّق بملوك الأطراف، فوجد عنده خبرة تامّة بأحوال سلاطين العجم، ومعرفة بأمورهم وقواعدهم وأخلاق كلّ واحد منهم، فكان الناصر كلما استشار به في شيء من ذلك يجده مصيبا عين الصواب فاستخلصه لنفسه ورتّبه أولا نقيب الطالبيين، ثمّ فوّض إليه أمور الوزارة فمكث فيها مدّة تجري أموره على أتمّ سداد وكان كريما وصولا عالي الهمّة شريف النّفس، حدّث عنه أنه كان يوما جالسا في دست الوزارة وفي يده قطعة عود كبيرة فرأى الوزير بعض الصّدور الحاضرين وهو يلحّ بالنظر إليها، فقال له: تعجبك هذه؟ فدعا له، فوهبه إيّاها، وقام الرجل ليخرج فلمّا بعد عن مجلس الوزير استدعاه بسرعة، وقال له: تريد أن تفضحنا وتصدّق المثل فينا (بخره عريان) ثمّ أمر فخلع عليه، ودفع إليه تخت ثياب [3] ، وقال له: تبخّر في هذه الثّياب ومدحه الأبهريّ الشاعر الأعجمي بقصيدة مشهورة في العجم من جملة مدحها:   [1] مازندرانيّ: منسوب إلى مازندران من بلاد فارس. [2] رازيّ: منسوب إلى الرّيّ جنوب طبرستان وبحر قزوين وهي مدينة أو إقليم بهذا الاسم. [3] تخت ثياب: خزانة ملابس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وزير مشرق ومغرب نصير ملت ودين ... كه باد رايت عاليش تا ابد منصور صرير كلك تو در كشف مشكلات أمور ... كه هم چونغمة داود در اداء زبور [1] (بسيط) وأرسلها الأبهريّ صحبة بعض التّجار مع بعض القفول، وقال للتاجر أوصلها إلى الوزير، وإن قدرت ألا تعلمه من قائلها فافعل، فلما عرضت القصيدة على الوزير استحسنها وطلب التاجر ودفع إليه ألف دينار ذهبا، وقال، هذه تسلّمها إلى الأبهريّ ولا تعلمه ممّن هي!!. وقبض الناصر عليه كارها لأمور اقتضت ذلك، وكان القبض عليه في سنة أربع وستّمائة، ونقل إلى دار في دار الخلافة، فأقام بها تحت الاستظهار على حالة الإكرام والمراعاة، إلى أن مات تحت الاستظهار في سنة سبع عشرة وستّمائة. وزارة مؤيّد الدين محمّد بن عبد الكريم برز [2] القمّي للناصر هو قمّي الأصل والمولد، بغداديّ المنشأ والوفاة، ينتسب إلى المقداد بن الأسود الكندي، كان رحمه الله بصيرا بأمور الملك، خبيرا بأدوات الرّئاسة، عالما بالقوانين عارفا باصطلاح الدّواوين، خبيرا بالحساب، ريّان من فنون الأدب، حافظا لمحاسن الأشعار، راويا لطرائف الأخبار، وكان جلدا على ممارسة الأمور الديوانية ملازما لها من الغدوة إلى العشيّة، وكان في ابتداء أمره قد تعلق بخدمة سلاطين العجم، وكان يلوذ ببعض وزراء العجم بأصفهان في حال صباه ولم يبلغ العشرين من عمره، وكان ذلك الوزير قد ضجر من الكتّاب الذين بين يديه، ونسبهم إلى أنّهم يخافون تقدماته، فأبعدهم عنه واستكتب القميّ ظنّا منه أنه لمجرد حداثة سنّه لا يقدم على مخالفة ما يشير به فمكث القمّي يكتب بين يديه مدّة، ففي   [1] وترجمة البيتين باختصار: وزير المشرق والمغرب، نصير الملة والدين. لتبق رايته العالية منصورة إلى الأبد صرير قلمك في كشف مشكلات الأمور مثل نغمة داود في ترتيل الزّبور. [2] في التسمية بعض الاختلاف راجع ألما ص/ 375/، ورحما ص/ 237/، وطبعة بيروت ص/ 326/، ولعلّ الصواب ما أثبتاه عن عزّ ها هنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 بعض الأيّام أحضرت بين يدي الوزير جملة من الثياب النسيج، بعضها صحيح وبعضها مقطوع، فأحضر القمّي بين يديه ليثبت عددها ويحملها إلى الخزانة، وكان الوزير يورد عليه كذا وكذا ثوبا صحاحا فيكتب القمّي كذا وكذا ثوبا، وما يكتب لفظة «صحاحا» ، فقال له الوزير: لم لا تكتب كما أقول لك؟ فقال: يا مولانا لا حاجة إلى ذكر الصّحاح، فإنّي إذا وصلت إلى ذكر ثوب مقطوع ذكرت تحته أنّه مقطوع، فتخصيص المقطوع بالذكر يدلّ على أنّ ما لم يوصف بالقطع صحيح فقال الوزير: لا بل اكتب كما أقول لك فراجعه القمّي، فحرد [1] الوزير لذلك، وارتفع صوته والتفت إلى الحاضرين وقال: أنا عزلت الكتّاب الكبار الذين كانوا عندي لأجل مخالفتهم ولجاجهم فيما أقوله واستكتبت هذا الصبي ظنّا منّي أنه لحداثة سنّه لا يكون عنده من التجرّؤ والمخالفة ما عندهم، فإذا هو أشدّ مخالفة من أولئك، فخرج بعض خدّام السّلطان من بين يديه- وكان جالسا قريبا من مجلس الوزير- وسأل عن كثرة الصّياح وحرد الوزير، فعرّف الخادم صورة ما جرى بين الوزير والقمّي فدخل وحكى للسلطان ما قيل، فقال له: اخرج وقل للوزير الحقّ ما أعمده [2] الصبيّ الكاتب، وصار الخادم يستشيره ويسكن إليه ويأنس به، فاتّفق أنّ السلطان عيّن على هذا الخادم وعلى رجل آخر ليتوجّها في رسالة إلى ديوان الخليفة، فالتمس الخادم أن يكون القمّي صحبته، فتوجّهوا إلى بغداد وحضر الخادم ورفيقه عند الوزير ابن القصّاب فشافهاه بالرّسالة وسمعا الجواب، وكان جوابا غير مطابق للرسالة ولكنه كان نوعا من المغالطة، فقنع الخادم ورفيقه بذلك الجواب، وما تنبها على فساده، وخرجا فرجع القمي ووقف بين يدي الوزير وحادثة سرا وقال له: يا مولانا الجواب غير مطابق لما أنهاه المماليك، فقال له الوزير: صدقت ولكن دعهم على غباوتهم ولا تفطنهم إلى ذلك، فقال السمع والطاعة، ثم إن ابن القصاب كتب إلى الخليفة يقول له: إنه قد وصل إلى صحبة خادم السلطان فلان   [1] حرد: غضب. [2] أعمده: «كذا في ألما ص/ 377/، وهي اعتهده في رحما ص/ 238/، وفي طبعة بيروت ص/ 327/. ولعل الصّواب أعدّه أو أعتمده ومعناها أقرّه وارتضاه» . المحقق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 شاب قمي قد جرى من تنبهه كيت وكيت، ومثل هذا يجب أن يصطنع ويحسن إليه ويستخدم، فكتب الخليفة يأمره بألا يمكنه من التوجّه معهم، فعمل له حجة وقطع عنهم، فتوجهوا وأقام القمي ببغداد، فعين عليه في كتابة الإنشاء، فمكث على ذلك مدة، ثم تولى الوزارة وتمكن في الدولة تمكنا لم يتمكن مثله أحد من أمثاله، وكان أوحد زمانه في كل شيء حسن، كثير البر والخير والصدقات. حدث عنه مملوكه بدر الدين أياز قال: طلب ليلة من الليالي حلاوة النبات فعمل في الحال منها صحون كثيرة، وأحضرت بين يديه في ذلك الليل فقال لي: يا أياز تقدر تدّخر هذه الحلاوة لي موفّرة إلى يوم القيامة؟ فقلت: يا مولانا وكيف يكون ذلك؟ وهل يمكن هذا؟ قال: نعم، تمضي في هذه الساعة إلى مشهد موسى والجواد- عليهما السلام- وتضع هذه الأصحن قدام أيتام العلويين، فإنّها تدّخر لي موفّرة إلى يوم القيامة، قال أياز: فقلت: السمع والطاعة، ومضيت- وكان نصف الليل- إلى المشهد وفتحت الأبواب وأنبهت الصبيان الأيتام ووضعت الأصحن بين يديهم ورجعت. وما زال القميّ على سداد من أمره، تولى الوزارة للناصر، ثم للظاهر ثم للمستنصر حتى قبض عليه المستنصر وحبسه في باطن دار الخلافة مدة فمرض وأخرج مريضا فمات- رحمه الله- في سنة تسع وعشرين وستمائة. انقضت أيام الناصر لدين الله ووزرائه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 ثمّ ملك بعده ولده أبو نصر محمّد الظاهر بأمر الله ابن الناصر لدين الله بويع في سنة اثنتين وعشرين وستمائة. لم تطل أيامه، ولم يجر فيها ما يسطر، سوى احتراق القبة الشريفة بمشهد موسى والجواد- عليهما السلام- فشرع الظاهر في عمارتها، فمات ولم تفرغ فتممها المستنصر. وأيضا فإن الظاهر هو الّذي عمل هذا الجسر الموجود الآن في بغداد، ولما فرغ عمل الشعراء فيه المدائح ووصفوا الجسر فيها، فممن نظم في ذلك شعرا، موفق الدين القاسم بن أبي الحديد كاتب الإنشاء، وهو قوله: أمام يحرم ذل السؤال ... ويعمل بالكرم الواجب أقام طريقا على دجلة ... لذي القصد منه وللذاهب فعارض جسرا على جانب ... بجسر جديد على جانب كسطرين في كاغذ أبيض ... أجادهما قلم الكاتب كمخنقتي [1] عنبر [2] ضمتا ... بياض الترائب من كاعب كصفين من إبل أصبحا ... وقوفا على جدد [3] لاحب [4] (متقارب) ومات الظاهر في سنة ثلاث وعشرين وستمائة. شرح حال الوزارة في أيامه أقر القمي على وزارته ولم يستوزر غيره.   [1] المخنقة: القلادة وهي حلية في العنق. [2] العنبر: نوع من الطّيب. الزعفران. [3] الجدد: الطريق ذو الأرض الغليظة. المستوية. [4] لاحب: واضح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 ثمّ ملك بعده ولده أبو جعفر المنصور المستنصر باللَّه بويع بالخلافة في سنة ثلاث وعشرين وستّمائة. كان المستنصر شهما جوادا يباري الرّيح كرما وجودا، وكانت هباته وعطاياه أشهر من أن يدلّ عليه وأعظم من أن تحصى، ولو قيل: إنّه لم يكن في خلفاء بني العبّاس مثله لصدق القائل. وله الآثار الجليلة: منها- وهي أعظمها- المستنصريّة وهي أعظم من أن توصف، وشهرتها تغني عن وصفها ومنها: خان حربي وقنطرتها وخان نهر سابس بأعمال واسط، وخان الخرنيني، وغير ذلك من المساجد والرّبط ودور الضيافات، وكان المستنصر يقول: إني أخاف أن الله لا يثيبني على ما أهبه وأعطيه لأنّ الله تعالى يقول: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ 3: 92 [1] وأنا والله لا فرق عندي بين التراب والذّهب. كانت أيامه طيبة والدنيا في زمانه ساكنة، والخيرات دارّة [2] والأعمال عامرة وفي أيامه فتحت إربل، أرسل المستنصر إليها إقبالا الشرابيّ وصحبته عارض الجيوش، وذلك عند وفاة صاحبها مظفّر الدين بن زين الدين علي كوجك. ومات المستنصر في سنة أربعين وستمائة. شرح حال الوزارة في أيامه لمّا بويع بالخلافة أقرّ القمّي وزير أبيه وجدّه على وزارته سنوات، ثمّ قبض عليه وجرى له ما تقدّم من شرحه. وزارة نصير الدّين أبي الأزهر أحمد ابن محمّد بن الناقد ثم استوزر المستنصر بعد القمّي أبا الأزهر أحمد بن النّاقد، كان في ابتداء أمره وكيلا، فمكث مدّة في الوكالة ثمّ منها إلى الوزارة، فنهض بأعبائها نهوضا حسنا وقام بضبط المملكة قياما مرضيا، وكان عظيم الأمانة قويّ السياسة شديد الهيبة على المتصرّفين حاسما لموادّ الأطماع والفساد، قيل: إنّه هجي ببيتين فلمّا   [1] سورة آل عمران، الآية/ 92/. [2] دارّة: كثيرة الدّرّ أو الخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 سمعهما استحسنهما وهما: وزيرنا زاهد والناس قد زهدوا ... فيه فكلّ عن اللذّات منكمش أيّامه مثّل شهر الصّوم خالية ... من المعاصي وفيها الجوع والعطش (بسيط) وما زالت السّعادة تخدمه إلى آخر عمره، فمن جملة سعادته- وهو من الاتّفاقات العجيبة- ما حدّث عنه، وهو أنه قبل الوزارة عمل في بعض الأعياد سنبوسجا كثيرا، وأحبّ أنّ يداعب بعض أصحابه، فأمر أن يحشى سبعون سنبوسجة بحبّ قطن ونخالة وتجعل مفردة، وعمل سنبوسجا كثيرا كجاري العادة، وركب إلى دار الخليفة فطلب منه عمل شيء من السنبوسج، فذكر أنّ عنده شيئا مفروغا منه، وأمر خادما له بإحضار ما عنده من السّنبوسج، فمضى الخادم عن غير معرفة بذلك المحشوّ بحبّ القطن ومزج الجميع ووضعه في الأطباق ليحمله إلى دار الخليفة، فجاء الجواري والخدم وقالوا: أعطونا حصّتنا من هذا، فأخذوا منه مائة سنبوسجة، وحمل الخادم الأطباق بما فيها إلى دار الخليفة، فلمّا حمل السّنبوسج وصار بدار الخليفة ورجع ابن الناقد إلى داره سأل عن السنبوسج المحشوّ بحبّ القطن، فقالوا له: ما عرفنا بشيء من ذلك، وفلان الخادم جاء ومزج الجميع وأخذه ومضى، فلم يشكّ أنّه هالك وكادت تسقط قوّته خوفا وخجلا، فقال: أما تخلّف منه شيء قطّ؟ قالوا: قد اقتطع الجواري والخدم منه حدود مائة سنبوسجة، فقال: أحضروها فأحضرت وفتحت بين يديه، فوجد السبعين سنبوسجة المحشوّة بحبّ القطن قد حصلت بأيدي الجواري والخدم في جملة ما أخذوه لأنفسهم، لم تشذّ منهم واحدة إلى دار الخليفة، ومات نصير الدين في سنة اثنتين وأربعين وستّمائة في خلافة المستعصم. انقضت أيام المستنصر ووزرائه. ثمّ ملك بعده ولده أبو أحمد عبد الله المستعصم باللَّه بويع له بالخلافة في سنة أربعين وستّمائة، وهو آخر الخلفاء. كان المستعصم رجلا خيّرا متديّنا ليّن الجانب سهل العريكة عفيف اللسان حمل كتاب الله تعالى، وكتب خطّا مليحا وكان سهل الأخلاق، وكان خفيف الوطأة إلّا أنّه كان مستضعف الرأي ضعيف البطش، قليل الخبرة بأمور المملكة مطموعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 فيه، غير مهيب في النفوس، ولا مطّلع على حقائق الأمور، وكان زمانه ينقضي أكثره بسماع الأغاني والتفرّج على المساخرة، وفي بعض الأوقات يجلس بخزانة الكتب جلوسا ليس فيه كبير فائدة، وكان أصحابه مستولين عليه، وكلّهم جهال من أراذل العوامّ، إلا وزيره مؤيّد الدين محمّد بن العلقميّ فإنّه كان من أعيان الناس وعقلاء الرّجال، وكان مكفوف اليد مردود القول، يترقّب العزل والقبض صباح مساء. وكانت عادة الخلفاء أكثرهم أن يحبسوا أولادهم وأقاربهم- وبذلك جرت سنّتهم إلى آخر أيّام المستنصر- فلمّا ولي المستعصم أطلق أولاده الثلاثة ولم يحبسهم وهم: الأمير الكبير أبو العبّاس أحمد، والعامّة تسمّيه أبا بكر، وليس بصحيح، وإنما سمّوه بذلك، لأنّه لمّا نهب الكرخ نسب الأمر في ذلك إليه وقيل إنّه هو الّذي أشار بذلك والأمير الأوسط وهو أبو الفضائل عبد الرّحمن كان شهما، خرج إلى بين يدي السّلطان هولاكو، ووقع كلامه بموضع الاستحسان في الحضرة السّلطانية، والأمير الأصغر أبو المناقب. حدّثني صفيّ الدين عبد المؤمن بن فاخر الأرمويّ- وكان قد صار في آخر أيّام المستعصم مقرّبا عنده ومن خواصّه، وكان قد استجدّ في آخر أيّامه خزانة كتب ونقل إليها من نفائس الكتب وسلّم مفاتيحها إلى عبد المؤمن، فصار عبد المؤمن يجلس بباب الخزانة ينسخ له ما يريد، وإذا خطر للخليفة الجلوس في خزانة الكتب جاء إليها وعدل عن الخزانة الأولى التي كانت مسلّمة إلى الشيخ صدر الدّين عليّ ابن النيّار، قال (أعني عبد المؤمن) : كنت مرّة جالسا في حجرة صغيرة وأنا أنسخ وهناك مرتبة برسم الخليفة إذا جاء إلى هناك جلس عليها، وقد بسطت عليها ملحفة لتردّ عنها الغبار، فجاء خويدم صغير ونام قريبا من المرتبة المذكورة واستغرق في النّوم، فتقلّب حتى تلفّف في تلك الملحفة المبسوطة على المرتبة ثم تقلّب حتّى صارت رجلاه على المسند، قال: وأنا مشغول بالنّسخ فأحسست بوطء في الدّهليز، فنظرت فإذا هو الخليفة وهو يستدعيني بالإشارة ويخفّف وطأه، فقمت إليه منزعجا وقبّلت الأرض، فقال لي: هذا الخويدم الّذي قد نام حتى تلفّف في هذه الملحفة وصارت رجلاه على المسند متى هجمت عليه حتّى يستيقظ ويعلم أني شاهدته على هذه الحال فتنفطر مرارته من الخوف، فأيقظه أنت برفق فإنّي سأخرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 إلى البستان، ثمّ أعود، قال: وخرج الخليفة فدخلت إلى الخويدم وأيقظته فانتبه، ثم أصلحنا المرتبة، ثمّ دخل الخليفة. وحدّثني بعض أهل بغداد قال: حدّثت أنّ الشيخ صدر الدين بن التيار شيخ الخليفة قال: دخلت مرّة إلى خزانة الكتب على عادتي وفي كمّي منديل فيه رقاع كثيرة لجماعة من أرباب الحوائج، فطرحت المنديل وفيه الرّقاع في موضعي، ثم قمت لبعض شأني، فلمّا عدت إلى الخزانة بعد ساعة حللت الرّقاع من المنديل حتى أتأملّها وأقدّم منها المهمّ، فرأيتها جميعها وعليها توقيع الخليفة بالإجابة إلى جميع ما فيها، فعلمت أنّ الخليفة قد جاء إلى الخزانة عند قيامي فرأى المنديل وفيه الرّقاع ففتحها ووقّع على جميعها والمستعصم هو آخر خلفاء الدولة العباسية ببغداد. ولم يجر في أيام المستعصم شيء يؤثر سوى نهب الكرخ، وبئس الأثر ذلك!. وفي آخر أيّامه قويت، الأراجيف [1] بوصول عسكر المغول صحبة السّلطان هولاكو فلم يحرّك ذلك منه عزما، ولا نبه منه همّة، ولا أحدث عنده همّا، وكان كلّما سمع عن السّلطان من الاحتياط والاستعداد شيء ظهر من الخليفة نقيضه من التّفرط والإهمال، ولم يكن يتصور حقيقة الحال في ذلك، ولا يعرف هذه الدّولة- يسّر الله إحسانها وأعلى شأنها- حقّ المعرفة. وكان وزيره مؤيّد الدين بن العلقميّ يعرف حقيقة الحال في ذلك، ويكاتبه بالتّحذير والتّنبيه، ويشير عليه بالتّيقظ والاحتياط والاستعداد وهو لا يزداد إلا غفولا. وكان خواصّه يوهمونه أنّه ليس في هذا كبير خطر ولا هناك محذور، وأنّ الوزير إنما يعظّم هذا لينفق سوقه ولتبرز إليه الأموال ليجنّد بها العساكر فيقتطع منها لنفسه. وما زالت غفلة الخليفة تنمي [2] ويقظة الجانب الآخر تتضاعف، حتّى وصل العسكر السلطاني إلى همذان وأقام بها مديدة، ثمّ تواترت الرّسل السّلطانيّة إلى الدّيوان المستعصميّ، فوقع التعيين من ديوان الخليفة على ولد أستاذ الدّار، وهو شرف الدين عبد الله بن الجوزيّ، فبعث رسولا إلى خدمة الدّركاه [3] السلطانيّة بهمذان، فلمّا وصل وسمع جوابه علم أنه جواب مغالطة ومدافعة، فحينئذ   [1] الأراجيف: الشائعات من الأخبار. [2] نمى ينمي: مثلهما: نما ينمو بمعنى زاد يزيد أو كثر يكثر. [3] الدّركاه: القصر أو السّدّة. والكلمة فارسيّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وقع الشّروع في قصد بغداد وبثّ العساكر إليها، فتوجّه عسكر كثيف من المغول، والمقدم عليهم باجو، إلى تكريت ليعبروا من هناك إلى الجانب الغربيّ ويقصدوا بغداد من غربها، ويقصدها العسكر السلطانيّ من شرقيّها، فلمّا عبر عسكر باجو من تكريت، وانحدر إلى أعمال بغداد أجفل النّاس من دجيل والإسحاقي ونهر ملك ونهر عيسى، ودخلوا إلى المدينة بنسائهم وأولادهم، حتّى كان الرجل أو المرأة يقذف بنفسه في الماء، وكان الملّاح إذا عبر أحد في سفينة من جانب إلى جانب يأخذ أجرته سوارا من ذهب أو طرازا من زركش أو عدّة من الدنانير. فلمّا وصل العسكر السلطانيّ إلى دجيل- وهو يزيد على ثلاثين ألف فارس- خرج إليه عسكر الخليفة صحبة مقدّم الجيوش مجاهد الدين أيبك الدّويدار وكان عسكره في غاية القلّة، فالتقوا بالجانب الغربيّ من بغداد قريبا من البلد، فكانت الغلبة في أوّل الأمر لعسكر الخليفة، ثم كانت الكرّة للعسكر السلطانيّ فأبادوهم قتلا وأسرا، وأعانهم على ذلك نهر فتحوه في طول الليل، فكثرت الوحول في طريق المنهزمين فلم ينج منهم إلا من رمى نفسه في الماء أو من دخل البريّة ومضى على وجه الشأم ونجا الدّويدار في جمعيّة من عسكره ووصل إلى بغداد، وساق باجو حتّى دخل البلد من جانبه الغربيّ، ووقف بعساكره محاذي التّاج، وجاست عساكره خلال الدّيار وأقام محاذي التاج أيّاما. وأمّا حال معسكر السلطاني فإنّه في يوم الخميس رابع محرم من سنة ستّ وخمسين وستّمائة ثارت غبرة عظيمة شرقيّ بغداد على درب يعقوبا بحيث عمّت البلد فانزعج الناس من ذلك وصعدوا إلى أعالي السّطوح والمناير [1] يتشوّفون، فانكشفت الغبرة عن عساكر السلطان وخيوله ولفيفه وكراعه وقد طبق وجه الأرض وأحاط ببغداد من جميع جهاتها، ثم أسرعوا في استعمال أسباب الحصار، وشرع العسكر الخليفي في المدافعة والمقاومة إلى اليوم التاسع عشر من محرم، فلم يشعر الناس إلا ورايات المغول ظاهرة على سور بغداد من برج يسمى برج العجمي من ناحية باب من أبواب بغداد يقال له باب كلواذى. وكان هذا البرج أقصر أبراج السور، وتقحم العسكر السلطاني هجوما ودخولا، فجرى من القتل الذريع والنهب العظيم والتمثيل البليغ ما يعظم سماعه   [1] المناير جمع منارة وهي المئذنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 جملة فما الظن بتفاصيله: وكان ما كان مما لست أذكره ... فظنّ ظنا ولا تسأل عن الخبر وأمر السلطان بخروج الخليفة وولده ونسائه إليه فخرجوا، فحضر الخليفة بين يدي الدركاه، فيقال إنه عوتب ووبّخ بما معناه نسبة العجز والتفريط والغفول إليه، ثم أوصل إلى الياسا وولده الأكبر والأوسط أما بناته فأسرن، ثم استشهد المستعصم في رابع صفر سنة ست وخمسين وستمائة. شرح حال الوزارة في أيامه لما بويع بالخلافة أقر وزير أبيه، وهو نصير الدين بن الناقد على وزارته إلى أن توفي، فلما توفي استوزر مؤيد الدين محمد بن العلقميّ. وزارة مؤيّد الدين أبي طالب محمد بن أحمد بن العلقميّ هو أسديّ، أصلهم من النيل، وقيل لجده العلقميّ، لأنه حفر النهر المسمى بالعلقمي، وهو الّذي برز الأمر الشريف السلطاني بحفره، وسمي القازاني، اشتغل في صباه بالأدب ففاق فيه، وكتب خطا مليحا، وترسّل ترسلا فصيحا، وضبط ضبطا صحيحا، وكان رجلا فاضلا كاملا لبيبا، كريما وقورا، محبا للرئاسة كثير التجمل رئيسا متمسكا بقوانين الرئاسة، خبيرا بأدوات السياسة، لبيق [1] الأعطاف [2] بآلات الوزارة، وكان يحبّ أهل الأدب ويقرب أهل العلم، اقتنى كتبا كثيرة نفيسة. حدثني ولده شرف الدين أبو القاسم علي- رحمه الله- قال: اشتملت خزانة والدي على عشرة آلاف مجلد من نفائس الكتب، وصنف الناس له الكتب، فممن صنف له الصّغاني [3] اللغوي، صنف له «العباب» ، وهو كتاب عظيم كبير في لغة العرب، وصنف له عز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد كتاب شرح نهج   [1] لبيق: لائق [2] العطاف: الأكتاف. [3] الصغاني: الحسن أبو الفضل الصغاني، لغويّ ومحدث، وفقيه حنفي، ولد في لاهور وتعلم في غزنة وأقام في بغداد: التكملة لصحاح الجوهري، والعباب الزاخر، توفي عام/ 650/ هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 البلاغة يشتمل على عشرين مجلدا، فأثابهما وأحسن جائزتهما، وكان ممدحا، مدحه الشعراء وانتجعه الفضلاء، فممن مدحه كمال الدين بن البوقيّ بقصيدة من جملتها: مؤيّد الدين أبو طالب ... محمد بن العلقميّ الوزير (سريع) وهذا بيت حسن جمع فيه بين لقبه وكنيته واسم أبيه وصنعته وكان مؤيد الدين الوزير عفيفا عن أموال الديوان وأموال الرعية، متنزها مترفعا قيل إن بدر الدين صاحب الموصل أهدى إليه هدية تشتمل على كتب وثياب ولطائف قيمتها عشرة آلاف دينار، فلما وصلت إلى الوزير حملها إلى خدمة الخليفة وقال: إن صاحب الموصل قد أهدى لي هذا واستحييت منه أن أرده إليه، وقد حملته وأنا أسأل قبوله فقبل، ثم إنه أهدى إلى بدر الدين عوض هديته شيئا من لطائف بغداد قيمته اثنا عشر ألف دينار، والتمس منه ألا يهدي إليه شيئا بعد ذلك. وكان خواصّ الخليفة جميعهم يكرهونه ويحسدونه، وكان الخليفة يعتقد فيه ويحبه وكثروا عليه عنده، فكفّ يده عن أكثر الأمور ونسبه الناس إلى أنه خامر [1] وليس ذلك بصحيح، ومن أقوى الأدلة على عدم مخامرته سلامته في هذه الدولة، فإن السلطان هولاكو لما فتح بغداد وقتل الخليفة سلم البلد إلى الوزير، وأحسن إليه وحكّمه، فلو كان قد خامر على الخليفة لما وقع الوثوق إليه. حدّثني كمال الدين أحمد بن الضحاك- هو ابن أخت الوزير مؤيد الدين بن العلقميّ- قال لما نزل السلطان هولاكو على بغداد أرسل يطلب أن يخرج الوزير إليه قال: فبعث الخليفة فطلب الوزير فحضر عنده وأنا معه، وقال له الخليفة: قد أنفذ السلطان يطلبك وينبغي أن تخرج إليه، فجزع الوزير من ذلك، وقال يا مولانا: إذا خرجت فمن يدبر البلد، ومن يتولى المهام؟ فقال الخليفة: لا بد أن تخرج، قال: فقال: السمع والطاعة، ثم مضى إلى داره وتهيأ للخروج ثم خرج، فلما حضر بين يدي السلطان وسمع كلامه وقع بموقع الاستحسان، وكان الّذي تولى تربيته في الحضرة السلطانية الوزير السعيد نصير الدين محمد الطوسيّ- قدس الله   [1] خامر: تآمر وخان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 روحه- فلما فتحت بغداد سلمت إليه وإلى علي بهدار الشّحنة [1] ، فمكث الوزير شهورا، ثم مرض ومات- رحمه الله- في جمادى الأولى سنة ست وخمسين وستمائة. انقضت دولة بني العباس ووزرائهم، وبذلك انقضى الكتاب والحمد للَّه وحده وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله الطيبين الطاهرين وسلامه. فرغ من تأليفه واستنساخه مؤلفه في مدة أولها جمادى الآخرة من سنة أحدى وسبعمائة، وآخرها خامس شوال من السنة المذكورة بالموصل الحدباء، وهذا خطّ يده تجاوز الله عنه. تم الكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323